بسم اللّه الرّحمن
الرّحيم
والاستيفاق من العليم
الحكيم
سبحانك ،
اللّهمّ ، جلّ حمدك وعزّ مجدك ، يا ربّ العاقلات العالية والسّافلات البالية ؛ ويا
قيّوم السّائرات الحائرة والثّابتات الدّائرة ، يا نور النّور ويا مدبّر الامور ،
دبّرت بعلمك ونوّرت بفضلك ، يا مكوّن الكون ومشيّئ الشّيء ، كوّنت بحولك وشيّأت
بطولك ، رفعت فحوت الحاويات الرّاسيات وخفضت فهوت الدّائرات الهاويات.
أنت جاعل
النّور والظّلمات وفاعل الماهيّات والإنيّات ، الفيض شرعتك والجود طرقتك. أنت باسط
الجود ومفيض الوجود ، البسط سنّتك والخير منّتك. أنت خالق كلّ شيء ، منك البدء والسّطوع
وإليك العود والرّجوع ؛ أدركنى بجميل صنعك وبوّئنى فى منع صفعك.
وصلّ على أفضل
وسائلى إليك ومنهل مسائلى لديك ، مبلّغ رسالاتك ومتمّم سفاراتك ، محمّد وأهل بيته
الأطاهر والأطائب وحامّته الأفاخر ، مفاخر الأصلاب والتّرائب ، مواضع سرّك وتراجمة
وحيك.
ربّ بدأت فتمّم
، يا واهب الحياة ، خلقت فاحد ، قضيت فاعف ، ملكت فأنعم.
< مقدمة >
وبعد ، فيقول
أحوج المربوبين إلى ربّه الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، الملقّب باقر داماد الحسينىّ ،
ختم اللّه له بالحسنى : أخلاّء الخلّة النّورانيّة وأقرباء القرابة الرّوحانيّة ،
إنّ هذا مشرع عقلانىّ ومرصد ربّانىّ ، فاز بهجة السّرّ بأنوار أرصادى العقليّة وراز
نهجة الفكر بأطوار أدوارى الرّوعيّة. لم أشده فيه عن مرّ الحقّ بمستعذب الشّهرة ، ولم
أشفه عن صرف فطرة الحكمة بخليط سوء الفكرة.
وإذ قد اصطفانى
ربّى على الأتنان والأتراب من شركاء الصّناعة ورؤسائها فى الملّة الإسلاميّة والذّروة
اليونانيّة بشرح الصّدر للإيمان ، واجتبانى منهم لاصطياد الحقّ بالبرهان ،
وبلغ نصابى إلى حيث فككت عقد الأفكار ونحلت العلوم ونقدت الأنظار ؛ وبفضل
منه ورحمة أرخت أسقام الأفهام وسرحت صدور غوامض الأحكام ، وأبرحت الحكمة وأبلجتها وأملجت
الفلسفة وأنضجتها.
فأداء لأخفّ ما
من بروق لهذه الموهبة الرّبوبيّة ، وأداء لأقلّ ما لتلك الحقوق على هذه الذّمّة
المربوبيّة وضعت هذا العلق المتين والعرق الوتين شريعة للشّارعين وذريعة للبارعين
، عسى اللّه أن يجعله «الافق المبين» والسّبيل المستبين ، فيه أمّ الأنوار
العلميّة وأمم الأسرار الحكميّة وبرهان سطوع العقل والحكمة فى ساهرة الدّين وإبّان
نجوم الحقّ والحقيقة من مشرق اليقين.
وأيم اللّه ،
فلقد آن آنه وحان حينه ، ولم يكد يرام بوضعه إلاّ التّدرّج إلى أن يتعرّف سبيل
جناب الرّبوبيّة حيث ما يجدر به من الوجود والصّفات ونسبة المبدعات إليه ، كيف منه
البدء وبه البقاء ، وإليه الرّجوع ، على شاكلة ما انضجت من المنهجة الرّبانيّة والفلسفة
اليونانيّة حتّى استوت حكمة يمانيّة إيمانيّة ، حسب أقصى ما يتهيّأ له ابن البشر
بعقله المخدج وقسطه السّملج استعمالا لشركة الحدس واقتناصا بشبكة البرهان مع غموضة
المطلب وصعوبة المسلك وتلوع السّطاع وقصور الباع وما ريم أكرم بغية وأكبر وجهة من
أبواب العلم ، وما هو إلاّ العلم الأعلى وحكمة ما فوق الطبيعة المتّسمة بعلم
الأنوار والمفارقات.
فإن اتّفق
إحصاف الاصول من سائر المقاصد لم يستوجبه المطلب المقصود ، فليس إلاّ على
الاستجراء اللاّحق وبالقصد الثّاني ، والاستيفاق لنيل الحقائق والمعانى من ربّ
الأول والثّوانى ومن إليه مصير المواحد والثّوانى.
وإذ لم أثق فيه
إلاّ بالمهيمن على كلّ الامور ، حفيظ العقول من هلكات الدّثور وعاصم النّفوس عن
سقطات العثور ، ولم أتّبع به إلاّ وجه التّعليم بذات الصّدور أؤمّل أن يجعله من
أفضل ما يعصم بحوله من الخداج والقصور وأجزل ما يقدّم من طوله لحياة نشأة النّشور
؛ إنّه جدير بالإجابة ، قدير على الإفاضة ، له الملك والأمر ، وبيده الجود والخير
، وهو على كلّ شيء عليم.
وخزائن الحقائق
فى الكتاب تنظم أبوابها صرحتان ، فى كلّ منهما مسافات ، فى كلّ منها فصول ، فى كلّ
منها عنوانات مناسبة لجواهر المطالب ومسالك المآرب.
الصّرحة الأولى
من كتاب الافق المبين
وهو فلك العلم وسماء اليقين
فى الشّطر الكلّيّ من حكمة ما فوق الطّبيعة
[وفيها مسافات]
المسافة الأولى من الصّرحة الأولى
فى تقدمة جملة تجرى مجرى المبادى فى التّقديم والتّصدير
[وفيها فصول ثلاثة]
[المسافة الأولى في تقديم جملة تجري مجرى المبادي]
[الفصل الأوّل في تحديد الحكمة التي هي فوق الطبيعة ، فيه عنوانان]
[الفصل الثانى في تحقيق الجعل والحمل ، سبعة عناوين وتأسيسات
في الحمل ، فيها أربعة عشر عنوانا]
[الفصل الثالث في ما بقى من أحكام الوجود وما يذكر من أحوال
العدم ، فيه ثلاثة وعشرون عنوانا]
فصل [أوّل]
فيه تحديد الحكمة الّتي هى فوق الطّبيعة وتحصيل موضوعها.
وأقول أوّلا :
إنّ لما أوتيت ، من الحكمة اليمانيّة النّضيجة والفلسفة الإيمانيّة البهيجة ،
النّاطق بقوارع فضلها الشّارق لبيان هذا الكتاب البارق الفارق ، شأنا قدسيّا وجاها
ملكوتيّا ومكانا عقليّا ومقاما روعيّا لم يكد (٣) .
<في الفصل الأوّل عنوانان>
<١> تلويح استنارىّ
عسيت أن اثبّتك
على التّفطّن بأن ليس الوجود حقيقته إلاّ نفس الموجوديّة بالمعنى المصدرىّ ، أى :
صيرورة نفس الماهيّة فى ظرف ما ، لا معنى ما ينضمّ إلى الماهيّة أو ينتزع منها ، فيجعل مناطا لصحّة انتزاع الموجوديّة وحمل مفهوم الموجود.
فلعلّ المتحقّق أنّه ليس فى ظرف الوجود إلاّ نفس الماهيّة ؛ ثمّ العقل بضرب من
التّحليل ينتزع منها معنى الموجوديّة والصّيرورة المصدريّة ، ويصفها به ويحمله
عليها على أنّ مصداق الحمل ومطابق الحكم هو نفس الماهيّة بحسب ذلك الظّرف ، لا أمر
زائد يقوم بها فيصحّح الحمل.
__________________
فإن أوهم : أنّ
الأمر إذا قد أشبه حمل الذّاتيّات ، حيث إنّ مصداق الحمل ومطابق الحكم هناك ليس
إلاّ نفس ذات الموضوع والوجود من العرضيّات اللاّحقة قد ينفصل عن ذلك بأنّ ذات
الموضوع هناك بنفسها تستقلّ بمصداقيّة الحمل مع عزل النّظر عن أيّة حيثيّة كانت
غيرها.
وأمّا حمل
الموجود فمصداقه نفس ذات الموضوع ، لكن لا من حيث هى ، بل باعتبار جاعليّة
العلّيّة لها. فإذا تعرّفت بضرورة أو برهان صحّ حمل الوجود قطعا. وربما تقود إلى
الحكم بها مشاهدة ترتّب آثار الماهيّة عليها ، فيتعرّف أنّ ما هو مصداق الحمل
متحقق ، فيحكم بصحّة الحمل ، لا أنّ ترتّب الآثار مصداق الحمل ، أيضا ، كما ظنّ.
فقد فارق حمل الذّاتيّات من تلك الجهة. نعم قد خولفت فيه سنّة الحمل فى سائر
الذّاتيّات والعرضيّات ؛ إذ ليس فى العوارض ما هذه شاكلته إلاّ الوجود.
وأيضا ، الوجود
يباين سائر الأعراض : بأنّ كلّ عرض ، فإنّ وجوده فى نفسه هو بعينه وجوده فى موضوعه.
وأمّا العرض الّذي هو الوجود ، فحقيقته هى نفس أنّ كذا فى الأعيان أو فى الذّهن لا
شيء أو معنى به كذا فى الأعيان أو فى الذّهن. فوجوده بعينه هو وجود موضوعه.
ولا يستصحّ
العقل أن يقال : وجوده فى موضوعه هو وجوده فى نفسه ، بمعنى أنّ له وجودا ، كما
يكون للبياض وجود ، بل بمعنى أنّ وجوده فى موضوعه نفس وجود موضوعه ، على خلاف سنّة
كلّ عرض غيره ؛ فإنّ وجود العرض فى موضوعه نفس وجود ذلك العرض.
ومن هناك لا
يستتمّ قول السّلف : إنّ الوجود مخالف لسائر الأعراض ، لحاجتها إلى الوجود حتّى
تكون موجودة واستغناء الوجود عن الوجود حتّى يكون موجودا ، إذ وجود الوجود هو
موجوديّة الماهيّة ، وأنّ الفاعل إذا أوجب شيئا أفاد وجوده ، لا حقيقته. وإذا أوجب
الوجود أفاد حقيقته ، لا وجوده ؛ إذ حقيقته هى أنّ موضوعه فى الأعيان أو فى الذّهن
، أى صيرورة الماهيّة ، لكن هذه المعانى فى
طبيعة الوجود المشترك البديهىّ فقط ، إذ لم يتبيّن من ذلك أنّ الكون فى
الأعيان هو البتّة كون شيء.
ثمّ الفحص والبرهان
أوجبا أنّ بعض الكون فى الأعيان هو يقترن بشيء ما ، وبعضه لا يقترن بشيء ، لأنّ
الكون فى الأعيان الّذي لا سبب له لو كان متعلّقا بشيء لكان ذلك الشّيء سببا ما لذلك
الكون وقد فرض أنّه لا سبب له.
فإذا قلنا :
كذا موجود ، فلسنا نعنى أنّ الوجود معنى خارج ، فإنّ كون الوجود معنى خارجا عن
الماهيّات إنّما يعرف ببرهان ، حيث يكون ماهيّة ووجود ، كالإنسان الموجود ؛ ولكنّا
إنّما نعنى به مجرّد أنّ كذا فى الأعيان أو فى الذّهن. وهذا على ضربين : منه ما
يكون فى الأعيان أو فى النّفس بوجود ينتزع منه ؛ ومنه ما لا يكون كذلك ، بل إنّما
يكون فى الأعيان بنفس ذاته.
فالوجود الّذي
هو الكون فى الأعيان ويصدق أنّه فى الأعيان ليس يحتاج فى أن يكون فى الأعيان إلى
كون فى الأعيان يقترن به أو ينتزع منه ، فإنّ ما به صيرورة كلّ شيء فى الأعيان هو
أولى بأن يكون بذاته فى الأعيان.
وفرق بين «لذاته
فى الأعيان» وبين «بذاته فى الأعيان» ، فإنّ ما يكون لذاته فى الأعيان يصحّ أن
يكون له سبب ؛ وما يكون بذاته لا يكون له سبب.
وبالجملة ،
الوجود المطلق معنى مصدريّ لا يؤخذ من مبدأ المحمول قائم بالموضوع انضماما أو
انتزاعا ، بل من نفس ذات الموضوع المجعولة بجعل الجاعل إيّاها ، ولا يتصوّر لذلك
المعنى تحصّل وتقوّم إلاّ بنفس الإضافة إلى موضوعه ، لا قبل الإضافة.
وإذ دريت أنّ
حقيقته : أنّ موضوعه فى الأعيان لا غير ؛ فاعلمن : أنّ مرتبة ذات موضوعه فى العين
أو فى الذّهن اصطلح على التّعبير عنها بفعليّة الماهيّة ووضع لها اسم هو تقرّر
الذّات ، وحيثيّة هذا المفهوم المصدرىّ المنتزع تسمّى بالوجود ويعبّر عنها
بالموجوديّة ؛ فإنّ تقرّر الماهيّة وفعليّتها وإن لم تنسلخ عن اقتران الوجود إلاّ
فى اعتبار العقل إلاّ أنّها مستتبعة للموجوديّة ، والموجوديّة مسبوقة بها
(٤) ؛ وفعليّة تقرّر الماهيّة بجعل الجاعل معيار صحّة انتزاع الموجوديّة
بالفعل ومناط صدق حمل الموجود.
فليتقن القول
على هذا القسط ، فإنّه متى تعوهد رعاية الاعتبارات وتأدية حقوقها فقد اصيب نصاب
الأمن من مخاطر الشّكوك والأوهام ، وإنّ إهمال جهة الاعتبارات وإضاعة حقوق
الحيثيّات أفق اختلال الحكمة. وإذ قد بلغ الأمر إلى الانسياق إلى ذروة هذا المقام
فلنحقّق القول فى الجعل والحمل بفضل اللّه وعصمته.
<٢> ذنابة ...
إنّ ما تلى
عليك هو ما راموه بقولهم : «نحن متى ما قلنا «الوجود» ، فإنّما نعنى به «الموجود»
، أى : إنّ المقصود بالوجود هو صيرورة الماهيّة وموجوديّتها المأخوذة من نفس
الماهيّة المتقرّرة ، لا معنى يلحق الماهيّة ، فيشتقّ منه الموجود ويحمل عليها ،
كما يكون فى السّواد والأسود ، كما أنّ الإنسانيّة مفهوم مأخوذ من نفس ذات الإنسان
، لا أمر يقترن بالإنسان. ومن لم يفقه ذلك ظنّ أنّهم قصدوا أنّ مبدأ الاشتقاق
إنّما هو المشتقّ ، وتشبّث بذلك فى أنّ الأمور العامّة للموجودات هى المشتقّات.
فصل [ثان]
فيه إشباع العقول فى تحقيق الجعل والحمل وما يلتصق بذلك
<في الفصل الثاني سبعة عناوين>
<١> إخاذة فى تحديد حريم المتنازع فيه
الجعل : إمّا
بسيط ، وهو جعل الشّيء وأثره التّابع له نفس ذلك الشّيء ويتقدّس عن تعليق شيء بشيء
، ولا يكون بحسبه إلاّ مجعول فقط يبدعه الجاعل ويفيض نفسه ، ويعبّر عن تلك المرتبة
المجعولة بتقرّر الذّات وقوام الماهيّة وفعليّتها ؛ وإمّا مؤلّف ، هو جعل الشّيء
شيئا وتصييره إيّاه وأثره المترتّب عليه هو مفاد الهيئة التّركيبيّة الحمليّة ، ولا
يتعلّق بشيء واحد ، بل له مجعول ومجعول إليه ، وهو إنّما يتعلّق بصيرورته إيّاه.
وما يظنّ : «أنّه
لم يخل ذلك من الانتهاء إلى جعل بسيط إمّا لنفس الصّيرورة أو الاتّصاف أو اتّصاف
الاتّصاف أو لمفهوم ما فى بعض المراتب» ساقط بأنّ النّسبة الّتي هى الصّيرورة أو
الاتّصاف فى هذا النّحو من الجعل إنّما يلحظ بين المجعول والمجعول إليه على أنّها
مرآة لمخلوطيّة أحدهما بالآخر ، لا على أن يتوجّه الالتفات إليها برأسها ، وإنّما
دخولها فى متعلّق الجعل بالعرض من تلك الجهة. فإذا لوحظت على الاستقلال بالالتفات
من حيث إنّها ماهيّة ما انعزل النّظر حينئذ عن الطّرفين إلاّ بالعرض ، وانصرم
متعلّق الجعل المؤلّف ، وعاد الحكم بأنّ هذه الماهيّة : هل تفتقر فى نفسها إلى جاعل
يفيضها ، أو تستغنى ، لأنّ شأن الماهيّات الاستغناء بحقائقها التّصوّرية
عن الجعل والافتقار إليه فى الخلط بما لا يدخل فى قوامها مفوّضا إلى
البرهان.
أليس قد قرع
سمعك : أنّ التّصوّر والتّصديق نوعان من الإدراك مختلفان بحسب الحقيقة ، لا بحسب
المتعلّق فقط ؛ إذ التّصديق لا يتعلّق إلاّ بمفاد الهيئة الحمليّة ، كمفهوم «هو هو»
، والتّصوّر يتعلّق بكلّ شيء ، والنّسبة إنّما تدخل فى متعلّق التّصديق بالتّبعيّة
، حيث يؤخذ الموضوع متلبّسا بالمحمول ، وأثر التّصوّر حصول نفس الشّيء وأثر
التّصديق كون الشّيء شيئا. وكذلك الوجود المحمول والوجود الرّابطىّ نوعان متباينان
بحسب الحقيقة وبحسب المتعلّق وبحسب ما يتبع. فاحكم بأنّ شاكلة الجعلين فى هذه
الأحكام تلك الشّاكلة.
ثمّ الجعل
المؤلّف لا يتوسّط بين الشّيء وبين نفسه ، كقولنا : «الإنسان إنسان» ، ولا بينه وبين
شيء من ذاتيّاته ، كقولنا «الإنسان حيوان» لانحفاظ الخلط فى مرتبة الماهيّة من حيث
هى هى ؛ والدّخول فى أصل قوامها ، بل يختصّ بالعرضيّات ، سواء كانت لوازم
الماهيّات ، كقولنا : «الأربعة زوج» ، أو العوارض الممكنة الانسلاخ ، كقولنا : «الإنسان
موجود ، والجسم أبيض» ، لعرى الذّات عنها فى مرتبة التقرّر ، وصحّة سلبها عن
الماهيّة من حيث هى ولحوقها لها فى مرتبة متأخّرة.
وأمّا الجعل
البسيط ، فافتقار الماهيّة إليه بحسب نفس الذّات وتقرّر القوام هو حدّ حريم الخلاف
بين امم الحكمة من المشّائين والرّواقيّة والإشراقيّة من الاتّفاق على امتناع
انسلاخ التّقرّر عن الوجود ، لصحّة سلب المعدوم عن نفسه على ضدّ ما يتوهّمه أقوام
من المتكلّمين.
<٢> سياقة
لعلّ الحقّ لا
يتعدّى مجعوليّة الماهيّات بالجعل البسيط ، كما فى القرآن العزيز ، من قوله ، عزّ
من قائل : «وَجَعَلَ الظُّلُمٰاتِ وَالنُّورَ» (الأنعام ١ /) على معنى أنّ أثر الجاعل وما يفيضه ويبدعه
أوّلا وبالذّات هو نفس الماهيّة ، ثمّ (٣) يستتبع ذلك جعلا مؤلّفا للموجوديّة ،
مفاده خلط الوجود والماهيّة وصدق الحمل فى قولنا : «الإنسان
موجود». لكن لا باستيناف إفاضة من الجاعل أو باقتضاء من الماهيّة الفائضة ،
بل بنفس استيجاب ذلك الجعل المتقدّس البسيط على سبيل الاستلزام أو الاستتباع.
ألست قد سبق
إلى فطانتك ؛ أنّ الوجود حقيقته صيرورة الماهيّة ، وأنّ نفس قوام الماهيّة مصحّح
حمل الوجود ومصداقه ، فاحدس أنّها إذا استغنت بحسب نفسها ومن حيث أصل قوامها عن
الفاعل صدق حمل الوجود عليها من جهة ذاتها وخرجت عن حدود بقعة الإمكان ، وهو باطل.
فإذن ، هى
فاقرة إلى فاعلها من حيث قوامها وتقرّرها ومن حيث حمل الموجوديّة وهى فى ذاتها
بكلا الاعتبارين فى اللّيس البسيط والسّلب الصّرف والقوّة المحضة ، ويخرجها مبدعها
إلى التقرّر والأيس بجعل بسيط يتبعه على اللّزوم بلا وسط جعل مؤلّف لا باستيناف.
وأمّا التّشبّث
: ب «أنّ جعل الإنسان موجودا يرجع إلى إفاضة نفس الوجود أو نفس الاتّصاف أو
اتّصاف الاتّصاف ؛ أو ما يجعل أثرا للفاعل بالحقيقة فى شيء من المراتب ، وإلاّ لم
ينته الجعل إلى الوقوف أصلا. فلم تحصل الموجوديّة. وذلك لأنّ الاتّصاف فى نفسه
ماهيّة ما ، فإن استغنى نفسه عن الجاعل كان الوجود للإنسان بلا علّة أولا ، فيكون
نفسه الأثر ، وإلاّ عاد التّرديد إلى ما هو الأثر ، كاتّصاف الاتّصاف وهكذا».
فغير منجح ،
فإنّ من لا يستصحّ مجعوليّة الماهيّة يجعل الاتّصاف متعلّق الجعل من حيث إنّه خلط
طرفيه. كما أنّ النّسبة فى القضيّة إنّما يتعلّق بها التّصديق من حيث هى بين
الطرفين لا يلتفت إليها بالذّات ومستغنيا عنه بحسب نفسه ، أى بحقيقته التّصوّريّة
إذا لوحظ بالاستقلال ، كما هو شأن الحقائق عنده ، ولا يخرج ذلك ماهيّة عن الحاجة
فى ثبوتها إلى الجعل المؤلّف ، فضلا عن ماهيّة الموصوف.
ومن لم يحصّل
يظنّ : أنّ منكر الجعل البسيط يجعل الصّادر الأوّل نفس الاتّصاف ، ثمّ يكل الأمر
فى اتّصاف الاتّصاف وما بعده إلى انتزاع العقل إلى حيث ينبتّ الاعتبار ، فيعترض
بعدم الفرق بين الاتّصاف وبين نفس الماهيّة ، فلم لم تكن هى الصّادر ، وأنّ
الاتّصاف نسبة ، فكيف يكون أوّل الصّوادر ، وأنّ الموجد للحركة بالاختيار
لا يحتاج إلاّ إلى أن يتخيّل الحركة المخصوصة ، لا إلى تصوّر الاتّصاف بالوجود.
وبعض
الإشراقيّة من أتباع الرّواقيّة يتمسّك : بأنّ الوجود من الاعتبارات العقليّة ،
فلا يكون من الفاعل إلاّ نفس الماهيّة العينيّة. ولو كان الوجود هو ما من الفاعل :
فإمّا إن لم يفده شيئا زائدا ، فهو كما كان ، أو أفاد ، فكان للوجود وجود إلى لا
نهاية.
وهو أيضا على
خداج قلّة الجدوى. فالانتزاعيّات الذّهنيّة كالعينيّات الخارجيّة ، والاتّصاف
باعتبار العقليّة كالتّلبّس بالأوصاف العينيّة فى الاحتياج إلى الفاعل. وكون
الماهيّة عينيّة إنّما معناه صحّة أن ينتزع منها الوجود فى الأعيان.
والمشّائيّة
تضع : أنّ ذلك أثر إفادة الفاعل ، لا نفس المنتزع ، ولا الماهيّة المنتزع منها ، ولا
نفس حقيقة صحّة الانتزاع. فمحجّة البرهان ما انتهجناه.
ثمّ الأجدر
بالجعل البسيط ، لتقدّسه عن شوائب التّكثّر ، أن يقال له تأثير إبداعىّ وإخراج
للأيس عن اللّيس المطلق ؛ وب «المؤلّف» : إنّه اختراعىّ مسبوق بقابل ما ، وإن لم
تكن المادّة. ولذلك كان الأوّل أصون للتّحفّظ عن إسناد الكثرة فى المعلول الأوّل
إلى الوحدة الحقّة.
<٣> شكوك وإزاحات
لعلّك تقول : أليس
من المتحقّق : أنّ سلب الشّيء عن نفسه إنّما يمتنع (٦) مطلقا إذا كان وجود الشّيء
عين ماهيّته ، فلم يتصوّر عدمه أصلا. وأمّا فى الماهيّات الممكنة فإنّما مع اعتبار
الوجود فقط ، إذ يصحّ سلب المعدوم عن نفسه فضلا عن الذّاتيّات. وربّما تصدق
السّالبة بانتفاء موضوعها ، وذات الممكن لا تأبى العدم ، ولذلك لم يكن شيء من
الممكنات هو هو لذاته. وكان هو المطلق هو المبدأ الأوّل وحده. وفى الأسماء
الإلهيّة : «يا هو ، يا من هو ، يا من لا هو إلاّ هو». فكيف يستقيم عدم تخلّل
الجعل بين الشّيء ونفسه وبينه وبين ذاتيّاته.
ثمّ أما وضعت
من قبل : أنّ الوجود خارج عن الماهيّات الممكنة ، نسبته إليها
نسبة اللّواحق ، فكيف تجعل مصداق حمل الموجود على ذات الممكن نفس ماهيّته ،
وهل هى إلاّ شاكلة الماهيّة بالقياس إلى ما يدخل فيها ، على أنّ الوجود بالنّسبة
إلى الممكنات لا يكون على شاكلة لوازم الماهيّة أيضا. ثمّ تحصيل سبق الماهيّة على
الوجود عسر على القريحة.
فيزاح : بأنّ
خلط الذّات والذّاتيّات لا يكون بمقتض أو اقتضاء. أليس النّظر إلى الماهيّة من حيث
هى غير ممكن الانسلاخ عن أن يكون بينه لحاظ ذاتيّاتها. وأمّا ما يلحق ، فإمّا من
تلقاء مقتض أو باقتضاء من تلقاء جوهر الماهيّة.
فقولنا : «الإنسان
إنسان أو حيوان» لا يحوج صدقه إلى الجعل من جهة الخلط وإن أحوج إلى لحاظ تقرّر
الموضوع ، فما يستدعيه إنّما هو تقرّر ذات الموضوع. لست أقول : الصّدور عن العلّة
، بل التّقرّر فقط ، حتّى لو أمكن التّقرّر بنفس الذّات من غير علّة لكفى ، على
أنّ ذلك أيضا ليس من جهة اقتضاء خصوص الخلط باعتبار خصوصيّة الطرفين ، بل من جهة
استدعاء مطلق طبيعة الرّبط الإيجابيّ.
فإذن ، توقّف
صدق خصوص الحمل ، فى ذاتيّات الماهيّات بخصوصيّة حاشيتيه ، الموضوع والمحمول ، على
مجعوليّة نفس الماهيّة ، وصدورها عن الجاعل إنّما هو بالعرض وعلى سبيل الاتّفاق من
جهتين : عدم تقرّر الماهيّة الإمكانيّة بنفسها ومطلق كون الرّبط إيجابيّا ، لا
بالذّات من جهة خصوص الخلط وخصوصيّة حاشيتى الحمل.
فلا احتيج : إلى
توسيط جعل مؤلّف للخلط بين الطرفين ، ولا إلى اعتبار جعل بسيط للذّات. فالجاعل
يفعل ماهيّة الإنسان ، ثمّ هو بنفسه إنسان وحيوان ، لا بجعل مؤلّف أصلا ، ولا بنفس
ذلك الجعل البسيط.
وهذا أصل غامض
؛ من لم يرزق الفطنة ولم يكن لقريحته سبيل إلاّ إلى الغفول عنه تخيّل : أنّه تفصّى
بأنّ صدق الحمل بنفس جعل الماهيّة لا بجعل مستأنف ؛ فإنّ الجعل يتعلّق أوّلا بنفس
الماهيّة ، ثمّ العقل ينتزع منها كونها هى أو بعض ذاتيّاتها (٧) ، ومصداق الحمل
نفس جعل الماهية ؛ وزعم أنّ ذلك مذهب الإشراقيّة ، وهو على شفير حفرة الوهن والسّخافة.
فقد تحققت :
أنّ مصداق الحمل بخصوصيّة نفس الماهيّة بما هى هى. وقولهم : «ذاتيّات الماهيّة
مجعولة بعين جعلها» إنّما عنى به أنّ جعل الماهيّة هو بعينه جعلها ، فهى مجعولة فى
ذواتها جعلا بسيطا هو عين جعل الماهيّة ، بل الجعل البسيط الوحدانىّ يتعلّق أوّلا
بالذّاتيّات والمقوّمات ، ثمّ بالماهيّة.
وهذا مسلك
الإشراقيّة والرّواقيّة ، وإنّما حاولنا ترميمه وتقويمه «بالحكمة اليمانيّة» ، لا
أنّ ذلك الجعل يوسّطه اعتبار العقل بين الماهيّة ومقوّماتها للحاظ الخلط وصدق
الحمل.
وكذلك مصداق
الحمل نفس الماهيّة المجعولة ، لا جعلها ومجعوليّتها ؛ فإنّ بين الاعتبارين فرقا ،
على أنّ التّشكيك لا يختصّ بالرّواقيّة ، بل يعترى المشّائيّة أيضا.
فلا يجدر أن
يزاح إلاّ بما يجدى الفريقين. لكن أتباع المشّائيّة ربّما ينقضون أيضا : بأنّ صحّة
سلب المعدوم عن نفسه إنّما يستوجب استلزام الرّبط الإيجابيّ وجود الموضوع لا
الفرعيّة. فصدق الحمل فى الذّاتيّات لا يتوقّف على الجعل المؤلّف للموضوع ، أى
جعله موجودا ، بل إنّما يستلزمه ويستتمّ لو قيل بالمساوقة بين مرتبتى الفعليّة والوجود.
وسينساق نظرك إلى الحقّ الصّريح إن شاء اللّه تعالى. ثمّ اللّواحق
(١) : منها :
لوازم الماهيّة ، ومصداق الحمل فيها نفس الماهيّة المجعولة ومفهوم المحمول مع
اقتضاء من الماهيّة للخلط ، لا الماهيّة باعتبار المجعوليّة فضلا عن الوجود
المتأخّر عنها إن أسندنا لوازم الماهيّة إلى نفس الماهيّة فقط من جهة اقتضائها
للخلط من غير اعتبار مدخليّة مطلق الوجود ، كما بلغ إليه نظر شيخ الصّناعة ورئيسها
؛ فإنّ ملاحظة المجعوليّة إنّما احتيج إليها فى صدق الحمل ، لكون الموضوع من
الطّبائع الإمكانيّة ولا ذات متقرّرة له إلاّ بالمجعوليّة لا من حيث إنّ ذاته إحدى
حاشيتى هذا الحمل بخصوصه ، ولاستدعاء مطلق الرّبط الإيجابيّ بما هو مطلق الرّبط
الإيجابيّ ذلك ، لا من حيث الخصوصيّة إلاّ بالعرض ، على قياس ما تعرّفت.
وما أعضل الأمر
بمثير فتنة التّشكيك وغيره : «أنّه يلزم حينئذ جواز كون الوجود
من لوازم الماهيّة وهى تكون من حيث هى هى مؤثّرة فيه ، لا من حيث هى موجودة
أو معدومة» ، فمزيّف : بأنّ عدم اعتبار الوجود فى الماهيّة عند اقتضائها صفة لا
يقتضي انفكاكها عن الوجود حالة الاقتضاء ، فإنّ انفكاكها عن الوجود وهى هى محال ،
فضلا عن أن تكون مؤثّرة. فإذن لا يتصوّر كونها مؤثّرة فى الوجود الّذي لا ينفكّ
حالة التّأثير عنه ، ولا كذلك الحال بالقياس إلى صفة اخرى ، بل يتصوّر للماهيّة
مرتبة من الوجود لا يكون بحسبها الخلط بالصّفة وإن كان الاقتران فى الأعيان دائما ولازما.
وإن قلنا
باعتبار مدخليّة مطلق الوجود ، فيكون مصداق الحمل ماهيّة الموضوع المتقرّرة بالجعل
ومفهوم المحمول واقتضاء الماهيّة باعتبار مطلق الوجود للخلط ؛ وإن كان خصوص
الوجودين ممّا لا مدخل له.
و (٢) منها :
عوارض ممكنة الافتراق ، ومصداق حملها ماهيّة الموضوع المتقرّرة ، بل الموجودة ، ومفهوم
المحمول ومقتض للخلط من خارج.
وأمّا اللاّحق
الّذي هو الوجود ، فمصداق الحمل فيه نفس ماهيّة الموضوع المتقرّرة من غير اعتبار
أمر ما معها أصلا ، كما يكون فى سائر العوارض من لوازم الماهيّة واللّواحق
المفارقة ، لكن لا بما هى هى بنفسها ، كما هو فى الذّاتيّات ، لكون الوجود غير
داخل فى قوامها ، بل من حيث إنّها صادرة بنفس تقرّرها عن الجاعل. فالمناط بالذّات
هاهنا حقيقة هو حيثيّة الصّدور بالجعل البسيط.
فإذن ، ما أسهل
أن يظهر لك : أنّ الماهيّة ما لم تصدر عن الجاعل لم يحمل عليها شيء أصلا. فإذا
صدرت صدق أنّها هى أو ما هو من ذاتيّاتها ، ولكن لا من حيث هى صدرت ، بل إنّما (٨)
حين ما صدرت على مجرّد المقارنة ، لا التّوقّف وأنّها موجودة باعتبار ما تلحظ من
حيث هى صدرت ، أى بلحاظة تلك الحيثيّة ، لا بلحاظتها من حيث هى بنفسها ، ولكن حين
ما صدرت. فلذلك لم يكن شيء من الممكنات الهو المطلق ، بل إنّما يصحّ أن يقال : هو
نفسه أو هو بعض ذاتيّاته حين المجعوليّة ، ويصدق : هو موجود وثابت ، باعتبار
المجعوليّة.
فكان المبدأ
الأوّل ، جلّ ذكره ، هو على الإطلاق ولم يكن هو إلاّ هو ، وكان
مكوّن الكون ومشيّئ الشّيء.
لست أقول :
مكوّن الكون كونا ومشيّئ الشّيء شيئا ، فاحدس : أنّ حمل الوجود يشابه حمل
الذّاتيّات من وجه ويباينه من وجه ويباين حمل لوازم الماهيّة من كلا الوجهين
مباينة صرفة ؛ وأنّ سبق الماهيّة على الوجود سبق بالماهيّة ، وما به السّبق فيه
تقرّر الماهيّة ، لا سبق بالطبع أو بالعلّيّة ، فما به السّبق فيهما الوجود أو
عارضه ، أى الوجوب. فليس للماهيّة مرتبة وجود يتصوّر بحسبها سلب الخلط بالوجود ، وإنّما
لها مرتبة فعليّة وتقرّر ليست بما هى هى بعينها مرتبة انتزاع الوجود ، أى
الوجوديّة المصدريّة ، بل إنّما هى مستتبعتها وغير منسلخة عن اقترانها مطلقا ، وذاتيّات
الماهيّة أيضا لها تقدّم بالماهيّة عليها من حيث التّقرّر ، ويحكم العقل بأنّ
الجعل البسيط المتعلّق بالماهيّة بالإصدار إنّما الأحقّ أن يتعلّق بالإصدار أو لا
بها ثمّ بالماهيّة ، كما أنّ لها تقدّما بالطّبع أيضا على الماهيّة بحسب الوجودين
، فقد اجتمع فيها نحوان من التّقدّم.
ثمّ إنّ هناك
فحصا على شدّة غموض ، كأنّا قد سقنا إليه فطانتك ؛ فإنّ الماهيّة فى مرتبة الصّدور
، وهى بعينها مرتبة التّقرّر تتأخّر عن مقوّماتها وتتقدّم على الوجود ، فيكون نسبة
الوجود والذّاتيّات إلى الماهيّة على التّعاكس ، ولكن على سبيل أنّ تعلّق الجعل
البسيط بالماهيّة متأخّر عن تعلّقه بعينه بالذّاتي ومتقدّم بحسب تلك المرتبة
بعينها على متعلّق الجعل المؤلّف للوجود ، أى : إنّ الماهيّة موجودة.
لست أقول : على
جعل مؤلّف يتعلّق به ؛ فإنّ صدق هذه الهيئة الحمليّة بنفس استتباع تعلّق الجعل
البسيط بالماهيّة لذلك ، لا بجعل مؤلّف يتعلّق به متأخّر عن الجعل البسيط للماهيّة
أو فى مرتبته ؛ إذ تلك ليست إلاّ سنّة سائر العوارض غير الوجود ؛ وفى الذّاتيّات
ليس يتقدّم على جعل مؤلّف يتوسّط بين الماهيّة وبين ما هو ذاتىّ لها ، فقد عرفت
استحالته ، ولا على متعلّقه ، كقولنا : «الإنسان حيوان» فقد عرفت أنّه لا استتباع
هناك ، بل مجرّد اقتران على وجه الاتّفاق.
وإذا لوحظ
الوجود على أن يصلح متعلّقا للجعل البسيط ، أى الموجوديّة من حيث إنّها مفهوم ما ،
لا بمعنى أنّ الماهيّة موجودة ربما تعلّق به جعل بسيط مباين للجعل
البسيط المتعلق بالماهيّة ولا يترتّب عليه على سبيل اللّزوم البتّة ، وهذه
أساسات حكميّة لاصول علميّة أنضجت أثمار أشجارها العقليّة بأشعّة شمس الإلهام والتّوفيق.
<٤> وهم وتنبيه
ربما اختلج
سرّك ما يتشبّث به بعض مقلّدة أتباع المشّائيّة ، من : «أنّ العلّة المحوجة إلى
العلّة هى الإمكان ، وهى كيفيّة نسبة الوجود إلى الماهيّة ، فلم تكن المجعوليّة
بحسب الماهيّة».
فكدت تستحقّ أن
يقال لك : كأنّك لست من أهل التّحصيل لاصول تليت عليك، وإلاّ لاستبصرت فاستشعرت
أنّ ذلك ـ بعد أن دريت ما حقيقة الوجود وكيف نسبته إلى الماهيّة ومتى صحّة انتزاعه
منها مع امتناع الانفكاك بينه وبين تفرّد الماهيّة ـ هو الّذي أفضى إلى استيجاب
المجعوليّة لنفس الماهيّة ، على أنّ القول فى الإمكان أرفع ممّا يصنعه الحكماء
العامّة.
وأمّا أنّ
الماهيّة من حيث هى هى كيف تتّصف بالمجعوليّة ، وهى من عوارضها ، والماهيّة من حيث
هى ليست إلاّ هى ، فلقد استبان نظيره فى الوجود ، وأنّ الماهيّة من حيث هى لا بشرط
شيء إنّما يلحقها أن توجد بالوجود الّذي تؤخذ هى لا بشرط الخلط وعدم الخلط به.
فكذلك المجعوليّة ، أعنى أنّ العقل إنّما يعتبر عروضها لها فى نحو الملاحظة الّتي
هى ظرف الخلط والتّعرية.
<٥> تفريعات تأصيليّة
يتفرّع عن أصل
الجعل البسيط فروع هى اصول لعويصات مسائل حكميّة.
(١) منها :
مطلب «هل» على أقسام ثلاثة : هل الشّيء ، وهل الشّيء موجود على الإطلاق ، وهل
الشّيء موجود على صفة.
ويشبه أنّ أحقّ
ما يسمّى بالهليّة البسيطة هو الأوّل. والهليّة المركّبة ضربان : بالإضافة وعلى
الإطلاق. ولو اصطلح على جعل البسيطة ضربين (٩) : بسيطة على
الحقيقة وهى هليّة الشّيء فى نفس ماهيّته ، وبسيطة على الإضافة وبالقياس ، وهى
هليّة الشّيء بحسب الوجود فى نفسه ، والمركّبة هليّة الشيء على صفة ، فلا شطط.
وكأنّ من آمن
بالجعل البسيط إنّما أذهل نفسه عن الثّليث ثقة بعدم انفصال الوجود عن التقرّر إلاّ
فى اعتبار العقل. فمهما تحقّق الوجود ثبت التّقرّر. لكنّ المرتبتين مختلفتان ، وللشىء
بحسب كلّ منهما لواحق وأحكام. فالإهمال مغلّط فى المعايير العلميّة والاعتبارات
التّصوّريّة والإذعانيّة والاقتناصات الحدّيّة والبرهانيّة.
(٢) ومنها :
الجعل البسيط إنّما ينسب إلى العلّة الفاعليّة ، بل إلى فاعل الماهيّات ومفيض
الوجودات على الإطلاق. وأمّا سائر العلل فإنّما ينسب إليها الدّخول فى ما يتوقّف
عليه الجعل المؤلّف ، أى علّة الموجوديّة. وأمّا توقّف نفس الماهيّة وقوامها عليها
فكاد يكون بالعرض.
فإذا استتمّ ما
يتوقّف عليه وجود المعلول وبلغ الاستعداد نصابه واستجمع الفاعل شرائط الإفاضة حصل
الوجود ؛ لكن حصول الوجود إنّما يكون بأن يبدع الجاعل نفس الماهيّة ، فيتبعه
الموجوديّة.
ثمّ يشبه أن
يكون الأحقّ بعقد الاصطلاح عليه تخصيص الجاعل بالعلّة الفاعلة إذا كان تأثيرها
بإصدار نفس الماهيّة بالجعل البسيط. وأمّا سائر العلل فلا يقال لشيء منها الجاعل. وكذلك
الفاعل بالجعل المؤلّف ، أى فاعل الوجود ، لا أستصوب أن يطلق عليه الجاعل ، بل
إنّما الموجد والفاعل فقط.
(٣) ومنها :
مطلق ثبوت شيء لشيء ، بما هو طبيعة ثبوت شيء لشيء على الإطلاق ، فرع تقرّر ذات
المثبت له ومستلزم ثبوته. وأمّا بالنّظر إلى خصوصيّة الحاشيتين فربّما يكون أيضا
على هذه الشّاكلة ، أى : على الفرعيّة بالقياس إلى تقرّر المثبت له والاستلزام
بالقياس إلى ثبوته ، كما فى ثبوت الوجود للماهيّة.
فقد استبان لك
: أنّ ظرف عروض الوجود فى ظرف الخلط والتّعرية هو بعينه ، وإنّما ذلك على قاعدة
الاستلزام بالنّظر إلى الثّبوت ؛ فإنّ الثّبوت فى ذلك الظرف لا يتقدّم على نفسه ولكن
يتأخّر عن تقرّر الماهيّة فيه.
وكذلك القول فى
لوازم الماهيّات ، بناء على الحقّ من إسنادها إلى نفس الماهيّة ، فثبوتها للماهيّة
مترتّب على فعليّة المرتبة ومستلزم لثبوتها لا متوقف عليه ؛ فإنّ الوجود وإن كان
أوّل ما يلحق الماهيّة وينتزع منها ، لكن ليس ذلك بحسب ما يستدعيه ثبوت اللاّزم
للماهيّة ، بل كانت الماهيّة المتقرّرة فى نفسها بحيث أن كان أوّل ما يتبعها وينتزع
منها الموجوديّة.
وإنّما استدعاء
ثبوت اللاّزم للماهيّة أن يكون مقترنا بوجودها ومسبوقا بفعليّتها لا غير ، واستدعاء
طبيعة الملزوم أن تكون مخلوطة بالوجود فى مرتبة اقتضائها لذلك اللاّزم ، ولذلك
امتنع أن يكون الوجود من لوازم الماهيّة.
وربما يكون على
الفرعيّة والتّرتّب بالنّسبة إلى تقرّر المثبت له وثبوته كليهما ، كما فى العوارض
اللاّحقة غير الوجود وغير لوازم الماهيّة ، أى حيث يرجع الثبوت إلى لحوق شيء خارج
عن قوام الماهيّة غير منتزع من نفسها وغير مستند إليها ؛ فإنّ ثبوتها للمعروض
مسبوق بفعليّة ماهيّة المعروض وبوجوده جميعا.
وقد يكون بحسب
خصوص الحاشيتين على مجرّد الاستلزام دون الفرعيّة بالقياس إلى تقرّر المثبت له وإلى
ثبوته جميعا ، وإن كان من حيث إنّه مطلق ثبوت شيء لشيء على الفرعيّة بالنّسبة إلى
التّقرّر فقط ، كما فى ثبوت الذّاتيّات لذويها. وأمّا من لم يؤمن بالجعل البسيط
فجدير بأن يمنع الفرعيّة ويقنع بالاستلزام مطلقا. فأحسن إعمال السّجيحة بلطف
القريحة.
(٤) ومنها :
سبق فعليّة الماهيّة على الوجود إنّما يستقيم على تلك المحجّة ، فيقال : صار
الإنسان فوجد. لست أقول : صار الإنسان إنسانا أو شيئا آخر فوجد ، بل صدر نفس
الإنسان وفاض قوامه فوجد. وأمّا الّذين لا يؤمنون بالجعل البسيط فلعلّ القول
بالمساوقة أصحّ لأنظارهم. لكن تأخّر اللّواحق المنضمّة والانتزاعات اللاّحقة والاعتبارات
العارضة عن مرتبة قوام الماهيّة كاد يكون من الفطريّات. وأمّا سبق الوجود على
الفعليّة فلا يستصحّه إلاّ ذو فطرة سقيمة (١٠).
(٥) ومنها :
الجاعل إذا فعل نفس الماهيّة انتزع منها الوجود قبل سائر اللّواحق.
فإذا كان المجعول ممّا يستمرّ ذاته يكون ذلك باستمرار تأثير الجاعل فى نفس
الماهيّة بالإصدار على أن يفعل نفس الماهيّة ويصدرها فى تمام زمان تقرّرها ، وهو
زمان شخصىّ لو حلّله الذّهن إلى أزمنة أو انتزع منه آنات حكم العقل بأنّ الجاعل
يصدرها زمانا فزمانا ، أو آنا فآنا ، بنفس الجعل الأوّل ، كما إذا كان المجعول
اتّصاف الماهيّة بالوجود ؛ فلزم لاستلزام المعلول تحصيل العلّة وجوده فى زمان
شخصىّ هو مجموع زمان وجوده.
فإذا حلّله
الذّهن إلى أزمنة أو انتزع منه آنات ، حكم العقل بأنّ العلّة تفيض الوجود وتحصّله
زمانا فزمانا ، أو آنا فآنا ، بنفس التحصيل الأوّل ، إذ الماهيّة فى حدّ نفسها
ليست على جهة من الفعليّة أصلا ، لا فعليّة قوام الماهيّة وتقرّرها ولا فعليّة
الوجود ولا فعليّة صفة من الصّفات اللاّزمة والصاحبة ؛ بل هى من حيث نفسها فى حيّز
القوّة الصّرفة وبقعة الفاقة المحضة. فحيث لا إفاضة من الجاعل لا ماهيّة ولا وجود
للمجعول.
فما لم يستمرّ
جعل الجاعل لم يستمرّ قوام الماهيّة ولا اعتبار الوجود ، ولا يستلزم ذلك كون
الجاعل زمانيّا فى فعله ، بل مجرّد كون المجعول زمانيّا فى نفسه. وسينكشف لك من ذى
قبل إن شاء اللّه تعالى.
فتحدّس من ذلك
: أنّ الموجودات الممكنة فى ذواتها ، من حيث ماهيّاتها وباعتبار وجوداتها وبجميع
مالها من اللّوازم واللّواحى ، وديعة من جناب الموجود البحت الواجب الوجود الحقّ
المتقرّر بذاته ، أودعها برحمته مستودع حكمته ؛ وعارية استعارها عالم التّقرّر من
كبرياء حضرته ، فإذن له ما فى السّماوات وما فى الأرض.
(٦) ومنها : ما
ليس له ماهيّة متقرّرة فى الأعيان أو فى ذهن ما من الأذهان السّافلة والعالية ،
فليس من عالم الإمكان ، بل من الممتنعات بالذّات ، فإنّ سلب تقرّر الماهيّة على
الإطلاق وإن أمكن بالنّظر إلى نفس الماهيّة دائما ولو حين ما هي متقرّرة إلاّ أنّ
الجاعل يطرده عن الماهيّة بأن يفعلها ويفيض تقرّرها وقوامها فى الأعيان أو فى ذهن
ما ، ويتبع مطلق التّقرّر مطلق الوجود.
ولذلك لم يكن
شيء من الممكنات معدوما مطلقا إلاّ بالإمكان بالنّظر إلى ذاته ، لا بالفعل بحسب
إفاضة المبدأ الأوّل ـ عزّ مجده ـ وخصوص التقرّر فى الأعيان أو فى ذهن بخصوصه
إنّما يكون بجعل الماهيّة هناك.
فالبارى المبدع
ـ سبحانه ـ أبدع الأذهان العالية والمفارقات العقليّة وأخرجها من اللّيس المطلق
بأن فعل أنفسها فى الأعيان فى وعاء الدّهر والسّرمد ، وستعرفه إن شاء اللّه تعالى
، وفعل قوام جملة الماهيّات وتقرّرها فى تلك المدارك.
فمهما شاء حصول
شيء من تلك الماهيّات فى الأعيان أو فى ذهن ما سافل ، فعل نفس الماهيّة هناك
بالجعل البسيط ، فانتزع منها الوجود فى الأعيان أو فى ذلك الذّهن.
فإذن ، ما
ارتكب ـ من تخصيص الجعل البسيط بما فى العدم المطلق والسّلب المستوعب ، وعدّ إفاضة
الماهيّة المتمثّلة فى الذّهن فى الأعيان ، من ضروب الجعل الاختراعىّ المؤلّف ـ
تخييل فيه إزاغة عن التحصيل.
<٦> ضابط ميزانيّ
الاتّصاف بشيء
فى ظرف ما : إمّا «انضماميّ» بانضمام الصّفة إلى الموصوف فى ذلك الظّرف ، ولا
محالة يستدعى ثبوت الحاشيتين معا فى ظرف الاتّصاف ، كما فى الأعراض العينيّة ؛ وإمّا
«انتزاعيّ» بأن يكون الموصوف فى ظرف الاتّصاف بحيث يصحّ للعقل إذا لاحظه على ما هو
عليه من الأحوال هناك أن يحكى عنه بما ينتزعه منه فيصفه به بحسب حاله فى ذلك الظّرف
، كما فى الإضافيّات والسّلبيّات المنتزعة فى قولنا : «السّماء فوق الأرض ، وزيد
أعمى مثلا» ، على أنّهما من القضايا الخارجيّة.
فمصداق الحمل
السّماء وزيد ، بحسب الوجود فى الخارج على وجه يطابقه انتزاع الصّفة بأن يلحظه
العقل حال الموضوع فى ذلك الوجود فيقايس بينه وبين موجود آخر كالأرض ، فيجد بينهما
إضافة مخصوصة ، فيحكم بالفوقيّة ، أو بينه
وبين مفهوم ما ، كالبصر ، فيجده مسلوبا عنه بالفعل ثابتا له بالقوّة
النّوعيّة ، فيحكم عليه بأنّه متّصف
(١١) بالعمى ويصدق ،
لوجود الموصوف فى الأعيان على ما يطابقه انتزاع الصّفة عنه. وذلك فقط حظّ السّلوب
من الوجود فى الأعيان.
وكذلك الأمر فى
الاتّصاف الذّهنىّ ، إذ مصداق الحكم بكليّة الإنسان ، مثلا ، هو وجوده فى نحو من
أنحاء لحاظة الذّهن على وجه خاصّ يصير مبدءا لانتزاع العقل الكليّة منه ، ثمّ حمله
المشتقّ منها عليه.
وهذا النّحو من
الاتّصاف لا يستدعى ثبوت الحاشيتين فى ظرف الاتّصاف ، بل إنّما ثبوت الموصوف فقط ،
إذ ليس معناه إلاّ كون وجود الموصوف فى الأعيان أو فى الأذهان على نحو يكون مبدءا
لصحّة انتزاع الصّفة عنه ومطابقا للحكم بها عليه ، فهو المحكيّ عنه بالصّفة والواقع
الّذي يعتبر مطابقة الحكم له حتى يوصف بالصّدق.
وأمّا ثبوت
الصّفة فى خصوص ظرف الاتّصاف ، فليس ممّا يستلزمه ذلك الاتصاف ولا ممّا يستوجبه
فطرة أو برهان ، بل القدر الضّروريّ هو مطلق الوجود للصّفة ؛ فإنّ ما لا يكون
موجودا فى نفسه أصلا يستحيل أن يكون موجودا لشيء ، ولعلّ الحكم به فطرىّ.
والفرق بين
مطلق الوجود وبين خصوص الوجود فى ظرف الاتّصاف غير خفىّ ، وإن كان مطلق الوجود
لبعض الصّفات بخصوصها اتفق أن كان بالتّحقّق فى الأذهان فقط ، ولبعضها بخصوصها
اتفق أن كان بالحصول فى الأعيان فقط ، إلاّ أنّ الخصوصيّات ملغاة من جانب الصّفة فيما
تستدعيه بطبيعة الاتّصاف ، لا من جانب الموصوف ؛ إذ يعتبر فيه خصوص وجوده فى ظرف
الاتصاف بالنّظر إلى استدعاء طبيعته.
فإن اوهم : أنّ
الاتصاف نسبة ، فكما يقتضي وجود الموصوف فكذلك يقتضي وجود الصفة. قيل : مطلق تحقّق
الاتصاف يستدعى مطلق تحقّق الحاشيتين ، وكذا
__________________
تحقّقه فى الخارج أو الذّهن يستدعى تحقّق الحاشيتين فيه. لكنّ الاتّصاف ليس
متحققا فى الخارج حتّى يلزم تحقق الصّفة فيه ، بل هو متحقّق فى الذّهن ، وهو
مستلزم لتحقّق الحاشيتين فى الذّهن.
فإذن قد استقرّ
أنّ ثبوت شيء لشيء يستلزم ثبوت المثبت له ظرف الاتصاف بخلاف ثبوت الثّابت وإن كانت
الأغراض والأوصاف العينيّة بخصوصها بحيث لا يمكن اتصاف شيء منها على أن يستتبع
ترتّب الآثار إلاّ بوجودها فى الأعيان وقيامها هناك بالمعروضات.
<٧> عقد وحلّ
كأنّك منجذب
بسرّك إلى قول من ينتهز فرصة التّشكيك فيقول : إذا لم تكن الفوقيّة مثلا موجودة فى
الأعيان فلم يصدق قولنا : «الفوقيّة ثابتة للسّماء فى الخارج خارجيّة» ، وإلاّ صدق
الرّبط الإيجابيّ بانتفاء الموضوع ، فيصدق ، ليست الفوقيّة ثابتة للسماء فى الخارج
خارجيّة ، هو مطرد فى أنحاء الوجود والاتصافات. فكيف يصحّ ثبوت شيء لشيء مع عدم
حصول الصّفة فى ظرف الاتّصاف.
والّذي يحلّ
العقدة هو أنّ الفوقيّة ، مثلا ، لمّا كانت معدومة فى الأعيان لم يصحّ عقد خارجيّة
هى موضوعها ، فلذلك صدقت ، ليست الفوقيّة ثابتة للسّماء فى الخارج خارجيّة. وذلك
لا ينافى كون السّماء المتحققة فى الأعيان بحيث يصحّ للعقل الحكاية عن حالها فى
الأعيان بالفوقيّة المنتزعة منها بحسب ذلك الاعتبار ، إذ هذا أيضا ضرب من ثبوت
الصّفة للموصوف فى الأعيان بحسب حال الموصوف فى الأعيان وإن لم يكن من ضروب ثبوت
الصّفة للموصوف فى الأعيان بحسب حال الصّفة فى الأعيان ؛ فإنّ الأمرين غير
متلازمين ، وليس إذا لم يكن ثبوت الصّفة للموصوف ممّا ينتزع من حال الصّفة فى
الأعيان وجب أن يكون أيضا ليس ممّا ينتزع من حال الموصوف فى الأعيان. فإنّما
الممتنع حيث لا يوجد الصّفة فى الأعيان هو الاتصاف الانضمامىّ فى الأعيان ، لا
غير.
فإذن ، لا
تصادم بين «السّماء فوق الأرض» أو «السّماء متّصفة بالفوقيّة فى الأعيان خارجيّة»
على أن يكون موضوعها السّماء. وبين «ليست الفوقيّة ثابتة للسماء فى الأعيان
خارجيّة» على أن يكون موضوعها الفوقيّة. نعم لو صدقت ليست الفوقيّة ثابتة للسّماء
فى الخارج على أن يكون موضوعها الفوقيّة خارجيّة وذهنيّة مطلقا ، لزم أن يكذب أيضا
«السّماء فوق الأرض فى الخارج خارجيّة» ، لأنّ اتّصاف السّماء (١٢) بالفوقيّة فى
الخارج ، وثبوت الفوقيّة لها فى الأعيان إنّما يتحقّق فى الذّهن بحسب حال السّماء
فى الوجود العينىّ. وذلك أحد ضربى الاتصاف الخارجىّ.
فما لم تتحقق
الفوقيّة فى الأذهان ولم يوجد ثبوتها للسّماء فى الأذهان بحسب وجود السّماء فى
الأعيان لم يصدق الحكم بأنّ اتّصاف السّماء بالفوقيّة اتّصاف خارجىّ ؛ إذ الاتّصاف
العينيّ ليس إلاّ على ضربين : انضمامىّ ، ويعبّر عنه بثبوت الصّفة للموصوف فى
الأعيان ، كثبوت البياض للجسم ؛ وانتزاعىّ. ويعبّر عنه بثبوت الصّفة للموصوف بحسب
الأعيان ، كثبوت الفوقيّة والعمى للسّماء وزيد ، وهو إنّما يكون فى الذّهن. لكنّ
المحكيّ عنه ومطابق الحكم إنّما هو وجود الموصوف فى الأعيان. فالخارج فى الأوّل
ظرف الثّبوت ووعاؤه وفى الثّاني جهة الاتّصاف ومطابقة وما فيه أساسه وبناؤه. والمرجع
إلى كون الخارج ظرف تحقّق الموصوف من حيث هو موصوف. وعلى ذلك يقاس حال الاتّصافات
بحسب أنحاء الوجودات. هذا مستقرّ عرش التّحقيق ومستودع سرّ الحكمة.
وأمّا ما
يتمجمج به رهط من متأخّرة المقلّدة لأتباع المشّائيّة ، من الفرق بين كون الخارج
ظرف نفس النّسبة ، كالاتّصاف والثّبوت وغيرهما ، وبين كون الخارج ظرف ثبوت النّسبة
، وكذلك حال الذّهن ؛ فإمّا المصير فيه إلى ما تلى عليك وإمّا مجمجة لا تئول إلى
مدرجة. أما تعرّفت أنّ معنى الوجود ليس إلاّ وقوع نفس الشّيء فى الأعيان أو فى
الأذهان؟
[من الفصل الثّاني]
تأسيسات وتأصيلات فى الحمل
< في التأسيسات أربعة عشر عنوانا >
أوّلا أقول :
بالحرىّ أن يؤدّى عنّى إلى جمهور العشيرة فى أكثر فصول هذا الكتاب ما قاله فى
قاطيغورياس الشفاء ، صدر مثل هذا الفصل. وهو أنّه : «ربما أوجب استقصاء النّظر
عدولا من المشهور». فإذا قرع سمعك ذلك فظنّ خيرا ولا تنقبض بسبب ما لم تألفه ، واعلم
: أنّ العاقل لا يحيد عن المشهور ما وجد عنه محيصا.
<١> إخاذة
نسبة المحمول
إلى الموضوع إمّا بوجود «فى» أو توسيط «ذو» أو «له» بين «هو هو» ويقال لها الحمل
الاشتقاقىّ ، وإمّا بقول «على» ، ويقال لها حمل المواطاة ، أى الاتّحاد بين
الشّيئين ب «هو هو» ، وهو يفيد إعطاء الاسم والحدّ. ويشبه أن يكون قول الحمل
عليهما باشتراك الاسم دون المعنى ؛ والأخير ، وهو مفاد الهيئة التركيبيّة الحمليّة
، حقيقته اتّحاد المتغايرين فى نحو ما من أنحاء لحاظة العقل بحسب نحو آخر من أنحاء
الوجود اتّحادا بالذّات أو بالعرض. وفوق ذلك ذكر سيقرع سمعك إن شاء اللّه العزيز.
<٢> تفصلة فى تبصرة
حمل شيء على
شيء (١) إمّا أن يعنى به : أنّ الموضوع هو بعينه اخذ محمولا على أن يتكرّر إدراك
شيء واحد بتكرّر الالتفات إليه من دون تكثّر فى المدرك والملتفت إليه أصلا ولو
بالاعتبار ، وهو حمل الشّيء على نفسه ، وتأبى الضّرورة الفطريّة إلاّ أن تشهد
ببطلانه وإن وقع بعض الأذهان فى مخمصة تجويزه. أفإن صحّ فكيف يصحّ أن تلتفت نفس
واحدة إلى مفهوم واحد ذاتا واعتبارا فى زمان واحد بعينه مرّتين.
(٢) وإمّا أن
يعنى به ذلك ، لكن على أن يجعل تكرّر الإدراك حيثيّة تقييديّة يتكثّر بحسبها
المدرك ، فيحكم بأنّ المدرك بأحد الإدراكين هو نفس المدرك بالإدراك الآخر ، ولا
يلحظ تعدّد إلاّ من تلك الجهة. وهو الّذي يقال : إنّه ضرب متصوّر من حمل الشّيء
على نفسه. ولكنّه هدر غير مفيد.
(٣) وإمّا أن
يعنى به : أنّ المحمول هو بعينه نفس الموضوع بعد أن يلحظ التغاير الاعتبارىّ ، أى
هو بعينه عنوان حقيقته ، لا أن يقتصر على مجرّد الاتّحاد فى الوجود. ويسمّى الحمل
الأوّلىّ الذّاتىّ ، لكونه أوّلىّ الصّدق أو الكذب ، غير معنى به ، إلاّ أنّ هذا
المفهوم هو نفس ذاته وعنوان حقيقته. فإذا اعتبر بين المفهومات المتغايرة فى جليل
النّظر ربما احتيج ليتعيّن الإيجاب أو السّلب إلى تدقيقه ، كما يقال : الوجود هو
الماهيّة (١٣) أو ليس الوجود هو الوحدة أو ليس ، ويحتاج فى الإذعان إلى البرهان.
(٤) وإمّا أن
يعنى به مجرّد اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتا ووجودا ، أو يرجع إلى كون الموضوع من
أفراد المحمول أو كون ما هو فرد أحدهما هو فرد الآخر ، ويسمّى الحمل العرضىّ
المتعارف ، لشيوعه بحسب التعارف الصّناعىّ ؛ وينقسم بحسب كون المحمول ذاتيّا
للموضوع أو عرضيّا له إلى الحمل بالذّات والحمل بالعرض.
ثمّ إنّ فى
الحمل المتعارف قد يكون الموضوع فردا حقيقيّا للمحمول ، وهو ما يكون أخصّ بحسب
الصّدق ، كالإنسان بالنّسبة إلى الحيوان ؛ وقد يكون فردا اعتباريّا ، وهو ما يكون
أخصيّته بحسب نحو الاعتبار ، كمفهوم الموجود المطلق بالنّسبة إلى نفسه. وكذلك
الممكن العامّ والمفهوم الكلّىّ وما ضاهاها. فتلطّف فى سرّك كى تتبصّر.
<٣> زيادة تبصرة
العموم قد
يختلف بالمعنى فى الامور العامّة. فمن العموم : ما يكون بحسب الموضوعات الجزئيّة ،
كالعموم الّذي لحيوان أعمّ به من الإنسان والأعمّ بحسبه ما هو أكثر تناولا. ومنه
ما قد يكون بحسب الاعتبارات اللاّحقة ؛ كالعموم الّذي الحيوان أعمّ به من الحيوان وهو
مأخوذ جنسا طبيعيّا. ومن الحيوان وهو مأخوذ نوعا ، ومن الحيوان وهو مأخوذ شخصا ؛
فإنّ طبيعة الحيوان فى حدّ نفسها أعمّ بالاعتبار من الحيوان المعتبر من حيث هو لا
بشرط شيء ، وإنّها بعينها فرد هذا المفهوم المعتبر على ذلك النّحو وممّا يصدق هو
عليه وإن كان هذا المفهوم بلحاظة هذا الاعتبار ليس فى نفسه إلاّ طبيعة الحيوان بما
هى طبيعة الحيوان.
ألست إذا
استقصيت النّظر وأوفيت حقّه وجدت كلّ مفهوم يحمل على نفسه الحمل الأوّلىّ الذّاتىّ
، إذ كان شيء لا يسلب عن نفسه أصلا.
ثمّ طائفة عن
المفهومات تحمل على أنفسها الحمل العرضىّ الشّائع أيضا ، كالموجود المطلق والممكن
العامّ والمفهوم والكلىّ والماهيّة لا بشرط شيء ونظائرها.
وطائفة لا تحمل
على أنفسها ذلك الحمل ، بل إنّما الحمل الأوّل فقط ، كالجزئىّ واللاّمفهوم واللاّممكن
واللاّموجود وعدم العدم وما أشبهها ، ولذلك اعتبر فى وحدات التّناقض وحدة نحو
الحمل أيضا فوق الثّمان الذّائعات ، فلا يكون فى صدرك حرج ممّا لا يفقهون.
<٤> استضاآت
(١) من هناك
يستقيم أنّ موضوع السّالبة أعمّ من موضوع الموجبة المعدولة أو السّالبة المحمول ،
لا بمعنى أنّ موضوع السّالبة يجوز أن يكون معدوما فى الخارج دون موضوع الموجبة؛ إذ
موضوع الموجبة أيضا قد يكون معدوما فى الخارج ، كقولنا : جمع الضّدّين محال ؛ أو
إنّ موضوع الموجبة يجب أن يتمثّل فى وجود أو ذهن ، دون موضوع السّالبة ، إذ موضوع
السّالبة أيضا كذلك.
بل بمعنى أنّ
السّلب يصحّ عن الموضوع غير الثّابت إذا اخذ من حيث هو غير ثابت، على معنى أنّ
للعقل أن يعتبر هذا فى السّلب ، بخلاف الإثبات ، فإنّه وإن صحّ على الموضوع غير
الثّابت ، لكن لا يصحّ عليه من حيث هو غير ثابت ، بل من حيث له ثبوت ما. لأنّ
الإثبات يقتضي ثبوت شيء حتّى يثبت له شيء. ولهذا يصحّ أن يقال : المعدوم ليس من
حيث هو معدوم بفلان ، ولا يصحّ أنّه من حيث هو معدوم فلان ، بل من حيث له ثبوت فى
الذّهن ، ولجواز أنّ نفى كلّ ما هو غير الثّابت عنه من حيث هو غير ثابت ، بخلاف
إثبات كلّ ما يغايره عليه من تلك الحيثيّة ، بل إثبات شيء ممّا يغايره عليه من تلك
الجهة.
اللّهمّ إلاّ
إذا كان أمرا عدميّا أو محالا ؛ فإنّه إذا كان ذلك لم يكن صدق الحكم من حيث خصوص
المحمول أيضا مستدعيا لوجود الموضوع ، كما أنّه يستدعيه من حيث الرّبط الإيجابيّ
فقط ، بل إنّما يكون استدعاء ذلك من حيث نفس الرّبط الإيجابيّ. قيل : إنّ موضوع
السّالبة أعمّ من موضوع الموجبة.
ولغفلة الجمهور
عن هذه الحيثيّة ، لدقّتها وغموضها ، يظنّ أنّ العموم إنّما هو لجواز كون موضوع
السّالبة معدوما فى الخارج دون الموجبة ، ولا يصحّ إلاّ أن يصار إلى ما جيء بذكره.
فإن أوهم : أنّ
موضوع السّالبة (١٤) إن كان أعمّ من موضوع الموجبة المعدولة أو السّالبة المحمول
لم يتحقّق التّناقض ، لتباين أفرادهما. وإن لم يكن
أعمّ زال الفرق.
قيل : هو أعمّ
بالاعتبار المذكور ، ولا يلزم منه تباين الأفراد ، إذ العموم بمعنيين. وهذا ليس
يستلزمه وليس أعمّ أفرادا ، ولا يلزم منه زوال الفرق ، لكونه أعمّ اعتبارا وإن لم
يكن أكثر تناولا.
(٢) ومن هذا
المسلك تفكّ العقدة ، حيث يقال : أليس من الاصول أنّه إذا حمل شيء على شيء حمل
المقول «على» ، ثمّ حمل ذلك الشّيء على ثالث ذلك الحمل حتّى يكون طرفان وواسطة ؛
فإنّ الأوّل يحمل على الثّالث ، كالحيوان ، بتوسّط الإنسان على زيد.
وقد عدّ ذلك من
المزاوجات بين قول «على» ووجود «فى» ، وحكم بأنّ الأوّل يكون على كلّ حال موجودا
فى الثّالث ؛ فإنّ الشّيء إذا كان فيه اللّون الأبيض كان فيه جميع الامور الّتي
تقال على اللّون قولا كليّا ويوصف بها اللّون وصفا عامّا ، وإلاّ كان فى ذلك
الشّيء بياض ولم يكن فيه لون وكان ذلك البياض ليس بلون. فلم يكن حمل اللّون على
البياض كلّيا ، بل أىّ شيء وجدت فيه طبيعة عرض من الأعراض فتوجد فيه طبائع الامور
الّتي يوصف بها ذلك العرض وصفا كليّا.
(٣) ثمّ إنّ
الحكم قد يختلف فى قول «على» حيث يحمل الجنس على الحيوان والحيوان على زيد والإنسان
، وليس يحمل الجنس على زيد والإنسان.
فيحسم : بأنّ
الجنس الطبيعىّ ليس يحمل على طبيعة الحيوان بما هو حيوان ، بل الّذي تحمل عليه
طبيعة الجنسيّة هو طبيعة الحيوان من جهة إيقاع اعتبار فيها بالفعل. وذلك أن يلحقها
الذّهن بالنّسبة إلى الخواصّ المنوّعة والمشخّصة لا بشرط الخلط والتّجريد.
وهذا اللّحاظ
فيها اعتبار أخصّ من اعتبار الحيوان بما هو حيوان فقط الّذي هو طبيعة الحيوانيّة ؛
فإنّ الحيوان بما هو حيوان أعمّ اعتبارا من الحيوان ، وهو ملحوظ لا بشرط الخلط والتّجريد.
فلطبيعة الحيوان اعتبار اعمّ ، ولطبيعة الحيوان لا بشرط الخلط والتّجريد اعتبار أخصّ.
وبالحقيقة ،
إنّ هذا يرجع إلى أنّ الطرف الأكبر يحمل على بعض من الوسط وعلى البعض الّذي لا
يحمل على الطرف الأصغر.
ويجب أن يعتبر
المقول على الموجود فى هذه الأمثلة كليّا ؛ فإنّك إذا جوّزت الجزئىّ حتّى يكون
الأكبر على بعض من الواسطة لم يجب فى اتّفاق القولين بعلى أن يقال : الأكبر على
الأصغر ؛ فإنّ النّاطق يحمل على بعض الحيوان بعلى والحيوان على كلّ فرس بعلى. وليس
يلزم أن يحمل النّاطق على الفرس بعلى.
وهذه الشّريطة
مطردة فى الأعمّ والأخصّ بحسب الجزئيّات وبحسب الاعتبار جميعا ؛ فإنّ الأخصّ
بالاعتبار قد يكون موضوع القضيّة الجزئيّة ، كما الأخصّ بحسب الجزئيّات.
ولذلك ما إنّه
يصدق قولنا : «الحيوان بما هو حيوان ليس حيوانا لا بشرط شيء» مرسلة وجزئيّة ، كما
يصدق قولنا : «الحيوان بما هو حيوان ، حيوان لا بشرط شيء» مرسلة وجزئيّة ، وأنّ ما
يسرى إليه الحكم على العنوان فى الجزئيّة أو المرسلة هو أعمّ من أن يكون من
الأفراد الحقيقيّة ، أعنى الأنواع والأشخاص للموضوع أو الاعتباريّة التى خصوصها
بحسب الاعتبار.
وبالجملة ،
إنّه ليس معنى قولنا «الحيوان : عامّ» ما صدق عليه الحيوان من الأفراد الشّخصيّة ،
بل ما صدق عليه وإن لم يكن منها ، كالحيوان الّذي هو جنس ، والحيوان الّذي هو غير
جنس ، كالطّبيعة ولأنّ العامّ يصدق على كلّ واحد من جزئيّاته ، فيصدق أنّ بعض
الحيوان جنس ، من غير لزوم أنّ النّوع أو الشّخص جنس ، على ما يظنّ ، من أنّه لو
كان قولنا : الحيوان جنس ، مرسلة ، كما ذهب إليه رؤساء الصّناعة لزم ذلك.
(٤) فإن أوجست
فى نفسك خيفة : أنّ هذا النّمط ليس على مسلك ما استقرّ فى الصّناعة ، من أنّ
الاعتبار الزّائد على الماهيّة ، وهو مفهوم كونها لا بشرط شيء فى طبيعة الحيوان
الّذي هو الجنس الطبيعىّ ، مثلا ، إنّما اعتبر فى العبارة والمفهوم دون الغاية والمقصود
، أعنى ما صدق عليه مفهوم الماهيّة لا بشرط شيء.
وقولك : «الماهيّة المطلقة والحيوان من حيث هو هو ، إلى غير ذلك من
التعبيرات» ، بيان للإطلاق نفيا لتوهّم التّقييد ، لا تقييد بالإطلاق وعدم
التّقييد.
فاهجر وهمك واعتبر
: أنّ الحيوان من حيث هو هو وإن لم يكن يعتريه فى نفسه أن يكشف بقيد أصلا ، لكنّ
العقل يلحظه تارة من حيث هذا العنوان وتارة بما هو حيوان ، فتجد الاعتبار الأوّل
أخصّ وإن صدق هو على الملحوظ بالاعتبار الثّاني وكان فى نفس الأمر هو بعينه
الحيوان (١٥) بما هو حيوان.
وأمّا ما يقال
: «إنّ مرجع العموم المطلق إلى موجبة كلّيّة دائمة فى جانب الخاصّ ، وسالبة جزئيّة
فعليّة من جانب العامّ. ويلزم من ذلك صدق قولنا : كلّ حيوان بلا قيد حيوان بما هو
حيوان دائما ، وبعض الحيوان بما هو حيوان ليس حيوانا بلا قيد بالفعل».
فربما أزيح :
بعدم التّسليم ؛ فإنّ المتنفّس بالفعل أعمّ من الإنسان ، مع أنّه لا يصدق : «كلّ
إنسان متنفّس بالفعل دائما». بل المرجع إلى موجّهتين متضادّتين : إمّا موجبة كليّة
مطلقة عامّة أو سالبة جزئيّة دائمة ، كقولك : «كلّ إنسان متنفّس بالفعل ، وبعض
المتنفّس بالفعل ليس إنسانا» دائما ، أو غيرهما ، كما فى عموم المنكسف بالنّسبة
إلى القمر من قولك : «كلّ قمر منكسف بالضّرورة وقتا مّا لا دائما ، وبعض المنكسف
ليس قمرا بالضّرورة الدّائمة أو دائما».
ولا مرية فى
صدق قولنا : «بعض الحيوان ليس حيوانا» بلا قيد بلحاظة الاعتبار. نعم لا يصدق ما لم
يلحظ تغاير الاعتبارين. على أنّ صدق الكلّية من جانب الخاصّ غير لازم إلاّ فى
القضايا الحاصرات دون الطبيعيّات. أفليس الإنسان أخصّ من النّوع وزيد من الإنسان ،
وليس تصدق كليّة موضوعها الأخصّ.
وإن اجرى على
الطّبيعة والشّخصيّة حكم الكليّة ، قيل : فكذلك فيما تصدّينا له ، فيكفى صدق قولنا
: «الحيوان بلا قيد حيوان ، والحيوان بما هو حيوان ببعض الاعتبارات ليس حيوانا بلا
قيد» ؛ لتحقّق العموم بحسب الاعتبار.
<٥>إشارة
الأخصّ بحسب
الحقيقة ، أعنى مقابل الأخصّ بحسب الاعتبار ، ينقسم إلى الفرد. وربما يقيّد
بالحقيقي والحصّة ، وربّما يطلق عليها الفرد الاعتبارىّ.
فالطّبيعة إذا
اخذت مع قيد ما كان المأخوذ فردا للطبيعة ، وإذ لوحظت مضافة إلى قيد ما ، على أن
يخرج القيد من الملحوظ ويعتبر التّقييد به فقط ، كانت حصّة منها.
وينبغى أن
يتعاهد النّظر فيعتبر التّقييد على أنّه تقييد ، ولا يحصل الالتفات إليه بالذّات
من حيث إنّه أمر يعتبر مع الطّبيعة ، لئلاّ يرجع إلى أن يصير هو قيدا ما ، إلاّ
أنّه غير القيد الأصل ، فتعود الحصّة فردا.
بل يجب أن
يستشعر أنّ المعتبر فى كلّ مرتبة هو التّقييد ، حتّى أنّه لو لوحظ التّقييد
بالالتفات إليه ، على أن يتعدّى طبيعة التّقييد بما هو تقييد ويصير قيدا من حيث هو
فى نفسه مفهوم من المفهومات ، كان مناط الحصّة التّقييديّة.
ولو اعتبر هذا
التّقييد قيدا كان المعتبر التّقييد بالتّقييد ، بل التّقييد بالتّقييد بالتّقييد
، وهكذا إلى حيث تنتهى ملاحظة العقل. ولذلك كان كلّ كلىّ نوعا بالقياس إلى حصصه ، وكانت
الحصّة بعينها هى الطّبيعة ، والفرق بنحو من الاعتبار.
لكن هذا النّحو
من الاعتبار مباين للاعتبار المنظور إليه فى الأخصيّة بحسب الاعتبار ؛ إذ الأخصّية
هنا أخصيّة حقيقيّة بحسب الصّدق وبالقياس إلى الحصول فى الموضوعات الجزئيّة ، وهناك
بحسب محوضة الاعتبارات اللاّحقة لنفس الشّيء.
ثمّ إنّ بعض
الطّبائع لا يكون لها تحصّل إلاّ بنفس الإضافة ولا يتصوّر تحصّل لها قبل الإضافة ،
كالوجود والعدم وسائر الطّبائع المصدريّة. وحيث تكون طبيعة هذه صفتها لا يكون لها
أفراد ، بل حصص فقط. وإنّما الإضافة محصّلة للحصّة ومقوّمة لنوعيّة الطّبيعة واختلاف
الحصّتين نوعيّة وتقوّما بحسب اختلاف ما اضيفت إليه الطبيعة.
<٦> قسطاس عقلىّ
مناط سنخ
الفرديّة إنّما هو طبيعة القيد بما هى طبيعة القيد وخصوصيّات القيودملغاة فى ذلك ،
إنّما خصوص القيد مناط خصوص الفرديّة ، أى كونه ذلك الفرد بخصوصه ، ولا يتعلّق به
طبيعة الفرديّة ، أى : كونه فردا.
ولنلحظ ما هو
أخصّ من طبيعة ولنضعه نوعا منها ، كالإنسان من الحيوان ، فنجده إنّما نوعيّته من
حيث إنّه تلك الطبيعة من فضل ، لا من حيث تخصّصه بخصوصيّة بعض الفصول ، كالنّاطق ؛
فإنّ ما هو من تلقاء تلك الخصوصيّة إنّما هو خصوصيّة هذه النّوعيّة ، لا طبيعة
النّوعيّة بما هى نوعيّة. والطّبيعة وإن كانت عين الفرد (١٦) بحسب أنحاء الوجود
جميعها إلاّ أنّ للعقل أن يأخذها تارة من حيث التّعيّن واخرى من حيث الإبهام ، ويضع
بينهما اثنينيّة ما ، إذ الفرد وإن كان فى تلك الملاحظة أيضا مخلوطا بالطّبيعة
بحسب نفس الأمر ؛ لأنّها لا بشرط شيء لم تأب فى ذاتها أن يكون معها شرط شيء أو لم
يكن. فيتحقّق بوجود الطّبيعة بشرط شيء أينما وجدت ولو فى هذا النّظر.
لكن هذا اللّحظ
لمّا كان اعتبارا للطّبيعة بشرط شيء من حيث خصوص تعيّنها حتى يكون أصل الطبيعة لا
بشرط شيء مفصولة عنها ريثما تلحظ بذلك اللّحظ ، صحّ أيضا أن يحكم عليهما بالتّعرية
فيه بحسبه ، فيشبه أن تكون تلك الملاحظة ظرف الخلط والتّعرية باعتبارين على مضاهاة
ما سلف فى تحصيل ظرف عروض الوجود للماهيّة.
فإن احتفّ بك
الوهم فظننت : أنّه استوجب أن يتحقّق المقيّد دون المطلق والفرد دون الطبيعة.
قيل لك : ألست
فى مندوحة من ذلك بلحاظ أنّ هذا النّظر وإن كان من أنحاء نفس الأمر ، لكن تلك أوسع
من هذا. واللاّزم تحقّق الفرد دون الطّبيعة فى هذا لا بحسب تلك ، والخرق فى ارتكاب
ذاك دون ذا أو بتذكّر ما سلف.
إن كنت قد
حصّلت أنّ هذا اللّحاظ إنّما يكون من أنحاء نفس الأمر من حيث أنّه وجود لا بتعمّل
العقل ، اتّفق أن صار ذلك عينه ، لا من حيث خصوصيّة الاعتبار. وتحقّق الفرد دون
الطّبيعة فيه إنّما هو من حيث خصوصيّة الاعتبار ، لا بالاعتبار الأوّل. وهذا أصل
غامض يدرك بشحاذة السّجية وثقافة القريحة.
<٧> إيماض
أليس إذا وجد
شيء فى الأعيان أو فى الذّهن كان وجوده بعينه لجميع ذاتيّاته حقيقة من حيث إنّها
عينه بالذّات ولجميع العرضيّات الصّادقة عليه من حيث إنّه تلك الامور بالعرض وإن
لم تكن إيّاها من حيث الذّات ، فينسب وجوده إليها وتكون هى متحدة معه ، بمعنى
أنّها موجودة بوجوده بالعرض. ولذلك ما يصحّ الحكم بأنّ الأبيض والأعمى فى الدّار
إذا كان فيها زيد مثلا ، ويسرى الحكم على الطبائع العرضيّة ، كالأبيض والأعمى إلى
الأفراد بالعرض ، كزيد وعمرو ، مثلا. فإذن ، حقيقة مطلق الحمل مطلق الاتحاد فى
الوجود أعمّ من أن يكون بالذّات أو بالعرض ، وهو مفاد الهيئة التّركيبيّة
الحمليّة.
ولمّا كان
الشّيء أحقّ بأن يكون عين ذاتيّاته منه ، بأن يتّحد هو وعرضيّاته ، والاتّحاد
بالذّات اولى بإطلاق الاتحاد عليه ، كان معنى الهو هو من الطبائع المقولة على جملة
ما يقال عليه بالتّشكيك.
وإذا كان مناط
الحمل ومصحّحه هو الاتّحاد فى الوجود ، فاتّحاد الطبيعة والفرد يصحّح حمل كلّ
منهما على الآخر ، لكنّ حمل الطبيعة على ما هو فرد لها بالذّات ، كالحيوان على
الإنسان ، حمل بالذّات ؛ وإذا انعكس كان حملا بالعرض ، لكون الفرد خاصّة للطبيعة
خارجة عن قوام حقيقتها.
فإن اوهم : أنّ
فيه إعضالا ، لأنّ هناك وجودا واحدا بعينه يوجد كلّ منهما به
حقيقة وبالذّات ، فكيف يكون أحدهما موجودا بوجود الآخر بالذّات والآخر
بوجوده بالعرض.
قيل : الموجود
ذات واحدة يحلّلها العقل إلى طبيعة وفرد ، فيجد أنّ كلاّ منهما يوجد بذلك النّحو
من الوجود بعينه حقيقة وبالذّات ، إلاّ أنّ ذلك الوجود من حيث إنّه للفرد ينسب إلى
الطبيعة الّتي هى من ذاتيّاته بالذّات ، فيصحّ الحمل بالذّات ومن حيث إنّه للطبيعة
ينسب إلى الفرد الّذي هو من خواصّها بالعرض ، فيكون الحمل بالعرض.
أليس قد قرع
سمعك ما يشبه ذلك ، من أنّ الجنس عرض عامّ للفصل ومحمول عليه حملا بالعرض ، مع أنّ
كليهما موجودان بوجود واحد شخصىّ هو وجود الشّخص والنّوع بالذّات. فوجود شخص ما من
النّوع من حيث إنّه وجود ذلك الشّخص ينسب إلى النّوع والجنس والفصل بالذّات وإن
كان من حيث إنّه وجود الفصل منسوبا إلى الجنس بالعرض (١٧).
والسّرّ : أنّ
وجود الشّخص من حيث إنّه وجوده هو بعينه لجميع ذاتيّاته بالذّات ولجملة عرضيّاته
بالعرض. وليس من حيث إنّه وجود بعض من ذاتيّاته لسائر ذاتيّاته بالذّات ، أو من
حيث إنّه وجود بعض من عرضيّاته لسائر عرضيّاته بالعرض ولا ينقبض العقل من اختلاف
الأحكام حيث تختلف الحيثيّات.
فالحيوان ، كما
أنّه يوجد بوجود الإنسان ، مثلا ، من حيث إنّ ذلك وجود له حقيقة وإن اتفق أن صار
بعينه وجود الإنسان ، كذلك يوجد أيضا بذلك الوجود من حيث إنّه وجود الإنسان حقيقة.
فذلك الوجود
وجود الحيوان حقيقة باعتبارين ، بخلاف الإنسان ، فإنّه إنّما يوجد بذلك النّحو من
الوجود بالذّات من حيث إنّه وجوده حقيقة ومن حيث إنّه وجود بعض أشخاصه ، لا من حيث
إنّه وجود الحيوان حقيقة أيضا ؛ فإنّه إنّما يكون من هذه الحيثيّة للإنسان بالعرض.
<٨ > إرشاد
معيار الحمل فى
الذّاتيّات أن ينسب وجود ذى الذّاتىّ إليها بالذّات ، لا من حيث إنّها أبعاض الأمر
الواحد الموجود ، وفى العرضيّات أن ينسب إليها وجود المعروض بالعرض من حيث إنّه هى
، لا من حيث إنّها أبعاضه.
فحيث يكون
اتّحاد لا على أن يكون الوجود لكلّ من الأمرين من حيث إنّه شيء برأسه ، وهو عين
الآخر فى الوجود ، بل على أنّ بعض الموجود الواحد لا ينفرز عنه بالوجود لا يكون
حمل أصلا ، كما فى الأجزاء المقداريّة ؛ فإنّها موجودة بعين وجود المتّصل الواحد.
لكنّ
موجوديّتها بعين وجود المتصل ليست من حيث إنّها أمور موجودة برءوسها اتّفق أن كان
وجودها عين وجود ذلك الواحد ، كما فى الطبائع المحمولة ، بل إنّما من حيث إنّها
أبعاض الموجود الواحد ، فلا تغاير هناك بحسب الوجود ولا حمل.
وبالجملة ، لا
يستوى أن يتّحد شيئان فى الوجود وأن يكون الموجود فى نفسه واحدا وحدانىّ الذّات ، والوجود
لا ينفرز بعضه عنه بالوجود. والمعتبر فى معيار الحمل هو الأوّل. ومن عنه فى غفول
يسرد ما لا يستعذبه مذاق الحكمة.
<٩> إفصاح
أما تعرّفت أنّ
الوجود ليس إلاّ نفس الموجوديّة الّتي ينتزعها العقل من الماهيّات ونفس تحقّقها
بالمعنى المصدرىّ ، ولا يثبت له فرد يقوم بالماهيّة سوى الحصص المعيّنة بالإضافة
أو بالوصف ، كالوجود الّذي لا سبب له ، والوجود المطلق ليس له خصوصيّة إلاّ
الإضافة إلى ما ينتزع هو منه ، ولا تخصّص إلاّ بتلك الإضافة ، لا قبلها.
فاستشعر ، إذن
، أنّ الماهيّات المتباينة لا تتّحد فى الوجود ، وكيف ينتزع من
إحداها ما ينتزع من الاخرى مع اختلافهما ويقوم المنتزع بالإضافة إلى ما
ينتزع هو منه. ولذلك ما إنّهم يحكمون بأنّ الواحد بالاتصال لا يختلف بالطبيعة ،
كالماء ، مثلا ، لا يكون بينه وبين ما يخالفه فى الحقيقة وحدة بالاتصال ، بل إنّما
وحدة بالتّماسّ. والقسمة الوهميّة أو الفرضيّة إنّما تكون إلى امور متّحدة فى
الماهيّة مشابهة للكلّ فى الحقيقة ، يبنون عليه إبطال مذهب ذيمقراطيس فى مبادى
الأجسام ، فلا تصغ إلى من ينكر الحقّ ، فإنّه مخاصم العقل وعدوّ الحكمة.
وإذ سطح
البرهان ، فلعلّك إذا استقصيت دريت أنّ اتّحاد الموضوع والمحمول فى الوجود الّذي
هو مناط الحمل لا يتحقق إلاّ إذا كان حقيقتهما واحدة بالذّات متغايرة بالاعتبار ،
لأنّ الوجود ليس إلاّ نفس المعنى المصدرىّ المنتزع من الماهيّات المختصّ بالإضافة
إليها لا قبل ، فكيف يتصوّر اتّحاد الحقائق المتباينة بالذّات بحسبه.
فحقيقة الموضوع
والمحمول إن كانتا متّحدتين بالذّات ، كالإنسان والحيوان ، استتبع ذلك أن يتّحدا
فى الوجود أيضا كذلك ، فيصحّ الحمل بالذّات ؛ وإن كانتا اتّحادهما بحسب الحقيقة
بالعرض ، كما فى الإنسان والأبيض استتبع ذلك اتّحادهما فى الوجود أيضا كذلك ،
فيكون الحمل بالعرض ، وكأنّ الجمهور عن هذه الدّقيقة لفى ذهول.
<١٠> ضابط تفصيليّ
ميزان تصحيح
الحمل مطلقا هو صحّة انتزاع المعنى المصدرىّ (١٨) كالإنسانيّة والموجوديّة والزّوجيّة
والأبيضية والفوقيّة والعمى والممكنيّة.
ومبدأ الانتزاع
ـ أعنى ما يؤخذ منه ذلك المعنى ، وهو المحكىّ عنه ويقال له مصداق الحمل ومطابق
الحكم ـ إمّا نفس ذات الموضوع بذاته من غير لحاظ حيثيّة غير الذّات أصلا. كالإنسان
، من حيث هو هو ؛ أو نفس ذات الموضوع من غير أن
يتخلل بينها وبين المعنى المصدرىّ المنتزع منها معنى ما أصلا ، ولكن لا من
حيث هى هى بنفسها ، بل من حيث جعلها الجاعل وأبدعها ؛ كنفس ماهيّة الإنسان من حيث
هى مجعولة ، أو ماهيّة الموضوع ومعنى ما يلحقها فى لحاظ العقل من حيث هى تقتضيه ،
كالأربعة.
ومعنى الانقسام
إلى المتساويين بما هى تقتضيه بنفسها من حيث هى هى ، أو ذات الموضوع وعرض ما
يلحقها لحوقا قياميّا انضماميّا كذات الجسم والبياض القائم بها بعلّة توجب ذلك ،
أو ذات الموضوع ووقوعها بالقياس إلى شيء ما على نسبة بعينها وحالة بخصوصها ،
كالسّماء وما هى عليه من الأحوال بالقياس إلى الأرض ، أو ذات الموضوع وانتفاء شيء
ما عنها ، كزيد ، مقيسا إلى البصر المسلوب عنه مع صلوحه له بالقوّة النّوعيّة والماهيّة
مقيسة إلى ضرورتى الوجود والعدم المسلوبتين عنها.
فإذا انتزعت
هذه المفهومات المصدريّة صدق حمل الإنسان والموجود والزّوج والأبيض والفوق والأعمى
والممكن وطابق الحكم بها على الموضوعات مبادى تلك الانتزاعات.
ثمّ مناط حمل
المشتق قيام المبدأ إمّا بنفسه ، وهو قيام مجازيّ ، مرجعه سلب القيام بالغير ، كما
فى حمل الموجود على الأوّل الواجب بذاته تعالى ؛ أو بالموضوع على أنّه غيره ، وهو
قيام شيء بشيء حقيقة ، إمّا انضماما ، كما فى حمل الأبيض على الجسم وإمّا انتزاعا.
وهو أيضا :
إمّا على أن يكون معنى ما ملحوظا مع الموضوع يستتبع أن ينتزع المعنى المصدرىّ
الّذي هو ميزان صحّة الحمل ، كما فى حمل الفوق على السّماء ، أو على أن لا يكون
أمرا ما يلحظ مع الموضوع غير ذلك المعنى المصدرىّ أصلا ، بل يكون هو هو بعينه ، ولا
يتصوّر شيء آخر يدخل مع ذات الموضوع فى مصداق الحمل ويتمّمه ، كما فى حمل الإنسان
على ذات الإنسان والموجود على نفس الماهيّة المتقرّرة. فاتّخذ ذلك لغريزتك
الحكميّة دستورا.
<١١ > تقرير
بعض المحدقين
بعرش الحكمة من رؤساء الفلاسفة الإسلاميّة يجعل الحمل الشّائع الصّناعىّ أربعة
أقسام : حمل الجزء الحقيقىّ على الجزء الحقيقىّ ، كهذا الكاتب على هذا الإنسان ، وحمل
الجزئىّ الحقيقىّ على الكلّىّ الّذي هو من أفراده ، وحمل الكلىّ على الكلىّ ، كما
فى الطبائع المتصادقة وحمل الكلىّ على الجزئىّ الحقيقىّ الّذي هو فرد له بالذّات
أو بالعرض.
ولعلّ ذوق
العقل لا يأبى أن يستعذبه ، بل ربما يشيّد الفحص إعضاده بالحدس والبرهان. أليس حيث
لم يكن وحدة صرفة واثنينيّة ، صرفة بل تغاير فى أحد أنحاء لحاظ العقل واتّحاد بحسب
نحو آخر من أنحاء الوجود تحقق معيار الحمل ، ثمّ إنّه متكرّر من الجنبتين ومنتسب
إلى الحاشيتين.
<١٢> تنبيه
لا يتصوّر ـ
بحسب الحمل الأوّلىّ كما فى الجزئيّ جزئيّ ، ولا بحسب حمل الشّيء على نفسه كما فى
زيد زيد ـ أعميّة لإحدى الحاشيتين أصلا ، لا العموم بحسب الأفراد ولا العموم بحسب
الاعتبار. بل إنّما فى الأوّل اثنينيّة اعتباريّة غير عموميّة ، وفى الثّاني
اثنينيّة إدراكيّة فقط على أن يجعل الإدراكان حيثيّتين تقييديّتين للمدرك. وفى
القسمين ليس الحمل والوضع تستحقّهما الحاشيتان بحسب الطبع ، بل بحسب فعل الذّهن ولا
يتحصّص جهة الاتّحاد بخصوصيّة إحدى الحاشيتين ، بل تستوى نسبتها إلى الموضوع والمحمول.
وأمّا الحمل
الشّائع الصّناعىّ فيلحظ بحسبه العموم إمّا إفرادا أو بحسب الاعتبار. وجهة
الاتّحاد قد يكون الموضوع بخصوصه ، وقد يكون المحمول بخصوصه ، وقد يكون شيئا ثالثا
.
__________________
<١٣> قاعدة فيها أساسات لتفصّيات
الحكم الحملىّ
موجب وسالب ، والنّسبة السّلبيّة غير النّسبة الإيجابيّة (١٩) والمدركات الّتي هى
أجزاء للقضيّة ثلاثة. وثالثها النّسبة الّتي هى معنى حرفيّ رابطيّ بين الحاشيتين
لا يمكن أن ينالها اللّحظ بالذّات أو يتوجّه إليها الالتفات على الاستقلال ، وهى
على تلك الحالة ، ولا يريب فى ذلك أحد.
ثمّ مسلك شرعة
الصّناعة وصحّة الوجدان أن يعتبر هذا المعنى الرّابطىّ بالدّخول فيما هو متعلّق
التّصديق بالذّات على أن يتعلّق الإذعان بأمر مجمل يفصّله العقل إلى موضوع ومحمول ونسبة
رابطة بينهما بالخلط أو سلبه حتى يرجع الحكم على البياض ، مثلا ، بالعرضيّة وسلب
الجوهريّة إلى أنّ البياض عرض فى الواقع وليس بجوهر فى الواقع.
ولعلّ هذا ما
ريم عنه التّعبير بإدراك أنّ النّسبة واقعة أو ليست بواقعة ، لا أن يجعل النّسبة
محكوما عليها بالوقوع أو سلبه ؛ فإنّ ذلك لا يتيسّر إلاّ بلحاظ النّسبة بالذّات ،
لا من حيث هى رابطة تلحظ بالتّبعيّة ؛ فإن لوحظت مستقلّة وجعل الطرفان ملحوظين
بالعرض من حيث إنّهما حاشيتاها ، كان الحكم عليها بالوقوع أو سلبه لازما لتعلّق
الإذعان بمتعلّقه فى القضيّة الأصل ، لا ما يرجع إليه ذلك عند التّفصيل.
ومن المقلّدة
من لم يفرّق بين ما يلزم الشّيء وبين ما ينحلّ هو إليه ، ولم يبال أن يجعل المعنى
الحرفىّ ، حين إذ هو آلة رابطة بين الحاشيتين ، محكوما عليه بالذّات ؛ فزعم أنّ
متعلق التّصديق بالذّات ليس إلاّ النّسبة الملحوظة بالعرض ، على معنى أنّ هناك
أمرا مجملا يفصّله العقل إلى نسبة يحكم عليها بالوقوع أو سلبه ؛ أى : أنّ النّسبة
واقعة أو ليست بواقعة، وأرجع : البياض عرض مثلا ، أو ليس إلى البياض عرض مطابق
للواقع أو ليس البياض عرض مطابقا للواقع.
وفيه زيغ عن
الحقّ وحيود عن الصّناعة. فكيف يحكم على ما لا يلحظ بالذّات أو ينحلّ الشّيء إلى
ما هو خارج عنه لازم له. والحمليّات شخصيّة وطبيعيّة وحاصرة ومرسلة. والحكم فى
الشّخصيّة على الجزئىّ الحقيقىّ وفى الطبيعيّة على الطبيعة من حيث لا يصلح
للانطباق على الأفراد. فلذلك لم يسرى الحكم إليها ، وفى الحاصرة على الطبيعة من
حيث هى صالحة للانطباق على أفرادها ، كلاّ أو بعضا. ولذلك ما إنّه يسرى الحكم إلى
الأفراد ، كليّا أو جزئيّا ؛ وفى المرسلة على نفس الطبيعة لا بشرط شيء. ولذلك ما
إن يسرى الحكم إلى موضوع الطبيعة وموضوع الحاصرة.
ثمّ الحكم بأنّ
الاتّحاد إن كان بحسب حال الموضوع فى الأعيان ، سواء كان بحسب أصل تقرّر الماهيّة
أو بحسب الوجود ، كانت الحمليّة خارجيّة ، وسواء فيه أنّ مبدأ المحمول من الأمور
العينيّة أو من الأمور المنتزعة من الموضوع على ما هو عليه فى الأعيان وإن كان
بحسب خصوص التّقرّر أو الوجود الذّهنىّ للموضوع كانت ذهنيّة.
وإن كان بحسب
مطلق التقرّر أو الوجود للموضوع فى نفس الأمر ، مع عزل النّظر عن خصوصيّات الظروف والأوعية
من الأعيان والأذهان وأنحاء ملاحظات ذهن واحد والأزمنة والأوقات أو جملة الزّمان
أو الدّهر والسّرمد ، سميّت حقيقيّة.
وكذلك الموضوع
فى مطلق الحمليّات هو نفس طبيعة ما يفرضه العقل بالفعل فى نفسه من فرض الشّيء ، لا
من فرض الشّيء شيئا ، على أن يلحظ عنوان هذه الطبيعة المفروضة بما هى هى من غير أن
تشاب بلحاظة حيثيّة ما من التّقييد واللاّتقييد والتّوقيت واللاّتوقيت أصلا ، حتى
لو لحق أن روعى شيء من ذلك أخيرا لم يكن قد خولف فيه ما استدعته طبيعة عقد الوضع
بما هى طبيعة عقد الوضع.
ومطلق الرّبط
الإيجابيّ فى طباعه بما هو ربط إيجابىّ استيجاب أن يكون
مسبوقا بتقرّر الموضوع ومستلزما لوجوده ، سواء فى ذلك الإيجاب المحصّل والإيجاب
العدولىّ وإيجاب سلب المحمول وبعض الإيجابات يستدعى وجود الموضوع من جهة خصوصيّة
المحمول أيضا ، كما استدعاه بما هو ربط إيجابىّ. وذلك فى المفهومات الثّبوتيّة ، وبعضها
غير مستدع ذلك من الجهتين ، بل بما هو ربط إيجابىّ فقط. وذلك فى السّلوب المحمولة
بعقد الموجبة السّالبة المحمول. ومن المحمولات ما بخصوصه (٢٠) يستدعى التّأخّر عن
وجود الموضوع وإن لم يكن يستوجب من جهة الرّبط الإيجابيّ إلاّ الاستلزام ، كعوارض
الماهيّة بحسب كلّ من الوجودين.
فإذن قد استبان
الفرق بين السّلب إذا كان فى القضيّة الموجبة جزءا من المحمول أو هو المحمول بعينه
، وبين السّلب إذا كان قاطعا للنّسبة الإيجابيّة ؛ فإنّ الأوّل لا يصحّ على
المعدوم من حيث هو معدوم ، إذ لا بدّ للإثبات من أن يكون على الشّيء من حيث هو
ثابت ، بخلاف الثانى ؛ إذا النفي عن المعدوم قد يكون من حيث هو معدوم ، كما تعرفت
من قبل.
فالسّالبة
البسيطة أعمّ من الموجبة المعدولة او الموجبة السّالبة المحمول ، وكذلك السّالبة
المعدولة من الموجبة المحصّلة إذا تشاركتا فى الأجزاء.
وشيخ أتباع
الإشراقيّة يذهب إلى أنّ هذا الفرق إنّما هو فى الشّخصيّات لا فى القضايا المحيطة وجملة
الحاصرات. لأنّه يضع اشتمال عقد الوضع فى الحاصرة على عقد حمل هو حمل العنوان على
الموضوع ويحكم بتلازم السّالبة والموجبة المعدولة فى الحاصرات ، لاستدعاء السّالبة
أيضا وجود الموضوع من جهة الإيجاب المضمّن فى عقد الوضع وإن لم يكن ذلك من جهة عقد
الحمل ، فيجعل اقتضاء وجود الموضوع فى الموجبة متكرّرا من جهتى العقدين وفى السّالبة
من جهة عقد الوضع فقط. وليس ذلك فى الشّخصيّات ، لعريها عن هذا العقد.
ولعلّ الحقّ لا
يتعدّى الحكم بأنّ عقد الوضع لا يصحّ أن يؤخذ تركيبا حمليّا ، إذ يمتنع تحقّق
الحكم فى شيء من أطراف القضيّة ما دامت أطرافا لها ، بل إنّما يتعلق
الحكم بالنّسبة الاتّحاديّة بين الحاشيتين المتخالطتين على الاتّحاد.
لكن لمّا كان المحكوم عليه فى الحاصرة
هو الطبيعة من حيث تنطبق على الأفراد بالاتّحاد بالفعل ، والوصف العنوانىّ غير
ملحوظ على أنّه يحمل على ما هو الموضوع ، بل على أنّه موضوع معه كان عقد الوضع
يشبه عقد الحمل من حيث إنّ فى تركيبه التّقييدىّ إشارة إلى تركيب جزئىّ.
وكذلك ما إنّه يصير فى الافتراض عقد
حمل. وإنّ رؤساء الصّناعة يوجبون اعتبار الموادّ فى القضايا بحسب عقد الوضع أيضا.
كما أنّها تعتبر بحسب عقد الحمل لئلاّ تقع بالإغفال من ذلك فسادات فى أبواب العكس والقياسات
المختلطة.
وليس يجوز أن
يكون موضوع السّالبة أعمّ من موضوع الموجبة بحسب الأفراد وإلاّ لم يتحقق التّناقض.
فلذلك كان يلزم وجود موضوع السّالبة الحاصرة من جهة إيجاب لازم قد اشير إليه فى
تركيب عقد الوضع ، لا من تلقاء عقد الوضع بنفسه ؛ وكان يصحّ سلب عقد الحمل عنه ،
لا من حيث هو ثابت ، بخلاف الإيجاب ، كما تحقق فى المسلف من القول.
وممّا ينبغى أن
يتعرّف أنّ موضوع السّالبة وإن كان أعمّ من موضوع الموجبة السّالبة المحمول بحسب
الاعتبار من جهة ما حقّقناه ، إلاّ أنّ بينهما ملازمة من جهة أخرى ومساوقة
اتّفاقيّة بحسب ما هو الواقع.
أمّا الملازمة ، فلأنّ موضوع السّالبة
يجب أن يكون متمثّلا فى وجود أو وهم وإن صحّ السّلب عنه لا بذلك الاعتبار. وحينئذ
، فكما يصحّ الحكم السّلبىّ عليه بسلب المحمول عنه فكذلك يصحّ عليه الحكم
الإيجابيّ بإيجاب سلب المحمول وإن كان الثّاني يحوج إلى اعتبار ثبوته دون الأوّل.
فلا تنسلخ صحّة سلب المحمول عن صحّة إيجاب سلب المحمول أصلا. والحكم السّلبىّ
يقتضي أن يكون المحكوم عليه متمثّلا فى وجود أو وهم بما هو حكم فقط ، لا من جهة
خصوص أنّه حكم سلبيّ. والحكم الإيجابيّ اللاّزم له يستدعى ذلك بما هو حكم وبما هو
حكم إيجابىّ جميعا.
وأمّا المساوقة الاتّفاقيّة ، فلأنّ
الطّبائع والمفهومات مرتسمة بأسرها فى الأذهان العالية والقوى المفارقة ، فموضوعات
جميع السّوالب ثابتة ريثما ينعقد السّلب ينعقد إيجاب السّلب على العموم.
ثمّ الحكم فى
الحمليّة إن كان بالاتّحاد على البتّ سمّيت حمليّة غير بتّيّة وإن كان بالاتّحاد
بالفعل على تقدير انطباق طبيعة العنوان على فرد. وإنّما يحصل بتقرّر ماهيّة
الموضوع ووجودها سمّيت حمليّة غير بتّيّة ، وهى مساوقة فى الصّدق للشّرطيّة ، لا
راجعة إليها ، كما يظنّ . أفكيف وقد حكم فيها بالاتّحاد بالفعل على المأخوذ
بتقدير ما ، لست أقول على سبيل التّوقيت (٢١) أو التّقييد حتّى يكون قد فرض موضوع وتمّ
فرضه فى نفسه ، ثمّ خصّص الحكم عليه بتوقيت أو تقييد له ، أى عاد المحكوم عليه إلى
أن يكون هو الطبيعة الموقّتة أو المقيّدة ، بل إنّما على سبيل التّعليق المتمّم
لفرض الموضوع فى نفسه ، حيث لم يكن بالفعل طبيعة متقرّرة أصلا. ولعلّ بين
الاعتبارين فرقا يذهل عنه المتفلسفون. والبيّنة إنّما تستدعى تقرّر الموضوع ووجوده
بالفعل ، وغير البيّنة تقرّره ووجوده على التّقدير لا بالفعل.
ومن هذا
السّبيل يدفع الإعضال فى الحمل الإيجابيّ على مفهومات الممتنعات ، كاجتماع
النّقيضين ممتنع ، وشريك البارى محال بالذّات ، والخلأ معدوم ، وأمثالها ؛ فإنّ
للعقل أن يعتبر مفهومى النّقيضين ويحكم بالتّناقض بينهما : إمّا بمعنى أنّ أحدهما
رفع للآخر والآخر مرفوع به ، أو إنّهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ، إمّا فى أنفسهما
إن كان فى العقدين أو عن موضوع ما إن كان فى المفردين وأن يتصوّر جميع المفهومات
حتّى عدم نفسه وعدم العدم والمعدوم المطلق والمعدوم فى الذّهن وقاطبة الممتنعات ،
لا على أن يكون ما يتصوّره هو حقيقة الممتنع ، إذ كان كلّ ما يتقرّر فى ذهن يحمل
عليه أنّه ممكن ما من الممكنات ، بل على أن يتصوّر المفردات ويضيف بعضها إلى بعض ،
فيتمثّل فيه مفهوم اجتماع النّقيضين
__________________
أو شريك البارى تعالى عن ذلك ، والمعدوم الذّهنىّ أو المعدوم المطلق على أن
يحمل عليه أنّه ذلك العنوان الحمل الأولىّ فقط وإن لم يحمل عليه أنّه اجتماع
النّقيضين أو معدوم مطلق.
مثلا ، الحمل
الشّائع الصّناعىّ ، حيث لم يكن ذلك عنوانا لشيء من الطبائع المتقرّرة فى عين أو
ذهن ، وإنّما يتعمّل العقل أن يقدر على الفرض البحت أنّه عنوان لطبيعة ما باطلة
الذّات محجوبة عن التّقرّر مجهولة فى التّصوّر.
ولتمثيل هذا
المفهوم وتقدير أنّه عنوان لماهيّة ما ، وإن كانت مجهولة على الإطلاق غير متمثّلة
فى ذهن ما من الأذهان أصلا ، يصحّ الحكم عليه بامتناع الحكم عليه ، والإخبار عنه
مطلقا على سبيل إيجاب حملىّ غير بتّىّ. فكان مفهوم المعدوم المطلق بحسب ما يتوجّه
إليه فى نفسه صحّة الحكم ، وأنّ امتناع الحكم إنّما يتوجّه إليه باعتبار الانطباق
على ما يقدّر أنّه بحذائه.
أليس لذلك
نظائر متقرّرة ، مثلا ، إذا قلنا : الواجب بشخصه عين ذاته كان الحكم فيه على مفهوم
الواجب ، إذ هو المرتسم فى العقل لا غير. لكنّ عينيّة التّشخّص غير متوجّهة إليه ،
بل إلى ما تحقّق البرهان أنّه بإزائه ، أعنى ذات الموجود الحقّ القائم بنفس ذاته وإن
جلّ أن يتمثّل فى ذهن أصلا.
ومن سبيل آخر :
هذا اللحاظ لمّا كان هو اعتبار المعدوم المطلق مجرّدا عن جميع أنحاء الوجود كان
هذا المفهوم غير ملحوظ بشيء من الموجودات فى هذا الاعتبار. وهذا هو مناط امتناع
الحكم عليه مطلقا. وحيث إنّ هذا الاعتبار هو بعينه نحو من أنحاء وجود هذا المفهوم
؛ فكان هو مخلوطا بالوجود فى هذا اللّحاظ بحسب هذا اللّحاظ. وهذا هو مناط صحّة
الحكم عليه بسلب الحكم أو بإيجاب ذلك السّلب. فإذن فيه حيثيّتان تقييديّتان
بحسبهما صحّة الحكم وسلبها.
ولعلّ ذلك ما
ريم بقول بعض المحدقين بعرش التّحقيق : رفع الثّبوت الشّامل
__________________
للخارجىّ والذّهنىّ يتصوّر بما ليس بثابت ولا متصوّر أصلا ، فيصحّ الحكم
عليه من حيث هو ذلك المتصوّر ولا يصحّ من حيث هو ليس بثابت. ولا يكون تناقضا ،
لاختلاف الموضوعين.
ولا مانع من أن
يكون شيء قسيما لشيء باعتبار وقسما منه باعتبار. مثلا ، إذا قلنا : الموجود إمّا
ثابت فى الذّهن وإمّا غير ثابت فى الذّهن ، فاللّاموجود فى الذّهن قسيم للموجود من
حيث إنّه مفهوم أضيف فيه كلمة «لا» إلى الموجود ، ومن حيث إنّه مفهوم قسيم من
الثّابت فى الذّهن.
<١٤> ختام
مطابق الخارج
فى الخارجيّة هو تقرّر الموضوع ونحو وجوده فى الأعيان ، وإنّه والمحمول فى الخارج
(٢٢) شيء واحد بالذّات أو بالعرض ، سواء كان بتطابق الذّهن والخارج فى حاشيتى
الاتّصاف ، كما فى الأوصاف العينيّة الّتي هى مبادى المحمولات ، أو بإلحاق مفهومات
انتزاعيّة بموضوعات عينيّة تصلح بحسب خصوص الوجود فى الأعيان لذلك الإلحاق ، كما
فى النّسب والإضافات المنتزعة من الوجودات العينيّة.
وفى الذّهنيّة
تقرّر الموضوع ونحو وجوده فى ذهن ما ؛ وإنّه والمحمول فى نحو ما من الذّهن لا فى
اللّحاظ التّحليلىّ شيء واحد بالذّات أو بالعرض وفى الحقيقة قوام ماهيّة الموضوع
فى مطلق عالم التّقرّر ؛ وإنّه والمحمول فى مطلق نفس الأمر مع عزل النّظر عن
خصوصيّات الظروف شيء واحد بالذّات أو بالعرض ، وإنّما التّكثير فى اللّحاظ
التّحليلىّ.
وتكفى المغايرة
بين المطابق والمطابق بالاعتبار ، ولا يلزم أن يكون الوجود فى نفس الأمر مغايرا
بالذّات للوجود الذّهنىّ. على ما تعرف فى المسلف من القول. فالنّسبة الموجودة فى
الذّهن ربما تكون مطابقة لنفسها من حيث هى
موجودة فى نفسها وإن كان تحقّقها فى نفسها بوجودها فى الذّهن.
أليست النّسبة
مهما وجدت فى الذّهن كان لها وجود ذهنىّ ، سواء كان ذلك باختراع من العقل وتعمّل
أوجبه سوء استعداد النّفس والانغماس فى أدناس الطبيعة ، أو بتحقّقها فى نفسها ، لا
باختراع. وعلى الأوّل لا يكون وجود إلاّ باعتبار خصوص اللّحاظ التعمّلىّ ، وعلى
الثّاني كان تحقّق لا من جهة التعمّل ومع عزل النّظر عن خصوصيّة اللّحاظ ، وهذا هو
الوجود فى نفس الأمر والملحوظ مطلق تحقّق الشّيء فى نفسه ، لا فى طرف بخصوصه.
وإن كان مقتض
خارج عن هذا النّظر أوجب أن يكون ذلك التّحقّق بالوجود فى الذّهن وفى خصوص هذا
اللّحاظ. والوجود الذّهنىّ يصدق عليه الوجود فى نفس الأمر وإن لم يكن مناطه
الخصوصيّة. وكذلك القول فى الوجود العينىّ ، والخصوصيّات ملغاة على الإطلاق.
فإذن ، قد
تعرّفت ما يقولون : إنّ المعتبر فى صحّة الحكم مطلقا هو المطابقة لما فى نفس الأمر
، لا لما فى الذّهن من حيث إنّه فى الذّهن ، وإلاّ لزم صدق الكواذب. ومن استعمل
الخارج فى مطابق النّسبة فلم يرم إلاّ الخارج عن النّحو الفرضىّ من الذّهن وعن
خصوصيّة النّحو التّحقيقىّ أيضا من الذّهن وخصوص اللّحاظ الذّهنىّ وإن لم يكن
تعمّليّا اختراعيّا. وهذه الدّقيقة يغفل عنها المتفلسفون.
وكأنّك قد
استشعرت أيضا أنّ نسب العقود متحققة بأسرها فى القوى المفارقة والأذهان العالية. وشأنها
بالنّسبة إلى الكواذب مجرّد الحفظ والارتسام فيها على سبيل الاختزان ، وبالنّسبة
إلى الصّوادق الحفظ والتّصديق جميعا. وذلك لبراءتها عن الشّرور والضّلالات الّتي هى
من غوايات الوهم وظلامات الهيولى.
فلا جناح عليك
عند العقل لو اتّخذت النّسبة العقديّة من حيث ترتسم فى الأنوار المفارقة بالإدراك
التّصديقىّ مطابق الحكم للنّسبة العقديّة من حيث هى فى ذهن ما سافل. والواقع الّذي
به يقاس الصّدق والكذب. وأيّا ما كان فالصّدق حال النّسبة العقديّة بالقياس إلى
الواقع بالمطابقة ، وباعتبار نسبتها إلى الأمر نفسه على أن يكون
هى المطابق ـ بالكسر ـ والحقّ حالها بقياس الواقع إليها بالمطابقة ؛ وباعتبار
الأمر نفسه إليها على أن تكون هى المطابق ـ بالفتح ـ وللحقّ إطلاقات أخر جرت فى
سالف الذّكر وتعاد فى مستأنف القول إن شاء اللّه.
وأمّا النّسب
العقديّة فى الأذهان العالية الّتي هى الأنوار المفارقة الشّاهقة المرتفعة عن أفق
الزّمان ، فأمرها فى الصّدق أرفع وأعلى من ذلك كلّه ؛ فإنّ علم الأنوار العقليّة والمفارقات
النّوريّة أجلّ من أن يوصف بالصّدق.
وإنّما هو قراح
الحقّ ، بمعنى أنّه الواقع الّذي به يقاس الصّدق والتّحقّق ، لا المطابق للواقع
الّذي (٢٣) هو الصّادق والمتحقق. وعساك أن تتعرّفه إذا كرّرت عليك اصول ضوآنيّة فى
فصول برهانيّة.
وممّا يلتحق
بهذا المقام : المعضلة الملقّبة ب «الجذر الأصمّ» ، وهى الدّاء العضال الّتي أعيت
الأسلاف والأخلاف ، من الّذين هم الآباء الرّوحانيّة والأطبّاء لأدواء الفنون
الميزانيّة والعلوم البرهانيّة ؛ وهى : أنّ صدق الحكم أو كذبه لو كان بمطابقة
الخارج ونفس الأمر أو عدمها لم يكن يجتمع الصّدق والكذب فى نسبة عقديّة بعينها ؛
لكنّهما قد يجتمعان ، كما فى قول القاتل : «كلّ كلامى فى هذه السّاعة كاذب» ، إذا
لم يتكلّم تلك السّاعة بغير هذا الكلام ؛ فإنّه عقد حمليّ وصدقه مستلزم لكذبه ، وبالعكس
؛ لكون نفسه من أفراد موضوعه ، فيسرى إليه الحكم عليه بالكذب ضرورة ، بل ليس له
فرد موجود أو موهوم إلاّ نفسه. وليس صدقه إلاّ بسراية الكذب المحكوم به على
العنوان إليه ، ولا كذبه إلاّ بانتفاء الكذب المسلوب عن العنوان عنه.
ولهم فى
التّعبير عنها وجوه وتقريرات ، وفى سبيل التّفصّى عن إعضالها حيل وتدبيرات. وكيف
أصف كم زلّت فيها أقدام أقوام ، من متقدّمة المحققين ومحققة المتقدّمين ومتعسّفة
المتفلسفين ومتفلسفة المتأخّرين. وأقربهم إلى مندوجة الصّواب وإصابة الحقّ من
اعترف منهم بالعجز.
ولقد حلّلت
العقدة ببعض ممّا آتانى ربّى من الحكمة ، ثمّ عصمنى بفضله من
العثرة. ألست قد مهّدت لك فى قسطاس الفرديّة : ما إن أخذت الفطانة بيدك
لفطّنك أنّ نفس هذا العقد إنّما يكون فردا لموضوعه من حيث إنّه طبيعة الكلام فى
هذه السّاعة مع قيد ما يخصّص تلك الطبيعة ، لا من حيث إنّه حمل فيه خصوص هذا
المحمول على هذا الموضوع ؛ فإنّ ذلك مناط خصوصيّة الفرديّة ، لا معيار سنخ
الفرديّة ، على ما تعرّفت من قبل.
والآن لست
أظنّك متشكّكا فى أن ما يجلب سراية الحكم على العنوان إلى ما هو من أفراده إنّما
هو سنخ الفرديّة ، لا خصوص هذه الفرديّة ؛ فإنّ خصوص كون الشّيء هذا الفرد بخصوصه
اعتبار فيه غير اعتبار كونه فردا ، والاعتباران مفصول أحدهما عن الآخر فى لحاظ
التّعيّن والإبهام الّذي هو بعينه ظرف الخلط والتّعرية باعتبارين. وما بحسبه سراية
الحكم على العنوان إلى الفرد إنّما هو اعتبار كونه فردا منه ، لا اعتبار أنّه هذا
الفرد بخصوصه.
ولعلّ ذلك ممّا
لا يتجاوزه من جبل على فطرة غير سقيمة ، فضلا عمّن يكون فى نفسه قوّة طابخة
للفلسفة ولعقله أشعّة منضجة للحكمة.
فإذن ، نفس هذا
العقد ، مع عزل النّظر عن خصوص هذا المحمول ، يدخل فى سنخ ما هو فرد هذا العنوان.
فإنّما يسرى الحكم إليه من تلك الحيثيّة ، وهو معزول بحسب تلك الحيثيّة عن خصوصيّة
ذلك المحمول بخصوصه ، إذ خصوص المحمول إنّما هو بحسب اعتبار خصوص الفرديّة وليست
السّراية بحسب ذلك الاعتبار. وإنّما استلزام الصّدق للكذب وبالعكس باعتبار خصوص
المحمول ، لا بالاعتبار الّذي بحسب السّراية. فإذن قطع دابر القوم الّذين ظلموا
أنفسهم بإبارة الحكمة وإثارة الظّلمة ، والحمد للّه ربّ العالمين.
وبمثل ذلك
ينحلّ عقد الإعضال فيما استصعب من الشّكوك. وهو أنّا إذا لاحظنا مجموع النّسب بحيث
لا يشذّ عنها نسبة ، أعنى معروض الهيئة الاجتماعيّة ، وجدنا نسبة هذا المجموع إلى
كلّ من أبعاضه داخلة فيه ، لكونها من النّسب ، فتكون متقدّمة عليه تقدّم الجزء على
الكلّ ، مع أنّ النّسبة يجب أن تكون خارجة عن
المنتسبين ومتأخّرة عنهما.
والحلّ : أنّ
هذه النّسبة من حيث إنّها متعلّقة بالمنتسبتين المخصوصتين متأخّرة عنهما ، ومن حيث
إنّها نسبة ما لا بلحاظ خصوص المنتسبين داخلة فى المجموع ، إذ الملحوظ أفراد
النّسبة بما هى نسب (٢٤) ، لا من حيث خصوصيّات المنتسبات ، وسنخ الفرديّة لا يكون
من جهة خصوص المنتسبين ، والتّأخّر إنّما هو من جهة التّعلّق بهما باعتبار
الخصوصيّة ، وهو مناط خصوص الفرديّة. والاعتصام بحبل اللّه ، والفضل كلّه بيد
اللّه تعالى وتقدّس.
فصل [ثالث]
فى بعض ما بقى من أحكام الوجود وما بالحرىّ أن يذكر من أحوال العدم
< في الفصل الثالث ثلاثة وعشرون عنوانا >
<١> حكومة فيها إحكامات
فرق ما بين
المحمولات العقليّة ومباديها الّتي هى الانتزاعيّات الذّهنيّة وبين ثوانى
المعقولات. فالطبائع المصدريّة المحضة ولوازم الماهيّات والنّسب والإضافات
المنتزعة من المحمولات العقليّة.
وأمّا
المعقولات الثّانية أو الثّالثة ، فقد تلى عليك فى سالف القول ما شأنها وكيف
أمرها. فالآن نعيد عليك على ضرب آخر ، موزون مستو ، إذ قد شوّشت الظّنون وهوّشت
الأوهام
:
فمن النّاس :
من يضع أنّها المعقولات فى الدّرجة الثّانية ، أى لا فى الدّرجة الأولى ، عارضة
لما تعقل قبل ؛ ويثبث بالاستقراء ، وينقض تارة ويمنع التّامّ ، بل لزوم القبليّة
رأسا أخرى.
ومن يتوهّم :
أنّها العوارض الذّهنيّة للمعقولات من حيث هى معقولات على أن يكون الذّهن ظرفا
للعروض ، والوجود الذّهنىّ بخصوصه قيدا يعتبر فى الموضوع ،
__________________
والقضيّة وصفيّة بحسب عقد الوضع ولا يسرى الوجود وما أشبهه فى أنّ المعروض
له هو الماهيّة من حيث هى ، لكن فى الذّهن ، لا مع الوجود الذّهنىّ معقولا ثانيا ؛
ويقول : أيكون ما من أفراده الوجود القائم بذاته الواجب بنفس حقيقته من المعقولات
الثانية.
ومن يزعم :
أنّها هى ما يعرض للشّيء فى الذّهن على أنّ الذّهن فقط ظرف العروض ، ولخصوص الوجود
الذّهنىّ مدخليّة فيه على الشّرطيّة ، لا على الدّخول فى المعروض ، ويخصّ ثوانى
المعقولات بالمشتقّات دون المبادى ، ويرتكب أنّ الشّيء قد يكون معقولا ثانيا بحسب
حصصه الانتزاعيّة ومتأصّلا بحسب فرده العينىّ ، ويجعل العقود التى محمولاتها
الوجود والإمكان ونظائرهما على الإطلاق ذهنيّات.
ومن يتخيّل
أنّها المحمولات الّتي لا تكون ذاتيّات لشيء من الحقائق المتأصّلة فى الأعيان أصلا
، وليست مباديها إلاّ العوارض العقليّة الّتي لا يحاذى بها أمر ما فى الخارج ؛ ويظنّ
أنّ لوازم الماهيّة غير مفصولة عن المعقولات الثّانية ، وأنّ العقود الّتي يحمل
فيها الجزئىّ على الذّوات العينيّة تصدق خارجيّة ، وأنّه لا فرق فى ذلك بين قولنا
: زيد جزئىّ فى الخارج وبين قولنا : زيد شيء أو علّة فى الخارج.
وهى بجملتها
تهويسات وتهويشات ، لست أجد رخصة من الحقّ فى استصواب شيء منها.
والّذي يستبين
لى ويشبه أنّ نضج الحكمة ليس يتجاوزه ولا ما أسّسه الفلاسفة الإسلاميّة حافّين حول
عرش العلم من الرّؤساء والمعاضدين ومحققة الأتباع يتعدّاه :
هو أنّ
المعقولات الثّانية ، حيث تجعل موضوع الحكمة الميزانيّة الّتي هى مكيال العلوم
ليست هى المعقولات الثّانية ريثما تستعمل فى حكمة ما قبل الطبيعة ، كما يقال ،
مثلا : الوجود والشّيئيّة من المعقولات الثّانية وأنّ الأولى تؤخذ أخصّ بحسب
المفهوم والصّدق من الثّانية.
فالمعقولات
الثّانية والثّالثة حيث تؤخذ موضوع حكمة الميزان هى
المحمولات والعوارض العقليّة الّتي تكون مطابق الحكم ، والمحكىّ عنه فى
حملها على المفهومات وانتزاعها منها هو تقرير المفهومات فى الذّهن ونحو وجودها
الذّهنىّ على أنّ القضايا المعقودة بها ذهنيّات. وهى كالحمل والوضع والكليّة والجزئيّة
والفرديّة والذّاتيّة والعرضيّة والحصّيّة والجنسيّة والفصليّة والنّوعيّة ، وكذلك
المحمولات المأخوذة من هذه المبادى ، كالمحمول والموضوع ، والكلّىّ والجزئىّ ، والمفرد
والحصّة ، والذّاتىّ والعرضىّ، والجنس والفصل والنّوع ، والقضيّة والجهة والتّناقض
والعكس والطرفين والوسط ، وقانص الحقيقة التّصوّريّة وقانص الحكم التّصديقىّ.
فللشّىء
معقولات فى الدّرجات الأول ، كالحيوان والجسم والماشى والضّاحك (٢٥) للإنسان ، وتستند
إليها هذه المعقولات الثّانية وتعرض مفهوماتها فى الذّهن ، ولا تقع إلاّ فى العقود
الذّهنيّة ؛ لأنّ المحكوم عليهما بالمحموليّة والموضوعيّة أو الكليّة والجزئيّة ،
مثلا ، بحسب التّحقّق فى الأعيان ، شيء واحد. وكذلك بحسب الوجود فى الذّهن إلاّ فى
اللّحاظ التّحليلىّ الّذي هو ظرف الخلط والعرى.
أفليس من
المستبين لقريحتك : أنّ المحكىّ عنه بما يخصّه من المفهومات المحمولة أو العوارض
بحسب الأعيان أو بحسب الذّهن إنّما هو حال الشّيء باعتبار نحو وجوده فى ذلك الظرف
على أنّه هو متميّزا عن غيره ، والموجود فى الأعيان شيء واحد لا يتميّز بحسب
المحمول عن الموضوع ، ولا الطبيعة عن الفرد ولا الذّاتيّ عن ذى الذّاتىّ ولا معروض
الكليّة عن الجزئىّ ، إذ ليس بحسب ذلك الوجود إلاّ الخلط الصّرف.
فإذن ، ليس
مطابق الحكم بشيء من هذه المفهومات المحمولة أو المبادى العارضة إلاّ نحو وجود
المفهوم المحكوم عليه فى ظرف الخلط والعرى من أنحاء اللّحاظات الذّهنيّة.
ثمّ بعض هذه
ممّا لا يصحّ أن يتلبّس به المفهوم إلاّ باعتبار وجوده فى الذّهن ، كالكليّة والحصّيّة
والحمل والوضع وما شاكلها. وبعضها ممّا ليس المفهوم يأبى أن
ينتزع منه بحسب وجوده فى الأعيان لو أمكن أن يكون هناك متميّزا منفرزا ذلك
، لكنّه مخلوط غير متميّز بحسب الأعيان. فلذلك لا ينتزع منه ذلك بحسب الاعيان ، ويجب
أن يكون العقد ذهنيّا ، ومطابق الحكم فيه تقرّر الموضوع ، ونحو وجوده فى الذّهن
مفروزا غير مخلوط بحسبه. وذلك مثل الجزئيّة والذّاتيّة والعرضيّة والطبيعيّة وما
ضاهاها.
وحيث إنّ مسلك
الفرق بين القبيلتين غامض يغلط فيه ويعقد زيد جزئىّ فى الخارج مثلا خارجيّة ، ولم
يتفطن أنّ الموجود فى الخارج أو فى الذّهن بحسب الخارج شيء واحد يصلح لأن يحلّله
العقل فى اللّحاظ التّحليلىّ إلى ما هو جزئىّ وإلى طبيعة تعرضها الكلّية فى لحاظ
العقل ، وإنّما الجزئيّة من أحوال الشّيء بما هو متميّز غير مخلوط. فما فى الأعيان
لا يصحّ أن يحكى عنه أنّه جزئىّ أو طبيعة ، بل إنّه شيء واحد مخلوط يصحّ أن ينحلّ
إلى الأمرين جميعا.
وإنّ من
الصّفات ما له وجود فى العين والذّهن ، كالبياض ؛ ومنها ما ليس لها وجود إلاّ فى
الذّهن. ووجودها العينىّ هو أنّها فى الذّهن ، كالنّوعيّة المحمولة على الإنسان ، والجزئيّة
المحمولة على زيد.
وكما أنّه ليس
معنى قولنا «زيد جزئيّ فى الأعيان» أنّ الجزئيّة لها صورة فى الأعيان قائمة بزيد ،
فكذلك ليس معناه : أنّ الموجود فى الأعيان بما هو فى الأعيان جزئيّ فى لحاظ العقل.
وإنّما الصّحيح أن يعنى به أنّ ما فى الأعيان بما هو فى الأعيان يصحّ أن يفصّله
الذّهن إلى ما فى ظرف الخلط والعرى جزئىّ وإلى ما فيه طبيعة.
فقد أوضحنا لك
: أنّ المعقولات الثّانية هى ما مطابق الحكم بها هو نحو وجود المعقولات الأولى فى
الذّهن ، لا على أن يعتبر قيدا فى المحكوم عليه.
وهذا ما يرومه
الرّائم بقوله : المعقولات الثّانية مستندة إلى المعقولات الأولى وثابتة لها بحسب
نحو وجودها فى الذّهن. وإنّما يعنى بإثبات نحو وجود الشّيء ريثما يستعمل أنّ أىّ
وجود يخصّه. وهى التى تجعل موضوع حكمة
الميزان ؛ لكن لا على الإطلاق ، بل من حيث يتوصّل بها من معلوم إلى مجهول
أو ينتفع بها فى ذلك الاتّصال.
والنّظر فى
إثبات تقرّرها مطلقا وأنّها هل لها وجود فى الأعيان أو فى النّفس ، وأنّ لها صلوحا
للإيصال أو النّفع من وظائف علم ما بعد الطّبيعة ، فإنّه يبيّن أنّ الكلّىّ قد
يكون نوعا وقد يكون جنسا وقد يكون فصلا ، وقد يكون خاصّة ، وقد يكون عرضا عامّا.
فإذا ثبت فيه
الكلىّ الجنسىّ والكليّ النّوعىّ صار الكليّ حينئذ بهذه الشّريطة وتلك الحيثيّة
موضوعا لعلم الميزان. ثمّ ما يعرض للكلّي بعد ذلك من لوازمه وأعراضه الذّاتيّة
يثبت فى علم الميزان. والجهات أيضا شرائط تصير بها المعقولات الثّانية أو الثّالثة
موضوعة لعلم الميزان.
فإذا علم أنّ
الكلّىّ (٢٦) قد يكون واجبا وقد يكون ممكنا وقد يكون مطلقا ، جعل بذلك الكلّىّ
موضوعا له. وأمّا تحديدها وتحقيق ماهيّاتها فيكون فيه لا فى العلم الأعلى ، كما فى
تحديد موضوعات سائر العلوم.
والمعقولات
الثّانية ، ريثما تستعمل فى حكمة ما بعد الطبيعة ، حيث يقال : مفهوم كذا من
المعقولات الثّانية ، ومفهوم كذا ليس منها ، فإنّما تؤخذ على وجه أعمّ ممّا تلونا
عليك. فهى العوارض الانتزاعيّة الّتي لا تحمل على شيء ممّا فى الأعيان على أنّها
هو أو من الذّاتيّات له ، كما فى الصّفات العينيّة ولا يحاذى بها خصوص حال فى
الوجود العينىّ ، كما فى الإضافات والسّلوب المنتزعة من الشّيء بحسب حاله فى نحو
وجوده العينىّ ولا يكون عروضها لمعروضها من جهة اقتضاء من طبيعته لذلك ، كما فى
لوازم الماهيّة ، وهى كالوجود والنّسبة والإمكان والوجوب. وكذا الماهيّة والموجود والشّيء
والممكن والواجب ومشاكلاتها.
ولا يختلف
مفهوم واحد ثانويّة المعقوليّة وأوّليّتها باختلاف ما اضيف إليه من الحقائق
العينيّة وما هو معقول ثان لا تكون حقيقته متأصّلة من الأعيان أصلا ، بل تكون
الحقيقة إمّا الإنسان والحيوان أو الفلك مثلا ، ثمّ ينتزع منها الوجود أو
الشّيئيّة فى
لحاظ العقل. والوجود الحقّ القائم بذاته ليس يحمل عليه الوجود المطلق
المنتزع على أنّه هو بعينه أو هو من ذاتيّاته. وليس هو يرتسم فى العقل فينتزع منه
الوجود المطلق ويعرضه فى لحاظ الذّهن ، فقد تعرّفت أنّ هذه وظيفة الطبائع
الإمكانيّة.
بل العقل يحكم
بالبرهان : أنّ فى الأعيان حقيقة متقرّرة بنفس الذّات ، والمتقرّر بنفس الذّات هو
بنفس حقيقته مصداق حمل الموجود عليه ومطابق انتزاع الموجوديّة منه ، لا باقتضاء
حقيقة ذلك ، كما أنّ الحقيقة المتقرّرة من الجاعل بنفس ماهيّتها المتقرّرة من
الجاعل مصداق الحمل ومطابق الانتزاع ، لا باستيناف تأثير من الجاعل أو باقتضاء من
الماهيّة المجهولة ، وأنّ للعقل سبيلا فى الماهيّات المجعولة إلى لحاظ الحقيقة
المتقرّرة وانتزاع الموجوديّة منها.
ولا سبيل له
إلى ذلك فى الحقيقة المتقرّرة بنفس الذّات. بل إنّما شرعة العقل أن يلقى سمعه
الملكوتىّ ، فيستمع : أنّ البرهان ينطق بلسانه القدسىّ النّورىّ : إنّ لى على وله
شدّة الدّهش وشدّة خطر الرّعب سبيلا إلى صقع لحاظ القدّوس الحقّ المتقرّر بنفس
حقيقته وانتزاع الموجوديّة من نفس ذاته بذاته. فما يقال : إنّه اللاّحظ والمنتزع
بالإضافة إلى ذلك الجناب هو البرهان ، لا العقل.
فإذن ، ليس
الوجود الحقّ من أفراد شيء ممّا فى حيازة العقل وحوزة معقولاته المتأصّلة
الحقيقيّة. فما ظنّك بجنابه المقدّس بالقياس إلى الوجود الحقّ المطلق الّذي هو من
الطّبائع المصدريّة الانتزاعيّة.
ثمّ عساك أن
تتعرّف الحقّ بما حقّقت لك ؛ فقد ميّزت بما حكمت لوازم الماهيّة عن المعقولات
الثّانية ؛ فإنّ هناك اقتضاء من الماهيّة يقوم مقام التّأصّل. كما أنّ كون
الانتزاع بحسب خصوص نحو الوجود العينىّ فى الفوقيّة والعمى يقوم مقام العينيّة. وأوضحت
: أنّ المعقولات الثّانية بهذا الوجه العامّ لا يلزمها أن لا يقع إلاّ فى العقود
الذّهنيّة ؛ إذ ربما يكون مطابق الحكم والمحكىّ عنه بها نفس الحقيقة المتقرّرة بما
هى متقرّرة فى نفسها ، لا بما هى معقولة وموجودة فى الذّهن بخصوصه ، كما فى مطلق
الوجود والشّيئيّة والإمكان والوجوب وأشباهها وإن كان
ظرف العروض والذّهن ، فتصدق العقود حقيقيّة ، كقولنا : الإنسان موجد أو شيء
أو ممكن بالذّات أو واجب بالغير.
ومصداق الحمل
فى الموجود والشّيء نفس الماهيّة المتقرّرة من الجاعل ، وفى الممكن بالذّات
الماهيّة بما هى ليست بنفسها متقرّرة ولا لا متقرّرة وليست بذاتها ضروريّة
الموجوديّة ولا ضروريّة اللاّموجوديّة. وفى الواجب بالغير (٢٧) هى من حيث هى
مستندة إلى العلّة. وربما يكون المحكىّ عنه هو الماهيّة المتقرّرة فى الأعيان بما
هى متقررة فى الأعيان فى لحاظ العقل ، كما فى الوجود فى الأعيان والشّيئيّة فى
الأعيان وإمكان الوجود العينىّ ووجوب الوجود العينىّ وإن لم تكن الماهيّة العينيّة
من حيث كونها فى نحو الوجود العينىّ على وضع معيّن أو نسبة خاصّة بالقياس إلى شيء
آخر عينىّ كما يكون فى الفوقيّة والعمى. ولذلك لم تكن العقود بها خارجيّة.
فمصداق الحمل
فيها لحاظ نفس الحقيقة المتقرّرة فى الأعيان من الجاعل أو الحقيقة المتقرّرة فى
الأعيان بما هى بنفسها ليست متقرّرة فى الأعيان ولا لا متقرّرة فى الأعيان ، وليست
بذاتها ضروريّة الموجوديّة فى الأعيان ولا لا ضروريّة الموجوديّة فى الأعيان أو
الماهيّة المتقرّرة فى الأعيان من حيث اقتضاء الجاعل.
والقضايا
المعقودة بها حقيقيّات صادقة بحسب تحقّق مصداقاتها والمعقولات الثّانية بالمعنى
الأوّل قسم من المعقولات الثّانية بهذا المعنى ، وقد دريت أنّ القضايا المعقودة
بها لا تكون إلاّ ذهنيّات.
فإذن ، قد
استبان لك أنّ المعقولات الثّانية فى اصطلاح علم ما قبل الطبيعة تنعقد بها العقود
بصنفيها الحقيقيّة والذّهنيّة دون الخارجيّة ، لأنّها إنّما تصدق حيث يكون ظرف
الاتّصاف هو الخارج بخصوصه على المعنى المسلف ذكره ، وإنّ قولنا : «الإنسان موجود
أو ممكن بالذّات» يصدق حقيقيّة ، لا ذهنيّة ، وكذلك قولنا : «زيد موجود أو شيء فى
الأعيان أو ممكن فى وجوده العينىّ» يصدق حقيقيّة ، لا ذهنيّة ، كما ربما يزعم ، ولا
خارجيّة ، كما ربما يتخيّل ؛ وكذلك شأن لوازم الماهيّة ؛ إذ ليس لخصوصيّات أنحاء
الوجود مدخليّة فى مطابق الحكم
بها على الماهيّة وإن كان اقتضاء الماهيّة لها ينوب فيها مناب التّأصّل ، وبذلك
تنحاز هى عن المعقولات الثّانية. وكأنّ حقّ القول قد بلغ نصابه من التّأدية وحدّه ،
والحمد للّه وحده.
<٢> استضاءة
هل أنت متذكّر
ما سقنا فطانتك إليه فى أمر الوجود ما حقيقته وكيف سنّته بالقياس إلى الماهيّة ، وهل
هو إلاّ معنى واحد لا يتكثّر إلاّ بتكثّر موضوعاته ، فاحكم أنّه لا يتصوّر فيه
اشتداد ولا تضعّف ولا تزيّد ولا تنقّص.
ألست حصّلت أنّ
نسبته إلى الماهيّة تشبه نسبة الإنسانيّة إلى الإنسان من جهة أن ليس هناك مبدأ
لاشتقاق المحمول سوى نفس ذات الماهيّة ، وإن باينتها من حيث إنّ الماهيّة بما هى
هى ، لا باعتبار أن جعلها الجاعل وأفاضها بالجعل البسيط لا تصحّح الاشتقاق والحمل
هناك ، بخلاف ماهيّة الإنسان بالقياس إلى الإنسانيّة والإنسان المحمول والحيوانيّة
والحيوان المحمول.
ثمّ إنّ هناك
سبيلا آخر من النّظر فى مقتضى طبيعة الحركة. أمّا على ما يدركه الخاصّة ـ وهم
المحصّلون من رؤساء الفلاسفة اليونانيّة والإسلاميّة والرّاسخون فى العلم من
الحكماء [فى الحكمة] اليمانيّة الإيمانيّة ، حافّين حول عرش الحكمة الحقّة
النّضيجة ـ فحيث إنّ الحركة القطعيّة موجودة فى زمان شخصىّ هو زمان مجموع تلك
الحركة المتصلة الشّخصيّة ، وكذلك الزّمان الممتدّ الشّخصىّ موجود فى وعاء الدّهر
، والمتحرّك يتلبّس فى ذلك الزّمان الشّخصىّ بفرد غير قارّ من المقولة الّتي فيها
الحركة منطبق على الحركة الشّخصيّة المتصلة والزّمان الممتدّ الشّخصىّ ، وينتزع
منه أفراد زمانيّة وأفراد آنيّة إزاء لانتزاع الأجزاء والآنات من ذلك الزّمان ، وليس
له فى نفس الأمر تلبّس بشيء منها بالفعل ، بل إنّما بالقوّة من جهة الصّلوح
للتّحليل والانتزاع ، ويجده العقل فى أبعاض زمان وجود الحركة القطعيّة بحكم التّحليل
فى آنات متوهّمة فيه بنحو الانتزاع ، أعنى ما دامت الحركة التّوسّطيّة
مستمرّة الذّات البسيطة غير مستقرّة النّسبة المختلفة إلى حدود ما فيه
الحركة بالموافاة متوسّطا بين الأفراد الآنيّة الممكنة الانتزاع بحيث متى ما
انبتّت الحركة تلبّس هو بواحد منها بالفعل.
فليس يمكن أن
يتحرّك الشّيء فيما لا يتقوّم هو هو إلاّ وأنّ له ذلك بالفعل ، كالوجود والصّور
الجوهريّة (٢٨) ، وإلاّ لم يبق فى أبعاض زمان الحركة وآناته متقوّما ولم يستمرّ هو
هو وعادت الحركة فسادا لما يظنّ أنّه المتحرّك.
ولقد كنّا فى
سالف القول بسطنا لك «نفي الحركة فى الجوهر». على ما إن تذكّرت لكفاك. وأمّا على
ما يظنّه العامّة ـ وهم شرذمة من متقدّمة المتفلسفين وقد حجبهم التّفلسف عن
الفلسفة ، وطائفة من متفلسفة المتأخّرين وقد انصرفت هممهم عن حقيقة الحكمة إلى شبح
التّفلسف ـ فلا يوجد إلاّ الحركة التّوسّطيّة الغير القابلة للانقسام بوجه أصلا ، والآن
السّيّال المنطبق عليها ، ولا يكون للمتحرّك فرد زمانىّ غير قارّ من المقولة فى
شخص زمان الحركة ولا شيء من الأفراد الآنيّة فى حدوده ، بل إنّ له ما دام متحرّكا
التّوسّط بين تلك الأفراد الآنيّة. وبذلك يفترق ما يفرض متحرّكا فى الكم والكيف والأين
والوضع معا ، إذ هو متحرّك فيها عمّا يفارق تلك المقولات والحركة فيها. فأمر نفى
الحركة فيما لا يتقوم الشّيء هو هو إلاّ وله ذلك بالفعل أسهل على ما يخرصون. ولكن
الحقّ أحقّ بالاتّباع وإن لم يكن أكثرهم إلاّ يجهلون.
<٣> تقرير فيه إشراق وتنوير
ألست إذا دريت
: ما معنى الوجود ، رأيت لا يتطرق قبول التّشكيك بالشّدّة والضّعف والزّيادة والنّقصان
إلى طبيعة الوجود بما هو وجود ، وإنّما فى طباعه أن يختلف بالتّقديم والتّأخير
للعليّة والمعلوليّة والأولويّة واللاّأحقّيّة للاستغناء والحاجة والوجوب والإمكان.
فالوجود
موجوديّة الحقيقة ، والحقائق فى أنفسها مختلفة بالتّماميّة والنّقصان والشّرف والخسّة
وغاية المجد والعلوّ أن يكون الشّيء فى حدّ حقيقته قيّوما واجبا
بالذّات ، أى : متقرّر الحقيقة بنفسه ، واجب الوجود بذاته ، فيكون بما هو
هو فعليّة محضة مقدّسة من جميع جهاته عن شوب مقارنة ما بالقوّة أو معنى ما بالقوّة
؛ ومن عداه وما سواه مزدوج الحقيقة بحسب ما يعتريها من حيثيّتى القوّة من جهة فقر
الذّات والفعليّة من جنبة جود الغير ، وهو المبدأ القيّوم الواجب بالذّات.
وأعنى بحيثيّة
القوّة : معنى ما بالقوّة ومعنى ما بالقوّة جميعا ؛ وكذلك بحيثيّة الفعليّة ما
يجمع معنى ما بالفعل ومعنى ما بالفعل جميعا. لكن معنى ما بالفعل لا يصحّ للماهيّة
إلاّ بحسب إفاضة الجاعل نفسها.
وأمّا معنى ما
بالفعل فقد يكون لها باقتضاء من نفسها لذلك بعد أن تدخل نفسها فى معنى ما بالفعل
بأن يبدعها الجاعل ، كما فى لوازم الماهيّة.
ثمّ كلّما كانت
الحقيقة فى سنخ نفسها أتمّ وأكمل وأقدس وأجلّ كان قسطها من حيثيّة الفعليّة أسبغ وأبلغ
وحظّها فى عالم التّقرّر أكثر وأوفر.
وكلّما كانت
أنقص وأوهن وأخفض وأخسّ كانت حيثيّة القوّة فيها أوسع وأقوى وجهة الفعليّة أضيق وأضعف.
وهكذا تتفاوت درجات اختلاف الماهيّات تماميّة ونقصانا بحسب سنخ الحقيقة الغير
المشتركة إلى حيث تبلغ الخسّة مركزها وتنال المنقصة جبّرها. فلم يقنع نقصان سنخ الحقيقة
باقتران حيثيّتى القوّة والفعليّة حولها ، بل يتجاوزه إلى ثوب تضمّن حيثيّة
الفعليّة لجهة القوّة ، فيكون الشّيء من حيث له الفعليّة مشوبا بأن تغشاها القوّة ويكتنفها
الاستعداد.
فجهة القوّة ومعنى
الاستعداد كأنّهما مضمّنتان حول ماهيّة فى حيثيّة الفعليّة الحقيقيّة. وذلك ليس
إلاّ حيث يكون الشّيء طباعه أن يكون فى تشخّصه الوجودىّ على وحدة شخصيّة مبهمة. وإنّما
هو محصور بحكم البرهان فى شاكلة حقيقة الهيولى فى سنخها ، على ما فزع سمعك فى ما قد
سلف.
فليس مركز
دائرة النّقص ومحدّد جهة الخسّة إلاّ هى ؛ مع أنّها شبكة بها تصطاد حقائق الأنواع
الجسمانيّة بغرائب صورها وطبائعها وبدائع آثارها وصنائعها ، وشركة بها تقتنص
النّفوس المفارقة الإنسانيّة بصنوف إدراكاتها وتعقّلاتها وقطوف أفاعيلها
وكمالاتها ، جلّ جاعلها العليم وعزّ فاعلها الحكيم (٢٩).
فإذن ، قد
تكشّف الأمر فى قول الفلاسفة : «إنّ الهيولى من الأمور الضّعيفة الوجود» ؛ وإنّه
ليس فى ذلك ما يوجب التّشكيك فى الوجود بالشّدّة والضّعف ، كما ينساق إليه وهم من
زاغ عن الحقّ من مقلّدة المتفلسفين. وكذلك الحال فى قولهم : «الحركة ضعيفة الوجود»
، والزّمان يشبه أن يكون أضعف وجودا منها. فما ريم به هو : أنّ الحركة من الحقائق
النّاقصة فى نفسها الخسيسة فى سنخها ، تكونها غير قارّة الذّات.
والنّقص فى سنخ
حقيقة الزّمان أقوى : لأنّ ما هو غير قارّ الذّات بالذّات إنّما هو الزّمان ؛ وأمّا
الحركة فإنّما هى غير قارّة الذّات من جهة انطباقها على الزّمان ، ومنبع النّقص
بالأسر الوقوع فى صقع الهيولى.
وقد حاولنا بسط
هذا الأصل فى كتانا الصّراط المستقيم أكثر ممّا فى هذا الأفق المبين. وإنّ من لم
يبصر نور الحقّ ، على ما حقّقناه ، فلقد أوشك أن يتعدّى السّبيل المستبين ، فوسّع
الفطنة واتّبع الحكمة ولا تكن من المعتدين.
<٤> حكمة تلويحيّة
لعلّ عندك من
الفطريّات : أنّه حيثما ليس عدم ذات أو عدم كمال ذات أو عدم معنى ما هو كمال
الذّات فى قوّتها أن يكون لها ، ليس يصحّ أن يقال : إنّ هناك شرّيّة أصلا ؛
فالشّرّ ممّا لا ذات له ؛ بل إنّما هو عدم ذات ، أو عدم كمال ذات ، أو عدم كمال ما
لذات فى طباع قوّتها أن يكون لها ؛ والوجود أيسيّة الذّات ، أى نفس كونها أيسا.
فليس فى حوزة
التّقرّر بما هو تقرّر ، وهو تجوهر الماهيّة وفعليّتها فى سنخها ، ولا فى حىّ
التّأيّس بما هو تأيّس ، وهو أيسيّتها المصدريّة ، أى كونها أيسا ما ، يقال : إنّه
شرّ من حيث هو تقرّر وتأيّس ؛ اللّهمّ إلاّ بالعرض من جهة الاستجرار والاستتباع ؛
إذ الازدحامات والمصادمات الّتي هى بين سكّان عالم الظّلمات ، بما فى ذلك العالم
من
الصّفات واللّوازم توجب أن يستتبع بعض الموجودات تسبّبه لعدم شيء أو عدم
كماله أو عدم كمال له أو انصراف ذات ما عمّا هى بطباعها متوجّهة إليه ممّا يليق
بها لتكمل ؛ فيصحّ أن تنسب إليه الشّرّيّة بالعرض ، على معنى أنّ الشّرّ مترتّب
عليه.
واستتباع هذا
التّرتّب أيضا ليس له بما هو وجود ، بل بما يحتفّ به من الخصوصيّات والاتّفاقات. وأمّا
وجود لا يستضرّ به شيء فى ذاته أو فى كماله أو فى وجود كمال له أو فى سلوكه بطباعه
وقوّته إلى ما هو كمال له فمن هو على غريزة الإنسانيّة لا يعدّه شرّا بالذّات أو بالعرض.
فإذن ،
التّقرّر والتّجوهر والوجود والأيسيّة على الإطلاق خير ، والشّرّ هو اللّيس والعدم
بما هو ليس وعدم ، لا من حيث هو متمثّل فى الذّهن ، والمتّكل عليه هذا البرهان. والاستقراءات
فى كلام الفلاسفة بمحاولة التّمثيلات فإنّما هى لدفع النّقوض أو توضيح الحكم. وهذا
هو تحقيق ماهيّة ما هو شرّ فى نفسه وبالحقيقة اصطلاحا.
وأمّا ما اصطلح
على أنّه شرّ بالقياس والإضافة ، أى ما هو شرّ لشخص ما عنده ، كما أنّه شرّ بالنّسبة
إليه حسب نفس الأمر ، فماهيّته أنّه أحد الأمور العدميّة المذكورة بالإضافة إليه. ولكن
من حيث هى غير لائقة أو غير مؤثرة عنده.
وبالجملة ،
الشّرّ بالذّات هو فقدان شيء ما كماله ، إمّا من حيث هو فقدان أو من حيث هو فقدان
غير مؤثر عنده. وإنّما يطلق على أسبابه بالعرض لتأديتها إليه ، وكذلك على الأخلاق
الرّديّة الّتي هى من المبادى لتلك التّأدية وكذلك الآلام ، فإنّها ليست بشرور من
حيث هى إدراكات لامور ولا من حيث وجود تلك الامور فى نفسها أو صدورها عن عللها ، وإنّما
هى شرور بالقياس إلى المتألّم الفاقد لاتّصال عضو ، من شأنه أن يتّصل من حيث ذلك
الفقدان بما هو فقدان فى نفس الأمر أو بما هو غير مؤثر عنده. وذلك فى الحسّيات ؛
أو الفاقد لما يليق سنخ النّفس النّاطقة من حيث فقدان اللاّئق بها بما هو ذلك
الفقدان فى نفسه أو بما هو فقدان لا يليق أو لا يؤثر عنده (٣٠).
فقد تحصّل : أنّ
الشّرّ فى ماهيّته سلب تجوهر وعدم وجود أو عدم كمال
لموجود يليق هو به ، وفى قوّته أن يتجمّل بذلك الكمال من حيث إنّه عدم
الكمال اللاّئق به بحسب نفس الأمر أو من حيث إنّ ذلك العدم غير لائق أو غير مؤثر
عنده ، وإنّ الموجودات ليست من حيث هى موجودات بشرور ، وإنّما هى شرور بالقياس إلى
الأشياء العادمة كمالاتها ، لا لذواتها وبما هى موجودات ، بل لما يتّفق من كونها
مؤدّية إلى تلك الأعدام.
فالشّرور أمور
إضافيّة مقيسة إلى نظامات شخصيّة لأفراد بخصوصيّاتها وأشخاص بأعيانها. وتلك الامور
الإضافيّة إمّا شرور بالحقيقة ، بمعنى أنّها شرور لتلك الشّخصيّات بحسب نفس الأمر
، أو بالقياس ، بمعنى أنّها شرور لتلك الأشخاص عندها بحسب عدم إيثار الطّبائع والنّفوس
إيّاها. وهى بأىّ ما أخذ من المعنيين إنّما هى بالقياس إلى النّظامات الشّخصيّة من
حيث شخصيّة النّظام الجزئىّ. وأمّا بالقياس إلى الكلّ والنّظام الجملىّ. فلا شرّ
أصلا ، لا فى نفس الأمر بالنّسبة ولا عنه.
فمن المترقّب
تحقيقه لك من ذى قبل إن شاء اللّه ـ تعالى ـ التّبرهن على أن النّظام الجملىّ ليس
يمكن أن يتصوّر على ما هو أفضل وأتمّ ممّا هو عليه. وتقرّر نظام فوق تجوهر هذا
النّظام فى الفضل والتّمام من الممتنعات بالذّات ، وإنّما يختلق الذّهن أنّ هذا
المفهوم عنوانه بحسب التّقدير.
وكذلك هذا
النّظام الموجود فى عالم الطّبيعة أيضا على أتمّ ما يمكن أن يكون وأفضله ، ولا
نظام أتمّ فى أفق الإمكان بالذّات وأنّه ليس فى الموجودات أمر ما بالاتّفاق ، بل
كلّه : إمّا طبيعيّ بحسب ذاته ، كحركة الحجر إلى أسفل ؛ وإمّا طبيعيّ بالنّظر إلى
ذات الكلّ وطباع النّظام الجملىّ وإن لم يكن طبيعيّا بالقياس إلى ذاته وبالنّظر
إلى طباع النّظام الجزئىّ ، كوجود الأصابع آلة للإنسان. وكلّ أجل فإنّه طبيعىّ
بالقياس إلى طباع شخص النّظام الجملىّ الشّريف الكريم التامّ الفاضل وإن لم يكن
طبيعيّا بالقياس إلى شخصيّة النّظام الجزئىّ بطباعه الفردىّ.
ثمّ حقّ
المسألة ، على ما أدّى إليه إسباغ النّظر لطبخ الفلسفة وفسخ التّفلسف وبلوغ الفحص
، استيجاب أن تنضج الحكمة نضجا تجنى أنّ الماهيّات الإمكانيّة
بما يستغرقها من طبيعة الإمكان من لوازمها المسبوقيّة فى تجوهر سنخ الحقيقة
وتقرّر قوامها وفى تأيّس ذواتها باللّيس المطلق البسيط المستوعب مسبوقيّة دهريّة
إزاء لسبق الجاعل عليها سبقا سرمديّا بحسب وعاء الدّهر والسّرمد. وذلك من جهة
الحدوث الدّهرىّ.
وينقلب ذلك السّبق
حيث تتجوهر الماهيّة وتتقرّر بأن يبدعها الجاعل ، فتتأيّس معيّة سرمديّة. ولها
أيضا ـ حين ما هي متقرّرة مسبوقيّة بذلك العدم المستوعب ـ مسبوقيّة بالذّات وبالجاعل
مسبوقيّة بالمعلول مع المعيّة السّرمديّة. وذلك من جهة الحدوث الذّاتىّ ، والحكمان
يستغرقان قاطبة الممكنات.
فالماهيّة
المعلوليّة الممكنة ـ حين ما هى بالفعل من جنبة جود الجاعل ـ لها معنى ما بالقوّة
من جهة فقر الذّات. فلها فى الآزال والآباد شرّيّة العدم بالإمكان من حيث الذّات وإن
كانت هى بعينها ما بالفعل من جنبة فضل العلّة الجاعلة ، وهذه هى حيثيّة الخيريّة
بالفعل. ولها أيضا شوب شرّيّة العدم السّابق عليها سبقا سرمديّا ؛ إذ الحقيقة
المتقرّرة الإمكانيّة فى سنخ طباعها سبق العدم عليها ذلك السّبق ، كما أنّ فى سنخ
طباعها سبقه عليها السّبق بالذّات بحسب المرتبة فى لحاظ العقل. حين إذ هى متقرّرة
مخلوطة بالإيسيّة بحسب نفس الأمر.
وشائبتا هاتين
الشّرّيّتين من اللّوازم الضّروريّة للمعلولات ولا تنسلب عنها فى حكم العقل مع
استثبات الملزومات فى لحاظة الذّهن ، كسائر لوازم الماهيّة الممتنع سلخها عنها
(٣١) ، كما يمتنع سلخ الزّوايا عن المثلّث لما كانت من لوازم ذاته المعلولة لماهيّته.
ولكن لا يستنكر
أن يغتفر مثل هذه الشّريّة بكلا ضربيها ، لكونها غير عريّة عن اقتران الخيريّة من
جهة الأيسيّة بالفعل وإن كانت من جنبة الجاعل ، فيعبّر عنها بفاقريّة الذّات وبطلان
الحقيقة ونقصان الماهيّة.
فلذلك ما أنا
ربما لا أمنع بل أستصحّ أن يقال : ما فى عالم الأنوار ، وهو عالم الملكوت ، أعنى
الأنوار العقليّة والمفارقات النّوريّة ، بريئة عن وجوه الشّرّية ؛ بل إنّما
لها فى حدّ حقائقها من حيث هى هى فاقة الذّات وبطلان الحقيقة ، لأنّها
حقائق متجوهرة متأيّسة بالفعل وإن كان لها حين ما هى بالفعل أنّ العدم البسيط
المستوعب قد سبقها السّبق السّرمديّ ، وأنّ فى حقائقها معنى ما بالقوّة من حيث سنخ
الذّات ، لا من جهة فضل الجاعل ورحمته.
وحيث إنّه ليس
يصحّ أن يكون لها معنى ما بالقوّة ؛ إذ كلّ ما فى طباعها إمكان أن تتجمّل به
ذواتها فقد تزيّنت حقائقها به بالفعل ولا يتصوّر هناك كمال وبهاء منتظر يؤجّل بأمد
ويرهن باستعداد.
والشّرّية لا
تعترى الشّيء إلاّ أن يكون هو ممّا يقع تحت معنى ما بالقوّة ويكون له معنى ما
بالقوّة جميعا. وليس كذلك إلاّ أهل عالم الظّلمات ، وهو عالم الملك.
فيكون الشّرور
يختصّ الاحتفاف بها بالمحبوسين فى كورة الزّمان والمسجونين فى سجن الهيولى ويتضاعف
بتكثّر جهات القوّة إلى حيث تشاب حيثيّة فعليّة الشّيء بما هى فعليّة ذلك الشّيء
بتضمّنها لحيثيّة القوّة ولا يكون حظّة من الأيسيّة إلاّ الوجود على وصف الوحدة
المبهمة والاستعداد المطلق ، وينحصر ذلك فى حقيقة الهيولى ؛ فهى أكثر الموجودات وأشدّها
شرّيّة وأقلّها وأضعفها خيريّة.
وإذ دريت : أنّ
حيثيّة الخيريّة على الإطلاق من جنبة جود القيّوم الواجب بالذّات وظلّ خيريّته
الحقّة ووموض حقيّته المحضة. فتنضّج المسألة أن يقال : الخير إمّا حقيقىّ وإمّا
إضافىّ. والخير الحقيقىّ واحد لا يتكثّر ، وهو الأحد الّذي هو وجود وتقرّر بذاته وتامّ
وفوق التّمام بنفسه ؛ والخير الإضافىّ ما عداه ومنه خيريّته ويترتّب كالموجودات.
فكلّ ما خيريّته أكثر فهو خير ممّا فيه الخيريّة أقلّ ، وخير الخيرات الإضافيّة فى
سلسلة البدء أقرب مجعولات الخير الحقيقىّ إليه.
فكما أنّ ما
ذاته وأكثر كمالاته بالفعل فهو أحقّ بالوجود ممّا ذلك له بالقوّة ، وكلّ ما فيه ما
بالقوّة أقلّ فهو أولى بالوجود ممّا فيه ما بالقوّة أكثر. وعلى هذا التّدرّج إلى
أن تنتهى مراتب الوجود فى جانب النّقصان إلى ما لا يكون له حصّة فى الوجود إلاّ
الوجود نفسه ويكون من جميع الجهات بالقوّة إلاّ من جهة نفس سنخ التقرّر
وأصل الوجود ، وهو الهيولى.
ثمّ يترتب ما
يكون وجوده وكمالاته بالقوّة ، فيكون ما كذلك بقوّة أقرب إلى الفعل أولى بالوجود
ممّا كذلك بقوّة أبعد ، وينتهى التّدرّج فى هذا الجانب أيضا إلى ما يمتنع وجوده
بذاته ، ولا يكون له ماهيّة تصوّريّة. وإنّما يختلق الذّهن أنّ بعض متصوّراته
ماهيّة لذلك العادم أصل جوهر الماهيّة والفاقد رأس مطلق الأيسيّة.
فكذلك ، إنّ
الخيرات أيضا تترتّب إلى أن تنتهى فى جانب النّقصان إلى ما يتعرّى عن الخيريّة
بالفعل ، ونصيبه من الخيريّة فعليّة قوّة الخيريّة.
وبعد ذلك
تترتّب الشّرور : فما فيه شرّ أقلّ خير ممّا فيه شرّ أكثر إلى أن ينتهى إلى ما هو
شرّ من جميع الجهات لذاته ، ولا خيريّة فيه لا بالفعل ولا بالقوّة ، وهو الممتنع ،
ولا تقرّر له : حتّى فى التّوهّم ، بل إنّما يفرض العقل أن مفهوما ما بإزائه على
التّقدير.
وهذه الإحقاقات
الفحصيّة ما زاغت عنها أبصار عقول الفلاسفة المتهوّسين بإثبات القدم للمعلولات
بالغفول عنها رأسا وإن كانوا لم يقفوا على خفايا الدّقائق ولم ينالوا خبايا
الأسرار على حقوقها إلاّ شوب الشّرّيّة بحسب الحدوث الدّهرىّ (٣٢) ؛ فإنّ ذلك ممّا
آتانيه ربّى من الحكمة وخلقنى لأن احاول إيفاء حقّه من إعمال القريحة وإعطاء نصيبه
من الأنظار الصّحيحة. وإنّهم عنه لفى ذهول عريض وضلال بعيد وزيفة صرفة وغفلة
ساذجة.
ثمّ إنّ أصل
دخول الشّرور فى عالم التّقرّر ونظام الوجود بالعرض أكرم لدى العقل من أن تقنع
النّفس بهذا القسط من القول فيه ، ولكنّه سيعاد حيث يحين حينه فى بعض المسافات
الرّبوبيّات والمقالات الإلهيّات إن شاء اللّه ـ تعالى ـ الحكيم العليم ، وفيّ
السّابقات العاليات وولىّ الباقيات الصّالحات.
<٥> إيقاظ وتوهين
أليس فى طباع
الضّدّين من حيث هما ضدّان أن يأبيا الاجتماع فى الموضوع
لا الورود على التّعاقب ، أى أن يعقّب أحدهما الآخر بالورود على الموضوع أو
يستعقبه. فطبيعة الضّديّة تقتضى أن يكون كلّ من المتضادّين فى نفسه بحيث يكون لحاظ
مفهومه بما هو هو لا يستوجب أن يكون انسلابه عن الموضوع مساوقا لانتفاء الموضوع فى
نفسه. فما فى طباع مفهومه أن يكون انسلابه عن موضوعه بارتفاع ذلك الموضوع فى نفسه
، كالإنسانيّة والفرسيّة ، مثلا ، لا يتصوّر أن يكون له ضدّ أصلا.
وكأنّك غير ناس
أنّ الوجود هو موجوديّة الشّيء ولا ينسلب عن الشّيء إلاّ بأن يبطل الشّيء فى سنخ
حقيقته ، أعنى : أنّ ذلك بحسب نفس طباع مفهوم الوجود.
فإذن ، ما أظهر
لك أن ليس الوجود يتصوّر له ضد ، وإذ لا طبيعة أعمّ من الوجود يندرج هو تحتها ويشاركه
غيره فيها وفى لوازمها ، فلا يتصوّر لطبيعة الوجود مثل أيضا.
وحيث إنّها
طبيعة مصدريّة غير متخصّصة إلاّ بالإضافة وليس لها أفراد ، بل إنّما حصص متقوّمة
بنفس الإضافة إلى موضوعات متكثّرة ، كما استبان لك فى ما قد سلف ؛ فلا يصحّ أن
يتصوّر وجودان متماثلان بما هما فردا طبيعة الوجود ، بل إنّما حصّتان منتزعتان من
شيئين هما متماثلان فى هويّتهما فقط ، كما لها حصّتان منتزعتان من شيئين هما
متضادّان فى نفسهما.
فإذن ، لا
وجودات متماثلة أو متضادّة بما هى وجودات مع عزل النّظر عن المتماثلات أو
المتضادّات المنتزعة هى منها. كما أنّه لا مماثل أو مضادّ لطبيعة الوجود. فإذن
مقابلة الوجود للعدم ليست على التّضادّ ، بل على أنّها تقابل السّلب والإيجاب.
وأمّا التّمسّك
: ـ بأنّ اشتراك طبيعة الوجود على العموم يوجب عروضها لمعروض ما يفرض ضدّا أو مثلا
لها ، فيلزم اجتماع الضّدّين أو المثلين بالفعل أو بالإمكان ، وعروض الضّدّ للضدّ
أو المثل للمثل كذلك ـ فيوهنه منع عروضها لجميع المعقولات من جميع الحيثيّات ،
فإنّها لا تعرض المعدوم بما هو معدوم.
فلو قيل : إنّ
لها ضدّا ليس يمكن أن يتمثّل فى وجود أو وهم أبدا ، كالعدم بما هو عدم ، لا بما هو
أحد المعقولات ؛ أى لا من حيث إنّه مفهوم السّلب مضافا إلى طبيعة الوجود ، بل بما
يقال : إنّه مصداق هذا المفهوم ، أعنى انتفاء الذّات فى نفس الأمر ، لا مفهوم
انتفاء الذّات فى نفس الأمر ؛ لم يكن موجب ما ادّعى لزومه ؛ ثمّ عروض الشّيء لضدّه
غير مستبين الفساد ؛ فالأحرى الاقتصار على الاجتماع فى المعروض.
<٦> لحاقة
فإذن طبيعة
الوجود مخالفة للمعقولات غير منافية لها ، إذ كلّ معقول معروض لمطلق الوجود فكيف
ينافيه.
وإن أشكل عليك
الأمر فى العدم ، فإنّه من المعقولات والوجود مناف له. قيل لك: أما استبان لديك :
أنّ العدم المطلق يعرضه الوجود بما هو مفهوم ثابت فى الذّهن ، وهو السّلب المطلق
المعقول مضافا إلى ماهيّة ما مقولة ، لا بما هو انتفاء الذّات مطلقا ، وهو مصداق
هذا المفهوم. ومن المستحيل أن يرتسم فى عين أو وهم ؛ وإنّما يحمل عليه مفهوم ما
بعقد غير بتّىّ على السّبيل المسلف بالذّكر. فما هو إحدى حاشيتى المنافاة إنّما هو
مفهوم العدم (٣٣) المطلق بما يجعله الذّهن عنوان الانتفاء المستحيل أن يتمثّل فى
الأعيان والأوهام ؛ ومعروض مطلق الوجود هو بما هو مفهوم مرتسم فى العقل.
وهذا القول
يطّرد فى العدمات الخاصّة بآحاد أنحاء الوجود أيضا ؛ إذ التّحليل إلى الحيثيّتين
على هذا القياس يتأتّى فى رفع كلّ نحو من أنحاء الوجود عن ذات ما بحسب لحاظ العقل
، إلاّ أنّ هناك سبيلا أخر أيضا ، حيث إنّ العدم الخاصّ له بخصوصيّة حظّ ما من
الوجود. ولهذا ما إنّه يفتقر إلى موضوع خاصّ كما يفتقر الملكة إليه. ثمّ مطلق
الوجود المتحقق بنحو ما من أنحاء وجود الشّيء يقابله العدم المطلق المساوق لرفع
جملة الموجودات.
وقد يجتمعان لا
باعتبار التّقابل ، كما فى تصوّر المعدوم المطلق ، إذ قد انسلبت
عنه جميع الوجودات فى هذا الاعتبار ، مع أنّ هذا الاعتبار بعينه ، نحو وجود
له ، ويعقلان معا ، لأنّ تصوّر العدم المطلق ـ وهو الرّفع المضاف إلى مطلق الوجود
ـ لا ينسلخ عن تصوّر ما أضيف إليه بأنّه رفعه ويعرض أحدهما الآخر ؛ فإنّ العدم
المطلق متصوّر ، والتّصوّر فرد من أفراد مطلق الوجود ، فقد عرضه بحسبه مطلق الوجود
وإن كان العدم ليس عدما بما هو متصوّر ، بل بما هو سلب للذّات ورفع للوجود. ولنعطف
الآن إلى النظر بما يهمّنا من أحوال العدم.
