مصنّفات ميرداماد
(١)
الإيماضات
(الشهادة بأنّ هذه الرسالة تكون بخطّ صدر المتألّهين)
هذا كتاب
الإيماضات والتشريقات ، الموسوم بالصحيفة الملكوتيّة والحكمة السّويّة ، في مسائل
الحدوث والسّرمديّة وإبطال الفلسفة النيّة وإثبات الحكمة السّويّة ، منّ الله
علينا بإتمامه بعظيم منّه وجميل إكرامه. كان الشروع فيه في رابع ذى قعدة الحرام
لعام ١٠١٢ من الهجرة المباركة النبويّة ، حيث كانت الشمس في شرفها والزّهرة في
بيتها والقمر مسعود الحال ، والعلويّان في القوس على حدّ قوّة الاتّصال بعد القران
وقبل بلوغ الانصراف بتسع درجات.
[اللهمّ أبّد
وخلّد ترويح الأرواح وتطييب النّفوس من فيوض إفاداته وفنون مقالاته ، على قلوب
أرباب الفضل والكمال وأصحاب الوجد والحال ، بمحمّد وآله وعترته وذرّيته ، عليهم
أزكى الصلوات وأو في التحيّات.]
لا يخفى على من له
بصيرة أنّ من جملة الأمور الّتي يجب اعتبارها في الكتب ، صحّتها ، ولا يحصل القطع
بذلك إلّا بالأمارات المعتبرة. ومن زمرة الأمارات الصّحيحة على الصحّة أن يكون بخط
المصنّف هو ، وهاتان النسختان ، على ما ثبت عندنا ، يكونان بخطّ صدر المتألهين ، قدسسره ، وهو عليه رضوان الله ، كان من أعظم تلاميذ المصنّف ، قدّس
الله روحه ، وقد صنّف مصنّفهما إلى ما كتب في هاتين الدّفّتين. حرّره في سنّة
١١٨٦. [٢ ظ].
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والاستيفاق من العليم الحكيم
سبحانك اللهمّ ربّ
الخلق والأمر ، لك الملك ولك الحمد ومنك البدء وإليك العود. وأنت بكلّ شيء عليم ،
فاطر الملك والملكوت ، عالم الغيب والشهادة. يسبّح لك ما في السماوات وما في الأرض
، وأنت العزيز الحكيم.
خصّص أكرم مصطفيك
من النّفوس القادسات وأعلم الهداة إليك بالباقيات الصالحات ، سيّدنا ونبيّنا محمدا
وعترته الأنجبين وحامّته الأقربين ، بأتمّ صلواتك وأعظم بركاتك ، إنّك أنت ذو
الفضل العظيم والطول القديم.
وبعد ، فإنّ أحوج
المربوبين إلى الربّ الغنىّ محمد بن محمد ، يلقّب باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم
الله له بالحسنى يقول : إنّ هذه صحيفة ملكوتيّة سطيعة هي عين العلم في أرض القدس ،
منها يجرى نهر من الحكمة الإلهيّة على شطّ القوّة النظريّة. عملناها للأخلاء
الرّوعيّة والأقرباء العقليّة ، مصفاة للبيان في مرقاة التبيان ومرآة للعيان في
ميقات البرهان ، ريم بها حقّ اليقين فى مسائل الحدوث والسّرمديّة وإنضاج [٢ ب]
القول في طبخ الفلسفة النيّة وتقويم الحكمة السويّة ، مقصورا طورها على مقشوّ القول
الناصع ومروّق الفحص اليانع ، إذ قد ضمن النظر السابغ والبحث البالغ كتابانا «الأفق
المبين» و «الصراط المستقيم». فالبسط والتفصيل والرمّ والتحصيل على ذمّتهما وفي
منّتهما. صانهما الله عن فتن الفطر العاميّة وظلمات المدارك السوداويّة ، وصرف
عنها كيد الأفهام المئوفة وشرّ الأذهان العسوفة وأوهام أتباع الظنون وأمانيّ أصحاب
الميون ، وأقرّ بها عين الأمّة الوسط من حزب الحقّ وجند العقل ورجال الحكمة ،
وكفاها جور الجدليّين من الفئة اللّانسلميّة واللّدديّين من الفرقة اللم لا
يكونيّة ، إنه يسمع ويجيب.
فسنريكها إن شاء
الله ، وقد استنامت إليها العقول الموزونة وإن تجافت عنها النّفوس الملحونة ،
واستعذبتها القرائح اللطيفة وإن اشمأزت عنها الأذواق السخيفة ، واستعظمتها البصائر
العقلانيّة وإن استهزأت بها السلائق الوهمانيّة. فالعقل سموح رعوج والوهم جموح
لجوج. والمروم ذكره يوعى في تقدمة وسياقات وتختمة ، وبالله الاعتصام ومنه العصمة.
التّقدمة
في تحديد حريم النّزاع في حدوث عالم الجواز [٣ ظ]
أما علّمناك ، في
حكمة ما فوق الطّبيعة : أنّ تخصّص التّقرّر بآن ما أو بزمان ما مقطوع من جهة
البداية ، يقال له «الحدوث الزّمانيّ» ، وموضوعه ، وهو «الحادث الزّمانيّ» ، يكون
لا محالة مسبوق الوجود في افق التّقضّى والتّجدّد بالزّمان القبل وباستمرار عدمه
الواقع فيه سبقا زمانيّا. ويقابله «القدم الزّمانيّ» ، وهو أن يستوعب استمرار
الوجود قطر أفق التّقضّي والتّجدّد ، فيتحقّق في جميع الأزمنة والآنات ، وليس
الاتّصاف بهما إلّا للزمانيّات.
ووقوع التقرّر ،
غبّ العدم الصّريح في وعاء الدّهر ، يقال له «الحدوث الدّهريّ». وموضوعه ، وهو «الحادث
الدّهريّ» ، مسبوق الوجود في الدّهر سبقا دهريّا بعدم صرف فى الأعيان ، لا بزمان
أو آن ، ولا باستمرار للعدم ، أو لا استمرار يتّصف به الحادث الزّمانيّ بما هو
موجود متقرّر في وعاء الدّهر ، لا بما هو زمانيّ واقع في أفق الزّمان. ويقابله
«القدم الدّهريّ» ، وهو السّرمديّة ، أي تسرمد الوجود في وعاء الدّهر ، لا في أفق
الزّمان.
وفعليّة التقرّر
بعد بطلان الحقيقة وهلاك الذّات في لحاظ العقل ، يقال لها «الحدوث الذّاتيّ» ،
وموضوعه ، وهو «الحادث الذّاتيّ» في حدّ نفسه مسبوق الذّات والوجود ، وهو موجود ما
دام موجودا بالبطلان والعدم [٣ ب] أبدا ، ولكن سبقا بالذّات وفي لحاظ العقل ، لا
سبقا دهريّا وفي الأعيان ، وهو يستوعب عمود عالم الإمكان على الاستغراق ؛ ويقابله «القدم
الذاتيّ» المساوق للوجوب بالذّات.
فاعلمن أنّه ليس
يعقل التّنازع في المعنى الأوّل ، فكيف يدّعى للمفارقات المحضة وللزّمان نفسه
ولسائر المبدعات ؛ ولا في الثّالث ، فأنّى لأحد أن يفكّ رقبة الإمكان من أسره.
فالثّانى هو حدّ حريم الخلاف لا غير ، حيث إنّ جماهير المتهوّسة بتسرمد المبدعات
قد زعموا ، في جاهليّة الفلسفة ، أنّ الحدوث الدّهريّ والحدوث الزّمانيّ وإن لم
يكونا متساوقين بحسب المفهوم إلّا أنّهما متساوقان بحسب التّحقّق ؛ ولا يوصف
بالحدوث الدّهريّ إلّا الحادث الزّمانيّ ، وله اعتبار أن يعرضه
بحسبهما المعنيان.
فالكائنات مسبوقة
الوجود بحسب الوقوع في وعاء الدّهر بصرف العدم مسبوقيّة دهريّة، وبحسب الوقوع في
افق التّغيّر باستمراره وبالمدّة والمادّة مسبوقيّة زمانيّة. وأما المبدعات فهي
سرمديّة الوجود في وعاء الدّهر ، وليست مسبوقة إلّا بذات الجاعل فقط ، مسبوقيّة
بالذّات ، لا غير.
وإذ قد آن للعقل
أنّ يتمّ نوره بالبرهان ، فقد استبان في استواء الحكمة : أنّ الحدوث الدّهريّ وإن
باين الحدوث الذّاتيّ بحسب المعنى لكنّه يساوقه بحسب [٤ ظ] التّحقّق في الموضوعات
ويضاهيه في استيعاب عمود عالم الجواز على الاستغراق ؛ والحدوث الزّمانيّ مباين
لهما بحسب المعنى وأخصّ منهما بحسب العروض للموضوعات. وليس أنّ كلّ حادث دهرىّ فهو
حادث زمانيّ البتّة ، بل إنّ كلّ حادث ذاتيّ فإنّه حادث دهريّ بتّة.
والكائن والمبدع
متضاهيان في المسبوقيّة بوجود القديم الفرد وبصرف العدم الصّريح في وعاء الدّهر ؛
وإنّما الاختلاف بحسب التّعلّق بالمادّة بالطّبع وفى المسبوقيّة باستمرار العدم
وبالمدّة والمادّة في أفق التّقضّي والتّجدّد والقدم الدّهريّ ، وهو السّرمديّة في
الوجود ، قد استأثر به الجاعل المبدع الحقّ ، تعالى كبرياؤه ، كما استأثر بالقدم
الذاتيّ. فهو الّذي استوى على عرش السّرمد ، ولم يكن له شريك في الملك ، وسبحان
الله عمّا يشركون.
السّقاية الأولى
فيها فرقان شئون الموجود بحسب أطوار أوعية الوجود ثمّ سياق التّبيان على نمط
آخر
إيماض
(١ ـ الزّمان والمكان والدّهر)
ألم يستبن لك ، في
حكمة ما فوق الطّبيعة ، أنّ الامتداد من خواصّ المتّصلات ليس يصحّ أن يوصف به إلّا
الكميّات القارّة ؛ والكميّة الغير القارّة هو بمقابله إلّا مباديهما ، اللهمّ
إلّا بالعرض بحسب المقارنة لما هو الموصوف حقيقة.
فالأيس بما هو أيس
واللّيس بما هو ليس خارجان عن جنس الامتداد واللّاامتداد ، و [٤ ب] الاستمرار
واللّااستمرار ؛ كقولنا : «الكيف خارج عن القسمة واللّاقسمة ، والفلك لا خفيف ولا
ثقيل ، والصّوت لا مرئيّ ولا متستر» ، أي غير داخل في الجنس ، لا كقولنا : «هذا
الماء لا حارّ ولا بارد» أي فاتر خارج عن الطّرفين بالمتوسّط.
فإذا كان الموضوع
من الزّمانيّات أو الآنيّات ، وصف الوجود والعدم بالاستمرار أو اللّااستمرار ، لا
بما هما وجود وعدم ، بل بحسب المقارنة لامتداد الزّمان أو لامتداد الآن ؛ وإن كان
من الدّهريّات المحضة لم يكن يعقل هناك شيء من ذلك أصلا. والزّمان متى المتزمّنات
، وليس لنفسه متى ، بل هو موجود في الأعيان لا في زمان ، كما ليس لنفس المكان أين
وهو أين المتمكّنات ، والدّهر وعاء وجود الزّمان.
والقوى الشّاهقة
من الأنوار القدسيّة والمفارقات النّوريّة ، لتجرّدها عن المادّة وغواشيها
وعلائقها وسلاسلها وأغلالها ، متقدّسة عن الأين والمتى ، وموجودة في وعاء الدّهر ،
لا في زمان وآن أو مكان وحدّ ، ولا في جميع الأزمنة والآنات أو جملة الأمكنة
والحدود. والبارئ الفاطر ، وهو نور الأنوار ، جلّ مجده ، مستقرّ على عرش السّرمد
ومحيط بالدّهر والزّمان وما فيهما جميعا ، وكبرياؤه متعال عن ذلك كلّه ، و
الدّهر محاط
بالسّرمد وكظلّ له ومعلول له (اى : كمعلول له. منه).
ومن سبيل آخر : من
المنصرح أن محلّ الشّيء وحامله وعلّته ومبدعه يستحيل [٥ ظ] أن يكون فيه ومشمولا له
؛ فإذا كان الزّمان نفسه موجودا لا في زمان أصلا ، فمحلّه وحامل محلّه يمتنع
عليهما ذلك. والقوى العالية والأنوار العقليّة أولى بهذا الامتناع ؛ فما ظنّك
بفاطر الكلّ ومبدع الجميع.
فإذن ، ليس في
الدّهر والسّرمد امتداد ، لا في الوهم ولا في الأعيان ؛ وليس يتصوّر فيه حدّ وحدّ
، ولا مضىّ واستقبال ، إذ لا يعقل تغيّر وسيلان ، بل إنما ذلك كله من خواصّ أفق
الزّمان ، ووجود الشّيء في الأعيان ، إمّا في زمان ما ، أو في جميع الأزمنة ، أو
لا في زمان ما ولا فى جميع الأزمنة.
وبالجملة ، الشّيء
يكون في المكان بما هو جسم أو جسمانيّ ، لا بما هو موجود ؛ وفي الزّمان بما هو
متحرّك أو متغير ، لا بما هو موجود. والموجود بما هو موجود لا يلزمه أن يعتوره
المكان والزّمان ، بل قد يلحقه أنّ يوصف بالكون فيهما بحسب كونه جسما ومتحرّكا ،
لا بحسب طبيعة الوجود إلّا أنّ الوهم لا يألف إلّا هنا أو هناك ، وكان أو يكون أو
كائن. فيعسر على النّفوس الوهمانية أن تؤمن بوجود يتقدّس عن ذلك ، ويفارق جملة
الأبعاد والامتدادات ، والأمكنة والحدود والأزمنة والآنات. ولكن لا يعبأ بوسوسة
الوهم ، بعد حكم البرهان.
إيماض
(٢ ـ الزّمان والدّهر والسّرمد)
ما يعطى الحكم
بوجود الزّمان هو سبق استمرار العدم على بعض الوجودات وترتّب القبليّات والبعديّات
والمعيّات المتقدّرة الامتداديّة وتصرّمها [٥ ب] وتجدّدها على
__________________
الاتّصال.
وبالجملة مسبوقيّة بعض المتقرّرات باستمرار البطلان ، ثمّ التّقرّر على استمرار
خاصّ ، ثمّ انبتات التّقرّر ، وكذلك إمكان اختلاف الحركات أو تساويها أو تشابههما.
وما يوجب الإذعان
بوعاء الدّهر هو وجود المتقرّرات الثّابتة على صرف الثّبات بحيث لا يعقل تغيّر
وانتقال من حال إلى حال ، فلا يتصوّر امتداد ولا انبتات ، وإن كان ذلك مسبوقا
بصريح البطلان الباتّ ، لا باستمراره أو لا استمراره.
وما يهدى إلى
الإيمان بعرش السّرمد هو وجود الوجود الحقّ القيّوم المتعالي عن التّبدّل
والانتقال ، بحسب جميع الشّئون والأحوال ، المحيط بالدّهر والزّمان بجملة ما فيهما
في الآباد والآزال. فالسّرمد لا يحتمل الامتداد واللّاامتداد ، ولا طروء العدم ولا
سبق اللّيس أصلا. والدّهر لا يصحّ فيه الامتداد واللّاامتداد ، ولا طروء البطلان
بعد التقرّر ، ولا سبق استمرار اللّيس أو لا استمراره ، وإن صحّ فيه سبق أصل
اللّيس الخارج عن جنس الوصفين.
والزّمان يقع فيه
التّغيّرات والتّبدّلات وحصول الوجودات بعد العدمات المستمرّة ، ثمّ انبتات
الاستمرارات ، وأفق الزّمان أمر زائد على معنى الوجود وعلى المتى ، أي : نفس
النّسبة المعبّر عنها بالكون في الزّمان ، كما المكان على الأين ؛ فالمقدار
المتقضّي المتجدّد بنفس ذاته لا يكون نفس الوجود ولا نفس النّسبة.
وأما وعاء الدّهر
، فليس هو شيئا وراء صرف الوجود ، ونسبة الموجود الثّابت إلى الموجودات بالقبليّة
أو المعيّة وإن كان ذلك [٦ ظ] ربما يكون بعد العدم الصّرف. وكذلك عرش السّرمد هو
نفس محوضة الموجوديّة والنّسبة الّتي هي للموجود المحض لا من بعد العدم إلى
الموجودات الثّابتة بالقبليّة أو المعيّة.
فكما يقال :
الخارج ظرف من ظروف الوجود ، ولا يعنى أنّ هناك شيئا غير الوجود العينيّ ، بل
إنّما إنّ لعين الشّيء وجودا (حصولا) أصيلا ، لا في لحاظ الذّهن فقط ، بل خارج
الأذهان أيضا ؛ فكذلك يقال : وعاء الدّهر وعرش السّرمد نوعان من ظروف الوجود
وأوعيته ؛ ويعنى الحصول الأصيل للشّيء في الأعيان خارجا عن افق الزّمان وما يعتريه
إما مع صدق سبق العدم الصّرف ، أو بحيث يتعالى من كلّ وجه عن احتمال العدم.
__________________
إيماض
(٣ ـ الوجود في الزّمان أخص من الموجود في الدّهر)
لعلّك قد تحدّست
الآن أنّ الوجود في زمان ما فقط أو في جميع الأزمنة أخصّ من الوجود في وعاء الدّهر
ومستلزم له ، بخلاف العدم في زمان ما أو في جملة الأزمنة ، فإنّه غير مستلزم للعدم
في وعاء الدّهر. أليس العدم في وعاء الدّهر إنّما يصدق بارتفاع جملة أنحاء الوجود
في الأعيان ، ومن جملتها الوجود لا في زمان بخصوصه ولا في جميع الأزمنة. أفلم يقرع
سمعك في طبقات الصّناعة أنّ الطّبيعة تتحقّق بتحقّق فرد ما ، ولا ترتفع إلّا
بارتفاع جميع الأفراد.
وهذا كما يقال :
ارتفاع النّقيضين في بعض أنحاء نفس الأمر من لحاظ العقل ، أي :
لحاظ مرتبة
الماهيّة من حيث هي هي ، ليس فيه استيجاب ارتفاعهما في نفس الأمر، لأنّها أوسع منه
، كما ليس [٦ ب] الخروج من دار من دور البلد مستوجب الخروج منه ، لكونه أوسع منها.
فهذا القول ليس يتعدّى الحقّ من هذا النّمط. ولكنّي إنّما أسوّغ إيراده على سنّة
التّنظير ، ولست أنصّ عليه نصّ المستصحّ اياه ، لتجاوزه الصّحّة من سبيل آخر.
إيماض
(٤ ـ الدّوام الدّهريّ هو السّرمديّة)
وإذ أفق الزّمان
منقسم ، ووعاء الدّهر مرتفع عن توهّم الانقسام واللّاانقسام فيه ، فالإيجاب والسّلب
على نسبة عقديّة بعينها لا يتناقضان بحسب أفق الزّمان إلّا بوحدة الوقت. وأما بحسب
وعاء الدّهر فلا يعتبر في التّناقض وحدة الحدّ ، إذ لا يعقل هناك اختلاف حدّين ،
ولذلك لا يصدقان معا بالإطلاق العامّ الدّهريّ ، وكثيرا ما يتّفقان في الصّدق معا
بالإطلاق العامّ الزّمانيّ وإذ يصدق الموجب الدّهريّ بالإطلاق العامّ يبطل صدق
السّالب الدّهريّ ، ومع ذلك فليس يصدق الإيجاب بالدّوام الدّهريّ إلّا إذا كان
الموضوع سرمديّا غير مسبوق باللّيس أصلا لا باستمراره ولا بنسخه.
فالدّوام الدّهريّ
هو السّرمديّة ، والوجود بعد العدم في وعاء الدّهر هو حصوله في حيّزه بدلا عنه ،
كوقوع جسم بعينه بعد جسم بعينه. في مكان بعينه وأمّا الوجود
بعد العدم في أفق
الزّمان فليس يبطله ليقع في حيّزه ، بل إنّما يبتّ استمراره ، وذلك كحصول جسمين في
مكانين فى زمان واحد.
إيماض
(٥ ـ عدم الحادث من مبادى وجود الزّمان)
ومن هناك يستبين
حكمهم : أنّ عدم الحادث في افق الزّمان من المبادي العرضيّة لوجوده [٧ ظ] ولا يلزم
أن يكون نقيض الشّيء مبدءا له ، ولعلّنا نتلوه عليك ، إن شاء الله تعالى.
إيماض
(٦ ـ السبق الزّمانيّ والدّهريّ السّرمديّ)
السّبق الزّمانيّ
: هو أنّ يتخلف عن شيء شيء في افق الزّمان ، لتخصّص حصولهما بحدّين منه ، فلا
محالة يتوهّم مرور امتداد بهما ، وليس يصادم ذلك حصولهما معا في وعاء الدّهر
المعبّر عنه بالواقع ، كما ليس يصادم السبق المكانيّ في الحصول في زمان واحد ؛
والمعيّة الزّمانيّة هي أن يتخصّصا في الحصول بحدّ واحد منه ، وهي نفس الفيئيّة أو
منتهية إليها.
والسّبق الدّهريّ
السّرمديّ ، كسبق القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، على الحوادث الزّمانيّة ؛
مثلا ، هو أن يوجد شيء في وعاء الدّهر ، وليس آخر فيه ليسا صرفا ، لا مستمرّا أو
غير مستمرّ ، فيبطل ليسه من سنخه ويقع الوجود في حيّزه.
فلا جرم لا يتوهّم
تخلّل امتداد أو طرف امتداد بينهما ، وينقلب السّبق عند وجود المسبوق معيّة دهريّة
، وهي اجتماع شيئين في صدق عقد الوجود عليهما بالإيجاب بحسب الواقع ، لا بحسب
الحصول في جزء أو حدّ بعينه من أفق الزّمان ، كمعيّة المفارقات بعضها لبعض ، وهي
مباينة للفيئيّة وغير منتهية إليها.
إيماض
(٧ ـ القبليّة السّرمديّة والبعديّة الدّهريّة)
اعلمن أنّه ليس
يمكن في السّبق الدّهريّ أن يترتب قبليّتان وبعديّتان على التّعاقب ، فضلا عن
قبليّات وبعديّات متعاقبة الحصول ؛ إنّما احتمال ذلك شأن السّبق الزّمانيّ ويتبرهن
من سبيلين : أحدهما النظر في طباع وعاء الدّهر ، إذ ليس يتصوّر فيه امتداد وحدود ،
والآخر لحاظ طباع السّبق الدّهريّ مع عزل النّظر عمّا يأباه طباع وعاء الدّهر. [٧
ب] أليس مقتضاه أنّه كان المسبوق معدوما عدما باتّا ساذجا لا يوصف باستمرار وتقدّر
مع وجود السّابق وجودا صرفا لا يشوبه تماد وتقدّر ، فكان الصّادق عقدان دهريّان
سالب وموجب ، فوجد ، فكذب السّالب وصدق عقد الإيجاب عليهما معا بالإطلاق.
فإذا فرض «أ»
سابقا على «ب» سبقا بالدّهر ، وهو على «ج» كذلك ، كانا معا معدومين مع وجود «أ».
ثمّ إذا «ب» قد بطل عدمه وعدم «ج» بعد محفوظ ، فلا محالة يقع تقدّر في عدم «ج» وفي
وجود «أ» جميعا ، فإذن يكون سبق الأوّل على الثّالث بحسب استمرار الوجود وتمادى
العدم ، لا بحسب سنخهما ، وهو خرق الفرض. وهذا الأصل ممّا تواطأت عليه الفلسفة
النيّة اليونانيّة والحكمة السّويّة اليمانيّة ، لكنّ الاختلاف في نحو التأسيس
عليه.
فالفلاسفة
المتهوّسة بتسرمد المبدعات تجعلها جميعا مع مبدعها البارئ ، تعالى شأنه ، في
السّبق السّرمديّ ، وقاطبة الحوادث الكونيّة معا في التّأخّر الدّهريّ والحكيم
القائم بالقسط لا يشرك بربّه أحدا في القبليّة السّرمديّة ، ويجعل زمر قطّان عالم
الجواز من المبدعات والكائنات معا في البعديّة الدّهريّة كنفس واحدة.
وهم وإزاحة
(٨ ـ التقدّم من صفات الحقّ تعالى)
ولعلّ الوهم يزعج
سرّك : أنّ الخلف ناهض هناك في قبليّة واحدة ، فإنّ «أ» يوجد مع عدم «ب» ثمّ ينحفظ
وجوده مع وجوده ، فيعتريه لزوم الامتداد وإن لم يلزم في عدم «ب» ولا في وجوده.
فيزاح : بأنه
إنّما يكون كذلك لو وقع وجوده في حدّين ، ووجود «ب» في الأخير منهما فقط. فتكون [٨
ظ] القبليّة في الأوّل والمعيّة في الأخير ، كما هو سنّة القبليّة والمعيّة
الزّمانيّتين. وقد دريت أنّ الأمر هناك على طور آخر ، والمعيّة تقع في
حيّز القبليّة ،
وعندها ترتحل هي عن ساهرة الواقع من أسّها ، لا عن حدّ المعيّة فقط. وليس العدم
شيئا تعتبر المعيّة بالقياس إليه ، فهو انتفاء شيء ، لا شيء يعبّر عنه بالانتفاء.
فلذلك ليس يصحّ أن يحكم عليه ولو بالسّلبيّة وامتناع الوجود ، بل إنّما يؤخذ
مفهومه المتمثّل في الذّهن ، وهو ليس حقيقة العدم ، بل مفهوم ما يضع الذّهن أنّه
عنوان لتلك الحقيقة الباطلة ، فيعقد الحكم عليه بالسّلبيّة وبالامتناع ، مثلا ،
حكما على التّقدير ، لا حملا على البتّ. فكان «ا» وليس «ب» ، لا على التّقدّر ، فوجد
، وصارا معا في الذّهن خارجين عن جنس التّقدّر واللّاتقدّر ، وعن توهّم الحدود
والامتداد ، إذ الوجود بما هو وجود لا يتصوّر فيه حدّ وحدّ. ولا يحتمل أين ومتى.