<٧> مدخل استبيانيّ وردع برهانىّ
ألست قد تعرفت
: أنّ فعليّة الماهيّة ـ أعنى مرتبة نفسها الصّادرة عن الجاعل ، كالإنسانيّة ـ
متقدّمة على مرتبة الموجوديّة المنتزعة ، وأنّه إذ لا جعل للماهيّة ؛ لا أنّه لا
وجود للماهيّة ، كما يحسبه الظّانّون. فاحكم بأنّ السّلب كما يتعلّق بمرتبة الوجود
كذلك يتعلّق بمرتبة التّقرّر والفعليّة ، وهو سلب نفس الماهيّة بحسب قوامها فى
نفسها ؛ بل سلب الماهيّة هو الّذي يستتبع سلب الوجود على قياس التقرّر والوجود.
فإن لجّ لاجّ :
أنّ الرّفع مقصور البتّة على الإضافة إلى الثبوت ، فإن أضيف فى ظاهر الأمر إلى شيء
رجع عند التّحقيق إلى ثبوته.
فاستفت وقل :
فما الّذي هو بإزاء إبداع الجاعل نفس الماهيّة ، وما المقابل للأثر المترتّب على
ذلك الإبداع أوّلا وبالذّات؟ وهل يستلزم عدم الجعل البسيط إلاّ رفع ما هو متعلّقه وأثره؟
وأ هذا الحجز بالنّسبة إلى لفظ الرّفع بحسب الاستعمال فى الصّناعة؟ أو هو ضدّ حقيقة
السّلب المساوق لما يستفاد من مطلق كلمة النّفى عن غير الموجوديّة المصدريّة؟ وكيف
يكون ما يخرج من اللّيس المطلق والسّلب البسيط هو نفس الماهيّة ، وما هو المسلوب
ليس إلاّ الموجوديّة.
وليت هذا
اللاّجّ يقلّد أتباع المشّائيّة على أنّ أولئك لا يصحّ لهم أيضا ذلك ؛ إذ هم
يفقهون مرتبتى الفعليّة والوجود ، ويفرّقون بين الأحكام بحسبهما.
نعم من اصطلح
على تخصيص العدم برفع الوجود عن الماهيّة إزاء لمتعلّق الجعل المؤلّف ـ أى :
موجوديّة الماهيّة وجعل اللّيسيّة المطلقة والسّلب البسيط لرفع مرتبة التّقرّر
إزاء لمتعلّق الجعل البسيط أى ؛ نفس الماهيّة ، وهو ممّن قد حصّل أنّ الليسيّة
المطلقة ، أى : السّلب البسيط والعدم ، وهو رفع الوجود ، أى سلب الموجوديّة
المساوقة للهيئة التّركيبيّة سلبان متساوقان غير ممكنى الانسلاخ عن لزوم المقارنة
فى التّحقيق بحسب نفس الأمر ، لا بحسب اعتبار العقل على سبيل أنّ اللّيسيّة
المطلقة هى المستتبعة لسلب الموجوديّة ـ فلا جناح عليه فى ما اصطلح.
<٨> تنبيه
هل أنت متذكر
ما تحقّق لديك ، من أمر الوجود ، فاتّخذه أسوة للقول فى العدم وتعرّف أنّ العدم ،
حيث إنّه سلب الوجود ، فحقيقته سلب صيرورة الماهيّة فى الأعيان أو فى الذّهن ، لا
على أن تكون الصّيرورة ملحوظة بالذّات حتّى يكون العدم سلب الصّيرورة ، بل على أن
لا يكون الملحوظ إلاّ نفس الماهيّة فى الأعيان أو فى الذّهن.
فإذن ، ليس
حقيقة العدم إلاّ سلب الماهيّة ، بمعنى انتفائها فى نفسها فى الأعيان أو فى الذّهن
، ويحكم العقل بأنّه يتبع ليسيّة قوام الماهيّة وسلبيّة تقرّرها من جهة عدم جعل
الجاعل نفسها جعلا بسيطا ، فإنّ الطّبيعة الإمكانيّة ليس لها (٣٤) بما هى طبيعة
إمكانيّة التّقرّر واللاّتقرّر ، بل حدّ حقيقة الإمكان سلب صرف ساذج وليس بسيط
مطلق ، لا فيه أو بحسبه الماهيّة ولا سلب الماهيّة ؛ ويتبع ذلك بحسب حكم العقل أن
لا فيه أو بحسبه الوجود ولا سلب الوجود.
فما أشدّ بطلان
طبيعة هى أفق القوّة الصّرفة السّاذجة الّتي لا تعقل بحسبها فعليّة الوجود ، ولا
فعلية سلب الوجود ، ولا فعليّة الماهيّة ، ولا فعليّة لا فعليّة الماهيّة.
جلّ مجد من يحقّ
مثل هذه الطبيعة الباطلة ويخرجها من ظلمات هذه القوّة المتراكمة الغسق إلى نور
فعليّة الحقيقة وتجوهر الماهيّة وضوء شيئيّة الذّات وليسيّة الوجود.
<٩> تلويح وكشف
كأنّك إذن بما
أصغيت إليه بصماخ عقلك متحدّس أنّ بقعة العدم بجملة ما وسعته سلب بسيط متّصل ، لا فيه
انفصال ولا تميّز ، ولا فى الواقع أعدام متمايزة لمعدومات متغايرة ، ولا حصص من
السّلوب متكثّرة لمسلوبات متعدّدة. وكما أنّ المعدوم فى ظرف ما ليس هو بشيء فى ذلك
الظّرف ، كذلك العدم فى ظرف ليس شيئا فيه. وإنّما التّمايز فى الأعدام من جهة أنّ
العقل يتصوّر أشياء يضيف إليها مفهوم العدم ، فتتقوم حصص بالإضافة يقال لها أعدام
لمعدومات متكثّرة عند العقل. والعدم فى نفسه معنى بسيط واحد لا يتحصّص إلاّ
بالإضافة ولا يتكثر إلاّ بتكثّر موضوعات متمايزة فى الذّهن.
فالعقل يتصوّر
العلّة والمعلول والشّرط والمشروط والضّدّ والضّدّ ، وينسب مفهوم العدم إليها ،
فيحصل عنده عدم العلّة متميّزا عن عدم المعلول ومختصّا من جملة الأعدام بالعليّة
له ، ويتميز عدم الشّرط عن عدم المشروط وعدم سائر الأعدام ، ويختصّ بأنّها تنافى
وجود المشروط. وكذلك عدم الضّدّ يتميّز ويصحّ أنّه يصحّح وجود الضّدّ الآخر.
وأمّا مع عزل
النّظر عن لحاظ العقل فلا يتميّز عدم عن عدم ، بل ليس عدم وعدم ومعدوم ومعدوم أصلا
والوهم يجد اليد ، مثلا ، ممتازة عن الرّجل فى الأعيان ، فيغلط ويقول : عدم اليد
غير عدم الرّجل فى الأعيان. ولو كان الأمر كما يحسبه الوهم لكان فى كلّ شيء أعدام
متضاعفة إلى لا نهاية وسلوب غير متناهية مرّات لا متناهية. فإذا كان زيد فى الدّار
، مثلا ، كان فى الدّار أعدام متمايزة لا متناهية مرّات متضاعفة إلى لا نهاية.
وبالجملة ،
الحكم بالتّميّز فى أفق العدم من جهالات الموهم ، وإنّما تمايز الأعدام بالملكات
فى حكم العقل بما هى ثابتة فى الذّهن ، لا بما يصدق عليها العدم وتنتفى بها
الملكات.
فإذن ،
التّسلسل فى العدمات إنّما يقال بمعنى اللاّنهاية اللاّيقفيّة ويرجع إلى التّناهى
العددىّ ، ولكن على أن لا يتعيّن التناهى بمرتبة بخصوصها ولا يتحدّد الانتهاء
بالوقوف على حدّ بعينه ، بعد أن تنحفظ طبيعة التّناهى بحسب العدد ؛ فإنّ الواقع فى
وعاء العدم ريثما يعلّل عدم بعدم ، كعدم العنقاء ، مثلا ، بعدم علّته ، وعدم علّته
بعدم علّة علّته ، إلى حيث يلحظ العقل هو أن ليس هناك شيء ، والعقل يفصّل هذا
اللّيس إلى عدم هذا وعدم ذاك تفصيلا يشبه تفصيل المتّصل الواحد إلى هذا الجزء وذاك
الجزء.
فكما أنّه ليس
فى المتّصل الواحد كثرة فى نفس الأمر وإنّما تحصل الكثرة باعتبار العقل ؛ فكذلك
ليس فى اللّيس المذكور كثرة فى نفس الأمر وإنّما يلحق التكثّر فى اعتبار العقل.
وكما أنّ بعد
حصول الكثرة يصحّ الحكم بالتقدّم والتأخّر بين تلك الأجزاء بحسب المكان فكذلك بعد
لحوق التكثر يصحّ الحكم بالتّقدّم والتأخّر بين تلك العدمات بالعلّيّة والمعلوليّة.
وكما أنّ
اللاّنهاية فى الأجزاء بمعنى عدم تعيّن الانتهاء بالوصول إلى جزء لا يمكن فرض جزء
آخر فيه ، لا بمعنى فعليّة أمور غير متناهية بحسب العدد ، فكذلك التّسلسل فى
الأعدام بمعنى عدم الانتهاء إلى عدم لا يصحّ للعقل اعتبار عدم آخر يتقدم عليه
بالعلّيّة ، لا بمعنى ترتّب أمور غير متناهية.
ففى كلّ ليس
مفروض معتبر مع علله المفروضة ليس إلاّ ليس واحد غير متكثّر بل ليس فى الليس إلاّ
ليس واحد غير متكثّر على معنى أنّه ليس تحقّق شيء ما (٣٥) لا أنّه يتحقّق ليس ،
فإنّه ليس فى نفس الأمر شيء هو عدم ؛ ولذلك لا يجاب عنه بشيء فى سؤال ما هو. فإذن
مرجع عروض العدم إلى عدم عروض الوجود ، وعدم عروض الوجود ليس بعروض فرد من العدم.
<١٠ > أصل فيه شكّ وإزاحة
العدم كما أنّه
يعرض لغيره فكذلك يصدق على نفسه اشتقاقا ، فإنّ العقل يتصوّر العدم المطلق ويحكم
بأنّه معدوم فى الخارج.
ولعلّك تقول :
فإذن يحصل بإضافة العدم إلى نفسه عدم العدم ويكون مقابل العدم ونوعه. وبينهما
تدافع ؛ لأنّ النّوعيّة توجب حمل ما هو الجنس على ما هو النّوع مواطاة ، وعلى ما
يحمل عليه النّوع مواطاة واشتقاقا ذلك الحمل بخصوصه.
فما أظهر أنّ
عروض النّوع بل الأخصّ مطلقا بشيء يلزمه عروض الجنس أو طبيعة الأعمّ مطلقا له ، بل
إنّ عروضه هو بعينه عروضه. وما أشدّ سخافة وهم من يتوهّم أنّ النّوعيّة بحسب حمل
المواطاة ومقتضاها الصّدق بحسبه ، والتّقابل بحسب الحمل الاشتقاقىّ على ثالث ، وسبيله
امتناع الاجتماع بحسبه فى ذلك الثّالث.
فيقال لك : هذا
أيضا ممّا تنحلّ عقدة الإعضال فيه بأنامل ما أصّلناه فى قسطاس الفرديّة ، وهو من
مستصبات الشّكوك المعضلة.
أفليس لك أن
تجد ـ إن حكمت بالقسطاس ـ أنّ عدم العدم فرد من أفراد العدم باعتبار طبيعة أنّه
طبيعة العدم من قيد «لا» من حيث خصوص القيد فى نحو لحاظ التّعيّن والإبهام ، فإنّه
من حيث تلك الخصوصيّة هو هذا الفرد بخصوصه ، وهو شيء هو غير طبيعة الفرد فى ذلك
اللّحاظ ومقابل له من حيث الخصوصيّة لا من جهة مطلق الفرديّة.
ولا أظنّ بك أن
تشكّ فى ما تحكم به فطرة العقل ما لم يكن سقيم الطّباع. وهو أنّ التّدافع إنّما هو
بين التقابل وسنخ مطلق الفرديّة ، لا بينه وبين التّخصّص بخصوصيّة هذه الفرديّة
على التّميّز من غير أن يجعل النّظر إليها مخلوطا بلحاظ سنخ الفرديّة غير متميّز
عنه وإن كان ذلك السّنخ وهذه الخصوصيّة متخالطين فى الوجود. فهذا سبيل اختلاف
الحيثيّة التّقييديّة فيه ، فلا تكن من القاصرين.
<١١ > أوهام يزعم أنّها تفصّيات
هل بلغك حديث
من يتمنّى التّفصّى ، فيسرد أنّ موضوع التّقابل هو مسمّى لفظ عدم العدم ، وهو لا
عدم ، لا أنّه عدم ، فليس من أنواعه ، وموضوع النّوعيّة نفس مفهومه ، وهو ما عيّن
مسمّاه به فى الذّهن. والمسمّى قد يتناول ما عيّن هو به ، وهو الحاصل منه فى
الذّهن كالمفهوم ، فيطلق اللّفظ الموضوع للمسمّى عليه حقيقة ، وقد لا يتناوله ،
كاللاّمفهوم ، إذ ما يحصل منه فى الذّهن مفهوم ، فيطلق عليه اللّفظ الموضوع
لمسمّاه المقابل للمفهوم على سبيل التّوسّع. فلفظ عدم العدم يطلق على مفهوم فى
الذّهن ، وهو العدم المضاف إلى نفسه توسّعا ، وعلى مسمّاه الّذي هو موضوع التّقابل
، وهو اللاّعدم حقيقة ، فيختلفان.
ولست أدرى كيف
يفرّق بين المسمّى والمفهوم ، أينسى ما حصّله أهل التّحصيل أنّ الألفاظ إنّما توضع
للصّور الذّهنيّة بالذّات وللحقائق الّتي تلك عنوانات لها بالعرض؟ وأيجوز إهمال
حيثيّتى الحملين وتذكّر أنّ شيئا لا يسلب عن نفسه ، وكلّ مفهوم يحمل على نفسه
الحمل الأوّلىّ الذّاتىّ ، ثمّ طائفة من المفهومات تحمل على أنفسها الحمل الشّائع
الصّناعىّ أيضا. ولذلك اعتبر فى وحدات التّناقض وحدة الحمل فوق الوحدات الثّمان.
وهل أتاك نبأ
من يتصدّى لسدّ ثغور الحكمة ويقوم بإصلاح شأن الفلسفة ، ثمّ يقول فى دفع هذا
الإعضال أنّ النّوعيّة من حيث إنّه عدم مقيّد والتّقابل من حيث إنّه رفع للعدم ولا
يقرنه بما يكثّر الجهة ، وإنّه لا يجبّ عرق الشّبهة إلاّ تكثير الحيثيّة
التّقييديّة الموقعة تكثّرا فى ذات الموضوع دون التّعليليّة الغير المجدية لتحصيل
الكثرة فى ما يحوج الأمر إلى تكثّره.
وأسمعت الّذي
يتقضّى : بأنّ العارض للعدم هو حصّة من العدم محصّصة تحصّص
العارض بالمعروض ، وهذا لا يقابل العدم ، بل هو نوع منه ومعروضه
__________________
معدوم (٣٦) ، والمقابل له هو عدم العدم الّذي تحصّصه بالعدم سابق على
العروض ويصير بعد اعتبار عروضه له عدم العدم ومعروضه موجود ، فالمعنيان متغايران.
ولا يتوهّم :
أنّ معروض الأخير إن لم يتّصف بالعدم المطلق تحقق المقيّد بدون المطلق وإن اتّصف
به كان موجودا ومعدوما ، لأنّه متّصف به ، بمعنى أنّه سلب عنه شيء ما ، والمعدوم
بهذا المعنى لا يقابل الموجود ، إنّما المقابل له هو بمعنى ما سلب عنه الوجود ، ويعترف
بعدم حسمه لمادّة التّشكيك. إذ لو قيل : «إنّ عدم العدم الّذي تخصّصه بالعدم سابق
على العروض عدم مقيّد بقيد ، فيكون نوعا منه ولا يجتمع مع العدم فى موضوع فيكون
مقابلا له» ، لتأتّى.
ثمّ نقول :
الحقّ أنّ هذا المقيّد من حيث إنّه عدم مقيّد بقيد مع قطع النّظر من خصوصيّة القيد
نوع منه ومن حيث إنّه رفع للعدم مقابل له. فالمنظور إليه فى الاعتبار الأوّل هو
كونه عدما مقيّدا بقيد وفى الاعتبار الثّاني هو كونه رفع العدم وسلبه. فالموضوع
مختلف بالاعتبار. كما يقال ، مثلا فى معالجة الشّخص نفسه : إنّه ، من حيث إنّه
معالج ، غيره من حيث إنّه مستعلج. فالمؤثّر النّفس من حيث ما لها من ملكة المعالجة
، والمتأثّر هى من حيث ما لها من قبول العلاج. وفى علم النّفس بذاتها إنّها من حيث
حضور مجرّد عندها عالم ، ومن حيث إنّها مجرّد حضر عند مجرّد معلوم ؛ فموضوع العالميّة
يغاير موضوع المعلوميّة بالاعتبار.
ولا يستشعر أنّ المقيّد باعتبار مطلق
التقييد مع عزل النّظر عن خصوصيّة القيد إذا كان نوعا من العدم بمعنى الأخصيّة منه
كان باعتبار الخصوصيّة أحرى بأن يكون كذلك. ونوعيّة الأوّل بالقياس إلى طبيعة
العدم غير مدافعة لأن يكون الثّاني أيضا نوعا منه ، بل محقّقة لذلك.
ثمّ كيف يسوغ أن يظنّ أنّ علم المجرّد
بذاته ممّا يحوج إلى تكثّر جهة تقييديّة فيه على أن يكون فى ذاته شيء بإزاء
العالميّة وآخر بإزاء المعلوميّة ، ولا يتجشّمه من يعدّ من ذوى التّحصيل فى
الصّناعة ، فضلا عن أن يرتضيه من فى نفسه قوّة
طابخة للفلسفة ولقريحته ضوءة منضجة للحكمة.
فقد استبان
لاولى البراعة فى العلم أنّ معقوليّة الشّيء هى كون ماهيّته المجرّدة لشيء وعاقليّته
هى كون ماهيّة مجرّدة لشيء له بلا شرط أن يكون ذلك الشّيء هو أو غيره ، ووجوده
المعقول فى ذاته هو وجوده لمدركه ، ووجوده لمدركه نفس معقوليّته.
فحيث إنّ
المجرّد كان وجوده لذاته بخلاف المادّىّ ؛ فإنّ وجوده فى ذاته هو وجوده للمادّة ،
فكان وجوده بعينه عقله لذاته ، وما منه بإزاء العاقليّة هو ما منه بإزاء
المعقوليّة. إلاّ أنّك إذا قايست بينه وبين الذّوات العاقلة لمعقولات هى غيرها
سمّيته باعتبارك أنّ ذاته لها هويّته المجرّدة عاقلا ، وحكمت أنّ ذلك منه بإزاء
العاقليّة وباعتبارك أنّ هويّته المجرّدة لذاته معقولا ، ووضعت هذا منه بإزاء
المعقوليّة ، لا على أنّ فى ذاته أحد الاعتبارين يخالف الآخر. فاختلاف الاسم يتبع
اختلاف الإضافة الحاصلة بالمقايسة.
ولو كان كما
يظنّ لا نجرّ الأمر فى تغاير اعتبارات ذات المبدأ الأوّل القيّوم الواجب بالذّات ـ
تعالى ذكره ـ بحسب العاقليّة والمعقوليّة وسائر الشّئون والصّفات إلى تكثّر
الحيثيّات فى ذاته ـ تقدّس مجده ـ وهل هذا إلاّ شرك صريح وزيغ فضيح فى معرفة
الجناب الرّبوبىّ. وهل يحكم البرهان إلاّ أن يتعالى عن أمثال ذلك صقع قدّوسيّته ويرتفع
عن أشباهه سدّة أحديّته. فليس هناك إلاّ تكثّر الأسماء باعتبار السّلوب والإضافات
اللاّزمة من المقايسة بينه وبين غيره ، وحيثيّة الوجوب بالذّات ، أعنى القيّوميّة
هى بعينها جملة الحيثيّات التّقييديّة الكماليّة بحيث يكذب تصوّر حيثيّتين
كماليّتين على الإطلاق ويصدق إطلاق أسماء الحيثيّات الكماليّة بالأسر على الحيثيّة
الواحدة الحقّة على أن لا يتكثّر اعتبارات الذّات ويكون إنّما المتكثّر حيثيّة
التّسمية فقط ، وكبرياؤه أعلى من ذلك كلّه. وسيتلى عليك هذا النّمط من الحكمة على
بسط ما للقول فى المسافات الرّبوبيّات إن شاء اللّه تعالى.
<١٢> استيناف إحصائيّ
العدم المقيّد
بشيء ما يكون معقولا بسبب ذلك الشّيء (٣٧) ويصحّ لحوق الاعتبارات العقليّة به من
حيث هو معقول. فالأمر العدمىّ ليس عدما محضا ، بل هو عدم مقيّد بوجود شيء ، وهو من
حيث هو كذلك أمر ثابت فى العقل ، فيصحّ أن يكون علّة لما هو مثله ، كما يقال : عدم
العلّة علّة العدم ، ويصحّ أن يكون شرطا لوجود معلوم ثابت على الإطلاق ويصير جزءا
من المفهوم عن علّته التّامّة إذا كان ذلك المفهوم مركّبا فى العقل.
والّذي أعنى
بذلك هو أنّ عدم العلّة إذا صار معقولا صحّ الحكم عليه بأنّه فى نفسه علّة لعدم
المعلول ، لا من جهة أنّه متمثّل فى الذّهن وحاضر عند العقل ، فإنّ وجوده فى
الذّهن وحضوره عند العقل مصحّح أن يصير محكوما عليه ، لا مطابق الحكم عليه
بالعلّيّة ، إذ مطابق الحكم والمحكىّ عنه بالعلة هو رفع العلّة بما هو رفع العلّة
، وأنّه ، وإن كان لم يصحّ الحكاية عنه إلاّ حين ما هو معقول ، لكن ليس إنّه يحكى
عنه بالعلّيّة من حيث هو معقول. وأمّا عدم المعلول حين ما هو معقول فإنّما يصحّ أن
يحكم عليه بأنّه علّة لعدم العلّة من حيث التّمثّل فى الذّهن والحضور عند العقل ،
لا بما هما رفع المعلول ورفع العلّة ، أليس أنّ رفع العلّة يوجب رفع المعلول ،
فيكون رفع العلّة يوجب به رفع المعلول.
وإذا رفع
المعلول لا يجب به رفع العلّة ، بل يكون قد ارتفعت حتّى ارتفع المعلول. فرفع
العلّة وإثباتها سبب رفع المعلول وإثباته ، ورفع المعلول وإثباته دليل رفع العلّة وإثباتها.
فالمعلول وجوده مع العلّة وبالعلّة ، والعلّة وجودها مع المعلول ولكن ليس
بالمعلول.
وقولنا : «عدم
فعدم» قد يقصد منه أنّ حضور كلّ منهما عند العقل يوجب حضور الآخر عنده. وهو بهذا
المعنى صادق ، سواء كان الملزوم هو عدم المعلول واللاّزم عدم علّته ، أو عكسه.
فإذن ، لعدم
العلّة حين ما هو معقول اعتباران : (١) اعتباره فى نفسه بلا شرط ، أى مع عزل النظر
عن كونه حاضرا عند العقل أو غير حاضر عنده ، (٢) واعتبار كونه حاضرا عند العقل ،
كما هما ، لعدم المعلول أيضا حين هو معقول ، وليس لعدم المعلوم علّية لعدم العلّة
إلاّ بالاعتبار الثّاني ، فعلّيّة عدم العلّة لعدم المعلول ليس إلاّ بالاعتبار
الأوّل فقط.
ولا تحسبنّ ذلك
مظنّة للدّور ، فسنلقى عليك إن شاء اللّه تعالى : أنّ معلول الشّيء بالذّات قد
يكون علّة لبعض عوارض ذلك الشّيء واعتباراته ، كما حصول الحرارة للنّار معلول
طبيعة النّار وعلّة حصولها فوق. وكما الحركة علّة الزّمان ثمّ الزّمان يفيد كون
الحركة ذات مقدار متناه أو غير متناه ؛ وكما العلّة تفيد ذات المعلول ، ثمّ
المعلول يفيد اتّصاف ذات العلّة بوصف العليّة المضايفة للمعلوليّة فضلا عن المعلول
بالعرض ، أعنى عدم المعلول من حيث هو حاضر عند العقل ، إذ ليس هو المعلول بالذّات
بما له تلك الحيثيّة ، بل المعلول بالذّات لعدم العلّة هو عدم المعلول بما هو عدم
المعلول.
<١٣> وهم وتنبيه
فإن اعتراك أن
تشكّك ، فتقول : إنّ عدم العلّة غير متميّز عن عدم المعلول بحسب الخارج ، بل بحسب
لحاظ العقل فقط ؛ وعليّة شيء لشيء بحسب ظرف ما يستلزم تباينهما بالتّميّز وعدم
المخلوطيّة بحسب ذلك الظرف.
فإذن ، لا يصحّ
الحكم بالعلّيّة بين عدم العلّة وعدم المعلول إلاّ بحسب خصوص الثّبوت فى لحاظ
العقل من الطرفين ، فلا يكون هناك فرق استونف ردعك بالتّنبيه على أنّ عدم التّمايز
بحسب الخارج إنّما هو لليسيّة الذوات وفقد الملكات وبطلان شيئيّة العدمات. وما
تأباه العلّيّة بحسب طرف ما إنّما هو خلط الذّوات بالاتّحاد فى ذلك الطرف ، لا عدم
التمايز ، لبطلان الذّات وليسيّة الشّيئيّة.
فعدم العلّة
علّة بحسب نفس الأمر ، لكنّه لمّا لم يكن يتحقق هو ولا ملكته إلاّ فى الذّهن كان
اتّصافه بالعلّيّة من هذه الجهة فى الثّبوت الذّهنىّ ، لا بالثّبوت الذّهنىّ ولا
بحسب الثّبوت الذّهنىّ ، بخلاف عدم المعلول ؛ فإنّه علّة بالثّبوت الذّهنىّ وبحسب
الحضور التّعقلىّ ؛ أى : إنّ منشأ علّية عدم المعلول والمحكىّ عنه بها هو
خصوص وجوده الذّهنىّ ، لا نفسه بما هو رفع المعلول (٣٨) ، فليس عدم حركة المفتاح
علّة لبطلان حركة اليد. بل لا يصحّ أن تبدّل حركة المفتاح ، وإلاّ وقد سبقه بطلان
حركة اليد. وكذلك فى جميع العلل. فإذن رجع الأمر إلى كون العلم بعدم المعلول علّة
للعلم بعدم العلّة ، لا لعدمها فى نفس الأمر.
وأمّا عدم
العلّة فهو محكوم عليه بالعليّة فى حدّ نفسه. لكنّ الاتّصاف بها فى الوجود
الذّهنىّ على الظرفيّة البحتة ، لا على أنّ لخصوص هذا الوجود مدخلا فى هذا الاتّصاف.
ولذلك كان عدمها علّة لعدم المعلول فى نفس الأمر وبحسبها ، حتّى أنّه لو وجد
العدمان فى الأعيان فرضا لاختصّ أيضا عدم العلّة بالعليّة وعدم المعلول
بالمعلوليّة.
وربما حوول
استيضاح ذلك بثبوت الماشى والمتكلّم فى الدّار إذا كان فيها إنسان ؛ إذ ثبوت
المتكلّم فيها باعتبار خصوص الإنسان ، وثبوت الماشى باعتبار اشتمال الإنسان على
الحيوان ، لا من جهة خصوصه ، حتّى لو كان بدله الفرس مثلا انثبت أيضا فيها الماشى
دون المتكلّم. فإذن يكون الاستدلال بعدم العلّة على عدم المعلول لميّا وبالعكس
إنيّا ، كما فى الوجودين. وطبيعة العلّة بما هى علّة تقتضى إسناد معلولها الشّخصىّ
إليها فى حقيقته وشخصيّته جميعا ، بخلاف المعلول ؛ فإنّ طباعه بما هو معلول لا
يستدعى إسناده إلى علّتها الشّخصيّة بشخصيّتها. ولا يأبى أن تكون العلّة بالحقيقة
هى الطبيعة المشتركة بين تلك الهويّة الشّخصيّة وبين هويّة شخصيّة أخرى.
والمتفلسفة بل
الغاغة من الفلاسفة المتشبّهة بالحكماء يظنّون فى إزاء هذا الحكم أنّ طباع المعلول
لا يستدعى إلاّ علّة ما ، ويعنون تسويغ كون العلّة متعددة على التّبادل ، لا وحدة
العلّة بالطبيعة النّوعيّة وإن لم تكن واحدة بالوحدة الشّخصيّة ، وليترقّب الفحص
البالغ فى مستقبل القول إن شاء اللّه تعالى. وكذلك عدم المعلول بطباعه يستدعى رفع
ما استدعاه طباع المعلول من حيث طبيعة المعلوليّة.
<١٤ > قاعدة
الأشياء
المترتّبة فى العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما ، سواء كان ذلك بحسب الصّدق والحمل
، كما فى الإنسان والحيوان ، أو بحسب التّحقّق والاقتران ، كما فى الحياة والنّطق
؛ والمتساويان بحسب الحمل أو المتلازمان بحسب التّحقق إيجابا متساويان بحسب الحمل
سلبا أو متلازمان بحسب رفع التحقّق ؛ إذ يلزم من صدق الأخصّ حملا ووجود الأخصّ
تحقّقا صدق الأعمّ حملا ووجود الأعمّ تحقّقا ، ولا عكس ؛ ومن كذب الأعمّ الحملىّ وعدم
الأعمّ التّحققىّ كذب الأخصّ الحملىّ وعدم الأخصّ التّحقّقىّ ، ولا عكس.
وصدق أحد
المتساويين حملا أو كذبه يستلزم صدق الآخر أو كذبه ؛ وكذلك انثبات أحد المتلازمين
تحقّقا أو انسلابه يستلزم انثبات الآخر أو انسلابه. فنقيض الأخصّ حملا أو تحقّقا
أعمّ من نقيض الأعمّ حملا أو تحقّقا ؛ ونقيضا المتساويين حملا متساويان حملا ، ونقيضا
المتلازمين تحقّقا متلازمان تحقّقا.
ففى الشّرطىّ
الاتصالىّ إذا كان التّالى أعمّ صحّ أن يجعل سالبه مقدّما وسالب المقدّم تاليه ، والعقد
الاتّصالىّ موجب صادق ، وكذا فى العقد الحملىّ ، وفى المتساويين يصحّ أن يجعل سالب
كلّ منهما مقدّما أو موضوعا وسالب الآخر تاليا أو محمولا. والعقد موجب صادق.
<١٥> تشكيكات وتفصّيات
ربّما يتشكك :
بأنّ السّالبة المعدولة المحمول أعمّ من الموجبة المحصّلة ، لصدقها بانتفاء الموضوع
، بخلاف الموجبة ؛ وقد يكون نقيض المفهوم ممّا لا يصدق على شيء ما بحسب نفس الأمر
، كاللاّشيء واللاّممكن وسائر نقائض المفهومات الشّاملة.
فلا تستتبّ
الأحكام ، لصدق سلب نقيض الأخصّ عمّا يفرض صدق نقيض الأعمّ عليه إذا كان معدوما ،
فيصدق قولنا : «ليس بعض اللاّحيوان بلا إنسان» بانتفاء
ذلك البعض فى نفسه. وكذلك فى نقيضى المتساويين ، فيصدق بعض اللاّإنسان ليس
بلا ناطق ، لانتفائه فى نفسه ، وتنثلم بذلك جملة ما حكم به فى القاعدة. وينتقض
الحكم بتعاكس العموم والخصوص فى نقيضى الأعمّ والأخصّ ، وكون نقيضى المتساويين
متساويين ، وانعكاس الموجب الكلّىّ كنفسه فى عكس النّقيض وغيرهما (٣٩) ، ممّا فى
القاعدة بنقائض الطبائع الشّاملة.
فالإنسان أخصّ
من الممكن بالإمكان العام. وليس اللاّممكن بالإمكان العامّ ، أخصّ من اللاّإنسان ؛
لعدم صدقه على شيء ما ؛ فلا يصدق : «كلّ لا ممكن عامّ لا إنسان» إيجابا ، ويصدق
سلبه. والشّيء والممكن العامّ متساويان ، ولا كذلك اللاّشىء واللاّممكن العامّ
لذلك ، فلا يصدق : «كلّ لا شيء لا ممكن عامّ» إيجابا وبالعكس ، بل سلبا فقط.
ويدفع فى
المشهور : بأخذ الرّبط فى العقد على أنّه إيجاب سلب المحمول ، وفصل الموجب السّالب
المحمول عن الموجبات فى اقتضاء وجود الموضوع وإلحاقه بالسّوالب فى عدم الاقتضاء وتخصيص
الأحكام بما عدا نقائض الطبائع الشّاملة. وذلك كلّه من مجازفات المتأخّرين وجزافات
مقلّدة المتفلسفين.
وسبيل الحكمة
ما هديناك إليه سالفا ، بفضل اللّه : أنّ أعميّة السّالبة ليست بحسب العموم
التّناولىّ ، بل بحسب العموم بالاعتبار. ولا يتناول موضوعها ما لا يتناوله موضوع
الموجبة. وإنّما يصحّ الحكم السّلبىّ على موضوع الموجبة ويصدق لا من حيث ما يجب أن
يؤخذ فى الموجبة ، أعنى الوجود ، وإن كان الموضوع فى العقدين هو المتقرّر أو
الموجود المحكوم عليه وأنّ الرّبط الإيجابيّ بما هو ربط إيجابىّ فى طباعه استيجاب
حيثيّة التّقرّر أو الوجود ، سواء كان تحصيليّا أو عدولىّ المحمول ، أو إيجاب سلب
المحمول وأنّ الوجود المعتبر فى مطلق العقود الإيجابيّة هو مطلق الثّبوت المتناول
للعينىّ والعقلىّ والفرضىّ وما يصدق الحكم مع لحاظه فى سوالب العقود وهو ما
يقابله.
وبذلك ينقلع
أساس التّشكيك ويظهر صدق تلك العقود حليّات غير بيّنات ،
وأنّ اللاّزم وجود موضوعاتها بحسب الفرض وإن لم يكن لها وجود عينىّ ولا
وجود عقلىّ؛ إذ المراد بالوجود العينىّ أو الوجود العقلىّ هو ما يكون من أفراد
الوجود فى نفس الأمر. والوجود الفرضىّ هو ما بحسب الفرض والتّقدير ؛ ومطابق الحكم
بحسب نفس الأمر هناك إنّما هو كون طبيعة العنوان بحيث لو انطبقت على شيء كانت
مخلوطة بالمحمول بحسبه. وإنّما يلزم الوجود العينىّ أو العقلىّ لو حكم فى تلك
العقود بثبوت المحمول لذلك المحمول فى العين أو فى العقل على البتّ ؛ وليس كذلك. والأعمّ
من الشّيء هو ما لو وجد ذلك الشّيء فى مادّة ما بحسب نفس الأمر وجد ذلك الشيء
كليّا من دون العكس. والمساوى هو ما يكون ذلك كليّا من الجنبتين. وليس فى ذلك
استيجاب الاجتماع فى مادّة ما بحسب نفس الأمر بالفعل. ولا يستراب فى أنّ الأمر فى
تلك المفهومات على هذه السّنّة.
ثمّ قد شكّك :
بأنّه يصدق قولنا : «كلّ ما هو ممكن بالإمكان الخاصّ فهو ممكن بالإمكان العامّ» ، وهو
ظاهر. ويصدق أيضا قولنا : «كلّ ما ليس بممكن بالإمكان الخاصّ فهو ممكن بالإمكان
العامّ» ؛ لأنّ كلّ ما ليس بممكن بالإمكان الخاصّ فهو إمّا واجب بالذّات أو ممتنع
بالذّات. وكلّ منهما ممكن بالإمكان العامّ.
فلو وجب أن
يكون نقيض العامّ مطلقا أخصّ من نقيض الخاصّ مطلقا يلزم المقدّمة الأولى : «كلّما
ليس بممكن بالإمكان العامّ فهو ليس بممكن بالإمكان الخاصّ». وصار صغرى للمقدّمة
الثّانية ، وأنتج القياس المؤلّف منهما : «كلّ ما ليس بممكن بالإمكان العامّ فهو
ممكن بالإمكان العامّ» وإنّه محال.
وكذلك يلزم
المقدّمة الثانية : «كلّ ما ليس بممكن بالإمكان العامّ فهو ممكن بالإمكان الخاصّ»
، وصار صغرى للمقدّمة الأولى ، وهى قولنا : «كلّ ما هو ممكن بالإمكان الخاصّ فهو
ممكن بالإمكان العامّ» ، وينتج أيضا : «كلّ ما ليس بممكن بالإمكان العامّ فهو ممكن
بالإمكان العامّ» وإنّه محال.
وأجاب عنه بعض
من تصدّى لسدّ ثغور الحكمة من أفاضل المحدقين بكرسىّ العلم وأكارم الحافّين حول
عرش التّحقيق : بأنّ الممكن العامّ ينقسم إلى قسمين ،
هما مانعا الخلوّ دون الجمع ، وإذا اطلق بحيث يشمل القسمين فسلبه يكون
خارجا عن النّقيضين.
وإذا تقرّر ذلك
، فنقول : القياس الأوّل من القياسين المذكورين ـ وهو قولنا : كلّ ما ليس بممكن
عامّ فهو ليس بممكن خاصّ ، وكلّ ما ليس بممكن خاصّ فهو ممكن عامّ» ليس الحدّ
الأوسط فيه مكرّرا ؛ لأنّ المراد بما ليس بممكن خاصّ فى الصّغرى (٤٠) ما هو خارج
عن النّقيضين معا ، وفى الكبرى ما هو داخل فى أحدهما.
وأمّا القياس
الثّاني ـ وهو قولنا : «كلّ ما ليس بممكن عامّ فهو ممكن خاصّ ، وكلّ ما هو ممكن
خاصّ فهو ممكن عامّ» ـ. فصغراه كاذبة ؛ لأنّ عكس نقيض قولنا : «وكلّ ما ليس بممكن
خاصّ فهو ممكن عامّ» ، ليس هو هذه الصّغرى ، بل عكس نقيضه أنّ : «كلّ ما ليس بممكن
عامّ فهو ليس ليس بممكن خاصّ». والمراد منه ما هو خارج عن النّقيضين ، لا الممكن
الخاصّ الّذي هو داخل فى أحدهما.
فلو رجع
السّؤال بأنّ الخارج عن النّقيضين ، الّذي يعبّر عنه بأنّه ليس بممكن عامّ ، ليس
بشيء أصلا ، فلا يمكن أن يحمل عليه شيء حتّى يكون أخصّ من شيء. فإذن ، كيف يكون ما
ليس بممكن خاصّ أعمّ منه.
فثنّى الجواب :
بأنّ ما ليس بممكن خاصّ يصدق مع الّذي ليس بشيء أصلا ، الّذي يعبّر عنه : بأنّه
ليس بممكن عامّ. ومع الدّاخل فى طرفى النّقيض ، أى الواجب بذاته والممتنع بذاته. ولا
يراد بكونه أعمّ إلاّ هذا.
ولا شطط لو
فصّل فقيل : الإمكان العامّ ـ على ما سيتلى عليك إن شاء اللّه تعالى ، وعسى أن
يكون قريبا ـ هو ما يلازم سلب ضرورة عدم الشّيء ؛ فإنّه سلب الضّرورة عن الطّرف
المخالف ؛ والطرف المخالف إمّا عدم ما يتّصف بذلك الإمكان ، أعنى النّسبة ، إن كان
الإمكان جهة ، أو عدم ذات الموضوع ، أعنى انتفاءه فى نفسه إن كان الممكن هو
المحمول. وضرورة عدم كلّ مفهوم هى امتناع ذلك المفهوم. فالإمكان
العامّ سلب امتناع ذات الموضوع أو سلب امتناع الوصف العارض له ، وهو
النّسبة. وعلى التّقديرين لا يصدق الممكن العامّ على الممتنع.
وجماهير
الأكثرين يضعون أنّ الطرف المخالف هو ما يخالف الواقع من طرفى الوجود والعدم.
فالمخالف فى الواجب هو العدم ، وفى الممتنع هو الوجود ، والممكن العامّ يقع
عليهما.
فإن اريد
بالممكن العامّ ما ذكر أنّه سيذكر ، لم يصدق قول المشكّك : الممتنع بالذّات ممكن
عام ؛ وإن اريد ما يوضع عند الجماهير ـ أعنى مسلوب الضّرورة عمّا هو غير واقع من
طرفيه الوجود والعدم ـ فيقال : إمّا أن تعتبر فى كلّ من الواجب والممتنع ضرورة أحد
الطرفين فقط ؛ فيكون ما ليس بممكن خاصّ ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، واجب وممتنع وضرورىّ
الطرفين. فلا يصحّ حينئذ أنّ ما هو ضرورىّ الطرفين مسلوب الضّرورة عمّا هو غير
واقع من طرفيه ، وإمّا أن تعتبر فى كلّ منهما ضرورة أحد الطرفين بلا شرط آخر من
اعتبار ضرورة الطرف الآخر أو عدمها ، فلا يصحّ أنّ كلّ ممتنع مسلوب الضّرورة عمّا
هو غير واقع من طرفيه ؛ إذ ضرورىّ الطرفين ممتنع. وليس يصحّ فيه ذلك.
وقد يخرق قولهم
: ـ كلّ ما ليس بممكن بالإمكان الخاصّ فهو ممكن بالإمكان العامّ ـ بأنّه لا يصدق
على الماهيّة من حيث هى هى الممكن بالإمكان الخاصّ ، ولا يصدق عليها ، من تلك
الحيثيّة ، الممكن بالإمكان العامّ أيضا.
ولست أرتضيه ؛
إذ المقصود التّصادق بحسب نفس الأمر وإن لم يكن بحسب بعض أنحاء نفس الأمر بخصوصه وبحسب
مرتبة من مراتب الماهيّة فى لحاظ العقل بعينها.
<١٦> إشارة تنبيهيّة
ألم يستبن لك
أنّ العدم هو بطلان الذّات وفقد الحقيقة ، والوجود هو وقوع الذّات وكون الحقيقة ؛ ولا
يتكثّر شيء منهما مع وحدة الذّات ، فلا يتصوّر بطلانان
لذات واحدة ولا حصولان لحقيقة بعينها. فإذن لا توجد ذات بعينها مرّتين ولا
تفقد حقيقة بخصوصها فقدتين.
فالمعدوم لا
يعاد بعينه حتّى تبطل ذاته المستمرّة ، ثمّ تتقرّر مرّة اخرى على الاستيناف وهى
تلك الذّات المبتدأة ، فالباطلة بعينها. كيف وإذا كانت الذّات هى تلك بعينها كان
الوجود ـ وهو نفس صيرورتها المصدريّة ـ هو ذاك بعينه ، فكان الوجود المستأنف بما
هو مستأنف هو الوجود المبتدأ بما هو مبتدأ بعينه. كما الذّات المستأنفة بما هى
مستأنفة بعينها هى الذّات المبتدأة بما هى مبتدأة ؛ إذ ليس الوجود إلاّ وقوع تلك
الذّات وهى هى بعينها.
فلو تغاير
الوجودان والذّات هى تلك ، كان للوجود تكثّر لا بالموضوعات ، وتخصّص لا بالإضافة ،
فلم تكن طبيعة الوجود (٤١) نفس موجوديّة الذّات وحصولها بل معنى ما به الحصول ، وقد
كان أبطله استقصاء الفحص من قبل. وكذلك القول فى العدم إذا كانت الذّات لا تأبى أن
تبطل تارة اخرى من بعد استيناف الوجود.
ثمّ إن أمكن
ذلك بالنّسبة إلى الذّات لم يكن فى طباع الذّات مبدأ استيجاب أن يقف ذلك على حدّ
بعينه. فلم تأب الذّات أن تتقرّر ثمّ تبطل ثمّ تتقرّر على الاستيناف وهى هى تلك
بعينها ، ثمّ تبطل ، ثمّ تتقرّر باستيناف الاستيناف ، وهكذا إلى لا نهاية ؛ إذ لم
يصحّ حسم ذلك فى شيء من المراتب المتضاعفة بعد إساغته أوّلا. وهل تلك إلاّ فاحشة
عقليّة لا يستحلّها إلاّ من رضيت نفسه بأن تنسلخ عن طباع الإنسانيّة.
<١٧> وهم وتاصيل
لعلّك تقول :
إنّ كثيرا من الأشياء الزّمانيّة ما هو معدوم ثمّ يوجد ثمّ ينعدم ، فيكون عدمان
لذات واحدة ، مع أنّ شاكلته شاكلة الوجود فى أنّه معنى بسيط وحدانىّ لا يتعدّد
إلاّ بالإضافة إلى متكثّرات وقد جعلت سبيلهما واحدا فى امتناع الاستيناف لذات
بعينها. فإذا جاز فى العدم ذلك فليجز فى الوجود أيضا أو ترجع عن الحكم
عليهما بالمضاهات.
فيقال لك :
العدم ليس يعرض الذّات على أن يكون هناك شيء يصحّ أن ينتزع منه العدم ، كما فى
الوجود ، بل هو بطلان مطلق الذّات وليسيّة صرفة ساذجة. وإنّما يتحصل عند العقل بأن
يعيّن ذاتا فيضيف إليها مفهوم اللّيس ، فلا يتعدّد عند العقل إلاّ بتكثّر الملكات
، فلا ذات قبل الوجود ولا بعده ، حتّى يقال : إنّها واحدة بعينها أو متعدّدة متماثلة.
وإنّما يعتبر العقل نسبة الرّفع إلى الذّات الموجودة قبل الموجوديّة وبعدها ،
فيحصل فى الاعتبار رفع الذّات قبل الوجود ويحكم العقل أنّه رفع أزليّ ورفع الذّات
بعد الوجود.
ومن الذّائعات
المحمودة لدى الجماهير أنّه رفع طار ، وليس بحسب نفس الأمر ذاتان ولا ذات واحدة. وحيث
إنّ الوجود هو حصول الذّات ولا يتصوّر لذات شخصيّة بعينها حصولان فى ظرف واحد ووعاء
معيّن ؛ فلا يصحّ عدمان طاريان أو أزليّان فى اعتبار العقل لذات واحدة شخصيّة بحسب
ظرف بعينه ووعاء بخصوصه أصلا ، بل إنّما يعقل عدم أزليّ ووجود وعدم كطرفين ووسط لا
غير.
ولو ساغ
استيناف العدم الطارئ مرّتين لزم تسويغ استيناف الوجود أيضا ، وليس فليس. ونظيره
من وجه وإن كان بعيدا أنّ وجود النّقطة أو النّقطتين لا يستلزم الجوهر الفرد، وإنّما
تستلزمه النّقطتان المتتاليان.
ثمّ ذلك صراط
الفلسفة اليونانيّة فى بادى النّظر على غفلة من الجمهور عن دخلة الأمر وذهول عن
دقّة السّرّ. وأمّا على سبيل الحكمة اليمانيّة ومحجّة الصّناعة البرهانيّة ، حسب
ما هو قسطى من فضل العليم الحكيم ، فنضج المسألة ـ على ما سنبلغه من ذى قبل إن شاء
اللّه ـ أنّ كلّ ذات متقرّرة فعلها الجاعل الحقّ بجوده ، فليس لها أن تهاجر من أرض
الوجود وتخرج من صقع التّقرّر أصلا. بل هجيّرها أن تسكن حظيرة الثّبوت بجعل الجاعل
وإن كانت من الزّمانيّات ، وينقطع حصولها فى أفق الزّمان ؛ فإنّ الزّمانىّ ربما
يختصّ بالتّقرّر فى زمان ما أو آن ما ، فلا يوجد فى سائر الأزمنة والآنات الّتي هى
بعد ذلك الزّمان أو الآن ، وعدم وجوده فيما بعد زمان
وجوده مستمرّ من الأزل إلى الأبد. وتقرّره فى زمان تقرّره ضروريّ لا يرتفع
عن ذلك الزّمان حتى تكون فيه المتناقضان.
فإذن ، ربّما
يختصّ وجود الحادث الزّمانىّ بزمان أو حدّ ، فيظنّ طرء العدم عليه بعد ذلك. والفحص
يكشف أنّ ذلك العدم فى الآزال والآباد وأنّ الوجود فى زمان الوجود لا يرتفع عن
وعاء الدّهر ، ولا يعزب عن حضرة الجاعل وأنّ انقطاع الحصول فى أفق الزّمان، لعدم
الفيضان عن الجاعل فيما بعد ، لا لارتفاع ذلك الوجود الفائض.
وبالجملة ،
الحادث المنبتّ الوجود يتّصف بالوجود الّذي له فى قطعة بخصوصها من الزّمان وذاته
باطلة مرتفعة فى غير زمان وجوده بحسب نفس الأمر من الآزال إلى الآباد ، ولا يتصوّر
عدم (٤٢) طار على الذّات المتقرّرة اصلا. بل اختصاص التّقرّر الذّات ببعض من
الزّمان منته من الجانبين ، فحسب.
فإذن ، ليس
لذات ما عدم طار ولا ذات فى العدم قبل أو بعد ، بل إنّما ذات شخصيّة فى زمان بعينه
ووجود شخصىّ لها مختصّ بذلك الزّمان ، ويمتنع أن يكون وجود آخر لتلك الذّات
الشّخصيّة بعينها فى زمان آخر ، بل إنّما يكون لو كان لمثل تلك الذّات لا لها
بشخصيّتها ، وإلاّ لكان وجودان لموضوع شخصىّ بعينه ولزم أن يمكن لنفس ذات ذلك
الموضوع الشّخصىّ فى لحاظ العقل أن يكون له بعينه وجودات متضاعفة لا إلى انتهاء فى
أزمنة متجدّدة غير منتهية ، وليس ممّا تتكلّفه القوّة النّظريّة مع السّلامة
الغريزيّة لطباع الفطرة العقليّة. فإذن ، لا يعاد المعدوم إلاّ بمثله ، لا بعينه.
<١٨> استقصاء
إنّ ما نهجناه
لهو سبيل الفحص على سنّة الحكمة اليمانيّة وإنّ شركاءنا الّذين سبقونا بالصّناعات
البرهانيّة من رؤساء الفلاسفة الإسلاميّة واليونانيّة قد حاولوا تبيان الأصل
بإيضاحات محصّلة حكميّة ، لست برادعهم عن شيء منها ، بل مصوّبهم ومثن عليهم ، بما
أسبغوا النّظر على الوجه الأوفى وبلغوا بالبحث الأمد الأقصى على
اعتصام منهم باستيفاء المفحوص عنه ، لشدّة الظهور عن ذلك كلّه.
ومن اعترض
عليهم من سفهاء المتأخّرين كان كأنّه لم ينل الوجهة ولم يجد السّبيل ، لكونه ضيّق
العقل فى فطرة الوجود غير مستأهل السّرّ أن يكون من مواضع العلم ومدارك الحكمة ؛
فلنذكر وجوه تلك الإيضاحات.
<وجوه الإيضاحات >
(١) فمنها : أن
لو اعيد معدوم بعينه فرضنا بدله مثله فى هويّته وفى جميع ماله من قبل ذاته ومن قبل
غيره من الأوصاف والعوارض ، سوى ما يوضع أنّه مبتدأ وذاك معاد. فيكون هذان
المتشابهان من جميع الجهات على نسبة واحدة بالقياس إلى تلك الهويّة المتقدّمة، وإلاّ
لم يكن التّضاهى من كلّ جهة ، بل كانت الجهة الّتي بها استحقّ أحدهما الاختصاص بها
دون الآخر بعينها هى جهة التّخالف المفروض الانتفاء ، فلم يكن أحدهما أحرى بأن
يكون هو بعينه تلك الهويّة الّتي كانت حتى يكون معادا والآخر بأنّه ليس هو تلك
حتّى يكون مستأنفا. فإذن كان المعاد مستأنفا ، والمستأنف بما هو مستأنف معادا ، والعلّة
الموجبة وقوع المعاد هى الموجبة وقوع المستأنف.
وبالجملة ، بعد
ما يؤمن بأنّ العدم هو فقد الذّات وبطلانها وليس للمعدوم ذات متقرّرة كما يختلقه
قوم ليسوا هم من فرق المتميّزين ، ويعقل أن لا تميّز فى العدم ولا تتمايز العدمات
بما هى عدمات ، ولا تتناولها الإشارة العقليّة من تلك الجهة كما يظنّ قوم آخرون ؛
يتبيّن أنّه لا يكون موضوع الوجودين والعدم شيئا واحدا ، لعدم انحفاظ وحدة الذّات
فى العدم ، بل ليس إلاّ تكثّر بالاثنينيّة الصّرفة.
فامتياز المعاد
عن المستأنف المفروض واقعا بدله ، واختصاصه بأنّه معاد إن كان من جهة الذّات حال
العدم فالمعدوم لا ذات له وإن كان لأنّه كان موجودا أوّلا دون المستأنف. فهذا عين
النّسبة الّتي يقع النظر فى إمكانها.
فإن صحّ فلم لم
يكن ذلك هو المستأنف وهما متساويان فى استحقاق ذلك. وهل هو إلاّ أخذ المطلوب فى
بيان نفسه ، وإن كان من جهة الأسباب المؤدّية إلى وقوع المعاد ، فلم لم يكن هى
بعينها أسباب وقوع المستأنف بدلا عنه ، ويأبى العقل إلاّ أن يكون ذلك غير متصوّر
مع فقد الاستمرار الموقع للاثنينيّة الصّرفة ، بل إمّا أن يكون كلّ منهما معادا أو
لا يكون ولا واحد منهما معادا.
فإن خالج وهمك
: أنّه وإن عدمت الذّات فى الخارج ، لكنّها تبقى مستمرّة فى نفس الأمر بحسب وجودها
الذّهنىّ ، فتستحفظ وحدتها بحسب ذلك الوجود ، كما لو كان ثابتا فى العدم. فالوجود
الذّهنىّ بإزاء ذلك الثّبوت الّذي يتوهّمه من ليس من المميّزين.
فقيل لك : أليس
قد تحصّلت ، من قبل ، أنّ الموجود فى الذهن بالحقيقة هو الهويّة المكتنفة
بالمشخّصات الذّهنيّة ، واتّحادها مع الموجود فى الأعيان بمعنى أنّها بعد التّجريد
عينه ؛ إذ الذّات والذّاتيّات منحفظة فى أنحاء الوجود ، وإنّما الهويّات الشّخصيّة
هى المتبدّلة. فليست الهويّة الذّهنيّة هى عين الهويّة العينيّة مطلقا بالفعل.
وأيضا ، أليس
كما أنّ المعدوم (٤٣) المعاد فى زعمك موجود فى الذّهن ، كذلك المبتدأ المفروض بدله
موجود فيه أيضا. فليس نسبة المعدوم السّابق الوجود إليه بأولى من نسبته إلى ذلك
المبتدأ المفروض. وهذا النّمط هو ما رامه شريكنا الأسبق بما قاله فى إلهىّ الشفاء وفى
التّعليقات ، فراجعهما.
ثمّ إذا وضع
لديك أنّه يلزم أن يكون المستأنف هو المعاد ، فيكون هو الوجود السّابق بعينه ،
وجدت أنّ إيجاد المستأنف الّذي هو معاد إعادة لذلك السّابق بهويّته ، فيكون إعادة
لوقته أيضا ، وإلاّ لم يكن إيجاد المستأنف هو إعادة السّابق الموجود فى ذلك الوقت
، فيلزم أن يكون للوقت وقت من تلك الجهة. وهذا أيضا يكاد يتّضح عندك. ولكن بتوفير
تأمّل صادق وتوفيه لحقّه من النّظر بعد ما لم يكن طباع العقل سقيما فى فطرة
الوجود.
(٢) ومنها : أن
لو اعيد بعينه لزم أن يكون عدمه مسبوقا وسابقا بالقياس إلى شيء واحد بعينه هو
وجوده سبقا زمانيّا وأن يتخلّل العدم بين ذاته الواحدة ؛ لأنّ ذات الشّيء
إذا كانت محفوظة فى حال الوجود دون العدم ، فإذا وجد الشّيء فى الزّمان
الأوّل كان ذاته فيه ، وإذا عدم فى الزّمان الثّاني بطلت ذاته ، ولم يتقرّر فيه.
ثمّ إذا وجد فى الزّمان الثّالث كان ذاته بعينها فيه ، فيلزم تخلّل العدم بين ذاته
الواحدة ، وكذلك بين وجوديها المفروضين اللّذين هما وجود واحد بعينه لذات واحدة
بعينها.
فإذن ، إذا جاز
الإعادة كان «أ» مثلا ، سابقا على عدمه ، وهو بعينه مسبوق بذلك العدم ، فيكون هو
قبل نفسه قبليّة بالزّمان. وذلك بحذاء الدّور الّذي هو تقدّم الشّيء على نفسه
بالذّات. ولا حرج أن لقّب ذاك بالدّور الذّاتىّ وهذا بالدّور الزّمانىّ.
فإن أغلطك
الوهم : أنّ اللاّزم تخلّل العدم بين وجودى شيء واحد بعينه ؛ فاعقل : أنّ اختلاف
الوجود يساوق اختلاف الذّات بالضّرورة الفطريّة ؛ فإنّ الشّيء الواحد لا يكون له
وجودان ؛ إذ الوجود الخاصّ لكلّ شيء هو بعينه بمعنى أنّه ليس وراء الذّات شيء بحسب
ظرف الوجود ، وإن كان غيره بحسب تحليل من العقل واعتبار منه للموجوديّة
الانتزاعيّة ، ونسبة الوجود إلى الماهيّة ليست نسبة العوارض المتواردة الّتي
يتصوّر تبدّلها واختلافها مع انحفاظ وحدة الذّات ، وليست وحدة الذّات إلاّ معنى
وحدة الوجود.
ثمّ ولو قدّر
أنّه يمكن وحدة الذّات مع اختلاف الوجود ، فلا يصحّ الفرق بين الماهيّة والوجود فى
جواز الإعادة ، فلم لا يكون الوجود نفسه معادا ، ويكون الوقت أيضا معادا ، فيكون
الحدوث أيضا معادا ، فيكون ليس هناك وجودان ولا وقتان ولا حدوثان اثنان ، بل واحد
بعينه معاد. ثمّ كيف يكون العود. ولا اثنينيّة؟ وكيف يكون اثنينيّة ويجوز أن يكون
المعاد بعينه الأوّل؟
وقول من يريد
أن يهرب عن هذا منهم ـ ويقول : الوجود صفة ، والصّفة لا توصف ولا تعقل ، وليست
بشيء ولا موجودة ، وأنّ الوقت أو بعض الأشياء لا يحتمل الإعادة وبعضها يحتمل ،
حتّى لا يلزمه أن فرض الإعادة للمعدوم قد يجعل المعاد غير معاد ؛ ويجوّز أن يكون
ما هو معاد ليس له حالتان أصلا ـ قول ملفّق ، يفضحه البحث المحصّل.
وأمّا توهّم
الانتقاض بالبقاء ؛ فمن السّخيف السّاقط ، إذا الذّات المتقرّرة مستمرّة فى زمان
البقاء ، ولا يتكثّر بتحليل الذّهن إلاّ الأجزاء الّتي ينحل إليها ذلك الزّمان فى
الوهم ، ويستتبع ذلك تكثّر إضافة الذّات المنحفظة إليها بالوقوع فيها ، فلا يلزم
تخلّل الزّمان بين الشّيء ونفسه ، بل إنّما تخلّله بين الشّيء باعتبار وقوعه فى
الزّمان الأوّل وبينه باعتبار وقوعه فى الزّمان الثّاني.
وذلك يرجع
بالحقيقة إلى تحلّل الزّمان بين الإضافات العارضة للذّات ، والسّابق بالسّبق
الزّمانىّ واللاّحق بذلك اللّحوق إنّما هما الزّمانان بالذّات ، والشّيء بالعرض
بحسب حصوله بوحدته المحفوظة المستمرّة فى الزّمانين ، لا نفس الذّات المتقرّرة من
حيث هى ، لأنّها مستمرّة واحدة.
(٣) ومنها :
أنّه لو أعيد بهويّته الشّخصيّة لزم إعادة وقته ، لاستيجاب تلك الهويّة بشخصيّتها
الوقوع فى ذلك الوقت بعينه ، لما خصّصها به اقتضاء فاعلها واستعداد مادّتها
الحاملة لصحّة حدوثها وإمكان وجودها ؛ إلى غير ذلك من الأسباب المؤدّية إلى نحو
وجودها الشّخصىّ المستتبع (٤٤) للاختصاص بالوقوع فى ذلك الزّمان بعينه.
أفليس إذا
اعيدت هويّة شخصيّة كان إنّما ذلك لعود علّتها المخصوصة الّتي بها حصل الوجود
الشّخصىّ لتلك الهويّة ، فيكون ذلك يستتبع الحصول فى ذلك الزّمان الشّخصىّ السّابق
بعينه تارة اخرى ؛ إذ هو من لوازم تلك الهويّة الشّخصيّة.
فإذن ، يكون ما
قد وضع أنّه معاد هو ليس إلاّ ذلك المبتدأ السّابق بعينه من ذلك السّبيل ، لا من
جهة ما بحسب الزّمان من المشخّصات ، أى : الامور الّتي لها مدخل فى الشّخص. وهو من
الظّنون الكاذبة ؛ فإنّ ما يناط به تشخّص الشّيء هو نحو وجوده الّذي يخصّه ويكون
بحسبه للتّشخّص أمارات لا يصحّ أن يعدّ الوقت منها ، بل الزّمان إنّما هو ظرف
المتشخّص لا غير ، اللّهمّ إلاّ فى بعض الموادّ جزئيّا وببعض الاعتبارات من حيث
الخصوص ؛ فإنّ اولات المحلّ من الماهيّات تتغاير باختلاف حواملها أو بالزّمان إن اتّحد
المحلّ ، كسوادين حصلا فى موضوع واحد ، ولكن أحدهما بعد بطلان الآخر. فالمحلّ من
المشخّصات ، بمعنى ما يحتاج إليه نحو
الوجود الّذي هو التّشخّص ، والزّمان هناك من المشخّصات بمعنى الامور الّتي
هى أمارات التّشخّص ومناطات التّمايز فى لحاظ العقل ومصحّحات عروض تشخّصات مختلفة
على أنّه يصحّ أن يؤخذ الزّمانان من اعتبارات ذات المحلّ وقيود هويّته ومتمّمات
محلّيته بحسب الإضافة إليهما ، فيرجع الأمر إلى تكثير الحيثيّة التّقييديّة واختلاف
محلّ السّوادين بالاعتبار التّقييدىّ ، فيدخل المحلّ بذلك الاعتبار فيما يفتقر
إليه اختلاف هويّتى السّوادين بالشّخص.
وممّا ذكر يعلم
: أن لا حصول لمثل صورة وعرض فى محلّ ، لفقد المميّز من المحلّ والزّمان. ولا يمكن
أيضا أن يحصل أحدهما فى زمان «ج» والآخر فى زمان «ب» على أن يستمرّ ما حصل فى زمان
«ج» إلى زمان «ب» ، فيجامع الآخر ؛ إذ عند بطلان الأزمنة تبطل الإضافات إليها. وإذا
بطلت الإضافة فقد فقد المميّز.
وكذلك يصحّ
للشّيء الزّمانىّ أن يعتبر زمان وجوده ببعض الاعتبارات ، أى : بوحدته الاتّصاليّة
المعيّنة بما هو بتلك الوحدة الاتصاليّة ظرف حصول ذلك الشّيء ، فيقال : إنّه بذلك
الاعتبار من أمارات تشخّص ذلك الشّيء. فإذا انقطع اتّصاله من حيث هو زمان الوجود
بانقطاع ذلك الوجود لم يبق الشّخص وبطلت الذّات فى سائر الأزمنة بطلانها الّذي
تستحقّه بنفسها ، أو أنّ لآن الحدوث من حيث هو آن حدوث ذلك الشّيء نياطة وتعلّقا
ارتباطيّا بتشخّصه ، ولما بعد ذلك الآن من الزّمان تلك النّياطة باستحفاظ ذلك
الشّخص بشرط اتّصاله من حيث هو زمان الحصول.
(٤) ومنها : أن
لو اعيد بشخصه ، وإنّما يكون ذلك بإعادة زمانه ، فيكون ذلك الزّمان بعينه قبل وبعد
، بعديّة بعد قبليّة باطلة ، يصحّ وقوعهما على طرفى امتداد بحسب التّوهّم.
وليس ذلك إلاّ
سبيل السّبق الزّمانىّ ، ولا يتصوّر إلاّ أن يكون الشّيء ذا الزّمان الّذي هو
معروض ذلك السّبق بالذّات. فإذن يكون للزّمان زمان ، ثمّ يعطف النّظر
إليه ويساق إلى أن تحصل أزمنة إلى لا نهاية ، وهو بيّن الاستحالة.
فاعلم أنّه إذا
اتّحد النّوع والمحلّ فيما له محلّ ، فلا فارق إلاّ الزّمان. وإذا كان الزّمان
ممتنع العود فما تخصّص به كذلك أيضا.
(٥) ومنها : أن
لو صحّ أن تعاد تلك الهويّة بشخصيّتها لم يكد يمكن الجزم بأنّ الحادث فى هذه
النّشأة وفى كلّ نشأة إنّما هو شيء مستأنف أفاضه جود القيّوم الواجب بالذّات على
الابتداء ، بل كلّ حادث قيل : إنّه ابتدائىّ أمكن أن يقال : إنّه إعادىّ. وهكذا
فيما قبله فى القرون الخالية. وذلك أعظم الجوادّ لطريق التّناسخ.
(٦) ومنها :
أنّ إعادة الهويّة الشّخصيّة إنّما تتصوّر لو اعيدت أجزاء علّتها التّامّة الّتي
اقتضتها ، واستعداد المادّة لها بخصوصه وغير ذلك من مصحّحات تلك المعلوليّة ومتمّمات
تلك العلّيّة ، إذ لو لم تكن العلّة هى تلك بعينها والاستعداد هو ذلك بعينه لم تكن
الهويّة المعادة هى تلك الّتي كانت بعينها. أفيستند الشّيء الشّخصىّ إلى ما هو غير
علّته بعينها ، فينكشف من ذى قبل فساده إن شاء اللّه.
وكيف تعاد (٤٥)
الهويّة الشّخصيّة من غير استعداد المادّة لذلك ، أو كيف تستعدّ المادّة لهويّة هى
غير تلك المبتدأة السّابقة وتكون المعادة الفائضة عليها بحسب ذلك الاستعداد هى تلك
بعينها. فلو لم يكن الاستعداد والعلّة بما هما بعينهما لم يكن المعاد المفروض
إعاديّا ، بل إنّما يكون استينافيّا على المماثلة للابتدائىّ السّابق ، ويتوهّم
أنّه إعادىّ على العينيّة ، فإذن ، إنّما تكون له هويّة ما إعاديّة ، لا
استينافيّة لو عادت الاستعدادات والأدوار والحركات والأوضاع.
وبالجملة ،
جملة ما سبقت فى النّظام الجملىّ ممّا توقّفت عليه تلك الهويّة فى الوجود
الابتدائىّ السّابق بأشخاصها وأعيانها ، فيكون إذا اعيدت هويّة ما صار النّظام
الجملىّ للكلّ من الهويات المعادة. ولعلّ غير سقيم الذّهن يقرّ بأن ذلك من أباطيل
الظّنون وأكاذيب الأوهام. ولذلك ما يعدّ هذا الأصل من الفطريّات بالنّسبة إلى الأذهان
المتوقّدة.
<١٩> إضاءة ضياء لإزاحة ظلام
إنّ امتناع بعض
أنحاء الوجود بخصوصه بالنّظر إلى الحقيقة الواجبيّة لا يحيله كون الحقيقة قيّوما
واجبا باللذّات ، بل هو الّذي يستوجبه ويحقّقه وغير مخرج للحقيقة إذا كانت ممكنة
بالذّات عن حدود بقعة الإمكان ؛ إذ ليس ذلك ينافيه ، بل ربّما يحققه ويؤكّده. وكذلك
امتناع بعض أنحاء العدم بخصوصه بالنّسبة إلى الماهيّة ليس يخرجها عن حدّ طبيعة
الإمكان ، وبالقياس إلى الممتنع بالذّات ليس ينافيه الامتناع الذّاتىّ.
ولذلك ما إنّه
يمتنع على القيّوم الواجب بالذّات ـ عزّ مجده ـ أن يكون له وجود ممكن أو وجود
مسبوق بعدم أو وجود زائد لاحق ، وإنّما ذلك لخصوصيّات تلك التّقييدات ؛ ويمتنع على
الماهية الممكنة أن تتّصف بالوجود الواجبىّ أو يكون لها وجود هو نفس ذاتها أو من
ذاتيّاتها أو وجود غير مسبوق بالعدم سبقا بالذّات أو وجود لا يكون مسبوقا بالعدم
سبقا دهريّا وسرمديّا ، على ما هو الصّراط المستقيم بالحكمة اليمانيّة. وعلى
الماهيّة الممكنة الجوهريّة أن يكون لها الوجود فى الموضوع ، وعلى العرض أن يكون
له الوجود لنفسه ؛ إذ وجوده فى نفسه هو وجوده فى الموضوع ، وذلك له من جهة نفس
ماهيّته النّاعتيّة ، وعلى الماهيّة الغير القارّة بالذّات أعنى الزّمان أن توجد
بالوجود القارّ.
ويمتنع على
الزّمان بالنّظر إلى نفس ماهيّته أن ينعدم بالعدم الطّارئ ، أى العدم المسبوق
بالوجود سبقا بالزّمان ؛ إذ فيه فرض عدم الشّيء مع وجوده ، وإن كان على مسلك
الحكمة اليمانيّة لم يمتنع بالنّسبة إلى نفس ذاته العدم بعد الوجود بعديّة هريّة ؛
فإنّ استحالة ذلك ليست من جهة نفس ماهيّة الزّمان ، كما كان امتناع العدم الطّارئ
بعد الوجود بعديّة زمانيّة من تلك الجهة ، بل إنّما هى من سبيل آخر.
وهو أنّه لا
يتصوّر فى وعاء الدّهر امتداد كما لا يتصوّر فيه أيضا لا امتداد ، مثل ما هو
للوجودات الزّمانيّة أو للإنيّات من الامور الّتي قبلنا فى أفق الزّمان. فلا يكون
فى وعاء الدّهر إلاّ سابق ومسبوق فقط ، لا سابق على مسبوق يمكن أن يصير
سابقا على ثالث ؛ فإن ذلك من خواصّ وعاء الزّمان الّذي هو أفق التّقضّى والتّجدّد.
وهذه الاستحالة
ممّا لا اختصاص له بطبيعة الزّمان ، بل الموجودات كلّها سواسية فيها ، لا من حيث
الماهيّة ، بل بحسب اقتضاء وعاء الدّهر. وكذلك يمتنع على الممتنع بالذّات العدم
المسبوق بالوجود ، ولا يصادمه الامتناع الذّاتىّ ، بل هو الّذي استحقّ ذلك واستوجبه.
فإذا تعرّفت
ذلك ، فاعلمن : أنّ امتناع العود ، أى استحالة وجود الشّيء الشّخصىّ المعدوم
بالعدم المسبوق بوجوده بعينه ، من لوازم ماهيّات الهويّات الشّخصيّة قاطبة ؛ إذ
يمتنع ذلك على الماهيّة لذاتها ، ولا يخرج هى عن حدّ طبيعة الإمكان ومن خواصّ أفق
الزّمان أيضا ؛ إذ لا يتصوّر بالنّظر إلى ماهيّة الزّمان عود جزء منه ، أى وجوده
فى حدّ آخر غير ما هو حدّه. وبالجملة ، وجوده مرّتين أو مرّة واحدة فى غير حدّه.
وإنّ إعادة
الهويّة الشّخصيّة المتخصّصة بجزء ما من الزّمان بعينها المستلزمة لإعادة زمانها
بعينه. كما أنّ امتناع العدم المسبوق بالوجود المسبوق بالعدم سبقا دهريّا أو
الوجود المسبوق بالعدم (٤٦) المسبوق بالوجود ذلك السّبق بالنّسبة إلى الأشياء
مطلقا ، فضلا عن الهويّة الشّخصيّة بعينها من خواصّ وعاء الدّهر فقط ، أى : لا من
لوازم الماهيّات أيضا ؛ إذ لا يتصوّر بحسب وعاء الدّهر سابقيّات ومسبوقيّات
مترتّبة ، بل إنّما سابقيّة واحدة ومسبوقيّة بإزائها فقط.
فعود المعدوم
بعينه يمتنع من سبيلين : عدم إمكان ذلك بالنّظر إلى الماهيّة وإباء وعاء الزّمان
بطباعه عن ذلك ، وينشأ ذلك من خصوص تقييد الوجود بكونه بعد العدم بعد الوجود.
فإذن ، إمّا أن
يؤخذ الشّيء بعينه من حيث هو هو ، ويقال : إنّ طباعه يقتضي امتناع ذلك الوجود
بالنّظر إليه ، ويؤخذ الشّيء المعيّن الشّخصىّ من حيث هو معدوم بعد الوجود ، ويقال
: هو باعتبار التّقييد بهذه الحيثيّة ممتنع الوجود المقيّد ببعد العدم.
وذلك الامتناع
ليس لماهيّة ولا لأمر يزول عن ماهيّة ، بل هو لازم للماهيّة
الموصوفة بالعدم بعد الوجود ؛ وليس فى ذلك خرق لما يقتضيه طباع الإمكان ، وإنّما
خرق طباع الإمكان أن يجب بالنّظر إلى ذات الممكن وجود ما على الإطلاق أو بخصوصه أو
الوجود فى وقت ما على الإطلاق أو بخصوصه ؛ فإنّ ذلك موجب أن يحصل له بذاته دائما
ذلك الوجود أو الوجود فى ذلك الوقت. وأمّا اقتضاء امتناع وجود أو عدم بخصوصه فلا
صادّ عنه ، بل ربما يسوق إليه الفحص. فإذن ، المعدوم بعد الموجود يمتنع أن يحكم
عليه بصحّة العود.
وتشكيكهم ـ
بأنّ الحكم على الممتنع بأنّه لا يصحّ الحكم عليه حكم عليه ، فيكون متناقضا ـ قد
كنّا أسلفنا فكّ العقدة فيه : بأنّ الحكم على ما يمتنع وجوده ممتنع من حيث كونه
ممتنعا ، وممكن من حيث كونه متصوّرا من جهة الامتناع ، ولا تناقض بعينهما ،
لاختلاف الموضوعين.
وقد قاس بعض
نفاة الحقّ المتّسمة بالمتكلّمين إعادة المعدوم على التّذكّر ، فقال : المتصوّر
بعد زواله وعوده فى الذّكر قد يكون واحدا ، فالمعدوم كذلك يعاد.
وذلك باطل ؛
لأنّ التّذكّر لا يتصوّر إلاّ مع بقاء المتذكّر فى الذّهن وتخلّل العدم بين
الالتفات الأوّل إليه والالتفات الثّاني ، فلا يكون هناك حصولان ، فضلا عن الإعادة
؛ وهاهنا لم يمكن أن يكون شيء باقيا ، على أنّ الواحد هناك هو المعلوم ، لا العلم
به ، أى : الصّورة الذّهنيّة بما هى علم ، ووحدة المعلوم لا تستلزم وحدة العلم. أفليس
أنحاء العلوم بمعلوم واحد متكثّرة؟
<٢٠> تحديد
امتناع العود ـ
لدينا وفى حكمتنا الّتي يشبه أن تكون هى طبخ الفلسفة فى نضج هذه المسألة ـ معناه :
امتناع أن يكون لشيء بعينه وجودان فى زمانين يتخللهما زمان ليس هو فيه موجودا ؛ لا
امتناع أن يوجد الشّيء بعينه بعد عدمه فى دعاء الدّهر بعد الوجود ؛ فإنّه يرجع إلى
ادّعاء الامتناع لحصول شيء على تقدير حصول شيء آخر هو ممتنع فى ذاته ؛ إذ ليس
يتصوّر ارتفاع الوجود عن وعاء الدّهر أصلا ، وإنّما
الواقع والمتصوّر هو ارتفاع العدم عن وعاء الدّهر فقط. فالوجود يطرأ على
اللّيس طرءا دهريّا.
وأمّا ما وجد
فى وعاء الدّهر ، فلا يطرأ عليه العدم فيه وإن انقطع وجوده فى أفق الزّمان ،
لاختصاصه بزمان معيّن هو من أوساط الامتداد الزّمانىّ ولا امتناع وجود الشّيء
المعيّن بعد ارتفاع وجوده عن أفق الزّمان بحسب الواقع ، أى : امتناع وجوده من بعد
ما تفهمه الجماهير من لفظة العدم الطّارئ ؛ فإنّه أيضا يؤول إلى دعوى عدم الحصول
لشيء على تقدير أمر هو غير محصّل فى نفسه.
فقد قرع سمعك
ما هو مرّ الحقّ فى معنى العدم الطارئ ، وسيعاد على ضرب ما من البسط إن شاء اللّه
العزيز العليم ، ولىّ الفضل والرّحمة ، وإن كانت المدارك العالية الوهمانيّة غير
متعوّدة الرّجعى إلى ما لم تألفه من حقائق العلم وأسرار الحكمة.
<٢١> وعد
عسى أنّ اللّه
بفضله يبلغنا أتمّ النّصاب من إكمال الدّين وإتمام النّعمة بشروق شموس الحقّ وطلوع
أقمار اليقين من مشارق أنوار هذا «الأفق المبين».
فنبيّن لك حيث
يحين حين أن نبسط القول فى معاد النّفوس (٤٧) وكيفيّة رجوعها إلى بارئها فى
النّشأتين : أنّ الحشر الجسمانيّ فى النّشأة الآخرة إنّما يكون بأن يجمع مبدعها
الأجزاء المادّيّة من أجسادها الباقية بحسب المادّة ويفيض عليها صورة على مماثلة
صورتها الّتي كانت هى عليها فى هذه النّشأة ، فيرجع إليها بحسب تلك الصّور تعلّق
النّفوس الباقية الحيّة المجرّدة ، ويأمرها بارتجاع كلالة تلك الأجساد وارتباع ما
شاءت فى المراعى الحسّيّة برعاية أحوالها على الغىّ والرّشاد ، بإذن ولىّ امورها
فى المبدأ والمعاد ، على ما تنبئ عنه الآيات العزيزة فى الكتاب المجيد والأحاديث
الصّحيحة فى السّنّة الشّريفة ، فترقّب إنجاز الوعد بفضل اللّه فى بعض المسافات من
ذى قبل ؛ إنّى معك لرحمة ربّى لمن المترقّبين.
<٢٢>هتك وتصويب
من النّاس من
تعوّد التّقليد ، ولم يألف النّظر فى الحقائق والاجتهاد فى العقليّات ، وسمع
الحكماء الكرام والفلاسفة العظام يقولون : «كلّ ما قرع سمعك من غرائب عالم الطبيعة
فذره فى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان» ؛ ولم يميّز الإمكان بمعنى
الجواز العقلىّ ، أى عدم وضوح الضّرورة لأحد الطرفين عند العقل عن الإمكان
الذّاتىّ ، وهو سلب ضرورة الطرفين عن الشّيء لذاته ، فظنّ أنّ الأصل فيما لم
يتبرهن وجوبه أو امتناعه هو الإمكان.
وحيث لم يكن
لغريزته مسلك إلى نيل ما حاولنا بسطه تبيانا لما عروق أصله منبتّة الانغراس فى أرض
الغريزة الإنسانيّة ، وهو امتناع عود المعدوم بعينه ، تشبّث بهذا الظنّ الّذي هو
أوهن ما تنسجه عنكبوت الوهم برهنة على إمكانه.
فيقال لهذا
المتشبّث وإن لم يكن بما هذر يستأهل أن يستحقّ فضل الاشتغال بتوهين ظنّه : إن اريد
بالأصل فى قولك هذا : ما هو بمعنى الكثير الرّاجح ، فكون أكثر ما لم يقم دليل على
استحالته ووجوبه ممكنا غير ظاهر ، ولو فرض كذلك فغير نافع ، إذ يجوز أن يكون هذا
من الأقلّ ؛ وإن أريد به معنى ما لا يعدل عنه إلاّ لدليل ، على ما هو المستعمل فى
صناعتى الفقه واصول الفقه ، فهو باطل هاهنا ؛ إذ الوجوب والإمكان والامتناع ليس
شيء منها أصلا بهذا المعنى ، بل كلّ منها مقتضى ماهيّة موضوعه. فما لم يحكم
البرهان بأنّ الشيء من أىّ حىّ لم يعلم حاله.
وما قال
شركاؤنا السّابقون فى الصّناعة ، معناه : أنّ ما لا برهان على وجوبه ولا على
امتناعه لا ينبغى أن ينكر ، بل يترك فى بقعة الإمكان العقلىّ الّذي مرجعه الاحتمال
فى بادى الأمر ، أو الإمكان العامّ بالمعنى الشّامل للواجب والممتنع أيضا ، لا
أنّه يعتقد إمكانه الذّاتىّ. أفليس من أقوالهم : «إنّ من تعوّد أن يصدّق من غير
دليل فقد انسلخ عن الفطرة الإنسانيّة».
ويعجبنى ألفاظ
شريكنا السّابق الفائق الماتع البارع ، أفضل المحدقين بعرش الفلسفة اليونانيّة ،
من الفلاسفة الإسلاميّة ، الرّئيس أبى عليّ بن سينا ، حيث يقول فى كتاب الإشارات :
«إيّاك أن يكون
تكيّسك وتبرّؤك عن العامّة هو أن تنبرئ عن كلّ شيء ؛ فذلك طيش وعجز. وليس الخرق فى
تكذيبك ما لم تستبن لك ، بعد ، جليّته دون الخرق فى تصديقك بما لم تقم بين يديك
بيّنته ؛ بل عليك الاعتصام بحبل التّوقّف. وإن أزعحك استنكار ما يوعاه سمعك ما لم
تتبرهن استحالته لك ، فالصّواب لك أن تسرّح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك
عنها قائم البرهان» .
<٢٢>ختامة مسكيّة
طريقة
السّطحيّين المشدوهين عن اللّبوب بالقشور وعن الأسرار بالظّواهر فى الفلسفة
اليونانيّة ـ أعنى الّتي ليست هى الحكمة بالحقيقة وإنّما هى شبح الحكمة ، ولا هى
حقيقة العلم وإنّما هى شبيهة المعرفة ـ : إنّ الماهيّة قد تتعرّى فى الآتى من جهة
الأبد عن الوجود فى الأعيان ، ولا تتعرّى مطلقا عن الوجودين معا. كما أنّها ربما
عريت فى السّالف من جهة الأزل عن الوجود (٤٨) فى الأشياء الخارجة ولم تعر فى تلك
الجهة عن الوجودين معا على الإطلاق.
والتّعرّى عن
الوجودين معا عند ثلّة من الفلاسفة ممتنع بالنّظر إلى الماهيّة بالغير وعلى سبيل
الاتفاق ، من جهة أنّ جملة الطبائع وقاطبة المفهومات مرتسمة فى الأذهان العالية
ابدا لا بالذّات ، فإنّ الماهيّة ، كما لا تأبى فى سنخها عدم التّلبّس رأسا
بالوجودين معا ، وإنّما أوجبت لها العلّة وجودا ما ، كذلك لا تأبى أن تتعرّى عن
الوجودين معا ، بعد أن كانت تلبّست بمطلق الوجود وإنّما يمتنع عليها ذلك من جهة
علّة خارجة إلاّ ماهيّة الزّمان ؛ فإنّها بسنخها تأبى أن تتعرّى عن الوجودين معا وعن
خصوص الوجود فى الأعيان أيضا بعد أن كانت تلبّست.
__________________
وعند ثلّة
يسيرة منهم يمتنع ذلك بالذّات بالنّظر إلى أيّة ماهيّة كانت ؛ فإنّ الاتّصاف
بطبيعة الوجود والعدم ممكن بالنّظر إلى كلّ ماهيّة إمكانيّة.
ثمّ العدم
الطارئ بالقياس إلى طبيعة مطلق الوجود ، أى : ارتفاع الوجودين معا عن الماهيّة من
بعد التلبّس ممتنع بالنّظر إلى أيّة ماهيّة كانت. وأمّا العدم الطارئ بالقياس إلى
الوجود العينىّ فلا يمتنع بالنظر إلى ماهيّة أصلا إلاّ الزّمان ، فإنّه يمتنع
العدم العينىّ الطارئ عليه بالنظر إلى سنخ ماهيّته. وليس كذلك الجوهر البسيط
المجرّد ، كالنّفس النّاطقة المجرّدة مثلا ؛ فإنّ عدمها العينىّ الطارئ إنّما
يمتنع من جهة عدم المادة الحاملة لإمكان ذلك العدم قبل حدوثه لا بالنّظر إلى نفس
حقيقتها ، ولا أرى امتناع التّعرّى عن الوجودين معا بالنّظر إلى الماهيّات مطلقا
ممكن التّبرهن على اصولهم.
وأمّا الّذي
يهدى إلى الصّراط المستقيم ـ وهو محجّة الحكمة اليمانيّة البيضاء ، ويشيه أن يكون
بالحقيقة طبخا للفلسفة اليونانيّة ـ فسبيله أن يقال : إنّ أوعية الوجود مختلفة
الطبائع ومتخالفة الأحكام ، وإنّ بين التّعرية وبين العرى عن الوجود بحسب تلك
الأوعية فرقانا.
فالماهيّة ـ
بعد ما أن تقرّرت وتجوهرت بجعل الجاعل ـ قد تتعرّى عن الوجود العينىّ فى أفق
الزّمان بحسب الإضافة إلى الأشياء الزّمانيّة. وأمّا فى دعاء الدّهر ، فإنّها لا
تتعرّى عن الوجود الّذي هو لها فى زمان وجودها ، ولها العري عن الوجود فى غير ذلك
الزّمان على معنى عدم التّلبّس بالوجود فى غير زمانه فى دعاء الدّهر أصلا.
والضّابط : أنّ
التّعرّى عن الوجود للحوادث الزّمانيّة ربّما يمكن بالنّظر إلى الحادث إذا كان
مادّيّا بحسب افق الزّمان ويرجع معناه فى الحقيقة إلى الاختصاص بزمان ما. وأمّا
بحسب وعاء الدّهر فيمتنع تعرّى الماهيّة عن طبيعة مطلق الوجود ، أى ارتفاع مطلق
الوجود عنها من بعد ما أن تقرّرت وإن أمكن لها بالنّظر إلى ذاتها العدم رأسا فى
وعاء الدّهر بأن لا يتقرر أصلا ، وهو العري ، أى عدم التّلبّس بالوجود ؛ فإنّ
العدم الطّارئ على الوجود فى وعاء الدّهر غير متصوّر أصلا ، بل إنّما يتصوّر فى
وعاء
الدّهر العدم السّابق على الوجود فقط ، وإلاّ لزم أن يكون بحسب وعاء الدّهر
طرفان وواسطة ، وذلك يستلزم الامتداد فى وعاء الدّهر. والقول به سفاهة فى جهالة.
وأمّا أنّ ذلك
الامتناع ـ هل هو بالنّظر إلى طباع وعاء الدّهر فقط من جهة عدم متصوّريّة الامتداد
فيه ، أو بالنّظر إلى سنخ ذات الماهيّة أيضا ، من حيث إنّ الشّيء إذا تجوهرت
حقيقته التّصوّريّة لا تبطل هى ولا يفقدها هو بحسب نفس الأمر أبدا ، حتّى يصحّ أن
لا يكون له حقيقة بحسب نفس الأمر ، وقد صار هو ذا حقيقة فى نفس الأمر ـ فمحلّ
إسباغ للنّظر وموقع إعمال للقريحة. ولعلّ الغريزة المتوقّدة تقضى فيه بالحدس
الصّائب.
ثمّ العدم
العينىّ الطارئ على الماهيّة فى وعاء الدّهر أيضا ممتنع ، كما العدم الطّارئ
بالقياس إلى الوجودين معا (٤٩) فيه بعين ما كدّر عليك ، من عدم متصوّريّة الامتداد
فيه ، بل الحادث الزّمانىّ الّذي ينبتّ وجوده بانقطاع استمراره فى افق الزّمان ليس
يتصوّر له عدم عينىّ طار فى وعاء الدّهر ، وإنّما هو يتّصف فى وعاء الدّهر بوجوده
الّذي له فى زمان وجوده بعد العدم.
وهذا الوجود ،
يلحظ تارة من حيث هو وجود بما هو وجود ، لا بما هو مستمرّ أو غير مستمرّ. وهو من
هذه الحيثيّة وجود دهرىّ ؛ وتارة باعتبار أنّه متخصّص بالزّمان ومرتبط بالوقوع فيه
، وهو بهذا الاعتبار وجود زمانىّ يعقل فيه الاستمرار والانقطاع ، ولا يتلبّس بحسب
ذلك الوعاء المتقدس عن التّقضّى والتّجدّد بالوجود فى زمان آخر أصلا فى الآزال والآباد.
وذلك الوجود ـ
أعنى الّذي هو له فى زمان الحصول ـ لا يكاد يصحّ العدم الطارئ بالقياس إليه من
سبيلين ، أحدهما : عدم الامتداد فى وعاء الدّهر ، وثانيهما : أنّ ذلك إنّما يتصوّر
بارتفاع الوجود عن ذلك الشّيء الموجود فى ذلك الزّمان ؛ إذ الوجود فى غير ذلك
الزّمان مرتفع فى الآزال والآباد ، فكيف يكون رفعه طاريا. وذلك ممّا هو يتضمّن ضمّ
النّقيضين ؛ والشّيء الزّمانىّ لا يكون اتّصافه بطبيعة الوجود إلاّ بأن يكون
موجودا فى زمان ما أو فى جميع الأزمنة. وإن صحّ سلخ هذا الاعتبار عن ذلك الوجود وانسلاخ
ذلك الوجود عن هذا الاعتبار فى لحاظ العقل بأن يؤخذ بما هو وجود ذلك الشّيء
فى نفس الأمر ، لا بما هو متخصّص بأن يكون فى افق الزّمان.
وهو بهذه
الحيثيّة وجود فى وعاء الدّهر والزّمان كسائر الماهيّات الممكنات فى أنّ طرء العدم
عليها فى وعاء الدّهر طرءا دهريّا ممتنع من جهة أنّ وعاء الدّهر يرتفع شأنه عن
صحّة تصوّر الطرفين والوسط والامتداد واللاّامتداد فيه ، لا لخصوصيّة زائدة
لماهيّة الزّمان ليست لتلك الماهيّات.
وإنّما خصوص
ماهيّة الزّمان يقتضي امتناع طرء العدم على الزّمان من بعد الوجود طرءا زمانيّا
يكون بحسب الوجود قبل العدم قبليّة زمانيّة ؛ فإنّ ذلك يمتنع على طبيعة الزّمان
بنفس ماهيّته. وليست سائر الماهيّات على هذه الشّاكلة ، كما يمتنع على نفس ماهيّته
أن يسبق وجوده العدم سبقا بالزّمان ، وإنّما يمكن ذلك بالنّظر إلى سنخ طبيعته
بالسّبق الدّهرىّ فقط ، وليست هذه السّنّة لسائر الماهيّات.
وهذه المعانى
إنّما تتعرّف بثقافة البصيرة وشحاذة السّجيحة وأنّ المدارك العاميّة المخدجة الغير
المراهقة نصاب البلوغ لهى بمعزل عن إدراك هذه الحقائق ونظائرها. فعليك باستضاءة
غشاوة الوهم والاستمساك بالضّراعة إلى واهب العقل ؛ فإنّ تلك الدّرجة هى العروة
الوثقى لهذه النّفس المجرّدة ، وبها انساح لنا بال الرّوع لإيعاء العلوم الشّاهقة
فى وعاء القريحة الدّاهقة ، والحمد للّه ربّ العالمين.
المسافة الخامسة
<الوجوب والامكان والامتناع >
من الصّرحة الأولى من كتاب الأفق المبين ، عجّل اللّه فرج الحكمة بتيسيرنا
لإتمامه ، بمنّه وإكرامه. يستقصى فيها القول فى عناصر العقود ـ وهى الوجوب
والإمكان والامتناع ـ ويستوفى النّظر فى خواصّها وأحكامها ، وتوفّى حقوقها
بتحقيق ما يلتصق بذلك القول ، ويقفّى بيانها بتبيان ما يلتحق بذلك النّظر.
< في المسافة الخامسة فصول أربعة >
[المسافة الخامسة]
الوجوب الإمكان والامتناع
فيها فصول أربعة
الفصل الأوّل فى كشف المفهومات والحقائق
فى هذا الفصل ثمانية عشر عنوانا
الفصل الثاني فى أحكام كالأمور العامّة لها
فى هذا الفصل اثنان وعشرون عنوانا
الفصل الثالث في خواصّ الواجب بالذّات جلّ ذكره
في هذا الفصل خمسة عشر عنوانا
الفصل الرابع في خواصّ الممكن بالذّات
في هذا الفصل ثلاثة وخمسون عنوانا
فصل [أوّل]
< كشف المفهومات والحقائق >
فيه تكشف طبائع هذه المفهومات ببروق وامضة وتحصل حقائق باهرة فيها
وعلوم غامضة. وإذا رأيتنى على حيدة عن مألوف ذهنك ، فكن بعقلك متضائلا لحمل
أعبائه ، ولا تكن بوهمك متخائلا على الاستدارة حول دوران رحائه.
< في الفصل الأوّل ثمانية عشر عنوانا >
<١>إخاذة
إنّه إذا لوحظ
تجوهر الحقيقة ، وكذا لا تجوهرها ، أو حمل الوجود ، أو جعل رابطة ، وكذا العدم ؛
تثبت كيفيّات ثلاث لنسب العقود حالّة على الوثاقة والضّعف هى الوجوب والإمكان والامتناع
(٤٨). وهى عناصر وموادّ فى أنفسها وجهات بحسب التّعقّل وليست الجهات تنحصر فى
الموادّ. فكلّ ما يتعقّل من الكيفيّات أو يدلّ عليها بلفظ جهة ، سواء كانت هى إحدى
تلك أو غيرها ربما هى أعمّ أو أخصّ وقد يكون مباينا. والجهة بما هى جهة يلزمها أن
تطابق المادّة. فالمادّة هى بحسب نفس الأمر. وإنّما الجهة بحسب إدراك العقل ، طابق
الواقع أو خالفه ، ولا مادّة النّسب سوالب العقود بما هى نسب سلبيّة ، بل إنّما
المادّة بحسب النّسب الإيجابيّة فحسب.
<٢> إيماض مصباحيّ
مطلب «هل»
ينقسم إلى جسمين ، بسيط ومركّب. ثمّ البسيط إلى نوعين ، حقيقىّ ومشهورىّ. والعقد
بحسبه إلى هل بسيطىّ وهل مركّبىّ. ثمّ الهلىّ البسيط إلى بسيطىّ على الحقيقة وبسيطىّ
مشهورىّ. أمّا الهل البسيط فهو هل الشّيء ، أى السّؤال عن تقرّره فى نفسه. وأمّا
هل المركّب فهو هل الشّيء شيء ، أى : السّؤال عنه على صفة ، ويرجع إلى كون تلك
الصّفة له ، أو كونه على تلك الصّفة.
والحقيقيّ من
البسيط سؤال عن نفس الشّيء بحسب تجوهر حقيقته فى نفسها وتقرّر ماهيّته فى سنخها ؛
أعنى المرتبة المتقدّمة على مرتبة الوجود ، وهى الصّادرة عن الجاعل ابتداء بلا وسط
فى لحاظ العقل أصلا.
والمشهوريّ منه
سؤال عن نفس الشّيء بحسب مرتبة الموجوديّة والكون إمّا فى نفس الأمر على الإطلاق
أو فى الأعيان أو فى الذّهن. وهى المرتبة المترتّبة على المرتبة الأولى بلا وسط.
فالواقع فى
مطلب «هل» مطلقا : إمّا التّجوهر أو ليس ، أو الموجود على الإطلاق أو ليس ، أو
الموجود شيئا ما ، إمّا شيئا جوهريّا للموضوع أو عرضيّا ذاتيّا أو عرضيّا خارجيّا
أو ليس.
وعدم تثليث
الأقسام بإهمال البسيط من قسمى الهل البسيط ، وهو الأحقّ بالاعتبار. ثمّ باعتبار
البساطة فيه مغلط فى المعارف التّصوّريّة والعلوم التّصديقيّة ومفسد فى أبواب
الاقتناصات الحدّيّة والبرهانيّة.
وإن كانت
المرتبتان متخالطتين فى غير اللّحاظ الّذي هو ظرف الخلط والتّعرية من ظروف الوجود
، فالسّؤال عن تجوهر الحقيقة ؛ كما يقال : «هل العقل» ؛ أى هل ماهيّة هى العقل. والجواب
: نعم ؛ أى : بعض الماهيّات المتجوهرة هى العقل : وهل ماهيّة هى العقل؟ والجواب :
ليس. أى : لا ماهيّة متجوهرة هى اجتماع النّقيضين.
وإذا ثبت أنّ
الشّيء ، كالعقل ، مثلا ، متجوهر الحقيقة فى الأعيان ، استغنى بذلك
عن السّؤال عن وجوده فى الأعيان ، وكذا العكس ؛ إذ الشّيء لا يصحّ أن يكون
له حقيقة متقرّرة وليس لتلك الحقيقة المتجوهرة وجود فى ظرف تجوهرها ، وإنّما يختلق
ذلك قوم ليسوا هم من المميّزين ، بل إنّ حقيقته التّصوّريّة المتجوهرة فى ظرف
يتبعها ويلزمها ، أى : لا يسلخ أن تكون موجودة فى ذلك الظّرف. ولكن ينبغى أن لا
يهمل فصل إحدى المرتبتين عن الاخرى وسبق السّابقة السّابقة منهما ، لئلاّ تضيع
حقوق الأحكام المختلفة بحسب ذلك.
ومطلب هل
البسيط متقدّم على المركّب ؛ إذ طبيعة إثبات شيء لشيء تقتضى أن يكون المثبت له
ثابتا فى نفسه حتّى يثبت له شيء ، فيكون الشّيء فى نفسه ثمّ يكون له صفة.
وتحقّقن أنّ
عقود الهليّات البسيطة ليس مفادها ثبوت شيء للموضوع أو اتّحاد الموضوع والمحمول ،
بل مفادها تجوهر حقيقة الموضوع أو لا تجوهرها ، وكون الموضوع فى نفسه أو انتفاوه
فى نفسه. وإنّما ذلك فى الهليّة المركّبة فقط ؛ فإنّ العقد فى الهليّات البسيطة
إنّما يشتمل بحسب الضّرورة النّاشئة من طباع العقد على الموضوع والمحمول والنّسبة
الحكميّة بينهما فى الذّكر والتّعبير عمّا أدركه العقل ، لا بحسب ما يرجع إليه
مفاد العقد ويتعلّق القصد بالتّعبير عنه.
أليس من يستأهل
محاولة النّظر فى أسرار العلوم (٤٩) إذا راجع غريزة عقله وجد أنّ قولنا : العقل
متقرّر أو موجود مثلا ، إذا أفاد ثبوت مفهوم التّقرّر أو الوجود للعقل أو اتّحاد
العقل ، والمتقرّر أو الموجود كان ذلك شيئا وراء تقرّره فى سنخه أو كونه فى نفسه ومتأخّرا
عنه ؛ وما يرام ليس إلاّ الشّيء المتقدّم ، أعنى تحقّق نفس ذات الموصوف ، لا الشيء
المتأخّر ، وهو ثبوت وصف له ، سواء كان ذلك الوصف مفهوم الثّبوت أو غيره. فإذن ،
تحصيل ذات الموصوف من حيّز الهليّات البسيطة وتحصيل وصف له من حيّز الهليّة
المركّبة.
وكذلك السّالب
، كقولنا : ليس اجتماع النّقيضين متقرّرا أو موجودا ، مفاده بالحقيقة ليسيّة سنخ
حقيقته أو سلب ذاته وانتفاؤه فى نفسه ، لا سلب مفهوم التّقرّر
أو مفهوم الوجود منه ؛ فقد كنّا عرّفناك من قبل : أنّ الوجود نفس كون
الماهيّة وموجوديّتها ، لا ما به الموجوديّة ، أى : أمر به تكون الماهيّة. وكذلك
عدم الشّيء فى نفسه هو نفس انتفاء ذاته ، لا انتفاء أمر عن ذاته هو الوجود على
خلاف عدم صفة من صفات الشّيء ؛ فإنّه عبارة عن انتفاء شيء عن شيء. فإذن الإيجاب فى
الهليّات البسيطة تجوهر شيء أو ثبوته ؛ والسّلب ليسيّة شيء أو انتفاؤه.
والإيجاب فى
الهلىّ المركّب ثبوت شيء لشيء ، والسّلب انتفاء شيء عنه.
وليس فى العقد
الهلىّ البسيط رابطة وراء النّسبة الحكميّة. والمحمول فيه بسيط هو المتقرّر أو
الموجود ، ولا يعتبر فيه وجود أو عدم رابط ؛ إذ لا يقصد وجود المحمول للموضوع ، بل
تحقّق الموضوع فى نفسه فى موجبه ، وانتفاء ذاته فى ذاته فى سالبه. فليس هناك إلاّ
نسبة واحدة ، والحكاية بها ليست إلاّ عن ذات الموضوع الواقعة.
وأمّا العقد الهليّ
المركّب ، كقولنا : الفلك متحرّك ؛ ففيه نسبتان ، إحداهما الوجود أو العدم الرّابط
، إذ ما يرومه الرّائم هناك هو وجود شيء لشيء أو انتفاء شيء عن شيء.
فتلحظ للوجود
نسبة إلى موضوعه. ثمّ للمجموع إلى متعلّق موضوع الوجود نسبة اخرى هى النّسبة
الحكميّة اللاّزمة فى جميع العقود ؛ فإن جعل المحمول موضوع الوجود كان الوجود
ينتسب إلى المحمول ، ثمّ ينسب المجموع إلى الموضوع بالنّسبة الحكميّة ، فيقال :
إنّ وجود هذا المحمول له وإن جعل موضوعه الموضوع ، كأن ينسب الوجود إلى الموضوع ،
ثمّ يربط المحمول بالمجموع بالنّسبة الحكميّة ، فيقال : إنّ وجود الموضوع على صفة
كذا. وذلك فى الموجبات.
وفى السّوالب
تلحظ نسبة العدم إلى ما يعتبر موضوعا له. ثمّ ينسب المجموع إلى متعلّق موضوع العدم
: فإن اعتبر المحمول موضوعا له نسب العدم إلى المحمول ؛ ثمّ المجموع إلى الموضوع
بسلب النّسبة الحكميّة الإيجابيّة ، فيقال : لا يوجد للموضوع هذا المحمول. وإن
اعتبر الموضوع ذلك نسب العدم إلى
الموضوع ، ثمّ يسلب بذلك ربط المحمول بسلب تلك النّسبة ، فيقال : ليس يوجد
الموضوع على وصف كذا.
فإذن إحدى تينك
النّسبتين فقط جزء مفرد للعقد ، وهى النّسبة الحكميّة الرّابطة بين حاشيتيها
الموضوع والمحمول فى أجناس العقود وأنواعها على الإطلاق.
وأمّا النّسبة
الأخرى ، وهى نسبة الوجود إلى المحمول أو إلى الموضوع ، أو نسبة العدم إلى أحدهما
، فهى ليست جزءا مفردا ، بل هى مضمّنة فى المحمول ومدلول عليها به أو فى الموضوع ،
فالمحمول مع تلك النّسبة المتعلقة به جزء منفرد للعقد أو الموضوع كذلك.
فإذن قد استبان
لك أنّ العقد الهلىّ البسيطىّ ، كما أنّه بسيطىّ فكذلك هو بسيط فى نفسه من جهة أنّ
النّسبة فيها واحدة. والعقد الهلىّ المركّبى كما أنّه مركّبي فكذلك هو مركّب فى
نفسه ، لتضمّنه النّسبتين. وإنّ ما كشفناه لك هو ما عناه رأس المشّائيّة ومعلّمهم
أرسطو طاليس بقوله فى التعليم الأوّل :
«الهليّة
البسيطة من العقود الموجود بالكلّ ، والهليّة المركّبة الموجود بالجزء : إمّا لأنّ
مفاد العقد فى الهليّات البسيطة إسناد الوجود والشّيء بكلّيّة ذاته ، وكلّ العقد ـ
أى : المحكىّ عنه به ـ ليس إلاّ ذلك الشّيء الموجود ، وإيراد مفهوم المحمول فى
الذّكر للتّعبير عن ذلك. وإنّما فى الهليّات المركّبة إسناد الوجود إلى أحد جزئى
العقد ، وكلّ العقد بحسب المعبّر عنه ليس ما اسند إليه الوجود فقط (٥٠). كما أنّه
بحسب التّعبير ليس هو ذلك فحسب ، بل ذلك وما هو مخلوط به جميعا. وإمّا لأنّ الهلىّ
المركّب مشتمل على نسبتين : إحداهما بين الوجود وموضوعه ، وثانيتهما بين مجموعهما وموضوع
العقد. والثّانية توجب وجود المحمول للموضوع فى العقد دون الأولى ، فيكون ذلك فيه
بجزئه ، بخلاف الهلىّ البسيط ، فإنّه لا يتضمّن نسبتين ، بل فيه نسبة واحدة هى
نسبة الوجود إلى ذات الموضوع بأنّها فى نفسها واقعة ، لا أنّ المحمول ثابت لها ،
فيكون إيجاب وجود الموضوع ، وهو الّذي ريم بالعقد فيه بكلّه. وعلى هذا يراد بالعقد
النّسبة العقديّة».
<٣ > ذنابة ردعيّة
بلغتنى مذاهب
عجيبة فى مسائل فلسفيّة قد نبغت من شرذمة من المتفلسفة والمقلّدة فى هذه السّنين
المتأخّرة. وليس يعلم لها ابتناء على ما قد كان يسلك فى عصور المعلّمين والرّؤساء.
ومن تلك
المذاهب العجيبة : ما يظنّ أنّ مفاد العقد مطلقا هو ثبوت المحمول للموضوع أو سلبه
عنه ، وتستوى فى ذلك الهليّة البسيطة والهليّة المركّبة مع ما يذعن للحكماء
المحصّلين فيما يحكمون بأنّ الوجود المطلق الفطرىّ هو نفس الموجوديّة المصدريّة
الانتزاعيّة ، ومطابق الحكم به على الماهيّة نفس ذات الماهيّة الواقعة فى ظرف
الوجود ، لا الماهيّة الواقعة مع مفهوم ما غيرها ، انضمامىّ أو انتزاعىّ. وينكر
على السّفهاء المهوّشين حيث يزعمون أنّ الوجود هو ما به الحصول ، لا نفس الحصول.
وإذ لم يحصل ما
تلوناه عليك حسب أنّ ذلك الفرق يستلزم إسقاط النّسبة الحكميّة عن عقود الهليّات
البسيطة بما هى عقود. ولا يستصحّه أحد.
فكلّ عقد عند
قدماء الفلاسفة مؤلّف من أجزاء ثلاثة ، الحاشيتين والنّسبة الإيجابيّة أو
السّلبيّة ؛ وعند متفلسفة المحدثين من أربعة أجزاء ، بناء على اختراعهم النّسبة
الّتي هى مورد الحكم بزعمهم.
وكأنّك قد
تعرّفت أنّه زيغ فاضح. فالمسقط فى الاعتبار هو الوجود أو العدم الرّابط ، أعنى النّسبة
المضمّنة فى إحدى الحاشيتين ، وهى ولاء النّسبة الحكميّة الرّابطة بينهما. وأجزاء
القضيّة هى الحاشيتان والنّسبة الرّابطة بينهما. وإنّما الافتراق بحسب بساطة
الأجزاء جميعا فى البسيطة وتألّف أحدها فى المركّبة وبحسب ما يؤول إليه مفاد
العقدين لا غير.
ثمّ ما أشدّ
سخافة ما يتوهّم أنّ العدم إذا أخذ فى حيّز المحمول ، كقولنا : زيد معدوم ، لا
يتصوّر العقد إلاّ موجبا ، مفاده ثبوته للموضوع ، وإن لو اعتبر سالبا كان
مفاده سلب العدم عنه ، وهو ضدّ المقصود ، إذ لو ارجع السّلب إلى ذات
الموضوع كان المعنى سلب الموضوع عن نفسه. وهو ليس معنى العدم ، بل هو معنى آخر
غيره ، ويصحّ تعليله به : بأن يقال : هو مسلوب عن نفسه ، لأنّه معدوم فى نفسه.
أفلست قد تحققت
أنّ معنى العدم هو سلب الشّيء فى ذاته وانتفاؤه فى نفسه ، لا سلبه عن نفسه أو سلب
الوجود عنه ؛ فإنّ ذلك من حيّز الهليّة المركّبة. ومعنى زيد معدوم انتفاؤه فى نفسه
وهو من سوالب الهليّة البسيطة ؛ لا ثبوت انتفائه له حتّى يكون من موجبات الهليّة
المركّبة.
وأ ليس من
المستغربات ادّعاء تحصيل الجعل البسيط مع استنكار أن يتصوّر ليسيّة الحقيقة فى سنخ
ذاتها مع عزل النّظر عن الوجود وسلب الشّيء فى نفسه من دون إضافته إلى ثبوت ذلك
الشّيء.
أليس مقابل
التّقرّر الصّادر عن الجاعل هو ليسيّة الحقيقة فى جوهرها مع عزل النّظر عن الوجود.
هذا مع أنّ حجرة الجعل البسيط من المشّائيّة أيضا لا يستنكرون ذلك ، لتحصيلهم أنّ
الوجود هو تحقّق نفس الذّات ، لا ثبوت وصف لها. فالعدم أيضا سلب نفس الذّات وانتفاؤها
فى نفسها ، لا سلب مفهوم ما عنها.
ومن حيث ما
تعرّفت ، فاحكم أنّ كلّ عقد حملىّ بما هو عقد حملىّ من حقّه أن يكون فيه موضوع ومحمول
ونسبة بينهما صالحة للتّصديق والتكذيب ، أى مصحّحة لصلوح الحاشيتين للتّصديق والتّكذيب
؛ فإنّ العقد إنّما يصير عقدا باعتبار تلك النّسبة ، إذ بها يرتبط المحمول
بالموضوع ويصير المركّب منهما عقدا بالفعل (٥٢) ومحتملا للتصديق والتكذيب ويصلح
متعلقا للإدراك التّصديقىّ إيجابا أو سلبا.
ولست أقول : هى
متعلّق الإدراك الإذعانىّ كما يقول من ليس من حزب الحقّ ولا من رجال الحكمة. فمجرى
الموضوع والمحمول فى العقد الحملىّ مجرى المادّة ، والنّسبة بينهما تجرى مجرى
الهيئة الّتي هى الجزء الصّورىّ. ولهذا ما إنّه يجب معها العقد الحملىّ الّذي له
صلوح أن يقع متعلقا للتصديق أو التكذيب. وهى مضمّنة فى
متعلّق التّصديق وملحوظة بالتّبعيّة ، لا على الاستقلال. وليست حين ما
يتعلق الإدراك التّصديقىّ بالعقد هى متصوّرة ، بل إنّما يكون ذلك لو كان قبل أو
بعد فى صورة الشّكّ ولا يكون لشيء من العقود جزء خارج عن الثّلاثة ، بل إنّما يكون
فى الهلىّ المركّب إحدى الحاشيتين تتضمّن نسبة اخرى هى الوجود أو العدم الرّابط ، وليست
فى الهليّات البسيطة. ولذلك ما إنّه يرجع مفادها إلى تحقّق الموضوع أو ليسيّة فى
نفسه ، ومفاد الهليّة المركّبة إلى تحقّق المحمول للموضوع وانتفائه عنه.
وأمّا ما
اخترعته المبتدعة وسمّته الوقوع واللاّوقوع واعتبرته الجزء الرّابع ، فلست أرى
إضاعة الوقت بالبحث عنه ولو بالتّوهين من سنن المحصّلين. وإنّما هذه البدعة فى
الفلسفة من أحداث متفلسفة المحدثين.
<٤> تشبيه عقليّ
يشبه أن تكون
نسبة عقود الهليّات البسيطة إلى العقود الهليّة المركّبة فى باب التّصديق نسبة
الحدود إلى الرّسوم فى باب التّصوّر. فكما أنّ الحدود تعطى الذّوات فى التّصوّر والرّسوم
العوارض ، فكذلك عقود الهليّات البسيطة تعطى الذّوات فى التّصديق والعقود الهليّة
المركّبة أوصاف الذّوات وعوارضها.
فعلى سنّة
التّشبيه ، الهليّات البسيطة كأنّها حدود تصديقيّة ، والحدود كأنّها هليّات بسيطة
تصوّريّة. والهليّات المركّبة كأنّها رسوم تصديقيّة. والرّسوم كأنّها هليّات
مركبّة تصوريّة ، ثمّ كأنّ الجدير بهذه النّسبة الهليّ البسيط الحقيقىّ ؛ فإنّ ما
يعطيه هو التّصديق بجوهر الذّات بحسب سنخ التّجوهر دون المشهورىّ وإن كان هو أيضا
يعطى التّصديق بنفس الذّات فى ظرف الوجود.
<٥> تكملة تحصيليّة
وإن سألت
الصّواب فينبغى أن لا يعبأ إلاّ بهل البسيطة الحقيقيّة ، فإنّ مطلب هل البسيط
الحقيقىّ يستتبع مطلب هل البسيط المشهورىّ إيجابا وسلبا ، سؤالا
وجوابا. ولا ينبغى أن يفهم من قولنا ، فى الهليّة البسيطة الحقيقيّة ،
الإنسان متجوهر أو العقل متقرّر ، مثلا ، أنّه ريم بذلك ثبوت التّجوهر والتّقرّر
للموضوع ، بل إنّه عنى إعطاء التّصديق بنفس تجوهر الموضوع فى ذاته وتقرّره فى سنخه
المستتبع للكون المصدرىّ المنتزع. وإنّما تجشّم إيراد المحمول للضّرورة العقديّة ،
فإنّ طباع العقد يتضمّنه وطباع التّصديق يقتضي التّعلّق بالعقد ، لا لأنّه حوول
حمل مفهوم ما عليه ، سواء كان نفسه أو شيئا من ذاتيّاته أو من عوارض ذاته ، حتّى
يصير العقد هليّا مركّبا.
فالعقل يخترع
مفهوما وراء ما قصد الحكاية به وحاول إعطاء التّصديق به للضّرورة اللاّحقة للقصد
من جهة طباع العقد ، لا بالقصد الأوّل.
وأمّا فى
الهليّة المركّبة ، فإنّه يحاول لحاظ الموضوع والمحمول بالقصد الأوّل وإن كان
المحمول نفس الموضوع ، كما فى حمل الشّيء على نفسه ، إذ حيث يقصد الحكم على الشّيء
بنفسه ، فيلحظه مرّتين بلحاظ بعينه فى حيّز الموضوعيّة وفى حيّز المحموليّة بالقصد
الأوّل.
فإذن ، قد
استبان لك أنّ اعتبار المحمول فى الهليّة المركّبة بالقصد الأوّل وفى الهليّة
البسيطة ليس من جهة طباع ما تعلّق به القصد ، بل من جهة أنّ طباع العقد لا يسع ما
قصد إعطاؤه إلاّ بذلك الاعتبار.
<٦> إضاءة اساسيّة
الوجود
الرّابطىّ يقع بحسب اصطلاح الصّناعة على معنيين باشتراك اللّفظ :
أحدهما : ما
يقابل الوجود المحمول ، أى : وجود الشّيء فى نفسه ، على ما يستعمل فى مباحث
الموادّ. وهو ما يقع رابطة فى الهليّة الحمليّة وراء النّسبة الحكميّة الاتّحاديّة
الّتي هى فى جملة العقود (٥٣) ، وحدّه : وجود الشّيء شيئا ، ويباين بالحقيقة
النوعيّة الوجود المحمول ، أى : تحقّق الشّيء فى نفسه الّذي حدّه :
وجود الشّيء على الإطلاق.
والآخر : ما هو
أحد اعتبارى وجود الشّيء الّذي هو من الحقائق النّاعتيّة فى نفسه. وليس معناه إلاّ
تحقّق الشّيء فى نفسه. ولكن على أن يكون فى محلّ ، أو نعتا لشيء. أو حاضرا عند شيء
، أو غير ذلك ؛ أعنى بذلك : أنّ تحقّقه فى نفسه على هذه الجهة ، لا بأن يكون لذاته
، كما فى تحقّق الحقيقة القائمة بنفسها على سبيل شأن القيود المحصّلة للطّبائع
المبهمة ، لا أنّه المعنى الرّابط الّذي هو تحقّق الشّيء شيئا.
وذلك كما يقال
: وجود البياض فى الجسم ، أو وجود المعلول للعلّة ، أو وجود المعلوم عند العالم ؛
إذ المراد هو وجود البياض فى نفسه ، ولكن فى الجسم ؛ إذ وجود العرض فى نفسه هو
بعينه وجوده فى موضوعه ووجود المعلول فى نفسه. ولكن على أن يكون منتسبا إلى
العلّة.
فمن المتحقّق
أنّ وجود المعلول فى نفسه من حيث هو معلول هو بعينه وجوده منتسبا إلى علّته ووجود
المعلوم فى نفسه ، ولكن بما هو مشكوف لدى العالم.
فإذن ، هذا
الوجود الرّابطىّ ليس طباعه أن يباين تحقّق الشّيء فى نفسه بالذّات ، بل إنّه أحد
اعتباراته الّتي هو علّتها وأمّا الوجود الرّابطىّ الّذي هو أحد الرّابطين فى
الهليّات المركّبة من العقود. ففى طباع نفس مفهومه أن لا يفيد تحقّق الشّيء فى
نفسه.
وإنّى لست أعنى
بقولى هذا : أنّ الوجود الرّابطىّ بالمعنى الأوّل بما هو كذلك يقع فى الهليّات
البسيطة حتّى يكون قولنا : «البياض موجود فى الجسم» عقدا هليّا بسيطا ؛ فإنّ ذلك
لا يكاد يصحّ بوجه ؛
بل إنّما أعنى
: أنّ وجود الشّيء النّاعتيّ له صلوح أن يجرّد فى لحاظ العقل عن ذلك الاعتبار ، ويؤخذ
من حيث هو تحقّق ذلك الشّيء فى نفسه. ويعقد هليّ بسيط ، فيقال: «البياض موجود».
أفليس البياض
من الموجودات الحقيقيّة وإن كان وجوده الّذي ليس من إقليم المجاز ، بل هو فى ذاته
على سبيل الحقيقة ليس لذاته ، بل هو لغيره المنعوت به ، وإنّ وجوده له اعتباران :
أحدهما : أنّه تحقّق البياض فى نفسه لا على التّجوّز ، وهو بذلك الاعتبار محمول
الهلىّ البسيط من العقود. والآخر : أنّه بعينه هو فى الجسم. وهذا مفهوم آخر غير
تحقّق البياض فى نفسه وإن كان هو بعينه تحقّق البياض فى نفسه ملحوظا بهذه الجهة. وإنّما
يصحّ أن يقع محمولا فى الهلىّ المركّب ؛ كقولنا : «البياض موجود فى الجسم». ومفاده
: أنّه حقيقة ناعتيّة ، ليس وجودها فى نفسها لذاتها ، وإنّما هو فى الجسم والمحلّ.
وربّما يجعل
حينئذ موضوع العقد ، فيقال : وجود البياض فى نفسه هو وجوده فى الجسم أو المحلّ. وهذا
من خواصّ الماهيّات النّاعتيّة.
ثمّ وجود
الشّيء النّاعتيّ ـ بعد ما أن يؤخذ على هذه الجهة ـ يلحظ على نحوين : تارة ينسب
إلى ذلك الشّيء ، كما يكشف لك ، فيكون من أحواله ، وتارة إلى المنعوت ، فيقال :
الجسم موجود له البياض ، أو الجسم فيه البياض ، فيصير بهذا الاعتبار من حالات
المنعوت.
وعلى قياس ما
تلى عليك يقع لفظ الوجود فى نفسه أيضا بالاشتراك على معنيين : أحدهما بإزاء الوجود
الرّابطىّ بالمعنى الأوّل. وهو وجود نفس الشّيء على الإطلاق وعلى الحقيقة ، ويعمّ
ما لذاته ، كوجود الجوهر ، وهو الوجود فى نفسه ولنفسه ، أى : وجود الشّيء لنفس
الشّيء ، وما لغيره ، كوجود العرض ، وهو الوجود فى نفسه ، لا لنفسه ، أى : وجود
الشيء ، لا لنفس الشّيء. والآخر : بإزاء الرّابطىّ بالمعنى الأخير ، وهو ما يخصّ
لنفسه ، ولا يكون للطبائع النّاعتيّة.
وبالجملة ،
الوجود الرّابطىّ ، بالمعنى الأوّل ، مفهوم رابطىّ غير معقول على الاستقلال ، ويستحيل
أن يسلخ عنه ذلك الشّأن ويؤخذ معنى اسميّا يعقل بتوجيه الالتفات نحوه ، حتّى يصير
الوجود المحمول ، لاستحالة أن ينسلخ الشّيء عن طباعه وجوهريّاته. نعم ربّما صحّ أن
يؤخذ نسبيّا غير رابطىّ (٥٤). وبالمعنى الثّاني
مفهوم مستقلّ بالتّعقّل هو وجود الشيء ، وإنّما لحقه من جهة خصوص المادّة
أن يكون منتسبا ومضافا إلى شيء آخر أيضا بالتّحتيّة ؛ لأنّ موضوعه ، وهو الشّيء ،
طبيعة ناعتيّة بالإضافة إلى ذلك الشّيء.
فله صلوح أن
يلحظ بما هو هو ، فيكون معنى اسميّا حقيقيّا ؛ وبما لحقه من جهة خصوص موضوعه ، وهو
الشّيء النّاعتيّ ، فيصير معنى اسميّا إضافيّا ينعت موضوع موضوعه ويكون هو بعينه
وجود موضوعه لذلك الموضوع ، ولا يدخل بذلك فيما لا يستقلّ بالتّعقّل ، كسائر
النّعوت والإضافيّات الّتي هى مفهومات فى أنفسها ، ثمّ لزمتها الإضافة. فإذن ، قد
استوى الأمر وامتحق ما يغلط أنّ معنى واحدا يستقلّ ولا يستقلّ بالتّعقّل بلحاظين.
وهذه الأقوال
متأتّية فى العدم على محاذات ما قيل فى الوجود بتلك الاعتبارات ، فالعدم أيضا
رابطيّ بالمعنيين وفى نفسه بالمعنيين. ولو اصطلح على الوجود أو العدم الرّابط
لأوّل الرّابطيين والرّابطىّ للأخير وبإزائهما الوجود أو العدم المحمول لأوّل
المعنيين. والوجود أو العدم فى نفسه للأخير صير إلى وقاية من أغاليط اشتراك الاسم.
<٧> كلمة إلهيّة
إنّ احتباس
القسمة فى تثنية القسم بحسب لحاظ وجودات الطبائع الإمكانيّة. فالوجود الممكنىّ وهو
الّذي موضوعه الماهيّة ، إمّا وجود نفس الشّيء لنفس الشّيء أو وجود نفس الشيء لا
لنفس الشّيء ، بل لغيره. وأمّا الوجود الواجب القائم بالذّات فهو وجود نفسه ، لا
وجود شيء غير نفس الوجود. فإذن ، الوجود إمّا وجود نفسه أو وجود شيء هو موضوعه
إمّا لنفس ذلك الشّيء أو لغيره.
على أنّك ، إن
سألت الحقّ ، فأحد الأقسام وهو وجود الشّيء لنفس ذلك الشّيء، لا لغيره ، ليس بممكن
التّحقّق فممّا لك لدينا استكشافه فى مستقبل القول ، إن شاء اللّه تعالى ، إنّ
وجود الطبائع المادّيّة فى أنفسها هو بعينه وجودها لموادّها ،
وإنّ وجود المعلول بما هو معلول مطلقا هو وجوده لعلّته ، وإنّ وجوده
السّافل بما هو سافل مطلقا هو وجوده لدى العالى المحيط بجملة السّافلات.
فالممكنات طرّا
ـ مادّيّاتها ومفارقاتها ـ موجودات ، لا لذواتها ، بل لغيرها ، الّذي هو فوق
الذّوات المتفوّقات ومسفل العوالى المستعليات ، عزّ مجده وجلّ ذكره.
فإذن ، لا وجود
لذاته إلاّ إذا كان الوجود لا موضوع له ، فيكون هو وجود نفسه ، لا وجود شيء غير
نفسه. فإذن لا وجود لنفسه فى عوالم الإمكان ، كما لا وجود بنفسه فيها ، بل فيها
الوجود المحمول الّذي هو رابطىّ باعتبار آخر. والوجود الرّابط الّذي ليس هو بمحمول
بوجه ما أصلا. فإذن ، الموجود لذاته ليس إلاّ القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ جنانه
، كما أنّ الموجود بذاته ليس إلاّ هو.
وهذه المسألة
من كرائم المسائل الرّبوبيّات ومن شارقات الآيات العقليّة البيّنات الّتي هى أنوار
مشرقة فى سماوات النّفوس العاقلات القادسات ، وهى معشوقات قريحتنا الرّوعيّة، ونيلها
لدينا أكرم البغية النّوريّة فى عالم العقل بما فيه من الباهجات المعجبات ، ولذلك
ما ربّما تعجّلناها لإلظاظ الرّوع بذكرها وانجذاب السّرّ إليها.
<٨> وهم ودفاع
ربّما توهّم
أنّه إذا كان الوجود فى الهليّة المركّبة ، ورجع مفاد العقد إلى ثبوت المحمول
للموضوع ، فيلزم للمحمول وجود ، إذ الوجود للغير لا يعقل بدونه ، فلا يصحّ إثبات
العدميّات للموضوعات. ثمّ إنّ ثبوته للموضوع ثابت أيضا للموضوع ، فيكون له أيضا
ثبوت ثابت هو أيضا للموضوع ، إلى لا نهاية.
وإنّا قد كشفنا
، فيما تلونا عليك من قبل ، فسخه. والآن فقد نكشف أنّ ثبوت المحمول للموضوع ليس هو
وجوده فى نفسه ، ولكن للموضوع ، كوجود الأعراض (٥٥) لمحالّها حتّى يستلزم وجوده فى
نفسه ، بل إنّما هو اتّصاف موضوعه
به ـ أى الوجود الرّابط ـ فيجود أن يتّصف الموضوع بالعدمىّ ممّا له ثبوت فى
ذهن ما. واللاّنهاية فى الثّبوتات تنبّت بانبتات اعتبار العقل ؛ إذ ما لم يلحظ
ثبوت المحمول للموضوع بالذّات ولم يعقل بالقصد ، لم يمكن أن ينتسب إلى الموضوع ويحكم
بثبوته له.
فإذا قيل : «الإنسان
كاتب» ، فقد يعقل مفهوم ثبوت الكتابة للإنسان ، على أنّه أداة للحاظ حال الإنسان والكتاب
ومرآة لتعرّفهما ، لا على أنّه ملحوظ بالالتفات ومعقول بالقصد. فلا يمكن بحسب هذا
التّعقّل أن يراعى حال ذلك الثّبوت ولا يتصوّر أن ينسب إلى الموضوع بالثّبوت واللاّثبوت.
فإذا قلت :
ثبوت المحمول للموضوع كذا ، فقد جعلته منظورا إليه بالالتفات وملحوظا بالقصد ، لا
بالتّبعيّة. وليس هو اتّصاف الموضوع بالمحمول الّذي لا يقع إلاّ بين الحاشيتين لا
حاشية للحكم. فلذلك أمكنك أن تنسبه إلى الموضوع وتعتبر له ثبوتا آخر. وحينئذ يرجع
الأمر إلى أن يكون ذلك الثّبوت الآخر آلة لتعرّف حال الثّبوت الأوّل ولا يكون
معقولا بذاته ولا ملحوظا قصدا.
فإن التفتّ
إليه وقلت : ثبوت الثّبوت كذا فقد فاتتك الحاشيتان إلاّ بالعرض ، وأمكنك أن تعتبر
للثّبوت الآخر ثبوتا ثالثا ، وهكذا. فإذن ، تعقّل الثّبوت الثّاني يتوقّف على
تعقّل الثّبوت الأوّل بالقصد ، وتعقّل الثّالث على تعقّل الثّاني كذلك ، والعقل
تنتهى لحاظاته ، فتثبت السّلسلة.
<٩> تنصيص
إنّى أحكمت ما
حكم به شركاؤنا السّالفون : أنّ المحمولات بما هى محمولات ليس وجودها فى أنفسها
إلاّ وجودها لموضوعاتها ، لسنا نعني بذلك أنّ وجودها فى نفسها هو بعينه وجودها
لموضوعاتها ، كما فى الأعراض ؛ إذ المحمول بما هو محمول ليس له وجود فى نفسه يكون
هو لموضوع ذلك المحمول ، بل إنّه لا يوجد نفسه ، وإنّما يتصوّر هناك الوجود
الرّابط بين الموضوع والمحمول ، فإنّما له ثبوت
للموضوع ، لا وجود فى نفسه. ووجوده فى نفسه هو أنّه ثابت للموضوع.
ففرق بين قولنا
: «وجوده فى نفسه هو وجوده لموضوعه» ، وبين قولنا : «وجوده فى نفسه هو أنّه موجود
لموضوعه» ، ومدلول الأوّل أنّه موجود فى نفسه ؛ ووجوده فى نفسه هو لموضوعه ؛ لأنّه
لا يقوم بذاته ، بل بموضوعه. ومدلول الثانى أنّه ليس له وجود فى نفسه ، وموجوديّته
ليست بأن يكون هو من الموجودات فى أنفسها ، بل هو موجود لموضوعه. وذلك ما يعنى
بموجوديّته فى نفسه.
<١٠> تمشية وردع
إنّى مصوّب سلف
الفلاسفة فيما عقلوا أنّ النّسبة الحكميّة فى كلّ عقد ، موجبا كان أو سالبا ،
ثبوتيّة ؛ وأن لا نسبة فى العقد السّالب وراء النّسبة الإيجابيّة الّتي هى فى
العقد الموجب ، وأنّ مدلول العقد السّالب ومفاده هو سلب تلك النّسبة ، وليس فيه
حمل بل سلب حمل. وإنّما يقال له الحمليّ على المجاز والتّشبيه ، وأن لا مادّة
للعقد السّالب بحسب النّسبة السّلبيّة. وإنّما تكون المادّة بحسب النّسبة
الإيجابيّة. فلذلك لا تختلف المادّة فى الموجب والسّالب بحسب النّسبة الإيجابيّة والنّسبة
السّلبيّة.
ورادعك عمّا
أحدثته متفلسفة المحدثين من ظنّ أنّ فى السّالب نسبة سلبيّة وراء النّسبة الإيجابيّة
وأنّ المادّة تكون بحسب النّسبة السّلبيّة كما تكون بحسب النّسبة الإيجابيّة ، وأنّ
مادّة النّسبة السّلبيّة مخالفة لمادّة النّسبة الإيجابيّة. ولا يخلو شيء منهما من
الموادّ الثّلاث ، إلاّ أنّ المشهور اعتبارها فى النّسبة الثّبوتيّة ، لفضلها وشرفها
ولاندراج ما يعتبر فى النّسبة السّلبيّة فيها (٥٦) ، إذ واجب العدم هو ممتنع
الوجود وممتنع العدم هو واجب الوجود ، وممكن العدم هو ممكن الوجود.
فاعلمن أنّ
المادّة هى حال المحمول فى نفسه عند الموضوع من وجوب صدق أو امتناع صدق أو إمكان
صدق وكذب. وهى فى مطلق الهليّة البسيطة ترجع إلى حال الموضوع فى تجوهره أو فى وجود
نفس ذاته المتجوهرة ، لا حال
المحمول فى نسبته إلى الموضوع وثبوته له بحسب قوّة الذّات وتأكّد التّجوهر ووثاقة
الوجود وحصافة التّحقق ، أو ضعف الذّات وسخافة الحقيقة ووهن الوجود وبطلان
التّحقّق.
وفى الهليّة
المركّبة هى حال المحمول فى نسبته إلى الموضوع وثبوته له باعتبار وثاقة النّسبة أو
ضعفها. وليس فى السّلب إلاّ انتفاء الموضوع فى نفسه أو انتفاء المحمول عنه ، على
أنّه ليس هناك شيء ، لا أنّ هناك شيئا هو الانتفاء ، فليس فيه ما المادّة حاله ؛
فإنّ السّلب رفع الذّات أو قطع الرّبط ، لا ثبوت الرّفع أو القطع حتّى ينقلب
إيجابا.
فإذن ، لا
يتصوّر المادّة إلاّ بحسب النّسبة الإيجابيّة. وكيف يكون لما ليس بما هو ليس حال ،
وإنّما يكون للشّيء حال بما هو شيء ، لا بما ليس هو بشيء.
فالمادّة ، وكانت
تسمّى عند الأوائل من اليونانيّة والأقدمين من فلاسفة الإسلام عنصرا ، حال الموضوع
فى نفسه بالإيجاب بحسب كيفيّة الحقيقة فى التّجوهر وفى الوجود من استحقاق دوام
التّجوهر أو استحقاق دوام اللاّتجوهر أو لا استحقاق دوام التّجوهر واللاّتجوهر ، واستحقاق
دوام الوجود أو استحقاق دوام اللاّوجود ، أو لا استحقاق دوام الوجود واللاّوجود ،
أو حال المحمول فى نفسه بالقياس الإيجابيّ إلى الموضوع بحسب صدق كيفيّة ثبوته
للموضوع. ولو دلّ على العنصر بلفظ لكان يدلّ بالجهة.
وقد يكون العقد
ذا جهة يخالف العنصر ، إذ العنصر يكون بحسب نفس الأمر والجهة بحسب بياننا وتصريحنا
به بالفعل. فإذا قلت : كلّ إنسان يجب أن يكون كاتبا ، فالجهة فيه من الواجب والعنصر
من الممكن. وما فى نفس الأمر لا يختلف بالإيجاب والسّلب. فالعقد السّالب توجد
لمحموله الحال الّتي له عند الموضوع بالنّسبة الإيجابيّة بعينها ؛ فإنّ محموله
يكون مستحقّا عند الإيجاب بأحد الأمور المذكورة ، وإن لم يكن اوجب.
وما توهّم ـ
أنّ العنصر الثّابت على تقدير جعل العدم رابطة يكون غير الثّابت
على تقدير جعل الوجود رابطة يكون غير الثابت على تقدير جعل الوجود رابطة ـ
وهم سخيف متفرع عن أخذ قولنا : «زيد معدم» مثلا موجبا ، وجهالة أنّه ينعزل بذلك عن
أن يكون سلبا لقولنا «زيد موجود» ؛ ويرجع العقد إلى موجب سالب المحمول والحكم إلى
إيجاب سلب الوجود. ولذلك يختلف العقدان بحسب العنصر. فأيّ مفهوم اخذ ، فإنّ له ،
بما هو محمول ، حالا عند الموضوع بالنّسبة الإيجابيّة لا يتغيّر عند سلب تلك
النّسبة.
فكما أنّ حال
زيد فى نفسه بإيجاب الوجود ، أى عنصر هليّته البسيطة بحسب الاستحقاق واللاّاستحقاق
، لا يختلف فى نفس الأمر ، سواء أوجب أو سلب ؛ فكذلك حال ثبوت سلب الوجود لزيد ،
أى حال مفهوم سلب الوجود بالقياس إلى زيد بالنّسبة الإيجابيّة. وهو عنصر هليّته
المركّبة بحسب الاستحقاق واللاّاستحقاق بذلك لا ينقلب فى نفس الأمر ، سواء اوجب أو
سلب.
ولا ينبغى أن
يؤخذ «زيد معدوم» حين ما يرام سلب وجوده فى نفسه عقدا إيجابيّا ، بل يجب أن يعنى
به انتفاؤه فى نفسه وسلب ذاته فى وجوده ، ليكون العقد من سوالب الهليّات البسيطة ،
لا ثبوت سلب الوجود له ، حتّى يصير العقد موجبا من الهليّات المركّبة الإيجابيّة ؛
ولا سلب (٥٧) الوجود عنه ؛ ولا سلب نفسه عن نفسه ، حتى يرجع إلى أن يكون من سوالب
الهليّات المركّبة.
ولذلك ما يقول
شركاؤنا السّالفون من الحكماء الأقدمين أنّ محمول العقد الحملىّ ؛ سواء كان موجبا
أو سالبا ، قد يكون ثبوتيّا وقد يكون عدميّا فى الخارج.
وأمّا فى
الذّهن ، فلا بدّ وأن يكون ثابتا ، لاستحالة الحكم بما يكون متصوّرا. وأمّا موضوعه
، سواء كان موجبا أو سالبا ، فلا بدّ وأن يكون له ثبوت فى الذّهن ، لاستحالة الحكم
على ما لا يكون متصوّرا.
وأمّا فى الخارج
، فكذلك إذا كان الحكم بالإيجاب فى الخارج لاستدعائه وجود الموضوع ؛ لأنّ ثبوت شيء
لشيء فرع ثبوته فى نفسه. اللّهمّ إلاّ إذا كان المحمول فى معنى السّلب المطلق ،
نحو : «زيد معدوم فى الخارج» أو «شريك الإله ممتنع» ؛
فإنّه وإن اضيف إلى الخارج لكنّه نفس السّلب عن الخارج ، فكأنّه قيل : «زيد
المتمثّل فى الذّهن ليس فى الخارج». وإذا كان الحكم بالسّلب عن المعدوم فلا يقتضي
وجود الموضوع فيه ، لجواز سلب المعدوم والسّلب عن المعدوم.
ومن لم يفرّق
بين مسلكى الهليّتين ـ وظنّ أنّ سبيل طباع العقد مطلقا إعطاء ثبوت شيء لشيء ، أو
سلب شيء عن شيء ، ولم يصدّق : أنّ قولنا : «وجد الفلك» مثلا ، يعطى تحقّق ذات
الفلك ، لا تحقّق أمر له هو وجوده ، وكذلك قولنا : «عدم الفلك» ، يعطى بطلان ذاته
، لا انعقاد صفة عنه هى الوجود. وأمّا قولنا : «تحرّك الفلك» ، فإنّه يعطى ثبوت
صفة للفلك ، يعبّر عنها بالحركة ، وكذلك قولنا : «سكن الفلك» ، يعطى انسلاب صفة عن
الفلك ، هى الحركة ؛ ولم يجعل بإزاء المرتبة الّتي هى قبل مرتبة إثبات شيء لشيء ، وهى
مرتبة ثبوته فى نفسه عقلا ، وأرجع ثبوته فى نفسه إلى ثبوت شيء له ـ فهو فاسد طباع
الإنسانيّة ؛ فليصلح مزاج غريزته ، وليدبّر طباع عقله.
<١١> تكشاف
الشّيء الموضوع
فى العقد إذا كان ضرورىّ التّجوهر ويلزمه أن يكون ضرورىّ الوجود فى نفسه ، أو
المحمول ضرورىّ الوجود له ، كان الشيء الواجب إمّا باعتبار نفسه أو بحسب ثبوت
المحمول له وعنصر العقد الوجوب.
وإن كان ضرورىّ
اللاّتجوهر ويلزمه أن يكون ضرورىّ العدم أو المحمول ضرورىّ الانسلاب عنه كان هو
الممتنع وعنصر العقد الامتناع.
وإن لم يكن
ضرورىّ التّجوهر ولا ضرورىّ اللاّتجوهر ويلزمه أن لا يكون ضرورىّ الوجود ولا
ضرورىّ سلب الوجود أو لم يكن ضرورىّ انبتات المحمول له ولا ضرورىّ انسلابه عنه كان
هو الممكن ، وعنصر العقد الإمكان ، ولا يكون شيء من المفهومات التّصوريّة ، ولا
شيء من العقود عروا منها ، بل كلّ مفهوم أو عقد ، فإنّ له واحدا من هذه العناصر ، وأمّا
الجهات فمتكثّرة غير محصورة فيها.
وقد يتوافق
الجهة والعنصر وقد يتخالفان ، ولا يلزم أن يكون كلّ عقد ذا جهة ، بل قد يخلو عن
الجهة ويكون ذا عنصر. ولكن إهمال الجهة مغلّط.
فالّذى ينبغى
هو أن تكون العقود مقرونة بالجهات ومعانى هذه العناصر من الطبائع الفطريّة
التّصوّر. ولذلك ما يقنع بشرح ما وضع له اللّفظ بلفظ آخر مرادف.
ولا يتحاشى من
أخذ البعض فى تحديد البعض ، فيقال : الوجوب ضرورة تقرّر الحقيقة وضرورة وجودها ، والامتناع
ضرورة اللاّتجوهر ويستلزم ضرورة العدم ، والإمكان سلب ضرورة التّقرّر وسلب ضرورة
اللاّتقرّر ، ويستلزم لا ضرورة الوجود ولا ضرورة اللاّوجود ، أى سلب الضّرورتين والوجوب
، لكونه حقيّة الحقيقة وقوّتها وتأكّد الوجود ووثاقته أظهر وأعرف عند العقل من
قسيميه ، فلذلك هو يؤخذ فى تعريفهما ، ولا يستحسن العكس.
<١٢> أصل يمانيّ ميزانيّ
العقد قد يكون
مطلقا عامّ الإطلاق ، وهو الّذي بيّن فيه حكم من غير بيان ضرورته أو دوامه
السّرمديّ والدّهرىّ أو وجوده الغير الزّمانىّ فى وعاء الدّهر من بعد العدم
الدّهرىّ أو دوامه الزّمانىّ (٥٨) أو كونه حينا من الأحيان.
والإطلاق فى
العقد يقابل التّوجيه تقابل العدم والملكة ، وقد يعدّ المطلق فى العقود الموجّهة ،
كما يعدّ السّالب فى العقود الحمليّة. وقد يبيّن فيه شيء من ذلك إمّا ضرورة وإمّا
دوام سرمدىّ ودهرىّ ، وإمّا وجود غير زمانىّ فى وعاء الدّهر من بعد العدم فيه ، وإمّا
دوام زمانىّ من غير ضرورة وإمّا وجود من غير دوام وضرورة.
والإطلاق
العامّ يتناول جميعها من حيث العموم ويقابلها من حيث الاعتبار والعموم بحسب الوجود
، والتّقابل بحسب الصّدق. فمتى تحقّق الموجّه تحقّق المطلق. وما صدق عليه المطلق
لم يصدق عليه الموجّه.
وأمّا الإمكان
، فقد يكون من الجهات ، ويقابل الإطلاق العامّ من حيث
الاعتبار ، ولكن لا يتناوله من حيث العموم ، إذ العقد من حيث بيّن فيه حكم
إنّما يتناول ما يكون مشتملا على حكم قد حصل بالفعل ولا يتناول ما يكون مشتملا على
حكم لم يحصل إلاّ بالقوّة.
فالعقد المطلق
يدلّ على ثبوت النّسبة بالفعل والممكن لا يدلّ على وقوع النّسبة ؛ لجواز أن يبقى
بالقوّة دائما. فلا حكم فيه بالفعل ، فهو لا يعمّ الممكن من حيث هو ممكن. فإذن
الإمكان مغاير للإطلاق العامّ من حيث العموم والاعتبار جميعا.
<١٣> حكمة ميزانيّة يمانيّة
إنّ أسبق
شركائنا السّالفين وهو رئيس مشّائيّة الإسلام فى السّابقين قال فى باريرميناس
الشفاء : إنّ حقّ الجهة أنّ تقرن بالرّابطة. وذلك لأنّه جهة رابطة للمحمول على شيء
مطلقا أو بسور معمّم أو مخصّص. فالسّور مبيّن لكميّة حمل مكيّف الرّبط. فإذا قلنا
: «كلّ إنسان يمكن أن يكون كاتبا» فهو الطبيعيّ.
ومعناه : أنّ
كلّ واحد من النّاس يمكن أن يكون كاتبا ؛ فإن قرن بالسّور ولم يرد به إزالة عن
الموضع الطبيعىّ ، على سبيل التّوسّع ، بل اريد به الدّلالة على أنّ موضعها
الطبيعىّ مجاورة السّور لم يكن جهة للرّبط بل جهة للتّعميم والتّخصيص ، وتغيّر
المعنى وصار الممكن هو أن يكون كلّ واحد واحد من النّاس كافّتهم كاتبا ممكنا. والدّليل
على تغيّر المعنى أنّ الأوّل لا يشكّ فيه عند جمهور النّاس ؛ فإنّ كل واحد واحد من
النّاس يعلم أنّه لا يجب له فى طبيعته دوام كتابة أو غير كتابة.
وأمّا قولنا :
يمكن أن يكون كلّ إنسان كاتبا ، على أنّ الإمكان جهة الكلّيّة والسّور ، فقد يشكّ
فيه ؛ فإنّ من النّاس من يقول : محال أن يكون كلّ الناس كاتبين ، أى : محال أن
يوجد أنّ كلّ إنسان هو كاتب حتى يكون اتفق أن لا واحد من النّاس إلاّ وهو كاتب.
فإذن بين المعنيين فرقان.
وأمّا فى
الجزئيّات ، فإنّ الأمرين فيهما يجريان مجرى واحدا فى الظهور
والخفاء. ولكنّه قد يعلم مع ذلك أنّ بين المعنيين خلافا إذا رجع إلى حقيقة
المفهوم واستعين فيه باعتبار الكليّة.
وأمّا السّلب
الكلّيّ ، فليس فى لغة العرب ما يدلّ بالحقيقة على السّلب الممكن العامّ ، بل
المتعارف فيها إنّما يدلّ على إمكان سلب العامّ.
ولذلك يشكل أن
يقال : يمكن أن لا يكون واحد من النّاس كاتبا. فلقائل أن يقول : إنّ هذا لا يمكن
أن يصدق البتة ، بل يجب أن توجد الصّناعات فى بعض لا محالة.
وليس كلامنا فى
أنّ هذا القول حقّ وباطل ، فليست معرفة هذا من صناعة المنطق ، بل غرضنا أنّ الأمر
الّذي قد يقع فيه شكّ ليس هو الأمر الّذي لا يقع فيه. والّذي لا يقع فيه شكّ هو
إمكان سلب الكتابة عن كلّ واحد واحد. لكنّه لا يوجد فى لغة العرب ما يدلّ على هذا
إلاّ بالإيجاب ، كقولهم : «كلّ واحد من النّاس يمكن أن لا يكون كاتبا».
ونحن نقول :
كلامه فى السّلب الكلىّ : أنّ الجهة ، كالإمكان العامّ ، مثلا ، إذا قرنت بالسّور
، كقولهم : «بالإمكان لا شيء من الإنسان يكون كاتبا» ، كانت جهة لاستغراق السّلب وعمومه
، لا لكون كلّ واحد من الآحاد مسلوب الكتابة (٥٩) عنه فى طبيعته ، فكان الّذي يفاد
بذلك القول هو أنّه يمكن أن يستغرق سلب الكتابة جميع النّاس كافّة. وليس هو ما ريم
بالعقد ، كما قال فى الإيجاب. وإن قرنت بالرّابطة ، كقولهم : «لا شيء من الإنسان
يمكن أن يكون كاتبا» كان السّلب واردا على جهة الرّبط الإيجابيّ ، فكان العقد يعطى
سلب الإمكان العامّ للرّبط الإيجابيّ ، لا الإمكان العامّ لذلك السّلب.
والسّرّ فى ذلك
أنّه ليس فى السّالب ربط حقيقة ، بل الرّبط فيه عبارة عن قطع الرّبط الإيجابيّ.
فإذا جاورت الجهة الرّبط فيه كانت جهة للرّبط الإيجابيّ وكان السّلب قاطعا لذلك
الرّبط الّذي جهته تلك. فكانت جهة الرّبط الإيجابيّ مسلوبة ، لا لسلب الرّبط
موجّها.
وممّا يستأهل
أن يستغرب ، من كبراء المشّائيّة ولا سيّما من هذا الرّئيس الواسع التّعقّل
النّافذ النّظر الراقد القريحة ، أنّهم يطّلعون على هذا السّرّ ، ثمّ يذهلون عن
الحكم بأنّه كما لا يكون بحسب النّسبة السّلبيّة عنصر كذلك لا يكون بحسبها جهة. ولا
يختلف ذلك باختلاف اللّغات ؛ إذ هو أمر عقلىّ لا يتجاوزه العقل فى مادّة أصلا.
أليس بين ثبوت
العدم ـ وهو الّذي يعطيه الموجب المعدول أو الموجب السّالب المحمول ـ وبين عدم
الثّبوت ، وهو الّذي يعطيه السّالب البسيط ، فرق على قياس الفرق بين لزوم السّلب وبين
سلب اللّزوم ، أعنى بين لزوم العقد السّالب للمقدّم فى المتصل الموجب وبين سلب
لزوم العقد الموجب له فى المتصل السّالب.
والحكم
السّلبيّ ليس بما هو حكم سلبىّ إلاّ قطع النّسبة الإيجابيّة ، ولا يكون فيه إلى
ذلك السّلب التفات حتّى يمكن للعقل ـ حين ما هو سالب للنّسبة بما هو سالب لها ـ أن
يلاحظ حال مفهوم السّلب ويحكم عليه : بأنّه مفهوم أو متحقق أو منتف وغير ذلك. بل
إنّما له من تلك الجهة أن يقول : ليس يتحقق النّسبة الإيجابيّة وليس فيه وضع شيء
ما ليصحّ تكيّفه ، بل رفع بحت وليسيّة صرفة.
فإن أراد لحاظ
حال هذه النّسبة عزل القصد عن حاشيتى النّسبة الإيجابيّة والتفت إلى ذلك السّلب
القاطع لها. فإذن ، ليس يلحظ فى السّالب أن يسلب النّسبة الإيجابيّة إيجابا أو
سلبا حتى تكون له جهة عند العقل ، بل إنّما يمكن ذلك فى لحاظ آخر عند ما ينسب إلى
ذلك السّلب ثبوت أو سلب [بما هى نسبة سلبيّة].
وبالجملة ،
إنّما يكون للشّيء حال بما هو شيء ، لا بما ليس هو بشيء. وإنّما يصحّ تكيّف الرّبط
بما هو ربط ، لا بما ليس هو بربط. وليس السّلب بما هو سلب ربطا ولا شيئا من
الأشياء ، وإنّما يكون له الشّيئيّة بما هو متمثّل فى الذّهن ، لا بما هو رفع
الرّبط. وكذلك ليس الموضوع بما سلب فى نفسه أو بما سلب عنه المحمول شيئا ، ولا
المحمول بما سلب عن الموضوع هو شيء ؛ بل إنّما الشّيئيّة للموضوع أو
للمحمول أو للسّلب من حيثيّة اخرى غير السّلب. وإنّما يتصوّر تكييف الشّيء
من حيث له شيئيّة ، لا من حيث تسلب عنه الشّيئيّة. فالتّكييف إنّما يصحّ فى
الإيجاب والسّلب برفع النّسبة الإيجابيّة المكيّفة.
فإذن ، لا تكون
للنّسبة السّلبيّة بما هى نسبة سلبيّة جهة ، إذ ليس بحسبها إلاّ رفع الإيجاب ، لا
لحاظ حال ذلك الرّفع ، كما لا يكون بحسبها عنصر من هذا السّبيل.
ومن سبيل آخر
أيضا قد استبان لك. وهو أنّ العنصر حال الموضوع بالإيجاب أو حال المحمول بالقياس
الإيجابيّ إلى الموضوع بحسب نفس الأمر ، لا فى حكم العقل بحسب التّعقّل.
فإذن ، لا يكون
العقود الموجّهة إلاّ موجّهات. وحيث إنّ كلّ سالب ، موضوعه موجود فى الذّهن ، والموجب
السّالب المحمول يلزم السّالب إذا كان موضوعه موجودا ، فكلّ سالب يرجع عنه ويوجب
السّلب الّذي هو حكمه على الموضوع. فيحصل نسبة إيجابيّة ذات جهة معتبرة لها. فتنسب
الجهة إلى السّا لب الّذي هو ملزوم لتلك النّسبة الإيجابيّة من حيث وجود الموضوع
بالعرض ، لا نسبة بالذّات على أنّها للسّالب بالحقيقة.
فإذن ، الجهات
للموجبات الّتي هى اللّوازم وإن سومح بذكرها فى الملزومات الّتي هى السّوالب (٦٠)
، كما يسامح فى باب التّناقض ، فيطلق النّقيض على لوازم النّقائض ويجعل الإيجاب
نقيض السّلب ، وأنّ نقيضه سلب السّلب المستلزم للإيجاب ، ونقيض العقد إنّما يتحصّل
بإدخال «ليس» على ما أوجب بعينه بما له من العنصر والجهة.
فنقيض قولنا : «لا
شيء من الإنسان بكاتب» : «ليس لا شيء من الإنسان بكاتب». ويلزمه : «بعض الإنسان
كاتب» ، ونقيض قولنا : «ليس زيد يمكن أن يكون كاتبا» : «ليس ليس زيد يمكن أن يكون
كاتبا». ويلزمه : «زيد يمكن أن يكون كاتبا». فتؤخذ اللوازم وتذهل عن النّقائض.
وكذلك فى باب
الجهات يترك ذو الجهة ويوضع ملزومه مكانه ، فليس يصحّ أن
يكون السّلب ذو الجهة هو ما يعطيه السّالب ؛ كقولنا ؛ «ليس زيد يكون كاتبا»
، بل ما يعطيه الموجب السّالب المحمول ، كقولنا : «زيد يكون ليس بكاتب». وهو يلزم
السّالب بحسب وجود الموضوع.
وبما عرّفناك ،
يمتحق ما يغتال الأوهام بعدم اشتراط الإيجاب فى صغرى السّياق الأتمّ الأخيرة من
ذنابته ، أى السّياق الثّالث ، لأنّه إذا قيل : «ج ليس هو ب. وكلّ ما ليس ب أ»
أنتج : «بالضّرورة : فج هو أ».
وقد سبق بذلك
فريق من المنتسبين إلى التّشبّه بأهل العلم إلى الغواية ، فوقع فى ظنونهم : أنّ
الحقّ أنّ الموجبة الّتي تشترط فى إنتاج السّياقين لا يجب أن يكون موضوعها موجودا
محقّقا أو مقدّرا ، لأنّه متى صدق نسبة اعتبار إلى مفهوم وجودىّ أو عدمىّ وتكرّر
ذلك الاعتبار فى الكبرى أنتج القياس قطعا. فإذا صدق سلب محمول عن موضوع وصدق أمر
على كلّ ما صدق عليه ذلك السّالب ، فقد أنتج لحصول الاندراج ؛ وإن كانت الصّغرى
سالبة. نعم إذا لم يتكرّر حرف السّلب مع ما بعده فى الكبرى لا ينتج القياس شيئا.
كقولنا : «أليس ب ، وكلّ ب ج» ، فإنّه لا ينتج أصلا.
والسّفسطة فيه
بما أفدناك ظاهرة ؛ فإنّه ليس فى السّالب نسبة اعتبار إلى مفهوم ، بل سلب نسبة
اعتبار إلى مفهوم. والاندراج المتوهّم فاسد ما لم ينقلب السّالب موجبا سالب
المحمول.
ألسنا قد
ألقينا عليك فيما سلف : أنّ عقد الوضع تركيب تقييديّ مشير إلى تركيب حملىّ ، ففى
قولنا : «ليس أب ، وكلّ ما ليس ب ج» ، لم يحمل فى الصّغرى : «ليس ب» على شيء ، بل
إنّما قطع حمل ب على أ ، ورفع هو عنه ، وليس يصدق بحسب ذلك «ليس ب» على شيء ، إلاّ
إذا رجع وحكم به على شيء بالإيجاب ؛ وفى الكبرى حكم على ما حمل عليه «ليس ب» على المساوقة
لتركيب
__________________
حملىّ صادق. فكيف يندرج «أ» فيه ما لم يحكم عليه ب «ليس ب» بالإيجاب. فإذن
، إنّما يندرج الأصغر فى الأوسط لو قيل : «أهو ليس ب ، لا أليس هو ب».
ولمّا تأصّل
أنّ الجهة لا تتغيّر باختلاف نسبة العقد إيجابا وسلبا ، كما العنصر بذلك لا يتغيّر
؛ تمحّقت تطويلات المشّائيّة بالتّعمّقات فى نقائض العقود بحسب الجهات المختلفة ، وتنطّقت
حكمة الميزان بالخلوص عن تشويش الزّوائد والنّقاء عن فضول الإطنابات.
<١٤> حكمة إشراقيّة ميزانيّة
وممّا حاولت به
الإشراقيّة تنقية حكمة الميزان وتصفية صناعة البرهان ردّ قاطبة العقود المستعملة
فى العلوم بحسب الكيف والكم والجهة إلى الموجب المحيط الضّرورىّ البتّان بعقد موجب
سالب المحمول بعد كلّ سالب وحذف مرسل كميّة الموضوع بإسقاط المراسيل ، لما بيّن فى
أساسات التّعاليم أنّ مرسلات العلوم محيطات ، وقلب الجزئيّة محيطة بتسمية الأبعاض
المحكوم عليها فى الجزئيّات بأسماء معيّنة ، ثمّ الحكم على عنوان المسمّى بذلك
الاسم على الإحاطة بالقياس إلى جميع أفراده وحذف مهمل الجهة بتوجيه المطلقات ؛ لما
وضع فى اصول التّعاليم : أنّ المستعملات فى العلوم وإن كانت مطلقات من حيث الصّورة
(٦١) ، فهى موجّهات ، بل ضروريّات من حيث المعنى ، وحصر مطلق الجهة فى الضّرورة
البتّانة ، لكون كلّ عنصر ضروريّا لذى العنصر.
فلمّا كان
الواجب إذا جعل موضوعا ونسب إليه وجوبه وجد أنّه ضروريّ له ، وكذلك الممكن إذا نسب
إمكانه إليه كان ضروريّا له. وكذلك الممتنع امتناعه ضروريّ له. فكان الأولى جعل
الجهات من الوجوب وقسيميه أجزاء للمحمولات حتى تصير العقود على كافّة الأحوال
ضروريّات ، فنقول :
كلّ إنسان
بالضّرورة هو ممكن أن يكون كاتبا ، أو بالضّرورة يجب أن يكون حيوانا ؛ أو
بالضّرورة يمتنع أن يكون حجرا. فهذا هو العقد الضّرورىّ
البتّان. والضّرورة البتّانة هى الضّرورة الّتي جعلت جهة ربط المحمول الّذي
جعلت إحدى الجهات الثّلاث جزءا منه. وهذا هو المطلوب فى العلوم والمقتنص بالحجج والبراهين.
فإذا رمنا فى
العلوم تحصيل إمكان شيء أو امتناعه كان ذلك جزء المطلوب ، لا جهة له. والجهة على
الإطلاق هى الضّرورة المطلقة ؛ ولا يمكننا أن نحكم حكما جازما بتّة إلاّ بما نعلم
أنّه بالضّرورة كذا ، والإمكان للممكن ضرورىّ ، سواء كان الممكن ضرورىّ الوقوع أو
اللاّوقوع فى وقت ما ، كالتّنفّس واللاّتنفّس ، أو لم يكن كذلك ، كالكتابة. فيصحّ
: «كلّ إنسان بالضّرورة هو متنفّس وقتا مّا».
وكون الإنسان
ضرورىّ التّنفّس وقتا مّا أمر يلزمه أبدا ؛ وكونه ضرورىّ اللاّتنفّس فى وقت ما ،
غير ذلك الوقت ، أمر يلزمه أبدا فى الوجود الخارجىّ ، فإذن لا يعتبر من العقود
إلاّ البتّان.
وإذا كانت
الجهة الّتي تجعل جزء المحمول هى الضّرورة كفت الّتي هى جهة الرّبط عنها من غير
تكوير ، فيقال ، مثلا : كلّ إنسان بالضّرورة هو حيوان ، أو يشار إلى كونها بتّاتة.
لا مع إدخال جهة اخرى فى المحمول ، فيقال : كلّ إنسان بتّة هو حيوان. وإذا كانت هى
الإمكان أو الامتناع وجعل العقد بتّاتا فلا بدّ من إدراج الجهة فى المحمول للأمر
من أن يكون قولا مغلّطا. فإذن ، ينبغى أن لا يورد من العقود إلاّ البتّان.
وربما لم تر
فئة من الرّواقيّة بأسا بترك التّعرّض للسّلب بعد التّعرّض للجهات ؛ لأنّ السّلب
التّامّ هو الضروريّ ويدخل تحت الإيجاب الضّرورىّ إذا أورد الامتناع فى المحمول ،
على ما تلى عليك ، كما يقال : «كلّ إنسان بالضّرورة يمتنع أن يكون حجرا». والسّلب
الّذي هو غير تامّ ، وهو الممكن ، ينقلب سالبه إلى موجبه ، وموجبه يقع تحت الإيجاب
البتّانىّ إذا اورد الإمكان فى المحمول. كما سمعت. فيستغنى عن مثل قولهم : «الإنسان
يمكن أن يكون ليس هو كاتبا» بمثل قولهم : «الإنسان بالضّرورة يمكن أن يكون كاتبا».
وإنّى لست
أسوّغ أن يطفر عن اعتبار السّلوب البسيطة طفرة ، ويهمل جانب النّقائض إهمالا ،
فيصير ذلك طريقا واسعا لتطرّق الأغاليط إلى الأذهان ، فيطفح إقليم الحكمة بشرور
الوهم طفوحا ، ويسيح مسياح الغلط فى أرض العلم سيوحا. بل الواجب عقد السّوالب
البسيطة أوّلا ، ثمّ ثني النّظر إلى إيجاب سلوبها للموضوعات ، فجعل الموجبات الّتي
محمولاتها تلك السّلوب بتّاتيّات. فلعلّ ذلك سبيل تسوية الميزان.
<١٥> تلويح
كما أنّ العقود
ليست ممكنة الانسلاخ عن العناصر بحسب نسبتها الإيجابيّة بين المحمولات والموضوعات
، وذو العنصر إمّا الموضوع بحسب ثبوت المحمول ، أو المحمول فى ثبوته للموضوع ، أو
النّسبة الحكميّة الّتي بينهما من حيث الإيجاب ؛ كذلك يكون فيها لعقد الوضع عنصر
بحسب الوصف العنوانىّ الّذي يوصف الموضوع به ويوضع معه ؛ فإنّه يشبه المحمول من
حيث كونه وصفا للموضوع ، ويفارقه بأنّ المحمول وصف محمول عليه ، وهو وصف موضوع معه.
ولذلك الوصف نسبة إلى الموضوع ، كما للمحمول ، بعينها فى أنّها لا تخلو من أنّها
إمّا واجبة أو ممكنة أو ممتنعة (٦٢). ولا بدّ للنّاظر فى أحوال الجهات من مراعاتها
؛ فإنّ الغفلة عنها ممّا يقتضي الفساد فى أبواب العكوس والقياسات المختلطة.
<١٦> تنبيه
وإذ قد دريت
أنّه لا يصحّ تكيّف السّلب من حيث هو رفع الإيجاب ، بل إنّما من حيث يلحظ له ثبوت
أو يعتبر إيجابه لشيء ، ولا يكون للسّلب بما تسلب به نسبته ويرفع به إيجاب عنصر ولا
جهة ؛ فقد علمت أنّه لا تكون نسبة سلبيّة مكيّفة بضرورة أو دوام أو غير ذلك ؛ بل
إنّما معنى ضرورة النّسبة السّلبيّة امتناع النّسبة الإيجابيّة الّتي هى نقيضها. ومعنى
دوام النّسبة السّلبيّة سلب تلك النّسبة الإيجابيّة فى
كلّ وقت على أن يعتبر ذلك فى النّسبة الإيجابيّة ، ويجعل السّلب قاطعا لها
بذلك الاعتبار، فيرفع الإيجاب بحسب أىّ وقت فرض من الأوقات.
فإذن ، ليس
الفرق بين السّالب الضّرورىّ وسالب الضّرورىّ أو بين السّالب الدّائم وسلب الدّائم
مثلا ، على ما نالته ظنون رؤساء الحكمة العامّة ، بل على ما أبدته الحكمة الخاصيّة
الخالصة الحقّة.
وكذلك القول فى
السّالب المطلق وسالب المطلق ، فإنّ الإطلاق مقابل التّوجيه مقابلة العدم والقنية.
وفصل إطلاق السّلب عن سلب الإطلاق ليس سبيله ما أدّت إليه أنظارهم. وليس تحقيق ذلك
على ذمّة هذا العلم. وإنّما كفالته إلى الحكمة الّتي هى مكيال العلوم ، وهى صناعة
الميزان.
<١٧> استقراء
الإمكان بحسب
ما يستعمله جماهير النّاس من العامّة فى قوّة سلب امتناع ذات الموضوع أو سلب
امتناع النّسبة بين الحاشيتين فى العقد والامتناع ، ضرورة انتفاء الموضوع فى نفسه
، أو ضرورة عدم النّسبة. وبالجملة ، ضرورة الطّرف المخالف إمّا بالقياس إلى الذّات
باعتبار تحقّقها فى نفسها أو بالقياس إلى تحقّق النّسبة.
(١) فمعنى
الإمكان سلب ضرورة الطرف المخالف على ما هو موضوع له فى الوضع الأوّل. وإنّما توصف
به النّسبة المتحققة من باب وصف الشّيء بحال متعلّقه الغير الواقع فى نفس الأمر. وهنالك
ما ليس بممكن فهو ممتنع. والممكن واقع على الواجب وعلى ما ليس بواجب ولا بممتنع ، ولا
يقع على الممتنع الّذي يقابله. وإنّما ذلك بحسب ما يتصوّر العقل ويستحصل مفهوما
يقع عليهما ، لا بحسب ما فى نفس الأمر ، طبيعة متناولة لهما ؛ إذ ليس هذا الإمكان
فى نفس الأمر شيئا متناولا للوجوب والإمكان الحقيقىّ ، بل ما فى نفس الأمر هو
أحدهما بالضّرورة. وإنّما هذا المعنى نسبة متحصّلة فى العقل هى فى نفس الأمر أحد
ذينك المعنيين ، لا طبيعة مبهمة متحصّلة بهما فى نفس الأمر. ولذلك فليس هو بعنصر ،
وإنّما يقع جهة.
ثمّ كان هذا من
تصاريفه بعد ذلك الوضع أن اعتبر ذلك المعنى تارة فى جانب الإيجاب ، كما فى الوضع
الأوّل وتارة فى جانب السّلب ، إذ من شأن الامتناع أن يدخل إمّا على الإيجاب وإمّا
على السّلب. وحينئذ وقع على الممتنع وعلى ما ليس بواجب ولا ممتنع وتخلّى عن
الواجب.
فثمّة يصير
الإمكان مقابلا لكلّ واحد من ضرورتى الجانبين ؛ إذ بحسب دخوله على الإيجاب صار
الممكن أن يكون غير ممتنع أن يكون وقابل ضرورة السّلب. وبحسب دخوله على السّلب صار
الممكن أن يكون غير ممتنع أن لا يكون وقابل ضرورة الإيجاب. فإذن صار ملازما لسلب
ضرورة أحد الجانبين لا بخصوصه بحسب ما يضاف إليه من الإيجاب والسّلب.
(٢) وأمّا هو
قبل هذا الانضياف فهو بإزاء سلب الامتناع فقط. ولمّا لزم وقوعه على ما ليس بواجب ولا
ممتنع فى حالتيه جميعا وضع بحسب النّقل الخاصّىّ لسلب الضّرورة فى جانبى الإيجاب والسّلب
جميعا حتى يكون الشّيء بحسبه ممكنا أن يكون وممكنا أن لا يكون ، أى : غير ممتنع أن
يكون (٦٣) وغير ممتنع أن لا يكون ، وهو الإمكان الحقيقىّ المقابل للضّرورتين جميعا
، وهو أخصّ من الأوّل.
فإذن ، كان
الأوّل إمكانا عامّا أو عاميّا منسوبا إلى العامّة ، والثانى خاصّا أو خاصيّا ، وصارت
الأشياء بحسبه إمّا واجبة وإمّا ممتنعة ، كما كانت بحسب المفهوم الأوّل إمّا واجبة
وإمّا ممكنة أو إمّا ممتنعة وإمّا ممكنة.
(٣) ثمّ قد
يقال : الإمكان ، ويعنى به ما يقابل جميع الضّرورات الذّاتيّة والوصفيّة والوقتيّة.
وهو أحقّ بهذا الاسم من الأوّلين. فالممكن (أى ؛ فإنّ الممكن ، منه ره). بهذا
المعنى أقرب إلى حاقّ الوسط بين طرفى الإيجاب والسّلب ، كالكتابة للإنسان إذ
الطبيعة الإنسانيّة متساوية النّسبة إلى وجود الكتابة له أولا وجودها. والضّرورة
بشرط المحمول وإن كانت مقابلة بهذا الإمكان بالاعتبار فربما تشاركه فى المادّة ،
لكنّها توصف بتلك الضّرورة من حيث الوجود. وبهذا الإمكان من حيث الماهيّة لا
الوجود. وحال هذا المعنى من اللّذين قبله يناسب حال
الأخصّ من الأعمّ.
ولسنا نقول :
إنّه أخصّ منهما ؛ لأنّ الأخصّ والأعمّ هما اللّذان يدلاّن على معنى بعينه ويختلفان
بأنّ أحدهما أقلّ تناولا وأضيق اعتبارا من الأمر. أمّا إذا دلّ أحدهما على عضة
ممّا يدلّ عليه الآخر باشتراك اللّفظ ؛ فإنّه لا يقال له : إنّه أخصّ منه إلاّ
بنوع من المجاز ، كما إذا سمّى واحد من السّودان ، مثلا ، بالأسود ، فلا يقال : إنّ
الأسود يقع عليه وعلى صنفه بالخصوص والعموم. ولفظ الممكن هاهنا يقع على المعانى
المذكورة ، بل على الأخير بجميعها بالاشتراك.
(٤) وقد يطلق
الإمكان ويفهم منه معنى رابع : وهو أن يكون الالتفات فى الاعتبار ليس لما يوصف به
الشيء فى حال من أحوال الوجود من إيجاب أو سلب ، بل بحسب حاله فى الاستقبال. فإذا
كان ذلك المعنى غير ضرورىّ الوجود أو العدم فى أىّ وقت فرض له فى المستقبل فهو
ممكن ، وهو الإمكان الاستقبالىّ.
وإنّما اعتبره
فريق من الميزانيّين لكون ما ينسب إلى الماضى والحال من الامور الممكنة إمّا
موجودا وإمّا معدوما ، فيكون قد ساقتها من حاقّ الوسط إلى أحد الطرفين ضرورة ما. والباقى
على الإمكان الصّرف لا يكون إلاّ ما ينسب إلى الاستقبال من الممكنات الّتي يجهل
حالها : أتكون موجودة إذا حان حينها أم لا.
وينبغى أن يكون
هذا الممكن ممكنا بالأخصّ مع تقيّده بالقياس إلى الاستقبال ؛ لأنّ الأوّلين ربما
يقعان على ما يتعيّن أحد طرفيه بضرورة ما ، كالكسوف ، فلا يكون ممكنا صرفا.
ومن اشترط منهم
فى هذا أن يكون معدوما فى الحال فقد ركب شططا لا ينبغى ؛ فإنّه قد حسب أنّ جعله
موجودا قد أخرجه إلى ضرورة الوجود ، ولم يتفطّن أنّ فرض العدم الحالىّ يسوقه إلى
ضرورة العدم ، كما الوجود الحاليّ إلى ضرورة الوجود. فإن استنصر بذاك فقد أوجب أن
يستنصر بهذا أيضا ؛ والواجب فيه أن لا يلتفت إلى الوجود الحالىّ ولا إلى عدمه ، بل
يقتصر على اعتبار الاستقبال. فاعلم أنّ الوجود لا يمنع الإمكان. أليس إمّا أن
يعتبر من حيث يقتضيه ضرورة ما
ذاتيّة أو غير ذاتيّة ، وإمّا أن يعتبر لا من حيث كذلك.
فهذه أقسام
ثلاثة. والأوّل يدخل تحت الإمكان العامّ ، والثّاني يصدق عليه الإمكان الخاصّ ، والثّالث
لا يصادم الإمكان الاستقبالىّ الّذي هو أخصّ الإمكانات بطبيعة الإمكان فضلا عمّا
فوقه ؛ لأنّه لا ينافى العدم الّذي يقابله إذا اختلف وقتاهما. فكيف ينافى الإمكان
الّذي هو أقرب من العدم إليه. فليس إذا كان الشّيء متحرّكا فى الحال يستحيل أن لا
يتحرّك فى الاستقبال فضلا عن أن يكون غير ضرورىّ له أن يتحرّك وأن لا يتحرّك فى
الاستقبال. وهذا قول يستصحّه النّظر الميزانىّ.
وأمّا الفحص
الحكمىّ فيعطى (٦٤) أنّ ضرورة الوجود الحالىّ المساوق لامتناع العدم فى الحال من
جهة اقتضاء العلّة الّتي لا يصادم لا ضرورتهما بالقياس إلى ذات الممكن فى الحال ،
كما فى الاستقبال ، والممكن فى الاستقبال لا يتخلى عن الضّرورة باعتبار أحد
الطرفين. والامتناع باعتبار مقابل ذلك الطرف من جهة إيجاب العلّة ، كما فى الحال.
نعم ، الوجود
فى الحال لا يأبى العدم فى ثانى الحال ، وإنّما يبطل العدم فى الحال. فإذن ،
الإمكان متساوى النّسبة إلى الحال والاستقبال بالقياس إلى الممكن.
والحقّ فيه ما
قاله بعض من سبقنا ، من حملة عرش العلم. وهو أنّ الصّدق والكذب قد يتعيّنان ، كما
فى مادّتى الوجوب والامتناع ، وقد لا يتعيّنان ، كما فى مادّة الإمكان ، ولا سيّما
الاستقبالىّ ، فإنّ الواقع فى الماضى والحال قد يتعيّن طرف وقوعه ، وجودا كان أو
عدما ، ويكون الصّادق والكاذب بحسب المطابقة وعدمها متعيّنين وإن كانا بالقياس
إلينا بجهلنا بالأمر غير متعيّنين. وأمّا الاستقبالىّ ، فقد نظر فى عدم تعيّن أحد
طرفيه : أهو كذلك فى نفس الأمر ، أم بالقياس إلينا؟
والجمهور
يظنّونه كذلك فى نفس الأمر. والتّحقيق يأباه ، لاستناد الحوادث فى أنفسها إلى علل
تجب بها وتمتنع دونها. وانتهاء تلك العلل إلى فاعل أوّل يجب لذاته.
وإذ نحن نعرّفك
لما يحين وقته إن شاء اللّه ـ تعالى ـ أنّ تعاقب الامور الغير القارّة إنّما يصحّ
بحسب الوقوع فى افق الزّمان ، لا بحسب الحضور لدى المبدأ المحيط بالكلّ أو بالقياس
إلى المفارقات النّوريّة من الملائكة ، يستبين لك هذا السّبيل من طريق آخر أوضح.
وبما قرع سمعك
ظهر لك : أنّ الدّوام لا ينفكّ عن الضّرورة فى نفس الأمر ، بل فى خصوص لحاظ الذّهن
فقط ، حيث يلحظ الشّيء من حيث الدّوام ، لا من حيث الضّرورة. فالدّوام ، لا يكون
عنصرا ، وإنّما يقع للعقد فى الذّكر اللّهجىّ أو اللّحاظ السّرّىّ.
(٥) ثمّ قد
يطلق الإمكان ، ويعنى به الإمكان الاستعدادىّ الّذي هو تهيّؤ الهيولى واستعدادها
لما يحصل لها من الصّور والأعراض ، بتحقّق بعض الأسباب والشّرائط بحيث لا يصل إلى
ميقات الوجوب الحاصل عند تمام العلّة.
وهو كيفيّة
استعداديّة هى من الأعراض القائمة بالمادّة وتتفاوت شدّة وضعفا بحسب القرب من
الحصول والبعد عنه ، بناء على حصول الأكثر ممّا لا بدّ منه أو الأقلّ ، كاستعداد
الإنسانيّة الحاصل للنّطفة ثمّ للعلقة ثمّ للمضغة ، وكاستعداد الكتابة الحاصل
للجنين ثمّ للطفل ، وهكذا إلى أن يتعلّم.
وليس هو من
الاعتبارات الانتزاعيّة العقليّة اللاّزمة للماهيّة ، كالإمكان بالمعانى السّابقة
، بل إنّه يوجد بعد العدم بحدوث بعض الأسباب والشّرائط ، وينقطع استمراره بحدوث
الشّيء بالفعل ، ويكون جزءا من المحمول ولا يعدّ من الجهات ، وسيعاد إليك بالذّكر
، وعسى أن يكون قريبا.
<١٨> لحاقة
قسمة المفهوم
بحسب العناصر الثلاثة إلى الواجب والممكن والممتنع قسمة حقيقيّة جارية فى قاطبة
المفهومات بالقياس إلى أىّ محمول كان. فكلّ مفهوم إمّا أن يكون واجب الحيوانيّة
مثلا أو ممتنعها أو ممكنها. لكن حيثما يطلق الواجب
أو الممتنع أو الممكن فى الحكمة الحقيقيّة ، أعنى علم ما فوق الطبيعة ،
يتبادر إلى الذّهن الواجب الوجود أو الممتنع الوجود أو الممكن الوجود. فالوجوب والامتناع
والإمكان الدّائرة فى هذه الصّناعة هى ما هى جهات العقود وموادّها فى صناعة
الميزان. لكنّ المستعملة هاهنا هى تلك العناصر مقيّدة بنسبة مفهوم المحمول الّذي
هو الوجود.
ومن لم يحصّل
ذلك من ضعفاء العقول ظنّ أنّ هذه مغايرة لتلك بحسب المعنى وإلاّ كانت (٦٥) لوازم
الماهيّات ، كالزّوجيّة للأربعة ، وكذا الماهيّات الملزومة ، كالأربعة للزّوجيّة ،
واجبة لذواتها ، ولم يتفقّه أنّ اللاّزم هو أن تكون الأربعة واجبة الزّوجيّة ، لا
واجبة الوجود. فاختلاف المعنى بسبب اختلاف المحمول ، لا بسبب اختلاف مفهوم الوجوب
الّذي هو العنصر والجهة فيه.
ثمّ من لم
يتعرّف من مقلّدة المتشبّهين بالحكماء ـ أنّ لازم الماهيّة ، كثبوت الزّوجيّة
للأربعة ، إنّما يستند بالذّات إلى نفس الماهيّة المتجوهرة ، ولا يتوقّف ذلك
الثّبوت الرّابطىّ على جاعل الماهيّة ، إلاّ بالعرض ، من حيث إنّ ماهيّة الأربعة ،
مثلا ، من الطبائع الّتي لا تتجوهر إلاّ بجعل الجاعل ، ولا على وجود تلك الماهيّة
المتقرّرة إلاّ بالعرض أيضا ؛ من حيث إنّها استدعت أن تكون حالة الاقتضاء مخلوطة
بالوجود لا بالذّات ، حتّى تكون العلّة المقتضية لثبوت الزوجيّة للأربعة بالنّظر
إلى استدعاء ذلك الثّبوت بخصوصه من حيث خصوصيّة الطرفين مركبّة عند العقل من
ماهيّة الأربعة ومن اعتبار حيثيّة الوجود لها على أن تكون القضيّة المعقودة بذلك
الحكم وصفيّة بحسب أخذ الموضوع مع قيد تلك الحيثيّة ، وقد تحقّقته بالوجوه الّتي
عرّفناكها فى ما سلف ـ
توهّم أنّ كون
اللّوازم واجبة لملزوماتها نظرا إلى ذواتها إنّما يتصوّر إذا كانت الملزومات واجبة
الوجود لذواتها ؛ إذ لو لم يكن كذلك لاحتاج ثبوت اللّوازم لها إلى ما يوجدها ، وأنّ
الضّرورة فى قولنا : «الأربعة زوج ما دامت موجودة بالضّرورة»
__________________
ضرورة وصفيّة مقيّدة بقيد الوجود ؛ ولم يميّز الضّرورة الذّاتيّة عن
الضّرورة بشرط الوصف ؛ ولم يستطع ، الفرق بين الضّرورة الذّاتيّة الأزليّة
السّرمديّة ، كما فى قولنا : «اللّه عالم بالضّرورة» وبين الضّرورة الذّاتيّة
الصّادقة حالة الوجود ، أى مع الوجود ، لا بالوجود ، كما فى هذه الضّرورة ، سبيلا.
ألست إذا لاحظت
قولنا : «المعلول موجود ما دامت العلّة موجودة بالضّرورة» ، وقولنا : «العلّة
موجودة ما دام المعلول موجودا بالضّرورة» ، أو : «أحد معلولى علّة واحدة موجود ما
دام معلولها الآخر موجودا بالضّرورة» ، وقولنا : «اللّه موجود بالضّرورة» ؛ كان
ذلك صراطا إلى الفصل بين الضّرورة بالشّيء ، دهريّة كانت أو زمانيّة ، وبين
الضّرورة مع الشّيء إمّا دهريّة أو زمانيّة ، وبين الضّرورة الذّاتيّة الأزليّة
السّرمديّة.
فاتّخذه سبيلك
المستبين إلى تحصيل الضّرورة الوصفيّة والضّرورة الذّاتيّة مع الوصف ؛ لا بالوصف ،
كما فى ضرورة ثبوت اللّوازم لذوات ملزوماتها مع وصف الوجود وتميّز هذه عن الضّرورة
الذّاتيّة السّرمديّة. وقد كنت تحصّلت من قبل أنّ هذه الضّرورة الذّاتيّة مع
الوجود ، لا بالوجود ، مشتركة بين جوهريّات الماهيّة ولوازمها. والفارق اعتبار
الاقتضاء فيهما عدما ووجودا.
ثمّ إنّ تلك
القسمة حاصرة عقليّة ، واحتمال ضرورة طرفى الإيجاب والسّلب جميعا ساقط من الاعتبار
إذا تؤمّل مع صحّة طباع الذّهن ، وما يكون ضرورىّ الطرفين مندرج فى الممتنع
بالذّات ، إذا لوحظ مقتضى ذلك المفهوم مع سلامة غريزة الإنسانيّة.
فصل [ثان]
< بحث عن أحكام لهذه المفهومات هى كالامور العامّة لها >
فيه استيناف
القول فى هذه المفهومات على نمط آخر واستقصاء البحث عن أحكام لها هى كالامور
العامّة بالقياس إلى مباحث متعلّقة بها على قسط صالح من النّظر.
< في الفصل الثاني اثنان وعشرون عنوانا >
<١> ضابط أساسيّ
إنّ كلاّ من
هذه الطبائع المعقولة الّتي هى عناصر المفهومات والعقود يحتمل فى أوّل نظر العقل
أن يكون بالذّات أو بالغير أو بالقياس إلى الغير. ثمّ الفحص يحقّق أنّ الإمكان لا
يكون بالغير ، بل بالذّات وبالقياس إلى الغير فقط ، فتبقى الاعتبارات المتحقّقة
ثمانية.
والّتي هى
بالذّات حاصرة حقيقيّة لا يجتمع اثنان منها فى موجود عينىّ أو مفهوم ذهنىّ ، ولا
يمكن أن يتصوّر إلاّ أن يكون واحد منها لكلّ تجوهر وتحقّق أو نسبة محمول إلى موضوع
أو محمول بالقياس إلى موضوعه أو موضوع بقياس المحمول إليه ، وتكون شاملة لواجب
(٦٨) يمتنع انتفاء المحمول عنه بنفس ذاته ، وليس ذاته علّة لثبوته له ؛ بل إنّما
هو ضرورىّ لذاته بذاته من غير اقتضاء ، وهو
القيّوم الواجب بالذّات فى وجوده وفى سائر صفاته.
والضّرورة هناك
ضرورة ذاتيّة سرمديّة ، لا بشرط خلط الموضوع بوصف ، ولا مع كون الموضوع على وصف ، ونسب
ضروريّة لمحمولات إلى موضوعات لا يكون الموضوع بحسبها علّة لثبوت المحمول له ،
ككون الإنسان إنسانا أو حيوانا. وضرورتها ذاتيّة مع وصف الوجود للموضوع لا به ، ونسب
ضروريّة يكون لها علّة هى نفس ذوات الموضوعات ، ككون الأربعة زوجا والثّلاثة فردا
، وضرورتها أيضا ذاتيّة بالنّظر إلى اقتضاء ذات الموضوع ، ولكن مع وصف الوجود لا
بالوصف ؛
وأمور ممتنعة
يمتنع التّقرّر بالنّظر إلى ذواتها من حيث هى ، لا بعليّة منها لذلك ـ كشريك الإله
، عزّ عن ذلك ، واجتماع النّقيضين والمعدوم المطلق ـ فى كونها متحقّقة ؛
وامور ممتنعة ،
يمتنع المحمولات بالنّظر إلى ذواتها من حيث هى لا بعليّتها لذلك ، ككون الإنسان
جمادا ، أو بعليّتها ، ككون الأربعة فردا ؛ وأمور ممكنة يصدق فى كلّ منها بحسب
الإمكان الخاصّ ، إمكانان عامّان موجب وسالب. ويستلزم الموجب فيه السّالب ، ويكون
العقد مركّبا من قضيّتين موجبة وسالبة ؛
وامور مركبّة
تكون من حيث هى مركبّة ممكنات ، كالمركّب من الممتنعين أو الضدّين أو الواجبين ؛
فإنّ ضرورة العدم أو الوجود لتلك المركّبات ليست لذواتها بما هى مركّبات ، بل
لعلّة هى خصوصيّات الأجزاء. واللّذان هما بالغير من الوجوب والامتناع إنّما يعرضان
الممكنات ويمتنع عروض شيء منهما للواجب أو الممتنع بالذّات ، وليس يخلو عنهما شيء
ما من الأشخاص والطبائع الإمكانيّة فى الوجود والعدم.
وأمّا الّتي هى
بالقياس إلى الغير منها ، فإنّها إنّما تقابل الّتي هى بالذّات بحسب المفهوم والاعتبار
، وهى لا تصادمها بحسب التّحقّق.
فالوجوب
بالقياس إلى الغير يعمّ الموجودات بأسرها ، ولا يكون موجود ما عروا منه ، ويكون
للقيّوم الواجب بالذّات بالقياس إلى كلّ موجود ولكلّ موجود
بالقياس إليه. ولا يلزم أن يعرض كلّ ممكن بالقياس إلى أىّ ممكن كان بما هما
ممكنان إلاّ إذا لوحظا بما هما معلول وعلّة أو معلولا علّة واحدة إن كانا كذلك ،
بل بعض الممكنات بالقياس إلى بعض بخصوصهما ، كالكلّ والجزء مثلا.
والامتناع
بالقياس إلى الغير يعرض كلّ موجود بما هو موجود ، واجبا كان أو ممكنا ، مقيسا إلى
عدم معلوله أو عدم علّته مثلا. وكذلك يعرض تحقّق كلّ معدوم ممتنع الوجود بالذّات
أو بالغير مقيسا إلى وجود ما يصادمه تحقّقه.
والإمكان
بالقياس إلى الغير لا يعرض القيّوم الواجب بالذّات مقيسا إلى شيء من الموجودات. وربّما
يعرض ما سواه من الموجودات مقيسا بعضها إلى بعض ، وقد يعرض لامور ممتنعة بالذّات
بالقياس إلى عدمات هى ممكنات بالذّات وملزومات لتلك.
<٢>تفصلة تحصيليّة
< تحقيق معنى الوجوب بالغير والوجوب بالقياس إلى الغير>
الوجوب بالغير
هو ضرورة الشّيء ، تقرّرا ووجودا ، بالنّظر إلى الغير على سبيل الاقتضاء والعلّيّة
، فتكون الضّرورة للشّيء من قبل الغير ، وهو وجوب المعلول من العلّة ؛
والوجوب
بالقياس إلى الغير ضرورة تحقّق الشّيء بالنّظر إلى الغير على سبيل الاستدعاء ، ويرجع
إلى أنّ الغير يأبى إلاّ أن يكون الشّيء ضرورىّ التّحقّق ، سواء كان من قبله
اقتضاء وعليّة للشّيء ، أو حاجة ذاتيّة واستدعاء افتقارىّ بحسب ظليّة نوريّة
استناريّة بالنّسبة إليه ، أو ارتباط استصحابىّ بحسب صحابة لزوميّة.
وذلك وجوب
العلّة بالقياس إلى ذات المعلول ، أى استدعاء المعلول بحسب وجوبه من العلّة أن
يكون علّته قد وجب لها تحقّق ، لا من قبل ذلك المعلول (٦٩) ، بل إمّا بنفسها أو من
قبل ما فوقها ، ووجوب المعلول بالقياس إلى ذات العلّة ، أى :
كون العلّة الواجبة تأبى أن يكون معلولها غير ضروريّ التّحقّق.
وفى هذا
اللّحاظ يعزل النّظر عن أنّ المعلول له فى نفسه وجوب وجود وإن لم يكن له بنفسه
ذلك. وإنّما قد أعطته علّة وجوده ذلك الوجوب.
وبالجملة ،
إنّما يلحظ فى هذا اللّحاظ وجوب وجود المعلول بحسب قياس حاله إلى حال العلّة معه ،
لا بحسب ما هو حال ثابت للمعلول فى نفسه ، ولكن من جهة إعطائه العلّة إيّاه.
وإنّما ينظر
إلى ذلك فى لحاظ الوجوب بالغير ووجوب أحد المعلولين بعليّة واحدة بالقياس بالآخر ؛
أى كون الآخر من حيث هو أحد المعلولين بعليّة واحدة يأبى أن يكون شقيقه غير ضرورىّ
التّحقّق.
فهذا الوجوب هو
كون الشّيء ضروريّ التّحقّق بحسب استدعاء الغير ذلك مع عزل النّظر عن أن يكون هو
فى نفسه مخلوطا به ، وإن كان هو فى نفسه مخلوطا به. كما أنّ الوجوب بالغير هو كون
الشّيء ضرورىّ الوجود ، أى كونه فى نفسه متلبّسا بهذه الضّرورة بحسب اعطاء الغير
ذلك. فهو اعتبار فى الشّيء بحسب ما يلائم حال الغير عند ما يلحظ بالقياس إليه ، لا
من حيث هو له فى نفسه ، ولكن من قبل إضافة الغير.
فإذن ، المعلول
واجب بالعلّة وبالقياس إليها جميعا ، بخلاف العلّة ، فإنّها واجبة بالقياس إلى
المعلول لا به ، وكذلك أحد معلولى علّة واحدة بالنّسبة إلى الآخر.
والقيّوم
الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ واجب بالقياس إلى طباع الكلّ على الإطلاق. كما أنّه
واجب بالذّات وواجب بالقياس إلى طباع كلّ موجود معلول.
والامتناع
بالغير هو ضرورة عدم الشّيء من قبل اقتضاء الغير ، كالعدم المعلول من عدم العلّة. والامتناع
بالقياس إلى الغير ضرورة عدم تقرّر الشّيء ووجوبه بحسب استدعاء حال الغير عند ما
يلحظ هو بالنّسبة إليه. وهو يجتمع مع الامتناع بالغير فى وجود المعلول بالنّظر إلى
عدم العلّة أو عدم المعلول بالنّسبة إلى وجود العلّة ؛ ويفترق عنه بالتّحقّق فى
عدم العلّة بالنّسبة إلى وجود المعلول ، أو وجود العلّة
بالنّظر إلى عدم المعلول ، وفى عدم أحد المعلولين بعلّة واحدة بالنّظر إلى
وجود الآخر أو وجوده بالنّظر إلى عدم الآخر.
والإمكان
الخاصّ بالقياس إلى الغير هو لا ضرورة طرفى الشّيء بحسب استدعاء حال الغير ذلك حين
ما يلحظ مقيسا إليه ، ولا يتحقق إلا فى الامور الّتي ليست بينها علاقة طبيعيّة من
جهة علّيّة أحدهما للآخر أو معلوليّتهما لثالث بقياس بعضها إلى بعض.
والإمكان
العامّ بالقياس إلى الغير لا ضرورة أحد طرفى الشّيء بحسب استدعاء حال الغير ذلك
عند ما يلحظ مقيسا إليه. ويقع إمّا على الواجب بالقياس إلى الغير ، والممكن
بالقياس إلى الغير ، وإمّا على الممكن بالقياس إلى الغير ، والممتنع بالقياس إلى
الغير ، ويقابل الوجوب والامتناع والإمكان بالذّات بحسب المفهوم ، ولا يصادمها فى
التّحقّق. والإمكان بالغير ، وهو الّذي يحقّق الفحص استحالته هو لا ضرورة طرفى
الشيء فى نفسه بالنّسبة إلى نفسه باقتضاء الغير ذلك.
<٣> تبيان
أما استبان
لديك فيما كرّر عليك : أنّ كلاّ من الوجود والعدم طبيعة وحدانيّة لا تتكثر إلاّ
بالإضافة إلى موضوعات متكثّرة ، فلا يتصوّر لشيء واحد بعينه فى وقت بعينه من جهة
بعينها وجودان أو عدمان. فاحكم أنّه لا يعقل لشيء واحد بعينه من جميع الجهات
التّقييديّة المتكثّرة للذّات المحيّثة ضرورتان لوجود واحد بالقياس إلى ذاته أو
ضرورتان لعدم واحد بالنّظر إلى ذاته أو لا ضرورتان لوجود واحد وعدم واحد بالنّسبة
إلى ذاته.
فكلّ من
الضّرورة واللاّضرورة طبيعية معقولة واحدة (٧٠) لا تتحصّل إلاّ بالإضافة ، ولا
تتكثّر إلاّ بتكثّر وجودات أو عدمات متكثّرة بتكثّر ذوات أو حيثيّات تقييديّة
مكثّرة لذات واحدة عند تحيّثها بها ، فلكلّ ممكن فى نفسه لا ضرورة واحدة للوجود والعدم
بالقياس إلى ذاته.
وأ ليس قد القي
إليك : أنّ قسمة الشّيء إلى الواجب والممكن والممتنع بالذّات انفصال حقيقىّ ؛ إذ
كلّ مفهوم فهو فى ذاته إمّا ضرورىّ الوجود أولا. وهذا فى التّحقيق منفصلان
حقيقيّان يتركّب كلّ منهما من الشّيء ونقيضه على سنّة كلّ قضيّة منفصلة تكون أكثر
من جزءين ؛ فإنّها تكون متعدّدة فى الحقيقة. فالثّلاثة لا تجتمع ولا ترتفع ، والاثنان
منها لا يجتمعان. وذلك فى أىّ موجود أو مفهوم كان بأيّة حيثيّة فرضت. فإذن ، ما
أسهل أن يستبين لك أنّه يستحيل أن يكون غير الشّيء قد أعطاه لا ضرورة الوجود والعدم
بالنّظر أي ذاته.
أفليس إذا كان
كذلك كان هو فى ذاته مع عزل النّظر عن ذلك الغير لا ضروريّ الوجود والعدم ؛ إذ لو
كان ضروريّ أحدهما كان الغير قد ألبس ذاتا ما مقابل ما لها بنفسها وكساها مصادم ما
استحقّته بطباعها واستوجبته بجوهرها.
فإذن ، إمّا أن
يكون لذات الشّيء لا ضرورتان للوجود وللعدم بالنّظر إليها ، إحداهما لها بنفسها والاخرى
لها من قبل إعطاء الغير ، وقد بأن لك فساده ؛ وإمّا أن يتكرّر لها لا ضرورة الوجود
والعدم بعينها من تلقاء جوهرها بنفسها ومن قبل إفادة الغير على أن يكون لها لا ضرورة
واحدة بعينها لا تتكثّر ، وغيريّته من الحيثيّتين : حيثيّة الذّات وحيثيّة الغير. ومن
الفطريّات لطباع العقل الملقح بلقاح العلم أنّه لا يتكرّر طبيعة بعينها من جهة
تقييديّة بعينها لشيء بعينه.
وممّا حصّله
شركاؤنا الّذين سبقونا بهذه الصّناعة أنّه يمتنع تكرّر اتّصاف شيء بطبيعة نوعيّة
واحدة فى وقت بعينه. فإذن ، لا إمكان بالغير على أنّ العقل إذا لخصّ المفهومات
يدفعه دفعا لا يحتاج فيه إلى تبيان.
ومن تضاعيف
القول انكشف أنّ ما يعنى بالإمكان هو لا ضرورة الطرفين بالنّظر إلى الذّات ، على
أن يسلب الطرفان سلبا بسيطا ، أى : لا اقتضاء ضرورة شيء منهما ، لا اقتضاء لا
ضرورتهما ولا تساويهما بالنّظر إلى الذّات ، ولا على أن يؤخذ سلبا عدميّا ، أو على
سبيل إيجاب سلب المحمول.
<٤> هداية تنبيهيّة
إنّا بما
هديناك ـ إلى أنّ الإمكان بالذّات هو سلب ضرورة تقرّر الذّات وسلب ضرورة لا
تقرّرها بالنّظر إليها سلبا بسيطا تحصيليّا ، وينطوى فى ذلك سلب ضرورة الوجود والعدم
بالنّظر إليها سلبا بسيطا ـ علّمناك أنّك ، كما دريت : أنّ الوجوب ضرورة الوجود
بالنّظر إلى الذّات ، على أن يكون الشّيء من حيث هو هو بنفسه متقرّرا ، ونفس ذاته
مصداق حمل مفهوم الواجب عليه ، لا على أن يكون ذاته علّة لضرورة لا تجوهره ولضرورة
عدمه.
فكذلك يجب أن
تعلم : أنّ الإمكان بالذّات سلب ضرورة التّجوهر وسلب ضرورة اللاّتجوهر معا ، وسلب
ضرورة الوجود والعدم جميعا بالنّظر إلى الذّات سلبا بسيطا ، على أن تكون الذّات ،
بما ليس لها اقتضاء ، مصداق سلب الضّرورة عن طرفيها ، لا أنّها علّة مقتضية لذلك
السّلب ، كما هو سنّة الماهيّات بالقياس إلى لوازمها ؛ إذ الذّات لمّا لم تكن
بنفسها متجوهرة أو لا متجوهرة ، ولم يكن من قبلها اقتضاء أصلا لضرورة التّجوهر أو
ضرورة اللاّتجوهر أو ضرورة الوجود أو ضرورة العدم ، أو التّجوهر أو اللاّتجوهر أو
الوجود أو العدم ؛ بل إنّما وجدها العقل بنفس ذاتها فى كورة محوضة القوّة الصّرفة.
وعلى الافق الأقصى فى تلك النّاحية (٧١) كان يصدق السّلب البسيط المطلق ولم يكن
صدق ذلك السّلب ، بما هو سلب بسيط ورفع بحت ، ممّا يعوز إلى اقتضاء من تلقاء
الذّات له ، بل يكفى فيه عدم الاقتضاء على الإطلاق.
فإذن ، الإمكان
بالذّات ليس من لوازم الماهيّة على المعنى الشّائع المصطلح ، بل على معنى أنّ نفس
الماهيّة تكفى لصدقه ، لا باقتضاء ؛ فإنّ السّلب البسيط لا يفتقر إلى اقتضاء، بل
يكفيه عدم اقتضاء الذّات لما هو سلب له. نعم تساوى الطرفين بالنظر إلى نفس الذّات
الإمكانيّة المتقرّرة فى لحاظ العقل أو صحّة إيجاب ضرورتهما لماهيّتها المتقرّرة
بحسب حكم العقل من لوازم الماهيّة بالنّسبة إليها على المعنى الشّائع ، لكن ليس
حقيقة الإمكان ذلك ، بل أرفع منه فى صرافة القوّة.
وهذه دقيقة
حكميّة نضيجة ، والجمهور يغفلون عنها. والأقرب منهم درجة
إلى التّحصيل ربما يؤمن بأنّ الإمكان هو السّلب البسيط ، لكنّه قد يفتى
المستفتين أنّه ليس على شاكلة الوجوب بالقياس إلى ذات الواجب ، بل إنّه من اللوازم
المستندة إلى اقتضاء نفس الماهيّة.
ثمّ إنّهم
يحاولون البرهنة ، على أنّ حقيقة الإمكان لا ضرورة الطرفين بالنّظر إلى الذّات ،
لا اقتضاء تساوى الطرفين ، بأنّ الممكن لو اقتضى بذاته تساوي الطرفين بالنّظر إليه
لامتنع فعليّة أحد الطرفين فى نفس الأمر ، وإلاّ ترجّح أحد المتساويين أو تخلّف مقتضى
الذّات عنها.
ويذهلون عن أنّ
نفس الأمر أوسع من لحاظة الذّات من حيث هى ، وأنّ انتفاء شيء فى خصوص نحو من أنحاء
نفس الأمر بخصوصه لا يستلزم انتفاءه فى نفس الأمر ، فلم لا تكون حقيقة الإمكان
اقتضاء ذات الممكن تساوي الطرفين بالنّظر إلى ذاته من حيث هى هى ، لا اقتضاء
الذّات تساوى الطرفين فى نفس الأمر ، فيكون الّذي ينافى مقتضى الذّات الممكن ترجّح
أحد الطرفين بالنّظر إلى ذاته من حيث هى ، لا ترجّحه بالنّظر إليه فى نفس الأمر من
جهة تأثير العلّة.
ومن المستبين :
أنّ حال فعليّة أحد طرفى الممكن ليس ذلك الطرف راجحا بالنّظر إلى ذاته من حيث هى ،
بل إنّما فى نفس الأمر من تلقاء إفاضة الجاعل.
ونحن قد كنّا
أوضحنا الأمر لك فى سالف الأيّام : بأنّ الممكن فى ذاته بالقوّة من حيث هى هى ، وكذا
جميع ماله من تلك الجهة ، فلا يكون له فى حدّ ذاته فعليّة أصلا ، ولا اقتضاء لشيء
ما لم يقع فى صقع الفعليّة من تلقاء وجود الجاعل ، وإلاّ لكان لما بالقوّة من حيث
هو بالقوّة أن يحاول إخراج الشّيء من القوّة إلى الفعل ، وإنّ طباع غريزة العقل
ليدفع إلاّ بطلانه.
فإذن ، ليس
للممكن أن يقتضي بذاته فى حدّ ذاته اللاّمتجوهرة بنفسها شيئا من الأشياء أصلا ،
حتّى اقتضاء هذا السّلب. فإذن ، ليس له من جهة ذاته إلاّ السّلب المطلق المستوعب والقوّة
الصّرفة المستغرقة.
وقد لاح لك أنّ
الطرفين لا يتساويان بالنّسبة إلى ذاته من جنسية الغير. فإذن ، ليس حقيقة الإمكان
إلاّ السّلب الصّرف لضرورة الطرفين والقوّة المحضة.
<٥> ظنّ وحسبان
إنّ من لم
يتعلّم ما علّمناك وظنّ أنّ الماهيّة الإمكانيّة تكون علّة لإمكانها الذّاتىّ حسب
من براهين إبطال الإمكان بالغير أنّه لو أمكن ذلك لزم انقلاب الواجب بالذّات أو
الممتنع بالذّات إلى الممكن بالذّات أو توارد علّتين مستقلّتين ، هما الذّات والغير
، على معلول واحد هو الإمكان الذّاتىّ للذّات.
وقد اورد عليه
: أنّه يجوز أن تكون عليّة الذّات أو استقلالها بالعليّة مشروطة بانتفاء الغير.
فإذا وجد لم يكن للذّات عليّة أو استقلال ، فلا يلزم توارد العلّتين المستقلّتين ،
كما فى اعدام أجزاء المركّب ؛ فإنّ كلاّ منهما علّة مستقلّة لعدمه عند الانفراد ، وإذا
اجتمع عدّة منها بطل استقلال الآحاد.
ودفع : بأنّ
الإمكان حينئذ يستند مرّة إلى الذّات بشرط انتفاء الغير ومرّة إلى الغير ، فلا
يزال للغير مدخل فى إمكان الذّات ، إذ لو لم يكن له مدخليّة ما كانت الذّات علّة
تامّة على كلّ وجه. وإذ نيط اقتضاء الذّات بأمر ما غيرها فلا يكون الشّيء ممكنا
ذاتيّا. فإمّا إنّه واجب بالذّات أو ممتنع بالذّات ، وإلاّ فسدت القسمة الحقيقيّة.
والحقّ : أنّ
علّة عدم المعلول طبيعة عدم أحد علله. وذلك أمر واحد لا تعدّد فيه بحسب نفسه وإن
تعدّدت أفراده ؛ فإنّها ليست عللا بخصوصها ، بل العلّة هى (٧٢) القدر المشترك ، والطبيعة
المرسلة بما هى طبيعة مرسلة لا تتكرّر ، ولا ينسب إليها التّكثّر إلاّ بالعرض. وإنّما
المتكثّرة والمتكرّرة خصوصيّات الآحاد الّتي هى لغات فى العلّيّة ، والطبيعة
المرسلة محفوظة بتعاقباتها وواحدة فى تكرّراتها وينحفظ بانحفاظها مقتضاها ولا يلزم
تكرّره. بل الفحص التّحصيلىّ يحكم أنّ عدم علّة المعلول الشّخصىّ عدم علّته
التّامّة الشّخصيّة.
وربما يقال :
لو كان إمكان الشّيء معلولا لغيره لكان هو بحسب ذاته جائزا أن يكون ممكنا وأن يكون
واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته ، وإمكان كون الشّيء واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته
مشتمل على التّناقض.
وأيضا ، يكون
على تقدير عدم تأثير الغير فيه واجبا أو ممتنعا ، وكلاهما
مستحيلان ، لأنّ سلب تأثير الغير فيه أمر مغاير لذاته ، وكون الشّيء بسبب
الغير واجبا بذاته أو ممتنعا بذاته غير معقول. ولا يتأتّى أن يستتمّ لو حوول
بتتميمه ما قد تلوناه عليك بعد أن تتعرّف أنّ الإمكان الذّاتىّ هو أنّ الشّيء إذا
اعتبر بذاته من غير التفات إلى شيء آخر وراء نفسه كان حقّ التّجوهر واللاّتجوهر
بالقياس إلى حقيقته ، وحقّ نسبة الوجود والعدم إلى ذاته سلب الضّرورة لا بعليّة واقتضاء
منه لذلك ، بل لعدم اقتضاء منه للضّرورة.
كما أنّ الوجوب
بالذّات هو كون الشّيء بحيث إذا أخذ بذاته من غير التفات إلى غيره كان حقّه أنّه
ضرورىّ التّجوهر وأنّه يجب له الوجود بذاته ، لا باقتضاء من ذاته لذلك. وكذلك
الممتنع فى ذاته ضرورىّ اللاّتجوهر وواجب عدمه بذاته لا باقتضاء منه.
ومن حيث تعرّفت
أنّه لا يكون إمكان خاصّىّ بالغير تحصّلت أنّه كذلك الإمكان العامىّ لا يكون
بالغير ، بل إنّما بالقياس إلى الغير ، سواء كان الممكن العامىّ بالقياس إلى الغير
واجبا بالذّات أو ممكنا بالذّات أو ممتنعا بالذّات.
<٦> شكوك امتحانيّة وحلول برهانيّة
ولعلّك تقول : أليس
الماهيّة من حيث هى ليست إلاّ هى ، على أن يصحّ سلب كلّ ما ليس من جوهريّاتها عنها
من تلك الحيثيّة وسلب الضّرورة من عوارض الماهيّة لا نفسها ولا من جوهريّاتها.
فكما أنّ
الحيوان من حيث هو هو ، أعنى طبيعة الحيوان المرسل بما هو حيوان مثلا ، كما يسلب
عنه الكتابة من تلك الحيثيّة كذلك يسلب عنه سلب الكتابة أيضا من تلك الحيثيّة ،
لكونهما جميعا من العرضيّات اللاّحقة ، فكذلك كلّ ماهيّة إمكانيّة يصحّ سلب ضرورة
الطرفين وسلب سلب ضرورة الطرفين عنها من حيث هى ، وكذلك سلب كلّ ما ليس من
جوهريّاتها.
فإذن ، الإنسان
من حيث هو إنسان مثلا ، كما أنّه ليس بواجب بالذّات
ولا بممتنع بالذّات ، فكذلك هو من تلك الحيثيّة ليس بممكن بالذّات أيضا. وقد
أفتيتنا أنّ كلّ ممكن بالذّات فإنّه فى مرتبة ذاته وفى حدّ حقيقته ممكن بالذّات ومختصّ
باستحقاق سلب ضرورة الطرفين عنه من حيث ذاته ، فلم ذلك وهو من تلك الحيثيّة متساوى
النّسبة إلى سلب الضّرورة وسلب سلب الضّرورة ، وبالجملة ، إلى أىّ سلب من السّلوب.
وأيضا ليس
يتعيّن له بما هو هو وجوب أو إمكان أو امتناع ، وإنّما يتعيّن الإمكان فى المرتبة
المتأخرة عن مرتبة الذّات. فإذن لا بدّ من اقتضاء من الذّات للإمكان ، وليس سبيله
سبيل الوجوب الّذي هو عين حقيقة الواجب بالذّات.
فيفصح لك تدليس
الوهم المسفسط عليك ويكشف تلبيسه فى هذا القول المغلّط ، لأن يغتالك بأن يقال :
سينكشف من ذى قبل ـ إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ سلب أىّ مفهوم فرض من عوارض الشّيء
عنه ، من حيث هو هو ، إنّما ينبغى أن يقدّم على من حيث هو ، حتّى تعود الحيثيّة
جزءا من المحمول ويكون السّلب واردا على الثّبوت من تلك الحيثيّة ، لا أن يؤخّر
حتّى يصير من حيث ذنابة للموضوع وقيدا له ، فإن فعل ذلك فربما يكذب مطلقا. وذلك
إذا كان مدخول السّلب ممّا لا يصحّ أن يكون الموضوع عروا منه فى نفس الأمر بوجه من
الوجوه أصلا.
فالصّحيح هو
أنّ الإنسان ليس من حيث هو إنسان ليس هو بضرورىّ الطرفين ؛ إذ ليس صدق سلب ضرورة
الطرفين عنه من حيثيّة الإنسانيّة ، بل من حيث عدم اقتضائه شيئا من ضروريّة الطرفين
، لا أنّ الإنسان من حيث هو إنسان ليس هو بضرورىّ الطرفين ، إذ الإنسان من حيث هو
إنسان شيء ما من الأشياء ، وكلّ شيء من الأشياء فهو إمّا ضروريّ أحد الطرفين أو
ليس بضرورىّ الطرفين. وليس يسوّغ العقل خلوّه عن الثّلاثة جميعا ، كما دريت :
وليس الإنسان
من حيث هو إنسان واجبا ولا ممتنعا. فهو من حيث هو إنسان ليس بضرورىّ الطرفين ، وإن
حكم الفحص أنّ لا ضرورة الطرفين ليست من حيث ما هو هو ، بل من حيث عدم اقتضائه
الضّرورة المسلوبة. فإذن ، قد فكّت عقدة خوف العثرة (٧٣) بإزاء خضرة السّفسطة.
وبالجملة ،
الماهيّة من حيث هى هى ما دامت تلحظ بذاتها من تلك الحيثيّة ولم يلتفت إلى أمر ما
غيرها لم يصدق الحكم عليها إيجابا إلاّ بنفسها وبجوهريّاتها.
فإذا لوحظت
ضرورة الطرفين ونسبت إلى ذاتها من حيث ذاتها صدق الحكم بسلبها عنها سلبا بسيطا
تحصّليّا على أن تؤخذ الحيثيّة حالا للموضوع ، ومصداق الحكم السّالب عدم اقتضاء
الذّات لما نسبت إليها ، لا اقتضائها لإثبات أو سلب. وإنّما كان يعوز الأمر إلى
ذلك لو كان الحكم بإيجاب شيء ما لها ، كالزّوجيّة للأربعة.
فإذن ، نسبة
الإمكان إلى الماهيّة سبيلها سبيل نسبة الوجوب إلى الواجب بالذّات فى عدم الإعواز
إلى اقتضاء من الذّات. وليس ذلك السّبيل فى مصداق الحكم ؛ فإنّ المصداق هناك ذات
الواجب بذاته ، وفى الإمكان نفس الماهيّة بما ليس لها اقتضاء الضّرورة أصلا. فإذن
، تعيّن استحقاق الماهيّة للإمكان مع تأخّره عن مرتبة الماهيّة وعدم اقتضاء من
الماهيّة واستحالة انسلاخ عنه.
وأمّا التّفصّى
بانسلاخ الماهيّة عن الإمكان من حيث هى هى لا يستلزم صحّة انسلاخها عنه فى نفس
الأمر ؛ لأنّها أوسع من هذه اللّحاظة على سياق ما يقال فى عامّة العرضيّات
الثّبوتيّة المخلوط بها الشّيء فى نفس الأمر ، لا بما هو هو ، فكاد يكون هاهنا
قياسا بلا جامع.
ولست أرى أن
يستباح به حلّ هذا العقد إلاّ على أنّه من قبيل الامتحانات ، لا على أنّه من
الفتاوى ، على ما عرّفناكه ؛ فإنّ ذلك إنّما يستتبّ فيما لا يجب أن يستوعب هو ومقابلاته
كافّة المفهومات بقاطبة الحيثيّات.
والقسمة إلى
الواجب بالذّات والممتنع بالذّات والممكن بالذّات ، حقيقة عامّة تستغرق أىّ مفهوم
كان بأيّة حيثيّة أخذت فيه ، وليس فى طوق العقل أن يخترع اعتبارا تعمّليّا أو
انتزاعا حقيقيّا يخرج عن شمولها ، وأنّ كلّ مفهوم موجود أو موهوم ، معقول أو محسوس
، صادق أو كاذب ، فهو فى حدّ ذاته من حزب واحد منها ولو لوحظ بأيّة حيثيّة حيّثت
بها محقّقة أو مقرّرة.
ثمّ لعلّك تقول
: الوجوب هو ضرورة الوجود بالغير ، ونقيضه سلب ضرورة الوجود بالغير ، وهو ممكن
بالنّظر إلى ذات الممكن ، وكذلك نقيض الامتناع
بالغير ، وهو سلب ضرورة العدم بالغير. فإذن ، ثبت الإمكان بالغير وهو مقابل
الوجوب بالغير والامتناع بالغير.
فيقال لك :
نقيض ضرورة الوجود بالغير سلب ضرورة الوجود بالغير ، على أن يكون «بالغير» قيدا
للضّرورة ، لا لسلب الضّرورة ؛ وكذلك نقيض الامتناع فاللّازم سلب الضّرورة الآتية
من الغير ، لا سلب الضّرورة الآتى منه. والمستحيل هو إتيان سلب الضّرورة من الغير
، لا سلب إتيان الضّرورة منه.
ثمّ ربما
يتوهّم : أنّه إذا اعتبر الواجب من حيث الإضافة إلى ممكن ما ، ككونه مبدأ زيد ،
مثلا ، كان بهذا الاعتبار ممكنا ، مع أنّه واجب بذاته. فقد تحقّق الإمكان بالغير
فى الواجب بالذّات على منوال تحقّق الوجوب بالغير والامتناع بالغير فى الممكن
بالذّات.
فازيح : بأنّ
ما يجب للواجب بالذّات هو وجود ذاته. ومع هذا الاعتبار وجود ذاته باق على وجوبه
الذّاتىّ ؛ فإنّ الواجب مع هذه الحيثيّة وغيرها من الحيثيّات يجب وجود ذاته بذاته وبالقياس
إلى استدعاء كلّ معوّل. فالحيثيّات اللاّحقة كيف تبدّل الذّات ، نعم لا يجب وجود
ذاته المقيّدة بهذه الحيثيّة. وهو غير واجب بذاته. فما هو واجب بذاته لم يصر ممكنا
بالغير ، بخلاف الممكن إذا صار واجبا أو ممتنعا بغيره ؛ فإنّ الممكن المأخوذ مع
وجود العلّة ، مثلا ، يجب وجود ذاته بالعلّة ، فقد صار نفس ما هو ممكن بذاته واجبا
بغيره.
ونحن نبسط
القول فى الجهات الحقيقيّة والإضافيّة بحسب اختلاف الأسماء للقيّوم الواجب بالذّات
، على ما هو صريح الحقّ ، وعليه الفتوى ، إذ حان حينه إن شاء اللّه تعالى.
<٧> أسّ قانونيّ
وجوب الطبيعة
بشرط شيء لذاتها أو لشيء أو بشيء يستلزم وجوب الطبيعة المرسلة لا بشرط شيء ، كذلك
، بل هو عينه ، ولا عكس ؛ وامتناع الطبيعة المرسلة
لا بشرط شيء فى نفسها ، أو لشيء أو بشيء يستلزم امتناع الطبيعة بشرط شيء
أيضا كذلك ، وليس عينه ، ولا عكس. وما يجب على الطبيعة المرسلة ويمتنع على فرد تلك
الطبيعة. وما يمكن على الفرد يمكن على الطبيعة المرسلة ، ولا يتعدّى ذلك فى كلّ
واحد إلى الآخر ؛ فإنّ للخواصّ طبائع يجب ويمتنع بها ما لا كذلك فى الطبيعة
المرسلة. ويعنى بالفرد والمتخصّص ما يعمّ الحصّة.
<٨> تأسيس تأصيليّ
اعلم أنّ
الواجب الوجود يجب له طبيعة الوجود المرسل لا بشرط شيء بالنّظر إلى ذاته ويمتنع
عليه طبيعة العدم المرسل بلا شرط شيء بالنّظر إلى ذاته.
فليس يلزم أن
يجب له جميع الوجودات ، بل قد يمتنع عليه بذاته بعض أفراد الوجود أو حصصه ،
كالوجود بعد العدم ، أو الوجود بالغير ، أو الوجود الزّائد اللاّحق. وذلك بحسب
خصوصيّات القيود ، وكونه واجب الوجود بذاته هو الّذي يوجب ذلك ، ويجب أن يمتنع
عليه بذاته كلّ نحو من أنحاء العدم وحصصه ، حيث إنّ ساحة جنابه يتقدّس عن شوائب
القوّة ويتعالى عن مسالك الإمكان.
وواجب الوجود
بالذّات واجب الوجود من جميع جهاته ، وكلّ ما يصحّ له من الكمال فهو له بالفعل من
جهة ذاته ، وهو الوجوب الصّرف والحقيقيّة الحقّة والفعليّة المحضة. فليس يجوز أن
يمكن له نحو ما من الوجود ، بل كلّ وجود وكلّ كمال وجود يمكن له (٧٤) بالإمكان
العامّ ، فهو واجب له بذاته.
والممكن الوجود
لا يجب له بذاته طبيعة الوجود المرسل لا بشرط شيء ، ولا يمتنع عليه بذاته طبيعة
العدم المرسل لا بشرط شيء. فليس يجوز أن يجب له بذاته شيء ما من أنحاء الوجود وحصصه
، بل ربما يصحّ أن يمتنع على ذاته بعض الوجودات بخصوصه. وكذلك يمكن أن يمتنع على
ذاته بذاته بعض أنحاء العدم بخصوصه.
أليس إمكان
الطبيعة لا يأبى امتناع الفرد بخصوصه ، فلذلك ما قد امتنع وجود
يكون عين الماهيّة أو من جوهريّاتها بالنّسبة إلى الطبائع الإمكانيّة
كافّة.
وكذلك وجود غير
مسبوق بالفاعل وبالعدم سبقا بالذّات على مسلك مطلق الحكمة ووجود لا يسبقه العدم. والجاعل
القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ سبقا دهريّا وسرمديّا على محجّة الحكمة
الصّريحة الحقّة الّتي اوتيتها ، والوجود فى الموضوع على الماهيّة الجوهريّة ، والوجود
لنفسه على طبيعة العرض ، والوجود القارّ على الماهيّة الغير القارّة.
وامتنع العدم
السّابق على الوجود والعدم الطارئ بعد الوجود بالنّظر إلى نفس ماهيّة الزّمان بما
هى ماهيّة على فلسفتهم اليونانيّة ، والعدم السّابق على الوجود سبقا زمانيّا. وكذا
العدم المطلق المتأخّر عن الوجود تأخّرا زمانيّا بالقياس إلى ذاته بذاته ، لا
العدم الّذي يتقدّم على الوجود تقدّما دهريّا. والّذي يتأخّر عنه تأخّرا دهريّا
على حكمتنا النّضيجة اليمانيّة الإيمانيّة ، وليس فى شيء من ذلك خرق طبائع
الإمكان.
<٩> مضيق عقد وفصية حلّ
كأنّك متأهّب
للتّشكيك بأن تقول : ألستم قد أفتيتم المقلّدين أنّ الإمكان محوج الممكن فى بقائه
أيضا إلى الجاعل ، وقد تكفّلت لنا تبيانه فى مستقبل القول ـ إن شاء اللّه تعالى ـ
او أليس إذا امتنع أحد النّقيضين بالقياس إلى ذات بنفسها يكون قد وجب الآخر
بالنّسبة إلى تلك الذّات بما هى تلك. فإذن ، إذا امتنع العدم الطارئ مطلقا أو طرءا
زمانيّا فقط بالنّظر إلى ذات بنفسها يكون قد وجب الآخر بالنّسبة إلى تلك الذّات
بما هى تلك الذات ، وعدم ذلك الزّمان كان نقيضه ـ وهو الوجود الطارئ أو الوجود
المستمرّ أو ما شئت فسمّه ـ واجبا له بذاته. فكيف يكون هو فى بقائه فاقرا إلى علّة
مبقية.
فاعلم أنّا
ندبّر اهبتك لهذا القول المعضل المغلط بأن نقول : كيف يكون ذلك النّحو من الوجود
واجبا لذات الزّمان ، وإنّه ليمكن انتفاؤه عنه نظرا إلى ذاته فى
ضمن انتفاء الوجود المطلق عنه بالكلّيّة وإن لم يكن ذلك بعد عروض الوجود
بما هو مأخوذ على التّحيّث بهذه الحيثيّة. فالوجوب على تقدير لا يوجب الوجوب
بالذّات ، وشيء من أنحاء الوجود لا يقع نقيضا للعدم الطارئ ، بل لشيء من العدمات
الخاصّة أصلا. بل إنّ نقيضه رفعه. ولا يتأبّى أن يتحقّق بالوجود أو بعدم لا يكون
طاريا. فالمقيّد قد يرتفع برفع ذاته المقيّدة وقد يرتفع برفع قيده.
وما يتبرهن
امتناعه هو العدم الطارئ على طريق التّوصيف التّقييدىّ دون الإضافة ، أى : رفع
الوجود على التّقييد بالطريان ، أعنى الرّفع المقيّد ، لا الرّفع المضاف على سبيل
دفع المقيّد.
فإذن ، ما أسهل
لك أن تجترى فى تحقّق نقيضه برفع الطريان ، فيتحقّق برفع غير طارئ ، أى غير مختصّ
بزمان بعد زمان الوجود المقطوع الاستمرار ، على ما هو المعنى المحصّل من طريان
العدم فى افق الزّمان عند مقنّن الحكمة النّضيجة الحقيقيّة.
<١٠> تنبيه تنويريّ
سبيل القول فى
العدم بعد الوجود بعديّة زمانيّة بالنّظر إلى ذات الزّمان سبيل القول فى الوجود
بعد العدم ، أيّة بعديّة كانت بالقياس إلى ذات الواجب الوجود تعالى ؛ فإنّه يمتنع
هناك مع امتناع جميع أنحاء العدم ، ويتحقّق بالوجود الّذي هو قبل جميع الوجودات. وليس
هو من بعد عدم أصلا.
<١١> شكّ وتكشاف
وربما يستكن فى
خلدك : أنّ فردا من الطبيعة كيف يكون نقيض فرد آخر منها ـ وأفراد الطبيعة الواحدة
متشابهة من جهة ما لها من تلك الطبيعة ـ العدم الطارئ ورفعه فردان لطبيعة العدم.
فيزال : بما قد
قرع سمعك ؛ من أنّ طبيعة العدم تختلف باختلاف ما اضيف
إليه ؛ فإن اخذ العدم الطارئ فردا من طبيعة رفع الوجود لم يكن رفعه فردا من
تلك الطبيعة ، بل من طبيعة العدم ، بمعنى مطلق الرّفع المساوق للسّلب المستفاد من
كلمة النّفى مطلقا. وقد عرّفناك أنّ السّلب يقع بإزاء الماهيّة وبإزاء الوجود
جميعا.
فإن لجّ لاجّ
من ضعفاء العقول وأقوياء الأوهام على أنّ الرّفع مقصور على الإضافة إلى الثّبوت
الانتزاعىّ البتة دون الماهيّة فى نفسها ، فيكون قد حاول إرجاع النّقيضين إلى ثبوت
العدم الطارئ ورفعه وإخراجهما عن طبيعة واحدة.
ثمّ إن أعدت
النّظر فى رفع رفع شيء ما من الأشياء مقيّدا بالطريان ؛ فإنّه فرد من طبيعة الرّفع
المضاف إلى الرّفع ، ونقيضه ـ وهو رفعه أيضا ـ فرد من تلك الطبيعة.
قيل لك : إنّ
نقيض الشّيء بمعنى رفعه قد يكون من أفراد ماهيّة ؛ فأحد النّقيضين يكون رفعا
بالنّسبة إلى الآخر ولا يكون الآخر رفعا بالنّسبة إليه ، بل مرفوعا به ، فيكون من
حيّز الإيجاب الإضافي بالنّسبة إليه وإن كان فى نفسه ماهيّة الرّفع.
فإذن ،
التّناقض بهذا المعنى ليس يتكرّر من جانبى النّقضيين ، إذ لا يكون كلّ منهما رفعا
لصاحبه ، بل المتكرّر هو المفهوم الأعمّ من كون الشّيء رفعا لمفهوم أو مرفوعا به. ومن
هاهنا يتأسس أنّه لا يكون بين أكثر من مفهومين تناقض ، فلا يكون شيئان مفهوم كلّ
منهما رفع شيء واحد بعينه. وينبسط القول فيه من ذى قبل إن شاء اللّه تعالى.
<١٢> مسألة امتحانيّة
لو أمكن أن يكون
الوجوب أو الامتناع للشىء بوسط مستند إليه لم يكن يستوجب أن يخرج بذلك عن حدّ
حقيقة الإمكان (٧٥). لكنّ البرهان الفاصل قد قام على استحالة ذلك. فلو قدّر أنّ
ممكنا ما يقتضي امتناع كلّ عدم بخصوصه بالنّظر إلى ذاته لم يكن يلزم امتناع طبيعة
العدم المرسل لا بشرط شيء بالنّظر إلى ذاته من حيث هى هى ، بل إنّما من حيث إنّه
يقتضي امتناع جميع أنحاء العدم ، والطبيعة المرسلة لا تتحقّق إلاّ بتحقّق شيء من
أفرادها ، فذلك الاقتضاء وسط بين الذّات
وبين اقتضائها الطبيعة المرسلة ؛
لكنّ الممكن
يستحيل أن يقتضي امتناع كلّ عدم بخصوصه بالنّسبة إلى ذاته ، بل يجب أن لا يأبى
بذاته نحوا ما من العدم بخصوصه ، كما أنّه بذاته لا يأبى طبيعة العدم المرسل لا
بشرط شيء ، وإلاّ يلزم أن يقتضي امتناع طبيعة العدم المرسل وإن لم يكن بالذّات ،
بل من جهة اقتضاء امتناع جميع العدمات الخاصّة ، فيكون يستلزم بذاته تساوق نقيض
تلك الطبيعة ، أعنى الوجود. فإذن تكون ذاته كافية فى اقتضاء الوجود ، وهو من
الطبائع الإمكانيّة الباطلة فى أنفسها. وهذه المسألة وإن كانت كشرطيّة مقدّمها من
الفروض الامتحانيّة ، فربما تجدها من آلات الخبريّة إلى الفتاوى البرهانيّة.
<١٣> إضاءة برهانيّة
فلاسفة الفلسفة
العاميّة ، الّتي ليست هى الحكمة بالحقيقة وإنّما هى مسخ الحكمة ، يظنّون أنّ
الوجوب بالغير والامتناع بالغير قد ينقلب كلّ منهما إلى الآخر بحسب أفق الزّمان
لوجود الحوادث الزّمانيّة بعد العدم وعدمها بعد الوجود.
وأمّا الحكمة
الحقّة النّضيجة التى أوتيتها من فضل ربّى ورحمته ويشبه أن تكون هى طبخا للفلسفة
اليونانيّة ، فسبيلها أنّ انقلاب أحدهما إلى الآخر إنّما هو فى وعاء الدّهر ،
لوجود الحوادث الدهريّة ، وهى جميع الممكنات هناك بعد العدم الدّهرىّ ويتعيّن
الامتناع بالغير بالانقلاب إلى الوجوب بالغير دون العكس. وأمّا بحسب أفق الزّمان
فلا انقلاب لأحدهما إلى الآخر أصلا. بل إنّما اختصاص لكلّ منهما بشرط من الزّمان
إن لم يكن الوجود أو العدم الزّمانىّ دائما دواما زمانيّا مستوعبا لجميع الأزمنة.
<١٤> إحضار
إنّ ثلّة من
الأوّلين فى الفلسفة يأخذون الوجوب بمفهومه والإمكان
والوحدة ومضاهياتها على قياس ما قد قرع سمعك فى الوجود امورا زائدة على
الأشياء فى الأعيان. وهذه الفرقة تتكلّف بهذا الضابط المحفوف بالفسخ تهويشات
مشوّشات لاصول منضبطة على سبيل الاستمرار اللاّزم. وبإزاء هؤلاء ثلّة من الآخرين
يعترفون بأنّ تلك امور هى زائدة فى مفهوماتها على الماهيّات ، إلاّ أنّها لا صور
لها فى الأعيان يحاذى بها ما فى الأذهان ، فهؤلاء هم المعتبرون من النّظر من
الفريقين.
وربما تسمع فئة
من محدثة أقوام يقولون : هذه الامور لا تزيد على الماهيّات الّتي تضاف إليها ذهنا ولا
عينا. وهؤلاء ليسوا من أهل المخاطبة ، وكلامهم أخسّ من أن يستأهل لأمر هيّن فضلا
عن البحث. فأنت تعلم من نفسك أنّه إذا قيل : الفرس ممكن الوجود والإنسان ممكن
الوجود ، لا يعنى بإمكان الوجود فى الفرس نفس الفرس ، وفى الإنسان نفس الإنسان ،
بل معنى واحد يقع عليهما. ولو عنى بإمكان الوجود الفرسيّة وقيل : الإمكان على
الإنسان بالمعنى الّذي قيل على الموصوف بالفرسيّة فقد قيل : الإنسان على الفرسيّة.
فمثل الإمكان إذا قيل على مختلفات الحقائق فليس هو تلك أو واحدا منها ، بل أمر آخر
يعمّها.
والعجب ـ كما
قال بعض حملة عرش العلم والتّميز ـ أنّ هؤلاء موافقون أبناء الحقيقة فى الاحتجاج على
وجود الصّانع ـ عزّ شأنه ـ بأنّ العالم ممكن ، وكلّ ممكن فاقر إلى مرجّح ، ثمّ إذا
باحثوا فى الإمكان يقولون : هو نفس الشّيء الّذي يضاف إليه ؛ فكأنّهم قالوا :
العالم عالم. وكذا حال غير الإمكان.
<١٥> دعامة عقليّة
إنّ الطبائع
المستوعبة ، منها ما طباع نوعه إذا كان له صورة متحققة أن يتكرّر متسلسلا مترادفا
يتولّد منه فى الوجود سلاسل متولّدة معا إلى لا نهاية ، كالوجود والوجوب والإمكان والوحدة.
__________________
فكما أنّه إذا
كانت للوجود صورة عينيّة وراء الماهيّة الموجودة كان له وجود عينىّ ولوجود الوجود
أيضا إلى لا نهاية ؛ ثمّ لمجموع السّلسلة وجود آخر متسلسل مرة ثانية إلى لا نهاية
اخرى وهكذا ؛ ولا يكون الوجود الأصل حصول إلاّ بحصولها جميعا.
فكذلك الوحدة
إذا كانت فى الأعيان وراء الماهيّة كان للماهيّة دون الوحدة وحدة ، وللوحدة دونها
وحدة أخرى ، وللوجود وحدة ، وللوحدة وجود ، وتعود اللاّنهاية مترادفة متضاعفة. وكذلك
فى الإمكان والوجوب ، ويتولّد سلسلة اخرى على التّضاعف بين الإمكان والوجود ،
فللإمكان وجود ولوجود الإمكان إمكان ؛ إذ لو وجب لم يكن عارضا ، ووراء تلك سلاسل
إلى لا نهاية فى التّضايف بين الإمكان والوجوب بالغير وبين الوجود والوجوب وبين
الوحدة والوجوب. فإذن ، كلّ ما هذه شاكلته ، فإنّه لا يكون له صورة فى الأعيان ولا
هو بحسب الأعيان شيء وراء الماهيّة.
وبالجملة ، لو
زاد الإمكان على الماهيّة فى الأعيان ، فإن كان واجبا فى نفسه لم يكن يوصف به غيره
، وإن وجب بنسبته إلى الماهيّة فهو معلول ممكن بالذّات واجب بالغير ، وكلّ ممكن
إمكانه قبل وجوه ، إذ يقال : «أمكن فوجد ، لا وجد فأمكن» وكذلك وجوبه بالغير ،
فإنّه يجب فيوجد ؛ فيعاد الكلام إليه ويذهب أعداد إمكاناته ووجوباته مترتبة إلى لا
نهاية ، ولا يزال كلّ من وجوده وإمكانه ووجوبه (٧٦) يتكرّر على الآخر. فإذن ، هذه
الأمور طبائع انتزاعيّة والاعتبارات الذّهنيّة لا حدّ لها بالوقوف ولا مبلغ لها
متعيّن التّخصّص من الحصول فى لحاظ العقل.
وهذا ما رام من
قال : «خطرات الأذهان لا يجب فيها النّهاية» ، إذ ليس الإخطار يدوم حتى يدوم تكرّر
الخطرات ، وقد يعنى بوجود ما لا نهاية له فى الذّهن تصوّر مفهوم اللانهاية مع
الحكم بصدقه على مفهوم ما أو لا صدقه عليه. ولو لم يكن ذلك لما صحّ لنا أن نسلب
مفهوم اللاّنهاية عن شيء ما أصلا.
فإذن ، يتمثّل
هذا المفهوم فى الذّهن ولا يلزم حصول ما لا نهاية فيه ، كما فى لحاظ مفهوم اجتماع
النّقيضين والمعدوم المطلق وما فى حزبه. وقد تلى عليك فيما قد سلف. وهذا المعنى
ممّا يفتقر إلى قريحة تامّة وحسن تأمّل غائر.
<١٦> هدم بهتيّ
وممّا تزلزلت به
قاعدة الثّلاثة المتكفلة لحاظ الأمر فى المعلول الأوّل ، إذ هو أيضا من الحوادث
الذّاتيّة المسبوق وجودها بالإمكان. وقد اعترفت بذلك هذه الفرقة. فلو كان إمكانه
أمرا عينيّا وراء ماهيّته دار بين أن يكون واجبا بذاته ، ولا واجب فى الوجود إلاّ
واحد ، ثمّ ما يجب بذاته كيف يكون صفة لشيء ؛ وبين أن يستند إلى جاعل المعلول
الأوّل المفروض له ، ويكون لا محالة متقدّما عليه فى المجعوليّة ، لتقدّم الإمكان ولاستحالة
التكثّر فيما يصدر عن الجاعل أوّلا ، فيكون هو المعلول الأوّل ، لا معروضه ، ويعاد
القول إلى إمكان الإمكان ، ويساق لا بنهاية. فيلزم أن لا يكون للجاعل مجعول أوّل ،
وهم يناهتون بذلك.
ورئيس مشّائيّة
الإسلاميّة كلّما احتال للخروج إلى المنتدح فى تعليق له بعد الشفاء سمّاه بالإنصاف
والانتصاف فلم يزدد إلاّ شدّا لإعضاد الوقوع فى المضيق.
<١٧> مخلص قسطاسيّ
فإذن ، هذه
الطبائع ، بسائر مضاهياتها ، اعتبارات ذهنيّة انتزاعيّة ليست من الامور العينيّة ولا
من العدميّات بمعنى عدمات الأشياء وسلوبها الّتي يؤخذ فيها رفعها.
فالإمكان وإن
كان سلب الضّرورة سلبا بسيطا ، لكنّه عدم الماهيّة أو عدم الوجود ، بل هو عدم
ضرورة تجوهر الماهيّة المتجوهرة وعدم ضرورة لا تجوهرها ، وعدم ضرورة وجودها وعدمها
، فهو اعتبار عقليّ فى الماهيّة المتقرّرة. ويعتبر فى مفهومه ما يوجب أن يكون
لحاظه فى الماهيّة بما هى متقرّرة ، لا بما هى منتفية فى نفسها. ولذلك لا يصدق
عليها بما هى ليست فى
نفسها وبما هى ليست فى الوجود ، أى من حيث ليسيّتها ومن جهة انتفائها ، بل
إنّما من جهة أنّ هذه الذّات المتقرّرة ليست بنفسها ضروريّة التّقرّر ولا ضروريّة
اللاّتقرّر ، وليست ضروريّة الوجود ولا ضروريّة العدم ؛ فصدق الإمكان على الممكن
المعدوم ليس من حيث انتفاء ذاته ، بل إنّما حين ما يتقرّر فى العقل ويلحظ من حيث
حال ذاته المتقرّرة فى نفسها إمّا فى الأعيان أو فى ذهن ما ، فهو سلب فى تقرير ،
لا سلب فى انتفاء.
وبالجملة ، هو
يجتمع مع الماهيّة والوجود ، ويصدق على الماهيّة الموجودة فى حال وجودها أنّها
ليست ضروريّة الوجود الّذي هى محفوفة به ولا ضروريّة العدم ، فكيف يكون عدميّا ، وأمر
العدم بخلاف ذلك ؛ فإنّه ليسيّة الذّات وانتفاؤها. وإنّما يصدق على الذّات بما هى
ليست ، لا بما لا تكون ليسيّة ما حال نفسها المتقرّرة وشأنها.
فإذن ، الإمكان
بالقوّة أشبه منه بالعدم ، فإنّه قوّة فى الذات المتقرّرة ، ولكن بالقياس إلى نفس
الذّات المتقرّرة ، لا بالقياس إلى ما وراءها فقط ممّا يصحّ لها من الكمالات والعوارض
، كما هى شاكلة سائر أقسام القوّة. ولذلك يكون للذّات بحسب هذه القوّة معنى ما
بالقوّة بحسب الذّات ، وبحسب سائر الأقسام معنى ما بالقوّة.
وقد كنّا
أوضحنا لك الفرق فى سالف الكلام وعلّمناك أنّ ممكنا ما لا يكون عروا من معنى ما
بالقوّة ؛ سواء كان من الأنوار العقليّة والمفارقات النّوريّة أو من عالم الظلمات
؛ بخلاف معنى ما بالقوّة ؛ فإنّ عالم الأنوار المفارقة متبرّئ السّاحة عنه ، والامتناع
ضرورة عدم الذّات المقدّرة التّقرّر ، كما كنت تعرّفت من قبل.
فإذن ، هذه
الأمور اعتبارات عقليّة فى الذّوات المتقرّرة على التّحقيق أو على التّقدير ؛
بخلاف الأعدام ؛ إذ هى اعتبارات انتفاء الذّوات والمفهومات من حيث هى ليست ، والإمكان
الذّاتىّ الّذي هو منها ويعمّ قاطبة الحوادث الذّاتيّة غير الإمكان المختصّ
بالحوادث الزّمانيّة فقط ، حيث ما يتلى عليك أنّ كلّ حادث
زمانىّ ، فإنّه يتقدّم وجوده إمكان سابق عليه وموضوع يحلّه ذلك الإمكان.
وثمّ يليق بك
أن لا تنسى ما قد تعلّمت من قبل : أنّ الصّفات على ضربين ؛ صفات لها وجود فى العين
وفى الذّهن ، كالبياض والسّواد ، وتستلزم اعتبارات عقليّة غير عينيّة ، كالأبيضيّة
والأسوديّة ؛ وصفات توصف بها الماهيّات ، وليس لها وجود إلاّ فى الذّهن ، ووجودها
العينىّ هو أنّها فى الذّهن كالنّوعيّة المحمولة على الإنسان والجزئيّة المحمولة
على زيد ؛ فإنّ قولنا : «زيد جزئيّ فى الأعيان» ، لا نعنى به أنّ الجزئيّة لها
صورة فى الأعيان قائمة بزيد. وكذلك الشّيئيّة عند الكثيرين المسلّمين أنّها من
المعقولات الثوانىّ والامتناع والإمكان والوجوب وأمثالها.
فليس شيء منها
حقيقة متأصّلة ، بل الحقيقة إمّا فى نفسها إنسان أو فلك أو غير ذلك ، ثمّ يلزمها
فى العقل : إمّا الواجبيّة أو الممكنيّة أو الممتنعيّة. ويصحّ أن يقال : مثلا :
شيء فى الأعيان أو ممتنع فى الأعيان أو ممكن فى الأعيان ؛ ولا يكون للشّيئيّة أو
الامتناع أو الإمكان صورة فى الأعيان زائدة على ذات ج.
فهى محمولات
عقليّة تثبت لما فى الذّهن تارة ولما فى العين اخرى ، ولا تكون (٧٧) أجزاء
للماهيّة العينيّة ، وليس يصحّ إلحاق شيء منها بأيّة ماهيّة اتّفقت ، بل إنّما
يلحظ صلوحها لذلك المحمول العقلىّ من الماهيّات المخصوصة. فللماهيّات خصوص لا يصدق
عليه كلّ اعتبار الحق به. وليس من شرط أن يكون الشّيء أمرا ذهنيّا أن يكون متساوي
النّسبة إلى جميع الماهيّات. أليست الجزئيّة والجنسيّة والنّوعيّة من الامور
الذّهنيّة ، ولا يصحّ إلحاق كلّ منها إلاّ بماهيّة دون ماهيّة. والمطابقة واللاّمطابقة
فى القضايا المعقودة بها إنّما تعتبر بالقياس إلى صلوح الماهيّة ولا صلوحها لذلك.
فإذن ، ليس إذا
لم يكن للإمكان ، مثلا ، صورة فى الأعيان قائمة بالماهيّة يلزم أن يكون الحكم ،
بأنّ «ج» ، مثلا ، ممكن فى الأعيان ، جهلا ؛ إذ ليس بإزائه فى الأعيان مطابق. أليس
صلوح ماهيّة «ج» لذلك فى لحاظ العقل هو مطابق الحكم ومعيار الصّدق.
وإنّما الفئة
المهملة لهذه المعايير العلميّة يعتريه الخبط ويتشوّش عليهم الأمر بعدم تحصيل
الجهات العقليّة وعدم التّمييز بينها وبين الصّفات العينيّة.
<١٨> شكوك وتنبيهات
ربّما شكّك :
بأنّ الواجب لذاته يساوى سائر الموجودات فى أصل الوجود ويخالفها فى الوجود ، وما
به المساواة غير ما به المفاوتة ، فالوجود غير الوجوب. وأيضا ، ليس قولنا : «موجود
واجب» كقولنا : «موجود موجود». ولو كان الوجود هو الوجوب كان هو هو ؛ وإذا كانا
متغايرين فيقال : ليس يصحّ أن يكون الوجود مستلزما للوجوب ، وإلاّ لكان كلّ موجود
واجبا.
وأزيح : بأنّ
الوجود المشترك لو كان يدلّ على الموجودات بالتّواطؤ للزم من كونه مستلزما للوجوب
فى موضع أن يكون كلّ وجود مستلزما له ، لكنّه يدلّ عليها بالتّشكيك. والمعانى
المشتركة على سبيل التّشكيك لا يقتضي استلزام بعضها لشيء استلزام غير ذلكالبعض
لذلك الشّيء. مثلا ، نور الشّمس يستلزم زوال العشى
وسائر الأنوار
لا يقتضيه ؛ لاشتراك طباع النّور بين نورها وسائر الأنوار بالتّشكيك. ونحن كنّا قد
أومأنا إلى الحقّ القراح فيما سلف ونكر فنبسط القول فيه من ذى قبل إن شاء اللّه
تعالى.
و [ربما شكّك]
بأنّ الوجود لو كان ملزوما للوجوب لزم كون الوجوب معلولا له ، وكلّ معلول ممكن
لذاته ، وكلّ ممكن لذاته واجب بعلّته. فقبل هذا الوجوب وجوب آخر لا إلى نهاية.
وأزاحه بعض من
يحمل عرش العلم والتّمييز
بأنّه لا يلزم
من كون الوجوب لازما كونه معلولا ؛ فإنّ الحقّ : أنّ الوجوب والإمكان والامتناع
امور معقولة
__________________
تحصل فى العقل ، من إسناد بعض المتصوّرات إلى الموجود الخارجىّ ، وهى فى
أنفسها معلولات للعقل بشرط الاستناد المذكور ، وليست بموجودات فى الخارج حتّى تكون
علة للامور الّتي تستند إليها أو معلولا لها ؛ كما أنّ تصوّر زيد وإن كان معلولا
لمن يتصوّره لا يكون علّة لزيد ولا معلولا له. وكون الشّيء واجبا فى الخارج هو
كونه بحيث إذا عقله عاقل مستندا إلى الوجود الخارجىّ لزم فى عقله معقول هو الوجوب.
و [ربما شكّك]
: بأن نقيض الوجوب ـ وهو اللاّوجوب ـ عدميّ ، فيكون هو ثبوتيّا. وأيضا ، هو تأكّد
الوجود ، فكيف يكون عدميّا.
وازيح : بأنّه
ليس عدميّا بمعنى المعدوم المطلق أو بمعنى ما يؤخذ فى مفهومه سلب شيء ، بل بمعنى
المعدوم العينىّ الموجود فى الذّهن. والنّقيضان وإن اقتسما جملة المفهومات، فليس
يلزم صدقهما كلّيّا على الموجودات العينيّة.
أليس الممتنع والممكن
العامّ نقيضين ، والممتنع معدوم ، وليس يلزم أن يكون كلّ ممكن بالإمكان العامّ
موجودا عينيّا ، بل ربما كان الممكن العامّ لا يوجد إلاّ فى الذّهن.
ثمّ قد يشكّك
فيقال : قد سلف : إنّ ثبوت شيء لشيء لا يستدعى ثبوت الثّابت فى ظرف الاتّصاف ، بل
إنّما المثبت له. فإذا كان بعض الأمور الذّهنيّة ، كالعمى ، مثلا ، ثابتا فى الخارج
لشيء ، ومن الذّائعات المسلّمة أنّ وجود الصّفة فى نفسها هو وجودها للموصوف بعينه.
فإذن يكون لمثل هذا الأمر الذّهنىّ وجود عينىّ ، فيكون من قبيل الأعراض الموجودة
فى الأعيان ، وللعقل انقباض عن عدّة موجودا عينيّا فضلا عن جعله من تلك الأعراض.
ونحن قد
عرّفناك ، من قبل ، أنّ قولنا : وجود «ج» ، مثلا ، فى نفسه بحسب ظرف ما هو بعينه
وجوده ل «ب» بحسب ذلك الظّرف ليس كقولنا : وجود «ج» فى نفسه بحسب ظرف ما هو إنّه
موجود ل «ب» ، بحسب ذلك الظرف ، وأنّ الأوّل لا يصحّ إلاّ أن يكون «ج» فى نفسه من
الامور الموجودة فى ذلك الظّرف ، ولكن على
أن يكون وجوده فى نفسه هو ل «ب» ، لا لذاته ، لكون ذاته من الامور القائمة
ب «ب» ، لا ممّا يقوم فى وجوده بذاته ، بخلاف الثّاني ؛ فإنّ مفاده أنّ نفس «ج»
ليست موجودة فى ذلك الظرف ، بل إنّما نعنى بوجود «ج» فى ذلك الظرف أن يوجد «ب»
هناك ، على وصف «ج». ومن يتعلّم الأمر هوّش على نفسه ، بل ربّما سلّم الفساد
اللاّزم وارتكب.
وأنت من حيث
تعرّفت تحقّقت أنّه قد يكون الشّيء ممتنع الوجود فى نفسه فى الأعيان ممكن الوجود
الرّابطىّ هناك بالقياس إلى شيء.
وبعض الفئة
المتكلّفة ظنّ أنّه قد ضيّق المحيص على الثّلّة المعتبرة المحصّلة : بأنّه إذا لم
يكن للإمكان صورة فى الأعيان لم يكن الممكن ممكنا فى الأعيان ، بل إنّما فى اعتبار
العقل فقط ، فيلزم أن يكون فى الأعيان إمّا واجبا أو ممتنعا ، إذ لا يخرج شيء ما
عن الانفصال الحقيقىّ. وكأنّه ـ بعد ما حصّلنا لك ـ كاد يستحقّ بذلك أن لا يعدّ من
أبناء الحقيقة وأولياء الفحص التّحصيلىّ.
ألست قد تحصّلت
أنّه لا يلزم من صدق الحكم على الشّيء بأنّه ممكن فى الأعيان أن يكون إمكانه واقعا
فى الأعيان ، بل هو محكوم عليه من قبل العقل أنّه فى حدّ نفسه (٧٨) ما هو فى
الأعيان ممكن ، ومحكوم عليه أيضا أنّه ما هو فى الذّهن ممكن ، وما فى أىّ ظرف ووعاء
وقع فهو ممكن.
فالإمكان صفة
ذهنيّة يضيفها العقل تارة إلى ما فى العين وتارة إلى ما فى الذّهن وتارة يحكم حكما
مطلقا متساوى النّسبة إلى الذّهن والعين. وأيضا يبطل مثل هذا النّمط من الاحتجاج
فى الامتناع ، فليس لامتناع الممتنع صورة فى الأعيان.
ولا يتأتى لأحد
أن يزعم أنّ الممتنع إذا لم يكن له امتناع فى الأعيان يكون واجبا أو ممتنعا ، وإذا
صحّ ذلك فى الامتناع صحّ على العموم.
وممّا استكشف
فى تضاعيف القول انكشف ضعف التّمسّك : بأنّ الفرق بين نفى الإمكان والإمكان
المنفىّ ـ وهما مفاد لا إمكان له وإمكانه لا يعطى ـ أنّ الإمكان ثبوتيّ ، إذ كلّ
عدم فإنّه يتحدد ويتحقّق بالوجود. فما يكون له رفع يكون
له ثبوت ، وما له ثبوت فهو ثابت.
وقد تكلّفه
رئيس أتباع المشّائيّة فى منطق الشفاء ؛ فإن عنى إعطاء أنّ الإمكان من الموجودات
العينيّة فالكذب فيه ظاهر ، وإن عنى إنّه ليس من الأعدام ، بل من المحمولات
العقليّة على الموجودات العينيّة والذّهنيّة ، فذاك هو ما رامته الثلّة المحصّلة.
ومعنى إمكانه
لا سلب الوجود العينىّ عن إمكان الشّيء ، أى : إنّ وصف الإمكان فى نفسه لا يكون
إلاّ فى الذّهن. ومعنى «لا إمكان له» سلب الإمكان عن الشّيء ؛ أى إنّه لا يصدق
عليه ذلك الوصف ، كما فى الامتناع والقدم والحدوث وسائر الطبائع الذّهنيّة ، وما
لا يحمل عليه الوجود فى الأعيان قد يكون محمولا على الأشياء العينيّة وصادقا
عليها. وذلك أحد معنى الوجود الرّابطىّ. وأمّا التّحدّد بالوجود فإنّما يلزم فى
العدم ، لكونه سلب الوجود ، لا فى مطلق السّلب ؛ فإنّ من السّلب سلب جوهر الماهيّة
، وهو فوق سلب وجود الماهيّة. وإنّما يلحظ فى إزاء مرتبة التّجوهر الّتي هى فوق
مرتبة الوجود.
فقد كان ممّا
استبان لك أنّه قد يكون السّلب لطبيعة السّلب فضلا عن طبيعة اخرى عينيّة أو
ذهنيّة. نعم لا يكون المسلوب بسلب سلبا لسلبه ، فيكون ثبوتا إضافيّا بالقياس إليه.
وهذا الثّبوت الإضافىّ ، سواء كان فى نفسه سلبا أو ثبوتيّا حقيقيّا هو المعتبر فى
تحديد السّلب بهذه الطبيعة الإطلاقيّة.
وإنّما ينبغى
أن يعنى بذلك ، على ما أقرّ به فى الشّفاء أنّ الثّبوت ـ وأعنى به الإضافىّ المطلق
أعمّ من أن يكون حقيقيّا فى نفسه أو بالإضافة فقط ـ يقع جزءا من بيان السّلب ، لا
أنّه موجود فى السّلب ، كما ذهب إليه بعض أتباع أرسطاطاليس ، من المفسّرين لكلماته
، فالمسلوب يستحيل أن يوجد مع سلبه.
ومن قال : «البصر
جزء من العمى» ليس يقصد منه أنّ البصر موجود مع العمى ، بل يقصد أنّ العمى لا يمكن
أن يحدّ إلاّ بأن يضاف السّلب فى حدّه إلى البصر ، فيكون البصر أحد جزئى البيان وإن
كان ليس جزءا من نفس العمى.
<١٩ > شكّ وتحقيق
ربما يتشكّك
فيقال : جعل الإمكان وشقيقه ومضاهياتهما من الاعتبارات العقليّة إنّما يبتّ تولّد
السّلاسل المتولّدة إلى لا نهاية فى الأعيان وليس يحسم لزوم ذلك فى اعتبار العقل
باللّحاظ التّفصيلىّ ؛ فإنّ اتّصاف الشّيء بالإمكان يجب أن يكون على سبيل الوجوب
فى لحاظ العقل وإلاّ لزم جواز الانقلاب ، فيكون لإمكانه وجوب فى العقل. واتّصافه
بذلك الوجوب أيضا على جهة الوجوب ، وهكذا إلى لا نهاية ، على أنّ كونه ممكنا لو
كان بالإمكان لأوجب اللاّنهاية أيضا. ولعلّ تسويغ اللاّنهاية فى خطرات الذّهن على
اللّحاظات التّفصيليّة أكبر إثما فى التّزوير من تسليم ذلك فى حضرات الأعيان.
ويزاح : بأنّ
لزوم التّسلسل اختلاف من غير انسياق الأمر إليه ؛ فإنّ الإمكان ، مثلا ، أمر عقليّ
ملحوظ على أنّه حال للماهيّة. فمهما اعتبر العقل للإمكان ماهيّة ووجودا حصل فيه
إمكان وانبتّ عند انبتات الاعتبار ، وأنّ هناك نكتة يجب أن تحقّق ولا تنسى ؛ فإنّ
كون الشّيء معقولا ـ ينظر فيه العقل ويعتبر تجوهره ولا تجوهره ، ووجوده ولا وجودة
ـ غير كونه آلة للعاقل ، ولا ينظر فيه من حيث ينظر فيما هو آلة لتعقّله ، بل إنّما
ينظر به. مثلا ، ريثما العاقل يعقل السّماء بصورة فى عقله ويكون معقول السّماء لا
ينظر حينئذ فى الصّورة الّتي بها يعقل السّماء ولا يحكم عليها بحكم ، بل يعقل أنّ
المعقول بتلك الصّورة هو السّماء ، وهو جوهر.
ثمّ إذا نظر فى
تلك الصّورة ، أى جعلها معقولا منظورا إليها ، لا آلة فى النّظر إلى غيرها ؛ وجدها
عرضا موجودا فى محلّ هو عقله ممكن الوجود. وهكذا الإمكان هو كآلة للعاقل بها
يتعرّف حال الممكن فى أنّ ماهيّته كيف تقرّرت ، ووجوده كيف يعرض لماهيّته ؛ ولا
ينظر فى كون الإمكان ماهيّة متجوهرة ، أو ليس هو من الماهيّات المتجوهرة وكونه
موجودا أو غير موجود ، وكون الماهيّة المتجوهرة جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا
أو شيئا ما من الأشياء.
ثمّ إن انعطف
إلى الالتفات إليه ونظر فى تجوهره ووجوده أو إمكانه ووجوبه أو جوهريّته أو عرضيّته
لم يكن بذلك الاعتبار امكانا لشيء ، بل كان عرضا فى محلّ هو العقل وممكنا فى ذاته ووجوده
، إلى غير ذلك ، من اعتبارات غير محصورة.
فإذن ، الإمكان
بما هو إمكان لا يوصف بكونه ماهيّة ما متجوهرة ، أو أنّه ليس بمتجوهر الماهيّة وبكونه
موجودا أو غير موجود أو ممكنا أو غير ممكن. وإذا وصف بشيء من ذلك فإنّه لا يكون
حينئذ إمكانا ، بل يكون مفهوما ما له إمكان آخر غير نفسه.
وبالجملة ،
الإمكان من حيث هو قائم بالذّهن ليس بإمكان ، ومن حيث هو متعلق بمتصوّر لا يعتبر
حصوله فى الذّهن ، أو لا حصوله فيه ولا حصوله بشيء أو لا حصوله له ؛ بل إنّما يلحظ
بحصول شيء على سبيل الإمكان.
وإذا تحققت
الأمر على هذا النّمط انكشفت لك جليّة ما اشتبه على من ليس هو من أبناء الحقيقة
(٧٩) وأولياء التّحقيق وزالت الحيرة الباهتة لغير اولى التّحصيل من الأقوام.
وهذا الأسلوب
مطّرد فى جملة الطبائع الاعتباريّة المتكرّرة ، كالوجوب والوحدة واللّزوم ومضاهياتها
؛ فإن أعيد إيهام أعضال العقدة : بأنّ العقل يجد أنّ شيئا من اللّزومات الصّحيحة
الانتزاع إلى لا وقوف لو لم يكن محكوما عليه ، بامتناع الانفكاك عن الملزوم الأصل
؛ لانفسخ ضابط اسّ اللّزوم.
فإذن ، يجب أن
يصدق الحكم الإيجابيّ باللّزوم على كلّ لزوم إلى لا نهاية ، وطباع الرّبط
الايجابىّ يستدعى بحسب الصّدق وجود الموضوع ، فيلزم تحقّق تلك اللزومات من حيث
كونها موضوعات لإيجابات صادقة.
قيل : ألم
يستبن أنّ اللّزوم إنّما يكون لزوما إذا اعتبر بما هو نسبة رابطة بين الملزوم واللاّزم
، لا بما هو مفهوم ملحوظ فى نفسه. فإذن ، هو بما هو لزوم ليس يسع أن يثبت له شيء
أو يسلب عنه شيء أو ينظر فى لزومه أو لا لزومه لشيء ؛ بل إنّما يسع ذلك ويصلح له
لو لوحظ بما هو مفهوم ما فى نفسه. وإنّما يستتبّ لحاظه
فى نفسه إذا التفت إليه وعزل القصد عن الحاشيتين وينبتّ بانبتاته.
فإذن ، ليس
يلزم أن يتّصف بامتناع الانفكاك عن الملزوم إلاّ اللّزوم المنظور إليه بالذّات ،
لا بما هو لزوم ، وهو ضرورىّ الانبتات بالانتهاء إلى نهاية ليس يجب أن يقف عليها
التّناهى. فهذا ما عليه الفتوى فى فكّ هذه العقدة.
وأمّا من تجشّم
أنّ تلك اللّزومات موجودة فى نفس الأمر بوجود ما ينتزع هى منه وليست موجودة فيها
بصور متغايرة ، والوجود الّذي هو مقتضى صدق القضيّة الموجبة أعمّ من الثانى والأوّل
، فإنّ الموجبة إن كانت خارجيّة اقتضى صدقها وجود موضوعها فى الخارج أعمّ من أن
يكون بصورة تخصّه ، كوجود الجسم ، أو لا ، كوجود جزء المتّصل الواحد بوجود كلّه ؛
فإنّ بعض المتصل الواحد قد يقع موضوع الإيجاب الصّادق ، كما إذا كان أحد قسمى
المتّصل حارّا والآخر باردا ، فيصدق الإيجاب الخارجىّ عليه.
فمن البين أنّ
أجزاء المتصلة ليست معدومة صرفة ، بل لها نحو من الوجود ، إلاّ أنّها ليست منفرزة
عن الكلّ فى الوجود ، بل هى موجودة بوجوده ؛ وإن كانت الموجبة ذهنيّة اقتضى صدقها
وجود الموضوع فى الذّهن على أحد الأنحاء.
فخصوص بعض
العقود الخارجيّة قد يقتضي نحوا من الوجود بخصوصه ، كصدق إيجاب التّميّز. بالذّات
، فإنّه يقتضي الوجود المستقلّ ؛ وصدق الحكم على الجوهر بخواصّه ، فإنّه يقتضي
النّحو الخاصّ من الوجود. والحكم على العرض بخواصّه ، فإنّه يقتضي نحو الوجود
النّاعتيّ بخصوصه ؛ وكذلك خصوصيّات القضايا الذّهنيّة قد يقتضي خصوصيّات أنحاء
اللّحاظات والتّمثّلات فى أذهان بخصوصياتها ؛ وخصوصيّات العقود الحقيقيّة قد يقتضي
وجود الموضوعات فى نفس الأمر على أنحاء متخصّصة. وهذا كما أنّ المطلقة تقتضى وجود
الموضوع بالفعل ، والممكنة بالإمكان ، والدّائمة بالدّوام.
وأيضا لزوم شيء
لآخر قد يكون بحسب الوجود بالفعل عن طرفى الملزوم واللازم جميعا ، بأن يمتنع
انفكاك الملزوم فى وجوده بالفعل عن وجود اللاّزم
بالفعل ؛ وقد يكون بحسب الوجود بالفعل من أحد الطرفين بخصوصه دون الآخر ،
كلزوم انقطاع الامتداد للجسم ؛ فإنّ معناه أنّه يمتنع وجود الجسم بدون كونه بحيث
يصحّ أن ينتزع منه انقطاع الامتداد. فانقطاع الامتداد بحسب كونه صحيح الانتزاع منه
لازم لوجوده بالفعل؛ وقد يكون من كلا الطرفين بحسب حيثيّة صحّة الانتزاع. ومن هذا
القبيل لزوم اللّزوم ؛ فإنّ مرجعه أنّ اللّزوم لا يمكن صحّة انتزاعه من شيء إلاّ وهو
بحيث يصحّ منه انتزاع اللّزوم، وهكذا.
فيكفى فى صدق
الحكم عليه بصحّة انتزاع اللّزوم منه هذا النّحو من الوجود ، أى : صحّة انتزاعه عن
موجود بالفعل. كما أنّ القضيّة الممكنة يكفى فى صدقها إمكان وجود الموضوع ؛ فإنّه وإن
لم يركب شططا فاضحا ، إلاّ أنّه قد عنّى نفسه ، ولم يستحصل أنّ اللّزوم بما هو
صحيح الانتزاع عن شيء ليس يصحّ أن يقع موضوعا لإيجاب أو سلب ؛ فإنّه بذلك الاعتبار
معنى رابط غير مستقلّ باللّحاظ هو لزوم بين شيئين ؛ وبما هو موضوع لحكم إيجابىّ أو
سلبىّ ليس هو لزوم شيء لشيء ، على أنّه معنى رابطىّ بينهما ، بل هو بذلك الاعتبار
مفهوم منظور إليه بالقصد له وجود فى نفسه بالفعل فى لحاظ العقل. فإذن ، ما تجشّم
فيه فوق تعنية النّفس شائبة زيغ عن حقيقة التّحصيل وخلوّ عن فضيلة الإجداء.
وربما يقال :
إنّما ينفسخ ضابط اسّ اللّزوم لو كان شيء من اللزومات المتحقّقة محكوما عليه
بامكان الانفكاك ؛ لا ما إذا لم نصدّق إيجاب امتناع الانفكاك لشيء منها ، لانتفاء
المحكوم عليه فى نفسه ، ويشبه أن يكون من الامتحانات المحمودة ما تلى عليك من
الفتاوى الحقيقيّة.
<٢٠> تقسيم تحصيليّ
إنّ الأمور
الّتي تدخل فى التّجوهر والوجود يحتمل فى اعتبار العقل الانقسام إلى قسمين : فيكون
منها : ما إذا اعتبر بذاته لم يجب تجوهره ووجوده ، وظاهر أنّه لا يمتنع أيضا ذلك
حتّى يجب لا تجوهره وعدمه ، وإلاّ لم يكن يدخل فى عالم
التّقرّر ، وهذا الشّيء هو فى حيّز الإمكان. ومنها : ما إذا اعتبر بذاته يجب
تقرّره ووجوده على أنّه بنفسه متقرّر وبذاته مصداق حمل الموجود عليه ، لا باستناده
إلى شيء ولا بقيام شيء ما به ، أو انتزاع شيء ما عنه. وبالجملة ، لا بلحاظة ذاته
بالإضافة إلى شيء ما غير ذاته ولا باقتضاء من ذاته لذلك ، بل بنفس ذاته ، لا
بعلّيّة ما من غير ذاته أو من ذاته ، فيكون لا محالة ماهيّته إنيّته ولا ماهيّة له
وراء إنيّته. وهذا هو القيّوم الواجب بالذّات. فأمّا ما يقتضي ذاته وجوده فهو
مفهوم لا يخرج عن بقعة الإمكان فى ظاهر التّصوّر.
ثمّ النّظر
البالغ والفحص الفاصل يحيلانه (٨٠) بحكم قاضى البرهان ، ويقضيان بأنّ الشّيء لا
يكون مقتضيا لوجوده ، فإنّه إن كان متجوهر الحقيقة بنفسه كان يحمل الموجود على
حقيقته بما هى حقيقته من غير لحاظة حيثيّة ما أصلا ، لا تقييديّة ولا تعليليّة ؛ وإن
كان تجوهر حقيقته بإفاضة جاعل كان حمل الموجود على نفس تلك الحقيقة المتقرّرة
بلحاظة حيثيّة تعليليّة هى صدورها عن جود الجاعل واستنادها إلى حضرته.
فالحقيقة
المتقرّرة بنفسها وجود هو موجود بنفسه ، لا بوجود عارض له ، وهو الواجبيّة. فإذن ،
ماهيّة الحقّ هو الواجبيّة ، والأوّل ـ تعالى ـ وجود محض غير عارض لماهيّة أصلا.
وكلّ ما له
ماهيّة وراء الإنيّة فهو معلول ، وسائر الأشياء غير الواجب فلها ماهيّات، تلك هى
الّتي بأنفسها ممكنة التّجوهر والوجود ، وإنّما تتجوهر بجاعل ، ويعرض لها وجود من
خارج.
فإذن ، الأوّل
لا ماهيّة له ؛ وذوات الماهيّات ـ وهى جملة البواقى ـ منه تفيض ماهيّاتها ووجوداتها.
ونسبة جملة الحقائق والوجودات إليه كنسبة الأضواء إلى ضوء الشّمس ؛ فهى بسببه ، وهو
مستغن عن ضوء آخر ، لو كان لضوء الشّمس قيام بذاته ، لكن ضوء الشّمس متعلّق
بموضوع.
والوجود الأوّل
لا موضوع له ، وهو ضوء حسّيّ ، متناهى مرآت الإضاءة
ومتناهى شدّتها ، والوجود الحقّ نور حقيقيّ هو وراء ما لا يتناهى بما لا
يتناهى شدّة وعدّة ، وأنوار عالم العقل فى شدّة نوريّته داهشة مبهورة. فإذن ،
الموجود أعمّ ممّا يكون متّصفا بالوجود وممّا هو عين الوجود المحض المتمجّد عن
الماهيّة.
فإن استصغرنا
أمر اللّغة فى معرض الحقيقة ـ بعد وضوح المقصود المحصّل ـ قلنا : قولنا : «واجب
الوجود موجود» لفظ مجاز ، معناه : أنّه يجب وجوده ، لا أنّه شيء موضوع فيه الوجود.
وإن عبأنا بما
استمرّت عليه الإطلاقات اللّغويّة والعرفيّة ، صونا لأبناء المدارك العاميّة عن
التّهويش ؛ قلنا : معنى الموجود : ما قام به الوجود ، أعمّ من أن يكون قياما
حقيقيّا على طريقة قيام الوصف بموصوفه ، انضماميّا كان أو انتزاعيّا ؛ أو يكون على
سبيل قيام الشّيء بذاته الّذي مرجعه عدم القيام بالغير ، وكون إطلاق القيام على
هذا المعنى مجازا لا يستلزم أن يكون وقوع الموجود على هذا القسم على المجاز ، لا
على سبيل الحقيقة. فالوجود القائم بذاته هو وجود نفسه ، كما أنّ الوجود القائم
بالشّيء هو وجود ذلك الشّيء.
أفليس إذا قامت
الحرارة بذات ما كانت حرارة تلك الذّات. فإذا فرض أنّها قامت بذاتها تكون حرارة
نفسها. فيكون لا محالة حرارة وحارّا. والضّوء إذا قام بشيء كان ضوء ذلك الشّيء ،
فإذا قام بنفسه صار ضوء نفسه ، فصار ضوءا ومضيئا بنفسه ، لا بضوء يعرضه. وهذا ما
نعنيه بقولنا : «واجب الوجود ماهيّته إنيّته».
ولسنا نعنى
بذلك : أنّ الواجب له وجودان : خاصّ وهذا المطلق الفطريّ ؛ ولا أنّه فرد من أفراد
هذا الوجود المطلق الانتزاعىّ الفطرىّ الكنه. وكيف يذهب إليه ذو تحصيل من أبناء
الحقيقة وأولياء الحكمة. أيتصوّر أن يكون ذات الذّوات وأصل الحقائق وينبوع
الإنيّات امورا اعتباريّا.
بل إنّما نعنى
: أنّ هذا المعنى الانتزاعىّ المطلق الفطرىّ المشترك فيه بالقياس إلى قاطبة
الموجودات ، أى الماهيّات المتقرّرة ، ليس عين شيء من الحقائق ؛ بل عينيّته لحقيقة
الواجب بالذّات ، معناها أنّ مصداق حمله عليه هو ذاته بذاته ،
وزيادته على الحقائق المتجوهرة بالجاعل ، وهى ما سوى القيّوم الواجب
بالذّات ، معناه : أنّ مصداق حمله ، على أىّ شيء كان غير ذلك الوجود الحقّ ، نفس ذاته
من حيث هى مجعولة الغير. فما ينتزع منه الموجوديّة فى الممكن هو نفس ذاته من حيث
هى من الجاعل ، وفى الواجب نفس ذاته من حيث هو بنفسه ، لا من جاعل ـ عزّ من ذلك.
أما كنت قد
تحقّقت من قبل أنّ الوجود المطلق إنّما كان يصحّ أن يسلب عن الممكن فى مرتبة ذاته
؛ لأنّه لم تكن له ذات متقرّرة إلاّ بجعل جاعل ؛ وليس مطابق الحكم بالموجوديّة
إلاّ نفس الذّات المتقرّرة. فالحيثيّة الّتي هى مصداق حمل الوجود هناك تعليليّة
راجعة إلى كون الذّات صادرة عن الجاعل.
فأمّا من هو
متقرّر فى ذاته بنفس ذاته وفالق لظلمة السّلب المستوعب بإخراج الماهيّات بأنفسها
من اللّيس المطلق المستغرق المبتلع لذوات الطبائع الإمكانيّة وهويّاتها على
الإطلاق إلى الفعليّة والأيس اللاّحق ؛ فإنّه لا محالة هو المحكيّ عنه بالوجود
بنفس ذاته ومطابق الحكم ومصداق الحمل بصرف حقيقته ، لا بقيام وجوديه واقتضاء منه
لصدق الموجود عليه. فلعلّك إذا استيقنت ذلك كنت من المهتدين.
<٢١> استيناف تفصيليّ
بلغنى عن فئة متغلّطة متسفسطة محدثة متسمّية بالمتكلمين ، مستحلّة لأن يكون القيّوم
الواجب بالذّات ـ تعالى شأنه ـ بحيث يصحّ أن يحلّله العقل إلى ماهيّة وإنيّة ،
تعالى اللّه عمّا يقولون فيلحدون فى القول علوّا كبيرا ؛ إنّهم يسوّغون كون الشّيء
علّة مقتضية لوجوده ، ويظنّون أنّ الواجب بالذّات من هو مفيض لوجوده.
فبعض أبناء
البشر فصّل : بأنّ
مراتب الموجودات فى الموجوديّة بحسب
__________________
تقسيم العقل فى أوّل اللّحظ قبل تحكيم الفحص ثلاث لا مزيد عليها.
< مراتب الموجودات ثلاثة >
(١) أدناها :
الموجود بالغير ، أى الّذي يوجده غيره. فهذا الموجود له ذات ووجود يغاير ذاته وموجد
يغايرهما. فإذا نظر إلى ذاته وعزل النّظر عن موجده أمكن فى نفس الأمر انفكاك ذاته
عن الوجود وانسلاخ عالم الوجود عنه ، ولم يرتب فى ذلك أحد ، ولا يستراب فى أنّه
يمكن أيضا تصوّر ذلك الانفكاك ، فالتّصوّر والمتصوّر كلاهما فى بقعة الإمكان. وهذه
حال الماهيّات الممكنة ، كما هو من الذّائعات المسلّمة عند الأقوام.
(٢) وأوسطها :
الموجود بالذّات بوجود هو غيره ، أى الّذي يقتضي ذاته وجوده اقتضاء تامّا يستحيل
معه أن لا يكون موجودا. فهذا الموجود له ذات ووجود يغاير ذاته ويمتنع انسلاخه عن
الوجود بالنّظر إلى ذاته لكن يمكن تصوّر هذا الانسلاخ. فالمتصوّر محال والتصوّر
ممكن. وهذه حال الواجب الوجود تعالى على مذهب جمهور المتكلّمين.
(٣) وأعلاها :
الموجود بالذّات بوجود هو عين ذاته. فهذا الموجود ليس له وجود يغاير ذاته (٨١).
فلا يمكن هناك تصوّر الانسلاخ عن الوجود ، بل الانفكاك وتصوّره كلاهما محالان.
ولا يشتبه على
ذى مسكة : أنّ هذه المرتبة فى الموجوديّة أقوى ما يتصوّر من المراتب، ولا يمكن
تصوّر مرتبة هى فوق هذه المرتبة الثّالثة الّتي هى حال الواجب ـ تعالى ـ عند ثلّة
هم فئة الحقّ وفريق التّحقيق من ذوى بصائر ثاقبة وأنظار صائبة.
وضرب لذلك
مثلا. وهو أنّ مراتب المضىء فى كونه مضيئا ثلاث أيضا. الأولى : المضىء بالغير
الّذي استفاد الضّوء من غيره ، كوجه الأرض ، وقد استضاء من الشّمس بالمقابلة.
فمنها مضىء وضوء يغايره وشيء ثالث يفيده الضّوء. الثّانية : المضىء بالذّات بضوء
هو غير ذاته ، أى الّذي يقتضي ذاته ضوءا ، اقتضاء
تامّا ، يمتنع بحسبه تخلّفه عنه ، كجرم الشّمس من جهة اقتضاء الضّوء عنه.
فهذا المضىء له ذات وضوء يغاير ذاته. والثّالثة : المضىء بالذّات بضوء هو عين ذاته
، لا بضوء زائد على ذاته ، كضوء الشّمس إذا فرض قائما بذاته ، لا بالشّمس ولا بشيء
ما غيرها. فهذا أعلى وأقوى ما يتصوّر فى كون الشّيء مضيئا.
ونحن نقول :
تثليث القسمة إنّما يتصوّر فى ظاهر اللّحظ لو بني الأمر على أنّ المعلول إنّما
طباعه أن يفيض وجوده من الغير.
وأمّا لو
استشعر أنّ المعلول يستند إلى الجاعل فى تقرّر سنخ ذاته وتجوهر أصل حقيقته ، لا فى
وجوده فقط. فلا يسع التّصوّر إلاّ تثنية القسم ؛ فإنّ الموجود حينئذ إمّا متقرّر
الحقيقة بذاته أو بجاعل. ويستحيل أن يتصوّر كون الحقيقة علّة مقتضية لتقرّرها فى
نفسها ، أعنى المرتبة المتقدّمة على الوجود ؛ فإنّ ذلك فى قوّة أن يقال : هى جاعلة
نفسها ومفيضة ذاتها ، وهو قول يشهد بفساد نفسه ، بل إنّما يتصوّر أن يكون حقيقة
متقرّرة بذاتها ، لا بجاعل.
وبالجملة ، إذا
وضع أنّ أثر الفاعل يكون أمرا وراء الذّات يعبر عنه بالوجود ربما سوّغ فى بادى
اللّحظ أن يكون مفيض ذلك الأمر على الذّات ، ومقتضيه لها هو نفس الذّات ، لا فاعلا
آخر غيرها ، إلى أن يرفع الأمر إلى تحكيم البرهان الفاصل والفحص البالغ.
وأمّا إذا
تعرّفت أنّ طباع المعلوليّة يقتضي أن يكون أثر الفاعل أوّلا وبالذّات هو نفس
الذّات وسنخ الحقيقة ؛ فلعلّ طباع الفطرة الإنسانيّة لا يسع أن يسوّغ ولو فى
اللّحظ الظّاهرىّ أنّ الماهيّة هى جاعل نفسها ومفيض جوهرها وفاعل سنخ ذاتها ، بل
إنّما يجد أنّ بعض الموجودات يكون متقرّر الحقيقة بنفس ذاته ، لا بعلّة ، فيكون
موجودا بنفسه ، لا بعلّة غير ذاته ولا بعليّة من ذاته ؛ لأنّ ما ينتزع منه الوجود
إنّما هو الحقيقة المتقرّرة. فإذا كانت الحقيقة متقرّرة بنفسها ، لا بأن يكون هى
جاعل ذاتها كان لها الوجود بنفسها ، لا بأن يكون ذاتها تقتضى وجودها. وبعض
الموجودات متقرّر الحقيقة بالجاعل ، فيكون موجودا أيضا بالجاعل. فحاجة الوجود واستغناؤه
بحسب حاجة الحقيقة المتقرّرة واستغنائها.
فإذن ، يمتنع
احتمال القسم الأوسط بعد تعرّف طباع المعلوليّة بحسب حكم الفطرة لا بوسط آخر يؤدّى
إليه ؛ فإنّ كون الموجود إمّا هو معلول وإمّا ليس هو بمعلول انفصال حقيقىّ فطرىّ.
وهذا التعرّف وإن
كان محفوفا بأن يكون هو ما يعنى بالفحص البالغ ، لكنّ أكابر القوم وأفاضل العشيرة
ليسوا يعنون به ذلك ؛ بل إنّما البرهان القاضى بأنّ الشيء لا يمكن أن يكون علّة
مقتضية لوجوده الّذي هو وراء ذاته ، وأنّ وجود الشّيء يمتنع أن يكون من لوازم
ماهيّته. والبرهان الّذي يقضى بذلك وإن كان قويّا فى حكمه تامّا فى قضائه إلاّ أنّ
تثنية القسم وإخراج أوسط الأقسام عن حيّز الاحتمال ممّا ليس يحوج إلى تحكيمه ورفع
القضيّة إليه ؛ بل يتبيّن بتعرّف طباع المعلوليّة وفاقريّة المعلول إلى أن يكون
جوهر ذاته من الجاعل ، فضلا عن الوجود الّذي هو وراء ذاته ومن اللّواحق المتأخّرة
؛ وأنّ الّذي يتعالى عن طباع المعلوليّة ؛ فإنّ حقيقة ذاته المتقرّرة بنفس ذاته ،
لا باقتضاء ذاته ، [فيكون هو الوجود بنفس ذاته ، لا باقتضاء ذاته].
وإنّما غرضنا
الّذي رمناه هو التّنبيه على هذه الدّقيقة الّتي عنها الجمهور فى ذهول عريض وفى
غفلة واسعة ، لا أنّ بطلان ذلك المحتمل من الفطريّات الغنيّة عن الفحص والبرهان.
<٢٢> تكملة
ما كنت تسمع من
الوجوب الّذي هو كيفيّة تجوهر ذات الموضوع وكيفيّة وجوده فى نفسه ، أو كيفيّة نسبة
المحمول إلى الموضوع غير ما نحن ملقوه الآن على سمعك ، من الوجوب الّذي هو واجبيّة
القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ مجده ـ وهو نور قائم بذاته متقرّر بنفسه لنفسه هو
وجود وموجود ووجوب وواجب ، وعلم وعليم وقدرة وقدير.
فإن أزعجك
الوهم أنّ وجوب الوجود وصف للوجود والوصف منفصل عن الموصوف ؛ فمن جعل وجوب الشّيء
نفسه فقد تجاهل.
قيل لك : ألست
تعتبر من الوجوب بالغير ، وهو الوجوب القائم بالشّيء. فالشّيء إذا أخذ بشرط وجوده
يصير ممتنع العدم ، وما كان مانعا للعدم كان مانعا لإمكان العدم والوجود. فإذن ،
الوجود بما هو وجود ممتنع الإمكان ، وما كان مانعا عن الإمكان لزمه الاستغناء عن
المفيض.
فاعتبر من ذلك
: أنّ الوجود بشرط التّجرّد عن الماهيّة أولى بالمنع عن الإمكان ؛ لأنّ الشّيء
الّذي له اعتبار الإمكان إذا اخذ مع الوجود يدخل فى الوجوب ، فالذى لا اعتبار له
إلاّ الوجود ، فهو بالوجوب أولى.
وأيضا ،
الحقيقة المتقرّرة بالجاعل إذا اخذت من حيث هى متقرّرة بالجاعل كانت تحتفّ
بالوجوب. فالّذى لا اعتبار له إلاّ أنّه الحقيقة الحقّة المتقرّرة بنفسه إذا نظر
إليه بنفسه فهو بالوجوب أولى.
والصّحيح بالحقيقة
أنّه هو الوجوب ، والوجوبات غيره أظلال الوجوب ؛ وهو الوجود ؛ والوجودات كلّها
أظلال الوجود ؛ وهو العلم ، والعلوم كلّها أظلال العلم ؛ بل هو الحقيقة ، لا حقيقة
سواه ، والحقائق كلّها أظلال الحقيقة.
ولا تقع لفظة
الحقيقة على غيرها من الحقائق إلاّ بالمجاز الصّناعىّ بحسب لغة الحكمة الحقّة
النّضيجة ، بل بحسب لغة الفلسفة المصحّحة المحصّلة أيضا على الحقيقة ؛ فإنّ
إطلاقها على الحقيقة فى لغة الحكمة إنّما يكون على جاعل الحقائق وينبوع الإنيّات ـ
جلّ شأنه ـ وإن صحّ أن يطلق فى لغة أهل اللّسان على طبيعة متحققة (٨٢) جاعلة أو
مجعولة.
فصل [ثالث]
تذكر فيه خواصّ القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ بحسب
ما يليق بطباع مفهوم الوجوب بالذّات فى إدراك العقل.
< في الفصل الثالث خمسة عشر عنوانا >
وهذا الفصل
القدسىّ وإن كان نزر من حقّه أن يلظّ بذكره لسان الرّوع ، ويبذل فى سبيله مجهود العقل
ويفدى ما يرام فيه بمهجة القريحة ، إلاّ أنّ للقول فيه معادا فى الشّطر الرّبوبىّ
ـ إن شاء اللّه تعالى ـ فالآن نقتصر على أقلّ الذّكر.
<١>نياطة
لعلّ حقّ
التّعبير عن جاعل الماهيّات وفاعل الإنيّات وصانع الحقائق ومفيض الوجودات وهو
الأوّل الحقّ المتقرّر بنفسه أن يقال : الضّرورىّ المتقرّر بنفسه والواجب الوجود
بذاته أو الضّرورىّ بالحقيقة والواجب الوجود بالذّات. ولا ينبغى أن يقتصر على
الواجب الوجود بالذّات وإن كان التّقرّر والوجود هناك واحدا لا يزيد أحدهما على
الآخر ، كما فى الطبائع الإمكانيّة ؛ إذ الوجود هناك عين الحقيقة ، والموجوديّة
نفس التّقرّر ؛ لأنّ المفهومين بحسب ما هما قبلنا مختلفان ، فينبغى تقديس المبدأ
عمّا يعترى كلاّ منهما بحسب الوقوع فى عالم الإمكان. ويشبه أنّ أحقّ ما يعبّر به
عن ضرورة تقرّر الحقيقة بنفس الذّات فى الأسماء الحسنى هو القيّوم.
فإذا اعتبر ذلك
ولوحظ أنّه مقرّر الحقائق وجاعلها جعلا بسيطا كانت المبالغة المعتبرة فى جوهر
الصّيغة تستبين من سبيلين : كون قوام حقيقة القيّوم وتقرّر ذاته بنفس ذاته، وكون
قوام جميع الماهيّات وتقرّرها فى سنخها منه.
ثمّ إذا وصفناه
بالواجب بالذّات أفاد ضرورة تقرّر الحقيقة ووجوب الوجود جميعا بنفس الذّات ، فلذلك
ما أن ترانا نصطلح فى هذا الكتاب على التّعبير عن مبدأ الكلّ بالقيّوم الواجب
بالذّات ، فلنرسخ من الآن فى الاستقرار على هذا الاصطلاح. فإذن ، القيّوم هو الّذي
له قوام الحقيقة وتقرّر الذّات بنفسه ، ومنه قوام جملة الماهيّات وتقرّرها. والواجب
هو الّذي له ضرورة قوام الحقيقة ووجوب الوجود بنفس ذاته ، ومنه وجوب جميع
الوجودات.
<٢> تنبيه
القيّوم الواجب
الوجود بذاته تعالى عن أن يتصوّر أن له علّة. ولعلّك تجد ذلك من الفطريّات. فإن
أحببت شدّة التّوضيح ، قلت : إن كانت له علّة فى تقرّره ووجوده ، كان تقرّره ووجوده
بها. وكلّ ما تجوهره ووجوده بشيء فإذا اعتبر بذاته دون غيره لم يجب له تجوهر ووجود
، وكلّ ما إذا اعتبر بذاته لم يجب له تجوهر ووجود فليس قيّوما واجب الوجود بالذّات
، فإذن ، القيّوم الواجب الوجود بالذّات لا علّة له. فقد ظهر أنّه لا يتصوّر أن
يكون شيء واجب التّقرّر والوجود بذاته وبغيره.
أفليس لو جاز
ذلك لم يكن يجوز أن يتقرّر ويوجد دون غيره ، فيستحيل أن يتقرّر ويوجد واجبا بذاته
؛ إذ لو وجب لحصل ، ولا تأثير لإيجاب الغير فى تقرّره ووجوده ، فقد تحصّلت من قبل
أنّه ليس يتصوّر لذات بعينها ولوجود ذات معيّنة بعينه ضرورتان حتّى يمكن أن يكون
إحداهما بنفس الذّات والاخرى بإيجاب الغير. وأمّا لزوم توارد العلّتين المستقلّتين
على معلول بعينه ، فربما يتشبّث به من آثر سخافة القول اتّباعا للفئة المتزوّرة
المتسفسطة.
<٣> إيقاظ
القيّوم الواجب
بالذّات لا يجوز أن يكون مكافئ الذّات لقيّوم واجب وجود آخر لو فرض أنّه يكون ـ
تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ـ حتّى يكون هناك علاقة عقليّة يلزم بحسبها أن
يكون هذا متقرّرا مع ذلك وذاك مع هذا. وليس أحدهما علّة للآخر ، بل هما متكافئان
فى أمر لزوم التّقرّر والوجود.
أليس إذا كان
واجبا بذاته وكان له وجوب أيضا باعتباره مع الثّاني كان ذلك الوجوب إمّا بالثّانى
ـ والقيّوم الواجب بالذّات لا يمكن أن يعرضه الوجوب بالغير ـ أو بالقياس إلى
الثّاني ، والوجوب بالقياس إلى الغير ليس يكون للشّيء إلاّ بالقياس إلى ما هو علّة
أو معلول له ، أو ما هو معه فى معلوليّة علّة واحدة قد جمعتهما بعليّة واحدة.
فقد استبان لك
، من قبل ، أنّه لا وجوب بالقياس إلى الغير ريثما ليس يتحقق علاقة عليّة إيجابيّة
أو معلوليّة وجوبيّة بوجه. فإذن يلزم أن يكون أحدهما معلولا أو هما معا معلولين وقد
كانا فرضا قيّومين واجبى الوجود ، تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن ذلك.
فإذن ، يجب أن
لا يتبع تقرّره ووجوده تقرّر الآخر ولا يلزمه ، بل لا يكون له فى تقرّره ووجوده
علاقة بالآخر بالتّكافؤ ، وكان كلّ منهما لا يأبى ذاته أن يتقرّر ويوجد وليس
يتقرّر ويوجد بالنّظر إلى ذاته وإن كان كلّ يجب أن يتقرّر ويوجد بالنّظر إلى ذاته
، ويمتنع بذاته أن لا يتقرّر ولا يوجد. فالوجود بالذّات بما هو وجوب بالذّات لا
يأبى طباع مفهومه أن يكون الواجب بالذّات ، له الإمكان بالقياس إلى الغير وإنّما
يمتنع ذلك ويلزم الوجوب بالقياس إلى الغير بلحاظة علاقة اللّزوم من حيث لحاظ
العليّة ومطلق حيثيّة الوجوب بالقياس إلى الغير بحسب علاقة العليّة بالإيجاب أو
المعلوليّة بالوجوب أو التّعلّق بعلّة واحدة فى عليّة واحدة إيجابيّة.
<٤> تحصيل قدسيّ
إنّ القيّوم
الواجب بالذّات ليس يمكن أن يأتلف ذاته من كثرة عينيّة أو ذهنيّة ، فعليّة أو تحليليّة.
ويعبّر عن ذلك بسبب منه ، كما يعبّر عن الجاعل والموجب
بسبب به. فكما أنّه ليس لتقرّره ووجوده سبب به ـ وقد استوضحته ـ فكذلك ليس
يصحّ أن يكون لذاته سبب منه ، ولا أن يكون له سبب عنه أو سبب فيه أو سبب له ، بل
لا سبب له أصلا ، وهو مسبّب الأسباب على الإطلاق من غير سبب.
أليس إذا نظرت
إلى ما يأتلف جوهر الذّات منه ومن غيره وجدت الذّات فى جوهرها فاقرة إليه ، لا على
أنّها أثره الصّادر منه ، بل على أنّها ذات سنخها هو مجموع ذلك الشّيء وذلك الغير.
فجوهر الذّات
بعينه هو جوهر ذينك الشّيئين. فبالضّرورة الفطريّة يتقدّم كلّ منهما فى التّجوهر
على المتجوهر الّذي هو مجموع المتجوهرين تقدّما بالماهيّة أو بالطبع (٨٣).
فإذا كانا من
الأجزاء العينيّة ، كالمادّة والصّورة الخارجتين ، كان قوام جوهر الذّات بهما بحسب
خصوص الوجود فى الأعيان ؛ وإن كانا من الأجزاء العقليّة ، أى المادّة والصّورة
العقليّتين ، كان قوام الحقيقة بهما بحسب خصوص ما يتمثّل فى لحاظ العقل فقط. وكلّ
من القبيلتين يتقدّم على الكلّ تقدّما بالطبع ، لا بحسب سنخ حقيقة الكلّ وجوهر
ماهيّته ، بل إنّما بحسب خصوص وقوع تلك الحقيقة فى الأعيان أو فى الذّهن ، وإن
كانا من الأجزاء المحمولة ، أعنى أجزاء الحدّ ، لا أجزاء الماهيّة على الحقيقة وكان
منهما تجوهر سنخ الحقيقة ، وكان كلّ منهما يتقدّم على سنخ جوهر الحقيقة تقدّما
بالماهيّة.
فإذا كان يفرض
أنّ لحقيقة القيّوم الواجب بالذّات مبادى قد ائتلف منها جوهر الحقيقة إمّا فى
الوجود أو بحسب اللّحاظ التّحليلىّ كان تقرّر الحقيقة لتلك أقدم من تقرّر الحقيقة
له ، وكانت حقيقته المتأخّرة فاقرة إلى حقائق متقرّرة قبلها ، وإن كانت القبليّة
الواقعة فى نفس الأمر متحققة فى لحاظ العقل ، فلم يكن ما فرض متقرّرا واجب
التّقرّر بنفسه متقرّرا بنفسه ، بل متقرّرا بتقرّرات أشياء متقرّرة تلحق تقرّراتها
ذلك المفروض.
ثمّ كلّ من تلك
الأشياء : (١) إمّا أن يكون متقرّر الحقيقة بذاته ، فيكون هناك متقرّرات واجبات
التّقرّر بذواتها. فهى لا محالة قيّومات واجبات بالذّات. فإذن لم
يكن المفروض قيّوما واجبا بالذّات على وفاق الفرض ، بل إنّما كان مجموع
قيّومات واجبات بالذّات.
وأيضا ، قد
استبان لك أنّ ما هو قيّوم واجب بالذّات لا يكون بين ذاته وبين ذات قيّوم واجب
وجود غيره تكافؤ لزومىّ يمتنع بحسبه أن يدخل أحدهما فى التّقرّر والوجود وليس
للآخر دخول فى التّقرّر والوجود. فكيف يتصوّر أن يكون أشياء متفاصلة الحقائق والذّوات
ليس يعقل بين ذواتها علاقة عقليّة طبيعيّة لزوميّة يتجوهر منها ذات متأحّدة وحقيقة
وحدانيّة. فذلك ـ مع شدّة وضوحه فى الفساد ـ سيتلى عليك بطلانه إن شاء اللّه
تعالى.
(٢) وإمّا أن
يكون بعض تلك الأشياء ، ولا أقلّ من واحد ، ليس إذا اعتبر بذاته يجب له أن يكون
متقرّر الحقيقة بنفسه ، فيكون لا محالة من الطبائع الإمكانيّة. فكيف يدخل طبيعة
إمكانيّة فى سنخ حقيقة القيّوم بالذّات حتى يكون يتجوهر سنخ حقيقته من ممكن ما ومن
قيّوم واجب بالذّات؟ وهل المفروض قيّوما واجبا بالذّات إلاّ الّذي هو ما وراء ذلك
الممكن؟ فالّذى فرض مجموع تلك الأشياء عاد إلى أنّه بعضها.
وأيضا يلزم أن
يكون تلك الطبيعة الإمكانيّة المعلوليّة متقدّمة على القيّوم الواجب بالذّات
تقدّما بالطبع أو تقدّما بالماهيّة ، وذلك فطرىّ الاستحالة. فإذن ، القيّوم الواجب
بالذّات يمتنع أن يجتمع ذاته من أجزاء متباينة فى الوجود أو ينحلّ إلى أشياء
متّحدة فى الحقيقة. وبالجملة يمتنع أن يتصوّر تحليل حقيقته إلى شيء وشيء بوجه من
الوجوه أصلا.
وإذا امتنع ذلك
استحال أن يكون له طبيعة جسمانيّة أو طبيعة مقداريّة امتداديّة. فإذن ، يستحيل
أيضا أن يكون بحيث يصحّ أن ينتزع منه شيء من الأجزاء المقداريّة. فإذن ، هو بسيط
حقّ ، ليس يتصوّر فى ذاته الواحدة الحقّة شيء من أنحاء التّكثّر.
وإذ هو وجود
حقّ متقرّر بنفسه موجود بذاته ؛ فهو تقرّر نفسه ووجود نفسه ، لا تقرّر شيء ووجود
شيء ، وهو تقرّر ووجود بالفعل لنفسه بنفسه.
فليس يمكن أن
يكون متعلّق الحقيقة والوجود بشيء أصلا ، ولا مادّة يستحيل هى إليه ، ولا موضوع أو
محلّ يوجد فيه ، ولا صورة يتلبّس هو بها ، ولا غاية يكون هو لها ؛ بل هو الغاية
لكافّة الماهيّات وقاطبة الإنّيّات وجملة الحقائق وجميع الوجودات.
فإذن ،
القيّوميّة الواجبيّة بالذّات مساوقة للبساطة الحقّة الخالصة المطلقة ، والقيّوم
الواجب بالذّات أحد بسيط حقّ ، تمجّد عن أن يتعلّق بسبب أصلا. فإذن ، قد انكشف
أنّه ليس له سبب به ، ولا سبب منه ، ولا سبب عنه ، ولا سبب فيه ولا سبب له ؛ وهو
مسبّب الأسباب من غير سبب.
وهذا التّبيان
الأقاصىّ القدسىّ ، بحيث يقع بإزاء جملة ما ريم بالقصد فى هذه المسألة، ولا يكون
يجوج إلى تبيين أنّه لا قيّوم واجب الوجود فى التّقرّر والوجود إلاّ واحد ، حتى
إذا اخذت هذه المسألة فى تبيان ذلك الأصل كان تهيّئا لمتحيّن أن يقول : إنّ الأمر
قد دار ، ولم يتحقّق لجمهور العشيرة الفلسفيّة من الرّؤساء والأتباع إلى الآن ، وهو
كجملة نظائره من الحكمة النّضيجة الّتي أوتيتها من فضل ربّى ورحمته.
<٥> تقديس
كما أنّ
القيّوم الواجب بالذّات أحديّ الذّات ، وليس مزدوج الحقيقة ، إذ ليس هناك كثرة
بالفعل ولا صحّة الخلال إلى شيء وشيء ، بل هو البسيط الحقّ والبساطة الصّرفة ،
فكذلك يمتنع أن يكون ذاته جزءا من حقيقة ما متأحّدة ومزدوجة ، يتألّف منه ومن
غيره. وكيف يتحصّل حقيقة وحدانيّة من واجب التّقرّر والوجود بذاته وممّا ليس له
تقرّر ووجود ، ولا تقرّر ولا وجود فى حدّ ذاته. وهل يسع طباع الفطرة الإنسانية أن
يتصوّر ذاتا وحدانيّة من ازدواج الفعليّة الحقّة والقوّة المحضة.
<٦> تبصير تقديسيّ
ألست قد تحصّلت
، من قبل ، أنّ لازم الماهيّة إنّما علّة كونه للماهيّة هى نفسها
المتقرّرة المقتضية لذلك اللاّزم على أن يكون هى حالة الاقتضاء مخلوطة
بالوجود ؛ إذ كان الوجود أوّل ما ينتزع من الماهيّة المتقرّرة بالقياس إلى سائر
اللّواحق. فالماهيّة المتقرّرة هى بعينها مطابق هذا الحكم ومبدأ هذا الانتزاع ،
فيكون موجوديّتها قبل اعتبار تلبّسها بشيء ما ـ أىّ شيء كان ـ ممّا هو يلحق جوهر
الذّات ، وليس يدخل فى قوام سنخ الحقيقة.
وإذا كان كلّ
مقتض لشيء يجب أن يصحّ تخليل الفاء بينهما بحسب الوجود ، لكون طباع الاقتضاء
يستوجب ذلك ، بل إنّ مفاده هو. ولست أقول : إنّ ذلك هو ما يفتقر إليه طباع اللاّزم
، حتّى يكون هو متوقّفا على وجود الماهيّة أيضا ، على أن يؤخذ الوجود جزءا ما من العلّة المقتضية. فيرجع
الأمر إلى أنّ المقتضى هو مجموع الماهيّة وحيثيّة مطلق الوجود. فمن المتحقق : أنّه
(٨٤) لو كان فى طباع وجد فوجد ما يوجب استيجاب هذا ، لم يكن يتصوّر أن يتحقق
علّيّة بين شيئين أصلا ، سيجيء تبيانه فى مؤتنف القول إن شاء اللّه تعالى.
إنّما طباع «وجد
فوجد» تقدّم موجوديّة ما هو علّة ، لا اعتبار وجود ما هو علّة فى العلّيّة حتّى
يلزم تقدّم موجوديّة ذلك الوجود أيضا. فليس يتصوّر أن يكون الوجود لازما لماهيّة
ما أصلا ؛ وإلاّ كان يقع طباع «وجد فوجد» بين الماهيّة ووجودها اللاّزم لها بعينها
، فيتقدّم وجود الماهيّة على وجودها اللاّزم : فإمّا أن يكون الوجود المتقدّم هو
الوجود المتأخّر بعينه ، فكيف يتصوّر أن يكون شيء بعينه يتقدّم على نفسه ، وإمّا
أن يكون هناك وجودان بنفسه : متقدّم ومتأخّر ، فكيف يتكثّر الوجود مع لا تكثّر
الموضوع ، على أنّ الكلام فى المتقدّم كالكلام فى المتأخّر ، فيتسلسل.
وليس الغرض
بطلان التسلسل ؛ فإنّه ممّا لم يتبيّن بعد ، بل إنّ مجموع الموجودات المتسلسلة ،
كالوجود الأوّل. فقد انكشف أنّه يستحيل أن يكون شيء من الأشياء مقتضيا لوجوده وأن
يكون الوجود من لوازم ماهيّة ذات ما من الذّوات أصلا. فإذن ، فاحكم أنّ القيّوم
الواجب بالذّات يجب أن يكون وجوده عين ذاته
__________________
وأن لا يكون له ماهيّة وراء إنيّته.
وأيضا ، لمّا
كان القيّوم الواجب بالذّات متقرّر الحقيقة بذاته ، وإنّما مطابق انتزاع الوجود والمحكىّ
عنه بالموجوديّة هو نفس الحقيقة المتقرّرة ؛ فحيث إنّ تقرّر الحقيقة له بنفس
الذّات ، لا باقتضاء الذّات ، أفليس ممّا يستحيل على فساد نفسه كون الحقيقة جاعل
جوهر نفسها وصانع سنخ ذاتها ، فيكون الوجود الضّرورىّ له بنفس الذّات لا باقتضاء
الذّات ، وإلا لزم أن يكون تقرّر حقيقة وحقيقة متقرّرة ، ولا صحّة انتزاع الوجود
منها بحسب ظرف التّقرّر. وقد كنّا أوضحنا لك فساده فيما سلف .
فإذن ، القيّوم
الواجب بالذّات ليس يصحّ تحليله إلى ماهيّة ووجود. فهذا أحديّ الحقيقة ، بسيط
الذّات من هذه الجهة أيضا ، كما أنّه أحدىّ الحقيقة من جهة أنّه لا قسمة له بوجه
أصلا ، لا فى الكم ولا فى المبادى ولا فى القول. فهو واحد من هذه الجهات الأربع ،
بل من الجهات كلّها.
<٧> تذييل
رأيت كيف
استحصف التّبيان ، فتفسّخت عصامات الفئة المتسفسطة وتمحّقت جزافاتهم وما يغتال به
مثير فتنة التّشكيك أوهام المستضعفين من المقلّدين. وهو أنّه لم لا يجوز أن يكون
المؤثّر هو الماهيّة لا بشرط الوجود.
ثمّ لا يلزم من
حذف الوجود عن درجة الاعتبار دخول العدم فيها ؛ لأنّ العدم من حيث هى هى لا موجودة
ولا معدومة. وهذا كما قالوا فى الممكن : إنّ ماهيّته قابلة للوجود لا بشرط وجود
آخر ، وإلاّ وقع التّسلسل.
ولا يلزم أيضا
أن يكون القابل للوجود معدوما ، وإلاّ لزم كون الشّيء الواحد فى الوقت الواحد
موجودا ومعدوما معا ؛ فقد بأن لك بما قد سلف أنّه من ساقط القول ومن لغو الحديث. وقال
بعض من يحمل عرش التّحقيق فى توهينه : «لا شكّ أنّ
__________________
الماهيّة من حيث هى هى لا موجودة ولا معدومة» .
وإنّا نعلم
بالضّرورة أنّ تأثير العلّة مشروطة بتقدّمها فى الوجود ، وإنّما يمكن أن يكون
الماهيّة من حيث هى هى علّة لصفة معقولة لها. كما أنّ ماهيّة الاثنين علّة
لزوجيّتها وعدم اعتبار الوجود معها عند اقتضائها تلك الصّفة لا تقتضى انفكاكها من
الوجود حالة الاقتضاء. وأمّا كونها من حيث هى هى علّة لوجود أو موجود فمحال ، لأنّ
بديهة العقل حاكمة بوجوب كون ما هو علّة لوجود ما موجود.
والفرق بين
الوجود وبين سائر الصّفات هاهنا أنّ سائر الصّفات توجد بسبب الماهيّة ، والماهيّة
توجد بالوجود على معنى أنّه هو موجوديّتها ، فلذلك جاز صدور سائر الصّفات من نفس
الماهيّة وصدور بعضها من بعض ، ولم يجز صدور الوجود منها. وليس الأمر كذلك فى قبول
الوجود فإذن ، قابل الوجود يستحيل أن يكون موجودا ، وإلاّ فيحصل له ما هو حاصل له.
والماهيّة إنّما تكون قابلة للوجود عند وجودها فى العقل فقط. ولا يمكن أن تكون
علّة لصفة خارجيّة عند وجودها فى العقل.
ونحن نقول :
قبول الماهيّة من حيث هى هى للوجود لا يوجب كون جاعل ذاتها هو نفسها بعينها ، ولا
أن يكون ذاتها قابلة لذاتها ، وتأثيرها فى الوجود ليس يتصوّر إلاّ بأن يكون جاعل
ذاتها هو نفس ذاتها وأنّ معاد القول المستوفى فيه بعض فصول الشّطر الرّبوبىّ إن
شاء اللّه تعالى.
<٨> هداية
قد قرع سمعك
فيما سلف ويتلى عليك فيما يأتى ، إن شاء اللّه تعالى ، أنّ الماهيّة المجرّدة عن
المادّة لا تكون لذاتين. والشّيئان إنّما هما اثنان ، إمّا بسبب المعنى وإمّا بسبب
الحامل للمعنى وإمّا بسبب الوضع والمكان أو بسبب الوقت والزّمان ، وبالجملة لعلّة
من العلل. فكلّ شيئين لا يختلفان بالمعنى فإنّما يختلفان لشيء غير
__________________
المعنى. وكلّ طباع معنى موجود بعينه لكثيرين مختلفين فهو متعلّق الذّات
بشيء من العلل ولواحق العلل.
فإذا قيل : فى
كلّ طباع معنى ليس هو لمادّة ولا يعتريه لواحق مادّة إنّه لا يكون لاثنين بالعدد ،
فبالحرىّ أن يقال قولا مرسلا : إنّ المعنى الّذي ليس هو للشىء ولا يجوز أن يتعلّق
إلاّ بذاته فقط ؛ فإنّه لا يخالف مثله بالعدد البتّة.
فإذن ، الوجود
البحت الّذي ليس هو الماهيّة ، وإنّما هو وجود نفسه ، وهو القيّوم الواجب بالذّات
، يمتنع أن ينقسم بالحمل على كثيرين بالعدد ، وأن يكون نوعه لغير ذاته الواحدة
الحقّة ؛ فإنّ وجود نوعه له إمّا بنفس ذات نوعه ، فلم يوجد إلاّ له ، أو لعلّة ؛ ولا
يصحّ ذلك إلاّ أن يكون جوهر الشّيء معلولا باطل الذّات ، ناقص الحقيقة ، تعالى
القيّوم الواجب بالذّات عن ذلك علوّا كبيرا.
وكان قد استبان
أنّه قد يستحيل أن ينقسم بالفصول حتّى يحمل على كثيرين بالحقيقة النّوعيّة ، وإلاّ
كان له أجزاء الحدّ. فلم يكن أحدىّ الذّات.
فإذن ، لا
قيّوم واجب الوجود إلاّ واحد ، والقيّوم الواجب الذّات (٨٥) لا شريك له. وإذ هو
بريء من المادّة وعلائقها وعن الفساد ، والأضداد متفاسدة مشتركة فى الموضوع ، فلا
ضدّ له.
فقد بيّن من
هذا أنّه لا مكافئ له ولا شريك له ، وأنّ معنى شرح اسمه له فقط ، ولا جنس ولا فصل ولا
ماهيّة ولا كيفيّة ولا كمّية ولا أين ولا وضع ولا متى ولا ندّ ولا مثل ولا ضدّ له
ـ تعالى وجلّ وتمجّد ـ وأنّه لا حدّ له ولا برهان عليه ، بل هو البرهان على كلّ
شيء ، وإنّما السّبيل إليه دلائل واضحة.
وإذ هو هو تامّ
الحقيقة من جهة أنّ حقيقته وشرح اسمه له فقط. فهو واحد من جهة تماميّة تقرّره ووجوده
؛ وواحد من جهة أنّه لا ينقسم لا بالكم ولا بالمبادى المقوّمة ولا بأجزاء الحدود ؛
وواحد من جهة أنّ لكلّ شيء وحدة تخصّه ، وبها كمال حقيقته وصفاته الذّاتيّة ؛ وواحد
من جهة أنّ مرتبته من التقرّر والوجود ، أى : وجوب التقرّر والوجود له فوق التمام ووراء
التّناهى فى لا تناهى الشّدّة ، أى شدّة تأكّد تقرّره وتمحّض وجوده غير متناهية
اللاّتناهي.
<٩> استيناف
أما بيّن أنّ
وجوب التّقرّر والوجود هو الحقيقة الحقّة الّتي هى مبدأ كلّ حقيقة ، لا أنّ هناك
ماهيّة ما يقارنها وجوب التقرّر والوجود. فيجب أن يعقل واجب التقرّر والوجود نفس
واجب التقرّر والوجود ، لا كما يعقل شيء ما ، كإنسان أو فلك أو عقل ، مثلا ، هو
واجب التقرّر والوجود. وذلك كما قد يعقل الواحد نفس الواحد ، لا هواء أو ماء أو
نار أو فلك أو غير ذلك هو الواحد.
ففيثاغورس وأصحابه
، أبناء الوحدة ، يجعلون المبدأ ذات الواحد من حيث هو واحد ، لا شيئا ما هو الواحد
؛ إذ الواحد الحقّ هو نفس الواحد البحت ، لا ماهيّة ما قارنها الواحد. أليس تأكّد
الحقيقة وتصحّحها مبدأ كلّ حقيقة ، فكيف لا يكون هو بنفسه حقيقة؟ فإذن ، تأكّد
التّقرّر وتمحّض الوجود هو بذاته واجب التّقرّر والوجود ، وهو الحقيقة الحقّة
المطلقة.
فبعد ذلك نقول
: إنّ وجوب التّقرّر والوجود لا يمكن أن يتكثر ، وإلاّ : فإمّا هو لمختلفى الحقائق
على سبيل الانقسام بالفصول ، أو لمتّفقي الحقيقة النّوعيّة على سبيل الانقسام
بالعوارض. والفصول لا تدخل فى حدّ ما يقام مقام الجنس. فهى لا تفيد المعنى الجنسىّ
حقيقته من حيث معناه ، بل إنّما تفيده التّحصّل والقوام بالفعل ذاتا موجودة خاصّة
؛ إذ لا عليّة لها إلاّ لتقويم الحقيقة موجودة معيّنة ، لا لتقويمها فى نفسها.
ففصول وجوب
التقرّر والوجود وإن صحّت وجب أن لا تفيد وجوب التّقرّر والوجود حقيقة وجوب
التقرّر والوجود ، بل إنّما الوجود بالفعل. وقد دريت أنّ حقيقة وجوب التقرّر والوجود
ليس إلاّ نفس تأكّد التقرّر وتمحّض الوجود ، لا كحقيقة الحيوانيّة الّتي هى معنى
غير تأكّد التقرّر والوجود. والموجوديّة أمر خارج عن ذاتها داخل عليها. فإفادة
الوجود بالفعل لوجوب التّقرّر والوجود هى إفادة ما فى سنخ الحقيقة.
فإذن ، يلزم أن
يدخل ما هو كالفصل من حيث هو كالفصل فى ماهيّة ما هو
كالجنس من حيث هو كالجنس فى اللّحاظ الّذي هو ظرف تمايز حيثيّتى التّعيّن والإبهام
، وهو فاسدا وأيضا يلزم أن يكون حقيقة وجوب التّقرّر والوجود الّذي تمّ حقيقة وجوب
التقرّر والوجود له متعلّقة فى أن تحصل بالفعل بموجب. فيكون المعنى الّذي به يكون
الشّيء واجب التّقرّر يجب حصوله بغيره ، فيكون واجب التقرّر والوجود بالذّات واجبا
بغيره أيضا ، وكان قد ظهر بطلانه.
فإذن ، لا يمكن
أن يتكثّر وجوب التقرّر والتقرّر والوجود تكثّر المعنى الجنسىّ بالفصول ، فإمّا أن
يتكثّر تكثّر المعنى النّوعىّ بالعوارض حتّى يكون شيئان لهما وجوب التّقرّر والوجود
، ولا يخالف أحدهما الآخر فى شيء ممّا هو غير خارج عن المعنى الّذي هو جوهر
الحقيقة ، بل إنّما التّخالف بأنّ ذا ليس ذاك وذاك ليس ذا بالعدد. فلا محالة يكون
هناك لواحق لجوهر الحقيقة بها المباينة.
واللّواحق :
إمّا أن تعرض الحقيقة بما هى تلك أو وجود الحقيقة بما هو وجودها ، فلا يتصوّر
الاختلاف فيها ، بل يجب أن يتّفق الكلّ فيه ؛ وإمّا أن تعرض الحقيقة بأسباب خارجة
، لا بنفس الماهيّة ، فيكون لو لا تلك الأسباب لم تعرض ، فتكون لولاها لم تختلف ،
فتكون لولاها كانت الذّات واحدة أو لم تكن ذات ؛ فتكون لولاها ليس هذا بانفراده
واجب التقرّر والوجود.
فيكون وجوب كلّ
واحد منهما الخاصّ به المنفرد له مستفادا من غيره. وقد قيل لك: إنّ الواجب بالغير
لا يكون واجبا بالذّات. وبعبارة اخرى : إنّ كون الواحد منهما واجب التقرّر والوجود
، وكونه هو بعينه إمّا أن يكون واحدا ، فيكون كلّ ما هو واجب التقرّر والوجود فهو
هو بعينه وليس غيره.
وإذ كان كونه
واجب التّقرّر والوجود غير كونه هو بعينه. فمقارنة واجب التّقرّر والوجود لما به
هو ذا بعينه : إمّا أن يكون أمرا لذاته أو لسبب موجب غيره. فإن كان لذاته ولأنّه
واجب التقرّر والوجود ، فيكون كلّ ما هو واجب التّقرّر والوجود (٨٦) هو هذا بعينه
، ولا يكون غيره أصلا ؛ وإن كان لموجب غيره ، فيكون لكونه واجب التّقرّر والوجود
هذا بعينه بسب ، فيكون لخصوصيّة تقرّره ووجوده المنفرد سبب ،
فيكون هذا المنفرد بخصوصه معلولا غير واجب التقرّر والوجود.
فإذن ، القيّوم
الواجب بالذّات واحد بالمعنى والحقيقة ليس كأنواع تحت جنس ؛ وواحد بالهويّة ليس
كأشخاص تحت نوع.
وربّما يعبّر
عنه بوجه يظنّ أو جزء فيقال : القيّوم الواجب لذاته يستحيل أن يكون محمولا على
الاثنين ؛ لأنّه إمّا أن يكون ذاتيّا لهما أو عرضيّا لهما أو ذاتيّا لأحدهما ،
عرضيّا للآخر. فإن كان ذاتيّا لهما ، فالخصوصيّة الّتي بها يمتاز كلّ واحد عن
الآخر لا يمكن أن يكون داخلا فى المشترك ، وإلاّ فلا امتياز ، فهو خارج منضاف إلى
المعنى المشترك. فإن كان داخلا فى كلّ واحد منهما كان كلّ منهما ممكنا بما هو
موجود وممتاز عن الآخر ؛ وإن كان فى أحدهما فهو ممكن بما هو كذلك ؛ وإن كان عرضيّا
لهما أو لأحدهما فمعروضه فى ذاته لا يكون واجب التّقرّر والوجود.
فإن قيل :
المخصّص سلبيّ ، وكلّ واحد منهما مختصّ بأنّه ليس الآخر. قيل : سلب الغير لا
يتحصّل إلاّ بعد حصول الغير ، وحينئذ يكون كلّ واحد هو هو بعد حصول الغير ، فيكون
ممكنا.
<١٠> عقدة وانفكاك
ولعلّك تقول :
إنّما تستتبّ التّبيانات لو كان وجوب التّقرّر والوجود طباعا مشتركا بين ذاتين على
سبيل ما هو شأن جوهريّات الماهيّات أو كان هناك طباع مشترك يجب أن يتخصّص بهويّات
متمايزة. فما الّذي أحال أن تكون بسيطتان مفترقتان بتمام الماهيّة ليس لحقيقتهما
البسيطتين اتّفاق فى شيء أصلا ، وكلّ واحدة متقرّرة بذاتها صالحة لانتزاع هذا
الوجود المطلق الانتزاعىّ الفطرىّ منها بنفسها من غير لحاظ اعتبار آخر؟ وكذلك
الوجوب الانتزاعىّ ، فيكون كلّ واحد منهما ماهيّتها بعينها هى الإنيّة ، ولا
ماهيّة لهما وراء الإنيّة ؛ ويكون لمفهوم وجوب التّقرّر والوجود حقيقتان بسيطتان
مجهولتا الكنه مختلفتان بنفس جوهرى
الماهيّتين الغير المعلومتين بالكنه أصلا. وهذا المفهوم عرضيّ منتزع من ذات
كلّ واحدة منهما بنفس ماهيّتها المتقرّرة بذاتها.
فيقال لك : إنّ
هذه معضلة عويصة عوصاء غرية الإشكال لزجة الإعضال ؛ لم يكن لبيان من جهتها أمن ولا
تبيان من تلقائها فى أمان إلى زماننا هذا.
فنحن بعون حكمة
بارئنا وأيد إفاضة ربّنا القيّوم الواجب بالذّابّ ـ جلّ ذكره ـ قمعنا عليها وعلى
ما هى مثلها أو أشدّ منها إعضالا فى سائر أبواب هذا العلم وغيره من العلوم والصّناعات
العلميّة دار الصّعوبة ، وقلعنا متن الاشكال ، وحسمنا عرق الغموضة ، وقطعنا وتين
الإعضال.
فالآن نذكر ما
لفّفته أيدى قرائح السّالفين من شركائنا الرّؤساء ، وهو لدينا من المساعى المشكورة
والمحاولات المحمودة الغير البالغة مبلغ الإجداء ونصاب الإغناء ؛ ونؤخّر ما هو من
اجتهاداتنا التّامّة المغنية وفتاوانا الحقيقيّة المجدية إلى مظانّ ذكره ومستقرّ
عرشه فى المسائل الرّبوبيّات فى الشّطر الرّبوبىّ إن شاء اللّه. فنقول على سياق ما
ذكر فى الشفاء والنّجاة.
إنّ وجوب
التقرّر والوجود : إمّا أن يكون شيئا لازما لماهيّة تلك الذّات الّتي ينتزع هو
منها ؛ كما يقال للشىء : إنّه مبدأ ، فيكون لذلك الشّيء ذات وماهيّة. ثمّ يكون
المبدأ لازما لتلك الذّات. كما أنّ إمكان الوجود يوجد لازما لشيء له فى نفسه معنى
، مثل أنّه جسم أو بياض أو لون. ثمّ هو ممكن الوجود ولا يكون داخلا فى حقيقته ؛ وإمّا
أن يكون واجب التّقرّر والوجود بنفس كونه واجب التقرّر والوجود ، وهو تلك الماهيّة
ويكون نفس وجوب التقرّر والوجود طباعا ذاتيّا له.
وقد علمت أنّه
لا يجوز أن يكون وجوب التقرّر والوجود من المعانى اللاّزمة لماهيّة ؛ فإنّ تلك
الماهيّة حينئذ تكون سببا لوجوب التّقرّر والوجود ، فيكون وجوب التّقرّر والوجود
متعلقا بسبب ، فلا يكون وجوب التّقرّر والوجود متقرّرا موجودا بذاته.
ثمّ إذا لم يكن
وجوب التّقرّر والوجود فى مرتبة ماهيّة شيء ، بل كان الشّيء ،
كإنسان أو سماء أو عقل أو غير ذلك ، ممّا ليس وجوب التقرّر والوجود فى
مرتبة ماهيّته ، ثمّ كان يتلبّس به الماهيّة ، فقد كان هو لازما لذلك الشّيء ،
كالخاصّة والعرض العامّ ، لا هو له ، كالجنس والفصل. وإذا كان كذلك كان هو تابعا
غير متقدّم ، والتّابع معلول متبوعه ، فيكون وجوب التقرّر والوجود معلولا ، فلم
يكن وجوبا بالذّات ؛ فتعيّن أن يكون هو طباعا ذاتيّا ، لا كاللّازم.
فإمّا هو
ماهيّة ، فتعود إلى أنّ النّوعيّة واحدة ، وإمّا هو داخل فى الماهيّة ؛ فتلك الماهيّة
إمّا أن تكون بعينها لشيئين ويعود الاشتراك فى طباع نوع وجوب التقرّر والوجود ، أو
تكون لكلّ ماهيّة غير ماهيّة الاخرى.
فإمّا أن يكون
انفصال ماهيّة أحدهما عن ماهيّة الآخر ، بأنّ له حقيقة وجوب التقرّر والوجود وشيئا
هو الشّرط فى الانفصال ، وللآخر حقيقة وجوب التقرّر والوجود مع عدم ذلك الشّرط على
أن قد فارق صاحبه بهذا العدم فقط ، فالعدم لا معنى له محصّلا فى الأشياء ، وإلاّ
لكان فى شيء واحد معان بلا نهاية ؛ إذ تسلب عن كلّ شيء أشياء بلا نهاية.
وإمّا أن يكون
(٨٧) لكلّ منهما ما ينفصل به عن الآخر ، فيكون هناك زيادة ، كالفصل. فإمّا أن يكون
وجوب التقرّر والوجود قد تمّ وجوب تقرّر ووجود دون كلّ من الزّيادتين ، فيكون
الزّيادتان من العوارض اللاّحقة.
وإمّا أن يكون
ذلك شرطا له فى أن يتمّ ، فلا يخلو : إمّا أن يكون لا يتمّ دون ذلك فى أن يكون له
حقيقة وجوب التقرّر والوجود ، وإمّا أن يكون وجوب التقرّر والوجود معنى تامّا فى
نفسه.
وليس شيء من
الأمرين داخلا فى تقوّم ذلك المعنى فى نفسه ، بل إنّما يصير حاصل الوجود بأحدهما :
مثل الهيولى لها لما فى حدّ جوهر هيوليّتها فعليّة التهيّؤ ، وإنّما وجودها بالفعل
بإحدى الصّور. ومثل اللّون لا يوجد بالفعل إلاّ سوادا أو بياضا ، لا بعينه ، بل
أيّهما اتّفق ، ولكن هذا فى حال وذاك فى حال. وإن كان فصل السّواد لا يقوّمه من
حيث هو لون ، ولا فصل البياض. والهيولى أيضا إحدى
الصّورتين بعينها شرط لها فى زمان بعينه دون الاخرى ، والاخرى بعينها فى
زمان آخر بعينه دون الأولى. وهى بما هى هيولى إنّما يشترط حصولها بالفعل بإحدى
الصّور لا بعينها.
فإن كان الأمر
على الوجه الأوّل : فحيث كان وجوب التّقرّر والوجود وجب أن يكون ذلك الشّرط معه ؛ وإن
كان على الوجه الثّاني فوجوب التقرّر والوجود يفتقر إلى شيء يوجد به ، فيكون واجب التقرّر
والوجود من بعد ما يتمّ له معنى أنّه واجب التّقرّر والوجود يحتاج شيء إلى آخر
يوجد به.
وأمر الهيولى واللون
ليس على هذا السّبيل ؛ فإنّ الهيولى بما هى هيولى شيء وبما هى موجودة شيء آخر. واللّون
بما هو لون شيء وبما هو موجود شيء آخر. بخلاف التقرّر والوجود ؛ فإنّ حيثيّة وجوب
التقرّر والوجود فيه هى بعينها حيثيّة الوجود.
فالوجود بالفعل
هنا لمّا لم يكن خارجا عن نفس المعنى الّذي هو بإزاء المعنى الجنسىّ فى اللّون وكان
الّذي يفيده المعنى الفصلىّ هناك ، وما بإزاء ذلك المعنى هاهنا هو الوجود بالفعل ،
لم يكن يتصوّر الافتراق هاهنا بما هو بإزاء المعنى الفصلىّ هناك.
ولمّا لم يكن
داخلا هناك فى نفس المعنى الجنسىّ تصوّر الافتراق بالفصل ، والاحتياج فى مطلق
الحصول بالفعل لا فى نفس جوهر المعنى إلى أحد الفصول لا بعينه ، وفى حصول التّحصّل
نوعا معيّنا بالفعل إلى فصل بعينه ؛ إذ للطبيعة المبهمة وجودات متعدّدة. وكذلك
الوجود بالفعل خارج عن نفس حقيقة الهيولى بما هى هيولى. فلذلك كانت إحدى الصّور لا
بعينها شرط مطلق حصولها بالفعل من حيث جوهرها ؛ وخصوصيّة صورة معيّنة بعينها شرط
حصولها بالفعل فى زمان بعينه. ولكن لا من حيث جوهرها ، بل بحسب خصوصيّة استعداد
خاصّ لها وخصوصيّات أسباب مقتضية.
فإذن ، طبيعة
وجوب التقرّر والوجود لا يمكن تحصّلها بالفعل بغير ذاتها ، لا بأحد
الفصول بعينه ولا لا بعينه ولا بشيء من الخصوصيّات بخصوصها ولا لا بخصوصها
؛ إذ ليس يطرأ علّة وجود ليس فى نفسه ، كما فى الإنسانيّة واللّونيّة.
وبالجملة ،
المدخل للخصوصيّة بخصوصها أولا بخصوصها إنّما يتصوّر فى أن يصير المعنى كاللّون أو
الإنسان شيئا زائدا عليه ، ووجوب التّقرّر والوجود هو نفس التقرّر والوجود مع
امتناع بطلان وعدم عدم ، وواجب التقرّر والوجود هو نفس المتقرّر الموجود مع امتناع
البطلان وعدم العدم.
فالموجوديّة
بالفعل هنا بمنزلة اللّونيّة والإنسانيّة هناك ، فكيف يتصوّر أن تفيدها الفصول أو
الخصوصيّات. وقد استغنى فيها واجب التقرّر والوجود عن أىّ شيء فرض ممّا هو غير
ذاته. وليس له وجود ثان بعد ما له فى نفسه ، واللّون أو الإنسان له بعد اللّونيّة والإنسانيّة
وجود يستند إلى علله. فإذن ، لا يمكن أن يكون وجوب التقرّر والوجود مشتركا فيه ولا
أن كان لازما ولا أن كان طباعا بذاته.
فإذن ، واجب
التقرّر والوجود واحد لا فى النّوع فقط أو بالعدد أو فى عدم الانقسام أو فى
التّمام فقط ، بل فى أنّ وجوده ليس لغيره وإن لم يكن من جنسه. ولا يجوز أن يقال :
إنّ واجبى التقرّر والوجود لا يشتركان فى شيء ، وكيف وهما مشتركان فى واجب
التّقرّر والوجود وفى البراءة عن الموضوع.
فإن كان وجوب
التّقرّر والوجود يقال عليهما باشتراك الاسم فلسنا ننظر فى معان متكثّرة يقال لها
واجب التّقرّر والوجود بالاسم ، بل فى معنى واحد من معانى الاسم ؛ وإن كان
بالتّواطؤ فقد حصل معنى عامّ عموم لازم أو عموم جنس ، وقد أوضحنا استحالة ذلك. وكيف
يكون عموم التقرّر والوجود لشيئين على سبيل اللّوازم الّتي تعرض من خارج. واللّوازم
معلولة ، ووجوب التقرّر والوجود المحض غير معلول.
<١١> حكومة كنقد
إنّ هذا نظر
فحصىّ تحصيليّ ، محقق النّمط ، محصّل الأسلوب ، لا يشينه إلاّ رذيلة الخلوّ عن
فضيلة الإجداء ؛ أليس قد يكشف أنّ كون الوجود ووجوب التّقرّر
والوجود عين ذات الواجب التقرّر والوجود بذاته ، ليس سبيله أن يقال : مفهوم
الوجود المصدرىّ المنتزع العقلىّ عين حقيقته ، وكذلك الوجوب الانتزاعىّ.
وكيف يستصحّ ذو
تحصيل ما أن تكون المفهومات العقليّة الانتزاعيّة نفس ذات من هو ذات الذّوات وحقيقة
الحقائق ؛ بل سبيل تحصيله أنّ واجب التّقرّر والوجود متقرّر بنفس ذاته ، لا بعلّة
؛ ومصداق لحمل الموجود والواجب عليه وسنخ حقيقته المتقرّرة بذاتها من غير أن يعتبر
تحيّث ذاته بحيثيّة ما من الحيثيّات أصلا ، لا تقييديّة ولا تعليليّة ، كما يقال :
مفهوم الإنسان أو الإنسانيّة عين ذات الإنسان. وليس امرا وراء حقيقته على معنى أنّ
نفس ذات الإنسان مبدأ انتزاع الإنسانيّة منه ومصداق حمل مفهوم الإنسان عليه ، لا
أنّ الإنسانيّة الانتزاعيّة هى (٨٨) عين ذات الإنسان القائم بذاته. ولا يلزم من
ذلك أن تكون الإنسانيّة من اللواحق المعلولة ؛ فإنّها مفهوم اعتبارىّ معقول.
وشأن مثل هذه
المفهومات الانتزاعيّة المعقولة أن تكون معلومة للعقل عند لحاظة الحقائق الّتي هى
بنفس ذواتها من حيث هى هى مبادى انتزاع تلك المعانى المصدريّة منها ؛ فإنّ العقل
ينتزع منها تلك ويصفها بها. وكذلك الوجود ووجوب التقرّر والوجود بالنّسبة إلى
الذّات المتقرّرة بنفسها ، بخلاف الحقائق المجعولة والذّوات المعلولة.
فإذن ، عاقد
عقدة الإعضال يقول : تبياناكم ما أحالت أن يكون كلّ من شيئين مفترقين بتمام
الماهيّة بسيطين مجهولى الكنه متقرّرا بنفسه ، فيكون بالضّرورة مبدأ انتزاع مفهومى
الوجود ووجود التقرّر والوجود المصدريّين بنفس ذاته بما هو هو ، وليس يستلزم ذلك
أن يكون الوجود ووجوب التقرّر والوجود من المعانى الزّائدة على الحقيقة ومن
اللّوازم المعلولة المتأخّرة عن مرتبة الماهيّة ، فيقال له : سبيل فكّ عقدتك سيساق
إليه بالغ الفحص وأبلغ القول فى الشّطر الرّبوبىّ إن شاء اللّه تعالى.
<١٢> تأصيل أساسيّ
القيّوم الواجب
بالذّات من لو فرض استناد ذات ما إليه ، أوجب ذلك فرض التقرّر والموجوديّة لتلك
الذّات البتّة. وكلّ ما لم يكن فرض استناد ذات ما إليه بخصوصه من حيث هو هو يوجب
فرض التقرّر والوجود لتلك الذّات البتّة. فهو ممكن بالذّات وينعكس فى الذّات
كليّا.
أليس القيّوم
الواجب بالذّات واجب التقرّر والوجود بذاته ، والممكن بالذات لا واجب التقرّر والوجود
، ولا واجب اللاّتقرّر واللاّوجود بذاته. [فإذن ، الاستناد إلى القيّوم الواجب
بالذّات مناط التقرّر والوجود ووجوبهما.]
وبالجملة ،
مناط الفعليّة والاستناد إلى الممكن بالذّات بما هو ممكن بالذّات مناط لا وجوب
التقرّر واللاّتقرّر ولا وجوب الوجود واللاّوجود ؛ فيكون مناط اللاّتقرّر واللاّتقرّر
، واللاّوجود ولا اللاّوجود. وبالجملة مناط القوّة المحضة.
وهذا أصل كأساس
حصيف فى باب التوحيد. وربما تجده من مبادى مسائل ربوبيّات يحوج صاحب الشّطر
الرّبوبىّ من هذا العلم إلى أخذه.
<١٣> تعليم استيجابيّ
أليس عندك من
المستبين أنّه إذا تبيّن أنّ القيّوم الواجب بالذّات أحدىّ الذّات بسيط الحقيقة من
كلّ وجه لا يصحّ تحليل ذاته الحقّة إلى شيء وشيء وحيثيّة وحيثيته بوجه من الوجوه ،
فيكون من البيّن : أنّ كلّ ما له من حيثيّات الصّفات التّمجيديّة والتّقديسيّة يجب
أن يضمن فى حيثيّة واحدة جبروتيّة قدّوسيّة ، هى سنخ جميع الحيثيّات الكماليّة
الجماليّة والجلاليّة وجوهرها وروعها وينبوعها. وهى حيثيّة القيّوميّة الوجوبيّة ،
أعنى حيثيّة وجوب التقرّر والوجود بالذّات.
فكلّ حيثيّة
كماليّة إيجابيّة أو سلبيّة فهى للقيّوم الواجب بالذّات من تلقاء تلك الحيثيّة
المحيطة الحقيقيّة الوجوبيّة الذّاتيّة الرّبوبيّة.
فإذن ، فاعلم
أنّ القيّوم الواجب بالذّات واجب من جميع جهاته ؛ إذ كلّ جهة من جهاته فهى راجعة
إلى جهة وجوب التقرّر والوجود بالذّات.
فهذه الجهة
وحدها منزلتها منزلة جميع جهات العزّ والكمال ومثابتها مثابة جملة حيثيّات العلوّ والمجد.
فاتّصاف القيّوم بأيّة صفة من الصّفات الكماليّة الّتي تليق بجناب مجده ، معناه
استحقاق إطلاق الاسم الموضوع لتلك الصّفة على حيثيّة وجوب التقرّر والوجود له ، وهى
الحيثيّة القيّوميّة الوجوبيّة الذّاتيّة.
ومن سبيل آخر :
ليس يجوز أن يتّصف القيّوم الواجب بالذّات بصفة كماليّة لعلّة غير ذاته ؛ فإنّ ما
سوى ذاته ليس إلاّ مجعولات ذاته على الاستغراق الشّمولىّ.
وكيف يكون
المجعول أكرم من جاعله القيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى عن ذلك ـ حتّى يفيده كمالا
ما؟ وكيف وكلّ ما له من الكمال فهو من حيثيّة جاعله ومن وجود علّته؟ بل إنّما هو
ظلّ كمال الجاعل ولا أن يكون ذلك الاتّصاف بعلّته واقتضاء من ذاته ، وإلاّ كان فى
مرتبة الذّات خلوا من تلك الصّفة. ثمّ هو متلبّس بها أخيرا. وذلك ينتهى إلى تكثّر
الحيثيّة التّقييديّة فى ذاته الأحديّة وقد بان بطلانه وظلمه.
فإذن ، كلّ صفة
كماليّة فإنّها نفس ذاته وعين حقيقته ، فيكون لا محالة عين وجوب التّقرّر والوجود
بالذّات. فإذن ، ليست له جهة إمكانيّة بوجه من الوجوه أصلا.
ومن سبيل آخر :
كما أنّ ذاته الحقّة أعلى من أن يكون وراء معنى ما بالقوّة فكذلك هو بحسب الفعليّة
أرفع من أن يتصوّر له ملابسة معنى ما بالقوّة. فلو كان هو من جهة واجب الفعليّة ومن
جهة اخرى ممكن الفعليّة ، فيكون تلك الجهة تكون له ولا تكون له. ولا يخلو الأمر من
ذلك ، وكلّ منهما بعلّة يتعلّق الأمر بها ضرورة ، فيلزم أن يكون ذاته متعلّقة
بعلّتى أمرين لا يخلو منهما لو لم يكن واجب الفعليّة بذاته مطلقا ، بل مع العلّتين
، سواء كان أحدهما وجودا والآخر عدما ، أو كلاهما وجودين.
فتبيّن من هذا
: أنّ القيّوم الواجب بالذّات لا يتأخّر عن وجوده وجود منتظر ولا صفة من الصّفات ،
بل كلّ ما هو ممكن له فهو واجب له. فلا إرادة منتظرة ولا طبيعة منتظرة [ولا علم
منتظر] ولا صفة من الصّفات له منتظرة ، ولا تجدّد لشيء بالقياس إليه. وإنّما
التّجدّدات للمعلولات فى حدّ أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض. وإنّما أبدع المعلولات وأوجدها
فى وعاء الدّهر مرّة واحدة بالقياس إلى ذاته الحقيقيّة وإن كانت تلك المرّة
الواحدة فى وعاء الدّهر بالقياس إلى ذاته مرّات شتّى بالقياس إلى ذوات المعلولات
فى أفق الزمان. فالتّجدّدات بحسب أفق الزّمان ليست توجب تجدّدا بالقياس إليه ولا
فى الإضافات. ولهذا ذكر فيما يجاء به من ذى قبل إن شاء اللّه تعالى (٨٩).
<١٤> تعقيب
حاول بعض
الأتباع تبيان المسألة بأنّه «لو فرض اتّصاف القيّوم الواجب بالذّات بأمر ثبوتىّ أو
سلبىّ لا يكفى فى تحقّقه ذاته ، لتوقّف حصول ذلك الأمر له ، أو انتفاؤه عنه على
حضور غير خارجىّ أو عدمه ، وذاته من جهة ذلك الاتصاف متوقفة على حضور ذلك الحصول
أو الانتفاء. والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير ، فيلزم أن يكون
القيّوم الواجب بالذّات موقوفا على الغير ، والموقوف على الغير إنّما هو ممكن ،
تعالى اللّه عنه». ثم قال : «هذه الحجّة لا تتمشّى إلاّ بنفى كون الإضافات امورا
وجوديّة فى الأعيان».
فردّ عليه بعض
من يحمل عرش التّحصيل والتّحقيق
بانّ : «توقّف
أمر متعلّق بالواجب وغير الواجب لا يوجب توقّف الواجب على غير الواجب ، بل لا يوجب
إلاّ توقّف ذلك الأمر على غير الواجب. والإضافيّات والسّلبيّات من الصّفات كلّهما
كذلك. والحكماء يقولون باتّصاف القيّوم الواجب بالذّات بها.
__________________
فمقصودهم من
قولهم : «القيّوم الواجب بالذّات واجب الوجود من جميع جهاته» أنّه واجب من جميع
جهات تتعلق به وحده ولا تتوقف على الغير ؛ لكونه مصدرا ومبدءا ، لا ككون الغير
صادرا منه أو متأخّرا عنه ؛ فإنّ بين الاعتبارين فرقا.
ونحن نقول :
الفرق بين الإضافات والسّلوب وبين مباديهما الّتي بإزائهما. وهى من صفات القيّوم
الواجب بالذات حقيقة ، ككون ذاته هو مصدر المعلول ، لا كون المعلول صادرا منه ، وكونه
فى ذاته قائما بذاته ، لا فى مادّة لا كون المادّة مسلوبة عنه حقّ. والإضافات والسّلوب
ممكنات متوقّفة على القيّوم الواجب بالذّات وعلى الغير ، لكنّها غير ممكنة التّجدّد
بالقياس إليه وإن كانت متجدّدة فى أنفسها وبقياس البعض إلى البعض بحسب افق
الزّمان.
<١٥> ختم تحقيقيّ
حقّيّة كلّ شيء
تقرّره ووجوده ، وحقيقة كلّ شيء خصوصيّة تقرّره ووجوده الّذي يثبت له ؛ والممكن
بالذّات لا تقرّر ووجود له بنفسه ؛ والقيّوم الواجب بالذّات هو المتقرّر الموجود
الواجب التّقرّر والوجود بذاته.
فإذن ، لا حقّ
أحقّ من القيّوم الواجب بالذّات ، بل هو الحقّ المحض ؛ وكلّ شيء غيره فإنّه باطل
فى حدّ ذاته. وإنّما تطرأ على ذاته بحسب نسبة ذاته إلى الحقّ المحض بالاستناد إليه
حقيّة من جهة ذلك الاستناد هى ظلّ الحقيّة المحضة المطلقة.
فهذه جملة من
خواصّ طباع وجوب التقرّر والوجود بالذّات. واستقصاء القول فيها إنّما له حيّز
طبيعىّ فى الشّطر الرّبوبىّ. فترقّب هتافا من عالم الملكوت : أن قد آن آنه وحان
حينه. وإنّى معك لرحمة ربّى لمن المترقّبين.
__________________
فصل [رابع]
فيه خواصّ الممكن بالذّات وعليه اختتام المسافة الخامسة
<في الفصل الرابع ثلاثة وخمسون عنوانا >
<١> مدخل
إنّما عروض
الإمكان بالذّات للممكن عند لحاظ جوهر الماهيّة ، كالإنسان ، مثلا ، بما هو إنسان
، مع عزل النّظر عن اعتبار الفعليّة والبطلان والوجود والعدم ، وعن تحقّق العلّة
الموجبة ولا تحقّقها. فللماهيّة بجوهرها الإمكان بالذّات ؛ ولها بحسب تحقّق العلّة
الموجبة أو لا تحقّقها ومع اعتبار الفعليّة والوجود أو البطلان والعدم الوجوب بالغير
أو الامتناع بالغير ؛ ولا يتصادم الإمكان الذّاتىّ وأحد ذينك الغيريّين فى
التّحقّق.
بل إنّ
الماهيّة ؛ كما لا تنسلخ عن الإمكان الذّاتىّ فى أىّ حال فرض من الأحوال. وذلك لها
باستحقاق جوهر الذّات بالذّات ، إذ حقّ جوهر الماهيّة لا استحقاق شيء من الطّرفين
بنفس الذّات ؛ فكذلك لا يمكن سلخ أحد ذينك المتواردين ، لا بخصوصه عنها بحسب نفس
الأمر البتّة ؛ إذ حالها فى نفس الأمر إمّا وجوب الفعليّة والوجود بتحقّق السّبب
الموجب أو امتناع ذلك. وهو المساوق لوجوب البطلان والعدم بلا تحقّقه ، لا باستحقاق
جوهر الماهيّة ؛ فإنّ كلّ شيء من
الأشياء وإن كان حقّه بحسب نفس الأمر أن لا يكون عروا من أحد النّقيضين لا
بعينه بحسب نفس الأمر. لكن ليس حقّه بحسب نفس الأمر أن يكون له بجوهره إمّا وجوب
أحد النّقيضين لا بعينه أو امتناعه ؛ بل إنّما ذلك قسط بحسب نفس الأمر من تلقاء
تحقّق السّبب الموجب ولا تحقّقه ومن تلقاء أن يؤخذ من حيث إنّه معتبر ، إمّا مع
الفعليّة أو مع البطلان.
فإذن ، لزوم
الإمكان الذّاتىّ على كلّ حال بحسب جوهر الماهيّة ولزوم أحد الغيريّين، لا بعينه ،
فى نفس الأمر بحسب إيجاب العلّة وجودا أو عدما ، لا بالخصوص ، وبحسب شرط الفعليّة
أو البطلان لا بالخصوص. كما أنّ تحقّق أحدهما بعينه فى نفس الأمر بحسب إيجاب
العلّة وجودا أو عدما بالخصوص وبحسب شرط الفعليّة أو البطلان بالخصوص.
<٢>استصباح أسطرلابيّ
كأنّك إذن قد
تعرّفت من تلقاء تعريفاتنا البرهانيّة سبيل أن يقال : كما أنّ وجوب التّقرّر والوجود
بالذّات منار البساطة والأحديّة ومساوق الفرديّة والوتريّة ، فكذلك الإمكان
الذّاتىّ شقيق التّركّب والازدواج وسبيل التّشافع والامتزاج ، وأنّ كلّ ممكن زوج
تركيبىّ. ألست قد دريت أنّ كلّ ممكن فإنّه يحلّله العقل إلى جنس وفصل ، ثمّ إلى
ماهيّة وإنيّة. وهذا الأخير يستوعب عمود الإمكان ويستغرق جملة الطبائع الإمكانيّة
حتّى الأجناس العالية وفصول الأنواع البسيطة ، وقد تبرهن فى سالف القول : أنّ
الوجود خارج عن كلّ ماهيّة ممكنة ، زائد على كلّ طبيعة إمكانيّة. فإذن ، ما من
ممكن إلاّ وهو غير بسيط الحقيقة.
فإن أزعجك صرف
النّظر إلى كلّ من الماهيّة والوجود ، فقلت : ما شأن هذا الحكم بالنّسبة إلى كلّ
منهما ، إذ لم يتطرق تحليل آخر إلى سنخ طبيعة الفصل البسيط مع عزل النّظر عن
الوجود (٩٠) ولا إلى وجوده مع عزل النّظر عن سنخ الطبيعة. وكذلك إلى طبائع الأجناس
العالية ووجوداتها. فكيف يؤخذ الحكم الكلّىّ
بالنّسبة إلى كلّ ما فى عالم الإمكان على الإحاطة.
قيل لك : لو
علمت ما علّمناك من قبل علما متقنا لاستشعرت أنّ تحليل كلّ طبيعة إمكانيّة إلى
ماهيّة ووجود هو بعينه مناط سراية التّكثّر إلى كلّ من ماهيّة تلك الطّبيعة ووجودها
على الانفراد أيضا. أمّا الماهيّة ، فلأنّها غير متقرّرة بنفسها ، بل إنّما هى أثر
الجاعل ، وقوامها وفعليّتها بجعله ، كما تبرهن فيما سلف. فلا بدّ فى اعتبار تقرّر
جوهرها من لحاظ أنّها صادرة من الجاعل.
وما لم يلحظ
ذلك لم يحكم أنّ هناك ماهيّة ليست هى فى حيّز جوهرها التّقرّريّة وفى حدّ حقيقتها
التّصوّريّة مربوطة بالجاعل ، فيكون فى لحاظ قوام نفسها وتقرّر أصل ذاتها كثرة ما
البتّة ؛ إذ يكون هذا اللّحاظ بعينه لحاظ شيء من تلقاء شيء ، فيدخل فيه مبدأ وذو
مبدأ. فهناك كثرة من تلك الجهة. وأيضا هى فى نفسها غير الوجود ، ولا هى من حيث هى
هى مصداق حمل الموجود. وهى من حيث هى من الجاعل مستتبع الوجود ومصداق حمل الموجود
؛ إذ الوجود يتبع التّقرّر ، وهو بالصّدور من الجاعل.