ثمّ هذا التّقدّم
من صفات الجاعل الحقّ ، تمجّد قدسه. وليس للعقول النقيّة النّوريّة والأنوار
المفارقة العقليّة إلى اكتناه شيء منها من سبيل ، فأنّى للأذهان البتريّة
الإنسانيّة والقرائح الغير البشرانيّة تكنيهه وتحديده. وإنّما صيّور الفحص
والبرهان يوجبانه : أنّ هناك تقدّما مجهول الكنه مباين الحقيقة ، ومخالف الأحكام
للتقدّم الزّمانيّ وسائر التقدّمات ، ضرورة أنّ الحادث اليوميّ متخلّف في الوجود
منه ، سبحانه ، بتّة ، ويتعالى كبرياؤه عن التّقدّم الزّمانيّ ، إذ معروضه بالذّات
ليس إلّا أجزاء الزّمان ولا يوصف به بالعرض إلّا المتزمّنات.
فإذا علم البرهان [٨
ب] تحقّقه ، وأنّه لا سبيل إلى تعرّفه بالكنه ، كان ذلك سادّا مسدّ المعرفة.
فالجهل المعلوم بالبرهان قصيا درجات مراتب العرفان. وهو العلم المأمور به في كتاب
الله الأعظم وناموسه الأقوم ، والفارق بين الرّاسخين في العلم من زمرة العاقلين
وبين النّفوس المعطّلة من غاغة الغافلين وكذلك الشّأن في سائر صفات البارئ الفاطر
، تعالى عزّه وتعاظم مجده ، فهذا سنن الحكمة النّضيجة السّويّة.
وأما المتهوّسون
بالفلسفة النيّة ، فيقولون : هذا السّبق شأن البارئ الأوّل ومفطوراته المبدعة ، من
الجواهر العقليّة والمفارقات النّوريّة جميعا. والوهم حيث إنّه ألف الأبعاد ، وصحب
الجهات ، ورأى كلّ شيء في زمان ، وكلّ سبق ولحوق على حدّي امتداد ، يصرف العقل ،
ما دامت النّفس في دار غربتها ، من عالم الحسّ عن اكتناه الأمر فيه ، فيقاس
بالسّبق الزّمانيّ ويوهم الامتداد ، كما يقاس مطلق الموجود بالجسمانيّات ،
فيستعسر التّصديق
: بأنّ الإله الحقّ ، سبحانه ، لا داخل العالم ولا خارجه.
إيماض
(٩ ـ الطارئ هو الوجود والعدم في الزّمان حقّ)
فإذا تعرّفت ذلك ،
فقد آن لك أن تتحدّس : أنّه لا يصحّ في وعاء الدّهر بطلان طار على التّقرّر. بل
الحوادث الدّهريّة تبقى بقاء دهريّا ، لا زمانيّا ، بإفاضة الجاعل إيّاها أبدا على
الثّبات الصّرف ، إذ لو عدم الشّيء بعد حدوثه ، لزم إما الحدود والامتداد في
الدّهر ، أو كون عدمه الطارئ هو بعينه عدمه السّابق ، لا يغايره إلّا بحسب اللفظ
والتعبير اللهجيّ. وأما في أفق التّقضّي والتّجدّد ، فكثيرا ما يعدم الشّيء بعد
زمان الوجود ، لكنّه ليس طاريا بحسب الواقع [٩ ظ] أليس طروء العدم في الواقع إنّما
يصحّ بارتفاع جميع أنحاء الوجود ، والوجود في زمان الوجود لا يرتفع عن زمانه وإلّا
اقترن النّقيضان ، بل هو ثابت في الدّهر أبدا متخصّصا بذلك الزّمان ، وارتفاعه عن
الزّمان البعد غير معقول ، إذ لم يكن متحقّقا فيه قطّ. فإذن طروء العدم هناك ليس
إلّا انبتات استمرار الوجود ، لانقطاع فيضانه عن الجاعل، لا لارتفاع ما قد فاض.
والعدم في الزّمان البعد حقّ في الآزال والآباد. فإذن إنّما الطاري هو الوجود ،
وكلّ عدم أزليّ.
إيماض
(١٠ ـ الحادث يبطل العدم الزّمانيّ)
كلّ ما يحدث من
الزّمانيّات يبطل سنخ عدمه الزّمانيّ. لست أعنى : أنّ له عدمين ، بل أنّ لعدمه
السّابق اعتبارين ، فإذ هو يوجد يبطل ذلك العدم بما هو واقع في وعاء الدّهر ، لا
بما هو واقع في زمان ، هو قبل زمان الوجود. وإنّما يبطل استمراره في سائر الأزمنة
، وكلّ ما ينعدم من الحوادث الزّمانيّة يبقى سنخ وجوده الدّهريّ ويبطل استمرار
وجوده الزّمانيّ. لست أعني : أنّ له وجودين ، بل أنّ لوجوده اعتبارين ، وهو يبقى
بما هو واقع في وعاء الدّهر ابدا ، ولا يرتفع بحسب افق الزّمان عن زمانه قطعا ،
وإنّما ينبتّ استمراره الزّمانىّ في سائر الأزمنة.
إيماض
(١١ ـ نسبة الموجود إلى سائر الموجودات)
نسبة الموجود
المعيّن إلى سائر الموجودات ، أي : جملة ما قد دخل في الوجود بالإطلاق العامّ، إما
نسبة متقدّرة امتداديّة تختلف بحسبها حاله في الوجود بالقياس إلى تلك بالمعيّة
واللّامعيّة ، فيكون إذ هو مع البعض ، لا مع سائر الأبعاض ، ولا مع الجملة ، فيقع
فيها امتداد غير قارّ لا محالة ؛ وإما نسبة دهريّة وسرمديّة غير متقدّرة ، يمتنع
أن يكون بحسبها هو مع البعض في الوجود ، وليس هو [٩ ب] مع سائر الأبعاض ولا مع
الجملة ، فيكون الجميع سواسية في الوجود بالنّظر إليه ، فلا يقع تقدّر وامتداد في
نفس النّسبة أصلا ، وإن كان بعض المنسوب إليه في نفسه موصوفا بالامتداد.
كما أنّ نسبة
الشّيء إلى الأشياء في الوجود : إما نسبة متقدّرة مسافيّة تختلف بحسبها المسافات
والأيون ، بالقرب والبعد من ذلك الشّيء ، أو نسبة إحاطيّة خارجة عن جنس التّقدّر
واللّاتقدّر ، تكون بحسبها جملة الأمكنة والمتمكّنات والأيون والمسافات بالقياس
إليه على سنّة واحدة. فهي في أنفسها موصوفة بالتقدّر والامتداد والجهات والأبعاد ،
ولا يعقل شيء من ذلك فيه وفي نفس النّسبة.
تشريق
(١٢ ـ معيّة الحقّ القديم ونسبته تعالى)
مفارقات عالم
الهيولى ، كالكلّيّات ، من الأحكام التّصديقيّة وأطرافها التّصوّريّة والحقائق
الّتي قبلنا. بطبائعها المرسلات فقط ، والأنوار القدسيّة الشّاهقة بطبائعها
وشخصيّاتها جميعا ، لتبرّئها عن الأين والمتى تأبى أن تعرضها النّسبة المتقدّرة
المسافيّة ، أو النّسبة المتقدّرة الزّمانيّة ، وإنّ فاطر السّماوات والأرض مبدع
المكان والزّمان ، وجاعل الماهيّات والإنّيّات ، وخالق الكلّ ، ومن ورائهم محيط ،
فهو ، بمجده وقدسه بالتّقدّس عنهما ، أجدر وأحقّ.
وهذا الأصل ممّا
الحكمة السّويّة والفلسفة النيّة قد تواطأتا على تأصيله ، والحكماء الرّاسخون والفلاسفة
المتهوّسون في مسلك إثباته على موطئ واحد ، والقرآن العزيز ناصّ عليه ، بقوله جلّ
ذكره : (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (الحديد ، ٤).
فأينما كنتم ، ينفى التّقدّر المسافيّ ويجعل جميع الأمكنة والممكنات بالنّسبة إليه
تعالى على سبيل واحد. وضمير خطاب الجمع ، إذ ليس [١٠ ظ] يختصّ بأبناء عصر بخصوصه ،
بل يجمع
قاطبة أصحاب
العصور الخالية والباقية معا ، ينفى التّقدّر الزّمانيّ ، ويجعل جملة الأزمنة
والزّمانيّات (والمتزمّنات ، ل) بالقياس إليه ، سبحانه ، على نسبة واحدة.
فالمعيّة المثبتة
لا هي مكانيّة ولا هي زمانيّة ، بل هي نسبة إحاطيّة غير متقدّرة ، ومعيّة دهريّة
غير بائدة. وزمر قاطبة سواد الإمكان في هذه النّسبة كموجود واحد محتشد الأجزاء.
وبارئها ليس يفارقها أبدا ، ولا يقارنها مقارنة مكانيّة أو زمانيّة ، كما قال
مولانا أمير المؤمنين وسيّد المسلمين ، عليه صلوات الله وتسليماته : «ليس في
الأشياء بوالج ولا عنها بخارج».
سياقة
(١٣ ـ الحدوث الدّهريّ لعوالم الجواز والإمكان)
هل أنت ذو قريحة
نقيّة ، فيعطيك ما تلقّيته الحكم على جملة عوالم الجواز بالحدوث ، حدوثا دهريّا. أليس
إذا كان بعض الجائزات متسرمد التّقرّر ، وبعضها مسبوقا بالبطلان الدّهريّ ، كان
القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، مع المتسرمد ، وهذا المسبوق بالبطلان معدوم
في الدّهر. ثمّ اذا هو ، سبحانه ، صار معه أيضا إذ وجد فيه ، فقد تحقّقت المعيّة
الاولى في الدّهر مفترقة عن الثّانية ، ثمّ استمرّت معها فيه ، فقد لزم حصول
امتداد في الدّهر وعروض نسبة متقدّرة امتداديّة للقدّوس الحقّ ، وهما محالان.
فإذن يتعيّن :
إمّا أن يكون كلّ ما على ساهرة عالم الإمكان سرمديّا ، وهو فطرىّ السّفسطيّة ،
وإما أنّ تكون قاطبة قاطنتها من المفارقات العقليّة والذّوات النّوريّة إلى
المتزمّنات الكيانيّة والهويّات الهيولانيّة سواسية في الوجود بعد العدم في الدّهر
، فهذا هو الحكمة الحقّة.
فالجاعل الحقّ قد
أخرج جملة المعلولات من [١٠ ب] متن اللّيس الصّريح وكتم العدم الباتّ المعبّر عنه
باللاخلاء واللّاملاء الزّمانيّ الى صرحة التّقرّر والوجود في وعاء الدّهر مرّة
واحدة دهريّة ، فبطل عقد العدم عليها بالإطلاق العامّ الدّهريّ. فنسبته ، عزّ مجده
، إلى هذا الجزء من الزّمان ، مثلا ، بالقبليّة فالمعيّة الدّهريّتين ، كنسبته
بهما إلى نفس الزّمان جملة ، وكذلك إلى هذا الحادث اليومىّ لا إلى المجعول الأوّل
، بل زمر المعلولات كافّة.
__________________
وعلى هذا ينصّ
القرآن الكريم : «ما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفس واحدة» (لقمان ، ٢٨) ، وفي السّنّة
النّبويّة وأحاديث الأوصياء الطّاهرين ، صلّى الله عليهم ، نصوص وإشارات ليس يسعها
طور هذه الصّحيفة إحصاء وذكرا.
حكومة
(١٤ ـ آراء المشّائيّة والرّواقيّة والحكماء السّبعة)
كأنّه إذن ، قد
بزغ أنّ الفلاسفة المتهوّسين من الفئة المشّائيّة لم يصدقوا دعواهم تعرّف الأمر في استحالة تصوّر الامتداد في وعاء
الوجود الّذي هو الدّهر والسّرمد ، وبطلان توهّم النّسبة المتقدّرة للبارئ الحقّ
الأوّل ، وإن أصرّوا وأطنبوا. بل إنّما (ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ) (التّوبة ، ٣٠).
وأما ثلّة من الرّواقيّة والحكماء السّبعة الأصول والأساطين ، أفلاطون وسقراط وفيثاغورس وأنباذقلس
وانكسيمايس وثالس وانكساغورس ، وعمود الحكمة اغاثاذيمون وهرمس ، فأولئك في هذه
المسألة إخواننا الذّاهبون ، فحقّ لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدى على فراقهم ،
لكنّهم وإن صادفوا سمت الوجهة ولّوا الوجوه شطر السبيل ، إلّا أنّهم لم يكونوا
يورثون الأخلاف بمرموزات كلماتهم ما يستنام إليه السّرّ في حلّ عويصات الشّكوك
وعقد الإعضالات ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ ،
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد ، ٢١) ، (١١
ظ).
استشراق
(١٥ ـ الفاعل الحقّ لا تجدّد فيه)
أما قرع سمعك من
العلم الأعلى ما سنؤتيك برهانه من ذى قبل ، إن شاء الله تعالى ، وهو أنّ واجب
الوجود بالذّات واجب الوجود من جميع الجهات ، وما يصحّ عليه بالإمكان واجب له
بذاته حاصل له بالفعل على السّرمديّة والأبديّة ، وليس يتصوّر له حركة وتغيّر
وانتقال من صفة أو حال أو شأن إلى صفة أو حال أو شأن أصلا ، ونسبته إلى كافّة
مجعولاته ومعلولاته بالتّأثير والإفاضة واحدة أبدا ، ولا تجدّد وتعاقب
__________________
في جنبة الفاعل
الحقّ بل إنّما التّجدّد والتّسابق والتّعاقب في جنبة المعلولات ، والمتجدّد هو نفس
المعلول ، لا حال أو شأن لصانعه القديم الأوّل ، سبحانه ، وعلى جملة ذلك إجماع
الفلاسفة. فهل أنت ذو سرّ نقىّ وقريحة مستضيئة ، فتستشعر أنّ هذا
الأصل الكريم إنّما يستقرّ لو كانت المعلولات بشعبها وشعوبها متضاهية في الحدوث
الدّهريّ فيكون فاعلها الحقّ قد فعلها في الدّهر مرّة واحدة دهريّة. أما مبدعاتها
فلا في زمان ، بوجه ما أصلا ، وأما كائناتها فكلا في وقته. والإفاضة على هذا المرصاد
باقية لا تدثر ولا تبيد أبدا. وأما المعلولات المفاضة ، فمنها زمانيّات داثرة في
أفق التّقضّي والتّجدّد ، لا في الوعاء الّذي هو الدّهر ، بل هناك يتخصّص الوجود
كلّ منها بوقت بعينه لا يتعدّاه ؛ ومنها مفارقات غير زمانيّة ولا داثرة.
__________________
أليس أنه إذا
تسرمد بعض المجعولات دون بعض ، كان للجاعل الحقّ إفاضة ذاك ، إذ ليست له إفاضة ذا
، وإلّا فقد تخلّف المفاض عن الإفاضة ، ثمّ قد لحقته إفاضة ذا أيضا.
فإذن تجتمع فيه إفاضتان متقرّرتان على السّبق واللّحوق ،
فيكون تقرّر الإفاضة على التّسابق والتّلاحق ، فيلزم انفصام تلك الأحكام ، بل
انهدامها [١١ ب] بالمرّة ف (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) (آل عمران ، ٧١).
تنبيه
(١٦ ـ الزّمانيّ دهريّ ولا عكس)
__________________
أما تعرّفت ممّا
عرّفناك : أنّ كلّ وجود زمانيّ فإنّه دهرىّ بلحاظ آخر ، ولا عكس. فالشّيء
الزّمانيّ : إن اعتبر بطبيعته المرسلة كان من المجرّدات والدّهريّات ، ولم يصحّ
أنّ يعدّ ممّا هو متأيّن أو متمت أصلا. وإن اعتبر بهويّته الشّخصيّة المتزمّنة.
فإن لوحظت بما هي متقرّرة في وعاء الوجود الّذي هو الدّهر ، مع عزل اللّحظ عن
وقوعها في افق التّقضّي والتجدّد وفي جزء أو حدّ منه بخصوصه ، كانت موجودة دهريّة
وإن كان وجودها في الدّهر بوجودها في الزّمان وفي ذلك الجزء أو الحدّ منه بعينه.
وإن لوحظت بما هي متخصّصة التّقرّر بافق التّغيّر وبشيء من أجزائه وحدوده ، كانت
موجودة زمانيّة ، كما أنّ وجود الشّيء في نفس الأمر هو وجوده لا بتعمّل العقل مع
عزل النظر عن خصوصيّة اللّحاظ لا بحسب الخصوصيّة فإنّها ملغاة في ذلك. وأيضا الصّورة العلميّة الارتساميّة هي بعينها المعلوم
بالذّات والعلم بحسب ذينك
الاعتبارين.
فإن استغرب أنّ
الزّمانيّ كيف يصير دهريّا؟ قيل : هذا كما انّ الشّيء المادّىّ بحسب شخصيّته
هيولانىّ يناله الحسّ دون العقل ووجوده طبيعيّ ومع الكثرة ، وبحسب طبيعته المرسلة
مجرّد معقول ليس للحسّ أن يناله ووجوده إلهيّ وقبل الكثرة. فالطبيعة هي عين الفرد
في الوجود وفي اللحاظات إلّا في لحاظ التعيّن والإبهام ، وهناك أيضا بأحد اللّحظين
فيه ، وهي من المجرّدات المعقولة ، وهو من ذوات الأوضاع
__________________
المحسوسة. ولا استغراب في أحكام العقل بالفطرة أو بالبرهان. [١٢ ظ]
تذييل
(١٧ ـ مناط علاقة المفارق مع الزّمانيّ)
من المنصرح : أنّ
علاقة المفارق المحض مع الهويّة المتزمّنة بالمعيّة في التّحقّق إنّما مناطها أنّ
وعاء صرف التّقرّر والوجود يجمعهما ، لا أنّ تلك الهويّة المتزمّنة واقعة في زمان
وفي زمان ما بعينه ، إذ ليس بذلك الاعتبار بينها وبين النّور المفارق معيّة ولا تقدّم ولا تأخّر ، إذ
ليس يتصوّر أنّ يجمعها افق الزّمان أصلا.
فإذن مهما حكم على
شيء من المتمتّيات والمفارق المطلق بالمعيّة أو القبليّة ، وجب أنّ يعتبر وجود
المتمتّى بما هو وجود واقع في الدّهر ، لا بما هو وجود زمانيّ متمّت متغيّر في افق
الزّمان ، أي : بحسب خصوصيّة هويّته باعتبار التّزمّن.
وهذا ، كما إذا
اتّفق لأحدنا أنّ يكون مع متمكّن ما في دار ، فإنّه حينئذ كان مع كلّ جزء من أجزاء
ذلك المتمكّن في تلك الدّار ، من حيث إنّ تلك الدّار تجمعه وذلك الجزء ، لا من حيث
إنّ ذلك الجزء بخصوص هويّته متخصّص بحدّ ما بعينه من حدود ذلك المتمكّن ومن حدود
مكانه. فبحسب هذه الحيثيّة بخصوصها ليس يعقل أن يحكم بالاجتماع في تلك الدّار أو
بالافتراق في دارين. فهي بخصوصيّتها ملغاة في الحكمين جميعا.
__________________
السّقاية الثّانية
فيها طائفة من شئون شعوب الحوادث بحسب أحكام أنحاء الحدوث
ثمّ سياق التّبيان على نمط آخر
إيماض
(١ ـ أنواع السّبق الباقية)
قد أسلفنا اثنين
من أنواع السّبق السّبعة. والخمسة الباقية : ما في «المرتبة» باعتبار كون الشّيء
هو المبدأ المحدود أو أقرب إليه في النّسبة ويكون في العقليّات وفي الوضعيّات ،
وبحسب الطبع [١٣ ب] ، وبحسب الاتّفاق ، وبحسب الأحرى. وما في الفضل والشّرف ، وما
فيه السّبق فيه هو نفس المعنى المجعول ، كالمبدإ المحدود ، لا التّرتيب بحسب القرب
والبعد منه. وهذه الأنواع الأربعة ليست بحسب علاقة التّوقّف والافتياق. وما
بالماهيّة ، وهو الّذي في مرتبة التّقرّر ، بحسب قوام سنخ جوهر الماهيّة ، مع عزل
النّظر عن مرتبة الوجود العارض المنتزع أخيرا ، وهو من حيّز الجعل البسيط
المستتبع. وما بالطّبع في مرتبة الوجود المنتزع عن نفس ذات الماهيّة ، وهو من حيّز
الجعل المؤلّف التّابع. وما بالعليّة ، وهو الّذي في استحقاق حصول التّجوهر
والوجود ووجوبهما بالفعل. وهذه الأنواع الثّلاثة من جهة التّوقّف والافتياق ،
ويجمعها السّبق بالذّات.
فما بالماهيّة ،
وما بالطّبع إنّما يلزمهما التّرتّب العقلىّ لإحدى الذّاتين على الأخرى في قوام
جوهر الماهيّة وفي الوجود. وأما التّعاكس أو اللّاتعاكس في اللزوم فخارج عمّا
يستوجبه طباعهما ، بل ربّما يعرض لخصوصيّات زائدة ، كما في الفصل والعلّة
الصّوريّة ، أو في الطّبيعة الجنسيّة والعلّة الماديّة.
فأما العلّىّ ،
فإذ هو تقدّم الموجب التّامّ على ما يمتنع أن يتخلّف عنه في الوجود ،
فهو تقدّم في وجوب
الوجود وحصوله الّذي هو بالفعل بتّة. وهذا شرح قولهم : «إنّ المعنى الّذي فيه
السّبق فيه هو الوجود بحسب وصفه الّذي هو الوجوب لا بحسب نفسه». طباعه ففى استيجاب
أن يتكافأ المتقدّم والمتأخّر في اللزوم ، فلا محالة يجب أن يكونا معا. إما في
الزّمان إذا كانا زمانيّين ، أو في الدّهر إذا كان المتقدّم غير زمانيّ.
فهذا التّقدّم إما
مع المعيّة الزّمانيّة ، أو مع المعيّة الدّهريّة ، والمتأخّر مع المتقدّم ، وبه
في الزّمان أو في الدّهر ، إذ منه [١٤ ظ] يصل الحصول الّذي هو بالفعل إليه ،
والمتقدّم معه لا به ، إذ ليس ذلك منه يصل إليه. وكذلك الأمر في رفعه بالنّسبة إلى
رفعه.
إيماض
(٢ ـ سبق الماهيّة على الوجود وسبق جاعل الماهيّة)
سبق مرتبة
التّقرّر ، أعنى قوام جوهر الماهيّة ، على الوجود المنتزع العارض ، سبق بالماهيّة
فقط. ولجوهريّات الماهيّة عليها سبقان بالماهيّة وبالطّبع من تلقاء حكم الجزئيّة
في ظرف الخلط والعرى (التعرية ب) الّذي هو لحاظ التعيّن والإبهام ، والفحص هناك
غامض ؛ ولجاعلها التّامّ سبق بالماهيّة وسبق بالعليّة والوجود ، ولوازم الماهيّة على الاصطلاح الصّناعىّ وسائر العوارض بحسب مرتبة
التقرّر ، كالإ
__________________
مكان ، والوجوب
السّابق بالنّسبة إلى اللّواحق بحسب الوجود من حيّز السّبق بالماهيّة. فحال الشّيء
بحسب جوهر ذاته أقدم ممّا يلحقه بغيره وما عروضه لمرتبة الذّات ممّا لحوقه في
مرتبة متأخّرة.
إيماض
(٣ ـ الحقيقة الإمكانيّة حيّز القوّة المحضة)
هل بلغك ما بيّنا
في «الافق المبين» : أنّ الإمكان اعتبار سلبىّ في نفس الماهيّة المتقرّرة ، فهو
بالقوّة أشبه منه بالعدم ، وحقيقته سلب بسيط لضرورة طرفي تقرّر الذّات المتقرّرة ولا تقرّرها بحسب نفس
جوهر الذّات ، لا إيجاب لذلك السّلب ، فهو يصدق في مرتبة الذّات بما هي هي. ومطابق الحكم ومصداقه ليس حيثيّة نفس
__________________
الذّات بما هي هي ، ولا اقتضاء من تلقائها لذلك ، بل مصداق السّلب
التّحصيليّ في تلك المرتبة عدم اقتضاء من تلقاء جوهر الذّات للضّرورة المسلوبة.
فالتقرّر والبطلان
بالفعل كلاهما مسلوبان في تلك المرتبة. وإنّما الصادق سلب كلّ منهما سلبا بسيطا ،
وليس في ذلك استيجاب كذب النّقيضين في تلك المرتبة. أليس نقيض [١٤ ب] التّقرّر في
تلك المرتبة سلب التّقرّر في تلك المرتبة على أن يكون القيد للتقرّر المسلوب على
سبيل نفي المقيّد ، لا السّلب على سنّة النفى المقيّد.
فإذن ، للمعلول في
نفسه أن يكون ليس ، ليسا مطلقا ، وله عن علّته أن يكون أيس ، فسلب الطّرفين ، سلبا
بسيطا ، هو حال الذّات في حدّ جوهرها ، والأيس بالفعل حالها بحسب الاستناد إلى
الغير ، فهو لا محالة سابق عليه ما دامت الذّات متقرّرة ، سبقا بالذّات.
فتلك المسبوقيّة
بالذّات هي الحدوث الذّاتيّ ، وبحسبه الذّات المتقرّرة ما دام تقرّرها من تلقاء
إفاضة الجاعل لا يستطيع العقل أن يلحظها إلّا مختصّة بالهلاك والبطلان ، أي : السّلب
الصّرف واللّيس المطلق باعتبار نفس جوهرها أبدا ، فهل الحقيقة الجوازيّة إلّا حيّز
القوّة المحضة ووطن الفاقة المطلقة ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص ، ٨٨).
__________________
إيماض
(٤ ـ المعلول له مرتبة القوّة والفعليّة)
فإذن ، ما مع
مرتبة ذات العلّة المتقدّمة هي ذات المعلول بما هي هالكة ، أي : هي بما هي هي ،
وما متأخّر عنها تأخّرا ذاتيّا ومعها معيّة زمانيّة أو دهريّة هي ذاته بما لها
الفعليّة، فكلّ موجود عن غيره لو انفرد لا يكون له وجود ، لا به معنى العدول
البتّة ، بل به معنى السّلب.