فإذن ، قد لزم
التكثّر فى مرتبة تجوهرها وتقرّر ذاتها من حيث لزوم صفة تابعة غير متخلّفة ؛ إذ
يصدق أنّها فى حيّز نفسها المتقرّرة شيء مستتبع لشيء آخر ، وهو صفة ؛ فيلزم الكثرة
من هذه الجهة أيضا.
وأمّا الوجود ،
فلأنّ حقيقته فى عالم الإمكان كون الماهيّة وصيرورتها فى الأعيان أو فى الذّهن ،
فهو كون شيء ، فهو كون شيء وصيرورته ، لا كون نفسه ، فيكون فى لحاظ العقل إيّاه
تكثّر لا محالة.
فإذن ، لا
تقرّر بالوحدة الحقّة ولا تقدّس عن شوائب التكثّر إلاّ حيث تكون الحقيقة متقرّرة
بنفسها. فلا يلحظ الغير ، وهو ما من تلقائه الحقيقة والوجود ، وهو كون نفسه ، لا
كون شيء ، فلا يتصوّر الغير ، وهو ما يعرضه الوجود. فيكون الحقيقة هناك وجودا بحتا
قائما بذاته ، وهو كون نفسه ، لا كون شيء ، فلا يعقل فى لحاظه تكثّر بوجه من
الوجوه أصلا. فهو الفرد وما سواه زوج تركبيّ.
ومن سبيل آخر :
ألست قد تحصّلت أنّ كلّ طبيعة إمكانيّة فإنّها من حيث ذاتها بالقوّة وهى من تلقاء
علّتها بالفعل ؛ إذ لها يحكم الماهيّة اللّيسيّة السّاذجة ، وبقياس السّبب الأيسيّة
الفائضة. فهى تحت معنى ما بالقوّة ومعنى ما بالفعل من الجنبتين. وكلّ ممكن فهو
حاصل الهويّة منهما جميعا فى الوجود ، ولا شيء غير القيّوم الواجب بالذّات يعرى عن
ملابسة معنى ما بالقوّة باعتبار نفسه ، ثمّ بعض الممكنات مع ذلك ربما يعتريه أيضا
أن يكون له معنى ما بالقوّة ومعنى ما بالفعل.
وأيضا كلّ من
الطّبائع الإمكانيّة لها الإمكان الذّاتىّ من جوهر ذاتها ، والوجوب أو الامتناع
بالغير من جنبة العلّة. والقوّة تشبه المادّة. وكذلك الإمكان الّذي هو حيّز
القوّة. وكذلك سنخ جوهر الماهيّة الّتي هى مثوى الإمكان ، والفعليّة تشبه الصّورة
، وكذا الوجوب الّذي هو مغناطيس الفعليّة ، وكذلك الإنيّة الّتي هى كرياس دار
الوجوب.
فإذن ، فى كلّ
ممكن كثرة ايتلافيّة من شيء يشبه المادّة وآخر يشبه الصّورة ؛ فإذن ، لا بساطة فى
عالم الإمكان ، لا فى اصول جواهر الماهيّات ، ولا فى فروع صفاتها ، والمفهومات
المحمولة عليها ومباديها المنتزعة منها إلاّ بالإضافة فقط ، فبعض الماهيّات أبسط
من بعض ، وبعض المفهومات من بعض.
وأمّا البساطة
الحقّة فهى وراء ما اصطادتها الطّبائع الإمكانيّة ، وهى ممتنعة بالقياس إليها. وامتناعها
هناك مقتضى لطبيعة الإمكان ، وكون الوجود زائدا على الماهيّة. فهذا حال الأحديّة
بالنّسبة إليها.
وأمّا الوتريّة
، فإنّها أيضا خارجة عن إقليم الإمكان ؛ لأنّ كلّ ممكن : فإمّا ، أنّه تحت طبيعة
مرسلة ، فيمكن بالنّظر إلى نفس تلك الطّبيعة المرسلة بما هى هى أن تكون هناك عدّة
ممكنات ، تساهم ذلك الممكن فى الوقوع تحت تلك الطبيعة وإن امتنع ذلك بحسب نفس
الأمر لأسباب خارجة عن نفس جوهر الطبيعة بما هى هى.
وأمّا أنّه هو
بعينه طبيعة مرسلة ، فلا يأبى بما هى هى أن تكون لها تحصّلات متكثّرة وأن تقع
تحتها أفراد متعدّدة هى حقائق محصّلة وإن فرض أنّها قد اقتضت
الانحصار بحسب نفس الأمر فى فرد بعينه.
فإذن ، قد
استبان أنّه لا وحدة وتريّة لممكن ما على الحقيقة أصلا ، بل إنّما بالإضافة فقط ،
إذ الطبيعة المحصورة فى شخصيّة بعينها أوحد وأوتر من الّتي هى ذات بشخصيّات جمّة ،
كما أنّه لا بساطة وواحديّة له على الحقيقة ، بل إنّما بالإضافة فقط.
فإذن ، ليس فى
عالم الإمكان إلاّ التّأحّد والاتّحاد دون الأحديّة والوحدة ؛ فإنّ مبدع الحقائق وجاعل
الماهيّات وفاعل الطّبائع وخالق الإنيّات قد استأثر بالبساطة والأحديّة والوحدة والوتريّة
، ثمّ أفاض من ظلّ أحديّته البسيطة التأحّد والبساطة بالإضافة على كلّ من طبائع
الأجناس العالية وفصولها وعلى كلّ من حصص طبيعة الوجود العارضة لها.
ثمّ أنواع
المفارقات العقليّة دونها فى التّأحّد ؛ فإنّها بسيطة بالقياس إلى المركّبات
الخارجة وإن كانت مؤلّفة بالقياس إلى طبائع الأجناس العالية والفصول وطبيعة
الوجود. كما أنّ طبيعة الجنس العالى بسيطة (٩١) بالإضافة إلى ما تحتها ، وهو
النّوع المفارق العقلىّ ؛ ومؤلّفة بالقياس إلى ما فوقها ، وهو ينبوع الحقائق ومبدعها
وفاعل الماهيّات وجاعلها. وكذلك طبيعة الفصل فى الوضعين.
وطبيعة الوجود
المنتزع من الماهيّة أيضا بسيطة بالإضافة إلى حقيقة نوع العقل ، وبالإضافة إلى
حصّة منه منتزعة من ذلك النّوع منتسبة فى اللّحاظ التّحليلىّ إلى كلّ من جنسه وفصله
؛ ومؤلّفة بالقياس إلى الوجود الحقّ القائم بذاته المتعالى عن الماهيّة المعروضة
الّذي هو ربّ الوجودات وقيّوم الموجودات ، وأفاض من ظلّ وحدته الوتريّة الاتّحاد والتفرّد
بالإضافة على الأشخاص المحتبس نوع كلّ منها فيه. ثمّ دون ذلك الشّخص فى الواحديّة
كلّ من الهويّات الشّخصيّة من نوع ما متكثّر الأشخاص.
ثمّ الطّبيعة
النّوعيّة الواحدة دون الهويّة الشّخصيّة فى الوحدة. ثمّ الطبيعة الجنسيّة الواحدة
دون الطبيعة النّوعيّة الواحدة. وأبعد الهويّات الشّخصيّة من الوحدة
الحقّة ما هى ذات وحدة شخصيّة مبهمة. وهى الهيولى الشّخصيّة. فهذا الأصل قد
يتضمّن مسألة كريمة من الرّبوبيّات هى أمّ مثوى المسائل .
<٣> اعتكاس
كما أنّ
الإمكان أسّ التّركيب فكذلك التّركيب أساس الإمكان. أليس المركّب بما هو مركّب مع
عزل النّظر عن خصوصيّات الأجزاء ليس فى طباعه ضرورة فعليّة أو ضرورة بطلان. بل
إنّما يتبع ذلك فعليّة الأجزاء أو بطلان جزء ما. وكيف يكون تركيب ولا إمكان ، والتّركيب
مثار الافتقار إلى الأجزاء وجودا وعدما.
وأمّا معروض
التّركيب من واجبين مفروضين أو ممتنعين مفروضين أو نقيضين أو ضدّين مفروضى
الاجتماع فإنّما هو مفهوم ليس هو عنوانا لحقيقة ما متجوهرة أصلا. وليس يحمل على
نفسه الحمل الشّائع الصّناعىّ. لكن ليس ضرورة بطلان الذّات أو ضرورة التّجوهر له
من جهة ما هو مفهوم مركّب ، بل إنّما وجب أن لا يكون لشيء من هذه المركّبات ذات
متجوهرة من جهة خصوصيّات الأجزاء.
وكذلك مجموع
الواجبين لو كان لهما وجود ـ تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن أن يكون له شريك أو
ندّ ـ كان ضرورة التقرّر له من جهة خصوصيّتى الجزءين ، لا بما هو أمر مركّب من جزء
وجزء. فأنت تعلم بقوّة قسطاس الفرديّة أنّ خصوصيّة الجزء ليست معيار طباع التركيب
، بل هى أساس خصوصيّة المركّب ، ومناط استلزام الإمكان طباع سنخ التّركيب ، لا
لحاظ جهة الخصوصيّة. وبالجملة ، يرجع الأمر إلى إمكان المجموع المتكثّر من حيث هو
معروض الكثرة ، لا بما هو هذه الذّات بخصوصها وتلك الذّات بعينها.
فأربعة أشياء
بما هى معروض الأربعة أمر مؤلّف من الآحاد المعروضة للوحدات مع عزل النّظر عن
خصوصيّات المفروضات ولا ضرورة الفعليّة والبطلان
__________________
من هذه الحيثيّة. وإن كان هناك ضرورة لأحد الطرفين بالنّظر إلى الخصوصيّات
فليس ذلك ممّا يبطل الإمكان بالذّات.
ومن ارتكب
امتناع المركّب من الممتنعين أو النّقيضين بما هو مركّب امتناعا ذاتيّا فقد ركب
شططا بعيدا. وفرقه بين المركّب من ممتنعين والمركّب من واجبين مفروضين بتسليم
الإمكان فى الثّاني دون الأوّل أبعد من ذلك بعادا شديدا.
ثمّ ما يقال : «إنّ
جهة الامتناع فى المركّب من النّقيضين أو الضّدّين هو الاجتماع ، لا ذاتا الجزءين
بخصوصهما ؛ إذ الاجتماع نسبة ومطلق النّسبة إنّما يفتقر إلى الطرفين بحسب الوجود ،
لا بحسب العدم ؛ إذ قد يتحقق شيئان ، ولا نسبة بينهما. وكذلك الاجتماع بخصوصه ؛ إذ
يمكن عدمه مع تحقّق الطرفين على سبيل التّعاقب. وكذلك أمكن أن يكون اجتماع
النّقيضين ضرورىّ طرف العدم بذاته وإن كان ممكن طرف الوجود لذاته».
فإنّه وهم سخيف
كاد يكون من السّخافة فى خسّة تستكبر عن نسجها عناكب الأوهام الإنسانيّة. ألم يكن
من البيّن عند من تفوّه به أنّ ضرورة أحد الطّرفين بالنّظر إلى ذات شيء ما مساوق
امتناع الطرف المقابل بالنّظر إلى ذاته.
<٤> وهم ودفاع
إن اختلج فى
صدرك : «أنّه لو كان المركّب من الممتنعين ممكنا بالذّات كان علّة عدمه عدم علّة
وجوده. فتلك شاكلة الإمكان فى المعلوليّة ، وعلّة الوجود للكلّ هى علّة وجود الجزء
، ولا يتصوّر أن يعلّل وجود شيء من أجزائه لعدم الإمكان. وأيضا ، الممكن ليس له
بدّ من أن يكون علّة مستقلّة بالتّأثير خارجة عن نفسه لوجوده وعدمه. ومجموع الممتنعين
لا يكون له علّة خارجة عن نفسه ، ولا يكون عدم كلّ من جزئيه علّة مستقلّة لعدمه ، وإلاّ
يلزم التّوارد ، ولا عدم أحد الجزءين بخصوصه ، لئلاّ يلزم التّرجيح لا لمرجّح».
قيل لك : علّة
عدم المركّب بما هو مركّب عدم الجزء ، لا علّة عدم الجزء ؛ بل إنّما يلزم ذلك إذا
كان للجزء علّة ؛ فكان عدم الجزء مستندا إلى عدمها ، فلم ينعدم إلاّ بعدمها. فمن
تلك الجهة يستند عدم المركّب إلى عدم تلك العلّة لا بالذّات من جهة ما هو مركّب.
فإذا كان الجزء
ضرورىّ العدم بذاته انعدم المركّب بذاته من غير افتقار إلى عدم أمر ما خارج (٩٢).
كما أنّ علّة وجود المركّب بالذّات هى وجود الأجزاء. وإنّما يحتاج تحقق المركّب
إلى وجود علّة الجزء لو كانت للجزء علّة من تلك الجهة لا بالذّات من جهة ما هو
مركّب. ولذلك لو كان أمكن أن يكون الجزء آن واجبى الوجود لم يتصوّر الافتقار إلى
أمر خارج.
ثمّ عدم المركّب
هناك يستند إلى طبيعة عدم أحد الجزءين لا بخصوصه. والخصوصيّات مطلقا من لغو
الاعتبار فى ذلك الاستناد ، على قياس ما سلف. وهذه الطبيعة متحققة فى صورة عدم
الجزءين معا وليس يتكرّر العلّة ولا يتعدّد بذلك.
<٥> أصل افتحاصيّ
ألم يبلغك ما
يقال : «ربّ ممكن بالذّات يستلزم ممتنعا بالذّات». وإنّما يعنى به أنّه ليس بممتنع
ذلك بالنّظر إليهما بما هما ممكن وممتنع.
فالممتنع
بالذّات قد يعقل أنّه لو تحقّق لكان علّة موجبة لتحقّق أمر ما ممكن بالذّات ،
فيحكم باستلزام ما هو معلول له. أليس التّوقّف على الممتنع بالذّات إنّما يستوجب الامتناع
فى نفس الأمر من جهة امتناع الموقوف عليه ، لا الامتناع بالذّات بالنّظر إلى نفس
حقيقة الموقوف بما هى حقيقة.
وفريق جمّ من
أبناء الحقيقة يحيلون ذلك ويحكمون أنّ كلّ ما يستلزم تحقّقه فى نفس الأمر محالا
ذاتيّا ، فهو محال بالذّات وكاد يكون خرط القتاد وحتّ الجبل دون إثبات هذا الحكم.
فإن ظننت أنّ
إمكان الملزوم بدون إمكان اللاّزم يستلزم إمكان وجود الملزوم مع عدم اللاّزم ، وهو
ينفى الملازمة بينهما.
قيل لك : إنّ
إمكان الملزوم إنّما هو بالقياس إلى ذاته ، وهو يستلزم إمكان اللاّزم بالقياس إليه
، أعنى ذات الملزوم ؛ لا إمكانه بالقياس إلى ذاته.
فمقتضى طباع
اللّزوم ليس يوجب إلاّ أن لا يكون نقيض اللاّزم ضروريّا بالقياس إلى ذات الملزوم ،
ضرورة كون اللاّزم ضروريّا بالقياس إلى ذاته ، سواء كان اللاّزم فى حدّ ذاته
ضرورىّ التّحقّق ، أو ضرورىّ الارتفاع ، أو لا ضرورىّ الطّرفين بالنّظر إلى ذاته
من حيث هى هى.
ولا تتوهّمن
أنّ ذلك قول بالإمكان بالغير المستحيل. فقد دريت أنّ ذلك هو أن يجعله الغير بحيث
يستوى الطرفان بالنّظر إلى ذاته ، أو بحيث لا يكون أحد الطرفين بخصوصه ضروريّا
بالنّسبة إلى ذاته.
وهذا إمكان
بالقياس إلى الغير. ولا يأبى بحسب مفهومه أن يجامع الامتناع بالذّات أو الإمكان
بالذّات أو الوجوب بالذّات. وإن كان القيّوم الواجب بالذّات يمتنع أن يتّصف به
بالقياس إلى وجود موجود ما أصلا ، لأنّه واجب بالقياس إلى أىّ موجود فرض. كما أنّه
واجب بالقياس إلى ذاته من حيث كونه مبدءا لما عدا ذاته مطلقا ، لا من جهة تصادم
بين الإمكان بالقياس إلى الغير وبين وجوب التقرّر والوجود بالذّات بنفس مفهوميهما.
وشتّان ما بين بالغير وبالقياس إلى الغير.
ويشبه أنّ
الفحص الغائر يوجب الفرق بين لازم الماهيّة ولازم التّحقّق. فإمكان الماهيّة
بالذّات يستلزم إمكان لوازم نفس الماهيّة بالذّات دون اللّوازم فى التّحقّق. وذلك
لأنّ امتناع الافتراق المعتبر فى اللّزوم يستند هناك إلى نفس ذات الملزوم. وأمّا
فى اللّزوم بحسب الوجود فى الواقع فإنّه قد يستند إلى ذات اللاّزم أو إلى ثالث ،
فهو أعمّ من أن يكون ذات الملزوم مقتضية له أو غيرها ، ومن أن يكون ذلك ممتنعا
ذاتيّا أو ممتنعا وقوعيّا. فإذا كان كذلك فإمكان الملزوم لذاته مع امتناع اللاّزم
لذات اللاّزم ليس يقتضي إمكان تحقق الملزوم بدون اللاّزم إلاّ بالنّظر إلى
ذات الملزوم إمكانا ذاتيّا. وليس يصادم ذلك امتناع تحقّقه لا معه بالنّظر
إلى ذات اللاّزم وبحسب الواقع. فلعلّ اللّزوم هاهنا مقتضى ذات اللاّزم أو ثالث ؛ ولعلّه
لزوم وقوعىّ ، لا ذاتىّ.
<٦> استيناف
ربما حكم بأنّ
فى الممكنات المعقولة ما هو مستلزم لمحال بالذّات.
وحوول تبيانه :
بأنّه يصدق قولنا : «كلّما كان واجب التّقرّر والوجود مستمرّ الوجود كان المعلول
الأوّل مستمرّ الوجود ، ومتى صدق صدق عكس نقيضه». وهو قولنا : «كلّما لم يكن
المعلول الأوّل مستمرّ الوجود لم يكن واجب التّقرّر والوجود مستمرّ الوجود». فهناك
استلزام الممكن المحال بالذّات ؛ لأنّ عدم المعلول الأوّل ممكن فى ذاته ، وعدم
واجب التقرّر والوجود محال بالذّات.
وبأنّ استلزام
المحال الممكن كلّيّا وجزئيّا جائز ، بل واقع فى حكم العقل. وإذا كان كذلك جاز بل
وقع استلزام الممكن المحال جزئيّا بحكم العكس.
والثّاني قول
مغلّط يفضحه : أنّ الاستلزام الجزئىّ ليس باستلزام بالحقيقة ؛ لأنّ المقدّم وحده لو
كان هو المستلزم للتّالى. فأينما وجد وفرض المقدّم وجد التّالى ، فيكون كليّا وقد
فرض جزئيّا ، فهو خلف ؛ وإن كان هو مع شيء آخر يستلزم التّالى ، فإذن ، لا يكون هو
وحده مقدّما وقد فرض وحده مقدّما ، فهو أيضا خلف.
وبعض من يحمل
عرش التّحصيل والتّحقيق يضع أنّ الأوّل أيضا يفضح : بأنّ استلزام عدم المعلول
الأوّل (٩٣) عدم واجب التّقرّر والوجود لذاته ليس يستوجب استلزام الممكن المحال
بالذّات ؛ فإنّه إنّما استلزم عدم عليّة العلّة الأولى فقط ، لا عدم ذات العلّة
الأولى.
فإنّ ذات
المبدأ الأوّل لا تتعلّق بالمعلول الأوّل لو لا الاتّصاف بالعليّة ، لكون المبدأ
الأوّل واجبا لذاته ممتنعا على ذاته العدم ، سواء كان لذاته معلول أو لم يكن.
فإذن ، لم
يستلزم الممكن محالا إلاّ بالعرض أو بالاتفاق. وهو عدم كون العلّة
بما هى متّصفة بالعلّيّة واجبة فى ذاتها ؛ فإنّه إنّما صار محالا من جهة كون
العلّة فى الواقع واجبة فى ذاتها. وإنّما ذلك من حيث ذاتها لا بما هى متّصفة
بالعليّة. وهذا بخلاف عكسه ـ أعنى فرض عدم العلّة الأولى ـ ؛ فإنّه يستلزم عدم
المعلول الأوّل مطلقا ؛ لأنّ ذاته إنّما أفاضتها العلّة الأولى ، لا غير.
ونحن نقول :
إنّه افتحاص قد اغدودب ظاهره ، حيث أوهم أنّه على أسلوب الأنظار الفحصيّة. وسيتّضح
فى الشّطر الرّبوبىّ ـ إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ طباع الإمكان بما هو إمكان علّة
محوجة إلى علّة واجبة فى ذاتها. وخصوصيّة ذات المعلول الأوّل بالبراءة عمّا يوجب
البعد عن المبدأ الأوّل تستدعى أن تكون الذّات الواجبة التّقرّر والوجود بنفسها هى
الّتي أفاضتها بلا مدخليّة لشيء ما غيرها أصلا.
فإذن ، عدم
المعلول الأوّل بخصوصيّة ذاته ، كما يستلزم عدم العلّة الأولى بما هى علّة، فكذلك
يستلزم عدمها بما هى واجبة فى ذاتها.
فعليّة العلّة
الأولى ووجوبها بالذّات سبيلهما واحد بحسب ما استدعته ذات المعلول الأوّل
بخصوصيّتها ، فلا يكون الممكن يستلزم المحال بالعرض أو بالاتّفاق ، بل إنّما
المحال بالذّات.
وأيضا عليّة
العلّة الأولى إنّما موجبها نفس ذات العلّة الأولى وكونها هى الجواد المفيض
التّامّ الفاعليّة والإفاضة. وذلك عين ما هو الواجب بالذّات.
فإذا كانت
عليّة العلّة الأولى أمرا ممكنا بالذّات وكان سببها الواجب بالذّات ، فيكون عدمها
الممكن يستلزم عدم الواجب بالذّات الّذي هو سببه. فقد لزم الوقوع فيما عنه الفرار.
فإذن ، هذا الوضع أحرى بالافتضاح ممّا ظنّ مفتضحا به.
وكذلك ما قد
وضع لتفضيح
الواجبين معا. وهو أنّ الممكن الّذي يستلزم محالا استلزاما جزئيّا لا يستلزمه من
حيث إنّه محال ، بل إنّما يستلزمه من حيث هو معقول يجب أن يحضر فى العقل تابعا
لملزومه. وكونه محالا هو أمر ما له فى ذاته غير متعلّق بملزومه.
__________________
ويشبه أنّ ما
ليس مساقه إلى تشويش الفلسفة هو أنّ المعلول الأوّل بطباع جوهره وبخصوص ذاته وهويّته
يستدعى أن يستند وجوده إلى العلّة الأولى الواجبة الوجود فى ذاتها وعدمه إلى عدمها
بما هى واجبة فى ذاتها. والمحال بالذّات لا يكون من لوازم الماهيّة بالنّسبة إلى
ممكن ، لكنّه قد يكون من لوازم تحقّقه فى الواقع. فكلّ عدم هو ممكن بالذّات فإنّما
يقع ويصير وقوعه ضروريّا بالاستناد إلى عدم هو محال بالذات إمّا ابتداء أو على
سبيل الانتهاء إليه أخيرا. وإنّما يكون ممتنعا بالغير ؛ لامتناع ذلك بالذّات بتّة.
فإذا كان هو متعيّنا بالعليّة ، لعدم ما ممكن ، كان لازما لتحقّقه لا محالة.
وأمّا ما يقال : «إنّ المعلول الأوّل إن اعتبر فى نفسه فعدمه ممكن
بهذا الاعتبار وليس يستلزم عدم الواجب بهذه الحيثيّة ؛ وإن اعتبر من حيث إنّ وجوده
واجب بالعلّة ، فعدمه ممتنع بهذا الاعتبار ومستلزم لعدمها. لكن عدمه ليس ممكنا
بالذّات من هذه الحيثيّة حتى يلزم إمكان لازمه».
فإن كان يعنى
بأوّل شقّيه : أنّ العقل إذا جرّد النّظر إلى ذاته ولم يعتبر معه غيره لم يجد فيه
علاقة اللّزوم ، فذلك لا يصادم استلزام عدمه عدم الواجب بحسب نفس الأمر ، بل هو
محفوظ بحاله ؛ لأنّ الاستلزام بحسب الوقوع هو امتناع الانفكاك فى التحقّق. ومن
المستبين أنّ المعلول ممتنع التّخلّف عن العلّة الموجبة. فإمكان الملزوم وامتناع
اللاّزم بحسب نفس الأمر ليس يندفع بذلك.
وإن كان يعنى :
أنّه على ذلك التّقدير لا يكون مستلزما له بحسب نفس الأمر ، فهو غير خفىّ البطلان
؛ فإنّه معلوله بحسب نفس الأمر. فكيف لا يكون مستلزما لعلّته.
وإن كان يعنى :
أنّ جهة الاستلزام ومناطه حيثيّة العليّة ، لا حيثيّة جوهر الذّات ولا حيثيّة
الإمكان بالذّات ، فالّذى يقول : الممكن قد يستلزم المحال ليس هو دائما
__________________
يقول : إنّ حيثيّة الإمكان هى حيثيّة الاستلزام ، بل إنّما إنّ ما له
حيثيّة الإمكان بالذّات له حيثيّة استلزام المحال الذّاتىّ بحسب التّحقّق.
وكذلك إن كان
يعنى بأخير الشّقّين : أنّ العدم الممتنع بالعلّة ليس ممكنا بالذّات ؛ فهو مستبين
الفساد ؛ فإنّ الامتناع بالغير ليس يصادم الإمكان بالذّات وليس بشقيه ، وإلاّ كان
يحوج الممكن الذاتىّ إلى أن ينقلب ممتنعا ذاتيّا ، بل إنّ معروضه لا يكون إلاّ
الممكن بالذّات.
وإن كان يعنى :
أنّ عروض الامتناع بالغير لا يكون من حيثيّة الإمكان بالذّات ـ كما أنّ عروض
الحركة ليس ينفى السّواد وليست الحركة تعرض من حيثيّة السّواد ـ فليس ذلك بضائر
فيما رامه الرّائم.
فإن صار من
يدّعى أنّ الممكن لا يستلزم المحال إلى أن يريد ما هو الممكن بحسب الذّات وبحسب
الغير وعدم المعلول الأوّل ، وإن كان ممكنا لذاته فهو ممتنع بغيره لوجود علّته.
قيل له : لم
يكن ذلك قطّ ولا يكون عوض. فما من ممكن إلاّ وهو واجب لغيره ، (٩٤) أى بحسب وجود
علّته وبحسب فرض وجوده ، أو ممتنع ، بغيره ، أى بحسب عدم علّته وبحسب وجود ما
ينافيه أو يضادّه معه وبحسب فرض عدمه.
ثمّ إنّه بما
استبان قد استتبّ أن يتشكّك فى كلّ تبيان بقياس خلفىّ يثبت به استحالة شيء ،
لاستلزام وقوعه محالا بالذّات.
فيقال : لمّا
جاز أن يستلزم الممكن لذاته محالا لذاته ، فلا يتمّ الاستدلال ، لجواز أن يكون
الخلأ ، مثلا ، ممكنا ، مع أنّه يلزم من وقوعه محال لذاته.
ويزاح : بأنّ
الامتناع الذّاتىّ قد يعنى به ضرورة العدم بحسب نفس ذات الموصوف ، أعنى الذّات
المقدّرة له ، كما فى شريك البارى ـ جلّ عن ذلك ـ واجتماع النّقيضين. وقد يراد به
ضرورة بطلان الذّات فى نفس الأمر ، سواء كان مصداق ذلك نفس الذّات المقدّرة ، أو
كانت هناك علّة مقتضية لضرورة العدم فى نفس الأمر وراء الذّات المفروضة.
كما أنّ
الضّرورة الذّاتيّة قد يراد بها استلزام الذّات للوجود مطلقا ، سواء كان ضرورة
الوجود بحسب نفس الذّات أو هناك منشأ للاستلزام وراء الذّات ؛ وقد يراد بها
الضّرورة الّتي هى بحسب نفس الذّات. والمعنى الثّاني أخصّ من الدّوام الذّاتىّ والأوّل
مساوقه.
وإذا تبيّن ذلك
، فأمثال الأقيسة المذكورة إنّما يثبت بها الامتناع الذّاتىّ بالمعنى الأعمّ
المساوق لدوام الانسلاب بحسب الذّات ، لا الأخصّ ؛ فإنّه إنّما يثبت لو ثبت أنّ
ضرورة الانسلاب إنّما هى بحسب نفس الذّات. فما يوجب للعدم ضرورة مطلقة غير مقيّدة
بوصف ما أو وقت ما ليس يوجب ضرورته بحسب نفس الماهيّة ، بل إنّما يحصل ذلك بنظر
آخر أخصّ وأدقّ.
فإذن ، إنّما
يستبين بالضّرورة الفطريّة أنّ ما يلزم من فرض وقوعه محال ذاتىّ لا يعترى عن
ملابسة الامتناع الذّاتىّ إمّا بأن يكون هو نفسه المحال بالذّات أو بأن يستند إلى
محال بالذّات على أن يكون هو سببه التّامّ. وأمّا ما نفس ماهيّته من حيث هى مبدأ
أن يستلزم محالا ذاتيّا ، فإنّما هو المحال بنفسه ذاته. والممكن بالذّات لا يكون
عروا عن ملابسة الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير.
<٧> أوهام وإزاحات
لفّق بعض
المتشككين : أنّ المحكوم عليه بالإمكان إمّا أن يكون موجودا أو معدوما. وهو حال
الوجود لا يستطيع أن يقبل العدم ، وإلاّ اجتمع الوجود والعدم ، وإذا امتنع حصول
العدم امتنع حصول إمكان الوجود والعدم ؛ ولا حال العدم أن يقبل الوجود ، فلا يحصل
إمكان العدم والوجود. فكلّ منهما يصادم الإمكان ، وليس يمكن خلوّ ممكن ما عنهما.
فإذن ، لا محكوم عليه بالإمكان. ومن وجه آخر : الممكن إمّا أن يكون قد حضر معه سبب
وجوده أو لم يحضر ، وبالأوّل يجب وبالثانى يمتنع. ويستحيل أن يكون خلوا منهما فكيف
يمكن.
وازيح : بأنّ
قولك : «المحكوم عليه بالإمكان إمّا هو موجود أو معدوم» ليس
بحاصر ؛ لأنّك قد عنيت أنّه إمّا يكون مع الوجود أو مع العدم على التّحيّث.
ويعوزه قسم آخر ، وهو أن لا يكون مع أحدهما. فالطبيعة المرسلة بما هى طبيعة مرسلة
من المحكوم عليه بالإمكان.
وأمّا أنّه حال
الوجود ، أى بحسب التّحيّث به ، ليس يقبل العدم ، فليس فيه استيجاب أن لا يقبله
بحسب حالة أخرى غيرها ، وكذلك عدم قبول الوجود فى حال العدم لا يوجب عدم قبوله
بحسب غير تلك الحالة ، فإنّ حال الماهيّة ليس إمّا الوجود والعدم ، وإنّما هما
حالاها عند لحاظها مع الغير ، وأمّا عند اعتبار جوهر الذّات لا مع الغير فلعلّها
تقبل أحدهما لا بعينه. وإنّما يمتنع ذلك امتناعا لاحقا بشرط المحمول.
وكذلك إنّ
الممكن إمّا أن يحضر معه سبب وجوده أو لم يحضره. أيضا فيه خلل ، لأن لم يحضر يحتمل
أن يحضره معه لم يحضر سبب وجوده أو لم يحضر لا سبب وجوده ولا لم يحضر سبب وجوده
الّذي هو سبب عدمه. فقد لاح : أنّ الخلل فى هذا القول كان من جهة أنّ القسمة لم
تكن مستوفاة.
وربّما عبّر
عنه : بأنّه لا يلزم من صدق قولنا : «الماهيّة بشرط كونها موجودة غير قابلة للعدم»
، صدق قولنا : «الماهيّة الّتي هى أحد أجزاء ذلك المجموع لا يقبل العدم».
فتوهّم عليه :
أنّ شرط كون الشّيء قابلا لشيء هو أن يكون القابل خلوا عمّا ينافى المقبول ؛ فإذا
نافى الوجود والعدم الإمكان والماهيّة مستحيلة الخلو عنهما كان يمتنع اتصافها
بالإمكان.
وهو وهم من بعد
ما قد أزاحه وأوضح سخافته ؛ فإنّ الماهية إنّما لا تخلو عن الوجود أو العدم بحسب
الخارج. أمّا فى لحاظ العقل فقد تخلو عن اعتبارهما وإن كان هذا اللّحاظ نفسه نحوا
من أنحاء وجودها والإمكان صفة لها بما هى مأخوذة فى هذا اللّحاظ مقيسة إلى الوجود
أو العدم.
ثمّ من يعزل
النّظر من هذا الفحص لا يستصحّ أن يقول : الشّيء حال وجوده ممكن الوجود أو حال
عدمه ممكن العدم ، بل إنّه حال وجوده يمكن أن يصير
معدوما فى الزّمان الثّاني.
وقد يتشكّك
عليه فيقال : القول بالإمكان الاستقبالىّ فاسد ؛ لأنّا إذا حكمنا على الموجود فى
الحال بأنّه يمكن أن يعدم فى الاستقبال ، فإمّا أنّ إمكان العدم الاستقبالىّ حاصل
فى الحال أو أنّه لا يحصل إلاّ فى الاستقبال.
والأوّل محال ؛
لأنّ العدم فى الاستقبال من حيث إنّه فى الاستقبال موقوف على حصول الاستقبال (٩٥) وحصول
الاستقبال فى الحال محال ، والموقوف على ما هو محال ، فحصول العدم الاستقبالىّ بما
هو عدم استقبالىّ وبما هو متوقف على حضور شرط محال ممتنع الحضور فى الحال. فإذن ،
إنّما يمكن حصوله فى الاستقبال ، لا فى المحال.
فإن دوفع :
بأنّ هذا الإمكان يؤخذ بالنّسبة إلى الاستقبال. وإنّما امتناع حصوله بهذا الشّرط
فى الحال لا بحسب الاستقبال ، دفع : بأنّ النّسبة لا توجد إلاّ بعد وجود المنتسبين
، فالإمكان بالنّسبة إلى الاستقبال ليس يمكن حصوله فى الحال ، بل إنّما عند
الاستقبال فقط.
وأمّا الثّاني
، فإنّه يعيد الإمكان الاستقبالىّ إلى الحالىّ ، لأنّ إمكان العدم الاستقبالىّ إذا
كان لا يحصل إلاّ عند حصول الاستقبال ، كأن يكون حكما بالإمكان على الشيء بالنّسبة
إلى زمانه الحاضر ، فالاستقبال عند حضوره يعود حالا.
ويزاح : بأنّ
تصوّر الاستقبال فى الحال معقول. والماهيّة ، لا من حيث هى موجودة أو غير موجودة ،
مستندة إلى الوجود الخارجىّ فى الاستقبال ، أو إلى عدمه ، ليست بمتعذّرة التعقّل. والإمكان
الاستقبالىّ هو الّذي يلحق ذلك المتصوّر عند ذلك الإسناد.
والنّظر فى أنّ
إمكان الوجود أو العدم يحصل فى الحال أو فى الاستقبال ليس نظرا فى الإمكان من حيث
هو إمكان ، بل فيه من حيث إنّه صورة فى العقل ، وهو حاصل حين التّعقل من حيث هو
صورة عقليّة ومتعلق بالاستقبال بما هو إمكان. وليس يستلزم ذلك محالا. وأمّا أنّ
الإمكان نسبة إضافيّة لا تتحقق إلاّ عند المنتسبين
فكذلك. فقد ظهر أنّ المنتسبين حاصلان فى التّصوّر ومتعلّقان بالاستقبال.
فأمّا أنّ إمكان العدم الاستقبالىّ لا يحصل إلاّ عند حصول الاستقبال فظنّ باطل ؛
فإنّ ذلك ليس يتوقّف على حصول الاستقبال ، بل إنّما على تصوّر الاستقبال.
<٨>إخاذة
هل بلغك حديث
الأولويّة الذّاتيّة الغير بالغة حدّ الوجوب. وما يلفّق لإبطالها فقد يفسّر
باقتضاء ذات الممكن رجحان أحد الطرفين بالقياس إليها على سبيل أولوية ما لائقة غير
ضروريّة ، لا يخرج به الشّيء عن قضيّة الإمكان. وقد يقال : هى كون أحد الطرفين
أليق بالنّسبة إلى الذّات لياقة غير واصلة إلى الضّرورة ، لا من جهة علّة خارجة ولا
بعليّة من جنبة الذّات على قياس الأمر فى الواجب بالذّات. ثمّ يحاول إبطال المفسّر
بإحالته فى نفسه تارة وسلب إغناء الطرف اللاّئق عن الافتقار إلى أن يكون له علّة
موفّقة غير الذّات مرّة أخرى وقلّما اتّفق للمحاولين تبيان شديد أعظم من الدّعوى
الفطريّة لما حوول إبطاله.
<٩> إضاءة تلويحيّة
عسيت بما
استبان لك ، من أمر الجعل فى «المسافة الماضية» ومن حقيقة الإمكان فى هذه «المسافة»
، أن تجم بتهبّط هذا الفرض عن افق التّصوّر وتسقّطه عن مدرجة الاحتمال. أليس
احتياج الماهيّة إلى الجاعل إنّما هو فى نفس حقيقتها التّصوريّة ، وإذ لا جعل ، لا
ماهيّة.
وحمل الوجود
عليها فى درجة ، فإنّه مفتقر إلى جعل الجاعل جوهر الماهيّة ، والوجود بنفسه مفتقر
إلى نفس الماهيّة افتقار العارض اللاّحق إلى المعروض الملحوق به. والماهيّة ما لم
يجعلها الجاعل أو يلحظ عدم جعله إيّاها ، لا متجوهرة ولا لا متجوهرة ، ومع عدم
الجعل لا شيء يعبّر عنه بالماهيّة ، بل إنّما يقدر شيء
__________________
ويقال : إنّه ليس من الحقائق ، لعدم الجعل.
والإمكان لا
ضرورة تجوهر الماهيّة ولا تجوهرها ، وإنّما يتّصف به ما دخل فى حيّز الجعل. وأمّا
ما لم يجعل فى ظرف ما من ظروف الوجود ؛ فإنّه ليس شيء فى ذلك الظرف حتّى يصلح
لإسناد مفهوم ما إليه إلاّ على التّقدير البحت. فقد كنّا أسمعناك أنّ الإمكان من
اعتبارات الماهيّة والماهيّة فى أىّ ظرف هى ما جعلت. فما لم يجعل بعد ليست إلاّ
ماهيّة تقديريّة. ومعنى إمكانها أنّها لو جعلت كان الإمكان من اعتبارات ذاتها
المجعولة المتجوهرة.
فاحدس من ذلك :
أنّ الفرق بين المعدوم الممكن والمعدوم الممتنع هو أنّ الفحص يقضى أنّ المعدوم
الممكن لو انقلب فى حكم العقل من الماهيّة التّقديريّة إلى ماهيّة حقيقيّة كان
الإمكان من اعتبارات تلك الماهيّة ، بخلاف الماهيّة التّقديريّة الممتنعة ؛ فإنّها
وإن صارت ماهيّة حقيقيّة بحسب الفرض المستحيل ولو ألف ألف مرّة ، لم ينسلخ طباعها
عن الامتناع ولم يعرض جوهرها اعتبار الإمكان بالنّسبة إلى التّقرّر واللاّتقرّر والوجود
والعدم، لا أنّ المعدوم بما هو معدوم ممكن بالفعل ، أو المعدوم بما هو معدوم
بالفعل موصوف بالامتناع.
فإذن ، من أىّ
ماهيّة قبل الجعل حتى توضع أولويّة مفهوم ما بالقياس إليها : فإمّا أن يجوّز كون
نفس الشّيء جاعل سنخ ذاته وفاعل جوهر ماهيّته ؛ ولست أحسب من فى حيّز الطباع
الإنسانىّ متجشّما للإتيان به ؛ (٩٦) وإمّا أن يعدّ الحكم غنيّا عن التّبيان بعد
التّشبّث على هذا الأصل. وهو أسلوب سنن الإنسانيّة. فهذا أمم القول عند من سنّ
تقنين الحكمة اليمانيّة الإيمانيّة.
ولبعض من حمل
عرش تقويم الفلسفة اليونانيّة من رؤساء الفلاسفة الإسلاميّة قول، ليس على البعد من سبيل التحصيل ، وهو لو حصل سلسلة الوجود بلا وجوب
لزم : إمّا إيجاد الشّيء نفسه ، وذلك فاحش ، وإمّا صحّة عدمه بنفسه ، وهو أفحش ؛
فبيانه أنّ الرّجحان المنبعث عن الذّات ؛ إمّا أنّه علّة مقتضية للوقوع ، فيكون
الشّيء
__________________
موحد نفسه ، وإمّا أنّ سبيله أن يقع الوجود الرّاجح لا بمقتض غير الذّات ولا
باقتضاء من الذّات. والشّيء ذو رجحان الوجود صحيح العدم ؛ إذ هو فى حيّز الإمكان. وليس
يصلح لعليّة العدم إلاّ عدم ما هو علّة للوجود ، ولا علّة هناك للوجود. فإذن ،
يكون الشّيء بنفسه صحيح العدم.
وأيضا على
تقدير وجود الشّيء بالرّجحان يكون متصفا بالوجود وليس هو عينه ، لكونه ماهيّة
إمكانيّة ، والذّات مبدأ رجحان الاتّصاف به ، فيكون الذّات لا محالة علّة. أليس
العلّة لا يعنى بها إلاّ ما يترجّح المعلول به. فإذن يكون الشّيء علّة لاتّصاف
نفسه بالوجود ؛ إذ هو غير واصل إلى حدّ الوجوب ، فيجوز عدمه مع بقاء رجحان الوجود
، وإلاّ لزم بلوغ الرّجحان حدّ الوجوب. فإذن ، قد صار العدم جائز الوقوع لا بسبب ،
بل مع فرض بقاء سبب الوجود ، ولا يسع ذلك إلاّ أمّ دماغ السّفسطة ومخّ عظام
الفساد.
وبالجملة لمّا لم يكن الوجود ولا رجحان الوجود نفس الماهيّة ولا من جوحريّاتها
الدّاخلة فى قوام ذاتها ، وكلّ ما هو خارج عن الماهيّة وعن جوهريّاتها المقوّمة
لها ؛ فإنّ لحوقه بالماهيّة وعروضه لها أو اتّصافها به أو كونها هو وحمله عليها أو
ما شئت فسمّه. وبالجملة ، أى : ما فرض من وجوه الارتباط بينهما ؛ فإنّه يمتنع أن
يكون لا بعلّة مقتضية. فتلك العلّة إمّا نفس الماهيّة أو شيء آخر غيرها. وطباع
الفطرة السّالمة عن سقم جوهر الغريزة يأبى إلاّ أن يشهد أنّ الماهيّة الباطلة
الذّات باللّيسيّة الذّاتيّة لا تقتضى شيئا أصلا ، لا لنفسها الباطلة ولا لغيرها. والمعدوم
لا ذات له ولا فى العدم ماهيّة متقرّرة. فإذن ، لا مستقرّ لتصوّر الأولويّة
الذّاتيّة.
وحيث إنّ هذا
النّظر إنّما الحاجة إليه قبل إثبات الواجب بالذّات وقبل ثبوت نفس الأمر مطلقا ،
فليس لأحد أن يقول : لعلّ ممكنا ما فى وجوده العلمىّ ، أى وجوده فى علم اللّه
تعالى وارتسامه فى القوى العالية ، يقتضي رجحان وجوده الخارجىّ على أنّ الوجود
الذّهنىّ كالوجود الخارجىّ فى الاحتياج إلى العلّة. وأيضا
__________________
العدم الخارجىّ هو بطلان الذّات فى الخارج ، كما العدم الذّهنىّ بطلان
الذّات فى الذّهن والعدم المطلق بطلان الذّات مطلقا.
فالذّات
الباطلة فى الخارج كيف تقتضى ارتباط شيء بها بحسب الخارج؟ وهل يصحّ أن يقال :
الذّات فى الخارج تقتضى أن تكون ذاتا فى الخارج راجحة الوجود.
ثمّ من يعزل
النّظر عن أصل استحالة الأولويّة يقول ؛ لو كفت فى وقوع الوجود كانت الذّات
مستفيدة الوجود من نفسها ؛ إذ لا معنى لمفيد الوجود إلاّ ما هو المبدأ لرجحان
الوجود ، فيلزم أن يتقدّم على وجودها بالوجود وعلى رجحان وجودها برجحان الوجود.
<١٠> هتك وتزئيف
إنّ ما هديناك
إليه بفضل اللّه ورحمته هو سواء السّبيل . وأمّا ملفّقات الأقوام فأكثرها مزيّفات النّظام. وأحقّ ما قد لفّق
بأن يذكر هو
أنّه لا يعقل احتمال تلك الأولويّة ؛ لأنّ ما يقتضي رجحان طرف فهو بعينه يقتضي
مرجوحيّة الطرف المقابل ؛ لأنّ رجحان أحد الطرفين يستلزم مرجوحيّة الطرف الآخر ،
للتّضايف بين الرّاجحيّة والمرجوحيّة. ومعيّة المتضائفين إنّما هى معيّة بالذّات ومرجوحيّة
تستلزم امتناعه.
فلعلّ امتناع
ترجيح المرجوح عند متوقّد الذّهن ليس ما دونه فى الظهور من أوائل الفطريّات ، وامتناعه
يستلزم وجوب الطرف الرّاجح.
فإذن ، رجحان
الوجود نظرا إلى الذّات يستلزم امتناع العدم بالنّظر إليها ، وهو يستلزم وجوب
الوجود. فما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب فهو منته إليه على ذلك التّقدير. فإذن قد
ظهر الخلف.
ويزيّفه أنّه
إذا كان اقتضاء رجحان طرف بعينه على سبيل الرّجحان يكون
__________________
لا محالة اقتضاء مرجوحيّة الطرف المقابل أيضا على سبيل الرّجحان لمكان
التّضايف. والمرجوحيّة المستلزمة للامتناع إنّما هى المرجوحيّة على سبيل اللّزوم
البتّىّ ، لا المرجوحيّة على سبيل الرّجحان. كيف والمرجوحيّة لكونها على سبيل
الرّجحان ليس يجب ثبوتها بالنّظر إلى الذّات ، بل يرجّح فقط. وليس أيضا ثبوتها
بطرد الطرف الآخر بتّة ، بل بنحو الأليقيّة والأولويّة.
وبالجملة ،
فكما الوجود يرجّح على سبيل الأولويّة فكذلك أولويّة الوجود على سبيل أولويّة
الأولويّة ، وأولويّة أولويّة الوجود على سبيل أولويّة أولويّة ، الأولويّة (٩٧) وهكذا
إلى أن يثبت لحاظ العقل. فالمرجوحيّة الرّاجحيّة اللاّزمة كيف تقتضى الامتناع.
فإذن ، اقتضاء
رجحان الطرف الرّاجح الرّاجحيّة كيف يقتضي امتناع الطرف المرجوح الرّاجح
المرجوحيّة. أليس إمكان وقوع الطرف المرجوح إمكانا ضعيفا ووقوعا مرجوحا يجده العقل
، وهو مضمّن فى اقتضاء وقوع الطرف الرّاجح اقتضاء حريّا لا بتيّا ووقوعا راجحا لا
لازما.
ثمّ لو ما شاك
أحد بالتّسليم ، فمن المتّضح أنّ مرجوحيّة الطرف المرجوح إنّما يقتضي امتناعه
بالنظر إلى الذّات امتناعا بالقيد من حيث مرجوحيّة هذا الطرف بالنظر إليها ، أعنى
بحسب أخذ المقيس إليه الذّات المحيّثة بهذه الحيثيّة ، لا الذّات من حيث هى ، أو
بحسب أخذ المقيس الطرف المرجوح المحيّث بالمرجوحيّة ، لا أصل مفهوم ذلك الطرف ، وهذا
امتناع بشرط الوصف الّذي هو غير الذّات ، وهو امتناع بالغير لا بالذّات ، فإنّما
ما يلزم هو وجوب الطرف الرّاجح بالغير لا بالذّات ، وليس فيه خرق الفرض.
أليس وجوب ذلك
الطرف بإزاء امتناع الطرف المرجوح وإنّما امتناعه بحسب الوصف. فإذا كان الوصف بنفسه ممكن الانسلاب عن الذّات
، فما ظنّك بالامتناع
__________________
المستند إليه ، وهذا التزييف يستوعب جملة ما اتفق لهم تلفيقه ، وقلّ ما فى
الأقوال الملفّقة يسلم منه.
<١١> ظلامات وإزاحات
من النّاس من
استحلّ أن يقال : قد يكون الوجود أولى من العدم بالنّظر إلى ذوات فرقة الممكنات ، وليس
يوجب ذلك خروجا عن حيّز الافتقار إلى العلّة ، لكونها مع ذلك فى حدود بقعة الإمكان
، إذ ليست تلك الأولويّة مبلغها البلوغ حدّ الوجود ، بل إنّما يستوجب الممكن بذلك
أن يكون أكثرىّ الوقوع ، ولكن بإيجاب العلّة وإفاضة الفاعل أو أشدّ وجودا عند
الوقوع أو أقلّ شرطا للوقوع. وفى الخليقة من يظنّ هذا الظّنّ فى طرف العدم
بالنّسبة إلى طائفة من الحقائق بخصوصها وآخر بالنّسبة إلى قاطبة الممكنات ، لكون
العدم أسهل وقوعا.
وربما كان فى
الفئة الغير المحصّلة من الفلاسفة من يتقوّل هذه الأقاويل فى تشويش الفلسفة وعند
غير أبناء الحقيقة من الفئة الاخرى المتسمّية بالمتكلمين الواقع من الطرفين أولى.
وقد يتشبّث :
بأنّ الموجودات السيّالة ، كالأصوات والأزمنة والحركات ، لا شكّ أنّ العدم بها
أولى ، وإلاّ لصحّ بقاؤها ويصحّ الوجود أيضا عليها ، وإلاّ لما وجدت أصلا. فإذن قد
وجدت أمور يصحّ عليها الوجود والعدم ، ومع ذلك يكون العدم بها أولى ، ثمّ إذا جاز
ذلك فى جانب العدم فليكن جوازه فى جانب الوجود أولى.
وبأنّ العلّة
قد توجد ثمّ يتوقف إيجابها معلولها على تحقق شرط أو انتفاء مانع. ولا يرتاب فى أنّ
تلك العلّة الأولى بها اقتضاء المعلول ، وإلاّ لم تتميّز العلّة عن غير العلّة.
فإذن تلك العلّة يصحّ عليها الإيجاب وعدم الإيجاب معا ، مع أنّ الإيجاب أولى بها
من عدمه. فليكن الوجود أيضا بالنّسبة إلى الماهيّة على ذلك السّبيل ، فيكون ذلك
الوجود أكثريّا ، لا دائما ، كما فى الإيجاب.
فمن العلل ما
اقتضاؤها لمعلولاتها أكثرىّ ، لا دائم ، كطبيعة الأرض ؛ فإنّ
اقتضاءها للثّقل أكثرىّ إلاّ أنّه قد يمنع عن ذلك عند ما يرى قسرا. والتّزوير
والازورار فى هذين مستبين السّبيل ؛ فإنّ الحركة من مبدأ المسافة إلى منتهاها حركة
شخصيّة ، وأنّ الأجزاء فيها ليست إلاّ بالقوّة.
وقولوا : أأنتم
مرتابون فى أنّ الحركة الواحدة المتصلة من أوّل المسافة إلى منتهاها ، لا العدم
بها أولى ولا الوجود ، بل إنّما يصحّ عليها الأمران ، وهى فى تخصّص أحدهما بالوقوع
تتبع تخصّص علّتها بالوجود أو العدم. والحركة التوسّطيّة أيضا بالقياس إلى الوجود
المرسل والعدم المرسل وبالقياس إلى استمرار الوجود وانقطاعه. فاستمرار وجودها فى
الأزمنة ممكن ، كما أنّ انقطاعه أيضا ممكن. وإنّما يتعيّن أحدهما بعينه بتعيّن
العلّة الموجبة وجودا ولا وجودا. والقول فى الزّمان الممتدّ الموجود والآن السيّال
أيضا سبيله ذلك.
وأيضا ، النّظر
فى الممكن لذاته لا فى الممتنع الثّبوت لغيره وبقاء غير القارّة ممتنع الثّبوت
لغيره ، والغير القارّة ممكنات لذواتها. وإنّما يمتنع لها ثبوت البقاء ، والبقاء
وصف غير الوجود ، وهو استمرار الوجود. والأوّل من الفتاوى وهذا من الامتحانات
الذّائعة المحمودة.
ثمّ الفحص
الفاصل ما أصغيت إليه فيما قد قرع سمعك ، من أنّ ما بالقياس إليه يعتبر طباع
الإمكان الذّاتىّ إنّما هو طبيعة الوجود المرسل وطبيعة العدم المرسل. فأمّا
خصوصيّات أنحاء الوجود فربما تمتنع بالنّظر إلى خصوصيّات جواهر الحقائق. وإنّما
الامتناع بحسب خصوصيّة الوجود المقيّد من جهة خصوص القيد ، لا بحسب ذلك الوجود بما
هو وجود ، وكذلك خصوصيّات أنحاء العدم.
وإذا امتنع
وجود ما أو عدم ما بخصوصه ، فإنّما يمتنع على البتّ واللّزوم ، لا على سبيل
الأولويّة. والحقائق الغير القارّة إذا اعتبرت ذواتها الممتدّة بهويّاتها
الاتصاليّة فهى بذواتها قابلة للوجود والعدم فى وعاء الدّهر (٩٨) ومتخصصة بأحدهما
بإيجاب العلّة.
وأمّا إذا
اعتبر وجودها بحيث إذا حلّلها الذّهن إلى أجزاء هى موجودة فيها
بالقوّة ، وكانت تلك الأجزاء مجتمعة الذّوات فى حدّ ما من حدود أفق الزّمان
، فإنّما يكون شأن تلك الحقائق بالقياس إلى هذا النّحو من الوجود والامتناع
البتّىّ ، لا الّذي على سبيل الأولويّة وامتناع هذا الوجود بخصوصه على البتّ ليس
بمخرج تلك الذّوات من حدّ حيّز الإمكان الذّاتىّ.
وأمّا أنّ
العلّة يتخلّف عنها المعلول وهو بها أولى ، فالظّلم فيه ظاهر ؛ إذ لا أولويّة
بمعنى مجرّد الأنسبيّة أصلا ، بل الأولويّة إنّما تحصل عند اجتماع الشّرائط وارتفاع
الموانع قاطبة وهناك يحصل الوجوب ، وعند فقد شيء من ذلك يمتنع الإيجاب بتّة. والقرب
والبعد من الوقوع لقلّة الشّروط وكثرتها لا يوقع اختلاف حال فى طباع الإمكان
الذّاتىّ بالقياس إلى طبيعتى الوجود والعدم ، بل إنّما يختلف بذلك الإمكان بمعنى
آخر ، أعنى الاستعداد الّذي هو الموجود فى بعض شعوب الحقائق.
ولأبناء قلّة
التّحصيل ، من أقوام متجادلين أولى تهويشات الظنون والأوهام ، كلمات متشوّشة
متخلّية من فضيلة أن يستحقّ شغل الذّمّة بتوهينها ، فوّضنا النّظر فيها إلى من
قسطه من العلم أن يروز ظنون هؤلاء الأقشاب روزا ويحرز جدالاتهم حزرا ، مع أنّا قد أعطيناك من القوانين الفحصيّة ما هو مكشاف
الحقّ وممحاق الباطل.
<١٢> تذنيب
ربما عدّ من
الشّكوك فى هذا الباب : أنّ إمكان وقوع طرف لمّا كان متوقّفا على رجحانه ويمتنع أن
يكون الطرف المساوى راجحا حال ما هو مساو ، فيمتنع وقوع الطرف المساوى ما دام على
التّساوى. فإذن يلزم أن يجب وقوع الطرف الآخر ؛ لأنّ امتناع أحد النّقيضين مساوق
وجوب الآخر.
فحلّ : بأنّ
الممتنع ذات الطرف المساوى مع وصف المساواة ، لا بما هو ذلك الطرف من حيث هو هو ،
كالممتنع فى المرجوحيّة ذات الطرف المرجوح مع صفته
__________________
المرجوحيّة ، لا من حيث هو ذلك الطرف ومناقضته للطرف الآخر من هذه الحيثيّة
، لا من حيث الوصف. فما هو نقيض ليس بممتنع ، وما هو ممتنع ليس بنقيض. على أنّ
منشأ الامتناع إنّما هو وصف المساواة بحسب نفس الأمر ، لا المساواة بالنظر إلى
الذّات من حيث هى هى ، وإن تحقق الرّجحان فى نفس الأمر بسبب غير الذّات.
وأمّا أنّ جواز
ارتفاع أحد النّقيضين بالنّظر إلى الذّات بحسب نفس الأمر يستلزم وجوب الآخر ، وإلاّ
لزم جواز ارتفاعهما معا ، فإنّه وهم سخيف ساقط. والممكن فى نفسه يجوز له كلّ واحد
من الطرفين وارتفاعه على سبيل البدل ولا يستلزم ذلك جواز ارتفاعهما أو اجتماعهما
معا.
<١٣> تكشاف تأصيليّ
إنّ الإمكان هو
العلّة المحوجة إلى العلّة. ولم يتجشّم أن يستنكره أحد غير أولى الأوهام العامّيّة
، من الفرقة المستفسطة. أليس هو لا ضرورة الطرفين. وذلك ميزان تساويهما بالنظر إلى
الذّات فى التّرجّح وفسخ ترجّح أحد المتساويين لا بعلّة مرجّحة من الفطريّات ، ولم
يجعله من المقتضيات إلاّ من فارق مقتضى عقله لسانا فيما مرجعه إليه ضميرا. فلو
ترجّح أحد الطرفين على الآخر إلاّ لمرجّح لصار هو أولى من الطرف الآخر.
وذلك ينقض
فرضنا أنّ كلا الطرفين بالنّظر إلى فوت الذّات على السّواء البحت ، وكلّ ما فرض
وقوعه تحت حكم الإمكان فهو فى حيّز نفسه بحسب طباع الإمكان لا الذّات ولا
اللاّذات.
فإذا لوحظ أنّ
هذا الاعتبار هو حال الشّيء بحسب طباع الإمكان قضت الفطرة البشريّة أنّ طباع الإمكان هو
الّذي أحوج الشّيء فى أنّه ذات أو لا ذات إلى العلّة. فإذن قد حصل المعنى الّذي هو
تخلّل الفاء بين الإمكان والحاجة وهو الّذي يعنى بالعليّة.
__________________
وربما بولغ
فقيل : الحكم بأنّ أحد الطرفين على السّواء البحت لا يرجّح على الآخر إلاّ بسبب
فطرىّ واقع فى نفوس الصّبيان ، بل هو مركوز فى الطبائع البهيميّة. ولذلك ترى
البهائم تنفر من صوت الخشب ؛ إذ قد ارتكز فى قواها أنّ وجود الشيء لا يترجّح على
عدمه إلاّ لمرجّح. فالصّوت لا يوجد بدون الخشب ، بل بدون ما يقتضيه مطلقا.
وهذا النّمط من
البيان هو ما يرومه الرّائم بقوله : العلم بالإمكان ملزوم للعلم بالحاجة ، لا
مجرّد أنّ العلم بالإمكان موقع التّصديق بالحاجة حتّى يحوج إلى النّظر فى أنّه هل
يكون العلم بمعلول ما بخصوصه موجب العلم بعلّة بخصوصها ، أم لا يكون إيجاب العلم
بالشّيء بخصوصه إلاّ شأن العلم بالعلّة. ثمّ التّمسّك بأنّ العلم بالإمكان قد
استلزم العلم بالحاجة. ومن الواضح أنّ الحاجة علّة للإمكان ، فبقى الإمكان علّة
للحاجة.
<١٤> دقيقة استشراقيّة تحقيقيّة
إنّى بفضل ربّى
أعلّمك كيف تزن كنه هذه المسألة بقسطاس التّحصيل. اعلم أنّه كما أنّ طباع الإمكان
هو سبب طباع الاحتياج إلى السّبب ، فكذلك طباع الإمكان هو العلّة لفاقريّة نفس
الماهيّة فى سنخ جوهرها وأصل ذاتها إلى جاعل يجعل نفسها ويفعل تقرّرها المستتبع
للوجود.
أمّا على أصول
الحكمة اليمانيّة فلما تعرّفت أنّ الإمكان هو لا ضرورة التقرّر واللاّتقرّر ، ويستتبع
ذلك (٩٩) لا ضرورة الوجود والعدم ؛ لشهادة الضّروريّة الفطريّة أنّ ضرورة التّقرّر
مستتبعة ضرورة الوجود ، وضرورة اللاّتقرّر مستتبعة ضرورة العدم ، وضرورىّ التقرّر
ضرورىّ الوجود ، وضرورىّ اللاّتقرّر ضرورىّ العدم. فإذا لم يكن الممكن بالذّات لا
ضرورىّ التقرّر ولا ضرورىّ اللاّتقرّر ، لزم : إمّا أن يكون واجب الوجود بالذّات
أو ممتنع الوجود بالذّات ، فيكون عقد فرض الإمكان فيه قد انفسخ.
فإذن ، ما فرض
إمكانه هو لا ضرورىّ التّجوهر واللاّتجوهر ، وهو بحسب طباع الإمكان لا الذّات ولا
اللاّذات ولا الماهيّة ولا اللاّماهيّة ، وفاقة ذات الممكن بحسب سنخ الحقيقة لا
بحسب وصف الوجود فقط. فإذن ، الإمكان علّة اقتضاء الماهيّة فى طرفى التّقرّر واللاّتقرّر
وفى طرفى الوجود والعدم جميعا إلى العلّة.
وأمّا على
قواعد الفلسفة اليونانيّة فلأنّ الإمكان وإن كان هو لا ضرورة الوجود والعدم على
استواء بالنّسبة إلى الذّات. على أنّ المأخوذ هو الذّات بحسب الوجود والعدم غير
منظور إلى تقرّرها ولا تقرّرها فى سنخها. لكنّ الوجود هو الموجوديّة المصدريّة. وليس
هناك شيء يؤخذ منه ذلك المفهوم وراء نفس الذّات الواقعة ، كالإنسانيّة والفلكيّة. وكذلك
العدم ليسيّة الذّات وبطلانها.
فإذن ، الفاقة
بحسب الذّات والافتقار إلى الغير فى الوجود والعدم لا يرجع إلى معنى محصّل سوى
الفاقريّة بحسب سنخ الحقيقة والافتقار فى التّجوهر واللاّتجوهر ، والذّاتيّة واللاّذاتيّة.
لست أعنى فى كون الذّات ذاتا وفى لا كونها ذا قابل ، أعنى فى نفس الذّات وفى نفس
اللاّذات بحقيقتها التّصوريّة ولا حقيقتها التّصوّريّة وهذه دقيقة تحقيقيّة استشراقيّة، جمهور الفلاسفة عنها فى غفلة ساذجة فضلا عن المتفلسفة
، فاستقم كما أمرت.
فالآن حصحص
الحقّ وتبيّن الرّشد والغىّ وتكشّف وجوب أن يقال : إنّ الإمكان هو السّبب المحوج
إلى مجعولية الذات بالجعل البسيط على المسلكين ولدى الفريقين.
فإذن ، ما شأن
محرّفة الحكمة ومشوّشة الفلسفة همّوا لفكّ جواهر الماهيّات عن طبائع المربوبيّة وإخراج
أسناخ الحقائق عن حيّز المجعوليّة ، وما بالهم جهلوا حقّ إبداع الفاطر البارى ـ
عزّ مجده ـ على ذمم الذّوات المفطورة المعلولة ، فلم يشهدوا أنّ
__________________
سلطان فيض الرّبوبيّة على جعل الماهيّات وتشيّؤ الشّيئات كسلطانه على خلق
الإنيّات وتأييس الأيسيّات ، واستحلّوا وقف الافتقار إلى الملك الجبّار على النّسب
المعنويّة والمعقولات الثّوانى ولم يسندوا إلى جناب المبدئيّة التّاميّة الفياضيّة
إلاّ هيئات نسبيّة تركيبيّة وحصصا اعتباريّة لمعان انتزاعيّة مصدريّة. فتبّا
لمعرفتهم وتعسا لفلسفتهم. فهؤلاء هم المهوّسة المهوّشة المحرّفة المعطّلة
المتفلسفة حقّا. وإنّى أنا بريء ممّن يسلك سبيل الغواية إلى الاستعاذة منه باللّه
ربّ العالمين.
ثمّ إنّنا نتلو
عليك من ذى عوض فى الشّطر الرّبوبىّ ـ إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ طباع الإمكان لا
يقتصر على الإحواج إلى مطلق السّبب ، أىّ شيء كان ، بل إنّما يحوج إلى الجاعل
القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ فهذا سبيل من يحمل عرش نضج الحكمة ؛ فاسلكه ،
إنّك إذن إن شاء اللّه لمن المهتدين.
<١٥> اقتصاص وفحص
إنّ غاغة
المجادلين النّاسبين أنفسهم إلى أهل النّظر ، وهم ليسوا من أولياء التّمييز وأخلاّء
التّحصيل ، ولا هم من المتشبّهين بأبناء الحقيقة ، يتجشّمون إنكار الحقّ. فمنهم من
يظنّ الحدوث وحده علّة للافتقار إلى العلّة ، ومنهم من يجعله شطرا من العلّة ، ومنهم
من يعدّه شرط العلّية ، والعلّة هو الإمكان ، ومنهم من يتشمرّ للجدال بخرق فطرته
القضيّة الفطريّة ، وكلامهم جميعا وإن يتخلّى عن استحقاق تضييع العمر بتهجينه وتعطيل
النّفس بتوهينه ، إلاّ أنّ نفوس المتعلمين تابعة إلى ذلك.
فليعلم أنّه
إذا لوحظ وصف الحدوث بما هو حدوث مع عزل النّظر عن إمكان الوجود الحادث بالنّظر
إلى ذات الموصوف لم يكن فى طباعه مبدأ استيجاب الاستناد إلى علّة خارجة من الذّات.
أليس وجوب وصف ما أو امتناعه بالنّظر إلى الذّات يغنى الذّات بحسب ذلك الوصف عن
الغير ويمنع الاستناد بحسبه إليه. فلو كان الحدوث معتبرا فى علّة الحاجة شطريّة أو
شرطيّة كان إنّما يعتبر بما هو ممكن للذّات لا واجب. فإذن ، يرجع الأمر إلى
الإمكان وحده.
ثمّ الحدوث
كيفيّة التقرّر أو الوجود المتأخّر عن الجعل والاتّحاد المتأخّر عن الحاجة
المتأخّرة عن الإمكان. فإذا كان هو علّة الحاجة أو معتبرا فيها كان يتقدم على نفسه
بمراتب.
ولو عورض بمثله
على نفى عليّة الإمكان ، فإنّه أيضا كيفيّة التقرّر والوجود.
قيل : الإمكان
كيفيّة نسبة مفهوم التقرّر والوجود إلى الذّات فى لحاظ العقل ، لا وصف النّسبة
العقليّة ، أى كون الشّيء متقررا أو موجودا بالفعل من حيث حصول هذه النّسبة بالفعل
، فإنّما يلزم أن يتأخّر من مفهوم الماهيّة والتّقرّر والوجود فى لحاظ العقل ، لا
عن فعليّة النّسبة بحسب ظرف التقرّر. وأمّا الحدوث فهو وصف التقرّر والوجود بالفعل
، ولا يوصف (١٠٠) به الماهيّة ولا وجودها إلاّ حين ما هى متقرّرة موجودة.
ولم يرتب ذو
بصيرة فى أنّه متأخّر عن الجعل والإيجاد ، فإنّما يصحّ أن يقال : جعل واوجد فحدث ؛
لا حدث فجعل واوجد ، وإن كان تأخّره عن التّقرّر والوجود حتّى يحلّ أن يقال :
تقرّر فحدث ووجد فحدث مشكوكا فى جوازه عند بعض أولى الأذهان ممّن لا يستصوب إلاّ
أن يقال : تقرّر وحدث معا ووجد وحدث معا.
وبالجملة ،
الحدوث يتأخّر عن الجعل والإيجاد تأخّرا بالذّات فى لحاظ الفعل ، والإمكان يتقدّم.
فالسّابغ : أنّ الإمكان فالجعل والإيجاد والجعل والإيجاد فالحدوث ، لا الحدوث
فالجعل والإيجاد.
فإن أعيد إلى
التّهويش : بأنّ ذلك ديدن الحدوث بمعنى مسبوقيّة التّقرّر بالفعل والوجود بالفعل
باللّيسيّة والعدم فى طرف ما ؛ فلم لم يوجد بمعنى كون الشّيء فى لحاظ العقل بحيث
لو تقرّر ووجد فى طرف ما كان من اعتبارات ذاته أنّ تقرّره مسبوق باللّيس ووجوده
بالعدم بحسب ذلك الطرف ، فيصير ديدنه ديدن الإمكان فى التقدّم بتّ عوده : بأنّ ذلك
إنّما جدواه تقدّم الحدوث على التقرّر والوجود بالفعل ، لا ترتّب الجعل والإيجاد
عليه.
أليس العقل
المثقّف يجد أنّ كون الشّيء بحيث لو تقرّر كان اعتباره المسبوقيّة
باللّيس وإن كان متقدّما على تقرّره بالفعل. لكنّه ليس ممّا يتوقف عليه
الإبداع ، بخلاف كون الشّيء بحيث لو تقرّر كان شأن ذاته لا ضرورة التقرّر واللاّتقرّر
؛ فإنّه كما يتقدّم على التّقرّر تقدّما بالذّات. فكذلك يتقدّم بالذّات على تقرّر
ذات الشّيء وإبداع جوهره. وكذلك بالقياس إلى الوجود والإيجاد.
فإذن ، قد
تميّز شأن الإمكان عن ديدن الحدوث ، على أنّ ذلك التّفسير للحدوث ليس يصحّ كما
يصحّ للإمكان ، وإلاّ لصحّ الحكم بحدوث المعدوم بالفعل فى لحاظ العقل بحسب طرف
العدم كما يصحّ بإمكانه. ولعلّ السّرّ ينقبض عنه إلاّ أن يكون مئوفا؟
فإذن ، قد
اتّضح أنّ الإمكان اعتبار يسبق الحاجة المتقدّمة على الجعل السّابق على فعليّة
التّقرّر والوجود ، والحدوث وصف يلحق الفعليّة المتأخّرة عن الحاجة لا بمرتبة
واحدة ، فانسلبت عليّة الحاجة مطلقا عن الحدوث وتعيّنت للإمكان.
وأمّا قول من
تشمّر للجدال : ـ «إنّ قولكم : الطرفان لمّا استويا بالنّسبة إلى الذّات فى انسلاب
الضّرورة عنهما ، فامتنع التّرجيح إلاّ بمنفصل ؛ ليس من الفطريّات ؛ فإنّا متى ما
عرضنا هذه القضيّة على العقل ـ مع قولنا : الواحد نصف الاثنين ـ وجدنا الثّانية
فوق الأولى فى القوّة والظهور. والتّفاوت إنّما يعقل إذا تطرق الاحتمال بوجه ما.
إلى الأولى بالقياس إلى الأخيرة وقيام احتمال النّقيض بنقيض التّعيّن التّامّ» ـ.
فليس بصادق ؛
لأنّ التّفاوت عسى أن يكون بحسب المفاوتة فى تصوّرها سيعى الحكم. أمّا الحكم فى
نفسه فلا يتفاوت ، على أنّ الفطريّات فضلا عن الحدسيّات قد تتفاوت ، كما المقتنصات
تتفاوت ؛ لأنّ الفطريّة والحدسيّة والمقتنصة تختلف بالقياس إلى الأشخاص والأوقات وبالنّسبة
إلى خصوصيّات المفهومات والعقود ، لتفاوت استعدادات النّفوس واختلاف نسبها إلى
إدراكات متعيّنة لمدركات متخصّصة بحسب الاستعداد الأوّل حيلة واحتيالا والاستعداد
الثّاني كسبا واعتمالا.
فوزان السّلائق
العقليّة فى إدراك نظم الحقيقة ونثرها. ثمّ الفرق بين أوزان الحقائق المختلفة وزان
السّلائق السّمعيّة الذّهنيّة فى إدراك نظم القول ونثره. ثمّ
التّمييز بين الأوزان المختلفة الشّعريّة وكذلك وزن النّغمات اللّحنيّة ،
ثمّ أوزان الألحان المختلفة ، والتّناسب والتّنافر العقليّان بالنّسبة إلى
المروّين بالرّويّة العقليّة ، كالتّنافر والتّناسب السّمعيّين بالنّسبة إلى
المختلفين بالسّليقة السّمعيّة الذّهنيّة.
وكأنّ غير مئوف
الفطرة من ذوى الطباع البشرىّ لا يستحلّ أن يرجّح الشّيء على مثله من كلّ جهة ، لا
لمرجّح من خارج. فإذا لخصّ مفهوم الممكن استيقن انفساخ إمكان الأولويّة الذّاتيّة
ثمّ يرب فى سببيّة الإمكان للحاجة. ومن التزم ضدّ ذلك فقد سلك سبيل الانسلاخ عن
لوازم الفطرة ، لنقصان فى نفس الغريزة أو لتدنّس بالعقائد الباطلة المتضادّة لجوهر
العقل.
والملتزمون فرق
متشتّتة :
١ ـ فرقة قالت
: إنّ اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ خلق العالم فى وقت بعينه دون سائر الأوقات ، لا
لمرجّح يتخصّص به ذلك الوقت.
٢ ـ وفرقة ظنّت
: أنّه تعالى خصّص الأفعال بأحكام مخصوصة من الوجوب والحظر والحسن والقبح من غير
أن يكون فى طبائع الأفعال ما يقتضي تلك الأحكام ، وأنّ الهارب من السّبع إذا عنّ
له طريقان متساويان من كلّ وجه ممّا يرجع إلى غرضه ، فإنّه يؤثر أحدهما على الآخر
لا لمرجّح. وكذلك المخيّر بين رغيفين متساويين من جملة الوجوه.
٣ ـ وفرقة تقول
: ما يختصّ من الأحكام (١٠١) بأحد المتماثلين دون الآخر لا يعلّل ؛ لأنّه بأىّ شيء
علّل فسد.
٤ ـ وفرقة تقول
: الذّوات متساوية بأسرها فى الذّاتيّة. ثمّ إنّ بعضها دون بعض يختصّ بصفة معيّنة
دون سائر الصّفات.
وهذه شعوب من
المتغلّطين المتسمّين بالمتكلّمين ليسوا يتفطّنون أنّ هناك أسبابا مغيّبة من
أذهاننا ومستّرة عن أبصار بصائرنا ، وأنّ اللاّأولويّة إنّما يصحّ أن تستعمل فى
شيء ، نسبته لذاته إلى الأشياء بالاقتضاء واحدة من كلّ جهة. وأمّا فى عالم
الاتفاقات فإنّما الجهل بالأولويّة ، لا اللاّأولويّة. فالعطشان الّذي عنده مياه
يستوى نسبتها إليه إنّما له أن يحكم باللاّأولوية بحسب ما هو منكشف عليه ،
لا بحسب الأسباب المخصّصة المغيّبة عنه ، وأقلّها الاستعدادات الهيولانيّة والهيئات
المعدّات السّماويّة مثلا.
ولقد كان فى
سالف الدّور فرق
من غاغة
الفلاسفة اليونانيّة قبل قوام فلسفتهم ، كديمقراطيس وتلميذه فلموحوس وأصحابهما
يخرصون فى القول ويقولون بالاتّفاق والبخت ، وأنّ المبادى جملة الأجسام والسّماويّات
فقط ، وهى الأجسام الصّغار الغير المتجزّية لصلابتها كائنة بالاتفاق. وسنعود إلى
إبطاله تارة أخرى من ذى عوض إن شاء اللّه تعالى.
<١٦> شبه وإيضاحات
ربما يقال
لأصحاب القول بالاتفاق ، وما هو إلاّ زور واختلاق ، متشبّثات :
١ ـ منها :
أنّه لو كان للممكن حاجة إلى المؤثّر لكان فيه تأثير ، وإذا كان كذلك كان للمؤثّر
مؤثّريّة ، وهى إمّا أن يكون وصفا ثبوتيّا أو عدميّا ؛ ومن البيّن أنّ تجدّد المؤثّريّة
لا يكون بارتفاع شيء أزلا أو على الطروّ ، بل إنّما بثبوت مفهوم ما. وحينئذ فثبوت
ذلك المفهوم : إمّا أن يكون فى الذّهن فقط ، فيكون الحكم بالمؤثّريّة جهلا غير
مطابق للخارج. وأيضا كون الشّيء مؤثّرا فى غيره صفة لذلك الشّيء ، فكيف يقوم بغيره
، إلاّ أن يقال : الموجود فى الذّهن هو العلم بالمؤثّرية. وإمّا أن يكون فى الخارج
أيضا ، فيكون مؤثّريّة الذّات المؤثّرة زائدة على الذّات قائمة بها ، فيكون من
الممكنات المحتاجة إلى المؤثّر ، فيكون هناك مؤثّريّة أخرى. والنّظر فيها أيضا
كذلك.
ويوضح فساده :
أنّ المؤثّريّة أمر إضافىّ يثبت فى العقل عند تعقّل صدور الأثر عن المؤثّر ، كما
فى سائر الإضافات ، وعدم مطابقتها للخارج بمعنى أنّه ليس هناك شيء بإزائها يقوم
بذات المؤثّر فى الأعيان لا يستوجب كون الحكم بها جهلا ،
__________________
وإنّما يلزم الجهل لو لم يكن لمطابق الحكم ثبوت فى العقل ، على أنّه ثبوت
الشّيء فى نفس الأمر مع عزل النظر عن خصوص لحاظ العقل وليس كذلك ؛ فإنّه ثابت فى
نفس الأمر ، لا من حيث خصوص لحاظ العقل ، وإن كان ذلك الثّبوت فى لحاظ العقل فقط ،
فكون الشّيء فى نفسه بحيث لو عقله عاقل حصل إضافة ما لذلك الشّيء إلى غيره ،
كالمؤثّريّة ، مثلا ، هو صفة الشّيء ؛ لا الّذي يحصل فى العقل ، فإنّه صفة للعقل ومستحيل
الحصول قبل وجود العقل ، كما أنّ الكون فى الزّمان أمر عقلىّ يعرض للمتكوّن مشروط
بوجود الزّمان المتعلق به. ومعنى كون المتكوّن بحيث يصلح أن يعرض له ذلك عند فناء
الزّمان.
٢ ـ ومنها :
أنّ التّأثير فى الأثر حال وجوده ، وهو تحصيل الحاصل ، وحال عدمه، وهو جمع بين
النّقيضين.
وحلّه : أنّه
فرق ما بين أخذ الأثر فى زمان حصوله وأخذه بشرط حصوله. وليس بمستحيل أن يؤثّر
المؤثّر فى الأثر فى زمان حصول الأثر ، بل شأن العلّة مع معلولها على هذا السّبيل
، فإنّها تؤثّر فيه من حيث هو هو ، لا بما هو حاصل ولا بما ليس هو بحاصل.
وبالجملة ،
التّأثير المؤثّر فى حال الحصول حاصل بذلك التّأثير. وذلك تحصيل للحاصل بذلك
التّحصيل ، ولا استحالة فيه. وبعبارة أخرى : إن اريد بحال الحصول معيّة المعلول والعلّة
بحسب المقارنة فى التّحقّق ، اختير أنّ التّأثير فى حال الحصول بذلك التّأثير ؛ وإن
اريد المعيّة العقليّة بحسب المقارنة الذّاتيّة اللّزوميّة ، قيل : التّأثير ليس
فى حال الحصول ولا فى حال اللاّحصول ؛ إذا التأثير فى الذّات من حيث هى ، لا من حيث
هى حاصلة أو ليست بحاصلة ؛ فإنّها من تلك الحيثيّة فى مرتبة حصول العلّة ، وليس
بينها وبين العلّة مقارنة ذاتيّة لزوميّة. وأمّا الذّات الحاصلة أو اللاّحاصلة فهى
متأخّرة عن مرتبة حصول العلّة أو لا حصولها ، وبينها وبين العلّة مقارنة ذاتيّة
لزوميّة فى الحصول بحسب الواقع.
والمسمّون
بالمتكلمين ينصرفون عن الحقّ ويتكلفون مسلكا آخر وعرا. وهو
أنّ المؤثّر مؤثّر فى حال حدوث الأثر ؛ فإنّها ليست بحال الوجود ولا بحال
العدم.
وربما زاد
بعضهم (١٠٢) فى طنبور السّخافة نغمة فقال : ليس يجب مقارنة العلّة والمعلول فى
الحصول. كالصّوت يوجد فى الآن الثّاني ويصدر عن موجده فى الآن الّذي قبله ، فيكون
التّأثير سابقا على الأثر بآن ويقع بالقياس إلى ما يحصل بعده ، سواء كان الأثر
موجودا فى ذلك الآن بتأثير الآخر أو معدوما ويكون الأثر فى آن التّأثير غير موجود وفى
الآن الّذي يصير موجودا لا يكون مقارنا للعدم.
٣ ـ ومنها :
أنّ التّأثير إمّا فى الماهيّة أو فى الوجود أو فى اتّصاف الماهيّة بالوجود.
الأوّل محال ؛
لأنّ كلّ ما بالغير يلزم عدمه عند عدم ذلك الغير. فلو كان السّواد سوادا بالغير لم
يكن السّواد سوادا عند عدم ذلك الغير ، والشّيء يستحيل أن يصير غير نفسه.
فإن ظنّ أنّه
لا يلزم أن يكون السّواد مع كونه سوادا يصير موصوفا بأنّه ليس بسواد ، بل إنّما أن
يعنى السّواد ولا يبقى. قيل : «يعنى السّواد» قضيّة. ولا بدّ من تقرّر موضوعها حال
الحكم ، فيكون الفانى هو السّواد ، ويلزم أن يكون متقررا وغير متقرر.
والثانى يستلزم
أن لا يبقى الوجود وجودا عند فرض عدم ذلك التّأثير ، فيكون الكلام فيه أيضا كذلك.
والثّالث غير
صحيح ؛ لأنّ موصوفيّة الماهيّة بالوجود ليست إلاّ أمرا اعتباريّا لا يستند إلى
المؤثّر. وأيضا ، التّأثير إمّا فى ماهيّة الموصوفيّة أو فى وجودها أو فى موصوفيّة
ماهيّتها بوجودها. ويعود الكلام.
ويزاح : بأنّ
التّأثير فى نفس الماهيّة ويترتّب عليه الموصوفيّة بالوجود ، ولا يكون ، مثلا ،
السّواد سوادا بالغير ، بل إنّما يكون نفس السّواد من الغير. فإذا فرض السّواد وحب
سواديّته بسبب الفرض وجوبا لاحقا مرتّبا على الفرض. ومع ذلك الوجوب يمتنع تأثير
المؤثّر فيه ، فإنّه يكون جعل ما فرض مجعولا.
أمّا قبل فرض
نفس السّواد ـ لست أقول : قبل فرض السّواد سوادا ـ فيمكن أن يجعل الجاعل نفس
السّواد على سبيل الوجوب ويكون ذلك الوجوب سابقا على تقرّره ، وقد ورد الفرق بين
الوجودين فى حكمة الميزان.
فإذن ، هذا
تدليس مغالطىّ من جهة اللّفظ المشترك ، لأنّ الوجوب يدلّ على المعنيين بالشّركة
اللّفظيّة ومن جهة سوء اعتبار الحمل أو وضع ما ليس بعلّة علّة ؛ فإنّ الماهيّة
السّواديّة مغايرة لكون السّواديّة سواديّة. والمدّعى : أنّ السّواديّة ليست بجعل
جاعل. والدّليل على كون السّواديّة سواديّة ليس مجعولا ، وكون نفس السّواد من
الغير ليس علّة لعدم كون السّواد سوادا عند عدم الغير ، بل إنّما هو علّة بطلان
نفس ذات السّواد عند عدم الغير. وإنّما علّة ذلك كون السّواد سوادا من الغير. وليس
كون نفس السّواد من الغير يستلزم كون السّواد سوادا من الغير.
وفيه أيضا
تلبيس سفسطىّ آخر ؛ فإنّا إذا قلنا فى السّواد كان معناه : أنّ السّواد المتقرّر
فى زمان ليس بمتقرر الذّات فى زمان بعده ، ويكون حمل غير المقدّر على المتصوّر
منه، لا على المتقرّر الخارجىّ.
فالحمل والوضع
بالحقّ أنّ المعقولات فى العقل ولا يكونان فى الخارج. وهكذا القول فى حصول الوجود
من الجعل الموجد. وأمّا الموصوفيّة بالوجود فهى وإن كانت أمرا اعتباريّا لكنّها من
الاعتباريّات الحقيقيّة الواقعة فى نفس الأمر. فيجب استنادها إلى علّة وراء اعتبار
العقل هى نفس جاعل الماهيّة. والتّقسيم فيها مغشوش غير عائد.
ألم يكن
عرّفناك من قبل أنّ الموصوفيّة المترتبة على الجعل هى آلة ارتباط الماهيّة والوجود
، ويستحيل أن يلحظ ملتفتا إلى حالها بالقصد ما دامت ملحوظة بما هى رابطة بينهما.
فإن اعتبرت بما هى مفهوم ما لم تكن آلة الارتباط ، بل كانت أمرا معقولا بنفسه
مباين الذّات لها فى التعقّل. وإذن كانت شاكلتها شاكلة جملة الماهيّات من جهة
الاستناد إلى جاعل يجعل نفسها.
٤ ـ ومنها :
أنّ رجحان العدم على الوجود لو كان بمرجّح لكان فيه تأثير. لكنّ
العدم نفي محض يستحيل أن يستند إلى مؤثّر ولا يكون فى العدم تميّز وتعدّد وهويّات
حتّى يجعل البعض علّة والبعض معلولا. فإذن ، العدم لا يستند إلى العلّة. وإذا
استغنى العدم فليستعد الوجود. وهو واضح الفساد بعد ما أسلفنا لك ؛ فإنّ عدم الممكن
المتساوى الطرفين ليس نفيا محضا بحسب لحاظ العقل ، فإنّه وإن كان نفيا صرفا على
معنى أنّه لا حظّ بما هو عدم من الثبوت أصلا ، لكنّه ليس نفيا صرفا على معنى أنّ
مفهومه عند العقل لا يضاف إلى ما يتصف بالوجود ، بل هو عند العقل مضاف إلى ممكن
الوجود ؛ وتساوى الطرفين لا يكون إلاّ فى العقل ، والمرجّح لطرف التّقرّر والوجود
يكون متقررا موجودا فى الخارج.
وأمّا مرجّح
البطلان والعدم فلا يكون إلاّ عقليّا. وبطلان ذات العلّة وعدمها ليس بنفى محض فى
لحاظ العقل وإن كان نفيا محضا بحسب طرف العدم. وذلك يكفى فى التّرجيح العقلىّ. ولامتياز
بطلان العلّة وعدمها عن بطلان المعلول وعدمه فى لحاظ العقل يجوز أن يعلّل هذا بذاك
فى العقل. نعم ليس للعدم صلوح العليّة للوجود.
وأمّا أنّ
العلّيّة مناقضة اللاّعلّية الّتي هى عدم ، فيلزم أن تكون العليّة ثبوتيّة ، فيكون
الموصوف بها شيئا ثبوتيّا ؛ فمزيّف ؛ لأنّ مجرّد صورة السّلب أو الصّدق على
المعدوم جزئيّا ليس يستوجب أن يكون المفهوم الكلّيّ عدميّا بجميع جزئيّاته. وأيضا
نقيض العدمىّ لا يلزم أن يكون وجوديّا بمعنى الثّابت ولا بمعنى ما لا يقع السّلب
فى مفهومه ، بل يجب أن يكون مفهومه سلب ذلك العدمىّ ؛ إذ نقيض الشّيء ليس إلاّ
سلبة (١٠٣). وإنّما اللاّزم أن لا يكون المفهوم هو بعينه سلب نقيضه وإن كان فى نفسه
سلب شيء ما أوّلا ، ولكنّه ليس شيئا موجودا.
<١٧> مخلص
الحاجة حالة
عقليّة للشّيء مستندة فى لحاظ العقل إلى حالة أخرى له عقليّة هى الإمكان استنادا
بحسب نفس الأمر. فالممكن له شأنان ، أحدهما أنّه ليس له فى ذاته اقتضاء طرفى
التّقرّر والبطلان. والثّاني حاجته فى التّقرّر والبطلان إلى الغير
وحاجته إلى الغير معلولة ؛ لكونه فى ذاته غير مقتض للتّقرّر ولا للبطلان ، وبين
الحالتين مباينة من وجهين :
الأوّل : أنّه
إذا حكم على شيء ما بأنّه فى جوهر ذاته محتاج إلى الغير طلب العقل لذلك علّة. فإذا
استند ذلك إلى أنّه فى ذاته ليس ضرورىّ الذّاتيّة ولا ضرورىّ اللاّذاتيّة ، أى:
ليس بذاته ضرورىّ دوام الذّات ولا ضرورىّ بطلانها ، فمنع العقل وانبتّ الطلب وليس
يصحّ العكس.
والثّاني : أنّ
كونه فى ذاته غير ضرورىّ تقرّر الذّات ولا ضرورىّ بطلان الذّات فى نفس الأمر ، هو
اعتبار حالة بما هو هو مع عزل النّظر من غيره تقرّرا وبطلانا. وأمّا تعلّقه بالغير
وتوقّفه عليه فذلك اعتبار شأنه مع الغير. ومن البيّن أنّ اعتبار حال الشّيء بما هو
هو مباين لاعتبار حاله بما أنّه مع غيره. وكذلك بين الاعتبارين فى الوجوب فالواجب
أيضا له شأنان عقليّان : أحدهما كونه بذاته مستحقا لحمل المتقرّر والموجود على نفس
ذاته. والثّاني عدم توقّف ذاته على الغير بجهة من الجهات أصلا. وهذا مستند إلى
الاعتبار الأوّل ومطابق حمل جميع المفهومات الكماليّة على ذاته. ومناط ذلك الحمل
هو نفس ذاته الأحد الواحد الحقّ بنفس ذاته.
<١٨> تأسيسان تفريعيّان
(١) فإذن ، كما
الممكن الحادث فاقر فى حدوث تقرّر ذاته ووجوده إلى الجاعل ، فكذلك الممكن الباقى
مفتقر فى استمرار ذاته ووجوده إليه ، بل التّأثير فى نفس الذّات والوجود ، لا فى
وصفى الحدوث والبقاء يستمرّ باستمراره الذّات وتبطل بانقطاعه بطلانها الّذي لها فى
الآزال والآباد لو لم يصادمه تأثير الجاعل.
(٢) وكما
الممكن الموقّت بوقت خاصّ مجعول الجاعل ، فكذلك الممكن
__________________
الموجود فى جملة الزّمان ـ أى فى كلّ جزء فرض من أجزائه المتمايزة بالقوّة
بحسب الفرض ، لا بالفعل بحسب الوجود ـ مجعول يفتقر إلى أن يكون مستندا إلى الجاعل.
ولو لا الجعل والإبداع لم يكن إلاّ من الذّوات الباطلة الموهومة التّقديريّة. فالإمكان
اسّ الفاقة ومناط الحاجة.
فحيثما كان
كانت الحاجة والفاقة المغلظة من اولى سخافة العقل وحقافة الوهم ، أنكر فى الحقّ وخالقه
المحقّين فى الأسّين تفريعا على استنكار ما قضى به العقل فى قضيّة الإمكان والامتثال
حكم الوهم العامىّ فى تعليق الحاجة على اعتبار الحدوث. فظنّ هؤلاء المستنكرين ساقهم
إلى أنّ تعلّق المجعول المفعول المصنوع الموجد بالجاعل الفاعل الصّانع الموجد
إنّما يكون فى أنّه جعلت ذاته من تلقائه وصنعت من لدنه بعد البطلان واللّيسيّة.
فإذا تجوهرت الذّات ووجدت زالت الحاجة حتى أنّهم لا يتحاشون أن يقال : لو جاز
العدم على الجاعل الصّانع البارى ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ لما ضرّ ذلك العدم
تقرّر العالم ووجوده.
ثمّ تمحّل فرق
منهم لتمويه هذا القول القبيح المستنكر بقبيح آخر مستنكر. وهو
أنّ الأعراض غير باقية ، بل هى متجدّدة دائما إمّا بتعاقب الأمثال وإمّا بتوارد
الوجودات على ما عدم بعينه ، والجواهر مستحيلة الخلوّ عن الأعراض المتعاقبة الغير
الباقية محتاجة الذّوات إلى أن يوجد الفاعل تلك الأعراض فيها ، كالعرض المسمّى
بالبقاء عند من تنبّه منهم ، أو غيره من سائر الأكوان والأعراض عند غيره ، فلم
يلزم زوال الحاجة بعد الحدوث.
وربما كان فيهم
من هو أشدّ اختلاجا
عن العقل وأبلغ اعوجاجا فى الوهم ، فالتزم تبدّل الذّات آنا فآنا فى الجواهر أيضا.
ومن يدّعى منهم أنّه من أبناء التّمييز ومن أهل استحقاق
المخاطبة يذكر أنّه حملنا على هذه الأقوال الخسيسة والظنون
__________________
القبيحة شيئان : أحدهما مشاهدة بقاء الأثر كالبناء ، بعد فناء المؤثّر ،
كالبنّاء. وكذلك يبقى المنىّ فى القرار ويفنى الإنسان الممنى. والثّاني الاستدلال
تارة بأن جعل المجعول وإيجاد الموجود تحصيل بالحاصل ، وأخرى بأنّ المجعول الموجود
لو كان بعد حدوث التقرّر والوجود باقيا على الافتقار والجاعل الموجد كان الافتقار
فى أصل التقرّر والوجود.
فإذن ، كان كلّ
الواقع فى التّقرّر والوجود مفتقرا حتّى فاعل الكلّ ـ تعالى عنه ـ فكان قد يتسلسل
الأمر. ونحن نأخذ أوّلا فى إحقاق الحقّ ، ثمّ نكر فنهجّن هذه الظنون الباطلة
الخسيسة ، ونحذّ هذه الشّكوك السّاقطة السّخيفة.
<١٩> سياقة استحصافيّة يمانيّة
اعلم أنّه إذا
كان شيء ما من الأشياء باطل الذّات ، ثم إذا هو متقرّر بعد البطلان بسبب شيء ما ؛
فإنّ الّذي هو بالذّات من السّبب الفاعل إنّما هو نفس هذه الذّات المتقررة ؛ فإنّ
هذه الذّات إنّما تجوهرت ، لأنّ ذلك الفاعل كان على جهة وجب عنه بتلك الجهة أن
يكون عن ذاته ذات ما هى غير ذاته. وأمّا أنّها كانت باطلة فليس من تلقاء هذا
الفاعل ، بل إنّما ينسب البطلان إلى عدم علّة التّجوهر. فهناك ذات وبطلان وصفة
محمولة على تلك الذّات ، وهى كون الذّات بعد البطلان.
فالبطلان من
عدم العلّة والذّات من تلقاء الجاعل ، وكون الذّات بعد البطلان إنّما هو من قبل
جوهر الذّات وليس يفعله فى الذّات فاعل ؛ فإنّ سبق البطلان ليس يتعلق بالفاعل
تعلّق الذّات المفعولة به حتّى تكون هذه الذّات موصوفة بانّها من بعد البطلان
بفاعل يفعل تلك الموصوفيّة. وذلك لأنّ الذّات (١٠٤) حيث إنّها ذات جائزة غير واجبة
ولا بطلانها واجب ، كانت هى من جاعل لا محالة.
وأمّا كون هذه
الذّات مسبوقة بالبطلان فحيث إنّه ليس وصفا جائزا بالنظر إلى الذّات ، بل هو وصف
واجب لها ، إذ يمتنع أن يكون هذه الذّات هذه ، وليس يسبقها البطلان ، امتنع أن
يكون هو للذّات بفعل فاعل ، بل إنّما هو للذّات من جوهرها.
فإن ظننت أنّه
من الأوصاف الجائزة. قيل لك : أهذه الذّات بما هى جائزة غير ضروريّة ، فلا مدخل
لسبق البطلان ، بل هى فى نفسها غير ضروريّة وليست لا ضرورتها من حيث هى بعد
البطلان. نعم إنّما اتّفق من جهة خصوصيّة الذّات أن يسبقها البطلان ، وهى فى نفسها
غير ضروريّة ، أو إنّ جوازها بما هى بعد البطلان. وحينئذ يكون لم تأب فى نفسها أن لا يسبقها البطلان ولا يكون من شرطها أن
تصدر عن غيره من بعد البطلان ، فيكون تعلّقها بذلك الغير من حيث إنّها فى نفسها
ذات جائزة غير واجبة. فيلزم أن يتعلق به دائما ما دامت هذه الذّات .
فإذن ليس
للفاعل صنع فى هذا الوصف ، بل صنع الفاعل نفس الذّات. ثمّ هى بنفسها موصوفة بهذا
الوصف ، كما الجسم فى ذاته متعلق بالعلّة ، ثمّ هو بنفسه موصوف بلزوم الانقطاع ،
أعنى بذلك مطلق التّناهى ، لا تعيّن امتدادات بخصوصيّاتها ؛ فإنّ ذلك يكون بأسباب
خارجة عن طبيعة الجسم بما هو جسم.
فإذن ، تعلّق
الذّات بالفاعل من حيث هى ذات غير واجبة ، لا من حيث هى ذات مسبوقة بالبطلان ، أى
من حيث هى حادثة. فلا إمكان لذات بعد البطلان من حيث هى بعد البطلان ، وإنّما
الإمكان بالذّات بما هى ذات فحسب. وإن كانت هى بعد البطلان باقتضاء هويّتها فظاهر
أنّه لا امتناع لها أيضا من تلك الحيثيّة ، إذ هى معروضة التقرّر بتلك الحيثيّة.
فإذن ، يكون لها وجوب تلك الحيثيّة باقتضاء خصوصيّة الذّات المتقرّرة.
فحقّ أنّ ذات
الحادث جائزة القوام والبطلان وإن كان عرض لها بحسب اقتضاء هويّتها من جهة أخرى أن
ليس يصحّ تقرّرها وقوامها إلاّ بعد البطلان ؛
__________________
وليس بحقّ أنّ ذاتها
بذاتها جائزة التّقرّر بعد البطلان ، والتّقرّر لا بعد البطلان ، بل على وصف
الدّوام ؛ فإنّ التقرّر لا بعد البطلان ممتنع بالنظر إلى استحقاق جوهرها. وهذا
مقارن فى أنحاء الحدوث جميعا.
فالحادث الذّاتىّ
بما هو حادث ذاتىّ ، سنخ ذاته مستفاد من الفاعل ، لا يسبق البطلان على ذاته سبقا
بالذّات ، إذ لا تأثير للفاعل فى بطلان ذاته السّابق عليها سبقا بالذات ؛ لكن عرض
أن كان له بطلان من نفسه فى لحاظ العقل ليس هو من تلقاء الفاعل.
وكذلك الحادث
الدّهرىّ بما هو حادث دهرىّ وإن لم يكن حادثا زمانيّا
كالأنوار
العقليّة المفارقة ، نفس ذاته من تلقاء الفاعل فى وعاء الدّهر ، لا يسبق البطلان
على ذاته فى الأعيان سبقا دهريّا ؛ إذ ليس ذلك من تلقاء الفاعل ، لكن عرض له من
نفسه أن كان بطلان ذاته فى الأعيان قبل تقرّرها قبليّة دهريّة ، كما له أيضا فى
لحاظ العقل بطلان الذّات قبل التّقرّر قبليّة بالذّات. والحادث الزّمانىّ أيضا
جوهر ذاته من تلقاء الفاعل ولكن فى زمان بعينه.
وليس بطلان
ذاته فى الأزمنة السّابقة من اقتضاء الفاعل ، بل عرض له من نفس هويّته أن لم يكن
ذاته مستحقّ التقرّر على الإطلاق بالقياس إلى سائر الأزمنة ، بل إنّما استحقّت
التقرّر بعد البطلان فى الأزمنة الخالية ، كما له من قبل من جوهره أنّ البطلان سبق
ذاته فى الأعيان سبقا دهريّا. وهو أيضا سابق على ذاته أبدا فى لحاظ العقل سبقا
بالذّات.
وبالجملة ، لا
يصحّ أن يقال : إنّ شيئا ما جعل ذات الشيء بحيث لا يتجوهر إلاّ بعد البطلان ، فهذا
غير مقدور عليه ، بل إنّ كلّ ما هو مقدور عليه فإنّه واجب بالضّرورة الذّاتيّة
البتّيّة أن يكون تقرّره بعد بطلان الذّات بعديّة بالذّات فى لحاظ العقل ، وبعديّة
دهريّة فى الواقع بحسب وعاء الدّهر.
__________________
ثمّ بعض ما هو
مقدور عليه واجب ضرورة بتيّة أن لا يكون تقرّره بعد بطلان الذّات بعديّة زمانيّة ،
وبعضه واجب ضرورة بتيّة أن لا يتقرّر إلاّ بعد بطلان الذّات بعديّة زمانيّة.
وعامّة
الفلاسفة اليونانيّة والإسلاميّة المتهوّسة بإثبات القدم للطبائع المعلولة
المفطورة يزيغون عن حقّ الفحص ويغضّون من أبصار عقولهم فى إدراك هذه الحقيقة.
فإذن ، قد
استبان لك أنّ تأثير الفاعل الجاعل ، معناه إفادة نفس الذّات بما هى هى. فإذا
استمرّ هذا التّأثير استمرّت الذّات ، وإذا انبتّ بطلت الذّات بطلانها الّذي هو
شأنها من نفسها فى الآزال والآباد إذا لم يفعلها فيض الجاعل.
وتأثير الجاعل
ـ سواء كان فى الذّات الحادثة أو الذّات المستمرّة ـ إنّما هو فى نفس الذّات
الموصوفة بالحدوث أو الاستمرار بما هى الذّات ، لا فى قيدى الحدوث (١٠٥) والاستمرار
فى الذّات بما هى موصوفة بالحدوث والاستمرار. والذّات بما هى الذّات مستحقّة لأن
يكون لها جاعل يجعلها ويذوّتها ويشيّئها ، وإن استمرّت وتعيّنت ذاتيّتها وشيئيّتها
، فإنّما يكون ذلك باستمرار الجعل والتّذويت ، والتشييء من تلقاء الجاعل.
والقول فى
الوجود والأيسيّة أيضا على هذا السّبيل. فالوجود بما هو أيس ووجود من الجاعل
الموجد ، واستمراره باستمرار التّأييس والإيجاد ؛ والتّذويت واستمرار التّذويت
يستتبعان التّأييس واستمرار التّأييس ؛ والذّات واستمرار الذّات يستتبعان الأيس واستمرار
الأيس.
وليس يتصوّر
ثبات الذّات والأيس مستغنيا عن ثبات التّذويت والتّأييس. ولئن تصوّر كان مستغنيا
عن سبب جاعل مذوّت مؤيّس. وليس ذلك إلاّ شأن واجب التّقرّر والوجود بالذّات. فإذن
، ليس استمرار التّذوّت والتّأيّس مفنى الذّات الفاقرة وخارق طباع الإمكان المفقر.
ولو كانت
الحوادث الزّمانيّة تامّة القوّة فى سنخ ذاتها وفى اسّ جوهرها وعلى
جواز التّذوّت والتّجوهر والتّأيّس دائما دواما زمانيّا ، أى فى جميع
الأزمنة ، وإن كانت باطلة الذّوات فى الأعيان أولا فى وعاء الدّهر وفى أنفسها أبدا
فى لحاظ العقل ، لكان جاعلها ومذوتها ومؤيّسها قد جعلها وذوّتها وأيّسها ، لكنّها
ليست تستحقّ التّذوّت والتّأيّس ما لم يتمّ استعداد موادّها لها. بتغيّرات تعرضها
شيئا بعد شيء ما. ثمّ تمّت قوّتها على استحقاق التّذوّت والتّأيّس ، فجاد الجاعل
الجواد الحقّ بالتّذويت والتّأييس.
ثمّ لو هو شيء
مع المستنكرين ، وقيل : علّة التّعلّق بالجاعل كون المجعول مسبوقا بالبطلان ، على
ما ظنّوه ، فهذا المعنى لا تنسلخ عنه الذّات ما دامت فى عالم التّقرّر ، فلم
أنكروا تعلّقها بالجاعل ما دامت متقرّرة.
<٢٠> تنبيه تلخيصيّ
فإذ قد دريت
أنّ الذّات المستفادة من الغير ؛ فإنّ كونها متعلّقة بالغير مقوّم لها ، كما أنّ
الاستغناء عن الغير مقوّم لواجب الذّات والوجود بذاته ، والمقوّم للشّيء لا يجوز
أن يفارقه. فالذّات إمّا من تلقاء الغير فتكون حاجته إلى الغير مقوّمة له ، وإمّا
لا من لا تلقاء شيء فيكون استغناؤه عن كلّ شيء مقوّما له. وأعنى بالمقوّم هاهنا ما
بحسب نفس ذات الشّيء ، فلا يصحّ أن يستمرّ الذّات المحتاجة غير محتاجة. كما أنّه
لا يجوز أن يتسرمد المستغنى عن كلّ شيء محتاجا ، وإلاّ فقد تبدّلت الذّات والحقائق.
فإذن ، الذّات
كما تستند إلى جاعل يذوتها ، أى : يفعل نفسها حين الحدوث فكذلك تستند إليه فى
الحين المتأخّر ، وفى الحين الأوّل أصل التقرّر وفى الثانى بقاؤه. فهى فى ابتداء
تقرّرها وفى استمرارها تتعلّق بالجاعل الّذي يفعلها ويذوّتها. وحاجتها إليه فى
فيضانها وبقائها أخيرا كحاجتها إليه فى بدئها أوّلا.
فلو فرض انصرام
فيضان نور الفيض من الجاعل الصّانع على عالم التّقرّر فى آن ، لم تبق ذات ذاتا ولا
أيس أيسا ولا العالم عالما.
ويعينك على
تعقّل ذلك اعتبارك بما استضاء بمقابلة الشّمس ؛ فإنّه كلّما حجب عنها زال ضوؤه.
فنفس الذّات هنا بمثابة الضّوء الواقع على الشّيء المستضيء هناك. لكنّ النّور
الحقّ القائم بذاته لا يجوز أن يقاس بغيره ؛ إذ الأنوار المفارقة العقليّة ظلمة
صرفة صريحة بالقياس إليه ، كالسّواد الحقّ بالنّسبة إلى البياض الصّرف إذا كان غير
متناهى البياضيّة فضلا عن النّور الحسّىّ القائم بجرم الشّمس.
فإذن ، إفاضة
المفيض الحقّ نفس الذّات المتقرّرة وأيسها مستمرّة متّصلة آنا فآنا ، بحيث لو أمسك
عنها آنا رجعت الذّات إلى بطلانها الأزلىّ.
فسبحان الّذي
يفعل الذّات ويفيض الوجود ويذوّت المفهوم والماهيّة التّقديريّة ذاتا حقيقيّة ،
ثمّ يمسك الذّات ذاتا والوجود وجودا والاتّصاف اتّصافا بقوّته الّتي تمسك السّماء
أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه ، وتمسك السّماوات والأرض أن تزولا. وَلَئِنْ
زٰالَتٰا إِنْ أَمْسَكَهُمٰا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ (فاطر/ ٣٥).
وكنّا قد
نبّهناك من قبل : أنّ اتّصال الإفاضة آنا فآنا ، إنّما نعنى به : أنّه ـ عزّ مجده
ـ يفعل الذّات مرّة واحدة فى الزّمان الشّخصىّ الّذي هو وعاء تقرّرها. فإذا حلّله
العقل إلى أزمنة واحد منها آنات صارت تلك الإفاضة الواحدة بعينها مستمرّة فى جميع
تلك الأحيان مختلفة بحسب النّسبة إليها. فإذن ، هى بما هى بالنّسبة إليه واحدة وبحسب
أفق الزّمان عند التّحليل مستمرّة الذّوات متكثّرة الإضافات إلى الأحيان المتكثّرة
عند الوهم.
<٢١> تمويه سفسطيّ وتفضيح فحصيّ
من الغاغة من
خاف لومة العقلاء اللاّئمين بقوّة ظنّه الخسيس بأنّ بقاء الذّات مع بطلان العلّة
ليس يستوجب استغناء الطباع الفاقر (١٠٦) ، إذ الممكن وإن لم يستغن عن العلّة حال
كونه باقيا إلاّ أنّ تلك العلّة لا يجب أن تكون معه فى زمان واحد ، لجواز أن يكون
حال بقائه معلّلا بعلّة كانت قبل ، وهى باطلة فى الحال ، فتكون هى أو كانت أوجبت
المعلول بعد انفصالها إمّا بذاتها وإمّا بأن أعطته قوّة يبقى بها ، كما فى
القاسر بالقياس إلى طبيعة المقسور فى الحركة القسريّة. فإذن ، هى فى
الزّمان الأوّل رجّحت المعلول فى الزّمان الثانى.
ويفضّحه : ما
قد كنّا أوضحنا لك أنّ تأثير العلّة فى المعلول إنّما يكون حال تقرّر المعلول بذلك
التّأثير. وذلك لأنّ اتّصافها بالمؤثريّة ليس يجوز أن يكون حال بطلانها ، فالباطل
كيف يكون علّة مستقلّة للمتقرّر ، وهل استحالته إلاّ من أوائل الفطريّات ، ولا أن
يكون حال تقرّرها. فتأثيرها فى المعلول حينئذ إمّا حال بطلانه فى نفس الأمر ،
فيلزم الجمع بين تقرّر الشيء الواحد وبطلانه ، أو ، لا حال تقرّره ولا حال بطلانه ، فيلزم الواسطة
فى نفس الأمر ، أو حال تقرّره بنفس ذلك التأثير ، وهو المتعيّن بالتّصديق ، فيجتمع
تقرر العلّة وتقرّر المعلول ، فيلزم خرق الفرض. فإذن ، هذا التّجويز مثار الفساد ،
وليس يتصوّر إلاّ تأثير العلّة المتقرّرة فى المعلول المتقرّر حين ما هو متقرّر
بذلك التأثير.
ثمّ قد تحقّقت
أنّ التّأثير ، سواء كان فى الذّات الحادثة أو المستمرّة ، إنّما هو فى نفس الذّات
، والوصف مطلقا لازم الذّات ، خارج عمّا فيه التّأثير. أمّا وصف الحدوث فلازم جوهر
الذّات بما هى الذّات ، وأمّا وصف البقاء فلازم ملحق الذّات من جهة استمرار
التّأثير فى نفس الذّات. فالتّأثير الاستمرارىّ فى نفس الذّات يستتبع وصف البقاء ،
لا أنّه يدخل فيما فيه التّأثير الاستمراريّ.
فإذن ، كيف
يعقل أن يؤثّر العلّة المتقرّرة فى الزّمان الأوّل فقط فى تقرّر المعلول فى زمان
ثان هى باطلة الذّات فيه ؛ والإضافة إلى الزّمان الأوّل تبطل ببطلان ذلك الزّمان ،
فيبطل ببطلانها الترجيح المفروض بحسبها. والباطل لا يرجّح البتّة.
وأمّا توهّم
إعطاء القوّة ففاسد ؛ لأنّ تلك القوّة لها أيضا طبيعة إمكانيّة ، فتكون مفتقرة إلى
علّة موجبة. والكلام فى بقائها مع بطلان علّتها الموجبة كالكلام فيما عرضت له. ومن
قاس العلّة الموجبة بما يجرى مجرى المعدّات فليس طباعه على سنّة البشريّة وشاكلة
الإنسانيّة.
__________________
<٢٢> بسط
فقد تبيّن أنّ
الفاعل ليس هو فاعل الحدوث ، بل هو فاعل الذّات والوجود ؛ وسبق البطلان صفة
للمجعول ذاتيّة. والذّاتىّ لا سبب له ولا يفارق ما هو ذاتىّ له. فلو أراد الفاعل
أن يفعل الحادث الزّمانىّ من غير سبق البطلان لما تصوّر ذلك ، فضلا عن أن يتصوّر
تحقّقه ، على أنّه لو أمكن أن يفعله من غير سبق البطلان لتمّ ما ريم بيانه ؛ وهو
انتساب ما ليس بحادث زمانىّ إلى الفاعل.
فإن لجّ لاجّ وقال
: طباع الجعل أن لا يكون إلاّ بعد سبق البطلان ، وقد سبق أنّ سبق البطلان ليس من
الجاعل ؛ بل الذّات الّتي منه فى آن ما ، فليكن ذلك الآن متصلا سيّالا فى جملة
الزّمان.
فإن أزاغه عن
هذا قوله : «إنّ المجعول لا يجعله جاعل» ، فليعلم أنّ المغالطة وقعت فى لفظ «يجعله»
، فإن عنى : أنّ المجعول لا يستأنف له تقرّر مبتدأ فصحيح. وكيف يقال : إنّ المجعول
قد استونف له مجعوليّة ، وإن عنى أنّه بما هو هو لا يكون حين المجعوليّة بحيث
ماهيّته لا يقتضي التقرّر ، بل شيء آخر هو الّذي منه هذه الذّات المتقرّرة ، فهو
ما فيه الخطأ : فإنّه : إمّا أن يجعله الجاعل فى البطلان أو فى حال التّذوّت أو فى
الحالين جميعا. ومعلوم أنّه فى حال البطلان ليس مجعولا. ويبطل أيضا بهذا أن يكون
مجعولا فى الحالين جميعا. فيبقى أنّه يجعله حين إذ هو مجعول بذلك الجعل ، فيكون المجعول
يوصف بأنّه مجعول شيء. وعسى أنّ لفظ «يجعل» يوهم جعلا مستقلاّ ليس فى الحال.
فإن أزيل هذا
الإيهام ، صحّ أنّ المجعول يجعل ، أى يوصف : بأنّه مجعول. فكما يقال: إنّه فى حال
ما هو مجعول يوصف بالمجعوليّة ، ولا نعنى ب «يوصف» : أنّه فى الاستقبال يوصف ،
كذلك لفظة «يجعل». فلسنا نقول : المجعول يستأنف بجعل آخر ، بل إنّه محتاج إلى
مستبق ومستحفظ هو جاعله بنفس ذلك الجعل.
ثمّ كما استوقن
ذلك فى جانب المجعول فليستيقن فى جانب الجاعل ، وليحصل أنّه ليس من شرط الجاعل بما
هو جاعل أن يكون جعله ذات مجعولة مبتدأة فى زمان ما بعد اللاّجعل فى زمان منقض
متقدّم ، بل كلّما كان التّأثير أقدم زمانا وأبقى استمرارا كان الفاعل أفعل وأدوم
فعلا.
فكما بيّن أنّ
المجعوليّة شيء وصيرورة المجعوليّة شيئا ابتداء ، فى زمان ما بعد زمان سابق شيء
آخر ، وليست المجعوليّة تستلزم ذلك ، بل ربما استوعبت جميع الأزمنة ؛ فكذلك
الجاعليّة ، أعنى : تذويت الذّات وإفادة الوجود شيء ، وصيرورة الجاعل جاعلا ، أى
ابتداءه بالجعل فى زمان ما بعد أزمنة منقضية شيء آخر. وليس من حقّ الجعل ذلك ، بل
ربما كان هو إفادة الذّات والوجود فى جميع الأزمنة. وكما الذّات غير حدوث الذّات
فكذلك الجعل غير ابتداء الجعل. (١٠٧)
وكلّ ذات هى من
الغير فإنّ ذلك الغير جاعلها ، سواء كان فى زمان ما أو فى جملة امتداد الزّمان.
فمفهوم الوجوب بالغير بما هو وجوب بالغير لا يمنع الدّوام الزّمانىّ ولا اللاّدوام
الزّمانىّ ، بل الواجب بالغير فى جملة الزّمان أحقّ بالوجوب بالغير والتّعلّق به
من الواجب بالغير على التّوقيت بشرط خاصّ من الزّمان.
وعند الجمهور
من المتشبّهين بأهل النّظر أنّ العلّيّة هى أوّل صيرورة العلّة علّة ، والعلّة هى
ما يصير علّة بعد أن لم يكن علّة ، بعديّة زمانيّة. فهم يعتبرون بالإحداث
الزّمانىّ فى مفهوم الفعل. والفعل عند الفلاسفة المتهوّسين بقدم المعلولات أعمّ من
الإحداث والإبداع ، وبالجملة من جميع ضروب التّأثير ؛
وعند من يحمل
عرش نضج الحكمة ، وهو مقنّن الحكمة الحقّة اليمانيّة : الجعل ـ وهو الفعل ـ أعمّ
من الإحداث الزّمانىّ والإبداع ، وهو يساوق الإحداث الدّهرىّ ؛ إذ كلّ مجعول ومفعول فهو حادث دهرىّ ، كما أنّه حادث
ذاتىّ وإن لم يكن هو معتبرا فى أصل مفهومه. وليس وصف الحدوث الدّهرىّ من تلقاء
الجاعل ، بل هو
__________________
من تلقاء ذوات المجعولات فهى من تلقاء الجاعل. ثمّ هى بأنفسها موصوفة
بالحدوث الدّهرىّ، كما فى الحدوث الذّاتىّ والحدوث الزّمانىّ.
<٢٣> توفية
إنّك قد ميّزت
بين ما يدخل فى مفهوم المجعول والمفعول والمصنوع بالذّات وبين ما يقع فى ذلك
المفهوم بالعرض ؛ فينبغى أن تجتهد فتحذف عن الفعل كلّ ما يزاد ممّا لا مدخل له فى
جوهر المفهوم. وإنّما يجب أن يصدّق به فى مادّة مادّة بأنظار فحصيّة ، بعد العلم
بتحقّق أصل مفهوم ، ككون الفعل بعد بطلان المفعول بعديّة بالزّمان ، أو أنّ الفاعل
فعل بحركة أو بغير حركة بمباشرة أو لا بمباشرة ، وبآلة أو لا بآلة ، وبطبع أو
بتولّد أو بقصد اختيارىّ ، وبإرادة زائدة على ذات الفاعل أو بإرادة هى عين ذات
الفاعل. فكلّ ذلك خارج عن حدّ مفهوم اللّفظ.
فلو أورد شيء
من ذلك لم ينقض كون الفعل فعلا أو يتضمّن تكريرا فى المفهوم. أمّا النّقض فلو كان
مفهوم الفعل يمنع شيئا من تلك الامور. وأمّا التّكرير فلو كان يدخل فيه شيء منها ،
فإذن لا يعلم شيء من هذه الامور إلاّ بالنّظر فيما هو وراء مفهوم اللفظ. ومن
استوفى مناولة لغة العرب صادف استعمالات للفظة الفعل فى كلّ من هذه الأصناف. على
أنّ تفرط النّظر العقلىّ بالبحث عن الأوضاع اللغويّة ليس من سنن الحكماء
المتألهين.
وأيضا ، كلّ من
اصطلح على ما شاء فلا مشاحّة فيه ، ولا سيّما إذا لم يوجب استضرارا فى الأغراض
العلميّة ، وقد استقصينا تداولات أئمّة اللّسان ، فربّما وجدنا الفعل كأنّه أوّل
على ذلك المعنى المرسل أو المجرّد. وكلّ من الإيجاد والصّنع كأنّه أشمل لاعتبار
شيء آخر. ثمّ إنّ ما حمل أبناء دعوى التّمييز منهم على هذه الظنون المستهجنة لمن
سواقط الأوهام المغالطيّة.
أمّا حديث
البناء والبنّاء والمنىّ والممنى وسائر ما من ذلك السّبيل فمن باب الأغلاط من جهة
أخذ ما بالعرض مكان ما بالذّات. والّتي تظنّ عللا فهى ليست عللا
بالحقيقة. وسيأتيك جليّة : أنّ علّة كلّ جسم أمر عقلىّ بالضّرورة.
فالبنّاء ليس
هو علّة للبيت ، بل هو سبب لتحريك أجزاء البيت إلى أوضاع مختلفة تحصل منها صورة
البيت ، وانتهاء تلك الحركة علّة لاجتماع تلك الأجزاء ، والاجتماع علّة لشكل ما ، وحافظ
تلك الأجزاء على ذلك الشّكل طبائعها الّتي تحفظ بها تلك الأجزاء أمكنتها. وأيضا ،
الموانع الّتي تمنع الأجزاء عن الحركة إلى أماكنها الطبيعيّة ، كالأعمدة والأساطين
والحيطان الممسكة للسّقوف.
فإذن ، كلّ
علّة مع معلولها ؛ لأنّ البنّاء علّة للحركة. فإذا فقد البنّاء من حيث هو بنّاء ومحرّك
فقدت الحركة ، وفقدان الحركة نفس انتهائها ، وانتهاؤها علّة لاجتماع الأجزاء ، واجتماعها
على وضع ما علّة لأن يحفظ طائفة من الأجزاء أماكنها الطبيعيّة ، وطائفة تكفّ عن
طائفة الزّوال عن أماكنها الاتفاقيّة ، كاللّبن الأوّل فى مكانه الطبيعىّ ، فإنّه
يمنع اللّبن الآخر أن يزول عن موضعه الّذي قد اتفق فيه. فإذن ، يتعاون الكلّ على
الثّبات ، والبنّاء علّة بالعرض.
وكذلك الأب
الممنى علّة بالعرض للابن ؛ إذ هو علّة لتحريك المنىّ إلى القرار ، ثمّ يتحفّظ فى
القرار بطبعه أو بمانع يمنعه عن السّيلان ، وهو انضمام فم الرّحم ، ثمّ قبوله
للصّورة الإنسانيّة لذاته. وأمّا مفيد الصّوره فهو واهب الصّور.
وكذلك النّار
علّة بالعرض لتسخين عنصر ما ، كالماء ، فإنّها ليست تفيد السّخونة ، بل إنّها تبطل
البرودة الّتي كانت مانعة من حصول السّخونة فى الماء من تلقاء واهب الصّور ، ثمّ
حدوث السّخونة واستحالة الماء إلى النّار فبالعلّة الّتي تكسر العناصر صورها. وأمّا
العلل السّابقة فهى معدّات ومعينات على القبول ، وبالجملة علل بالعرض.
ثمّ إنّه ليتلى
عليك من ذى عوض ـ إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ جاعل الكلّ إبداعا وإحداثا وحفظا وإبقاء
هو القيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى كبرياؤه ـ وما سواه لا يحلّ أن يعدّ إلاّ من
الشّروط والمعدّات والمصحّحات للمجعوليّة. فإذن قد جبّ عرق الغلط من اسّ منبته فى
سائر الموادّ على الإطلاق.
وأمّا قولهم : «تأثير الجاعل فى المجعول
الباقى (١٠٨) : إمّا بأن يكون الأثر فى البقاء نفس الذّات المجعولة والوجود المفاد
، فيلزم تحصيل الحاصل وجعل المجعول ، أو أمرا جديدا ، فيكون التّأثير فى ذلك الأمر
الجديد ، لا فى الذّات الباقية» ؛ فلقد كرّر عليك اسلوب فساده. فالأثر نفس الذّات والوجود
بنفس الجعل الواحد المستمرّ وتحصيل الحاصل بنفس التّحصيل الأوّل ، لا استحالته فيه
، بل هو من الامور الثّابتة بالضّرورة البيّنة.
فإن لوحظت وحدة
الذّات المجعولة المستمرّة فى الأزمنة المتكثّرة فى الوهم كان الجعل أيضا واحدا
مستمرّ الاتصال ؛ وإن لوحظت كثرة ما فى الذّات المجعولة إضافيّة بحسب الإضافة إلى
تلك الأزمنة يكون تكثّر الإضافات إلى تلك الأزمنة قد لحق ذلك الجعل الواحد أيضا. وهناك
أيضا أثر جديد وراء نفس الذّات والوجود ، وهو البقاء ؛ فإنّ الجاعل بعد الإحداث
يحفظ الذّات ويديمها بإدامة الجعل ، فيفيد الذّات بتلك الإدامة معنى ما هو البقاء
، وهو يعرض الذّات المدامة بدوام الجعل ، وهو المعنىّ بإبقاء الذّات وإدامتها. وعروض
ذلك المعنى للذّات يتبع بإدامة الذّات ، أى دوام الجعل ، ولا تنسلخ عنه الذّات ما
دامت مستفادة مستحفظة.
وأمّا أنّه إذا
كان المتعلق بالجاعل نفس الذّات والوجود ، لا من جهة المسبوقيّة بالبطلان ، يسرى
ذلك إلى الفاعل ، بل إلى جاعل الكلّ ـ تعالى عن ذلك ـ فظلم واضح ، أليس مناط
التّعلّق بالجاعل كون الذّات غير ضروريّة التّقرّر نفسها ، وكون الوجود وجود
الماهيّة ، لا وجود نفسه.
<٢٤> مشاجرات وحكومة
الفلاسفة
المتهوّسون بقدم المعلولات لمّا تعطّلت عقولهم عن مسلوك السّلوك الرّوعىّ إلى
تعرّف معنى الحدوث الدّهرىّ وتميّزه عن الحدوث الزّمانىّ جعلوا
__________________
طائفة من المعلولات وأئمّة الذّوات فى الأعيان وإن كانت حوادث ذاتيّة فى
لحاظ العقل ، وحكموا باستنادها إلى جاعل الكلّ ـ عزّ مجده ـ استنادا أزليّا أبديّا
.
والمتكلمون حيث
كانوا أحطّ درجة فى إدراك المعقول وأخسّ نصابا من تعرّف الحقيقة وأشدّ بعادا عن
سبل عالم الملكوت جعلوا الأنوار الحادقة أيضا زمانيّات ، وحدوثها حدوثا زمانيّا ، وقاطبة
ذوات الممكنات متّصفات بالحدوث الزّمانىّ وأصرّوا فى استنكار استناد الشّيء الدّائم
دواما زمانيّا إلى علّة.
ثمّ من فضائح
جهالات فئة منهم ، تلقّب بالأشعريّة ، إثباتهم مع القيّوم الواجب بالذّات قدماء
ثمانية سمّوها صفات المبدأ الأوّل ـ جلّ ذكره ـ فهم بين أن يجعلوا الواجب لذاته
تسعة وبين أن يجعلوها معلولات لذات واجبة هى علّتها. وهذا شيء إن احترزوا عن
التّصريح به لفظا فلا محيص لهم من ذلك معنى ، فيكشف أنّهم كاذبون فى دعواهم
التّواطؤ على نفى العليّة والمعلوليّة لو اتفق أن كان المعلول أزليّا.
ومعلّم الحكمة
اليمانيّة ـ إذ حاول أن يحمل عرش نضج الحكمة فهداه ربّه سواء السّبيل وأراه رواء
التّحصيل وجعله من الأمّة الوسط الحاكمة بقسطاس التّعديل ومن الّذين هم قادة القول
إلى شرعة صقع الحقّ وطرفة عالم القدس بإراءة الطريق وإقامة الدّليل ـ تعرّف وعرّف
أنّ الطبائع الإمكانيّة والهويّات الجوازيّة بأسرها حوادث ذاتيّة وحوادث دهريّة.
فطائفة منها مقتصرة على الحدوثين وطائفة أخرى صارت مع ذلك حوادث زمانيّة أيضا. والجميع
مخلوقات البارى الفاطر ومفطوراته ، جلّ ذكره.
فإذن ،
الفلاسفة إنّما حادوا عن الحقّ وانصرفوا عن حقيقة الحكمة إلى شبح الفلسفة فى جعلهم
الطبائع المعلوليّة والحقائق الجوازيّة دائمة الذّوات فى الأعيان ، غير مسبوقة
بالبطلان فى الخارج أصلا ، لا فى إسنادهم المستوعبات بجميع الأزمنة ـ وهى الذّوات
الزّمانيّة الموصوفات بالدّوام الزّمانىّ ـ إلى تأثير الجاعل السّرمديّ ، تعالى
مجده.
__________________
والمتكلّمون
إنّما استشمّوا رائحة الحقّ فى إثبات سبق البطلان على ذوات المعلولات قاطبة ، لا
فى تحصيل أنّ ذكر السّبق من أىّ الأنواع ، ولا فى قصرهم الإمكان على الحقائق
الزّمانيّة ولا فى نفيهم معلوليّة ما لا يكون حادثا زمانيّا ، ومنعهم إسناد
الدّائم بالدّوام الزّمانىّ الّذي ليس هو دواما فى وعاء الدّهر ، بل هو عدم اختصاص
الحدوث فى الأعيان بزمان بعينه إلى العلّة الجاعلة.
ثمّ إنّ أكثر
المتكلّمين لمّا لم يحصّلوا مذهب الفلاسفة ظنّوا بهم أنّهم لم يثبتوا قدرة
اختياريّة للقيّوم الواجب بالذّات ، بل قدرة على سبيل الإيجاب ، وتوهّموا أنّ منشأ
الخلاف فى قدم العالم وحدوثه إنّما هو الخلاف فى الإيجاب والاختيار ، والمعلول
الأزلىّ يصحّ إسناده إلى الفاعل الموجب دون المختار ، لوجوب تقدّم القصد الاختيارى
على تحقق الأثر المعلول قطعا.
وليس لهذه
الظّنون والأوهام مبدأ فى كلام الفلاسفة ، ولا مناط فى أصول العلم وقوانين الحكمة
بوجه من الوجوه أصلا. ولا خلاف هناك فى صفة الاختيار ، بل ليس يعقل. وإنّما الخلاف
فى قدم العالم وحدوثه فقط. ولو فرض الخلافان فليس بينهما تعلّق لزومىّ ؛ إذ يمكن
إسناد المعلول الأزلىّ إلى الفاعل الموجب وإلى المختار ، كما يمكن إسناد الحادث
إليهما ، وتقدّم الاختيار يجوز أن يكون بالذّات كما يكون بالزّمان. فسبق الإيجاد
قصدا كسبق الإيجاد إيجابا فى جواز كونهما بالذّات دون الزّمان وفى جواز كون أثرها
قديما.
والفلاسفة لم
يذهبوا
إلى أنّ
الأزلىّ يستحيل أن يكون فعلا لفاعل مختار ، بل ذهبوا إلى أنّ الفعل الأزلىّ يستحيل
أن يصدر إلاّ عن فاعل أزليّ تامّ فى الفاعليّة وأنّ الفاعل الأزلىّ التّامّ فى
الفاعليّة يستحيل أن يكون فعله غير أزليّ.
ولمّا كان
العالم عندهم فعلا أزليّا أسندوه إلى فاعل أزليّ تامّ فى الفاعليّة ، وذلك فى
علومهم الطبيعيّة. وأيضا لمّا كان المبدأ الأوّل عندهم أزليّا تامّا فى
__________________
الفاعليّة حكموا بكون العالم الّذي هو فعله أزليّا (١٠٩) ، وذلك فى علومهم
الإلهيّة. ولم يذهبوا أيضا إلى أنّه ، تعالى ليس بقادر مختار ـ حاشاهم عن ذلك
الظنّ القبيح والقول الفضيح والكفر الصّريح ـ بل إنّما ذهبوا إلى أنّ قدرته واختياره
لا يوجبان كثرة فى ذاته الواحد الأحد الحقّ ، وأنّ فاعليّته ليست كفاعليّة
المختارين من الحيوانات ، فضلا عن كونها كفاعليّة المجبورين من ذوى الطّبائع
الجسمانيّة.
وقد بلغوا فى
وصفهم وحدة البارئ الأوّل وقدرته وإرادته المبلغ الأقصى والدّرجة القصوى ، لكنّهم
زاغوا عن الحقّ فى إشراكهم بربّهم بعض مصنوعاته فى القدم السّرمديّ ولم يجعلوا فى
إزائه الحدوث الدّهرىّ ولم يميّزوا الأزليّة السّرمديّة عن الأزليّة الزّمانيّة ، ولم
يتحققوا أنّ طباع الإمكان يأبى إلاّ الحدوث الدّهرىّ.
فلذلك كانت
الحقائق الجوازيّة والذّوات الإمكانيّة مسبوقة بالبطلان فى وعاء الدّهر ، مع أنّ
فاعلها أزليّ سرمدىّ تامّ فى الفاعليّة. فالقصور من جوهر القابل ، لا من تلقاء
الفاعل. والنّقص طباع الإمكان والكمال ذاتيّ الوجوب. فهناك يمتحق ما تمثّلوا به ،
فقالوا : ليس الشّعاع من الشّمس وليس الشّمس من الشّعاع ، وإن دام بدوامها.
فلا تتعجّب من
كون الحقّ قائما بالقسط ، وما يضرّ الشّمس دوام شعاعها وبقاء ذرّات فى نورها؟ وهذه
الحقائق مضمون عنها بالتّبيان من قبلنا فى مستقبل القول إن شاء اللّه تعالى.
<٢٥> ذيل
للاغترار بتلك
الظنون الفاسدة أقدم مثير فتنة التّشكيك على أنّ التّحقيق أنّ الخلاف هاهنا بين
الفلاسفة والمتكلمين لفظيّ ، لأنّ المتكلّمين جوّزوا أن يكون العالم على تقدير
كونه أزليّا معلولا لعلّة أزليّة ؛ لكنّهم نفوا القول بالعلّة والمعلول ، لا بهذا
الدّليل ، بل بما دلّ على وجوب كون المؤثّر فى وجود العالم قادرا. وأمّا الفلاسفة
فقد اتفقوا على أنّ الأزلىّ يستحيل أن يكون فعلا لفاعل مختار. فإذن ، حصل الاتّفاق
على أن كون الشيء أزليّا ينافى افتقاره إلى القادر المختار ولا ينافى
افتقاره إلى العلّة الموجبة. فقد ظهر أنّه لا خلاف فى هذه المسألة.
ففضّحه بعض من
يحمل عرش التّحقيق والتّحصيل : بأنّ هذا صلح من غير تراضى الخصمين. وذلك لأنّ
المتكلمين بأسرهم صدّروا كتبهم بالاستدلال على وجوب كون العالم محدثا من غير تعرّض
لفاعله ، فضلا عن أن يكون فاعله مختارا أو غير مختارا. ثمّ ذكروا بعد إثبات حدوثه
أنّه محتاج إلى محدث وأنّ محدثه يجب أن يكون مختارا ، لأنّه لو كان موجبا لكان
العالم قديما. وهو باطل بما ذكروا أوّلا.
فظهر أنّهم ما
بنوا حدوث العالم على القول بالاختيار ، بل بنوا الاختيار على الحدوث، وأمّا القول
بنفى العلّة والمعلول فليس بمتّفق عليه عندهم ؛ لأنّ مثبتى الأحوال من المعتزلة
قائلون بذلك صريحا. وأصحاب هذا الرّجل ـ أعنى الأشاعرة ـ يلتزمون ، فى القدماء
الثّمانية الّتي يثبتونها مع المبدأ الأوّل ، بالمعنى وإن لم ينصّوا عليه باللفظ.
فقد ظهر أنّهم غير متّفقين على القول بنفى العلّة والمعلول مع اتّفاقهم على القول
بالحدوث.
وأمّا الفلاسفة
، نقد أثبتوا للمبدإ الأوّل القدرة والاختيار على أكمل الوجوه ، إلاّ أنّهم قالوا
: إنّ الفاعل المختار الأزلىّ إذا كان تامّا فى الفاعليّة فإنّ فعله يكون أزليّا.
ويفضّحه أيضا :
أنّه كيف لا يكون هاهنا خلاف ، وبين الخلاف فى علّة الحاجة أهى الإمكان أو الحدوث وبين
هذا الخلاف تلازم متكرّر من الطرفين. والأوّل ثابت عند هذا الرّجل.
<٢٦> مصباح إضائيّ
إذ قد تحققت :
أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلاّ بعلّة مرجّحة من خارج ، والأولويّة بالنّظر
إلى الذّات مستحيلة الجواز ، ككفّتى الميزان المتساويتين لا يمكن أن يترجّح
إحداهما على الاخرى من غير أن ينضاف إليها شيء آخر ؛ فالآن تعرّف أنّ تلك العلّة
لا بدّ أن توجب الطرف الرّاجح الّذي هو معلولها. فالأولويّة الخارجيّة الغير
البالغة مبلغ الوجوب غير مجدية ، كما ظنّه قبائل من العامّة المتسمّية
بالمتكلمين ، بل إنّ مناط الفعليّة هو الوجوب ، والممكن يجب أن يجب بالعلّة
وبالقياس إليها ، وإلاّ لم يصحّ أن يتقرّر ، وعليّته يجب أن تجب بالقياس إليه فقط
، ويمتنع أن تجب به.
أليس إذا لم
يكن واجبا عند وجود العلّة بها وبالقياس إليها ، بل كان أولى ، فحسب ، كان فى حدّ
الإمكان عنه بعد ، إذ لا وجه للامتناع عنه ، فكان مع تلك الأولويّة وبحسبها يجوز
أن يتقرّر وأن لا يتقرّر غير متعيّن التّخصّص بأحدهما. فيعود طلب سبب التّرجيح
جذعا ، إذ الأولويّة مشتركة بين الطّرفين ومتحفظة فى الصّورتين ، فإذن هى
مستوية النّسبة إلى الأمرين مع انحفاظ تحقّق العلّة واستمرار ذاتها.
فيكون الممكن
المعلول مع تلك الأولويّة يحتاج من رأس إلى حصول شيء ثالث ، يتعيّن له به التّقرّر
عن البطلان أو البطلان عن التّقرّر عند حصول العلّة. ثمّ هو أيضا غير مفيد الوجود
، بل إنّما بحسبه الجواز ، فلا يقف الطلب ويتمادى الأمر إلى نهاية. وإذن فى كلّ
مرتبة لا يكون ما فرض سببا بسبب ، ويلزم خرق الفرض متماديا إلى لا نهاية أيضا.
وإذا تمادى إلى
لا نهاية لا يكون مع ذلك فضل تعيّن للتغيّر أو للاّتقرّر ؛ إذ كلّ من المراتب
الغير المتناهية ، كالمرتبة المبتدأة فى استواء النّسبة الأولويّة فيها مع فرض
حصول ما فرض سببا إلى طرفى الفعليّة واللاّفعليّة ، فيكون ـ مع حصول تلك الأسباب
المتمادية إلى لا نهاية بأسرها مجتمعة ـ استواء تلك النّسبة باقيا على شأنه ، فإذن
، ذلك التّمادى (١١٠) ليس يفيد تعيّنا لأحد الأمرين بالضّرورة.
فإذن تبيّن أنّ
هذا محال ، لا من جهة أنّه ذاهب إلى لا نهاية فى العلل ؛ لأنّ ذلك فى هذا الموضع ،
بعد ، مشكوك فى إحالته إلى أن يحين حين أن نبرهن استحالته ، بل من جهة أنّه مع ذلك
لم يحصل ، بعد ، ما به يتخصّص ما قد فرض متخصّصا بأحد الأمرين.
[وبالجملة ،
الوجوب يبتّ النّسبة الجوازيّة إلى العقليّة واللاّفعليّة ويعيّن أحد
__________________
الأمرين] ويقطع الطّلب ويكفى لتحقق وجوب الوجوب ، ووجوب وجوب الوجوب وهكذا
إلى حيث يلحظ العقل دون الأولويّة وأولويّة الأولويّة ، وهكذا جملة الأولويّات
اللاّمتناهية ، لانحفاظ كلّ واحدة منها والجملة جميعا مع كلّ من الفعليّة واللاّفعليّة
لبقاء جملة الأولويّات الغير المتناهية على حالها فى كلّ من الصّورتين لفرض جواز
كلّ منهما مع تلك جميعا ، وإلاّ كان يلزم من الجوازيّات الصّرفة نسبة وجوبيّة
بتيّة. وذلك خرق الفرض ، مع أنّه بعينه رجوع عن الباطل المأمول للمستنكر إلى الحقّ
المقصود للمستثبت.
فقد صحّ إذن
أنّ كلّ ما هو ممكن التّقرّر لا يتقرّر ولا يوجد ما لم يجب تقرّره ووجوده بعلّته وبالقياس
إلى علّته ، فإذن لا يتصوّر إلاّ أن يكون ترجيح العلّة للمعلول إيجابا ورجحان
المعلول عنها وجوبا ، وما لم يكن كذلك لم تكن العلّة علّة ولا المعلول معلولا.
فإذن ، تحدّس
من ذلك أنّ كلّ علّة يجب أن تكون واجبة فى عليّتها ، إذ لو كانت ممكنة العليّة لم
يكن تقوى بما هى علّة بالجواز على أن تصير مبدءا للإيجاب والوجوب.
فإذن ، العلّة
الاولى كما يجب أن تكون واجبة لذاتها كذلك يجب أن تكون واجبة فى عليّتها ، فهذا
سبيل آخر إلى تعرّف أن المبدأ الأوّل ـ تعالى ذكره ـ بذاته واجب العليّة. كما أنّه
بذاته واجب التقرّر والوجود ، إذ مطلق العليّة يجب أن يكون بالوجوب ، ولا وجوب
هناك من غير الذّات ، وعسى أن يعوزك أن تستجدى هذا السّرّ فى عدّة مسائل ربوبيّات.
<٢٧> استضاءة
هل قرع سمعك
قولنا : «كلّ ممكن محفوف بوجوبين سابق ولاحق». فما حقّقناه الآن هو الوجوب السّابق
الآتى من تلقاء الجاعل أوّلا ثمّ الذّات والوجود ،
وبإزائه الامتناع السّابق النّاشى من اقتضاء العلّة. ويلزم من إيجاب العلّة
الجاعلة الطرف المقابل والذّات المتقرّرة بحسب تقرّرها فى زمان التقرّر ووجودها فى
زمان الوجود على اللّحاظ التّحيّثىّ ، وهو الوجوب اللاّحق يلحق بعد التّقرّر والوجود
، ويسمّى الضّرورة بحسب المحمول. وفى إزائه الامتناع اللاّحق بشرط المحمول.
فإذا أخذ
الممكن بالنّسبة إلى جاعله المستجمع لمنتظرات المجعول ومصحّحات المجعوليّة كان له
منه وجوب التقرّر وبحسبه امتناع البطلان ما دام هو على الاستجماع. ويستتبع ذلك
وجوب الوجود وامتناع العدم. والجاعل يعطى هذا الوجوب أوّلا ويفعل الذّات والوجود ،
وعدم العلّة التّامّة يقتضي وجوب البطلان ووجوب العدم أوّلا ، ثمّ البطلان والعدم.
وإذا أخذ من
حيث إنّه متقرّر ما دام متقرّرا كان لحقه وجوب التقرّر والوجود وامتناع البطلان والعدم
، أو من حيث إنّه باطل ما دام باطلا كان فى اعتبار العقل يلحقه وجوب البطلان والعدم
وامتناع التقرّر والوجود.
فكلّ ممكن ،
سواء كان متجوهر الذّات أو باطل الذّات ، فإنّه محفوف فى لحاظ العقل بوجوبين وامتناعين.
وليس يمكن الخلوّ عنهما بحسب نفس الأمر أصلا ، لا باعتبار التقرّر ولا باعتبار
البطلان وإن كان ذات الممكن بما هو على طباع الإمكان ليس لذاته من حيث هو هو شيء
من ذلك.
أمّا عدم
الخلوّ عن الوجوب السّابق تقرّرا وبطلانا وكذلك الامتناع السّابق المساوق له
فكأنّه قد تمّ عندك بيانا. وأمّا الوجوب اللاّحق وكذلك الامتناع اللاّحق المساوق
له فلأنّ التقرّر والبطلان والوجود والعدم فيكون منافيا لإمكان البطلان فى زمان
التقرّر وإمكان العدم فى زمان الوجود. فهل ذلك إلاّ اقتران النّقيضين ، وهو ممتنع.
فإذن كان
البطلان فى زمان التقرّر والعدم فى زمان الوجود ممتنعا على المتقرّر الموجود ،
فيكون التقرّر فى زمان التقرّر واجبا والوجود فى زمان الوجود بالضّرورة. وكذلك البطلان
فى زمان البطلان والعدم فى زمان العدم.
وكما السّابقان
وجوب بالغير وامتناع بالغير فكذلك اللاّحقان أيضا وجوب بالغير
وامتناع بالغير. ولسنا نعنى بشرط التقرّر والوجود فى اللاّحقين أنّ معروض
الوجوب اللاّحق هو الذّات المتقرّرة مع تكرار التقرّر والموجودة مع تكرار الوجود ويرجع
إلى الذّات مع حيثيّة ما هى من الاعتبارات العقليّة ، أى مجموع الذّات ومفهوم
التقرّر أو مفهوم الوجود أو الذّات المحيّثة على سبيل التّقييد البحت دون دخول
القيد.
فالماهيّات
الاعتباريّة وراء الذّوات المتأصّلة المعروضة للوجوب والامتناع ، بل إنّا إنّما
نعنى أنّ (١١١) نفس الذّات المتقرّرة معروض الوجوب السّابق واللاّحق جميعا. لكنّ
الذّات المتقرّرة بعينها متأخّرة بالذّات عن وجوبها السّابق ومتقدّمة على وجوبها
اللاّحق ، والوجوب اللاّحق ليس يمكن أن يخلو عند عقد ما فعلىّ أبدا ؛ لكنّه لا
ينسلخ عن مقارنة جواز الارتفاع بالنّظر إلى الذّات ، واسم الوجوب يقع عليهما لا
بالتّساوى.
وسبيل إسباغ
القول على ما أدّت إليه الحكمة الميزانيّة اليمانيّة أن يقال : الضّرورة فى العقود
إمّا ضرورة مطلقة ، وهى الذّاتيّة الأزليّة السّرمديّة ، كقولنا : «اللّه تعالى
موجود بالضّرورة أو عالم بالضّرورة» ، أو ضرورة غير مطلقة.
وهى إمّا
معلّقة بوصف على أنّها مع ذلك الوصف لا بسببه. وهى الذّات المقيّدة مع الوصف.
كقولنا : العقل جوهر مفارق ، أو الإنسان حيوان. فإنّا لا نعنى بذلك : أنّ العقل
سرمدا جوهر مفارق ، أو الإنسان لم يزل ولا يزال حيوانا ؛ بل نعنى : أنّ العقل ما
دام متقرر الذّات فى وعاء الدّهر. وذلك لا يكون إلاّ بعد إفاضة الجاعل البتة ،
فإنّه يصدق عليه الحكم الإيجابيّ بأنّه جوهر مفارق. وكذلك الإنسان ما دام متقرّر
الذّات من تلقاء الجاعل ، فإنّه حيوان.
وإمّا معلّقة
بشرط على سبيل الاستناد إليه ، لا تعليقا على سبيل مجرّد المعيّة. وهى الّتي يقال
لها المشروطة. والشّرط إمّا داخل العقد وإمّا خارج عنه. والدّاخل إمّا متعلق
بالموضوع وإمّا متعلق بالمحمول. والمتعلق بالموضوع إمّا ذاته وإمّا صفته الموضوعة
معه. والمتعلق بالمحمول واحد ، لأنّه إمّا وصف وليس له ذات تباين ذات الموضوع. والخارج
إمّا بحسب وقت بعينه أو لا بعينه.
فجميع أقسام
الضّرورة سبعة : واحدة مطلقة ذاتيّة سرمديّة ، وواحدة ذاتيّة غير
أزليّة ولا مطلقة ؛ بل مع الوصف ، وخمسة مشروطة.
واعتبار هذه
الأقسام فى جانبىّ الإيجاب والسّلب واحد غير مختلف إلاّ فى شرط المحمول ؛ فإنّك
إذا قلت : زيد ليس بكاتب ما دام كاتبا لم يصحّ ، بل إنّما يصحّ إذا قلت : ما دام
ليس بكاتب. وحينئذ صيّرت السّلب جزءا من المحمول ، فعادت القضيّة موجبة لا سالبة. والضّرورة
بشرط المحمول لا يخلو عنها قضيّة فعليّة أبدا. فإذا صحّ ج ب ، فإنّه يكون
بالضّرورة بحال كونه ب ، وهى ضرورة متأخّرة عن الوجود لا حقة به. وسائر الضّرورات
متقدّمة على الوجود موجبة إيّاه. ونعنى بحال التقرّر والوجود ما يعمّ وعاء الدّهر والأحيان
الزّمانيّة. وهناك شكوك أخلدت بالأذهان فى هذه الأحكام ، فحريّ بنا أن نحلّها حلاّ
ونقلع بنيانها عن المقام قلعا.
<٢٨> تشكّك وفحص
لقد وعيت ما
أوعيناه سمعك ، من أنّه إذا وقع أحد طرفى الممكن وقتا مّا : فإن قيس طرفه الآخر
إلى ذاته من حيث هو كان ممكنا له ، فى ذلك الوقت البتة ، وإن قيس إلى ذاته من حيث
له فعلّيّة ذلك الطرف كان ممتنعا عليه ، لا بحسب الذّات ، بل بحسب تقييده بما
ينافيه ، فهو امتناع لا حقّ بالغير ، وبإزائه للطرف الواقع وجوب بالغير لاحق.
فإن وقع إليك
تشكّك بعض المشككين فيه : بأنّ ذات الممكن مأخوذا مع أحدهما يمتنع له الآخر
امتناعا ذاتيّا نظرا إلى المجموع. وكيف لا ، واجتماع النّقيضين محال لذاته. وليس
ذلك ينافى إمكانه للذّات من حيث هى وحده ، فيكون ما بإزائه لا محالة وجوبا ذاتيّا
لا بالغير.
فقد أوضح لنا
الفحص : أنّ الطرفين هناك مقيسان إلى نفس الذّات بما هى نفس الذّات ، لا إلى
الذّات بما هى على فعليّة أحدهما ، فلا امتناع هناك إلاّ بالغير ، واجتماع
النّقيضين وإن كان مستحيلا لذاته لكن صدق أحدهما فى زمان صدق
الآخر ممتنع لا لذاته ، بل لصدق الآخر. ولولاه لم يستلزم اجتماع النّقيضين.
فإذن ، الممكن المطابق للواقع يمكن نقيضه بالذّات ويستحيل بالغير. فالإمكان
الذّاتىّ مقابل الامتناع الذّاتىّ ، والإمكان الوقوعىّ بحسب نفس الأمر مقابل
الامتناع مطلقا ؛ فإنّ صدق المطلقة الوقتيّة يستحيل لصدق الدّائمة. وما يقال : إنّ
دوام الإيجاب ينافى إمكان السّلب ، فينبغى أن يعنى فيه إمكان السّلب بالنّظر إلى
الذّات ، لا بحسب الوقوع فى نفس الأمر.
ثمّ إن قيس
الطرفان إلى الذّات من حيث الفعليّة كان امتناع الطرف الآخر بحسب تلك الحيثيّة
الّتي هى كالجزء ، فلم يلزم أيضا أن يكون الامتناع ذاتيّا ، بل إنّما هو بالنّظر
إلى المقيس إليه بحسب ما جرى مجرى جزء ما منه.
فإن أوهم ذلك :
أنّ المقيس إليه يرجع إلى أن يكون من الامور الاعتباريّة ، إذ الملحوظ هو الذّات
المتقرّرة ما دامت متقرّرة على تكرير التقرّر وتقييد الذّات بهذه الحيثيّة الّتي
هى صنعة العقل. فإذا مجموع الذّات مع القيد أو الذّات المعتبرة على سنّة التّقييد
لا يكون إلاّ من الاعتباريّات العقليّة فكيف (١١٢) يكون معروض الوجوب.
قيل : نحن لا
نروم أنّ مفهوم هذا الملحوظ له الوجوب اللاّحق ، بل إنّما نحن رائمون أنّ ما هو
مبدأ هذا اللّحاظ فى نفس الأمر ، وهو الذّات المتقرّرة فى زمان تقرّرها ، أعنى ما
لو حاول العقل أن يعبّر عنه كرّر التقرّر وحيّث الذّات ، وليس فى نفس الأمر إلاّ
مصداق هذا التّحيّث ، ومصحاح هذا التّعيين هو ما يجب تقرّره فى ذلك الحين وجوبا
لاحقا ويمتنع سلخ ذلك التقرّر عنه بحسب نفس الأمر امتناعا ، كذلك.
وبالجملة ،
العقل يشهد أنّ الوجوب اللاّحق يعرض الذّات المتقرّرة حين لا يلحقها فى نفس الأمر.
وإن شئت ساغ لك أن تجعل المعروض نفس الذّات بما هى الذّات من حيث هى ، والعارض
وجوب التقرّر حال التقرّر على أن يقع التّحيّث فى حيّز متعلق العارض دون المعروض
بأن يضاف الوجوب أوّلا إلى تقرّر الذّات حال تقرّرها ؛ ثمّ يلحظ عروض هذا المضاف
للذّات بما هى هى ، ويلحق عروض الذّات من حيث هى بعد التقرّر لا محالة.
فإذا تقوّى ذلك
لديك ، فما أسهل أن يظهر لك سخافة ظنّ بعض متأخّرة المقلّدين: إنّ قياس الطّرف
الآخر إلى الممكن له اعتبارات.
أحدها : أن
يقاس إلى ذات الممكن من حيث هى مع عزل النّظر عن الواقع فيها. وبهذا الاعتبار يكون
ممكنا لها فى ذلك الوقت ، بل فى جميع الأوقات.
وثانيها أن
يقاس إليها بحسب تقيّدها بالطرف الواقع على أن يكون قيد الآخر. وحينئذ إن اعتبر
ثبوت الطرف الآخر لنفس الذّات المقيّدة بذلك الطرف من حيث هى من غير أن يكون
للتقيّد دخل فيها ثبت له الطرف الآخر يكون ممكنا لها دائما وممتنعا لها بالغير فى
ذلك الوقت. وإن اعتبر ثبوته لها لا من حيث هى تقيّدها بذلك الطرف فقد يكون الطرف
الآخر ممكنا ، بل واقعا. وقد يكون ممتنعا بالذّات ، مثلا ، إذا اعتبر الممكن
الموجود من حيث إنّه موجود بحيث يكون للتقييد بالوجود دخل فيما ثبت له الطرف الآخر
، فالعدم ممكن بل واجب. ولا يلزم من هذا اجتماع النّقيضين ؛ لأنّ الموصوف بأحدهما
الذّات من حيث هى وبالآخر الذات من حيث التقيّد. وإذا اعتبر الممكن المعدوم من حيث
هو معدوم كذلك فالوجود ممتنع له بالذّات.
وثالثها : أن
يقاس إليها مع تقيّدها بحيث يكون المقارن جزءا لما ثبت له الطرف الآخر. ويتأتى فيه
أيضا التّقسيمان المذكوران فى الثّاني. وتوهّم لزوم اجتماع النّقيضين هنا أبعد.
فقد حصل من ذلك
أنّ ما وقع هذه الاعتبارات بالقياس إليه فى الاعتبارين الأوّلين ممكن بالذّات وفى
الأخيرين ممتنع بالذّات.
<٢٩> شكّ وحلّ
ولعلّك تقول : ألست
تحكم أنّ البطلان فى زمان التقرّر بالنّظر إلى الذّات من حيث هى هى. فكيف حكمت أنّ
ذلك وجوب بالغير لا بالذّات ، وأنّه لا ينسلخ عن مقارنة جواز العدم بالنظر إلى
الذّات قطعا.
فيقال لك :
أمّا فظنّك مسلف البيان ومسلف القول فيما يستأهل هذا النّمط أنّه ريثما يمتنع
البطلان حين التقرّر على الذّات بما هى هى يجب أن يجب للذّات اللاّبطلان حين
التقرّر ، وهو أعمّ من التقرّر حين التقرّر ومن البطلان رأسا فى الآزال والآباد.
فلا يلزم من وجوب هذا الأعمّ وجوب ذلك ، بل يمكن بالنظر إلى الذّات بما هى هى
ارتفاع التقرّر حين التقرر عنها فى ضمن البطلان فى الآباد والآزال رأسا.
فإذن ، وجوب
التقرّر حين التقرّر إنّما يلحق الذّات بعد فرض التقرّر. فإذا تقرّرت وجب اتّصافها
بالآباد إذا لم يكن للتقرّر وقوع أبدا ، فلم يكن التقرّر حين التقرّر إلاّ مجرّد
مفهوم ليس هو عنوانا لشيء ممّا تقرّر فى نفس الأمر أصلا. فإذن ، لحوق هذا الوجوب
متوقف على وقوع التقرّر على كلّ ما يتوقف عليه ذلك التقرّر. فإذن ، هو لا محالة
وجوب بالغير ويمكن الانسلاب عن ذات الممكن بذاته البتّة.
<٣٠> وفاء شكّين ووقاء فحص
كأنّ متحيّن
وقت التّشكيك يقول : أليس قد سبق أنّه لا يتصوّر لذات واحدة بعينها إمكانان أو
وجوبان وإمكانا وجود أو وجوبا وجود. وكيف يتصوّر ذات بعينها ولا ضرورة لها ، وضرورة
الوجود بالقياس إلى ذات بعينها أو لا ضرورته؟
فإذن ، ما
خطبكم تقسمون الوجوب إلى وجوب سابق ووجوب لاحق لتقرّر الذّات الواحدة وللوجود
بالقياس إليها. وأ ليس قولكم سالفا : الواجب بالذّات لا يكون واجبا بالغير ، إذ
الوجوب بالغير لا يعرض إلاّ الممكن بالذّات ؛ وقولكم فى هذا الموضع : الوجوب
اللاّحق وجوب بالغير ، ولا يخلو عنه عقد ما فعلىّ أبدا من الأقوال المتناقضة والأحكام
المتصادمة.
فقولنا : «القيّوم
الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ متقرّر وموجود» ؛ عقد فعليّ. فإذا لزمه الوجوب (١١٣)
اللاّحق ، كان يلزم أن يكون الواجب بالذّات واجبا بالغير ، تعالى عنه. فيقال له :
صحّ امتناع أن يتكرّر الإمكان أو الوجوب بالقياس إلى شيء واحد ، والوجود بأنّ
السّابق واللاّحق ليسا بالقياس إلى شيء واحد بالحقيقة.
فالواجب بالوجوب السّابق هو الممكن لا بشرط اتّصافه بالمحمول ، بل ذاته بما
هى تلك ، والذّات لا بما هى ذات متقررة وموجودة ، وبالوجوب اللاّحق هو بشرط
اتّصافه به ، أعنى الذّات من حيث هى متجوهرة وموجودة على قياس المشروط بشرط الوصف
حتّى إذا أخذ موضوع الفعليّة من حيث جوهره مطلقا غير مقيّدة بذلك الشّرط ارتفع
الوجوب اللاّحق ، والوجوبان من العوارض العقليّة ومعروضاهما منحاز أحدهما عن الآخر
فى لحاظ العقل بحسب التماسّ التّحيّثىّ هناك وإن كانا واحد الذّات فى نفس الأمر.
أليس اختلاف
الحيثيّات مطيّة اختلاف الأحكام لذات واحدة وإهمال الاعتبارات أفق إخلال العلم وحيّز
بطلان الحكمة. وكذلك الواجب بالذّات نفس ذاته ، والواجب بالوجوب اللاّحق زائد بحسب
أنّه متقرّر وموجود. وهذا الاعتبار أمر وراء نفس الذّات ، فلا يكون الذّات بحسب
هذا الاعتبار واجبا بالذّات ، بل الواجب بالذّات هو ذاته بذاته.
وأمّا ما يظنّ : «أنّ معروض الوجوب بحسب المحمول هو بعينه معروض
الإمكان والوجوب السّابق لا بتغاير الذّات ولا باختلاف الاعتبارات. وشرط المحمول
حيثيّة تعليليّة. فنسبة الكتابة ، مثلا ، إلى الإنسان هى الضّرورة بشرط الكتابة ،
كما نسبة الانخساف إلى القمر مكيّف بالضّرورة فى وقت المقابلة. فالشّرط والقيد
ضدّان للضّرورة ، لا للموضوع. ولذلك يسمّيان بالضّرورة الوصفيّة والضّرورة
الوقتيّة».
فليس على أسلوب
ما ذهابه أو إيابه إلى سبيل التّحصيل. وكيف يجب ذات الممكن وحده فى زمان القيد ، والمحمول
بما هو محمول ليس يلزم أن يكون ضروريّا لذات الموضوع وحده فى زمان من الأزمنة.
فذات الإنسان وحده لا يكون بذاته يجب له الكتابة أصلا ، لا فى زمان الكتابة ولا فى
زمان الخلوّ عنها ، بل يجب أن يقيّد. أمّا ذات الإنسان بكونه فى زمان الكتابة ،
فتجب له الكتابة ، تمتاز بأنّها فى زمان الكتابة ، فتجب لذات الإنسان وحده ولكن لا
مطلقا ، بل بعد عروض الكتابة له.
__________________
وأمّا الكتابة
المطلقة ، فإنّ نسبتها إلى الإنسان بشرط الكتابة هى الضّرورة وإلى الإنسان المرسل وإن
كان فى وقتها هى الإمكان ، كما أنّ نسبة تحرّك الأصابع إلى ذات الكاتب بشرط
الكتابة ضروريّة ، وإليه وحده فى وقت الكتابة جوازيّة ، فيصدق قولك : بالضّرورة :
كلّ كاتب متحرك الأصابع ما دام كاتبا بشرط الوصف والصّدق ما دام الوصف لا على
التّحيّث التّقييدىّ ، فالشّرط والقيد قيدان إمّا للموضوع أو للمحمول. والضّرورة
بحسب تقييد الموضوع أو المحمول تصير وصفيّة. وليس تقييد الموضوع مصادم كون معروض
الإمكان والوجوب بشرط المحمول واحدا. إذ المعنيّ بذلك هو أنّ معروضهما بالذّات ،
لا بحسب الحيثيّات.
ثمّ ألم يستبن
عند تأهّل غائر أنّ شرط المحمول إن لم يكن قيدا لإحدى الحاشيتين كان نفس التقرّر والوجود
واجبا بالقياس إلى ذات الممكن وحده ، ومحال بالضّرورة الفطريّة أن يكون ذلك الوجوب
له بذاته. فيجب حينئذ لحاظة انتشاره إلى العلّة البتّة. فإذن ، يرجع الوجوب اللاّحق
وجوبا سابقا.
وأيضا شرط
المحمول إذا كان حيثيّة تعليليّة كان الوجوب معلّلا به ، وحاشيتاه نفس ذات الموضوع
وطبيعة المحمول على وصف الإطلاق. ومن المستحيل أن يكون الشّيء علّة لوجوب نفسه
لشيء ، فلا يكون المحمول علّة لوجوب نفسه للموضوع.
وأيضا كيف يمكن
أن يكون شرط المحمول علّة لوجوب المحمول نفسه بالقياس إلى ذات الموضوع وحده
بالشّرط المحمول. وهل هذا إلاّ فاسد الانتظام فى نفسه. فإذا لم يكن الموضوع مشروطا
ولا المحمول مشروطا ، بل هما مطلقان لا بشرط. فأين. وما الشّرط الّذي يدّعى أنّه
علّة ، فإن جعل الشّرط قيدا لوجوب الحاشيتين قبل ، فقد جعل حيثيّة تقييديّة للعارض
وإن لم يجعل قيدا للمعروض ، وهو الموضوع.
فإذن ، لا محيص
من أن يجعل قيدا ما ، وإلاّ لم يحصل ما هو مناط الوجوب اللاّح ، بل كانت الملحوقات
بأسرها مطلقات. وحينئذ ، فإمّا أن يجعل حالا للموضوع ، وقد عرفت سبيله ، وإمّا أن
يجعل قيدا للوجوب العارض بأن يؤخذ ذنابة للمحمول ، فيضاف إليه الوجوب.
وسبيل حقّ
الفحص على هذا أن يقال : التقرّر حين التقرّر والوجود حين الوجود عين أصل التقرّر والوجود.
فإذن ، تقرّر الذّات الواحدة واحد لا يتصور أن يتعدّد ووجود الشّيء الواحد يستحيل
أن يتكثّر ، فلا يمكن أن يتكرّر الضّرورة لشيء واحد واللاّضرورة قطعا. والضّرورة
بحسب التقرّر والوجود هى المسمّاة بالوجوب السّابق.
ثمّ هناك مفهوم
آخر زائد على نفس التقرّر والوجود ، وهو التقرّر حال التقرّر والوجود حال الوجود ،
(١١٤) وهو ضرورىّ الذّات ، لا ينسلب عنها أبدا ، بعد ما أن وقعت فى صقع التقرّر والوجود.
وضرورة هذا المفهوم هى المسمّاة بالوجوب اللاّحق ، وليس يتعلق حصوله للذّات إلاّ
بفعليّة التقرّر والوجود. فإن لم تكن فعليّة التّقرّر والوجود للذّات متوقّفا على
أمر وراء الذّات ، بل كان الذّات بذاته متقرّرا موجودا لم يكن عروض الوجود اللاّحق
له متوقّفا على شيء ما غير الذّات أصلا. فإذن ، قد انتظم الحقّ وانصرم الباطل.
<٣١> حقيقة تحصيليّة
ألست إذا حملت
الشّيء على نفسه فقلت : الإنسان إنسان ، أو الكاتب كاتب مثلا ، كانت الضّرورة بحسب
المحمول هناك لا يباين الضّرورة الذّاتيّة مع الوصف ، أو الضّرورة بشرط الوصف
بالذّات ، بل إنّما بحسب الاعتبار فقط من جهة ما يلحظ الموضوع فى حيّز المحموليّة.
ففى قولنا : الإنسان إنسان بالفعل بالضّرورة ، ضرورة واجبة. يقال : ضرورة ذاتيّة
غير مطلقة ، بل مع ضرورة بشرط المحمول بالاعتبار ؛ وزيد كاتب بالفعل ضرورة واحدة
هى ضرورة بشرط الوصف باعتبار وقته بشرط المحمول باعتبار جزء ، وهو أنّ قولك :
الإنسان إنسان ما دام متقرّر الذّات بالضّرورة ، هو وزان قولك : الإنسان إنسان
بالفعل ما دام إنسانا بالضّرورة. وقولك : الكاتب كاتب بشرط كونه كاتبا بالضّرورة ،
على أن يكون الشّرط قيد الموضوع ، سبيله سبيل قولك : الكاتب كاتب بالفعل ما دام
كاتبا بالضّرورة على أن يكون ذلك قيد المحمول وشرطه. ولا فرق هناك إلاّ بنحو
الاعتبار.
فاحدس من ذلك :
أنّ فيه القضيّة الفعليّة إذا كانت نسبتها ضروريّة ضرورة مطلقة ذاتيّة سرمديّة. وإنّما
يتصوّر ذلك إذا لم يكن المحمول أمرا وراء ذات الموضوع وكان ذات الموضوع متقررا بنفسه
موجودا بذاته كانت الضّرورة بشرط المحمول هناك إنّما تغاير الضّرورة المطلقة الذّاتيّة
السّرمديّة لا بالذّات ، بل بحسب الاعتبار فقط ؛ فإنّ الضّرورة بحسب المحمول هناك
بتّىّ والضّرورة بحسب الموضوع لا بالاعتبار ، والضّرورة بحسب الموضوع ليست ضرورة
بشرط اتّصاف الموضوع بوصف ولا معلّلة بذات الموضوع ، ولا ضرورة ذاتيّة مقيّدة
بأنّها مع كون الموضوع على وصف ما هو الموجود لا أزلا وأبدا أنّها ضرورة مطلقة
أزليّة سرمديّة.
فإذن ، قولنا :
«القيّوم الواجب متقرّر موجود بالفعل بشرط كونه متقرّرا موجودا بالضّرورة» هو
بمثابة قولنا : «القيّوم الواجب بالذّات متقرّر موجود بالفعل بشرط كونه قيّوما
واجبا بالذّات بالضّرورة» ، إذ المحمول بعينه هو معتبر فى نفس موضوع الّذي هو
متسرمد التقرّر والوجود بذاته.
وكذلك قولنا.
القيّوم الواجب بالذّات عالم بالفعل ما دام عالما بالضّرورة ، هو كقولنا : القيّوم
الواجب بالذّات عالم بالفعل ما دام قيّوما واجبا بالضّرورة. وقولنا : القيّوم
الواجب بالذّات متقرّر وموجود أو عالم ما دام عالما قيّوما واجبا بالذّات
بالضّرورة ، هو بعينه كقولنا : القيّوم الواجب بالذّات متقرر وموجود أو عالم سرمدا
على الإطلاق بالضّرورة.
فإذن ، لا
ينبغى أن يعبأ باعتبار الوجوب اللاّحق بحسب المحمول فى العقود الفعليّة التى
موضوعها القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ؛ فإنّ ما يستجدى اعتبار هذه الضّرورة
هو أن يعلم أنّ القضيّة ربما تخلو عن سائر الضّرورات مع كونها فعليّة وليس يخلو عن
هذه قضيّة ما فعليّة ضرورة ، وأنّ هذه الضّرورة ليس يثبت بحسبها الحكم لما فاسى
الحقّ بعد تحقّق الحكم ، وأنّ الممكن بحسب الوجوب اللاّحق لا يستغنى عمّا يرفع عنه
بحسب نفس الأمر ، وهو باق معه على طبيعة إمكانه بخلاف الوجوب السّابق ؛ فإنّ
الممكن وإن بقى معه على طبيعة إمكانه الذّاتىّ ، لكنّه
ليس بحسبه على النّسبة الجوازيّة إلى الفعل فى نفس الأمر ، فهو مستغن
بحسبه. فإذا كانت هذه الضّرورة هى الضّرورة بحسب الموضوع ، بل الضّرورة المطلقة
الذاتيّة السّرمديّة باعتبار آخر ، فلا يبقى كثير اعتبار بجدواها.
فإذن ، الوجوب
اللاّحق بشرط المحمول إنّما يعتبر للقيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ بأن يلحظ
نفس ذاته بشرط نفسه. وهو اعتبار جدواه يسير غير كثير ، وإن اعتبر فلا يكون الوجوب
قيدا لا بحسب الذّات.
فقد تجلّى لك
أن ليس فى المبدأ الأوّل البارئ ، تعالى مجده ، إلاّ التّقرّر المحض والوجود البحت
والوجوب المطلق بالذّات. والخير كلّه من تلقاء صنعه ، ولا شيء فيه من الغير أصلا ،
وقد كان تحصيل هذه الحقيقة لدى الجمهور من أبناء الصّناعة من عوصاء الأمور. فإذن ،
قد استقرّ عرش الحقّ ؛ والحمد للّه ربّ العالمين.
<٣٢> وهم وتنبيه
ربما تسمع قول
شركائنا السّالفين : «وجوب العقليّات تقارنها بجواز العدم» ، فأورد عليه قولنا :
الواجب بالذّات متقرّر وموجود ، قضيّة فعليّة ، ووجوبها اللاّحق ليس يقارنه جواز
العدم.
وكأنّك بما
دريت متبصّر بالأمر. فالوجوب اللاّحق من حيث هو وجوب لاحق ليس فى طباعه استيجاب
امتناع العدم ، لكونه بحسب التّقيّد ، فإذا ارتفع ارتفع. ولكونه بعد تحقّق القيد ،
فإذا كان جائزا بلا تحقّق جاز لا تحقّقه ، وإن كان قد اتفق أن يقارن امتناع العدم
إذا كانت الفعليّة فى عنصر الضّرورة المطلقة الذّاتيّة ، لا لاستحقاق طباعه بما هو
وجوب لاحق ، بل لخصوصيّة عنصر الضّرورة المطلقة الذّاتيّة السّرمديّة. وكون الوجوب
اللاّحق هناك راجعا إلى نفس الوجوب السّابق الّذي هو الوجوب المطلق الذّاتىّ
السّرمديّ (١١٥) لخصوص المادّة ليس يفسخ ذلك الضّابط اختلاف الاعتبارين وتغاير
الحيثيّتين.
فإذن ، الوجوب
اللاّحق من حيث هو وجوب لاحق ، لا من حيث هو راجع إلى الوجوب السّابق المطلق
الذّاتىّ السّرمديّ ليس يستوجب امتناع العدم ويقارنه جواز العدم فى كثير من
الفعليّات ، وهى جملة الفعليّات الّتي موضوعاتها الحقائق الجوازيّة والطبائع
الإمكانيّة. فعدم جواز العدم فى فعليّته بخصوص ما لا يمنع مقارنة جواز العدم فى
أكثر الفعليّات. واستغراق الجمع المحلّى باللاّم لو التزم فإنّما يعبّر بالقياس
إلى المراتب المختلفة الجمعيّة بحسب اختلاف أشخاص الجماعات وأفراد الجموع ، لا
بالقياس إلى كلّ واحد واحد.
ولذلك ربما قيل
فى العلوم اللّسانيّة : إنّ استغراق المفرد أشمل ؛ فإنّ المفرد المعرّف بلام الجنس
صالح لأن يراد به جميع أفراد الجنس وأن يراد به بعضه ، أى الواحد الواحد منه ، كما
فى قوله ـ تمجّد وتعالى ـ : يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ (يوسف/ ١٣).
والجمع المحلّى
بلام الجنس صالح لأن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه ، لا إلى الواحد منه وإن
كان قد يلزم شمول كلّ واحد فى بعض الصّيغ بالخصوص من جهة أخرى ، كما فى قوله ـ
تعالى ـ : «رَبِّ الْعٰالَمِينَ». ويصحّ أخذ القضيّة على أنّها فى صورة
جزئيّة أو طبيعيّة ، كما فى قولهم : العدم قد يعرض لنفسه ، والوجوب شامل للذّاتىّ ولما
بالغير.
فمسائل العلوم
قد تكون فى صور جزئيّات وإن لم يصحّ أن تكون شخصيّات. فمؤدّى العقد أنّ طبيعة وجوب
الفعليّات قد يقارنها جواز العدم ، ومادّة المقارنة مخصوصة بالممكنات.
<٣٢> نصّ
إذا تحقق
الوجوب اللاّحق وقتا ما فإنّه يمتنع أن يلحقه بطلان بحسب نفس الأمر مطلقا. وذلك
لأنّه ليس يمكن أن يرفع عن ذلك الوقت وإلاّ اتفق النقيضان بالافتراق ولا عن غير
ذلك الوقت ؛ فإنّه لم يمكن [أن] يتحقق فى وقت آخر غير ذلك الوقت حتى يرتفع عنه أو
لا يرتفع عنه. فإذن ، هو يتحقق فى حدّ وقته ، وليس
يصلح أن يتحقق فى حدّ آخر من سائر الحدود أصلا. ومعنى جواز العدم معه جواز
العدم فى ذلك الوقت بالنظر إلى الذّات وإن امتنع بحسب نفس الأمر من حيث حصل فيه
التقرّر وتحقق ذلك الوجوب بحسب حصول التقرّر.
<٣٤> مضيق عويص وفصية فسيحة
كدت أسمعك تقول
: قد استوى الأمر فى الوجوب اللاّحق ، فما شأن الوجوب السّابق فكيف تتقدّم الصّفة
على وجود موصوفها ، بل على ذات الموصوف. فقد أصّلتم أنّه لا يكون للشّيء حقيقة
تصوريّة وماهيّة حقيقيّة إلاّ بجعل الجاعل. فكيف يحكم باتّصاف الماهيّة أوّلا
بالوجوب ثمّ بتقرّرها وصدورها عن الجاعل ، ولا ماهيّة ما لم يكن جعل. وأليس الوجوب
جهة العقد ، فيكون القول بتقدّم الوجوب على الوجود وعلى تقرّر الذّات قولا بأنّ
الممكن صار متقرّر الذّات بالضّرورة. ثمّ تقرّر ذاته وصار موجودا بالضّرورة ثمّ
وجد. وهل هو إلاّ شاكلة أن يكون خلوا من التّحصيل ؛ فإنّ القضيّة الضّروريّة أخصّ
من المطلقة ، فلا يتقدّم صدق الضّروريّة عليها. وأيضا ، الوجوب تأكّد فى فعليّة
الذّات ووجودها ، فكيف يتقدّم عليها ، وما لم يتجوهر ماهيّة كيف يكون لها استحقاق
التّجوهر والوجود ، وإذا تجوهرت انتزع منها الوجود قبل سائر الصّفات بأسرها.
فإذن ،
الماهيّة ووجودها المنتزع منها متقدّمتان على استحقاقها التّجوهر والوجود. فقد انفسخ
تقدّم الوجوب على التقرّر والوجود وتقدّم الوجود والتقرر بالوجوب السّابق.
فيقال لك :
أوّلا ، ألم يستن لك فيما قد استبان لك : أنّ فى الصّفات بالقياس إلى موصوفاتها ما
يتقدّم على الموصوف بأحد الاعتبارات. وذلك فى الصّورة بالقياس إلى الهيولى ؛
فإنّها من حيث هى صورة شخصيّة حالّة فى الهيولى متأخّرة عنها ، ومن حيث إنّها صورة
ما متقدّمة عليها مقوّمة إيّاها. فكذلك ليكن من المستبين لديك أنّ فى الصّفات
الفعليّة على تلك الشّاكلة ، كالوجوب ، وقد علمت أنّه يشبه الصّورة من
وجه. فوجوب كلّ ماهيّة من حيث هو تأكّد الحقيقة والوجود وصف يعرض الماهيّة
فى لحاظ العقل ويتأخّر عنها تأخّرا بالماهيّة ، ومن حيث يستند هو وماهيّته إلى
الجاعل متقدّم على الماهيّة فى الترتّب عليه والصّدور عنه.
لست أقول بذلك
: إنّ هناك أثرين صادرين ، بل أعنى أنّ هناك صادرا واحدا يبدعه الجاعل ، فيجد
العقل أنّه ماهيّة ما ، كالإنسان ، مثلا ، وأنّه ممكن ما. وذلك من حيث ليس لجوهر
ذاته بذاته ضرورة التّذوّت واللاّتذوّت ، فضلا عن ضرورة الوجود واللاّوجود ، بل هو
ذات ما جائزة الفعليّة والبطلان وأنّه واجب ما من الواجبات بحسب نفس الأمر. وذلك
من حيث ما يجب فعليّته ووجوده فى نفس الأمر ، ويحكم أنّه يستند إلى الجاعل الموجب
من حيث نفس ذاته بما هو هو ومن حيث يجب فعليّته ، لا بما يوصف بطباع الإمكان على
ما قد ارتكز فى بصيرتك ، وأنّه بما هو واجب (١١٦) فى نفس الأمر أسبق فى الاستناد
إلى الجاعل منه بحسب نفس جوهره بما هو هو ، وبما هو واجب وجوده فى نفس الأمر أسبق
فى الاستناد إليه منه بحسب ما هو موجود.
فالماهيّة بعد
لحاظ الاعتبارات وتفصيلها وتمييز بعضها عن بعض محكوم عليها عند العقل بأنّها ،
أوّلا ، واجبة التّجوهر من تلقاء الجاعل الموجب ، ثمّ صارت بنفسها منه ، فواجبة
الوجود من تلقائه ، فموجودة من جنبته ؛ كما الهيولى متصوّرة بهذه الصّورة بما هى
صورة ما من تلقاء المبدأ الجاعل ، فمتقررة الذّات موجودة ، فمتصوّرة هذه الصّورة
بما هى صورة بعينها من إفاضته.
والفرق : أنّ
الهيولى والصّورة متمايزتا الذّاتين بحسب نفس الأمر ، والوجوب ليس هو شيئا مباين
الذّات للماهيّة ، بل هو أحد اعتبارات الماهيّة المجعولة فى لحاظ العقل وأحد
عوارضها. والإمكان الّذي يشبه للمادّة ومتمّماتها من وجه وإن كان متقدّما فى قضاء
العقل على استناد الماهيّة ووجوبها إلى الجاعل ، لكنّه ليس يستند إلى الجاعل ، بل
هو ليسيّة ضرورة الفعليّة والبطلان بحسب نفس الماهيّة.
فإذن ، الواجب
بحسب نفس الأمر مرتبة من مراتب المعلول المجعول متقدّمة فى
المعلوليّة على سائر المراتب الّتي هى للمجعول ولا يلزم من ذلك أن لا
يتقدّم عليه ، معروضة فى العقل من حيث هو معروف بحسب الحصول بالفعل فى لحاظ العقل.
فالمعلول من
حيث الحصول بالفعل فى لحاظ العقل ، وذلك هو حيّز الموصوفيّة والمعروضيّة ، متقدّم
لا محالة نفس ماهيّته المتقررة هناك على واجبيّته ؛ ومن حيث الاستناد إلى الجاعل
بحسب نفس الأمر متقدّم واجبيّته على نفس ماهيّته المتقرّرة من جود الجاعل فى نفس
الأمر ، والوجوب الّذي قضينا متقدّمة على نفس الماهيّة المتقرّرة وعلى وجودها هو
المحمول فى قولك : وجبت الماهيّة ، فتجوهرت ، فوجدت ، كما التّجوهر وكذا الوجود
فيه محمول ، وليس هو ما يكون البتة جهة.
فقولك : «الوجوب
جهة الفقدان» ، إن عنيت به أنّ من الوجوب ما قد يكون جهة فصحيح ، ولسنا نستضرّ به
؛ إذ الوجوب المفتى به محمول ؛ وإن عنيت أنّه ليس يكون إلاّ جهة فنسفسفها ؛ إذ كلّ
من هذه الثّلاثة قد يكون جهة وقد يقع محمولا.
ألست تفسّر
قولك : والعقل واجب بالإمكان ، والإنسان ممكن بالضّرورة ، وشريك البارى ممتنع
بالضّرورة. فالوجوب فى الأوّل محمول والجهة هى الإمكان ، والإمكان فى الثانى محمول
، والجهة الوجوب ، والمحمول فى الثّالث الامتناع ، والجهة الوجوب أيضا.
فإذن ، القول
بتقدّم الماهيّة ووجودها قول بأنّ الممكن صار ضرورىّ تقرّر الماهيّة فتقرّرت
ماهيّته وصار ضرورىّ وجود الذّات ووجدت ؛ فإنّه وصيرورته ضروريّة التقرّر والوجود
ممكن بالذّات مستند إلى الجاعل ، بأنّ الممكن صار متقرّر الذّات بالضّرورة ،
فتقرّر وصار موجودا بالضّرورة فوجد ، فبين الاعتبارين فرقان بيّن ؛
وضرورة التقرّر
والوجود وإن استلزمت التقرّر بالضّرورة والوجود بالضّرورة لكنّها متقدّمة باعتبار
على التّقرّر والوجود بالإطلاق وعلى التقرّر والوجود بالضّرورة. فالجاعل أوّلا
يفعل ضرورة التّقرّر والوجود. ثمّ يفعل التقرّر والوجود ، فيلزم صدق التّقرّر والوجود
بالضّرورة. فإذن ، لم يلزم صدق الضّرورة من دون صدق المطلقة.
على أنّ لأحد
أن يلتزم أنّ الممتنع هو افتراق الضّروريّة والمطلقة فى الصّدق
بحسب نفس الأمر ، لا تقدّم الضّروريّة على المطلقة بحسب الاعتبار إذا
تلازمتا وتوافقتا فى الصّدق بحسب نفس الأمر ، فقد انمخض الفحص على أسلوب التّحصيل.
فإن لم يشبعك
قيل لك ما لم يتل عليك فى الدّروس السّابقة : أنّ كلّ ممكن فإنّما له قبل جعل
الجاعل ماهيّة تقديريّة ، كما للمستحيلات ، ثمّ بعد الجعل ينقلب تلك إلى ماهيّة
حقيقيّة. وليس يتصوّر تلك فى المستحيلات.
فإذن ، ما أسهل
لك أن تجعل الوجوب السّابق قبل اعتبار التّقرّر بماهيّة الممكن متعلقا بمفهومه
الّذي يلحظ بأنّ ماهيّته تقديريّة ، فيكون يجب فى لحاظ العقل لذلك الموجود بإيجاب
الجاعل أن ينقلب من ماهيّة تقديريّة إلى ماهيّة حقيقية ، فيجعل الجاعل الماهيّة
الحقيقيّة ، فتتّصف بوجوب التقرّر بحسب الاستناد إلى الجاعل والتّعلّق به ، فتتّصف
أيضا بوجوب الوجوبىّ بالاستناد إليه فتصير محكوما عليه بالوجود ، ويعبّر عن ذلك
بالوجوب السّابق ، ثمّ يعرض الوجوب بحسب التقرّر والوجود حال التقرّر والوجود ويسمّى
الوجوب اللاّحق.
وإن اشتهيت
فرقان ذلك فحصا تحصيليّا القى إليك : أنّ الوجوب السّابق على تقرّر ماهيّة الممكن
إنّما يكون بالحقيقة من أوصاف ذات الجاعل. فإذا تمّت متمّات تحقّق المعلوليّة ومصحّحات
فعليّة المجعوليّة وجب للجاعل أن يبدع الماهيّة ثمّ يجعلها فتجوهرت ، فالعقل يلحظ
الماهيّة المتجوهرة من جود الجاعل ويقضى بها فى طباعها بحيث يستدعى أن يعرض
لجاعلها وجوب أن يبدعها ؛ ثمّ هو يتقرّر بإبداع الجاعل إيّاها ، فتتّصف بوجوب
التّقرّر من جهة الاستناد إلى الجاعل وبوجوب الأيسيّة ، فيكون أيسا فى حال تقرّرها
وأيسها. وهذا هو الوجوب السّابق ، ثمّ بحسب تقرّرها وأيسها وجوب لاحق.
فإذن ، من
لوازم الماهيّة كونها بحيث تجب مسبوقيّتها بأن يجب للجاعل أن يبدع شيئا هو هى بعينها
ويضاف بوجوب التّقرّر والأيس بحسب الاستناد إلى الجاعل ريثما شيّأها وفعل نفسها. وعروض
هذا الوجود للجاعل معناه : أنّه يصير محكوما عليه بوجوب أن تصدر عنه نفس ماهيّة
المجعول. وإذا لوحظ شأن الجاعل
بالإضافة إلى المجعول يجب هذا المعنى عنه بالإيجاب.
فإذن ، هذا المعنى
وجوب باعتبار وإيجاب باعتبار آخر ؛ وأيضا هو وصف عارض للجاعل باعتبار وللمجعول
باعتبار آخر ، وإنّ المجعول من حيث هو مجعول نفس ذاته وسنخ حقيقته وجوهر ماهيّته
نعت من نعوت العلّة وشأن من شئونه ووصف (١١٧) من أوصافه.
فلا تفيضنّ من
كون وجوبه قبل مرتبة التقرّر ويلحظ عروضه لذات الجاعل. فالجاعليّة والمجعوليّة أثر
الارتباطات الاتصاليّة الرّوعانيّة الملكوتيّة وأقوى الالتصاقات الاختصاصيّة.
العقلانيّة الرّغبوتيّة. فلا يبعدن ، فبارئك أقرب إليك من طباعك إلى ذاتك ، ومن
ذاتك إلى نفسك ، ومن نفسك إلى جسدك بمرّات لا متناهية ولا متضاهية.
<٣٥> عجاب ذهوليّ
إنّ ما يستأهل
أن يتعجّب منه على شدّة ما ذهول بعض من يتشمرّ لحمل عرش التّحصيل عن تنزّه الحكمة
وجوده عن سبيل الحقّ ، حيث يقول :
«إنّ وجوب
الممكن المقتضى لوجود الموصوف به لا يمكن أن يكون قائما بمؤثّره ؛ لأنّه وصف
الممكن ، ووصف الشّيء يستحيل أن يقوم بغيره. والقائم بالمؤثّر إن كان ولا بدّ منه
فهو الإيجاب لا الوجوب. وذلك الوجوب أمر عقلىّ كسائر الصّفات ويكون قائما ،
فالمتصوّر من الممكن عند الحكم بحدوثه» .
فقد أريناك
طريق التّحصيل. فإذ قد دريت سبق ذلك الوجوب على مرتبة التقرّر ثمّ على مرتبة
الوجود وكونه وصفا للمؤثّر وأنّه وجوب وإيجاب باعتبارين ، وأنّ الأثر ، إذ ما ان
أثبته الجاعل وأبدع حقيقته ، يقوم به الوجوب من جهة الجاعل فى لحاظ العقل كسائر
الصّفات العقليّة. فقد أحطت خبرا بأنّ هذا التّشييد ليس بسديد.
__________________
<٣٦> تنبيه دفاعيّ
إنّ ما شدّدنا
أزره هدّ ما استشكل : أنّ الوجوب ، سواء كان لازما أو عارضا ، يتوقف الاتّصاف به
على وجود موصوفه ، إمّا فى الخارج أو فى الذّهن ؛ لكونه وصفا عقليّا ثبوتيّا. فلو
كان المعلول الأوّل متّصفا بالوجوب يكون هذا الاتصاف بسبب أحد الوجودين. ولا
يتصوّر أن يكون بسبب الوجود الخارجىّ ، لتقدّم الوجوب عليه ذاتا ، ولا أيضا أن
يكون بسبب الوجود الذّهنىّ ؛ لأنّ الوجود الذّهنىّ للمعلول الأوّل متأخّر عن وجوده
الخارجىّ ، وهو عن وجوبه. فقد علمت أنّه ليس من شرط هذا السّبق وهذه الاتّصافات أن
يتكنّف لحاظ العقل شيئا من ذلك بالفعل. بل إنّما مناط ذلك كون الشّيء فى نفسه بحيث
يؤثّر عن لحاظ العقل ما يصلح هو بحيث هو بحسب حال نفسه فى نفس الأمر لأن ينتزع منه
ذلك بالفعل ليحكم به عليه.
ثمّ عروض وجوب
صدوره من الجاعل للجاعل أوّلا ثمّ له من بعد الشّيء والتّقرّر هناك أظهر بيانا وأشدّ
ظهورا ؛ لكون الاختصاص هناك أتمّ والارتباط أقوى. ولذلك ما إنّ الجاعل كما هو
بذاته مبدأ تقرّر المعلول الأوّل وفعليّة أيسه فكذلك هو بذاته مبدأ تعيّن ماهيّته وسبب
وقف حقيقته على شخصه بعينه.
<٣٧>شكّان وتنبيه
أظنّك قد سمعت
الّذين يتشككون فيقولون : إنّ كون الوجوب ممّا يتوقّف عليه التقرّر والوجود ، وكذلك
الإمكان يهدّ بناء أنّ العلّة التّامّة قد تكون بسيطة ؛ فإنّ القيّوم الواجب
بالذّات ـ جلّ ذكره ـ بذاته جاعل بالفعل للمعلول الأوّل وليس هو يتوقّف على غير
ذاته تعالى ، أصلا. وأيضا : إنّ كون الوجوب مضمّنا فى أثر الجاعل يثلم ثلمة فى
وجوب كون أثر العلّة الواحدة فى عليّة واحدة واحدا.
فهل أنت ممّا
فصّلناه متنبّه بشارة فى دفاع القولين ، فقد نصصنا على أنّ الواجب مرتبة من مراتب
الذّات المعلومة ، كما أنّ الممكن مرتبة من مراتب تلك الذّات.
لكن الإمكان ليس باقتضاء العلّة ، بل بنفس الذّات والوجود من تلقاء الجاعل.
فالإمكان من متمّمات حقيقة المعلول ، وممّا هو معتبر فى ذات ما يصلح للصّدور ويتعيّن
للمعلوليّة ، فهو مفروغ عنه حين ما يطلب للمعلول علّة وينظر فى احتياجه إلى
الاستناد إلى العلّة. والوجوب من مراتب المعلول الصّادر ، بل هو أوّل ما يصدر ؛
فإذن ، ليس هو جزء العلّة ، بل أوّل تفاصيل الذّات الصّادرة عنها.
وبالجملة ،
الوجوب معتبر فى جانب المعلول بحسب الاستناد إلى العلّة ، كما أنّ الإمكان كذلك
بحسب ذاته. وأيضا الوجوب السّابق على سنخ الماهيّة هو وجوب أن يصدر عن الجاعل جوهر
الماهيّة ، وهذا بالمعنى راجع إلى كون الجاعل تامّا مستحقا لجميع ما يعتبر فى
اقتضاء المجعول وكون العلّة تامّة ليس جزءا من العلّة التّامّة وإلاّ لم ينحصر جزء
العلّة ؛ ضرورة أنّه إذا فرضنا أنّ العلّة مع هذا الوصف علّة تامّة كان كون هذا
المجموع علّة تامّة جزءا آخر ، فيحصل مجموع ثالث ، وهكذا إلى لا نهاية.
وأمّا الّذي هو
من صفات الماهيّة المتقرّرة إذا حصلت فى لحاظ العقل ـ أعنى وجوب الماهيّة من تلقاء
الجاعل ـ فهو وإن كان الّذي يحكم أنّه سابق على مرتبة وجود الماهيّة المتقرّرة ؛
لكنّ العقل يحكم أيضا أنّه متأخّر عن سنخ الماهيّة المتقرّرة من تلقاء الجاعل وأنّه
ليس شريكا للجاعل ولا جزءا من علّة الوجود ، بل هو أثر للجاعل ومترتّب على الجعل
المستتبع للوجود.
فإذن ، لا وجوب
الجعل ، أى وجوب صدور المجعول ، جزء من العلّة ، ولا وجوب تقرّر الماهيّة المجعولة
بحسب الاستناد إلى الجاعل ، ولا وجوب وجودها بحسب ذلك الاستناد ، وليس للوجوب
السّابق فرد خارج عن هذه الثّلاثة.
فأمّا حديث
تكثّر المعلول مع وحدة العلّة فقد تبيّن أيضا فساده من ذلك التّقرير على
السّبيلين. فأولى مراتب المعلول ، أعنى أوّل تفاصيل الذّات الصّادرة ، إمّا
المعلول من حيث هو واجب أو نفس ماهيّة المعلول بما هى هى ، ووجوب التقرّر والوجود وأصل
الوجود وأمثال ذلك منتزعة لازمة لها مترتّبة على نفس جعل
الجاعل إيّاها ، لا على اقتضاء منها لشيء من تلك الأمور ، كما يكون فى
لوازم الماهيّة على الاصطلاح الشّائع. فإذن ، لا تكثّر فى الصّادر الأوّل أصلا.
ثمّ الوجوب ليس
شيئا فى الماهيّة المتقرّرة وراء ذاتها فى نفس الأمر ، كما أنّ الوجود ليس أمرا
زائدا عليها هناك ، بل هو تأكّد تقرّرها ووجودها للجاعل (١١٨) للماهيّة الواجبة فى
نفسها بحسب نفس الأمر بإيجاب العلّة ، وهو أمر واحد لا تكثّر فيه ، وإنّما الكثرة
فى العبارة عنه والبيان له. وقد يقال : الكثرة المتبرهن امتناعها فى الصّادر عن
الواحد بما هو واحد إنّما هو الكثرة التمايزيّة البتّاتيّة دون الكثرة الاعتباريّة
بحسب الصّفات العينيّة العقليّة. فالعقل الأوّل الصّادر عن الواحد الحقّ من جميع
الجهات جوهر وعقل مثلا ، وسيذيع عندك سرّ هذا الموضع فى مظانّه إن شاء اللّه
تعالى.
<٣٨> ضابط تذكاريّ
أليس قد انضبط
، إذن ، أمر الإمكان والوجود بين السّابق واللاّحق فالإمكان لازم طباع الماهيّة
بما هى ماهيّة ؛ فإنّ ماهيّة الممكن بما هى هى يستحيل أن ينسلخ عن لا ضرورة
الفعليّة والبطلان بالقياس إليها بنفسها ، وإلاّ كان الممكن بالذّات إمّا واجبا
بالذّات أو ممتنعا بالذّات ، وذلك مستحيل. وإذا كان الإمكان ذاتيّا ثابتا للممكنات
، فإذن تكون فاقة الممكنات وحاجتها إلى الجاعل دائما ثابتة.
والوجوب السّابق
لازم الذّات المتقررة بحسب نفس الأمر ، لا بحسب طباع سنخ الماهيّة ، بل بسبب إيجاب
العلّة ، والوجوب اللاّحق ليس لازما أصلا ، لا بحسب طباع الماهيّة بسنخها ولا
للذّات المتقرّرة بحسب نفس الأمر ، لأنّ اللازم هو المحمول الخارج من الموضوع
الّذي لا ينفكّ عنه فى حال من الأحوال ، لسبب من شأنه أن يكون معلوما.
فإذا لم يكن
لامتناع الانفكاك سبب معلوم سوى فعليّة الحمل ، فإنّه لا يكون هناك المعنى الّذي
يقال له اللّزوم ، وإلاّ لكانت الاتفاقيّات لوازم ، إذ هى ممتنعة
الانفكاك بهذا النّوع من الوجوب ؛ فلزم أن يبطل التّقابل بين اللّزوم والاتّفاق
، وفيه خرق لجوامع الصّناعات البرهانيّة. فإذن ، ليس الوجوب بحسب شرط المحمول بما
هو وجوب بشرط المحمول من جملة الأمور الّتي تدخل فى شيء من أصناف اللّوازم ؛ إذ
ليس له منشأ يمكن أن يعلم سوى فعليّة العمل.
<٣٩>كلمة فحصيّة استوائيّة
إنّما يستوى
أمر هذا الضّابط بالقسط لو راعيت حقّ الفحص البالغ ، إذ قد أفصح فيما قد تلى عليك
من قبل وأوضح لك : أنّ الإمكان من المفهومات الغير الممكن انسلاخ الماهيّة منها
بسبب نفس ذاتها ، وليس هو ممّا يستند إلى اقتضاء من طباع الماهيّة له. وذلك من
سبيلين :
أمّا الأوّل ،
فمن جهة حقيقة الإمكان ؛ فإنّ حقيقته سلب صفة التقرّر والبطلان سلبا بسيطا قاطعا
للطرفين. والسّلب ما لم يكن عدوليّا أو محمولا فى الموجب السّالب المحمول ؛ فإنّه
لا يكون فاقرا إلى اقتضاء من الذّات ، لا بل يكفى فيه عدم علّة مقتضية لما السّلب
رفع له.
وأمّا الثّاني
، فمن جهة الماهيّة بحسب طبيعة الإمكان ؛ فإنّ الماهيّة بحسب طباع الإمكان فى حيّز
اللّيسيّة الصّرفة والقوّة المحضة بالقياس إلى طرفى الفعليّة والبطلان جميعا ، لا
هى متعيّنة التقرّر ولا هى متعيّنة البطلان ، فهى بحسب ذلك الطباع غير صالحة لأن
تكون علّة مقتضية لتقرّر ، ولا أيضا أن تكون علّة مقتضية لبطلان ، وبالجملة لا
لثبوت ولا سلب ، لشهادة الضّرورة القطعيّة بتّة أنّ الماهيّة ما لم تكن متعيّنة
الفعليّة لا تكون علّة لفعليّة وما لم تكن منفيّة البطلان لا يكون علّة لبطلان
أصلا.
فالماهيّات
الجوازيّة فى حدّ ذاتها ما شمّت رائحة الفعليّة والتعيّن أصلا ، لا تعيّن فعليّة
التقرّر ولا تعيّن فعليّة البطلان ، ولا استشمّت رائحة العليّة والاقتضاء لمفهوم
ما من المفهومات بوجه من الوجوه أبدا ، لا اقتضاء تقرّر شيء ما ولا اقتضاء شيء ما
، ولا اقتضاء مفهوم ما ثبوتىّ ولا اقتضاء مفهوم ما سلبىّ. وإنّما يصحّ لو صحّ
ذلك لماهيّة ما متقرّرة أو بالجملة ، بما هى متعيّنة التّقرّر أو بما هى
متعيّنة البطلان ، لا بما شأنها طباع الإمكان وشاكلتها صرافة القوّة.
فإذن ، سبيل
المقسطين القائمين بالقسط الوارثين حقائق العلوم البرهانيّة بقسطاس الحكمة اليمانيّة
أنّ الإمكان ليس يدخل فى لوازم الماهيّة بين العوارض المعلولة لنفس الماهيّة وإن
كان هو من لوازم الماهيّة بمعنى المفهومات الّتي ليس بين سلخها من الماهيّة ، وهو
من العوارض الفعليّة اللاّحقة بسنخ الماهيّة بما هى هى فى الفعل.
فبهذا اتّضح
معنى قولنا : الإمكان بالذّات ليس معلولا للماهيّة ولا لغيرها. والماهيّة محتفّة
به بنفسها. ولذلك صحّ أن يجعل أولى المراتب ، فيقال : أمكن فاحتاج ، إلى آخر
المراتب ، وإلاّ لكان الصّحيح أن يقال : اقتضى الشّيء الإمكان ، فأمكن فاحتاج إلى
سائر المراتب وكان مستلزما للدّور ؛ إذ الآخر اقتضاء لا يمكن أن يكون متأخّرا عن
التقرّر الّذي هو أخيرة المراتب المتفرّعة على الإمكان ، ولقد كان تحصيل هذا الأصل
من ... غوامض هذا العلم. ثمّ من العوارض الفعليّة ما هى ... لوازم الماهيّة ، لا
بمعنى العوارض المعلولة النفس الماهيّة ، كالزّوجيّة للأربعة. ولا بمعنى العوارض
الممتنع سلخها عن الماهيّة بحسب نفسها بما هى هى لا باقتضاء منها ، كالإمكان ، بل
نحو العوارض العقليّة الممتنع سلخها عن الماهيّة المتقرّرة بحسب نفس الأمر باعتبار
سنخ ذاتها من جهة الاستناد إلى الجاعل الموجب ، لا من جهة نفسها. وهى كالشّيئيّة والوجوب
السّابق والوجود وما فى مضاهاتها. ثمّ لم تكن للموجودات لوازم بحسب أنحاء الوجود.
فإذن ، اللّزوم يختلف فى اللّوازم لوجوه شتّى ومعان تترى ، فتعرّف واحتفظ.
<٤٠> استيناف تلخيصيّ
الإمكان والوجوب
والوجود ممّا يمتنع تقرّر الماهيّة منسلخة عنها. ثمّ الإمكان يمتنع سلخه عنها
بالنّظر إلى نفسها بما هى تلك الماهيّة. وأمّا الوجوب والشّيئيّة
والوجود فإنّما يمتنع انسلاخ الماهيّة المتقرّرة عنها وسلخها عن الماهيّة
المتقرّرة ، لكونها من توابع جعل الجاعل نفس الماهيّة ، والوجوب متقدّم على الوجود
؛ وإنّ امتناع سلخ الإمكان عن الماهيّة بنفسها وانسلاخ الماهيّة بنفسها عنه ليس من
حيث اقتضاء الماهيّة لذلك ، بل لأنّ الماهيّة بنفسها لا متقرّرة ولا لا متقرّرة. والإمكان
هو اعتبار ذلك بالسّلب البسيط ولكن فى الماهيّة المتقرّرة. وأمّا الماهيّة
المتقرّرة بحسب اعتبار الإمكان مقتضية لكونها فى نفسها بحيث لو لاحظها العقل حكم
أنّها بنفسها لا متقرّرة ولا لا متقرّرة. فالكون بهذه الحيثيّة (١١٩) من لوازم
الماهيّة الممكنة الملحوظة من حيث طباع الإمكان بالمعنى المصطلح. لكن هذا المعنى
ليس حقيقة الإمكان ، بل فرعه. وحقيقة الإمكان هو السّلب البسيط ، أعنى اللاّتقرّر واللاّتقرّر
أو سلب التقرّر وسلب اللاّتقرّر باعتبار الحملين : المواطاتىّ والاشتقاقىّ. ولذلك
ينقل الإمكان اولى المراتب ؛ فإنّ الكون بتلك الحيثيّة وصف ثبوتىّ للماهيّة
المتقرّرة متأخّر عنها وعن اعتبار الإمكان ومعلول لهما. فإذا كان ذلك هو الإمكان ،
فكيف يصحّ أن يحكم العقل بتقدّمه على الماهيّة المتقرّرة بعدّة مراتب.
<٤١> تنبيه تذكيريّ
الوجوب والإمكان
والامتناع من الاعتبارات العقليّة والانفصال المعتبر بعينها إنّما هو بحسب الذّهن.
فكلّ شيء من الأشياء فهو فى لحاظ العقل إمّا متصف بالوجوب أو الإمكان أو الامتناع.
وإمكان الشّيء هو ممكنيّته ، لا ما به ممكنيّته ، على قياس مما قد سبق فى الوجود.
فإن وقع فى
نفسك : أنّ من المعلوم بالضّرورة أنّه لو لم يكن فى التّقرّر عقل عاقل وذهن ذاهن
كانت المفهومات فى حدود ذواتها متّصفة بهذه الصّفات.
قيل لك : فهذا
هو حصحصة الحقّ ؛ فإنّ هذه الأمور عوارض الأشياء فى أنفسها ، لا باعتبار التقرّر وبالقياس
إلى الوجود. وهى متصفة بها ، سواء وجدت فى الأعيان أو فى الأذهان. فالموصوف بها
الماهية من حيث هى هى ، لا الماهيّة من حيث هى
متقرّرة بالفعل متصفة بأحد الوجودين.
فإذن ،
الماهيّة الإمكانيّة حال بطلانها وعدمها متّصفة بالإمكان من حيث هى لا بشرط
بطلانها وعدمها ، والإمكان متأخّر عن مفهوم الماهيّة ومفهوم التّجوهر والوجود، لا
عن تجوهر الماهيّة واتّصافها بالوجود.
والمعنيّ
بالاتّصاف هناك أنّ العقل يجدها فى حدّ نفسها بحيث متى ما وقعت فى لحاظ العقل بالفعل
كان شأنها أن يحكم عليها بالإمكان ، لا أنّها فى القدم كذلك ، ولا أنّها إذا
تقرّرت فى الأعيان يكون لها هناك وصف ؛ وكذلك حال الامتناع والوجوبين السّابق واللاّحق
، وبالجملة سائر العوارض العقليّة قاطبة.
<٤٢> فصّ ترصيصىّ
مراتب المعلول
الصّادر عن العلّة على هذه الدّرج فى التّرتّب : أمكن فاحتاج فوجب ، أى : وجب أن
يبدع الجاعل شيئا يكون هو بعينه ، فجعل ، أى : تجوهر وتقرّر من تلقاء الجاعل ،
فوجب بالوجوب السّابق ، أى : اتّصف بالوجوب من جهة الاستناد إلى الجاعل. فوجد ، أى
: انتزعت منه الموجوديّة المصدريّة ، فوجب بالوجوب اللاّحق. فالشّيء ما لم يجب لم
يتقرّر ، وما لم يتقرّر لم يجب ، وما لم يجب لم يوجد ، وإذا وجد فقد وجب.
فبعد ما تمّ
طباع المعلوليّة بالإمكان والحاجة أوّلا يجب للجاعل أن يبدع ، فتقرّر الماهيّة ،
أى : نفس حقيقتها التّصوّريّة بإبداع الجاعل إيّاها ، فيلحظها العقل ويحكم عليها
بأنّها يلزمها فى فعليّتها أن تكون مسبوقة بأن يجب للجاعل أن يبدع شيئا يكون بعد
ما يبدع هو تلك بعينها ويكون ضرورىّ التقرّر والوجود بسبب الجاعل وهذا الحكم ما
يوجبه خواصّ طباع الإمكان.
وهذه
السّابقيّات والمسبوقيّات بالذّات بحسب المرتبة فى لحاظ العقل لا بالزّمان بحسب
تحقّق السّابق قبل المسبوق فى افق الزّمان ، ولا بالدّهر بحسب
__________________
تحقّق السّابق قبل المسبوق فى دعاء الدّهر.
فإذن ، الصّفة
، أعنى : الوجوب الّذي يتصف به الماهيّة بما هى مستندة إلى الجاعل ، متأخّرة عن
موصوفها فى لحاظ العقل والذّات الموصوفة بها عن تأثير جاعلها وتأثير الجاعل عن
احتياج المجعول إليه واحتياج المجعول عن علّته. وهذه التّأخّرات بعضها بالطبع وبعضها
بالعليّة وبعضها بالمعلوليّة.
وبعض أبناء
التّحقيق والتّحصيل لم يستوف الفحص ولم يستعمل الغور ، فزعم أنّ جميعها أربعة تأخّرات : اثنان
بالطبع واثنان بالذّات وأمّا الإمكان ، فحيث تحققت الأمر واكنتهت الكنه تعرّفت
أنّه أولى مراتب الذّات بحسب سنخ جوهر الماهيّة ؛ لأنّ الممكن ليس بما هو موصوف بالإمكان
بمتأخّر عن تأثير المؤثّر ، وإنّما يتأخّر عنه بحسب تقرّره أو بطلانه المتأخّرين
فى لحاظ العقل عن نفس ماهيّته وسنخ ذاته ، وهما اللّذان بسببهما يحكم على سنخ جوهر
الماهيّة بالاحتياج إلى المؤثّر ثمّ إلى علّة الاحتياج.
فإذن قد تأصّل
لديك أنّ الشّيء (١٢٠) ـ أى مفهومه بما له من الماهيّة التّقديريّة فى عقل ما ـ ما
لم يجب لم يتقرّر ، أى الماهيّة الحقيقيّة ، وما لم يتقرّر لم يصلح أن يحكم عليه
بالوجود السّابق ، وما لم يصلح أن يحكم عليه بالوجوب لم يوجد ، وما لم يوجد لم يجب
بالوجوب بحسب المحمول ، وما لم تكن هذه المراتب لا يتصور منه اقتضاء أصلا ، فكن
لهذه الأمور على دوام تذكّر وذكرى.
<٤> إيقاظ
كأنّك قد
تنبّهت بما نبّهناك : أنّ قولنا : «الإنسان ممكن» ليس عقدا ذهنيّا ، كما ربّما ظنّ
؛ إذ ليس مصداق الحمل ومطابق الحكم هو خصوص وجود الموضوع فى الذّهن وإن لم يكن
الإمكان إلاّ من الاعتبارات العقليّة ، بل إنّه يجب أن يعتبر مثل ذلك العقد من
الحمليّات الحقيقيّة.
__________________
<٤٤> تسريح تنبيهيّ
أنت ـ بما
انصرح لك أنّ الضّرورة بحسب الجزء أو بحسب التّقييد بقيد ما ضرورة بالغير؛ فإنّ
الغير أعمّ من الغير الخارج عن المفهوم الّذي التفت إليه ومن الغير الدّاخل فيه ، وكذلك
ما إنّ الوجوب بشرط المحمول وجوب بالغير ـ على سلطنة أن تسرّح ما يتجشّمه شيخ
أتباع الإشراقيّة فى أبواب جهات العقود فى صناعة الميزان ، من إرجاع الضّرورة بشرط
الوصف والضّرورة بشرط المحمول وبالجملة الضّرورات كلّها إلى الضّرورة بحسب الذّات
تسريحا بإحسان ؛ إذ ليس هو على مضادّة الحقّ من كلّ وجه بل من بعض الوجوه ؛ فإنّ
تلك الضّرورات ليست اتفاقيّة محضة بالقياس إلى ذات الموضوعات :
أمّا بحسب
الوقتيّين المعيّن وغير المعيّن ، فلأنّ الحكم الوقتي ينساق إلى ذلك الوقت بسياقة
لازم ضرورىّ للموضوع ، كحركة السّمائيّات اللاّزمة لها ؛ فإنّها تسوق النيّرين إلى
الكسوف والخسوف وسائر الكواكب إلى الشّروق والغروب ، فالضّرورة فى الوقتين
بالحقيقة إنّما هى لذلك اللاّزم ، وهى ضرورة ذاتيّة لا وقتيّة ، وإنّما كانت لذلك
اللاّزم ؛ لأنّه لو لا ملاحظة الذّهن نسبتها إليه ما أمكن الحكم بها أصلا ؛ وأمّا
بحسب الشّرطين ، شرط الوصف وشرط المحمول ، فالبيان فيه أظهر.
وبالجملة ، غير
اللاّزم الضّرورىّ ، سواء كان ذلك الغير عن الأوقات أو عن شرائط الحكم ، ليس يخلو
عن أنّه : إمّا أن يتعرّض له فى العقد أو يهمل.
فإن تعرّض له ،
كأن قيل : «القمر وقت الحيلولة منخسف». فالموضوع إن كان القمر وحده فوقت الحيلولة
يكون مأخوذا فى جانب المحمول جزءا ، فيكون حينئذ نسبة الخسوف وقت الحيلولة إلى
القمر ضروريّة بحسب الذّات ، لا بحسب وقت وشرط. وإن كان الموضوع هو القمر وقت
الحيلولة. فيكون الوقت قد أخذ فى جانب الموضوع جزءا منه. فيكون أيضا نسبة الخسوف
إلى هذا المجموع ضروريّة بحسب الذّات.
وكذلك إن تعرّض
بشرط غير الوقت ، كالإنسان إذا أخذ مع وصف الكتابة أو من
حيث التّقييد بالوصف كان تحرّك الأصابع ضروريّا لذات الموضوع ، كما وصف
الضّاحك بالقوّة ضرورىّ بالنّظر إلى ذات الحيوان النّاطق.
وإن لم يتعرّض
للأوقات والشرائط ، لا بالذّكر اللّهجىّ ولا الفكرىّ ، فلا ضرورة بحسبهما ، أى :
لا بحسب الوقت ولا بحسب الشّرط ، بل كانت القضيّة مطلقة ، إذ يستحيل الحكم
بالضّرورة بحسب الوقت أو الشّرط مع الإغفال عنهما.
فإذن ، لا يمكن
أن يحكم بشيء من الضّرورات إلاّ وأن يحكم بحسب ذات الموضوع. فالضّرورة المطلقة
السّرمديّة ، والضّرورة الذّاتيّة [والضّرورة بشرط الوصف الّذي جعل مع الموضوع] والضّرورة
الذّاتيّة لا على الإطلاق ، بل مع وصف الموضوع بالوجود ، والضّرورة بسبب الذّات ، والضّرورة
بشرط الوصف الّذي جعل مع الموضوع موضوعا ، والضّرورة بشرط وقت بعينه ، والضّرورة
بشرط وقت لا بعينه ، والضّرورة بشرط المحمول ـ وهى الضّرورات السّبع ـ كلّها رجعت
إلى أن تكون بحسب الذّات.
وإنّما الحيود
عن صراط الحكمة فى هذا الحكم من جهة الخلط بين ما بحسب نفس الذّات وبين ما بحسب
الجزء والتأليف أو القيد والتّقييد وعدم تميّز ما بحسب الذّات على الإطلاق لا
بسببها ما بحسب الذّات لكن لا على الإطلاق ، بل مع وصف ما خارج عن جوهر الذّات وإن
لم يكن بسبب الذّات ولا بسبب ذلك الوصف ، وما بسبب الذّات وما بشرط الوصف الّذي
جعل مع الذّات موضوعا وما بشرط ما يسوق الحكم على الذّات إلى وقت بعينه أو لا
بعينه وما بشرط المحمول بعضها عن بعض.
<٤٥> تعقيب وبحث
لقد انساق ذهن
بعض الميزانيّين إلى أنّه كما لا يجوز الحكم الدّائم الغير الضّرورىّ فى الكليّات
فكذلك لا ضرورىّ غير دائم فيها. فربّما نقض ذلك أنّه أليس بعض الماهيّات يكون لها
لوازم لذاتها وهى تقتضى سياقة كلّ واحد من
الجزئيّات الواقعة تحت تلك الماهيّة إلى أمر ما ، فيصحّ الحكم الحاصر لها
بالأمر الّذي ذلك اللاّزم سائق إليه ، فيكون الحكم لا محالة ضروريّا بحسب الوقت
الّذي يحصل فيه ذلك الأمر، كالحركة السّماويّة للأفلاك والكواكب ، فإنّها لازمة
سائقة كلّ كوكب إلى الشّروق والغروب فى وقت ما ، فيصحّ الحكم ، بأنّ كلّ كوكب يشرق
أو يغرب فى ذلك الوقت ، فهذا حكم ضرورىّ غير دائم.
ثمّ هناك بحث
على أهل صناعة الميزان ، حيث يقولون : الحكم بالدّوام على الكليّات لا يكون إلاّ
مع الضّرورة ، وأمّا الحكم على الجزئيّات فقد ينفكّ عن الضّرورة» ؛ فإن عنوا
بالضّرورة ما بالنظر إلى نفس ماهيّة الموضوع مع عزل النّظر عن الأسباب الخارجيّة
فربما انسلخ الحكم على الكليّات عن الضّرورة ، وإن عنوا ما بحسب نفس الأمر فلا
موجود من الجائزات إلاّ وهو واجب العليّة فى نفس الأمر ، فلا ينسلخ حكم عن
الضّرورة أصلا ، لا على الكليّات ولا على الجزئيّات إلاّ أنّ المعتبر فى العلوم هو
الحكم الضّرورىّ على الكليّات؛ لأنّ مراسيل العلوم البرهانيّة كليّات ومطلقاتها
ضروريّات.
<٤٦> مسألة استبصاريّة
أما استوضعت
فيما استوضعت من قبل ، فاتضح لك أنّ طباع الإمكان إنّما هو بالقياس إلى طباع
التّقرّر والوجود على الإطلاق ، لا بالقياس إلى الخصوصيّات. فالممكن ما يجوز له
بالنّظر إلى ذاته طبيعة التقرّر والوجود وطبيعة البطلان والعدم ، لا أنحاء التقرّرات
ولا أنحاء الوجودات وأنحاء البطلانات والعدمات بخصوصيّاتها ، بل ربّما امتنع بعض
الأنحاء بالخصوص ، كالبطلان قبل التّقرّر قبليّة زمانيّة ، والبطلان بعد التقرّر
بعديّة زمانيّة ، بالنّظر إلى ماهيّة الزّمان. وكذلك التقرّر بعد البطلان بعديّة
(١٢١) زمانيّة ، أو قبله قبليّة زمانيّة إلى نفس ماهيّة.
فإذن ، ليس
يلزم للممكن أن يجوز له الأزليّة بالنّظر إلى طباع ذاته. وإنّما اللاّزم له أزليّة
جواز مطلق التقرّر والبطلان بالنّسبة إلى ذاته بذاته ، وأزليّة الإمكان ليست
تستلزم إمكان الأزليّة ، بل إنّه يمكن أن يمتنع أزليّة التّقرّر للممكن
بالنظر إلى سنخ ماهيّته وإن كان جواز طبيعتى التقرّر والبطلان بالنّظر إلى سنخ
ماهيّته أزليّا له بذاته. ففرق ما بين أزليّة الجواز وجواز الأزليّة بحسب نفس
مفهومهما. وكذلك أيضا بحسب نسبتهما إلى ذات الممكن بيّن غير خفىّ ؛ فأزليّة الجواز
هى كون الممكن فى الآزال والآباد موصوفا فى لحاظ العقل لجواز التقرّر والبطلان
بالنظر إلى ذاته بذاته ، وجواز الأزليّة هو كون الممكن فى نفسه بحيث يجوز له
بجوهره أن يتقرّر ذاته أزلا وأبدا تقرّرا الا يسبقه البطلان بحسب نفس الأمر أصلا ،
لا سبقا دهريّا ولا سبقا زمانيّا. بل إنّما يسبقه فى لحاظ العقل سبقا بالذّات
فحسب.
ولعلّ ذات
الممكن بما هو على طباع الإمكان يتأتى أن يجوز له ذلك وإن كان هو من الجائزات
الممكنة فى أنفسها تقرّرا او بطلانا. أليس تسرمد التّقرّر وراء أصل التّقرر وتسرمد
البطلان وراء نفس البطلان ، ما أسهل أن يتأتى لك أن تتيقّنه. فإذن أنت فى أمرك على
بصيرة.
<٤٧> وهم افتضاحيّ
من النّاس من
لم يفرّق بين كون الآزال ظرفا للإمكان على معنى أنّ الشّيء متّصف فى لحاظ العقل
بالإمكان اتّصافا مستمرّا غير مسبوق بعدم الاتّصاف وبين كونه ظرفا للتقرّر على
معنى أنّ الشّيء متقرّر أزلا وأبدا تقرّرا غير مسبوق بالبطلان.
فظنّ أنّه
استدلّ على لزوم جواز الأزليّة لأزليّة الجواز ؛ بأنّ جواز الشّيء إذا كان مستمرّا
فى الأزل لم يكن هو فى نفسه متأبّيا عن قبول التقرّر فى شيء من أجزاء الأزل ،
فيكون عدم تأبّيه مستمرّا فى جميع تلك الأجزاء. فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم
يأب التّقرّر فى شيء منها بل جاز تقرّره فى كلّ منها ، لا بدلا فقط ، بل ومعا
أيضا. وجواز تقرّره فى كلّ منها معا هو جواز تقرّره مستمرّا فى جميع أجزاء الأزل
بالنظر إلى ذاته. فإذن ، قد اتضح الأمر ، وأنت تعلم أنّه بالافتضاح ألصق منه
بالاتّضاح.
فالمتّضح من
ذلك هو أن لا يكون الشّيء أبيّا فى شيء من أجزاء الأزل عن
طبيعة مطلق التقرّر ، لا عن التقرّر المطلق. أليس ما بحسب طباع الإمكان هو
ذاك ، لا ذا ، واستمرار الشّيء إنّما يستلزم أن يستمرّ ما مقتضى طباعه ، لا ما
يزيد على ذلك. فإذن يمكن أن لا يجوز له بالنظر إلى ذاته أن يتقرّر فى كلّ من تلك
الأجزاء بدلا وحده ، فضلا عن ذلك بدلا ومعا. فالغلط من سوء اعتبار الحمل أو
المصادرة على المطلوب الأوّل وأخذ الشّيء فى بيان نفسه.
ثمّ من
الموجودات الممكنة ما هو آنيّ الوجود وإمكانه مستمرّ فى الآزال والآباد. وكذلك
الإضافات المتخصّصة بأزمنة بأعيانها ممكنة فى الآزال والآباد ويمتنع عليها الوجود
فى غير تلك الأزمنة. فهى وإن كانت من الامور الذّهنيّة ولكن سبيل الوجودين فى هذا
الغرض واحد.
وأيضا كلّ حادث
زمانىّ بما هو حادث زمانىّ فإنّه من الجائزات لا من الممتنعات قطعا وإنّه يمتنع
عليه أزليّة التقرّر ، فإن اسند ذلك إلى قيد الحدوث لا إلى سنخ الذّات ، قيل : لا
ضير ؛ إذ الذّات بحسب قيد الحدوث لا يصحّ أن يعدّ من جملة الممتنعات.
<٤٨> تفصلة
ألم تسمعنا
نتلو عليك من قبل : إنّ من الوجود وجود الشّيء فى نفسه ومنه وجوده لغيره. فطائفة
من الجائزات طبائع ناعتيّة فى تقرّرها ووجودها قائمة بمحالّ لها ، وطائفة منها
تقوم بأنفسها فى التقرّر والوجود ، لا يكون تقرّرها ووجودها فى شيء.
فإذن ، كأنّك
لم ترتّب أن أسمعناك أنّ القسمة متأتّية فى الإمكان أيضا. فالإمكان إمّا إمكان
وجود الشّيء لنفسه وإمّا إمكان وجود الشّيء فى غيره ، وهما متقابلان متصادمان.
فكلّ ممكن الوجود لنفسه فهو ممتنع الوجود فى غيره ، وكلّ ممكن الوجود فى غيره فهو
ممتنع الوجود لنفسه.
وأيضا حيث وضح
لديك الفرق بين وجود الشّيء فى نفسه وبين وجود الشّيء لغيره ، فقد تكشّف لك أنّ
الإمكان : إمّا إمكان وجود الشّيء فى نفسه أو إمكان وجود الشّيء لغيره ؛ والأخير
أخصّ تحقّقا من الأوّل.
فكلّ ما هو
ممكن الوجود لشيء ـ أى ممكن الحلول فى شيء حلول الأعراض فى الموضوعات أو الصّور فى
الموادّ ـ فهو ممكن الوجود فى نفسه بتّة ؛ إذ لو كان ممتنع الوجود فى حدّ ذاته
لامتنع وجوده لغيره ، ولو كان واجب الوجود فى حدّ ذاته استحال حلوله فى شيء، ولا
عكس. أى : ليس كلّ ما هو ممكن الوجود فى نفسه فهو ممكن الوجود لشيء آخر ، بل :
إمّا هو واجب الوجود لشيء آخر ، كالأعراض والصّور ؛ فإنّها بذواتها يستحيل أن تقوم
بأنفسها ، أو ممتنع الوجود لشيء آخر يكون محلاّ له ، كالجواهر المفارقة القائمة
بأنفسها ؛ فإنّها لا يجوز أن تحلّ شيئا ما أصلا ، لا حلول الأعراض فى الموضوعات ؛
لكونها جواهر ، ولا حلول الصّور فى هيولاتها ، لكونها مجرّدة.
<٤٩> تنصيص ووعد
ألا اخبرك بما
ساقنى إليه سائق الفحص وقادنى إليه قائد البرهان : أنّ من خواصّ طباع الإمكان أن
يسبق تقرّر جملة الجائزات الذّاتيّة فى الأعيان بطلان فى وعاء الدّهر سبقا دهريّا
، كما يسبق ذواتها البطلان سبقا بالذّات أزلا وأبدا فى لحاظ العقل.
ولقد وقح من
جنح من الفلاسفة إلى إثبات التّسرمد فى الأعيان لتقرّر الذّات الممكنة المعلولة ووجود
الحقائق الجائزة المجعولة ، وقاحة كبيرة لا تكفّر سيّئتها فى دين العقل ولا يغتفر
إثمها فى شريعة الحكمة.
وحيث إنّ سياقة
البرهان إلى فطنتك على نظمه الطبيعىّ ما لم تألف سلوك سبيل القدس ولم تلتفت لفت
عالم العقل ممّا أراه صعب المسلك عسر المدرك جدّا ، أخّرت ذلك إلى أن أنبّئك قسطا
موفورا من أبناء العلم وأسرار الحقيقة ، وأعوّدك شطرا صالحا من عادات أخلاّء العقل
وأولياء الحكمة الّذين قصيا هممهم وقصارى نيّاتهم أن يكونوا تبعة للحقّ ورفضة
للباطل.
<٥٠ > فيصل
إنّ ما هو جائز
التقرّر والوجود فى ذاته ؛ فإنّه إمّا أن يكون جواز تقرّره ووجوده فى ذاته كافيا
فى فيضانه من جود جاعله ونور فاعله ، فيكون تامّ الصّلوح للمجعوليّة من بعد العدم
الدّهرىّ السّابق على طباع جوهره ، فيفعله الجاعل فى وعاء الدّهر ، ويكون لا محالة
خارجا عن أفق الزّمان وظاهرا عن شوائب أدناس الزّمانيّات. فربّما توقّف على شيء ما
غير ذلك أيضا ، لكن لا ممّا يعتريه التّخصّص بزمان ما.
وإمّا أن يكون
بحسب جوازه الذّاتىّ غير تامّ الصّلوح للفيضان وبحسب بعض ما يتمّ به صلوحه لقبول
الفيض غير مرتفع عن افق الزّمان ومع ذلك غير ممكن الاستيعاب لجميع الأزمنة ، فيكون
لا محالة متخصّصا بالإمكان الآخر الّذي هو غير معنى الجواز بالذّات. وهو الّذي قد
كنّا تلونا (١٢٢) عليك أنّه الإمكان الاستعدادىّ ، وأن أعود القول زيادة التّلخيص
قبل :
إنّك ستتعرّف
من ذى غرض إن شاء اللّه تعالى أنّ الجائزات مستندة فى تقرّرها ووجودها إلى جاعل
واجب التّقرّر والوجود بذاته وواجب الوجود من جميع جهاته ، وكلّ من كان كذلك
استحال أن يخصّ بعض المستعدّات بالفيض دون البعض ، بل يجب أن يكون عامّ الفيض.
وكبر إثما ومقتا
عند اللّه ـ تعالى ـ أن يستند إليه بخل أو ضنّ أو قصور أو غفلة ـ تعالى اللّه عن
ذلك كلّه علوّا كبيرا ـ إنّما الضّنانة والعطل شأن الذّوات القاصرة الجائزة والهويّات
النّاقصة الممكنة.
فإذن ، إنّما
يكون اختلاف الفيض من جهة اختلاف الاستعداد فى القوابل ؛ فإنّ للممكنات إمكانا فى
أنفسها وماهيّاتها ، وهو وصف مشترك بمعنى واحد ، كما الوجود معنى واحد مشترك.
فإن كفى ذلك
الإمكان الأصليّ فى الصّلوح للفيضان عن القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ وجب
أن يغلق فيضه ـ تقدّس وتعالى ـ اللّيس الصّرف المتبرّئ عن
الاستمرار واللااستمرار ويخرج موصوف ذلك الإمكان من البطلان والعدم إلى
التقرّر والأيس من غير أن يتخصّص جوهره وتأيّسه بوقت دون وقت. وإن كان الإمكان
الأصليّ قاصرا عن الكفاية ولم يكن له بدّ من حصول شرط آخر يكون بحسبه الاستعداد
لقبول الفيض ، فذلك هو الّذي حوول إيضاحه بالفحص.
فإذن ، يكون
لمثل هذا الممكن إمكانان : أحدهما الإمكان العائد إلى سنخ الماهيّة. وهو كون
الشّيء بحال لا يلزم من فرض تقرّره أو بطلانه بما هو هو محال. والآخر الاستعداد
التّامّ بحسب اجتماع الشّرائط المنتظرة وارتفاع المصادمات المانعة وتلك الشّرائط
تكون لا محالة سابقة سبقا زمانيّا. والاستعداد التّامّ يحصل بحدوث حوادث متسابقة وسينكشف
من بعد إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ الحوادث المتسابقة لا يمكن حدوثها إلاّ عند حركة
تتكفّل أن تقرّب المعلول من علّته بعد بعده عنها.
فإذن ، لم يكن
بدّ لتلك الحوادث من محلّ يصير بسببها تامّ القبول لما يفيض عليه بعد ذلك ، من جود
المبدأ الجواد ، وهو المادّة الّتي هى محلّ هذا الإمكان.
ونحن ـ حكماء
الحكمة الحقيقيّة اليمانيّة ـ لسنا فى هذه الأحكام على مخالفة لفلاسفة الفلسفة
اليونانيّة إلاّ فى حكم واحد ، فإنّا نردعهم عمّا زاغوا فيه عن الحقّ زيغا بعيدا وحاصوا
عن الحكمة حيصا شديدا حيثما افتتنوا بدوام التّجوهر للمجعولات وتهوّسوا بتسرمد
الوجود للمعلولات. وباللّه الاستعاذة من الشّقاوة الأبديّة والغواية السّرمديّة.
<١٥> استيفاء
إنّ القيّوم
الواجب بالذّات ـ جلّ جنابه ـ قد أعطى كلّ شيء ما يحتاج إليه بالضّرورة فى تقرّره ووجوده
وفى حفظ تقرّره ووجوده وما هو فوق الحاجة الضّروريّة ممّا هو أحرى له وأليق بحسب
الإمكان.
فإن كان ذلك
الإمكان فى مادّة فبحسب الاستعداد الّذي فيها ، وإن لم يكن فى مادّة فبحسب إمكان
الأثر الفائض فى نفسه ، كالعقول المفارقة. وبالتّفاوت فى
مراتب الإمكانات تتفاوت درجات الوجودات فى الكمالات والنّقصانات. فإن كان
تفاوت الإمكانات فى النّوع كان الاختلاف بالنّوع ، وإن كان ذلك التّفاوت فى
إمكانات الأشخاص فاختلاف الكمال والنّقصان يكون فى الأشخاص. والكمال المطلق إنّما
هو حيث الوجوب بلا إمكان ، والوجوب بلا عدم ، والفعل بلا قوّة ، والخير بلا شرّ ، والحقّ
بلا باطل.
ثمّ كلّ تامّ
فإنّه غير تامّ فى نفسه لا تماميّة ذاتيّة وإنّه ناقص الحقيقة فى جوهره نقصانا غير
محدود بالنّسبة إلى محوضة كمال المبدأ الأوّل ، ولا نهاية مجده فى مراتب الشّدّة والقوّة
والتّماميّة وفوقيّة التّماميّة ؛ إذ كلّ ما سواه ممكن فى ذاته ، والإمكان منبع
الشّرّ ومغناطيس النّقصان. ثمّ الاختلاف بين التّوالى فى الأشخاص والأنواع يكون
بحسب رتبة الإمكان ودرجة الاستعداد. وهذه الإمكانات هى أسباب الشّرّ والفقدان ،
فلهذا لا يكون أمر من الامور الممكنة وجوهر من الجواهر الجائزة خلوا من مخالطة
الشّرّ ولا عروا من ملابسة الفقدان ؛ إذ الشّرّ هو العدم كما الخير هو الوجود ، والفقدان
هو القوّة كما الوجدان هو الفعليّة. وحيث يكون الإمكان أكثر يكون الشّرّ أكثر والفقدان
أوفر.
فإذن ، نسبة
بعض الممكنات بالإمكان أحقّ ، ونسبة الجواز إلى بعض الجائزات أولى ؛ لاختلاف
الإمكانات كثرة وقلّة. وكما الوجود يقال بالتّشكيك فكذلك جواز الوجود. وبالجملة ،
الموجودات ـ ما خلا واجب التقرّر والوجود الّذي تقرّره ووجوده بنفس ذاته ـ ممكنة
التقرّر والوجود.
إلاّ أنّ (١)
منها : ما إمكان تقرّره ووجوده فى غيره. ومثل ذلك يتقدم تقرّره بالفعل تقرّره
بالقوّة تقدّما بالزّمان. والّتي هى كذلك من الجائزات هى الممكنة الكائنة. و (٢)
منها : ما إمكان تقرّره ووجوده فى ذاته ـ وهو الّذي إمكانه معه ـ ولم يتقدّم
تقرّره بالفعل تقرّره بالقوّة فى شطر من أشطر الزّمان أصلا. بل إنّما سبق تقرّر
ذاته بالفعل بطلان فى اللاّخلاء واللاّملاء الزّمانىّ ؛ أعنى اللّيس الصّرف ،
الّذي نسبته إلى الامتداد الزّمانىّ نسبة اللاّخلاء واللاّملاء إلى الامتداد
المكانىّ. والّتي هى
كذلك من الذّوات الجائزة هى الممكنة المبدعة ، كالعقول وسائر المبدعات. وإنّما
يقال فيها : إنّها جائزة التّقرّر والوجود ، بمعنى أنّها من بعد نفس اللّيس الصّرف
، لا أنّها بعد استمرار اللّيس أو لا استمراره ، وبمعنى أنّ تعلّق تقرّرها ووجودها
لا بذاتها ، بل بجاعلها الموجد إيّاها بنفس جعل ماهيّاتها ؛ فهى بالإضافة إليه
متقرّرة موجودة ، وباعتبارها فى ذواتها باطلة هالكة ، أى : ليست متقرّرة ولا
موجودة. وليس يصدق هناك من معانى الإمكان غير هذين المعنيين أصلا ، إلاّ الإمكان
العامّ.
<٥٢> تتمّة تفصيليّة
قد علمت أنّ
نسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص ، وأنّ ما يجب وجوده لا بذاته هو الّذي
لوضع شيء ما ليس هو ، صار واجب الحصول.
مثلا ، إنّ
الأربعة واجبة الحصول لا بذاتها ولكن عند فرض اثنين واثنين ؛ والاحتراق واجب
الحصول لا بذاته ولكن عند فرض التقاء القوّة الفاعلة بالطبع والقوّة المنفصلة
بالطبع ، أعنى المحرقة والمحترقة ، ولا يكون ذلك إلاّ بإيجاب العلّة الموجبة
بالضّرورة.
وإنّ مكساب
الوجوب ومجلاب الإيجاب فى جملة ما له تعلّق بالمادّة ، سواء كانت الأنواع
الجوهريّة الجسمانيّة وأشخاصها أو الصّور والأعراض أو النّفوس النّاطقة الإنسانيّة
هو الإمكان الاستعدادىّ ، وهو التّهيؤ للكمال ، ليتحقّق بعض المنتظرات من الشّرائط
ويبطل بعض المصادمات من الموانع ويقبل الشدّة والضّعف بحسب القرب من الحصول والبعد
عنه ، لحصول الكثير ممّا ليس منه بدّ أو القليل.
فاستعداد
النّطفة للصّورة الإنسانيّة أضعف من استعداد العلقة لها ، وهو من استعداد المضغة وهكذا
إلى استعداد البدن الكامل ؛ واستعداد الجنين للكتابة أضعف من استعداد الطفل لها. ويحدث
حصوله بحدوث بعض الأسباب والشّرائط وانبتات وجود بعض الأضداد والموانع وينصرم استمرار
حصوله : إمّا لحصول الشّيء بالفعل وإمّا لانقطاع الأسباب وطرء الموانع.
وهذا الإمكان
غير الإمكان الذّاتىّ ؛ لاقتضائه رجحان الطّرفين وقبوله الشّدّة والضّعف ، وعدم
لزومه لماهيّة الممكن وقيامه بمحلّ الممكن ، لا به ، وكونه من الامور المتحققة فى
الأعيان قائمة بمحالّها ، لانّه كيفيّة حاصلة للمادّة مهيّئة إيّاها لإفاضة المبدأ
الجواد وجود الحادث فيها ، كالصّورة والعرض ، أو معها ، كالنّفس المجرّدة. بخلاف
الإمكان الذاتىّ فى جميع تلك الأحكام.
ثمّ إنّ
الاستعداد القائم بالنّطفة ، مثلا ، ينسب إليها ويسمّى استعدادها للصّورة
الإنسانيّة وينسب إلى الصّورة الإنسانيّة ويسمّى إمكانها فى النّطفة. فالإمكان
الوقوعىّ بما هو إمكان وقوعىّ للممكن قائم بمحلّه ؛ لأنّه المتّصف بالاستعداد والبعد
والقرب حقيقة وإنّما يوصف به الممكن لتعلّقه به وانتسابه إليه ، لا لأنّه وصفه
حقيقة ، فهو بالوصف بحال المتعلق أشبه. وأمّا الإمكان الذّاتىّ فهو وصف الممكن
بحسب حاله. فهذا فرق آخر بينهما.
وربما يقال :
إذا كان بمحلّ ، من شأنه أن يحلّ فيه صورة أو عرض ، موانع تصادم حصول ذلك الحالّ
فيه أو شرائط يتوقّف ذلك الحصول عليها ، فبحسب بطلان تلك الموانع وحصول تلك
الشّرائط تحصل فى ذلك المحلّ كيفيّة مهيّئة إيّاه لوجود ذلك الحالّ فيه ، فعلك
الكيفيّة تسمّى استعدادا ، والقبول اللاّزم لذلك الاستعداد ، وهو الّذي يسمّى
إمكانا استعداديّا ، والقرب والبعد أولا فتان عارضتان لذلك الاستعداد الّذي هو من
مقولة الكيف. وليس للاستعداد بدّ من مادّة ؛ لأنّه تدريجىّ منتقل من ضعف إلى قوّة ومن
بعد إلى قرب ، وكلّ تدريجىّ حادث زمانيّ ، وكلّ حادث زمانىّ فله مادّة البتة.
ومن النّاس من
يزعم أنّ نفس الكيفيّة المزاجيّة يقال لها : الإمكان الاستعدادىّ باعتبار آخر.
فالكيفيّة المزاجيّة فى النّطفة ، مثلا ، إذا اعتبرت فى نفسها كانت كيفيّة
مزاجيّة؛ وإذا نسبت إلى الصّورة الإنسانيّة قيل : إنّها إمكان استعدادىّ لها. وكذلك
الشّيء غير الكيفيّة المزاجيّة يكون فى نفسه شيئا ما وبالنّسبة إلى شيء بخصوصه
إمكانا ، كصحن الدّار ؛ فإنّه صفة الدّار. فإذا أحضره الذّهن وأحضر قدر ما يسع من
الرّجال كان إمكان وجود ، وسيعاد إليك بيانه والفحص عنه فى باب القوّة والفعل إن
شاء اللّه العزيز العليم.
<٥٣> تختمة فى اعتبار بعض الأحكام للممتنع بالذّات
<أ> تنبيه تذكيريّ
ألست (٣٤٢) على
تذكّر لما اتّضح أنّ الواجب بذاته لا يكون واجبا بغيره ، فاستعمل مثل ما سلف من
البيان فى الممتنع بالذات ، واحكم أنّ ما يمتنع بذاته يستحيل أن يمتنع بغيره ، وإلاّ
لبطل امتناعه ببطلان ذلك الغير. وأيضا ، لا يتصوّر لذات بعينها بطلانان ولا لبطلان
ذات بعينه ضرورتان ، فلا يتصوّر تكثّر شيء من التقرّر والبطلان والوجود والعدم والضّرورة
واللاّضرورة إلاّ بتكثّر الموضوعات. فإذن ، يستحيل أن يكون فيه بطلان ماهيّة
مفروضة بعينها بحسب الذّات وبحسب الغير معا أو على التّناوب. فالممتنع بالذّات
يكون ضرورة بطلانه بحسب نفس ذاته فقط بالضّرورة. فإذن ، قد استقام أنّ معروض ما
بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذّات بتّة.
<ب>بتحديق استبصاريّ
يليق بنا أن
نعلمّك أنّ العقل كما أنّه لا يليق أن ليتعقّل القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ جنابه
ـ كذلك لا يقدر أن يتعقّل الممتنع بالذّات.
أمّا القيّوم
الواجب بالذّات فلغاية عزّه وجلاله ، بسبب محوضة قدّوسيّته وعلوّ مجده فى الكمال وسلطان
كبريائه فى القاهريّة وتساطع أشعّة ظهوره فى الباهريّة وتراكم لا تناهى نوره فى
الشدّة ، وفرط نقص العقل بالنّسبة إلى قوّة كماله ، مع كونه كاملا فى نفسه
بالإضافة إلى من دونه ؛ فإنّه من هذه الجهة أضعف من أن يقوى على اكتناهه.
وأمّا الممتنع
بالذّات ، فلفرط نقصه وبلوغه أقصى أفق النّقصان إلى حيث أن تجاوز صقع الشّيئيّة ،
فليس فى عالم التقرر من شيء حتى يقدر العقل على اكتناهه.
فإذن ، القيّوم
الواجب بالذّات لا يمكن أن يتعقل ؛ لأنّه لسعة ذاته وتماميّة وجوده وعدم تناهى
مجده محيط بكلّ شيء ويمتنع أن يحيط به شيء ؛ والممتنع
بالذّات يستحيل أن يتعقّل ، لأنّه باطل الذّات ، فاقد الشّيئيّة ، ليس له
نصيب من التّذوّت ولا حظّ من التقرّر حتى يستطيع أن يحيط به عقل ويناله مشعر ويتقرّر
إليه تقرّر.
<ج> ذنابة قانونيّة
إنّ من
الاعتراضات الخسيسة على تبيانات خلقيّة أو استقاميّة مؤسّسة على فرض امور مستحيلة
، فيتوصّل بذلك إلى استحالة امور مسلوك إليها بالقصد ، ما فشى عند عامّة الجدليّين
أن يقال : هذا المفروض محال ، والمحال جاز أن يستلزم المحال ، ولا يستشعر أنّه لا
فرق بين المحال والممكن فى الاستلزام بعلاقة عقليّة طبيعيّة وعدمه بعدمها.
أليس أنّ
الملازمة لا يقتضيها إلاّ العلّة الموجبة إمّا بين نفسها ومعلولها أو بين
معلوليهما. وقد كنّا أسمعناك فى سالف القول أنّه يكون لأحد المعلولين مدخليّة ما
فى الآخر لا محالة. وأ ليس الشّرطىّ اللّزومىّ ما يكون الحكم فيه بصدق التّالى على
تقدير المقدّم لعلاقة بينهما طبيعيّة. وبهذا ينحاز عن الشّرطىّ الاتّفاقىّ.
وكما الاستلزام
لا يتحقق بالفعل إلاّ فى الامور الممكنة بتحقق العلاقة الطبيعيّة بالفعل ، فجواز
الاستلزام لا يكون إلاّ بجواز تحقّق العلاقة. فإذا صحّ عند العقل أن يكون بين
المحالين على تقدير تحقّقهما علاقة طبيعيّة يكون بحسبها اللّزوم ، جاز أن يحكم
بالاستلزام بينما ؛ وإلاّ بطل بتّة (١٢٤).
فإذن ، المحال
قد يستلزم محالا آخر : إمّا بالضّرورة الفطريّة أو الحدسيّة ، كما يستلزم تحقّق
مجموع ممتنعين ذاتيّين تحقّق أحدهما ؛ أو كما يستلزم حماريّة زيد ، مثلا ،
ناهقيّته ، وإمّا بالاقتباس ، كما الدّور يستلزم التّسلسل ؛ وقد لا يستلزمه إذا لم
يكن بينهما علاقة عقليّة ، بل ربّما يصادمه إذا كان العقل يجد هناك علاقة المنافاة
، إمّا بالفطرة أو بالحدس ، كما فى تحقّق المركّب من ممتنعين بالذّات بالنّسبة إلى
تحقّق أحدهما فقط ، أو حماريّة الإنسان بالنّسبة إلى صاهليّته. وإمّا بالقياس إلى
فيناس كما فى حماريّة الإنسان بالقياس إلى ادراكه الكليّات على تقدير الحماريّة.
فإذن ، قولنا :
«المحال جائز أن يستلزم المحال» قضيّة موجبة مرسلة. وقولنا : «الواقع لا يستلزم
المحال» سالبة حاصرة محيطة. فإذن ، المتصل اللّزومىّ من كاذبين إنّما يصدق إذا كان
بينهما علاقة اللّزوم.
فإذا لم يكن
علاقة اللّزوم : فإمّا أن يكذب الحكم بالاتصال رأسا إذا وجد العقل بينهما المنافاة
، وإمّا أن يصدق الاتصال الاتفاقىّ دون اللّزومىّ إذا لم يكن هناك علاقة أصلا ، لا
علاقة الملازمة ولا علاقة المصادمة. وذلك أيضا إنّما يصحّ على سبيل الاحتمال
التّجويزىّ ، لا الحكم البتّىّ ؛ إذ الاتفاق إنّما يكون بين المتحقّقات. وأمّا
الكاذبات الاتفاقيّة ، أى المعدومات والممتنعات معا على سبيل الاتفاق ، فلعلّ
التّحقّق التّقديرىّ يتفق لبعضها دون بعض. فإذن لا يصدق الحكم البتّىّ بأنّ
الكاذبين المتفقين كذبا يتّفقان صدقا أصلا.
<د>تعقيب فيه تهذيب
من المقلّدين
من يكتفى فى الحكم بجواز اللزوم بين محالين بعدم المنافاة بينهما وإن لم يجد العقل
علاقة اللّزوم. ومنهم من يعتبر فيه العلاقة ويظنّ أنّها قد تتحقق مع المنافاة ،
فإذا تحققت حكم بجواز الاستلزام. وإنّما التّعويل فى الفتوى على ما أسلفناه. وكيف
يجوز اقتران الاستلزام والمنافاة وهما متصادمان بتّة.
وربما يتشبّث :
بأنّ اجتماع النّقيضين مستلزم لارتفاعهما ؛ لأنّ تحقّق كلّ من النّقيضين يستلزم
ارتفاع الآخر ، والجوز فيه غير متوار ؛ فإنّ تحقق أحد النّقيضين فى نفس الأمر
يستلزم ارتفاع الآخر ، لا تحقّقه على تقدير محال ، وهو اجتماعه مع الآخر. فتحقّقه
على ذلك التّقدير يستلزم تحقّق الآخر ، لا ارتفاعه. فمن أين يلزم ارتفاعهما.
ومن هناك ينحلّ
ما يتشكك فيقال : إنّ اللّزوميّات لا تنتج متصلة ، لأنّ ملازمة الكبرى يحتمل أن لا
تبقى على تقدير ثبوت الأصغر. مثلا ، إذا قلنا : كلّما كان هذا اللّون سوادا أو
بياضا كان سوادا ، وكلّما كان سوادا لم يكن بياضا ، بطلت الملازمة فى الكبرى إذا
ثبت الأصغر. فإذن ، لا يلزم من ذلك : كلّما كان هذا اللّون سوادا أو
بياضا لم يكن بياضا.
والحلّ : أنّ
الوسط إن وقع فى الكبرى على الجهة الّتي بها يستلزم الأكبر لزمت النّتيجة بتّة ، وإلاّ
فلم يكن مشتركا. ففيما تمثّل به السّواد فى الكبرى بالمعنى المضادّ للبياض وى الصّغرى
بالمعنى المجامع له ، فلذلك لم يبق الملازمة مع الأصغر. فالخلل إنّما وقع بسبب عدم
اشتراك الوسط ، لا بسبب العارض التّابع.
فإذن ، الوسط
فى مثل هذا المقام : إن اخذ على وجه يجوز أن يحمل ويصدق عليه النّقيضان أو
الضّدّان فى كلتا المقدّمتين كذبت الكبرى وبطل لزوم النّتيجة ؛ وإن أخذ فى إحدى
النقيضتين على وجه وفى الاخرى على وجه آخر لم يتكرّر الأوسط.
وأورد فى
الشفاء شكّ على السّياق الأتمّ من اللّزوميّتين يجرى مجرى ما سمعت. وهو أنّه يصدق
: كلّما كان الاثنان فردا كان عددا ؛ وكلّما كان عددا كان زوجا ؛ مع كذب : كلّما كان
الاثنان فردا كان زوجا.
ودفع : بأنّ
الكبرى إن أخذت اتفاقيّة لم ينتج القياس ؛ لأنّ شرط إنتاج الإيجاب أن يكون الأوسط
مقدّما فى اللّزوميّة ؛ وإن اخذت لزوميّة كانت ممنوعة الصّدق. وإنّما يصدق لو لزم
زوجيّة الاثنين عدديّة على جميع الأوضاع الممكنة الاقتران مع العدديّة ؛ ولا كذلك
، إذ من الأوضاع الممكنة الاقتران مع عدديّة الاثنين كونه فردا. والزّوجيّة ليست
بلازمة على هذا الوضع.
وربما يقال : فيه ضعف ؛ فإنّا نختار أنّ الكبرى لزوميّة ، وفرديّة
الاثنين ليست ممكنة الاجتماع مع عدديّته ، لكونها منافية للاثنينيّة ، فتكون
منافية لذات الاثنين ، فزوجيّة الاثنين لازمة لعدديته على جميع الأوضاع الممكنة
الاجتماع معها ، فتصدق لزوميّة.
وحقّ الدّفع ما
فى الشفاء : أنّ الصّغرى كاذبة بحسب الأمر نفسه لا بحسب
__________________
الإلزام. وبحسب الإلزام كما يصدق الصّغرى بصدق النّتيجة أيضا ؛ لأنّ من يرى
أنّ الاثنين فرد ، فلا بدّ له من أن يلتزم أنّه زوج أيضا ، وإلاّ لم يكن يلزم أنّ
الاثنين زوج بل غير الاثنين.
والّذي نحن
نفتى به هو أنّ الدّفعين متشاركا المذهب فى القوّة والضّعف فى الأوّل ؛ فإنّه (١)
إن اريد أنّ بين عدديّة الاثنين وفرديّته منافاة فى نفس الأمر فهو حقّ. ولا ضير ،
إذ الأوضاع الممكنة الاقتران مع فرض المقدّم ليس يجب أن لا يكون شيء منهما غير
مناف له فى نفس الأمر. (٢) وإن اريد أنّ المنافاة تكون متحققة بحسب جميع
الاعتبارات فهو ليس بحقّ ؛ فإنّ الملازمة بين فرديّة الاثنين وعدديّته صارت متحققة
بحسب وضع ما وتسليم ما. فإذن زوجيّة الاثنين ليست بلازمة لعدديّته على جميع
الأوضاع الممكنة الاقتران معها ولو بحسب الوضع والتّسليم.
وأمّا ما يظنّ : «إنّا إن جوّزنا المنافاة بين طرفى الملازمة فعدم
إنتاج اللّزوميّة ظاهر متيقن ، لجواز أن لا يندرج الأصغر تحت الأوسط اللاّزم له ،
لكونه منافيا له ، فلا ينتج القياس وإن لم يجوّزها ففى الإنتاج نظر ؛ لأنّ لزوم
التّالى للمقدّم فى المحيطة من اللّزوميّة : إمّا أن يعتبر فيه كونه لازما له فى
كلّ وضع من تلك الأوضاع ، أو لم يعتبر فيه ذلك. فإن لم يعتبر لم ينتج السّياق
الأتمّ ، فضلا عن سائر السّياقات ، إذ الأصغر من الأوضاع الأوسط ، فجاز أن لا
يلازمه الأكبر على تقدير ثبوت الأكبر فى جميع الأوضاع ، فلا ينتج الإيجاب ؛ وجاز
أن لا يلازمه على تقدير سلب الأكبر عنه فى جميع الأوضاع ، فلا ينتج السّلب. وإن
اعتبر لزوم التّالى لسائر الأوضاع فيتوقف تعقّل الموجبة المحيطة على اعتبار لزومات
غير معدودة الأوضاع او لا غير معدودة وذلك إمّا ممتنع أو عسر ، فما ظنك بإثباتها» .
فمحسوم : بأنّ
تجويز المنافاة بين المقدّم والتّالى (١٢٥) إنّما يكون مبدأ
__________________
عدم الإنتاج لو كان الإنتاج يستدعى اندراج الأصغر فى الأوسط فى
الاقترانيّات اندراجا فعليّا بحسب الأمر نفسه فى الواقع. وليس كذلك ؛ إذ العقل
المعتبر فيه أعمّ من أن يكون بحسب نفس الأمر أو بحسب الإلزام.
فالأوضاع
الممكنة الاقتران مع مقدّم الكبرى فرضا جاز أن يكون بعضها منافيا له فى نفس الأمر
مجامعا له بحسب فرض وتقدير وتسليم. فإذن مجرّد كون مقدّم الصّغرى منافيا لتاليها
ليس يقتضي عدم الاندراج المصادم للإنتاج. وأيضا مقتضى إحاطة الشّرطيّات هو كون
التّالى لازما للمقدّم فى جميع أوضاع المقدّم ، لا لزوم التّالى لتلك الأوضاع
أيضا. وأيضا اعتبار اللزومات الغير المعدودة على سبيل الإجمال معن.
ولو توقّف
تعقّل الموجبة المحيطة على اعتبار لزومات غير معدودة لأوضاع غير معدودة على سبب
التفصيل ، لتوقّف تعقّل كلّ عقد موجب محيط جملىّ على تعقّل جميع الأفراد الغير
المتناهية للموضوع ، ضرورة أنّ الحكم فى الحاصرة المحيطة على الطبيعة من حيث تصلح
للانطباق على كلّ فرد فرد من الأفراد اللاّمتناهية. ومن المستبين بطلانه.
< ه>وهم وتحصيل
ربما يهيد سرّك
أن تقول : إذا بطل أن يستلزم مفهوم ما ممكن أو محال ما ينافيه ، فإذن ما شأن
الأقيسة الخلفيّة يثبت بها الشّيء على فرض عدمه ، ويلزم منها الشّيء من فرض نقيضه؟
وأ ليس يقال : عدم الزّمان قبل وجوده قبليّة زمانيّة وبعد وجوده بعديّة زمانيّة
مستلزم لوجوده ، ولا تناهى الأبعاد يوجب تناهيها؟
فيقال لك : إن
عنيت : «أنّه يبيّن هناك أنّ المستحيل المفروض الوقوع لو كان حاصلا فى نفس الأمر
كان عدمه واقعا فيها. ولو كان المتحقق فى نفس الأمر هو نقيض الشيء كان الشّيء
متحققا فى نفس الأمر ؛ والزّمان لو كان عدمه واقعا قبل وجوده أو بعد وجوده قبليّة
أو بعديّة زمانيّة لم يكن معدوما قبل الوجود أو بعده» ؛ فذلك من الأكاذيب الفاسدة
الباطلة ؛ إذ المفروضات لو وقعت على تلك التّقادير
تكون متحققة فى الواقع بتّة.
وإن عنيت : «أنّه
يتبيّن بالتّبيانات أنّه لو فرض شيء من تلك الامور كان هناك ما يسوق إلى أنّ هذا
الفرض غير مطابق للواقع من حيث إنّه فرض للنّقيضين وفرض لعدم الشّيء ووجوده معا» ؛
فذلك ما يرومه الرّائمون فى تلك المواضع ، وليس فيه استيجاب استلزام الشّيء ما
ينافيه ، بل إنّما استيجاب امتناع الشّيء لكونه مساوق اجتماع المتنافيين.
وبالجملة ،
الفرض الّذي فى التّبيانات الخلفيّة هو تقدير الشّيء على أنّه مفروض ، لا على أنّه
متحقق. فيقال : إنّا لو فرضنا ذلك الشّيء وتصوّرناه لعلمنا تحقّق عدمه ، لا أنّه
لو تحقق هذا الشّيء فى الواقع لكان عدمه متحققا فى الواقع. وهذا أصل معتبر فى
تعرّف الحقائق واسع النّفع وتامّ الإجداء فى المواقع العلميّة والمواضع
البرهانيّة.
فإذن ،
المستحيل المفروض بحسب مفهومه المتمثّل فى لحاظ العقل يحكم عليه باستلزامه لاجتماع
المتنافيين بحسب المفهوم المتمثّل فى لحاظ العقل ، وهما بما هما متمثلان فى لحاظ
العقل ليسا من المستحيلات ، بل من الممكنات العامّة.
ثمّ يبيّن أنّ
المفهوم الملزوم ليس عنوانا لشيء من الحقائق الّتي هى فى عالم إمكان التّقرّر ؛
لكون المفهوم اللاّزم ليس هو عنوانا لشيء من الأشياء الّتي هى فيه ، فيرجع إلى الاستدلال
بانتفاء اللاّزم على انتفاء الملزوم أو بجعل الشّرطىّ بحسب الوضع الفرضىّ ونفى
لازمه جميعا موجبا لبطلان الفرض ، فيكون مجموع العقد الشّرطىّ والعقد الاستثنائىّ
ملزوما للحكم باستحالة المفروض ، لا فرض المفروض فحسب.
<و>ختم
توقّف شيء ما
على محال بالذّات لا يستلزم استحالة المتوقّف بالذّات ، بل إنّما بالغير فقط ،
لاستحالة الموقوف عليه بالذّات. وأمّا أنّ الموقوف عليه إن كان موصوفا ، كالممتنع
بالذّات ، والموقوف صفة ، كالامتناع بالذّات ، كان استحالته
بالذّات ملزوم استحالة الموصوف بالذّات. وذلك لحصول الموصوف بما هو موصوف والصّفة
بما هى صفة. ففى بقعة الادّعاء من دون برهان فاصل ؛ وإنّ جواز استلزام المحال
محالا آخر ، لا على الإحاطة ، بل جزئيّا بحسب تحقّق العلاقة يعمّ المحال بالذّات والمحال
بحسب استحالة الموقوف عليه.
والآن قد فرغنا
من استقصاء النّظر فى عناصر العقود والأحكام وخواصّ لموضوعاتها ، أعنى : الواجب
بالذّات والممتنع بالذّات والممكن بالذّات. فعلى ذلك فلنختم القول فى «المسافة
الخامسة» من «الصّرحة الأولى» من كتاب الافق المبين واسطرلاب الحقّ وفرجار اليقين
، ونأخذ إلى «المسافة السّادسة» ، حامدين لبارئنا الحقّ العليم الحكيم القيّوم
الواجب بالذّات ـ جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه ـ بلساننا الدّاثر الجسمىّ وبلساننا
الباقى العقلىّ حمدا تامّا بليغا كثيرا متواترا متوافرا ، يسمك وراء مسموكات عقول
الحامدين ويرفع فوق سماوات نفوس العارفين ، عدد علمه وحكمته وزنة حلمه وقدرته وسعة
فضله ورحمته ، حمدا يطوى قصوى فدفد الغاية ويبلغ أقصى أمد النّهاية ويوازى إحاطة
حقوق المنن العظيمة الباهرة الرّبوبيّة بهذه الذّمّة القاصرة الحائرة المربوبيّة.
فمنه له الحمد
على ما منّ عليّ بفيض جوده وبسط عطائه ، فآتانى من الحكمة الحقّة النّقيّة
المروّقة ما نساق إلى أن نأتمّ به ونصطفّ خلفه ـ عصابة أسلاف الحكماء السّابقين
بعلومهم وإدراكاتهم وتنقاد إلى أن تختضع له وتطوف حوله أخلاف الشّركاء السّالفين
بعقولهم وتعقّلاتهم. وصلوات اللّه وتسليماته على أكرم أرومات الإمكان وأشرف شعوبات
الإنسان ، سيّدنا ونبيّنا وهادينا وسائقنا إلى مبدئنا ومعيدنا ، محمّد وأهل بيته
الأطيبين الأنجبين المطهّرين الأطهرين. والملك والملكوت والظّلمات والنّور والخلق والأمر
للّه ربّ العالمين.
المسافة السّادسة
[في اوعية الوجود وسنن الموجودات]
من الصّرحة الأولى من كتاب الافق المبين وهو دستور الحق والميزان اليقين ،
عجّل اللّه فرج العلم والحكمة بتيسير إتمامه بفيضه وإنعامه ومنّه وإكرامه
(١٢٦).
فى إحقاق حقّ النّظر فى أوعية الوجود وسنن الموجودات
بحسبها وضروب التّقدّم والتّأخّر والمعيّة والأحكام المختلفة
باختلافها وما يلتصق بتلك الأسرار ، ويلتحق بتلك الأنظار
< في المسافة السادسة مقدمة وفصول خمسة >
المسافة السادسة
في اوعية الوجود وسنن الموجودات
في مقدمة وخمسة فصول
المقدمة مرآة للمتعلمين
الفصل الأوّل فى التقضّى والتجدّد وهو الزمان
في هذا الفصل أحد وعشرون عنوانا
الفصل الثانى فى معنى الدهر والسرمد
فى هذا الفصل تسعة عشر عنوانا
الفصل الثالث فى الدوام والبقاء والأزل والأبد والسرمديّة
فى هذا الفصل أحد وأربعون عنوانا
الفصل الرابع فى أقسام التقدّم والتأخّر على الطريقة الحقة
فى هذا الفصل ثمانية عشرة عنوانا
الفصل الخامس فى آراء أهل الحكمة والكلام وختم المسافة
فى هذا الفصل اثنتى عشرا عنوانا
<مقدّمة>
< هذه
الكوكبة مرآة لمعاشر المتعلّمين >
وينبغى ، أوّلا
، أن يعترف كافّة المتعلمين بما ألزم اللّه ـ سبحانه ـ لهذا الاسلوب النّقىّ
اليمانىّ المروّق والنّمط النّضيج البرهانىّ المحقّق من الحقّ الثّابت على ذمم
فطرهم العقليّة والعهد القارّ فى أعناق قرائحهم الرّوعيّة. فلنا : بفضل اللّه ورحمته
فى سياقات صناعات العلوم ومسافات «العلم الأعلى» على الإطلاق عموما ، ولا سيّما فى
«مسافتنا» هذه من علمنا الأعلى هذا ، خصوصا ، سياحات عقليّة وسباحات روعيّة وسلوكات
قدسيّة وشهودات ملكوتيّة.
وإنّى مذ ثقفت
انحياصات الفلاسفة فى هذه «المسافة» عن صراط الحقّ وتوغّلاتهم فى طريق الباطل وإحصافاتهم
شراسيف دعاويهم برباطات شبهات داهية العوصاء وعصامات احتجاجات داهرة الدّماء واغتيالات
تلفيقاتهم المعذوذبة ، عقول جمهور المقلّدة وأذهان عامّة المتعلّمة ؛ كنت أقول ،
تأسيّا بقول سيّدى ومولاى ، سيّد المؤمنين ومولى المسلمين وأفضل الوصيّين ـ عليه
أبلغ صلوات المصلّين :
«واللّه لإن
بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحام الوذام التّربة. وأيم اللّه لأبقرنّ الباطل حتّى
أخرج الحقّ من خاصرته» .
__________________
وكنت أتضرّع
إلى ربّى المفضال وألحّ فى الابتهال والسّؤال. وأجعل نفسى المجرّدة يدا أبسطها إلى
جنابه مسألة منه ، وعقلىّ الرّوعىّ عينا أشخصها تلقاء بابه ضراعة إليه ، إلى أن
فتح عليّ ببسطه باب العلم وآتانى من جوده مفتاح الحكمة.
فتحصّلت فقه
السّرّ وتعرّفت دخل الأمر ، ثمّ حسمت مذاييع الشّكوك من عروقها وجبت سلسلة الأوهام
بشقوقها. فالجاهل الحائر لا يستفيق من جهله إلاّ برهيق هذا العلم الرّاوق ، والغاوى
التّائه لا يتطرّق إلى سواء السّبيل إلاّ بوميض هذا النّور الشّارق.
فاستضيئوا ،
معاشر المتعلّمين ، بأضواء هذه الكوكبة الملكوتيّة ؛ فإنّها مرآة للحكمة ومنساة
للظّلمة ومثراة للمعرفة ومصفاة للفلسفة. واللّه وليّ المواهب والخيرات ، وبيده
أعنّة الماهيّات والإنيّات وأزمّة الحقائق والوجودات ، وهو على كلّ شيء قدير.
فصل < أوّل>
<الزّمان>
يذكر فيه ما بالحرىّ أن يقال هاهنا فى أفق التّقضّى والتّجدّد ، وهو
الزّمان
إنّا قد استقصينا ما يستحقّه هذا الفصل ، وأو فينا حقّ النّظر فيه على أفضل
الوجود وأبلغ الأقوال فى كتابنا الصراط المستقيم. وإنّما نورد الآن هنا
قسطا صالحا
من ذلك ، لسنا على استغناء منه فيما نحن بسبيله.
< فى الفصل الأوّل أحد وعشرون عنوانا >
<١> إخاذة
إنّ كون
الزّمان فطرىّ الإنّيّة مقتبص الماهيّة ممتدا امتداد الكميّات المتّصلة ، به
تتكمّم الحركة ، يشبه أنّ الحقّ ليس يتعدّاه ، والفئة المستنكرة وجوده غير موثّقة
الغريزة. ويعنى بتكمّم الحركة تكمّمها بحسب أجزائها الغير القارّة المتقدّمة والمتأخّرة
بحسب الوجود فى الأعيان حدوثا وبقاء جميعا ، أو بحسب الوجود فى الذّهن حدوثا فقط ،
فتفترق عن تكمّمها بالمسافة ، سواء أريدت بالحركة جملة أنواعها أو مطلق الحركة فى
أيّة مقولة كانت ؛ إذ تكمّم الحركة بها إنّما يكون بحسب أجزائها القارّة المجتمعة
باعتبار الوجود البقائىّ الارتسامىّ فى الأذهان لا غير.
<٢> سياقة تنبيهيّة
أليس بعض
الحوادث بوجوده أو عدمه يسبق بعضا بحيث يصحّ للعقل بمعونة الوهم أن يتصوّر مرور
أمر ممتدّ بهما ، فيختصّ كلّ منهما بجزء معيّن منه ينطبق هو عليه. فهذا نحو من
القبليّة والبعديّة.
وما أسهل لك
بسليم ذوقك أن تحكم أنّ الوجود والعدم ، بما هما وجود وعدم أو بما هما مضافان إلى
أشخاص معيّنة ليست بينها علاقة التّقدّم والتّأخّر بما هى تلك الأشخاص ، يمتنع أن
تعرضها تلك القبليّة والبعديّة بالذّات. فإذن ليس بدّ من أن يكون لهما معروض بالذّات.
فالمعروض بالذّات هو ما نسمّيه «الزّمان».
وأنت إذا
استقصيت الفحص صادقت المستنكرين فى الاعتراف من حيث هم لا يشعرون. أليسوا يأخذون
شطرا شطرا ـ ويعيّنون القرون والسّنين والشّهور والأيّام والسّاعات ، لا على أنّ
ذلك مجرّد اعتبار من أذهانهم واختراع من أوهامهم ، بل على أنّه اعتبار وقوعىّ بحسب
نفس الأمر.
وما ريم تبيّنه
فى أوّل الفحص ليس إلاّ أنّ الزّمان الممتدّ المتشطّر إلى الأشطر موجود فى مطلق
نفس الأمر ، سواء كان ذلك بتحقّقه فى الأعيان أو بارتسامه فى الذّهن بحسب وجود
راسمه فى الأعيان.
ثمّ النّظر
الغائر والفحص البالغ يكشفان الحقّ المتعيّن بوجوب الإذعان ويبيّنان أنّه بامتداده
الاتصالىّ موجود فى الأعيان.
فإن هاد سرّك :
أنّ التّصديق بهذه القبليّة والبعديّة يتوقف على التّصديق بوجود الزّمان ، كما أنّ
تصوّر هما يتوقّف على تصوّره. فكما لا يصحّ تحديده بهما فكذلك لا يصحّ محاولة
إثبات وجوده بهما.
قيل لك : إنّ
هذه القبليّة والبعديّة من الفطريّات. وليس يتوقف التّصديق بهما على شيء أصلا ،
بعد ملاحظة حال الحوادث ، بعضها بالنّسبة إلى بعض ، بما يشاهد
من التّعاقبات فى التّقرّرات والبطلانات. على أنّا لم نكن نكترث بمثل ذلك
فى التّنبيه على وجود الزّمان ، لأنّه من الأشياء المعروفة الإنيّة. وإنّما الغرض
الّذي يرام بالتّبيانات التّنبيهيّة إيضاح ما فيه خفاء ببسط ما وكشف ما لا اقتناص
حقيقىّ.
وإن أزعجك أنّ
التّصديق بالقبليّة والبعديّة على هذا الأسلوب متضمّن للتّصديق بالأمر الممتدّ ، وهو
الزّمان ، لا أنّه متوقف عليه مجرّد التّوقّف فحسب. فإذن يكون الشّيء قد أخذ بعينه
فى تبيان نفسه.
أزيح : بأنّ
مشاهدة حال الحوادث تعطى التّصديق بهاتين على وجه يتضمن الوجود الوهميّ للأمر
الممتدّ ، فيجعل ذلك ذريعة إلى إثبات الوجود العينىّ للزّمان : إمّا بنفسه أو
براسمه ؛ بأن يقال : القبليّة والبعديّة المستلزمتان للممتدّ الوهمىّ تعرضان
المتقرّرات العينيّة فى الذّهن بحسب حالها (١٢٧) فى الأعيان ، فيلزم أن يكون لا
محالة لعروضهما وجود عينىّ. فإذن يكون فى الأعيان أمر موجود بحذاء ذلك الممتدّ
الوهمىّ ، وهو إمّا نفس الزّمان أو راسمه بتّة.
<٣> مشعب وتحكيم
هل استبان لك
سبيل الفلاسفة اليونانيّة والإسلاميّة فى التّبيانات ، وهو أنّ الحادث بعد ما لم
يكن له قبليّة يمتنع بها للقبل والبعد أن يكونا معا فى التقرّر ، لا كقبليّة
الواحد على الاثنين وأمثالها ، من الّتي لا تمنع ذلك ، ففيه تجدّد بعديّة بعد
قبليّة باطلة ، وليست هى نفس العدم فقد يكون العدم بعد ، ولا ذات الفاعل فقد يكون
قبل ومع وبعد ؛ فإذن هناك شيء آخر لا يزال يتجدّد ويتصرّم على الاتصال.
وبالجملة ، إنّ
العدم المعروض للقبليّة لا يأبى نظرا إليه بما هو فرد من طبيعة العدم أن تزول عنه
تلك القبليّة وتعرضه البعديّة ، فينقلب كلّ من القبليّة والبعديّة إلى الاخرى أو
أن يكون بحيث يمكن أن تعرضه البعديّة لا القبليّة من بدء الأمر ، كما أنّه يمكن له
أن تعرضه القبليّة لا البعديّة ابتداء ؛ إذ طبيعة العدم بما هى تلك الطبيعة لا
تقتضى أن تتعاقب أفرادها فى التّحقق ، ولا أن يختصّ شيء من أفرادها بالقبليّة
أو البعديّة ، ولا يكون أيضا اختصاص ذلك العدم بالقبليّة من جهة الإضافة
إلى الحادث المعيّن ؛ فإنّ ذلك الحادث بما هو عدم ذلك الحادث قد يكون بعد بالفعل ،
وليس يأبى بما هو عدمه أن تعرضه البعديّة من البدء أو بعد ما كان معروضا للقبليّة.
وكذلك ذات الفاعل لا تأبى أن تكون قبل أو مع أو بعد ، بل قد يتحقق جميع ذلك فى نفس
الأمر.
فإذن ، يكون
إنّما اختصاص ذلك العدم بتلك القبليّة من جهة ما ، أنّه يقارن لما هو فرد من طبيعة
متجدّدة متصرّمة. فإذن ، ما يقتضي اختصاص بعض الأفراد بالقبليّة بالقياس إلى بعض وبعضها
بالبعديّة إنما هو كون تلك الأفراد أفراد طبيعة متجددة متصرّمة ، لا غير. فإذن
يكون معروض القبليّة هو القبل بذاته ومعروض البعديّة هو البعديّة بذاته.
فكما أنّ
الموجوديّة تنتهى إلى حيث يكون الوجود عين ذات الموجود ، فيكون هو موجودا بذاته ؛
فكذلك السّبق الّذي لا يجتمع بحسبه السّابق والمسبوق ينتهى إلى أن تكون القبليّة
عين ذات القبل والبعدية عين ذات البعد ، فيكون الشّيء قبلا بذاته أو بعدا بذاته.
فإذن ، قد ثبت
شيء يلزمه أن يتجدّد ويتصرّم بطباعه ويجب أن يكون ذلك على الاتصال ؛ إذ من الجائز
أن نفرض متحرّكا ما يقطع مسافة يكون حدوث هذا الحادث مع انقطاع حركته. فيكون لا
محالة ابتداء حركته قبل هذا الحادث ، فيكون بين ابتداء الحركة وحدوث الحادث
قبليّات وبعديّات متصرّمة ومتجدّدة مطابقة لأجزاء المسافة والحركة ، فتكون هذه
القبليّات والبعديّات متصلة اتّصال المسافة والحركة. فإذن قد استقرّ أنّ ذلك
الشّيء المتجدّد المتصرّم موجود غير قارّ الذّات ، متّصل فى ذاته اتّصال المقادير.
فالآن ، لو بدا
لك أن تتبادر هذا المسلك وتوازن بينه وبين المحجّة اليمانيّة البيضاء ، فاجعل
العقل القائم بالقسط حكما ؛ فإنّه يقضى لك بالحقّ ويحكم أنّ القبليّة الّتي تحجز
بين القبل والبعد وبين أن يكونا معا فى حصول التّقرّر أعمّ وأوسع من
الّتي تعرض الزّمان بالذّات وتتصف بها الزّمانيّات بالعرض. فنحو منها يكون
باعتبار الزّمان ونحو آخر منهما يتقدّس عن الوقوع فى افق الزّمانيّات وإنّما يكون
بحسب الدّهر والسّرمد.
فإذن ، لو
اقتديت بالمحدقين بعرش نضج الحكمة انصرح لك أنّ القبليّة الّتي لا تتصوّر إلاّ مع
توهّم تخلّل ممتدّ أولا ممتدّ بين القبل والبعد إنّما تكون لكون طبيعة متجدّدة
متصرّمة متّصلة تقتضى أن يكون هناك قبل وبعد بالذّات.
وأمّا مطلق
القبليّة الّتي تصدّ القبل والبعد عن الاقتران فى التّحقّق فإنّما يكون لكون
التّحقّق حاصلا بالفعل لما هو قبل من دون أن يكون حاصلا لما هو بعد فى نفس الأمر ،
ولا يكون حاصلا لما هو بعد إلاّ ويكون قد حصل أوّلا لما هو قبل.
فإن كان ذلك
بحيث يتخلل بينهما ممتدّ بالذّات أو لا ممتدّ بالذّات هو من حدود الممتدّ بالذّات
كانت القبليّة زمانيّة ، وإلاّ كانت النّحو الآخر ، أعنى الدّهريّة والسّرمديّة ، وسيجاء
به فى مستأنف القول إن شاء اللّه تعالى.
فإن استفتيت : أليس
مفهوم المطلقة العامّة الفعليّة هو التّحقّق فى أحد الأزمنة.
قيل لك : كلاّ
، بل إنّما يكون كذلك إذا كان موضوع العقد من الزّمانيّات دون ما إذا كان خارجا
عنها. وذلك غير مغفول عنه فى أقوال رؤساء الفلسفة فى صناعة الميزان.
فإذن ، قد
تكشّف لك أن مصير الفلاسفة فى إثبات وجود الزّمان ليس إلى مقيل التّحصيل ، ومسيرهم ليس على سبيل التّعويل ، وأنّ محجّة نضج الحكمة على ما
تلى عليك لمن صرف الحقّ وقراح اليقين ؛ فاستمع بصدق قريحتك للحكمة ولا تكن من
الممترين.
<٤> عصام دفاعيّ
__________________
القبليّة والبعديّة
المخصوصتان وإن كانتا من الإضافات الّتي لا توجد إلاّ فى العقول؛ فإنّ ثبوتهما فى
العقل بحسب نحو وجود الأشياء فى الأعيان يفضى إلى وجود معروض لهما بالذّات مع تلك
الأشياء ، وهو الزّمان. فالزّمان هو الموجود فى الخارج تلحقه القبليّة لذاته ، ويلحق
ما سواه ، ممّا يقع فيه بسببه فى العقل. أمّا نفس القبليّة ، فليست من الموجودات
المختصّة بزمان دون زمان ؛ لإنّها أمر اعتبارىّ يصحّ تعقّله فى جميع الأزمنة ؛ وإن
اخذت من حيث تقع بحسب التّعقّل فى زمان بعينه كان حكمها حكم سائر الموجودات فى
لحوق قبليّة أخرى يعتبرها الذّهن لها ولا يتمادى الأمر إلى غير النّهاية ، بل
يتقطّع بانقطاع الاعتبار الذّهنىّ وكونهما إضافيّتين يجب أن توجدا معا ليس يصادم
أنّ معروضهما متّصل غير قارّ الذّات ؛ لأنّ الإضافيّتين العقليّتين يجب أن يوجد
معروضاهما معا فى العقل ، لا فى الأعيان ؛ وعدم الحادث يصحّ أن يتّصف بالقبليّة
باعتبار المقارنة لمعروضها ؛ إذ العدم المقيّد بشيء ما يكون معقولا بسبب ذلك
الشّيء ويصحّ لحوق الاعتبارات الوجوديّة العقليّة به من حيث هو معقول.
<٥> توثيق إخصافيّ
إنّ فى هذا
العروض بالذّات ـ وهو المسمّى بالزّمان ـ حقيقة متجدّدة متصرّفة بذاتها ، تنفرض
فيها قبليّات متصرّمة وبعديّات متجدّدة مطابقة للأجزاء المنفرضة فى المسافة والحركة
ومتصلة اتصالهما. فهو مقدار الحركة الّتي هى التّقضّى والتجدّد ، ويضاهى سائر
المقادير فى استحالة التّألّف من غير المنقسمات ، وليس له ماهيّة غير اتّصال
الانقضاء والتّجدّد.
كما أنّ الكم
المتصل هو مقدار الجسم ولا حقيقة له سوى امتداد الجسم. فكذلك الاتصال امتداد ليس
يتجزّى إلاّ فى الوهم ، فليس له أجزاء بالفعل ، ولا فيه قبليّة وبعديّة قبل
التّجزية. ثمّ العقل بمعونة الوهم ربما يحلّله إلى أجزاء تخرجها من القوّة إلى
الفعل. فتلك هى القبليّات والبعديّات.
ولسنا نعنى
بذلك : أنّ الزّمان تلزمه تلك لذاته وتلزم سائر الأشياء بسببه ؛ فإنّ
التّقدّم والقبليّة هو معنى لذات جزء ما من أجزاء الزّمان ، وليس معنى ما
يكون لذاته وثابتا مع ثبات ذاته ، ومستحيل فيه أن يبقى مع ذات الجزء الآخر الّذي
معناه البعديّة استحالة لذاته ، ومستحيل فيه أيضا أن يصير مع.
وأمّا الشّيء
الّذي له هذا المعنى فلا يستحيل فيه ذلك ؛ فإنّه تارة يوجد وهو قبل ، وتارة يوجد وهو
مع ، وتارة يوجد وهو بعد ، وهو واحد بعينه. فنفس الشّيء الّذي هو قبل وبعد لذاته
لا يجوز أن يبقى هو بعينه (١٢٨) ، فيكون بعدا بعد ما كان قبلا ؛ فإنّه ما جاء
المعنى الّذي به الشّيء بعد ، إلاّ وبطل ما هو به قبل ، والشّيء ذو هذا باق مع
بطلان الأمر القبل.
فإذن ، إنّما
نعنى أنّ ذلك النّحو من القبليّة لا يزيد على حقيقة الزّمان ، بل ما به القبليّة
هى نفس أجزاء الزّمان ، سواء كان القبل والبعد هى أو غيرها ، فكلّه جزء من أجزاء
الزّمان هو نفس القبل والقبليّة باعتبارين. وكذلك ما به المعيّة فيما يجرى فيه
المعيّة الزّمانيّة ؛ فإنّه أيضا بعينه هو جزء من أجزاء الزّمان.
فإذن ،
التّقدّم والتّأخّر ليسا بعارضين يعرضان الأجزاء فيصيّرانها متقدّمات ومتأخّرات ،
بل إنّ تصوّر عدم الاستقرار الّذي هو حقيقة الزّمان يستلزم تصوّر التّقدّم والتّأخّر
للأجزاء المفروضة فيه لعدم الاستقراء ، بل هما جزء آن منه أو حدّان مفروضان فيه.
فالسّؤال : ب «أنّه
لم اختصّ هذا الجزء أو هذا الحدّ بالتّقدّم والآخر بالتّأخّر مع تشابه الجزءين أو
الحدّين وتساويهما فى الحقيقة» يرجع إلى مثل أن يقال : «لم اختصّ هذا الجزء من
المقدار بهذا الحدّ أو هذا الحدّ بهذا الوضع». ولعلّك لا ترتاب فى أنّ هذيّة الجزء
لا تحصل بدون ذلك ، فيصير حاصل هذا السّؤال : أنّه لم كان هذا بهذا؟ فهذا معنى
عروض التقدّم والتّأخّر للزّمان بالذّات.
فأمّا ما له
حقيقة غير عدم الاستقرار يقارنها ذلك فإنّما يصحّ حمل المتقدّم والمتأخّر عليه
بتصوّر عروضهما له. فنحن إذا قلنا : اليوم وأمس ، لم نحتج إلى أن نقول : اليوم
متأخّر عن أمس ؛ لأنّ نفس مفهوميهما تتضمّن معنى هذا التّأخّر. وأمّا
إذا قلنا : العدم والوجود ، مثلا ، فقد احتجنا إلى لحاظ أن يقترن معنى
التقدّم بأحدهما حتى يصير متقدّما. وكذلك معيّة ما هو فى الزّمان للزّمان غير
المعيّة بالزّمان ، أعنى معيّة شيئين يقعان فى زمان واحد ؛ لأنّ الأولى تقتضى نسبة
واحدة لشيء غير الزّمان إلى الزّمان هى متى ذلك الشّيء ، والاخرى تنحلّ إلى نسبتين
لشيئين يشتركان فى منسوب إليه واحد بالعدد ، هو زمان ما. ولذلك لا يحتاج فى الأولى
إلى زمان يغاير الموصوفين بالمعيّة ويحتاج فى الثّانية إليه.
وبالجملة ،
القبليّة والبعديّة اللّتان لا تجتمعان ويتصوّر مرور أمر ممتدّ بهما لا بدّ من أن
يكون بحسب الزّمان وانفصاله الوهمىّ. أمّا فى أجزاء الزّمان فبحسب الزّمان الّذي
هو نفس القبل والبعد. وأمّا فى غيرها فبحسب الزّمان المحيط بالشّيئين اللّذين يقال
لهما القبل والبعد ، والمعيّة الّتي بحسب الاجتماع فى جزء من أجزاء الأمر الممتدّ
أو فى حدّ من حدوده أيضا على هذا السّبيل.
فمعيّة الحركة
للزّمان غير معيّة شيئين هما غير نفس الزّمان ؛ فإنّ معيّة الحركة والزّمان هى متى
الحركة ، أى كون الحركة فى زمان ، ومعيّة شيئين زمانيّين غير نفس الزّمان هى أنّ
متى أحدهما غير متى الآخر ، أى كونهما فى زمان واحد. فالمعيّة الأولى ليست بحسب
زمان خارج عن المعين بخلاف الثّانية ، فلا يلزم من كون الحركة فى زمان كون الحركة والزّمان
فى زمان.
<٦> وهم وتنبيه تلخيصيّ
ولعلّك تقول : أليست
القبليّة والبعديّة من مقولة الإضافة ، والزّمان كم متّصل ، فكيف يكون الإضافة نفس
حقيقة الكم والمقولات متباينة.
فيقال لك : قد
تلخّص أنّ الزّمان متصل واحد لا جزء له بالفعل أصلا. فإذا حلّله الذّهن إلى أجزاء وأصناف
، كلا منها إلى آخر ، ووجدان بعضها قبل وبعضها بعد ، على أنّ مصداق حمل القبل والبعد
نفس ذينك الجزءين ، لا شيء آخر يكون هو ما به القبليّة والبعديّة.
وأمّا مصداق
حمل القبل والبعد على غير أجزاء الزّمان فإنّما هو مقارنة بعض تلك الأجزاء ، لا
غير ؛ فهذا ما يعنى بأنّ القبليّة والبعديّة لا تزيدان على حقيقة الزّمان ، لا كون
الإضافيّتين عين ذات الزّمان. فإذن مرجع ذلك إلى أنّ الحكم بالقبليّة والبعديّة
ليس يحتاج إلاّ إلى تحليل الزّمان إلى الأجزاء وإضافة بعضها إلى بعض. فعند ذلك
يصير كلّ منها قبلا وقبليّة أو بعدا وبعديّة باعتبارين ، لا من حيث المقارنة لشيء
، بل من تلقاء هويّتى الجزءين بذاتيهما. فإذن ، ليس أنّ القبليّة والبعديّة من
الأعراض الأوّليّة لحقيقة الزّمان. بل الحقّ معنى آخر فوق ذلك. وليس يلزم كون
الإضافة عين ذات الكم.
<٧> تقرير
وهناك ضرب من
البيان بحسب النّظر فى إمكان قطع مسافة واحدة بحركات مختلفة متشابهة وقطع مسافات
متساوية أو مختلفة بحركات متشابهة أو مختلفة. فمن البيّن أنّ فى الحركة اختلافا ،
بسببه يختلف قطع مسافات ، وهو اختلاف فى مقادير الحركات ؛ لأنّه لو كان اختلافا فى
مقدار ثابت لما اختلف به قطع المسافات والإمكانات المختلفة فى هذا البيان بإزاء
القبليّات والبعديات فى البيان الأوّل.
فقد يعتبر
مجموع الإمكانات المختلفة ، وقد يؤخذ إمكان واحد منقسم بانقسام المسافة ؛ فإنّ
الحركة الّتي يقطع بها نصف المسافة لا يمكن أن يقطع بها جميعها ، ولا التى يقطع
بها ثلثها يمكن أن يقطع بها نصفها.
ولا يعنى
بالإمكان هاهنا الإمكان الحقيقىّ ؛ فإنّه ليس يتعدّد ولا يكون له نصف وثلث وغيرهما
، بل يعنى أمر يقع فيه الحركات ، أى أمر ممتد يتّسع لقطع المسافة المعيّنة
بالسّرعة المعيّنة كأنّه قالب له منطبق هو عليه. فإذن يثبت للحركة مقدار.
وإذ ليس
المقدار ماهيّة الحركة ، إذ ماهيّة الحركة هى الخروج من القوّة إلى الفعل يسيرا
يسيرا. فيكون هو ... يكون شيء منه قبل شيء ، وشيء منه بعد شيء ، وسائر الأشياء،
فما طابق منها جزءا هو قبل قبل له قبل ، وما طابق جزءا هو بعد قبل
له بعد. وتلك الأشياء هى ذوات التّغيّر ، إذ لا فائت ولا لاحق حيث لا تغيّر
، وكيف يكون قبل وبعد إذا لم يحدث أمر فأمر ولم يكن اختلاف وتغيّر.
فإذن ، الزّمان
إنّما يكون حيث يكون فاسد وحادث ، فهو مادّىّ موجود فى المادّة ، ووجوده متعلق
بالمادّة ووجوده فى المادّة بتوسّط الحركة ، ولا يوجد إلاّ بتجدّد حال مع استمرار
ذلك التّجدّد ، لأنّه إذا كان أمر دفعة ثمّ لم يستمرّ ، بل كان شيئا آخر دفعة ، لم
يخل : إمّا أن يكون بينهما إمكان تجدّد امور أو لا يكون : فإن كان فيكون فيما
بينهما قبل وبعد ، وإن لم يكن بينهما هذا الإمكان فهما يلتصقان ، فيلزم أن يتلى
الآنات ويلزم من ذلك حركات على مسافات غير متحيّزة ، وكلّ ذلك محال. فإذن ،
الزّمان كم متصل غير قارّ وليس هو بذى وضع.
<٨> إشارة
إنّ للحركة
كميّة من جهة مقدار المسافة ، فتزيد وتنقص بزيادتها ونقصانها ، وليس معنى ذلك :
أنّ للحركة كميّة عارضة من جهة المسافة وللمسافة كميّة اخرى ، بل إنّ كميّة للحركة
هى كميّة المسافة. وإنّما الزّيادة والنّقصان تعرضان الحركة لكميّة المسافة ، كما
فى السّواد الحالّ فى الجسم.
وكذلك لها
كميّة من جهة الزّمان. وهذه عارضة لها. وأيضا لها عدد من حيث انقسامها إلى أجزاء
متقدّمة وأجزاء متأخّرة حسب انقسام المسافة إليهما ، إلاّ أنّ الأجزاء المتقدّمة
فى المسافة تكون فى الوجود مع المتأخّرة منها ، بخلاف ما بإزائهما من متقدّمة
الحركة ومتأخّرتها ؛ فإنّهما لا يكونان معا بحسب الوجود فى افق الزّمان. وكذلك من
جهة الزّمان إذا انقسم إلى أجزاء متقدّمة ومتأخّرة. ولكن ذلك إنّما يحصل من جهة
المسافة.
فالزّمان يتجزى
بالحركة ، والحركة بالمسافة ؛ فإنّ اتصال المسافة اتّصال للحركة الّتي هى علّة
للزّمان المتّصل بذاته ، وانفصالها انفصال للحركتين اللّتين هما علّتان لزمانين ،
كلّ منهما متصل بذاته.
فالتّقدّم والتّأخّر
من جهة ما هما
للحركة معدودان لها ، فإنّها بأجزائها تعدّ المتقدم والمتأخّر. فالحركة لها عدد من
حيث لها فى المسافة تقدّم وتأخّر ومقدار بإزاء مقدار المسافة.
فإذن ، ما أيسر
لك أن تحاول تحديد حقيقة الزّمان : بأنّه كميّة الحركة ومقدارها ما دامت على
اتّصالها وعددها إذا انفصلت إلى متقدّم ومتأخّر ، لا بالزّمان ، بل من جهة ما يتبع
انقسام المسافة. وأمّا إذا اعتبرته كميّة (١٢٩) وعددا لها لا من جهة المسافة ، بل
من جهة التّقدّم والتّأخّر اللّذين لا يجتمعان ؛ فربما أفضى بك إلى الوقوع فى
الدّور إلاّ بارتكاب تسامح ما .
ثم إنّ من
فلاسفة الإسلام من يجعل الزّمان مقدار الحركة من جهة المتقدّم والمتأخّر اللذين لا
يجتمعان بحسب الوجود الغير القارّ ، ومنهم من يجعله مقدارها من تلك الجهة ، لكن
بحسب الوجود القارّ فى العقل ، أى : من حيث يجمع العقل متقدّمتها ومتأخّرتها.
ولعلّ الأشبه
بالحقّ والأعذب فى ذوق التّحقيق أنّ وجود الحركة فى الذّهن لمّا كان بحسب حدوث
الارتسام غير قارّ وبحسب البقاء قارّا ، فالزّمان هو مقدار للحركة بحسب الوجود
البقائىّ القارّ الذّهنىّ وفوق ذلك معنى هو سرّ الحقّ وحقّ التّحصيل. وهو أنّ
الحركة الممتدّة لمّا كانت على اتصالها أمرا موجودا فى الخارج نحوا ما من الوجود وإن
لم يكن لها وجود قارّ فى افق الزّمان بحسب الأجزاء المفروضة فيها. فإذن ، الزّمان
مقدار الحركة بحسب وجود مجموعها ذلك النّحو من الوجود فى الأعيان بحسب وعاء
الدّهر.
__________________
<٩> مقالة تلويحيّة
أما عندك من
المستبين أنّ المقدار الممتدّ لا يعرض شيئا على سبيل الانطباق عليه ما لم يكن فيه
صلوح لأن يقال : إنّه متّصل ممتدّ. والحركة لا تصلح لذلك من حيث سنخ طبيعتها ، بل
إنّما من جهة المسافة على أنّ يتكمّم بنفس كميّة المسافة الخارجة عنها. فهذا
المعنى المصحّح لعروض المقدار الّذي هو الزّمان يتقدم فى المحلّ على عروض الحالّ
تقدّما بالطبع ، فيكون علّة لوجود الحالّ ، أعنى الزّمان ولعروضه لمحلّه ، أعنى
الحركة.
ألست إذا لاحظت
الحركة فى ذاتها حكمت أنّها حقيقة هى كمال بالقوّة أو خروج من قوّة إلى فعل. وليس
فى طبيعة هذا المعنى أنّ هناك بعدا ما بين المبتدأ والمنتهى متّصلا قابلا للقسمة
الوهميّة ؛ بل إنّما يعلم ذلك بنوع من النّظر يحقّق أنّ هذا المعنى إنما يوازى
المقدار المتصل لا غير. فلا يدخل فى ماهيّتها تقدّر واتّصال ، بل إنّما يكون لها
ذلك من جهة المسافة واتّصال المسافة يصير علّة لوجود التّقدّم والتّأخّر فيها.
فالحركة بحسب
اتّصال المسافة تقتضى وجود مقدار لها هو الزّمان باتّصاله ، وبحسب انفراض الأجزاء
فى ذلك الاتصال المستلزم لحصول المتقدّم والمتأخّر فى الحركة تقتضى وجود عدد لها
هو الزّمان من حيث الانفصال إلى القبليّات والبعديّات. فإذن ، الحركة متصلة من
جهتين ، وعلّة اتّصال الزّمان اتّصال المسافة بها بتوسّط اتّصال الحركة بها.
ولسنا نعنى
بذلك : أنّه علّة لضرورة الزّمان متّصلا ؛ كيف وهو متّصل بذاته لا بعلّة ولا بأمر
عارض ، بل إنّما نعنى عليّته لذات الزّمان المتصل بذاته. فاتصال المسافة من حيث ما
هو اتصال للحركة علة لوجود الزّمان الّذي هو بذاته متصل واتّصال لذاته وللحركة. وليس
يصحّ أن يفرض للحركة اتصال بسبب اتصال المسافة حتى يكون هناك اتصال آخر غير اتصال
المسافة واتصال الزّمان. وأمّا اتّصال الزّمان فإنّه أمر حالّ فى الحركة عارض لها.
فإذن علّة الحركة علّة للزمان وهو بنفس ذاته متصل. كما أنّ سبب الحرارة سبب لنفس
الحركة الّتي هى كيفيّة بذاتها ، والحركة علّة للزّمان.
ثمّ الزّمان
باتّصاله مقدار لها وعلّة لكونها ذات مقدار ، وبحسب الانفصال إلى القبليّات والبعديّات
عدد لها وعلّة لكونها ذات عدد. فإذن ، الاتّصال المسافيّ يقتضي وجود المتقدّم والمتأخّر
فى الحركة على الاتّصال ، وعدد المتقدّم والمتأخّر يكون بمقدار الحركة ، والحركة
بعد الزّمان على أنّها مقتضى وجود عدد الزّمان من المتقدّم والمتأخّر ، والزّمان
يعدّ الحركة على أنّه نفسه عدد لها. كما أنّ وجود معروض العدد علّة لوجود العدد
العارض ، ثمّ هو يعدّ المعروض على أنّه عدد له.
واعتبر الأمر
فى وجود النّاس بالنّسبة إلى عددهم. وهو ، مثلا ، عشرة. فلوجودهم وجدت العشريّة ، وهى
جعلهم لا موجودين ، بل أشياء معدودين ، أى ذوى عدد. فإذا عدّتهم نفس لم يكن
المعدود طبيعة الإنسان ، بل العشريّة الّتي حصّلها افتراق الطّبيعة وإن كانت هى
أوجبت لها المعروضيّة للعدد.
فكما النّفس
بالإنسان تعدّ العشريّة فكذلك بالحركة تعدّ الزّمان. ومن لم يستطع إلى التّحصيل
سبيلا ظنّ أنّ فى هذا الأصل اشتمالا على الدّور ، وهو تخييل منشؤه تعطيل ترتيل
التّدبّر وإهمال الرّويّة له.
<١٠>دعامة تتميميّة
كانّك إذن تحكم
أنّ الزّمان ، لكونه بذاته مقدارا ، يكون استعداد الموهوم من القسمة فيه له بذاته
، والحركة ليست كذلك. وأمّا تعيّن الامتداد بالفعل فإنّما يلزمه بسبب الحركة
المعيّنة. فإذن ، الحركة علّة لوجود الزّمان كما الجسم لوجود المقدار. وتعيّن
الحركة بخصوصها علّة لتعيّن التّناهى واللاّتناهي لامتداد الزّمان. وكذلك تخصيص
تناه بعينه من التّناهيات.
ثمّ الزّمان
علّة لكون الحركة غير متناهية المقدار أو متناهيته وذات مرتبة بعينها فى تناهى
المقدار ، والمحرّك علّة لوجود الحركة ، فهو علّة اولى لوجود الزّمان وعلّة أيضا
لثبات الحركة المستتبع لازدياد كميّتها ، أعنى الزّمان ، ولا علّة لكون الزّمان
مستعدّا لأن يمتدّ إلى نهاية معيّنة أولا إلى نهاية أصلا ؛ فإنّ ذلك له لذاته ،
كما كان
قبول الانقسام له بذاته.
لكن وجود هذا
المعنى ـ أعنى التّمادى إلى نهاية أو إلى لا نهاية بالفعل ـ إنّما يكون له بسبب
المحرّك وبتوسّط الحركة. كما أنّ وجود الانقسام بالفعل إنّما يكون بقاسم خارج.
فالحركة بذاتها توجد الزّمان على نحو يلزمه استعداد قبول الانقسام لذاته ، وبثباتها
كونه ممتدّا إلى نهاية أو لا نهاية بالفعل.
ثمّ الزّمان
يفيد كون الحركة ذات مقدار متناه أو غير متناه. فكثير من الأشياء يوجد أمرا ، ولذلك
الأمر صفة أوّليّة ، ثمّ يكون له تلك الصّفة بالقصد الثانى ، فهذا سبيل الفلسفة.
وأمّا صراط نضج
الحكمة فيؤدّى إلى أن تتعرّف مع ما تعرّفت أنّ التّمادى فى الوجود إلى لا نهاية
بالفعل مستحيل فى الكم مطلقا ، سواء كان كمّا ذا وضع أو كمّا غير ذى وضع. وسيتلى
عليك تبيانه إن شاء اللّه تعالى.
<١١> شكّ وتحصيل
ليس من
المستبعد أن يزعج سرّك أنّ الحركة ما لم تكن موجودة مشخّصة لم يصحّ أن تصير علّة
للزّمان ؛ لأنّ العلّة متقدّمة على المعلول فى الوجود ، والوجود هو بعينه التّشخّص
أو مساوقه. والزّمان هو من جملة مشخّصات الحركة وإن لم يكن من مشخّصات كلّ ما يقع
وجوده فى أفق الزّمان على الإطلاق ؛ لأنّ الحركة لا توجد منسلخة عن السّرعة والبطء،
وهما لا ينفكّان عن وجود الزّمان ، بل عن تعيّنه ، فالسّرعة المعيّنة إنّما هى
بحسب زمان بعينه.
وربّما كان
كذلك ، لزم أن يكون الزّمان متقدّما على الحركة ، فلو كان الزّمان عرضا هو مقدار
الحركة والحركة علّة له ، لزم تقدّم الحركة على الزّمان ؛ فإذن يلزم تقدّم كلّ
منهما على الآخر ، وأنّه محال. فينبغى لك أن تعلم أنّ الحركة بما هى حركة جزء علّة
أو شرط فى وجود الزّمان.
ثمّ الزّمان
شرط فى تشخّص الحركة وتعيّنها ، كما قد قيل لك من قبل فى الصّورة والهيولى : إنّ
الصّورة من حيث هى صورة ما جزء لعلّة الهيولى المتشخّصة ، والهيولى الشّخصيّة بوجه
ما علّة لتشخّص الصّورة ، أى للصورة الشّخصيّة من حيث هى صورة شخصيّة.
ثمّ الحركة
المتعيّنة المتشخّصة بما هى متعيّنة متشخّصة علّة بنحو ثباتها لكون الزّمان
متماديا إلى لا نهاية أو متناهيا بالفعل وعلى مرتبة متخصّصة فى التناهى. ثمّ
الزّمان بحسب ذلك التّعيّن علّة لكون الحركة ذات مقدار غير متناه أو متناه متخصّص
التّناهى.
ويجب أن يتحقق
أنّ معلول الشّيء بما هو معلول ليس يلزمه أن يكون معلولا لتشخّص ذلك الشّيء إلاّ
أن تكون العلّة جاعل الذّات فاعل الوجود ؛ فإنّ العقل ينقبض عن كون مرتبة المجعول
المفعول فى التّحصّل فوق مرتبة الجاعل الفاعل ، وحظّه من التّعيّن أقوى من حظّه. وليس
ذلك فى سائر العلل والمعلولات وفى طباع العليّة والمعلوليّة بما هما عليّة ومعلوليّة.
فإذن ، ليس يلزم أن يكون الزّمان معلول الحركة الشّخصيّة بما هى شخصيّة وإن لم
تنسلخ فى الوجود عن التّشخّص.
فإذن ، طبيعة
الحركة الّتي هى محلّ الزّمان جزء علّة الزّمان ، لا طبيعة أيّة حركة كانت، وتشخّصها
مشروط بالزّمان مطلقا. أى : تشخّص أيّة حركة كانت ، لا تشخّص الحركة الّتي هى محلّ
الزّمان فحسب ، ولا دور.
<١٢> فيصل تحديقيّ
فى أمر الزّمان
شتات ظنون متّسعة أحصيناها فى كتاب الصراط المستقيم. ولعلّ ما سقنا إليه روّيتك هو
سواء السّبيل. والمحصّلون من الفلاسفة يقولون : إنّ عدم الزّمان قبل وجوده وبعده ،
قبليّة وبعديّة تصدّان الشّيء القبل والشّيء البعد عن الاجتماع فى التّقرّر والحصول
، مستحيل بالنّظر إلى ذاته بذاته ؛ وليس يلزم من ذلك أن يكون واجب الوجود بذاته ـ
كما توهّم ـ عديم التّحصيل منهم فى بعض
الأدوار الخالية ؛ لأنّ استحالة نحو ما من العدم لذاته لا تستلزم استحالة
طبيعة العدم بالذّات، وإمكان عدم ما من العدمات بالذّات يتحقق معه إمكان طبيعة
العدم بالذّات. والزمان ليس يأبى ذاته أن يعدم أزلا وأبدا ، فلا يوجد أصلا. وإن
أبى أن يقبل الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فإنّه لا يخرج بذلك من الممكنات
التقرّر (١٣٠) الجائزات الوجود.
وقد قرع سمعك
من إسماعاتنا إيّاك أنّ الحقّ ليس يسع إلاّ ما هو أخصّ من ذلك ، فالمستحيل بالنّظر
إلى ذات الزّمان بطلانه المتقدّم على تقرّره المتقدم الزّمانىّ والمتأخّر عنه ذلك
التّأخّر ؛ إذ يلزم إذ ذاك اقتران تقرّر الشّيء ببطلانه ، لا بطلانه قبل تقرّره
قبليّة دهريّة غير متقدّرة أو بعده بعديّة كذلك وإن كان البطلان فى وعاء الدّهر
بعد التقرّر فيه بعديّة دهريّة غير متقدّرة ، مستحيلا على كلّ شيء ، لا بالنظر إلى
ذوات الأشياء الممكنة ، بل بالنّظر إلى طباع وعاء الدّهر. فما حصل فى وعاء الدّهر
لا يرتفع عنه وإن انتهى حصوله فى افق الزّمان. وإنّما المتصوّر فى وعاء الدّهر
تقرّر الممكن بعد البطلان فيه ، لا بطلانه فيه مرّة اخرى بعد ذلك التّقرّر.
فهذا لا يختصّ
بحقيقة الزّمان ، ولا يكون بالنّظر إلى ذوات الحقائق الجوازيّة والطبائع
الإمكانيّة. والّذي يختصّ بحقيقة الزّمان امتناع سبق البطلان على تقرّره والتّقرّر
على بطلانه بالنّظر إلى ذاته سبقا زمانيّا متقدّرا لا غير.
<١٣> تقويم وتعيين
إنّ محلّ
الزّمان الّذي هو أظهر المقادير إنيّة وأكثرها وأوسعها اتّساعا للمادّيّات وإحاطة
بالكليّات ؛ وما يستحصل ويستحفظ به يجب أن يكون أسرع الحركات المستديرة وأظهرها
فعليّة. وهى الحركة اليوميّة ، أعنى حركة الجرم الأقصى من المشرق إلى المغرب على
منطقة معدّل النّهار الّتي يتحرّك بها جميع السّماويّات وبها يتقوّم الأيّام والسّاعات
فى بقاع الأرض وبها تطلع الكواكب الثّابتة والسيّارة وتغرب فى أكثر الآفاق ، وبمقدار
ما يقول أحد «واحد» يقطع المتحرك بها خمسة
آلاف ومائة وستّة وتسعين ميلا. وهو ألف وسبع مائة واثنان وثلاثون فرسخا من
مقعّر الفلك الأقصى. واللّه سبحانه يعلم ما يتحرّك محدّبه حينئذ.
والزّمان يسع
جملة الزّمانيّات بالعينيّة. كما المكان يسع جملة المكانيّات كذلك. وكما أنّ كلّ
مطروق للمكان يتّصل امتداد مكانىّ منه إلى أقصى عالم الإمكان ، وهو فلك محدّد
الجهات ، كذلك مظروف الزّمان يتّصل امتداد زمانىّ منه إلى أقصى العالم الزّمانىّ. وهو
افق محتد التغيّر ومحدّد جهة التّقضّى والتّجدّد. فكما المكان يحيط بالمكانيّات
جملتها فكذلك الزّمان بالزّمانيّات كافّتها.
فإذن محلّ
الزّمان حركة مستديرة تحيط بهذا العالم كلّه ، وما هى إلاّ حركة الجرم المحيط
بالكلّ والجرم الأقصى المحيط بكميّة جسميّة تحدّد جهات الأبعاد القارّة ومذاهب
الامتدادات الجسمانيّة ، وبكميّة حركته تحدّد جهات التّغيّر وشوارع الأبعاد الغير
القارّة لامتدادات التّقضّيات والتّجدّدات. فإذن ، ما خرج عن أقطار الفلك الأقصى وعن
مقدارها تدواره ليس بحيث يصحّ أن يتوّهم فيه الامتداد واللاّامتداد ، لا القارّ ولا
غير القارّ.
<١٤> شكّ وتحقيق
عساك أن تتوهّم
أنّ كلّ حركة متقدّرة لا محالة ، والزّمان مقدار الحركات على العموم، فإذن يكون
كلّ حركة تتسع زمانا ويقوم بها زمان ، فيبطل التّخصيص ، وإلاّ فبعض الحركات يبقى
بلا مقدار.
فيجب أن نحاول
تنبيهك ، فيقال : فرق ما بين تقدّر الحركة بالزّمان وبين قيام الزّمان بالحركة.
فليس من شرط ما يقدّر الشّيء أن يكون عارضا له قائما به ، بل ربما قدّر المباين
بالانطباق والموازاة. وما تبرهن من أمر الزّمان إنّما هو أنّه متعلّق بالحركة وهيئة
لها ، لا أنّه متعلّق بكلّ حركة حركة ؛ ومن أمر الحركة أنّ كلّ حركة فإنّها تتقدّر
بالزّمان ، لا أنّ كلّ حركة فهى محلّ الزّمان.
فإذن ، من
قوليك : «إنّ الزّمان مقدار لكلّ حركة ، وإنّ حقيقة الزّمان أو إنيّته متعلقة بكلّ
حركة» الصّحيح هو الأوّل دون الثانى ومن قوليك : «إنّ ذات الحركة متعلق بها
الزّمان على سبيل أن يعرض لها ، وأنّ ذات الزّمان متعلّقة بالحركة على سبيل العروض
لها». الصّحيح هو الثّاني دون الأوّل. فهذا جزئ تلك لا غير البتة لا تلك البتة
تستتبع هذا. فليس إذا تعلّق ذات شيء بطبيعة شيء وجب أن لا تخلو طبيعة الشّيء عنه.
فإذن ، الحركات
الّتي لها ابتداء وانتهاء فى الوجود على أىّ وجه كان عند الفلاسفة المتهوّسين
بالقدم لبعض الجائزات وبلا تناهى الامتداد لبعض الكميّات وعلى وجه يستلزم وجود
الآن بالفعل لا مطلقا عند الحكماء الرّاسخين المتوخّين برء مزاج الفلسفة عن سقام
السّفسطة ، لا يتعلق بها زمان ، وإنّما يتقدّر بالزّمان المتعلّق بحركة الفلك
الأقصى. وكذلك جملة الحركات غير تلك الحركة.
وبالجملة ،
الحركات الاخرى يقدّرها الزّمان ، لا بأنّه مقدارها الأوّل الحالّ فيها ، بل بأنّه
معها كالمقدار الّذي فى الذّراع يقدّر خشبة الذّراع بذاته ويقدّر سائر الأشياء
بتوسّطه. ولهذا يجوز أن يكون زمان واحد مقدار الحركات فوق واحدة. وأمّا السّكون
فليس هو ممّا يتقدّر بالزّمان وماله الكون فى الزّمان حقيقة. بل إنّما ينسب إليه
ذلك على نحو من التّجوّز. والمعنى : أنّ السّاكن لو كان متحرّكا بدل السّكون كان
مقدار حركته الزّمان.
فإن وقع فى
نفسك أن تقول : لو فرض أنّه لم توجد الحركة الّتي يقال : إنّها بعينها محلّ
الزّمان ، لزم أن يفقد الزّمان ، فيكون حينئذ إذا وجدت حركات غيرها كانت بلا تقدّم
وتأخّر قبل ذلك ؛ وإن لم يكن حركة مستديرة لجرم مستدير الجهات لم تعرض للمستقيمة
جهات. فلم يصحّ أن تقع حركات مستقيمة طبيعيّة ، فلم تكن قسريّة أيضا.
فإذن ، حركة
جسم ما وحده ما لم تتحدّد الجهات ولم يحصل مقدار الحركات وبالجملة ، ما لا يتقوّم
عالم الأجسام ، مستحيلة وإن لم تكن بيّنة الاستحالة فكثير من
المحالات استحالتها لا تظهر فى نفسها ، بل إنّما تستبين بالبرهان. والوهم
لا يستنكر أن يكون زمان محدود مع المستقيم والمستقيمة ، وإن لم يكن فى الوجود
مستدير ومستديرة. لكنّ النّظر فيما يصحّ فى الوجود ، لا فيما يستصحّه الوهم فى
الوجود ، وإن كان وجوده من المستحيلات.
فاعلم : أنّ
الحركة الدّوريّة ـ أعنى الّتي هى أسرع الدّوريّات ـ غنيّة عن سائر الحركات ، وهى
غير مستغنية عنها ، فهى إذن أقدم الحركات بالطبع. ويجب أن يتقدّم فى الوجود سائر
الحركات حتّى يصحّ وجودها. وكذلك موضوع تلك الحركة بالقياس إلى موضوعات سائر
الحركات.
<١٥>تمهيد
أليس أنّ لفظ
الحركة عند أرباب الصّناعات الحكميّة اسم لمعنيين. أحدهما : توسّط الجسم بين مبدأ
المسافة ومنتهاها ، بحيث أىّ حدّ يفرض لا يكون المتحرك قبله وبعده لا كحدّى
الطرفين. فهذا هو صورة الحركة وصفتها. وهى حالة واحدة بسيطة شخصيّة موجودة مستمرّة
ما دام الشّيء يكون متحرّكا. فهو يلزم المتحرّك ولا يتغيّر ما دام هو متحرّكا؛
فإنّه وإن تغيّرت حدود المسافة بالغرض الانتزاعىّ ، لكن ليس كون المتحرّك متوسّطا ومتحرّكا
لأنّه فى حدّ معيّن من الوسط دون حدّ وإن لم يكن متحرّكا عند خروجه منه ، بل إنّما
لأنّه متوسّط على الصّفة المذكورة وتلك الحالة ثابتة فى جميع حدود ذلك الوسط. وهى
أمر بسيط يحصل بتمامه بعد نهاية زمان السّكون ولا يعقل له أجزاء.
ولا يصحّ أن
يقال : إنّه من الأمور الغير القارّة إلاّ أنّ هذا الأمر البسيط له نسبة إلى حدود
المسافة الممكنة الانفراض لا إلى الوقوف على نهاية بعينها بالموافاة المتّصلة
الواقعة فى كلّ آن بعينه من الآنات بالقياس إلى حدّ بعينه من تلك الحدود.
فالكون فى
الوسط واحد (١٣١) شخصىّ بسيط فى جميع زمان الحركة. لكنّه فى كلّ آن من الآنات مواف
لحدّ من الحدود فهو مستمرّ بحسب الذّات غير مستقرّ
بحسب النّسبة إلى تلك الحدود ؛ فإنّ موافاة كلّ حدّ يخالف موافاة حدّ آخر.
فإذن ، نسب هذا
الأمر البسيط إلى تلك الحدود غير قارّة ، وكلّ موافاة لا تتميّز عمّا يليها بالفعل
إلاّ بالقوّة بحسب تعيين الحدود بالفرض.
والحركة بهذا المعنى
يقال لها الحركة التّوسّطيّة ، وهى وجود بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل. فهى كمال
أو فعل أوّل ، به يتوصّل إلى كمال أو فعل ثان هو الوصول إلى الغاية. فلذلك رسموها
بكمال أو فعل أوّل لما هو بالقوّة من جهة ما هو بالقوّة أو بالخروج من القوّة إلى
الفعل يسيرا يسيرا على سبيل اتّجاه نحو شيء.
وثانيهما :
الأمر المتّصل للمتحرّك من المبدأ إلى المنتهى منطبقا على الممتدّ من المسافة بين
طرفيها ، وهو قابل للانقسام لا إلى نهاية بعينها حسب قبول المسافة للانقسامات.
والحركة بهذا
المعنى يقال لها الحركة بمعنى القطع ، ويكون للمتحرك بحسبها نيل المسافة فى زمان
ما على سبيل الانطباق عليه وبحسب الحركة التوسّطيّة بين حدّيها الطرفين ، بل بين
جميع حدودها المأخوذة بالفرض فى جميع ذلك الزّمان لا على جهة الانطباق وفى كلّ جزء
من أجزائه وفى كلّ آن من آناته.
فإذا استذكرت
ذلك فتذكّر ما من البيّنات أنّ الحركة التّوسّطيّة خارجة عن الحركة بمعنى القطع
غير قائمة بها ، بل راسمة لها وقائمة بموضوع الحركة. وهناك امور بسيطة غير منقسمة
سواها تقوم بالحركة القطعيّة فى اعتبار الذّهن وتحصل إذا انقسمت الحركة القطعيّة
بالفرض الذّهنىّ ، فتكون حدود الأقسام المتحصّلة بالفرض كالحدود العارضة للمسافة
عند الأقسام.
<١٦> تشييد تنظيريّ
أما اختطفت من
يقولون : من النّقاط : نقطة فاعلة للخطّ ، كالوحدة للعدد ، ومنها : نقطة قائمة
بالخطّ ؛ فإنّ طرف المتحرك وليكن نقطة ما ، كرأس مخروط
يرسم بحركته وسيلانه مسافة ما ، بل خطّا ما كأنّه ـ أعنى : ذلك الطرف ـ هو
المنتقل. فقد تعرض للنّقطة مماسّة منقلة ، والمماسّة لا تحدث إلاّ فى آن ، فلا
يصحّ تتالى المماسّات.
فإذن ، بين كلّ
مماسّتين حركة وزمان ، فيوجد هناك لا محالة خطّ ينطبق عليهما. ثمّ ذلك الخطّ تنفرض
فيه نقطة متوهّمة ، لا على أنّها فاعلته أو أجزاؤه ، بل على أنّها قائمة به واصلة
بين أجزائه الوهميّة ؛ فالفاعلة للخطّ غير المتوهّمة فيه.
فهذا القول فى
النّقطة وإن كان أمرا يقال للمتخيّل ، لا على أنّه [يكون] سبيلا محققا فى الوجود ؛
فإنّه إذا ماسّ الجسم جسما بنقطة ثمّ ماسّه باخرى تكون النّقطة الأولى قد بطلت
بالحركة الّتي بينهما ؛ إذ المماسّة لا تثبت والجسم يكون بعد المماسّة كما كان قبل
المماسّة ، فلا تبقى فيه نقطة ثابتة تكون مبدأ خطّ بعد المماسّة ولا يبقى امتداد
بينها وبين آخرة المماسّة ؛ فإنّ تلك النّقطة إنّما هى نقطة بالمماسّة لا غير.
فإذا بطلت تلك المماسّة بالحركة فكيف تبقى هى نقطة. وكيف يبقى الخطّ الّذي هى مبدأ
له. وأيضا ما لم يكن هناك سطح موجود لم يصحّ للنّقطة حركة. فإذن يكون للسّطح والخطّ
وجود قبل النّقطة ، فلا تكون حركة النّقطة علّة لوجود الخطّ ، بل هذه جميعا حدود
متأخّرة عن وجود الجسم.
لكنّك إذا
واعيت لحاظة أعانتك على التّدرّج إلى ما أنت الآن بسبيله ، فسهل عليك أن تحكم أنّ
فى الحركة بمعنى القطع شيئا ، كالنّقطة الفاعلة للخطّ وأشياء كالنّقط المفروضة فيه
الّتي لم تفعله بل تأخّرت عنه. وذلك الشّيء هو الحركة التّوسّطيّة ، وتلك الأشياء
هى الحدود المفروضة فى الحركة القطعيّة إزاء للحدود المفروضة فى المسافة.
<١٧> تنصيص
كما تعرّفت ذلك
فى الحركة فاحكم بمثله فى الزّمان أيضا. ففى الزّمان شيء راسم خارج عنه غير قائم
به ولا بالحركة ، بل بموضوعها ، بسيط غير صالح للانقسام أصلا منطبقا على الحركة
التّوسّطيّة ومكيال لها يقال لها الآن السّيّال. وهو أيضا
كالحركة التّوسّطيّة مستمرّ الذّات غير مستقرّ النّسبة إلى حدود المسافة وحدود
الحركة القطعيّة. وليس هو طرفا للزّمان ، بل هو مباين الذّات له متقدّم الذّات
عليه. وكما تطابقه الحركة التّوسّطيّة فكذلك النّقطة الفاعلة فى المسافة الخطيّة
أو الخطّ الفاعل فى المسافة السّطحيّة أو السّطح الفاعل فى المسافة الجسميّة.
وفيه أيضا بعد
حصول أشياء غير قابلة للانقسام متوهّمة فيه ، هى الفصول المشتركة بين أجزائه
الوهميّة يقال لها : الآنات الّتي هى حدود الأزمنة وأطرافها القائمة بها ، كلّ منها
محفوف بحاشيتيه الماضى والمستقبل ، ونسبتها إلى الزّمان نسبة النّقاط المتوهّمة فى
الخطّ إليه أو الخطوط الموهومة فى السّطح إليه أو السّطوح الموهومة فى الجسم إليه
أو الوصولات المفروضة إلى الحدود الفرضيّة للمسافة إلى الحركة القطعيّة المتّصلة
الممتدّة.
فإذن ، الآن
يقال بحسب اصطلاح الصّناعة على الآن السّيال وعلى الآن الّذي هو طرف الزّمان والفصل
المشترك بين الحاشيتين الماضى والمستقبل من الزّمان باشتراك الاسم.
والآن السيّال
موجود فى الأعيان واحد بالشّخص ولا يكون نوعه إلاّ لشخصه ومحلّه هو محلّ الحركة
الّتي هى محلّ الزّمان ، أعنى جرم الفلك الأقصى. والآن الّذي هو طرف الزّمان لا
يوجد بالفعل أصلا ، وإنّما يتحقق فى الذّهن على أن يتوهمه الوهم فى مستقيم
الامتداد ، وتتكثّر أشخاصه الوهميّة بتكثّر الفروض أو بتأدية الأسباب إلى غير ذلك
، كموافاة الحركة حدّا متعيّنا مشتركا غير منقسم ، كمبدإ طلوع أو غروب أو غير ذلك.
وليس يمكن أن تتشافع تلك الآنات الموهومة ، وإلاّ استلزمت الأجزاء الّتي لا تتجزّى
فى الجسم.
<١٨> تفصلة
قد يكون العادّ
للشّيء ما يحصّله ويعطيه المعنى الّذي بحسبه حصول العدد والصّلوح للمعدوديّة ؛ وقد
يكون ما عنده تحصل الكثرة ويعرض العدد للشّيء
بالفعل. والعادّ الحقيقىّ هو أوّل معطى للشّيء معنى الوحدة ومعطى للشّيء
معنى الكثرة بالتّكرير. فإذن الآن بكلّ من المعنيين يعدّ الزّمان بوجه.
فأمّا الآن
السّيّال فإنّه يعدّ الزّمان ؛ لأنّه يجعله ذا عدد ، بما يحصّله من التّقدّم والتّأخّر
بحسب الحركة فى متقدّمة المسافة ومتأخّرتها. وذلك التّقدّم والتأخّر عين أجزاء
الزّمان. فنسبة هذا الآن إلى الزّمان تشبه نسبة الوحدة إلى العدد.
وأمّا الآن
الطرف ، وهو المحفوف بالماضى والمستقبل ، فهو يعدّ الزّمان. والمتقدّم والمتأخّر
منه بمعنى أنّه ما لم يتعيّن آن من الآنات الّتي هى من الحدود لم يكن إلاّ الزّمان
البسيط المتصل الواحد القابل للانفصال الوهمىّ. فما لم يكن آن لم يتعدّد الزّمان ولم
يكن متقدم ولا متأخر.
فإذا تعيّن آن
ما (١٣٢) انفصل الزّمان إلى جزءين محدودين به مشتركين فيه ، أحدهما متقدّم بذاته والآخر
متأخّر بذاته. فعند حصول هذا الآن فى الذّهن يعرض العدد للزّمان ويظهر التّقدّم والتّأخّر
بالفعل وإن لم يكن ذلك بسبب حدوث هذا الآن ، بل عند حدوثه فقط ؛ فإنّ الزّمان
بذاته متقدّم ومتأخّر عند الانفصال. وحدوث الانفصال فى الوهم لازم مع حصول هذا
الآن ، لا أنّه مستند إليه متأخّر عنه. وإنّما فاعل الانفصال هو الذّهن باعتبار
لحاظه بحسب ما يؤدّى إليه تأدية الأسباب وترتّب المسبّبات. وبالجملة ، فكما الآن
بمعنيين فكذلك العدد هناك بمعنيين ، وقد التبس الأمر فيه على بعض تلامذة الرّؤساء.
وأمّا الجمهور
فكأنّهم عن هذه المشكلة من الذّاهلين وهناك عدّ بمعنى آخر ثالث ؛ وهو كون ما ،
يقال له عادّ عدد ما ، يقال له معدود.
فالمتقدّمات والمتأخّرات
تعدّ الزّمان على أنّها أجزاؤه. وكلّ جزء من أجزاء الزّمان فإنّ من شأنه الانقسام
، كأجزاء الخطّ والسّطح والجسم. وأجزاء الزّمان ، بل المتّصل مطلقا ، متشابهة
الحقيقة مختلفة بالقبليّة والبعديّة بالنّسبة إلى الآن المحفوف
__________________
بجزءين من تلك الأجزاء ، وإلى الزّمان الّذي هو إليه والأقرب من أجزاء
الماضى إليه بعد والأبعد قبل ، وفى المستقبل بالعكس. ولو لا الحركة بالفعل فى
المسافة من حدود التّقدّم والتّأخّر للزّمان لما وجد للزّمان عدد. وهذه المعانى
للعدّ غير معناه الرّابع المستعمل فى الهندسيّات ، وهو كون ما يقال له عادّ
متعيّنا لما يقال له معدود بإسقاطه عنه مرّة بعد اخرى.
<١٩> توضيح
الآن بمعنى
الطرف الوهمىّ للزّمان واصل بين حاشيتيه من حيث إنّه حدّ مشترك بينهما ، بل يتصل
أحدهما بالآخر ، وفاصل من حيث إنّه حدّ يفصل المقدّم عن التّالى ؛ لكونه نهاية
لذاك وبداية لذا. لكنّ الفصل لا يكون إلاّ فى الوهم.
وهذا الآن
تتحصّل فعليّته الذّهنيّة بشعور دفعىّ بمماسّة جسم لآخر أو وصول مركز النيّر إلى
محاذاة الافق أو شيء من أشباه ذلك ، وهو نفس طرف الزّمان ، لا شيء فى طرفه، وكذلك
شاكلة الأطراف.
فالسّطح هو نفس
ظاهر الجسم ، لا شيء فى ظاهره. والخطّ هو : نفس طرف السّطح وظاهره ، لا شيء هو
كذلك ، وكذلك النّقطة.
فإذن ، سبيل
الآن من الزّمان يشبه من وجه سبيل النّقطة من الخطّ. وهى للخطّ طرف ونهاية ، كما
الخطّ للسّطح ، والسّطح للجسم. لكنّ الآن لا يوجد أصلا إلاّ بحسب التّوهّم على
خلاف الأطراف ؛ والأطراف ربما تكون فاصلة ، والآن لا يكون إلاّ واصلا ولا يكون له
تحقّق فى الأعيان بالفعل وإن لم يكن الزّمان فى جهة الماضى متماديا إلى لا نهاية
بالفعل على ما سيتلى عليك إن شاء اللّه تعالى.
فإذن يشبه أنّ
أحقّ ما يجب أن يحقّق فى أمر الآن هو أنّ نسبته إلى الزّمان نسبة النّقطة إلى
الخطّ المستدير المتناهى مقدارا ، لا وضعا.
<٢٠> تفصيل انصراميّ
الفلاسفة
الّذين يحيصون عن صراط الحقّ ومحجّة الحكمة وينصرفون عن الفلسفة الحقيقيّة إلى
ركوب التّفلسف ، فيتهوّسون بإثبات القدم لبعض الجائزات واللاّنهاية لبعض الكميّات
، يجعلون الزّمان موجودا بالفعل أزلا وأبدا غير مسبوق بالعدم فى الواقع أصلا ، ومتماديا
فى كميّة إلى لا نهاية بالفعل غير متناهى التّمادى فى جانب الأزل ، ولا ممكن
انقطاع الامتداد فى جانب الأبد.
ويظنّون أنّ
عدم وجود الآن بالفعل إنّما يترتب على ذلك ؛ إذ يصحّ أن يقال : إنّ الآن لا يوجد
بالفعل بالقياس إلى نفس الزّمان أصلا. ولا يقطع اتّصاله ، بل إنّما وجوده على أن
يتوهمه الوهم واصلا فى مستقيم الامتداد ، والواصل لا يكون بالفعل فى المستقيم
الامتداد من حيث هو واصل ، وإلاّ لكانت واصلات بلا نهاية ففعليّته إنّما تكون لو
قطع الزّمان ضربا من القطع ومحال أن يقطع اتّصاله. فلو جعل له قطع فإمّا فى بدايته
فيكون معدوما ثمّ وجد ، فعدمه قبل وجوده ، ولا شيء غير الزّمان يحصل به هذا النّوع
من القبليّة ، فيكون هذا الزّمان قبله زمان يتصل بذلك قبل ، وهذا بعد ، وهذا الفصل
يجمعهما وقد فرض فاصلا أو على أنّه نهاية له. وليس لا يمكن أن يوجد بعده شيء ،
حتّى يستحيل أن يوجد شيء مع عدمه.
فالوجود الواجب
والإمكان المطلق لا يرتفعان ، فيكون بعده إمكان وجود شيء ، فله بعد وهو قبل. فالآن
واصل ، لا فاصل. فقد خولف ما فرض وصفه. فالزّمان لا يكون له آن بالفعل موجود
بالقياس إلى نفسه ، بل بالقوّة القريبة من الفعل ؛ فإنّه يتهيّأ أن يفرض الآن فيه
دائما. فهذا ما يقوله معلّم الفلسفة المشّائيّة والرّؤساء اليونانيّون والإسلاميّون.
ونحن ـ حنفاء
الملّة البيضاء النّورانيّة الإسلاميّة وحكماء الحكمة اللمعاء اليمانيّة
الإيمانيّة ـ نردعهم عمّا يقولون ونفضح زلاقاتهم فيما يظنّون. فهناك قبليّة وبعديّة
ليس بحسبها استيجاب أن يتصوّر امتداد يكون بينه وبين الزّمان آن واصل
ومسبوقيّة الزّمان بأصل العدم الصّرف ، لا بالعدم المستمرّ أو اللاّمستمرّ.
وليس ذلك يستلزم وجود الآن بالفعل ؛ لأنّ الزّمان ليس بطرفه منتهيا إلى ذلك العدم
حتّى يكون طرفه متوسّطا بينه وبين العدم ؛ بل هو ، بنفسه وبكلّ جزء من أجزائه وبكلّ
حدّ من حدوده، منته إلى ذلك العدم ، محفوف بذلك اللّيس على سبيل المسبوقيّة به ، والمسبوقيّة
بالعدم بالفعل على هذا السّبيل ليس هو مناط تناهى امتداد المقدار بالفعل ولا هو
مصادم تماديه إلى لا نهاية بالفعل ، بل إنّما يعيّن الفحص والبرهان أحد الأمرين
فيه بنظر آخر.
ونحن إنّما
نقضى بانتهاء تمادى الزّمان فى جهة الماضى لانسياق البرهان إلى أنّه يستحيل أن
يمتدّ المقدار إلى لا نهاية بالفعل ، أىّ نوع كان من أنواع المقادير ، لا لأنّ
الحدوث الدّهرىّ يستلزمه.
فالحدوث
الدّهرىّ ليس يستلزم ذلك ولا يصادمه ، كما لا يستلزمه الحدوث الذّاتىّ ولا يصادمه
، وكما لا يستلزم الحدوث الدّهرىّ تناهي الأبعاد القارّة الجسمانيّة ولا يصادمه ،
بل يفتقر تحقيق الأمر إلى البرهان.
ثمّ بعد أن
ينصرح أنّه يستحيل تمادى الزّمان إلى لا نهاية الفعل لا يجب أن يحكم بلزوم وجود
الآن بالفعل فى المبدأ ؛ فإنّه ليس تناهى امتداد المقدار فى مقداريّته مساوق وجود
الحدّ والطرف له ، فكثيرا ما يكون المقدار متناهى المقداريّة ولا يكون له طرف
موجود بالفعل ، كمحيط الدّائرة ومحيط الكرة. وكثيرا ما ينتفى المقدار عند حدّ ، ولا
يكون ذلك الحدّ نهاية له ، كسطح المثلّث (١٣٣) عند كلّ نقطة من نقط زواياه ، وليست
هى طرفا ونهاية له.
وكثيرا ما يكون
الشّيء حادث الوجود ، ولتقرّره ووجوده مبدأ لكونه بعد البطلان والعدم بالفعل ، ولا
يلزمه وجود آن بالفعل فى مبدأ حدوثه ، كالحركات التّوسّطيّة الحادثة. وستعرف ذلك
فى مؤتنف الكلام إن شاء اللّه تعالى.
فإذن ليس يلزم
من حدوث الزّمان حدوثا دهريا ولا من امتناع تماديه بحسب مقداريّته إلى لا نهاية
بالفعل أن يوجد هناك بالفعل آن.
والحكماء
الكرام السّبعة المقتبسون نور الحكمة من مشكاة النّبوة ـ وهم ثالس وأنكساغورس وأنكسيمايس
وأنباذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطن خاتم الحكماء الإلهيّين ـ وإن طابقونا على أنّ
للزّمان بل لجملة الجائزات بدءا فى التّقرّر والوجود ، لكن لم يكن يتهيّأ فحصهم لتقنين
القوانين وإحصاف الأحكام وحسم معضلات الشّبه وحلّ معقودات الأوهام.
وأمّا الفرقة
الاخرى المتلقّبة بالمتكلمين فأمرهم أوهن من أن يترقب لهم استحقاق تلك الدّرجة. وبالجملة
قد كانت فطرة قريحتى لضبط تلك الامور وسدّ تلك الثّغور ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من
يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم.
<١٢> تلخيص ختاميّ
إنّ الزّمان
مقدار متّصل محاذ لاتّصال الحركات والمسافات ، فعند الفلاسفة المتهوّسين بإثبات
القدم واللاّنهاية ، اولى التّحصيل منهم : هو بجملته من الأزل إلى الأبد موجود
متصل واحد شخصىّ ، وكذلك محلّه وهو الحركة المستديرة الحافظة له بسرمديّته. وأهل
التّهويل والتّشويش من أسلافهم يضعون أزمنة متكثرة يلتئم التسرمد من تركيبها. وعلى
ما حصّله من حمل عرش نضح الحكمة وضمّن تقيين اصول العلم بعصام التّحقيق وتصحيح
صناعة الفلسفة عن سقام التّشويش هو ممّا أبدعه الجاعل بعد ما كان باطل الذّات فى
وعاء الدّهر ومن المقادير المتناهية التّمادى بالفعل.
فهو بهويّته
اللاّامتدائيّة ، لا على أن ينتهى إلى أزل زمانىّ محدود بالآن ، بل على نحو آخر
سينكشف لك حقّ الانكشاف إن شاء اللّه تعالى ، موجود وحدانىّ شخصيّ متصل من أزله
إلى أبده ، لا من الأزل إلى الأبد ، حذاء اتصال محلّه من الحركة المستديرة كذلك. وليس
هو بحيث يمكن وراءه امتداد يوقع العقل بمعونة الوهم بينهما اتّصالا بحسب التّصوّر
يجمعهما آن ، فإن جوّزه مجوّز فهو بحت ذات الوهم ، لا غير.
فإذن ليس مسبوقيّة الزّمان بالبطلان والعدم ولا لا تناهى تمادية بالفعل
بحيث يلزم من ذلك وجود آن بالفعل فى المبدأ ولا يتصوّر ذلك فى الأوساط لاتّصاله. فإذن
، لا يوجد الآن البتة بالفعل فى الأعيان وبالقياس إلى نفس الزّمان ، فإن وجد
فإنّما هو على أن يتوهّمه الوهم فى المستقيم الامتداد إذا قطعه ضربا من القطع ،
فيجده إذ ذاك واصلا [بين متنزعه بالفصل لا فى نفسه ، بل بحسب ذلك التّوهّم. وذلك]
لا يظهر لذلك حقّ الظّهور إلاّ بعد أن تتفقّه كيف نحو حدوث الزّمان وكيف نحو
انتهائه فى تماديه.
فصل [ثان]
فيه يحقّق معنى الدّهر والسّرمد
ويبيّن متى الكائنات والمبدعات ، ويفرق بين الأشياء الزّمانيّة والحقائق
المرتفعة عن أفق الزّمان ، ويعلم كيفيّة انتساب الموجودات الزّمانيّة والموجودات
الغير الزّمانيّة إلى الزّمان وغير ذلك ممّا يرتبط بما ريم بالقصد شدّة
الارتباط.
<فى الفصل الثانى تسعة عشر عنوانا >
<١>استصباح
ما أيسر لك ،
إن كنت من أبناء الحدس ، أن يستقرّ فى سرّك أنّ الامتداد ـ إذ هو من أوصاف
المقادير والكميّات المتّصلة لا غير ـ ليس يصحّ أن يوصف به التقرّر والبطلان والوجود
والعدم بالذّات ، بل إنّما يصحّ ذلك بالعرض على أن يكون الممتدّ حقيقة هو الزّمان
، واتّصاف التّقرّر والوجود أو البطلان والعدم بالامتداد عبارة عن المقارنة لما هو
الموصوف به حقيقة ، أعنى الزّمان.
فإذن ، وجود
شيء من الوجودات لا يعقل فيه صلوح أن يحكم عليه بامتداد ما بخصوصه أو بالامتداد
المطلق إلاّ بحسب المقارنة لزمان ما بعينه أو لمطلق الزّمان ، وكذلك الامتداد ، أى
: كون الشّيء دفعيّا غير ممتدّ الحصول ، كما فى موافاة المتحرّك حدّا ما غير منقسم
متعيّنا بالفرض فى سياقة الحركة ؛ فإنّ موصوفه بالذّات إنّما هو
الآن طرف الزّمان ، لا شيء آخر أصلا.
وأمّا الوجود
أو العدم أو أيّة طبيعة كانت من الامور الّتي هى غير الآن ، فلا يمكن أن يتّصف بلا
استمرار الحصول إلاّ بحسب مقارنة الآن على سبيل الانطباق عليه.
ألست قد
استسهلت ما يضاهى هذا الأصل ، حيث حكمت فيما استقنيت من طبقات العلوم : أنّ الكيف
فى سنخ طباعه ليس يقبل القسمة ولا اللاّقسمة ، بل ربما يعرض ذلك بحسب مقارنة
المحلّ ، كالسّواد الحالّ فى الجسم ؛ فإنّه سار فى محلّه. فبحسب انقسام ما سرى فيه
من المحلّ بالذّات ينقسم هو بالعرض على معنى (١٣٤) أنّه ينسب إليه ذلك الانقسام
بعينه لا بالذّات وبحسب لا انقسام حدود المحلّ بوصف السّواد الحاصل لكلّ حدّ من
تلك الحدود باللاّانقسام بالعرض ، أى بعين اللاّانقسام الّذي هو لذلك الحدّ
بالذّات ، والسّواد فى حدّ نفسه ليس بحيث يكون منقسما أو غير منقسم أصلا.
ولا نعنى بذلك
: أنّ الكيف متوسّط بين الانقسام واللاّانقسام ؛ إذ لا يعقل بينهما حالة متوسّطة.
بل إنّما يعنى أنّه خارج عن جنس القسمة واللاّقسمة. فإذن ، الوجود بما هو وجود ـ
أى لا بحسب مقارنة الزّمان والآن به ـ ليس إلاّ التّحقّق الصّرف من دون أن يكون
على امتداد أو لا امتداد. وكذلك فى العدم الصّرف ليس إلاّ الانتفاء البحت من غير
أن يتّصف باستمرار أو لا استمرار على معنى أنّ الوجود أو العدم بسنخ طباعه مع عزل
النّظر عن تعلّقه بالزّمان أو الآن خارج عن جنس الاستمرار واللاّاستمرار ، لا أنّه
متوسّط بينهما.
كما يقال :
الفلك لا خفيف ولا ثقيل ، ولا يعنى متوسّط بينهما ؛ بل إنّه خارج عن جنس الخفّة والثّقل
، فهو سلب على الإطلاق. وكما يقال : الصّوت لا يرى ؛ فإنّه سلب على الإطلاق ، لا
بمعنى أنّه متستر عن الرّؤية. وليس ذلك كما يقال : إنّ هذا الجسم لا حارّ ولا
بارد. ويعنى به الفاتر.
ولست أعنى
باللاّامتداد واللاّاستمرار مجرّد سلب الامتداد والاستمرار ، أى مقابلة السّلب والإيجاب.
أفليس من البيّن أنّ المتقابلين تلك المقابلة لا يكون
موضوعا عروا عنهما بحسب نفس الأمر البتة. وإن عريت عنهما الذّات بحسب خصوص
بعض الملاحظات الّتي هى أنحاء وجود الشّيء فى نفس الأمر ، أعنى بحيث تؤخذ الماهيّة
من حيث هى هى.
بل إنّى أعنى
بذلك : إمّا مقابل الامتداد والاستمرار مقابلة العدم والقنية الّذي هو أخصّ من
النّقيض بقيد الاستعداد. فيخلو عنهما الموضوع الغير القابل ، كالوجود الّذي لا
يشاب بالدّخول تحت الكون ، وهو العدم الّذي لا يتعلّق بوقوعه بأنّه فى الزّمان أو
فى طرفه ؛ فإنّ هذا الوجود أو العدم يكون واقعا فى الأعيان لا فى زمان أو آن ، بل
فى نفسه.
كما أنّ وجود
الموجود المفارق للمادّة يكون فى الأعيان لا فى مكان أو فى حدّ من حدود المكان ،
بل فى نفسه ، وكذلك عدم ما لا يتعلّق وجوده فى حدّ ذاته بالمادّة عدم وجوده فى
نفسه ، لا عدم وجوده فى مكان أو فى حدّ من حدود المكان.
أو أعنى الأخصّ
من ذلك أيضا ، أى كون الشّيء دفعىّ التّحقّق غير ممتدّ الحصول مختصّ الوجود
بالوقوع فى طرف الزّمان.
ومثل ذلك فى
العدم ؛ فإنّ هذا المعنى قد يكذب هو والامتداد كلاهما معا ، وإن كان الموضوع على
وصف القابليّة باعتبار الدّخول فى افق الزّمان والوقوع فى حيّز الزّمانيّات ،
كحدوث الحركة التوسّطيّة المنطبقة على الآن ؛ فإنّه ليس حدوثا ممتدّا تدريجيّا ولا
مختصّا بالوقوع فى آن ما بعينه ؛ وكعدم الآن فيما بعد ذلك الآن من الزّمان ؛ فإنّه
أيضا كذلك.
فإذن ، إنّما
يعقل الامتداد والاستمرار واللاّامتداد واللاّاستمرار على المعنى الّذي علمت فى
الأمور الزّمانيّة الواقعة فى افق الزّمان دون الحقائق المتعالية عن الوقوع تحت
حكم الزّمان. وهناك إنّما يعقل من جهة الزّمان والآن ، لا غير.
وهذا ما يرومه
رؤساء الفلسفة بقولهم : كلّ ما يكون له أوّل وآخر فبينهما البتة اختلاف مقدارىّ أو
عددىّ أو معنوىّ. فالمقدارىّ كالوقت والوقت أو الطرف والطرف ، والعددىّ كالواحد والعشرة
، والمعنوىّ كالجنس والنّوع ، والوجود لا أوّل
له ولا آخر بذاته.
وبالجملة ،
الامتداد والاستمرار ليس بحسب أصل الوجود أو العدم ، بل منه يقدر فى الوجود والعدم
بحسب الانطباق على مقدار ما من الزّمان. وكذلك اللاّامتداد واللاّاستمرار ليس بحسب
أصل الحصول أو الانتفاء ، بل بحسب الانطباق على طرف الكم المتصل الغير القارّ.
فإذن ، كلّ ذلك
من الامور الزّائدة على طباع التقرّر والبطلان ، والأيس واللّيس. وربّما يلحق
الوجود والعدم بالعرض فى بعض الموضوعات لخصوصيّة ذات الموضوع. وهذا سرّ عظيم ينطوى
فيه سائر الأسرار.
<٢>مشرع فيه شوارع تحصيليّة
ألم يكن ممّا
قد تمّت استبانته : أنّ مقولة «متى» هى نسبة ما للشّيء إلى الزّمان. وهى كونه فى
نفسه أو فى طرفه ؛ فإنّ كثيرا من الأشياء يقع فى الأطراف أزمنة لا فى زمان أصلا. ويسأل
عنها ويجاب ، كالمماسّة والتّقاطع بين الخطّين والوصول إلى ما إليه الحركة. ونعنى
بالتّقاطع هاهنا الّذي لا يحصل بالحركة ، كوقوع خطّ على خطّ على سبيل التّقاطع
ابتداء ، لا ما يحصل بحركة ما ، كتقاطع الخطّين المنطبق أحدهما على الآخر بالحركة
؛ فإنّه إنّما يحدث فى نفس زمان الحركة بعد آخر آنات الانطباق.
ويجب أن يؤخذ الكون
فى الزّمان نفسه أعمّ ممّا يكون على سبيل الانطباق عليه بحسب التّدريج فى
المنطقتين جميعا أولا على ذلك السّبيل ، بل بأن يقع الشّيء بتمامه فى كلّ جزء من
أجزاء ذلك الزّمان وفى كلّ حدّ من حدوده حتّى يستغرق الكون التّدريجىّ والكون فى
نفس الزّمان ، ولا يكون فى البيان خداج وقصور عن إحاطة أنواع النّسبة إلى الزّمان واستيعاب
متى الكائنات الزّمانيّة بقبائلها.
وكما أنّه لم
يكن مقولة الإضافة معنى مركّبا ، فكذلك الأين ومتى يجب أن لا يظنّ فيهما تركيب.
فقولنا : «متى ، وأين» لسنا نعنى به كون الشّيء فى المكان
أو الزمان مركّبا ونعنى بالتّركيب الموضوع مع نسبة ؛ بل نعنى بذلك نفس
النّسبتين. فنفس النّسبة هى الأين أو متى ، لا المنسوب ولا المنسوب إليه ولا مجموع
النّسبة والمنتسبين معا أو أحدهما فى الإضافة ، (١٣٥) كالاخوّة.