فالانفراد بحسب
لحاظ العقل : إما بأن يلحظ عدم الغير ، فيكون له أيضا بذلك الاعتبار العدم بتّة أو
بأن يكون الملحوظ هو بما هو هو مع عدم اعتبار الانفراد واللّاانفراد أصلا. فيقتضى
ذلك تجريده عن الوجود والعدم وعن استحقاقهما جميعا ، فكما يصدق لا استحقاق الوجود
بحسب ذلك الاعتبار يصدق اللّاوجود بمعنى السّلب البسيط بتّة. وأما بحسب الخارج فلا
يتصوّر الانفراد إلّا بعدم الغير ، ولا يكون له بحسب ذلك إلّا استحقاق العدم
بخصوصه.
إيماض
(٥ ـ الحدوث تدريجيّ ودفعيّ وزمانيّ)
الحدوث الزّمانيّ [١٥
ظ] بيّن الثبوت بمشاهدة الحوادث الكونيّة في افق التّقضّي والتّجدّد من بعد لا
كونها بعديّة زمانيّة. وأنواعه ثلاثة : «تدريجىّ» ، وهو وجود الشّيء بتمامه في
زمان ما محدود من جهة البداية على سبيل الانطباق عليه ، ولا يوصف به
__________________
إلّا الحركة
القطعيّة الحادثة وما حصوله بها على الجهة الانطباقيّة. و «دفعىّ» ، وهو أن يتخصّص
أوّل وجود الشّيء بتمامه بآن ما بعينه ، فإن استمرّ بعده كان من الزّمانيّات
المستمرة ، وإلّا كان من الآنيّات ، كموافاة الحدود المنفرضة في المسافة ما دامت
الحركة. و «زمانيّ» ، لا على التّدريج ولا على الدّفعيّة ، بل في نفس الزّمان على
غير الجهة الانطباقيّة. وحقيقته أن يوجد الشّيء بتمامه في زمان بعينه مقطوع من جهة
البداية ، متخصّصا به لا على سبيل الانطباق عليه ، بل على أن لا يمكن أن يوجد أو
يفرض في ذلك الزّمان جزء أو آن إلّا وذلك الشّيء بتمامه حاصل فيه.
ولا يصحّ أنّ
يتوهّم آن لابتداء الحصول أصلا ، لا الطّرف ولا من الّتي تنفرض بعد الطّرف وموصوفه
الحركات التّوسّطية الحادثة ، وما حصوله وحدوثه بها ، لا بقدر ما معيّن من الحركة
القطعيّة أصلا. كزاوية الخطّين المنطبق أحدهما على الآخر إذا افترقا مع التقاء
الطرفين. أليست الحركة التّوسّطيّة موجودة ولا حصول لها في الآن الذي هو نهاية
زمان السّكون وبداية زمان الحركة القطعيّة بتّة.
فالشّيء فيه على
مبدأ المسافة ، لا متوسّط بين المبدأ والمنتهى ، ولا في آن يشافعه. فمشافعة
الأطراف مستبينة الامتناع : بإثبات الاتّصال وإبطال جزء لا يتجزّى ، وبأنه لو
تشافع طرفان استوجب أنّ ينقسم كلّ منهما. فلو تصوّر لها أوّل آنات الحصول ، كان لا
محالة بعد الآن الطرف بزمان ما ، فيكون هو ذيل زمان السّكون ، لا صدر زمان الحركة
قطعا ، وذلك خرق [١٦ ظ] الفرض. فإذن ، قد تحقّقت الواسطة واستبان تثليث القسمة.
إيماض
(٦ ـ الحركة التّوسّطيّة والحركة القطعيّة)
به مثل البيان ذا
، يستبين أنّ الحركة التّوسّطيّة ، وكذلك ما بها يستتبّ حصوله ، كما ليس يتصوّر
لها آن ابتداء الحصول ، فكذلك ليس يصحّ أنّ يتوهّم لها آخر آنات الحصول أيضا ، بل
إنّما متخصّصة الوجود بزمان الحركة القطعيّة الّذي هو بين الآنين الطّرفين ،
البداية والنّهاية ، على أن تحصل في كلّ جزء من أجزائه أو آن من آناته الموهومة ما
عدا الطّرفين ، حصولا قائما تامّا. فلا جرم ليس يمكن أن يتوهّم فيه آن
ما ، إلّا وهي
بتمام ذاتها حاصلة في ذلك الآن وقبله وبعده أيضا بتّة. وأوّل آنات عدمها اللّاحق
آن النّهاية المنطبق على منتهى المسافة ، كما كان آخر آنات عدمها السّابق آن
البداية المنطبق على مبدأها.
تنظير
(٧ ـ الحاصل في الزّمان لحصوله أوّل وآخر)
هل بلغك قولهم : «أزليّة
النّوع تنحفظ بتسابق أشخاصه ، لا إلى بداية ولا إلى نهاية». فكلّ من الأفراد
المتسابقة إلى لا نهاية حادث ، والنّوع المرسل منحفظ القدم في تسابقاتها
وتعاقباتها أبدا. فكذلك أمر هذه الواسطة بالقياس إلى زمان حصولها فقط ، فهي منحفظة
الحصول في ذلك الزّمان بعينه بتسابق الآنات الممكنة الانفراض فيه ، وتعاقبها في
التّوهّم لا إلى نهاية أخيرة وفعليّة حصولها بتمامها في كلّ آن آن. فكلّ ما يعتلق
في الحصول بشيء من تلك الآنات بخصوصه ، كموافاة الحدود الموهومة في المسافة.
فلحصوله أوّل وآخر في ذلك الزّمان. وأما ما ليس كذلك ، فإنّه محفوظ الحصول في
امتداد ذلك وآناته الوهميّة وليس لحصوله أوّل وآخر فيه أصلا.
إيماض
(٨ ـ الحدوث الزّمانيّ وقسمته ...)
إنّ القسمة
متأتّية أيضا في مقابل الحدوث الزّمانيّ ، أعنى استيعاب وجود الشّيء الزّمانيّ
جملة افق التّقضّي والتّجدّد. أليس ما يستوعب وجوده جملة الأزمنة :
منه ما له هويّة
اتصاليّة يمتنع بالنّظر إلى ذاته (١٦ ب) أن يكون ظرف وجوده إلّا الزّمان الممتدّ
على الجهة الانطباقيّة ، كالحركات القطعيّة للأفلاك. فهي إنّما توجد في جملة
امتداد الزّمان على تلك الجهة.
ومنه : ما ليس ذا
هويّة اتّصاليّة بحسب نفسه ، ولكنّه في نفسه بحيث لا يتهيّأ له أن يعرى عن ملابسة
الحركة المتّصلة ومقارنتها في الوجود وعن عروض نسبة متقدّرة غير مستقرة له إلى
أمور غيره. فيجب بالنّظر إليه أن يكون ظرف وجوده الزّمان ، ولكن لا على النّحو
الانطباقىّ ، بل على شاكلة عرّفناكها ، كالحركات التّوسّطيّة
الأفلاكيّة ، فهي
إنّما توجد في جميع الأزمنة على تلك الشّاكلة.
ومنه : ما هو خارج
عن السّبيلين ، وهو من الموجودات الزّمانيّة الحاصلة في كلّ آن وزمان.
فبالجملة ، إنّما
القسمة في الموجود الزّمانيّ الوحدانيّ التّشخّص والوجود ، بحسب كونه ذا هويّة
اتّصاليّة بحسب نفسه أو لا ، ولكنّه غير ممكن بحسب ذاته أن يكون عروا عن مقارنة ما
له تلك في الوجود ، وظرف حصول هذين هو الزّمان ، ولكن على ضربين مختلفين، أو خارجا
عن ذلك مطلقا.
ويصحّ أن يقال :
ظرف حصوله الآن والزّمان جميعا إذا كان مستمرّ الحصول ، أو الآن فقط إذا كان من
الآنيّات ، ولا مدخل لكون الحصول متخصّصا بطائفة من الأزمنة والآنات ، أو مستوعبا
للجميع في التقسيم ، بل هو جار فيها. والحدوث الزّمانيّ ليس يستوجب أن يكون لأوّل
الحصول آن ، بل هو أعمّ من ذلك.
إيماض
(٩ ـ العدم الزّمانيّ قبل الوجود وبعد الوجود)
إنّ من العدمات
الزّمانيّة الّتي هي قبل زمان الوجود : ما له آخر الآنات ، ومنها : ما ليس لآخره
آن أصلا. وكذلك من العدمات الّتي هي بعد زمان الوجود : ما له آن الابتداء ، ومنها
: ما ليس لأوّله آن أصلا.
فكلّ ما ليس له
أوّل آنات الحصول ، وهو حادث زمانيّ ، فله آخر آنات العدم السّابق. وكلّ ما لآنات
حصوله أوّل فليس لآنات عدمه السّابق آخر ، بل إنّه منتف [١٥ ظ] في كلّ آن هو قبل
أوّل آنات الحصول بتّة. وكذلك كلّ ما ليس له آخر آنات الحصول، وهو منبتّ الوجود.
فله أوّل آنات العدم اللّاحق. وكلّ ما لآنات حصوله آخر ، فليس لآنات عدمه اللّاحق
أوّل ، بل إنّه منتف في جميع الزّمان الّذي بعد آخر آنات الحصول ، وفي كلّ آن من
آناته.
والآن نفسه فصل
مشترك بين زماني عدمه السّابق واللّاحق ، وليس لعدمه السّابق آخر آنيّ. ولا لعدمه
اللّاحق أوّل كذلك ، بل إنّما عدمه في جميع الزّمان الّذي بعده وفي كلّ جزء وحدّ
منه ، وليس يستوجب إلّا عبور زمان ما غير متعيّن الامتداد.
وليعتبر من
النّقطة ، فإنّها موجودة طرفا للخطّ ، وليس لها وجود في نفس الخطّ المتّصل ، ولا
يتلوها نقطة منها يبتدأ عدمها. فالحكم بوجود النّقطة هناك يصدق على طرق الخطّ
المتّصل لا على نفسه ، والحكم بعدمها هناك يصدق على نفسه ، لا على طرفه. وليس يلزم
أن يكون له طرف آخر غير النّقطة يصدق عليه الحكم بأنّها ليست بموجودة هناك. وكذلك
شاكلة الامور الآنيّة الوجود من غير استمرار. وأما الحركة القطعيّة المتّصلة ،
فمختصّة الحصول بزمان وجودها منطبقة عليه ومنتفية التّحقّق في سائر الأزمنة. وأما
حصولها في الآن فغير متصوّر أصلا.
إحصاء
(١٠ ـ الحركة القطعيّة والآنيّة والتّوسّطيّة)
يقع ، في النّوع
الأوّل ، الحركات القطعيّة ومقاديرها من الأزمنة وما يضاهيها من الهيئات الغير
القارّة ، وبالجملة كلّ ما حصوله بالانطباق على الحركة المتّصلة.
وفي الثّاني ،
الآنيّات ، كالوصولات إلى حدود المسافة والوصول إلى ما إليه الحركة والتّربيع
والتّماسّ وانطباق إحدى الدّائرتين على الأخرى أو أحد الخطّين على الآخر ، والكون
، وكلّ ما له آن ابتداء الحصول وإن استمرّ زمانا وعدم الحركة التّوسّطيّة ، بل كلّ
ما ليس له آخر آنات الوجود. فهذه أمور تحقّق بانقضاء الحركة المتّصلة لا [١٥ ب]
بالانطباق عليها.
وفي الثّالث ،
الحركات التّوسّطيّة وحدوث الزّاوية بالحركة ، كزاوية المسامتة وما في مضاهاتها
وافتراق الخطّين أو السّطحين المنطبق أحدهما على الآخر أو تقاطعهما واللّاوصول
واللّامماسّة والفساد ، أي : انتفاء ما لكونه آخر آنات الفعليّة وعدم الآن
والآنيّات. وبالجملة ، كلّ ما حصوله بالحركة التّوسّطيّة ، وليس يستدعى قدرا
معيّنا من الحركة المتّصلة أصلا ، بل إنّما مطلق الحركة على أيّ قدر كان ، ليحصل
في كلّ جزء وحدّ من زمان ها.
تنبيه
(١١ ـ حلّ عقدة الشّكوك والإعضالات)
لعلّ هذه الأصول
مهما استتقنتها تنبّهك على حلّ العقدة في عدّة شكوك وإعضالات مستصعبة. منها : شكّ
الحركة في إثبات جزء لا يتجزّى. ومنها : التّشكيكات في وجود الحركة القطعيّة.
ومنها : إعضال طلوع نصف منطقة البروج مع نقطة من معدّل النّهار في افق يساوى عرضه
تمام الميل الأعظم ، مع أنّه لا يكون إلّا بالحركة. ومنها : إعضال طفرة الزّاوية
ببلوغ المنفرجة قبل القائمة. ومنها : إعضال الدّحرجة. ومنها : إعضال المسامتة في
برهان تناهي الأبعاد. ومنها : شكّ زوال انطباق السّطحين دفعة في إثبات الخلأ. وفي
مباحث غامضة تعضيلات عويصة يستعان في فكّها بتلك الاصول.
إيماض
(١٢ ـ الحدوث الزّمانيّ والحدوث الدّهريّ)
كأنّه قد آن لك أن
تشعر أنّ الحدوث الزّمانيّ ليس بما هو حدوث زمانيّ مبدأ استيجاب سبق العدم بحسب
الواقع. أليس مفهومه اختصاص الوجود بزمان ما أو آن ما. وذلك ليس يصادم الوجود في
الدّهر والواقع ، بل أخصّ منه حملا وتحقّقا. فإنّما العدم في الدّهر ببطلان
التّقرّر مطلقا في أيّ وعاء فرض ، لا باختصاصه ببعض الأزمنة. إذ من المستبين أنّ
التّقرّر المختصّ بشيء من الأزمنة تقرّر في الواقع وإن اتّفق أن [١٦ ظ] وقع في ذلك
الزّمان بخصوصه ، فليس يتصوّر اختصاص الدّهر والواقع بزمان دون زمان ، أو بجملة
الأزمنة ، على ما تعرّفت من قبل ، فاختصاص الوجود بزمان إنّما في طباعه استيجاب
العدم في سائر الأزمنة غير زمان الوجود ، وهو أعمّ من العدم في الدّهر والواقع.
فإذن لو لم يكن
للحادث الزّمانيّ حدوث دهريّ أيضا ، لم يكن حادثا بحسب الواقع ، بل كان سرمديّ
التقرّر في وعاء الدّهر وإن كان ذلك بوجوده في زمان ما بخصوصه ، كما أنّ العدم
الطارئ على المنجّز الوجود في افق الزّمان متأخر عن الوجود بالزّمان ومتخصّص
بالزّمان الّذي بعد زمان الوجود ، وليس يصادم ذلك أزليّته بحسب الواقع وفي وعاء
الدّهر بما هو عدم وانتفاء.
ولعلّ من
الفطريّات : أنّ الحوادث الزّمانيّة إنّما تكون بعد أن لم تكن
بحسب الواقع. ومن
على سنّة الطباع الإنسانيّ يأبى أن يستصحّ وجودها ، لا على المسبوقيّة بالعدم في
الواقع. فإذن قد ثبت الحدوث الدّهريّ وبزغ أنّ كلّ حادث زمانيّ فإنّه حادث دهريّ
أيضا بتّة وإلّا لم يكن حادثا أصلا.
تشريق
(١٣ ـ الحدوث الزّمانيّ والتّزمّن)
المعنى المعبّر
عنه بالحدوث الزّمانيّ ينحلّ عند العقل إلى مفهومين : الحدوث والتّزمّن. فالحدوث
هو كون الوجود مسبوقا بالعدم في الواقع ، والتّزمّن هو كونه متخصّصا بالوقوع في
شيء من الزّمان. فمن ذلك ، لا من صرف طباع الحدوث ، يلزم أن يكون الوجود المسبوق
بالعدم في وعاء الدّهر والواقع مختصّا بزمان ما.
فإذن للحادث
الزّمانيّ مسبوقيّة بالعدم الصريح بحسب الواقع ، وعدم مستمرّ في سائر الأزمنة إلّا
زمان الوجود ، ووجود في وعاء الدّهر بعد العدم الدّهريّ ، ووجود في افق الزّمان
بعد الأزمنة السّابقة على زمان الوجود. وهذان معنيان مختلفان يعبّر عن أحدهما
بالحدوث الدّهريّ ، وعن الآخر بالحدوث الزّمانيّ [١٦ ب]. والوجود الّذي للحادث في
زمان وجوده وجود في وعاء الدّهر وفي افق الزّمان باعتبارين.
تشريق
(١٤ ـ الحدوث الدّهريّ والحادثات)
إنى أظنّك ، الآن
، مستشعرا : أنّ الحدوث الزّمانيّ بما هو حدوث زمانيّ ليس البتة يستوجب تخلّف
موصوفه وتأخّره تأخّرا زمانيّا إلّا عمّا قد حفّه افق الزّمان حفّا. أليس هو إنّما
يستوجب التّخلّف في الوجود عمّا قد تخلّل بينه وبينه زمان ما أو آن ما. وأمّا من
يتعالى عن غواشى التّزمّن ويستحيل بالنّسبة إليه ذلك ، فليس يتخلّف عنه الشّيء
بحسب كونه حادثا زمانيّا ، إذ هو متخصّص الوجود بزمان ما بخصوصه. وقاطبة الأزمنة
بالقياس إلى حضرته على سنّة متّفقة وفي موطئ واحد. فالحادث بما له الحدوث
الزّمانيّ لا يتخلّف عن القيّوم الواجب بالذات ، عزّ اسمه ، بل إنّ ما يستوجب
التّأخّر عنه في الوجود ليس إلّا الحدوث الدّهريّ. فالأوّل الحقّ والحادث
الهالك الفائض منه
داخلان في الوجود.
فإذا كان الحادث
داخلا في الوجود بعد لا دخوله فيه ، والأوّل الحقّ يتعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، إذ
هو صرف الوجود السّرمديّ ، كان لا محالة متأخّرا عنه بالوجود في الأعيان. وحيث
إنّه ، سبحانه وتعالى ، يتقدّس عن الدّخول في الزّمان والمكان ، ليس وقوع الشّيء
في زمان ما أو مكان ما مناط تأخّره عنه ، سبحانه ، أصلا. فإذن ، لو لم يكن الحادث
الزّمانيّ حادثا دهريّا أيضا ، لم يكن في الوجود متأخّرا عنه ، تعالى بتّة ، وذلك
خلف باطل. فإذن ، قد استقرّ ثبوت الحدوث الدّهريّ واقترّ مقرّه.
تتمّة
(١٥ ـ الكائن والمبدع وحدوثهما)
تواطأت الفلاسفة
على الفرق بين الكائن والمبدع ، بأنّ المبدع إنّما يتأخّر عن ذات المبدع الحقّ في
لحاظ العقل تأخّرا بالذّات ، لا غير ، والكائن يتأخّر عنه في الأعيان بالوجود بعد
وجوده بعديّة يتخلّف بحسبها البعد عن [١٧ ظ] القبل في الأعيان. وقد أدريناك : أنّ
الحدوث الزّمانيّ ليس يوجب التّخلّف في الوجود إلّا عن متزمّن آخر ، لا عمّن يرتفع
عن افق الزّمان والمكان.
فإذن ، لو كان
الكائن حادثا زمانيّا فحسب ، لا دهريّا أيضا ، لم يكن ينفصل في ذلك الحكم عن
المبدع ، بل إنّما يكون تأخّره كالمبدع عن نفس ذات الجاعل الحقّ في لحاظ العقل
تأخّرا بالذّات فقط ، لا عن وجوده في الأعيان ، من جهة التّخلّف ؛ وتقدّمه ، جلّ
ذكره ، عليه ، كعلى المبدع ، تقدّما بالذّات مع المعيّة في الوجود لا غير. وفي ذلك
فوق بطلانه في نفسه شقّ عصاهم وخرق إجماعهم.
استشراق
(١٦ ـ جود المفيض الحقّ والماهيّة الجوازيّة)
ثمّ أو ليست
الماهيّة الغريزة الخيريّة المتقرّرة في متن الأعيان ولكن إنّما بعد البطلان
الباتّ والعدم الصريح ضربا نابها من الخيرات الإمكانيّة ومرتبة نبيهة من الحقائق
الجوازيّة؟ فكيف يستسوغ العقل أن يهملها جود المفيض الحقّ ويذر عنها صفرا
جملة النظام
التّامّ الفاضل؟ وهذا مسلك مستفيض للبرهان ، ناهض في مراتب الخيرات في نظام الوجود
، وإن لم يكن ينتهض في خصوصيّات الهويّات في عالم الطّبيعة. فإذن ، قد استتب الأمر
في الحدوث الدّهريّ. وبمثله من القول يستتمّ أيضا ما يستبين في الإيماضات العاقبة.
إيماض
(١٧ ـ الحادث إمكانه علّة لفاقته)
أما أنت ممّن
يتفقّه أنّ وجوب التقرّر أو امتناعه بالنّظر إلى ذات الجاعل بالذّات مقتض تامّ
للاستغناء عن العلّة رأسا ، وكلّ علّة لشيء فانتفاؤها موجب تامّ لانتفائه. فإذن ،
لا ضرورة طرفي التقرّر واللّاتقرّر بالنّظر إلى نفس الذّات بالذّات تستبدّ بالعلية
للافتياق إلى العلّة في فعليّة أحد الطّرفين. فالإمكان علة تامة للفاقة ، ولا حظّ
للحدوث شطريّة ولا شرطيّة أصلا.
إيماض
(١٨ ـ المحدث مسبوق الوجود بالعدم وهو لازمه)
اعملن أنّ كون
المحدث مسبوقا ، البتّة ، وجوده بالعدم ، ليس إلّا من لوازم ذاته المستندة إلى نفس
هويّته لا غير ، على شاكلة لوازم الماهيّة المقتضاة لنفس جوهرها المتقرّرة ، لا
بمدخليّة ما لأمر وراء نفس الماهيّة أصلا ، اللهمّ إلّا بالعرض. فهناك بطلان قبل ،
وتقرّر بعد ، وصفة محمولة على الذّات ، وهي كونها بعد البطلان. فالبطلان القبل من
عدم العلّة ، والتّقرّر البعد من إفاضة الجاعل ، وكون الذّات المتقرّرة من بعد
البطلان إنّما هو من تلقاء جوهر الذّات بنفس هويّتها
ويتبرهن : من أنّه
ليس من الأوصاف الجائزة بالنّظر إلى الذّات بما هي تلك الذّات ، بل هو وصف واجب
لها [١٧ ب] بما هي تلك في نفس الأمر بتّة. أليس الوصف الجائز إنّما يصحّ أن يلحق
الذّات الفائضة عن جاعلها بعلّة أخرى غير الذّات وغير علّة الذّات ، فهى في ذاتها
خلو منه عند الفيضان وبعده إلى قيام العلّة المتأخّرة.
فإذا كان من
الأوصاف الجائزة لها : فنفس الذّات : أهي بما هي تلك وليست يلزمها
أن يعتريها ذلك
الوصف هويّة جوازيّة غير ضروريّة التقرّر واللّاتقرّر ، وذلك ، فحسب ، مناط
التّعلّق بالعلّة ، فتكون بما هي تلك صادرة عن علّتها. وليس يكتنفها الحدوث ولا
يتعلّق هويّة واحدة إلّا بعلّة واحدة بعينها ، لا غير أصلا. فإذا تحقّقت تحقّقت
غير مخلوطة بالحدوث ، بل دائمة التقرّر ، لانتفاء الواسطة. ثمّ الحدوث يلحقها
بعلّة أخرى ، وهو متهافت. أم هي بحسب نفسها ضروريّة أحد الطرفين ، وإنّما جوازها
بحسب الاتّصاف بذلك الوصف ، فلا يصحّ إسناد نفس ذاتها إلى العلّة في فعليّة أحد
الطّرفين ، بل إنّما في حصول الوصف فقط ، فتكون واجبة الوجود أو العدم بذاتها
واقعة بعد العدم بعلّة ، وهو فاسد.
ثمّ إنّها بحسب
ذاتها جائزة الانسلاخ عن الوصف في نفس الأمر ، وهي بعينها. فيصحّ أن تدوم متسرمدة
بنفسها ، ثمّ يلحقها الحدوث بعلّة فيعود التّهافت أيضا. وأيضا من المستبين أنه لو
تسرمد المحدث لم يكن وجوده الأزليّ هو بعينه هذا الكائن بعد العدم. فإذن قد امتنع
بالنّظر إلى هذا الوجود بعينه إلّا أن يكون بعد العدم ، فكان هذا الوصف له بنفسه
لا بعلّة ، وإنّما من تلقاء العلّة نفسه ، لا حصول (ثبوت ، ل) هذا الوصف له. فإذن
قد انصرح أنّ صنع الفاعل نفس الذّات ، ثمّ هي بنفسها موصوفة بهذا الوصف ، كما [١٨
ظ] الجسم بالقياس إلى لزوم الانقطاع.
وزور أن يقال :
إنّ شيئا ما جعل الذّات بحيث لا يتجوهر إلّا بعد البطلان ، فهذا غير مقدور عليه ،
لأنّه واجب بالضّرورة الذّاتيّة. ولو كانت الحوادث تامّة القوّة على قبول التأيّس
دائما ، لفاضت عن فاعلها على الدّوام ، لكنّ التّقرّر لا بعد البطلان ممتنع
بالقياس إلى استحقاق جوهرها بتّة. وهذا الأصل مستغرق الشّمول لأنحاء الحدوث
الزّمانيّ والدّهريّ والذّاتيّ جميعا.
والغاغة من
الجماهير يخالفون أبناء الحقيقة ويسندون الاتّصاف بوصف الحدوث أيضا إلى علّة
الذّات المحدثة ، لا إلى اقتضاء نفس الذّات ، وإنّ ذلك لمّا قد عضّل الأمر عليهم
في حدوث العالم ، بل حدوث شيء ما منه ، أيّ شيء كان.
إيماض
(١٩ ـ الحادث متعلّق بالعلّة حدوثا وبقاء)
فإذن ، ليس من شرط
تعلّق الشّيء بالعلّة أن يكون وجوده من بعد العدم ، بل أن لا يكون هو ومقابلة
ضروريّا له بذاته. فكما الممكن الموقّت بزمان ما يستند إلى الفاعل ، فكذلك
المستوعب لقاطبة الأزمنة. وكما الحادث الدّهريّ صنع الجاعل ، فكذلك الممكن لو صحّ
أن يسترمد أزلا ، على ما قد اختلقته متهوّسة الفلاسفة ، لكنّ الفحص الغائر قد
أحاله ، وكما أنّ المعلول يتعلّق في حدوثه بالعلّة ، فكذلك في بقائه في الدّهر أو
في الزّمان.
أليس الواجب لا
بذاته ، بل بالغير ، أعمّ في نفسه بحسب المفهوم من الواجب بالغير بعد العدم ، أو لا
بعده ومن الواجب بالغير في ابتداء الحصول فقط أو في البقاء أيضا بقاء دهريّا أو
استمراريّا. والتعلّق بالغير يحمل عليه وعلى كلّ منها جميعا. وما يحمل على معنيين
مترتّبين بالأعميّة والأخصيّة مفهوما ، فإنّه يلحق الأعمّ بذاته أوّلا ثمّ الأخصّ
بعده وبسببه ، إذ هو ليس يلحق الأخصّ إلّا وقد لحق الأعمّ ، وربّما يلحق الأعمّ من
دون الأخصّ ولو كان لحوقه للأخصّ بذاته بحيث يكون للخصوصيّة بعينها حظّ من مصححيّة
اللحوق ومدخل في مناطيّته ، لما [١٨ ب] صحّ أن يلحق غيره أصلا ، فينخرق الفرض ،
فإذن ليس لحوقه بالذّات إلّا للقدر المشترك.
ومن العجب : أنّ
مستنكرة هذه القوانين يساعدون على إسناد العدم إلى العلّة ، من غير اشتراط الحدوث
، مع أنّ نسبة الطّرفين إلى الماهيّات الجوازيّة على شاكلة الاستواء.
إيماض
(٢٠ ـ طباع المجعولية للحادث)
كما أنّ طباع
المجعولية لا يستوجب أن يكون بعد اللّامجعولية وعلى التّوقيت بشطر بعينه من
الزّمان ، فكذلك طباع الجعل ليس يستدعى أن يكون بعد اللّاجعل وعلى التأقيت. فكما
الذّات المجعولة غير حدوث الذّات ، فكذلك الجعل غير ابتداء الجعل والاسم، كالفعل
والجعل والصنع للطباع المشترك ، بل كلما كان التأثير أدوم وأبقى كان الفاعل أفعل
وأصنع.
وكون الفاعل
مختارا ، ليس يستوجب السبق الزّمانىّ أو الدّهريّ البتّة ، بل إنّما تقدّم الإرادة
تقدّما بالذّات ، والإيجاد إنّما هو حالة الوجود ، ولكنّ للذات المرسلة لا بشرط
الوجود والعدم ، وإنّما تحصيل الحاصل الباقى بنفس التّحصيل الأوّل لا
بتحصيل مستأنف ،
ولو استغنى الباقى لا نسلخ عن طباع الإمكان ، وهو مستحيل.
إيماض
(٢١ ـ الحدوث لازم الذّات والبقاء لاحق)
فإذن ، ليس يتّزن
بميزان الحقيقة إلّا أنّ التأثير في نفس الذّات ، لا في وصفي الحدوث والبقاء ، بل
الحدوث لازم جوهر الذّات بما هي الذّات ، والبقاء لاحق يلزم الذّات المستبقاة من
جهة دوام الإفاضة واتّصال التأثير ، وإذ الزّمان كم متصل فالزمانىّ المستمرّ إنّما
يستبقيه الفاعل بأن يفعل ذاته في جملة زمانه الشخصىّ المتّصل مرّة واحدة بإفاضة
واحدة.
ثمّ إذا حلّله
الذّهن إلى أزمنة أو انتزع منه آنات ، كانت تلك الإفاضة الواحدة بعينها مستمرّة
الذّات الشخصيّة ، متكثرة النسب العارضة بحسب الإضافات إلى تلك الأحيان المتكثرة ،
فهذا سبيل استحفاظ [١٩ ظ] البقاء الزّمانيّ ، وأما غاغة الجمهور ، من المتمسّكة
بحديث البناء والبنّاء ، والمنى والممني ، فغير فارقة بين جاعل الذّات وفاعل
الإنّية وبين ما يجرى مجرى المعدّات وييسر مسير الروابط.
تشريق
(٢٢ ـ البارئ الفعّال يذوّت على الاتّصال)
قد التمع لك أنّ
البارئ الفعّال يشيّء الشيء على الاستدامة ويذوّت الذّات على الاتّصال. فلو جذّ
الفيض وأمسك عن الجعل ، لانقضّ جدار العالم ، وصارت الذوات الجوازية والماهيّات
الإمكانية إلى هلاكها الذّاتي وبطلانها الأزلىّ ، فعادت دار الأيس بلقعة اللّيس ،
وارتجعت ديار الإمكان قفار البطلان ، واستردّ السلب من الثبوت واسترجع العدم من
الوجود. فسبحان من (يُمْسِكُ السَّماءَ
أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (من الحج ، ٦٥) ، (يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ
تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (من الفاطر ، ٤١).
وربّما استوضح
الأمر بما استضاء من الشمس بالمقابلة ، إذ كلّما حجب عنها زال ضوءه ، لكنّ النور
الحقّ لا يقاس بغيره ، فالأنوار المفارقة العقلية ظلمة صريحة
بالقياس إليه ،
كالسواد الصّرف عند البياض الحقّ ، إذا فرض غير متناهي البياضيّة ، فأنّى للنّور
المحسوس القائم بالجسم الدّائر والجرم الدّائب أن يكون له هناك مثل سائر وذكر
سائب.
سياقة
(٢٣ ـ كلّ حادث ذاتيّ حادث دهريّ أيضا)
ألم يأن لك ، بعد
ما تلى على سمعك ، أن يخشع قلبك لذكر الحقّ ، فيثلج سرّك بما للوجود البحت الواجب
من الاستيثار بالقدم السّرمديّ ولزمر الماهيّات بقضّها وقضيضها من الاستيعاب
بالحدوث الدّهريّ؟ أما استبان لديك : أنّ كلّ حادث زمانىّ فإنّ له حدوثا دهريّا
أيضا؟ أفيستحيل العقل ، لا بقريحة سقيمة وفطرة مئوفة ، أن يكون موقّت الحصول
بسويعات بعد قرون غير محصورة وأدوار غير محصاة مع مبدع الأزمنة والأوقات في أزليّة
التّقرّر وسرمديّة الوجود؟
وقد دريت أيضا :
أنّ طباع [١٩ ب] الحدوث الزّمانيّ ليس يستوجب سبق العدم الصّريح في وعاء الدّهر ،
ولا التعلّق بالمادّة ، والمسبوقيّة باستعدادها ممّا هو مبدأ هذا الاستيجاب. أليس
ذلك إنّما يستدعى سبق المادّة والاستعداد بالزمان ولا يصادم وجود المادّة وذي
المادّة معا في الدّهر على الدّوام الدّهريّ دون الزّمانيّ وإن كان بينهما تقدّم
وتأخّر بالطّبع.
فإذن ، ليس يصلح
لاستيجاب الحدوث الدّهريّ إلّا اعتبار الإمكان ، وهو الطباع المشترك بين جملة
الجائزات. فهو كما يوجب الحدوث الذّاتي فكذلك يستوجب الحدوث الدّهريّ. والّذي ينشأ
منه الحدوث الزّمانيّ هو التعلق بالمادّة وحركتها الاستعداديّة.
فإذن كلّ حادث
ذاتيّ فإنّه حادث دهريّ أيضا. وإنّما الفصل بين الحوادث الزّمانيّة وبين سائر
الجائزات بحسب الحدوث الزّمانيّ وعدمه لا بحسب شيء من ذينك الحدوثين.
تشريق
(٢٤ ـ الحادث الزّمانيّ يستدعى سبق العدم الزّمانيّ)
فإذ قد تعرّفت أنّ
كلّ ما يلحق عدّة خصوصيّات ، فإنّما لحوقه بالذّات للطباع المشترك وليس لخصوصية ما
منها بخصوصها من المدخليّة في ذلك أصلا ، بل الخصوصيّات بأسرها ملغاة في اقتضاء
اللّحوق بالذّات وإن اتّفق أن وقعت ملحوقا بها ؛ فاحكم أنّ الحدوث الدّهريّ من
لوازم طباع الجواز ، ولكنّ ثبوته في الحوادث الزّمانيّة من الفطريّات ، ثمّ يقتنص
بسبوغ الفحص ودقّة النظر [اللّحظ ب] أنّ ما ينشأ منه استيجابه إنّما هو طباع جواز
الذّات ، لا خصوصيّة الزّمانيّة والهيولانيّة.
فقد فقهت أنّ
التخصّص بزمان ما يستدعى سبق العدم في الأزمنة السّابقة ، لا سبق العدم الدّهريّ
ولا خصوصيّات الحقائق ، كالإنسانيّة والبياضيّة ، أو خصوصيّات الشخصيّات منها ،
فإنّه قد لحقها جميعا ، لا شيئا منها بعينه فقط ، فليس لحوقه بالذّات إلّا بالطباع
المشترك الّذي هو الجواز. فهناك يستبين استغراقه لجملة الجائرات في أقطاع عوالم
[٢٠ ظ] الإمكان وأقطارها من الطبائع المرسلة والماهيّات الكليّة والهويّات
الشخصيّة قاطبة. فإذن قد استقرّ عرش الحكمة السّويّة وانقضّ جدار الفلسفة النيّة.
والحمد لله ربّ العالمين.
تشريق
(٢٥ ـ الله سبحانه متقدّم بالذّات وبالسّرمد)
فقد انصرح : أنّ
لله ، سبحانه ـ على نفس الزّمان الممتدّ الشخصيّ وعلى كلّ من أجزائه المقطوعة
البداية الممكنة الانفراض بالتّوهّم ـ تقدّما بالذّات وتقدّما بالسّرمد من غير
تفاوت. والفلاسفة المتهوّسة يحسبون أنّ ذلك بالنّسبة إلى تلك الأجزاء فقط ، وأما
بالنّسبة إلى نفس الزّمان المتّصل الشّخصيّ في الأعيان فليس إلّا التّقدّم
بالذّات.
وهذا من معاقد
التعضيل عليهم ، إذ يلزم اختلاف نسبته إلى الكلّ والجزء ، وكذلك إلى الجزء المقطوع
البداية والجزء الممتدّ لا إلى بداية. فيثلم قولهم الحقّ أنّ نسبته إلى جميع
الأجزاء (الأوقات ل) وجملة الأحيان واحدة ، ثمّ كيف يصحّ ذلك في الكم المتّصل
وأجزائه المقداريّة ، وهي والكلّ متّحدة بالوجود متشابهة بالماهيّة.
إيماض
(٢٦ ـ كلّ حادث مسبوق الوجود بالمادّة)
ألم تسمعهم يقولون
: كلّ حادث فإنّه مسبوق الوجود في الأعيان بالمادّة ، فاشعر أنّ ذلك ليس إلّا في
الحوادث الزّمانية بما هي حوادث زمانيّة ، لا بما لها الحدوث الدّهريّ ، فضلا عن
الحدوث الذّاتيّ. فتعاقباتها في الوجود وتخصّصاتها بالأوقات ، إذ لم يكن في جنبة
الفاعل تغيّر لا تكاد تتصوّر إلّا وهناك مادّة تعرضها انفعالات ويقوم بها
استعدادات بالقياس إلى حصول الحادث في وقته متفاوتة بالشدّة والضّعف والقرب
والبعد. فإذا قويت القوّة الانفعاليّة وتمّ نصاب الاستعداد ، حان حين فيضان [٢٠ ب]
الحادث عليها من تلقاء الفاعل الحكيم الجواد. فإذن كلّ حادث زمانيّ يسبق وجودها في
أفق الزّمان قوّة ومادّة أو موضوع يقوم بها ويوجد فيها أو يتقوّم بها ويتحصّل منها
أو يتعلّق بها ويدبّرها ويستكمل.
إيماض
(٢٧ ـ الإمكان الذاتيّ والاستعداد)
إمكان الشّيء يقع
باشتراك اللفظ على معنيين : أحدهما الإمكان الذّاتيّ ، وهو صفة عقليّة يوصف بها ما
عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات ، وينتزعها العقل من موصوفاتها بعد الفعليّة ،
ويحكم بتقدّمها على الوجود والإيجاد تقدّما بالذّات لا غير ، ولا يستوجب اتّصاف
الماهيّة بها كونها مادية. والثّاني الاستعداد ، وهو عروض موجود معدود من أنواع
جنس الكيف غير باق بعد خروج الشّيء إلى الفعل ، فلا محالة يحتاج قبل الخروج إلى
محلّ ، وهو المادّة.
إيماض
(٢٨ ـ الحادث الممكن بحسب الذّات والتّعلّق بالموادّ)
إنّ وجود الشّيء
المادّيّ في نفسه ، نوعيا كان أو شخصيّا ، هو تلبّس المادّة به بالتّنوّع أو
بالتّشخّص ، فهو وجود رابطىّ للمادّة باعتبار آخر ، وكلّ إمكان فهو في تقرّر
وبالقياس إلى وجود. والوجود إما بالذّات ، كوجود البياض في نفسه ؛ أو بالعرض ،
كوجود شيء آخر له ، أو وجوده لشيء آخر ، أو وجوده لشيء آخر ، أو صيرورته موجودا
آخر.
فإذا كان الشّيء
حادث الوجود في أفق الزّمان ، وهو ممّا يوجد في مادة أو موضوع أو من مادّة أو مع
مادّة ، كان إمكانه بحسب وجوده في نفسه من لوازم ماهيّته
وغير متعلّق إلّا
بذاته ، وبحسب ارتباطه في الوجود بالمادّة متعلقا أيضا ، لا محالة ، بتلك المادّة
العينيّة وإن كان هو من الاعتبارات الذّهنيّة ، كما القبليّة والبعديّة صفتان
عقليتان ومتعلقتان بالأشياء العينيّة من جهة ما هي واقعة في الأعيان.
فإذن ، إمكانات
الأشياء الحادثة [٢١ ظ] بحسب التّعلّق بالموادّ ، يقال : إنّها تقارن عدمها قبل
وجودها ، ويعبّر عنها بالقوّة. ولا يرتاب في أنّ ذلك ليس إلّا بحسب استعدادات
متعاقبة مختلفة بالبعد والقرب ، زائلة مع خروج الوجودات من القوّة إلى الفعل ، لا
من حيث هي إمكانات بالذّات ، وبهذا الاعتبار يقع اسم الإمكان عليها بالتشكيك. فأما
بحسب ما هي إمكان الموجودات الممكنة في أنفسها بالذّات ، فأمور لازمة لماهيّاتها
المرسلة مع عزل اللّحظ عن الفعليّة واللّافعليّة ، وهي سواسية في استحقاق الوقوع
تحت اسم الإمكان ، بل الإمكان مفهوم واحد سلبيّ متخصّص بنفس الإضافة إلى الماهيّات
، لا قبل الإضافة.
إيماض
(٢٩ ـ إمكان الإبداعيّات وافتقار المادّيّات)
إنّ الأمور
الإبداعيّة لا يتصوّر فيها استعداد يتقدّم وجودها ، وإمكانها إنّما يعقل عند
تقرّرها ، وهو صفة لماهيّتها الّتي لا تتحقق قبل تقرّرها ، فإمكان وجودها ليس إلّا
في ذواتها ، لا في شيء آخر. والماديّات : منها : [ما] وجوده في المادّة أو عنها ،
كالصّور الجوهريّة والأنواع الجسمانيّة وكذلك الأعراض ، وهناك الافتقار إلى
المادّة لتقوّم الموجود ولترجّح وجوده المتخصّص بوقته جميعا ، إذ قوّته على
الفعليّة واللّافعليّة سواء. وليس يستبدّ الإمكان الذّاتيّ بقبول الفيض ، كما في
المبدعات. ومنها ما وجوده مع المادّة ، كالنفوس المجرّدة الإنسانيّة ، وافتقارها
إلى المادّة ليس للتقوّم ، بل إنّما لترجّح الوجود بحسب الحدوث فقط دون البقاء ثمّ
للاستكمال. فالنّفس لو لم تكن مفتاقة إلى الاستكمال لم تكن تعتلق بعالم الطّبيعة ،
بخلاف ما تقوّمه بالمادّة وتحصّله عنها.
إيماض
(٣٠ ـ الحادث ممكن قبل الوجود)
فما قال رأس
المشّائية ورؤساؤها : «الحادث ممكن قبل الوجود ، وليس إمكانه هو اقتدار الفاعل
عليه ، لصحّة التّعليل ، ولا ممّا يقوم بنفسه ، وإلّا لاستوت نسبته إليه وإلى غيره
، ولم يصحّ [٢١ ب] التّوصيف ؛ أو بأمر منفصل ، إذ صفة الشّيء لا تقوم بمباينه.
فإذن ، هو قائم بمادّته» (الاشارات ، ص ٩٧).
يصحّ أن يفسّر
بالاستعداد ، وهو عرض موجود ، أو بإمكان الوجود إذا اخذ رابطيّا ، وهو صفة عقليّة
، ولكن للشّيء العينيّ بحسب الوقوع في الأعيان ، فالمادّة حامل إمكان الوجود
بالمعنيين. وما في «المطارحات» و «التلويحات» على الأخير ساقط.
وأما موضوع إمكان
الوجود إذا أخذ محمولا لا رابطيّا فنفس الماهيّة لا غير ، والمفارقات المحضة إنّما
إمكانها وقوّتها على قبول التّقرّر والوجود من الجاعل المبدع ، لا على أن تصير
بالفعل شيئا ، فإنّها فعل مطلق بإفاضة الجاعل ، وليس لها معنى ما بالقوّة ، بل
معنى ما بالقوّة فقط.
إيماض
(٣١ ـ الحادث محتاج إلى سبق وكذا العدم)
كما الوجود الحادث
ليس له بدّ من سبق استعداد المادّة ، فكذلك العدم الطارئ. والفحص يحقّق : أنّ
معناه انجذاذ الوجود ، فيرجع الأمر حقيقة إلى سبق الاستعداد على الوجود بما هو
متخصّص بزمان محدود مجذوذ من جهتي البداية والنهاية جميعا. وأيضا الصّور المنجّزة
الوجود مستردفة صورة أخرى ترد على المادّة مع انجذاذ الأولى. فورود الأخيرة
الحادثة يقارن طروء العدم على المردفة المنجّزة ، وهو مسبوق بالاستعداد ، لا محالة
، فينسب ذلك إلى طروء العدم بالعرض.
فإذن ، إنّما
مسبوقيّة العدم بعد زمان الوجود باستعداد المادّة بالعرض من سبيلين ، لا بالذّات
وعلى سبيل الحقيقة ، فليس ذلك يصادم أزليّته بما هو عدم وليسيّة أصلا.
تنبيه
(٣٢ ـ السبق والاستعداد بالمادّة زمانيّ لا دهريّ)
إنّما المسبوقية
بالمادّة واستعدادها هناك زمانيّة ، فحسب ، لا دهريّة أيضا. فهي
ليست تدافع
الأزليّة الدّهريّة ، على ما تلونا عليك في ما سلف ، لكنّا قد برهنّا على الحدوث
الدّهريّ في جانب الوجود من مسالك حكميّة قويمة.
إيماض
(٣٣ ـ المسبوق بالمادّة مسبوق بالمدّة أيضا)
إنّ المسبوق
بالمادّة في الوجود يجب أنّ يكون مسبوقا بالمدّة أيضا في الأعيان [٢٢ ظ]. أليس قد
كان عدمه قبل وجوده قبليّة يتخلّف بحسبها البعد عن القبل في الوجود ، ويصحّ تصوّر
وقوعهما في حدّين يمرّ بها امتداد. فالقبليّة والبعديّة على هذه السّنّة وإن كانتا
عقليّتين ، لكنّهما بحسب وقوع الأشياء في الأعيان. فليس لهما بدّ من معروض بالذّات
متحقّق في الأعيان بتّة.
وليس الجاعل
والمجعول بما هما ذاتان وبما هما جاعل ومجعول ، فهما ليسا من تلك الحيثيّة
بالاقتران في الوجود وبقاء الأوّل بعد الأخير ، حتى يكون بالإضافة إليه تارة قبل ،
وتارة مع ، وتارة بعد ، ولا المعدوم والموجود بما لهما العدم والوجود. فالعدم
والوجود بما هما عدم ووجود ، ليسا يأبيان الانعكاس بالقبليّة والبعديّة على
التعاقب أو من بدء الأمر.
فإذن ليس المعروض
بالذّات إلّا الكميّة المتّصلة على سبيل التّقضّى والتّجدّد بذاتها. فأجزاؤها
الممكنة الانفراض متعيّنة القبليّة والبعديّة بهويّاتها ، وكلّ منها قبل وقبليّة
وبعد وبعديّة بنفس ذاتها. وما عداها من الأشياء إنّما ينسب إليها ذلك النّحو من
القبليّة والبعديّة بالعرض بحسب المقارنة للقبل والبعد بالذّات. فتلك الكميّة
المتّصلة هي الّتي نسمّيها الزّمان والمدّة.
وبالجملة ، قاطبة
الأمور الّتي هي غير الكم الغير المستقرّ بنفس ذاته حتّى الحركات لا تكون قبلا
وبعدا إلّا بحسب الوقوع في جزءين أو حدّين منه. فالحركتان المعيّنتان المتعاقبتان
لا يمتنع بالنّظر إلى نفس هويّتهما أن تكونا معا في وقت واحد ، أو أن تنعكسا في
التّعاقب باستبدال الوقتتين ؛ بل إنّما ذلك الامتناع بحسب هويّتي زمانيهما ، لا
غير.
فإذن ، قد استبان
وجود الزّمان الممتدّ قبل الحادث ومعه واتّصاله بالذّات أيضا. إذ مناط القبليّة
على تلك الشّاكلة إنّما هو كون القبل والبعد أجزاء هويّة متّصلة على
التّصرّم
والتّجدّد بالذّات. فالامور المتفاصلة ، كالآنات ، لا تعرضها [٢٢ ب] القبليّة
والبعديّة إلّا إذا كان هناك كمّ متصل لا على قرار الذّات بتّة.
إيماض
(٣٤ ـ الحركة والزّمان سابقة على الحدوث)
وهناك تبيان من مسلك
آخر ، فإنّ تعاقبات الحوادث وتخصصاتها بأوقاتها المتسابقة المتلاحقة مع كون
الفعّال المختار الّذي هو فاعل الحقائق وواهب الصّور حكيما في وجوده ، مريدا بحكمته ، متكبّر المجد عن مصنوعاته
، مستوى النّسبة إلى مجعولاته ، ممتنع التّغيّر في ذاته وصفاته ، سرمديّ الفعليّة
من جميع جهاته.
ومن المستحيل أنّ
يرجّح المختار بإرادته لا بمرجّح ويخصّص لا بمخصّص ، وإلّا استلزم أن يترجّح
الشّيء ويتخصّص لا بمرجّح ومخصّص. وهو فطرىّ الفساد ، إجماعىّ الاستحالة. إنّما
تكاد تستتبّ لو حصلت هناك أسباب متعاقبة تهيّئ المادّة للتغيّرات وتعدّها لقبول
الفيوض بالاستعدادات ، فيكون كلّ سابق علّة لاستعداد المادّة لقبول اللّاحق. فهو
لا محالة واجب الانتهاء إلى اللّاحق. فلا يصحّ أنّ تكون تلك المتعاقبات آنيّات
متفاصلات الوجود ، وإلّا لم يكن يجب لوجود شيء منها أن يكون متعلقا البتة بوجود
الآخر ، فلم يكن السّابق واجب الانتهاء إلى اللّاحق ، فلم يكن علة معدّة له ،
وإنّما تتجدّد المعدّات المتعاقبة بما له تجدّد الحدوث بذاته ، وهو الحركة.
فإذن ، لا ينتظم
أمر الحدوث إلّا بالحركة المتّصلة المنحفظة التّجدّد المستمرّة الاتّصال إلى حين
فيضان الحادث ، فلا حدوث في أفق التّغيّر لو لا الحركة. فقد تبيّن سبق الحركة على
الحدوث واتّصالها من هذه الجهة ، فاستبان سبق الزّمان واتّصاله أيضا لانطباقها
عليه بتّة.
__________________
تنبيه
(٣٥ ـ إثبات اتّصال الزّمان والحركة من المبادى لإثبات اتّصال الجسم)
إنّ اثبات اتّصال
الزّمان والحركة من ذينك المسلكين من المبادى لإثبات اتّصال الجسم ونفي جزء لا
يتجزّأ في المسافة.
وربّما يبيّن
الامتداد في العدم السّابق : بأنّ من الجائز أنّ يقطع [٢٣ ظ] متحرّك ما مسافة ،
فيكون حدوث الحادث مع انقطاع حركته ، فتنفرض بين ابتداء الحركة وأوّل الحدوث في
ذلك العدم قبليّات وبعديّات متصرّمة ومتجدّدة مطابقة لأجزاء المسافة والحركة ،
فتكون هي متّصلة اتّصال المسافة والحركة. و : بأنّ المعدّات المتعاقبة قبل حدوث
الحادث ليست آنيّات ، وإلّا لتشافعت الآنات واستلزمت أجزاء لا تتجزى في الحركة
والمسافة ، وعلى هذا فاثبات اتّصال الجسم من مباديه.
تشريق
(٣٦ ـ الاستمرار يتصوّر بمقارنة الزّمان)
لعلّ من فطريّات
القريحة المستضيئة : أنّ الامتداد لا يتحصّل من اللّاامتداد والمقدار من
اللّامقدار. فإذن استمرار العدم أو الوجود إنّما يتصوّر بمقارنة الزّمان الممتدّ
بذاته لا بمقارنة الآنات متتالية ، وكذلك أمر المقادير القارّة.
إيماض
(٣٧ ـ الاتصال الزّمانيّ مادىّ الهويّة)
أليس حيث لا تغيّر
لا تجدّد وتصرّم ، ولا تغيّر إلّا لذي قوّة التّغيّر ، فإذن الاتّصال الزّمانىّ
مادىّ الهويّة متعلق الوجود بحركة ، وموضوع الحركة وحقيقته كميّة الحركة المتّصلة
اتّصالها المسافيّ وعددها إذا انفصلت إلى متقدّمة ومتأخّرة في متقدّمة المسافة
ومتأخّرتها ، وجملة المتحرّكات مسبوقة الوجود إليه بالفيئيّة. فمحلّه أظهر الحركات
الوضعيّة المستديرة ، وهي أسرع الحركات وأقدمها بالطّبع ، وحامل محلّه الفلك
الأقصى ، وهو أوسع الأجرام وأقدمها طبعا.