فإذن ، متى
الشّيء هو نفس كونه فى زمانه على أحد الوجهين أو فى آنه ، وقد يكون الزّمان موجودا
ولا يكون ذو الزّمان فيه ، فلا يكون متى ؛ وكذلك الأين. وقد يوجد أيضا موضوع
الإضافة ولا يكون هناك إضافة بالفعل.
ومقولتا «أين» و
«متى» متضاهيتان فى الأحكام مضاهاة المكان والزّمان فى الخواصّ والعوارض ، إلاّ
أنّ هناك مباينات بعد مشاركات.
فالأين : منه
حقيقىّ أوّلىّ ، وهو كون الشّيء فى مكانه الحقيقىّ ؛ ومنه ما هو ثان غير حقيقىّ ، وهو
كون الشّيء فى مكانه الغير الحقيقىّ ، كالكون فى الدّار أو فى السّوق ؛ ومنه جنسيّ
، كالكون فى المكان المطلق ؛ ومنه نوعيّ ، كالكون فى الهواء ؛ ومنه شخصيّ ، ككون
هذا الشّيء فى هذا الوقت فى الهواء ، وهو مكان ثان ، أو كون هذا الجسم فى هذا
المكان الحقيقىّ.
وكذلك المتى :
منه حقيقىّ ، ككون الشّيء فى زمان مطابق له لا يفضل عليه ، كقولهم : كان هذا الأمر
وقت الزّوال ، أو عاش فلان ثمانين سنة. ومنه غير حقيقىّ ، كقولهم : كان ذلك الأمر
فى سنة كذا ولم يكن الأمر فى جميع السّنة ، بل فى جزء منها ، فالسّنة فى المتى
نظير السّوق فى الأين. ومنه جنسيّ ، كمطلق الكون فى الزّمان أو فى طرفه. ومنه
نوعيّ ، ككلّ من ذينك المذكورين. ومنه شخصيّ ، ككون هذا الشّيء فى هذا الزّمان
المطابق له أو فى هذه السّنة. لكنّ الزّمان الواحد قد يكون بعينه زمانا بالتّحقيق
لأشياء كثيرة على سبيل المطابقة وإن كان متى كلّ منها غير متى الآخر ؛ لأنّ كون
كلّ واحد منها فى ذلك الزّمان ليس هو كون الآخر فيه ، فيختلف النّسبة والمنسوب لا
المنسوب إليه. ولا كذلك المكان الواحد ؛ فإنّه لا يكون حقيقيّا لعدّة فوق الواحد.
فهناك إنّما يختلف النّسبة المنتسبان جميعا ، اللّهمّ إلاّ فى الغير الحقيقىّ ،
فيختلف النّسبة والمنسوب فقط دون المنسوب إليه.
وأيضا يقع
المضادّة فى «الأين» ؛ فإنّ الكون عند المحيط يخالف الكون عند المركز ، وهما معنيان
بوجد لهما موضوع واحد يتعاقبان عليه وبينهما غاية الخلاف. وهناك الايون متوسّطة ،
ليس بينهما تلك الغاية ، وليست تقع فى المتى ؛ فإنّ الكون فى الأمس وإن كان يخالف
الكون فى اليوم ، مثلا ، ولكن ليس بينهما غاية الخلاف ، والكون فى الزّمان وإن كان
بخلاف الكون فى طرفه على أنّ بينهما غاية الخلاف ، ولكن ليس يوجد موضوع واحد
يتعاقبان عليه. فكيف يصير التّدريجىّ تارة دفعيّا اخرى.
ثمّ سبيل الأين
أن يقبل الأشدّ والأضعف ، فقد يكون اثنان فوقين أو تحتين وأحدهما أشدّ فوقيّة أو
تحيّة ، إلاّ أنّ قبول الشّدّة والضّعف لا يكون له باعتبار طبيعة الفوقيّة والتّحتيّة
، بل بحسب الإضافة إلى فوقيّة أو تحتيّة اخرى.
والفوق الحقّ
لا يقبل الأشدّ والأضعف ، بل ربما الفوق المضاف إلى فوق آخر ، كالسّواد الحقّ ، لا
يكون أشدّ وأضعف ، بل ربما السّواد المضاف إلى سواد آخر.
وأمّا «متى» ،
فلا يكون فيه أشدّ وأضعف مطلقا أو بحسب الإضافة ، بل ربما كان فيه أطول وأقصر أو
أكثر أو أقلّ بحسب الإضافة فقط ؛ فإنّ الزّمان بحسب الكميّة الاتصاليّة الذّاتيّة
يكون منه طويل ومنه قصير ؛ وبحسب الكميّة الانفصاليّة العارضة له للانفصالات
الذّهنيّة إلى متقدّمات ومتأخّرات يكون منه كثير ومنه قليل. أليس الزّمان كما
متّصلا بالذّات وبالعرض أيضا وكما منفصلا بالعرض فقط باعتبار فى الوهم إلى قبليّات
وبعديّات.
والّذي يشبه
أنّ الحقّ ليس يتعدّاه هو أنّ الفوقيّة أو التّحتيّة ممّا يلزم «الأين» ويعرضه ؛
لا أنّها نفس الأين ، إذ الأين هو الكون فى مكان بعينه ؛ والفوقيّة أو التّحتيّة
تعرض ذلك المكان وتلزمه. فإذن الشّدّة والضّعف فى لوازم الأين لا فى نفس المقولة. وكذلك
«متى» نفس الكون فى الزّمان. ويلزم ذلك : إمّا التّقدّم الزّمانىّ أو التّأخّر
الزّمانىّ ، والمتقدّمات والمتأخّرات الزّمانيّة يكون بعضها أشدّ تقدّما أو تأخّرا
من بعض ، كما سيقرع سمعك.
فإذن كما يقع
الأشدّ والأضعف فى الفوق والتّحت بحسب الفوقيّة والتّحتيّة
المكانيّتين باعتبار الإضافة إلى فوق آخر أو تحت آخر ، أى فى لوازم الأين وعوارضه
لا فى نفس المقولة ، فكذلك يكون الأشدّ والأضعف فى المتقدّم والمتأخّر الزّمانيّين
من جهة الإضافة إلى متقدم آخر ومتأخّر آخر ، أى فى لوازم المتى وعوارضه ، لا فى
نفس المقولة.
وأنت إذا
استقصيت تبيّن لك أنّ المقولتين بينهما مشاركات جامعة ومتباينات فاصلة ، ومزاوجتهما
فى التّشارك كاد تبلغ مبلغ المضادّة التّامّة.
<٣> حكومة
إنّ بعض من حمل
عرش تعليم الفلسفة ورئاستها فى الإسلام ذكر فى العبارة عن المتى الخاصّ : «إنّ متى
نسبة الشّيء إلى الزّمان الّذي [يساوق وجوده] تنطبق نهايتاه على نهايتى وجوده ، أو
زمان محدود ، هذا الزّمان جزء منه».
وقال رئيس
الفلاسفة الإسلاميّة أبو على بن سينا فى قاطيغورياس الشفاء :
«إنّه هوّل
تهويلا مفرطا ؛ فإنّ كون الشّيء فى آن ما ، لا يحمل عليه هذا الحدّ. لكن الحقّ
أنّه يكون للشّيء نسبة إلى الزّمان ، لا على أنّه فيه ، بلى على أنّه فى طرفه ، ويكون
ذلك أينا. فهذا يفسد ما ذكره ، إلاّ أن يحكم بأنّ النّسبة إلى الآن ليست من مقولة «متى»
، لكنّها لا مقولة لها تليق بها غير هذه المقولة ، ولا هى غير داخلة فى مقولة أصلا»
.
ونحن نحكم أنّ
هذا القول أحقّ. لكنّ التّهويل ليس مخصوصا بذلك ؛ بل إنّ من لم يأخذ النّسبة إلى
الزّمان على أن يستوعب كون الكائن فى ذلك الزّمان على التّدريج وكون الكائن بتمامه
فى نفس ذلك الزّمان وفى كلّ جزء من أجزائه وفى كلّ حدّ من حدوده ، سواء كان هناك
آن يتعيّن بآن أوّل حدوث ذلك الكائن الحادث فيه أو لم يكن. فقد هوّل أيضا تهويلا
ليس هو دون ذلك التّهويل فى الإفراط.
__________________
<٤> هداية استشراقيّة
ألا إنّ ما تلى
عليك هو متى الزّمانيّات ، لا غير ، أعنى الامور الواقعة فى الزّمان على التّدريج
أو فى نفس الزّمان أو فى طرفه ، والزّمان نفسه ليس لوجوده أو عدمه متى ؛ فإنّ
الزّمان ليس وجوده فى زمان فكذلك ليس يعدم فى زمان ، والآن نفسه ليس لوجوده متى ،
بخلاف عدمه ؛ فإنّ متاه نفس مجموع الزّمان الّذي بعده. وهذا كما أنّ المكان نفسه
ليس له أين أصلا. والنّقطة بنفسها ليس وجودها فى الخطّ أو النّقطة وأنّها معدومة
فى مجموع خطّ بعدها.
وأمّا الامور
الغير الزّمانيّة فربّما يقال بحسب جليل النّظر متاها مباين متى الزّمانيّات ،
فمتى الزّمانيّات هو النّسبة إلى الزّمان بالفيئيّة على الجهة المستوعبة. وقد
أومأنا إليها أو إلى الآن طرف الزّمان بالفيئيّة ، ومتى ما هو أعلى من الكون ومن
الوقوع فى افق الزّمان نسبته إلى الزّمان وطرفه بالمعيّة (١٣٦) دون الفيئيّة.
ثمّ إنّ ضربا
من النّظر الدّقيق يأتى بحفص بالغ ولحظ غائر ، فيحكم بأنّ هذا الأخير كون على طور
آخر وأعلى من أن يكون متى ؛ بل إنّما هو بإزاء المتى ، أى : كون كلّ من
الزّمانيّات فى مجموع زمان ما أو فى نفس ذلك الزّمان وفى أبعاضه وحدوده جميعا أو
فى طرفه فقط. فهذه أنواع المعنى ، وهو خارج عنها جميعا.
فإذن ، ليس
ينبغى أن يدخل فى الاسم إلاّ سلوكا لمسلك التّشبيه من طريق بعيد ؛ فإنّ المعيّة إن
كانت متقدّرة زمانيّة منقسمة أو آنيّة غير متجزّئة لزمها أن تكون البتّة منتهية
إلى الفيئيّة وإن كانت معيّة غير متقدّرة خارجة عن جنس الزّمانيّة والآنيّة والتّجزّى
واللاّتجزّى ، فكيف يطلق عليها اسم النّسبة المتقدّرة الدّاخلة فى جنس التّجزّى واللاّتجزّى
والنّسبة التى هى الّتي يعتبر فيها انطباق المنسوب على المنسوب إليه بوجه ما ، وما
يرتفع عن الزّمان لا ينسب إلى شيء من الأزمنة والآنات بالانطباق ، بل إنّه يحيط
بالجميع. فإذن ، بالحرى أن ينزّه عن الدّخول تحت ما يعتريه هذا الاسم. فكيف والزّمان
لا يكون له متى. فما ظنّك بشواهق العوالى ومن
هو العلىّ الأعلى.
ولقد أعلن
تعرّف الحقّ فى ذلك رئيس فلاسفة الإسلام فى أكثر كتبه وتعاليقه. وقال فى رسالة له
على هيئة خطبة لقّبها الكلمة الإلهيّة :
«سبحان الملك
القهّار ، الإله الجبّار ، لا تدركه الأبصار ولا تمثّله الأفكار ، لا جوهر يقبل
الأضداد فيتغيّر ، ولا عرض فيسبق وجوده الجوهر ، لا يوصف بكيف فيشابه ويضاهى ، ولا
بكم فيقدّر ويجزّى ، ولا بمضاف فيوازى ويحازى ، ولا بأين فيحاط ويحوى ، ولا بمتى
فينتقل من مدّة إلى اخرى».
هذا قوله وقد
اقتدى فيه بأساليب أئمّتنا الطاهرين وسننهم ـ صلوات اللّه عليهم اجمعين ـ فإنّ هذا
المعنى فى كلماتهم الطيّبات القدسيّات وفى خطب مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين ويعسوب
المسلمين ـ عليه صلوات من اللّه ومن الملائكة ومن سائر المصلّين ـ على أقصى أمد
السّطوع الشّعشعانىّ والبلاغة العقليّة.
<٥>توثيق تبصيريّ
يجب عليك أن
تهجر الوهم هجرا جميلا وتثق بالعقل وثوقا أصيلا ، تصدّقه فيما يحكم أنّ الامور
الزّمانيّة الّتي يوصف أنّها فى زمان وأنّ لها متى هى امور متعلّقة بالمادّة واقعة
تحت التّغيّر. وأمّا المفارقات الثّابتة فحيث إنّه لا يتصوّر لها تغيّر وتجدّد فى
حال من الأحوال أصلا ، كما يكون للمادّيّات ، فلا يصحّ أن يقال : إنّها موجودة فى
زمان أو آن.
أليس إذا كان
للشىء بحسب ذاته أو بحسب حال ما من حالات ذاته تغيّر وتجدّد تدريجىّ أو دفعىّ كان
له تعلّق وتخصّص ما باعتبار ذلك الحصول التّجدّدىّ بالزّمان الّذي هو متغيّر
متجدّد بذاته أو بحدّ من حدوده ، ونسبة ما إلى أحدها بالوقوع فيه إمّا سيّالة
متغيّرة متجزّئة مستمرّة التّجدّد والحصول أو متجددة غير ممتدّة الحصول.
وأمّا إذا لم
يتصوّر فى ذاته لا بحسب ذاته ولا بحسب شيء من حالات ذاته والأوصاف اللاّحقة لذاته
تجدّد وتغيّر أصلا ، لا تدريجىّ ولا دفعىّ ، فلا يكون له تخصّص وتعلّق بالزّمان ولا
بحدّ من حدوده بتّة.
فليس من شرط
طباع الوجود بما هو وجود أو العدم بما هو عدم أن يكون حصوله فى زمان أو آن ؛ بل
إنّما ذلك من شرط التغيّر والتّجدّد والتّدريجيّة والدّفعيّة. وأمّا الوجود بما هو
وجود فما له بطباعه هو أنّه إمّا واقع فى نفس الأمر بذاته أو بعلّة أو ليس بواقع
فى نفس الأمر. ثمّ ربما يلحقه فى بعض الموجودات بخصوصه أن يكون حصوله فى زمان أو
آن. وذلك كما أنّه ليس من شرط الوجود أو العدم أن يكون فى مكان أو فى حدّ من حدود
المكان بل يلحق الوجود فى المادّيّات بخصوصها أن يكون فى المكان أو فى حدّ ما منه.
فكما يكون وجود
الموجود فى الأعيان لا فى مكان ولا فى جميع الأمكنة ولا فى حدّ ما من حدود المكان ولا
فى جميع الحدود ، بل هو فى نفس الأمر مع جميع الأمكنة ومع جميع الحدود معيّة على
نسبة واحدة متشابهة غير مختلفة إلى الجميع مرّة واحدة ، لا معيّة مستلزمة لفيئيّة
مكانيّة أو منتهية إليها ، بل متباينة للفيئيّة وخارجة عن جنس المعيّة المتقدّرة
المكانيّة والمفارقة الانفصاليّة المكانيّة.
فكذلك يكون
وجود الموجود فى الأعيان ، لا فى زمان ما ولا فى جميع الأزمنة ولا فى حدّ ما من
حدود الزّمان ولا فى جميع الحدود ، بل هو حاصل فى نفس الأمر مع جميع الأزمنة ومع
جميع الحدود الزّمانيّة معيّة على نسبة واحدة إلى الجميع متشابهة غير مختلفة حاصلة
مرّة واحدة. لا معيّة مستلزمة لفيئيّة زمانيّة أو منتهية إليها ، بل مباينة
للعينيّة خارجة عن جنس المعيّنة الزّمانيّة ، والتّقدّم والتأخّر الزّمانيّين غير
متشابهة لذلك الطور.
واعتبر الحكم
بكون الكلّ أعظم من جزئه ؛ فإنّه لا يمكن أن يقال : إنّه واقع فى زمان أو فى جميع
الأزمنة ، كما لا يقال : إنّه واقع فى مكان أو فى جميع الأمكنة. وإذا كان الحكم
كذلك ممّا يتوقف عليه الحكم ، كالتّصوّرات ، أولى بأن
يكون كذلك. فإذن ، مفارق المادّة مفارقة مطلقة ، كما أنّه مفارق للمكان
فكذلك هو مفارق للزّمان.
وعلّة الزّمان
لا يعقل أن تكون شيئا زمانيّا يوجد فى زمان ، فكيف مبدأ الكلّ وجاعل الجميع أفليس
الزّمان مقدار حركة الفلك الأقصى وعددها ، وهو يحدث عنها ، وهى علّة له أو محلّه.
فهى بما هى
حركة الجرم الأقصى ، أى بطبيعتها المطلقة ، متقدّمة على الزّمان وإن كانت بحسب
شخصيّتها وتقدّرها بالزّمان الحالّ فيها متعلقة به ومنطبقة عليه. فإذن ، الحركة
الّتي هى محلّ الزّمان بحسب سنخ طبيعتها متقدّمة الوجود على الزّمان. فليست هى
زمانيّة ، بمعنى أن يكون تقرّرها وحصولها عن جاعلها فى زمان وإن كانت زمانيّة ،
بمعنى أنّها متقدّرة بحسب امتدادها واتّصالها بالزّمان ومنطبقة عليه.
وأمّا سائر
الحركات فإنّها زمانيّة بالمعنيين. وقد أوضح ذلك معلّم الفلسفة المشّائيّة
أرسطاليس ومن اقتدى به من رؤساء فلاسفة الإسلام.
فإذا لم يكن
وجود تلك الحركة مشمول الزّمان وواقعا فيه (١٣٧) ومن البيّن أنّ ما يحدث عن الشّيء
لا يشمله ، فكيف يكون جاعل الزّمان ومبدعه وموجده ومحدثه ، بل جاعل ما يحدث هو عنه
، بل جاعل جميع الحقائق والأثبات زمانيّا. ومن الفطريّات أنّ جاعل الشّيء ومحدثه
لا يكون مشمولا له ، فضلا عن مبدأ الكلّ.
فإذن ، سطح نور
عالم القدس وحان حين أن نقول : سبحانك اللّهمّ ، بارئ العقول والنّفوس ، تقدّست وتعاليت
، كيف تكون مكانيّا أو زمانيّا؟ وأنت كوّنت الكون والمكان وأبدعت الحركة والزّمان
، أنّى يكون لك كيف أو كم أو أين أو متى؟ وأنت كيّفت الكيف وكمّمت الكم وأيّنت
الأين ومتّيت المتى ؛ عزّك فوق أعلى وصف الواصفين ، ومجدك وراء أبلغ ثناء
العارفين.
<٦> استبصار
ألست إذن قد
تأهّبت للحكم بأنّ الموجود الّذي لا يعتوره المكان والزّمان ، كما أنّه لا يوجد فى
المكان وإنّما يوجد معه معيّة منشأة للفيئيّة لا كمعيّة المكانيّات ، بل على معنى
أنّه متقرّر موجود فى نفس الأمر ، كما المكان موجود فى نفس الأمر ، فكذلك ليس هو
يوجد فى الزّمان ، وإنّما يوجد مع الزّمان معيّة خارجة عن طور اللافيئيّة مرتفعة
عن استلزامها ليست هى كمعيّة الزّمانيّات ، بل معناها أنّ ذلك الموجود والزّمان
يجمعهما التقرّر والوجود فى نفس الأمر. فهذه المعيّة غير متقدّرة ولا داخلة فى جنس
الامتداد والدّفعيّة.
فمن المستبين
عندك أنّ الكائن فى شيء يلزمه أن يختصّ بذلك الشّيء على الانطباق عليه ، ولا كذلك
الموجود مع شيء. فلست أظنّ أن تكون بعد ما تلى عليك ممّن لا يفرّق بين المعنيين.
فالامر
الزّمانىّ هو ما يختصّ وقوعه بالانطباق على جميع الأزمنة أو على زمان ما بأحد من
الوجهين اللّذين قد أومأنا إليهما أو على آن من الآنات. وما ليس زمانىّ ، فإنّه لا
يكون كذلك ، بل إنّما يوجد مع الزّمان ، لا كمعيّة الزّمانيّات ، والجاعل يحيط
بالزّمان كلّه دفعة.
وأمّا الزّمان
، لكونه متغيّرا سيّالا بذاته ، فلا يصحّ أن يقال : إنّه فيه ، ولا أنّه معه معيّة
زمانيّة ، إلاّ لما يتغيّر بتغيّره ويسيل بسيلانه ، ويمكن أن يكون له ابتداء وانتهاء.
وأمّا ما هو
خارج عن هذه فإنّما يصحّ أن يقال : إنّه يوجد مع الزّمان المعيّة التى هى إضافة
عارضة بحسب شمول الوجود لهما. وربما وجب أن يكون له اقتران به طبيعىّ. فيتحقق
بينهما تضايف بالفعل ، لا بالعرض. وذلك بأن يكون حاصلا بمحلّه ، كالفلك الأقصى أو
جاعلا لذاته وفاعلا لوجوده ، وهو المبدأ الفعّال.
ومن الكلمات
المحصّلة فى ذلك قول رئيس فلاسفة الإسلام أبى عليّ بن سينا فى كتبه : «وليس كلّ ما
يوجد مع الزّمان فهو فيه ، فإنّا موجودون مع البرّة الواحدة
ولسنا فيها».
وبالجملة ،
إنّما يكون الشّيء فى الزّمان على الاصول الّتي سلفت بأن يكون له معنى المتقدّم والمتأخّر
، وكلّ ما له فى ذاته معنى المتقدّم والمتأخّر فهو إمّا حركة وإمّا ذو حركة. أمّا
الحركة فذلك لها من تلقاء جوهرها ، وأمّا المتحرّك فذلك له من تلقاء الحركة.
وأمّا الامور
الّتي لا تقدّم فيها ولا تأخّر بوجه ، فإنّها ليست فى زمان وإن كانت مع الزّمان ،
كالعالم ؛ فإنّه مع الخردلة وليس فى الخردلة.
وإن كان شيء له
من جهة ما تقدّم وتأخّر لا من جهة ما هو ذات وجوهر فهو من جهة ما لا يقبل تقدّما وتأخّرا
ليس فى زمان. وهو من الجهة الاخرى فى الزّمان. فإن كان ذلك الشّيء حادثا زمانيّا
يتعلّق تقرّره ووجوده بزمان بعينه أو آن بعينه ويتوقّف على انقضاء حركة وزمان ،
كالحوادث المرتبطة بالأزمنة والآنات ، كان هو من جهة ذلك التّعلّق والتّوقّف فى
زمان أو فى آن ومن حيث ذاته المتقرّرة ، لا بلحاظ تلك الجهة مع الزّمان.
فإذن ، الشّيء
الزّمانىّ إمّا الحركة بذاتها أو المتحرّك من حيث له الحركة أو المتوقف على الحركة
من حيث هو متوقّف على الحركة ؛ فإنّ تقرّر الحادث الزّمانىّ الثّابت الذّات ، كجسم
ما معيّن مثلا ، بحسب الحدوث والبقاء جميعا ممّا يختصّ بالوقوع فى زمان ما بعينه ،
وليس هو بحركة ولا بذي حركة. اللّهمّ إلاّ أن يعنى بالحركة وذى الحركة ما هو أعمّ
منها وممّا يكون على تلك الشّاكلة من جهة توقّفه على الحركة .
فإذن ، الأشياء
الغير الزّمانيّة هى ما لا يكون حركة ولا متحرّكا ولا متوقّفا فى شيء من الحدوث والبقاء
على الحركة أصلا. وما دون ذلك ينسب إلى الزّمان أو إلى شيء من أطرافها بالانطباق والعينيّة
والحركة الّتي ينشأ منها الزّمان وهى محلّه من حيث سنخ طبيعتها وجوهر ذاتها لا
توصف بالفيئيّة بالقياس إلى الزّمان ،
__________________
بل بحسب تقدّرها وتشخّصها فقط ، بخلاف سائر الحركات. إنّ هذا لهو القسطاس
فى زنة الحكمة وتسوية الفلسفة فى كنه هذه المسألة ، فاتّخذه ليبصّرك ميزانا.
<٧>مصباح ملكوتيّ
فلك الآن أن
تتعرّف خواصّ أوعية التقرّر والوجود وتستبين لديك من طريق عالم الملك سبيل عالم
الملكوت ، وتتبيّن أنّ وعاء الوجود قد يكون الزّمان وقد يكون الدّهر أو السّرمد.
فتقول : إذا انتسب متغيّر بحسب تعيّنه أو بحسب نسبته إلى غيره إلى متغيّر
بالتّطابق على أن يصلح المنسوب لأن يتعرّض فيه بنفسه أو باعتبار تجدّدات النّسب
اللاّحقة أجزاء بأجزاء ما ينفرض فى المنسوب إليه فينطبق ما انفرض فيه على ما هو
بإزائه فى المنسوب إليه ، حصل هناك متّصف بالامتداد ، فإن كان المنسوب إليه من
المنطقتين بحيث يكون فى طباعه اللاّانقسام اتّصف ذلك الكون باللاّامتداد ، ويعبّر
عن تلك النّسبة فى الصّورتين بالفيئيّة. فطرف هذا الكون هو افق الزّمان والكائنات
هذا النّحو من الكون هى الزّمانيّات.
وأمّا النّسبة
إلى الزّمان والآن بحسب المعيّة فى الحصول والتّحقّق ، لا على سبيل الانطباق من
جهة أنّه لا يعقل من جانب المنسوب إلاّ الثّبات الصّرف للذّات المتجوهرة بذاتها أو
بعلّة من غير تغيّر وتجدّد أصلا ، فإنّما يكون بحسبها حصول صرف دهرىّ غير معقول
فيه الامتداد ولا مقابله.
وطرف هذا
الحصول هو وعاء الدّهر ، ولا يتصوّر هناك امتداد واستمرار أصلا ، ولا اللاّامتداد
، ولا اللاّاستمرار الّذي بإزاء ذلك ، لا فى نفس الكون والنّسبة ولا فى المنسوب ،
بل إنّما الامتداد واللاّامتداد فى المنسوب إليه فقط.
والدّهرىّ معنى
معقول من لحاظ إثبات الثّابت المحض مع الزّمان كلّه. فلا يختلف بحسبه نسبة الثّابت
إلى أجزاء الزّمان المنسوب إليه وحدوده بالتّقضّى والتّجدّد ، بل يكون الكلّ والأجزاء
جميعها بالقياس إليه على حدّ واحد من الحصول والمعيّة (١٣٨) وإن كانت تلك الأجزاء والحدود
بالقياس إلى أنفسها متقدّمة
ومتأخّرة ومتقضّية ومتجدّدة فى افق الزّمان.
ثمّ إنّ
النّسبة ما هو ثابت الذّات إلى ما هو غير متغيّرات الذّات بإضافة المعيّة فى
التحقّق والحصول لا يكون بحسبها إلاّ محض الكون السّرمديّ المتقدّس عن الامتداد ومقابله
فى نفس الكون والنّسبة وفى المنتسبين جميعا. وطرق هذا النّوع من الحصول هو عرش السّرمد.
ولمّا كان هو والدّهر
متشاركين
فى أنّه ليس
يعقل امتداد ولا لا امتداد فى الوجود منهما وإن كان بعض الموجود [فى الدّهر ممتدّا
فى نفسه ، لا فى الحصول فيه دون الموجود] فى السّرمد ؛ فإنّه لا يكون إلاّ المفارق
الخارج عن جنس الامتداد واللاّامتداد ، لم يميّز بينهما فى العبارة. ولذلك ما إنّه
يقال : وعاء الدّهر والسّرمد.
والّذي يشبه أن
يكون الحقّ فى عقد الاصطلاح عليه هو أن يخصّ السّرمد والوجود السّرمديّ بالقيّوم
الواجب الذّات ـ جلّ ذكره ـ إذ ما سواه مسبوق بالبطلان وإن لم يكن مسبوقا بامتداد
البطلان أو لا امتداده. وحقّ التقرّر السّرمديّ أن لا يكون مسبوقا بأصل البطلان
الخارج عن الامتداد واللاّامتداد ، كما لا يكون مسبوقا بامتداده ولا امتداده.
فالجواهر المفارقة المحضة من الذّوات الجوازيّة والحقائق الإمكانيّة إنّما هى فى
وعاء الدّهر ، لا على عرش السّرمد المحض بالملك الصّمد ـ تعالى ذكره وتقدّس مجده.
وبالجملة ،
الدّهر نوع من أوعية التقرّر والوجود ومحيط بالزّمان كلّه ؛ لأنّ معيّة الثّابت
المحض بما هو ثابت وشيء من أبعاض الزّمان وإن كان معنى غير النّسبة إلى الزّمان
بالفيئيّة. لكنّها بعينها معيّة ذلك الثّابت وجملة الزّمان ؛ إذ جملة الزّمان وأبعاضه
وحدوده لا تختلف انقضاء وحصولا بالقياس إلى الثّابت المحض أصلا.
فإذن ، بعض
الزّمان وكلّه يكونان معا بحسب الحصول فى وعاء الدّهر ، وإلاّ لكان فى وعاء الدّهر
انقضاءات وتجدّدات ، فيلزم أن يكون فيه امتداد ، فينقلب وعاء الدّهر افق الزّمان ،
وذلك خلف محال.
__________________
وأمّا السّرمد
، فهو نوع آخر أرفع وأقدس من الدّهر أيضا ومحيط به ، سواء خصّصناه بالقيّوم الواجب
بالذّات ـ عزّ شأنه ـ كما أدّى إليه صراط نضج الحكمة الحقّة الحقيقيّة ، أو سوّغنا
أن ينسب إليه جملة المفارقات المحضة من الجائزات المجعولة والممكنات المعلولة ،
كما هو سبيل الفلسفة المشّائيّة.
والفلاسفة
النّجباء المحصّلون حاولوا التّعبير عن هذه المعانى المحصّلة بألفاظ ملخّصة ،
فقالوا : نسبة المتغيّر إلى المتغير زمان ، ونسبة الثّابت إلى المتغيّر دهر ، ونسبة
الثّابت إلى الثّابت سرمد ، ويعمّها الدّوام المطلق ، والدّهر وعاء الزّمان.
<٨> وهم وتزييف
أسمعت مثير
فتنة التّشكيك يقلّد ضعفاء التعقّل ويقول ردّا على الفلاسفة ؛ إنّ هذا التّهويل
خال عن التّحصيل ؛ لأنّ المفهوم من «كان» و «يكون» لو كان أمرا موجودا فى الأعيان
لكان إمّا أن يكون قارّ الذّات ، فيلزم أن لا يوجد فى المتغيّرات ، وإمّا أن يكون
غير قارّ الذّات ، فيستحيل وجوده فى الثّابت. وهذا التّقسيم لا يندفع بالعبارات.
وليس يسع فطنته
أن يتفطن أنّ بعض الحقائق لا يدخل فى جنس قرار الذّات ولا قرار الذّات ، لخروجه عن
جنس القسمة واللاّقسمة ، بل إنّما يكون المتقرّر المحض ، لا منقسم حصول التّقرّر
أو غير منقسم حصول التّقرّر ، إذ المعدوم المحض لا منقسم وقوع العدم أو غير منقسم
حصول التقرّر ؛ وأنّه ممّا لم يرتب فيه ذو قريحة أنّ وقوع الحركة التّوسّطيّة أو
القطعيّة مع الزّمان ليس كوقوع الجسم القارّ الذّات الثّابت الوجوب بما هو ثابت
الذّات والوجود مع الزّمان ، ولا كوقوع القارّ الذّات الثّابت الوجود مع القارّ
الذّات الثّابت الوجود ، كالسّماء مع الأرض ، بما هما قارّان ثابتان. وذلك الفرق معقول
محصّل.
فالموجود إذا
كان له هويّة اتصاليّة غير قارّة بحسب نفس ذاته ، كالحركة القطعيّة أو بحسب اختلاف
نسبته إلى امور غير ذاته بالاقتضاء والحصول ، لا بحسب جوهر
ذاته ، كالحركة التّوسّطيّة كان لا محالة مشتملا على متقدم ومتأخّر لا
يجتمعان ويصحّ أن يتصوّر مرور ممتدّ بهما ، فله بهذا الاعتبار مقدار غير قارّ هو
الزّمان وينطبق تلك الهويّة على ذلك المقدار ويكون جزؤها المتقدّم مطابقا لزمان
متقدّم وجزؤها المتأخّر مطابقا لزمان متأخّر. ومثل هذا الوجود يسمّى متغيّرا
تدريجيّا ، ولا يوجد بدون الانطباق على الزّمان ، والتّغيّرات الدّفعيّة إنّما
تحدث فى آن هو طرف الزّمان. فهى أيضا لا توجد بدونه.
وأمّا الامور
الثّابتة الّتي لا تغيّر فيها أصلا ، لا تدريجيّا ولا دفعيّا ، فهى وإن كانت مع
الزّمان العارض للمتغيّرات ، لا أنّها مستغنية فى حدّ نفسها عن الزّمان والآن بحيث
إذا نظر إلى ذواتها أمكن أن تكون موجودا قبلا بلا زمان وآن.
فإذن ، إذا نسب
متغيّر إلى متغيّر بالمعيّة أو القبليّة فليس بدّ هناك من زمان أو آن فى كلا
الجانبين . وإذا نسب ثابت إلى متغيّر فلا بدّ من الزّمان فى أحد
جانبيه دون الآخر. وإذا نسب ثابت إلى ثابت بالمعيّة كان الجانبان مستغنيين عن
الزّمان والآن وإن كانا مقارنين لهما ، فهذا حدّ سبيل الفلسفة.
وأمّا محطّ رحل
الحكمة فهو أنّه إذا نسب ثابت إلى ثابت بالقبليّة كان هناك انفصال دهرىّ غير
زمانىّ وكان الجانبان مستغنيين عن الزّمان والآن وليسا بمقارنين لهما أصلا.
وبالجملة ، فهذه
المعانى حقائق محصّلة متفاوتة قد عبّر عنها بعبارات مختلفة تنبيها على تفاوتها. وإذا
تؤمّل فيها تأمّلا غائرا فى عمق التّحصيل انمحق ما اختلقه أبو البركات البغدادىّ ،
من أنّ الزّمان مقدار الوجود وأنّ الباقى لا يتصوّر بقاؤه إلاّ فى زمان ، وما لا
يكون حصوله فى الزّمان ويكون باقيا لا بدّ من أن يكون لبقائه مقدار من الزّمان.
ولم يستبن له
أنّ الزّمان إنّما هو مقدار لهيئة غير قارّة. وكيف يتهيّأ لذى طباع
__________________
تعقّلي أن يتصوّر أنّ الغير القارّ بالذّات يكون مقدارا لطبيعة ثابتة.
فإذن ، قد
انصرح لك أنّ وجود الزّمانيّات فى افق الزّمان ووجود الزّمان ومفارقات المادّة فى
وعاء الدّهر ، لا فى الزّمان. والمبدأ القيّوم الواجب بالذّات سرمدىّ الوجود ومحيط
بالجميع.
فإذن ،
الموجودات : منها ما هو (١٣٩) زمانىّ الوجود ، ومنها ما هو آنيّ الوجود ، ومنها ما
هو دهرىّ الوجود ، ومنها من هو سرمدىّ الوجود ، وهو بكلّ شيء محيط.
<٩> بسط وتشييد
إنّى لأعلم أنّ
هذه العلوم الشّديدة الارتفاع عن أطوار هذه الأذهان الضّيّقة وإلف صحابة الوهم قد
أعشى أبصار هذه القرائح المتغسّقة ، وأوقر آذان هذه العقول المتغيّقة . فلا بأس بالتّكوير عليك ، ولكن بشيء من عبارات شركائنا
الّذين سبقونا بالصّناعة ليكون سبيلا للاحتجاج عليهم سيتلى عليك لنضج الحكمة.
قال معلّم
الفلسفة المشّائيّة أرسطو طاليس فى كتاب أثولوجيا فى الميمر الثّامن (ص ١١٤) : «وينبغى
لك أن تنفى عن وهمك كلّ كون بزمان إن كنت إنّما تريد أن تعلم كيف ابدعت الآنيّات
الحقيّة الدّائمة الشّريفة من المبدع الأوّل ؛ لأنّها إنّما كوّنت منه بغير زمان ،
وإنّما ابدعت إبداعا وفعلت فعلا ، ليس بينهما وبين المبدع متوسّط البتّة. فكيف
يكون كونها بزمان ، وهى علّة الزّمان والأكوان الزّمانيّة [ونظامها وشرفها] ،
فعلّة الزّمان لا تكون تحت الزّمان ، بل تكون بنوع أعلى وأرفع ، كنحو الظلّ من ذى
الظلّ. ولذلك صار ذلك العالم محيطا بجميع الأشياء الّتي فى هذا العالم ، وهذه
الصّور فى ذلك العالم من أوّلها إلى آخرها ، إلاّ أنّ هناك بنوع آخر أعلى وأرفع».
وقال فيه أيضا
: «القيام هناك دائم بلا زمان ماض ولا آت. وذلك أنّ الآتى هناك
__________________
حاضر والماضى موجود ؛ لأنّ الأشياء الّتي هناك دائمة على حال واحدة لا
تتغيّر ولا تستحيل ، وإنّما هى الحال الّتي يجب أن تكون علّتها فلا تزول» (ص ١٠١).
وقال فيه : «والشّيء
الدّائم هو أبدا على حالة واحدة لا تنتقل. فأمّا أمس ومنذ شهر ومنذ سنة وما أشبه
ذلك ؛ فإنّه من حيّز السّلوك ، والحركة هى الّتي تجعل منذ أمس ومنذ شهر ومنذ سنة ،
... وكذلك حركة الفلك والكواكب فإنّما هى واحدة عند أنفسها ، ونحن نقسّمها فنصيّرها
كثيرة ونجعله عدد الأيّام ، وذلك أنّ اللّيل يتلو النّهار. فإذا كان كذلك جزّئت
الأيّام وكثر عددها. فأمّا العلو فإنّ اليوم فيه واحد ، وليست هناك أيّام ، لأنّ
ما هناك نهار كلّه لا يتلوه ليل» (ص ١٠٥).
وقال فيه : «السّالك
طريقا ما إذا صار فى موضع آخر من هذا الطريق الأرضىّ فارق أوّله. وأمّا السّالك فى
أرض الحياة فإنّه يسلك إلى أقصى تلك الأرض من غير مفارقة منها لأوّلها ، ويكون فى
أوّلها وآخرها وفيها بين ذلك فى حالة واحدة» (ص ٩٦).
وقال فى الميمر
الخامس : «إنّ العقل ابدع تامّا كاملا بلا زمان ... وأنّ العقول ، أى الأشياء
الّتي فى العالم الأعلى ... علة بدئها هى علّة غايتها ؛ لأن بدأها وتمامها معا ليس
بينهما فرق ولا زمان. فتكون أذن علّة تمامها مع علّة بدئها سواء» (ص ٧٢).
وفى الميمر
الثانى أوضح : «أنّ النّفس ما دامت فى هذا العالم فيما من جهة حيّز الزّمان. فإذا
اتصلت بالعالم الأعلى صارت من حيّز الدّهر. وليس فى العالم الأعلى جوهر مستحيل ولا
علم مستحيل. وإذا كانت الأشياء هناك ظاهرة بيّنة ثابتة دائمة وعلى حال واحدة ، ولم
تكن للنفس حاجة إلى ذكر شيء ، بل ترى الأشياء دائما» (ص ٣٠).
ثمّ قال : «فنقول
: إنّ كلّ علم كائن فى العالم الأعلى الواقع تحت الدّهر لا يكون بزمان ، لأنّ
الأشياء الّتي فى ذلك العالم كوّنت بغير زمان ، فلذلك صارت النّفس لا تكون بزمان. ولذلك
صارت النّفس تعلم الأشياء الّتي كانت تتفكّر فيها هاهنا أيضا بغير زمان ولا تحتاج
أن تذكرها ، لأنّها كالشّيء الحاضر عندها : فالأشياء العلويّة
والسّفليّة حاضرة عند النفس لا تغيب عنها إذا كانت فى العالم الأعلى» (ص ٣٠).
ثمّ قال : «وما
الّذي يمنع النّفس إذا كانت فى العالم الأعلى من أن تعلم الشيء المعلوم دفعة واحدة
، واحدا كان المعلوم أو كثيرا لا يمنعها شيء عن ذلك البتة ، لأنّها مبسوطة ذات علم
مبسوط ، تعلم الشّيء الواحد مبسوطا كان أو مركّبا ـ دفعة واحدة ، مثل البصر ؛
فإنّه يرى الوجه كلّه دفعة واحدة ، والوجه مركّب من أجزاء كثيرة ، والبصر يدركه وهو
واحد غير كثير ـ كذلك النّفس إذا رأت شيئا مركّبا كثير الأجزاء علمته كلّه دفعة
واحدة معا ، لا جزءا بعد جزء. وإنّما تعلم الشيء المركّب دفعة واحدة معا ، لأنّها
تعلمه بلا زمان ؛ وإنّما تعلم الشيء المركّب دفعة بلا زمان ، لأنّها فوق الزّمان ؛
وإنّما صارت فوق الزّمان لأنّها علّة للزمان» (ص ٣١).
وقال فى آخر
الميمر الأوّل : «ليس كلّ فاعل يفعل فعله فى زمان ، ولا كلّ علّة قيل معلولها
بزمان. فإن أردت أن تعلم هل هذا المعلول زمانىّ أم لا ـ فانظر إلى الفاعل : فإن
كان تحت الزّمان فالمفعول تحت الزّمان لا محالة ؛ وإن كانت العلّة زمانيّة ، كان
المعلول زمانيّا أيضا. فالفاعل والعلّة يدلاّن على طبيعة المفعول والمعلول : إن
كانت تحت الزّمان وإن لم تكن تحته» (ص ٢٨). نجزت ألفاظه. (أفلوطين ، اثولوجيا. تحقيق
عبد الرّحمن بدوى).
وقد بسط هذه
الاصول فى كتبه بسطا بالغا كثيرا. ورئيس مشّائيّة الإسلام الشّيخ أبو عليّ بن سينا
قال فى طبيعيّات الشفاء : (ص)
«والشيء
الموجود مع الزّمان وليس فى الزّمان. فوجوده مع استمرار الزّمان كلّه هو الدّهر. وكلّ
استمرار وجود واحد فهو فى الدّهر. وأعنى بالاستمرار وجوده بعينه كما هو مع كلّ وقت
على الاتّصال. فكأنّ الدّهر هو قياس ثبات إلى غير ثبات ، ونسبة هذه المعيّة إلى
الدّهر كنسبة تلك الفيئيّة إلى الزمان ونسبة الامور الثّابتة بعضها إلى بعض والمعيّة
التى لها من هذه الجهة هو معنى فوق الدّهر. ويشبه أنّ أحقّ ما سمّى به السّرمد».
(ص)
وقال فى موضع
آخر من الشفاء : «معنى قولنا : الجسم فى زمان أنّه فى الحركة ،
والحركة فى الزّمان. وأمّا غير المتغيّر أعنى ما يكون قارّ الذّات فإنّما
ينسب إلى الزّمان بالحصول معه ، لا بالحصول فيه ؛ إذ ليس له جزء يطابق المتقدّم من
الزّمان وجزء يطابق المتأخّر منه. وهذا كما أنّ نسبة استمرار غير المتغيّر وثباته
إلى استمرار غير المتغيّر ، كالسّماء إلى الأرض يكون بالحصول معه من غير تصوّر
الحصول فيه». (ص)
ثمّ قال : «وغير
الحركة أو المتحرك إنّما ينسب إلى الزّمان بالحصول معه ، لا فيه. وهذه المعيّة إن
كانت بقياس ثابت إلى غير ثابت فهو الدهر ؛ وإن كانت بقياس ثابت إلى ثابت فهو
السّرمد. وهذا الكون ، أعنى كون الثّابت مع غير الثّابت ، والثّابت مع الثّابت ،
بإزاء كون الزّمانيّات فى الزّمان فتلك المعيّة كأنّها متى الامور الثّابتة (١٤٠).
ولا يتوهّم فى الدّهر ولا فى السّرمد امتداد ، وإلاّ لكان مقدارا للحركة. ثمّ
الزّمان كمعلول للدّهر والدّهر كمعلول للسّرمد ؛ فإنّه لو لا دوام نسبة علل
الأجسام إلى مباديها ما وجدت الأجسام فضلا عن حركاتها. ولو لا دوام نسبة الزّمان
إلى مبدأ الزّمان لم يتحقق الزّمان». (ص)
وقال أيضا : «إنّ
اعتبار أحوال المغيّرات مع المتغيّرات هو الزّمان ، واعتبار أحوال الأشياء
الثّابتة مع المتغيّرة هو الدّهر ، ومع الأشياء الثّابتة هو السّرمد. والدّهر فى
ذاته من السّرمد. وهو بالقياس إلى الزّمان دهر. يعنى أنّ الدّهر فى نفسه شيء ثابت
، لا تغيّر ولا امتداد فيه إلاّ أنّه إذا نسب إلى الزّمان الّذي هو واقع فيه ومتغيّر
فى ذاته سمّى دهرا.
وقال فى كتاب
عيون الحكمة (ص ٢٨) : «وذوات الأشياء الثّابتة وذوات الأشياء الغير الثّابتة من
جهة والثّابتة من جهة إذا اخذت من جهة ثباتها لم تكن فى الزّمان ، بل فى الزّمان ونسبة
ما مع الزّمان وليس فى الزّمان من جهة ما مع الزّمان هو الدّهر ، ونسبة ما ليس فى
الزّمان إلى ما ليس فى الزمان من جهة ما ليس فى الزمان ، الأولى به أن يسمّى
السّرمد. والدّهر فى ذاته من السّرمد وبالقياس إلى الزّمان دهر.
وقال فى كتاب
التعليقات (ص ١٤١) : «العقل يدرك ثلاثة أكوان : أحدها : الكون
فى الزّمان ، وهو متى
الأشياء المتغيرّة الّتي يكون لها مبدأ ومنتهى ، ويكون مبدؤه غير منتهاه ، بل يكون
متقضّيا ويكون دائما فى السّيلان وفى تقضّى حال وتجدّد حال. والثّاني : كون مع
الزّمان ، ويسمّى الدّهر. وهذا الكون محيط بالزّمان ، وهو كون الفلك مع الزّمان ، والزّمان
فى ذلك الكون ، لأنه ينشأ من حركة الفلك ، وهو نسبة الثّابت إلى المتغيّر ، إلاّ
أنّ الوهم لا يمكنه إدراكه ؛ لأنّه رأى كلّ شيء فى زمان ورأى كلّ شيء يدخله كان ويكون
، والماضى والحاضر والمستقبل ورأى لكلّ شيء متى إمّا ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا. والثّالث
كون الثّابت مع الثّابت ويسمّى السّرمد ، وهو محيط بالدّهر».
وقال : «الشّيء
الزّمانىّ يكون له أوّل وآخر ويكون أوّله غير آخره».
وقال : «الوهم
يثبت لكل شيء متى ، ومحال أن يكون الزّمان نفسه متى ، والفلك لا يتغيّر فى ذاته والحركة
حالة طارئة عليه».
وقال : «إنّ ما
يكون فى الشيء يكون محاطا بذلك الشّيء ، وهو متغيّر بتغيّر ذلك الشّيء. فالشيء الّذي
يكون فى الزّمان يتغيّر بتغيّر الزّمان ويلحقه جميع أعراض الزّمان ويتغيّر عليه
أوقاته ، فيكون هذا الوقت الّذي يكون مثلا مبدأ كونه أو مبدأ فعله غير ذلك الوقت
الّذي يكون آخره ؛ لأنّ زمانه يفوت ويلحق وما يكون مع الشّيء فلا يتغيّر بتغيّره ولا
يتناوله أعراضه».
ثمّ قال : «الدّهر
وعاء الزّمان ؛ لأنّه محاط به».
وقال فى
طبيعيّات كتاب النّجاة : «ليس كلّ ما وجد مع الزّمان فهو فيه ؛ فإنّا موجودان مع
البرّة الواحدة ولسنا فيها ، وعدّ كلّ ما يصحّ أن ينسب إلى الزّمان بالفيئيّة».
ثمّ قال : «فما
هو خارج عن هذه الجملة فليس فى زمان ، بل إذا قوبل توهّمه مع الزّمان واعتبر له
ثبات مطابق لثبات الزّمان وما فيه ، سمّيت تلك الإضافة وذلك الاعتبار دهرا له ،
فيكون الدّهر محيطا بالزّمان».
وقال فى خطبته
المسمّاة بالكلمة الإلهيّة : «الزّمان عنه ـ تعالى شأنه ـ فى الافق
الأقصى وناحية الجوهر الأدنى عند اشتمال الحركة على متقدم ومتأخّر ووجود
الجسم فى تبدّل وتغيّر ، والدّهر وعاء زمانه ونسبة مبدعاته إلى اختلاف أحيانه ويفيض
عنه وجود جواهر روحانيّة لإمكانيّة ولا زمانيّة».
وقال تلميذه
بهمنيار فى تحصيله : «وهذه المعيّة إن كانت بقياس ثبات إلى غير ثبات فهو الدّهر ، وهو
محيط بالزّمان وإن كانت نسبة الثّابت إلى الثّابت فأحقّ ما يسمّى التّسرمد ، بل
هذا الكون ، أعنى كون الثّابت مع غير الثّابت ، والثّابت مع الثّابت ، بإزاء كون
الزّمانيات فى الزّمان. فتلك المعيّة كأنّها متى الامور الثّابتة وكون لامور فى
الزّمان متاها ، فليس فى الدّهر ولا فى السّرمد امتداد لا فى الوهم ولا فى الأعيان
، وإلاّ كان مقدارا للحركة».
وقال شيخ أتباع
الرّواقيّة فى التلويحات : «الجسم من حيث هو جسم ليس فى الزّمان ، بل لأنّه فى
الحركة وهى فى الزّمان والأشياء الغير المتغيرة أصلا ، كالعقليّات والّتي تتغيّر
من جهة وتثبت من جهة كالأجسام هى مع الزّمان لا فيه. ونسبة ما مع الزّمان إليه فى
الثّبات هو الدّهر ، ونسبة بعضه إلى بعض اصطلح عليه بالسّرمد».
فهذا نبذ من
ألفاظهم فى التّعبير عن هذه الأوعية والأكوان. ولهم هناك ضروب من الأقاويل
المطوّلة عند محاولة التّوضيح والتّبيان ، وإنّ من لم يؤلّفه ذلك بالهطوع على الحقّ لم ينفعه ما زاد عليه نفعا.
<١٠> ظنون وتوهينات
قد تهوّكت
مهوّشة المعرفة ومشوّشة الفلسفة من متقدّمة الفلاسفة فى العصور السّابقة فى أمر
الزّمان والدّهر. فمن اكتنفه فساد الغريزة الإنسانيّة منهم قد اختلق أنّ للزمان
وجودا مفارقا للمادّة على أنّه جوهر أزليّ مستقلّ بالقيام بنفسه ووجود هو واجب
الوجود بذاته ، فيستحيل أن يتعلّق بالحركة ، ويجوز أن يوجد الزّمان وإن لم يوجد
الحركة. ويجب ان يستعاذ باللّه ، سبحانه ، من هذه الشّقاوة الثّقيلة. ومن له
__________________
بضاعة ما ولكن مزجاة من الطباع التّعقّلىّ ، أدرجته فى الطبائع الجوازيّة.
لكن لا على أن يكون ممّا يعتريه التّعلّق بالمادّة ، بل على أن يكون جوهرا مستقلا
بنفسه قائما بذاته منفصل الذّات عن الماديّات ، مفارق الوجود للجسمانيّات. وهذا
الرّأى معزيّ إلى إمام الفلسفة أفلاطن الإلهيّ وفريق من أشياعه.
وعلى هذا أيضا
لا يصلح أن يقع فى تحت ذات الزّمان والمدّة تغيّر أصلا ما لم يعتبر نسبة ذاته إلى
المتغيّرات. فالمدّة إن لم يقع فيها شيء من الحركات والتّغيّرات لم يكن فيها إلاّ
الدّوام وإن وقع حصلت هناك قبليّات وبعديّات ، لا من جهة التغيّر فى ذات الزّمان والمدّة
، بل إنّهما من حيثيّة تلك المتغيّرات.
ثمّ إن اعتبر
نسبته إلى الذّوات الدّائمة الوجود المتنزّهة عن التّغيّر سمّى من تلك الجهة
بالسّرمد ، وإن اعتبرت نسبته إلى ما فيه الحركات والتّغيّرات من حيث حصولها فيه
فذلك هو الدّهر الدّاهر ، وإن اعتبر من جهة نسبة ذاته إلى المتغيّرات المقارنة له
فذلك هو المسمّى بالزّمان. فالسّرمد والدّهر والزّمان عند هؤلاء متحدة بالذّات
متغايرة بالاعتبار.
وكما يزعم بحسب
المشهور أنّ المكان عند أفلاطن الإلهيّ بعد مقطور مجرّد مكانىّ ، وهو الّذي يقال
له الامتداد المكانىّ الّذي (١٤١) هو من الجواهر المفارقة للمادّة ، فكذلك يزعم
أنّ الزّمان عنده بعد مقطور مجرّد زمانىّ. وهو الّذي يقال له الامتداد الزّمانىّ. وهو
أيضا من الجواهر المفارقة للمادّة. وكما أنّ ذهاب أفلاطن إلى ذلك فى الامتداد
المكانىّ غير ثابت فكذلك فى الامتداد الزّمانىّ.
وكيف يظنّ
بأفلاطن الأقدم الأفخم أنّه لم يفرّق بين الممتدّ المتغيّر بذاته وبين ما لا يعقل
فيه امتداد وتغيّر ، ولم يتحقّق أنّ القبليّات والبعديّات الامتداديّة لا تتصوّر
بالذّات إلاّ فيما يكون بذاته مقدار للحركة ، فيمتنع أن يكون جوهرا قائما بذاته.
ومنهم من ظنّ :
أنّ الدّهر مدّة السّكون أو زمان غير معدود بحركة. وهذا أيضا سخيف فاسد ؛ فإنّه
ليس يعقل زمان ومدّة ليس فى ذاته قبل وبعد قبليّة وبعديّة زمانيّتين. وإذا كان
كذلك استحال الخلوّ من الحركة. وأمّا السّكون فقد عرّفناك أنّه لا
تقدّر له بالزّمان إلاّ بالعرض.
ومن متفلسفة
الإسلاميّين من يتخيّل أنّ الدّهر هو مقدار الزّمان بجملته ، أى بماضيّاته ومستقبلاته
جميعا على الاتصال. وكون هذا المقدار دائميّا غير منقطع الأوّل والآخر هو السّرمد.
وقد أوضحنا ما يفضحه ويفشى فساده. وهناك ظنون سخيفة وأوهام فاسدة لا تستأهل إلاّ للإغماض
عنها والإعراض عن ذكرها. وكلّ ما قد أعضل الأمر بمثير فتنة التّشكيك حتّى ألجأه
إلى التّشبّث بذيل أفلاطن فيما ينسب إليه ، فقد صار مستبين السّخافة لديك بما
أعطيناك وثبتناك عليه.
<١١> تذكير استيفاضيّ
إنّ ما حصّفناه
فيما قد تلوناه عليك يضمن لك لو أعلمت الرّوية فيه تثبيت درايتك بالأمر فى افق
الزّمان ووعاء الدّهر وعرش السّرمد ، وتشتّت ما لفّقته أوهام المتشككين من معاقد
الشّبه والشّكوك.
فما يسوق العقل
إلى الحكم بوجود الزّمان الّذي هو مقدار الحركة إنّما هو تحقّق القبليّة والبعديّة
والمعيّة الامتداديّة المتقدّرة ، وكذلك إمكان اختلاف الحركات وتساويها أو
تشابهها. وكذلك مسبوقيّة بعض المتقرّرات باستمرار البطلان ثمّ التّقرّر على
استقرار خاصّ ثمّ انبتات التّقرّر ؛ فإنّ هذه الأحوال لا تتصوّر إلاّ بوجود كم
متصل غير ذى وضع يتحقق به القبليّات والبعديّات والمعيّات الزّمانيّة ، وتتقدّر به
الحركات ويتّصف التّقرّر والبطلان بحسب المقارنة له من جهة تخصّص بعض المتقرّرات والباطلات
بالوقوع فيه بالاستمرار واللاّستمرار وباستمرارات مخصوصة بأقدار متعيّنة.
وما يوجب القول
بوعاء الدّهر هو وجود المتقرّرات الثّابتة على الثّبات الصّرف بحيث لا يصلح أن
يتوّهم فيه تغيّر وانتقال من حال إلى حال وامتداد أو لا امتداد وإن كان ذلك مسبوقا
بالبطلان الصّرف لا باستمراره أولا استمراره.
وما يهدى إلى
الإيمان بعرش السّرمد هو وجوب الوجود الحقّ القيّوم الواجب بالذّات ، المتقدّس عن
التّبدّل والانتقال ، المتعالى عن إمكان العدم والقوّة بحسب جميع الشّئون والأحوال
، المحيط بوعاء الدّهر وافق الزّمان وبكلّ شيء فيهما فى الآباد والآزال.
فإذن ، عرش السّرمد
لا يعقل فيه الامتداد واللاّامتداد ، ولا وقوع العدم بعد التقرّر بوجه من الوجود ،
ولا سبق استمرار اللّيس أو لا استمراره أصلا. وإن صحّ فيه سبق أصل اللّيس الخارج
عن جنس الاستمرار واللاّاستمرار ، وافق الزمان يقع فيه التّغيّر والتّبدّل والانتقال
من حال إلى حال وانبتات التقرّر بعد الحصول ، وتصحّ فيه مسبوقيّة التقرّر والوجود
بالبطلان المستمرّ والعدم الممتدّ.
ثمّ التقرّر والوجود
فيه قد يكون ممتدّا وقد يكون دفعيّا غير ممتدّ ، والممتدّ قد يكون منبتّ الامتداد وقد
يكون مستمرّ الامتداد فى الآباد.
فهذه خواصّ
الأوعية بحسب اختلاف الأحكام التّابعة لاختلاف الحقائق وافق الزّمان لا بدّ أن
يكون زائدا على معنى الوجود وعلى نفس النّسبة المعبّر عنها بالكون فى الزّمان ؛
فإنّ المقدار المتقضّي المتجدّد بنفس ذاته ، لا يكون نفس الوجود ولا نفس النّسبة.
وأمّا وعاء
الدّهر فليس هو شيئا وراء الوجود الصّرف ونسبة الموجودات إلى الموجودات وإن كان
ذلك ربما يكون بعدم العدم الصّرف. وكذلك عرش السّرمد هو نفس الموجوديّة المحضة والنّسبة
الّتي هى للموجود المحض ، لا من بعد العدم إلى الموجودات الثّابتة.
فكما يقال :
إنّ الخارج ظرف الوجود ، لا على أن يكون هناك شيء غير الوجود العينىّ ، بل على
معنى أنّ يعيّن الشّيء حصولا أصلا ، لا فى لحاظ الذّهن فقط ، بل خارج الأذهان أيضا
؛ فكذلك يقال : وعاء الدّهر وعرش السّرمد نوعان من ظروف الوجود وأوعيته ، لا على
أن يكون هناك شيء غير الوجود فى الأعيان ، بل على معنى أنّ للشّيء حصولا صرفا أصلا
فى الأعيان ، لا فى افق الزّمان ، بل خارجا عن الزّمان
وعن جنس التقدّر والتبدّل والتنقّص والازدياد والامتداد ، سواء لم يسبقه
ليس أصلا ويسبقه أصل اللّيس الصّرف لا على الامتداد أو اللاّامتداد.
فإذا استنارت
المسألة لبصيرتك بازغة فى التّغشية على هذه البضاعة امتحق كلّ ما وراء وجه الحقّ
عن ذوى الأبصار المستفشية فى زمر المنتسبين إلى هذه الصّناعة.
<١٢> إحصاء
كما أنّ الحركة
والمتحرك فى الزّمان فكذلك الأيّام والسّاعات والآفات ، فقد يقال لأنواع الشّيء ولأجزائه
ولنهاياته : إنّها فى الشّيء ، ونسبة الآن إلى الزّمان ليست كنسبة الوحدة إلى
العدد ؛ لأنّ الوحدة جزء العدد ، بخلاف الآن بالقياس إلى الزّمان ، بل هى كنسبة
النّقطة إلى الخطّ المستدير.
وأمّا الآن
السّيّال فهو بالقياس إلى الزّمان خارج عن النّسبتين جميعا ؛ لأنّه ليس جزء
الزّمان ولا طرفه. وإنّما يشبه نسبته إلى الزّمان نسبة الوحدة إلى العدد بوجه ما ،
من حيث إنّه يرسم الزّمان ، كما الوحدة تحصّل العدد ، وإن كان هو خارجا عن الزّمان
غير قائم به ، والوحدة داخلة فى العدد ، وهو أيضا ممّا يوجد فى الزّمان.
فإذن ،
المنتسبات إلى الزّمان بالفيئيّة ، أى الامور الّتي يكون حصولها فى الزّمان ، هى :
أمّا أوّلا ، فأقسامه ، كالماضى والمستقبل والسّاعات (١٤٢) والأيّام والشّهور والسّنين
وأطرافه ، وهى الآنات. وأمّا ثانيا ، فالحركات والآن السّيّال. وأمّا ثالثا ،
فالمتحرّكات بما لها الحركات ، فهى فى الحركة ، والحركة فى الزّمان. وأمّا رابعا ،
فالحوادث بما لها توقّف على الحركات وتخصّص بالأزمنة والآنات.
وكون الآن فى
الزّمان ككون النّقطة فى الخطّ المستدير التّامّ وكون الآن السّيّال فيه ، فمن وجه
ككون الحركة التّوسّطيّة فيه ، ومن وجه ككون الوحدة فى العدد ؛ وكون السّاعات والأيّام
والماضى والمستقبل فيه ككون أنواع العدد ولوازم تلك الأنواع فى العدد.
وكون الحركة
القطعيّة الفلك الأقصى فيه ، ككون العرض المعروض لعدد فى ذلك العدد ، وكون الفلك
الأقصى فيه ، ككون الموضوع للعرض المعدود فى العدد ، وكون سائر الحركات والذّوات
الماديّة والحوادث الزّمانيّة فيه ككون الأجسام فى الأمكنة وفى الامتدادات
المكانيّة.
وأمّا ما هو
خارج عن هذه الجملة ، كالامور الّتي لا تقدّم ولا تأخّر فيها من جهة تغيّر الشّئون
وتبدّل الأحوال بوجه من الوجوه ؛ فإنّه ليس شيء من ذلك فى الزّمان أصلا وإن كان مع
الزّمان فليس كلّ ما وجد مع الشّيء فهو منه. أفليس الإنسان موجودا مع الخردلة وليس
هو فيها. وهذه المعيّة الدّهريّة ليست بالانطباق على الزّمان أو على طرفه.
وما يتحقق بينه
وبين الزّمان هذه المعيّة الغير الانطباقيّة : إمّا أن يكون له اقتران طبيعىّ
بالزّمان ، كأن يكون فاعلا له ، كالمبدإ الفاعل أو حاملا لمحلّه ، كالفلك الأقصى ،
فيكون معيّتهما معيّة دهريّة بالطبع على أنّ بينهما تضايفا بالفعل ، لا بمجرّد
الفرض والاتّفاق البحت ، بل بحسب تلك العلاقة الطبيعيّة وبحسب فعليّة التقدّر
بينهما جميعا ؛ وإمّا أن لا يكون له ذلك ، كالنّفس المجرّدة لفلك الثوابت مثلا ،
فيكون معيّتهما دهريّة غير طبيعيّة ، بل بحسب الاتّفاق البحت من جهة فعليّة الوجود
لهما فقط.
والمعيّة
الزّمانيّة إمّا نفس المعيّة ملحوظا بلحاظ آخر ، أى باعتبار أنّها المقارنة فى
الأعيان بحسب حصول الوجود للمعين جميعا ، كمعيّة الحركة والزّمان فى الوجود أو
راجعة إليها كمعيّة الحركتين أو المتحرك والزّمان ، أو المتحرّكين أو الذّاتين
الحادثتين فى زمان بعينه أو آن بعينه بحسب التعلّق بشرط تعيّنه من الحركة الّتي هى
محلّ الزّمان أو بحدّ بعينه من حدودها ، فتكون لا محالة منتهية إلى معيّة الزّمان والحركة
هى محلّه.
فإذن ، المعيّة
الزّمانيّة إنّما هى معيّة على سبيل التّضايف الطبيعىّ من حيث الحامليّة والمحموليّة
والحالّيّة والمحلّيّة إمّا ابتداء أو على سبيل الانتهاء إليها ، لا على
الاتّفاق البحت من جهة حصول الوجود لمعين ، لا من جهة إضافة طبيعيّة. وهذا
الموضوع قد كانت فيه زلاقة زلّ فيها بعض تلامذة الرّؤساء ، وإحصافه على هذا النّمط
التحصيل لم يتيسّر لمن سبقنا بهذه الصّناعة من الشّركاء النّجباء.
<١٣> صطباح مرآتي
عساك أن تكون
بما تكشّف تلك أهل أن تستكشف فتتعرف أنّ نسبة الموجود إلى الموجودات إمّا نسبة
متقدّرة زمانيّة أو نسبة غير متقدّرة دهريّة وسرمديّة. والنّسبة المتقدّرة ما
يختلف بحسبها حال المنسوب بالقياس إلى أبعاض المنسوب إليه وبالقياس إلى الكلّ
بالمعيّة واللاّمعيّة فى الوجود. أعنى بذلك أن يخالف حال المنسوب بالقياس إلى بعض
المنسوب إليه حاله بالقياس إلى بعض آخر منه ، وحاله بالقياس إلى المجموع ، فتكون
حين ما للمنسوب إليه معيّة فى التقرّر بالإضافة إلى بعض المنسوب إليه لا تكون له
تلك المعيّة بعينها بالقياس إلى البعض الآخر وبالقياس إلى الكلّ ، وحين ما له لبعض
المنسوب إليه تخلّف فى الوجود عن المنسوب لا يكون للبعض الآخر وللمجموع ذلك
المتخلّف بعينه عنه.
فعلى هذا
التّقدير يلزم تقدّر وامتداد فى نسبة الموجود المنسوب إلى الموجودات المنسوب إليها
بتّة. والنّسبة الغير المتقدّرة ، ويعبّر عنها الفلاسفة بنسبة الأبديّات هى ما
بخلافها ، أى : ما لا يختلف بحسبها حال المنسوب بالقياس إلى أبعاض المنسوب إليه
بالمقارنة والمفارقة ، أعنى أنّه لا يخالف حال المنسوب بالقياس إلى بعض المنسوب
إليه حاله بالقياس إلى البعض الآخر ، وحاله بالقياس إلى المجموع ، فيكون إذا كانت
للمنسوب معيّة فى الوجود بالإضافة إلى بعض المنسوب إليه كانت له فى ذلك الحال تلك
المعيّة بعينها بالإضافة إلى سائر أبعاض المنسوب إليه وبالقياس إلى المجموع أيضا.
__________________
وإذا كان لبعض
المنسوب إليه تخلّف فى الوجود عن المنسوب كان لسائر الأبعاض وللمجموع أيضا عند ذلك
التّخلّف بعينه فى تلك الحال بعينها.
فعلى هذا
التّقدير ، لا يقع تقدّر وامتداد فى النّسبة ؛ إذ من المنصرح بالضّرورة الفطريّة :
أنّه لو كان الشّيء المنسوب فى الأعيان على المعيّة فى الوجود بالقياس إلى شيء ما ولم
يكن إذ هو معه هو على وصف المعيّة بالإضافة إلى شيء آخر ثالث ثمّ إنّه قد تلحقه
المعيّة بالقياس إلى الشّيء الثالث أيضا ، لزم لا محالة تقدّر وامتداد فى نسبته
بالمقيّد بالإضافة أو ذينك الشيئين ، فيلزم إذن أن تكون النّسبة السّرمديّة
زمانيّة ، وذلك خرق الفرض وفسخ الضّبط.
فإذن ، قد
انصرح أنّ النّسبة السّرمديّة مباينة الحقيقة للنّسبة المتقدّرة ، وبالجملة ، يجب
أن تكون النّسبة السّرمديّة الغير المتقدّرة إضافة المنسوب بحسبها إلى جميع أجزاء
المنسوب إليه وإلى المجموع بما هو المجموع متشابهة غير مختلفة بالمقارنة والمفارقة
أصلا.
ثمّ من المتّضح
فيه أنّ الموجود الخارج عن افق الزّمان حيث إنّه ليس يعقل أن يكون زمانيّا يستحيل
أن يكون له إلى الموجودات نسبة متقدرة ، بل يجب أن تكون نسبته إلى جملة الموجودات
نسبة سرمديّة متقدّسة عن جنس التقدّر واللاّتقدّر وعن جنس الامتداد واللاّامتداد.
كما أنّ نسبته إلى المكانيّات تكون خارجة عن جنس التقدّر واللاّتقدّر المكانيّين.
وهذه المسألة
أمّ مسائل هذه «المساقة» من علم ما فوق الطبيعة فى الفلسفة اليونانيّة وفى الحكمة
الخالصة (١٤٣) الحقّة اليمانيّة. وهى من متأصّلات الاصول المقشوّة السّطوعيّة
اللاّهوتيّة كمرآة عقليّة مجلوّة لحقائق المسائل الملكوتيّة. وهى من المبادى
اليقينيّة لإثبات الحدوث الدّهرىّ لقاطبة الذّوات الجوازيّة والحقائق الإمكانيّة ومن
الأوضاع الحقّة فى إفحام خصماء الحقّ من الفلاسفة الإسلاميّة واليونانيّة بأحكام
الضّوابط الحكميّة الفحصيّة البرهانيّة ، فلتكن كوديعة منّا عند فريحتك تستحفظها
بالذّكر إلى أن نتولى إعمالها فى مؤتنف القول فى بعض الفصول المستأنفة إن شاء
اللّه تعالى.
<١٤> تسجيل فيه هداية وتحصيل
كأنّ الآن قد
استبان لك من الذّائعات المحققة من مذهب الفلاسفة : أنّ ترتّب أجزاء الزّمان وتعاقبها
، وبالجملة ، تعاقب كافّة المتعاقبات إنّما يكون بالقياس إلى ما وجوده تحت الكون وفى
حيطة الزّمان.
وأمّا من
يتعالى عن افق الزّمان ويرتفع عن محتد الزّمانيّات ، أعنى القيّوم الواجب الذّات ،
جلّ ذكره ؛ فإنّ وجوده لا يكون مشمولا للزّمان ولا هو مقارن الزّمانيّات مقارنة
زمانيّة ، بل هو وجود صرف سرمدىّ محيط بالامتداد والاستمرار والزّمان والزّمانيّات.
فالامور
التّدريجيّة لا تعاقب لها بالنّسبة إليه أصلا ؛ بل إنّما تحضر عنده معا دفعة غير
متخلّف آخرها عن أوّلها فى الحضور عنده. أليس لا يكون علّة الزّمان والأكوان
الزّمانيّة تحت الكون والزّمان ، بل يكون كونا بنوع آخر أعلى وأرفع من هذا الطّور
محيطا بالزّمان وبما فيه من الزّمانيّات ، بل بجميع الأشياء من أوّلها إلى آخرها ،
ضربا ما من الإحاطة أعلى وأشدّ من الّتي لمحيط الدّائرة بالنّسبة إلى سطحها أو
مركزها أشديّة لا متناهية المرّات. فكلّ إحاطة تامّة من تلك الإحاطة المتقدّسة
المجهولة الكنه ، وكلّ الأشياء من مبدعها القدّوس الأعلى كنحو الظلّ من ذى الظلّ ،
بل كبرياؤه أرفع من ذلك كلّه. وكلّ ما فيه تقريب من وجه فهو تبعيد من وجوه شتّى.
فكم بين الإحاطة الوهميّة الزّمانيّة أو الجسميّة المكانيّة وبين الإحاطة
النّوريّة السّرمديّة الخارج اكتناهها عن طوق طاقة العقل.
فإذن ، الأوّل
، تعالى ، كما لا يقرب منه مكان بالنّسبة إلى مكان ، بل إنّ جملة الأمكنة والمكانيّات
سواسية عنده بالقرب والبعد ، فكذلك لا يقرب منه زمان بالنّسبة إلى زمان ، بل إنّ
جميع الأزمنة والزّمانيّات وجملة الوجودات والموجودات سواسية عنده بالحضور لديه.
فإذن ، ليس
هناك ماض أو مستقبل أو حال ، بل هو محيط بالكلّ دفعة واحدة
بالدّفعة الدّهريّة والسّرمديّة ، لا بالدّفعة الآنيّة. ومن ذلك يعلم الأمر
فى المراتب العالية على الزّمان من الجواهر المفارقة.
فإذن ،
الامتداد الزّمانىّ المتصل الّذي هو سنخ التّغير وعنصر التّقضّى والتّجدّد وفلك
المتغيّرات وعرش الزّمانيّات حاصر بجملة ما هو خاف من الحوادث الكونيّة عند مبدع
الكلّ أزلا وأبدا. فحضور الشّيء عنده ـ وهو بعينه علمه بذلك الشّيء وعقله للأشياء
ـ هو فيضانها عنه معقولة.
فإذن ، البارئ
الجاعل يعلم جملة الزّمانيّات كلاّ منها فى وقته علما غير زمانىّ ويشاهد ما بينها
من الأزمنة ، فلا يفوته شيء ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا
أصغر من ذلك ولا أكبر ، وهو بكلّ شيء محيط. فهذا هو صراط الحكمة الحقّة.
وكذلك قد حصّله
الفلاسفة المحصّلون ، مشّاءوهم ورواقيّوهم. فمعلّم المشّائيّة فى الدّورة
اليونانيّة بسط ذلك أو فى البسط تحصيلا وتفصيلا فى زبره ، ولا سيّما اثولوجيا. ورئيسهم
فى الملّة الإسلاميّة بلغ الأمد الأقصى بسطا وتقريرا فى كتبه ، ولا سيّما
التعليقات ، وقد نالوا الحقّ بما قالوا لو كانت الصّور العقليّة فائضة عن الأوّل ،
لا معا ولا دفعة واحدة بلا زمان ، بل شيئا بعد شيء لم تكن معقولة بالحقيقة ، بل
كانت ماديّة إذا كانت تكون بعد ما لم تكن. ولو كانت هو لا يدركها بالفعل معا ، بل
شيئا بعد شيء لكان فيه أيضا قوّة تقبل الأشياء بعد ما لم يقبلها وكان مادّيّا.
<١٥> تشبيه وتمثيل
ألست إذا أخذت
خيطا مختلف ألوان الأجزاء فأمررت فى محاذاة بعض ضيّقات الحدقة من الإحاطة بتلك
الجملة دفعة ، كذرّة أو غيرها ، وجدت المتساوقة فى الحضور لديك لسعة إحاطتك
متعاقبة الحضور عندها لضيق حدقتها. فاعتبر الأمر فى الامتداد الزّمانىّ بما فيه من
الحوادث المرتبطة بالأزمنة والآنات المنتزعة منه واختلاف حضورها بالقياس إلى
الزّمانيّات وبالإضافة إلى من هو خارج عنها
تعاقبا ومعيّة ؛ كما قال فى اثولوجيا :
«إنّ البصر إذا
رأى شجرة رآها من أصلها إلى فرعها دفعة واحدة ، يعلم أصلها قبل أن يعلم فرعها بنوع
ترتيب وشرح ، لا بنوع زمان ؛ لأنّ البصر إنّما رأى أصل الشّجرة وفرعها وبينهما
دفعة واحدة. فالبصر يعرف أوّل الشّجرة وآخرها بالتّرتيب لا بالزّمان ؛ فإن كان
البصر يعلم كذلك فبالحرى أن يكون العقل يعلم أوّل الشّيء وآخره بالترتيب (٢٣٨) ،
لا بالزّمان والشّيء الّذي يعلم أوّله وآخره بالتّرتيب لا بالزّمان يعرف كلّه دفعة
واحدة معا» (ص ٣١)
وذكر فيه أيضا
: «إنّ الإنسان الحسّىّ هو صنم الإنسان العقلىّ وظلّ له ، والإنسان العقلىّ
روحانىّ وجميع أعضائه روحانيّة : ليس موضع العين فيه غير موضع اليد ، ولا مواضع
الأعضاء كلّها مختلفة ؛ لكنّها كلّها فى موضع واحد» (ص ٦٩).
فهذه امور يرام
بها التّشبيه تارة وضرب الأمثال بها اخرى ، كما ينتقل متوقّد القريحة من ذلك إلى
اعتبار الأمر فى العالم العقلىّ وينفعه أنّ الأزل لا يقع لدى البارى الجاعل حيث لا
يقع الأبد ، بل هما وموقعاهما هناك على سبيل واحد. ومع ذلك فإنّه ـ جلّ مجده ـ
يعلم ويشاهد ما بينهما من الامتداد. وحقّ الحقّ فيه ما فى إلهيّات الشفاء : «إنّ
هذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة».
<١٦> وعد وتخليص
إنّ لإحصاف هذا
المقام معادا حقيقيّا وحيّزا طبيعيّا فى الشّطر الرّبوبىّ. فلنعده إليك هناك بما
هو حقّه من الفحص والتّبيين ، إن شاء اللّه تعالى. والآن نقول : إنّ تلخيص ما يجب
أن يعتقد فى هذا الباب هو ما قاله فى الميمر الخامس من اثولوجيا. وهو أنّه :
«ينبغى أن يعلم
أنّ أفعال الفاعل الأوّل ـ تعالى وتقدّس ـ هى قائمة عنده ، وليس شيء عنده أخيرا ،
بل الشّيء عنده أوّلا هو هاهنا أخيرا. وإنّما يكون
الشّيء أخيرا ؛ لأنّه زمانىّ ، والشّيء الزّمانىّ لا يكون إلاّ فى الزّمان
الّذي وافق أن يكون فيه. فأمّا فى الفاعل الأوّل فقد كان لأنّه ليس هناك زمان ؛
فإن كان الشّيء الملاقى فى الزّمان المستقيل هو قائم هناك ، فلا محالة أنّه إنّما
يكون هناك موجودا قائما ، كما أنّه سيكون فى المستقبل. فإن كان هذا هكذا ، فالشّيء
إذن الكائن فى المستقبل هو هناك موجود قائم لا يحتاج فى تمامه (١٤٤) وكماله هناك
إلى أحد الأشياء البتّة.
فالأشياء إذن
عند البارى ـ جلّ ذكره ـ كاملة تامّة ، زمانيّة كانت أم غير زمانيّة ، وهى عنده
دائما. وكذلك كانت عنده أوّلا ، كما تكون عنده أخيرا ، فالأشياء الزّمانيّة إنّما
يكون بعضها من أجل بعض ، وذلك أنّ الأشياء إذا هى امتدّت وانبسطت وبانت عن البارى
الأوّل كان بعضها علّة كون بعض ، وإذا كانت كلّها معا ولم تمتدّ ولم تبسط ولم تبن
عن البارئ الأوّل لم يكن بعضها علّة كون بعض ، بل يكون البارئ الأوّل علّة كونها
كلّها».
فهذا الآن ما
عليه التّعويل فى الفتوى ؛ فاحفظ إلى حيث يحين أن يتلى عليك فى ضرب آخر من الذّكر
تارة اخرى.
<١٧> تبصرة ...
أسمعت رؤساء
الفلاسفة ومعلّميهم يقولون : إنّ للزّمان اسوة بالمكان ، وللمنتسب إلى الزّمان
اسوة فى الأحكام بالمنتسب إلى المكان ، والزّمان والمكان متضاهيان بحسب الخواصّ وبحسب
الامور المنسوبة إليهما ، وكلّ مكانىّ فهو زمانىّ البتة.
فاعلم أنّ ذلك
ليس إلاّ على سبيل الحكمة الحقّة. فالزّمانىّ هو كلّ ما يصحّ أن يتعلّق بالزّمان
بالفيئيّة أو المعيّة المنتهية إليها آخرا ، سواء كان ذلك له بالذّات أو بحسب
معروضيّة الحركة أو بحسب التّوقّف على الحركة والتّخصّص بزمان دون زمان. فالمعتبر
فيما ليس بزمانىّ هو عدم ذلك التعلّق بحسب نفس الأمر مطلقا ، لا
بالنّظر إلى الذّات من حيث هى فقط.
فإذن ،
الجسمانيّات قاطبة من الأجرام السّفليّة والعلويّة بأسرها مع كلّ ما يتعلّق
بالمادّة وجودا ، ذاتا أو فعلا ، وحدوثا فقط أو حدوثا وبقاء جميعا زمانيّات.
وكيف يكون شيء
مكانيّا ولا يكون زمانيّا ، وكلّ مكانىّ فإنّه ذو وضع ، والوضع يتشخّص بذاته وبالزّمان
، والزّمان يتشخّص بالوضع. وكلّ زمان له وضع مخصوص ؛ لأنّه تابع لوضع مخصوص من
الفلك الأقصى ، والمكان أيضا يتشخّص بالوضع ؛ فإنّ لكلّ مكان نسبة إلى ما يحويه
تغاير نسبة المكان الآخر إلى ما يحويه. وليس هذا الموضع حيّزا طبيعيّا لتحقيق هذه
المفاحص ، وهذا القدر يتمّ به الغرض فيما نحن بسبيله.
<١٨> تبصار مكشافيّ
إنّ إبصار
البصائر المستضيئة المستقيمة النّافذة فى طبقات أرض الحقيقة ، بعد ما تعوّدت أن
تتخذ من الحكمة مرآة تنطبع فيها صور الحقائق الملكوتيّة ، ليس يعسر عليها أن تبصر
بعين اليقين أنّ ما يستلزم الامتداد الّذي هو من خواصّ افق الزّمان إنّما هو سبق
استمرار العدم أولا استمراره ؛ فإنّه حينئذ يلزم تصوّر امتداد يطابق السّابق شيئا
من أجزائه أو من حدوده والمسبوق شيئا آخر من تلك الأجزاء أو الحدود.
وأمّا سبق أصل
العدم الّذي هو بمعزل عن توهّم الاستمرار واللاّاستمرار فيه وفى سبقه ، فإنّما
يستلزم صحّة أن يحكم بأنّ وقوع الشّيء فى الأعيان إنّما هو بعد العدم بالفعل
بعديّة هى وراء التّقدّر واللاّتقدّر. فالبعديّة شيء وكونها من البعديّات
المتعدّدة شيء آخر. وإنّما تكون البعديّة بعديّة متعدّدة لو كان الشّيء بالقبل ذا
امتداد أو ذا لا امتداد.
فإذن ، ليس هذا
السّبق بحيث يصحّ أن يتصوّر بحسبه أنّ السّبق فى جزء أو حدّ بخصوصه من امتداد والمسبوق
فى جزء أو حدّ آخر بخصوصه منه ، بل إنّما هو سبق
فى الأعيان ، لا فى زمان أو آن. فإذن ، لا يكون بحسبه امتداد ولا لا
امتداد. فإذن هذا النّحو من السّبق فى وعاء الدّهر والسّرمد ليس يستوجب الامتداد
الّذي يأباه طباع وعاء الدّهر والسّرمد.
لكنّ القريحة
ما لم تكن مرضعة رضاع العلم من ثدى العرفان ومسقية لبان الحكمة من مسقات البرهان
لم تقو على حمل أعباء هذه المسألة وإيفاء حقّ هذه الحقيقة.
وإذ قد علمت
أنّ افق الزّمان منقسم ، ووعاء الدّهر والسّرمد مرتفع عن توهّم الانقسام واللاّانقسام
فيه ، فقد انصرح عندك أنّ حصول الوجود فى وعاء الدّهر والسّرمد إنّما يكون بارتفاع
العدم الواقع فى نفس الأمر ، وكذلك العكس ، وإلاّ اجتمع النّقيضان فى الواقع.
فإذن ، إذا
تحقق الوجود فى وعاء الدّهر بعد العدم بعديّة دهريّة غير زمانيّة. وذلك يكون لا
محالة بارتفاع العدم عن الواقع رأسا يمنع بطلان ذلك الوجود الدّهرىّ وانتفاءه فى
الواقع بتّة ، وإلاّ لزم : إمّا اجتماع النّقيضين أو اللاّامتداد فى وعاء الدّهر
للزوم طرفين هما العدم السّابق والعدم اللاّحق وواسطة هو الوجود المتوسّط بينهما.
فالتقدّم قد يكون دهريّا ، لكنّ التقدّمات المترتّبة لا تتصوّر إلاّ أن تكون
زمانيّة.
وأمّا حصول
الوجود للشّيء فى أفق الزّمان فليس يجب أن يكون بارتفاع عدمه عن الواقع رأسا ، بل
إنّما يجب أن يرفع عدمه فى زمان وجوده فقط ، لئلاّ يجتمع النّقيضان ، مع جواز كونه
واقعا فى زمان آخر غير زمان الوجود. وكذلك حصول العدم فى افق الزّمان إنّما يكون
ببطلان الوجود فى زمان العدم ، لا فى زمان آخر زمان العدم ، فإذن ، يتصوّر انبتات
الوجود الحاصل بعد العدم فى افق الزّمان ، ولا يتصوّر ذلك فى وعاء الدّهر.
وبالجملة ،
لمّا كان افق الزّمان منقسما أمكن أن يكون عدم الشّيء واقعا فى زمانين ووجوده فى
زمان بين زمانى عدميه ، ووعاء الدّهر لمّا لم يتصوّر فيه الانقسام
لم يكن بحسبه ذلك ، بل إنّما يمكن وجود الشّيء بعد سنخ العدم من غير أن
يبطل ذلك الوجود مرّة اخرى.
ثمّ ممّا يجب
أن يعلم هو أن وجود الشّيء فى افق الزّمان لا يكون ببطلانه عدمه فى زمان العدم ،
بل هو بانتفاء العدم فى زمان الوجود. وكذلك عدمه هناك لا يكون ببطلان وجوده فى
زمان الوجود ، بل إنّما هو بانتفاء وجوده فى زمان العدم.
فإذن ، لا
العدم يرتفع فى زمان العدم ولا الوجود فى زمان الوجود ، وإلاّ يلزم أن يقترن
النّقيضان فى التّحقّق ، بل الوجود فى زمان الوجود واجب غير مرتفع. وكذلك العدم فى
زمان العدم واجب غير مرتفع ، لكن وجوبا بالغير ، فقد تلونا عليك شأن الوجود
اللاّحق من قبل.
فإذن ، وجود
الحادث فى افق الزّمان إنّما هو بحصوله فى الواقع ، لكن فى زمان هو بعد زمان العدم
، لا بارتفاع عدمه السّابق على الوجود عن ذلك الزّمان السّابق. وكذلك عدمه بعد
الوجود معناه : عدم حصول وجوده فى زمان هو بعد زمان الوجود ، لا ارتفاع وجوده عن
الزّمان الّذي هو قبل زمان العدم.
فالشّيء الواقع
إذا وقع فى زمان ما لا يمكن أن يرتفع عن زمان وقوعه أبدا وإن لم يكن واقعا فى زمان
آخر غير زمان وقوعه. وإذا وقع فى وعاء الدّهر فلا يتصوّر ارتفاعه فى وعاء الدّهر
أصلا. ولهذا الفحص معاد ، ذكرىّ فى مستأنف القول ، فارتقبه فعسى بفضل اللّه أن
يكون قريبا.
<١٩> ختم
إنّ مجعوليّة
الماهيّات بالجعل البسيط الّذي بحسبه إثبات التّقدّم بالماهيّة ووعاء الدّهر والسّرمد
بحسبه إثبات التّقدّم السّرمديّ ، وهما أصلان للحكمة الحقيقيّة اليمانيّة كالعمودين
، (أى كالوالدين منه ره) عنهما يتشعّب أكثر غصونها فى سماء الفحص التّحصيلىّ ، وبهما
يرسخ عرق أعظم اصولها (١٤٥) فى أرض النّضج العلمىّ والاستواء العقلىّ ، وبازدواجهما
يكمل قوام الحكمة القسطاسيّة
الرّبوبيّة ويتمّ نظام الصّناعة البرهانيّة الإلهيّة. وعند ذلك تتكشّف
الأسرار الغيبيّة وتتجلّى الأنوار القدسيّة ، وبالجملة ، هما مرآتان للحكمة
النّاخلة المفشوّة ومصفاتان للفلسفة الرّائفة المغشوشة.
والإنسان لا
يكون محقوقا بأن يعدّ من الحكماء وبصره الرّوعىّ عن لحظ الحدوث الدّهرىّ فى غشاوة
هيولانيّة. وإنّما يستبين له سبيل إلى تفرقة لو وعى علم وعاء الدّهر والسّرمد. ثمّ
اعتمل فى سرّه كوّة من القريحة إلى ضياء صقع القدس وروزنة من البصيرة إلى فضاء
عالم الملكوت.
فبذلك يتهيّأ
للنّفس المجرّدة الّتي هى فى سنخ جوهرها من حىّ المفارقات النّوريّة ووطنها
الفطرىّ الطبيعىّ فى تهامة وعاء الدّهر أن تتولى فكّ أسر الوهم الزّمانىّ وحلّ عقد
الطبيعة الجسمانيّة. وللنّفس همسات وخلسات فى سلوك درجاتها الرّوحانيّة وعصام
العقل فى كلّ الشّئون والأطوار أيد العصمة الرّحمانيّة وأياد القوّة الرّبّانيّة.
فصل [ثالث]
فيه يتبيّن أمر الدّوام والبقاء والأزل والأبد والسّرمديّة
ويثبت وجود
الحركة القطعيّة والزّمان الممتدّ فى الأعيان ، ويوضح استيجاب براهين امتناع
اللانهاية بالفعل فى أبعاد المقادير المكانيّة فى استحالة تأدّى المقدار الزّمانىّ
أيضا إلى لا نهاية بالفعل ، ويحقق معنى أنّ الزمان غير قارّ الذات ومعنى أنّ العدم
منه ما هو أزليّ ومنه ما هو طار وغير ذلك ممّا يلتصق بالغرض أشدّ الالتصاق.
<فى الفصل الثالث أحد وأربعون عنوانا >
<١> إضاءة إيقاظيّة
أتفطنت بما
نوّر فطنتك أنّ كلاّ من الدّوام واللاّدوام يقع على ما بحسب التقرّر الزّمانىّ وعلى
ما بحسب التقرّر الغير الزّمانىّ بمعنيين مختلفين. فالدّوام الزّمانىّ ما بحسبه
يمتدّ التقرّر ويستمرّ الوجود فى افق الزّمان بجميع أجزائه من أزله إلى أبده. ويقابله
اللاّدوام الزّمانىّ من جهة التّخصّص بآن ما أو ببعض أجزاء الزّمان فقط. والدّوام
الغير الزّمانىّ يتعالى عن ذلك. فهو ما بحسب التقرّر الصّرف والوجود المحض الّذي
لا يعقل فيه امتداد واستمرار ولا لا امتداد ولا استمرار ، بل إنّه يكون محيطا بذلك
كلّه ولا يكون إلاّ مقدّسا عن تصوّر سبق العدم عليه أو لحوقه إيّاه. وهو الدّوام
السّرمديّ ويقابله اللاّدوام من جهة سبق العدم بحسب الواقع سبقا سرمديّا ،
لا زمانيّا. والدّوام السّرمديّ لا يكون لشيء من الذّوات الجوازيّة والحقائق
الإمكانيّة ، بل إنّما استأثر به الجاعل المبدع ـ تعالى ذكره ـ على ما أدّى إليه
صراط نضج الحكمة ، والمتهوّسون بقدم بعض الجائزات يجعلون الجائز بالذّات القديم
بالزّمان سرمدىّ الوجود متأخّر التقرّر عن ذات المبدع لا غير ، تأخّرا بالذّات ؛ ويعبّرون
عن دوام المعلومات بالسّرمديّة. وذلك إثم كثير فى الفلسفة.
وهناك نحو آخر
هو الدّوام بالذات ، وهو القدم الذّاتىّ ، ومرجعه إلى عدم مسبوقيّة التقرّر
بالبطلان بالذّات ، وإنّما يتحقق إذا كان المتقرّر واجبا بذاته ويقابله اللاّدوام
بالذّات ، وهو المعبّر عنه فى لسان الفلسفة بالحدوث الذّاتىّ ، أعنى مسبوقيّة
تقرّر الشّيء بالبطلان بالذّات ويستغرق جملة الجائزات من المفارقات والمادّيّات
على الإطلاق. فكما إذا تسرمد التقرّر بحسب الواقع تحقّق الدّوام السّرمديّ فكذلك
إذا سرمد التقرّر بالذّات تحقق الدّوام الذّاتىّ ، وسيكون مساقك إلى مسلك التّحصيل
إن شاء اللّه تعالى.
<٢> تلويح توضيحيّ
ألم يقرع سمعك
ما قاله الشّركاء المحصّلون السّالفون أنّ البقاء مقارنة الوجود لأكثر من زمان
واحد بعد الزّمان الأوّل. وذلك لا يعقل ممّا لا يكون زمانيّا ، فاستوضح ذلك : بأنّ
وجود الشّيء الزّمانىّ وإن كان فى نفسه بما هو وجود أمرا بسيطا قارّا ، ولكنّه
بحسب نسبته إلى أجزاء الزّمان وحدوده بالمقارنة غير قارّ ؛ فإنّه غير مستقرّ
النّسبة إليها ، وملاك الاستمرار الزّمانىّ هو مجموع ذلك التقرّر وهذا الاستمرار.
فالموجود الثّابت الذّات الّذي هو من الزّمانيّات ، ويصحّ أن يوصف بالمقارنة لزمان
وآن وبالمعيّة أو التقدّم أو التّأخّر الزّمانيّة بالقياس إلى شيء ما له صلوح أن
ينسب إلى متغيّر ما ، فيوجد فى ذاته قارّا ثابتا مع جميع ذلك المتغيّر غير قارّ
بحسب نسبة وجوده إلى أبعاض ذلك المتغيّر وحدوده ؛ لعدم استقرار نسبته إليها
بالمقارنة فيشعر باعتبار ذلك الشّبات.
وهذا
اللاّاستقرار اتّصال نسبة متقدّرة زمانيّة تنطبق على امتداد خاصّ هو زمان ما بعينه
، واتّصال تلك النّسبة هو الّذي يعبّر عنه بالبقاء الزّمانىّ ، والامتداد فيه لا
يكون فى المنسوب ولا فى النّسبة بحسب نفسها أو من جهة المنسوب ، بل إنّما فى
النّسبة باعتبار اختلافها بالقياس إلى حدود المنسوب إليه ، فهذا حقيقة الاستمرار
الزّمانىّ. قال فى القرآن الكريم عزّ من قائل : وَتَرَى الْجِبٰالَ
تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحٰابِ (النمل/٨٨).
وذلك يضاهى أمر
الحركة التّوسّطيّة فى المسافة الأينيّة ، مثلا ؛ فإنّ ذاتها بسيطة قارّة ثابتة لا
يتصوّر لها فى نفسها امتداد أصلا ، ونسبتها إلى حدود المسافة بالموافاة مختلفة غير
مستقرّة. وإنّما يتصوّر (٢٤٣) فيها بذلك الاعتبار فقط امتداد نسبة متقدرة أينيّة
تنطبق على الامتداد المكانىّ الأينىّ المسافيّ.
فالحركة
التّوسّطيّة أمر بسيط قارّ فى نفسه غير قارّ بحسب النّسبة إلى أجزاء المسافة وحدودها
بالموافاة ، وملاك الاستمرار المسافيّ فيها مجموع قرار الذّات وعدم استقرار
النّسبة والاستمرار إنّما يكون للذّات بحسب الامتداد فى المنسوب إليه وفى النّسبة
المختلفة إلى أجزائه. وليس هو نفس الامتداد. ولذلك ما إنّ الزّمان ممتدّ وليس
مستمرّا. وكذلك الحركة القطعيّة والحركة التّوسّطيّة مستمرّة وليست ممتدّة ، وكذلك
الموجود الباقى.
فقد استقرّ
الآن أنّ وجود المعلول الحادث الزّمانىّ بحسب تلك النّسب الغير القارّة يدخل فى
علّته التامّة أمر غير قارّ. فهو فى ذلك الاستمرار البقائىّ يستند إلى الحركات
المقارنة له باعتبار الأعداد. وإذا المبدأ الخلاّق آنا فآنا بحسب الإفاضة بنفس
التأثير الأوّل بتحصيل مستأنف ، كما أنّه يستند فى أصل الحدوث إلى الحركات
المنقضية قبله إلى حين حدوثه بحسب الإمداد. وإلى المبدأ الجاعل بحسب الجعل وليس يلزم استناد الغير القارّ إلى القارّ الثابت الذّات ، ولا العكس ،
__________________
على ما ستبيّن سبيله فى مقامه.
فإذن ، قد
انصرح أنّه إن ارتفع ما هو ثابت الذّات عن افق الزّمان وما يعتوره ويعتريه من
الأحكام والأعراض لم يصحّ أن يوصف بأنّه ينفصل عنه شيء ما انفصالا زمانيّا أو
آنيّا أو تقرن معه معيّة زمانيّة أو آنيّة إذا كان يمتنع أن يتخلّل بينه وبين شيء
ما امتداد زمانىّ أو لا امتداد آنيّ ، (١٤٦) كما أنّه يمتنع أن يقع بينه وبين
مكانىّ ما ، بل شيء ما بعد أو لا بعد مكانىّ.
فإذا نسب إلى
متغيّر لم يكد يتصوّر امتداد واستمرار متقدّر أصلا ، لا فى ذات المنسوب ولا فى
النّسبة باعتبار نفسها ولا بحسب عدم استقرارها بالقياس إلى أجزاء المتغيّر وحدوده
بالمقارنة والمفارقة ؛ إذ لم يكن هى من النّسب المقدّرة الزّمانيّة ، بل كانت
النّسبة إلى جميع تلك الأجزاء والحدود متشابهة من جهة المنسوب مطلقا إذا لم يكن
فيه بحسبها تجدّد حال ما لم يكن أو تقضّى حال ما لم تكن كانت أصلا ، ومن جهة المنسوب
إليه بالقياس إلى ذات المنسوب فقط إذا كان ذات المنسوب مع كلّ واحد واحد من أجزاء
المنسوب إليه وحدوده ومع جميعها فى الوجود أبدا على وصف واحد معيّة سرمديّة غير
متقدرة ، لا مقارنة زمانيّة أو آنيّة. وأمّا المنسوب إليه فى حدّ نفسه بالقياس إلى
نفس ذاته فله الامتداد وأجزائه وحدوده فى حدّ أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض
متتالية.
فإذن ، لا يكون
لمن هو ثابت الذّات على هذا الوصف وهو المحيط بكلّ شيء أزلا وأبدا بقاء زمانىّ ،
بل يجلّ جناب مجده عن ذلك ، حيث الأمر فيه أرفع وكبرياؤه أعلى ؛ اللّهمّ إلاّ على
مجرّد التّسمية الشّرعيّة ؛ إمّا رعاية للمجاز التّشبيهىّ تنزّلا إلى استيناس
الفطر العاميّة وإمّا بناء على أنّ ما هو أقدس وأرفع من ذلك ، ثابت ثقة بعدم
استيحاش المدارك الخاصّة ، لعدم التباس الأمر على الّذين هم للحقائق متفهمون وللأسرار
مستشعرون. ولذلك فى صفاته وأسمائه ـ عزّ ذكره ـ نظائر كثيرة.
وإذا لوحظ نسبة
ذاته القدّوس إلى مكان ومكانىّ وكميّة قارّة لم يكد يتصوّر بعد كميّ قارّ مكانيّ ولا
لا بعد كذلك ، بل كان هو بالقياس إلى مجموع المنسوب إليه.
فإلى كلّ واحد واحد من أجزائه وحدوده على نسبة متقرّرة متشابهة غير مختلفة
أصلا متقدّسة عن الموافاة المكانيّة والقرب والبعد المتقدّرين ، وإطلاق القرب عليه
ـ تعالى ـ بمعنى أجلّ ممّا يتعرّفه الجمهور من الغاغة. ولهذه المسائل محتد فى «الصّرحة
الثّانية» الّتي فيها يحصل الشّطر الرّبوبيّ إن شاء اللّه تعالى.
<٣> إلاحة ملكوتيّة
الآن تهيّأ أن
نلوّح لك : أنّ الأزل على ضربين : أزل زمانىّ وأزل سرمدىّ أرفع من الزّمانىّ.
(١) فأمّا
الأزل السّرمديّ ، فهو ما بحسب وجود المبدأ الأوّل ـ تعالى ـ وجودا صرفا متقدّسا
عن الامتداد والاستمرار وعن مقابلهما اللّذين باعتبار الدّفعيّة وعدم البقاء ـ
سبحان اللّه عن ذلك ـ وعدم الزّمان عدما صرفا بمعزل أيضا عن ذلك ، متقدّما على
وجوده تقدّما سرمديّا لا زمانيّا. والزّمان بامتداده الاتصالىّ وبكلّ جزء من
أجزائه الممكن انحلاله إليها ، لا بطرفه فقط ، مسبوق بهذا الأزل. ونسبة الزّمان
الماضى إليه كنسبة الزّمان المستقبل إليه من غير فرق. فليس مثلا زمان آدم عليه
السّلام بالنّسبة إليه بأقرب من زماننا هذا ، بل جميع الأزمنة والآنات سواسية
بالنّسبة إليه. ومع وجود الزّمان ذلك العدم مرتفع فى الواقع. والمبدأ الأوّل ـ
تعالى ـ باق متفرّد موجود فى الواقع ، وهو محيط بجميع الأزمنة وبقاطبة الموجودات.
فإذن ، أزليّة
عدم الزّمان بل جملة الجائزات معناها سبقه على الجميع سبقا سرمديّا. وأزليّة
القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ ليس معناها ذلك فقط ، بل مفهومها سبق وجوده
المتعالى عن شوب العدم من كلّ وجه على وجود الزّمان وجميع الممكنات سبقا سرمديّا ،
ثمّ إحاطته بكلّ ما تسعة الشّيئيّة ويشمله الوجود إحاطة تامّة على نسبة واحدة
يعبّر عنها بالمعيّة الغير الزّمانيّة.
فحيث الأزليّة
لا يعقل ماض ولا مستقبل ، وهى محيطة بالمستقبل إحاطتها بالماضى من غير فرق. فجميع
الأزمنة والزّمانيّات نسبتها إلى هذه الأزليّة على شاكلة
واحدة. ونسبة هذه الأزليّة إلى جميع الأزمنة نسبة العلوم الكلّيّة المجرّدة
إلى الأمكنة.
(٢) وأمّا
الأزل الزّمانىّ فهو جملة المتمادى من الزّمان فى جهة المضىّ الزّمانىّ بحيث لا
يتقدّمه زمان أو شيء آخر زمانىّ أو آنيّ أصلا ، وبالجملة أزمنة متمادية فى جانب
الماضى بحيث لا يكون فى الوجود أو فى الوهم زمان يكون هو قبل تلك الأزمنة ولا يكون
أيضا قبلها آن ، كما سيصرّح إن شاء اللّه تعالى.
وبذلك يعلم حال
الأبد بالمقايسة إلاّ أنّ الأبد السّرمديّ ، لا يخالف الأزل السّرمديّ إلاّ بنحو
من الاعتبار ، والأزليّة والأبديّة السّرمديّتان لا تتغايران بالمعنى إلاّ
بالاعتبار ، ولا يتصوّر بينهما امتداد واختلاف. ولا يمكن أن ينفصل إحداهما عن
الاخرى لا فى الوجود ولا فى الوهم.
والأبد
الزّمانىّ جملة من الأزمنة المتمادية فى جهة الاستقبال ، إذ حيث لا يكون زمان آخر
بعد تلك الأزمنة ، فهو غير الأزل الزّمانىّ بالمعنى ويخالفه فى الجهة ومنفصل فى
الوهم امتداده عن امتداده.
والزّمان لا
يجب أن ينتهى فى جانب الأبد إلى حيث لا يلحقه شرط آخر منه. فتمادى اتّصاله فى جهة
الأبد سيّال غير واقف عند حدّ بعينه ؛ وأزليّة البارى تعالى وأبديّته معنى واحد هو
بعينه دوامه السّرمديّ. فهذا سبيل طبخ الفلسفة ونضح الحكمة.
<٤> شعاب
المتهوّسون
بقدم بعض الجائزات وبلا تناهى بعض المقادير من الفلاسفة يجعلون الأزل الزّمانىّ
مقدارا غير متناهى الكميّة فى الماضى من الزّمان الّذي لا بداية لوجوده ، كما لا
تناهي لتمادى مقداره ؛ والأبد الزّمانىّ مقدارا منه فى المستقبل لا ينتهى تماديه
إلى حيث لا يستمرّ اتّصاله بعده ؛ والأزليّة استقرار الشّيء فى الأزمنة الماضية
بحيث لا يكون له أوّل ، أى دوام الوجود فى الماضي ؛ والأبديّة استمراره فى
الأزليّة الآتية بحيث لا يقف عند حدّ ، أى دوام الوجود فى المستقبل ؛ والسّرمديّة
لا انبتات وجود الشّيء فى الأوّل والآخر.
ويقولون :
الأزليّة الغير الزّمانيّة هى كون الشّيء لا أوّل له ولا هو ممّا يتعلق بالحركة وينتسب
إلى الزّمان ويتصوّر فيه التّغيّر والتجدّد كما فى المفارقات ؛ والأبديّة الغير
الزّمانيّة هى كون الشّيء لا آخر لوجوده (١٤٧) ولا هو من الامور المرتبطة بالزّمان
والحركة.
وهذه الأبديّة
لا تغاير هذه الأزليّة بالمعنى ، بل بالاعتبار فقط ، بخلاف الزّمانيّين ، ولذلك ما
إنّ أكثر التّعبير عن مفارقات المادّة عندهم بالأبديّات ، وربما يطلق الأزليّة أو
الأبديّة الغير الزّمانيّة عندهم على مجرّد كون الشّيء غير متعلّق الحصول بالزّمان
والحركة.
وأزليّة البارى
الأوّل ـ تعالى ـ وأبديّته نفس هذا المعنى السّلبىّ. قالوا : «إنّ له صفات عدميّة
، أعنى لا صفتيّة ، كالوحدة ؛ فإنّ معناها أنّه موجود لا شريك له أولا جزء له. وإذا
قيل : إنّه أزليّ ، أى : إنّه لا أوّل لوجوده ، فإنّما يعنى سلب حدوث عنه أو سلب
وجود متعلّق بالزمان ، والسّلوب والإضافات لا يتكثّر بها الذّات ، فإنّ الإضافة
معنى عقلىّ لا وجود له فى ذات الشّيء. والنّفى والسّلب معا عدميّة ، أى رفع
الصّفات عن الشّيء ولو كان لمثل هذه السّلوب ألفاظ محصّلة ، مثل الوحدة والأزليّة
، ربّما ظنّ أنّها صفات محصّلة. وقد تكون ألفاظ محصّلة ومعانيها غير محصّلة ووجوديّة
بل سلبيّة ، وقد تكون ألفاظ غير محصّلة ومعانيها محصّلة ووجوديّة. والأوّل كالواحد
والفرد ، والثّاني كالّلاأعمى» أى : البصير ؛ والأزليّة
__________________
والأبديّة من القسم
الأوّل. ومن متأخرة المقلّدة من يقول : أزليّة الشّيء إثبات السّابقيّة له على
غيره ونفي المسبوقيّة عنه.
وأمّا الفرقة
المتسمّية بالمتكلمين ، فإذا إنّهم يتوهّمون أنّ بين وجود الجاعل المبدع ـ تعالى
ذكره ـ وبين حدوث العالم عدما للعالم مستمرّا إلى حين حدوثه متماديا فى جهة المبدأ
لا إلى أوّل أصلا ؛ فيضعون بحسب هذا الوهم أزمنة موهومة غير متناهية من جهة المبدأ
منبتة التّمادى الوهمىّ من جهة المنتهى عند حدوث العالم ، ويعبّرون عن ذلك
الامتداد الموهوم الغير المتناهى بالأزل.
ولا يستصحّ ذلك
إلاّ القرائح السّقيمة والغرائز العقيمة ولا يكاد يذهب إليه إلاّ مسياح الوهم
المتوغّل فى هتيهة الطبيعة الجسمانيّة وتيهاء الظلمة الهيولانيّة.
<٥> إخاذة
الضّرورة
الفطريّة قاضية بأنّ للمحرّك بما هو متحرّك حالة موجودة وأنّ تلك الحالة توجد فى
كلّ آن من زمان الحركة ؛ فليس يخلو إمّا أن يكون له فى كلّ آن وفى كلّ حدّ حالة
اخرى. والحالات الآنيّة المتعدّدة بالشّخص إن اتصل بعضها ببعض من غير أن يكون هناك
شيء آخر فاصل يلزم تشافع الآنات وتركّب المسافة من حدود غير منقسمة ، والبرهان قد
أحاله ؛ وإن لم يكن بينها اتصال كان هناك سكون وبطلان للحركة فى الوسط قبل الوصول
إلى المنتهى ، والفرض قد أبطله.
فإذن ، تعيّن
أن يكون حالة التوسّط واحدة بالشّخص مستمرّة باقية بعينها ما دام موضوع الحركة
متحرّكا متوسّطا بين المبدأ والمنتهى ، ولا محالة ينطبق عليها من قبل الزّمان أيضا
أمر بسيط مستمرّ ، وهو الآن السّيّال.
وأيضا ، الحركة
الممتدّة الّتي هى قطع المسافة والمنطبق عليها. والزمان الممتدّ الّذي هو مقدارها والمنطبق
عليها امتدادان مرتسمان فى الخيال ، والعقل جازم بأنّه مهما انفصل شيء منهما إلى
أجزاء يمتنع بالنّظر إلى ذوات تلك الأجزاء أن يوجد فى الأعيان على سبيل المعيّة والاجتماع
فى افق الزّمان ، بل إنّما على سبيل التّقدّم
والتأخّر الزّمانيّين.
ولا ارتياب فى
أنّ هذين الامتدادين بما هما موصوفان بهذا الوصف لم يصحّ أن يرتسما فى الذّهن من
العدم. فإذن ، لا يحصل شيء منهما فيه إلاّ إذا كان فى الأعيان شيء مستمرّ غير
مستقرّ يحصل منه بحسب الاستمرار وعدم الاستمرار هذا الامتداد فى الذّهن الخيالىّ :
أمّا من الحركة فالحركة التّوسّطيّة الواحدة الشّخصيّة الفاعلة بسيلانها الحركة
القطعيّة ؛ وأمّا من الزّمان فالموجود البسيط الشّخصىّ المعبّر عنه بالآن السّيّال
الرّاسم بسيلانه الزّمان الممتدّ. فالممتدّان الخياليّان الدّالان على موجودين
عينين. فهذا أمر لم يستنكره أحد من أولياء العقل وأبناء التّمييز.
ثمّ حزب الفحص والتّحصيل
أدركوا أنّ الموجود العينىّ من الحركة والزّمان ليس هو التّوسط والآن السيّال لا
غير ، بل الممتدّ من كلّ منهما أيضا موجود فى الأعيان كاللّذين لا ينقسمان.
فالمنتقل متحرّك معدّ من كلّ واحد من المسافة والحركة والزّمان فى الأعيان شيء متصل
يقبل الانقسام وشيء بسيط لا ينقسم باق دائما ما بقى الانتقال.
أمّا المتّصلات
الممتدّة : فمن الحركة القطع الممتدّ المنطبق على المسافة ، ومن الزّمان مقدارها
الممتدّ المنطبق عليها ، ومن المسافة الخطّ والسّطح مثلا فى المسافة الأينيّة وغير
ذلك فى غيرها.
وأمّا البسائط
المستمرّة الّتي لا تقبل الانقسام بحسب أنفسها : فمن القطع التّوسّط ومن الزّمان
الآن السيّال ومن المسافة الحدّ إمّا نقطة أو غيرها.
والمتفلسفة
المشوّشة للفلسفة والمقلّدة التّائهيّة فى أتياه الوله والحيرة لمّا لم تسع
مقدرتهم أن يدبّروا للخروج عن مضائق هو سات الشّكوك إلى متندح فضاء التّحصيل
تدبيرا خاضوا عن الحقّ وحادوا عن السّبيل وأنكروا الوجود العينىّ ، إلاّ للحركة
التّوسّطيّة والآن السيّال. وإذ قد تمّ تحديد حريم النّزاع فلعلّ الآن بفضل اللّه
يقترّ الأمر مقرّه ويستقرّ الحقّ مستقرّه.
<٦> استيناف تقديرىّ
أما علمت : ما
يقرّر قول شيخ الفلسفة فى الإسلام : إنّ المنتقل يعقل نقلة متصلة على مسافة متصلة
يطابقها زمان متصل. فالمنتقل نهاية لنفسه من حيث انتقل ، كأنّه شيء ممتدّ من مبدأ
المسافة إلى حيث وصل ؛ فإنّه من حيث هو ينتقل شيء ممتدّ من المبدأ إلى المنتهى وذاته
الموجودة المتصلة حدّ ونهاية لذاته من حيث قد انتقل إلى هذا الحدّ.
فحريّ بنا أن
ننظر : هل كما أنّ المنتقل ذاته واحدة وبسيلانه فعل ما هو حدّه ونهايته ، فكذلك فى
الزّمان ، فأيضا شيء هو الآن ، فيكون ذاتا غير منقسمة من حيث هى هو ، وهو بعينه
باق من حيث ذلك ، وليس باقيا من حيث هو الآن ؛ لأنّه إنّما يكون أنا إذا اخذ
مجدّدا للزّمان.
كما أنّ ذلك
إنّما يكون منتقلا إذا كان محدّدا لما يحدّده ويكون فى نفسه نقطة أو شيئا آخر. وكما
أنّ المنتقل يعرض له من حيث هو منتقل أنّه لا يمكن أن يوجد مرتين ، بل هو يفوت
بفوات انتقاله ، كذلك الآن من حيث هو لا يوجد مرّتين. لكن الشّيء الّذي لأمر ما
صار آنا عسى أن يوجد مرارا ، كما أنّ المنتقل من حيث هو أمر يعرض له الانتقال عسى
أن يوجد مرارا. فإن كان شيء مثل هذا موجودا ، فيكون حقّا ما يقال : إنّ الآن يفعل
بسيلانه الزّمان ولا يكون (١٤٨) هذا هو الآن الّذي يفرض بين زمانين يصل بينهما.
كما أنّ النّقطة الفاعلة بحركتها مسافة هى غير النّقطة المتوهّمة فيها. فإن كان
هذا الآن له وجود فهو وجود الشّيء مقرونا بالمعنى الّذي حقّقنا أنّه حركة من غير
أحد متقدّم ولا متأخّر ولا تطبيق.
وكما أنّ كون
الشّيء ذا أين إذا استمرّ سائلا فى المسافة أحدث الحركة ؛ فكذلك كونه ذا هذا
المعنى الّذي سمّيناه الآن إذا استمرّ سائلا فى متقدّم الحركة ومتأخّرها أحدث
الزّمان.
فنسبة هذا
الشّيء إلى المتقدّم والمتأخّر هى كونه آنا ، وهو فى نفسه شيء يفعل
الزّمان ، ثمّ إذا حدث الزّمان حدّ بعد ذلك بالآن المحفوف الماضى والمستقبل.
<٧> سياقة حدسيّة
هل اقتدرت على
أن تتلطف فى سرّك وتتبصّر من نفسك فتتحدّس : أنّ استمرار الشّيء البسيط الّذي هو
الكون فى الوسط مع لا استقرار نسبته إلى الحدود المفروضة المسافيّة بحسب الوجود فى
الأعيان واتّصال ذلك مدّة الحركة بالانطباق على المسافة المتصلة فى ذاتها وصيرورة
المسافة مقطوعة فى الخارج ، لا على أن تكون هناك قطوع لأجزاء المسافة متمايزة على
الانفصال حتّى تكون هى ذات مفاصل بالفعل إذا لوحظ بما هو حال المتحرّك فى الأعيان
كان مبدأ استيجاب الحكم البتّى بوجود حركة ممتدّة متّصلة فى الأعيان منطبقة على
المسافة المتّصلة. لكن على أن يكون حصول وجودها العينىّ فى مجموع الزّمان الشّخصىّ
الّذي هو زمان الحركة ، لا فى شيء من أبعاضه وفى شيء من حدوده.
فحصول مجموع
تلك الحركة الشّخصيّة فى مجموع زمانها الشّخصىّ على التّطابق بحيث تنفرض الأجزاء
فيها حسبما تنفرض فيه ، ولا يجتمع جزء آن مفروضان منها فى جزء واحد مفروض فيه ولا
فى شيء من الآنات الجائزة الانفراض. وكذلك وجود الآن السّيّال فى الخارج على وصفى
استمرار الذّات ، ولا استقرار النّسبة يوجب الحكم بتّة بوجود الزّمان الممتدّ
المتصل فى الخارج على نحو ما فى الحركة ، إلاّ أنّ الزّمان الممتدّ موجود فى نفسه
لا فى زمان ، إذ الزّمان ليس له متى ، بخلاف الحركة المتصلة ؛ فإنّها توجد فى
الزّمان. وذلك متاها. وأيضا إذا ثبت وجود الحركة الممتدّة مع انطباقها على الزّمان
ثبت أيضا وجود الزّمان الممتدّ.
ثمّ أليس قد
انكشف لك : أنّ نسبة الحركة التّوسّطيّة والآن السيّال إلى الحركة المتّصلة والزّمان
الممتدّ نسبة النّقطة الفاعلة إلى الخطّ الّذي هى ترسمه أو الخط الفاعل إلى السّطح
الّذي يرتسم منه.
والنّقطة
الفاعلة لو كانت فاعلة فهى تكون ترتسم الخطّ فى الأعيان ، فكذلك يكون
الكون فى الوسط والآن السّيّال يحصل منهما الحركة المتصلة والزّمان الممتدّ
فى الأعيان ؛ على أنّ الأمر هناك على سبيل التّخييل وهاهنا على سبيل التّحقيق والتّحصيل.
وبالجملة ، إذا
لم يكن للحركة القطعيّة حصول فى الأعيان لم يكن المتحرّك حال تحرّكه فى الأعيان
شيئا من المسافة المتصلة أصلا. ولم يكن له بحسب الحركة الّتي له فى الأعيان موافاة
وموازاة بالنّسبة إلى المقدار المتصل المسافيّ بتّة ، ضرورة أنّ المسافة المتصلة
تكون حينئذ مطابقة للحركة المعدومة المنطبقة على الزّمان المعدوم ، فلم يصحّ أنّه
نال مسافة متّصلة بحركة ما متّصلة فى زمان ما متّصل ، بل إنّما يكون له بحسب تلك
الحركة أنّه يكون فى الأعيان ما دامت له الحركة متوسّطا بين حدود المسافة ، ولا
يكون يقطع فى الأعيان شيئا من المسافة ، لا بقطع متصل ولا بقطوع منفصلة وإن كان
يرتسم من ذلك فى الخيال أمر متصل فإذن يكون قد مرّ المتحرك فى الإتيان على شيء
متصل ولم ينله ولا ... وأفاد بقطعة متصلا. فإذن يرجع المرتسم الخيالىّ إلى أن يكون
من اعتمالات الحواسّ ، لا على محاذات حال الشّيء فى الأعيان.
فإن انجال على
وهمك : أنّ الكون فى الوسط على الوصفين فى الأعيان هو الّذي يرتسم الممتدّ فى
الخيال بحذائه ؛ صرم جولانه بأنّ الكون فى الوسط على الوصفين ، إنّما للكائن فى
الوسط بحسبه على ذلك التّقدير أن يكون متوسّطا بين حدود المسافة فى زمان الحركة
أبدا ولا يكون له نيل المسافة المتّصلة ولا نيل شيء من أبعاضه ولا نيل شيء من
حدوده بالفعل البتة ، بل بالقوّة ، على معنى أنّه إذا ثبتت
__________________
الحركة صار هو على حدّ بعينه بالفعل.
فإذن ، لا يكون
له على ذلك التّقدير صلوح أن يكون هو مطابق الحكم بموافاة المتحرّك للمسافة
المتصلة فى زمان الحركة وقطعه إيّاها بذلك القطع المتّصل المرتسم فى الخيال، ولا
أن يكون هو فى الأعيان وما بحذائه ارتسام ذلك المتصل فى الذّهن ، بل يعود ذلك
الارتسام حينئذ تخيّلا اعتماليّا ، ينسحب عليه حكم الأغاليط الحسّيّة.
فإذن ، يلزم أن
يكون المتحرّك بما هو متحرك قد انتقل فى الأعيان من مبدأ المسافة المتصلة إلى
مقطعها فى زمان ما ، ولا يكون له بحسب ذلك فى نفس الأمر قطع ولا موافاة انطباقيّة
بالنّسبة إلى تلك المسافة المتّصلة فى زمان متصل هو ذلك الزّمان. فإن سوّغت ذلك فأنت
إذن من همج المتهوّكين من غاغة المتفلسفين.
<٨> إضاءة فحصيّة
أما فقهت ما
القى إليك : أنّ كلّ ما تحقق حصوله فى زمان أو آن ؛ فإنّ حصوله فى ذلك الزّمان أو
الآن لا يرتفع أصلا ، بل إنّما يتصوّر أن يختصّ الحصول بوقته ، فلا يتحقق فى وقت
آخر ، ويكون ذلك الحصول واقعا فى وعاء الدّهر أبدا ، ولكن فى ذلك الوقت بخصوصه.
فالشيء لا يمكن أن يرتفع عن زمان وجوده أو عن آن وجوده بحسب الواقع.
وسواء فى هذا
الحكم أن يكون الزّمان موجودا أو موهوما. وإنّما لا يوجد فى زمان بعده ، فيظنّ
أنّه قد ارتفع وجوده الحاصل. وهو ظنّ كاذب. وكذلك الموجود الباقى المستمرّ ؛ فإنّ
وجوده فى كلّ جزء من أجزاء زمانه بحسب نسبته إلى ذلك الجزء بخصوصه لا يرتفع عن
وعاء الدّهر وإن كان لا يتحقق بذلك الاعتبار فى سائر الأزمنة ، فيكون له بذلك
الاعتبار انقطاع فى افق الزّمان ، لا فى وعاء الدّهر.
فإذن ، فاحكم
أنّ الكون فى الوسط لمّا كان حاصلا فى كلّ جزء من الأجزاء
المنفرضة فى زمان الحركة وفى كلّ حدّ من حدوده ؛ وحصوله فى ذلك الجزء وفى
ذلك الحدّ بما هو حصول فى ذلك الجزء وفى ذلك الحدّ ، ليس يبطل فى وعاء الدّهر تبّة
وإن انقضى فى افق الزّمان.
فقد انصرح أنّ
بين الحصولات فى تلك الأجزاء وفى تلك الحدود من حيث هى حصولات فيها اتّصالا فى
التّحقّق بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر وإن كان بعضها متقضّيا وبعضها متجدّدا بحسب
الوقوع فى افق الزّمان. وأيضا قطع أىّ جزء فرض فى المسافة ليس يرتفع فى الواقع عن
زمان هو فيه أبدا.
وكذلك (١٤٩)
موافاة أىّ حدّ انتزع منها ليست تبطل فى الواقع. بما هى فى آن بعينه ، فلا محالة
يجب الاتصال فى الواقع بين القطوع المفروضة للأجزاء المنفرضة فى المسافة ، وكذلك
بين الموافيات المفروضة للحدود المتوهمة بالضّرورة الفطريّة وإن لم يكن ذلك
الاتصال بحسب الاجتماع فى افق الزّمان.
فإذن ، قد
استقرّ أنّ المتحرّك له فى مجموع زمان حركته قطع للمسافة متصل منطبق على ذلك
الزّمان وكون فيها متصل حاصل فى الزّمان الممتدّ ، كما أنّ له ، ما دام متحرّكا ،
كونا فى الوسط بسيطا غير منقسم فى ذاته.
وكذلك الآن
السيّال كما أنّه بحسب ذاته البسيطة موجود فى الواقع فكذلك بحسب نسبته إلى كلّ جزء
وحدّ من الأجزاء المنفرضة فى المسافة والحركة والحدود المتوهمّة منهما حاصل فى
الواقع غير مرتفع فى وعاء الدّهر أصلا ، فيلزم بالضّرورة الفطريّة أن يكون الزّمان
الممتدّ أيضا موجودا فى الأعيان حاصلا فى وعاء الدّهر ، على أنّ وجود الحركة
المتّصلة يستلزم ذلك. فإذا ثبت ذلك ثبتت ذاتيّته.
فإذن ، قد بزغ
أنّ الزّمان بجميع أحواله من أزله إلى أبده موجود بهويّته الامتداديّة واحد شخصىّ.
وعلى ذلك إجماع الفلاسفة المحصّلين غير اولى التّهويل والتّهويش من المتفلسفين ، ووجوده
بامتداده الاتصالىّ إنّما هو فى وعاء الدّهر.
وكذلك الحركة
القطعيّة الّتي هى مقدار لها موجودة فى تشخّص مجموع الزّمان المتصل الموجود على
سبيل التطابق وبذلك يخالف وجود المقدار ـ أعنى الزّمان
فإنّه موجود فى نفسه ، لا فى زمان أو آن وجود ذات المقدار ـ أعنى الحركة ـ
فإنّه موجود فى الزّمان. كما أنّ ذا المكان موجود فى المكان ، والمكان موجود فى
نفسه ، لا فى مكان أو فى حدّ من حدود الأمكنة.
ثمّ إنّ وجود
الزّمان الممتدّ المتصل فى الأعيان أوفر شيوعا فى الفلسفة وأكثر مستيقنا من
الفلاسفة وأقلّ مستنكرا من المتفلسفة من وجود الحركة المتصلة ، والحقّ أنّه ليس
يجوز استنكارهما لا فى صناعة الفلسفة ولا فى الحكمة الحقيقيّة.
<٩> ذيل
إنّ جمهور
الفلاسفة يقسمون الكم الموجود فى الأعيان إلى القارّ وغير القارّ. ويخالفهم عامّة
المتسمّية بالمتكلمين فى وجود العرض الغير القارّ ، وينسبون وجود الزّمان بأجزائه
الممتدّة ، كالأيّام والأعوام ، ويحكمون بأنّ الموجود من الحركة يتقدّر بالزّمان وينطبق
عليه وعلى المسافة ويتكمّم بالعرض ككميّة المسافة ، وإنّما يصحّ ذلك فى الحركة القطعيّة
المتصلة ، لا التوسّطيّة الغير المنقسمة ، ويقولون : الزّمان غير قارّ الذات فى
الوجود أصلا ، وكذلك الحركة.
وإنّما يصدق
ذلك بحسب الوجود فى الأعيان دون الوجود الذّهنىّ ، إذ الوجود البقائىّ لهما فى
الذّهن قارّ. فهذه الأحكام ناصّة على الوجود العينىّ. وإجراؤها مجرى المساهلات
التّسامحيّة هدم لبنيان الصّناعة.
<١٠> تكملة وتسجيل
ألست قد دريت
أنّ الزّمان الممتدّ والحركة المتصلة كما أنّهما يوجدان فى الأعيان فكذلك هما
يرتسمان فى الأذهان ، كالقوى الخياليّة والنّفوس المنطبقة من راسميهما المتحققين
بما لهما إثبات تحقّق الذّات واختلاف النّسبة إلى الحدود المفروضة وما يرتسم من
كلّ منهما فى الذّهن ، فهو قارّ الذّات بحسب البقاء فيه.
وأمّا حدوث
الارتسام فيه فإنّما هو على التّدريج فى مجموع الزّمان الموجود
فى الأعيان الّذي ينطق عليه ذلك المرتسم الذّهنىّ. فالأجزاء المنفرضة فى
المرتسم الممتدّ تكون متعاقبة فى الارتسام على نحو ما تتعاقب الأجزاء المفروضة فى
الخط المستقيم المرتسم من القطرة النّازلة أو المستدير المرتسم من الشّعلة
الجوّالة وإن كانت مجتمعة معا بحسب البقاء بعد الحدوث على خلاف ما فى الحصول فى
الأعيان. فالشّأن هناك تعاقب ما تنفرض من الأجزاء فى الحصول حدوثا وبقاء. وأمّا فى
أىّ آن فرض من الآنات فلا يرتسم من ذلك المرتسم جزء أصلا هو جزء من أجزائه زمان أو
حركة ، فكيف يطابق الآن ، والآن إنّما يصحّ أن ينطبق عليه طرف ذلك المرتسم الّذي
هو آن أيضا أو حدّ من حدود الحركة المتصلة.
فإذن ، قد
تحقّق أنّ الزّمان الممتدّ موجود فى الأعيان ومرتسم فى الأذهان من الآن السيّال. وكذلك
الحركة المتصلة القطعيّة المتقدّرة به موجودة فى الخارج ومرتسمة فى الذّهن من
الحركة التوسّطيّة. فهذا سبيل الفلسفة وصراط الحكمة الحقّة.
ثمّ سبق مجرّد
عدم الاجتماع بحسب الحدوث إذا لم يكن مع التّعاقب فى البقاء ليس يستقل أن يتحقق
بنفس المعنى هو كونه غير قارّ الذّات فذلك متحقق فى المقادير القارّة عندهم ،
كالجسم التعليمىّ ، إذا تحققت حركة كميّة ، كما فى النّموّ ، بل بتخلخل تحقيقىّ. وليس
يصادم كون الشّيء فى قرار الذّات.
فإذن ، المرتسم
من الزّمان أو الحركة فى الذّهن بما هو تدريجىّ الحدوث ؛ قارّ البقاء ؛ فإنّ
أجزاءه المفروضة متعاقبة فى حدوث الارتسام الّذي هو نحو وجودها فى الذّهن. ثمّ إذا
ارتسمت فإذا هى باقية توجد معا هناك لا يصلح أن يعدّ ممّا ليس هو بقاء الذّات
البتّة.
فإذن ، لو لم
يكن الممتدّ المتصل من كلّ منهما موجودا فى الأعيان ، لا على قرار الذّات حدوثا وبقاء
، على أنّ ذلك هو ما رامته الفلاسفة النّجباء ؛ لم تكن محاولتهم إثبات الوجود
المفروض الغير القارّ فى مساغ صحيح ، وما كان لخصوصهم إصرار على استنكار ذلك.
<١١> إيقاظ تحصيليّ
ينبغى أن تعلم
أنّ حقّ المقال ، بعد تكشّف الأمر ، أن يقال : إنّ المعلوم بالضّرورة الفطريّة والرّويّة
الحدسيّة والمشاهدة الحسّية هو الحركة المتصلة القطعيّة والزّمان الممتدّ المتصل. وأمّا
الحركة التوسّطيّة والآن السيّال فإنّما يحقّقهما الفحص والبرهان.
ثمّ إنّ
التّوسّط والآن السيّال إنّما يرسمان الحركة المتصلة والزّمان الممتدّ فى الخيال
بحسب ما هما موجودان فى الاعيان مستمرّين ذاتا غير مستمرّين نسبة إلى الحدود
المسافيّة المفروضة ، لا بحسب ما هما مدركان على هذه الجهة ، كما قد ينساق إليه
بعض الأوهام. وكذلك الأمر فى رسم القطر النّازل والنّقطة الدّائرة بسرعة خطّا
مستقيما وخطّا مستديرا فى الحسّ المشترك. أليس المشاهد هو المرتسم ، أعنى الخطّ
المستقيم والخطّ المستدير ، لا الرّاسم، أعنى القطر والنّقطة الّذين هما راسماهما
من جهة الوجود فى الأعيان مع تبدّل الأمكنة والايون والسّموت ، وكذلك المدرك هما
الحركة المتصلة المرتسمة (١٥٠) والزّمان الممتدّ ، لا الرّاسمان العينيّان.
وممّا يجب أن
لا يذهل عنه أنّ كلاّ من الرّاسمين كما يكون مبدأ ارتسام الممتدّ المرتسم فى القوى الخياليّة السّفليّة فكذلك قد يكون ذلك فى
النّفوس المنطبعة الفلكيّة أيضا ، فيرتسم فيها الزّمان بجملته. وكذلك معدّل
النّهار الّتي هى محلّه بمجموع هويّتها الاتصاليّة بحسب وجود راسميهما فى الأعيان
على الجهة المستقصاة ذكرا وبيانا.
<١٢> انباء
إنّ لرهط من
اولى هوشات التّشكيكات فى عصور اليونانيّين ، كزينون ،
__________________
وهو غير زينون الأكبر ، وبرمانيدس وغيرهما ، عقودا وشكوكا قويّة الإعضال
شديدة الإعياء فى نفى الحركة مطلقا وقد اغتيل بها وافتتن عليها فريق من متشككى
الإسلاميين ، كالغيلانىّ [أفضل الدّين] ومثير فتنة التّشكيك وغيرهما. وقد زعم قوم
أنّ لإنكار وجود الحركة بمعنى القطع فى الأعيان عن مضائق التّهويشات.
ثمّ فئة من
الأتباع والمقلّدة قد اتّخذت ذلك مذهبا ، سبيله أنّ الموجود فى الأعيان إنّما هو
التّوسّط والآن السيّال لا غير. ولكن على وجه يستتبع ارتسام الحركة المتصلة والزّمان
الممتدّ فى الأذهان الخياليّة ، وظنّت أنّ ذلك منهج رؤساء الفلاسفة ، ولم تعرف
أنّه لم يكن يلتجئ إليه إلاّ من اضطرّه تعضيل الشّبه والشّكوك المستصعبة إلى سلوك
طرق مستوعرة يعدّها سبل تفصّيات منتظرة. ونحن إذ أحصفنا الأمر وأوضحنا السّبيل
فحرىّ بنا أن ننتقل الآن إلى حلّ عقود الشّبه وفكّ عقد الأوهام. استغاثة بالعزيز
الحكيم واستيفاقا من العليم العلاّم.
<١٣>شكّ وفحص
ربما يتشكّك
فيقال : الجسم فى آن انتقاله من السّكون إلى الحركة موجود ، وليس موصوفا بالسّكون ولا
بالحركة. ولا يمكن أن يقال : إنّ الجسم فى ذلك الآن موجود فى العقل ، لا فى
الأعيان. فإذن ، لزم واسطة بين السّكون والحركة المتقابلين ؛ وأيضا نعيّن آنا فى
زمان الحركة ، فنقول : أفيه حركة ، فتقع الحركة فى آن وتستلزم جزءا لا يتجزّى فى
المسافة وقد أبطله البرهان ، أو سكون ، فثبتت الحركة وقد وضع أنّها متصلة واحدة
غير ملتئمة من المتبددات حذاء اتّصال المسافة. ثمّ من المتحرّكات ما فى طباعه مبدأ
امتناع السّكون ، كالفلكيّات ، أو ليس فيه سكون وحركة فيخلو الموضوع القابل عنهما وهو
محال.
ويزاح : بأنّ
وجود الحركة لا يكون إلاّ فى زمان ، وكذلك وجود السّكون ، وانتفاؤهما عن شيء من
شأنه أن يوجد أحدهما فيه يوجب واسطة بينهما. لكنّ الجسم بحسب الوجود فى الآن الّذي
هو الفعل المشترك بين زمان السّكون وزمان
الحركة ، بل بحسب الوجود فى أىّ آن فرض من الآنات لا يكون من شأنه أن يوجد
فيه حركة أو سكون ، فلا يلزم ثبوت واسطة بين الحركة والسّكون يكون الجسم فى الآن
موصوفا بهما.
وأيضا نقول :
ليست فى ذلك الآن حركة ، لكون الحركة زمانيّة ، لا دفعيّة ، ولا سكون ، لتحقيق
الحركة وإن لم يكن فى الآن ، فالحركة فى الآن أخصّ من اللاّسكون وما يساويه.
فانتفاؤها ليس يستلزم انتفاء مساو اللاّسكون لتحقّقه بالحركة ، لا فى الآن ، ويضاهى
ذلك من وجه أنّ المتحرك فى البيت ليس هو بساكن ولا بمتحرّك فى السّوق. فإذن ، الآن
إن أخذ ظرفا للاتصاف اختير أنّ الاتّصاف فيه بالحركة الواقعة بالزّمان فى الزّمان
، لا فيه. وإن جعل ظرفا لوقوع الحركة أو السّكون. قيل : لا يكون يصحّ أن يقع شيء
منهما فيه ، وليس يلزم من ذلك أن يكون الموضوع عروا فيه عن الاتصاف بهما.
<١٤> عقدة وفكّ
وممّا يعتصم به
فى عقدة التّشكيك : أنّ المتحرك ما لم يثبت حركته بالوصول إلى المنتهى لم يوجد
الحركة بتمامها ، وإذا ثبتت بالوصول بطلت الحركة.
ويحسم : بأنّ
ذلك إنّما يستوجب امتناع وجود الحركة فى آن انبتات الحركة ، أى : آن الوصول إلى
المنتهى ، بل فى أىّ آن فرض من الآنات ، ويعبّر عنه بالحال. والوجود فى الأعيان
أعمّ من ذلك ، فالحركة إنّما توجد فى زمان نهاية آن الوصول. فهناك يتمّ وجودها فى
الماضى وليس ينقبض العقل من أن يكون بعض الأشياء بحيث يكون ظرف وجودها الزّمان دون
الآن ، فيكون إمّا ماضيا أو مستقبلا ، كما الزّمان نفسه. نعم ، الشّيء الّذي يكون
ظرف وجوده الآن إذا لم يوجد فى آن من الآنات لم يكن موصوفا بالوجود فى الواقع.
فإن أزعجك
الوهم : أنّه حينئذ لا يكون الحركة متصفة بالوجود العينىّ قبل الوصول ، لعدم
إثباتها بعد ولا حاله ، وإلاّ لانطبقت على شيء لا يقبل
الانقسام من المسافة.
ازيح : بأنّه
إن عني بقبل الوصول آن قبله فالتّرديد غير حاصر ، وإن عني ما يعمّه وزمانا اختير
أنّها متصفة بالوجود العينىّ فى آن زمان هو قبل آن الوصول نهايته ذلك ، فهى توجد
بنفسها فى ذلك الزّمان الشّخصىّ وبطرفها فى تلك النّهاية.
<١٥> تشكيك وتحقيق
وقد يقال :
الحركة لا بدّ أن يكون لها وجود فى الحاضر وإلاّ لم يكن ماضيه ولا مستقبله ؛ لأنّ
الماضى هو الّذي كان موجودا فى زمان حاضر ، والمستقبل هو الّذي يترقّب صيرورته
كذلك. وما يمتنع حضوره لا يصير ماضيا ولا يكون مستقبلا. ثمّ ذلك الحاضر غير منقسم
، وإلاّ لكان بعض أجزائه قبل البعض. فعند حضور أحد النّصفين لا يكون النّصف الآخر
موجودا قد يكون ما قد فرض حاضرا حاضرا ، وهو خلف.
فإذن ، الجزء
الحاضر من الحركة غير منقسم ، وعند فنائه يحصل جزء آخر غير منقسم. فالحركة مركّبة
من امور ، كلّ واحد منها غير قابل للقسمة ، والمقطوعات بها من المسافة أيضا أجزاء
غير متجزّئة هى الجواهر الأفراد.
وهذا من
تشكيكات زينون ، ومثير فتنة التّشكيك ممّن يكرّر اعتصامه به. ومن حقق الأمر يقول :
الحركة لا وجود لها إلاّ فى الماضى أو فى المستقبل. وأمّا الحال فهو نهاية الماضى وبداية
المستقبل وليس بزمان ، وما ليس بزمان لا يكون فيه حركة ؛ لأنّ كلّ حركة فإنّها
تكون فى زمان. وكذلك سائر الفصول المشتركة للمقادير الاخر ليست بأجزاء لها ، بل هى
موجودات مغايرة لما هى حدوده بالنّوع ؛ إذ لو كانت الفصول المشتركة أجزاء المقادير
(٢٥٥) الّتي هى فصولها لكانت القسمة إلى قسمين : قسمة إلى ثلاثة أقسام ، والقسمة
إلى ثلاثة أقسام ، قسمة إلى خمسة أقسام ، وذلك خلف.
فإذن ، الحاضر
ليس بحركة. ولا يسوغ أن يقال : إنّ الماضى من الحركة هو
الّذي كان موجودا فى زمان حاضر ، بل إنّما السّائغ أن يقال : إنّه هو الّذي
كان بعضه بالقياس (١٥١) إلى آن قيل الحال مستقبلا وبعضه ماضيا وصار فى الحال كلّه
ماضيا ، وهكذا فى المستقبل وفى الآن الفاصل بين الماضى والمستقبل لا يمكن أن يكون
للشىء حركة. فالحركة إنّما تكون فى زمان وليس شيء من الزّمان بحاضر ؛ لأنّه غير
قارّ الذّات.
وربّما يتشكّك
: بمثل هذا فى الزّمان فيقال : الزّمان إمّا الماضى أو الحال أو المستقبل ؛ والماضى
والمستقبل معدومان ؛ والحال إن كان منقسما عادت القسمة وانفسخ الغرض ؛ وإن كان غير
منقسم كان عدمه رفعه لا محالة. فعند فنائه يحدث آن آخر رفعه ، فيلزم تشافع الآنات
، ويلزم بإزائه فى المسافة تركّب من النّقط المتشافعة وتحقق الأمر بأنّ الزّمان
إما الماضى أو المستقبل ، وليس له قسم آخر هو الآن. إنّما الآن هو الفصل المشترك
بين القسمين ، كالنّقطة فى الخطّ ، والماضى ليس بمعدوم مطلقا ، إنّما هو معدوم فى
المستقبل والمستقبل معدوم فى الماضى ، وكلاهما معدومان فى الحال ، وكلّ منهما
موجود فى حدّه ، وليس عدم شيء فى شيء هو عدم فى نفسه مطلقا ؛ فإنّ الفلك معدوم فى
البيت وليس بمعدوم فى موضعه. ولو كان الآن جزءا من الزّمان لما أمكن قسمة الزّمان
إلى قسمين. مثلا تقول : من الغداة إلى الآن ومن الآن إلى العشاء. فإن كان الآن
جزءا لم يكن هذه القسمة صحيحة.
فإذن ، الآن
عرض ومعروض فى الزّمان ، كالفصل المشترك فى الخطّ ، وليس بجزء من الزّمان ، وليس
فناؤه إلاّ بعبور زمان متحققا عدم الآن فى كلّ جزء من أجزائه وفى حدّ من حدوده ،
فلا يلزم تتالى الآنات. وربما يقال فى حلّ الشّكّ : إنّ الآن قد يطلق على الزّمان
القليل والحاضر من الحركة على ما ينطبق عليه.
ثمّ إنّ الحركة
الحاضرة منقسمة بتّة ولا يلزم أن يكون أحد نصفيها سابقا على النّصف الآخر فى
الوجود. وإنّما يلزم ذلك أن لو كانت قابلة الانفكاك. أمّا إذا كان قبولها إنّما هو
للقسمة الوهميّة ، فذلك غير لازم ، وإنّما يصلح للتّعويل عليه لو استحصف بما
تلوناه عليك.
<١٦> وهم ودفع
ولعلّك تقول :
فإذن ، قد أوجبتم بما أثبتّم ، من اتصال الحركة الماضية بالمستقبل أن يكون بين
الموجود والمعدوم اتّصال.
فيدفع : بأنّك
إن عنيت بذلك اتصال الموجود بالمعدوم المحض فى الأعيان على أن يحصل منهما موجود
عينىّ فذلك غير لازم ؛ وإن عنيت اتصال الكائن فى الزّمان الماضى بالمعدوم فى الحال
الكائن فى الزّمان المستقبل بحيث يكون منهما موجود واحد فى مجموع الزّمانين قد
انحلّ فى الوهم إلى شطرين هما فى الموجود فى أحد الزّمانين والموجود فى الزّمان
الآخر ، وهما فى الوجود العينىّ شيء متصل وحدانىّ فى نفسه ، فذلك غير مستحيل ، بل
هو ما عليه الأمر نفسه.
أليس الآن
بمعنى الزّمان القصير الملتئم من شيئين يسيرين عن جنبتى الآن الّذي لا يتجزّى ربما
يسعه لحظك لقصر الامتداد بين حدّيه الطرفين ، فتدرك حصوله فى نفسه وتحكم عليه
بالوجود ، لا بانقباض العقل عن ذلك ، مع أنّه فى نفس يقبل التّحليل إلى جزءين هما
ماض ومستقبل. وليس الزّمان الطويل عندك على ذلك السّبيل لطول الامتداد بينهما. ومصادقة
الوهم أحاطتك به.
فلعلّ الزّمان
المتمادى من أوّله إلى أبده لا يكون إلاّ موجودا واحدا فى نفسه ومن يسعه بالإحاطة
يدرك حصوله ويحكم عليه بالوجود. كما الآن الّذي هو الزّمان القصير بالنّسبة إليك ،
بل لا نسبة بين النّسبتين بوجه من الوجوه ضرورة. وإنّما ذلك على سبيل ضرب الأمثال
لإيناس الأوهام المستوحشة.
<١٧> ريبة وإماطة
أأصغيت إلى من
يرتاب فى الحقّ فيقول : إنّه إذا قيل بوجود الماضى ، فإمّا أن يراد أنّ وجوده
مقارن لوصف المضىّ ، فيلزم أن يكون موجودا ومعدوما معا ؛ إذ لا معنى للمضيّ إلاّ
الانقضاء ؛ أو أنّه كان مقارنا لوصف الحضور ، ثمّ زال وجوده
بزوال الحضور ، فيجب أن يكون موجودا فى آن لا يكون موجودا فى الماضى. وعلى
ذلك يقاس مقارنة الوجود للاستقبال.
وبعبارة اخرى :
الشّيء إذا استلزم أحد الوصفين ولم يجامع شيئا منهما ، فإنّه لا يوجد أصلا ، والحركة
تستلزم أحد الأمرين من الماضى والاستقبال ، إذ هى لا تتصوّر أصلا ولا يجامع وجودها
شيئا منهما ؛ لأنّ وجودها إمّا ماض وليس بموجود الآن أو مستقبل الآن وليس بموجود
الآن. فهى لا توجد فى الخارج قطعا ، الرّيبة تتفكّر أنّ الانقضاء إنّما هو بالقياس
إلى الآن ، لا بحسب الأعيان مطلقا.
فإذن ، إنّما
يصحّ سلب الوجود العينىّ المقيد ذلك الوجود بالوقوع فى الآن ، فذاك ونقيضه فيه لا
يرتفعان عن شيء ، لا سلب الوجود فى الأعيان ، المقيّد ذلك السّلب بكونه فى الآن.
فهذا لا يناقض الوجود العينىّ فى الآن ، بل ربما يكذبان معا.
فإذن ، وجود
الماضى ليس يقارن وصف المضىّ إلاّ بالقياس إلى الآن ، لا بحسب الأعيان مطلقا ، فلا
يصدق الآن إلاّ الحكم بعدمه فى الآن ، لا الحكم بعدمه فى الأعيان مطلقا.
فإذن ، ليس
يلزم من عدم وجود الماضى فى الآن عدم وجوده مطلقا. وكذا القول فى الاستقبال.
فالغلط نشأ من سوء اعتبار الحمل ومن أخذ الأعمّ مكان الأخصّ ، وما ليس بنقيض مكان
النّقيض. فما أكثر غلطه بالتّلبيس وما أشدّ تورّطه فى التّخبيط والتّدليس. ولو شاء
لهداهم أجمعين.
<١٨> تنبيه فيه كشف فحصيّ
ما أيسر لك ،
من بعد ما تحققت ، أن تتّخذ لك سلّما إلى التّبصّر فترتقى منه إلى تعرّف ما يرتفع
عن ذلك كلّه ، فتتفقّه أنّ الوجود فى الأعيان ربما يكون زمانيّا ، ومع ذلك قد يكون
فى الآن وقد يكون فى الزّمان ، وهو أيضا على ضربين. فالوجود الزّمانىّ يقرّ
الضّروب الثّلاثة ، وكلّ منها وجود فى الأعيان. فكذلك الوجود فى الأعيان قد يتقدس
عن الزّمان والآن ، لتعاليه عن التّغيّر وإحاطته بالدّهر والزّمان والكون والمكان
مطلقا ، فيصدق فى كلّ زمان وفى كلّ آن أن يحكم
بأنّ الشّيء الغير الزّمانىّ موجود فى الأعيان على أن يكون الزّمان أو الآن
ظرفا للحكم وإن لم يصدق الحكم بأنّه موجود فى الزّمان وفى الآن على أن يكون
الزّمان أو الآن ظرفا للوجود.
وكما أنّ
الوجود كلّما كان أوغل فى التّعلّق بالزّمان كان أضعف والوجود أوهن وأنقص. ولذلك
ما إنّ الموجود التّدريجىّ الّذي يكون وجوده فى الزّمان أضعف وجودا من الموجود
القارّ الّذي يوجد بجميع أجزائه فى الآن ؛ فكذلك كلّما كان الوجود أبعد عن الوقوع
فى الزّمان كان أقوى ، والوجود أتمّ وأكمل ، ولذلك ما إنّ الموجود الغير الزّمانىّ
الّذي يوجد بذاته وبجملة كالأب ذاته ، لا فى الزّمان ولا فى الآن (١٥٢) أقوى وجودا
وأتمّ حقيقة من الموجود القارّ الّذي يوجد بتمامه فى الآن فضاء عن الموجود الغير
القارّ الّذي لا يوجد بتمامه إلاّ فى نفس الزّمان. ومن هو أقدس الحقائق وأرفع
الموجودات عن ذلك التّعلّق لا يقاس تمام حقيقته وكمال ذاته ولا يدرك كنه قدسه وعلوّ
مجده ، تعالى ملكه وتقدّس ذكره.
<١٩> عقد وحلّ
كأنّه يعلق
سرّك أنّ حصول الشّيء الواحد فى نفسه على سبيل التّدريج غير معقول ؛ لأنّ الحاصل
فى الجزء الأوّل من الزّمان لا بدّ وأن يكون مغايرا لما يحصل فى الجزء الثانى منه
، لاستحالة أن يكون الموجود عين المعدوم. فإذن ، يكون هناك أشياء متغايرة غير
صالحة للانقسام متعاقبة لا يتصل بعضها ببعض اتّصالا حقيقيّا ، ويجوز اتّصال
الموجود بالمعدوم كذلك ، فإذن يجب أن يكون كلّ واحد منها حاصلا دفعة ، لا تدريجا.
وهذا أيضا شكّ
معضل قد عرض لبعض مهوّشة اليونانيّين. ثمّ قد تشبّث بذلك مشوّشة العلم من
الإسلاميّين ، ثمّ مثير فتنة التشكيك قد استمسك به وأضافه إلى نفسه فى المباحث
المشرقيّة فقال :
«فعليّة حصول الشّيء على سبيل التّدريج متفق عليه بين الحكماء. ولى فيه شكّ
؛ فإنّ لقائل أن يقول : الشيء إذا تغيّر فذلك التّغيّر إمّا أن يكون لحصول شيء فيه
أو لزوال شيء عنه ؛ فإنّه إن لم يحدث فيه شيء ممّا كان معدوما ولم يزل عنه شيء
ممّا يكون موجودا ، وجب أن يكون حاله فى ذلك الآن كحاله قبل ذلك ، فلا يكون فيه
تغيّر وقد فرض كذلك، هذا خلف. فإذن ، الشّيء إذا تغيّر فلا بدّ إمّا من حدوث شيء
فيه أو زوال شيء عنه ؛ فليفرض أنّه حدث فيه شيء.
فذلك الشّيء
الّذي حدث كان معدوما ثمّ صار موجودا ؛ وكلّ ما كان كذلك فلوجوده ابتداء غير منقسم
، وإلاّ لكان أحد جزئيه الابتداء لا هو الابتداء. فذلك الّذي حدث : إمّا أن يكون
فى ابتداء وجوده موجودا أو لا يكون ؛ فإن لم يكن فهو بعد فى عدمه ، لا فى ابتداء
وجوده. وإن حصل له وجود فلا يخلو : إمّا أن يكون قد بقى منه شيء بالقوّة أو لم
يبق. فإن لم يبق فالشّيء قد حصل بتمامه فى أوّل حدوثه وهو حاصل دفعة ، لا يسيرا
يسيرا ، وإن بقى منه شيء بالقوّة فذلك الّذي بقى : إمّا أن يكون عين الّذي وجد وهو
محال ، لاستحالة أن يكون الشّيء الواحد موجودا معدوما دفعة واحدة ، وإمّا أن يكون
غيره ، فحينئذ ، الّذي حصل أوّلا فقد حصل بتمامه ، والّذي لم يحصل معدوم ، فليس
هناك شيء واحد له حصول على التّدريج ، بل هناك امور متتالية.
فالحاصل : أنّ
الشيء الأحدىّ الذات يمتنع أن يكون له حصول إلاّ دفعة. نعم ، الشّيء الّذي له
أجزاء كثيرة أمكن أن يقال : إنّ حصوله على التّدريج على معنى أنّ كلّ واحد من تلك
الأفراد الحقيقيّة إنّما يحصل فى حين بعد حين بعد حصول الآخر. وإمّا على التّحقيق
فقد حدث بتمامه دفعة. وكلّما لم يحدث فهو بتمامه معدوم» فهذا ما عقدته أوهام
المتشككين. (المباحث المشرقية ، ج ١ ، ص ٥٤٩)
ومعلّم
المشّائية حاول الانفكاك : بأنّ الموجود من الحركة إنّما هو التّوسّط وهو ليس أمرا
سيّالا ، لا يكون مقتضيا ولاحقا ، وقرره الرّؤساء والتّلامذة.
ثمّ متفلسفة
الأتباع والمقلّدين لم يتفطنوا للمرام فتوهّموا أنّ ما عني هو أنّ هذا
التّشكيك إنّما يستلزم نفى الحركة بمعنى القطع ، وهى غير موجودة فى الأعيان
، لا التّوسّط الّذي هو الموجود ؛ وظنّوا أنّ ذلك هو سبيل الصّناعة ؛ وزاغت أبصار
بصائرهم عن لحاظ أنّ هذا الشّكّ عقدة مغالطيّة ، لا تخصّص لها بأحد الوجودين.
ولذلك حوول
بذلك فى حضور الأوائل إبطال حصول الحركة المتصلة مطلقا ، سواء كان فى الأعيان أو
فى الأذهان ؛ فإنّه إذا لم يكن حصول الشّيء الواحد فى نفسه على سبيل التّدريج
معقولا لم يتصوّر حدوثه تدريجا لا فى العين ولا فى الذّهن.
فإذن ، تعبية
الأمر فى الوجود العينىّ تدريجا وتفصيل الارتسام فى الذّهن على سبيل التّدريج
سبيلهما واحد. وإنّ جمهور هؤلاء المقلّدين ، النّافيين لوجود الحركة بمعنى القطع
فى الأعيان ، يذهبون إلى أنّ استمرار ذات التّوسّط وعدم استمرار نسبته إلى الحدود
المفترضة للمسافة فى الأعيان يوجب حدوث ارتسام الحركة بمعنى القطع فى الذّهن على
سبيل التّدريج والتفصيل عليهم أيضا ناهض هناك بتّة ولا تعويل إلاّ على حلّ عقد
الإشكال وجبّ عرق الإعضال بتفضيح التّدليس وإفشاء التّلبيس.
وسبيله على
سياق ما كرّر عليك أن يقال : إنّ وجود الشّيء بتمامه فى الآن أخصّ من حدوده بتمامه
مطلقا ؛ فإنّ ذلك قد يكون فى الزّمان لا فى الآن. ووحدة الشيء المتصل فى ذاته لا
تأبى ذلك أصلا ، والتدريج فى الوجود الحدوثىّ أو البقائىّ لا يصادم وجود الشّيء
المتصل الواحد فى نفسه بتمامه فى مجموع الزّمان الّذي هو أيضا متصل واحد شخصىّ ،
بل إنّما ينافى وجوده وهويّته الامتداديّة بعينها فى آن أو فى شيء من أبعاض
الزّمان المنطبق عليه.
وليس فى طباع
كلّ حادث استيجاب أن يكون لحدوثه بتمامه ابتداء غير منقسم على أن يختصّ وجوده
بهويّته الامتداديّة لو كانت له بأن تتحقق فيه ، بل الحادث المتصل الواحد الّذي لا
جزء له بالفعل أصلا يوجد فى الزّمان المتصل الواحد الّذي لا جزء له أيضا بالفعل
أصلا ولا يكون لوجوده ابتداء وراء ذلك.
فالحاصل : أنّ
الشّيء الأحدىّ الذّات إذا كان والهويّة اتصاليّة يصلح للانفصال إلى أجزاء كثيرة
فى فرض الذّهن أمكن أن يكون حدوثه بما له تلك الهويّة الاتصاليّة على
التّدريج ، أى أن يكون حصوله فى زمان متصل صالح لافتراض أجزاء كثيرة فيه
بإزاء الأجزاء المنفرضة فى الزّمان فى ذلك الحاصل ، فيكون حصول كلّ من الأجزاء
المفروضة للحاصل فى واحد من الأجزاء المنفرضة فى الزّمان وحصوله فى نفسه بما هو
شيء واحد ، لا بما يفرضه الذّهن متكثّرا فى الزّمان الّذي هو أيضا شيء واحد فى
نفسه ، فهما متصلان غير قارّين. فإذا انقسما بسبب من الأسباب كان هناك حصول أشياء
كثيرة على التّعاقب ولو لم تعرض لها قسمة كان حصول شيء واحد فى زمان ما واحد. وذلك
معنى حصوله الشّيء على سبيل التّدريج.
وأمّا إذا لم
يكن الشّيء الأحدىّ الذّات من المتّصلات الممتدّة وكان من الكميّات القارّة ،
فإنّه لا يمكن أن يكون له حصول تدريجىّ ، وإنّ ماراه معلّم المشّائين ورؤساؤهم فى
حلّ الشّكّ بنفى الوجود عن الحركة الّتي هى القطع من هذا المعنى ، أعنى نفي الوجود
المستكمل القارّ ، والذّات الغير المتجزّئة المستقرّة ، فإنّ ذلك هو القول العاصم
الحاسم لعنصر الشّبهة ، لا نفى الوجود العينىّ عن الحركة الّتي هى القطع ؛ فإنّ
ذلك ، مع كونه شططا بعيدا عن سمت الحقّ ، ليس على حدّ الإجداء ، إذ الشّكّ ينتهض
(١٥٣) فى الحرث الذّهنىّ على التّدريج من غير فرق. فهذا ما فطن له فهمى وبلغ إليه
علمى فى هذه المسألة ، واللّه هو العليم الحكيم.
<٢٠> نقض وتحصيل تقريريّ
من عويصات هذا
الموضع ما يقال : إنّ ممّا عليه تواطؤ الحكماء كون كلّ حركة حصولها فى زمان ، ثمّ
قد بيّن أنّ الحركة التّوسّطية أمر بسيط غير منقسم لا يصلح للانطباق على الزّمان.
ورئيس مشّائيّة
الإسلام بلغ منتهى التّحصيل فيه وأوضح فى الشفاء :
«إنّ الّذي
يقال ، من أنّ كلّ حركة فى زمان ؛ فإمّا أن يعنى بالحركة الحالة الّتي للشّيء بين
مبدأ ومنتهى وصل إليه ، فتقف عنده أو لا تقف. فتلك الحالة الممتدّة هى فى زمان ، وهذه
الحالة ، وهى الحركة التى هى القطع ، فوجودها على سبيل وجود
الامور فى الماضى وتباينها بوجه ؛ لأنّ الامور الموجودة فى الماضى قد كان
لها وجود فى آن من الماضى كان حاضرا ، أو لا كذلك فتكون هذه الحركة يعنى بها
القطع. وإمّا أن يعنى بالحركة الكمال الأوّل الّذي هو التوسّط على الوجه الّذي قد
وصف بكونه فى زمان النّسبة ، لكن لا على ما يلزمه مطابقة الزّمان ، بل على أنّه لا
تخلو من حصول قطع ذلك القطع مطابق للزّمان ، فلا يخلو من حدوث زمان ، وهو ثابت فى
كلّ آن من ذلك الزّمان مستمرّا فيه ، فيكون ثابتا فى ذلك الزّمان».
(الشفاء ،
الطبيعيّات ، ص ٨٥)
ولو ريم زيادة
التّوضيح ، قيل : ألست قد انكشف لك أنّ الحركة بهذا المعنى حقيقتها الكون فى الوسط
، أى التّوسّط بين طرفى المسافة ، اللّذين هما المبدأ والمنتهى وكلّ حدّ من الحدود
المسافيّة فإنّه إذا استقرّ المتحرّك فيه آنين ، ويكون بينهما لا محالة زمان ،
لاستحالة التّشافع يكون قد انبتت الحركة وعرض له السّكون ، فيعود ما فرض من حدود
الوسط طرفا هو المنتهى ، وهو خلف.
فإذن ، إنّما
يتصوّر توسّط المتحرّك بين المبدأ والمنتهى إذا كان غير مستقرّ فى شيء من الحدود
الوسطيّة المفروضة ، فلا يكون فى كلّ حدّ من تلك الحدود إلاّ آنا واحدا من الآنات
المفروضة.
فقد تبيّن أنّه
يلزم طباع كون المتحرّك فى الوسط أن يكون هناك زمان يتحقق الكون فى الوسط فى كلّ
آن من الآفات المفروضة فيه على سبيل عدم الاستقرار فيه. فكون الكون من الوسط بسيط
الذّات غير صحيح الانقسام إنّما يجب أن يكون حصوله فى الزّمان على سبيل التّطابق وإن
كان مقتضى طباعه أن لا يكون حصوله إلاّ فى نفس الزّمان ، لكن لا على وجه التّطابق.
فإذن ، الكون
فى الوسط إن لوحظ من حيث جوهر ذاته البسيطة كان له عدم صلوح الانطباق على الزّمان.
وإن لوحظ من حيث إنّ طباعه يقتضي أن يكون مستمرّا ولا يكون له موافاة شيء من
الحدود الوسطيّة المفروضة أكثر من آن واحد مفروض لزم أن يكون هناك زمان يكون حصوله
فيه لا على التّطابق ، بل
على أن يكون هو حاصلا فى كلّ جزء من أجزائه وفى كلّ آن من آناته ، ولا يكون
آن ما من الآنات ، بحيث يصحّ أن يقال فيه كان ابتداء حصوله.
فإذن ، وجود
الحركة التّوسّطيّة فى كلّ آن من آنات زمان الحركة ليس مشروطا بمجاوزة الحدّ الّذي
هو مفروض بإزاء ذلك الآن على ما توهّم حتى يتشكّك بأنّ مجاوزة ذلك الحدّ يكون بعد هذا الآن ، فيكون وجود الشّيء
مشروطا بالأمر الّذي يحدث بعده ، بل مجاوزة ذلك الحدّ وعدم الاستقرار فيه إنّما هو
مقتضى طباعها. فالغلط من عدم الفرق بين شرط الشّيء وبين ما يلزم طباعه. وإنّما
يلزم من ذلك أن يكون ظرف ذلك الوجود نفس الزّمان، لا على وجه التّطابق ، بل على
الوجه الموصوف ؛
فإذن الحركة
التّوسّطيّة أمر بسيط حصوله بحسب نفس ذاته يستلزم تحقّق الزّمان وإن لم يكن بينهما
مطابقة امتداديّة ، وبحسب استمرار ذاته وعدم استواء نسبته إلى الحدود المفروضة
المسافيّة يستلزم حصول أمر ممتدّ يحصل فى الزّمان على سبيل المطابقة الامتداديّة.
<٢١> تذكار فيه تحقيق
هل أنت متذكّر
ما تحققته فى بعض المسافات السّالفة ، من أنّ الحركة كمال وفعل ، أى : كون بالفعل
إذا كان بإزائها قوّة ، إذ الشّيء قد يكون متحرّكا بالقوّة وقد يكون متحرّكا
بالفعل ، وفعله وكماله هو الحركة. فالحركة تشارك سائر الكمالات من هذه الجهة وتفارقها
ومن جهة. إنّ سائر الكمالات إذا حصلت صار الشّيء بها بالفعل وبعد فيه ممّا يتعلق
بذلك الفعل شيء بالقوّة ؛ فإنّ الشّيء إذا اسودّ وصار أسود بالفعل لم يبق بالقوّة
أسود من جملة الأسود الّذي له. وإذا صار بالفعل مربّعا لم يبق بالقوّة مربّعا من
جملة المربّع الّذي له. والمتحرّك إذا صار متحرّكا بالفعل فيظنّ أنّه يكون بعد
بالقوّة متحرّكا من جملة الحركة المتّصلة الّتي هو بها متحرّك ، فإنّ
__________________
المتحرك إنّما يكون متحرّكا بالفعل إذا لم يصل إلى ما إليه الحركة ، ما دام
كذلك فيكون قد بقى منه شيء بالقوّة. فإذن ، هويّة الحركة متعلّقة بأن يبقى منها
شيء بالقوّة بخلاف سائر الكمالات.
وأيضا ، سائر
الكمالات ليس شيء منها من حيث هو كمال يوجب أن ينقضى ويستعقب شيئا آخر غيره ، بخلاف
الكمال الّذي هو الحركة ؛ فإنّه يجب أن يكون الشّيء هو المقصود الّذي من الحركة
خاصّة بالفعل مع حصول الحركة ؛ إذ المتحرّك بما هو متحرّك يجب أن يكون له مع كونه
متحرّكا بالفعل أن يوجد بالقوّة شيئا آخر ، غير أنّه متحرّك. فالمتحرّك ما لم يكن
لذاته شيء ما بالقوّة متحرك إليه بالفعل ولا يصل إليه إلاّ بالحركة لم يكن
متحرّكا.
فإذن ، لا يكون
حاله وقياسه عند الحركة إلى ذلك الشّيء الّذي هو له بالقوّة ، كما كان قبل الحركة
، بل قيل : الحركة يكون له ذلك الشّيء بالقوّة المطلقة ، ويكون هو ذا قوّتين :
إحداهما على الأمر والاخرى على التّوجّه إليه ، فله حال السكون كما كان ، وله
عليهما قوّتان. ثمّ إذا صار متحركا بالفعل حصل له كمال إحدى القوّتين ويكون قد بقى
بعد بالقوّة فى ذلك الشّيء الّذي هو المقصود بالقوّتين ، لا بالكمالين كليهما وإن
كان أحدهما حصل بالفعل الّذي هو أحد الكمالين ؛ فإنّه بعد لم يتبرّأ عمّا هو
بالقوّة فى الأمرين جميعا ، أى المتوجّه إليه بالحركة ونفس الحركة ؛ فإنّ الحركة
لا تحصل له بحيث لا تبقى قوّتها التّبديل ، بل طباع الحركة أن يكون مع حصولها
بالفعل شيء منها بالقوّة وأن يكون يستعقب شيئا آخر غيرها يحصل بعد انقضائها. فلذلك
يقال : الحركة هى الكمال الأوّل لما بالقوّة ، لا من كلّ جهة ؛ فإنّه يمكن أن يكون
لما بالقوة كمال آخر ، ككمال إنسانيّة أو فرسيّة لا يتعلق ذلك بكونه بالقوّة بما
هو بالقوّة ، بل إنّما هو من جهة ما هو بالقوّة.
فإذن ، ليس
يتوارى عن لحظك أنّ أمر الحركة يضاهى أمر الهيولى ؛ فإنّ حيثيّة القوّة فيها
مضمّنة فى حيثيّة الفعليّة. فذات كلّ واحد منهما من حيث هى بالفعل ينطوى فيها
القوّة. وأمّا سائر الأشياء فليس يكون فيها ذلك ، بل غاية ما للحقائق
الجوازيّة غير الهيولى والحركة بأن يكون بالفعل من حيثيّة وبالقوّة من
حيثيّة اخرى ، لا أن يكون لها القوّة من حيث لها الفعليّة. فالفعل هناك فعل والقوّة
، والقوّة فى الهيولى أكثر من القوّة فى الحركة ، وكذلك الفعل أقوى ؛ فإنّ الفعل
فيها هو فعليّة وجودها لذاتها والفعل فى الحركة فعليّة وجودها لموضوعها. فهى كمال وفعل
أوّل للموضوع ، به يتوصل إلى كمال وفعل ثان له. فالّذى هو بالفعل وبالقوّة معا
بحسب الكمال الّذي هو الحركة إنّما هو الموضوع ووجود الحركة فى زمان بين القوّة
المحضة والفعل المحض.
فإذن ، قد ظهر
أنّ أبعد الماهيّات عن الموجود الحقّ الّذي هو الفعل المحض من كلّ جهة «الهيولى» ،
(١٥٤) وأقدس الموجودات عن الهيولى والحركة والزّمان الموجود الحقّ الّذي هو الفعل
المحض والكمال المطلق من جميع الجهات.
<٢٢> مفاوضة واستفضاض
إنّ قوما من آل
برمانيدس ، ومن شايعهم من أصحاب إمام اليونانيّين أفلاطون الإلهيّ ، منعوا كلّ
المنع أن يكون الحركة توصف بالوحدة بل بالهويّة. قالوا : كيف توصف بالوحدة ولا
حركة إلاّ منقسمة إلى ماض ومستقبل ، فيكون لها زمانان.
ومثبتوا وحدة
الحركة يشترطون أن يكون زمانها واحدا ؛ وكلّ واحد فإنّه تامّ فيما هو فيه واحد ، وكلّ
تامّ فهو حاضر ، فإنّ الوجود حاضر الأجزاء إن كانت له ، والحركة لها أجزاء وليس له
وجود قارّ. ونحن قد أوضحنا الحال إيضاحا لا يحقّ أن يلتفت معه إلى هذه الشّكوك.
فكلّ واحدة من
الحركتين القطع والتّوسّط تكون واحدة بالعدد وحدة شخصيّة ، إذا كان الموضوع واحدا
بعينه وحدة بالشّخص فى زمان واحد بعينه فى مسافة واحدة بعينها واحدة بالاتصال ؛
فإنّ كثرة الحركة تتبع كثرة الأشياء الّتي تقيّد الحركة ، كمّا ما ونظائر الأقسام
، وهى هذه الثّلاثة : المتحرك والزّمان وما فيه الحركة.
أمّا الحركة
الّتي هى القطع ، فمن البيّن أنّ المتّصل لا أجزاء له بالفعل ، بل يعرض أن يتجزّأ
لأسباب تقسم المسافة بأحد أنواع القسمة ، فتجعلها مسافات ، أو تقسم الزّمان عند
الوهم إذا قيس المبادى بامور كائنة فيه وغاياتها. فارتسم فيه بحسب تلك الآنات.
فإذا كان
المتحرّك بشخصه واحدا بالعدد والزّمان بعينه واحدا بالاتّصال غير متكثّر بالانفصال
الوهمىّ ومسافة الحركة أيضا واحدة بعينها غير مقطوعة الاتصال كان ما فيه الحركة
واحدا بعينه بالعدد بنفسه ، ويجوز أن يبقى بعد القطع على وحدته العدديّة بعينها من
جهة أنّ له اتّصالا فى نفسه ، كالمسافات الأينيّة. ولذلك يمكن أن يتعاقب متحركات
على مسافة أينيّة بعينها ؛ أو لم يكن وحدته بالعدد ، بحيث يجوز أن يبقى بعد القطع
شيء واحد بالعدد متّصل قارّ ، من حيث إنّ اتّصاله ليس بحسب نفسه ، بل من جهة اتصال
الزّمان ، بل هو نفس اتصال الزّمان والحركة ، وليس هناك اتصال وراء اتصال الزّمان
كمسافات الحركات : الكميّة والكيفيّة والوضعيّة ولذلك لا يمكن أن يتشارك متحرّكان
فى مسافة واحدة بعينها كميّة أو كيفيّة أو وضعيّة على التّعاقب كانت الحركة
المتصلة واحدة بالعدد وحدة شخصيّة البتة. وإذا تكثّر أحد هذه الأشياء تكثّرت
الحركة لا محالة.
وأمّا الحركة
الّتي هى الكمال الأوّل ، أعنى التّوسّط الموصوف ، فمستبين أيضا أنّ وحدة الموضوع والزّمان
وما فيه تقتضى تشخّص ماهيّتها وصيرورتها واحدة بالعدد. فالحركة الواحدة بالعدد هى
التوسّط بين المبدأ والمنتهى لموضوع واحد فى شيء واحد فى زمان واحد ، وهذا أمر موجود
مستمرّ باستمرار ذلك الزّمان.
فإذا افترضت
للمسافة حدود معيّنة فعند وصول المتحرك إلى كلّ واحد منها يعرض لذلك الحصول فى
الوسط الّذي هو الحركة أن يصير حصولا فى ذلك الحدّ بعينه من الوسط ، فصيرورته فى
ذلك الحدّ من الوسط أمر زائد على ذاته الشّخصيّة.