تشريق
(٣٨ ـ الفلك الأقصى محدّد الجهات)
فالفلك الأقصى
بكميّة جرمه محدّد جهات الامتدادات القارّة ومنتهى مسالك الأبعاد المكانيّة. فليس
فوق محدّب سطحيه إلّا اللّيس البحت المعبّر عنه باللّاخلاء واللّاملاء المكانيّ
والمرتفع عنه في الوجود وراء ذلك كلّه ، ومحيط بالجميع على سبيل واحد وإضافة
متشابهة ، وبكميّة حركته محدّد جهات التّقضّيات والتّجدّدات وأفق مذاهب الامتدادات
[٢٣ ب] الغير القارّة والاستمرارات الزّمانيّة ، فليس قبل وجودها إلّا سنخ العدم
الصريح المعبّر عنه باللّاخلاء واللّاملاء الزّمانيّ ، والمتقدّس عنها بالوجود
أرفع من تلك الأطوار ، ومبصر وجود الكلّ معا على نسبة مستقرّة غير مختلفة وسنّة
قارّة غير متبدّلة.
تشريق
(٣٩ ـ سبق المادّة في الحدوث الزّمانيّ لا في الدّهريّ)
أما عندك الآن من
المنصرح : أنّ سبق المادّة على وجود الشّيء في الأعيان إنّما هو في الحدوث
الزّمانيّ فقط ، لا في الحدوث الدّهريّ أيضا؟ أليس ذلك لتعاقبات الحوادث وترتّب
القبليّات والبعديّات واستمرار عدم الحادث قبل الحدوث استمرارا امتداديّا. والحدوث
الدّهريّ بمعزل عن تلك الأمور ، فجميع الحوادث بحسبه كشيء واحد محتشد الأجزاء في
الحدوث معا في الدّهر ، بعد العدم الصّرف الدّهريّ الّذي يستحقّه طباع الإمكان ،
كما يستحقّ العدم بالنّظر إلى نفس مرتبة الذّات حين الوجود بإفاضة الفاعل بحسب
الحدوث الذّاتيّ. فالمادّة إنّما تتقدّم على ذى المادّة في حدوثه الزّمانيّ
بالزمان وبالطّبع جميعا ، وأما في الحدوث الدّهريّ بالطّبع فقط ، لا بالدّهر أيضا.
وكذلك بعض المبدعات النّوريّة على بعض وعلى الكائنات.
تعقيب
(٤٠ ـ حدوث العالم لا زمان قبله)
لا يزعجنّ الشكّ
سرّك : أنّ حدوث جملة العالم في الدّهر بعد العدم يستوجب وجود الزّمان قبل وجوده. أما
تحققت أنّ الزّمان مقدار استمرار التّغيّر ، وهو التّقضّي والتّجدّد؟ فإذا استمرّ
تغيّر ، أي : تقضّ وتجدّد ، استوجب وجود الزّمان بتّة. ولا تغيّر
في الحدوث
الدّهريّ ، فضلا عن استمرار التّغيّر. فلم يكن في كتم العدم (اللّيس ب) الباتّ
ومتن الانتفاء البحت شيء يتغيّر من صرف العدم إلى صريح الوجود ، وينتقل من
اللّاشيئيّة إلى الشّيئيّة ، ويتوارد عليه اللّيسيّة والأيسيّة ، فيتقدّر ذلك
التّغيّر ويتعلّق ذلك الانتقال بزمان [٢٤ ظ] أو آن.
إنّما ذلك ظنّ حزب
الوهم ، وحسبان أمّة الطّبيعة وليس في العدم ما ينتقل من اللّيس إلى الأيس. بل
الجاعل الحقّ المتقدّس عن شوب التغيّر ووصمة الانتقال ، قد فعل قاطبة الذّوات من
المبدعات والكائنات في وعاء الدّهر ، دفعة واحدة دهريّة ، لا دفعة متقدّرة زمانيّة
، فشغل أيسها حيّز اللّيس ، وأبطل تحقّقها صدق عقد العدم مطلقا ، لا عن حدّ الوجود
فقط ، لكنّها في أنفسها بحيث إذا لا حظها العقل المرتضع من ثدي الحكمة ، حكم أنّها
مجعولة من تلقاء الجاعل ، وقد أخرجت من جوف العدم الخالص وجوّ اللّيس البحت ، إذ
لم يكن في الوجود إلّا الجاعل.
ذنابة
(٤١ ـ أقسام المجعولات)
إنّ المجعولات ،
منها : ما لا يصحّ له في وجوده انتقال من حال إلى حال ، فهو فعل محض وثبات صرف ،
لا يتعلّق بحسب وجوده في نفسه بالزّمان أو الآن ، كما لم يتعلّق بذلك بحسب وجوده ،
بالقياس إلى الجاعل وصدوره عنه. ومنها : ما له في وجوده أن يتغير ، فينتقل من شأن
له بالفعل إلى شأن له بالقوّة ، أو بالعكس ؛ وهذا القبيل يتعلّق ، لا محالة ، بحسب
وجوده في نفسه ، بزمان أو آن ، وبمادّة أو موضوع ، وإن لم يكن بحسب وجوده بالقياس
إلى الجاعل متعلّقا بذلك ، فلذلك كان له مدّة في نفسه ، ولم يكن بينه وبين الجاعل
مدّة ، وله في نفسه مادّة ؛ وليس بحسب صدوره عن الجاعل ووجوده بالقياس ، أي :
حضوره بذاته عنده تكتنفه غواشي المادّة. فلذلك لم تكن ماديّته وزمانيّته بهذا
الاعتبار ، بل بحسب اعتبار ذاته في ذاته.
تتمة
(٤٢ ـ اقسام الجائزات والممكنات)
إنّ من الجائزات :
ما بحسب جوازه الذّاتيّ تامّ الصّلوح لقبول الفيض ؛ فإن لم يكن متعلّق الهوية
بالمادّة [٢٤ ب] ، كالجواهر العقليّة ، كان له البداية الإبداعيّة الدّهريّة ؛ وإن
كان متعلّق الوجود بالمادّة ، كحركات الأفلاك وكصورها الطبيعيّة ، كان له البداية
الاختراعيّة الدّهريّة. ومنها : ما ليس يتمّ له صلوح قبول الفيض بالفعل إلّا
بالإمكان الّذي به معنى الاستعداد ، وهو الكائن ؛ وله بحسب حدوثه في الدّهر بداية
اختراعيّة دهريّة ، وبحسب حدوثه في الزّمان بداية تكوينيّة زمانيّة.
فالحوادث مبدعات
ومخترعات ومكوّنات. والجعل والتأثير إحداث في الدّهر وهو إما الإبداع أو الاختراع
، وإحداث في الزّمان وهو الصّنع والتكوين. وأفضل الضّروب : الإبداع ، فإنّه تأييس
مطلق عن ليس مطلق. والأجدر باسم الإبداع : هو جعل نفس الماهيّة جعلا بسيطا. فلعلّ
هذا نصاب العلم وأمد الحكمة. والحمد لله ربّ العالمين ، واهب العقل وولىّ العصمة.
السّقاية الثّالثة
فيها إثبات الهيولى الأولى الدّاخلة في تجوهر الجسم ،
والحاملة لتكوّن الكائن وفساد الفاسد
إيماض
(١ ـ موضوع العلوم في العلم الأعلى)
إنّما النّظر في
تقرّر الحقائق وأحوال كلّ حقيقة في نحو وجودها على ذمة «العلم الّذي فوق الطبيعة»
، ولا شغل لذمم العلوم الجزئيّة بشيء من ذلك أصلا ، فضلا عن نفس موضوع وأجزائه. بل
إثبات موضوعات جملة العلوم بأسرها على «العلم الأعلى» ، إذ موضوعه مطلق الحقيقة
المتقرّر بما هي حقيقة متقرّرة ، بخلاف سائر العلوم. فإثبات الهيولى والصّورة
وخواصّهما ليس من الحكمة الطبيعيّة ، بل من «الحكمة فوق الطبيعة». وكذلك [٢٥ ظ] :
هل الجسم متألّف من أجزاء لا تتجزّى أم لا؟ بل ممتدّ متّصل ، فتلك من أحوال الجسم
بما هو متقرّر ، لا من حيث هو واقع في التّغيّر ، أو مشتمل على المادّة ، أوله
طبيعة.
وإنّما المتعلق
بالطبيعيّات ما يستدل به على وجوده بالبيانات الطبيعيّة ، من جهة حركاته وقواه
وأفعاله. فأمّا القول في التناهي واللاتناهي فعلى سبيلين : من جهة المقدار والجسم
من حيث هو جسم ، ومن جهة أحوال الجسم من حيث هو متحرّك أو ساكن ، ومن حيث أفعاله
وتأثيراته ، وبالجملة الأخيرة من علم الطبيعة وفي السّماع الطبيعيّ.
إيماض
(٢ ـ الجسم الطبيعيّ محسوس من جهة عوارضه)
إنّ الجسم
الطبيعىّ ليس بمحسوس صرف أو معقول صرف ، بل هو محسوس من
جهة عوارضه ،
معقول من جهة ذاته ؛ فالحسّ ينال أعراضه ، كالسطوح والألوان والأشكال مثلا. فإذا
أدّاها إلى العقل حكم بوجوده موضوعا لها ، فلذلك استغنى عن الإثبات ، لا لكونه
محسوسا في ذاته.
فلمّا استبان
بطلان متحيّز بالذّات لا يتجزّى أصلا ، ضرورة أنّ ما منه إلى جهة ما غير ما منه
إلى سائر الجهات بتّة ، بان أنّ بين سطوح الجسم الفارد جوهرا متصلا بذاته ، ثخينا
ممتدا بجوهره في الأبعاد ، منبسطا في الامتدادات ، وهو بجوهر ذاته يقبل القسمة لا
إلى نهاية ، وما يخرج إلى الفعل من انقسامات في طباعه قوّة قبولها متناهية العدد
بالفعل ، غير متعيّنة ، مرتّبة التناهي بالوقوف عند نهاية أخيرة لا تتعدّاها. وكذلك
شاكلة جملة المتّصلات من المقادير القارّة ، والمقدار الغير القارّ ، والحركات
القطعيّة المتّصلة. فعلى ذلك اتّفاق الرّاسخين وإجماع المحصّلين.
إيماض
(٣ ـ الهيولى الاولى ولها قوّة القبول)
ثمّ اختلفت فئون من
الأواخر [٢٥ ب] والأوائل ، فصارت المشّائية وقرمهم ومقرمهم أرسطوطاليس إلى أنّ
هناك جوهرا آخر ذا وحدة شخصيّة مبهمة ، طباعه قوّة قبول الاتّصال والانفصال ،
وفعليّة استعداد حمل الصّور ، ولا نهاية قوّة الانفعال ، يحلّه الجوهر المتّصل ،
فيتجوهر منهما الجسم ، وهو الهيولى الاولى الباقية بشخصيّتها في الاتّصالات
والانفصالات. والجوهر المتصل غير منحفظ الوجود الشخصىّ ، بل متبدّل التشخّص
ومتوارد الأشخاص عليها.
والرواقية
والإشراقية وإمامهم وعصامهم أفلاطون الإلهيّ : إلى أنّ الجوهر المتصل هو نفس حقيقة
الجسم ، وهو المحفوظ بهويّته الشّخصيّة في الاتّصال والانفصال ، أي : الوحدة
الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة ، وهما عرضان متواردان عليه في وحدته الشّخصيّة
المستمرّة الانحفاظ بعينها أبدا.
وبالجملة ، كلّ ما
يقال في الجوهر المبهم بالقياس إلى الصّور الجوهريّة ، يقال فيه بالقياس إلى الأعراض
المتبدّلة ، ولا تزول الصّورة الشّخصيّة الجوهريّة. ولا هناك جوهر آخر أصلا. فهذا
تحديد حريم المتنازع فيه ، فلنرصد الحقّ بالنظر الغائر والفحص البالغ.
إيماض
(٤ ـ الاتّصال على أقسام)
إنّ «الاتّصال»
يقع في الصّناعة على معنيين ، باشتراك اللّفظ : إضافىّ لا يعقل إلّا بين شيئين ،
متّصل ومتّصل به ، ويطلق على كون المقدار متّحد النهاية بمقدار آخر ، وعلى كون
الجسم بحيث يتحرك بحركة جسم آخر ؛ وحقيقىّ يوصف به الشّيء لا بقياسه إلى غيره. وهو
أيضا بمعنيين : أحدهما نفس متّصليّة الشّيء ، أي : كونه بذاته مصداق حمل الممتدّ
في الأبعاد عليه ، فبحسبه جوهر الذّات متّصل واتصال باعتبارين ، والمتّصل بهذا
المعنى هو صورة الجسم الطبيعىّ وفصله [٢٦ ظ]. والآخر كون الشّيء في ذاته بحيث يصحّ
تحليله إلى أجزاء وهميّة متشاركة في حدود مشتركة. والمتّصل بهذا المعنى فصل الكم
ولازم للمتّصل الّذي هو صورة الجسم في الوجود.
إيماض
(٥ ـ الجسم الطبيعى وأحكامه)
إنّما للجسم
الطّبيعىّ ، بما هو جسم طبيعىّ ، أن يكون سنخ طبيعته وجوهر ماهيّته ممتدّا في
الجهات الثّلاث على الإطلاق. فهذا له في مرتبة ذاته ، لأنّه من مقوّمات ماهيّته.
وليس له من تلك الحيثيّة أن يتعيّن البتة تماديه فيها باللّانهاية أو بالنهاية ،
وبامتدادات بخصوصها في النهاية. بل التناهي عارض يلزمه في الوجود ، لا في
التّوهّم. وتخصّص الامتدادات أمر يلحقه بعد مرتبة الذّات بخصوصيّات لاحقه. فجسم لا
يخالف جسما بحسب الاتّصال الذّاتيّ الجوهريّ بالمفاوتة بالعظم والصّغر والكليّة
والجزئيّة.
ثمّ إذا اعتبر
تعيّن الامتدادات ، لحق إمكان انفراض الأجزاء المشتركة في الحدود المشتركة ، وعرض
الاتّصال بالمعنى الّذي هو مبدأ فصل للكم ومصحّح قبول المساواة والمفاوتة. وهذه
المرتبة هي الّتي يقال لها الجسميّة.
فإذن ، الجسم
التعليمىّ مرتبته تعيّن امتدادات الجسم الطّبيعيّ وليس هناك ممتدّان بالذّات :
جوهريّ وعرضىّ ، بل إنّما الممتدّ بالذّات الجوهر المتّصل ، وليس له بحسب تلك
المرتبة أن يكون ممسوحا. فإذا تعيّن في تماديه فصحّ أن يمسح بكذا كذا مرّة أو
مرّات غير متناهيّة إن توهّم لا متناهيا ، كان جسما من باب الكميّة التعليميّة.
وكذلك السطح قد
يلحظ بما هو الممتدّ في بعدين فقط على الإطلاق ، ولا يتعلّق به القدر والمساحة ،
وقد يعتبر بما يعرضه تعيّن الامتداد ، فيكون ممسوحا ، لكنّه بكلا الاعتبارين خارج
عن حقيقة الجسم وعرض من أعراضه. بخلاف الممتدّ في الأبعاد الثّلاثة ، فإنّه
بالاعتبار الأوّل [٢٦ ب] مقوّم حقيقته وبالاعتبار الأخير من عوارض ذاته.
إيماض
(٦ ـ الجسم الطبيعىّ لا يتبدّل)
فإذن الجسم
الطبيعىّ (التعليميّ ل) حقيقته مقدار الجوهر الممتدّ في تعيّن امتداداته ، فليس
يمكن أن يفارقه في التّوهّم. لكنّهما يفارقان المادّة في الوهم ، فيلحظان لا
بالتفات إلى المادّة. وأمّا بحسب الوجود فالتعليميّة في الجوهريّة الممتدّة ، وهي
في المادّة البتة.
ثمّ تبدّل أشكال
جسم بعينه ، كالتّكعيب والتّدوير على الشّمعة الواحدة ، ليس يستوجب تبدّل الجسم
التعليمىّ بشخصه ، كما ليس يستوجب ذلك في الجسميّة الطّبيعيّة. إنّما المتغيّر
هناك مقدار ذهاب الجوانب في الجهات ، لا مقدار شخص الجسم بهويّته. فما ينقص من بعض
الأقطار يزداد بإزائه في بعض آخر ، ومقدار الكلّ ثابت على شخصيته غير متغيّر في
المساحة.
إيماض
(٧ ـ الجوهر المتّصل)
ليس يتصوّر أنّ
يعرض المقدار ما ليس بمتّصل في ذاته. فالاتّصال بالذّات مصحّح كون الشّيء معروض
المقدار ، فالمقادير القارّة عارضة للجوهر المتّصل بالذّات ، والحركة متّصلة من
جهة المسافة ، وبحسب اتّصالها المسافيّ صالحة لأن تتكمّم بالزّمان وتتقدّر به.
فإذن جملة المقادير منتهية إلى التّعلّق باتّصال الجوهر المتّصل بالذّات أخيرا.
إيماض
(٨ ـ قسمة للأجزاء المقداريّة)
ضروب القسمة إلى
الأجزاء المقداريّة : انفكاكيّة تحدث اثنينيّة بالفعل في الأعيان ، ووهميّة جزئيّة
لا تخرج إلى الفعل في التوهّم إلّا جزئيّات ، متناهية العدد بالفعل
منقسمة بالإمكان
لا إلى نهاية ، وفرضيّة عقليّة كليّة ، تستوعب جملة الأجزاء الممكنة الانفراض بلا
تناه بالفعل في لحاظ العقل ، ولكن على الوجه الإجماليّ البسيط. والافتراق في
الانفكاكيّة بالكسر والقطع. وأمّا اختلاف عرضين قارّين ، مثلا ، كما في البلعة ،
فليس منه الافتراق في الأعيان ، بل يستوجب افتراض [٢٧ ظ] الانفصال في الوهم بحسب
عروضهما بالفعل في الأعيان.
والقسمة بضروبها
إنّما ترد على الجوهر المتّصل في درجة جسميّته التّعليميّة. إلّا أنّ الافتراقيّة
الفكيّة تلحقها لاستعداد المادّة ، وهي الّتي تقبلها وتنحفظ معها ، وليس لنفس
الكميّة تهيّؤ قبولها ، فهي بالحقيقة من عوارض المادّة ، وإن كانت الكمية قد
هيّأتها لقبولها. والوهميّة الجزئيّة تلحقها لنفس مقداريّتها. فهي من عوارض
المقدار التّعليميّ ، بحسب نفس مرتبته.
وأمّا الافتراضيّة
العقليّة الكليّة ، فإنّها وإن لحقت المقدار التّعليمىّ ، لكن مصحّح اللّحوق ومناط
الصّلوح مطلق الامتداد الّذي هو شأن نفس الجوهر المتّصل في مرتبة الذّات مع عزل
اللّحظ عن التعيّنات.
وشعوب الأجسام في
قبول ضروب الانقسام على شاكلة واحدة ، ولكن بما هي أجسام. فإن اتّفق أن كان جسم ما
، كالفلك ، مثلا ، بحيث تلزمه في الوجود أبعاد بعينها. فيتأبّى الافتراق الفكّيّ ،
فليس ذلك له بما هو جسم ومن تلقاء سنخ طباع الجسميّة ، بل لطبيعة أخرى حافظة
لكمالاته الثّانية. والمقدار الغير المستقرّ ، أعني الزّمان ، أيضا ليس يقبل
الافتراق في الخارج ، بل إنّما الضّربين الأخيرين في الوهم فقط ، لا لأنه مقدار ،
بل لخصوص حقيقته ولوجوب اتّصال الحركة الّتي هي محلّه على الدوام والاستمرار من
قبل النّفس الّتي لحاملها.
إيماض
(٩ ـ الأجزاء المقداريّة)
إنّ اسم الجزء يقع
على ما يتركّب منه الشّيء وعلى ما يقسم إليه وإن لم يكن تركّبه منه ، كالجزء
المقداريّ. فالأجزاء المقداريّة أجزاء المتّصل بحسب الانفصال والانحلال إليها ،
وليست هي أجزاء جوهر الماهيّة ، بل إنّما جزئيّتها بالنّسبة إلى الهويّة
الشّخصيّة ، وهي
لا تحصل إلّا بعد حصول الكلّ. فلذلك ليست هي أجزاء على الحقيقة ، بل على المسامحة
والتّشبيه. وهي متوافقة [٢٧ ب] وموافقة للكلّ في الماهيّة ، ومتشاركة في الاسم
والحدّ.
إيماض
(١٠ ـ وجود الأجزاء المقداريّة)
أليس [من] فطريّات
القريحة الصحيحة أنّ الموجود ، كما يستحيل أن يكون تركّبه من المعدوم الصرف ، كذلك
يستحيل أنّ يكون انحلاله إلى المعدومات الصرفة. فالأجزاء المقداريّة لها نحو من
الوجود في الأعيان بتّة ، أفكيف تكون ليسيّات صرفة ، وربّما تقع موضوعات لموجبات
عقود خارجيّة صادفة ، كما إذا تسخّن بعض متّصل ما وتبرّد بعضه ، مثلا ، وليس يصحّ
أنّ تكون مفروزة الوجود عن الكلّ. أفيعقل الاتّصال الواحدانيّ وهناك ذوات متوازرة متباينة
، فهي لا محالة موجودة بعين وجود الكلّ ، لا من حيث هي برءوسها اتّفق أن كان لها
في الأعيان وجود واحد كما هو سنّة الطبائع المحمولة ، بل من حيث إنّها أبعاض ذلك
المتّصل الّذي هو موجود واحد برأسه. فإذن ، وجودها في الأعيان بين صرافة القوّة
ومحوضة الفعل. ثمّ إذا طرأ الانفصال شوهدت ذوات متباينة ، فيكون الوجود هناك قد
تعدّد بالضّرورة.
وبالجملة ، الوجود
هو نفس الموجوديّة المصدريّة وليس يتصوّر له تخصّص وتكثّر إلّا بالإضافة إلى
موضوعات متكثّرة ، فهما اتّحدت الذوات توحّد الوجود ومهما تباينت تكثّر. فإذن ،
الاتّصال والانفصال مصيرهما إلى توحّد الوجود وتكثّره. ففصل المتّصل تكثير الواحد
، ووصل المنفصلين توحيد الكثير ، فالقسمة بالحقيقة تحويل الوجود الواحد إلى وجودات
متكثّرة. ومن هناك يتبرهن أنّ الواحد بالاتصال لا يختلف بالحقيقة ولا يتصل ما لا
يتشابه بالطّبيعة. فالمتصل الواحد أجزاؤه المقداريّة جميعا ، بل قاطبة المتّحدات
في الوجود متحدة بالماهيّة متشابهة بالطّبيعة بتّة [٢٨ ظ].
إيماض
(١١ ـ هويّة الشّيء وتعيّنه)
هل قرع سمعك قول
شركائنا الذين سبقونا بالصناعة : «هويّة الشّيء وتعيّنه ووحدته
وتشخّصه وخصوصيّة
وجوده المنفرد له كلّها واحد». فهو الحقّ وعليه الفتوى. لست أقول: التشخّص بعينه
هو الوجود بالحمل الأوّليّ الذّاتيّ ؛ بل إنّ تشخّص الشّيء من جهة نحو وجوده الّذي
يخصّه العقل به ، ممتازا عن وجودات الأشياء ، مباينا في الحمل ، بما له من الخواصّ
واللوازم والأعراض اللاحقة الّتي هي أمارات الوحدة الشّخصيّة من تلقاء اقتضاء جوهر
الماهيّة أو بحسب استعداد المادّة. وإنّما مبدأ شخصيّة نحو الوجود ، أي امتناع
حمله على كثيرين ، ارتباطه بالموجود الحقّ المتشخّص بنفس ذاته ارتباطا خاصّا يجهل
كنهه ويعلم خصوصه بالبرهان. أليس العقل الصّريح الّذي لم يكدر بصحابة الطّبيعة
يحكم أنّ الكليّات المتضامّة متناهية وغير متناهيّة ، ككلّ واحد في عدم إفادة
الشّخصيّة. فلو كان لكلّ شيء ماهيّة كليّة لاستحال حصول الجزئيّة. فشيء ممّا يقع
تحت مقولات الجائزات لا تكون بحسبه الشخصيّة. فإذن ، شخصيّة الأشياء بالمشيّئ
المبدع المتشخص بالذّات ، كما وجودها ووجوبها به.
وتشخّص الشّيء هو
نحو وجوده الّذي يخصّه العقل به فائضا عن مبدعه. فإن كان من الأنوار المفارقة كان
جوهر حقيقته بحسب جوازه الذّاتيّ صالحا لقبول التشخّص والوجود من جاعله ، فهو
بذاته يفعل ماهيّته وشخصيّته ؛ وإن كان ممّا كونه للمادّة ، فتهيّؤه للقبول بحسب
ما يستأنف لمادّته من الاستعداد. وبالجملة ، تعدّد الوجود تكثّر الأشخاص الموجودة
، وتوحّده توحّد الشّيء بالشّخصيّة. فإذ ، الاتّصال والانفصال توحّد الوجود
وتكثّره ، فالوحدة الاتّصاليّة ، لا محالة ، مساوق الحصول للوحدة الشّخصيّة ،
والكثرة الانفصاليّة للكثرة الشّخصيّة. فإذن ، قسمة المتصل مطلقا تحويل الوحدة
الشّخصيّة [٢٨ ب] إلى الكثرة الشّخصيّة.
فقد استبان : أنّ
الأجزاء المقداريّة متأخّرة عن الكلّ في الوجود ، والصّورة الاتّصاليّة ، ممتنعة
البقاء مع طروء الانفصال ، سواء كان ذلك في الأعيان أو في الوهم.
تنبيه
(١٢ ـ أخذ ما بالعرض مكان ما بالذّات)
فالجسمان ليس شيء
منهما بجزء جسم ما إلّا على سبيل الفرض ، لا بالفعل. وأمّا الشّجرة ، مثلا ، فجسم
واحد بالطّبع ، لا وحدة مقداريّة ، بل على نوع آخر. فالنار جزء ،
من شجرة واحدة ،
لا من جرميّة واحدة ومن مقدار واحد ، فليتحرّز من أخذ ما بالعرض مكان ما بالذّات.