فإذا تجاوز ذلك
الحدّ فقد زال الحصول فى ذلك الحدّ من الوسط وما زال كونه حاصلا فى الوسط ، فلا
جرم تلك الحركة الشّخصيّة باقية بذاتها وإن زال عارض من عوارضها.
ثمّ ليس يمكن
تشافع هذه العوارض ، لاستحالة تشافع الآنات والحدود المسافيّة ، والحصول فى الوسط
مستمرّ بشخصه ويعرضه كلّ عارضين من تلك العوارض على ظرف زمان البتة.
فإذن سقط
التّشكّك : بأنّ الحصول فى الوسط أمر كلّىّ ، فلا يكون واحدا بالشّخصيّة ؛ فإنّ
ذلك التّوسّط إنّما يكون فيه كثرة عدديّة إذا كانت فى المسافة كثرة عدديّة ، حتى
يصحّ أن يقال : إنّ الّذي وجد فى هذا الحدّ من المسافة غير الّذي وجد فى الحدّ
الآخر. لكنّ المسافة أمر متصل واحد ، والقطع والحدود ليست واجبة الحصول فيه ، فما
لم يحصل لم يكن هناك إلاّ مسافة واحدة ، فلا يكون التّوسّط بين طرفيها للمتحرك
الواحد فى الزّمان الواحد إلاّ أمرا واحدا بالعدد.
أليس الشّخصيّ
ما نفس مفهومه يأبى الشّركة فيه ، ونفس مفهوم التّوسّط الموصوف مع وحدّه الموضوع والزّمان
وما فيه وما إليه بأىّ وقوع الشّركة ، فهو إذن أمر شخصيّ. وإمكان فرض الأجزاء فيه
لا يجعله كلّيّة ، أى طبيعة مرسلة ، إذ إمكان فرض الأجزاء فى الشّيء لا يخرجه عن الشّخصيّة
إلى أن يكون طبيعة مرسلة. فالخطّ الواحد بالشّخص يمكن أن يفرض فيه أجزاء كثيرة ،
بل المصير فى كون الشّيء مرسلا ، وكلّيّا إمكان فرض الجزئيّات.
فإذن ، قد
تبيّن أمر وحدة الحركة بالعدد بالمعنيين. فكلّ واحدة من الحركات المستديرة
الفلكيّة ليس علما يكثّرها إلاّ بالعرض ، كالدّورات المتكثّرة بحسب فرض بعينها
مبدءا للدّور. فكما لا يتكثّر الحركة التوسّطيّة إلاّ بتكثّر الموضوع أو المسافة
أو الزّمان ، فكذلك الآن السّيّال أمر شخصىّ بسيط قائم بموضوع الحركة التى هى محلّ
الزّمان ، وهو الجرم الأقصى. ولا يتكثّر الشّخص إلاّ بتكثّر المسافات والأزمنة.
فإذا انقسم
الزّمان بحسب الانفصال فى الذّهن أو تكثّرت مسافات الحركات فى الأعيان أو بحسب
الانفصال الذّهنىّ تكثّر الآن السّيّال بالشّخص تكثّرا ذهنيّا بحسب الانطباق على
الحركات التّوسّطيّة المتكثّرة. وما دامت الحركة التّوسّطيّة
واحدة بالعدد ، فالآن السّيّال واحد بالعدد.
وكما أنّ
اختلاف سائر الحركات المتّصلة غير الّتي هى محلّ الزّمان فى الأعيان واختلاف
مسافاتها أو تكثّرها بحسب الانفصال لا يوجب تكثّر الزّمان المتصل فى نفسه ؛ إذ ليس
ذلك يقطع اتصاله فى ذاته ، بل إنّما يوجب تكثّرا وهميّا فى الزّمان بحسب فصل فيه
مقيسا إلى غيره ، لا فى سنخ ذاته بحسب ذاته ، لا بالقياس ؛ فكذلك سائر الحركات التوسّطيّة
غير حركة الجرم الأقصى فى الأعيان واختلافات مسافاتها ، إذ تكثّر شيء من تلك
المسافات بحسب الانقسام إنّما يوجب تكثّرا شخصيّا فى الآن السّيّال مقيسا إلى تلك
الحركات بالتّطابق ، لا بحسب نفسه ، لا بالقياس.
فطرفا ما فيه
الحركات الفلكيّة كما هى للمبدإ ، وهو الوضع الّذي هو مبدأ الحركة والغاية
المتوجّهة إليها بالحركة ، أى الوضع الّذي هو المنتهى ، إنّما يتعيّنان بالفرض والانتزاع
، سواء ذهبت إلى فلسفتهم اليونانيّة أو اتّبعت حكمتنا الإيمانيّة اليمانيّة : أمّا
فى المنتهى فعلى سبيل واحد ، وأمّا فى المبدأ فعلى طريقة الفلسفة ، للتّمادى إلى
لا نهاية بالفعل وعلى محجّة الحكمة الحقيقيّة ؛ لأنّ عدم التّمادى هناك إلى لا
نهاية بالفعل بحيث يستلزم وجود الآن. وكذلك الحدوث الدّهرىّ ليس بحيث يحق ذلك ،
على ما سيأتيك إن شاء اللّه ، والجرم الأقصى قد خلق متحرّكا ، لا أنّه خلق ثمّ تحرّك.
فلعلّ ذلك هو سبيل الحقّ القويم ، واللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
<٢٣> فرية وبيان
بعض من لم
يستطع إلى الحق سبيله نظر إلى ظاهر ما يوجد فى كتب المشّائين ، كالشفاء وغيره ، ولم
يدرك الغور بتأمل دقيق وتفكّر غائر ، فظنّ أنّ رئيسهم فى عصر الإسلام ومعلّمهم فى
الدّورة السّالفة ومن فى طبقتهما يستنكرون الوجود فى الأعيان للحركة الّتي هى
القطع. ثمّ استمرّ تلك الفرية إليهم فى هذه السّنين المتأخّرة ، فيحقّ علينا أن
نكشف الحال فيه. فلنبيّن قول شيخهم ورئيسهم أبى عليّ بن سينا ؛ فإنّه ناسج على
منوال أقوال السّالفين ، قال :
إنّ الحركة اسم لمعنيين : (١) الأوّل الأمر المستقلّ المقبول المتحرك ما
بين المبدأ أو المنتهى. (١٥٥) وذلك ما لا يحصل بالفعل قائما فى الأعيان ؛ لأنّ
المتحرك ما دام لم يصل إلى المنتهى ، فالحركة لم توجد بتمامها ، بل إنّما يظنّ أنّ
ذلك قد حصل نحوا من الحصول إذا كان المتحرك عند المنتهى ، وهناك يكون هذا المتصل
المفعول قد انقطع وبطل.
فإذن ، كيف
يكون له حصول حقيقىّ فى الوجود. وهذا الأمر بالحقيقة ممّا لا ذات له قائمة فى
الأعيان ، بل إنّما يرتسم ذلك فى الذّهن ، لأنّ صورته قائمة فى الذّهن بسبب نسبة
المتحرك إلى مكانين : مكان تركه ومكان أدركه ؛ أو يرتسم فى الخيال ؛ لأنّ صورة
المتحرّك وله حصول فى مكان وقرب وبعد من الأجسام قد يكون قد انطبعت فيه ، ثمّ يلحق
من جهة الحسن صورة أخرى بحصول له فى مكان آخر وبعد وقرب آخرين. فإذا ارتسمت صورة
كونه فى المكان الأوّل فى الخيال ثمّ قبل زوالها عن الخيال ارتسمت صور كونه فى
المكان الثّاني فقد اجتمعت الصّورتان فى الخيال.
فحينئذ يشعر
الذّهن بالصّورتين معا على أنّهما شيء واحد ، إمّا لأنّ إحدى الصّورتين فقد اتّصلت
بالاخرى ، فحصل أمر ممتدّ منهما شبه اتّصال الماء بالماء وصيرورتهما أمرا ممتدا
واحدا ؛ وإمّا لأنّ حصولهما معا يصير معدّا للذّهن ، لحصول أمر ممتدّ فيه.
فالحركة بهذا
المعنى لا يكون لها فى الوجود العينىّ حصول قائم ، كما فى الذّهن ؛ إذ الطرفان لا
يحصل فيهما المتحرّك فى الوجود معا ، ولا الحالة الّتي لها بينهما لها وجود قائم.
(٢) والثّاني
المعنى الموجود فى الخارج الّذي بالحرى أن يكون الاسم واقعا عليه وأن يكون الحركة
الّتي توجد فى المتحرّك. فهى حالته المتوسّطة حين يكون ليس فى الطرف الأوّل من
المسافة ، ولم يحصل عند الغاية ، بل هو فى حدّ متوسّط. فهذا هو صورة الحركة
الموجودة فى المتحرّك ، أى : التّوسّط بين المبدأ المفروض
والنّهاية بحيث أىّ حدّ يفرض فيه لا يكون يوجد قبله ولا بعده فيه ، كحدّى
الطرفين. فهذه حالة موجودة مستمرّة ما دام الشّيء يكون متحركا. وليس فى هذه الحالة
تغيّر أصلا. نعم ، قد تتغيّر حدود المسافة بالفرض. لكن ليس كون المتحرّك متحرّكا ؛
لأنّه فى حدّ معيّن من الوسط وإلاّ لم يكن متحرّكا عند خروجه منه ، بل لأنّه
متوسّط على حدّ الصّفة المذكورة، وتلك الحالة ثابتة فى جميع ذلك الوسط وهذه
الصّورة توجد فى المتحرك ، وهو فى آن ؛ لأنّه يصحّ أن يقال له فى كلّ آن إنّه فى
حدّ متوسّط لا يكون قبله ولا بعده وفيه. وهذا بالحقيقة هو الكمال الأوّل. وأمّا
إذا قطع فذلك الحصول هو الكمال الثّاني.
والّذي يقال :
من أنّ كلّ حركة ففى الزّمان ، فإمّا أن يعنى بالحركة الأمر المتصل فهو فى الزّمان
، ووجوده فيه على سبيل وجود الامور فى الماضى ، لكن يباينها بوجه آخر ؛ فإنّ
الامور الموجودة فى الماضى قد كان لها وجود فى آن من الماضى كان حاضرا وكانت تلك
حاضرة فيه ، ولا كذلك هذا ، وهو الحركة الّتي يعنى بها القطع ؛ وإمّا أن يعنى بهذا
المعنى الثّاني ، وهو الكمال الأوّل الّذي ذكرناه ، فيكون كونه فى زمان ، لا على
معنى أنّه يلزمه مطابقة الزّمان ، بل على معنى ؛ لأنّه لا يخلو لأنّه من حصول قطع
ذلك القطع مطابقا لا زمان فلا يخلو من حدوث زمان ولأنّه ثابت فى كلّ آن ذلك الزمان
مستمرّا فيه ، فيكون ثابتا فى هذا الزّمان بواسطة». فهذا كلامه ، على مضاهاة قول من سبقه.
فاعلم أنّ ما
راموه بذلك إنّما هو نفي وجود الحركة المتصلة على سبيل قرار الذّات على أن تجمع
أجزاؤها بحسب الوجود فى آن واحد. فذلك لا يصحّ باعتبار الوجود فى الأعيان أصلا ،
بل إنّما يكون بحسب الارتسام فى الذّهن من حيث البقاء دون الحدوث ، على ما قد
انكشف لك ، لا نفي وجودها العينىّ مطلقا ولو فى مجموع الزّمان على سبيل الانطباق
عليه. ولذلك قالوا : لا يجوز أن يحصل بالفعل قائما : فقيّدوا الحصول بالقيام. وهو
قرار الذات. ثمّ قالوا : ولا يكون لها فى الوجود
__________________
حصول قائم ، كما فى الذّهن ، إذ الطرفان. إلى آخر ما ذكر. فنصّوا على أنّ
المنفىّ هو الوجود من حيث يجتمع الطرفان ، كما فى الذهن.
ثم أعلنوا ما
بخواتيم القول ؛ فصرّحوا بأنّ الحالة الممتدّة وجودها فى زمان على سبيل وجود
الامور فى الماضى. فلو لا أنّهم عنوا ما قلناه كانت كلماتهم فى هذا القول مناقضة.
ومن توهّم
الجمع والتّوفيق بأنّ المقصود بهذا الأخير أنّ وجودها فى الخيال على نحو وجود
الأشياء فى الماضى ؛ فقد تجشّم ما لا يكاد يستقيم. ألم تسع فطنته أن يتفطن أنّ
الوجود فى الزّمان لا على قرار الذّات إنّما يتمّ لو كان الوجود غير قارّ والأجزاء
غير محقّقة فى الحدوث والبقاء جميعا. ثمّ كيف يعقل ذلك وصريح ألفاظهم أنّ وجود
الحركة المتصلة فى الأعيان كما يكون فى الذّهن على سبيل اجتماع الطرفين والحالة
الممتدّة بينهما فى آن واحد ، بل إنّما هو فى الزّمان على سبيل وجود الامور فى
الماضى ، فهل يفقه ذو ذهن إنسانىّ من هذا القول أنّه ريم بالوجود فى الزّمان على
سبيل وجود الأمر فى الماضى الوجود الذّهنيّ.
وهل سمعت قطّ
أن يكون ما أضرب عنه بالنّفى وما صيّر إليه بالإثبات واحدا. وليس متجشّم هذا
التّوهّم يسمع قول الشّيخ فى النجاة. فالحركة وجودها فى زمان بين القوّة المحضة والفعل
المحض ، وليست من الامور الّتي تحصل بالفعل حصولا قارّا مستكملا وقول تلميذه فى
التحصيل ، عند سلب الوجود العينىّ عن الحركة الممتدّة وبأنّ أنّها ليست من الامور الّتي
تحصل بالفعل حصولا قارّا مستكملا.
ثمّ أليس شيخهم
ومعلّمهم وجمهور رؤسائهم السّالفين لا يشكّ فيهم أنّهم مجمعون على وجود الزّمان
الممتدّ الّذي هو مقدار الحركة المتصلة وجودا عينيّا ، ولم يوجد فى كتب المشّائيّة
والرّواقيّة ضدّ ذلك ، بل لم يحك عن أحد من الأسلاف والأخلاف إلاّ اتفاق الفلاسفة
الرؤساء والنّجباء المحصّلين عليه. فكيف تكون الحركة المتصلة الّتي هى لمحلّ
الزّمان الموجود فى الأعيان وعلّته ، والحركات الممتدّة المتقدرة به المنطبقة عليه
غير موجودة فى الأعيان.
فإذن ، قد بزع
الحقّ وبطل ما قد نبغ من الظنون الفاسدة وعرف مقصود التلميذ فى التحصيل بقوله : «إنّ
الوهم يتلبّس الحركات المتقضّية باناس يجتاز الواحد منهم إثر الواحد ، فيجتمعون فى
مكان واحد ، وليس الحال فى الحركات كذلك. فليس له ساغ إلاّ نفى الاجتماع فى الوجود
والبقاء».
<٢٤> حكاية تشييديّة
إنّ رئيسهم أبا
عليّ بن سينا ذكر فى طبيعىّ الشفاء جملة الشكوك المقولة فى أمر الزّمان ، فقال : «فمن
جملة هذه الشّكوك وجوب أن يكون للزمان وجود ، اضطرّ كثير من النّاس إلى أن جعل
للزّمان نحوا من الوجود آخر. وهو الوجود الّذي يكون فى التّوهّم». وقال بعد ذلك : والاولى
بها أن ندلّ أوّلا على نحو وجود الزّمان وعلى ماهيّته ، بأن نجعل الطريق إلى وجوده
من ماهيته. ثمّ نكر على هذه الشّبهة فنحلّها».
ثمّ قال فى آخر
الفصل : «وإذ قد أشرنا إلى المذاهب الباطلة فى ماهيّة الزّمان ، فحقيق بنا أن نشير
إلى ماهيّة الزمان ، فيضح لنا من هناك وجوده ، ويتّضح حلّ الشّبه المذكورة فى
وجوده» (١٦٦).
ثمّ عقد فصلا
فى تلك الشّكوك ، فقال بهذه الألفاظ :
«وأمّا الزّمان
فإنّ جميع ما قيل فى أمر عدمه وأنّه لا وجود له ، فهو مبنيّ على أن لا وجود له فى
الآن. وفرق بين أن يقال : لا وجود له مطلقا وبين أن يقال : لا وجود له فى الآن
حاصلا. ونحن نسلّم ونصحّح أنّ الوجود المحصّل على هذا النّحو لا يكون للزّمان إلاّ
فى النّفس والتّوهّم.
وأمّا الوجود
المطلق المقابل للعدم المطلق فذلك صحيح له ؛ فإنّه إن لم يكن ذلك صحيحا له ، صدق
سلبه ، فصدق أن نقول : إنّه ليس بين طرفى المسافة مقدار إمكان لحركة على حدّ من
السّرعة (١٥٦) يقطعها ، وإن كان هذا السّلب كاذبا ، بل كان للحركة على ذلك الحدّ
للحركة على ذلك الحدّ من السّرعة مقدار فيه يمكن قطع هذه المسافة ، ويمكن قطع
غيرها بأبطإ وأسرع ، على ما قد بيّنا قبل.
فالإثبات الّذي
يقابله صادق ، وهو أنّ هناك مقدار هذا الإمكان. والإثبات دلالة على وجود الأمر
مطلقا ، وإن لم يكن دالاّ على نحو وجوده محصّلا فى آن أو على جهة ما. وليس هذا
الوجه له بسبب التّوهّم ؛ فإنّه وإن لم يتوهّم كان هذا النّحو من الوجود وهذا
النّحو من الصّدق حاصلا.
ومع هذا ، فيجب
أن يعلم الموجودات منها ما هى متحققة الوجود محصّلته. ومنها ما هى أضعف فى الوجود.
والزّمان يشبه أن يكون أضعف وجودا من الحركة ومجانسا لوجود امور بالقياس إلى امور
، وإن لم يكن الزّمان من حيث هو زمان مضافا ، بل قد تلزمه الإضافة.
ولمّا كانت
المسافة موجودة ، وحدود المسافة موجودة ، صار الأمر الّذي من شأنه أن يكون عليها ومطابقا
لها أو قطعا لها أو مقدار قطع لها نحو الوجود حتى إن قيل : إنّه ليس له البتة وجود
كذب. فإن اريد أن يجعل للزّمان وجود لا على هذا السّبيل ، بل على سبيل التحصيل ،
لم يكن إلاّ فى التّوهّم.
فإذن ،
المقدّمة المستعملة ـ فى أنّ الزّمان لا وجود له ثابتا ، معناه : لا وجود له فى آن
واحد ـ مسلّمة. ونحن لا نمنع أن يكون له وجود. وليس فى آن ، بل وجوده على سبيل
التكوّن بأن يكون أيّ آنين فرضتهما كان بينهما الشّيء الّذي هو الزّمان ، وليس فى
آن واحد البتة.
وبالجملة ،
طلبهم أنّ الزّمان إن كان موجودا فهو موجود فى آن أو فى زمان ، أو طلبهم متى هو
موجود ؛ ليس يجب آن نشتغل به ، فإنّ الزّمان موجود ، لا فى آن ولا فى زمان ولا له
متى ، بل هو موجود مطلقا ، وهو نفس الزّمان ، فكيف يكون له وجود فى زمان.
فليس إذن قولهم
: إنّ الزّمان إمّا أن لا يكون موجودا أو يكون وجوده فى آن أو يكون وجوده باقيا فى
زمان ؛ قولا صحيحا ، بل ليس مقابل قولنا : إنّه ليس بموجود ، هو أنّه موجود فى آن
، أو موجود باقيا فى زمان ، بل الزّمان موجود ولا واحد من الوجودين ؛ فإنّه لا فى
آن ولا باقيا فى زمان. وما هذا إلاّ كمن يقول : إمّا أن يكون
المكان غير موجود أو يكون موجودا فى مكان أو فى حدّ من مكان. وذلك لأنّه
ليس يجب إمّا أن يكون موجودا فى مكان أو فى جزء مكان ، وإمّا غير موجود ، بل من
الأشياء ما ليس موجودا البتة فى مكان ، ومن الأشياء ما ليس البتة موجودا فى
الزّمان. والمكان من جملة القسم الأوّل ، والزّمان من جملة القسم الثانى. وستعلم هذا
بعد».
فههنا قد نجزت
عبارته. وإنّما تكلّفنا حكايتها بعينها تبرئة لاولئك الأقدمين الأسبقين عن إفكة
هؤلاء المقلّدين المحدثين وتزجية لبضاعة هؤلاء اللاّحقين من صناعة أولئك السّابقين
ليتبصّر من يتوفّى الحكم بالأمر ويختبر من يتحرّى الصّناعة مبلغ كلّ فريق من
العلم، فلا يقتفى المقلّدون أثر هؤلاء المتشكّكين المتهوكين ولا يبق المتعلّمون
بما زاغ ... مغريا إلى السّلف عند هذه الأفّاكين المتهتكين ، فهؤلاء حثالة من
ينتهى إلى هذا العلم وسفالة من ينسب إلى هذه الصّناعة. فما أقلّ خبرهم بعلوم
الأسلاف وما أكثر إصرهم فى غباوة الأخلاف.
<٢٥> تتمة
لا امتراء لك
فى أنّ وجود الامور الماضية فى الزّمان الماضى بحسب وعاء الدّهر وبالقياس إلى
المبدأ القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ مع عدمها فى الحال ، وفى الزّمان
المستقبل بحسب افق الزّمان وبالقياس إلى الزّمانيّات هو الحكم الحقّ العقلىّ والفحص
البالغ الحكمىّ وإخراج الوجود فى الماضى عمّا يقع بحسب الوجود فى الواقع ، شنشنة
الأوهام الضّعيفة العاميّة الّتي ليس لها إلى مندوحة الحكمة من سبيل.
وبالجملة ، نفي
وجود الحركة مطلقا كان من الهوسات الّتي أحدثها فريق من مهوّشة اليونانيين. ثمّ
استحصف بما أحصفه معلّم المشّائيّة ، وإنكار وجود الحركة القطعيّة والزّمان
الممتدّ المنطبق عليها فى الأعيان مع إثبات وجودهما فى الذّهن من
__________________
أحداث الفلاسفة الإسلاميّة فى تشويش الفلسفة قبل الاستواء ، قد انمحى بعد
استواء أمر الفلسفة فى زمن الرّؤساء.
وأمّا استنكار
وجودهما فى الأعيان مطلقا ، مع الاعتراف بالوجود العينىّ للحركة التّوسّطيّة والآن
السّيّال واقتضاء ذلك حدوث ارتسام الحركة المتصلة والزّمان الممتدّ فى الذّهن
تدريجا واجتماع أجزائهما بحسب البقاء هناك فى آن واحد على أن يستحيل الحصول لا على
قرار الذّات لهما فى الأعيان ، فهو قول قد حدث وصار من أحداث المتفلسفة المتأخّرة
فى هذه السّنين الأخيرة ، ثمّ انمحق وانمحى فى زمننا بمحاولتنا طبخ الفلسفة ونضج
الحكمة الحقّة الخالصة ، والحمد للّه ربّ العالمين.
<٢٦> ردع تنبيهيّ
أما أنت من
الموقنين ، بعد ما قرّر عليك ، أنّ الحقيقة المتغيّرة المتجددة بذاتها إنّما هو
حقيقة الزّمان ، فليس شيء غير الزّمان هو غير قارّ الذّات بذاته ، ولا يتصف شيء
بالمضىّ والاستقبال بالذّات إلاّ الزّمان. فإذا عرض له انقسام ، والفرض فيه أن
اتّصف أحد القسمين بالمضىّ بذاته بالقياس إلى ذلك الآن والآخر بالاستقبال بذاته
بالقياس إليه ، والمجموع بلا قرار الذّات فى الوجود. وأمّا الحركة فإنّما هى غير
قارّ الذّات بحسب الوقوع فى الزّمان الماضى ولا يتّصف شيء منها بالمضىّ إلاّ
بالاعتبار بالوقوع فى الزّمان الماضى ولا بالاستقبال إلاّ من جهة الحصول فى
الزّمان المستقبل. فالماضى إمّا بذاته وهو الزّمان وإمّا بالزّمان وهو الحركة وما
فيها وما معها.
فإذن حقيق بك
أن ترتدع عمّا يظنّ أتباع الرّواقيّة ، تارة : أنّ ما يجب فيه التّقضّى والتّجدّد
بحسب سنخ ماهيّته من حيث هى هى الحركة إنّما هو الحركة ؛ وتارة : أنّ التّجدّد
لماهية الحركة بنفس ذاتها والتّقضّى لها بالزّمان ؛ وتارة : أنّ الزّمان والحركة
متّحدان بالذّات متغايران بالاعتبار ، فقد اضطرب نظره أشدّ الاضطراب.
<٢٧> استيفاء
إنّ بعض رؤساء
الفلسفة الإسلاميّة يذهب إلى أنّ كلّ ما حصل من الزّمان الممتدّ والحركة المتصلة
فى الأعيان تدريجا فقد تمّ وجوده فى الماضى وهو شيء واحد متصل فى نفسه، وهو من حيث
ذاته بحيث لو انفصل إلى الأجزاء كانت تلك الأجزاء غير قارّة الوجود حدوثا وبقاء.
فإذا عرضت قسمة
وتعيّن بحسبها آن حصل قسمان : أحدهما ماض بذاته بالقياس إلى الآن والآخر مستقبل
بذاته بالقياس إليه. وكلاهما من المتصل الوحدانىّ الّذي قد فرض وجوده فى الماضى.
فهذا ما يعنى باتصال الماضى والمستقبل وليس فيه اتصال الموجود بالمعدوم أصلا.
أليس كلّ منهما
جزءا من الّذي قد تمّ حصوله ولكن لا حصولا قارّا. وأمّا المستقبل الّذي هو فى كتم
العدم الصّرف بعد ، فليس هو المستقبل الّذي يقال إنّه جزء من الزّمان المتصل
الموجود. وكيف يكون ما لم يدخل إلى الوجود بوجه جزءا من الّذي قد تمّ حصول الوجود
له بوجه. فإذن ، الزّمان الممتدّ الموجود إنّما هو ماض ووجوده ليس إلاّ فى الماضى.
ثمّ هذا
الموجود فى الماضى إذا انفرض فيه آن انفصل إلى ماض ومستقبل بالقياس إلى ذلك الآن وجميع
أجزائه متضايفة بحسب الحضور عند المبدأ. وهو من هو أدقّ تأمّلا وأوسع تعقّلا من
هذا البعض منهم يرى أن مبدع الكلّ قد أوجد الزّمان المتصل من أزله إلى أبده.
وكذلك الحركة
بل جملة مقارناتها دفعة واحدة فى وعاء الدّهر الّتي يلفمها لفما الوهم، وهى
الدّفعة الواحدة الزّمانيّة الّتي إنّما تكون بحسب الاجتماع فى آن واحد ، بل الّتي
هى وراء الأوقات (١٥٧) والأوهام. وإنّما هى بحسب أصل الحصول فى وعاء الدّهر وبحسب
إحاطة المبدع الجاعل بالكلّ على نسبة واحدة غير متعدّدة ، وإيجاده للجميع بالإخراج
من كتم اللّيس الصّرف فى الواقع على الاعتزال
من التّمادى واللاّتمادى إلى صقع الأيس الدّهرىّ لا فى زمان ولا فى آن. ثمّ
المضىّ أو الاستقبال إنّما يكون للبعض بالقياس إلى البعض بعد فرض انفصال ذلك المتصل
، لا بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر ولا بحسب الإضافة إلى الجاعل ، وهو بكلّ شيء
محيط.
وعلى هذا
المسلك أيضا ليس يلزم أن يتصل المعدوم بالموجود بحسب الواقع مطلقا ؛ لأنّ المستقبل
غير موجود فى افق الزّمان مقيسا إلى الماضى وإلى الحال ، لا أنّه بحسب الوجود
الاستقبالىّ معدوم فى وعاء الدّهر ولا أنّه يتخلّف عن الماضى من جهة الوقوع فى
وعاء الدّهر ومن حيث الحضور عند الوجود الحقّ.
فإذن ، ليس
الزّمان الممتدّ الموجود فى وعاء الدّهر هو الماضى بالنّسبة إلى الحال فقط ، بل هو
المتصل المنحلّ إليه وإلى المستقبل أيضا بالقياس إلى الحال وإن لم يكن المستقبل
موجودا فى افق الزّمان بعد. فليس يجب أن يكون المعدوم فى افق الزّمان بعد معدوما
فى وعاء الدّهر أيضا بعد. بل إنّ ذلك متخيّل بالنّظر إلى طباع وعاء الدهر. فليس
هناك ماض واستقبال. فهذا هو المذهب الوثيق ، ومعلّم المشّائيّة تامّ التّوغّل فى
الانسباق إليه.
وأمّا شيخ
فلاسفة الإسلام أبو عليّ بن سينا وكذا بعض من يعدّ من أترابه ، فمرّة يجنج إلى
الأوّل ، وذلك فى العلوم الطبيعيّة ، ومرّة يلتزق بهذا المذهب الأخير الّذي هو
سواء السّبيل. وذلك فى العلوم الإلهيّة. قال فى طبيعىّ الشفاء ، حيث عقد فصلا فى
حلّ الشّكوك الموردة على كون الحركة واحدة :
«أمّا قول
اولئك : «أن لا حركة إلاّ وهى منقسمة إلى ماض ومستقبل» ، فهو غير صحيح. فإنّك تعلم
أنّ الحركة الّتي هى الكمال الأوّل ليست ممّا ينقسم إلى ماض ومستقبل ، بل هى دائما
بين ماض ومستقبل. وأمّا الحركة الّتي هى بمعنى القطع فلا تحصل حركة وقطعا إلاّ فى
زمان ماض ، ومع ذلك : فإن كانت الحركة تنقسم إلى ماض ومستقبل فإنّها تنقسم بالقوّة
؛ فإنّه إذا فرض فى الزّمان الّذي يطابقها آن عرض لها أن تنقسم، لا أنّ يكون حاصلا
بالفعل. وبالجملة ، فإنّها إذا انقسمت فإنّما
تنقسم بالفرض ، ولأجل انقسام الزّمان أو انقسام المسافة. وإنّما الشّرط فى
وحدة الحركة هو أن لا يكون زمانها ومسافتها منقسمين بالفعل لا أن يكونا بحيث لا
ينقسم لا بالفعل ولا بالقوّة ، بل ولا هذا شرط فى وحدة الكميّات وكثير من الأشياء.»
(ص ٢٧٢).
وفى إلهىّ
الشفاء وسائر كتبه الإلهيّة يبسط القول فى المسلك الآخر الّذي هو سبيل التّحصيل
على الوجه الأوفى والنّظر الأصفى.
وبالجملة ،
المضىّ والاستقبال وكذلك الحاليّة إنّما يصحّ للمتغيّرات بحسب الوقوع فى افق
التّغيّر ، لا بحسب النّسبة إلى ما يتصوّر فيه التّغيّر بوجه من الوجوه أصلا. وليس
للعقل ما دامت صحابة بينه وبين الوهم أن يكتنه ذلك. وأمّا نحو حضور جملة الزّمان
مع جميع ما فى افق التّغيّر عند المبدأ الموجود الحقّ ـ جلّ ذكره ـ دائما على سبيل
واحد ونسبة فليس للعقول الإمكانيّة المستأنسة بالزّمانيّات أن تعقل شانه كنها وتحيط
بأمره خبرا ، وإنّما لها أن تتعرف بالبرهان أنّ ذلك ليس حضورا زمانيّا ، بل هو
وراء ما يفقهه الجمهور من الحضور.
<٢٨> استيناف استنتاجيّ
ألست إذا تقرّر
لديك أنّ الزّمان بهويّته الامتداديّة من الأزل إلى الأبد على قوانين الفلسفة ومن
أزله إلى أبده على حصول الحكمة الحقيقيّة واحد شخصىّ موجود فى وعاء الدّهر هو لا
تكثّر فيه إلاّ بحسب ما يعرض له من الانفصال فى الأوهام لأسباب مؤدّية إلى
انقسامات وهميّة. وليس يستضرّ بذلك وحدانيّته وشخصيّته فى نفسه بحسب الأعيان. وكذلك
الحركة.
ثمّ إذا عرضت
قسمة وفرضت منهما أجزاء كانت تلك الأجزاء متعاقبة الحدوث والبقاء بحسب الوقوع فى
افق التغيّر وبقياس البعض إلى البعض وباعتبار النّسبة إلى الآن. وهذا شأنها بحسب
الوجود الّذي هو حصول الشّيء المتغيّر فى نفسه عند حدّ بعينه من حدود التّقضّى والتّجدّد.
وما بحسب الثّبوت الرّابطىّ ، أعنى
وجودها لبارئها وحضورها عنده وبالنّسبة إلى المرتفع عن كدرة المادّة ، كضرب
من ملائكة اللّه المقرّبين ، بل بحسب الوجود الّذي هو حصول الشّيء باعتبار الوقوع
فيه فى وعاء الدّهر، فليس بينها تعاقب أصلا ولا بين الزّمانيّات مطلقا ، بل إنّها
قاطبة سواسية الأقدام فى ذلك الحضور ومتضاهية الأحكام بحسب ذلك الحصول.
فقد تفقّهت أنّ
الموجود الغير القارّ إنّما يكون لذاته ووجوده وصفا للاّقرار حدوثا وبقاء إذا لوحظ
بحسب الوقوع فى افق التقضّى والتّجدّد بما هو متقضّ متجدّد. وأمّا إذا اعتبر بحسب
الوقوع فى وعاء الدّهر والحضور عند مبدع الكلّ وبالنّسبة إلى المراتب المرتفعة عن
الوقوع فى افق الزّمان ، فهو قارّ الذّات على أنّ لذاته ووجوده وصف اجتماع الأجزاء
المفروضة فى الحضور والتّحقّق ، لا اجتماعا فى زمان أو آن ، بل فى أصل الوجود
الّذي لا يعقل فيه امتداد فى زمان أو اختصاص بآن واحد. فقرار الذّات على هذا الوجه
ليس مقابلا للاّقرار الذّات على ذلك الوجه ؛ فإنّ قرار الذّات قد اعتبر فيهما
بمعنيين مختلفين ، فأوجب أحد المعنيين وسلب المعنى الآخر.
فإذن ، الموجود
يغاير الغير القارّ فى نفسه على معنى أنّ أجزاءه المفروضة غير واقعة فى حدّ بعينه
من حدود التّقضّى والتّجدّد قارّ فى وعاء الدّهر وعند الموجود الحقّ على معنى أنّ
تلك الأجزاء متحققة حاضرة معا لا فى زمان ولا فى حدّ ، بل معيّنة خارجة عن الشّيء
بحسب الاقتران فى حدّ ، والموجود الحقّ يعلم أنّ القارّ عنده وفى وعاء الدّهر على
المعنى الخارج إدراكه عن طور طاقة الوهم غير قارّ فى افق التقضّى والتّجدّد على
المعنى الّذي يتعرفه الجمهور.
وكذلك حال
المرتسم فى المشاعر الذّهنيّة والخياليّة من الحقيقة الغير القارّة أو حدوث
ارتسامه على التّدريج السّابق إلى ما فى نظر افق الزّمان وبحسب ذلك يوصف بعدم قرار
الذّات من جهة الحدوث فقط دون البقاء.
وأمّا بالنّسبة
إلى الحضرة القدسيّة والجنّة الفردوسيّة وبحسب الوقوع فى وعاء الدّهر فليس إلاّ
قارّ الوجود ، حاضر الأجزاء بالمعنى الأدقّ من متصوّرات الجمهور.
فإذن ، قولهم :
إنّ ما يتجدّد من الزّمان فإنّما يوجد على سبيل وجود الامور فى
الماضى ، يعنى به أنّه يتمّ وجوده التّدريجىّ فى نظر افق الزّمان ويبقى
وجوده القارّ فى وعاء الدّهر ، فقط ، بمعنى أنّه لا يرتفع عن الواقع ، لا بمعنى
البقاء الّذي يكون بحسب استمرار الوجود فى الزّمان وغير الزّمان إذا وصف بالمضىّ
فإنّما يقصد أنّه متعيّن الوجود بأنّه فى شطر مخصوص أو حدّ معيّن من الزّمان معنى.
والماضى بذاته إنّما هو زمان. وأمّا الحركة وسائر الأشياء فإنّما تتصف بالمضىّ
بحسب مقارنة الزّمان ، لا بالزّمان.
<٢٩> استيناس تنظيريّ
أما أسمعناك :
أنّهم يقولون : أنّ للمنتسب إلى الزّمان اسوة فى الأحكام بالمنتسب إلى أحكام
المكان من سبب مضاهاتهما اللّذين هما المنسوب إليهما. فإذن التاث عليك وحدّثك فى
الحكم بأنّ الزّمان قارّ الذّات والوجود باعتبار الحصول فى وعاء الدّهر (١٥٨) غير
قارّ الذات والوجود باعتبار قطر امتداده الّذي يوافق وجود الزّمانيّات ، فاعتبر
الأمرين أنّ الجسم المتصل بعد قارّ الذّات من حيث تجتمع أجزائه بحسب الوجود فى افق
الزّمان ، فيحصل معا فى آن واحد وفى زمان واحد وإن لم يكن هى حاضرة باعتبار نسبة
وجودها إلى وعاء المكان بحيث يصحّ أن يجتمع فى حدّ من حدوده.
فأجزاء الجسم
المتمكن إذا كانت شاعرة بأنفسها مدركة لأمكنتها كانت طامة أنّ أمكنتها غير قارّة
الذّات ، لكونها غير مقترنة بحسب الحصول فى أقطار الامتداد المكان الّذي هو وعاء
جملة المكانيّات من حيث إنّ أجزاء المكان غير جائزة التّحقق فى حدّ واحد ، وإن
كانت قارّة الذّات والحصول بحسب الوقوع فى قطر امتداد الزّمان الّذي هو افق وجود
جملة الزّمان ولا شطط.
فقد اختلف
الشأن بحسب اختلاف الموقعين ولا قرار الذّات من جهة سلب الماهيّة المكانيّة وقرار
الذّات من جهة إثبات المعيّة الزّمانيّة ، فكذلك غير قارّ الوجود وفى قطر افق
الزّمان قارّ الحصول فى وعاء الدهر. ولا شطط
فقد اختلف الطور بحسب اختلاف المشرعين ولا قرار الذّات فى الوجود من جهة
سلب المعيّة المتعدّدة الزّمانيّة وقرار الذّات فى الوجود من جهة إثبات المعيّة
الغير المتعددة الدّهريّة.
فإذن ، الزّمان
سبيله بحسب الزّمان سبيله بحسب وجود فى نفسه فى وعاء الدهر ، لا فى زمان ولا فى آن
سبيل المكان بحسب وجود فى نفسه لا فى مكان ولا فى حدّ. والحركة القطعيّة بما فيها وما
معها من الأشياء الزّمانيّة بحسب وجودها فى مجموع زمان ما ، لا فى شيء من أجزائه
أو حدوده ، كالمتمكن بحسب الوجود فى مجموع مكان ما ، لا فى جزء من أجزائه أو حدّ
من حدوده ، والآنات بما يتخصص بها من الآنيّات ، كحدود المكان بما ينطبق عليها من
حدود المتمكن.
<٣٠> استنارة عقليّة
أما كان قد صار
عندك من المستبين أنّ المعلول بحسب نفسه ليس إلاّ فى بقعة الجواز المحض. ولا
فعليّة ولا وجود لذاته إلاّ بجعل الجاعل ، وإنّه قد يكون بحيث لا يتعلّق وجوده
بزمان أو آن ، وقد يتعيّن بأن يكون وجوده فى آن أو فى زمان أو فى جميع الأزمنة. والّذي
لا يتعلق وجوده بزمان أو آن يجعله الجاعل فى وعاء الدّهر لا فى زمان ولا فى آن. ويمتنع
ارتفاعه بعد الوجود فى وعاء الدّهر ، لا بالذات ، بل بسبب إيجاب الجاعل. فله بقاء
دهرىّ غير زمانىّ لا يعقل فيه استمرار ولا لا استمرار ، بل إنّما معناه عدم بطلان
الوجود الواقع فى وعاء الدّهر.
وإنّما وقوعه
فى وعاء الدّهر بجعل الجاعل البتة ، فيكون بقاؤه الدّهرىّ الغير المتعدّد لا محالة
بالجعل ، ويستحيل انبتات الجعل فى وعاء الدّهر ، وإلاّ لزم امتداد فى وعاء الدهر ،
وهو محال.
فإذن ، يكون
للمعلولات الدّهريّة بقاء دهرىّ غير زمانىّ لا ينبتّ فى وعاء الدّهر. وذلك مستفاد
من تلقاء الجاعل حيث يجعلها جعلا غير منبتّ فى وعاء الدّهر بتّة.
وأمّا ما يتعلق
وجوده بالزّمان : فإن تعيّن بالوقوع فى آن فلا يكون له بقاء زمانىّ وإن تعيّن بأنّ
حصوله فى زمان أو فى جميع الأزمنة ، فيكون لا محالة له بقاء زمانىّ مستمرّ فى جميع
الأزمنة ، وهو الأبدىّ أبديّة زمانيّة ، أو متخصّص بزمان ما منقطع فيما بعده من
الأزمنة ، وهو الحادث المنبتّ الوجود.
ثمّ أما أنت قد
تحصّلت أنّ طباع الجواز وهو المحوج إلى الجاعل لا ينسلخ عنه المعلول فى حال ما من
الأحوال أصلا ، فالبقاء الزّمانىّ إنّما يتصوّر باستمرار الجعل على معنى أنّ
الجاعل يجعل ذات المعلول فى جملة زمان البقاء الّذي هو متصل واحد شخصىّ. فإذا
انحلّ ذلك الزّمان إلى أجزاء وانفرضت فيه حدود حكم العقل بوجوب استناد المعلول الباقى
فى كلّ من تلك الأجزاء والحدود إلى ذلك الجعل بعينه ، فيكون ذلك الجعل فى جميع تلك
الأجزاء والحدود واحدا بعينه بحسب الذّات متكثّرا بحسب النّسبة إلى تلك الأزمنة والآنات.
فإذن ، يجب أن
يتصل إفاضة الجاعل آنا فآنا حتّى يتصوّر استمرار بقاء المعلول. فإذا انقطع اتصال
الإفاضة من تلقاء الجاعل بطل بقاء ذات المعلول ، لا بمعنى أنّ فعليّته الحاصلة فى
زمان البقاء قد ارتفعت وبطلت ، بل بمعنى أن الجاعل لم يفعله فيما بعد زمان البقاء
، فلم يحدث له تقرّر بعد ذلك الزّمان. فرجع إلى بطلانه الأزلىّ. فالجاعل مهما نزع
ذات المعلول الزّمانىّ من كتم اللّيس الأزلىّ فى زمان ما. فقد بطل بطلانه وحدث
تقرّره فى ذلك الزّمان.
فإذا ودّعه على
البطلان الأزلىّ والليس الطبيعىّ فيما بعد ذلك الزّمان انبتّ بقاؤه وانقطع
استمراره ولم يتجدّد له تقرّر بعد زمان البقاء. فإذن ، ينقطع تجدّد التّقرّر ، لا
أنّه يرتفع التقرّر المتجدّد الّذي قد تمّ تجدّده وحصوله. فعند انتهاء زمان البقاء
ينتهى الاقتضاء الموجب تجدّد تقرّر المعلول ، فيصير المعلول باطل الذّات ؛ لأن
تقرّره فى الزّمان الثّاني لم يتجدّد ، لعدم تحقّق ما يجب معه اقتضاء الجاعل.
فإذن ، يكون
العدم بعد زمان البقاء كالعدم الأزلىّ الّذي كان للمعلول أوّلا قبل زمان الحدوث ، وسبيله
سبيله ، حيث يسنده العقل إلى عدم آخر هو عدم ما يوجب
اقتضاء الوجود. وهكذا إلى حيث يتمادى لحاظ العقل. وليس يلزم من ذلك أن
يتمادى الأمر إلى لا نهاية بالفعل ، ولا أن يكون فى العدم بما هو عدم كثرة متحققة
أصلا ، على ما حقّقناه لك فيما سلف.
وأيضا قد كنت
استوضحت من قبل ، فاتّضح لك أنّ الضّرورة بحسب المحمول لا يمكن أن تبطل بعد الحصول
أبدا وإن كانت هى وجوبا بالغير. وإنّما سبيل بطلانها أن لا تتحقق أزلا وأبدا أصلا
؛ فإنّها إن تحققت وقتا ما من الأوقات فلا ترتفع بعد ذلك الوقت على معنى أن يتجدد
ارتفاعه فى ذلك الوقت.
أليس الوجود
الحاصل فى وقت بعينه دون سائر الأوقات إن ارتفع بعد الحصول على أن يتجدّد ارتفاعه.
فإمّا أن يرتفع فى ذلك الوقت بعينه وإمّا أن يرتفع فى وقت آخر بعد ذلك الوقت. والأوّل
محال ، لأنّه يستلزم أن يجتمع الوجود والعدم فى ذلك الوقت بعينه ، فيكون فيه
اقتران المتناقضين. والثّاني غير معقول فى نفسه ؛ لأنّه لم يكن فى وقت آخر غير ذلك
الوقت حاصلا أصلا حتى يتصوّر أن يتجدّد ارتفاعه فيه.
فإذن ، قد
انصرح لديك من سبيلين أنّه كما ليس يتصوّر عدم طار فى وعاء الدّهر فكذلك لا يصحّ
عدم طار فى افق الزّمان. ولكنّ الجهة فى ذلك مختلفة ؛ فإنّ العدم الطارئ إنّما لا
يعقل فى وعاء الدّهر ، لعدم انقطاع الوجود الحاصل فيه بتّة. وإنّما لا يصحّ فى افق
الزّمان ؛ لأنّ العدم الطّارئ فيما يعرضه انقطاع الوجود فى افق الزّمان ، مرجعه إلى
عدم تحقّق الوجود فى زمان ذلك العدم. وهو عدم أزليّ مستند إلى عدم علّة الوجود فى
ذلك الجزء من الزّمان ، لا إذا رفع الوجود فى زمان الوجود ، فيشتمل على التّناقض.
فإذن ، الوجود
المتحقق فى افق الزّمان لا يرتفع فى وعاء الدّهر ولا يحدث ارتفاعه فى افق الزّمان
، بل إنّما لا يحدث فيضان التقرّر والوجود عن الجاعل فيما بعد ذلك من الأزمنة، وبينهما
فرقان مبين.
<٣١> تذييل فيه إعضال وتحصيل
كأنّك الآن
تأهّبت أن تستيقن أنّه لمّا كان الوجود من حيث هو وجود ليس يتصف بالامتداد واللاّامتداد
(١٥٩) بل إنّما من حيث مقارنة الزّمان وطرفه. وكذلك العدم ، فلا يمكن ارتفاع
الموجود الزّمانىّ المنقطع الوجود عن وعاء الدّهر ؛ لأنّه إنّما ينقطع من حيث
مقارنته لزمان معيّن دون غيره ، فلا يكون ممتدّا مستمرّا فى غير ذلك الزّمان.
فهو ، إذن ،
إنّما يرتفع من حيث الاستمرار ، فلا يستمرّ فى الأزمنة الّتي هى بعد زمان وجوده.
فليس هو يرتفع عن الواقع من حيث هو وجود فى الواقع ، بل إنّما يرتفع من حيث هو
مستمرّ. وإنّما كان يرتفع عن الواقع رأسا لو كان يرتفع عن زمان الوجود أيضا ، وهو
محال ؛ وإلاّ لزم التّناقض. فإذن ، انقطاع الوجود لا يتصوّر إلاّ للحوادث الزّمانيّة
وبحسب افق الزّمان.
وأمّا العدم ،
فهو يرتفع عن وعاء الدّهر. وذلك لأنّ الجائزات الغير الزّمانيّة كانت باطلة معدومة
فى الواقع عدما هو ليس صرف غير ممتدّ وغير غير ممتدّ ؛ ففعلها جود الجاعل وأبدعها
صنعه. فارتفع ذلك البطلان والعدم عن الواقع بالمرّة إذا لم يكن ذلك العدم زمانيّا
حتّى يصحّ أن يقال : إنّه لم يرتفع عن زمانه ، بل إنّما هو مرتفع فى زمان آخر بعد
ذلك الزّمان. وذلك ليس ارتفاعها ذلك عن الواقع ولا هو انقطاع فى وعاء الدّهر وإن
كان ارتفاعا عن بعض الأزمنة وانقطاعا فى افق الزّمان ، على قياس ما تلى عليك فى
وجود الزّمانىّ ، بل كان عدما صريحا وبطلانا ساذجا غير متعلق بالزّمان أصلا ، بل
هو عدم الزّمان والزّمانيّات وجملة الجائزات جميعا وغير متصوّر فيه الامتداد واللاّامتداد
بوجه من الوجوه.
فلا يعقل حصول
التقرّر والوجود الّذي لا يتصوّر فيه أن يتعلق بزمان أو آن أو بجملة الأزمنة ولا
أن يكون مستمرّا استمرارا زمانيّا أو دفعيّا دفعيّة آنيّة فى الواقع وفى وعاء
الدّهر للمعلولات الدّهريّة الغير الزّمانيّة إلاّ بأن يرتفع ذلك البطلان
والعدم عن الواقع بالمرّة ، أى : عن نفس الأمر رأسا. وإلاّ لزم أن يكون
الشّيء الغير الزّمانىّ باطلا ومتقرّرا معدوما موجودا فى وعاء الدّهر معا معيّة
دهريّة ، وهو مستحيل وفطرىّ الاستحالة. وكذلك سبيل القول فى غير الحوادث
الزّمانيّة من الزّمانيّات الموجودة.
وأمّا الحوادث
الزّمانيّة فإنّ فيها إشكالا عسرا صعبا قد عضّل الأمر تعضيلا عظيما وعقّد البحث
تعقيدا عويصا. وهو : أنّه يلزم من ذلك التّبيان أن يكون حدوثها بارتفاع عدمها عن
الواقع رأسا ، وهو معنى ارتفاع العدم عن وعاء الدّهر ، مع أنّ الدّليل القائم على
أنّ الوجود الزّمانىّ المنقطع فى افق الزّمان لا يرتفع عن الواقع رأسا ، لعدم
ارتفاعه عن زمانه ، بل إنّما عن الزّمان الّذي هو بعد ذلك الزّمان. فقد ناهض بعينه
هناك ؛ فإنّ الحادث الزّمانىّ إن ارتفع عدم عن الزّمان الّذي هو قبل زمان حدوثه
لزم وجوده فى ذلك الزّمان الّذي هو زمان العدم ، فيلزم التّناقض فى القول واجتماع
المتناقضين فى ذلك الزّمان وإن لم يرتفع عدمه عن ذلك الزّمان ، بل إنّما عن زمان
الوجود فقط ، فلم يكن مرتفعا عن الواقع وفى وعاء الدّهر ، بل إنّما ينقطع استمراره
فى افق الزّمان ، كما الوجود من غير فرق بينهما.
فحقيق بنا أن
نبسط أيدي عقولنا ، سائلين من ربّنا العليم الحكيم فكاك الأمر من هذه العقدة
القرّاعة ، مبتهلين إليه فى المسألة ، ملحّين فى الضّراعة. فنقول وباللّه الاعتصام
:
ألم يقرع سمعك
أنّ تحقّق الطبيعة يكون بتحقّق فرد ما من أفراد تلك الطبيعة ، وارتفاعها لا يكون
إلاّ بارتفاع جميع الأفراد ، وأنّ العدم هو رفع تحقّق طبيعة الوجود ولا تحقّق
طبيعة ذلك الرّفع ؛ فاستشعر أنّه إذا حصل الوجود للحادث فى زمان ما بحسب الواقع
تحقّق مطلق الوجود له فى الواقع.
فبطل ، إذن ،
صدق عدمه فى الواقع ، وهو رفع طبيعة وجوده فى وعاء الدّهر وإن صدق عدمه فى زمان ما
، وهو طبيعة الوجود عنه فى ذلك الزّمان ، وهو زمان قبل الحدوث.
فقد دريت أنّ
طبيعة الوجود فى وعاء الدّهر أعمّ تناولا من الوجود فى الواقع باعتبار الوقوع فى
ذلك الزّمان بعينه أو الوجود فى الواقع بحسب الوقوع فى زمان آخر والوجود فى الواقع
بحسب الحصول لا فى زمان وفى آن. ويكفى لتحقّق الطبيعة تحقّق فرد ما.
فإذن ، العدم
فى زمان ما بخصوصه فقط ليس عدما دهريّا ولا هو مستلزم له ، لجواز تحقّق الوجود فى
وعاء الدّهر بحسب الوقوع فى زمان آخر. فهو أعمّ منه بحسب التّحقّق. بل إنّ العدم
فى جميع الأزمنة أيضا غير مستلزم للعدم فى وعاء الدّهر ، لجواز أن يكون الشّيء غير
زمانىّ ، فيوجد فى وعاء الدّهر ولا يوجد فى شيء من الأزمنة ، بخصوصه ولا لا بخصوصه
ولا فى جميع الأزمنة. والمقابل للوجود فى وعاء الدّهر هو العدم فى وعاء الدّهر ،
لا العدم فى زمان ما بخصوصه أو لا بخصوصه أو فى جميع الأزمنة.
فإذا حقّقت ذلك
، فاعلم أنّ كلّ حادث زمانىّ فهو حادث دهرىّ أيضا ، وأنّ له أنحاء الحدوث الثّلاثة
جميعا : الحدوث الذّاتىّ والحدوث الدّهرىّ والحدوث الزّمانىّ ؛ وله بحسب الحدوث
الدّهرىّ المسبوقيّة بالعدم فى وعاء الدّهر ، وبحسب الحدوث الزّمانىّ المسبوقيّة
بالعدم الزّمانىّ ؛ فإنّ لعدمه الّذي هو قبل زمان الحدوث اعتبارين : اعتبار أنّه
عدم ذلك الحادث فى الواقع بما هو عدمه من غير أن يلحظ له امتداد أولا امتداد ، وهو
بهذا الاعتبار عدم فى وعاء الدّهر ؛ واعتبار أنّه مقارن لزمان قبل زمان الحدوث ؛
لأنّ ذلك الحادث زمانىّ متخصص الوجود بزمان ما ، فيكون لا محالة غير متحقق الوجود
قبل زمان الحدوث ، فيكون عدمه أيضا بحسب ذلك زمانيّا واقعا فى الزّمان القبل. وهو
بهذا الاعتبار عدم فى افق الزّمان. وكذلك وجوده الحادث يجرى فيه الاعتباران بحسب
اللّحاظين : لحاظ سنخ طبيعة الوجود بما هو وجود فى الواقع ولحاظ أنّه عرض له أن
يتخصص بزمان ويمتدّ بامتداده.
فإذن ، وجود
الحادث الزّمانىّ فى زمان وجوده يستلزم بطلان عدمه فى وعاء الدّهر من حيث حصوله
فيه ، إذ تقرّر أحد المتقابلين يستلزم بطلان الآخر
ولا يستلزم بطلان عدمه فى افق الزّمان إلاّ فى زمان وجوده ، لا فى زمان قبل
زمان الحدوث ؛ فإنّ افق الزّمان ينقسم ، فلا يتقابل الوجود فى بعض منه والعدم فى
بعض آخر ، ولا كذلك وعاء الدّهر ؛ فيكون الوجود فيه ببطلان العدم فيه ، والعدم فيه
ببطلان الوجود فيه بتّة.
ولذلك ما إنّه
إذا حصل الحادث الدّهرىّ بالوجود الدّهرىّ الغير الزّمانىّ وبطل عدمه فى وعاء
الدهر لم يتصور عدمه مرّة اخرى ببطلان ذلك الوجود الواقعىّ فى وعاء الدّهر ، وإلاّ
لزم فى وعاء الدّهر الامتداد وصحّة الانقسام ، فيلزم أن ينقلب وعاء الدّهر افق
الزّمان. وهو خلف باطل.
فإذن ، قد
انصرح أنّ الوجود يكون طاريا والعدم لا يكون طاريا أصلا ؛ وانكشف لك سرّه ، واقترّ
أنّ العدم فى بعض الأزمنة ليس ينافى الوجود فى وعاء الدّهر ؛ إذ الوجود فى وعاء
الدّهر أعمّ تحقّقا من الوجود فى زمان ما أو فى جميع الأزمنة ومن الوجود الواقع لا
فى زمان ما ولا فى جميع الأزمنة والعدم فى وعاء الدّهر تحقّقا أخصّ من العدم فى
افق الزّمان ، أى : فى زمان ما أو فى جميع الأزمنة ، لجواز كون المعدوم فى وعاء
الدّهر غير زمانىّ ، وأنّ الوجود فى بعض الأزمنة بالفعل ينافى العدم فى وعاء
الدّهر.
فإذن ، الوجود
إنّما يصحّ أن يبطل استمراره ، لا سنخه والعدم يبطل (١٦٠) سنخه واستمراره. والجاعل
إنّما يبدع الحادث الزّمانىّ من حيث إنّه حادث دهرىّ بأن يبطل عدمه فى وعاء الدّهر
ويوجد من حيث هو حادث زمانىّ فى شطر معيّن من الزّمان هو زمان وجوده ، ولا يبطل
عدمه فى زمان آخر هو زمان قبل آن الحدوث ووقته أو بعد زمان الوجود ، بل إنّما يبطل
عدمه فى زمان عدم وجوده فقط ، وإلاّ لتناقض الأمر. وهذا الأصل من غوامض الحكمة اليمانيّة.
فأحسن إحصاف الغريزة وإعمال القريحة ، ولا تترك السّنّة العقليّة من رفض طور الوهم
فى لحاظ هذه الحقائق الملكوتيّة.
<٣٢ >نقاوة مخلصيّة
فإذا اخلد ما
قرّرناه بسرّك تهيّا لك أن نشعر لك أنّه لمّا كان الماضى من الزّمان بما فيه
بالنّسبة إلينا مستقبلا بالنّسبة إلى بعض من قبلنا والمستقبل بالنّسبة إلينا. وكذلك
الحال ربما يكون ماضيا بالنّسبة إلى بعض من سيوجد ، فلا يستصحّ العقل المتبصّر أن
يحكم على الزّمان الماضى أو المستقبل بالعدم على الإطلاق ، بل بالإضافة فقط ؛ لأنّ
الوجود والعدم فى افق الزّمان يختلف بالقياس إلى الأشخاص الزّمانيّة ، والمحيط
بافق الجميع لا يحكم على شيء من ذلك بالعدم ، لما انا باختصاص الوجود بحدّ معيّن ويعلم
عدم البعض بالإضافة إلى البعض فى افق الزّمان وأنّ ذلك ليس عدما فى الواقع على
الإطلاق ، لا بالإضافة.
فبالجملة ، ليس
يعرض لشيء من الامور المتغيّرة المتعاقبة بعد إذ أخرجها الجاعل من اللّيس إلى
الأيس فى وعاء الدّهر عدم فى الواقع وبالنّسبة إلى الجاعل المحيط ، بل إنّما لكلّ
من الحوادث الزّمانيّة اختصاص جزء من أجزاء الزّمان أو حدّ من حدوده.
فإذن ، العدم
الزّمانىّ مرجعه غيبوبة زمانىّ عن زمانىّ آخر أو عدم تحقّق ما هو متخصص الحصول
بحدّ من حدود الامتداد وفى حدّ آخر.
<٣٣> نتيجة مرآتية عقليّة
فإذن ، قد
تفطّنت سرّ ما يقال فى حكمة الميزان : إن العقد المطلق العامّ إمّا صادق التّحقّق
دائما وإمّا كاذب غير متحقّق الحكم أزلا وأبدا. ولا ثقة بما يحاول أن يقرّر به هذا
القول مع الذّهول عن الأصل. وقد كنّا أشعرناك من قبل أنّ مفاد القضيّة المطلقة
العامّة الفعليّة والقضيّة الدّائمة إنّما هو التّحقّق فى أحد الأزمنة وفى جميع
الأوقات فى الموضوعات الزّمانيّة لا فى نفس الزّمان ولا فيما يتقدّس عنه.
فإذن ، قد
استبان لك أمر العقود المطلقة العامّة والعقود الدّائمة فى جميع
الموضوعات ؛ فإنّها ونفسك أنّ الحادث الدّهرىّ ممّا ليس هو بزمانىّ أن يصدق
للحكم عليه بالعدم وبالوجود جميعا بالإطلاق العامّ. فيلزم : إمّا أن يتحقق
المتناقضان أو أن ينقسم وعاء الدّهر ، وهما محالان ، أو يصدق الحكم عليه بالعدم
فقط ، فلا يوجد فى وعاء الدّهر أصلا أو بالوجود فقط ، فلا يكون مسبوقا بالعدم فى
وعاء الدّهر.
وذلك كلّه فسخ
الضّبط وخرق الفرض ، واللاّزم أن لا يصدق على الموضوعات الغير الزّمانيّة إلاّ
العقد الدّائم إمّا بالعدم أو بالوجود ، حوول تثبيتك على الأمر بأنّ الإطلاق
العامّ الفعلىّ الدّهرىّ غير الإطلاق العامّ العقلىّ الزّمانىّ والحكم بالعدم
بالفعل بالإطلاق العامّ إنّما لا يصادم صدقه وتحقّقه صدق الحكم بالوجود بالفعل
بالإطلاق العامّ إذا كان الإطلاق العامّ الفعلىّ زمانيّا ، أى كان الموضوع من
الزّمانيّات والوجود والعدم زمانيّين ، فإنّه على ذلك التّقدير ليس يلزم من فعليّة
تحقق أحد الحكمين بطلان تحقّق الحكم الآخر لانقسام افق الزّمان وتحقّق الحكمين
بالفعل بحسب زمانين.
وأمّا إذا كان
الإطلاق الفعلىّ دهريّا غير زمانىّ ـ أى : كان الموضوع خارجا عن الوقوع فى افق
الزّمان والوجود والعدم غير زمانيّين ـ فإنّ الحكمين يتصادمان ، وتحقق أحدهما
بالفعل يبطل تحقّق الآخر بالفعل بتّة.
فإذن ، المعلول
الموجود الغير الزّمانىّ ، إذ قد أبدعه الجاعل بطل الحكم عليه بالعدم بالفعل
بالإطلاق العامّ الدّهرىّ ، أى : ارتفع تحققه وصدقه عن الواقع وعن وعاء الدهر ، ولكن
من تلقاء الجاعل لا من قبل ذات موضوع العقد. فالعقل يحكم أنّ الحكم عليه بالعدم
بالفعل بالإطلاق العامّ الدّهرىّ قد كان له صدق وتحقق قبل البطلان فى وعاء الدّهر
قبليّة دهريّة غير زمانيّة. فالجاعل بفيضه أبطل صدقه وتحقّقه فى وعاء الدّهر وفى
الواقع وأوجب صدق الحكم عليه بالوجود بالفعل وتحقق ذلك الحكم فى الواقع وفى وعاء
الحكم.
فإذن ، لا يصدق
دوام وجوده دواما غير زمانىّ ، لأنّ الحكم عليه بالعدم بالفعل كان صادقا قبل
الوجود قبليّة غير زمانيّة ولا يصدق عدمه ووجوده جميعا بالإطلاق العامّ الدهرىّ ؛
لأنّ صدق عدمه فى الواقع وفى وعاء الدّهر قد بطل وانقرض بصدق
وجوده فى وعاء الدّهر ، لا أنّ عدمه فى الواقع قد انصرم. فحصل الوجود حتى
يصدق الحكم بهما كليهما فى الواقع بإطلاقين عامّين ، كما يكون فى العدم والوجود
الزّمانيّين. فذلك من خواصّ افق الزّمان وانقسامه.
فالزّمانىّ ينصرم
ويستعقب ما يصادمه بالانصرام والانبتات ، لا بالبطلان والارتفاع فى الواقع ، وغير
الزّمانىّ يبطل ويكون استعقابه لما يصادمه ببطلانه وانقراضه وارتفاعه فى الواقع.
فلذلك ما إنّه ليس يصدق الحكم بهما كليهما فى الواقع بإطلاقين عامّين.
فإذن ، الموجود
الحادث الدّهرىّ إذا لم يكن زمانيّا لا يصدق الحكم بأنّه موجود بالدّوام ولا بأنّه
معدوم بالإطلاق العامّ ، لارتفاع صدق الحكم بأنّه معدوم بالفعل بالتقرّر الّذي هو
معقّبه ومبطله من تلقاء فيض الجاعل. وهذا من السّرّ العجاب الّذي لا يرجى التّفطّن
له والتّشبث عليه إلاّ بفطرة شاهقة قدسيّة وقريحة شامخة ملكوتيّة.
فإن سومح فى
الحكم بالعدم بالإطلاق العامّ الدّهرىّ وريم بذلك أنّه كان للعدم سبق دهرىّ ، فبطل
وانتفى عن الواقع بالتّقرّر والوجود فى وعاء الدّهر لساغ. لكن ليس ذلك حكما بالعدم
بالإطلاق العامّ ، أليس مفاده الحكم بالعدم بالفعل فى الواقع ، وبعد التقرّر والوجود
فى وعاء الدّهر قد انقضّ ذلك وسقط حتّى لو حكم به لم يكن على محاذاة الواقع. فإذن
، يرجع الحكم بالإطلاق العامّ إلى مجرّد إطلاق اللّفظ مع بطلان معناه الّذي قد وضع
ذلك اللّفظ بإزائه.
<٣٤> استضاءة استنهاضيّة
هل أنت مستضيء
بالفطنة متبصّر السّرّ بما كشفنا لك عنه الغطاء. فيظنّ بك أن تدرك أنّ الزّمان
الممتدّ فى نفسه لمّا كان موجودا فى وعاء الدّهر على أنّه متّصل واحد عند أجزائه
الفرضيّة بحسب ذلك الوجود وبالنّسبة إلى المبدأ الأوّل والمراتب الّتي هى وراء افق
الزّمان وإن لم تكن حاشدة بالقياس إلى الزّمانيّات وفى حدّ واحد من حدود افق
الزّمان ، وكذلك الحركة المتصلة الّتي هى محلّه والحوادث الزّمانيّة
المتعاقبة بحسب وجوداتها العينيّة أيضا كذلك ؛ فإنّ تعاقبها ليس بالنّسبة
إلى بارئها المحيط ولا بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر ، بل إنّما باعتبار وقوعها فى
افق الزّمان فقط. فلا محالة ينتهض برهانا التّطبيق والتّضايف ، وبرهان الحيثيّات وبرهان
الوسط والطرف وسائر ما اقيم فى الفلسفة وفى الحكمة الحقيقيّة على استحالة
اللاّنهاية بالفعل فى الكم المتصل القارّ الموجود وفى الكم المنفصل ومعروضه من
الموجودات المجتمعة المترتّبة وضعا أو التّرتّب السّببىّ والمسببىّ بالطّبع أو
بالعليّة هناك أيضا ، فينسحب ذلك كلّه على امتناع اللاّنهاية بالفعل فى مقدار
امتداد الزّمان وفى عدد الموجودات المتسلسلة السّابقة الزّمانيّة. فيتبيّن أنّه
يستحيل أن يتمادى مقدار الزّمان الممتدّ إلى جانب الأوّل لا إلى نهاية أو عدد
(١٦١) الحوادث المترتّبة المتسابقة لا إلى أوّل.
فكما أنّ
الأبعاد المكانيّة الجسمانيّة أو المجرّدة الّتي تشغلها تلك متناهية امتدادا. وكذلك
المتمكنات المتكثّرة الواقعة فى الأمكنة عددا ، فكذلك الامتداد الزّمانىّ متناه
مقدارا ، والزّمانيّات المتكثّرة الواقعة فى الأزمنة عددا.
فالآن حصحص
أنّه سقط تشبّث الفلاسفة فى انصرافهم عن الحقّ ومصادمتهم للبرهان بأنّ الموجود
الغير القارّ بالذّات وإن كان كمّا متّصلا لكنّه ليس يوجد بتمامه دفعة ؛ والامور
المتعاقبة وإن كانت مترتّبة متسابقة بالطبع لكنّها ليست موجودة معا.
فاستفت العقل :
أمقتضى حكم التّطبيق وتكافؤ المتضائفات وتناهى المحصور بين حيثيّة ما وأيّة حيثيّة
كانت ، ولزوم طرف لا يكون وسطا عند حصول ما هو موصوف بالوسطيّة وسائر البراهين
مقصور على استيجاب التّناهى بحسب الدّفعة الزّمانيّة ، أى تناهى ما يوجد بتمامه أو
بجميع آحاده معا فى حدّ من حدود الامتداد وبالقياس إلى زمانىّ ما أم بحبل
اللاّنهاية بالفعل بحسب الوجود فى الواقع ، سواء كان ذلك دفعة واحدة زمانيّة أو
دفعة واحدة دهريّة غير زمانيّة. أليس الوجود فى وعاء الدّهر وبالنّسبة إلى من يحيط
بالزّمان كلّه مرّة واحدة غير زمانيّة وجودا فى
الواقع واجتماعا فى وعاء الدّهر؟
فكما الوجود
زمانىّ ودهرىّ وكلّ منهما وجود بالفعل ، فكذلك الاجتماع زمانىّ ودهرىّ ، وكلّ
منهما اجتماع فى الوجود بالفعل وحكم البراهين على الاجتماع فى الوجود بالفعل ، لا
على نحو ما من أنحاء الاجتماع فى الوجود بالفعل بخصوصه. فإذن ، قد انفصم ما كان
استمساكهم به وانقضّ ما كان تعويلهم عليه. والحمد للّه ربّ العالمين.
<٣٥> تتمّة تسجيليّة
ألا تظننّ بما
اختطفت ، من انتهاض البراهين وانسحاب حكمها باستحالة اللاّنهاية على تمادى الزّمان
والزّمانيّات فى جانب الأزل ، لا إلى أوّل بالفعل أنّه مختصّ بما لو سلك سبيل الحق
وقيل بوجود الزّمان الممتدّ والحركة المتصلة الّتي هى محلّه فى الأعيان.
أليس قد تحقق
فى الفلسفة : أنّ المقدار المتصل المرتسم بتمام هويّته الاتصاليّة فى المدارك
الخياليّة والوهميّة والنّفوس المنطبعة والمدارك الجسمانيّة يمتنع أن يكون غير
متناهى الامتداد ، كما المقدار الموجود فى الأعيان من غير فرق ، وأنّ مقتضى براهين
امتناع اللاّنهاية غير مختلف فيهما. وكذلك الصّور الإدراكيّة المترتّبة المنطبعة
فى الذّهن على سبيل الاجتماع يستحيل فيها اللاّنهاية بالفعل ، كما فى المترتّبات
الموجودة فى الأعيان معا.
وبالجملة ، لا
اختصاص لاستحالة اللاّنهاية بالفعل بأحد الوجودين مهما حصل استجماع وصفى التّرتّب والاجتماع.
وسواء فى ذلك الكم المتصل والكم المنفصل أو معروضه. فلذلك قالوا : إذا توقّف شيء
ما على حصول امور مترتبة غير متناهية معا فى الذّهن كان ممتنعا ، لتوقّفه على ما هو
ممتنع بالذّات. وجواز التّسلسل فى الاعتباريّات العقليّة ، معناه : أنّه ليس
يتصوّر هناك لانقطاع السّلسلة بانقطاع لحاظ العقل بتّة ، لا أنّه ممكن الحصول فى
ملحوظات العقل على سبيل
التّفصيل وليس بمستحيل.
وبيّنوا استحالة
أن يكون الكم المتّصل المستحيل غير متناهى الكمّيّة ، بقولهم : المقدار لا يفارق
المادّة فى الخارج إلاّ عند القائلين بوجود البعد المجرّد ، لكنّه يفارقها فى
الذّهن، لجواز أن يتخيّل المقدار مع الذّهول عن جميع الموادّ. فإذا تخيّلناه ،
أعنى المقدار الممتدّ فى الجهات الثّلاث ، من غير أن نلتفت إلى شيء من الموادّ وأحوالها
، كان ذلك المتخيّل جسما تعليميّا.
ثمّ إنّه لا
يمكننا أن نتخيّله إلاّ متناهيا ؛ لأنّ البرهان الدّالّ على تناهى الأبعاد فى
الخارج يدلّ على تناهيها فى الذّهن ؛ لأنّ الامتداد المخصوص المتخيّل لا يرتسم
إلاّ فى آلة جسمانيّة بحسب تناهيها ، فيجب تناهى ما حلّ فيها. وأيضا ، الأدلّة
القائمة على تناهى الأبعاد جارية فى الامتداد الشّخصىّ المتخيّل إذا كان غير متناه
بلا فرق.
فإن توهّم :
أنّه إذا امتنع تصوّر المقدار الّذي لا يتناهى امتنع الحكم عليه بامتناع وجوده.
قيل : الممتنع
تصوّر امتداد شخصىّ غير متناه ، لا تصوّر امتداد لا يتناهى على وجه كلّىّ.
فالممتنع هو المتخيّل ، لا المتعقّل. وإذا تخيّل الجسم التّعليمىّ متناهيا كان
هناك سطح. فإذا تخيّل ذلك السّطح من غير التفات إلى الجسم وأعراضه كان ذلك
المتخيّل سطحا تعليميّا ، وكذا الخطّ ، وكذلك الزّمان الممتدّ المرتسم فى الذّهن
قد يلحظ من غير التفات إلى المادّة وأعراضها.
وربما التّحقيق
اقتضى أن يقال : الممتنع هو تصوّر امتداد شخصىّ غير متناه على معنى أنّه يصدق عليه
بالحمل الشّائع الصّناعىّ وأنّه امتداد غير متناه ، أعنى أنّه فرد منه ، لا تصوّر
الامتداد الغير المتناهى على أن يكون صدقه على المتصوّر إنّما هو بالحمل الأوّلىّ
الذّاتىّ فقط ، أعنى أنّه مفهوم طبيعة الامتداد الغير المتناهى وعنوان حقيقته
بعينها ، لا أنّه فرد تلك الطبيعة وما تصدق عليه تلك الحقيقة. فهذا ما حصّله رؤساء
الفلاسفة والمحصّلون من الأتباع والمقلّدين.
وأ ليس إذا
كانت الحركة التّوسّطيّة الفلكيّة الرّاسمة لمحلّ الزّمان من الحركة
المتّصلة والآن السّيّال الرّاسم للزّمان الممتدّ الّذي هو مقدار الحالّ
فيها ، لا أوّل لوجودهما فى افق الزّمان على معنى أنّ أىّ زمان فرض فقد كان لهما
وجود حاصل فى زمان قبله ، وهكذا إلى لا نهاية على ما يزعمه رؤساء الفلسفة ، وذلك
معنى الأزليّة الزّمانيّة وكون الشّيء لا بداية لوجوده فى الأزل الزّمانىّ عندهم ،
لزم أن يرتسم من ذلك فى النّفوس المنطبعة الفلكيّة زمان ممتدّ غير متناهى الكميّة وحركة
متصلة غير متناهية المقدار على أن يحدث الارتسام تدريجا.
فما قد تمّ
حدوث ارتسام تدريجا يبقى بجملة هويّته الاتّصاليّة دفعة واحدة معا. وذلك بعينه ما
قد أبطلته أدلّتهم وأحالته براهينهم على شعور منهم بالأمر وإذ عان منهم للحقّ.
فإذن ، لا تسع
فلسفتهم إلاّ الحكم البتىّ بأنّه ليس يمكن أن يتمادى الأزل الزّمانىّ إلى لا نهاية
، وأنّه يستحيل أن يكون لشيء من الأشياء الزّمانيّة ، كالحركة التّوسّطيّة
الفلكيّة أو الآن السّيّال أو أىّ شيء كان أزليّة زمانيّة على معنى أن يكون له
وجود فى أزمنة غير متناهية فى جانب الماضى. وكذلك يستحيل أن يكون لامور متسابقة
وجودات متعاقبة فى جانب الأزل لا إلى بداية ؛ إذ ليس يتصوّر ذلك إلاّ بزمان غير
متناهى المقدار وأزمنة غير متناهية العدد ، إمّا فى الأعيان أو فى الأذهان
السّماويّة والنّفوس الفلكيّة. فإذن ، قد سطح الحقّ وبطل ما كانوا يزعمون. فلعلّ هذا
سبيل طبخ الفلسفة ونضج الحكمة الحقّة وإن كان أكثر النّاس لا يشعرون.
<٣٦> تكشاف إيقاظيّ
لا تحسبنّ
تناهى اتصال الحركة وامتداد الزّمان فى جانب الأزل ، وكذلك تناهى الحوادث
الزّمانيّة المتعاقبة فى جانب الماضى ما هو ملاك الأمر فى أن يتبرهن مسبوقيّة
تقرّر تلك الأشياء بالبطلان وسبق عدمها على الوجود بحسب الوقوع فى الأعيان وفى
وعاء الدّهر. فنحن إنّما حكمنا بذلك لانسياق الفحص والبرهان إليه من دون أن نروم
استعانة به فى غرضنا الأصليّ ، وهو إثبات «الحدوث الدّهرىّ»
لها. وإنّك ستساق فيه إلى مساق الحقّ من سبيله إن شاء اللّه. فالآن ما رمنا
إلاّ إحقاق حقّ هذه المسألة فى نفسها.
فكأنّا قد
أسمعناك من قبل : أنّ تناهي مقدار الزّمان وعدد الموجودات الزّمانيّة فى جانب
الماضى ليس يصادم دوام الوجود فى وعاء الدّهر (١٦٢) غير مسبوق بالعدم مسبوقيّة
دهريّة. كما أنّ تناهي مقادير الأبعاد المكانيّة ليس يصادم ذلك المتناهى ؛ فإنّ
الكم المتناهى المقدار ، سواء كان ذا وضع أو غير ذى وضع ، لا يأبى ، من حيث هو كم
متناهى المقدار ، أن يكون له تقرّر فى الأعيان لا يسبقه البطلان الصّرف ، والوجود
لا يتقدّم عليه العدم الصّرف الّذي لا يصحّ أن يتصوّر فيه الاستمرار واللاّاستمرار
، بل يجوز فى النّظر إلى طباع الامتداد المتناهى الكميّة بما هو امتداد متناهى
الكميّة ، مكانيّا كان أو زمانيّا ، مع عزل النّظر عن كلّ ما يخرج عن هذا اللّحاظ
أن يكون موجودا فى وعاء الدّهر لا بعد عدم دهرىّ. فيحتمل فى بادى الأمر أن يكون
لوجوده أزليّة غير زمانيّة إلى أن يبطل ذلك فى أنظار اخر غير هذا النّظر.
فالّذى يبطله
تناهى مقدار الزّمان فى الماضى ليس إلاّ الأزليّة الزّمانيّة على ما ابتدعه معلّم
المشّائيّة ومن اتّبعه ، لا دوام الحصول فى وعاء الدّهر. وكذلك تمادى مقدار
الزّمان فى الماضى لا إلى بداية على أن يكون له كميّة غير متناهيّة المقدار فى
جانب الأزل. وهو ما يذهبون إليه ليس ممّا ينافى الحدوث الدّهرىّ الّذي هو حصول
الوجود فى وعاء الدّهر بعد صريح العدم الصّرف لا على امتداد أو لا امتداد لا يلزم
من ذلك تسرمد الوجود ودوامه فى الواقع ، كما يظنّه من على سبيل أولئك الظّانّين
المعتملين لإطفاء نور الحكمة ، بل إنّما يلزم من ذلك الدّوام الزّمانىّ على المعنى
المشهور فى الفلسفة لا غير ، أى حصول أزمنة غير متناهية الكميّة فى الماضى ، لا
إلى بداية بحيث يكون كلّ مقدار قد فرض فى الماضى ، فقد حصل مقدار آخر قبله.
وهذا المعنى
وراء السّرمديّة والدّوام فى وعاء الدّهر. كما أنّ اللاّنهاية فى
الأبعاد المكانيّة إنّما يستلزم تمادى الامتداد المكانىّ لا إلى نهاية لا
استمرار الأزليّة الزّمانيّة بحسب الحصول فى زمان غير متناهى المقدار فى البداية ولا
سرمديّة الوجود بحسب دوام الحصول فى وعاء الدّهر ، لا بعد العدم أصلا.
فإذ قد أثبتنا
تناهي مقدار الزّمان فى جهة البداية ، فقد أبطلنا الأزليّة الزّمانيّة على المعنى
الفلسفىّ المشهورىّ. فتحقق : أنّ الأزل الزّمانىّ إنّما هو مقدار من الزّمان فى
جانب البداية لا يسبقه زمان أو شيء آخر غير الزّمان سبقا زمانيّا. والأزليّة
الزّمانيّة معناها الوجود فى جملة ذلك الزّمان ، لا فى أزمنة غير متناهية الكميّة.
وأمّا إبطال
سرمديّة الزّمان والحركة وإحالة الدّوام لوجود الجائزات فى وعاء الدّهر الّذي هو
الدّوام السّرمديّ والسّرمديّة الدّهريّة فصراط مستقيم سنسوقك إلى سبيل إليه فحصىّ
حكمىّ بسلوك قدسىّ وسياحة روعيّة ، ليتبيّن لك منهج الحقّ وليستبين سبيل
الظّالمين.
<٣٧> إيماض تنبيهيّ
لا ينبغى لك أن
تغفل عمّا أومأنا إليه ، من قبل ، أنّ تناهى مقدار الزّمان فى جهة الأزل ليس بحيث
يستوجب وجود الآن بالفعل ؛ لأنّ وراء الزّمان ليس إلاّ صريح العدم الصّرد الباتّ
الّذي لا يصحّ أن يقال ؛ إنّه عدم ممتدّ أو عدم غير ممتدّ ، وهو اللاّخلاء واللاّملاء
الزّمانىّ الّذي هو بإزاء العدم الخالص ، الّذي هو وراء الفلك الأقصى ، وهو
اللاّخلاء واللاّملاء المكانىّ. وليس انتهاء الزّمان إلى ذلك العدم بطرفه فقط ، بل
هو بنفس هويّته الامتداديّة وبكلّ جزء من أجزائه وآن من آناته مسبوق بذلك العدم ومنته
إليه.
فليس للعقل أن
يوقع بمعونة الوهم اتّصالا بينه وبين ذلك العدم ويتصوّر امتدادا ينطبق بعضه على
الزّمان ويقع بعضه فى ذلك العدم ، فيحكم أنّه قد وقع انبتات فى شيء من أوساط ما
يتوهّم من الامتداد ، وأنّه يتصوّر أن ينبسط الزّمان فى جهة امتداده ، فينطبق على
ذلك العدم ؛ فإنّ تصوّر ذلك لم يكن إلاّ من اختلاف الوهم. فلا جرم ليس للزّمان طرف
ينتهى به امتداده فى جهة البداية ، يقال له الآن. وسبيله
الامتدادات الجسمانيّة بالنّسبة إلى عدم الأبعاد المسافيّة ، ماديّة كانت
أو مجرّدة ، عند انتهاء تلك الامتدادات بحسب الوضع على خلاف ذلك.
فالأبعاد
المكانيّة إنّما تنتهى بالعدم المحض الّذي هو اللاّخلاء واللاّملأ المكانىّ
بأطرافها فقط ، لا بذواتها وبهويّاتها الامتداديّة وبكلّ جزء من أجزائها. والجرم
الأقصى إنّما ذلك العدم فوقه فلا محالة له سطح وراءه العدم الصّرف الّذي هو انتفاء
الأبعاد المكانيّة الماديّة والمجرّدة فوق الفلك الأقصى.
فالجرم الأقصى
إنّما يصحّ أن يقال : إنّ امتداده منته فى تماديه إلى ذلك العدم ، لا أنّه مسبوق
بذلك العدم ، وكذلك سائر الأجسام والمسافات بأبعادها وامتداداتها ؛ لأنّ ذلك العدم
ليس هو انتفاء ذوات الأبعاد والامتدادات فى أنفسها على الإطلاق ، بل هو انتفاء
تمادى مقدارها ، فلا يلزم من ذلك انتفاء وجودها فى الواقع ، بل إنّما يلزم انتفاء
تماديها وراء نهاياتها الوضعيّة. فلذلك ليست هى مسبوقة بذلك العدم ، بل هى منتهية
إليه فقط ، لا هو عدم ذات المقدار فى الأعيان ، بل هو عدم امتداد المقدار فوق حدّ
وضعىّ بعينه.
وأمّا العدم
الّذي يصحّ أن يقال : إنّ الأبعاد المسافيّة والامتدادات الجسمانيّة مسبوقة به ؛
فهو بطلان ذواتها وانتفاء هويّاتها فى الواقع بحسب أنفسها ، لا بحسب تماديها فى
الإشارة الحسّية. فهذا العدم لا تخصص له بحدّ من حدود الامتداد ، بل نسبته إلى
الطرف كنسبته إلى الكلّ. والعدم الّذي هو وراء طرف الامتداد وينتهى إليه الامتداد
على خلاف تلك المشاكلة.
والزّمان كم
غير ذى وضع ولا يتصوّر له عدم لا يكون هو مسبوقا به ، وإنّما يكون منتهيا إليه
فقط. فليس ذلك إلاّ شأن الكميّات المتصلة القارّة الّتي يعرضها الوضع.
فعدم الزّمان
هو بطلان ذاته فى نفسه قبل تقرّره فى وعاء الدّهر ، وهو ليس مطلق بسيط لا يعقل فيه
الامتداد واللاّامتداد بوجه من الوجوه. والزّمان بنفسه وبجميع اجزائه وحدوده مسبوق
به ، وهو بالإضافة إلى ذلك كلّه على نسبة واحدة. فلذلك لا يعقل أنّه فى جهة امتداد
الزّمان ، بحيث لو انبسط الزّمان فى تماديه لانطبق
عليه ، بل ذلك توهّم كاذب مختلق. وإنّما اخرج الزّمان بهويّته الممتدّة من
ذلك اللّيس الصّرف إلى الأيس فى وعاء الدّهر مرّة واحدة دهريّة غير زمانيّة.
فإذن ، ليس
مسبوقيّة الزّمان بهذا اللّيس المطلق المعبّر عنه باللاّخلاء واللاّملأ الزّمانىّ
ممّا يوجب وجود الآن بالفعل ، ولا أيضا تناهى مقداره بحسب الكميّة يستوجب حصول طرف
له بالفعل يكون وراءه عدم ينتهى هو إليه.
فإذن ،
اللاّخلأ واللاّملأ المكانىّ واللاّخلاء واللاّملأ الزّمانىّ ليسا بمتضاهيين فى
الخواصّ والأحكام ، ولا نسبة الأوّل إلى أبعاد وعاء المكان كنسبة الثّاني إلى
امتداد افق الزّمان. فالفلك الأقصى بمقدار جرمه منته إلى اللاّخلأ واللاّملأ المكانىّ
كنسبة لا مسبوقيّته وبمقدار حركته مسبوق باللاّخلاء واللاّملاء الزّمانىّ لا منته
إليه فقط.
وهذا من أصعب
مسالك العلم على الطور المشهور وأخفى ما يقرب من الغوامض عن بصائر الجمهور ، وهو
من أدقّ الأسرار الخفيّة فى الحكمة الحقيقيّة وسيعاد عليك فى مظانّ البيان إن شاء
اللّه تعالى.
<٣٨> إيقاظ حدسيّ
يشبه أنّ الّذي
لا يتعدّاه الحقّ هو أنّ الزّمان ، كما أنّ محلّه حركة مستديرة وحامل محلّه جرم
مستدير ، فكذلك (١٦٣) هو أيضا ليس بمستقيم الامتداد ، بل إنّه امتداد مستدير ، وهو
كم متصل غير ذى وضع منطبق على حركة مستديرة هو مقدارها الحالّ فيها وعلى محيط
دائرة عظيمة هى منطقة تلك الحركة ومنطقة الفلك الأعظم ، بل منطقة العالم الجسمانيّ
بأسره وأنّ الكره القصيا خلقت واخرجت من اللّيس الصّريح إلى الأيس الدّهرىّ
متحرّكة حركة مستديرة غير منبتّة فى الآباد ، لا أنّها ابدعت ثمّ تحرّكت ، وتلك
الحركة واحدة فى أنفسها متّصلة غير منقطعة الاتصال.
فإذا عيّن لها
بحسب الفرض الانتزاعىّ مبدأ بالفعل تحصّلت بذلك عند العود إليه دورة تامّة واحدة ،
ثمّ اعتبرت بعد ذلك دورات تامّات متكثّرات ، وكلّ دورة
منطبقة على تلك الدّائرة العظيمة الّتي هى منطبقة معدّل النّهار.
وكذلك الزّمان
الّذي هو مقدار حالّ فى تلك الحركة خلقا ، أى : اخرج من ذلك اللّيس الصّريح إلى
الأيس الدّهرىّ متصل الامتداد غير منقطع الاتصال فى جهة الاستقبال ، وهو فى نفسه
مقدار واحد مستدير متصل غير منقطع. فإذا عيّن فيه آن بحسب الفرض إزاء للمبدإ المفروض
لحركة هى محلّ يحصل بذلك دور واحد ، هو دائرة تامّة زمانيّة ويعتبر بعد ذلك أدوار
هى دوائر تامّة متكثّرة زمانيّة ، وكلّ دائرة من تلك الدّوائر الزّمانيّة منطبقة
على الدّائرة العظيمة الفلكيّة ، وهى منطقة معدّل النّهار ، الّتي هى كم متّصل
مستدير قارّ ذو وضع. والدّائرة الزّمانيّة المنطبقة عليها كم متصل مستدير غير ذى
وضع وغير قارّ فى افق التّقضّى والتّجدّد.
فإذن ،
السّاعات أجزاء الدّائرة الواحدة الزّمانيّة ، والشّهور والأعوام دوائر متعدّدة
زمانيّة ، كما أنّ الدّرجات أجزاء الدّائرة الخطيّة والأدوار هى تلك الدّائرة
معتبرة مرّات متكثّرة.
وكما أنّ كلّ
دورة تامّة من أدوار الحركة هى مثل الدّورة السّابقة ، فكذلك كلّ دائرة تامّة من
الدّوائر الزّمانيّة ، وهى الكم المستدير الّذي هو مقدار دورة واحدة تامّة من
أدوار معدّل النّهاية هى مثل الدّائرة السّابقة من تلك الدّائرة الزّمانيّة.
فإذن ، قد صين
ذهنك من الانسباق إلى ما يذهب إليه الأوهام العاميّة المتفلسفة أنّ الزّمان كم
متصل واحد مستقيم الامتداد كالخطّ المتّصل المستقيم الواحد.
<٣٩> استيقاظ روعيّ ، فيه فيصل فحصيّ
هل أنت ذو
قريحة تامّة يتّخذك بها العقل المجرّد من أصحابه ، فيخبرك : أنّ تناهي مقدار
الزّمان فى تماديه الماضوىّ ليس بحيث يصحّ أن يتوهّم أنّه لم يكن من المستحيل أن
يخلق الزّمان المتناهى الامتداد فى جانب الأزل أطول وأكثر مقدارا وعددا فى تماديه
ممّا قد خلق عليه وحصل له. كما أنّ الفلك الّذي هو الكرة الأقصى ليس من المستحيل بالنّظر
إلى سنخ ذاته وهويّته الجرميّة أن يخلق جرمه
فى ابتداء الفطرة أكبر ممّا قد خلق عليه ، فيكون امتداد مقداره فى جهة
الفوق أكثر انبساطا وأعظم تماديا ممّا هو عليه الآن مقدار عشرة أذرع ، مثلا ؛ فإنّ
ذلك كذب صرد من أغلاط الوهم وأكاذيب الطبيعة الوهمانيّة. والفرق بين امتداد جرم
الفلك وامتداد مقدار الزّمان يتضح المنهاج ممّا علّمناك بفضل بارينا العليم.
ألسنا قد
أشعرناك أنّ العدم السّابق على وجود الزّمان ليس فيه إلاّ بطلان الأقدار والامتدادات
، وليس له تقدّر حتّى يمكن أن يردّد فيه أنّه متناه أو غير متناه ، ولا لا تقدّر
حتى يمكن أن يقال : إنّه غير مستمرّ ، بل منطبق على مبدأ المقدار الّذي هو الآن والنّقطة
، فلا هو متناه ولا لا متناه ، ولا متماد ولا لا متماد.
وليس يصحّ أن
يتوهّم فى جهته امتداد الزّمان وتماديه ، بل هو متحدّ النّسبة إلى كلّ امتداد
الزّمان وأجزائه وإلى أطرافه وأوساطه. ولا يمكن أن يتصوّر عدم آخر للزّمان وراء
امتداده المتناهى المقدار يكون هو انتفاء انبساط مقدار الزّمان وتماديه لا انتفاء
ذاته بالمرّة ، كما يمكن أن يتصوّر للفلك. فحينئذ يتوهّم أنّ فى قوّته بحسب جوهر
ذاته أن ينبسط تماديه فى ذلك العدم. فاللاّخلأ واللاّملاء الزّمانىّ هو انتفاء
امتداد الزّمان ولا امتداد الآن بالمدّة. ومن المستحيلات بالذّات أن يكون للزّمان
مقدار أطول وعدد أكثر ممّا قد خلق عليه ؛ إذ لو أمكن ذلك لزم أن يمكن كون الزّمان
مخلوقا قبل ما خلق بمقدار من الوقت. وذلك لأنّه لو كان مقدار الزّمان المتناهى فى
الماضى أزيد من الّذي قد حصل كان القدر الزّائد شيئا من الزّمان بالضّرورة ، فيكون
حقيقة الزّمان متحققة بتحقّقه بتّة.
وقد كنت دريت ،
من قبل ، أنّ القبليّة الزّمانيّة ليست أمرا زائدا على حقيقة الزّمان، بل هى عين
حقيقته. فلا محالة يلزم أن يكون الزّمان موجودا قبل ما وجد ، وهو مستحيل بالذّات ؛
إذ لا يتصوّر امتداد فى العدم السّابق على وجود الزّمان حتّى يتصوّر بحسبه أن يكون
الوجود المسبوق به حاصلا قبل ما اتفق حصوله ولا الزّمان غير تلك القبليّة حتى يمكن
أن يكون له مقدار أزيد من دون حصول القبليّة. فاستلزام زيادة المقدار لتلك
القبليّة من خواصّ ماهيّة الزّمان ومن خصوصيّات
هويّته ، ولا كذلك شأن امتداد الجرم الأقصى فى نفسه ولا حال تمادى مقداره
بالنّسبة إلى العدم المتصوّر فوقه.
فقد انصرح ممّا
استبان سبيل تبيانه أنّ للعقل أن يتصوّر هناك عدمين :
أحدهما : عدم ذات
الفلك الأقصى بالمرّة ؛ وليس هو فى جهة امتداد جرمه ، ولا هو متخصّص بأن يتصوّر
فوق سطحه ، بل هو متّحد النّسبة إلى كلّه وجزئه وطرفه ووسطه. والفلك الأقصى مسبوق
به بذاته ووجوده ، لا أنّه منته إليه بطرفه. فهذا العدم ليس ممّا يعبّر عنه
باللاّخلاء واللاّملاء المكانيّ ، بل هو العدم الّذي قد عبّر عنه باللاّخلاء واللاّملاء
الزّمانىّ. ونسبته إلى ذات الزّمان وإلى ذات الفلك الأقصى وحركته واحدة.
وكما يكذب أن
يقال ، بل يمتنع أن يتصوّر أنّه يمكن أن ينبسط امتداد الزّمان فيتمادى مقداره فى
ذلك العدم ، فيتوهّم بحسب ذلك أنّ له إمكان أن يخلق قبل ما خلق وأن يكون له مقدار
أعظم وعدد أكثر ممّا قد اتفق له ؛ فكذلك يكذب أن يقال ، بل يمتنع أن يتصوّر مثل
ذلك فى ذات الفلك الأقصى وحركته بالقياس إلى ذلك العدم. وهو ليس يجامع وجود
الزّمان والحركة والفلك ، بل إنّه يبطل وينتفى عن الواقع بحصول الوجود فى وعاء
الدّهر.
والآخر : عدم
انبساط الجرم الأقصى فوق سطحه وانتفاء تمادى الأبعاد مطلقا وراء ذلك السّطح. وهذا
العدم ليس هو انتفاء ذوات المقادير والامتدادات بالمرّة ، بل هو انتفاء نحو
تماديها ، فلا محالة هو متخصّص بأن يتصوّر فوق الفلك الأقصى ووراء سطحه وفى جهة
امتداد جرمه وأن ينتهى إليه الفلك بطرفه ولا يكون مسبوقا به بذاته ووجوده. وهو
الّذي يقال له اللاّخلاء واللاّملاء المكانىّ.
وليس أنّه يبطل
ويرتفع عن الواقع بوجود المكان والمكانيّات كما وجب أن يبطله اللاّخلاء واللاّملأ
الزّمانىّ ويرتفع عن الواقع بوجود الزّمان والزّمانيّات ، بل إنّما يصدق الحكم
بهذا بحسب الواقع مع وجود الفلك الأقصى وسائر المقادير والامتدادات بتّة.
فإذن ، قد وضح
: أنّه يمكن ، للفلك الأقصى بالنّظر إلى نفس ذاته وطباع هويّته الجرميّة ، مع عزل
النّظر (١٦٤) عن كلّ ما يغاير طباع الامتداد الجرمانىّ ، أن يتصوّر امتداد جرمه فى
ابتداء الفطرة على مقدار هو أعظم من المقدار الّذي هو عليه الآن ، فيكون شاغلا
لبعض العدم الّذي هو اللاّخلأ واللاّملأ المكانىّ وإن كان ذلك توهّما كاذبا
مستحيلا بالنّظر إلى ذلك العدم ، لأنّه انتفاء محض وليس بالضّرورة ، لا يعقل فيه
بعد وجهة حتّى يمكن أن يمتدّ شيء فيه وينبسط.
وليس شأنه
بالقياس إلى العدم الصّرف الّذي هو انتفاء ذاته بالمرّة ، وهو اللاّملاء واللاّملأ
الزّمانىّ على تلك الشّاكلة ؛ فإنّه يمتنع أن يتصوّر انبساط الامتداد الجرمانىّ وتماديه
بحيث يقع فى شيء من ذلك العدم من كلّ جهة ، سواء اعتبر الأمر بحسب ذات ذلك
الامتداد وهويّته أو بحسب طباع المفهوم من ذلك العدم.
وإذ قد تمّ :
أنّ الامتداد الزّمانىّ بحسب سنخ ذاته وهويّته ، بحيث لا يمكن أن يتصوّر بالإضافة
إليه إلاّ أحد ذينك العدمين فقط ؛ أى الّذي وضع له اللاّخلأ واللاّملأ الزّمانىّ ،
وهو الّذي مفهومه انتفاء الزّمان والزّمانيّات بالمرّة ، والّذي الزّمان مسبوق به
فى وعاء الدّهر ، وهو غير مجتمع معه فى الواقع البتة ، ولا هو بمنته إليه بطرفه
فقط.
فقد تحقّق أنّه
ليس من الجائز أن يتصوّر أنّ من الممكن أن يخلق الزّمان قبل ما خلق وأن يكون له فى
البداية مقدار أعظم ممّا قد حصل بوجه من الوجوه أصلا ، لا بحسب ذاته ولا بحسب ما
يتصوّر من العدم بالقياس إليه.
وبالجملة ، فرض
كون الزّمان أكثر مقدارا وأطول تماديا فى جهة البداية ممّا قد خلق عليه هو بعينه
فرض كونه موجودا قبل وجوده ؛ بخلاف الفلك الأقصى ؛ فإنّ كونه أعظم مقدارا فى أوّل
الفطرة ممّا قد خلق عليه لا يستلزم كونه موجودا قبل وجوده ، فضلا عن أن يكون فرض
أحد الأمرين هو بعينه فرض الآخر ، وفرض وجود الزّمان قبل وجوده فى قوّة فرض
الامتداد فى اللاّخلأ واللاّملأ الزّمانىّ. فإذن قد تمّ نصاب الفرق بين الزّمان والفلك
فى هذا الحكم.
وقد تبيّن من
ذلك أنّ اللاّخلأ واللاّملأ لا يبطل بوجود الملأ المكانىّ فى الواقع ، بل يجتمع
ذلك العدم مع هذا الوجود فى الواقع بخلاف اللاّخلأ واللاّملأ الزّمانىّ ؛ فإنّه
يبطل وينقّض بوجود الملأ الزّمانىّ فى الواقع ولا يحشد ذلك العدم وهذا الوجود فى
الواقع ، بل حيث قام صدق الحكم بالأخير انقضّ صدق الحكم بالأوّل.
وإذ قد ألقيت
سمعك إلى ما تلوناه عليك ، فاتّخذه مشرعا لعقلك إلى نهر الحكمة وشريعة لسيرك فى
عوالم الملكوت واعتلق به فى روعك أشدّ الاعتلاق ؛ فإنّه من جملة ما يتمّ به ميقات
أن يستقرّ عرش الحكمة الحقيقيّة اليقينيّة وينقضّ جدار الفلسفة الظنّيّة
التّخمينيّة.
<٤٠> إعضال طاح ومخرج ضاح<القضاء والقدر>
إنّ فيما
أوضحنا سبيله إشكالا عويصا وتعضيلا غامضا غير مختصّ بمحجّة الحقّ ، بل عسر
الصّعوبة شديد الغموض عامّ التّضييق على الحكمة التّحقيقيّة اليمانيّة وعلى
الفلسفة التّخمينيّة اليونانيّة وعلى الطريقة التّخييليّة الّتي خيّلها المتكلّمون
جميعا.
وهو أنّه ، كما
يقضى البرهان بتناهى امتداد الزّمان والحركة من جانب الأزل ويبطل أزليّة وجود
التّوسّط والآن السيّال ، فكذلك يقضى بذلك فى جانب الأبد ويبطل أبديّة وجود هذين
من غير فارق ضرورة الماضى والمستقبل كليهما موجودان فى وعاء الدّهر على وصف الوحدة
الاتّصاليّة ، ويتّصفان بالحضور عند البارى بتّة دفعة واحدة دهريّة.
فإذن ، يلزم أن
ينتهى الزّمان إلى حيث لا يتمادى بعده أصلا. والآن السّيّال إلى حيث مستمرّين بعد.
وكذلك حكم الحوادث الزّمانيّة المتجدّدة على سبيل التّرتيب. فكما اقتضى البرهان
تناهيها فى الآزال فكذلك يلزم منه تناهيها فى الآباد ، فيكون للحدوث حدّ ينتهى
إليه ، فلا يتحقق بعد حادث وحدوث. وقد ذكر من قبل :
أنّ المتهوّسين بقدم الجائزات إنّما انصرفوا عن السّبيل فى دعواهم
السّرمديّة للزّمان والحركة والأزليّة للموجودات الزّمانيّة المتسابقة على أن
يتحفّظ النّوع بتعاقب الأفراد لا إلى أوّل ، لا فى الحكم بعدم الانقطاع فى جانب
الأبد ، إذ لا يصحّ وقوف تجدّد الحدوث وتمادى الزّمان فى حدّ لا يتعدّاه
الاستمرار.
أليس فيض الحقّ
الدّائم لا يقصر عن الأبديّة ، وجود الجواد المحض لا يتعطل عن الدّوام ، وكأنّ
كريم التّنزيل ناصّ على ذلك فى قوله ـ عزّ من قائل ـ : قُلْ لَوْ كٰانَ
الْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ
أَنْ تَنْفَدَ كَلِمٰاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنٰا بِمِثْلِهِ مَدَداً
(الكهف ، ١٠٩). وفى قوله ـ تعالى مجده وتقدّس عزّه ـ : وَلَوْ أَنَّ مٰا فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اللّٰهِ إِنَّ
اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (لقمان ، ٢٧).
فكلمات الرّبّ
يشبه أن تكون هى معلولاته ومصنوعاته المتسلسلة فى الآباد ، لا إلى آخر. فإذن ،
يلزم أن يكون مقتضى البرهان على مضادّة ما عليه الأمر نفسه.
والّذي كان قد
استبان لى سبيله فى حلّ هذا الإعضال آونة من قبل هذا الأوان هو : أنّ الوجود على
سبيل التّدريج يتصوّر أن يكون الماضى منه قد وجد ، لا إلى بداية. على معنى أنّ
اللاّنهاية بالعقل قد حصلت فى جانب الأزل ولكن على التّدريج. ثمّ الفحص يبطله والبرهان
يحيله.
وأمّا المستقبل
منه فى جانب الأبد فلا يتصوّر فيه حصول اللاّنهاية بالفعل. وإنّما يعقل أن يكون
غير متناه على معنى أنّه لا يقف عند حدّ لا يستمرّ بعده الحصول على سبيل الاتصال ،
لا على أن يكون له لا تناه بالفعل. فلو كانت اللاّنهاية فى جهة الأبد بالفعل لم
يكن الحصول على التّدريج. أما سمعتهم يقولون : إنّ التّسلسل من جانب المعلول لا
يتصوّر إلاّ إذا عنيت به اللاّنهاية اللاّيقفيّة ، لا اللاّنهاية العدديّة ، بخلاف
التّسلسل من جانب العلّة.
فإذن ، كلّ ما
يوجد من المتصل الغير القارّ يتمّ وجوده فى الماضى على وحدته الاتصاليّة ويستمرّ
موجوديّته فى الآتى أيضا على جهة الاتّصال. فكلّ ما يخرج من القوّة إلى الفعل
متناه أبدا بلا ارتياب.
وأمّا ما له
بحسب القوّة البحتة إمكان الخروج من القوّة إلى الفعل ، فيظنّ أنّه ليس على نهاية وإن
كان الخارج إلى الفعل متناهيا بالفعل أبدا ؛ وليس بصحيح ، فإنّ ما لا نهاية له ليس
فى قوّته أن يخرج إلى الفعل ، وما يمكن بالقوّة خروجه إلى الفعل محكوم عليه بالتّناهى
منه ، لكن مرتبة تناهيه غير متعيّنة بالوقوف عنه حدّ أخير لا يتعدّاه أصلا.
فالّذى يصحّ أن
يسلب عنه هو التّناهى إلى النّهاية الأخيرة ، لا تناهى الكمّية بالمعنى الحقيقى.
ففى ذلك مغالطة باشتراك الاسم ، والصّحيح : أنّ المستقبل الموجود مع الماضى فى
وعاء الدّهر والخاصّ معه عند العليم الّذي هو بكلّ شيء محيط هو ماله إمكان
الفعليّة. وليس هو إلاّ متناهى الكميّة ، لكن لا إلى نهاية أخيرة متعيّنة.
فهذا مسلك ربما
انتهى ، إذ توغّل فيه إلى بذل المجهود فى هذا الموضع الغامض المهيل. ولكنّه وإن
كان على نمط التّحصيل فكأنّه ليس بمقنع للنّفس فى تيسير العسير ولا بمشبع للعقل فى
تسهيل التّعضيل. ألم يتقرّر بما سبق أنّ التّدريج إنّما هو فى افق الزّمان ، لا فى
وعاء الدّهر. فما يوجد من الزّمان تدريجا يكون وجوده بماضيه ومستقبله فى وعاء
الدّهر وحضوره بآزاله وآباده عند العليم الحكيم دفعة واحدة دهريّة.
فإذن ، الوجود
فى وعاء الدّهر ـ وهو الحاضر بهويّته العينيّة عند اللّه تعالى ـ إمّا متناه فى
الوجود عنده على حدّ بعينه ، فلا يصحّ أن يوجد بعده شيء وقد وضع خلافه (١٦٥). وإمّا
أنّه غير متناه عند حدّ ولا محالة يكون ذلك لا تناهى الكميّة بالمعنى المقابل
للنّهاية بالفعل ؛ إذ التّناهى بالفعل على سبيل عدم الوقوف فى تعيّنه ليس يعقل
إلاّ مع التّدريج المستحيل فى وعاء الدّهر وفى الحضور عند البارى تعالى فيجرى فيه
حكم البرهان بتّة.
وبالجملة ، لا
منتدح من لزوم أحد المحالين : إمّا لا تناهى الكميّة بالفعل فى الأعيان، وإمّا
الحصول فى وعاء الدّهر على التّدريج والحصول عند مبدع الكلّ شيئا
فشيئا ، فيلزم الامتداد فى وعاء الدّهر ، وكون نسبة الموجود الحقّ إلى جملة
ما يوجده من المعلولات نسبة متعدّدة زمانيّة ـ تعالى مجده عن ذلك ـ.
وهذه عقدة من
دواهى العقد وعضلة من أزاهى العضل. وهى فى زمر العويصات الّتي تعزّ شبيهتها ويندر
ضهيّتها فى العلوم والصّناعات ، وتعمّ داهيتها الحكمة اليقينيّة والفلسفة
التّخمينيّة والطريقة المتخيليّة للمتكلمين ، ولا يوفى حقّها إلاّ أن تعدّ من أعضل
ما لا ينفلّ وأشكل ما لا ينحلّ.
وإنّى قد كنت
وكدت الفصية عنها حتى ما زال ذلك وكدى برهة من العمر ، فلم يستبن لى فى هذه
الثّلاثين سنة ، إلاّ ما أومض أحانين الاشتغال بكتاب الصّراط المستقيم فضمّنته
إيّاه. والآن فأعتصم بربّ الملك والملكوت ، وأستعين بعالم الغيب والشّهادة ، وأستأنف
نمطا غيبيّا واسلوبا قدسيّا ومسيرا عرشيّا وسبيلا ملكوتيّا ، وأقتصر على تأصيل أصل
الحكمة بإقامة ركن الوجهة وإراءة سمت البغية. وأمّا البسط والتّفصيل والرّمّ والتّحصيل
فعسى أن يكون فى آخرين من الحكماء لمّا يلحقوا بنا ، من ينوب عنّى فى ذلك نيابة
تامّة وعيبة عقليّة ، فحمل أعباء ما ينضح الحكمة من أحصاف راسيات على شعوب الحقائق
عظيمة وأسحاف داهيات فى كهوف المضائق وخيمة أصبحت زمر العقول عن أهوالها عقيمة
الأصلاب وجماجم القرائح من أوزارها سقيمة الأرواح ، قد أثقل ظهر قريحتى ، فما وحمت
وحم القروع ، ولا التفتّ لفت الجزئيّات.
فاعلمن ، ولا
تتّبعن ظنون الأوهام : أنّه لمّا لم يكن بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر ولا بحسب
الوجود عند المبدع الجاعل تدريج ولا نسبة متقدّرة ولا مسبوقيّة بالمادّة لا يجتمع
بحسبها السّابق والمسبوق ، سواء كان ذلك بالسّبق الزّمانىّ أو بالسّبق الدّهرىّ.
فالموجود التّدريجىّ فى افق الزّمان وبالقياس إلى الزّمانيّات يكون ذلك الّذي هو
تحقّقه بعينه من حيث وجود فى الواقع وحضور عند المبدع الحقّ له بتمامه فى وعاء
الدّهر مرّة واحدة وإن كان هو بخصوصه فى افق التّقضّى والتّجدّد على التّدريج والتّعاقب.
لست أقول : إنّ
له وجودين : أحدهما تدريجىّ والآخر بمعزل عن التّدريج والدّفعة الزّمانيّة ، ولكنّى
أقول : إنّ ذلك الوجود بعينه له اعتباران يترتّب عليهما الحكمان. وكذلك الشّيء
المادّىّ الّذي هو حادث زمانىّ يوجد ويكون وجوده بحيث إذا لوحظ من حيث تخصّص
هويّته بالوقوع فى حدّ مخصوص من حدود افق التّغيّر كان حصوله لا محالة بعد أن كان
قد حصل وجود المادّة بعديّة يتخلّف بحسبها وقوع البعد عن وقوع القبل فى افق
الزّمان.
وإذا لوحظ من
حيث هو حصول فى وعاء الدّهر وتحقّق حضور عند المبدع الحقّ لم تكن فعليّته بعد وجود
المادّة بالفعل بعديّة زمانيّة أو دهريّة ، بل إنّما ذو المادّة والمادّة يكون
بذلك الاعتبار وجودهما بالفعل معا معيّة دهريّة وإن كان فى ذلك الاعتبار أيضا وجود
ذى المادّة متوقّفا على وجود المادّة ومتأخّرا عنه تأخّرا بالطبع ، لتعلّقه
بالمادّة ، لا تأخّرا بالزّمان أو بالدّهر ؛ لكونهما معا فى وعاء الدّهر من غير
تخلّف أحدهما عن الآخر فى الكون الدّهرىّ وفى الحصول الحضورىّ عند من هو بكلّ شيء
محيط ؛ فإنّ قاطبة الجائزات من المادّيّات والمفارقات والزّمانيّات والموجودات
الغير الزّمانيّة موجودة معا بحسب وعاء الدّهر وبحسب التّحقّق الحضورىّ عند جاعلها
الحقّ.
فإذن ، قد
اعتبر المستقبل من الموجود التّدريجىّ فى الآباد بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر ، وبحسب
ما يبصر حصوله البصير الحقّ اختير أنّه غير متناه بالفعل وليس ينفذ حكم البرهان
على امتناع اللاّنهاية ؛ لعدم التّرتّب والتّعقّب فى ذلك الحصول ، بل إنّ جميع
الموجودات والمتكثّرات بحسب ذلك الوجود وباعتبار ذلك الحضور فى حكمه موجود واحد
قارّ الوجود بتمامه ، كما قال ـ جلّ من قائل ـ فى القرآن الكريم : مٰا
خَلْقُكُمْ وَلاٰ بَعْثُكُمْ إِلاّٰ كَنَفْسٍ وٰاحِدَةٍ إِنَّ
اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (لقمان ، ٢٨).
وإن اعتبر ذلك
بحسب وقوعه التّدريجىّ فى افق التّقضّى والتّجدّد وبحسب ما فى قوّة الأبصار
الزّمانيّة أنّ نشاهد حصوله بالفعل ؛ قيل : إنّه متناه ، لا عند نهاية أخيرة لا
يتعداها. فحكم البرهان على وجوب تناهى الكميّة إنّما يجرى فيما حواه الوجود
بالفعل فى افق التّغيّر والتّعقّب ، ولو كان لا معا ، بل على جهة التّدريج
، سواء كان ذلك فى جانب الأزل أو فى جانب الأبد. فإذن ، الماضى والمستقبل فى افق
الزّمان متساويان فى امتناع اللاّنهاية بحسب الكميّة.
ويشبه أن يكون
نسبة الوجود بحسب كونه كونا دهريّا ، أى : حصولا فى وعاء الدّهر وحضورا عند البصير
الحقّ ، إلى نفسه بحسب كونه كونا متقدّرا ، أى : حصولا فى افق الزّمان ووقوعا
بالقياس إلى ما يقع فى قطر التّقضّى والتّجدّد من وجه ؛ كنسبة القضاء إلى القدر ، وكنسبة
العلم البسيط الإجمالىّ إلى العلوم المتكثّرة التّفصيليّة ، وكنسبة القسمة
الفرضيّة العقليّة الكليّة إلى القسمة الوهميّة الجزئيّة وإن كانت من وجه آخر
مباينة لتلك النّسبة من حيث إنّ الموجودات فى وعاء الدهر وفى الحضور عند البصير
الحقّ متحقّقة على ما هى عليه بوجود هما المتكثّرة التّفصيليّة ، ولكن لا على
الترتّب التّدريجىّ ، بل بالمعيّة الدهريّة.
بخلاف
المعلومات فى العلم البسيط الإجمالىّ ؛ فإنّها حاصلة فيه بصورة وحدانيّة مجملة
تصلح أن تنبسط وتتعرّف منها التّفاصيل ، وبخلاف الأجزاء الغير المتناهية الممكنة
الانفراض فى مقدار المهد الواحد ؛ فإنّها حاصلة بالفعل فى القسمة العقليّة الكليّة
بوجه إجماليّ ، لا بوجوه تفصيليّة ، لقصور العقل عن الإحاطة بما لا يتناهى على
التّفصيل وانبتات التّفصيل بانبتات لحاظ العقل.
فإذن ، الوجود
العينيّ بما هو تحقّق فعليّ فى وعاء الدّهر وحصول تصوّريّ عند البصير الحقّ «قضاء»
، وبما هو كون بالفعل فى افق الزّمان ووقوع زمانىّ فى قطر التّقضّى والتّجدّد «قدر»
، وهذان قضاء وقدر بحسب الوجود فى الأعيان.
وهذا القضاء وإن
كان فيه تفصيل فهو مجمل بالنّسبة إلى هذا القدر ، لكون جملة الموجودات الجوازيّة
بحبسه فى مرتبة واحدة من غير تسابق ، بل فى حكم موجود واحد. وهى بحسب «القدر»
كثرات مترتّبة متسابقة ، فهو تفصيل «القضاء» الّذي هو مجمل إضافىّ بالنّسبة إليه وإن
كان مفصّلا فى نفسه.
ولكلّ من
القضاء والقدر معنيان آخران لا يتجاوزهما إطلاقات جمهور
الفلاسفة على المشهور عند مشّائيّة الإسلام ، وليس يؤخذ بحسبها فى القضاء
إلاّ الوجود العلمىّ دون الوجود العينىّ الّذي هو بعينه صورة علميّة حضوريّة.
فمرّة يقال : القضاء علم الموجود الحقّ بمعلوماته علما كماليّا إجماليّا ، والقدر
تفصيل ذلك الإجمال. واخرى يوضع: إنّ القضاء : عبارة عن وجود جميع الموجودات فى
العالم العقلىّ مجتمعة ومجملة على سبيل الإبداع. والقدر : عبارة عن وجودها فى
موادّها الخارجيّة (١٦٦) بعد حصول شرائطها مفصّلة ، واحدا بعد واحد ، كما جاء فى
التّنزيل فى قوله ـ عزّ من قائل ـ : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّٰ
عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَمٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ (الحجر ، ٢١).
وليس أنّهم من
هذا القول والوضع لم يولّوا وجوههم شطر الحقّ ، بل إنّما انصرفوا عن السّبيل
بالاقتصار على ذلك. ولو تحقّق المسألة كنه التّحقّق لم يراوغهم احتباس الأمر فيه.
وقولهم : «لمّا
كان للموادّ فى العالم العقلىّ صور متباينة استحال أن تفيض دفعة على الموادّ ، وإلاّ
اجتمعت المتباينات ، والمادّة غير متأتية لقبول صورتين معا ، فضلا عن تلك الكثرة
أو لا تقبض أصلا. وإنّه حطّ للمادّة عن درجة الوجود ، إذ لا وجود لها إلاّ
بالصّورة.
وكان الجود
الإلهيّ مقتضيا لتكميل المادّة بإبداع تلك الصّور فيها وإخراج ما فيها بالقوّة من
قبول تلك الصّور ، إلى الفعل. فلذلك قدّره بلطيف حكمته زمانا غير منقطع فى الطرفين
يخرج فيه تلك الامور من القوّة إلى الفعل ، واحدا بعد واحد ، فتصير الصّور فى جميع
ذلك الزّمان موجودة فى موادّها ، والمادّة كاملة بها. وخلق فلكا غير منقطع الحركة
يختلف أحوال المادّة واستعداداتها بحسب اختلاف حركة فترة صورة على المادّة بحسب
استعداد استعداد. وهذا هو القدر ، أى وجود الموجودات فى الخارج بحسب الاستعدادات
المختلفة ، وهو تفصيل ما كان مجمل الوجود فى الأزل».
قول صادق. ولكن
فى الدّفعة الزّمانيّة وبحسب افق الزّمان. فالتّصادم بين
الصّور فى ذلك الافق لا فى المعيّة الدّهريّة ؛ إذ لا تصادم بينها بحسب
وعاء الدّهر. وسيعاد عليك ذكر القضاء والقدر بمترقب القول فى «الرّبوبيّات» إن شاء
اللّه تعالى.
فالآن ، قد
أسمعناك معانى اللّفظين ، وأنّ القضاء علميّ وعينيّ. فهو على ضربين مختلفين ؛ وكما
يصحّ أن يعنى به ظهور بالعلم ويتمثّل فى العالم العقلىّ ، فكذلك يصحّ أن يعنى به
وجود فى الأعيان. وعلّمناك أنّه يمتنع اللاّنهاية بالفعل فى القدر ، لا فى القضاء.
فربّ القضاء والقدر
وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى ، ولا يضيق عن الإحاطة بجملة ما لا نهاية له ،
مجملة ومفصّلة. وهو واسع عليم ، وأنّ ما يوجد فى الزّمان فى وعاء الدّهر ويتمّ
وجوده التّدريجىّ بالفعل فى افق التّغيّر ويبقى تحققه بتمامه فى وعاء الدّهر بقاء
دهريّا ، لا زمانيّا ؛ فإنّه يجب أن يكون متناهى الكميّة ، سواء كان فى الآزال أو
فى الآباد ، وأنّ المادّيّات ليست فى القضاء ، أعنى بحسب الوجود العينىّ فى وعاء
الدّهر والحضور الوجودىّ عند ربّ القضاء والقدر ، متأخّرة عن حصول موادّها ، بل هى
وموادّها بحسب ذلك فى درجة واحدة.
فلو سمعتنا
نقول : إنّ المادّيات إنّما هى مادّيّة فى القدر وفى افق الزّمان ، لا فى القضاء
الوجودىّ فى وعاء الدّهر وفى الحصول الحضورىّ عند العليم الحقّ ؛ فافقه : أنّا
نعنى بذلك سلب سبق المادّة فى ذلك النّحو من الوجود ، لا مفارقة المادّة والانسلاخ
عنها هناك حتى يصير المادّىّ مجرّدا باعتبار آخر.
وأحقّ ما تسمّى
به الموجودات الزّمانيّة بحسب وقوعها فى القضاء العينىّ ، أى : تحقّقها فى وعاء
الدّهر المثل الغيبيّة أو القضائيّة والصّور الوجوديّة أو الدّهريّة ، وبحسب
وقوعها فى القدر ، أى : حصولها فى افق الزّمان والأعيان. والكونيّة ، أى : الكائنات
القدريّة. فهذا سرّ مرموز كلمتنا ، ونحن ـ زمرة الحكماء ومعشر أهل التّحصيل ـ لا
نروم بكلماتنا إلاّ إيّاه.
وإنّى لست أظنّ
بإمام اليونانيّين ، أفلاطن الإلهيّ أنّه قد كان يقصد فى أمر الصّور والمثل
المعلّقة ، لا فى مادّة غير هذا السّرّ ، إلاّ أنّ أتباع معلّم المشّائيّة أساءوا
به الظنّ واستاموا ما سوّلته لهم أو هامهم وقصّروا فى الفحص ووفّروا على
وقيقتهم فى المثل الأفلاطونية وعدّ مساويها ، فلم يكن اعتمالهم إلاّ لانطفاء نور
الحكمة وتفاشى ديجور الظّلمة.
وممّا يجب أن
يعلم أنّ ما فى كتب المشّائين يبيّن أنّ الجواهر العقليّة وما معها موجودة فى
القضاء والقدر مرّة واحدة باعتبارين ، والجسمانيّة وما معها موجودة فيهما مرّتين ،
وأنّ كلّ شيء يوجده الأوّل الحقّ بوسط أو بغير وسط يتأدّى قدره الّذي هو تفصيل
قضائه الأوّل إلى ذلك الشّيء بعينه تأدّيا على سبيل الوجوب ، كلمة حقّة ، سواء ،
اخذت بحسب القضاء العلمىّ أو بحسب القضاء الوجودىّ العينىّ.
أمّا فى القضاء
العلمىّ ، فلأنّ وجود المفارقات فى العلم هو بعينه وجودها فى العين بالذّات ، والاختلاف
بالاعتبار ، فلا وجود لها إلاّ على نحو واحد ، لكن باعتبار الإجمال والتّفصيل ، ويستوى
فى ذلك لحاظ فى جهة الأزل أو فى جهة ما لا يزال. فهى موجودة فى القضاء والقدر مرّة
واحدة بخلاف الصّور والأعراض الجسمانيّة. إذ لها وجود فى العلم قبل وجودها فى
العين. وللعلم لها مراتب سابقة على وجودها فى الأعيان. فهى موجودة فى القضاء والقدر
، مرّتين ، مرّة فى الأزل مجملة ومرّة فيما لا يزال مفصّلة.
وأمّا فى
القضاء العينىّ ، فلأنّ الجواهر المفارقة ليس لها وجود زمانىّ ، وإنّما وجودها
دهرىّ من كلّ وجه واقع فى وعاء الدّهر فقط. فوقوعها فى القضاء والقدر واحد. والعقل
يحصّل اعتبارين بالإجمال والتّفصيل فى نحو واحد من الوجود فى وعاء واحد ، بخلاف
المادّيّات ؛ فإنّها موجودات زمانيّة. فوجودها يعتبر مرّة بحسب كونها متحققة
الذّوات فى وعاء الدّهر ؛ ومرّة بحسب كونها الزّمانىّ الّذي لها فى افق الزّمان.
فلا جرم يكون وقوعها فى القضاء والقدر مرّتين. والقضاء العينىّ بحسب التّحقّق فى
وعاء الدّهر ، والقدر الّذي بإزائه بحسب الكون الزّمانىّ.
<٤١> ختام فصوليّ
إذا نوّرت جوّ
سرّك بما استنار لك تبيانه واطمأنّ إليه قلبك ، فاعلم أنّ معلّم المشّائين لم يهمل
ذكر الحقّ ولم يتعدّ طور الصّواب. وناهيك من بيان وتنبيه منبّه
ما له فى كتاب اثولوجيا. ألم تر إلى ما فى الميمر الخامس منه ؛ وقد نقلناه
فى الفصل الماضى. فالآن نكرّر عليك. إنّه قال :
«بل ينبغى أن
يتوهّم المتوهّم أنّ أفعال الفاعل الأوّل هى قائمة عنده ، وليس شيء عنده أخيرا ،
بل الشّيء الّذي عنده أوّلا ، هو هاهنا أخيرا. وإنّما يكون الشّيء أخيرا ؛ لأنّه
زمانىّ ، والشّيء الزّمانىّ لا يكون إلاّ فى الزّمان الّذي وافق أن يكون فيه.
فأمّا عند الفاعل على الأوّل فقد كان لأنّه ليس هناك زمان. فإن كان الشّيء الملاقى
فى الزّمان المستقبل هو قائم هناك ، فلا محالة إنّه إنّما يكون هناك موجودا قائما
، كما أنّه سيكون فى المستقبل. فإن كان هذا هكذا ، فالشّيء ، إذن ، الكائن فى
المستقبل هو هناك موجود قائم لا يحتاج فى تمامه وكماله هناك إلى أحد الأشياء
البتّة.
فالأشياء ، إذن
، عند البارى ـ جلّ ذكره ـ كاملة تامّة ، زمانيّة كانت أم غير زمانيّة ، وهى عنده
دائما ؛ وكذلك كانت عنده أوّلا ، كما يكون عنده أخيرا.
فالأشياء
الزّمانيّة إنّما يكون بعضها من أجل بعض ، وذلك أنّ الأشياء إذا هى امتدّت وانبسطت
وبانت عن البارئ الأوّل كان بعضها علّة كون بعض. وإذا كانت كلّها معا ولم تمتدّ ولم
تنبسط ولم تبن عن البارئ الأوّل لم يكن بعضها علّة كون بعض ، بل يكون البارئ
الأوّل علّة كونها كلّها» . فهذه ألفاظه.
وله فى هذا
الكتاب تنصيصات على المثل العينيّة والصّور الدّهريّة الرّوحانيّة ، أعنى
الموجودات الزّمانيّة ، بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر وعند البارئ الأوّل تعالى (١٦٧).
وبعض من حمل
عرش تعليم الفلسفة فى الإسلام ما عطّل استقصاء النّظر ولا ضيّع حقّ الإنصاف ، فقال
فى مقالته الّتي فى الجمع بين الرّأيين قولا مستقصى. ومن ذلك أيضا الصّور والمثل
الّتي تنسب إلى أفلاطن من أنّه يثبتها ، وأنّ أرسطو
__________________
طاليس على خلاف رأيه فيها.
وذلك أنّ
أفلاطن فى كثير من أقاويله يؤمى إلى أنّ للموجودات صورا مجرّدة فى عالم الإله ، وربما
يسمّيها «المثل الإلهيّة» ، وأنّها لا تدثر ولا تفسد ، ولكنّها باقية ، وأنّ الّتي
تدثر وتفسد إنّما هى هذه الموجودات التى هى كيانيّة. ولأرسطو طاليس فى حروفه فى ما
بعد الطبيعة كلام فيه يشنّع على القائلين بالمثل والصّور الّتي يقال إنّها موجودة
قائمة فى عالم الإله غير فاسدة ، ويبيّن ما يلزمها من الشّناعات ؛ مثل أنّه يجب أن
يكون هناك خطوطا وسطوحا وأجساما وأفلاكا ، ثمّ توجد حركات تلك الأدوار والأفلاك وأن
يوجد هناك علوم ، مثل علم النّجوم وعلى اللّحون والأصوات مؤتلفة وأصوات غير مؤتلفة
وطبّ وهندسة ومقادير مستقيمة واخر معوجّة وأشياء حارّة وأشياء باردة. وبالجملة ،
كيفيّة فاعلة ومنفعلة وكليّات وجزئيّات وموادّ وصور ، وشناعات اخر تنطق بها تلك
الأقاويل ، ممّا يطول بذكرها هذا القول.
وقد استغنينا
بشهرتها عن الإعادة ، مثل ما فعلنا سائر الأقاويل ، حيث أومأنا إليها وإلى أماكنها
وخلّينا ذكرها للحكيمين لمن يلتمسها من مواضعها ؛ فإنّ الغرض المقصود من مقالتنا
هذه إيضاح الطرق الّتي إذا سلكها طالب الحقّ لم يضلّ فيها وأمكنه الوقوف على حقيقة
الموادّ بأقاويل هذين الحكيمين من غير أن ينحرف عن سواء السّبيل إلى ما يخيّله
الألفاظ المشكّكة.
وقد تجد أنّ
أرسطوطاليس فى كتابه فى الرّبوبيّة المعروف ب أثولوجيا يثبت الصّور الرّوحانيّة ويصرّح
بأنّها موجودة فى عالم الرّبوبيّة.
فلا يخلو هذه
الأقاويل إذا اخذت على ظواهرها من إحدى ثلاث حالات : إمّا أن تكون متناقضة ، وإمّا
أن يكون بعضها لأرسطو طاليس وبعضها ليس له ، وإمّا أن يكون لها معان وتأويلات تتفق
بواطنها وإن اختلفت ظواهرها ، فتطابق عند ذلك وتتفق.
فإمّا أن يظنّ
بأرسطو طاليس ، مع براعته وشدّة تيقّظه وجلاله هذه المعانى عنده ، أعنى الصّور
الرّوحانيّة ، أنّه يناقض نفسه فى علم واحد ، وهو العلم الرّبوبىّ ، فبعيد
ومستنكر جدّا ؛ وإمّا أنّ بعضه لأرسطو طاليس وبعضه ليس له ، فهو أبعد جدّا
؛ إذ الكتب النّاطقة بتلك الأقاويل أشهر من أن يظنّ ببعضها أنّه منحول. فقد بقى أن
يكون لها تأويلات ومعان إذا كشف عنها ارتفع الشكّ والحيرة.
فنقول : إنّه
لمّا كان البارئ ـ جلّ جلاله ـ بإنيّته وذاته مبائنا لجميع ما سواه. وذلك له بمعنى
أشرف وأفضل وأعلى بحيث لا يناسبه فى إنيّته شيء ولا يشاكلها كلّه ، ولا يشبهه
حقيقة ولا مجازا.
ثمّ مع ذلك لا
بدّ من وصفه وإطلاق لفظ فيه من هذه الألفاظ المتواطية عليه ، فإنّه من الواجب
الضّرورىّ أن يعلم أنّ مع كلّ لفظة نقولها فى شيء من أوصافه معنى بذاته بعيد من
المعنى الّذي نتصوّره من تلك اللّفظة. وذلك ، كما قلنا ، بمعنى أشرف وأعلى ، حتى
إذا قلنا : «إنّه موجود» علمنا مع ذلك أنّ وجوده لا كوجود سائر ما دونه. وإذا قلنا
: إنّه حيّ علمنا أنّه بمعنى أشرف ممّا نعلمه من الحىّ الّذي هو دونه. وكذلك الأمر
فى سائرها.
ومعها استحكم
هذا المعنى ، وتمكّن من ذهن المتعلم للفلسفة الّتي بعد الطبيعة ، سهل عليه تصوّر
ما يقوله أفلاطن وأرسطو طاليس ومن سلك سبيلهما. فلنرجع الآن إلى حيث فارقناه ونقول
:
لمّا كان اللّه
ـ تعالى ـ حيّا مريدا مبدعا لهذا العالم بجميع ما فيه ، فواجب أن يكون عنده ما صور
ما يريد إيجاده فى ذاته ـ جلّ اللّه عن الأشباه ـ وأيضا ، فإنّ ذاته لمّا كان
باقيا لا يجوز عليه التبدّل والتّغيّر فما هو من خبره أيضا كذلك باق غير داثر ولا
متغيّر. فعلى هذا المعنى ينبغى أن يعرف ويتصوّر أقاويل أولئك الحكماء فيما أثبتوه
من الصّور الإلهيّة ، لا على أنّها أشباح قائمة فى أماكن اخر خارجة عن هذا العالم
؛ فإنّها متى تصوّرت على هذا السّبيل يلزم القول بوجود عوالم غير متناهية كلّها
كأمثال هذا العالم. وقد بيّن الحكيم أرسطو طاليس ما يلزم القائلين بوجود العوالم
الكثيرة فى كتبه الطبيعيّة ، وشرح المفسّرون أقاويله بغاية الإيضاح.
وينبغى أن
يتدبّر هذا الطريق الّذي ذكرناه مرارا كثيرة فى الأقاويل الإلهيّة ؛
فإنّه عظيم النّفع وعليه المعوّل فى جميع ذلك ، وفى إهماله شديد الضّرر ؛ وأن
يعلم أنّ الضّرورة تدعو إلى إطلاق الألفاظ الطبيعيّة والمنطقيّة المتواطية على تلك
المعانى اللّطيفة الشّريفة العالية عن جميع الأوصاف المتبانية عن جميع الامور
الكيانيّة الموجودة بالوجود الطبيعىّ ؛ فإنّه إن قصد إلى اختراع ألفاظ اخر واستيناف
وضع لغات سوى ما هى مستعملة لما كان يوجد السّبيل إلى ألفاظ يتصوّر منها غير ما
باشرته الحواسّ.
فلمّا كانت
الضّرورة تمنع وتحول بيننا وبين ذلك اقتصرنا على ما يوجد من الألفاظ وأوجبنا على
أنفسنا الإخطار بالبال أنّ المعانى الإلهيّة الّتي عنها يعبّر بهذه الألفاظ هى
بنوع أشرف وأعلى غير ما نتخيّله ونتصوّره.
هذا ما قاله
معلّم أتباع أرسطاطاليس من الإسلاميّين ، أبو نصر الفارابىّ. وإنّما التزمنا
إيراده بألفاظه ، لما كان يتضمّن من جزيل النّفع وجليل الجدوى. فهذا الرّجل
المبرّز قد أوفى النّظر حقّه ولم يخلّ بما كان يجب عليه من الاجتهاد إلاّ أنّ فيما
لم نورده من ألفاظه ما يوهم أنّه يظنّ : أنّ للموجودات صورا وآثارا فى ذات البارى
الأوّل على سبيل التّمثّل فيه ـ تعالى عن ذلك غلوّا كبيرا ـ وإنّما ذلك شأن
الأذهان المعلوليّة الممكنيّة.
ولا ينبغى أن
يتوّهم متوهّم أنّه قد نحى نحو ما ينساق إليه ظاهر اللّفظ ؛ فإنّه إنّما رام بذلك
أنّ الموجودات بحسب كونها فى وعاء الدّهر غير عازبة عن بصره ـ تعالى ـ ولا داثرة ولا
متغيّرة فى ذلك الوعاء أصلا ، كالصّور المتمثّلة فى ذات الجوهر العاقل. فنسبة
المثل العينيّة والصّور الدّهريّة إلى ربّ الزّمان والدّهر نسبة الصّور المرتسمة
فى ذوات الجواهر العقليّة من المفارقات المحضة إليها ، وأمرها كأمرها فى عدم
الدّثور والتّغيّر هناك. فلذلك أطلق عليها أنّها متمثّلة فى ذات البارى الأوّل ،
تعالى ، ولم يرم ما لم يؤذن به الظاهر وإن لم يكن يتهيّأ له أن يكشف باطن المسألة
حقّ الكشف وينقّح القول فيها كنه التّنقيح.
فحاله أرفع من
أن يساء به الظنّ إساءة إلى تلك الغاية ، ولغة العقل أجلّ من أن
يحتبس فى لغة اللّسان. والحقيقة فوق أن تقتنص من الإطلاقات العرفيّة ولا
سيّما التى ليس للعقول إلى اكتناهها من سبيل ؛ وإنّا أسقطنا من قوله تلك الألفاظ ،
وطوينا كشح النّقل عن إيرادها ورأيناها حقيقة بأن نتركها فى موضعها إيذانا بأنّها
لا يكاد يسوغ أن تذكر إلاّ مع التّأويل.
وأمّا رئيس
أتباع أرسطاطاليس من مشّائيّة الإسلام أبو عليّ بن سينا ، فمع شدّة تثوّر القريحة وتوقّد
الغريزة والتّوغّل فى تعريف أوعية الكون وتمييز الأكوان الثّلاثة الزّمانيّة والدّهريّة
والسّرمديّة ، بعضها عن بعض ، وإطناب القول (١٦٨) فى أنّ الزّمانيّات والمادّيّات
من أعيان الموجودات ليست زمانيّة ومادّيّة بحسب انكشافها وحضورها عند البارئ
الأوّل ـ تعالى ذكره ـ لم يسارع إلى أن يتحدّس أنّ المثل الأفلاطونيّة هى الّتي
نحن سمّيناها المثل العينيّة والصّور الذّهنيّة ؛ بل كان أشدّ المعاندين لأفلاطن
فى أمر المثل ، وألدّ الخصام.
وجملة ما اتّكل
عليه فى إلهيات الشفاء أنّه به أفسد على أفلاطن مقالته فى المثل الّتي لا تدثر والصّور
الّتي لا تتغيّر ، يدور على ظنه بأفلاطن أنّه يضع أنّ تلك المثل والصّور ليست
بمادّيّة على معنى أنّها من مفارقات المادّة ، فشنّع عليه أنّه كيف يكون
للمادّيّات نحو وجود فى الأعيان تكون هى بحسبه غير قائمة بالمادّة ، بل مفارقة
إيّاها.
ونحن قد
نبّهناك على أنّه ينبغى أن يعنى بذلك سبق سلب المادّة ونفي خواصّ المادّيّات من
الدّثور والتّغيّر والتّأخّر فى الحصول عن حصول المادّة على ما كرّره هو ، إذ قد
رام أنّ يحقّق بيان علم الأوّل الحقّ ـ تعالى ـ فى أكثر كتبه ، ولا سيّما الشفاء والتعليقات
؛ ولا يصحّ أن يعنى به إثبات التّجرّد عن المادّة وسلب القيام بها. فإذن ، قد
انفصم ما استمسك فى التّشنيع.
وبالجملة ، إنّ
الأفلاطونيّين والأرسطاطاليسيّين لو وكدوا وكد الحقّ وتحرّوا سبيل الإنصاف
لاستقامت امورهم بما قدّمناه واستنامت قلوبهم إلى ما ألممناه ، فكان الأمر قد
أوفيناه حقّه ، والمصير إلى اللّه ، والحمد للّه ربّ العالمين.
فصل رابع
< أقسام التّقدّم والتأخّر على طريق الحكمة الحقّة >
فيه يتبيّن أقسام التقدّم والتّأخّر على الحكمة النّضيجة التحقيقيّة فى
اسلوب
دقيق من الفحص ، وثيق النّظام ، قويم السّبيل ، ويحقّق القول فى خواصّها وأحكامها
على نصاب كامل من التّفصيل وقسط فاضل من التّحصيل.
<فى الفصل الرابع ثمانية عشرة عنوانا >
<١>إخاذة
وإذ قد أيّدنا
اللّه بفضله ، فأبلغنا القول فى أوعية الوجود وأحكامها ولواحقها مبلغه من نصاب كنه
التّحقيق ، فجدير بنا أن ننتقل الآن إلى ما يلتصق بذلك ، من تقاسيم التقرّر والوجود
، أى : المتقدّم والمتأخّر والمع ؛ فنوضح سبيل العلم ونعلّم ما فات من سبقنا من
الرّؤساء والمعلّمين ، فضلا عن الأتباع والمقلّدين.
فاعلم أنّ
لمعرفة القبل والبعد والمع مسلكا مشهوريّا ، فى فنّ قاطيغورياس ، من فنون حكمة
الميزان بحسب ما يليق بمداخل التّعليم ومسلكا تحقيقيّا فى الحكمة الّتي هى فوق
الطبيعة بحسب توفيتها حقّ الاستقصاء فيها.
وإذ قد حان حين
ذلك فينبغى أن لا يقتصر على مألوفات الأسماع العاميّة ، بل يتأمّل تأمّلا أدقّ من
المشهور. فإذن نقول : التقدّم على سبعة أضرب ، هى معان
مختلفة محصّلة عند العقل : (١) التّقدّم الزّمانىّ ، وهو الّذي يكون
بالزّمان. (٢) والتّقدّم الدّهرىّ والسّرمديّ ، وهو الّذي يكون فى الدّهر والسّرمد.
(٣) والتّقدّم بالطبع ، وهو الّذي يكون فى الطبع بحسب الوجود. (٤) والتّقدّم
العلىّ ، وهو الّذي بالذّات والعلّيّة ويكون فى وجوب الوجود واستحقاقه. (٥) والتّقدّم
بالماهيّة ، وهو الّذي يكون فى تجوهر سنخ الماهيّة وتقرّرها. (٦) والتّقدّم
الرّتبىّ ، وهو الّذي يكون فى المرتبة بحسب النّسبة إلى شيء ما يؤخذ مبدءا ومنسوبا
إليه. ومن حيّزه التقدّم فى المكان. (٧) والتّقدّم الشّرفىّ ، وهو الّذي يكون فى
الفضل والشّرف.
وقد يجتمع هذه
الأنحاء أكثرها فى متقدّم واحد. والمتأخّر ومعا يجريان مجرى المتقدّم فى معانيه
السّبعة. والأخرى بل الواجب ، على ما أسلفنا ، عقد الاصطلاح عليه أن يسمّى التقدّم
فى الدّهر والسّرمد تقدّما سرمديّا ، والتّأخّر الّذي بإزائه تأخّرا دهريّا. وكذلك
المعيّة الّتي بإزائها معيّة دهريّة ؛ إذ الجائزات لا حظّ لها من عرش السّرمد. بل
القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ كبرياؤه ـ قد استأثر بالسّرمديّة ، ولا يجتمع
التّقدّم والتّأخّر فى شيء واحد باعتبار واحد ، ويجوز ذلك باعتبارين.
فهذه الأقسام
قد يكون فيها تداخل باختلاف الاعتبارات. وإذا اتفق أن تحشد عدّة تقدّمات فى موضوع
واحد باعتبارات مختلفة حشدت لا محالة تأخّرات توازيها فى موضوع واحد توازيه
باعتبارات مختلفة توازي تلك الاعتبارات ، وضروب معا أيضا قد تحتشد عدّة منها فى
أشياء معيّنة ، لكن لا باعتبار واحد ، بل باعتبار شتّى.
<٢> تثبيت
التّقدّم الزّمانىّ
هو ما بحسبه يمتنع أن يجتمع الشّيء الّذي هو متقدّم والشّيء الّذي هو متأخّر فى
الحصول الزّمانىّ الّذي لهما فى قطر افق التغيّر ، ولا محالة يتصوّر امتداد ما
مارّا بهما وزمان ما أو آن ما ، متخلّلا بينهما ، ولا يكون ذلك من جهة علّيّة
ومعلوليّة بينهما بحسب تخلّف الأخير عن الأوّل فى الحصول فى افق الزّمان مع
عزل النّظر عن أيّة حيثيّة كانت لهما غير هذه الحيثيّة.
فهذا التّقدّم والتّأخّر
من الأعراض الأوّليّة للأجزاء المفروضة فى الزّمان المتصل ، لا على أنّهما من
العوارض اللاّحقة لها ، بل على معنى أنّ هويّات الأجزاء هى القبليّات والبعديّات
من حيث هى بخصوصيّات ذواتها مصداق حمل القبل والبعد عليها ، لا من تلقاء شيء آخر
غير أنفسها ، ولا من جهة عارض يلحق ذواتها ، فيصحّ حمل القبل والبعد عليها. فكلّ
منها بنفس ذاته قبل وقبليّة أو بعد وبعديّة باعتبارين. وأمّا عروضهما لسائر الامور
غير الزّمان فلا يكون بالذّات على أن تكون هى المعروض حقيقة ، بل بالعرض من حيث
التّخصّص بالمقارنة لجزءين من أجزاء الزّمان هما بذاتهما العقل والبعد.
وكأنّك كنت قد
تثبت على تحصيل الأمر ممّا سلف. فالأكبر سنّا إنّما هو أقدم من الأحدث يكون زمان
حصوله قبل زمان حضر فيه الأحرف. وبالجملة ، لا يكون أصلا لشيئين من الأشياء غير
الزّمان هذا النّحو من التّقدّم والآخر ، إلاّ بحسب وقوعهما فى زمانين أو آنين والزّمانان
لهما بذاتهما ذلك. والسّؤال عن هذا التّقدّم «بلم» لا ينفرض بالوقوف إلاّ إذا
انتهى الجواب إلى قطعتين من الزّمان ، فقيل : كان التّقدّم لذاك على ذا على هذا
النّحو ، لوقوع ذا فى هذه القطعة وذاك فى تلك ، كاليوم والأمس ، أو زمان موسى وزمان
نوح ، على نبيّنا وعليهما السّلام.
وما يتوهّم : «أنّ
انفراض السّؤال ، لأنّ التقدّم على اليوم مأخوذ فى مفهوم لفظة أمس ، كما أنّ المتأخّر
عن اليوم مأخوذ فى مفهوم لفظ الغد. فلو قيل : لما ذا تقدّم الأمس على اليوم كان
كما لو قيل : لما ذا تقدم الزّمان القبل على الزّمان البعد. وكذلك زمان نوح عليه
السّلام معلوم التّقدّم على زمان موسى عليه السّلام. ولذلك إذا عبّر عنهما بزمانين
غير معلوم التّقدّم والتأخّر ، كالصّيف والشّتاء ، لم ينقطع السّؤال». من الأوهام
السّخيفة السّاقطة.
فمن الفطريّات
الأوائل : أنّ كلّ زمانين فإنّ أحدهما متقدّم الحصول فى افق
التّقضّى والتّجدّد ، والآخر متأخّر الحصول فيه بالذّات ، والأمران
الحاصلان فيهما متقدّم ومتأخّر بسبب الحصول فيهما ، والشكّ إنّما يطرأ فى تعيين
المتقدّم بخصوصه أو المتأخّر بعينه بسبب الجهل بالوقوع فى الزّمان المتقدّم أو
الزّمان المتأخّر. فتعيين اللّفظ الموضوع للزّمان القبل أو الزّمان البعد إنّما
يشترط فى تعيين المتقدّم أو المتأخّر بخصوصه ، لا فى العلم بتحقّق هذا النّحو من
التقدّم والتأخّر.
فإذا علم وقوع
أمرين فى زمانين حكم عليهما بالتّقدّم والتّأخّر بالضّرورة الفطريّة (١٦٨). والعلم
بوضع لفظى الأمس واليوم ، مثلا ، للزّمانين القبل والبعد ، إنّما يفيد تمييز
المتقدّم عن المتأخّر ، لا أنّه مناط الحكم بالتّقدّم والتّأخّر.
وكذلك توهّم : «أنّ
انفراض السّؤال به «لم» لا يعطى إلاّ نفي الوسط فى الإثبات دون نفى الوسط فى
الثّبوت» من سواقط الأوهام. أليس السّؤال ب «لم» يشمل طلب البرهان اللمىّ والدّليل
الإنّي ، فقد يسأل عن سبب الثّبوت ، كأن يقال : لم كان كذا. ويجرى ذلك فى
المقتنصات والحدسيّات والفطريّات أيضا. وقد يسأل عن سبب إثبات الثّبوت ، كان يقال
: لم حكمت أنّه كذا ، وذلك يكون فى الاقتناصيّات ويقف بالانفراض إذا انتهى إلى
الفطرىّ ؛ فإنّ انفراض السّؤال مطلقا يدلّ على الثّبوت وعلى إثبات الثّبوت معا ويبقى
الوسط فى الثّبوت والوسط فى الإثبات جميعا ؛ إذ لو كان هناك وسط فى الثّبوت لصحّ
السّؤال ب «لم» وإن كان فطرىّ الثّبوت ففطريّته لا تقطع السّؤال عن لميّته.
ولعلّ ذا غريزة
الإنسانيّة لا يريب فى انفراض مطلق السّؤال عند الانتهاء إلى أجزاء الزّمان. فكما
ليس يتوجّه أن يقال : لم كان أمس متقدّما على اليوم ، فكذلك ليس يتوجّه أن يقال :
لم حكم أنّ الأمس قبل اليوم ، كما أنّه ليس يتوجّه أن يقال : كان الواحد نصف
الاثنين ، ولا أن يقال : لم قيل : الواحد نصف الاثنين.
وأمّا ما يورد
: «أنّه لو كان السّبق الزّمانىّ حقيقته ما ذكر ، لوجب أن يكون سبق العلّة المعدّة
على معلولها أيضا سبقا زمانيّا ؛ لأنّ سبقها أيضا بحيث لا يجامع معه السّابق
المسبوق فى افق الزّمان».
فالغلط فيه نشأ
من إهمال اعتبار الحيثيّة ، واللاّزم أن يكون للعلّة المعدّة سبق زمانىّ على
معلولها ، وهو حقّ ، لا أن ينحصر سبقها عليه فى ذلك السّبق أو يكون سبقها بالطبع
سبقا زمانيّا ، وذلك باطل.
فالعلّة
المعدّة ، من حيث إنّها لا تجامع المعلول فى افق الزّمان ، سابقة عليه سبقا
زمانيّا؛ ومن حيث يحتاج إليها المعلول فى الوجود وهى غير محتاجة إليه ، سابقة عليه
سبقا بالطبع. وذلك ليس يخلّ بتغاير السّبقين ، فقد تحتشد عدّة من أنحاء السّبق فى
موضوع واحد بحيثيّات متغايرة ، كالسّبق بالطبع والسّبق الشّرفىّ والسّبق الزّمانىّ
والسّبق الرّتبىّ فى الفلك بالنّسبة إلى الحوادث العنصريّة ، وكالسّبق الزّمانىّ والسّبق
الرّتبىّ والسّبق بالطبع فى أجزاء الزّمان ، بعضها بالنّسبة إلى بعض. وكما أنّ
القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ متقدّم على معلوله الأوّل تقدّما سرمديّا وتقدّما
علّيّا وبالذّات وتقدّما بالماهيّة وتقدّما بالرّتبة وتقدّما بالشّرف.
وبالجملة ،
الحادث الزّمانىّ يتوقف على وجود علّته المعدّة وعلى انبتات وجودها فى افق
التّغيّر. فهى بما هى كذلك ـ أى من جهة ما هى ممّا يتوقف عليه المعلول ، لا من حيث
هى فى الحصول لا معه أو معه ـ متقدّمة عليه تقدّما بالطبع ؛ وبما هى غير مجامعة
إيّاه فى افق التّغيّر ، لا من حيث يحتاج هو إليها أو يستغنى عنها ، متقدّمة عليه
تقدّما بالزّمان. فإذن ، المتقدم الزّمانىّ تقدّمه أنّ له وجودا فى افق استمرار
التّغيّر مع عدم شيء آخر لم يكن موجودا فى ذلك الافق ، ثمّ هو موجود فيه.
<٣> سياقة اثباتيّة
كأنّك ، بما
كرّر عليك من قبل ، لست الآن ممّن يلتاث عقله فى مهاجرة إقليم المحسوس ومجاورة
عالم المعقول. فإذن ، ما أيسر لك أن تتفرّغ لتعرف الحقّ وتنقاد لحكم البرهان وتتوخّى
كنه الحكمة ولا تتعدّى سبيل الإيمان ، فتتلقى بسمعك وتؤمن بقلبك : أنّ التّقدّم
الدّهرىّ السّرمديّ فى وعاء الدّهر باعتبار عرش
السّرمد هو الّذي يجب بحسبه أن لا يقارن الشّيء المتأخّر الشّيء المتقدّم
فى التّحقّق فى الواقع والوجود فى وعاء الدّهر ، لا فى آن ولا فى زمان ما ، ولا فى
جميع الأزمنة ، بل فى سنخ الأيس بما هو أيس وفى أصل الوجود بما هو وجود. فلا جرم
يستحيل بحسب ذلك أن يتصوّر امتداد ما مارّا بذينك الشّيئين ويمتنع أن يتوهّم زمان
ما أو آن ما متخلّلا بينهما ، ولا يكون ذلك من تلقاء حيثيّة العليّة والمعلوليّة
بينهما ، بل إنّما بحسب تخلّف الأخير عن الأوّل فى الحصول فى وعاء الدّهر ، لا فى
افق الزّمان. فالمتقدّم السّرمديّ تقدّمه أن له وجودا حقيقيّا فى الواقع لا فى افق
التّغيّر ، بل محيطا به مع عدم شيء آخر لم يكن موجودا فى وعاء الدّهر ، ثمّ هو
موجود فيه.
أما بزع فيما
أظهرناه سابقا أنّ الوجود بما هو وجود لا يوصف بالامتداد وما بإزائه ولا
بالاستمرار السّيّالىّ وما فى مقابلته ، بل إنّما يكون ذلك له لا بالذّات ، بل
بحسب الوقوع فى افق التّغيّر والتّخصّص بمقارنة زمان أو آن أو فى جميع الأزمنة والآنات
، وأنّ المتقدّس عن وسمة التّغيّر مطلقا يستحيل أن يكون له وقوع فى افق استمرار
التّغيّر والتّبدّل وأنّ مبدع الأزمنة والأمكنة يمتنع أن يشمله الزّمان والمكان ويتخصص
وجوده بهما ، وهما متأخّران عنه بمراتب كثيرة ومرّات شتّى.
فإذن ، قد
تبيّن أنّ الوجود بما هو وجود ليس يلزمه أن يكون فى زمان أو آن أو فى جميع
الأزمنة. فقد حصل بحسبه عند العقل نحو آخر به من التّقدّم ، فيجب لا محالة أن يدخل
فى الصّحّة العقليّة ، فإنّه يمكن أن يكون شيئان يحصل لأحدهما بعينه سنخ الوجود
بما هو وجود ، لا بما هو فى زمان أو آن أو فى جميع الأزمنة ، وليس هو حاصلا للآخر
فى الواقع وفى وعاء الدّهر ، ولا يحصل هو للآخر إلاّ وقد حصل له أوّلا ، حيث لم
يكن الآخر حاصلا فى الواقع.
وإذ قد تبرهن
أنّ من الوجود فى الواقع وجودا حقيقيّا متعاليا عن الواقع فى زمان أو آن أو فى جميع
الأزمنة ، إذ موجد الزّمان لا يجوز أن يكون زمانيّا
بالضّرورة ؛ فقد انصرح أنّ هذا القسم الّذي قد احتملته القسمة العقليّة
أوّلا أوجب الفحص وقضى البرهان أخيرا أنّ له تحقّقا فى نفس الأمر بتّة ؛ لأنّ
الموجود الّذي يتعالى عن افق الزّمان يستحيل أن يتصف بالتّقدّم الزّمانىّ ؛ إذ لم
يكن يصحّ أن يوصف به إلاّ أجزاء الزّمان بالذّات ومقارنات الأزمنة بالعرض.
فإذا تقدّم ذلك
الموجود على شيء ما فى الوجود تعيّن أن يكون تقدّمه هو هذا التّقدّم السّرمديّ
الّذي هو بحسب الوجود فى وعاء الدّهر والسّرمد ، فبلحاظ ما قد تبيّن يتمّ الحكم
بأنّ هذا القسم ممّا تحتمله القسمة بحسب اعتبار العقل ، سواء كان له تحقّق فى
موضوع من الموضوعات الموجودة أولا ، وبلحاظ ما قد يتبرهن ينصرح أنّه من التّقدّمات
المتحقّقة لموجود حقيقىّ بتّة.
ألست إذا كنت
ذا قريحة ملبونة بلبان الحكمة ، ثمّ رأيتك قد نضوت الوهم ومقوت الذّهن ، لم تكن من
الممترين فى أنّ القيّوم الواجب بالذّات ـ عزّ مجده ـ متقدّم فى الوجود على الحادث
اليومىّ ، مثلا ، بعد ما لم يكن بحسبه ، يمكن أن يجتمع الحادث اليومىّ معه ـ جلّ
ذكره ـ فى الوجود البتة. وكيف لا يكون لموجود عن موجود تخلّف فى حصول الوجود ، ثمّ
يصحّ أن يقال : إنّ أحدهما قديم الوجود والآخر حادث الموجوديّة. فمن الفطريّات
الأوائل : أنّ الحادث الزّمانىّ اليومىّ ، مثلا ، لم يكن له وجود عينىّ فى افق
الزّمان.
ثمّ إنّه حدث
وجوده فى الأعيان متخصصا بالوقوع فى ذلك الزّمان بخصوصه ؛ وكذلك لم يكن له وجود
عينىّ فى الواقع الّذي هو وعاء الدّهر ؛ ثمّ إنّه حدث وجوده فيه واقعا فى زمان
الحدوث لا غير. ولو كان له وجود فى وعاء الدّهر قبل وجوده المفروض الحدوث كان ذلك
الوجود فى زمان ما قبل زمان الحدوث (١٦٩) البتة ؛ فإنّ الشّيء الزّمانىّ لا يكون
له إلاّ الوجود الزّمانىّ وأنّه لا يكون بين وجوده فى افق الزّمان ووجوده فى وعاء
الدّهر اختلاف بالعدد ، بل إنّما بالاعتبار فقط. فوجوده فى افق الزّمان هو بعينه
وجود فى وعاء الدّهر باعتبار آخر.
وإذا كان كذلك
فيلزم أن يكون للحادث الزّمانىّ وجود عينىّ فى افق الزّمان قبل
زمان الحدوث. وذلك فسخ الفرض وخرق الضّرورة الفطريّة.
فإذن ، قد تحقق
أنّه ـ جلّ ذكره ـ كان موجودا مع عدم هذا الحادث فى الأعيان مطلقا؛ ثمّ الحادث وجد
فى وعاء الدّهر وفى افق الزّمان وصار موجودا معه ـ تعالى مجده ـ فى الواقع الّذي
هو وعاء الدّهر ، لا فى افق الزّمان ؛ إذ هو ـ جلّ جنابه ـ متعال عن الزّمان والمكان
؛ فكان له ـ تعالى ـ تقدّم ، وله عنه ـ تعالى ـ تأخّر قد انقلب إلى المعيّة.
وإذ لا يكون
تقدّم زمانىّ أو معيّة زمانيّة إلاّ للزمانيّات ، فيكون تقدّمه ـ تعالى ـ على ذلك
الحادث لا محالة تقدّما سرمديّا ، وتأخّر الحادث عنه ـ تعالى ـ تأخّرا دهريّا ، والمعيّة
الّتي بينه ـ تعالى ـ وبين الحادث الموجود معيّة دهريّة.
فإذا عرفت ذلك
من طريق العقل وصدّقت به من سبيل البرهان ؛ فإن يأبى وهمك أن يتوهّمه ، فعليك أن
لا تقدح فى الحكم العقلىّ بسبب امتناع الوهم عن قبول ما ليس من شأنه أن يتحقّقه.
فالأوهام لمّا
آنست بالتّجدّدات الكونيّة والتّقدّمات الزّمانيّة ولا زالت تدرك تعاقبات
الزّمانيّات وتسابقات المتغيّرات وتتوارد عليها تدرّجات الكونيّات وتجدّدات
المتكوّنات ، لم تسع قوّتها إدراك وعاء الدّهر ولم يكن لها مقدرة على إسقاط افق
الزّمان عن لحاظ الوجود والعدم والتّقدّم والتّأخّر والمعيّة ؛ كما أنّها لمّا لم
تأنس إلاّ بإدراك المادّيّات يعسر عليها إلاّ أن تنكر وجود الجوهر المجرّد وتحكم
بأنّ كلّ موجود فهو البتة محسوس وفى حيّز ما ، وأنّ ما يتقدس عن الجهة والمكان
بالكليّة يمتنع وجوده.
ولمّا اعتادت
بملاحظة الامتدادات الحسّيّة الجسمانيّة لا تستطيع أن تدرك انبتات الأبعاد والامتدادات
على الإطلاق وتستيقن أنّه ليس وراء الفلك الأقصى خلأ ولا ملأ ، بل تحسب أنّ وراءه
فضاء إلى لا نهاية ، والأحكام
الوهميّة الفاسدة لا تحصى كثرة وفسادا. فلذلك يرجع إلى العقل ولا يقتدى
بالوهم إلاّ جدلا ولدادا.
وبالجملة ،
التّقدّم السّرمديّ هو سبق القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ثناؤه ـ على مخلوقاته فى
الوجود فى الأعيان ، وكلّ ما يثبت له ـ سبحانه ـ فهو وراء ما تكتنفه العقول ، فضلا
عمّا تكتنفه الأوهام.
فكما لا يدرك
كنه ذاته ووجوده ، بل إنّما يعلم بالبرهان أنّه وجود حقّ ، هو جاعل الماهيّات وفعّال
الوجودات ، فكذلك لا يدرك كنه تقدّمه فى الوجود على سائر الموجودات ، بل إنّما
يعرف بالبرهان أنّه متقدّم على جملة الأشياء تقدّما سرمديّا ، بضدّ المتأخّر عن
الاجتماع مع المتقدّم فى الموجوديّة ، ويستحيل بحسبه أن يقع بينهما زمان أو آن.
ولا يصحّ للوهم
إذا تصوّر وجود المتقدّم مع عدم المتأخّر ؛ ثم مع وجوده الّذي هو ببطلان عدمه فى
وعاء الدّهر ؛ أن يتوهّم من ذلك امتدادا موجودا أو موهوما ، يكون فيه وقوع
المتأخّر بحسب الوجود بعد العدم واستمرار وجود المتقدّم مع عدم المتأخّر ومع وجوده
بعد العدم.
ألم يتل عليك
فيما سلف : أنّ ذلك سبيل البعديّة الزّمانيّة ، وحيث يكون الأمر على ذلك السّبيل
لا يكون حصول الوجود فى جزء من أجزائه ذلك الامتداد ببطلان العدم فى الواقع وارتفاعه
عن وعاء الدّهر ، بل يكون بارتفاعه عن ذلك الجزء الّذي هو ظرف الوجود فقط. وإن صدق
وقوعه فى جزء آخر هو ظرف العدم. وإنّما سبيل البعديّة الدّهريّة أنّ حصول الوجود
بعد العدم تلك البعديّة ليس يتصوّر إلاّ ببطلان العدم وارتفاعه عن الواقع الّذي هو
وعاء الدّهر بالمرّة.
فالواقع غير
منقسم ، ولا يتصوّر فيه اجتماع تحقّق الوجود والعدم ، والافق الامتدادىّ لقبوله
الانقسام يحتمل وقوع العدم فى شطر أو حدّ منه وقوع الوجود فى شطر أو حدّ آخر.
<٤> استفصال برهانيّ
ألست إذا حاولت
الفحص وجدت البرهان يفصل التّقدّم الزّمانىّ عن التّقدّم السّرمديّ فى أحكام شتّى
:
(١) فمنها :
أنّ التّقدّم الزّمانىّ يتكثّر بموضوعات متكثّرة على التّعاقب ، فيكون تقدّمات
زمانيّة متسابقة ، وكذلك تأخّرات متعاقبة ؛ لتسابق أجزاء الزّمان الّتي هى بذاتها
قبليّات متعاقبة وبعديّات متسابقة ، ويستحيل ذلك فى التّقدّم السّرمديّ ، فلا
يتصوّر أن يتسابق تقدّمان سرمديّان ويتعاقب تأخّران دهريّان ، فضلا عن تقدّمات
سرمديّة متسابقة وتأخّرات دهريّة متلاحقة لامتناع الامتداد والانقسام فى وعاء
الدّهر والسّرمد واستحالة أن يكون فى ذلك الوعاء طرفان وواسطة.
ثمّ مهما حوول
الفحص المستقصى واستوفى حقّ النّظر المستصفى ظهر أنّه يمتنع أن يثبت التّقدّم
السّرمديّ لأكثر من موضوع واحد. فالواحد الحقّ الّذي هو جاعل الماهيّات والإنيّات
هو الموجود الّذي يصحّ أن يقال : إنّ له تقدّما سرمديّا. وبإزاء تقدّمه السّرمديّ
تأخّر دهرىّ تشترك فيه قاطبة الجائزات المجعولة والموجودات المعلولة مرّة واحدة
دهريّة ، لا مرّة واحدة زمانيّة فى مرتبة واحدة زمانيّة.
فجميع الممكنات
بحسب التّأخّر الدّهرىّ فى حكم متأخّر واحد ، والمتقدّم بالدّهر والسّرمد هو
الموجود الواحد الحقّ لا غير ، والمع بالدّهر جملة المفارقات الممتنع اتّصافها
بالمعيّة الزّمانيّة ، لا الواحد الحقّ بخصوصه ، لا غير.
(٢) ومنها :
أنّ التّقدّم الزّمانىّ لا يتخصص بالوجود أو العدم ، بل إنّه يعرضهما جميعا فقد
يكون عدم الشّيء متقدّما على وجوده بالزّمان ، ثمّ وجوده المتأخّر عن عدمه
بالزّمان يتقدم على عدمه بعد وجوده تقدّما بالزّمان أيضا ، كما فى الحادث
الزّمانىّ المنبتّ الوجود فى افق الزّمان.
وأمّا التّقدّم
بالدّهر فإنّه لا يعرض الوجود بالقياس إلى العدم أصلا. إذ لا يمكن
انبتات الوجود فى وعاء الدّهر. فإذا وجد الشّيء فى وعاء الدّهر بانفراض
عدمه الدّهرىّ وارتفاعه عن الواقع بالمرّة لم يصحّ أن يكون لذلك الوجود انفراض فى
وعاء الدّهر وانسلاب عن الواقع أصلا وإن كان ذلك الشّيء من الزّمانيات وممّا يكون
له انقطاع الوجود فى افق الزّمان.
فالوجود والعدم
إذا كانا زمانيّين يصحّ أن يتأخّر كلّ منهما عن الآخر تأخّرا بالزّمان، ولا يصحّ
مثل ذلك فى التّأخّر الدّهرىّ مطلقا ، سواء كان فى الزّمانيّات أو فى الدّهريات
المحضة ، بلى إنّ الشّيء الممكن يتأخّر وجوده عن عدمه تأخّرا دهريّا ولا يتأخّر
العدم عن الوجود تأخّرا دهريّا فى شيء من الأشياء أصلا.
(٣) ومنها :
أنّ المتأخّر بالتّأخّر الدّهرىّ لا يلزم أن يكون متأخّرا بالزّمان أيضا. وأمّا
المتأخّر بالزّمان ، فإن كان الوجود عن العدم لزم أن يكون متأخّرا عنه بالدّهر
أيضا ، وإن كان العدم عن الوجود لم يكن متأخّرا تأخّرا بالدّهر أيضا ، بل لا يكون
له إلاّ تأخّر زمانىّ فقط.
(٤) ومنها :
أنّ تأخّر الورود عن العدم بالزّمان لا يكون للمتأخّر الزّمانىّ بحسبه تخلّف الوجود
إلاّ عمّا يتقدّم عليه بالوجود تقدّما زمانيّا ، لا عمّن يمتنع دخوله فى افق
الزّمان ويستحيل اتّصافه بالتّقدّم الزّمانىّ ؛ إذ ليس يتصوّر أن يتحلّل بين
الزّمانىّ وبين من هو خارج عن افق التّغيّر زمان أو آن ، لا بحسب الوجود ولا بحسب
الوهم. فلا يكون هناك تخلّف أصلا (١٧٠).
وأمّا التّأخّر
عن العدم بالدّهر فإنّه يكون بحسبه للمتأخّر بالدّهر تخلّف عمّن يتقدم عليه فى
الوجود تقدّما سرمديّا ، لا كالتّخلّفات الزّمانيّة المعروفة المألوفة للأوهام ،
بل تخلّفا دهريّا ، لا يعقل أن يتوّهم فيه أن يكون ممتدّا أو غير ممتدّ ، ومستمرّا
أو غير مستمرّ. وأنّ تعرّفه والاستنامة إليه لمن أرفع المعاريج للقريحة الإنسانيّة
، ولا يكاد يرجى للعقول المئوفة المشوبة بالحسّ ، والنّفوس العسوفة الممنوّة
بالوهم أن تستطيع إلى ذلك سبيلا.
<٥> مفحص
كما أنّ ملاك
الأمر فى التّقدّم بالزّمان والتّقدّم بالسّرمد هو أن يوجد المتأخّر بالزّمان
وجودا بالفعل ، متخلّفا عن وجود المتقدّم بالزّمان فى افق الزّمان تخلّفا زمانيّا
، وأن يوجد المتأخّر بالدّهر وجودا بالفعل متخلّفا عن وجود المتقدّم بالسّرمد فى
وعاء الدّهر تخلّفا دهريّا ، ولا يدخل فى ذلك أن يكون بينهما علاقة ذاتيّة ترتيبية
يتعلّق بحسبها إحدى الذّاتين بالاخرى تعلّقا توقفيّا أو لا يكون بينهما تلك
العلاقة ؛ فإنّ ذينك التّقدّمين ليسا من حيّز الارتباط الذّاتىّ والتّعلّق
التّوقّفى ؛ فكذلك ملاك الأمر فى التّقدّم بالطبع وبإزائه التأخّر بالطبع ، والتّقدّم
بالعليّة وبإزائه التّأخّر بالمعلوليّة.
كما أنّ
التقدّم بالسّرمد يضايفه التّأخّر بالدّهر ، والتقدّم بالماهيّة ، وبإزائه
التّأخّر بالماهيّة هو أن يكون بين ذاتى المتقدّم والمتأخّر ارتباط تعلّقيّ وعلاقة
عقليّة يترتّب بحسبها ذات المتأخّر على ذات المتقدّم ترتّبا توقّفيّا ، وإنّ هذه
التّقدّمات من حيّز التّوقّف الطّباعىّ والارتباط الذّاتىّ ، وهى متشاركة فى هذا
المعنى تشارك المختلفات فى طباع معنى عامّ يستوعبها تناولا. ثمّ ذلك يختلف فيها
اختلافا متحصّلا على وجوه متنوّعة.
فإن كان ارتباط
إحدى الذّاتين بالاخرى يرجع بالتّكافؤ فى لزوم الوجود من الطرفين ، والتّقدّم
العقلىّ إنّما هو فى استحقاق الوجود ووجوبه ، لأنّ حصول الوجود ووجوبه لإحداهما
مستند إلى الاخرى وللاخرى ليس مستند إليها ؛ كان تقدّم المتقدّم منهما بالعليّة وتأخّر
المتأخّر بالمعلوليّة ؛ فإنّ للعلّة استحقاق الوجود قبل المعلول ، وهما بما هما
ذاتان ليس يلزم أن يكون لهما خاصيّة التّقدّم والتّأخّر ولا خاصيّة المعيّة وبما
هما متضائفان وعلّة ومعلول فهما معا ، وأيّهما كان بالقوّة فكلاهما كذلك.
فإن كان أحدهما
بالفعل فكلاهما كذلك ، ولكن بما أنّ أحدهما له الوجود
بذاته أو غير مستفاد من الآخر ، والآخر فإنّ الوجود له مستفاد من الأوّل
فهو المتقدّم عليه.
وإن كان ارتباط
الذّاتين لا يرجع بالتّكافؤ فى اللّزوم من الطّرفين :
فإن كان ذلك من
جهة التّوقّف فى نفس الوجود وإحداهما لا يمكن أن توجد الاخرى إلاّ وهى موجودة وهى
ربما توجد وليست الاخرى بموجودة ، كحال الواحد عند الاثنين ؛ فإنّه إن كانت
الاثنينيّة موجودة فالوحدة موجودة ولا تنعكس مكافئة ، فليس إن كانت الوحدة موجودة
فالاثنينيّة لا محالة موجودة ؛ فالموقوف عليه فى وجوده متقدّم بالطبع ، والموقوف
فى وجوده متأخّر بالطبع.
وإن كان من
تلقاء التّعلّق بحسب مرتبة الماهيّة الّتي هى معروض الوجود ، ومرتبتها قبل مرتبة
الوجود ، أى باعتبار التّرتّب فى فعليّة جوهر الذّات وتجوهر سنخ الحقيقة مع عزل
النّظر عن نفس الوجود العارض المتأخّر ، فإحداهما لا يمكن أن تتجوهر حقيقة الاخرى
إلاّ وهى متجوهرة الماهيّة ، وهى ربما تتجوهر حقيقتها وليست الاخرى بمتجوهرة
الماهيّة ، كحال الجسم عند الحيوان ؛ فإنّه إن كانت حقيقة الحيوانيّة متجوهرة ،
فحقيقة الجسميّة متجوهرة : ولا تعكس مكافئة فليس إن كانت حقيقة الحسيّة متجوهرة
فحقيقة الحيوانيّة لا محالة متجوهرة ، فالمترتّب عليه فى تجوهر حقيقته متقدّم
بالماهيّة ، والمترتّب فى تجوهر حقيقته متأخّر بالماهيّة.