تشريق
(١٣ ـ التشخّص وحكمه)
تعالوا أتل عليكم
ما علّمنى ربّى من أمر «التشخّص». لعلّ لبّ القول وكنه المسألة أنّ النظام الجمليّ
لعالم التقرّر بشخصيّته الّتي هو عليها أكمل النّظامات الممكنة ، ومن المستحيل
بالذّات نظام آخر فوقه أو في رتبته بحسب الكمال ، ولك علينا تبيانه من ذي قبل إن
شاء الله تعالى. فعناية البارئ الجواد ، عزّ اسمه ، إذ هو تامّ وفوق التمام ، قد
أوجبت أن يفعله بذاته. فإذن ، النظام الجمليّ الواقع بنفسه مرتبط بالمبدع الحقّ. وهو
، سبحانه ، بنفس ذاته لا بتوسط أمر ما ، إذ لا خارج أصلا ، فاعله ومقتضيه ،
فالنظام الوحدانىّ الجمليّ مرتبط بوحدته وهويّته بالواحد الحقّ المتشخّص بذاته ،
فهو ، لا محاله ، موجود شخصيّ بالذّات ، ونحو وجوده فائضا عنه سبحانه هو تشخّصه
ومبدأ شخصيّته.
وأمّا وكلّ من
أجزاء نظام الكلّ من المفارقات والهيولانيّات فيتشخّص بالصّدور عن جاعله جزءا من
النظام الجمليّ الواحد بالشخص. أفيتصوّر جزء الشّيء الشّخصيّ المتميّز عن سائر
أجزائه في الوجود بما هو جزؤه الخاصّ المتميّز إلّا شخصيّا.
فإذن ، الأشياء
إذا انبسطت وتفاصلت في لحاظ العقل وبانت عن المبدأ الأوّل ، صحّ تعليق [٢٩ ظ]
البعض بالبعض. فيقال في بادي اللّحظ : هذا من ذاك ، ولأجل ذلك ابتداء بلا واسطة ،
وإن انتهى الاستناد إليه ، سبحانه ، أخيرا بالضّرورة البرهانيّة.
وأمّا إذا لوحظت
جملتها بحسب النظام المتّسق الجمليّ الواحد ، فليس هناك إلّا موجود واحد بالنظام ،
متكثّر بالتأليف ، مستند بجميع أجزائه إلى الجاعل مرّة واحدة ، ومتشخص به ، فيكون
هو الفاعل والغاية على الإطلاق ، وهو الوجود والتشخّص القائم بالذّات ، ولا وجود
ولا تشخّص ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم. فهذا سرّ عظيم ربوبىّ قد
انساق القول إلى تقديمه على حيّزه ، وأوصيكم بصونه إلّا عمّن يستأهله بسعة تعقّله
واستضاءة سريرته.
إيماض
(١٤ ـ الوحدة الشّخصيّة)
أليس قد آن لك أن
تتعرّف أنّ الوحدة الشّخصيّة تختصّ من بين أنواع الوحدة بأنّها ليست بحيث يمكن أن
يزول عن موضوعها ، فتتعقّب عليه الكثرة الشخصيّة المقابلة ، بل هي ومقابلتها
ممتنعتا التعاقب على موضوع واحد. أعني : أن كلّ واحدة منهما بطباعها تتأبّى إلّا
أن يكون زوالها بزوال المعروض. إنّما احتمال التوارد شاكلة سائر أنواع الوحدة
والكثرة ، فقد دريت أن الوحدة الشّخصيّة مساوق الوجود. ومن المتهافت أن يبطل نحو
وجود الشّيء وتستمرّ ذاته ، فلا يتصوّر توارد وجودات على شيء ما بعينه بحركة ولا
لا بحركة.
وأيضا الوحدة
الشخصيّة مفهومها عدم الانقسام إلى الجزئيّات ، كما الوحدة الاتّصاليّة مفهومها
عدم الانقسام بالفعل إلى الأجزاء المقداريّة. فإذا أمكن زوالها عن الموضوع مع
استمرار الذّات بتعقّب الكثرة الشّخصيّة المقابلة لصحّ صيرورة الجزئيّ كليّا. وهذا
أصل ليس يستنكره أحد من حزب الحقيقة [٢٩ ب].
تشريق
(١٥ ـ التعاقب والتبادل)
تحققن : أنّه لا
فرق هناك في الاستحالة بين التعاقب التعقّبيّ من بعد الحصول والتبادل
الابتدائيّ من بدء
الفطرة ، فالبيانان ناهضان في الصّورتين ؛ بل إنّ كون الشّيء بحيث لا يأبى أن يكون
له في ابتداء الفطرة هذا النحو من الوجود أو ذاك ، وحقيقة الجزئيّة أو طبيعة
الكليّة أشهد بفساد نفسه من الّذي على سبيل التعاقب.
ثمّ لو كان لمفهوم
ما صلوح أن يكون من أوّل الفطرة إمّا على طباع إمكان تكثّر الأشخاص أو على طباع
امتناع الحمل على كثيرين ، كان إنّما له بحسب الذّات الطباع المشترك دون شيء من
الخصوصيّتين. فيكون كلّ من الأمرين بخصوصه له ، لا بنفس الذّات ، بل بمقتض من
خارج. فيكون الجزئيّ جزئيّا لا بالذّات بل بعلّة ، والكلّيّ كليّا لا بالذّات بل
بعلّة ، ولعلّ تسويغ ذلك إثم مبين.
سياقة
(١٦ ـ كلّ جسم فارد متحصل الذّات من جوهرين)
أما تهيّأت الآن
لسلوك السّبيل بالبرهان ، أليس إذا انفصل جسم فارد أو اتصل جسمان فاردان ، تبدّل
نحو وجود جوهره المتّصل بالذّات ، فزالت وحدته الشخصيّة ، فانعدمت ، لا محالة ،
ذات موضوعها ، أعني شخص الجوهر المتّصل بالذّات. فإذن ، لو لم يكن يبقى جزء آخر
جوهريّ من شخص الجسم ، لكان عند الانفصال يبطل بالمرّة ، وذلك نسخ حكم العقل وفسخ
إجماع الفريقين. فإذن ، كلّ جسم فارد متحصّل الذّات من جوهرين ينعدم أحدهما بشخصيّة
هويّته وينحفظ وجود الآخر مستمرّا بوحدته الشّخصيّة ، وهو الهيولى الأولى.
تشريق
(١٧ ـ الاتصال لا يقبل الانفصال)
وبما أريناك
السبيل بزغ النهج إلى أن يستتمّ مسلك الشركاء السالفين أيضا. وهو أنّ الاتّصال لا
يقبل الانفصال ، ولا في قوّته ذلك ، إذ هو عدمه ، والشّيء لا يقبل عدمه ، ولا [٢٩
ظ] نفسه ، إذ لا يعقل كون الشّيء قابلا لنفسه. فإذن ، لا بدّ من القابل للاتّصال
والانفصال قبولا يكون هو بعينه الموصوف بالأمرين.
ويزاح تشكيك
المستنكرين : «أنّ الاتّصال بالمعنى الإضافىّ يقابله الانفعال. وأمّا بمعنى
الطّبيعة الجوهريّة الممتدّة بنفس ذاته في الأبعاد ، فليس يتأبّى الاتّصال
والانفصال والوحدة والتّعدّد.» فالغلط من اشتراك اللفظ بأنّ الانفصال عدم الاتّصال
الإضافيّ ومستوجب انعدام الاتّصال الجوهريّ الواحد بالشخص ، لأنّه مساوق زوال
الوحدة الشّخصيّة أيضا ، لا مناط انتفاء الوحدة الاتّصاليّة فقط. فالاتصال
الحقيقيّ الواحد بالشخص أيضا ليس يقبل الانفصال والاتّصال الإضافيّين بين أجزائه
المقداريّة ، فالتخبّط من نقص الفحص وسوء الاعتبار. وأمّا أنّ الأعدام لا تستدعي
ثبوت محالّ تقبلها فإنّما يصحّ مطلقا في السّلوب الصّرفة لا في أعدام الملكات ، إذ
لها حظّ ما من الثبوت إلّا إذا لوحظت بما هي أعدام.
إيماض
(١٨ ـ الأجسام الذّيمقراطيسيّة)
حوول استنهاض
التبيان في الأجسام الذّيمقراطيسية : بأنّ القسمة الوهميّة أو الفرضيّة أو الّتي
باختلاف عرضين قارّين أو إضافيّين تحدث في كلّ من تلك الأجسام كثرة متشابهة للكلّ
في الطّباع ، وإن كان حصولها على الانفراز بالفعل في الذّهن ، والأفراد المتشابهة
بالماهيّة متضاهية في الأحكام بحسب جوهر الحقيقة.
فإذ تلك الأجسام
مفترقة الذّوات متفارزة الوجودات في الأعيان بحسب الذّات فما ينحلّ إليه كلّ منها
من الأقسام الذّهنيّة صحيحة الافتراق فى الأعيان بحسب الذّات بتّة وإن صدّها عن
ذلك عروض صوادم من خارج. فإذن ، قبول القسمة الوهميّة بالفعل يكشف قوّة قبول
القسمة الافتراقيّة ، فيتمّ نفاذ حكم البرهان.
وكذلك [٣٠ ب] ، إذ
الأقسام الذهنيّة من كلّ من تلك الأجسام موجودة في الأعيان على وصف الاتّصال ،
فتلك الأجسام أيضا غير مستنكفة بحسب طباعها عن قبول الاتّصال في الأعيان بتّة ،
وإن عاقها عن الالتحام بالفعل لحوق عوائق خارجة. فإذن ، اتّصال كلّ واحد واحد من
تلك الأجسام الصغار بالفعل في قوّة قوّة كلّ اثنين منها على قبول الاتّصال ،
فينتهض البرهان من هذا السّبيل أيضا.
وأمّا ابتناء ذلك
كلّه على كون تلك الأجسام متفقة بالطّبيعة فممّا لا يستضرّ به ، إذ ليس النّظر في
الجسم البسيط الفارد ، فكيف تأتلف من طبائع مختلفة على أنّ من يختلق هذا القول
يقول بتشابه الطّبيعة. ثمّ لو كان هناك اختلاف بالطّباع لم يكن من تلقاء طبيعة
الامتداد الّذي هو الجوهر الممتدّ ، فهي في نفسها واحدة وإليها النّظر في الاتّصال
والانفصال، بل هي طبيعة نوعيّة محصّلة.
تشريق
(١٩ ـ انفصال الأجسام)
كأنّك بما آتيناك
مستسهل ما عضّل عليهم الأمر أنّ للأجسام الذّيمقراطيسيّة انفصالا خلقيّا ، وكلّ
منها متّصل اتصالا من بدء الفطرة. فمقتضى كون كلّ ما لفرد ما من أفراد الطّبيعة
بالفعل لسائر الأفراد بالقوّة بحسب نفس الطّبيعة ليس إلّا إمكان الاتّصال
الفطريّ لها بدلا
عن الانفصال ، والانفصال الفطريّ لكلّ واحد منها بدلا عن الاتّصال من ابتداء
الخلقة لا على سبيل التعاقب ، ومناط انتهاض البرهان قوّة قبول الانفصال والاتّصال
الطاريين دون الخلقيّين.
أمّا تحقّقت : أنّ
الوحدة الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة في قوّة الوحدة الشّخصيّة والكثرة
الشّخصيّة بحسب الاستلزام في التّحقّق. لست أقول بحسب المفهوم. والوحدة الشّخصيّة
ومقابلتها مصطدمتان في إمكان التّوارد على معروض واحد تعقّبيّا وتبادلا ابتدائيّا.
فإذن ، التبيان ينتهض بلا امتراء فيه قطعا [٣١ ظ].
إيماض
(٢٠ ـ القسمة الوهميّة)
أليس قبول القسمة
الوهميّة مساوق قوّة قبول القسمة الافتراقيّة في الأعيان بالنّظر إلى نفس الطّبيعة
الامتداديّة بما هي هي. فالصورة الجرميّة الممتدّة بذاتها ليست بحسب نفس طبيعتها
تأبى قبول الانفصال الانفكاكيّ ، وإن صدّها عن فعليّة الانفكاك صادّ خارج عن
طباعها ، لازم كالصّورة النوعيّة الفكيّة ، أو زائل كالصّلابة والصّغر في بعض
الأجسام ، مثلا. فلو لم يكن هناك صلوح لقبول الانفكاك في نفس الأمر وقوّة عليه
بحسب طباع الجسميّة ، كان توهّم الانفصال من الأوهام الاختراعيّة كفرض انقسام
الجواهر المفارقة.
ومن المستبين :
أنّ الانفصال الوهمىّ من الفروض الانتزاعيّة ، ولا سيّما إذا فرض عرض سار في بعض
الفلك بحسب الأعيان ، وآخر سار في بعضه الآخر. فإذن ، نهوض التبيان في الأجسام
برمّتها فلكيّة وعنصريّة على سبيل واحد.
إيماض
(٢١ ـ الهيولى وما تقوم به)
إذا استبان وجود
ما له قوّة قبول الوحدة الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة ـ وهو الهيولى الاولى ـ فمستبين
: أنّ ما به تقوم تلك القوّة لا يصحّ أن يكون من الأمور البائنة عن الصّور
الجرميّة ، بل يجب أنّ يكون من مقارناتها بتّة. فالهيولى إمّا أنّها حالّة في
الصّورة الجرميّة ومن المستحيل أن يبقى الحالّ مستمرّا فتترادف عليه أفراد المحلّ
،
وإمّا أنّها
محلّها ، وهو الحقّ. وأيضا هي ناعتة للجوهر الباقي ، والمنعوت ، لا محالة ، محلّ
للناعت ، لكنّها ليست طبيعة ناعتيّة بحسب نفس ماهيّتها المرسلة ، فتلك شاكلة
الأعراض. بل إنّما ناعتيّتها بحسب هويّتها الشّخصيّة فحسب.
والصّورة الجرميّة
طبيعة نوعيّة قد تمّ تحصّلها ، وإنّما بقي لها أن تختلف بالخارجات عنها ،
كمشخّصاتها من الأعراض ومقارناتها من الصّور النّوعيّة ، لا بالفصول المضمّنة في
طبيعة الجنس متحدة [٣١ ب] معها في الوجود وفي اللحاظات ، اللهمّ إلّا في لحاظ
التّعيّن والإبهام. فهناك يلحظ تمايز ما ، لا على أنّها أمور لحقتها من خارج.
ولعلّ الغريزة
العقليّة تحكم أنّ أفراد الطّبيعة المحصّلة ، كما لا تختلف بالعرضيّة والجوهريّة ،
فكذلك لا تختلف بالحلول واللاحلول. فإذن ، طبيعة الصّورة الجرميّة بهويّاتها
الشّخصيّة لا يصحّ أن تختلف بالقياس إلى الهيولى بالاستغناء والفاقة ، بل هي
سواسية الأفراد في الافتقار إليها لتقوم فيها بالهويّة الشّخصيّة ، فلكيّة كانت أو
عنصريّة.
إيماض
(٢٢ ـ تشخّص الهيولى)
أليس قد بان لك
أنّ الوجود والتّشخّص والوحدة الشّخصيّة متساوقات ، وتشخّص الشّيء هو نحو وجوده
الخاص مرتبطا بالموجود الحقّ المتشخّص بذاته ، فاحكم : أنّ للهيولى في ذاتها تشخّصا محفوظا ووحدة شخصيّة باقية
بعينها في الاتّصال والانفصال ، وليست هي في نفسها وبهويتها الشّخصيّة متصلة ولا
منفصلة ، بل هي الحامل لصورة واحدة متصلة في الاتّصال ولصورتين متصلتين في
الانفصال ، فهي القابل للوحدة الاتّصاليّة والكثرة الانفصاليّة. فلا محالة ، لها
تشخّصات بالعرض من تلقاء الصّور الشّخصيّة الّتي هي محمولاتها على التّرادف ، وليس
يصادم شيء منها وحدتها الشخصيّة الذّاتيّة ، بل يحصّلها ويعيّنها.
فإذن ، هيولى كلّ
هويّة جرميّة بعينها واحدة شخصية في ذاتها ، وإنّما تستحقّ بوحدتها الشّخصيّة أن
تحمل من الصّور الجرميّة ما قسطها من المقدار تلك المرتبة
__________________
المساحيّة بعينها
، سواء كانت في اتّصال واحد أو في اتّصالات متعدّدة ، أيّ عدد كان ، بعد أن يضبطها
جميعا ذلك القسط المساحىّ بعينه.
فإذن ، طبيعة
الصّورة الجرميّة الّتي حظّها في المساحة ذلك القسط بعينه مقوّمة لوحدة هيولاها
الشّخصيّة الذّاتيّة ، وكلّ من تعيّناتها بحسب المراتب الاتّصاليّة والانفصاليّة
لا إلى نهاية محمولة فيها ومتقوّمة بها ومحصّلة [٣٢ ط] لوحدتها الشّخصيّة الذّاتيّة
المبهمة بالقياس إلى التشخّصات الّتي لها بالعرض ، وكلّ من تلك المراتب بتعيّنها
الشخصيّ ترفع ذلك الإبهام.
شك وتحقيق
(٢٣ ـ المادّة لا تقبل الانفصال)
أظنّ المتشكّكين
ليجتذبنّ سرّك بتشكيكهم : أنّه إذا طرأ الانفصال ، فمادّة كلّ من الهويّتين
الحادثتين : إمّا هي بعينها مادّة الأخرى ، وتأباه الفطرة والبرهان. وإمّا غيرها : فإمّا هما
موجودتان بالفعل قبل الانفصال أيضا ، فتكون كلّ مادّة مشتملة بالفعل على موادّ
متكثّرة إلى لا نهاية ، إزاء للانقسامات الممكنة لا إلى نهاية ؛ وإمّا حادثتان حين
الانفصال ، فتنفصل المادّة أيضا إلى جزءين هما المادّتان. فلم يكن بدّ من مادّة
أخرى للمادّة ، وإلّا كان الانفصال انعداما للصورة والمادّة بالمرّة ، فيساق
النّظر إلى انقسام تلك المادّة أيضا إلى مادّتى المادّتين ، وهكذا إلى لا نهاية.
فتحققن : أنّ
المادّة بحسب وحدتها الشّخصيّة الذّاتية ليست تتهيّأ لقبول شيء من الانفصالات أصلا
، بل إنّما تقبل الانقسام بحسب وحدتها الشّخصيّة بالعرض ، من تلقاء وحدة الصّورة
المتّصلة الّتي هي حاملتها. فهيولى الذّراع من الصّورة الجرميّة مثلا هويّة شخصيّة
واحدة لا تأبى اتّصال الذّراع ممتدّا واحدا أو انفصاله ممتدّين أو أكثر لا إلى
نهاية. فإذا انفصل الذّراع إلى نصفين لم يكن هيولى كلّ من النّصفين بما هي منحازة
عن هيولى النّصف الآخر جزءا من هيولى الذّراع الشّخصيّة ، بل إنّما جزئيّتها لها
بما هي هيولى النّصف بحسب التّكسير والمساحة ، سواء كان النّصفان متّصلا واحدا أو
متّصلين أو متصلات متكثّرة على أيّ عدد كان ؛ نعم كلّ منهما
__________________
بحسب الانفصال جزء
من هيولى الذّراع من حيث الصّورة الواحدة الاتّصاليّة.
فإذن ، انفصال
الذّراع من حيث الصّورة الواحدة [٣٢ ب] الاتّصاليّة ليس انفصال هيولاه بما هي
هيولى واحدة شخصيّة ، بل إنّما هو انفصالها بما هي حاملة لوحدته الاتّصاليّة
الشّخصيّة ، الّتي هي له بالذّات ولها بالعرض.
فإذن ، مادّتا
الجسمين منفصلتان بما هما مادّتاهما ، لا بما هما جزءان من الهيولى الشّخصيّة
الّتي هي مادّة مجموع الجسمين ، أليس لا يعتبر بحسب ذلك فيهما اتصال ولا انفصال
أصلا ، فلا محالة ، ليس يتصوّر في هويّتها الشّخصيّة انفصال بالذّات ، فهي بعينها
منحفظة في مراتب الاتّصال والانفصال أبدا.
إيماض
(٢٤ ـ معانى الوحدة)
إنّ للوحدة معنيين
: أحدهما : ما نفي الكثرة من لوازمه ، كالوحدة الاتّصاليّة ، فهي ، لا محالة ،
معنى ما وجودىّ يلزمه سلب الكثرة فيه ؛ والآخر ما هو من لوازم نفى الكثرة ، بل عين
سلب الكثرة. ومن هذا القسم : ما هي لازمة للهيولى بحسب هويّتها الشّخصيّة
المستمرّة ذاتا وتشخّصا في الاتّصالات والانفصالات جميعا. فما أشبه وحدتها
الشّخصيّة المبهمة في انحفاظها بالوحدة الوفقيّة العدديّة المحفوظة في مراتب
الكثرة في الأضلاع والأقطار ، والقسم الأول لازم للصورة الجرميّة الشّخصيّة وعارض
للهيولى الشّخصيّة بتوسّطها.
فالاتّصال ليس
شيئا به يكون المتّصل متّصلا ، بل إنّما هو نفس متّصليّة الشّيء : إمّا متّصليّة
المتّصل بنفس الذّات أو متّصليّة الذّات بالارتباط بالمتّصل بنفس الذّات.
كما القبليّة
الزّمانيّة : إمّا قبليّة القبل الزّمانيّ بنفس الذّات أو قبليّة الشّيء بالارتباط
بالقبل الزّمانيّ بنفس الذّات.
وما أشبه ذلك
بالوجود ، فإنّه ليس أمرا به تكون الموجوديّة ، بل إنّه نفس الموجوديّة : إمّا
موجوديّة الموجود بنفس الذّات أو موجوديّة الشّيء بالارتباط بالموجود بنفس الذّات
، وكذلك التّشخّص نفس متشخصيّة المتشخّص : إمّا بنفس الذّات أو بالارتباط
بالمتشخّص بنفس الذّات. [٣٣ ظ].
إيماض
(٢٥ ـ أقسام الوحدة)
إنّ لكلّ اثنين من
الأثانين وحدة شخصيّة قد غشيت الكثرة بحسبها الامتياز عن سائر معروضات الاثنينيّة
، بل أشخاص الموجودات بأسرها. ولا تصادمها الاثنينيّة بل إنّها معتبرة فيها.
ولهيولى الجسمين وحدة شخصيّة بحسبها الامتياز عن سائر الهيوليات بل سائر أشخاص
عالم التقرّر ، ولا يستدعى اثنينيّة الجسم ولا وحدته ولا تأباهما ، ولا شيئا من
مراتب الكثرة فيه.
فللطّبيعة
الجنسيّة ، كالحيوان ، وحدة مبهمة بالقياس إلى حقائق متباينة هي عينها بالذّات في
مرتبة جوهر الحقيقة ، بحسبها التّميّز عن سائر الطّبائع الجنسيّة والإبهام بالنّظر
إلى تلك الحقائق في حدّ أنفسها.
وللطّبيعة
النوعيّة ، كالانسان ، وحدة محصّلة بالقياس إلى سائر الحقائق ، مبهمة بالقياس إلى
أشخاصها الّتي هي عينها وتمام حقيقتها بالذّات.
ولطبيعة العرضىّ
كالأبيض ، ـ أي : طبيعة مطلق الذّات المنتسب إليها البياض على التّحييث البحت ، لا
على اعتبار البياض والنّسبة بالدّخول فيها ـ وحدة مبهمة بالقياس إلى الذّوات الّتي
هي عينها بالعرض وفي مرتبة بعد مرتبة جوهر الذّات ، بحسبها التّميّز عن طبائع سائر
المعروضات (العرضيات ل) بل المفهومات بأسرها ، والإبهام بالنّظر إلى تلك الذّوات،
لا بحسب مرتبة الذّات وجوهر الحقيقة ، بل بحسب أنّها ذوات معروضة للبياض مثلا ،
وإنّما ذلك في مرتبة متأخّرة.
ولكلّ واحدة من
الهيوليّات الموجودة وحدة شخصيّة مبهمة ، بحسبها فعليّة التّحصّل الشخصىّ في حدّ
نفسها وقوّة الحامليّة الإبهاميّة بالقياس إلى شخصيّات أجسام هي هيولاها.
إيماض
(٢٦ ـ الهيوليات حقائق)
اعلمن أنّ
الهيوليات حقائق متخالفة بالنّوع ، وكلّ حقيقة هيولويّة تستحق بذاتها شخصيّة
بخصوصها متخصصة بمرتبة مساحيّة بعينها من الطّبيعة الممتدّة بالذّات ،
سواء كانت في اتّصال
واحد أو في اتصالات متكثّرة ، أىّ تكثّر كان [٣٣ ب].
فإذن ، هيولى عالم
أسطقسات الكون والفساد ، من مركز العالم إلى مقعّر فلك القمر، شخص واحد مخالف
الحقيقة النّوعيّة لسائر الهيوليّات مستمرّ الوجود والتشخّص في أطوار اتّصالات
الصّورة الجرمانيّة وانفصالاتها واختلافات الصّور الطّبيعيّة وانقلاباتها أبدا. أليس
أنّ كثرة أمواج البحر واختلاف ألوان المياه الّتي هي أجزاؤه لا تستوجب افتراز
البحر عن الوحدة الّتي لذاته.
فالهيولى الّتي
مقرّها جوف فلك القمر أمر واحد بالشّخص ، كالبحر الّذي هو واحد بلحاظ ذاته ،
والعناصر والحوادث اليوميّة ، كالأمواج والألوان. فكما البحر لا يفترز بكثرة
الأمواج والألوان عن وحدة الذّات ، فكذلك هيولى العناصر لا يفترز بكثرة الصّور
العنصريّة من الأسطقسات والمواليد عن وحدتها الشّخصيّة المخصوصة بها.
ولعلّ التّعبير عن
الهيولى بالبحر من أسرار التّنزيل الكريم في بعض متشابهات القرآن الحكيم. وكذلك
هيوليات الأفلاك أشخاص مختلفة بالنوع متهيّئة لقبول الاتّصال والانفصال، وإن كانت
الصّور النّوعيّة الفلكيّة قد استوجبت لزوم الوحدة الاتّصاليّة المساوقة لوحدة
الصّورة الجرميّة بالشّخص.
إيماض
(٢٧ ـ تألّف الجسم انضماميّ لا
اتحاديّ)
أليس انعدام
الشّيء ببعض أجزائه دون بعض إنّما يتصوّر في المركّبات الخارجيّة ، لا في
الماهيّات البسيطة بحسب الأعيان وإن كان تحصّلها في لحاظ التعيّن والإبهام من
جوهريّاتها بطبائعها المرسلة المحمولة. أمّا لديك من المنصرح : أنّ طبائع
المقوّمات المحمولة متّحدة جعلا وتقرّرا ، فكيف تتفارز بالبقاء والزوال في
الماهيّة البسيطة. وقد انصرح : أنّ الهيولى الشخصيّة تبقى مع طروء الانفصال وتزول
الشّخصيّة الجرمانيّة.
فإذن ، تألّف
الجسم منهما انضمامىّ بوجود الصّورة في الهيولى في الأعيان ، لا تركيب اتّحاديّ في
العقل. فهما مادّة وصورة خارجيّتان للجسم ، لا جنس وفصل له. ووجود الصّورة الشّخصيّة الجرمانيّة في ذاتها هو [٣٤ ظ]
بعينه وجودها في الهيولى. فلا محالة عدمها عنها هو بعينه عدمها في ذاتها.
حكومة
(٢٨ ـ الاتّصال والانفصال في الهيولى)
ولو عزلنا النّظر
عن قضاء البرهان : أنّ طروء الانفصال يستوجب انعدام الجوهر الشّخصيّ المتّصل ،
فإجراء حكم الهيولى المبهمة الذّات بوحدتها الشّخصيّة على الجوهر الممتدّ بالذّات
المستتمّ التحصّل بالفعل ، على ما قد تجسّمته الفئة المستنكرة ، قياس تخمينيّ بلا
جامع. أليس إذا لم تكن نفس ذات الجرميّة بما هي هي متصلة في مرتبة جوهر الحقيقة ،
بل كان اتصالها من تلقاء العارض ـ أي : الكميّة التعليميّة ـ كانت ، لا محالة ،
بحسب الوجود في مرتبة ذاتها الشّخصيّة : إمّا من مفارقات الأحياز والأبعاد والجهات
مطلقا ثمّ يلحقها التّعلّق بها أخيرا ، وإمّا متألّفة الذّات من جواهر متفاصلة
متجاورة غير متجزّية متناهيّة أو غير متناهيّة ، ثمّ يلحقها الاتّصال وقبول
التجزئة لا إلى نهاية في المرتبة المتأخّرة ، وذلك متهافت بالضّرورة الفطريّة ،
فهي بما هي هي في حدّ ذاتها متصلة ممتدّة واحدة بالوحدة الاتّصاليّة الزّائلة عند
الانفصال بتّة.
وأمّا الهيولى
فليست بحيث (بحسب ل) ذاتها متّصلة ولا منفصلة ، بل إنّما لها الاتّصال أو الانفصال
من تلقاء عارضها ـ أعني الصّورة الجرميّة الواحدة أو المتكثّرة ـ ولا يلزم شيء من
المحالات ، إذ الهيولى ليست تتقدّم بالذّات على طبيعة الاتّصال ، كما تتقدم الصّورة
الجرميّة على الكميّة التعليميّة. فلا تكون في مرتبة ذاتها الشّخصيّة خلوا عن
الوحدة الاتّصاليّة ومقابلتها جميعا ، وإن لم يكن ذلك لها بلحاظ جوهرها. وهذه دقيقة نشأت
من كون الصّورة الجرميّة الحالّة فيها جوهرا ، بخلاف الجسميّة التّعليميّة العارضة
للجرميّة الطّبيعيّة. فالمحلّ يتقدّم تقدّما بالذّات على شخصيّة الحالّ العرضيّ
وعلى طبيعته المرسلة النّاعتيّة جميعا وعلى شخصيّة الحالّ الجوهريّ دون طبيعته
المرسلة القائمة بذاتها.
فلذلك كانت
الصّورة الجرميّة [٣٤ ب] ، بطبيعتها المرسلة وبما هي صورة ما ، مقوّمة لشخصيّة الهيولى
، وكذلك لوجودها بما هي هيولى ما ومتقدّمة عليها بالذّات وبما هي صورة شخصيّة
بعينها قائمة في ها ومتأخّرة عنها. فهي توجد متّصلة فتنفصل أو منفصلة فتتّصل وهي
باقية بذاتها ، والصّورة الجرميّة لا توجد ذاتها ، إلّا متصلة ، فتزول عند
الانفصال.
تنبيه
(٢٩ ـ الحجميّة وشاغليّة الحيّز والوضع
والتناهى والتشكل للهيولى من اقتران الصورة) إنّما الحجميّة وشاغليّة الحيّز والوضع والتّناهي والتّشكل
للهيولى الأولى بالاستفادة ، أي : لا بحسب نفسها منفردة ، بل من قبل اقتران
الصّورة الجرميّة ، فالامتدادات الإشاريّة تكتنفها ، وهي متلبّسة بالصورة حاملة.
إيماض
(٣٠ ـ برهان القوّة والفعل لها)
إنّ لسياقة
البرهان مسلكا آخر من سبيل القوّة والفعل ، فإنّ للجسم المتّصل بالفعل قوّة قبول
صورتين اتّصالتين بالانفصال ، ثمّ عود ذلك الاتّصال ، أي : تجدّد مثله بالالتحام.
فقوّة هذا القبول غير وجود المقبول بالفعل وغير هيأته وصورته. وما له هذه القوّة
غير ما له فعل الاتصال بالذّات. بل كلّ جسم فهو : من حيث جسميّته موجود بالفعل ،
وله الصّورة الجرميّة ، وهي معنى محصّل بالفعل ، ومن حيث إنّه مستعدّ ، أيّ
استعداد شئت ، فهو بالقوّة ، إذ يقوى على قبول أمور غير متناهيّة وكمالات غير
محصورة ، والشّيء الواحد من الجهة الواحدة لا يكون مبدأ القوّة والفعل جميعا. فإذن
، الجسم مركّب ممّا عنه له القوّة وممّا عنه له الفعل ، فالّذي بالفعل صورته ،
والّذي بالقوّة مادّته ، وهو الهيولى.
فإن أوهم : أنّ
الهيولى في نفسها جوهر موجود بالفعل ، وهي أيضا مستعدّة ، فيلزم تركّبها أيضا من
مادّة وصورة ، وهكذا إلى لا نهاية.
ازيح : بأنّ الفعل
هناك فعل القوّة ، والجوهريّة جوهريّة استعداديّة ، وليس في الوجود حقيقة تكون
الهيولى بها بالفعل ، وحقيقة [٣٥ ظ] أخرى تكون بها بالقوّة ، بل نسبتها إلى هذين
المعنيين أشبه بنسبة البسيط إلى الجنس والفصل منها بنسبة المركّب إلى المادّة
والصّورة. فإذن ، الهيولى أمر جنسه الجوهر وفصله أنّه مستعدّ لكلّ صورة ، فهي بما
هي بالفعل ليس لها إلّا الاستعداد المطلق.
تشريق
(٣١ ـ القوّة والفعل في عالم الجواز)
كلّ ما في عالم
التّقرّر من الجائزات حتّى الأنوار العقليّة مزدوج من مفهومى ما بالقوّة وما
بالفعل بحسب جوهر الماهيّة وبحسب الاستناد إلى الموجود الحقّ وإن لم يكن له معنى
ما بالقوّة أصلا. ثمّ الهيولانيّات نأت عن صقع المجد ، فلم تستدفع أن يكون لها مع
ذلك أيضا معنى ما بالفعل ومعنى ما بالقوّة.
والهيولى نفسها
توغّلت في النّأى والهبوط ، فواقت افق نقص الذّات واستقرّت على مركز وهن الحقيقة ،
فكانت ذاتها مع ذلك كلّه إنّما لها الفعليّة مضمّنة فيها القوّة. فحيثيّة جوهريّتها
متضمّنة للاستعداد البحت المرسل وفعليّتها للقوّة الصرفة المطلقة. وكذلك شاكلة
حقيقة الحركة. فلها أيضا فعليّة مضمّنة فيها القوّة ، فلذلك أبدعهما العليم الحكيم
عاملتين على الإعداد والاستعداد ، لانتظام الحدوث في افق الزّمان على الاتّصال ،
وتهيئة الحوادث الزّمانيّة لقبول الفيض على الاستمرار ، كى يتصل الخير ويستمرّ
النظام ولا يتعطّل الجود ولا يتصرّم الإفاضة.
إيماض
(٣٢ ـ معنى تشخّص الشّيء)
وإذ قد بان لك :
أنّ تشخّص الشّيء المجعول هو نحو وجوده المرتبط بجاعله المتشخّص بالذّات بالفيضان
عنه متميّزا ، فاحدس أنّ الطبيعة المحصّلة النوعيّة لا تتكثّر بالأشخاص إلّا من
جنبة المادّة ، إذ ليست تقبل وجودات تترى وصدورات شتّى عن الجاعل إلّا باختلاف
استعدادات المادّة وتكثّرات عوارض المادّة.
وأيضا المعنى
الوحدانيّ لا يتكثّر بذاته وإلّا لم يوجد واحد منه أصلا. [٣٥ ب] إذ كلّ واحد منه
يكون لا محالة ، على طباعه. وإذا لم يكن واحد لم تكن كثرة أيضا ، فالكثرة لا تكون
إلّا من الوحدات. فإذا فرضنا المعنى الوحدانيّ يتكثّر بذاته فقد أبطلنا الكثرة.
فإذن ، الأشياء
الّتي لها حدّ نوعيّ واحد إنّما كثرتها للمادّة الّتي هي القوّة القابلة لتأثيرات
الفاعل. فكلّ ما ليس ماديّا ، فإنّ من حق طباعه أن يكون نوعه في شخصه ، والجاعل
بذاته يبدع ماهيّته ويفعل وجوده الّذي هو بعينه تشخّصه.
فإن اوهم : أنّ
تكثّر المتماثلات لو كان لتكثّر المحالّ لافتقرت المحالّ المتكثّرة إلى محالّ أخر
ويتسلسل.
ازيح : بأنّ تكثّر
المادّة بحسب تكثّر الصّورة ، وتكثّر الصّورة لنفس المادّة القابلة ، لا لتكثّرها.
وأمّا أنّه لو لا تغاير المحلّين لم يتغاير الحالّان ، كما لو لا تغاير الحالّين
لم يتغاير المحلّان ، فيدور ، فإنّما يشكل لو لم تكن قوّة القبول إلّا للمحلّين
المتغايرين بالذّات البتّة. والهيولى الأولى بوحدتها الشّخصيّة تقوى على قبول
المتكثّرات ، ثمّ هي تتكثّر لا بالذّات ، بل إنّما بالعرض. على أنّ ذلك لا يستلزم
توقّف كلّ من ذينك المتغايرين على الآخر ، بل إنّما التلازم بينهما كما في
المتضايفين.
تنبيه
(٣٣ ـ النّوع في الشّخص)
وكذلك إذا كان نوع
ما مادّيّ قد استحقّ بطباعه ما يعوقه عن الانفصال ، فإنّ من المستحيل أنّ يتعدّد
أشخاصه في الوجود ، فمن حقّه أنّ يكون نوعه في شخصه.
تنبيه
(٣٤ ـ حكم ما ليس في إقليم الهيولى)
فإذ دريت أنّ
الانفعال من عوارض القوّة الّتي هي شاكلة جوهر المادّة ، ومن البيّن أنّه لا تغيّر
إلّا بانفعال ما ، فاحكم أنّ ما ليس في إقليم الهيولى فإنّه لا يصحّ أن يكون
موضوعا للتغيّر أصلا.
تكملة السّقاية [الثّالثة]
بذكر ما يلتصق بإثبات الهيولى أشدّ الالتصاق [٣٦ ظ]
إيماض
(١ ـ البرهان على عدم تمادي البعد)
ليكن لديك من
المحقّق أنّه لا يتمادى بعد في ملأ أو خلأ إن جاز وجوده إلى لا نهاية. ومن البراهين عليه
برهان الحيثيّات ، وهو أنّه إذا كانت حيثيّات أو أعداد مترتّبة بالطّبع أو نقاط
مترتّبة في الوضع : فإن كان بين حيثيّة ما وحيثيّة أخرى منها أيّتها كانت ، أو
نقطة ما ونقطة أخرى أيّتها كانت ، لا يتناهى ، فقد انحصر عديم النهاية بين طرفين
حاصرى الترتيب ، وهو فطريّ البطلان ومن الفطريّات الأوائل ؛ وإن كان بين كلّ واحدة
من تلك الحيثيّات وأيّة حيثيّة كانت أو من النقاط وأيّة نقطة كانت على الاستغراق
الشمولىّ ليس يقع إلّا متناه ، فالكلّ أيضا متناه بتّة.
وليس هذا حكما على
الكلّ الجمليّ بما حكم به على كلّ واحد من الآحاد ، فربما يكذب ، كما لو قيل : كلّ
واحد واحد من أبعاض هذا المقدار دون الذّراع ، فهو أيضا دون الذّراع ، وربّما يكون
هو ذراعا أو أكثر ، فيتناول الحكم كلّا من الأبعاض المترتّبة ويكذب على الجملة ،
بل إنّه حكم إجماليّ على المترتّبات على الاستغراق بحيث يستوجب أن يتناول الجملة ،
كما لو قيل : ما بين هذه النّقطة الطرف وأيّة نقطة توجد أو تفرض في هذا المقدار
دون الذّراع ، فهذا المقدار دون الذّراع ، فإنّه إذا صدق ذلك الحكم على الاستغراق
الشّمولىّ كان المقدار بجملته دون الذّراع بالضّرورة الفطريّة.
فإذن ، لو امتدّ
بعد ما إلى لا نهاية ، لزم إمّا أن يكون بين المبدأ مثلا وبين حدّ ما من حدوده
الموجودة أو المفروضة امتداد عديم النهاية ، وهو باطل ؛ أو يكون الامتداد بينه
وبين أيّ حدّ فرض من الحدود الممكنة الانفراض ، في اللحاظ الإجماليّ على
العموم
الاستغراقىّ ، متناهيا بالفعل [٣٦ ب] البتّة. فإذن ، لا منتدح للمجموع عن حكم
التّناهي بتّة ، إذ من المبدأ إلى كلّ ما بلغه الامتداد بالفعل متناه ، وإلّا لم
يصدق ذلك الحكم على الإحاطة الاستغراقيّة ، فإذن قد بطل فرض اللّانهاية بالخلف.
إيماض
(٢ ـ البرهان السّلمىّ)
والبيان الأوفى
للبرهان السّلّميّ أنّه لو امتدّ ساقا مثلّث إلى لا نهاية وفرضت فى الانفراج أبعاد
غير متناهيّة ـ فوق بعد ما سمّى البعد الأصل ـ زائدة عليه ، لا محالة ، ومتزايدة
تزايدا لا على سبيل التناقض ، فتكون هناك زيادات على البعد الأصل إلى لا نهاية
متساوية المقدار أو متفاضلته ؛ وكلّ زيادة فإنّها مع المزيد عليه مشتمل عليها في
بعد واحد فوقها. فكلّ بعد مشتمل ، لا محالة ، على جميع الأبعاد المتزايدة
الّتي دونه ، وأيّة زيادات أمكنت إذا أخذت معا وجدت موجودة مع المزيد عليه في
واحد. أليس إذا لم يكن كذلك كان بعد ما مشتمل على جملة ما دونه غير مشتمل عليه في
واحد فوقه ، فيكون لا جرم هو آخر الأبعاد الانفراجيّة الممكنة ، وهو خرق فرض
اللّانهاية.
فإذن ، كلّ زيادة
وكلّ مجموع أبعاد متزايدة ، أىّ مجموع كان ، على الإحاطة الاستغراقيّة في اللّحاظ
الإجمالىّ محكوم عليها بالاجتماع في واحد فوقها. ولا يستدفع هذا الحكم في اللّحاظ
الإجماليّ شيء من المجموعات أصلا. فهذه المقدّمة في البرهان السّلمىّ في حيّز
فيئيّتها في برهان الحيثيّات. فإذن ، مجموع الأبعاد المتزايدة اللامتناهيّة مشتمل
عليها في بعد واحد فوقها قطعا ، فقد صار عديم النّهاية بالفعل محصورا بين السّاقين
الحاصرين ، ثمّ لزم انتهاء السّاقين عند ذلك البعد ، إذ لو نفدا وراءه لوجد بعد
فوقه ، فاتلأبّ التبيان بالاستقامة والخلف معا.
إيماض
(٣ ـ برهان الحيثيّات) [٣٧ ظ]
ألم يقرع سمعك ما
ذهب إليه أترابي السالفون من المعلمين والرّؤساء ـ واخترته أنا
__________________
وأفتيت به وبرهنت
عليه في صحفى ـ وهو وجود الحركة القطعيّة المتّصلة والزّمان الممتدّ الّذي هو
مقدارها في الأعيان ، لا على قرار الذّات بحسب أفق التّغيّر وبالنّسبة إلى
المتغيّرات وعلى اجتماع الأجزاء في الوعاء الّذي هو الدّهر وبالقياس إلى الموجودات
الثابتة. فاحكم أنّ ما يقضى بامتناع اللّانهاية ، كبرهان الحيثيّات وما يضاهيه
ممّا سيتلى عليك من ذي قبل ، إن شاء الله تعالى ، منتهض بالحكم هناك أيضا ، لتحقّق
الوصفين ، التّرتّب والاجتماع في الوجود.
فمن هناك أيضا
ينتظم الدّليل على حدوث عالم الجواز ، بناء على ما استمرّت عليه أوهام الجماهير ،
أنّ قدم الزّمان في قوّة تمادي امتداده في جهة الماضى إلى لا نهاية ، وحدوثه في
قوّة تناهيه في تلك الجهة. ولكن ذلك وهم محقوقف ، أساسه عدم تعرّف الحدوث الدّهريّ
كنه التعرّف ، وقياس الشأن فيه على الحدوث الزّمانيّ.
والفحص الغائر في
عمق العلم يسوق العقل الملكوتىّ إلى القضاء بأنّ حدوث الشّيء المقداريّ ، بعد صريح
العدم في وعاء الدّهر ، ليس يستوجب النّهاية في تماديه ولا يصادم اللّانهاية فيه ؛
وكذلك قدمه في الدّهر ليس يستوجب لا تناهى مقداره ولا يصادم تناهيه ، بل الأمر
إنّما يستعلم بأنظار أخر. والممتدّات القارّة والممتدات الغير القارّة في ذلك سواء. فإذن ،
إنّما الاستدلال على الحدوث الدّهريّ من ذلك السّبيل عند حزب الحقّ من البيانات
الجدليّة المحمودة ، لا من التبيانات الفحصيّة البرهانيّة.
إيماض
(٤ ـ امتناع اللّانهاية)
ليس يختصّ امتناع
اللّانهاية ونهوض [٢٦ ب] البرهان بإيجابه في الأبعاد القارّة وفي الامتدادات الغير
القارّة بالوجود العينىّ فقط ، بل يستحيل أيضا أن يوجد في الذهن ما يحمل عليه
الممتدّ إلى لا نهاية بالفعل ، الحمل الشائع الصّناعىّ. وأمّا إمكان تصوّر
الامتداد الغير المتناهي ، فإنّما معناه إضافة الذّهن مفهوم اللّانهاية ، بما هو
هذا المفهوم ، إلى مفهوم الامتداد وتصوّرهما مع تصوّر تلك الإضافة ، وهذه النكتة
مطّردة في تصوّر الممتنعات.
إيماض
(٥ ـ العالم متناه)
وإذا كانت الأبعاد
محدودة فالجهات محدودة ، فالعالم متناه ، فليس للعالم خارج خال، وإذا لم يكن خارج
لم يكن شيء من خارج. فالبارى ، عزّ اسمه ، وجوده متعال عن المكان والزّمان وعن أن
يكون في داخل أو خارج ، والرّوحانيّون المقرّبون من ملائكته أيضا كذلك.
إيماض
(٦ ـ حكم العالم والزّمان ...)
الجهات نهايات الامتدادات
، وإليها اتّجاه الحركات ، والعالم في نفسه لا علو له ولا سفل ، إنّما العلو
والسّفل لما فيه من الأجرام بقياس بعضها إلى بعض. فالامتداد الإشاريّ من المركز
إلى المحيط علو وسمك ويتحدّد بالمحيط ، ومن المحيط إلى المركز سفل وعمق ويتحدّد
بالمركز. فإذا فرض أنّ شخصا ما عند السّطح المحيط بالكلّ لم يكن له أنّ يمدّ يده
إلى الخارج ، لا لمصادم مقداريّ ، بل لانتفاء الجهة والبعد.
وكذلك الزّمان في
نفسه ليس له مضىّ واستقبال ، وإنّما المضىّ والاستقبال لأجزائه بقياس بعضها إلى
بعض ، ولمقارنات أجزائه كذلك. وجهة المضىّ إلى حيث قد تحقق امتداد الزّمان أزل
زمانىّ ، وجهة الاستقبال أبد زمانىّ ، والأزليّة والسرمديّة في وعاء الدّهر طور
آخر أعلى وأرفع.
وليس لمتوهّم أن
يتوهّم : حدوث شيء قبل الزّمان أو امتدادا في أيس أو ليس مع عدمه ، بل قبل الزّمان
عدم صريح لن يتصوّر أنّ يقع فيه انبساط وامتداد ويتميّز حدّ عن حدّ وحال عن حال
أصلا. فمن أمانى [٣٨ ظ] الأوهام السّوداويّة إمكان واسطة في الوجود بين الباري ،
عزّ اسمه ، وبين الحوادث الدّهريّة تحدث في الوعاء الّذي هو الدّهر قبلها.
تنبيه
(٧ ـ الطّبيعة والهيولى)
كأنّك إن حصّلت ما
أصّلته لك ، علمت أنّ الطبيعة الجرميّة الامتداديّة بممتديّة جوهرها تأبى مفارقة
الهيولى في الوجود ، وإلّا لوجدت متشخّصة ولا قوّة هناك على قبول الانفصال أصلا ،
ولاختلفت أشخاص طبيعة محصّلة نوعيّة بالحلول واللّاحلول. والهيولى بهيوليّتها ليست
تقبل أن توجد متجرّدة عن الصّورة ، وإلّا لتحصّلت بشخصيّتها ، وليس هناك شيء من
الاتّصال والانفصال ليسيّة بالمرّة ، فلم يكن وحدتها الشّخصيّة مبهمة لا تتعيّن
إلّا باتّصال أو انفصال قطعا ، فلم تستمرّ الهيولى على سنّة الهيوليّة. وذلك كلّه
فاسد بالغريزة الحدسيّة والضرورة الفحصيّة. فإذن ، أنت بما أوتيت لفي مندوحة من تعمّقات السّلّاف
الأوائل في هذه المسائل.
إيماض
(٨ ـ صور قائمة بالهيولى الاولى)
إنّ هناك صورا
أخرى زائدة على الصّورة الجرميّة تقوم بالهيولى الأولى فتنوّعها بالعرض ، والجسم
المطلق المتألّف من الهيولى والصّورة الجرميّة بالذّات ، وهي الصّور الطّبيعيّة. أليس
من الحدسيّات اختلاف البسائط الأسطقسّية بالحقيقة النوعيّة ، وكذلك المركّبات
الطّبيعيّة الّتي لها تأحّد بالطّبع ، كالمواليد وأنواعها ، لا الصّناعيّة الّتي
إنّما تأحّدها بالفرض والصّنعة ، كالبيت والكرسيّ ، مثلا.
ولعلّ من
القطعيّات بالضّرورة الفطريّة أنّ تضامّ المقولات المتباينة لا يحصّل حقيقة
وحدانية. وكيف يتأحّد الشّيء نوعا محصّلا من جنسين عاليين ، ولا سيّما من جنس
الجوهر [٣٨ ب] وشيء من أجناس الأعراض والجسميّة المطلقة طباع مشترك بين جميع
الأقسام.
فإذن ، هناك جوهر
آخر به التّحصّل والتّنوّع ، والجسم يتأحّد من هذه الجواهر الثّالثة تأحّدا نوعيّا
بالفعل ، لا بتصنّع ولا بفرض فارض. والعرض إنّما يصحّ أنّ يدخل في التشخّص
والتصنّف ، لا في تحصّل الحقيقة النوعيّة.
إيماض
(٩ ـ الأجسام المختلفة)
وأيضا ، الأجسام
في حدّ أنفسها ، مع عزل النّظر عمّا يلحقها من خارج ، تختلف بقبول التّفكّك
والالتحام بسهولة وعسر واللاقبول رأسا ، وفي طلب الأمكنة والأحياز والأوضاع ، وفي
استحقاق المقادير والحجوم والأشكال والكيفيّات الأربع الفعليّتين والانفعاليّتين.
فهذه الأعراض لها
، لا محالة ، مباد في تجوهر الأجسام وراء الجسميّة المطلقة المشتركة بين الجميع ،
والمادّة المستعدّة الّتي شاكلتها القوّة والقبول. وتلك المبادى هي الصّور
المنوّعة الطّبيعيّة العاشقة لتلك الأعراض والآثار.
فالصّور النّوعيّة
فائضة عن بارئها مختلفة ، وإنّما انتهاؤها واستنادها إلى عناية البارئ الوهّاب.
فهو ، سبحانه ، باختياره الحقّ يهبها للموادّ المستحقّة حسبما تستوهب وتسأل بلسان
الاستعداد. فالفعّال المختار لا يختار إلّا باستحقاق مخصّص ، ولا يفعل إلّا بحكمة
من حجّة.
والطبائع وقواها
ملائكة جسمانيّة. ومن ملائكة الله الرّوحانيّين المسبّحين أيضا ـ وهم الجواهر
المفارقة العقليّة ـ من يقوم بكلاءة النّوع وتربيته بإذن الله. فالصّور النّوعيّة
بما يترتّب عليها من الآثار كظلّ له ، بما له من الهيئات النّوريّة. وسنتلو عليك
طبقات العقول ومراتب الأنوار المفارقة ، إن شاء الله تعالى وحده.
إيماض
(١٠ ـ معدّات الصّور السابقة واللاحقة)
فلا تحسبنّ وجود
الحامل المشترك الواحد بالتشخص كافيا في تعيّن صورة طبيعيّة تفيض عليه من لدن واهب
الصّور ، [٣٩ ظ] ، بل إنّ الصّور السّابقة والاستعدادات المتسابقة على سبيل
الارتباط بالحركات الدّوريّة السّماويّة من معدّات الصّور اللاحقة.
إيماض
(١١ ـ المعدّات للصّور الجرمانيّة)
وكذلك ليس وجود
الحامل الشّخصيّ المشترك يكفي لأن يتشخّص الصّورة الجرمانيّة. أما بان لك : أنّ
الشّيء إذا كان هو المتهيّئ لقبول الفيض ، كالعقل ، كان
الفاعل الحقّ
بذاته يفعل ما ماهيّته المرسلة وتشخّصه الخاصّ جميعا ، فيكون ، لا محالة ، نوعه في
شخصه. وإذا لم يكن له في الفيضان بدّ من قابل ، فإن استحقّه القابل بنفسه أفاضه
الفاعل عليه ، وكان نوعه أيضا في شخصه ، كالفلك. وأمّا إذا كان الاستحقاق لا يحصل
إلّا بمعدّات من خارج ، فهناك يستتبّ تكثّر أشخاص الطّبيعة. فالطبيعة النّوعيّة إنّما تتعدّد بالأشخاص بحسب المادّة ،
لا بالمادّة نفسها.