فإذن ، ما
بحسبه تخليل معنى الفاء معان مختلفة ، فيقال : وجب فوجب ، ووجد فوجد ، وتجوهر
فتجوهر. والمعنيان المعبّر عنهما بوجد فوجد وتجوهر فتجوهر ، وهما التّقدّم بالطبع والتقدّم
بالماهيّة ، يتفقان فى أنّهما لا يوجبان للمتقدّم والمتأخّر أن يكونا بما هما
متقدّم ومتأخّر بالطبع أو بالماهيّة متلازمين متعاكسين فى لزوم الوجود والتّجوهر
أو غير متعاكسى اللّزوم على أن يمكن للمتقدّم أن يتخلف عنه فى الوجود ، والتّجوهر
ما هو المتأخّر.
فالّذى يجب
بحسب ما يعتبر فى طباع هذين التّقدّمين هو التّرتّب العقلىّ لإحدى الذّاتين على
الاخرى فى الوجود أو التجوهر. وأمّا التّعاكس أو اللاّتعاكس
فى اللّزوم فأمر خارج عمّا يلزم طباعهما.
وربما يعرض
لزوم أحد الأمرين جزئيّات لخصوصيّات المتقدّمات والمتأخّرات ، لا لطباع التّقدّم والتأخّر
بالطبع أو بالماهيّة ، فيتفق أن يلزم :
إمّا وجوب
المعيّة فى حصول الوجود من الجانبين ، كما فى العلّة الصّوريّة بالقياس إلى
المركّب ؛ وفى تجوهر الحقيقة من الطرفين ؛ كما فى الفصل بالقياس إلى النّوع ، فلا
يتصوّر أنّ هناك أن يتفق أن يجتمع التّقدّم العقلىّ الّذي هو بالطبع أو بالماهيّة
، والتّقدّم الّذي لا يجتمع بحسبه المتقدّم والمتأخّر ، بل إنّما يكون التّقدّم
العقلىّ فقط ، لكون المتقدّم هو الأخير ممّا يحتاج إليه وجود المتأخّر أو يتقدّم
منه حقيقة ؛
وإمّا لا وجوب
المعيّة فى حصول الوجود وفى تجوهر الحقيقة على أن يمكن الافتراق من طرف المتقدّم ،
لكونه ليس هو الجزء الأخير ، كما فى العلّة المادّيّة بالقياس إلى المركّب ، وفى
الطبيعة الجنسيّة بالقياس إلى النّوع ، فيتصوّر أن يتفق هناك اجتماع التّقدّم
العقلى الّذي هو بالطبع أو بالماهيّة ، والتّقدّم الّذي بحسبه يتخلّف المتأخّر عن
المتقدّم بتّة.
وأمّا المعنى
المعبّر عنه يوجب فوجب ، وهو التّقدّم بالعلّيّة ؛ فإنّه يوجب للمتقدّم والمتأخّر
بما هما متقدّم بالعلّيّة ومتأخّر بالمعلوليّة أن يكونا البتة معا فى الوجود وفى
الزّمان والدّهر جميعا إن كانا من الزّمانيّات ، أو فى الدّهر فقط إن كان المتقدّم
بالعلّيّة ليس هو بزمانىّ ، سواء كان المتأخّر بالمعلوليّة زمانيّا أو غير زمانىّ.
فلا يبعد أن يكون الشّيء مهما وجد وجب ضرورة أن يكون علّة للشّيء ، بل الحقيقة لا
يجوز أن يكون الشّيء بحيث يصحّ أن يكون علّة للشّيء إلاّ ويجب أن يكون الشّيء معه
فى الوجود. فلو عرض أنّه ممكن أن يكون عند الشّيء وممكن أن لا يكون ، وليس أحد
الطرفين أولى من الآخر أولويّة وجوبيّة. فلا الشّيء من حيث يمكن أن يكون عنه
بموجود ولا هو من حيث يمكن أن يكوّنه بلفظ له الوجود.
أما تلي عليك
فيما قد سلف : أنّ طباع أنّ له أن يكوّنه لو لم يخرج من حدّ النّسبة الجوازيّة إلى
حدّ النّسبة الوجوبيّة كانت نسبته إلى أن يكون عنه الشّيء وأن لا يكون بالإمكان ،
فكان كونه عنه لا يتميّز عن لا كونه عنه تميّزا يتعيّن معه وقوع أحدهما بعينه دون
الآخر ؛ فإنّ أولويّة كونه عنه أولويّة غير وجوبيّة ليست تأبى أن يجتمع مع لا كونه
عنه.
فنسبة جواز كون
الشّيء عن العلّة إلى وجوده عنها ولا وجوده عنها واحدة. وما لم يتحقق أولويّة
وجوبيّة يمتنع معها لا وجوده عنها لم تبطل تلك النّسبة الجوازيّة ، فلم يبطل
استواء النّسبة إلى النّقيضين. فإذن ، ما لم يحصل هناك تميّز وجوبىّ لم يتعيّن
وجوده عنها بالوقوع بتّة.
فإن كان من شرط
كون الشّيء علّة نفس ذاته فما دامت ذاته موجودة تكون علّة البتة ؛ وإن لم يكن
الشّرط ذاته فقط ، فلم تكن عليّته إلاّ جائزة ، وما دامت تلك الذّات على تلك
السّداجة لم يجب أن يصدر عنها معلول ؛ فالعقل الصّريح يوجب إذا صدر عنها شيء أنّه
قد حصل هناك أمر قد تميّز به وجوده عنها عن لا وجوده ، فتكون الذّات مع الحالة
المقترنة بها مجموعة هى العلّة. وقبل ذلك فالذّات موضوع العلّيّة على سبيل الصّلوح
لها.
فالشّيء الّذي
يصحّ أن يصير علّة بانضياف شيء ما إليه ، إرادة أو شهوة أو غضب أو أمر خارج منتظر
؛ فإنّه إذا انضاف إليه ذلك الشّيء (١٧١) وصار بحيث يصلح أن يصدر عنه المعلول من
غير نقصان شرط باق ، فقد وجب وجود المعلول عنه ، وحينئذ صار هو متقدّما بالفعل على
المعلول تقدّما بالعلّيّة ومعه بالفعل معيّة مادّيّة أو معيّة دهريّة.
فإذن ، وجود
كلّ معلول واجب مع وجود علّته ، ووجود علّيته واجب عنه وجود المعلول ، وهما معا فى
الزّمان أو فى الدّهر مع كون العلّة متقدّمة على المعلول بالعليّة ، لكونهما ليسا
فى القياس إلى حصول الوجود واستحقاقه ؛ لأنّ ذلك له حصول وجود ليس من حصول وجود
هذا. ولهذا حصول وجود ، وهو من حصول وجود ذلك. فلا
محالة ذلك أقدم بالقياس إلى حصول الوجود ، لا بأن يصل إليه الوجود بأن يكون
مارّا على هذا ، ولا يصل إلى هذا إلاّ مارّا على ذلك.
<٦> وهم وتحقيق
ربّ متوهّم من
ضعفاء التّعقّل قد اعتراه إذا كان كلّ واحد منهما مهما وجد وارتفع وجد وارتفع الآخر
، فلا يكون أحدهما بعينه ولا بعينه أولى أن يكون علّة دون الآخر.
فنحن نزيج هذا
الوهم ونقول أوّلا : إنّ تقرر الشّيء ووجوده فى نفسه معنى غير تقرّره ووجوده عن
غيره ؛ لأنّ تقرّره ووجوده فى نفسه غير مضاف وعن غيره مضاف. وبالحقيقة تقرّره ووجوده
عن غيره هو صدور ماهيّته ووجوده عن الغير ، وتقرّر الماهيّة ووجودها فى نفسها وراء
صدورها عن الغير بالمعنى وبالاعتبار جميعا.
والحقيقة
الجوازيّة تجوهرها ووجودها فى نفسها ممكن لا يتجاوز بقعة الإمكان أبدا. فإذا كان
تجوهرها ووجودها عن الغير ، أى : صدورها عن غيرها فى حيّز الإمكان أيضا غير بالغ
درجة الوجوب احتاج لا محالة صدورها عن غيرها إلى شيء آخر غير ذلك الغير ، فيتمادى
إلى لا نهاية ، ثمّ اللاّنهاية لا تعطى انقلاب النّسبة الإمكانيّة وجوبيّة إلاّ أن
يبلغ الأمر درجة الانتهاء إلى غير يجب الصّدور عنه بذاته أو بانضياف شيء ما إليه.
فإذن ، يجب أن
يجب صدور الشّيء عن غيره تجوهرا وجودا حتى يصدر عن غيره. فإذا كان تجوهره ووجوده
فى نفسه غير صدور تجوهره ووجوده عن غيره ؛ لأنّ ذا معقول بالقياس إلى غيره دون ذاك
، ولأنّه يمكننا أن نعقل ذاك مع الذّهول عن ذا ، ولأنّا نحكم على ذاك أنّه صدر عن
غيره ، والمحمول غير الموضوع. فالممكن بذاته ما لم يجب تجوهره ووجوده عن غيره لم
يتجوهر ، فلم يوجد. وإذا وجب ذلك كان صدوره عن غيره تجوهرا ووجودا واجبا ، فكان
بحسب نفسه تجوهرا
ووجودا ممكنا وباعتبار صدور تجوهره ووجوده عن غيره واجبا.
ولنرجع إلى حيث
فارقناه ونحلّ العقد المغلّط ، وعساك أن تكون قد فطنت لسبيله، فليس أنّه إذا وجدت
العلّة وجب فى الوجود أن كان المعلول قد حصل تجوهرا ووجودا من تلقاء نفسه أولا عن
تلك العلّة بل عن غيرها ، وإنّما وجب أن صدر تجوهره ووجوده عنها ، لا عن غيرها.
فلا يصدق ذلك من جانب المعلول ؛ فإنّه إذا تجوهر ووجد وجب فى التقرّر والوجود إن
كانت العلّة قد حصلت تجوهرا ووجودا من تلقاء نفسها أو عن علّة لها ، لا عن ذلك
المعلول ، والعقل إذا اعتبرهما باللّحاظ شهد أنّ العلّة قد تمّ لها تجوهر ووجود لا
محالة مفروغ عنها حتّى وجب صدور المعلول عنها تجوهرا ووجودا.
وكذلك فى جانب
الرّفع ؛ فإنّه فرق ما بين أن يقال إذا رفع هذا ارتفع ذلك ، وبين أن يقال : إنّ
هذا ليس يوجد حين لا يوجد ذلك ؛ فإنّ الأوّل مفاده أنّ عدم هذا علّة لعدم ذلك ، ومعنى
الثّاني مجرّد اللّزوم. فلذلك يصحّ أن يقال : إنّه إذا لم توجد العلّة لم يوجد
المعلول ، وإنّه إذا لم يوجد المعلول لم توجد العلّة. وليس يصحّ بين أن يقال : إذا
رفع المعلول ارتفع العلّة ، كما يصحّ أن يقال : إذا ارتفعت العلّة ارتفع المعلول ،
بل إذا رفعت العلّة ارتفع المعلول ، وإذا رفع المعلول فقد كانت العلّة قد ارتفعت
أوّلا بعلّة اخرى حتى صحّ أن يرتفع المعلول ؛ لأنّ نفس المعلول هو رافع العلّة كما
أنّ نفس رفع العلّة هو رافع المعلول. فرفع المعلول بعد إمكان رفعه فى نفسه وبعد
وجوب رفع علّته فى نفسها أو بعلّة.
فإذن ، رفع
العلّة وإثباتها سبب رفع المعلول وإثباته ، ورفع المعلول وإثباته دليل رفع العلّة وإثباتها.
فليست المعيّة فى الزّمان أو فى الدّهر هى الّتي أوجبت العليّة لأحدهما دون الآخر
حتى يقال : ليس أحدهما أولى بالعليّة من الآخر ، بل لا ما يوجب التّعيّن بالعليّة والمعلوليّة
هو أنّ أحدهما تجوهره ووجوده فى الزّمان أو فى الدّهر مع الآخر لا بالآخر ، والآخر
تجوهره ووجوده فى الزّمان أو فى الدّهر مع الأوّل وبالأوّل جميعا.
<٧> توفية إمعانيّة
إنّ الأمر قد
باث نظرنا عنه مستقصى. فالّذى استبانه الفحص الممعن هو أنّ المعنى الّذي فيه
التّقدّم والتّأخّر فى التقدّم العقلىّ الذّاتىّ الوجود أو فعليّة الماهيّة
المعبّر عنها بالتّجوهر والتقرّر أو وجوب التّجوهر ووجوب الوجود ، أمّا فى
التّقدّم بالطبع فما فيه التّقدّم هو نفس الوجود ، وأمّا فى التقدّم بالماهيّة
فنفس تجوهر الماهيّة ، وأمّا فى التّقدّم بالعلّيّة فوجوب التجوهر ووجوب الوجود
جميعا.
ولست أعنى بذلك
أنّ المتقدّم بالعلّيّة لا يتقدّم فى أصل الوجود وفى أصل التّجوهر ، بل إنّما
يتقدّم فى وجوبها فقط ؛ فإنّ المتقدّم بالعلّيّة ليس يمكن أن يتخلّف عنه المتأخّر
بالمعلوليّة فى نفس الأمر ، ولا يتصوّر أن يفترقا فى الوجود والتّجوهر أصلا. كما
قد بادرت إليه أوهام هؤلاء السّفلة الأقشاب ، لأنّه كما ليس يتصوّر تعارفهما فى
التّجوهر والوجود ، فكذلك ليس يتصوّر بينهما التّفارق فى وجوب التّجوهر ووجوب
الوجود حتّى يمكن أن يكون أحدهما واجب التّجوهر والوجود ولا يجب للآخر تجوهر ووجود.
فهل يمكن حصول التّجوهر والوجود بلا وجوب لهما ؛
فإن بيّن
التّقدّم فى وجود التجوهر والوجود بان وجوبهما للمتأخّر بالمعلوليّة عن المتقدّم
بالعليّة وللمتقدّم بالعليّة ، لا عن المتأخّر بالمعلوليّة ، بل من تلقاء نفسه أو
عن علّة له ، فكذلك البيان فى نفس التّجوهر ونفس الوجود. ألم يستبن لك : أنّ
التّقدّم بالعليّة إنّما يكون حين كون المتقدّم بالعليّة المتأخّر بالمعلوليّة فى
التّجوهر والوجود معيّة زمانيّة أو معيّة دهريّة.
فالعلّة ما
دامت متجوهرة موجودة مع معلولها متقدّمة عليه تقدّما بالعلّيّة وهى بعد وجود
معلولها لم تنقلب من التّقدّم عليه بالعليّة إلى الاجتماع معه ، كما ربما تذهب
إليه الأوهام العاميّة القاصرة. تلك سنّة التّقدّم الزّمانىّ والتّقدّم السّرمديّ
؛ فإنّ المتقدّم على شيء ما بالزّمان يكون له بعد وجود ذلك الشّيء تقدّم زمانىّ
عليه
بحسب تخلّفه عنه تخلّفا زمانيّا ومعيّة زمانيّة.
وكذلك المتقدّم
بالدّهر والسّرمد إذا لوحظ وجود المتأخّر عنه فى وعاء الدّهر كان له تقدّم سرمدىّ
عليه بحسب التّخلّف الدّهرىّ ومعيّة دهريّة بالنّسبة إليه بحسب الاجتماع فى الدّهر
بعد ذلك التخلّف. وأمّا المتقدّم بالعليّة فلا يكون تقدّمه إلاّ مع المعيّة فى الزّمان
أو فى الدّهر. وكذلك المتقدّم بالطبع والتقدّم وبالماهيّة ينحفظان مع المعيّة
الزّمانيّة والمعيّة الدّهريّة ، لكنّهما ليسا البتة يوجبان ذلك بخلاف التقدّم
بالعليّة ، فإنّه يوجب اجتماع المتقدّم والمتأخّر البتة فى الدّهر أو فى الزّمان.
فإذن ، كون
الشّيء البتة مع الشّيء فى التّجوهر والوجود فى الواقع وفى لحاظ العقل معيّة
دهريّة ومعيّة زمانيّة لا يصادم تقدّمه عليه فى التّجوهر وفى الوجود وفى وجوبهما
تقدّما بالعليّة (١٧٢). وأيضا ، المتقدّم بالطبع ، كما يكون وجوده قبل وجود
المتأخّر بالطبع ، فكذلك وجوب وجوده قبل وجوب وجوده. قبليّة بالطبع.
والمتقدم
بالماهيّة كما أنّ تجوهره قبل تجوهر المتأخّر بالماهيّة فكذلك وجوب تجوهره قبل
وجوب تجوهره قبليّة بالماهيّة ، إذ ليس يمكن حصول وجود وتجوهر لا بالوجوب ،
فيلزمهم أن يكون الوجوب أيضا يدخل فيما فيه التقدّم فى التقدّم بالطبع والتّقدّم
بالماهيّة كما مرّ فى التقدّم بالعلّية من غير فرق.
بل إنّى إنّما
أعنى أنّه لمّا كان التّقدّم بالطبع هو تقدّم ما يمتنع بعدمه وجود الشّيء ولا يجب
بوجوده وحده وجوده. والتّقدّم بالماهيّة هو تقدّم ما يمتنع بلا تجوهره تجوهر
الشّيء ، ولا يجب بتجوهره وحده تجوهره. والتّقدّم بالعليّة هو تقدّم ما يجب بوجوده
وتجوهره وجود الشّيء وتجوهره ، وبعدمه ولا تجوهره عدم الشّيء ولا تجوهره ؛
فلا جرم يكون
وجوب وجوده من الّذي يتقدّم عليه تقدّما بالعليّة ، كما أنّ نفس تجوهره ووجوده منه
، لا ممّا يتقدّم عليه بالطبع أو بالماهيّة ؛ إذ ليس للشّيء بحسب النّسبة إلى ما
يتقدّم عليه بالماهيّة أو بالطبع وجوب تجوهر أو وجوب وجود ، حتى يقال : إنّ ذلك
الوجوب قد حصل له من تلقائه ، فيكون هو لا محالة متقدّما عليه فى
الوجوب ، بل إنّما له الوجوب من تلقاء جاعله الموجب لا غير ، فيكون هو
المتقدّم عليه فى وجوب التّجوهر والوجود بالعليّة ، كما هو متقدّم عليه فى نفس
التّجوهر والوجود أيضا بالعليّة.
ولذلك لا
يتصوّر أن ينفكّ شيء منهما عن الآخر فى التّجوهر والوجود ، وفى وجوبهما فى الزّمان
أو فى الدّهر ، لا فى الأعيان ولا فى لحاظ العقل حين ما إنّ أحدهما متقدّم على
الآخر بالعليّة. وليس له ذلك من المتقدّم عليه بالماهيّة أو بالطبع. ولذلك يمكن أن
ينفكّ المتقدّم عن المتأخّر.
فللشىء بحسب
تأخّره بالمعلوليّة وجوب التجوهر والوجود من المتقدّم عليه بالعليّة. وليس له بحسب
تأخّره بالماهيّة أو بالطبع وجوب التّجوهر ممّا يتقدّم عليه بالماهيّة ، أو وجوب
الوجود ممّا يتقدّم عليه بالطبع.
فبالضّرورة
الفحصيّة يصل وجوب التجوهر ووجوب الوجود إليه من المتقدّم عليه بالعليّة ، وليس
يصل إليه ممّا يتقدّم عليه بالطبع أو بالماهيّة وجوب أصلا.
فإذن ، قد أدّت
الضّرورة البرهانيّة : إلى أنّ التقدّم العلّىّ تقدّم فى وجوب التّجوهر والوجود
على أنّ التجوهر والوجود ووجوبهما يصل من المتقدّم إلى المتأخّر ، فيكون هو أقدم
فى ذلك. والتقدّم بالماهية أو بالطبع ليس تقدّما فى وجوب التّجوهر أو الوجود ؛ إذ
ليس يصل من المتقدّم إلى المتأخّر وجوب ، ولا فى نفس التّجوهر أو الوجوب على معنى
أنّه يصدر البتة من المتقدّم تجوهر أو وجود ، فيكون هو لا محالة أقدم تجوهرا ووجودا
حتى يصحّ أن يستفاد منه تجوهر أو وجود ، بل فى أحدهما ، على معنى أنّ تجوهر
المتأخّر بالماهيّة متوقف على تجوهر المتقدّم بالماهيّة ووجود المتأخّر بالطبع على
وجود المتقدّم بالطبع.
فبين المتقدّم والمتأخّر
بالماهيّة أو بالطبع ترتّب عقليّ فى أحدى مرتبتى التّجوهر والوجود مع عزل النظر عن
الاخرى يعبّر عنه بتخليل الفاء الدّالّة على التّعقيب مع الاشتراك أخيرا فى طباع
حالة واحدة. فيقال : تجوهر فتجوهر ، أو وجد فوجد.
فأقدميّة
المتقدّم بالعليّة فى التّجوهر والوجود جميعا هى أقدميّة الشّيء ممّا ينشأ منه ، وأقدميّة
المتقدّم بالماهيّة فى التّجوهر والمتقدّم بالطبع فى الوجود هى أقدميّة الشّيء
ممّا يتوقف عليه.
ومن البيّن
الصّريح أنّ أقدميّة الشّيء ممّا ينشأ ويستفاد منه أقوى وأشدّ من أقدميّة الشّيء
ممّا يتوقف عليه ، ولا ينشأ ولا يستفاد منه ، فتقدّم المتقدّم بالعليّة على
المتأخّر بالمعلوليّة فى كلّ من التجوهر والوجود على نحو أقوى وأشدّ فى الأقدميّة
من تقدّمي المتقدّم بالماهيّة والمتقدّم بالطبع على المتأخرين بهما فى التّجوهر وفى
الوجود.
فإذن ، كما قد
اختلف ما فيه المتقدّم فى التقدّم العلّىّ وفى التقدّمين بالماهيّة وبالطبع ،
فكذلك قد فارقت طبيعة طبيعتهما فى لواحقهما الشّيوع من سبيلين :
أحدهما : أنّ
التقدّم العلّىّ يكون بحسبه وجوب التّجوهر والوجود حاصلا بالفعل للمتأخّر بعلّة
مروره على المتقدّم ومستفادا من تلقائه ، ولا يكون بحسب التقدّمين للمتأخر وجوب
أصلا ، فضلا عن صدور ذلك الوجوب من المتقدّم وكونه مستفادا منه.
والآخر : أنّ
الأقدميّة فى التّجوهر والوجود هناك ليست على مضاهاة ما هى فيهما فى التقدّمين ،
بل هى فيهما هناك أشدّ وأقوى ممّا هى فيهما فى هذين.
وفى الجملة ،
إنّ التقدّم بالعليّة ما يحكى عنه بتحليل فاءات ثلاث بين الشّيئين فى طباعات ثلاثة
؛ فيقال : تجوهر فتجوهر ، ووجد فوجد ، ووجب فوجب ، ويكون بحسبه للشّيء المتأخّر
تجوهر ووجود ووجوب تجوهر ووجوب بالفعل ومن تلقاء الشّيء المتقدّم بتّة. وليس يجب
حسب التقدّم بالطبع أو بالماهيّة أن يكون للشّيء المتأخّر وجود وتجوهر بالفعل
ريثما كان ذلك الشّيء المتقدّم البتة فضلا عن الوجوب بالفعل وفضلا عن أن يكون شيء
من ذلك له من تلقاء الشيء المتقدّم ، ولا يكون شيء منهما ما بإزائه تخليل الفاء
الموضوعة للتّعقيب مع الاشتراك أخيرا بين الشّيئين إلاّ فى طباع واحد هو : إمّا التّجوهر
وإمّا الوجود.
ثمّ إن سألت
الحقّ فلا فاقريّة بالذّات وبالقصد الأوّل إلاّ إلى الأوّل الجاعل الحقّ ـ جلّ
مجده ـ أما استنام سرّك من قبل إلى أنّ طباع الجواز هو الّذي يحوج إلى العلّة ، وهو
محوج إلى الجاعل فى سنخ التّجوهر وفى حصول الموجوديّة جميعا فقد نوّلنا الفحص نوله
من النّظر فيما قد سلف ، وسينصرح فى «الرّبوبيّات» إن شاء اللّه ، أنّه المحوج فى
التّجوهر والوجود إلى القيّوم الواجب بالذّات ، على ذكره.
فسائر ما يعدّ
علل الوجود ترجع إلى متمّمات صلوح الاستناد إلى جنابه ومعدّات قبول الفيض من تلقاء
بابه. فهى إمّا من تتمّة القابل أو من شرائط تأثير الفاعل. فالتوقّف عليها من تلك
الجهة لا بالقصد الأوّل. فإذن ، طباع وجد فوجد إنّما يتحقّق بالذّات وبالقصد
الأوّل فى التقدّم بالعليّة. وأمّا التّقدّم بالطبع فإنّما يصحّ من حيث صحّة
الاستناد إلى من إليه الافتقار بالقصد الأوّل.
<٨> توهّم وتفضيح
مثير فتنة
التّشكيك يتوهّم أنّهم راموا تبيان التقدّم العلّىّ بقولهم : الوجود لا يصل إلى
المعلول إلاّ مارّا على العلّة ، والعقل لا يستنكر أن يقال : تحرّكت يدى فتحرّك
الخاتم والمفتاح أو ثمّ تحرّك الخاتم والمفتاح ؛ ويستنكر أن يعكس فيقال : تحرّك
الخاتم والمفتاح فتحرّكت يدى ، أو ثمّ تحرّكت يدى. فإذا كانت حركة ما ليست سبب
وجودها حركة ثانية ، والحركة الثّانية سبب وجودها الحركة الأولى ، أدرك لإحداهما
تقدّم على الاخرى مع كونهما البتّة معا فى الزّمان.
فيعترض عليهم :
أنّه إن اريد من تقدّم العلّة على المعلول كونها مؤثّرة فيه ؛ كان معنى قولهم : «العلّة
متقدّمة على المعلول» هو أنّ المؤثّر فى الشّيء مؤثّر فيه ، وهو هدر. وإن اريد منه
شيء آخر فلا بدّ من إفادة تصوّره والوصول غبّ المرور كلام مجازىّ ، والتّمثّل بقول
العرفيّين ركيك.
ولا يكترث لما
يفضّحه : من أنّ تقدّم الشّيء الّذي منه التّجوهر والوجود على الشّيء الّذي له
التّجوهر والوجود من تلقائه معلوم للعقل بغريزة الفطرة. وليس
الغرض من تلك البيانات والأمثلة إثبات أمر هو من الفطريّات ولا تعريفه ؛ بل
الغرض بيان إمكان انفكاكه عن التّقدّم الزّمانى (١٧٣) ؛ فإنّ الجماهير يظنّون أنّ
التّقدّم الزّمانىّ شرط فى حصول هذا التّقدّم.
<٩> تحديق إحقاقيّ
وإذ قد علّمناك
، بفضل العليم الحكيم : أنّ التّقدّم بالماهيّة هو تقدّم عليّة الماهيّة ، بمعنى
ما يتوقف عليه الشّيء فى تجوهر سنخ ماهيّته وقوام جوهرها فى مرتبة الذّات ، مع عزل
اللّحاظ عن مرتبة الوجود المتأخّرة عن مرتبة فعليّة نفس الماهيّة ؛ والتّقدّم
بالطبع هو تقدّم عليّة الوجود ، بمعنى ما يتوقف عليه الشّيء فى وجوده مع عزل
اللحاظ عن مرتبة تجوهر نفس الماهيّة المتقدّمة على مرتبة الموجوديّة ؛ والتّقدّم
بالعليّة هو تقدّم العلّة الموجبة ، أى : جاعل نفس ماهيّة الشّيء جعلا بسيطا ،
الّذي هو بعينه مفيد وجوده وموجب فعليّة تجوهره وفعليّة موجوديّته ،
وأنّ التّقدّم
الذّاتىّ العقلىّ ، وهو الّذي يجمع هذه التّقدّمات تناولا ، إنّما يجب بحسبه
انفكاك المتقدّم عن المتأخّر فى المعنى الّذي فيه التّقدّم مع اشتراكهما فيه أخيرا
فى المرتبة العقليّة وباعتبار ما يلزم ذاتيهما فى لحاظ العقل. وأمّا فى الزّمان أو
فى الدّهر فقد يجب بحسبه معيّتهما فى ذلك المعنى الّذي فيه التّقدّم ، ويمتنع
الانفكاك بينهما فيه انفكاكا بالزّمان أو بالدّهر امتناعا متكرّرا من الجانبين. وذلك
فى التّقدّم بالعلّيّة.
وهناك ما فيه
التّقدّم معان ثلاثة : هى فعليّة التّجوهر وفعليّة الوجود وفعليّة وجوبهما جميعا.
فالمتقدّم بالعلّية يمكن أن ينفكّ فى هذه المعانى عن المتأخّر بحسب المرتبة
الذّاتيّة الفعليّة ، لا بحسب الزّمان أو الدّهر ، والمتأخّر بالمعلوليّة لا يمكن
أن ينفكّ فيها عن المتقدّم أصلا ، لا بحسب المرتبة الذّاتيّة الفعليّة ولا بحسب
الزّمان أو الدهر. وقد لا يجب بحسبه ذلك ، بل يختصّ امتناع الانفكاك الزّمانىّ أو
الدّهرىّ بالمتأخّر وحده.
وأمّا المتقدّم
، فكما لا يمتنع أن ينفكّ عن المتأخّر فى المرتبة الذّاتيّة العقليّة ، فكذلك لا
يمتنع أن ينفكّ عنه فى الزّمان أو فى الدّهر. وذلك فى التقدّم بالماهيّة ، وما فيه
التقدّم فيه نفس فعليّة التجوهر فقط ، وفى التقدّم بالطبع وما فيه التّقدّم فيه
نفس فعليّة الوجود فقط.
فأنت الآن حقيق
بأن نعلمّك : أنّ علّة الماهيّة على ضربين : فمنها جاعل نفس الماهيّة ، أعنى الّذي
تصدر عنه نفس الماهيّة وتستفاد منه وتستند إليه. ففاقريّة الماهيّة إليه فاقريّة
صدوريّة. ومنها جزء الماهيّة ، أى الّذي يدخل فى قوام الماهيّة ويتألّف جوهرها منه
ومن معنى ما غيره.
فهذا مفهوم
وراء صدور الماهيّة عن شيء واستنادها إليه ، وبالضّرورة الفطريّة يستحيل أن تكون
الماهيّة مجعولة لجزئها وصادرة عنه. أليس لحاظ جزء الشّيء من تتمّة لحاظ ذاته.
فجزء الشّيء المجعول مأخوذ فى جانب المجعول وملحوظ فيما يقتضيه الجاعل ومفروغ عنه
باللّحاظ أوّلا ، حين ما يلحظ استناد الشّيء إلى المؤثّر وفاقته إلى الجاعل. فكيف
يكون هو المؤثّر أو ممّا يلحظ من قبله.
فافتقار
الماهيّة إلى ما هو داخل فى قوامها من حيث هو كذلك نحو آخر من الافتقار مخالف
المعنى مباين الحقيقة للافتقار الصّدورىّ والفاقة الاستناديّة. فالافتقار
الاستنادىّ فى الفعليّة والمجعوليّة بالجعل البسيط ، ومنبعه طباع الإمكان ، فلا
يختلف حكمه بالبساطة والتّركيب ، بل يعمّ شمول استيعابه البسائط والمركّبات قاطبة والافتقار
التّألّفيّ فى التقوّم والتحصّل ، لا فى القوام والفعليّة ، وليس بنوعه من طباع
الإمكان ، بل إنّما ينبع من نفس جوهر الماهيّة المركّبة بما هي متألّفة الحقيقة من
أشياء مختلفة بالمفهوم متكثّرة بالمعنى من حيث هى هى. فإذن ، قد استبان سبيل
اختلاف الحاجتين ، وافتراق علّيتهما.
ففاقة
المجعوليّة الّتي هى حاجة نفس الماهيّة فى فعليّة جوهرها إلى جاعل يفعل ذاتها ويجعل
نفسها جعلا بسيطا فاقة استناديّة يجب بحسبها أن يكون المفتقر والمفتقر إليه
متباينين بالحقيقة فى الذّات وفى الوجود ، لا بالاعتبار وفى لحاظ
العقل فقط. وليست تنبع من نفس جوهر الماهيّة بما هى تلك ، مركّبة كانت أو
بسيطة ، بل إنّما نبوعها من الماهيّة المركّبة أو البسيطة بما هى على طباع الإمكان
، لا بما هى تلك الماهيّة من حيث هى هى ، حتى أنّه لو أمكن أن تكون ماهيّة ما
مركّبة متخلّية عن طباع الإمكان لم يكن لها تلك الفاقة مع كونها مركّبة.
وفاقة التّألّف
الّتي هى حاجة نفس الماهيّة فى تقوّم جوهرها ، لا فى فعليّة تجوهرها ، إلى ما يتألّف
منه تحصّلها ، لا إلى ما تصدر عنه نفس ذاتها المتألّفة ، فاقة خلطيّة تضمّنيّة من
جهة كون المفتقر ، لا حقيقة له إلاّ مجموع الأشياء المفتقر إليها. فالمفتقر إليه
مأخوذ فى حقيقة المفتقر.
ولا يجب بحسب
هذه الفاقة أن يكون المفتقر والمفتقر إليه متباينين بالحقيقة فى الذّات والوجود
البتة ، بل ربما كان التّغاير بالاعتبار وفى نحو من أنحاء لحاظ العقل فقط ، من حيث
يلحظ الشّيء المحصّل بعينه ، مبهما تارة ومحصّلا اخرى. ومنبعها نفس جوهر الماهيّة
المركّبة بما هى هى ، لا من حيث طباع الإمكان حتى أمكن أن تكون الماهيّة المركّبة
مفارقة طباع الإمكان لم تكن ممكنة الانسلاخ عن هذه الفاقة وإن فرضت خارجة عن بقعة
الإمكان.
فإذن ،
للماهيّة المركّبة فاقتان : فاقة الاستناد وفاقة التّألّف. والثّانية بحسب نفس
الماهيّة من حيث هى هى ، والأولى بحسب الماهيّة بما أنّ لها طباع الإمكان ؛ إذ
التركيب لا ينسلخ عن استيجاب الإمكان بتّة. وللماهيّة البسيطة الجوازيّة فاقة
المجعوليّة فقط ، وهى لها بما أن هى على طباع الإمكان.
فكما أنّ
معلوليّة الشّيء فى وجوده وراء معلوليّته فى ماهيّته فكذلك معلوليّته فى ماهيّته
بحسب مجعوليّته جوهر الماهيّة وصدور نفسها عن الجاعل بالجعل البسيط وراء معلوليّته
فى ماهيّته بحسب تقوّم نفس الماهيّة بما يتركّب جوهرها منه.
والتّقدّم
بالماهيّة ليس فى ضربى علّة الماهيّة على نحو واحد ، بل إنّ المتقدّم بالماهيّة
الّذي هو جاعل الماهيّة تقدّمه بالماهيّة أقدميّة فى تجوهر الحقيقة أقدميّة
ذاتيّة عقليّة على أن يكون تجوهر حقيقة المتأخّر مستفادا من تلقائه. فلا
محالة لا يكون للمتأخّر حقيقة متجوهرة ، إلاّ والمتقدّم متجوهر الحقيقة أوّلا فى
المرتبة الفعليّة ويكون للمتقدّم حقيقة متجوهرة. والمتأخّر ليس بمتجوهر الحقيقة
بعد فى تلك المرتبة.
وأمّا المتقدّم
بالماهيّة الّذي هو جزء الماهيّة فإنّما تقدّمه بالماهيّة أنّه عند العقل محقوق
بأن يكون أقدم من الماهيّة فى المجعوليّة ، أى : فى تجوهر الحقيقة المستفاد من
تلقاء الجاعل بالجعل البسيط. فنفس الماهيّة الصّادرة من الجاعل إذا حلّلها العقل
إلى ذاتىّ ما وإلى ذى تلك الذّات وجد أنّ الذّاتىّ أحقّ ما يتجوهر أوّلا بنفس ذلك
الجعل بعينه وإن كان هو وذو الذّاتىّ متّحدين فى الحقيقة ولهما بحسب ذلك الجعل
تجوهر واحد يستتبع من حيث تلك المجعوليّة وجودا واحدا. فهذا التّقدّم للجزء بحسب
نفس جوهر الماهيّة المتقوّمة به مع عزل النّظر عن مرتبة الوجود وعن توقّفها عليه
فى الموجوديّة ؛ فإن لوحظ ذلك كان له عليها تقدّم بالطبع أيضا.
فالعقل بعد
التّحليل يجد الذّاتىّ أحقّ ما يوجد أوّلا بنفس ذلك الإيجاد وبعين ذلك الوجود ، ويجده
ريثما يغاير الماهيّة ولا يكون ذلك إلاّ فى التّحصّل والإبهام أنّ لوجود الماهيّة
توقّفا ما عليه.
فإذن ، لجزء
الماهيّة عليها تقدّمان : تقدّم بالماهيّة وتقدّم بالطبع ، كلّ من حيثيّة اخرى. والطبيعة
لا بشرط شيء وإن كانت هى عين الطبيعة بشرط شيء ، لكن كاد يكون سبيلها بالنّسبة
إليها سبيل نسبة الجزء إلى الكلّ بحسب التكثّر الّذي يوقعه العقل فى لحاظ التعيّن والإبهام.
فكما أنّها
تتقدّم عليها بالماهيّة (١٧٤) فكذلك يصحّ من وجه أنّ لها تقدّما عليها بالطبع
تقدّم البسيط على المركّب ، فالطبيعة من الشّيء الطبيعىّ كالبسيط من المركّب ، ولكن
فى لحاظ التّحصّل والإبهام ، لا فى الوجود ولا فى سائر اللّحاظات.
ثمّ ربما وقع
إليك أنّ محتسبا يحتسب التّقدّم بالماهيّة فيما تقدّم على الشّيء فى
تجوهر الحقيقة ولا يوجب تجوهره ؛ والتقدّم بالطبع فيما تقدّم على الشّيء فى
الموجوديّة ولا يوجب وجوده ، فله يسوغ حينئذ أن يطلق التقدّم بالماهيّة أو التقدّم
بالطبع على الجاعل الموجب التّامّ وإن كان متقدّما البتّة على مجعوله فى تجوهر
الحقيقة ولا فى حصول الوجود وفى وجوب التّجوهر والوجود.
وأمّا أنا فإلى
الآن ما ألفيت ما يصلح أن يظنّ داعيا إلى هذا الاحتباس ، بل ربما وجدت ما يحقّ أن
يعدّ صارفا عنه. فميزان انفصال التّقدّمات بعضها عن بعض لحاظ الحيثيّات المختلفة ورعاية
الاعتبارات المتكثّرة.
فالجاعل الموجد
الموجب التّامّ من حيث يتوقف عليه تجوهر ماهيّة المعلول مع عزل اللّحاظ عن كونه
بعينه الموجد الموجب متقدم بالماهيّة ، ومن حيث يتوقف عليه وجوده مع عزل اللّحاظ
عن كونه بعينه جاعل نفس الماهيّة وموجب تجوهرها ووجودها متقدّم بالطبع ، ومن حيث
كونه هو الجاعل الموجد الموجب التّامّ متقدّم بالعلّيّة فى التّجوهر والوجود
وجوبهما.
فإذن ، القيّوم
الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ له التقدّمات السّبعة بأسرها على معلوله الأوّل ،
مثلا ، إلاّ التّقدّم الزّمانىّ ، إذ يمتنع أن يتّصف به غير الزّمانيّات والآنيّات.
لكنّ الوجود فى صقع الرّبوبيّة ليس مفهومه وراء مفهوم التقرّر والتّجوهر ؛ لأنّ
الماهيّة هناك عين الإنيّة ، وكذلك الوجوب هناك عين الوجود وعين التّجوهر.
فالتّقدّم فى تجوهر الحقيقة هناك عين التّقدّم فى الوجود وعين التقدّم فى الوجود ،
لا يكاد يختلف بالاعتبار أيضا إلاّ بالقياس إلى حال المتأخّر المعلول ، فإنّه كما
أنّه يتأخّر فى وجوده فكذلك يتأخر فى تجوهر سنخ ماهيّته وفى وجوب تجوهره ووجوده.
فإذا لوحظ
تقدّمه ـ تعالى ذكره ـ على وجود المعلول ولم يوجبه اللّحاظ إلى غيره ؛ قيل: إنّه
تقدّم بالطّبع. وإذا لوحظ تقدّمه على نفس ماهيّة المعلول ولم يوجبه اللّحاظ إلى
اعتباراتها اللاّحقة ؛ قيل : إنّه تقدّم بالماهيّة. وإذا لوحظ تقدّمه على كلّ من
ماهيّة المعلول ووجوده ووجوب تجوهره ووجوده ؛ قيل : إنّه تقدّم بالعليّة.
فاختلاف
الاعتبارات فى ذلك التّقدّم لاجتماع هذه التأخّرات المختلفة فى المعلول بحسب
اختلاف المعانى الّتي فيها التأخّر فى ذاته المتأخّرة ، لا لاختلاف ما فيه التقدّم
فى ذات المتقدّم ، تعالى عن ذلك مجده وعزّه.
<١٠> مفحص فيصليّ
وإذ أدريناك :
أنّ فاقة الصّدور والاستناد مباينة المعنى لفاقة الخلط والتّألّف ، وأنّ ذاتيّات
الماهيّة عليّتها لها بمعنى ، وجاعل الماهيّة عليّته لها بمعنى آخر وما تفتاق إليه
الماهيّة فاقة المجعوليّة وراء ما تفتاق إليه فاقة الخلط البتة.
فاعلمن : أنّه
كما يكون للشّيء بحسب فاقة المجعوليّة علّة تامّة يفتاق هو إليها بالاستناد ويترتّب
عليها بالذّات البتة أيسا ، وعلى عدمها ليسا ؛ فكذلك يجب أن يكون له بحسب فاقة
التّألّف علّة تامّة يفتاق هو إليها بالخلط ويترتب عليها بالذّات البتّة تحصّلا وعلى
بطلانها انقضاء ، وإن هى إلاّ آحاد المقدّمات بأسرها ، لا غير.
فالآحاد بالأسر
غير المجموع باعتبار التّألّف. أليس اعتبار جميع الآحاد بالأسر لا بلحاظها معا غير
اعتبار الجميع بالأسر بلحاظها معا. والأخير هو اعتبار الشّيء المؤلّف. والأوّل هو
اعتبار علّته التّامّة بحسب التّألّف. فهذا الشّيء المؤلّف المفتاق إلى آحاد
الأجزاء بالأسر فاقة التّألّف لا يفتاق فاقة المجعوليّة إلاّ بحسب فاقة الأجزاء
تلك الفاقة ،
وتأثير الجاعل
فيه وإفاضته نفس ماهيّته ليس إلاّ تأثيره فى الأجزاء بالأسر وإفاضته أنفسها ؛ فإنّ
افتياق المركّب بمعنى معروض الهيئة الاجتماعيّة وهو نفس مجموع الأجزاء إلى المؤثّر
إنّما هو بحسب فاقة أجزائه ، ووجود مجموع الأجزاء إنّما هو ضرورة يلزم عند وجود
الأجزاء بأسرها ، ولا تأثير فيه وراء التأثير فيها. فالمركّب لا يفتاق فى التّحصّل
إلاّ إلى أجزائه ولا يستند فى التّقرّر إلاّ إلى علّة تقرّر الأجزاء بالأسر ،
وعلّة تقرّر الجملة هى علّة تقرّر الآحاد بأسرها ، وأمّا علّة بعض الآحاد ،
فإنّها علّة بعض الجملة ، لا علة الجملة. وإنّما الفرق بين الجملة والآحاد بالأسر
بالإجمال والتّفصيل ، أعنى : بذلك أنّها وراء الآحاد بالأسر اعتبارا ، وهى الموجود
المجمل الّذي مفصّلها الآحاد بالأسر ، أى الأجزاء المادّيّة والصّوريّة بأسرها من
غير التفات إلى المعيّة اللاّحقة بها ـ وهى الّتي التفت إليها من حيث هى معروضة
لتلك المعيّة اللاّحقة ـ كانت هى نفس ذلك الموجود المجمل بعينه ، وهذه الحيثيّة
ليست جزءا آخر ، صورة أو غيرها ، وإلاّ لم يكن الشّيء وقت الأجزاء بالأسر ، بل هى
باعتبار آخر فى نفس الأجزاء بالأسر ، لا غير.
فإن اوهم :
أنّه لا يعقل من الأجزاء بالأسر إلاّ مجموع الأجزاء الّذي هو المركّب بعينه.
قيل : كيف تكون
المتقدّمات بما هى متقدّمات هى المتأخرة بعينها. نعم يمكن أن يكون هى تفصيل
المتأخّر بعينه ، فتكون هى العلّة التّامّة لتمام تحصّله ؛ فإنّها إذا لوحظت ولم
يشذّ عنها جزء آخر أصلا حكم العقل بتّة أنّه يترتّب عليها بالذّات أيسا وليسا تمام
تحصّل المتأخّر إيجابا وسلبا. وأوثق البراهين ما يكون من لحاظ جوهر الموضوع. كما
أنّ الماهيّة هو نفس أجزاء الماهيّة بحيث لا يشذّ عنها أجزاء أصلا تفصل المحدود
علّة تامّة له بحسب التّصوّر. وهذا الحكم غير متخصّص بما له جزء صورىّ ، كما قد
يظنّ ، بل مستوعب الشّمول للماهيّات مطلقا.
أليست الأجزاء
المادّيّة والصّوريّة بأسرها فيما له جزء صورىّ هى كنفس الآحاد بأسرها فيما تنوّعه
بالأجزاء المادّيّة لا غير ، ككلّ من أنواع العدد المتألّف من نفس الوجدان فقط.
فإذن ، مهما
كان الشّيء مؤلّفا من الممكنات الصّرفة كان له فاقة المجعوليّة بحسب فاقة الأجزاء
بالأسر وفاقة التّألّف بحسب نفسه بما هو معروض اعتبار المعيّة اللاّحقة وله من جهة
كلّ من الفاقتين علّة تامّة اخرى. وعلّته التّامّة بحسب الصّدور هى بعينها العلّة
التّامّة لتقرّر علّته التّامّة بحسب التألّف. فصدور العلّة التّامّة
بحسب التّألّف عن علّتها هو بعينه صدوره عن تلك العلّة. فإذا لم يكن كذلك
كمجموع القيّوم الواجب بالذّات ومعلوله الأوّل ، مثلا ، لم تكن له فاقة المجعوليّة
إلاّ بحسب فاقة بعض الأجزاء ، أى : الّذي هو الجائز المعلول دون الّذي هو القيّوم
الواجب وإن كان له بحسب نفسه بما له معروضيّة اعتبار التّألّف فاقة التألّف.
فعلّته التّامّة من جهة فاقة التألّف نفس الأجزاء بالأسر. وما فيه الافتياق والاستناد
هو أن يتمّ تحصّل حقيقته حتى ينظر أنّها هل تفتاق فى تقرّرها إلى جاعل أم لا.
وأمّا من جهة
فاقة المجعوليّة ولا يكون النّظر فيها إلاّ بعد تمام تقوّم الحقيقة والفراغ عن
لحاظ تحصّلها ، فلا صدور عن علّة ولا استناد إلى مؤثّر إلاّ باعتبار الجزء المعلول
فقط. ولعلّ به عضة من الّذي حصّلناه هو ما ريم بقول شيخ مشّائيّة الإسلاميّين فى
طبيعيّات الشفاء.
ثمّ الفاعل والغاية
كأنّهما ليسا مبدأين غير قريبين من المركّب المعلول ؛ فإنّ الفاعل إمّا أن يكون
مهيّأ للمادّة ، فيكون سببا لإيجاد المادّة القريبة من المعلول ، لا سببا قريبا من
المعلول أو يكون معطيا للصّورة ، فيكون سببا لإيجاد الصّورة القريبة ، والفاقة سبب
للفاعل وسبب للصّورة والمادّة (١٧٥) بسبب تحريكها للفاعل للمركّب.
فالمبادى
القريبة من الشّيء هى الهيولى والصّورة ، ولا واسطة بينهما وبين الشّيء ، بل هما
علّتان على أنّهما جزء آن يقوّمانه بلا واسطة. وإن اختلف تقديم كلّ منهما فكان هذا
علّة غير العلّة الّتي هى ذاك ، فيكون قد رام بذلك أنّ علّة مقتضية وجود المركّب
إنّما يكون إفاضتها بأن تفيض وجود الأجزاء بالأسر الّتي هى جملة العلل لتقوّم
حقيقته المفتاقة إلى علّة مفيضة فتستتبع تلك الإفاضة بعينها وجود المركّب الّذي هو
مجموع الأجزاء من حيث لحوق اعتبار التّألّف.
فأحقّ ما ينسب
إليه العقل الصّدور عن العلّة بإفاضة بعينها أوّلا هو نفس الأجزاء بالأسر. ثمّ
مجموع الأجزاء الّذي هو المركّب ، لا باستيناف إفاضة ، بل بعين تلك الإفاضة ، ولم
يرم أنّها تفيض الأجزاء ثمّ الأجزاء تفيض المركّب ، كيف
والأجزاء مفروغ عن اعتبارها فى حقيقة المركّب حين ما يقصد أن يعتبر استناده
إلى العلّة المفيضة ومعتبرة فيما هو المستند إليها.
وهذا ، كما
علّمناك فى مباحث الجعل ، أنّ الجاعل يفيض وجود الماهيّة : بأن يبدع نفس الماهيّة
، فيلزمها بعين ذلك الإبداع أن تكون موجودة ، لا أنّه يبدع نفسها. ثمّ هى تقتضى أن
تكون موجودة ، على أن تكون هى واسطة فى التّأثير. وكيف يعقل أن تكون ماهيّة مؤثّرة
فى وجود نفسها.
فأمّا قول بعض
من يحمل عرش التّحصيل والتّحقيق : «إنّ المؤثّر التّامّ القريب فى كلّ مجموع آحاده
بأسرها ممكنة لا يمكن أن تكون غير آحاده بأسرها ؛ والبعيد يكون مؤثّرا فى الآحاد
بأسرها وبتوسّطها فى المجموع».
وأمّا المجموع
الّذي بعض آحاده الواجب ، فالمؤثّر التّامّ القريب فيه ليس إلاّ آحاده بأسرها ، ولا
يتصوّر مؤثّر بعيد فيه إلاّ بتوسّط بعض الأجزاء ، فلو كان للمجموع مؤثّر تامّ غير
الآحاد لكان ذلك المؤثّر غير قريب ، بل كان مؤثّرا فى الآحاد بأسرها قبل تأثيره فى
المجموع ؛ فإن صادف الحقّ من جهة التّفطّن للفرق بين الآحاد بالأسر وبين المجموع
الّذي هو معروض المعيّة اللاّحقة ؛ فإنّ الآحاد بالأسر غير الكلّ الأفرادىّ
بالذّات وغير المجموع المعروض لاعتبار التّألف بالاعتبار. والحكم بأنّ المؤثّر
التّامّ فى كلّ مجموع يجب أن يكون مؤثّرا فى آحاده بأسرها ؛ فإنّ المؤثّر التّامّ
فى البعض ليس مؤثّرا تامّا فى المجموع ، لكنّه يصادم الصّدق من جهة الغفول عن نحوى
العلّة فى علّة تقوّم الماهيّة وعلّة تقريرها.
فكون الشّيء ما
يتألّف منه تقوّم الماهيّة وراء كون الشّيء ما يفعل تقرّر الماهيّة المتألّفة ويفيض
نفسها ، والآحاد بالأسر علّة تامّة لتمام تقوّم المجموع ، لا أنّها الجاعل لتقرّره
، والمؤثّر التّامّ فيه ، بل المؤثّر التّامّ فيه هو المؤثّر التّامّ فيها على ما
حققناه.
__________________
<١> تذنيب
فإذن ، افتياق
الشّيء المركّب إلى ما هو جزء لذاته وبحسب جوهر ماهيّته. وأمّا افتياقه إلى ما هو
خارج عن قوام حقيقته فإنّما هو من جهة جزئه. فالفاقة إلى الجزء هى فاقة نفس الذّات
من حيث الذّات ، والفاقة إلى المؤثّر وإلى كلّ علّة خارجة عن الذّات هى بالحقيقة
فاقة الجزء أو الأجزاء بأسرها. وربما يفتاق هو إلى بعض الأجزاء بحسب جوهر الذّات ولكن
من تلقاء ذات الجزء. وذلك إذا كان ذلك البعض جزء الجزء ، لا جزءا أوّليّا.
وقد يعرض لكلّ
من المادّة والصّورة أن يكون علّة بواسطة وبغير واسطة معا من وجهين.
أمّا المادّة ،
فإذا كان المركّب ليس نوعا ، بل صنفا ، وكانت الصّورة الّتي تخصّ باسم الصّورة
هيئة عرضيّة ، فحينئذ تكون المادّة مقومّة لذلك العرض الّذي يقوّم ماهيّة ذلك
الصّنف من حيث هو صنف ، فتكون علّة ما للعلّة ، لكنّها من حيث المادّة جزء من
المركّب وعلة مادّيّة ، فلا واسطة بينهما.
وأمّا الصّورة
، فإذا كانت هى صورة حقيقيّة ، أى من مقولة الجوهر ، وكانت تقوّم المادّة بالفعل ،
والماهيّة علّة لماهيّة المركّب ، فتكون علّة ما لعلّة المركّب ؛ لكنّها من حيث
الصّورة جزء من المركّب وعلّة صوريّة ، فلا واسطة بينهما ، وتقوّم ماهيّة المركّب
يترتّب على الأجزاء بالأسر بالذّات أيسا وليسا.
وأمّا التّرتّب
على الصّورة كذلك ، فليس بالذّات ولا من حيث هى جزء من الأجزاء ، بل من حيث إنّها
هى الجزء الأخير والمقوّم الّذي لا مقوّم بعده.
فالأجزاء
بالأسر : إن لوحظت من حيث هى أشياء كثيرة هى المقوّمات كانت علّة تامّة هى مقوّمات
وعلل لتقوّم الحقيقة ؛ وإن لوحظت بما هى شيء تامّ التنوّع والتّقوّم وعزل النّظر
فيها عن اعتبار الكثرة بالقصد الأوّل كانت شيئا مجملا تترتّب عليه آثار التّنوّع ،
والتّقوّم هو بعينه المتأخّر المعلول المتألّف من تلك العلل.
وليس تفصيل ذلك
المجمل إلاّ نفس تلك المقوّمات الكثيرة بالأسر الملحوظة من حيث هى هى لا بشرط
المعيّة واللاّمعيّة أصلا ؛ فإنّ تلك هى عين المجموع المجمل بالذّات وإن غايرته
بالأغيار دون الكلّ الأفرادىّ الملحوظ فيه كلّ واحد واحد على البدليّة بلحاظ
اللاّمعيّة ، كما فى قولهم : «الدّار تسع القوم كلّهم ، لا معا ؛ إذ تلك بذلك
اللّحاظ عن المجموع المجمل على مغايرة غائرة وبون باين».
<١٢>إفصاح
التّقدّم
بالعلّيّة هو تقدّم العلّة الفاعلة من حيث قد استبدّت هى بالعليّة ، إذ لم يشذّ عن
الحصول معها بالفعل شيء ما ليس منه بدّ فى الإفاضة : بأن يتحقق كلّ ما يفتاق إليه
المعلول فى حصول صدوره عنها بالفعل. فالفاعل حينئذ هو بعينه المفيض الموجب
بالذّات. وأمّا العلّة التّامّة ـ وهى آحاد المتقدّمات بالطبع بأسرها ـ فهى ليست
شيئا واحدا متقدّما بتقدّم واحد ، بل أشياء كثيرة متقدّمة بتقدّمات عدّة ، كلّ
منها تقدّم واحد بالطبع ولا المعلول يتوقّف عليها بتوقّف واحد ، بل إنّما بتوقّفات
شتّى.
فإن لوحظت تلك
المتقدّمات باعتبار التّأليف حتى يحصل بذلك الاعتبار شيء واحد هو مجموعها لم يكن
فى ذلك استيجاب أن يكون هذا الشّيء يستحقّ البتة أن يتقدّم.
فمجموع
المتقدّمات ليس يلزمه أن يكون له أيضا تقدّم حتى يكون هناك تقدّم آخر وراء
التّقدّمات الّتي هى للآحاد. وأ ليس لو لزم ذلك لم تكن الّتي فرضت المتقدّمات والعلل
بالأسر المتقدّمات والعلل بالأسر ؛ ولا الّذي فرض مجموع المتقدّمات والعلل بالأسر
مجموع المتقدّمات والعلل بالأسر.
ومن حيث تبيّن
فساد كون العلّة التّامّة شيئا له تقدّم على المعلول وراء التقدّمات الّتي هى
لآحاد العلل ، فسد ما يوضع تبيانا لفساده أنّ ذلك يستلزم تقدّم المعلول المركّب
على نفسه بدرجتين ، ضرورة كون مجموع المادّة والصّورة ، وهو نفس
المعلول جزءا من العلّة التّامّة المتقدّمة ، فيكون متقدّما عليها.
أما اتّضح أنّ
كون المادّة والصّورة ، بما هما شيئان ، جزءين من العلّة التّامّة ومن معلولها ليس
يستلزم كونها بحسب اعتبار التأليف جزءا ، بل إنّما اللاّزم أن يكون المعتبر بذلك
الاعتبار مجموع الجزءين.
فإن قيل : خروج
الكلّ عن شيء من دون خروج شيء من أجزائه عنه فطريّ الاستحالة. فلو دخل كلّ جزء من
مجموع ما فى شيء ما كان المجموع إمّا عين الشّيء أو جزءه. وإذ يدخل غير المادّة والصّورة
فى العلّة التّامّة فمجموعهما جزء منها قطعا.
قيل : دخول كلّ
جزء من مجموع ما فى الشّيء إذا كان للشّيء جزء آخر إنّما يستوجب أن يكون المجموع
(١٧٦) جزءا منه باعتبار ما ، لا كونه جزءا منه بقاطبة الاعتبارات ؛ فقد يكون جزءا
منه باعتبار ، خارجا عنه باعتبار آخر. وخروج الكلّ لا بخروج جزء ما ، إنّما
استحالته فطريّة إذا كان هو بقاطبة الاعتبارات خارجا.
فالمادّة والصّورة
، بما هما تلحظان فى حيّز الكثرة ، جزءان ومتقدّمان ؛ وبما هما ملحوظان فى حيّز
الوحدة اللاّحقة بحسب اعتبار التّألف شيء هو مجموعهما. فهما بهذا اللّحاظ عين
المعلول ، لا من أجزاء العلّة.
أليس كلّ نوع
من أنواع العدد إنّما تألّفه بنوعيّته من الوحدات الّتي هى أجزاؤه ، لا من الأعداد
الّتي تحته. فكلّ من أجزاء العدد الّتي هو الثّلاثة ، مثلا ، جزء من العدد الّذي
هو الأربعة. وليس مجموع تلك الأجزاء ـ وهو العدد الأوّل ـ جزءا من العدد الأخير.
وهذا الحكم ليس
له تخصّص بما إذا اثبت للعدد جزء صورىّ ، كما قد ظنّ ، بل إنّه متمشّ على مسلك
التّحصيل أيضا. وهو أنّه ليس لكلّ عدد صورة نوعيّة مغايرة لوحداته ، بل إنّ كلّ
مرتبة من الأعداد نوع آخر متميّز عن سائر المراتب بخصوصيّة المادّة فقط ، لا بصورة
مغايرة لموادّها. وهذا من خواصّ الكم الانفصالىّ. وكأنّ الظّانّ إنّما عضّل عليه
الأمر غموض افتصال الأمر بالأمر عن مجموع الأجزاء.
ولعلّ بين
الاعتبارين فرقا جليّا عند تأمّل دقيق. فإذا جبّ عرق الاصول وافتصل أحد الاعتبارين
عن الآخر استوى الحكم فيما له جزء صورىّ أو ما بمنزلته وفيما ليس له ذلك ، كالكثرة
الصّرفة. ثمّ هل الأجزاء المادّيّة والصّوريّة بأسرها فى ذلك إلاّ كالأجزاء
المادّية. فقط بأسرها فى هذا.
فإذا لم يكن
اعتبار الأجزاء بالأسر غير اعتبار مجموع الأجزاء بلحاظ التّأليف فى ذا ، لم يكن
اعتبار الأجزاء المادّيّة والصّوريّة بأسرها غير اعتبار مجموع تلك الأجزاء بحسب
لحاظ التأليف فى ذاك أيضا. فلا يتوهّم الفصل بين المقامين إلاّ ما إذا احقوقف
التّأمّل واسخوخف الوجدان.
فالمعلول
المركّب مطلقا إذا كان تألّفه من الممكنات الصّرفة إنّما تكون أجزاؤه بالأسر أجزاء
علّته التّامّة ومتقدّمة عليها ، وأمّا مجموع تلك الأجزاء فعين المعلول وخارج عن
العلّة ، والعلّة التّامّة مجموع العلل المتقدّمات ، لا العلّة المتقدّمة.
وإن سألت الحقّ
فالمفتاق إليه بالذّات ليس إلاّ المتقدّم بالعليّة ، وهو العلّة الفاعلة بالفعل ،
أعنى الجاعل الموجب. وأمّا سائر العلل فليست مفتاقا إليها بالذّات ، بل إنّما
افتاق المعلول إليها فى تهيّئ الاستناد إلى الفاعل الموجب وصلوح الفيضان عنه
بالفعل.
فإذن ، المتقدم
المفتاق إليه بالذّات وبالقصد الأوّل هو الجاعل الموجب التّامّ. وأمّا الافتياق
إلى سائر العلل والتأخّر عنها فإنّما بالقصد الثّاني.
ثمّ إنّ ذلك
أيضا ـ على ما قد تلونا عليك نسخا للذّائعات الغير المحمودة وفسخا للضّابطات الغير
الموثّقة ـ إنّما يصحّ فى العلل الخارجة عن جوهر ذات المعلول ، كالشّرط والمعدّ. وأمّا
جوهريّات الماهيّة وأجزاؤها فلا يسوغ أن تعدّ من المفتاق إليه فاقة الاستناد أصلا ولو
بالقصد الثانى ، بل إنّما يفتاق إليها المعلول المركّب منها فاقة التّألّف فحسب ؛
لأنّها موضوعة فى حيّز المفتاق متمّمة لقوامه ، لا أنّها ملحوظة
__________________
فى حيّز المفتاق إليه.
ألسنا ، أوّلا
، نضع شيئا قد تمّ تقوّمه النّوعىّ وتألّفه الجوهرىّ ، ثمّ ننظر فيما يفتاق إليه
ذلك الشّيء فى تقرّره وفعليّته بالذّات ، وهو المفتاق إليه فاقة الصّدور والاستناد
بالقصد الأوّل. وفيما يتوقف استناد تقرّره وفعليّته إليه بالفعل عليه ، وهو
المفتاق إليه فاقة الصّدور والاستناد بالقصد الثانى.
<١٣> تذكير
لعلّك غير ناس
ما قد أسمعناك من قبل : أنّ طباع : وجد فوجد ، أو وجب فوجب ، إنّما مقتضاه : أنّ
ما هو العلّة متقدّم بالوجود أو الوجوب ، لا أنّ ذلك الوجود أو الوجوب المتقدّم من
جملة ما هو الموصوف بالعليّة. فقد يكون الأمر كذلك ، كما إذا كان المتأخّر بالوجود
والوجوب من عوارض الشّيء المتقدّم بحسب وجوده ووجوبه ؛ كقولنا : وجد الجسم ، فصار
أبيض ؛ وقد لا يكون ، كما إذا كان هو من عوارضه بحسب نفس ماهيّته المرسلة ، كقولنا
: وجد المثلّث ، فصار ذا الزّوايا.
<١٤> إحصاء استقصائيّ
السّبق
بالماهيّة من حيّز الجعل البسيط ، والسّبق بالطبع والسّبق بالعليّة من حيّز الجعل
المؤلّف. والمتّصف بالسّبق بالماهيّة إنّما هو جوهريّات الماهيّة بالقياس إليها ونفس
الماهيّة بالقياس إلى وجودها وجاعل الماهيّة جعلا بسيطا ؛ إلاّ أنّ سبق الماهيّة
على وجودها ليس إلاّ السّبق بالماهيّة ؛ إذ يمتنع أن يكون بحسب الوجود أو كيفيّته
حتّى يكون بالطبع أو بالعليّة ؛ وجوهرىّ الماهيّة أنّ له عليها سبقا بالماهيّة. فربّما
يقال : إنّه يتّصف أيضا بالسّبق عليها بالطبع بحسب الوجود ، لكونه من علل وجود
الماهيّة ، كما أنّه من علل نفسها وداخل فى قوامها.
وذلك إن قلنا
بالجزئيّة فى طرف الخلط والتّعرية أو بما يشبه السّبق بالطبع إن
قلنا : إنّ الحكم بالجزئيّة هناك أيضا إنّما هو على سبيل المسامحة والتّشبيه
، لا على الحقيقة. أو يدقّق التّأمّل فيقال : إنّه إنّما يقع فى حيّز المفتاق ، لا
فى حيّز المفتاق إليه ، فسبقه على الماهيّة بالطبع إنّما معناه : أنّ العقل بعد
التحليل بلحاظ التّحصّل والإبهام يجد الجوهرىّ الموجد أحقّ ما يوجد أوّلا من تلقاء
الجاعل ، لا بإيجاد منحاز ووجود مغاير ، بل بنفس إيجاده الماهيّة وبعين وجودها
الّذي لها من تلقائه.
وأمّا الأجزاء
العينيّة ، كالمادّة والصّورة الخارجيّتين ، فإنّما قوام جوهر الماهيّة بها بحسب
خصوص وقوعها فى الأعيان ، فسبقها على الماهيّة باعتبار التّقرّر إنّما يكون بحسب
خصوص تجوهرها فى الأعيان ، لا بحسب نفس الماهيّة بما هى هى.
وكذلك الأجزاء
العقليّة ، كالمادّة والصّورة العقليّتين ، إنّما تقوم نفس الماهيّة بها بحسب خصوص
تمثّلها فى العقل ، لا بحسب سنخ الماهيّة بما هى هى. ولذلك ما إنّ التّحديد ليس
يصحّ إلاّ بالجوهريّات ، لا بالأجزاء العينيّة أو العقليّة ؛ إذ الحدّ إنّما يقع
بما يدخل فى قوام الماهيّة المتقرّرة الموجودة بما هى هى ، لا بما هى موجودة.
وجاعل الماهيّة
أيضا سبقه عليها سبق بالماهيّة ، وربما يتقدّم عليها تقدّما بالعلّيّة أيضا. وذلك
إذا كان بذاته مبدأ إيجاب المعلول ؛ كالقيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى شأنه ـ
بالقياس إلى المجعول الأوّل.
فإن لم يشترط
فى المتقدّم بالطبع أن لا يكون متفرّدا بالعليّة ، بل يكون علّة غير مجدية، وإنّما
اعتبر مجرّد أن يأخذ تقدّمه بحسب الوجود ، كان له ـ تعالى كبرياؤه ـ على مجعوله
الأوّل تقدّم بالطبع أيضا ، حيث إنّ الوجود هناك ما به التّقدّم من حيث لحاظ بحت
الفاعليّة وإن كان التّقدّم بالعلّيّة أيضا تقدّما متحققا من حيث إنّ هذا الفاعل
موجب تامّ بذاته.
وأمّا سائر
العلل ، فلا يلحظ فى سبقها على المعلول إلاّ الوجود ، والتّقرّر إنّما يلحظ بالعرض
من حيث إنّ الوجود لا يفارق التّقرّر ، بل يتبعه لزوما على البتّ.
ثمّ إنّ للشّيء
لواحق بحسب مرتبة تقرّر سنخ الماهيّة ، ولواحق بحسب مرتبة الوجود فى الأعيان أو فى
الذّهن ، وفى اللّواحق بحسب مرتبة التّقرّر ، كالوجود
والوجوب السّابق والإمكان ، ولوازم الماهيّة بالاصطلاح الشّائع متقدّمة على
اللّواحق بحسب الوجود ، كالأعراض العينيّة أو اللّوازم الذّهنيّة أو اللّوازم
الماهيّة والإضافات والسّلوب المنتزعة بحسب الوجود فى الأعيان أو فى الذّهن وسبق
لواحق الذّات بحسب تقرّر سنخ الماهيّة (١٧٧) على اللّواحق بحسب الوجود من توابع
السّبق بالماهيّة.
وللماهيّة على
اللاّحق بحسب الوجود ، كالجسم على البياض ، نحوان من السّبق : سبق بالماهيّة بنفس
التّجوهر وسبق بالطبع بالوجود. أليس المعروض للبياض هو الجسم الموجود ، على أنّ
الوجود له مدخل فى المعروضيّة ، بخلاف معروض الوجود ؛ فإنّه نفس الماهيّة المرسلة
، لا الماهيّة الموجودة ، ولذلك كان سبق الماهيّة على الوجود سبقا بالماهيّة فقط.
ثمّ قد كان قرع
سمعك واستبان لك فيما قد سلف : أنّ وجود الماهيّة سابق على لوازمها ، لا لأنّ
الوجود يدخل فيما يستند إليه لازم الماهيّة. فقد كنت تعرّفت أنّ علّة اللاّزم نفس
الماهيّة المرسلة ، لا الماهيّة باعتبار مطلق الوجود ، كما توهّم بعض المجازفين ،
بل لأنّ علّة الشّيء يتقدّم عليها بالوجود تقدّما بالذّات وإن لم يكن للوجود مدخل
فى العلّيّة ، ولأنّ الوجود أوّل ما يتبع تقرّر الماهيّة وينتزع منها ، وليس طباع
لازم الماهيّة يستدعى ذلك ، بل إنّ سنّة الماهيّة المتقرّرة وشاكلة الوجود
تستحقّانه ، إذ الوجود ليس مطابقة إلاّ نفس الماهيّة المتقرّرة ، ولا كذلك الأمر
فى لوازم الماهيّة.
فإذن ، الوجود
متقدّم على لوازم الماهيّة تقدّما بالماهيّة وليس داخلا فيما تستند هى إليه. كما
أنّ لازم الماهيّة يتقدّم على غيرها من اللّواحق المتأخّرة تقدّما بالماهيّة فقط ،
لا بالوجود ؛ إذ التقدّم بالوجود ينحصر فى سبق العلّة على المعلول ناقصة أو تامّة
، وليس يتعدّاه ، بخلاف التّقدّم بالماهيّة. وعند هذا ، فقول شيخ فلاسفة الإسلام
فى إلهيّات الشفاء : «ما يلحق جوهر الشّيء بذاته أقدم ممّا يلحقه بغيره فى مرتبة
متأخّرة» ، قد اقترّ مقرّه.
<١٥> حكمة يمانيّة
المتقدّم والمتأخّر
بالماهيّة ، إذا اتّحدا حقيقة ووجودا ، كالشّيء وكلّ من جوهريّاته ، أو بحسب
الوقوع فى الأعيان فقط ـ على أن لا يكون فى الأعيان إلاّ نفس ماهيّة المتقدّم فقط
، لا على أن يكون المتأخّر موجودا فى الأعيان بعين وجود المتقدّم ، كالماهيّة والوجود
ـ لم يكن للمتقدّم بالماهيّة على ما يتأخّر عنه تأخّرا بالماهيّة تقدّم سرمدىّ
أيضا ؛ وذلك باطل.
وأمّا إذا كانا
متباينين بالحقيقة وبحسب الكون فى الأعيان جميعا ، كجاعل نفس الماهيّة ، أى :
مفيضها ، بالجعل البسيط والماهيّة المجعولة ، فلا محيص من أن يكون للمتقدّم
بالماهيّة تقدّم سرمدىّ أيضا على ما يتأخّر عنه بالماهيّة وينقلب سبقه السّرمديّ
بعد إفاضة ماهيّة المسبوق وجعله إيّاها إلى المعيّة الدّهريّة وينحفظ سبقه
بالماهيّة على شأنه ، فيكون له بالقياس إليها معيّة بالدّهر وسبق بالماهيّة ، وكذلك
بالعليّة. وذلك حيث يكون فاعل الماهيّة غير زمانىّ هو وتأثيره ، بل كان فعله نفس
الماهيّة فى الأعيان ، لا فى زمانىّ ما أو فى جميع الأزمنة.
<١٦> مرصاد
إنّى انيلك
دراية عست أن تجديك فى مقامات كثيرة : التّقدّم والتأخّر بالذّات بحسب التّقرّر والوجود
المحمول يتعاكسان بحسب الوجود الرّابط ، لكنّ التّعاكس إنّما يكون باعتبار مطلق
القدر المشترك بين الأضرب الثّلاثة ، لا باعتبار خصوصيّات الأنحاء ، أعنى بذلك أنّ
المتأخّر عن الشّيء بالذّات فى التقرّر والوجود المحمول ، سواد كان تأخّره
بالماهيّة أو بالطبع أو بالعليّة ، فإنّه ينعكس بحسب الوجود الرّابط متقدّما عليه والمتقدّم
متأخّرا بالمعلوليّة. ولا يلزم أن ينقلب ما هو العلّة معلولا ، بل إنّما يكون وصف
ما يعتبره العقل للمعلول علّة لمفهوم ما إضافىّ عارض للعلّة.
فالجسم ، مثلا
، متقدّم على الحيوان بحسب التّقرّر تقدّما بالماهيّة ومتأخّر عنه
بحسب الثّبوت للإنسان والحمل عليه تأخّرا بالمعلوليّة ؛ فإنّ كون الإنسان
حيوانا سبب موجب تامّ لكونه جسما الجسميّة المحمولة على الحيوان ، أى الحصّة
المتخصّصة به. وكذلك كون الشّيء أسود ، مثلا ، علّة موجبة لكونه ذا اللّون المحمول
عليه. وإن كان اللّون فى نفسه مقوّما للسّواد فى نفسه متقدّما عليه بالماهيّة ، والشّرط
متقدّم على المشروط بحسب الوجود المحمول تقدّما بالطبع ومتأخّر عنه تأخّرا
بالمعلوليّة بحسب الثّبوت الرّابط ؛ فإنّ كون الشّيء ذا شيء مشروط سبب موجب لكونه
ذا شروط ذلك الشّيء بما هى شروطه ، والعلّة الموجبة للذّات المؤلّفة متقدّمة عليها
بحسب وجوب الوجود المحمول تقدّما بالعليّة وثبوتها الرّابط عن ثبوتها الرّابط
تأخّرا بالمعلوليّة ؛ فإنّ كون الشّيء ذاتا مؤلّفة علّة موجبة لكونه ذا علّة موجبة
للذّات المؤلّفة ؛ وكذلك كون الشّيء ذا الشّيء الّذي له ذات مؤلّفة علّة موجبة
لكونه ذا تلك العلّة الموجبة لتلك المؤلّفة بما هى علّة موجبة لها.
فإذن ،
المتقدّم بالذّات بحسب التقرّر والوجود المحمول ، أىّ ضرب كان ، من أضرب التّقدّم
بالذّات ، قد صار ثبوته الرّابط ، أى انتسابه إلى شيء متأخّرا بالمعلوليّة عن
الثّبوت الرّابط لما هو المتأخّر عنه فى نفسه بالماهيّة أو بالطبع أو بالعليّة ،
أى : انتسابه إلى ذلك الشّيء بعينه.
<١٧> تبيين
يقال : إنّ
السّبق الرّتبىّ هو كون أحد الشّيئين بالنّسبة إلى مبدأ محدود أقرب من الآخر ، وهو
المسبوق. ويرام أنّه كون الشّيء نفس المبدأ المحدود أو أقرب إليه. فالسّابق
بالرّتبة على الإطلاق هو المبدأ الّذي يضاف إليه أشياء اخر ، فيكون بعضها أقرب منه
وبعضها أبعد ، مثل الجنس الأعلى فى حكم الجنسيّة والنّوع السّافل فى حكم
النّوعيّة.
وأمّا بعد
المطلق فالسّابق هو أقرب المنسوبين إلى ذلك المبدأ منه ؛ فإنّ ما هو أقرب الاثنين
منه فهو أقدم فى المرتبة ، مثل الجسم ، فإنّه يتقدّم على الحيوان إن
اعتبر الابتداء من الجنس الأعلى. والحيوان أقدم من الجسم إن اعتبر ذلك من
النّوع الأسفل. والسّابق بالرّتبة ليس بحسب ذاته أن يكون سابقا ، بل إنّما بحسب
النّسبة المذكورة. ولذلك قد ينقلب الأسبق ، فيصير الأشدّ تخلفا.
وإذ التّرتيب
فى الأشياء قد يكون طبعا ، كما فى العلل والمعلولات المترتّبة ، سواء اعتبرت على
التّنازل من العلّة أو على التّصاعد من المعلول ، وقد يكون وضعا ، كما فى الصّفوف
فى المكان منسوبة إلى مبدأ الوضع.
فالسّابق
بالمرتبة قد يكون فى امور عقليّة وقد يكون فى امور عقليّة وقد يكون فى امور
وضعيّة. ثمّ قد يكون بالطبع ، كما فى الأجناس والأنواع المتنالية ، وقد يكون
بالاتفاق ، كالّذي يقع متقدّما فى الصّف الأوّل ، فيكون أقرب إلى المحراب ، وقد
يكون بالأحرى ، كما فى تقديم إيساغوجى وقاطيغورياس على باريرميناس فى الميزان.
فإذن ،
المتقدّم بالمكان قد يكون سبقه الرّتبىّ فى الوضع بالاتفاق ، كالصّف الأوّل ، من
صفوف المجلس ، وقد يكون فى الوضع بالطبع ، كالنّار المستقرّة فى حيّزها بالقياس
إلى الهواء. وكذلك سائر الأجرام البسيطة ، كفلك زحل ، المتقدّم على فلك المشترى ،
إن جعل المحدّد مبدءا. والعكس إن جعل فلك القمر مبدءا. وكذلك المتقدم الرّتبىّ فى
العقليّات ؛ وقد يقع السّابق بالمرتبة فى العلوم البرهانيّة. فالمقدّمات قبل
الأقيسة والنّتائج. وكذلك الحروف قبل الهجاء ، والصّدر فى الخطبة قبل الاقتصاص.
وإن أشكل عليك
الأمر فظننت أنّ المقدّمات قبل القياس ليس فى المرتبة ، بل بالطبع ؛ فإنّه إن كان
القياس كانت المقدّمات وليس إن كانت المقدّمات كان القياس. وكذلك فى الحروف والهجاء.
قيل لك : ألم
نسمعك أنّه قد تحشد تقدّمات مختلفة فى متقدّم بعينه من حيثيّات شتّى ، فليس يمتنع
أن يكون القبل بالطبع قبلا فى المرتبة من وجه آخر ، كما أنّ القبل بالعليّة قبل
البعد بالمعلوليّة بالرّتبة الطّبيعيّة إذا وقع الابتداء من العلّة ، [فيكون فيه
(١٧٨) نحوان من القبليّة بالقياس إليه وبعديّة
بالرّتبة الطبيعيّة إذا وقع الابتداء من المعلول] فيكون فيه قبليّة
بالعلّيّة وبعديّة بالرّتبة طبعا.
فالمقدّمة
بالقياس إلى القياس متقدّمة بالطبع وبالمرتبة الطبيعيّة جميعا ؛ فإنّ النّظر هناك
فى المقدّمة ليس بحسب نفسها ، بل بحسب استعمالنا إيّاها فى التعليم.
ونحن نتناول
المقدّمات مرّة على طريق التّحليل ومرّة على طريق التّركيب. فإن سلكنا مسلك
التّركيب كانت المقدّمات قبل القياس ، وإن سلكنا سبيل التّحليل ، بأن فرضنا ،
أوّلا ، النّتيجة وطلبنا وسطا انعقد لنا القياس بعد النّتيجة. ولأنّ أخذ الوسط بين
الطرفين على أنّه مشترك بينهما قبل تخصيصه بأحدهما ، حتى تحصل إحدى المقدّمتين
بصفة ؛ وبالآخر حتى تحصل الاخرى بصفة ، فيكون القياس منعقدا لنا أوّلا ، ثمّ
نتدرّج منه إلى اعتبار مقدّمة ما حافظ. وكذلك الأمر فى الهجاء والحروف.
فإذن ،
التّرتيب الواحد يكون موضوعا للتركيب والتّحليل. والمتقدّم بحسب التّركيب فى المرتبة
غير المتقدّم بحسب التّحليل. وذلك بحسب استعمالنا المقدّمة. وهى وإن كانت متقدّمة
بالطبع من حيث نفسها ، فليست متقدّمة من حيث الانتهاء إليها بالتّحليل ، بل هى
متأخّرة بالرّتبة طبعا بحسب التّحليل ، ولا تقدّمها بالرّتبة طبعا من حيث الابتداء
منها بالتّركيب هو عين تقدّمها بالطبع ، من حيث نفسها. فلها بحسب نفسها تقدّم
بالطبع وبحسب التّركيب تقدّم بالرّتبة الطبيعيّة. على أنّا فى اعتبار التقدّم فى
المرتبة لا نولّى وجوهنا شطر الالتفات إلى حال الشّيء بحسب نفسه أو إلى حاله من
جهة استعمالنا إيّاه ، بل إنّما نلتفت إلى حال نسبته إلى طرف اتّخذناه مبدءا.
والمقدّمات
المنتظمة من الفطريّات الأوائل وما يجرى مجراها إلى النّتيجة القصوى المقصودة
منتظمة بين طرفين هما النّتيجة والمبدأ الأوّل. فما هو أقرب منها فهو أبعد منها وما
هو أقرب منه فهو أبعد منها. فقد يختلف مقدّمتان فى القرب
والبعد من أحد الطرفين ويكون حكمهما بالقياس إلى الطرف الآخر على الخلاف. فأقربهما
من الطرف الأوّل أبعدهما من الطرف الآخر وبالعكس.
<١٨> تكملة اختتاميّة
المعنى الّذي
فيه السّبق فى التّقدّم بالكمال والشّرف هو نفس المعنى المجعول ، كالمبدإ المحدود
، لا التّرتيب بحسب القرب والبعد منه ، كما دريت فى السّبق بالرّتبة الحسّيّة أو
العقليّة. فإذا كان لأحد الشّيئين من ذلك المعنى ، أى : من نفسه ، ما ليس للآخر ، وليس
للآخر منه إلاّ ما لذلك الأوّل ، بل إلاّ عضة ممّا له ، كان هو متقدّما بالكمال والشّرف
على ذلك الآخر. فالمتقدّم بالشّرف هو الفائق الفاضل بل الزّائد بالكمال ولو فى
معنى ما غير الفضل والشّرف.
ومن هذا القبيل
ما جعلوا المخدوم والرّئيس قبل بالشّرف ؛ فإنّ للرئيس من الاختيار ما ليس للمرءوس
، وليس للمرءوس منه إلاّ بعض ما للرّئيس. فهذا المعنى بحسب نفسه أمر محصّل معدود
من أقسام السّبق. وهو غير القسم الّذي يتسبّب هو له أكثريّا ، أعنى السّبق
بالرّتبة ، كالتّقدّم المكانىّ فى المحافل غالبا ؛ فإنّه سبق بالرّتبة الحسّيّة. وأكثر
ما يكون سببا له إنّما هو السّبق بالشّرف ، أعنى الزّيادة فى الفضل والكمال ، أى
فى نفس المعنى الّذي فيه السّبق. وربّما يكون هو سببا للتقدّم الزّمانىّ ، كما
يقصد إلى السّابق فى الكمال على شيء أولا ، أى فى زمان متقدّم ، ثمّ إلى الشّيء
المسبوق به ، بل فيه أخيرا ، أى : فى زمان متأخّر.
فإذن ، سقط ما
يتوهّم ، من إرجاع السّبق بالشّرف إلى السّبق بالرّتبة أو السّبق بالزّمان. وظهر
أنّ كلّ ما هو أزيد فى معنى ما من شيء آخر ، فهو أسبق منه بالشّرف والكمال إذا جعل
نفس ذلك المعنى بحسب الثّبوت لهما ، كالمبدإ المحدود. ولذلك ما إنّ المتقدّم
بالشّرف من جهة ربّما يكون متأخّرا بالشّرف من جهة اخرى بالقياس إلى شيء بعينه.
وإذ قد نفضنا
النّفس نفضا ورفضنا الوهم رفضا ، فومضت لنا بارقة الحقّ
ومضا ، ورمضت ساهرة العقل رمضا ، فبلغنا بسلوك السّرّ وصعود الرّوع حدّا من
تقويم الحكمة وترميم الفلسفة لم يكن ارتقاب الوصول إليه لشركائنا اللّذين سبقونا
برياسة الصّناعة فى الأوّلين. فعلى ذلك فليكن اختتام هذا الفصل ، والحمد للّه ربّ
العالمين.
فصل خامس
<آراء أهل الحكمة والكلام وختم المسافة السّادسة >
يؤتى فيه بما
هناك من الآراء المتشتّتة والأهواء المتشعّبة بقضّها وقضيضها ، سواء وقعت فى
الفلسفة النّيّة الّتي ظنّتها ظنون المتفلسفين أو الطريقة الّتي خيّلتها أوهام فئة
تلقّبت بالمتكلّمين ؛ ثمّ يجاء بأنواع المعيّة وأحكامها. فهنا لك تختم المسافة
السّادسة بفضل اللّه وسماح طوله.
<فى الفصل الخامس اثنتى عشرة عنوانا >
<١>إخاذة
قد ذاع لدى
الجماهير مغريا إلى الفلاسفة تخميس أقسام السّبق بالانتقال عن السّبق السّرمديّ
بالدّهر لاحتباس الّذي يجب بحسبه أن يتخلّف السّابق عن المسبوق فى التّحقّق البتة
فى السّبق بالزّمان وعن السّبق بالماهيّة لاحتباس السّبق العقلىّ بالذّات فى الّذي
بالطبع والّذي بالعليّة.
ثمّ إنّ قرنا
آخرين يتلقّبون بالمتكلّمين من أحداثهم يسدّسون الأقسام فيعزلون السّبق الزّمانىّ
عن سبق أجزاء الزّمان ، بعضها على بعض مثلا ، ويجعلون ذلك السّبق نوعا سادسا ، هو
وراء السّبق الزّمانىّ ووراء الأنواع الأربعة الباقية من الخمسة ، ويسمّونه السّبق
بالذّات.
فهم من سخافة عقلهم يخرجون ما هو سبق
زمانىّ بالذّات عن السّبق بالزّمان ويقصرون السّبق بالزّمان على ما هو سبق زمانىّ
بالعرض. وكأنّ الغريزة إذا ارتضعت لبن العلم من ثدى التّحصيل لم تكن من المرتابين
فى فساد هذا التّهويش. وإذ نحن قد برهنّا على تحقق السّبق السّرمديّ بالدّهر على أنّه مباين
الحقيقة ومخالف الأحكام للسّبق بالزّمان والسّبق الذّاتىّ بالماهيّة على أنّه وراء
السّبق بالطبع والسّبق بالعليّة بالمعنى وبالخواصّ واللّوازم. فقد انصرح تسبيع
الأنواع وفسخ ضوابطهم المحفوفة بالجبّ والتخريق.
<٢> تفصيل وفيصل
ممّا يضيّق
المخرج على المتفلسفين المخّمنين لأنواع السّبق ، بناء على ضوابطهم المحفوفة بالفسح
: أنّهم قد سدّسوا أنواع المعيّة بالمعيّة الدّهريّة ، ولم يسعهم أن يستنكروها ،
ضرورة المفارقات المحضة ، لتعاليها عن المادّة وعوارضها متعالية عن الحركة والسّكون
والزّمان والمكان ومتقدّسة عن الإضافات الزّمانيّة والمكانيّة والنّسب الكونيّة والمكانيّة
؛ فيمتنع أن يكون فى عالم الأنوار العقليّة معيّة بالزّمان.
فمعيّة البارى
ـ عزّ مجده ـ بالنّسبة إلى مجعولاته المفارقة فى الوجود أو بالنّسبة إلى معلولاته
الكيانيّة الزّمانيّة ؛ وكذلك معيّة بعض مجعولاته المفارقة العقليّة بالنّسبة إلى
بعض آخر أو بالنّسبة إلى الكيانيّات والزّمانيّات ، وبالجملة ، معيّة الثّابت والثّابت
، أو معيّة الثّابت والمتغيّر فى الوجود فى الواقع ، أى فى وعاء الدّهر ـ ليست
معيّة زمانيّة ، بل هى معيّة بالدّهر ، وهى خارجة عن المعيّات الّتي هى بإزاء
أقسام السّبق الخمسة ، وهم لم يكونوا فى غفول عن هذه المعيّة وعدّها نوعا سادسا وتسميتها
معيّة بالدّهر.
فإذن ، قد
لزمهم لزوما باتّا أن يسدّسوا أنواع التّقدّم والتّأخّر أيضا ؛ فإنّ المع يجرى
مجرى المتقدّم والمتأخّر فى معانيهما المختلفة. أليس إثبات كلّ من التّقدّم والتّأخّر
والمعيّة لشيء فى قوّة نفى الآخرين عنه ، فتكون المعانى المتصوّرة من كلّ منها
بإزاء المعانى المتصوّرة من الآخرين بتّة.
ومن المستغربات
أنّهم يزعمون أنّ كون أقسام المعيّة بحسب أقسام التقدّم والتأخّر من البتّيات
الفطريّة. ثمّ إنّهم يخمّسون أقسام السّبق والمسبوقيّة ويسدّسون أقسام المعيّة
(١٧٩). فإذن ، لا منتدح ولا محيص لهم من إثبات نوع آخر للسّبق وراء الخمسة بإزاء
المعيّة الدّهريّة : هو السّبق بالدّهر والسّرمد.
وهذا التّعضيل
عليهم قد تصدّيت له منذ سنين ، حيث أحطت بكتبهم الحصيفة البيان الوثيقة البرهان ،
كالشفاء والنجاة والتعليقات وغيرها ، من الصّحف الفلسفيّة ، ثمّ ثقفت مثير فتنة
التشكيك قد تعرّض له فى المباحث المشرقيّة ولم يتعرّف لهم منه مخرجا. والفيصل
الحقّ هناك أنّهم لم يكونوا فى ذهول عن السّبق بالدّهر والسّرمد الّذي هو بإزاء
المعيّة الدّهريّة ، على أنّه نوع مباين للأنواع الخمسة.
أليس من
الفطريّات الأوائل ، بعد العلم بوجود القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ أنّه
كان اللّه ولم يكن معه هذا الحادث اليوميّ ، مثلا ، موجودا فى وعاء الدّهر ؛ ثمّ
الحادث قد وجد فيه. ومن كان ذا تحصيل ما لا يرتاب فى أنّ ربّ الزّمان والمكان لا
يكون تقدّمه على شيء لكون حصوله فى زمان متقدّم على زمان حصول ذلك الشيء.
ومن البيّن أنّ
الفلاسفة المحصّلين ، مع شدّة تعمّقاتهم وتوغّلاتهم فى تقديس المبدأ وتنزيهه عن
شوب التّعلّق بافق الزّمان والمكان ، ليس ممّن يخفى عليه ذلك ؛ كيف وتنصيصاتهم
عليه فى صحفهم الفلسفيّة أكثر من أن تعدّ وفوق أن تحصى فى هذا الكتاب.
فإذن ، من
المستبين المنصرح أنّ سبقه ـ تعالى ذكره ـ على الحادث الزّمانىّ وعلى كلّ جزء من
أجزاء الزّمان عندهم سبق بالدّهر والسّرمد ، لا سبق بالزّمان. لكنّهم حين حاولوا
الفحص عن أقسام السّبق فى مباحث التقدّم والتأخّر أخذوا السّبق الزّمانىّ على وجه
يشتمل النّوعين إلى السّبق بالزّمان والسّبق بالدّهر والسّرمد ، حيث قالوا :
السّبق الزّمانىّ هو ما يجب أن يتخلّف المسبوق عن السّابق فى الوجود البتّة ؛ ولم
يقيّدوا ذلك : بأن يصحّ للعقل أن يتوهّم تخلّلا ممتدّا بالذّات أولا ممتدّا
بالذّات بينهما ، لصحّة مرور ممتدّ بالذّات ولو وهمىّ بهما فى التّصوّر ؛
أو لا يصحّ له ذلك التّوهّم ، لامتناع مرور ممتدّ بالذّات ولو وهمىّ بهما
أصلا. فلا محالة كان ذلك المعنى المطلق بالإرسال من هذا التّقييد وعدمه قدرا
مشتركا بين السّبق بالدّهر والسّرمد وبين السّبق بالزّمان.
فهذا غاية ما
يتجشّم من قبلهم ، إلاّ أنّ هذا الإهمال منهم ليس على سنن المحصّلين ؛ فإنّ تحصيل
معنى ما مشترك بين نوعين من السّبق متباينين بالحقيقة ومتخالفين بالخواصّ والأحكام
، لا يسوغ إسقاطهما عن اللّحظ ، وعدّ المعنى المشترك نوعا واحدا.
أليس أنّ
السّبق ـ بالذّات ـ ، وهو سبق المفتاق إليه على المفتاق سبقا عقليّا ـ معنى مشترك
بين السّبق بالعليّة وبين السّبق بالطبع ، بل وبين السّبق بالماهيّة أيضا ، ولم
يكن من السّائغ عزل اللّحظ عن اعتبار تلك الأنواع المختلفة ، وعدّ ذلك المعنى
المحصّل المشترك نوعا واحدا.
وأيضا ، إنّهم
حين حاولوا بتهوّساتهم أن يثبتوا تسرمد الوجود فى وعاء الدهر للمعلولات
الإبداعيّة. وعند محاولة إثبات وجود الزّمان وفى كثير من المقاصد الفلسفيّة بنوا
تبياناتهم على أنّ السّبق الّذي لا يمكن بحسبه السّابق والمسبوق ليس يتحقق إلاّ
بحسب الوقوع فى افق الزّمان ، وليس معروضه بالذّات إلاّ أجزاء الزّمان ، وبالعرض
إلاّ ما يتحصص وجوده بالوقوع فى زمان ما.
وبالجملة ،
اصولهم متدافعة وتبياناتهم متصادمة وإن كانوا قد استشعروا التّقدّم السّرمديّ
الّذي هو بإزاء المعيّة الدّهريّة. فإذا قيل لهم : تعالوا إلى سبيل الحكمة ،
رأيتهم يستنكرون الحقّ وهم شاعرون.
<٣> فصّ
إنّى لست
أستصحّ إرسال التّقدّم الزّمانىّ بحيث يصحّ أن يطلق على ما يجب تنزيه المبدأ الحقّ
ـ سبحانه ـ والمفارقات المحضة عنه ، وهو التّقدّم الزّمانىّ وعلى ما يتصف به
البارئ الأوّل ـ تعالى ـ وهو التّقدّم بالدّهر والسّرمد ، كما يتجشّمه من
يحاول الانتصار لرؤساء الفلسفة وإن كانت المشاحّة فى إطلاق اللّفظ بعد
تصحيح ما يعنى به خبيئة ؛ فإنّ التّقدّم بالزّمان أشدّ بعادا عن التّقدّم بالدّهر
من أن يتكلّف أن يجمعهما طباع واحد ، فضلا عن طباع التّقدّم الزّمانىّ.
أما انصرح لك :
أنّ التّقدّم بالزّمان بما هو تقدّم بالزّمان إنّما يجب بحسبه أن لا يجامع
المتأخّر المتقدّم فى افق الزّمان فقط ، لا فى وعاء الدّهر أيضا. فالمتأخّر
بالزّمان إنّما يلزم من حيث هو متأخّر بالزّمان أن يكون متخلّفا عمّا يتقدّم عليه
بالزّمان فى افق الزّمان فقط ، لا أن يكون متخلّفا عنه بحسب الوجود فى الواقع والحصول
فى وعاء الدّهر ؛ إذ التأخّر والافتراق فى افق الزّمان ليس يستلزم التّأخّر والافتراق
فى وعاء الدّهر. وأيضا لا يلزمه من حيث هو متأخّر بالزّمان أن يكون متخلّفا فى
الوجود عمّن يتعالى عن افق الزّمان ويحيط بجميع الأزمنة وبقاطبة الامور الواقعة
فيها مرّة واحدة دهريّة ، بل إنّما يلزمه التّخلّف عنه فى الوجود بحسب التّأخّر
عنه تأخّرا بالدّهر ، لا بما هو متأخّر بالزّمان عن زمانى ما.
ثمّ التّقدّم والتأخّر
بالزّمان قد يقع فيهما الأشدّ والأضعف أو الأزيد والأنقص. فعيسى ، مثلا ، أشدّ تأخّرا
بالزّمان بالنّسبة إلى نوح ، من موسى ـ على نبيّنا وعليهم الصّلاة والسّلام ـ ولا
يتصوّر وقوع ذلك فى التقدّم والتأخّر بالدّهر ؛ فإنّ كافّة المتأخّرات بالدّهر فى
حكم متأخّر واحد بتأخّر واحد دهرىّ. وإنّما يتكثّر ذلك التّأخّر بالإضافة إلى تلك الموضوعات
المتكثّرة ، وهى قد صارت عن الجاعل فى وعاء الدّهر معا معيّة دهريّة.
وأيضا التّقدّم
بالزّمان يكون لموضوعات غير محصورة ، والتقدّم بالدّهر لا يكون إلاّ للواحد الحقّ
ـ سبحانه ـ إلى غير ذلك من الخواصّ واللّوازم المتحالفة. فهل يستحيل ذو قريحة
ملكوتيّة أن يؤخذ التقدّم الزّمانىّ بحيث يندرج التقدّم بالدّهر تحته.
والفلاسفة
المتهوّشون بتسرمد التقرّر للمعلولات الإبداعيّة فى وعاء الدّهر يستنكرون الاختلاف
فى الخاصيّة الأخيرة ، فعندهم التّقدّم السّرمديّ للبارئ الحقّ ـ سبحانه ـ ولجميع
مبدعاته معا ، والتأخّر الدّهرىّ لكافّة الكائنات المسبوقة بالمدّة
والمدّة الحادثة بجملتها فى وعاء الدّهر مرّة واحدة معا. ولو شاء اللّه
لجمعهم على الهدى ، فلا تكوننّ من الجاهلين.
<٤> تلخيص
فإذن ، تحديد
حريم النّزاع بين معلّم الحكمة اليمانيّة وبين رؤساء الفلسفة اليونانيّة : أنّ
التّقدّم السّرمديّ عندهم حدّ نوعى ما يطلق عليه التقدّم الزّمانىّ فى مباحث
السّبق وإن باينه بحسب إطلاقاتهم فى سائر أبواب العلم وأجزاء الصّناعة وأنّهم
يظنّون أنّ جملة المبدعات كمبدعها الحقّ ـ سبحانه ـ فى التّقدّم السّرمديّ معا ، وقاطبة
الكائنات الزّمانيّة والزّمانيّات الكونيّة سواسية الأقدام فى التّأخّر الدّهرىّ
معا.
ومن حمل عرش
تعليم الحكمة اليمانيّة يقدّس التّقدّم السّرمديّ عن أن يعتريه الاندراج فى
التّقدّم الزّمانىّ ولو بحسب التّسمية. فهل يستعذب ذو ذوق سليم أن يستعار اسم
النّوع الخسيس للنّوع الشّريف البهىّ أو لطباع المعنى المشترك بينهما ؛ ثمّ إنّه
يحقّق الحقّ ويوحّد المتقدّم بالدّهر والسّرمد ، ولا يشرك بإثبات السّرمديّة لربّه
أحدا. فيشهد أنّ سلاسل عالم الجواز بقبائلها ، أى : بمفارقاتها وزمانيّاتها ومبدعاتها
وكائناتها (١٨٠). وبالجملة ، بقضّها وقضيضها ، متأخّرة عن جاعلها فى الوجود معا ،
تأخّرا بالدّهر.
وما مثلها
بجملتها فى التّأخّر بالدّهر عن الجاعل المتقدّم تقدّما سرمديّا إلاّ مثل متّصل ما
شخصىّ إذا تأخّر بهويّته الاتصاليّة. فكما أنّ أجزاءه المقداريّة المفروضة متشابهة
ومشابهة للكلّ فى التّأخّر معا عمّن يتقدّم عليه فى وعاء الدّهر ؛ فكذلك عوالم
الإمكان ، أى : بجملة ما فى حيّز الجواز بالأسر.
فسبق البارئ
الأوّل ـ سبحانه ـ فى الوجود على كلّ جزء من أجزاء الزّمان وعلى كلّ من آحاد
الحوادث هو عين سبقه على مجموع الزّمان الشّخصىّ المتصل من أزله إلى أبده وعلى
سلسلة الحوادث بمجموعيّتها. وكذلك هو بعينه سبقه على الأنوار المفارقة العقليّة
آحادا ومجموعا. فهذا القول الفصل المقشوّ عن قشر الزّور
والتّدليس هو سبيل تقويم الحكمة اليمانية البهيجة والفلسفة الدّينيّة
النّضيجة. واللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
<٥> تنبيه
إنّ مثير فتنة
التّشكيك ـ حيث لم يستطع إلى تعرّف الأمر فى وعاء الدّهر وعرش السّرمد سبيلا ـ
توهّم فى المباحث المشرقيّة : أنّ المعيّة بالدّهر والمعيّة بالسّرمد نوعان
متباينان ، فيلزم أن يكون بإزائهما فى السّبق الّذي يجب أن لا يجامع بحسبه المسبوق
السّابق نوعان أيضا متباينان ، فيكون ذلك السّبق مشتركا بين أنواع ثلاثة ، هى
السّبق بالزّمان والسّبق بالدّهر والسّبق بالسّرمد. ويحصل للسبق نوع آخر وراء
الأنواع السّبعة.
وكأنّك ، بما
علّمناك فى الفصول السّابقة ، متنبّه بأنّ المعيّة المباينة للمعيّة الزّمانيّة هى
الّتي تكون بحسب الاقتران فى صرف الوجود والحصول فى وعاء الدّهر ، لا بحسب اتفاق
وجود المعين فى زمان ما أو آن ما بعينه. فهذا هو مناط كون المعيّة نحوا آخر وراء
المعيّة الزّمانيّة ، لكونها بحيث لا يعقل فيها الامتداد ولا اللاّامتداد بخلاف
المعيّة الزّمانيّة.
فأمّا كون تلك
المعيّة بالدّهر أو بالسّرمد فليس فيه استيجاب تكثير المعيّة وتحصيل الاختلاف فيها
، فقد كنت دريت أنّ وعاء الدّهر وعرش السّرمد متشاركان فى أنّه لا يعقل هناك
امتداد أو لا امتداد فى نفس الكون والنّسبة ؛ وإنّما الانفصال بأنّه يعقل فى
الدّهر امتداد أو مقابله فى أحد المنتسبين فقط ، ولا كذلك فى السّرمد.
فإذن ، المعيّة
بالدّهر والمعيّة بالسّرمد ليس فيهما اختلاف بحسب نفس المعيّة ، بل إنّما بحسب نفس
المعين فقط. فالمعان بالمعيّة السّرمديّة متقدّمان جميعا عن الامتداد واللاّامتداد
، والمعان بالمعيّة الدّهريّة قد يكون أحدهما فى نفسه هويّة امتداديّة أو هويّة لا
امتداديّة ، فلا يكون هناك نحوان من المعيّة بتّة.
وحيث كانت
المعيّة الزّمانيّة يعقل فيها الامتداد واللاّامتداد بحسب نفس المعيّة
وبحسب المعين أيضا ، فلا محالة هى مباينة الحقيقة للّتى هى بالدّهر أو
بالسّرمد.
ثمّ المعيّة
بالتّسرمد إنّما يظنّ لها تحقّق على الفلسفة النّيّة العاميّة الجمهوريّة. وأمّا
على الحكمة السّويّة المستوية الخاصيّة ، فإذ لا حظّ لعالم الجواز من عرش السّرمد
، لاختصاصه بالصّقع الرّبوبىّ القيّومىّ ، فلا يكون للمعيّة بالسّرمد حصول أصلا وإن
كانت القسمة العقليّة قد احتملتها فى بادى الأمر قبل التّأمّل الغائر والفحص
البالغ.
<٦> تذكرة
كأنّك ، بما
القى إليك فى الفصل القبل ، مستيقن أنّه كما كان احتباس السّبق الّذي يتخلّف بحسبه
السّابق عن المسبوق فى الوجود البتة فى السّبق الزّمانىّ حصرا منفسخ العقد فكذلك
حصر السّبق الذّاتىّ العقلىّ الّذي بالطبع والّذي بالعلّية ضابط مفسوخ الانعقاد.
أليس سبق جاعل
سنخ الماهيّة عليها بحسب فعليّة نفس الماهيّة مع عزل اللّحظ عن فعليّة الوجود وسبق
جوهريّات الماهيّة عليها بحسب قوام نفس الماهيّة فى جوهر ذاتها مع صرف اللّحظ عن
فعليّة الوجود ، بل عن فعليّة التقرّر أيضا من البتيّات الفطريّة.
وأمّا ما قال
بعض حملة عرش التّحقيق : «إنّ الجنس مقدّم على نوعه ، لا لكونه جزءا له ،
ليكون تقدّمه عليه تقدّما بالطبع ؛ إذ هو من حيث إنّه جزء لا يحمل على كلّه ، فلا
يكون جنسا ، والجنس يجب أن يحمل على نوعه ؛ ولا لكونه علّة تامّة ، وهو ظاهر ، ولا
لكون كلّ منهما فى زمان ولا فى مرتبة عقليّة أو جنسيّة ؛ إذ جنس الشّيء [ليس] يجب
أن يكون فوقه جنس ، ولا لكونه أشرف من نوعه ، فهو لكونه عامّا ممكنا أن يوجد ويعقل
وإن لم يوجد ويعقل النّوع المعيّن. فتقدّم العامّ على
__________________
الخاصّ نوع آخر من التّقدّم سوى الخمسة المشهورة» ، فقد وقع فى سبيل الحقّ وإن
اعتراه بعض الكدوح.
<٧> وهم وتزييف
هل بلغك أنّ
بعض الإشراقيّة ، من أتباع الرّواقيّة ، يتوهّم فى كتاب المطارحات : أنّ سبق أجزاء
الزّمان ، بعضها على بعض ، إنّما هو سبق بالطبع لا غير. ويقلّده فى ذلك بعض
المقلّدين ، تشبّثا : بأنّ الحوادث كلّها منتهية إلى الحركة
الدّوريّة ؛ فإنّ للحركة علّة حدوث من الحركات. فيتقدّم جزء من الحركة معروض على
جزء آخر منها معروض تقدّما بالطبع ؛ فإنّه لو لا الحركة من أإلى ب ، ما صحّ أن
يكون الحركة من ب إلى ج ؛ إذ كيف يكون المتحرّك أن يتحرّك ممّا لم يصل إليه ، فكذا
امتداد هذه الحركة ، وهو الزّمان الّذي لا يزيد عليها فى الأعيان يتقدّم على مقدار
تلك الحركة تقدّما بالطبع ، فعساك أن لا تحسبه إلاّ من الأوهام الزّائفة.
أما تعرّفت أنّ
سبق بعض أجزاء الزّمان على بعض إنّما هو من جهة عدم اجتماعهما فى افق التّقضّى والتّجدّد
بحيث يتخلل بينهما امتداد أو مبدأ امتداد. والسّبق الذّاتىّ بالطبع إن صحّ فليس من
تلك الجهة ، بل إنّما يكون باعتبار التّوقّف ، فهما نوعان مختلفان.
غاية الأمر
أنّه يتفق أن يتحقق هناك ذانك النّوعان من جهتين متغايرتين ، كما يحتشد فى العلّة
المعدّة أيضا سبقان ، هما سبق بالزّمان من جهة عدم الافتراق وسبق ذاتىّ بالطبع من
جهة التّوقّف.
فأجزاء الزّمان
الموجودة بوجود وحدانىّ شخصىّ هو وجود الكلّ لو فرض أنّ بينهما تغايرا فى الوجود وتوقّفا
ذاتيّا فى فعليّة الوجود ليتحقق سبقا بالطبع بذلك الاعتبار ففيها أيضا نوع آخر من
السّبق. وهو الّذي يعتبر فيه عدم الاقتران فى الوجود فى افق التّغيّر ، على أنّ السّبق
الذّاتىّ لا يكاد يصحّ هناك ، لا لما يظنّ أنّ
__________________
تساوى أجزاء الزّمان بالماهيّة وتشابههما بالحقيقة يأبى تخصّص بعضها
بالعليّة وبعضها بالمعلوليّة ، تامّة كانت العليّة أو ناقصة ، بل لأنّ الزّمان
واحد شخصىّ متّصل موجود فى وعاء الدّهر بوحدته الشّخصيّة وهويّته الاتّصاليّة. وكذلك
الحركة. وليس له جزء أصلا ما لم يعرض له فى الوهم أن يصير مجذوذ الاتّصال
بالتّحليل الوهمىّ.
فإذا اوجد
الذّهن حدثت فيه أجزاء وهميّة يحكم العقل أنّها مجتمعة الوجود فى وعاء الدّهر ، وإن
كانت متعاقبة فى افق الكون والتّغيّر من غير أن يكون بينهما تسابق ذاتىّ وترتّب
عليّ ومعلوليّ ، كما لا يكون ذلك بين الأجزاء المقداريّة الوهميّة لسائر المقادير
المتصلة أصلا.
فإذن ، سبق
بعضها على بعض ليس إلاّ بحسب تعاقبها فى افق التّقضّى والتّجدّد. وذلك من طباع
الكميّة اللاّاستقراريّة الّتي هى نفس ماهيّة الزّمان لا غير ، لا بحسب العلّيّة والمعلوليّة.
وبالجملة ،
الأجزاء المقداريّة للكم المتّصل الواحد الشّخصىّ لا يكون بعضها عللا وبعضها
معلولاته. وهل يصحّ أن تتحد العلل والمعلولات فى الوجود (١٨١) وأن يتخلل إليهما
هويّة شخصيّة واحدة. ثمّ كون الزّمان أمرا ليس هو وراء الحركة ممّا قد أبطلناه فى
الأقوال السّابقة.
<٨> ظنّ وتحقيق
إنّ رهطا من
شركاء الصّناعة يظنّون أنّ سبق أجزاء الزّمان بعضها على بعض ليس إلاّ السّبق
الرّتبىّ ؛ إذ ليس هناك جزء بالفعل أصلا. والأجزاء الوهميّة المعروضة المتشابهة
ليس بعضها بالقبليّة وبعضها بالبعديّة أولى من العكس ، نظرا إلى ذات الزّمان ، بل
إنّما ذلك بالنّظر إلى غيره ، أى بحسب القرب والبعد من مبدأ محدود ، وهو الآن
المفروض.
فإذن ، إنّما
تعتبر القبليّة والبعديّة بالنّسبة إلى الآن الوهمىّ الدّفعىّ والزّمان الّذي
حواليه ممّا قرب منه من أجزاء الماضى فهو بعد وما بعد عنه فهو قبل. وفى
المستقبل بخلاف ذلك ؛ وإلاّ يتجه إشكال التّشابه.
وأنت بما تحققت
تعلم أنّه كما يصحّ أن يعتبر هناك سبق رتبىّ بحسب القرب والبعد من المبدأ المحدود
الّذي هو الآن الوهمىّ ، فكذلك يتحقق هناك نحو آخر من السّبق بحسب تعاقب الآراء
الوهميّة فى افق التغيّر. فكلّ جزءين مفروضين فإنّ أحدهما بعينه متعيّن بالقبليّة والآخر
بعينه بالبعديّة بحسب الحصول فى افق التغيّر وبحسب رسم الآن السيّال لهما وليس
يتّجه إشكال التّشابه ؛ فإنّ هذين الجزءين هما بعينهما تلك القبليّة والبعديّة.
فماهيّة الزّمان وهويّات الأجزاء هى الّتي أوجبت القبليّات والبعديّات فى الوقوع
فى افق التغيّر وفى الارتسام من الآن السّيّال.
فإذن ، هذه
القبليّة الزّمانيّة وراء تلك القبليّة الرّتبيّة. أليس تحقّق هذه القبليّة غير
متوقّف على جعل آن ما مبدأ محدود واعتبار ترتيب بالنّسبة إليه بالقرب والبعد ، بل
هى متحققة فى نفس الأمر بالنّظر إلى نفس هويّة الجزء القبل.
وأيضا يمكن أن
تنقلب تلك القبليّة الرّتبيّة الّتي هى بحسب القرب من مبدأ محدود. هو آن موهوم
بعديّة رتبيّة إذا جعل المبدأ غير ذلك الآن من الآنات المفروضة قبل تلك الأجزاء ، ويمتنع
ذلك فى هذه القبليّة الزّمانيّة الّتي هى بحسب الوقوع فى افق التّغيّر وبحسب
الارتسام من الآن السّيّال.
والّذي يوجبه
الفحص المحقق والبحث المحصّل هو أنّ الأجزاء الوهميّة المفروضة فى الزّمان إذا اعتبرت
بحسب الوجوه فى وعاء الدّهر ، فلا يصحّ فيها إلاّ السّبق الرّتبىّ بحسب النّسبة
إلى آن مفروض بالقرب منه والبعد عنه. وإن جعل المبدأ آنا آخر مفروضا فربّما انقلب
السّابق فى المرتبة مسبوقا فى المرتبة. وإنّما كان لا يتصوّر هناك نحو آخر من
السّبق ؛ لأنّ جملة الأجزاء بأسرها محتشدة من جهة الوجود فى وعاء الدّهر معا ، وعدم
اجتماعها إنّما يتراءى فى نظرنا الوهمىّ ، كمن يرى من ثقبة ضيّقة مقدارا طويلا
عظيما شيئا فشيئا ، فلا يعقل لشيء من الأجزاء أوّليّة قبليّة أو بعديّة من جزء آخر
أصلا.
وأمّا إذا
اعتبرت ، من حيث الوقوع فى افق التّقضّى والتجدّد وبحسب ما أن
يرسمها الآن السيّال فى افق التّغيّر ، فليس بدّ من أن يتعيّن بعضها
بالقبليّة الزمانيّة الّتي هى بعينها هويّة ذلك البعض وبعضها بالبعديّة الزّمانيّة
الّتي هى بعينها هويّة هذا البعض ، فيتحقق هناك سبق رتبىّ بحسب القرب من آن محدود
من الآنات المفروضة وسبق زمانىّ بحسب الحصول الغير القارّ فى افق التّغيّر والارتسام
التّدريجىّ من الآن السّيّال. فلعلّ هذا هو وجه الحقّ وكنه الحكمة فى هذه المسألة.
<٩> وهم وتنبيه
أرأيت صاحب
المطارحات كيف أنّه ازداد وغولا فى الفساد بالذّات. وهو الّذي ليس إلاّ أجزاء
الزّمان إلى التقدّم بالطبع ، بل أرجع التّقدّم بالرّتبة والتقدّم بالشّرف إلى
التقدّم بالزّمان. فهما أيضا يرجعان أخيرا إلى التّقدّم بالطبع. أمّا التّقدّم
الرّتبىّ فلأنّ زمان التلبّس به قبل زمان التلبّس بالمتأخّر ، فإنّما معناه ذلك لا
غير.
فقولنا : بغداد
قبل البصرة ، مثلا ، إنّما يصحّ بالنّسبة إلى القاصد المنحدر ، وليس معنى ذلك إلاّ
أنّ زمان وصوله إلى بغداد قبل زمانه إلى البصرة. وأمّا القاصد المصعد فبالعكس. وليس
أحدهما قبل الآخر بذاته ولا بحسب حيّزه ومكانه.
فإذن ، إنّما
القبليّة بحسب الزّمان ، وليس الأمر كما يقال : إنّ تقدّم الحركة على الحركة إنّما
يكون بسبب تقدّم المسافة على المسافة ؛ فإنّ الحركتين بالتكرار فى مسافة واحدة ،
يتقدّم إحداهما على الاخرى مع إتمام المسافتين.
ثمّ الرّتبىّ
الطبيعىّ لا مسافة فيه ولو بأحد طرفى السّلسلة متقدما لا فى ذاته ، بل باعتبار
الأخذ. فإذا ابتدأ من الابتداء وفى تغيّر الأعلى متأخرا فظاهر أنّ هذا الابتداء
ليس مكانيّا ، بل إنّما هو ابتداء بحسب شروع زمانىّ ، فللزمان فيه مدخل.
وأمّا التقدّم
الشّرفىّ ففيه أيضا تجوّز ؛ لأنّ صاحب الفضيلة ربّما يقدّم فى الامور أو فى منصب
الجلوس ؛ ولا معنى لتقدّمه بالشّرف إلاّ ذلك. فإن اعتبر الأوّل رجع ذلك إلى
التقدّم بالزّمان وإن اعتبر الأخير رجع إلى التّقدّم الرّتبىّ الوضعيّ ، وهو
راجع أيضا إلى التّقدّم الزّمانىّ ، فيرجع ذاك إليه أخيرا.
ولعلّك ، بما
نبّهناك عليه ، لا يثقل عليك أمثال هذا الوهم ، فتنسب التّقدّم بالرّتبة والتّقدّم
بالشّرف لتقدّمهما. وهذا لا يوجب رجوعهما إليه ، بل إنّما يوجب أن يعرض هناك تقدّم
زمانىّ أيضا من بعض الوجوه وقد أوجبه أحد ذينك التّقدّمين. وأ ليس كثيرا ما يعقل
المعنيان اللّذان هما ذلك التّقدّمان ، على ما أوضحنا لك ، ويذهل عمّا يترتب
عليهما من استحقاق التّقدّم فى الشّروع أو فى الجلوس ، فكيف لا يكونان إلاّ ذلك ،
على أنّه ولو لم يكن الذّهول عنه ، لكنّ العقل أنّ هذا المعنى وراء المعنيين
المعبّر عنهما بذينك التّقدّمين.
وأيضا قد يتحقق
كلّ منهما بالفعل ويتخلف هذا ، فقد يصير ما يصل إليه القاصد فى زمان متأخّر
متقدّما بالرّتبة وما الوصول إليه فى زمان متقدّم متأخّرا فى المرتبة. وكذلك قد
يؤخّر صاحب الفضيلة فى الشّروع أو فى الجلوس مع ما يذعن لتقدّمه بالشّرف بالفعل.
ثمّ السّبق
الرّتبىّ الفعلىّ ليس هو بحسب الأوضاع والأحياز والسّبق الشّرفىّ بالكمال يتحققان
فى المجرّدات ، كالطبائع الكليّة ، وفى المفارقات المحضة ، كالأنوار العقليّة
الواقعة فى السّلسلة الطوليّة بحسب القرب والبعد من القيّوم الواجب بالذّات الّذي
هو نور الأنوار ـ جلّ ذكره ـ والزّمان والمكان بمعزل عن المدخل هناك.
فقد اقترّ أنّ
ذينك السّبقين معنيان مباينان للمعنى الّذي هو السّبق الزّمانىّ وإن تحقق فى
الأزمنة سبق رتبىّ أيضا باعتبار النّسبة الرّتبيّة بالقياس إلى آن حاضر ، مثلا ؛
فإنّ السّبق بالرّتبة قد يكون حسيّا بحسب الأوضاع والأحياز واعتبار ترتّبها
بالقياس إلى مبدأ معيّن وضعىّ ، وقد يكون وهميّا غير وضعىّ بحسب اعتبار نسبة
التّرتيب فى الأزمنة بالقياس إلى مبدأ وهمىّ غير وضعىّ هو الآن الحاضر مثلا ، وقد
يكون عقليّا بحسب اعتبار تلك النّسبة فى العقليّات بالقياس إلى مبدأ عقلىّ.
والسّبق
بالشّرف هو رجحان أحد المتشاركين فى معنى ما متغيّر جعل بنفسه
كالمبدإ المحدود ، أىّ معنى كان ، سواء كان فضلا وشرفا للموجود أولا. واعتبار
الشّرف فى التّسمية باعتبار بعض الأفراد وأشرفها.
<١٠> نقد تحصيليّ
إنّ الشّريك
السّابق من سلف العشيرة ، الشّيخ الرّئيس أبا عليّ بن سينا ، فى إلهيّات الشفا
غبّب فى الفحص ، فجعل السّبق بالشّرف شقيق قسميه اللّذين (١٨٢) هما السّبق
بالطبع والسّبق بالعليّة فى جعل نفس المعنى ، كالمبدإ المحدود ، على أن يكون ذلك
المعنى السّابق ، وليس هو للمسبوق ، ولا يكون للمسبوق إلاّ وقد كان للسّابق.
فالثّلاثة
متشاركة فى هذا القدر المشترك على السّويّة ، ولا افتراق إلاّ فى أنّ ذلك المعنى
هو بنفسه كالمبدإ المحدود فى السّبق بالشّرف لا يكون هو الوجود ولا وجود الوجود. وإنّما
يصحّ أن يكون هو أىّ معنى كان بعد أن يعتبر أنّه من المعانى الّتي هى غير الوجود وغير
وجود الوجود. وفى السبق بالطبع يكون هو الوجود ولا يصحّ أن يكون هو معنى آخر غير
الوجود أصلا ، وفى السّبق بالعلّيّة هو وجوب الوجود ، ولا يجوز أن يكون هو من سائر
المعانى غيره أصلا. فليس الفرق إلاّ بالتّعيين والتّخصيص.
قال فى أوائل
فصول المقالة الرّابعة ـ بعد ذكر التّقدّم الرّتبىّ ـ بهذه الألفاظ :
«ثمّ نقل إلى أشياء
اخرى ، فجعل الفائق والفاضل والسّابق أيضا ولو فى غير الفضل متقدّما ، فجعل الفائق
نفس المعنى كالمبدإ المحدود. فما كان له منه ما ليس للآخر ، وأمّا الآخر فليس له
إلاّ ما لذلك الأوّل ، فإنّه جعل متقدّما ؛ فإنّ السّابق فى باب ماله ما ليس
للثّانى ، وما للثّانى منه فهو للسّابق وزيادة. ومن هذا القبيل ما جعلوا المخدوم والرّئيس
قبل ؛ فإنّ الاختيار يقع للرئيس وليس للمرءوس ، وإنّما يقع للمرءوس حين وقع للرئيس
فيتحرّك باختيار الرّئيس.
__________________
ثمّ نقلوا ذلك
إلى ما يكون هذا الاعتبار له بالقياس إلى الوجود ، فجعلوا الشّيء الّذي يكون له
الوجود أوّلا وإن لم يكن للثّانى ، والثّاني لا يكون له إلاّ وقد كان للأوّل وجودا
متقدّما على الآخر ، مثل : الواحد ، فإنّه ليس من شرط الوجود للواحد أن تكون
الكثرة موجودة ؛ ومن شرط الوجود للكثرة أن يكون الواحد موجودا.
وليس فى هذا
أنّ الواحد يفيد الوجود للكثرة أو لا يفيد ، بل إنّه يحتاج إليه حتى يفاد للكثرة
وجود بالتّركيب منه.
ثمّ نقل بعد
ذلك إلى حصول الوجود من جهة اخرى ؛ فإنّه إذا كان شيئان وليس وجود أحدهما من الآخر
، بل وجوده له من نفسه أو من شيء ثالث ، لكنّ وجود الثّاني من هذا الأوّل ؛ فله من
الأوّل وجوب الوجود الّذي ليس له لذاته من ذاته ، بل له من ذاته الإمكان على تجويز
من أن يكون ذلك الأوّل مهما وجد لزم وجوده أن يكون علّة لوجوب وجود هذا الثّاني ؛
فإنّ الأوّل يكون متقدّما بالوجود لهذا الثّاني» . انتهى ما قاله بعبارته.
وهو قول مغشوش
، يليق بنا أن ننقد خالصه من زائفه ، فنقول : إنّ تشارك الأنواع الثّلاثة فى كون
نفس المعنى هناك كالمبدإ المحدود حقّ ليس يتعدّاه العقل. وأمّا أنّ اشتراكهما فى
هذا المفهوم على سبيل واحد ؛ على أن يكون الافتراق باحتباس ذلك المعنى فى الوجوب وفى
وجوب الوجود فى اللّذين هما بالطبع وبالعليّة وفى سائر المفهومات الّتي هى غير
الوجود وغير وجوب الوجود فى الذّهن هو بالشّرف ؛ ففاسد سخيف لا يتجشمه إلاّ ذهن
عسوف.
والصّحيح
الصّريح : أنّ المعنى الصّريح الّذي هو كالمبدإ المحدود فى التقدّم بالشّرف إنّما
يعتبر على أن يكون منه للمتقدّم ما ليس للمتأخّر ولا يكون منه للمتأخر إلاّ أنقص
ممّا منه للمتقدّم ؛ ولا يعتبر هناك أن يكون ذلك المعنى للمتقدّم وليس هو للمتأخّر
ولا يكون للمتأخّر إلاّ حين هو للمتقدم ؛ فإنّ ذلك لا يكون إلاّ من جهة الافتياق والتوقّف.
والتّقدّم بالشّرف ليس بحسب تلك العلاقة ، بل إنّما هو
__________________
بحسب اعتبار الكمال والرّجحان.
وأمّا التّقدّم
بالطبع والتقدّم بالماهيّة والتقدّم بالعليّة ، فحيث إنّها ليست إلاّ بحسب فاقة
المتأخّر إلى المتقدّم. واستغناء المتقدّم عنه إمّا فى الوجود أو فى التّجوهر ؛ والفاقة
إمّا فاقة التألّف وإمّا فاقة الصّدور. فلا جرم إنّه يعتبر هنالك أنّ المعنى الّذي
هو نفسه كالمبدإ المحدود ، ولا يكون هو إلاّ نفس التّجوهر أو نفس الوجود أو نفس
وجوب التّجوهر. والوجود يكون بالفعل للمتقدّم وليس هو البتة للمتأخّر ، ولا يكون
هو بالفعل للمتأخّر إلاّ وهو حاصل بالفعل أوّلا للمتقدّم بتّة.
فإذن ، فى
اعتبار التقدّم بالشّرف من الاختيار للرئيس ما ليس منه للمرءوس ، وليس منه للمرءوس
إلاّ بعض ما منه للرئيس ، كما تلونا عليك فى الفصل السّابق ، لا أنّ الاختيار يقع
للرئيس وليس هو للمرءوس ولا يقع للمرءوس إلاّ حين ما هو واقع للرئيس ، فيتحرّك
باختيار الرّئيس ، كما ذكره هذا الشّريك الرّئيس.
أليس ذلك بعيد
الأمر إلى توقّف وقوع الاختيار للمرءوس على وقوعه للرّئيس ، فيعود التّقدّم تقدّما
بالطبع ويصير المعنى الّذي فيه التقدّم ، وهو نفسه كالمبدإ المحدود ، هو وجود
الاختيار وحصوله.
فقد انصرح :
أنّ الافتراق بين السّبق بالشّرف وبين تلك الأنواع بحسب المعنى والحقيقة ، لا
بمجرّد الحصر والتّخصيص ، والمعنى هو كالمبدإ المحدود فى التقدّم بالشّرف ليس
يعتبر على أنّه مقصود على ما عدا الوجود.
بل لو كان يصحّ
فى الوجود تشكيك بالشّدّة والضّعف ، على ما يراه بعض المتفلسفين ، لصحّ أيضا
اعتبار التقدّم بالشّرف فيه ، وجعل نفسه كالمبدإ المحدود ، لكن لا على النّحو
الّذي يلحظ فى التقدّم بالطبع ، بل على الوجه المعتبر فى التقدّم بالشّرف.
فاستثناء الوجود هناك من جهة أنّه لا يقع فيه تشكيك بالشدّة والضّعف ، لا من تلقاء
طباع السّبق بالشّرف.
فإذن ، معيار
صحّة اعتبار السّبق بالشّرف فى معنى وقوع التّشكيك فيه بالشّدّة والضّعف ، ومعيار
اعتبار السّبق بالشّرف لشخص ما على آخر ، رجحانه عليه بحسب الفضائل.
<١١>حسم ظنّ
أرأيت بعض حملة
عرش التّحقيق فى شرح الإشارات كيف يتأسّى بصاحب المطارحات فيقول : التّأخّر
الذّاتىّ بالمعنى المشترك بين التّأخّر بالطبع وبين التّأخّر بالعليّة هو تأخّر
حقيقىّ ، وما سواه فليس بحقيقىّ ؛ لأنّ المتأخّر بالزّمان أو بالمرتبة والوضع أو
بالشّرف يمكن أن يصير بالفرض متقدّما. وهو هو ؛ لأنّ المقتضى لتأخّره هو أمر عارض
لذاته. وأمّا المتأخّر بالذّات فلا يمكن أن يفرض متقدّما ، وهو هو ؛ لأنّ المقتضى
لتأخّره هو ذاته لا غير.
ولهذا خصّه
الشّيخ : بأنّه الّذي يكون باستحقاق الوجود ولا يستشعر أنّه : إن عنى بالمتأخّر
بالزّمان بعض مقارنات الزّمان من الزّمانيّات فليس تأخّره بالزّمان إلاّ مجازا
عقليّا ، والمتأخّر تأخّرا زمانيّا بالحقيقة هو زمانه المتخصّص هو بالوقوع فيه ؛ وإن
عني به بعض الأزمنة فتأخّره عن بعض آخر تأخّرا زمانيّا مقتضى ذاته وهويّته. كما
أنّ تقدّم ذلك البعض الآخر تقدّما زمانيّا مقتضى ذاته وهويّته ، فلا يمكن فرض
المتأخّر متقدّما والمتقدّم متأخّرا ، وهما هما بعينهما.
وإنّما ظنّ
صاحب المطارحات هذا الظّنّ ، بناء على ما حسب ، من أنّ المتقدّم والمتأخّر للأزمنة
إنّما هما التقدّم والتأخّر بالطبع ، لا التّقدّم والتّأخّر بالزّمان. وقد استبان
لك فساده. فهذا الظنّ إنّما يصحّ فى المتأخّر بالزّمان على التّجوّز ، لا فى
المتأخّر بالزّمان بالحقيقة ؛ فإنّه متأخّر بنفس ذاته وهويّته ، لا بزمان آخر هو
فيه.
ثمّ إنّ إمكان
فرض المتأخّر بالمرتبة أو بالشّرف متقدّما ؛ وهو هو بعينه ، إنّما يستلزم أن يكون
ذلك التّأخّر اعتباريّا لاحقا للهويّة بحسب بعض الاعتبارات اللاّحقة لها ، لا
ذاتيّا لازما ، بحسب ما يقتضيه نفس ذات الهويّة ، ولا يستوجب أن يكون هو تأخّرا
على المجاز ، لا تأخّرا بالحقيقة.
وأمّا تخصيص
الشّيخ : التأخّر الذّاتىّ بأنّه الّذي يكون باستحقاق الوجود فإنّما المعنىّ به
الإيذان (١٨٣) بأنّ هذا التّأخّر هو الّذي يكون بحسب العلاقة الذّاتيّة
الافتياقيّة ، ولا كذلك سائر التأخّرات.
فالتّأخّر
بالزّمان مثلا ، إنّما هو بالوجود فى افق التّقضّى أخيرا من غير أن يعتبر فى ذلك
استحقاق الشّيء بذاته أن يكون متأخّرا فى الوجود لعلاقة ذاتيّة من تلقاء افتياق
ذاته إلى الشّيء المتقدّم وتوقّفه عليه فى التّجوهر والوجود ، بل لمجرّد اعتبار
التّعاقب فى الحصول فى افق التغيّر. فلفظة «الاستحقاق» ـ حيث قال : ما يكون
باستحقاق الوجود ؛ ولم يقل: ما يكون بالوجود ـ هى المنبّهة على هذا الامتياز والافتراق.
<١٢> شكّ وتوهين تحقيقيّ
قال مثير فتنة
التّشكيك فى المباحث المشرقيّة : «فإن قيل : تقدّم العلّة على المعلول إمّا أن
يكون لماهيّتها أو لنفس العليّة والمعلوليّة أو لمجموع الأمرين ، أعنى الماهيّة مع
اعتبار العليّة والمعلوليّة.
والأوّل باطل ؛
لأنّ حركة اليد إذا اعتبرت من حيث إنّها حركة اليد ، واعتبرت حركة الخاتم من حيث
إنّها حركة الخاتم لم يكن بينهما تأخّر وتقدّم أو معيّة ؛ لأنّ كلّ ماهيّة إذا
اعتبرت من حيث هى ، فهى لا متقدّمة ولا متأخّرة ولا مفارقة ، كما عرفت فى باب
الماهيّة.
والثّاني أيضا
باطل ؛ لأنّ العليّة والمعلوليّة وصفان إضافيّان ، فيكونان معا فى الوجود ،
فيستحيل أن يكون لأحدهما تقدّم على الآخر.
وهكذا القول
فيما إذا جعل التّقدّم باعتبار المؤثّريّة والمتأثّريّة ؛ لأنّهما وصفان إضافيّان
، فيكونان معا. وإذا كانت من حيث هى هى غير متقدّمة ولا من حيث إنّها علّة متقدّمة
امتنع أن يكون للمجموع تقدّم. فنقول : إنّا لا نعنى بهذا.
تمّت.
نمايه مصنفات ميرداماد ، مجلّد أوّل
|
١ ـ آيات
|
|
إِنَّمٰا
أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ٤٢
|
|
قُلْ لَوْ
كٰانَ الْبَحْرُ مِدٰاداً : ٤٥٤
|
إِنَّمٰا
أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
٢٠٦
|
|
كُلُّ شَيْءٍ
هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ : ٢٣
|
إِنَّمٰا
يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ : ٦١٦
|
|
لَوْ
كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا :
١٥٧
|
أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ : ١٤٧
|
|
لَهُ
مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَمٰا فِي الْأَرْضِ : ١٩٣
|
أَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ : ٦٢٧
|
|
مٰا
أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ : ٢١٤
|
بَلْ
يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ : ٣٠٠
|
|
مٰا
خَلْقُكُمْ وَلاٰ بَعْثُكُمْ إِلاّٰ كَنَفْسٍ وٰاحِدَةٍ : ١٩٨
|
ذٰلِكَ
فَضْلُ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ : ١٥
|
|
وَاذْكُرْ
فِي الْكِتٰابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ : ٤٥٤ ، ٥٦٤
|
رِجٰالٌ
صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اللّٰهَ : ٦٢٧
|
|
وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا هُمْ فِي شِقٰاقٍ : ٦٢٧
|
شَهِدَ
اللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ : ١٤٧
|
|
وَعِنْدَهُ
مَفٰاتِحُ الْغَيْبِ : ١٩٤
|
فَسُبْحٰانَ
الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ : ١٠٦
|
|
وَلاٰ
تَنْقُضُوا الْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا : ٦٢٩
|
فَقُطِعَ
دٰابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا : ٢٩٤
|
|
وَمٰا
يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ : ١٩٤
|
فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطّٰاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّٰهِ : ١٣٣
|
|
وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ : ١٣ ، ٣٠٢
|
فِيهٰا
مٰا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ : ٦٢٨
|
|
يٰا
أَهْلَ الْكِتٰابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ : ١٧
|
قُلِ
اللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْءٍ : ٧٥
|
|
يُمْسِكُ
السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ : ٣٥
|
قُلْ
لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبىٰ: ٦٢٧
|
|
يَعْلَمُ
مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ : ١٩٣
|
|
٢ ـ أحاديث
|
|
اجعلوا
أموركم للّه ولا تجعلوا للناس : ٢٤١
|
|
بمشيّتى كنت وبقوّتى
ونعمتى : ٢٣٦
|
إذا نام
العبد فى الصّلاة : ٥٧٨
|
|
جهل اللّه من
استوصفه : ٣٠٥
|
استوى من كلّ
شيء : ٣٠٤
|
|
الدّواء والرّقية
أيضا من قدر اللّه : ٢٣٨
|
أفعال العباد
مقدّرة فى علم اللّه تعالى : ٢٣٥
|
|
سبق العلم وجفّ
القلم : ٢٤٠
|
أفعال العباد
مخلوقة : ٢٤١
|
|
سيكون فى آخر
أمّتي أقوام يقولون : ٢٢٤
|
الحمد للّه
الّذي لم يسبق له حال حالا : ٣٠٣
|
|
علماء حكماء
كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء : ٢٥٤
|
اللّه أعدل
من أن يجبر أحدا : ٢٣٨
|
|
فليعد كلّ
صلاة صلاّه خلفه : ٢٤١
|
إنّ من
الصّلاة لما يقبل نصفها : ٥٧٦
|
|
قال : اللّهم
، هؤلاء أهل بيتى : ٦٢٤
|
أنّ اللّه
عند لسان كلّ قائل : ٢٣٧
|
|
قدّر
المقادير قبل أن يخلق : ٢٤١
|
إنّ الناس فى
القدر على ثلاثة أوجه : ٢٣٣
|
|
القدريّة
مجوس هذه الأمّة : ٢٢٢
|
إنّ اللّه
إذا أراد بعبد خيرا : ٢٣٩
|
|
قيمة كلّ
امرئ ما يحسنه : ٣٠٥
|
إنّ اللّه
أولى بما يدبّره : ٢٤٢
|
|
كان لعلىّ ،
عليه السلام ، غلام ، اسمه قنبر : ٢٣٣
|
إنّ القدر
سرّ من سرّ اللّه : ٢٤٢
|
|
لا يؤمن
أحدكم حتّى يؤمن بالقدر : ٢٣٢
|
إنّ اللّه
إذا أراد بعبد خيرا : ٢٤٣
|
|
لا تقدره
الأوهام بالحدود والحركات : ٣٠٣
|
إنّ اللّه
يحتجّ على العباد بما آتاهم : ٢٤٤
|
|
لا جبر ولا
تفويض ولكن أمر بين أمرين : ٢٠٨ ، ٢٢٦
|
إنّ اللّه
إرادتين ومشيّتين : ٢٤٥
|
|
لبّيك وسعديك
والشرّ ليس إليك : ٢١٣
|
إنّ اللّه لم
يكلّف العباد ما لا يستطيعون : ٢٢٨
|
|
لطف من ذلك
بين ذلك : ٢٢٩
|
إنّ اللّه
أكرم من أن يكلّف النّاس ما لا يطيقون : ٢٢٨
|
|
لعنت
القدريّة على لسان سبعين نبيّا : ٢٢٢
|
إنّ اللّه
أرحم بخلقه من أن يجبر : ٢٢٧
|
|
لكلّ شيء وجه
ووجه دينكم الصّلاة : ٥٧٨
|
بفسخ العزم ونقض
إلههم : ٢٤٠
|
|
لايجد عبد
طعم الإيمان حتى يعلم : ٢٣٣
|
باللّه
تستطيع أم مع اللّه أم من دون اللّه : ٢٣٥
|
|
|
لم يزل اللّه عزّ وجلّ عليما قادرا حيّا : ٢٢٤
|
|
من قرء قل هو
اللّه أحد وآمن بها : ٥٦٢
|
ليس فى
الأشياء بوالج : ١٤
|
|
مع كلّ ىء لا
بمقارنة : ٤٠٨
|
ليس منّى من
استخفّ بصلاته : ٥٨٠
|
|
من لم يرض
بقضائى ولم يؤمن بقدرى : ٢٣٤
|
ليست
الاستطاعة من كلامى : ٢٣٧
|
|
النّاس على
ثلاثة أحوال : فرائض وفضائل ومعاصى : ٢٣٤
|
الدّواء والرّقية
أيضا من قدر اللّه : ٢٣٨
|
|
نقر كنقر
الغراب : ٥٧٨
|
لا يشغله شأن
ولا يغيّره زمان : ٣٠٤
|
|
ولكن بقوّة
ربّانيّة : ١١٥
|
لا يكون شيء
... إلاّ بسبع ٢٤٥
|
|
هل يسمّى
عالما : ٤٣٩
|
ما اختلف
عليه دهر فتخلّف منه الحال : ٣٠٤
|
|
يا ابن آدم ،
بمشيّتي كنت أنت : ٢٢٨
|
ما من قبض ولا
بسط إلاّ وللّه فيه مشيّة : ٢٣٦
|
|
يا داود ،
تريد واريد : ٢٣٧
|
من اتقى
اللّه يتقى : ٢٤٦
|
|
|
|
٣ ـ اعلام
|
|
آصف خان
(نوّاب) : ٥٩٥
|
|
أمير
المؤمنين عليه السّلام : ١٤ ، ٣٣٠
|
آغاثاذيمون :
١٥
|
|
انكساغورس :
١٥ ، ٣٦٩
|
ابن كمونة :
١١٥
|
|
انكسيمايس :
١٥ ، ٣٦٨
|
أبو البركات
البغدادى : ٣٨٨
|
|
انباذقلس :
١٥ ، ٣٦٨
|
اردوبادى
(ابو الحسن حاتم بيگ) : ٦٠١
|
|
برقلس : ٥١٨
|
ارسطو طاليس
: ٤٨ ، ٣٣٦
|
|
بهمنيار : ٩٤
|
اسكندر
الافروديسىّ : ٥١٨
|
|
بيرجندى
(فاضل) : ٢٦٩
|
الأشعرىّ :
٢٢٣
|
|
البيضاوىّ :
٢١٣
|
افلاطون :
١٧٦ ، ٤٨ ، ١٥ ، ٣٦٨
|
|
تاج الدّين
طوسى : ٥٢٧
|
اقليدس : ٢٦٨
|
|
التفتازانىّ
: ٢٩٥
|
أمّ البقاء
(دختر ميرداماد) : ٦٣٨
|
|
ثالس : ١٥ ،
٣٦٩
|
ثامسطويوس :
٥١٨
|
|
الشّهرزورىّ
: ٤٧١
|
ثاوفرسطس :
٥١٨
|
|
الشّهيد
الأوّل : ٢٧٧
|
الجبائىّ :
٣٦٨
|
|
الشّيخ
البهائىّ : ٥٩٩ ، ٦٠٧
|
الجزائرىّ
(صالح) : ٥٦٨
|
|
الشّيخ
الرّئيس : ١١٧ ، ١٣٧ ، ١٦٥ ، ٢١٢ ، ٢١٦ ، ٢٧٦
|
حكيم شفائى :
٦٠٢
|
|
شيخ محمد
سعيد : ٦٣٨
|
خان احمد
گيلانى : ٦١٣
|
|
شيخ يوسف بنّاء : ٦٣٨
|
الخفرىّ ،
شمس الدّين : ٤٢٦
|
|
الشّوشترىّ.
(ملاّ) عبد اللّه : ٦٠٣
|
الدّوانىّ :
٣٥٧ ، ٤٨٩
|
|
صدر الدّين
دشتكى شيرازى : ٩٦ ، ١١٣ ، ٥٢١ ، ٥٩٢
|
ديوجانوس :
٥١٨
|
|
الصّدوق :
٢٥٧
|
روح شاه
همدانى : ١١٤
|
|
طالقانى (عبد
المطلب) : ٥٩١
|
الرّشتى (عبد
الغفّار) : ٥٨٦
|
|
طالقانى ،
محمد رفيع : ٣٢٨
|
زهره. معتقه
ميرداماد وامين او : ٦٣٨
|
|
طغائى (بهاء
الدّين محمّد) : ٥٦٤
|
سعد الدّين
معلّم خواندگار روم : ٦١٥ ، ٦١٨ ، ٦٢٠ ، ٦٢٦
|
|
الطوسى : ١٨٤
، ٢٢٤ ، ٢٥٨ ، ٤١١
|
السيّد منصور
الكيلانيّ : ٥١٣
|
|
عاملى (سيّد
محمّد) : ٥٨١
|
سقراط : ١٦
|
|
عبد الصمد :
٢٦٥
|
السّهروردىّ
: ٣٤٦
|
|
الغزّالى :
٣١٥ ، ٤٣٧
|
سيف السفرنك
: ٥٩٨
|
|
الغيلانىّ
(أفضل) : ٤٤٠
|
شاه عبّاس
صفوى : ٣٣٣ ، ٦٠٨ ، ٦١٣
|
|
غياث منصور
دشتكى : ٥٢١
|
شاهرخ بيكار
(ميرزا) : ٥٨٩
|
|
فراهانى
(امير ابو الحسنا) : ٥٢٣
|
الشّريف
الجرجانى : ٣٦٨
|
|
الفارابىّ :
٢٦١ ، ٣٣٧ ، ٤٢٠
|
شمسا گيلانى
(امير محمّد مؤمن) : ٥٩٣
|
|
فرفوريوس :
٤٧٦
|
الشهرستانىّ
: ٤٧١ ، ٥١٩
|
|
|
فخر الدّين
الرّازىّ : ٢٢٥ ، ٣٤٧ ، ٣٨٨
|
|
مشهدى (سيّد
محمّد باقر) : ٥٩٠
|
فريد الدّين
الدّاماد النّيشابورىّ : ٣١٩
|
|
معصوم (كاتب
خلعيّة) : ٥٩٢
|
قوام الدّين
(نظام) ٢٦٥
|
|
ميرزا رضى
(صدارتپناه) : ٥٩٣
|
الكركىّ
العاملى (سيّد حسين) : ٥٨٧
|
|
نورا (محمد
اصفهانى كمالى) : ٦٣٨
|
كليم اللّه :
١٢٠
|
|
النّيشابورى
(فاضل) : ٤٩٩
|
الكلينى :
٢٠٧ ، ٢٢٧
|
|
هرمس : ١٥
|
محمّد باقر
داماد حسينى : ١١٤ ، ٢٨٠ ، ٤٨١ ، ٤٩٧
|
|
يحيى
النّحوىّ : ٥١٨
|
محمّد رسول
اللّه (ص) : ٣٣٠
|
٤ ـ گروهها
|
|
الأفلاطونيّون
: ١٧٦
|
|
الفلاسفة
المحصّلون : ٧٥
|
آل النبىّ :
٣٣٠
|
|
الفيثاغوريّون
: ١٦٦
|
الأتباع
المقلّدون : ١٥٠
|
|
فلاسفة
الاسلام : ٤٧٠
|
الإشراقيّة :
٤٨ ، ١٣٦
|
|
القدريّة :
٢٢٦
|
أصحاب العصمة
: ٢٢٣
|
|
المتكلّمون :
٣٦٨ ، ٤٥٦ ، ٤٦٤
|
الحكماء
الرّاسخون : ١٣
|
|
المشككون :
٦٠ ، ٣٨٨
|
الحكماء
السبعة : ١٥ ، ٣٤٩
|
|
المتهوّسون
بالفلسفة النيّة : ٢ ، ١١ ، ٣١٤
|
الرّواقيّة :
١٣ ، ١٥ ، ٤٨
|
|
المعتزلة :
٣٦٨
|
الحكماء
الإلهيّون : ٧٥ ، ٤٤٩
|
|
المشّاءون :
٤٨ ، ١١٤ ، ٣٠٩ ، ٣٦٨ ، ٤٧٨
|
شركاؤنا
السّابقون : ٥٢ ، ١٠٢ ، ١٣٧
|
|
المعصومون :
٤٦٥
|
الطائفة
الإماميّة : ١٩٨ ، ٣٣٣
|
|
المقلدون :
٣١٥
|
العرفاء
المتصوّفون : ١٣٣
|
|
|
|
٥ ـ كتابها
|
|
ثولوجيا :
٣٣٥ ، ٤٢٠ ، ٤١٢ ، ٤٣٩
|
|
تقويم
الإيمان : ٢٧٣
|
الإجازات
الأربعة عشر : ٥٩٢
|
|
تحف العقول :
٢٥٤
|
اجوبة
المسائل القونويّة : ٤١١
|
|
التلويحات :
٤٠ ، ٤٠٤
|
أجوبة
المسائل العشر : ٤٧٥
|
|
التحصيل : ٧٤
، ٤٠٧
|
الأربعين
للبهائى : ٤٣٩
|
|
التقديسات :
١٠٠ ، ١١٣ ، ٢٧٢
|
الإرشادات
السّتّة : ٦٣١
|
|
التعليقات :
١٤٩ ، ٢٩٠
|
الإشارات :
٥٢١
|
|
التوحيد :
٢٢٧
|
اصول
الأقليدس : ٢٦٧ ، ٢٦٩
|
|
الجمع بين
الرأيين : ٤٧١ ، ٥١٥
|
اصول
المهندسة : ٤٨٨
|
|
جنّت ومكان
روح : ٥٦٦
|
الأفق المبين
: ٢٧٤ ، ٢٢ ، ٣١٣ ، ٢٩٥ ، ٢٧٦
|
|
حاشية الشّرح
العضدىّ : ٢٧٧
|
انموذج
العلوم : ٥٢٠
|
|
حاشية شرح
حكمة العين : ٣٦٨
|
الايقاضات :
٢٠٧
|
|
حاشية
الإشارات : ٣٥٧
|
الإيماضات :
١٠ ، ٢٩٣
|
|
حاشية قواعد
الشّهيد : ٢٧٧
|
تعليقة على
حكمة الإشراق : ٥٢٢
|
|
حاشية شرح
التجريد : ٤٢٦
|
تعليقة على
الشّرح العضدىّ : ٥٢٧
|
|
حاشية الأفق
المبين : ٥٠٤
|
تفسير آية
الأمانة الإلهيّة : ٥٤١
|
|
حىّ بن يقظان
: ٥٢٤
|
ترجمة قوس
النهار : ٥٤٧
|
|
حكمة الإشراق
: ١٣٩
|
تعليقة الجمع
بين الرأيين : ٥٢٠
|
|
خلسة الملكوت
، ٢٧١ ، ٢٨١
|
تعليقة فى
إثبات الواجب تعالى : ٥٥٣
|
|
الحدود : ٣٨٤
، ٤٠٠
|
تعريف بابن
قتيبة : ٥٥٣
|
|
درّة التاج :
٤٣٣
|
تعليقة على
حاشية الخفرىّ : ٥٥٤
|
|
ربط الحادث
بالقديم : ٣٢٠
|
تعبير جزء لا
يتجزّى : ٥٦٧
|
|
رساله «مكانا
عليّا» : ٥٦٤
|
الرّسالة فى قدم العالم : ٥١٧
|
|
الفصوص : ٣٩٨
، ٤٢٠ ، ٤٣١
|
الرّواشح
السّماويّة : ٢٠٧
|
|
القواعد
للشهيد : ٢٧٨
|
السّبح
الشّداد : ٢٧٨
|
|
الكلمة
الإلهيّة : ٤٠٤
|
سدرة المنتهى
: ٥٣٥
|
|
الكشّاف :
٣٠٢
|
السّماء والعالم
: ٤٧٣ ـ ٤٣٨
|
|
الكافى : ٢٢٧
|
شرح التذكرة
: ٤٩٩
|
|
المكاتبات
العشرون : ٦٣٠
|
شرح تمثيل
الإمام عليّ : ٥٦٠
|
|
المباحثات :
١٦٥
|
شارع النّجات
: ٥٦٨
|
|
المبدأ والمعاد
: ٣٠٩
|
شرح عيون
الحكمة : ٣٤٧
|
|
المباحث
المشرقيّة : ١١٨ ، ٣٤٨
|
شرح الإشارات
: ٣٨٠ ، ٣٩٠ ، ٤٣٣
|
|
المجسطى :
٢٦٩
|
شرح حكمة
الإشراق : ٣٨٤ ، ٤٠٧ ، ٤٣٢ ، ٥٢٤
|
|
المحصّل :
٤٠٠
|
شرح
التّلويحات : ٤٠٨
|
|
المطارحات :
٤٠ ، ٩٩ ، ١٣٩
|
شرح الأسماء
الحسنى : ٤٣٧ ، ١٣٧ ، ٢٧٥ ، ٢٩٨
|
|
المعراج :
٣٣٤
|
رسالة مسألة
العلم : ١٨٥ ، ٢٢٤ ، ٤٢٢
|
|
الملخّص :
٤٩٤
|
شرح المقاصد
: ٢٢٥
|
|
المواقف :
٢٢٦
|
الصّحيفة
الملكوتيّة : ١٠ ، ١٩٦ ، ٢٨٣
|
|
النّجاة :
٢٩٠ ، ٢٩٨ ، ٤٠٣
|
عرش التّقديس
: ١١٣
|
|
نقد المحصّل
: ٣٨٠ ، ٤٢٢ ، ٤٣٢
|
عيون أخبار
الرضا : ٢٥٠
|
|
نهج البلاغة
: ٢٥٤
|
نمايه مصنّفات ميرداماد ، مجلّد دوم
|
١ ـ آيات
|
|
قُلْ لَوْ
كٰانَ الْبَحْرُ مِدٰاداً : ٤٣٨
|
|
مٰا
خَلْقُكُمْ وَلاٰ بَعْثُكُمْ : ٤٤١
|
وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا : ٤٤٣
|
|
ولإن زالتا
إن أمسكهما : ٢٤٢
|
وَتَرَى
الْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا : ٣٧١
|
|
وَلَوْ أَنَّ
مٰا فِي الْأَرْضِ : ٤٣٨
|
وَجَعَلَ
الظُّلُمٰاتِ وَالنُّورَ : ١٠
|
|
يَأْكُلَهُ
الذِّئْبُ : ٢٦٦
|
|
٢ ـ أعلام
|
|
ابن سينا :
١٤ ، ١٢٤ ، ٣٣٧ ، ٣٤٣ ، ٣٥٠ ، ٣٩٥ ، ٤٠٦ ، ٤١١
|
|
شيخ
الإشراقيّة : ٤٢ ، ١٥٧
|
أرسطو : ١٠٩
، ٣٤١ ، ٣٤٨
|
|
شيخ الفلاسفة
فى الاسلام : ٣٧٨
|
افلاطون :
٣٢٩ ، ٤٤٤
|
|
صاحب الشجرة
الإلهيّة : ١٢٣
|
أمير
المؤمنين عليه السلام : ٣٣٩
|
|
صاحب
المحاكمات : ٢١
|
أنباذقلس :
٣٢٩
|
|
الفارابى : ٢١٦ ، ٤٤٩
|
انكسيمانس :
٣٢٩
|
|
فخر الدّين
الرّازى : ١٤ ، ٢١٨ ، ٢٤٦ ، ٣٨٨ ، ١٩٧ ، ٣٨٨ ، ٤٧٢ ، ٤٩٧ ، ٥١٢
|
انكساغورس :
٣٢٩
|
|
فلوخوس : ٢٣
|
أفضل الدّين
الغيلانى : ٢٣٦
|
|
فيثاغورس :
٣٢٩
|
بهمنيار :
٣٢٥ ، ٣٠٩
|
|
قطب الدّين
الرّازى : ٢٩٤
|
برمانيدس :
٣٨٦
|
|
المحقق
الدّوانىّ : ٧٤ ، ١٣٧ ، ٢٦١
|
بدوى (عبد
الرّحمن) : ٣٥٠
|
|
معلّم
المشّائيّة (ارسطو) : ٣٦٢
|
تالس : ٣٢٩
|
|
نصير الدّين
الطوسى : ٤٥ ، ٩٩ ، ١٦٢ ، ١٨٥ ، ١٩٧ ، ٢٠٩ ، ٢١٧ ، ٢٧١ ، ٤٨١
|
ذيمقراطيس :
٢٣٠
|
|
النّظّام :
٢٣٦
|
زينون : ٣٨٥
، ٣٨٨
|
|
محمّد (ص) :
١
|
سقراط : ٣٢٩
|
|
محمّد باقر
داماد : ١
|
السيّد
السّند (صدر الدّين) : ٥ ، ٢٢ ، ٤٤
|
|
|
|
٣ ـ گروهها
|
|
أتباع
المشائيّة : ١٧ ، ٢٤ ، ٦٩
|
|
فلاسفة
الفلسفة العاميّة : ١٥٦
|
الإشراقيّة :
١٠ ، ١٢ ، ١٤
|
|
الفلاسفة
المحصّلون : ٣٨٢
|
الأشعريّة :
٢٣٦
|
|
الفلاسفة
النّجباء : ٣٨٢
|
أه البيت
(عليه السلام) : ١
|
|
الفلاسفة
اليونانيّة : ٢٣٠ ، ٢٤٠ ، ٣٠٥
|
حكماء الحكمة
اليمانيّة : ٣٢٧
|
|
المشّاءون :
١٠ ، ١٤
|
الحكماء
السّبعة : ٣٢٩
|
|
متفلسفة
المتأخرين : ٥٩ ، ٧٩ ، ١١٩
|
رؤساء
الفلاسفة الإسلامية : ٢١٦
|
|
المعتزلة :
٢٣٦
|
الرّواقيّة :
١٠ ، ١٢ ، ١٤ ، ١٣٠
|
|
المتكلمون :
٩٦ ، ٢٢٠ ، ٢٢٩ ، ٢٣١ ، ٢٤٩ ، ٣٧٦
|
شركاؤنا
السّابقون : ٩٨ ، ١١٨ ، ١٩٠ ، ٢٦٩ ، ٣٧٠
|
|
مقلّدة
المتفلسفين ٨١
|
غاغة
المتفلسفين : ٣٨١
|
|
المقلّدون ٥٣
|
الفلاسفة
الإسلامية : ٣٩ ، ٥٨ ، ٨٥
|
|
|
|
٤ ـ كتابها
|
|
اثولوجيا :
٣٤٨ ، ٣٦٣ ، ٤٤٦
|
|
الشفاء : ٨٩
، ١٢٤ ، ١٥٩ ، ١٦٥ ، ٢٠٥ ، ٩٩٤ ، ٣٣٧ ، ٣٥٠ ، ٣٦٣ ، ٣٩٥ ، ٤٠٤ ، ٤٠٨ ، ٤١١ ، ٥٠٨
|
الإشارات :
٩٩
|
|
الصّراط
المستقيم : ٣٠٤
|
الأفق المبين
: ٢ ، ٩٧ ، ٢٩٨
|
|
الكلمة
الإلهيّة : ٣٥٢
|
الإنصاف :
١٥٩
|
|
المباحث
المشرقيّة : ٢٩٢ ، ٥٠١ ، ٥١٢ ، ١٥٧ ، ٥٠٣ ، ٥١١ ، ١٩٠ ، ٣٥٢ ، ٤٩٧
|
التحصيل :
٣٢٥ ، ٣٥٩
|
|
نقد المحصّل
: ٩٨٥ ، ١٩٧ ، ٥٠٢
|
التعليقات :
٨٩ ، ٣٥١
|
|
نهج البلاغة
: ٣٠١
|
التعليم
الأوّل : ١٠٩
|
|
|
شرح الإشارات
: ٩٩
|
|
|
شرح عيون
الحكمة : ٢١٨ ، ٣٥١
|
|
|
فهرست الأفق المبين
مقدّمه
مصحّح الأفق المبين............................................... ٣١
ـ ٥٠
مقدّمه الأفق المبين.......................................................... ١
ـ ٢
الصّرحة الأولى.............................................................. ٣
ـ ٤
الشّطر الكلىّ
من حكمة ما فوق الطبيعة
المسافة الأولى
جملة تجرى مجرى
المبادى فى التّقديم والتّصدير
الفصل الأوّل
تحديد الحكمة
الّتي هى فوق الطبيعة وتحصيل موضوعها
١ ـ تلويح استنارىّ ٢ ـ ذنابة
الفصل الثّاني.............................................................. ٩
ـ ٥٠
تحقيق الجعل والحمل
وما يلتصق بذلك
١ ـ إخاذة فى تحديد حريم المتنازع فيه ٢
ـ سياقة ، مجعوليّة الماهيّات ٣ ـ شكوك وإزاحات ٤ ـ وهم وتنبيه ٥ ـ تفريعات
تأصيلية ٦ ـ ضابط ميزانىّ ٧ ـ عقد وحلّ
تأسيسات وتأصيلات
فى الحمل
١ ـ إخاذة ٢ ـ تفصلة فى تبصرة ٣ ـ زيادة
تبصرة ٤ ـ استضاآت ٥ ـ إشارة ٦ ـ قسطاس عقلىّ ٧ ـ إيماض ٨ ـ إرشاد ٩ ـ إفصاح ١٠ ـ
ضابط تفصيليّ ١١ ـ تقرير ١٢ ـ تنبيه ١٣ ـ قاعدة فيها أساسات لتفصّيات ١٤ ـ ختام
الفصل الثّالث......................................................... ٥١
ـ ١٠٢
فى بعض ما بقى
من أحكام الوجود والهدم
وفيه ثلاثة وعشرون
عنوانا
١ ـ حكومة فيها إحكامات ٢ ـ استضاءة ٣ ـ تقرير فيه إشراق وتنوير ٤
ـ حكمة تلويحيّة ٥ ـ إيقاظ وتوهين ٦ ـ لحاقة ٧ ـ مدخل استبيانىّ وردع برهانىّ ٨ ـ
تنبيه ٩ ـ تلويح وكشف ١٠ ـ أصل فيه شكّ وإزاحة ١١ ـ أوهام يزعم أنّا تفصّيات ١٢ ـ
استيناف إحصائىّ ١٣ ـ وهم وتنبيه ١٤ ـ قاعة ١٥ ـ تشكيكات وتفصّيات ١٦ ـ إشارة
تنبيهية ١٧ ـ وهم وتأصيل ١٨ ـ استقصاء
وجوه الإيضاحات
فى ستّة أوجه................................................. ٨٨
١٩ ـ إضاءة ضياء لإزاحة ظلام ٢٠ ـ تحديد ٢١ ـ وعد ٢٢ ـ هتك وتصويب
٢٣ ـ ختامة مسكيّة
المسافة
الخامسة............................................................. ١٠٣
الوجوب والإمكان
والامتناع
الفصل الاول
كشف المفهومات والحقائق
١٠٥ ـ ١٣٨
١ ـ إخاذة ٢ ـ إيماض مصباحىّ ٣ ـ ذنابة ردعيّة ٤ ـ تشبيه عقلىّ ٥ ـ
تكملة تحصيليّة ٦ ـ إضاءة أساسيّة ٧ ـ كلمة إلهيّة ٨ ـ وهم ودفاع ٩ ـ تنصيص ١٠ ـ
تمشية وردع ١١ ـ تكشاف ١٢ ـ أصل يمانىّ ميزانىّ ١٣ ـ حكمة ميزانيّة يمانيّة ١٤ ـ
حكمة إشراقيّة ميزانيّة ١٥ ـ تلويح ١٦ ـ تنبيه ١٧ ـ استقراء ١٨ ـ لحاقة
الفصل الثانى......................................................... ١٣٩
ـ ١٧٦
أحكام هذه
كالأمور العامّة لها
فيه اثنان وعشرون
عنوانا
١ ـ ضابط أساسىّ ٢ ـ تفصلة تحصيليّة ٣ ـ
تبيان ٤ ـ هداية تنبيهيّة ٥ ـ ظنّ وحسبان ٦ ـ شكوك امتحانيّة وحلول برهانيّة ٧ ـ
أسّ قانونىّ ٨ ـ تأسيس تأصيلىّ ٩ ـ مضيق عقد وفيه حلّ ١٠ ـ تنبيه تنويرىّ ١١ ـ شكّ
وانكشاف ١٢ ـ مسألة امتحانيّة ١٣ ـ إضاءة برهانيّة ١٤ ـ إحضار ١٥ ـ دعامة عقليّة
١٦ ـ هدم بهتىّ ١٧ ـ مخلص قساسىّ ١٨ ـ شكوك وتنبهات ١٩ ـ شكّ وتحقيق ٢٠ ـ تقسيم
تحصيلىّ ٢١ ـ استيناف تفصيلىّ ـ مراتب الموجودات ثلاثة ٢٢ ـ تكملة
الفصل الثّالث....................................................... ١٧٧
ـ ١٩٨
خواصّ القيّوم
الواجب بالذّات فى إدراك العقل
فيه خمسة عشر
عنوانا
١ ـ نياطة ٢ ـ تنبيه ٣ ـ إيقاظ ٤ ـ
تحصيل قدسىّ ٥ ـ تقديس ٦ ـ تبصير تقديسىّ ٧ ـ تذييل ٨ ـ هداية ٩ ـ استيناف ١٠ ـ
عقدة وانفكاك ١١ ـ حكومة كنقد ١٢ ـ تأصيل أساسىّ ١٣ ـ تعليم استيجابىّ ١٤ ـ تصقيب
١٥ ـ ختم تحقيقىّ
الفصل الرّابع........................................................ ١٩٩
ـ ٢٩٨
خواصّ الممكن
بالذّات
فيه ثلاثة وخمسون
عنوانا
١ ـ مدخل
٢ ـ استصباح أسطرلابيّ ٣ ـ اعتكاس ٤ ـ
وهم ودفاع ٥ ـ أصل افتحاصىّ ٦ ـ استيناف ٧ ـ أوهام وإزاحات ٨ ـ إخاذة ٩ ـ إضاءة
تلويحيّة ١٠ ـ هتك وتزييف ١١ ـ
ظلامات وإزاحات ١٢ ـ تذنيب ١٣ ـ تكشاف
تأصيليّ ١٤ ـ دقيقة استشراقيّة تحقيقيّة ١٥ ـ اختصاص وفحص ١٦ ـ شبه وإيضاحات ١٧ ـ
مخلص ١٨ ـ تأسيسان تفريعيّان ١٩ ـ سياقة استحصافيّة يمانيّة ٢٠ ـ تنبيه تلخيص ٢١ ـ
تموية سفسطىّ وتفضيح فحصيّ ٢٢ ـ بسط ٢٣ ـ توفية ٢٤ ـ مشاجرات وحكومة ٢٥ ـ ذيل ٢٦ ـ
مصاحب إضائىّ ٢٧ ـ استضاءة ٢٨ ـ تشكّك وفحص ٢٩ ـ شكّ وحلّ ٣٠ ـ وقاء شكّين ووفاء
فحص ٣١ ـ حقيقة تحصيليّة ٣٢ ـ وهم وتنبيه ٣٣ ـ نصّ ٣٤ ـ مضيق عويص وفصية فسبحة ٣٥
ـ عجاب ذهولىّ ٣٦ ـ تنبيه دفاعىّ ٣٧ ـ شكّان وتنبيه ٣٨ ـ ضابط تذكاري ٣٩ ـ كلمة
فحصيّة استوائيّة ٤٠ ـ استيناف تلخيصىّ ٤١ ـ تنبيه تذكيرىّ ٤٢ ـ فصّ ترصيصىّ ٤٣ ـ
إيقاظ ٤٤ ـ تسريح تنبيهىّ ٤٥ ـ تعقيب وبحث ٤٦ ـ مسألة استبصاريّة ٤٧ ـ وهم
افتضاحىّ ٤٨ ـ تفصلة ٤٩ ـ تنصيص ووعد ٥٠ ـ فيصل ٥١ ـ استيفاء ٥٢ ـ تتمّة تفصيليّة
تختمة فى اعتبار بعض الأحكام الممتنع
بالذّات الف ـ تنبيه تذكيرىّ ب ـ تحديق استبصارىّ ج ـ ذنابة قانونيّة د ـ تعقيب
فيه تهذيب ه ـ وهم وتحصيل و ـ ختم
المسافة السّادسة............................................................. ٢٩٩
إحقاق الحقّ فى
أوعية الوجود وسنن الموجودات
وضروب التّقدّم
والتّأخّر والمعيّة وأحكامها
فيها مقدّمة وفصول
خمسة
مقدّمة ، مرآة لمعاشر المتعلمين
الفصل الأوّل........................................................ ٣٠١
ـ ٣٣٠
ما يذكر فى أفق
التّقضّى والتّجدّد ، وهو الزّمان
فيه أحد وعشرون عنوانا ١ ـ إخاذة ٢ ـ سياقة
تنبيهيّة ٣ ـ مشعب وتحكيم ٤ ـ
عصام دفاعىّ ٥ ـ توثيق إحصافىّ ٦ ـ وهم وتنبيه
تلخيصىّ ٧ ـ تقرير ٨ ـ إشارة ٩ ـ مقالة تلويحيّة ١٠ ـ دعامة تتميميّة ١١ ـ شكّ وتحصيل
١٢ ـ فيصل تحديقىّ ١٣ ـ تقويم وتعيين ١٤ ـ شكّ وتحقيق ١٥ ـ تمهيد ١٦ ـ تشييد
تنظيرىّ ١٧ ـ تنصيص ١٨ ـ تفصلة ١٩ ـ توضيح ٢٠ ـ تفصيل انصرامىّ ٢١ ـ تلخيص ختامىّ
الفصل الثّاني......................................................... ٣٣١
ـ ٣٦٨
فيه يحقّق معنى
الدّهر والسّرمد
ففيه تسعة عشر
عنوانا
١ ـ استصباح ٢ ـ مشروع فيه شوارع
تحصيليّة ٣ ـ حكومة ٤ ـ هداية اشراقيّة ٥ ـ توثيق تبصيرىّ ٦ ـ استبصار ٧ ـ مصباح
ملكوتىّ ٨ ـ وهم وتزييف ٩ ـ بسط وتشييد ١٠ ـ ظنون وتوهينات ١١ ـ تذكير استيفاضىّ
١٢ ـ إحصاء ١٣ ـ اصطباح مرآتى ١٤ ـ تسجيل فيه هداية وتحصيل ١٥ ـ تشبيه وتمثيل ١٦ ـ
وعد وتخليص ١٧ ـ تبصرة ١٨ ـ تبصار مكشافىّ ١٩ ـ ختم
الفصل الثّالث....................................................... ٣٦٩
ـ ٤٥٠
يتبيّن فيه أمر
الدّوام والبقاء والأزل والأبد والسّرمديّة
فيه أحد وأربعون
عنوانا
١ ـ إضاءة إيقاظيّة ٢ ـ تلويح توضيحىّ ٣
ـ إلاحة ملكوتيّة ٤ ـ شعاب ٥ ـ إخاذة ٦ ـ استيناف تقديرىّ ٧ ـ سياقة حدسيّة ٨ ـ
إضاءة فحصيّة ٩ ـ ذيل ١٠ ـ تكملة وتسجيل ١١ ـ إيقاظ تحصيلىّ ١٢ ـ أنباء ١٣ ـ شكّ وفحص
١٤ ـ عقدة وفكّ ١٥ ـ تشكيك وتحقيق ١٦ ـ وهم ودفع ١٧ ـ تنبيه فيه كشف فحصىّ ١٩ ـ
عقد وحلّ ٢٠ ـ نقض وتحصيل تقريرىّ ٢١ ـ تذكار فيه تحقيق ٢٢ ـ مفاوضة واستفضاض ٢٣ ـ
فرية وبيان ٢٤ ـ حكاية تشييديّة ٢٥ ـ تتمّة ٢٦ ـ ردع تنبيهىّ ٢٧ ـ استيفاء ٢٨ ـ
استيناف استنتاجىّ ٢٩ ـ
استيناس تنظيرىّ ٣٠ ـ استنارة عقليّة ٣١
ـ تذييل فيه إعضال وتحصيل ٣٢ ـ نقادة مخلصيّة ٣٣ ـ نتيجة مرآتية عقليّة ٣٤ ـ
استضاءة استنهاضيّة ٣٥ ـ تتمة تسجيليّة ٣٦ ـ تكشاف إيقاظىّ ٣٧ ـ إيماض تنبيهي ٣٨ ـ
إيقاظ حدسىّ ٣٩ ـ استيقاظ روعىّ فيه فيصل فحصىّ
الفصل الرّابع........................................................ ٤٥١
ـ ٤٩٤
أقسام التّقدّم
والتّأخّر على طريق الحكمة الحقّة
فيه ثمانية عشر
عنوانا
١ ـ إخاذة ٢ ـ تثبيت ٣ ـ سياقة إثباتيّة
٤ ـ استفصال برهانىّ ٥ ـ مفحص وهم وتحقيق ٧ ـ توفية إمعانيّة ٨ ـ توهّم وتفضيح ٩ ـ
تصديق إحقاقىّ ١٠ ـ مفحص فيصليّ ١١ ـ تذنيب ١٢ ـ إفصاح ١٣ ـ تذكير ١٤ ـ إحصاء
استقصائىّ ١٥ ـ حكمة يمانيّة ١٦ ـ مرصاد ١٧ ـ تبيين ١٨ ـ تكملة اختتاميّة
الفصل الخامس....................................................... ٤٩٥
ـ ٥١٢
آراء أهل
الحكمة والكلام وختم المسافة السادسة
فيه الاثنى
عشرة عنوانا
١ ـ إخاذة ٢ ـ تفصيل وفيصل ٣ ـ فصّ ٤ ـ
تلخيص ٥ ـ تنبيه ٦ ـ تذكرة ٧ ـ وهم وتزييف ٨ ـ ظنّ وتحقيق ٩ ـ وهم وتنبيه ١٠ ـ نقد
تحصيلىّ ١١ ـ حسم ظنّ ١٢ ـ شكّ وتوهين تحقيقىّ
نمايه مصنّفات ميرداماد ، مجلّد أوّل..................................... ٥١٢
ـ ٥١٩
نمايه مصنّفات ميرداماد ، مجلّد دوم..................................... ٥٢٠
ـ ٥٢٢
|