فإذن ، حامل عالم
الأسطقسات يفتقر ، فى ما تختلف أعراضه من أجزاء العناصر المختلفة الأقدار والأشكال
، إلى مشخّصات وأحوال يتّفق وجودها من خارج ، غير دائميّة ولا أكثريّة. أليس
الشّخص لا يوجد بعينه مرّتين ، فعلل الأشخاص بما هي أشخاص متماثلة يجب أنّ تشتمل
على امور يندر وجودها ، بل لا توجد إلّا مرّة واحدة.
فإذن ، تشخّص
الصّورة يستتبّ تهيّؤه الفيضان بالفعل عن الجاعل الحقّ بالقوى السّماويّة والأحوال
الأرضيّة الّتي هي الصّور السابقة والتغيّرات الطّبيعيّة والقواسر الخارجة. وأمّا
الحامل فإنّما هو علة قابليّة ومستكمل لقوّة القبول بالمعدّات المتعاقبة والعوارض
المتواردة.
شكوك وتحقيقات
(١٢ ـ اختلاف الصّور)
إذا سمعت
المتشكّكين يقولون : «إن استند اختلاف الصّور في العنصريّات إلى اختلاف استعدادات
في مادّتها المشتركة بحسب الصّور السّابقة ، وفي [٣٩ ب] الفلكيّات إلى اختلاف
قوابلها في الماهيّات ، فلم لا يجوز إسناد اختلاف الأعراض إليها من غير توسّط
الصّور؟
وأيضا ، هذه
الصّورة إن قوّمت الجرميّة ، وهي مفتقرة إليها ، دار الأمر وصادم كون الصّورة
الجرمانيّة طبيعة متحصّلة نوعيّة ، وإن قوّمت الهيولى كانت المادّة الواحدة
البسيطة قد قوّمتها صورتان ، وما أنتم بمسوّغيه؟
ثمّ كون تلك
الصّور مصادر لأعراض مختلفة غير مترتّبة ، بعضها من باب الكيف وبعضها من باب الأين
وكذلك من سائر الأبواب ، لا بأن يصدر البعض بتوسّط البعض ، يناقض القول بأنّ : «الكثير
لا يصدر عن الواحد». وإن أسندتموها إلى صور فوق
واحدة ، بطل قولكم
: «المادّة الواحدة لا تتقوّم بصورتين معا في درجة واحدة».
فقل : كلّ جسم
موجود إذا لوحظ في حدّ ذاته المحصّلة مع عزل اللّحظ عن لاحقات من خارج ، كان له
استحقاق بعض بخصوصه من تلك الأعراض مضادّ للبعض الآخر ، فلا جرم لها مباد تغايرها
داخلة في تجوهر الأجسام بذواتها ، ويمتنع تحصّل الأجسام منسلخة عن تلك المبادي ،
وهي الصّور. وليس من شرط الصّور تقويم الجرميّة ، بل من شرطها أن تقوّم الهيولى.
والّذي ما نحن
بمسوّغيه : هو أن تقوّم مادة واحدة بسيطة صورتان من حيّز واحد وفي درجة واحدة
جرميّتان أو طبيعيّتان ، لا صورتان من حيّزين وفي درجتين مترتّبتين بالطّبع ،
كالجرمانيّة والمنوّعة ، فالهيولى لا يتمّ تقوّمها وتحصّلها بالصورة الجرميّة
وحدها ، بل يشبه أن الصّورة الطبيعية أقدم بالذّات في تقويم الهيولى من الصّورة
الجرميّة. وسيعاد هذا ذكرا إذا عدّت مراتب البدء [٣٤٠ ظ] في بعض السّقايات
المرتقبة ، إن شاء الله تعالى.
وما أورده التلميذ
في «التحصيل» (ص ٣١٤) بخلافه ، فلست أستصحّه ، والكثير يجوّز أنّ يصدر عن الواحد
إذا كانت هناك جهات وشروط مختلفة. فهذه الصور تفعل بحسب ذاتها وتنفعل بحسب المادّة
، وتقتضى حفظ الأين بشرط الكون في المكان الطّبيعىّ ، والعود إليه بشرط الخروج عنه
، وعلى هذا السّبيل سائر الأعراض.
والراسخون في
العلم يقولون : إنّ البارئ الفعّال فيّاض لذاته ، وإنّما يتخصص فيضه العامّ بحسب
تخصّصات القوابل والصّور الطّبيعيّة والقوى الجسمانيّة ، بل الجواهر العقليّة
والمفارقات الرّوحانيّة روابط ومعدّات وشرائط ومخصّصات. فأمّا الفاعل المطلق فليس
إلّا المفيض الحقّ. «قل : الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القهّار» (الرعد ، ١٠) ،
فإلى هذا ذهب الفلاسفة المحصّلون والحكماء الإلهيّون كافّة.
إيماض
(١٣ ـ الصّور المنوّعة والجسم المطلق)
فإذن ، الجسميّة
المطلقة ليست أمرا قائما بالفعل ، ومقتضاها من كلّ صفة أمر عامّ ، كمطلق المكان
والشّكل العامّ والمقدار المطلق. فالجسم المطلق الّذي هو الهيولى
الثّانية أمر ،
كالجنس ، ويقوّمه ويقيمه شيئا متحصلا بالفعل جوهر داخل في تقويمه يجرى مجرى الفصل
، هو الصّورة المنوّعة. والأفلاك أنواع مختلفة من قبل الهيوليات ومن قبل الصّور
المنوّعة جميعا ، والعنصريّات من قبل الصّور المنوّعة فقط.
وإذا ترادفت صور
منوّعة تترادف أيضا صور جرميّة. فعند بطلان الصّورة النّاريّة وحدوث الصّورة
الهوائيّة ، مثلا ، تبطل الصّورة الجرميّة بشخصها وتحدث صورة أخرى جرميّة، وإلّا
لزم أن تكون الصّور النوعيّة المترادفة أعراضا ، على أنّ هناك [٤٠ ب] ، لا محالة ،
تخلخلا أو تكاثفا ، وإنّ ذلك لمستوجب تبدّل الأبعاد والامتدادات المختلفة
بالزّيادة والنّقصان في المساحة.
تذنيب
(١٤ ـ الطبائع والصّور)
الطبيعة في
البسائط هي الصّورة المنوّعة بعينها ، فهي باعتبار التّقويم صورة ، وباعتبار أنّها
مبدأ استتباع الآثار طبيعة. والطّبائع للأجرام البسيطة أربع ، والسّماويّات مسمّاة
بالطّبيعة الخامسة. وصور بسائط العناصر لا تبطل عند التّركيب ، بل تنحفظ ، وتفيض
من واهب الصّور على المركّب صورة فاشية في مجموع الأجسام المتضامّة الحاملة
للكيفيّة المزاجيّة.
فإن كانت سارية
فيها وفي أبعاضها المعروضة للمزاج جميعا ، كما في الياقوت ، والأعضاء البسيطة
الحيوانيّة ، كالعظم واللحم والعصب ، كانت هناك مع التركيب أجزاء مقدارية متحدة
بالماهيّة والوجود وراء الأجزاء المتباينة في الوجود ، أي : الأجسام المختلفة الطبائع الّتي منها التركيب ، وإلّا كانت
الصّورة للمجموع خاصّة دون الأبعاض ، كالصّور النوعية الحيوانيّة ، فلم يكن إذن
للمركّب أجزاء مقدارية. وكذلك الصّورة الفلكية إنّما هي لكليّة الجرم البسيط الّذي
هو الفلك ، لا لأجزائه المقداريّة مع كونها متشابهة غير متباينة بالوجود ولا
مختلفة بالماهيّة.
إيماض
(١٥ ـ طباع العليّة والمعلوليّة)
يجب أن يكون عندك
من المستبين : أنّ كلّ شيئين ، يخرج كلّ منهما عن قوام ماهيّة الآخر ، وبينهما تلازم
طبيعىّ في مجرّد الاقتران بحسب التحقّق أو في التعقّل أيضا بحسب نفس الماهيّة بما
هي هي ، فإنّهما لا يعريان عن طباع العليّة والمعلوليّة ، إمّا بقياس أحدهما إلى
الآخر ، أو بقياسهما معا إلى ثالث موقع بينهما ارتباطا ما افتقاريّا على بعض
الوجوه لا محيص عنه بتّة. أليس إذا لم يكن ذلك [٤١ ظ] ، لم يكن رفع أيّهما لوحظ
بما هو رفعه موجب رفع الآخر البتة ، وإن اتّفق أن كان مع رفعه ، كما ثبوته مع
ثبوته دائما ، فلم يكونا على علاقة طبيعيّة يمتنع بحسبهما الافتراق ، بل إنّما على
صحابة اتّفاقيّة فقط.
وأمر المتضائفين
ليس على [ما] يظنّ : فالحقيقيّان ، كالأبوّة والبنوّة ، معلولا ثالث ، كالولادة ،
على افتقار لكلّ منهما ، لا إلى نفس مفهوم الآخر ، بل إلى ذات هو عارضها ؛
والمشهوريّان ، كالأب والابن ، يفتقر كلّ منهما ، لا في جملته ، بل في بعضه ، أي :
إضافته ، لا إلى جملة الآخر ، بل إلى بعضه ، أي : ذاته. وكذلك معلولا علّة واحدة ،
كلّ منهما في طباعه بحيث يستوجب أن يفتاق إلى علّة الآخر ، فلا محالة ، يرتبطان
بملازمة عقليّة. وتلازم العقود وعكوسها والشّرطيّات المتلازمة أيضا على هذه
الشّاكلة.
وبالجملة ، طباع
التّلازم يأبى إلّا أن يتعلّق أحد المتلازمين في ذاته ووجوده بالآخر أو بما يتعلّق
به الآخر. فلو فرض موجودان واجبان بالذّات متكافئان في الوجود ـ تعالى الله عن أن
يكون له شبه في الذّات أو شريك في الملك علوّا كبيرا ـ لم يتحقق بينهما طباع
امتناع الافتراق بالضّرورة البرهانيّة ، بل إنّما يكون صحابتها في دوام الوجود على
الاتّفاق الصّرف لا غير.
إيماض
(١٦ ـ المضاف مع مضائفه بحسب التعقل
والحصول)
فالمضاف الحقّ مع
مضائفه في درجة واحدة بحسب التعقّل ، وبحسب الحصول معلول لعلّته ومفتقر إلى معروضه
وإلى معروض نفسه جميعا ، ولا كذلك سائر الأعراض ، إذ شيء منها ليس يفتقر بطباعه
البتّة إلى معروض عرض آخر مباين الذّات لمعروضه.
إيماض
(١٧ ـ ملازم المقبولين كيف يكون)
ارتباط مقبولين
بقابل واحد ليس يستوجب امتناع الافتراق ، فلا هناك إيجاب ولا فعل أصلا ، بل [٤١ ب]
التلازم عند الفحص لا يقتضيه إلّا الجاعل الموجب.
إيماض
(١٨ ـ المعيّة بالمعلوليّة والعليّة)
المعان
بالمعلوليّة ليس يصحّ أن يستندا في درجة واحدة إلى علّة واحدة حقّة ، أعنى بالذّات
وبالحيثيّة جميعا ، بل قصيا ما يستأثران به من الاتّحاد أن يكون لهما معا علّة
موجبة أحديّة الذّات متكثّرة الحيثيّة الاعتباريّة. فهذا ما يستصحّه الفحص من
المعيّة بالمعلوليّة. وكذلك المعان في العليّة يمتنع عليّتهما بالقياس إلى معلول
واحد بعينه. فإذا اتّفق ذلك ظاهرا كان إنّما العلّة بالحقيقة الطباع المشترك ، وهو أمر
واحد ، فلذلك استعسر تحقيق الأمر في المعيّة بالعليّة ، بخلاف المعيّة بالطّبع والمعيّة
بالماهيّة.
تنبيه
(١٩ ـ كيفيّة التّلازم بين المعلولين)
فمن هناك يمتحق ما
ربّما يوهم : أنّ معلولى علّة واحدة يستحقان أن يتلازما على الإطلاق ، وسواء
عليهما أتعلّق أحدهما بالآخر على وجه ما أم لم بتعلّق أصلا ، إذ كلّما تحقّق
أحدهما تحقّقت العلّة الموجبة ، وكلّما تحقّقت العلّة الموجبة تحقّق الآخر ، فكلّ
واحد منهما ملزوم لتلك العلّة ، وهي ملزومة لذلك الآخر.
أفليس إذا صدرا عن
ذات واحدة ، فإنّما صدورهما عنها من حيثيتين مكثّرتين بالاعتبار التقييديّ ، لا من
حيثيّة واحدة. فكلّ واحد منهما ليس يستلزمها إلّا من الحيثيّة الّتي هي جهة
المصدريّة بالقياس إليه ، وهي ليست تستلزم الآخر إلّا من جهتها الأخرى ، فلا
يتكرّر الوسط.
فإذن ، إذا لم يكن
أحد المتلازمين علّة موجبة للآخر ، لم يكن التّلازم إلّا من جهة استنادهما معا إلى
علّة موجبة موقعة بينهما ارتباطا ما متكرّرا من الجنبين ، ولكن لا على
الوجه الدّائر
المستحيل بتّة ، بل على سبيل آخر ، كما في المضاف الحقّ ومضائفه.
إيماض
(٢٠ ـ التّقدّم والتّأخّر بالزّمان
وغيره)
إنّ في القبليّة
والمعيّة بالزّمان أو بالدّهر أو بالشّرف أو بالمرتبة ، ما مع القبل قبل بالضّرورة
؛ وكذلك [٤٢ ظ] ما قبل المع. وما مع البعد بعد ، وكذلك ما بعد المع. فأمّا في
التّقدّم والمعيّة بالذّات ، فما مع المتقدّم ليس يستحقّ بذلك أن يتقدّم بالذّات ،
فما مع المتقدّم ليس يستحقّ بذلك أن يتقدّم بالذّات ، ولا المتأخّر عن المع
بالذّات أن يتأخّر ، فقد يكون الشّيئان معا بالمعلوليّة أو بالطّبع ، ثمّ لكلّ
منهما دون الآخر معلول ليس معلول الآخر قطعا.
وإنّما استحقاق
التّقدّم بالذّات للمتقدّم على المتقدّم بما هو متقدّم على المتقدّم ؛ سواء كان هو
في ذاته بما هو هو متقدّما أيضا بالذّات ، كما الجاعل الواجب بالذّات على كلّ من
معلولاته البعيدة من حيث هو على طباع الجواز الذّاتيّ ؛ أولا ، اللهمّ إلّا بالعرض
، كما الفاعل للماهيّة ، كالأربعة ، بالنّسبة إلى لوازمها المستندة إليها ، ككونها
زوجا ، لا من حيث طباع الجواز الذّاتيّ المشترك بين قاطبة الجائزات ، بل من حيث
خصوص الثّبوت الرّابطيّ بحسب خصوص حاشيتي الاتّصاف ، ولا كذلك ما مع المتأخّر ،
فإنّه يجب أن يتأخّر بالذّات ، ولا المتقدّم على المع بالذّات ، فإنّه يجب أن
يتقدم بتّة.
أليس إذا تأخّر
شيء عن شيء بالمعلوليّة ، فإنّ المعلول بالمعلوليّة بالقياس إليه لا يكون إلّا
صادرا عن فاعله التامّ بعينه ، وإن كان ذلك من حيثيتين مختلفتين ، لا من حيثيّة
واحدة ؛ وكذلك العكس ، أي : إذا كان شيئان معا بالمعلوليّة ، فإنّ كلّا منهما لا
يتأخّر بالمعلوليّة إلّا عن الفاعل التّامّ للآخر ، وبمثل ذلك يقاس بالطّبع
وبالماهيّة بالنّسبة إلى شيء ما بعينه.
فإذن ، قد استقرّ
الفصل بين المتأخّر من المعلول بالمعلوليّة ، مثلا ، وبين ما مع المتأخّر
بالمعلوليّة في حكم التّأخّر ، وكذلك بين المتقدّم بالعليّة على المعلول
بالمعلوليّة وبين ما مع المتقدّم في حكم التقدّم.
وإنّ شريكنا
السالف بيّن في «الاشارات» على الفرق وقلّ في [٤٢ ب] المقلدين
من فطن للفارق ،
فأوهمهم إمّا الاستشكال أو حمل المعيّة تارة على علاقة المتلازمين بالطّبع ، وتارة
على المصاحبة الاتفاقية.
وهم وإيقاظ
(٢١ ـ مساوقة المعين وحكمها)
فإن أزاغك عن
الحقّ أنّ المعين بالذّات يقضى لحاظ العقل أنّهما بحسب نفس الأمر في مرتبة واحدة ،
فكلّ ما يتقدّم على أحدهما أو يتأخّر عنه بالذّات يتقدّم لا محالة ، على تلك
المرتبة أو يتأخّر عنها بعينها ، فلا جرم يتقدّم على ذلك الآخر أو يتأخر عنه
بالذّات ، فذلك الفرق ليس في مساغ أصلا.
فتدبّر واستشعر :
أنّ مساوقة المعين بالذّات في نفس الأمر إنّما تعتبر بحسب حال أحدهما عند الآخر لا
بحسب حال ثالث عندهما أو حالهما عند ثالث ، فلعلّهما بقياس أحدهما إلى الآخر
يستحقّان التساوق في مرتبة واحدة وبقياس ثالث إليهما بالتعلّق لا يتساوقان ، بل لا
يأبيان الانفصال في ذلك التعلّق بالنّظر إلى طباع الثّالث ، كما وجود الماهيّة
واقتضاؤها لوازمها بالنّظر إلى لوازم ، فالاقتضاء غير منسلخ عن الوجود بحسب
المرتبة. أليست الماهية في مرتبة الاقتضاء مخلوطة بالوجود بتّة. ثمّ إنّ تلك
اللّوازم متعلقة بالاقتضاء ومتأخّرة عنه بالذّات ، وليست هي كذلك بالنّسبة إلى
الوجود ، بل تلك شاكلة لوازم الوجود.
والقريحة في لحاظ
هذه الاعتبارات الّتي هي معايير حكميّة ، أخلق بأن تكون متيقّظة مجتهدة أن لا تقع
في التخليط. وينبغى لها أن تتحرّز من الخلط بين المعيّة في المعلوليّة والمعيّة في
التّأخّر بالمعلوليّة ، أو بين المعيّة في الطبع والمعيّة في التّأخّر بالطّبع ،
أو بين المعيّة في الماهيّة والمعيّة في التّأخّر بالماهيّة.
إيماض
(٢٢ ـ فعليّة تحصّل الهيولى بالصورة)
أما قد كان لك من [٤٣
ظ] أمر الهيولى أنّها ليست إلّا القابل المحض ، وإنّما فعليّة التّحصّل لها بحسب
الصّورة ، فلا جرم ذاتها ممتنعة الاستغناء في أن تقوم بالفعل عن الصّورة. لست أقول
: ملتزمة لمقارنة الصّورة ، بل أقول : مستحيلة الوجود بالفعل إلّا
بالصّورة ، فإنّ
بين المعنيين فرقانا.
فإذن ، ذات
الهيولى مفتقرة في وجودها إلى نفس ذات الصّورة ، ثمّ كونها متشخّصة وقائمة بالفعل
إلى مقارنتها المتأخّرة عن وجودهما بالذّات ، فالشّيء يجوز أن يحتاج في اتّصافه
بصفة ما إلى ما يتأخّر عن ذاته ، كالعلّة المحتاجة في اتّصافها بالعليّة إلى وجود
معلولها المتأخّر عنها وليس في ذلك إلّا استيجاب تأخّر صفة ما لها عمّا يتأخّر عن
ذاتها.
إيماض
(٢٣ ـ علاقة الهيولى والصّورة عليّة ومعلوليّة)
وأيضا إذا استبان
تلازم الهيولى والصّورة في الوجود ـ ومن البيّن أنّهما ليستا على علاقة التضايف ، أليس
تعقل الصّورة جرمانيّة أو طبيعيّة ، ولا يذعن أنّ لها مادّة إلّا بتجشّم ؛
والمادّة جوهرا مستعدّا ، ولا يعلم وجوب اقترانها بالصورة المستعدة لها بالفعل
إلّا بفحص. نعم تعرضها علاقة الإضافة بما هما الشّيئان المستعدّ والمستعدّ له ،
ولكنّ النظر في جوهريهما ـ فليس هناك بد من علاقة العليّة والمعلوليّة.
فإمّا أن تكونا
معا في المعلوليّة لثالث ، فيكون سبب ما خارج عنهما يقيم كلّ واحدة منهما ، إمّا
بالأخرى ومعها على الوجه الدائر وهو مستحيل بتّة ، أو مع الأخرى لا على الوجه
الدّائر ، بل على وجه آخر محصّل ، كما في المضافين.
فلم يخل : أكلّ
واحدة منهما بحسب نفس ذاتها متعلقة بنفس ذات الأخرى في الوجود تعلّقا ما افتقاريّا
، فيرجع الوجه الدّائر ، أم ليس هناك تعلّق الافتقار [٤٣ ب] ، فينقلب التّلازم
بالطّبع تصاحبا بالاتّفاق ؛ أم التّعلّق الافتقارىّ من الجنبتين في الوجود ، ولكن
لا لكلّ من الذّاتين بنفس ذات الأخرى بل بمعروضها ، فهذا لا يعقل في ذاتين
جوهريّتين ، بل إنّما في عرضين متباينى المعروض ، كالأبوّة والنّبوّة ، أم من
الجنبتين ولكلّ من الذّاتين بنفس ذات الأخرى ، ولكن لا في أصل الوجود ، بل في ما
وراء الوجود ، فتكونان على تغان مطلق بحسب أصل الوجود وعلى ارتباط ما بحسب وصف
وراء الوجود. فبالضّرورة البرهانيّة لا يكون تلازم إلّا بحسب ذلك الوصف ، فينفسخ
فرض التّلازم بينهما بحسب الوجود ، وهو خلف.
فبقى أن لا تكونا
في درجة واحدة في المعلوليّة ، بل تكون إحداهما أقرب درجة
البتة إلى الثّالث
العلّة.
وما في «التلويحات»
، من : «النّقض بلبنتين منحنيتين تقام كلّ منهما مع الأخرى وليس بينهما ارتباط
الافتقار بوجه» ؛ فليس برصين ، إذ لا يعدّ ذلك من باب التلازم ، بل من باب تقاوم
الأثقال المتدافعة في الميل إلى مركز الكلّ ، كما تتدافع أثقال جوانب الأرض ،
فتستقرّ هي في الوسط ، وينطبق مركز ثقلها على مركز العالم لتكافؤ القوى.
ثمّ لو عدّ من
التّلازم لم يكن في الوجود ، بل في حفظ «وضع» بعينه في «أين» بعينه. وكلّ واحدة
منهما في ذلك الوصف مفتقرة ، لا محالة ، إلى ذات الأخرى. ولا يجرى مثل ذلك في
الهيولى والصّورة بعد فرض التّلازم بينهما في الوجود.
وإمّا أنّ تكون
بينهما عليّة ومعلوليّة ، فليس لك أن تدير من الجنبتين ، ولا أن تقول: ليست إحداهما بأن
تقام بها الأخرى أولى من الأخرى بعكسه. فإذن قد بزغ أنّ إحداهما بخصوصها متعيّنة
بالعليّة ، فلننظر أيّتهما كذلك ، وأيّة نحو لها من العليّة [٤٤ ظ].
إيماض
(٢٤ ـ المادّة لها القبول لا التأثير)
إنّ الهيولى
طباعها قوّة القبول والاستعداد ، وطباع القوّة والقبول غير طباع الفعل والتّأثير ،
والمستعدّ بما هو مستعدّ لا يكون سببا موجبا لوجود المستعدّ له. فعلاقة الاستعداد
إنّما بحسبها الجواز والقوّة ، لا الوجوب والفعل. فهي ليست العلّة الموجبة للتلازم
، ولا شريكتها بتّة ، ولذلك لم يصحّ أن يكون جرم علّة لوجود ، إذ الصّورة
الجرمانيّة لا تفعل إلّا بواسطة المادّة. ولو تسبّب جرم لوجود جرم ، لكان أوّلا
يتسبّب لجزءيه اللّذين هما أقدم منه أيضا.
ثمّ المادّة غير
مختلفة ، فلو كانت هي العلّة ، كانت الصّور غير متخالفة ، فإن كان اختلافها لأمور
تختلف من أحوال المادّة كانت تلك هي الصّورة الأولى في المادّة ، وعاد القول جذعا.
وإن كان تضامّ المادّة وسبب ما غيرها ليس فيها ، بل إنّما معها في الوجود قد اقتضى
صورة ما بعينها فيها. فإذا اجتمع معها سبب آخر غيره ، حصلت فيها صورة أخرى غيرها ،
فلا يكون للمادّة بالحقيقة إلّا القبول المطلق. فأمّا خصوصيّات الصّور ، فعن تلك
الأسباب ، ولا صنع للمادّة في شيء منها إلّا أنّها لا بدّ منها في أن توجد
الصّورة فيها.
فإذن يبقى للمادّة القبول فقط ، ولا صنع لها في شيء بالتأثير أصلا.
إيماض
(٢٥ ـ الصّورة جزء من العلّة)
فقد تعيّنت
الصّورة للعليّة ، ولا تصلح أن تكون علّة مطلقة أو آلة أو واسطة كذلك. والآلة ما
به يؤثّر الفاعل في منفعله القريب ، والواسطة معلول يقاس إلى الطّرفين فيوجد علّة
قريبة لأحدهما ، فذاك المعلول المطلق ، والآخر علّة بعيدة.
أمّا الصّور الّتي
تفارق الهيولى إلى بدل عاقب ، فالأمر فيها بازغ ، وإلّا انعدمت الهيولى ، مهما
افتقدتها بتّة. وهو ممّا قد أحالته [٤٣ ب] الضّرورة البرهانيّة.
وأمّا الّتي
تلزمها أبدا حيث لا يقع افتراق عن التحام ، والتحام عن افتراق ، ولا تتبدّل صورة
تقتضى الآثار وتنوّع ، فإنّها في شخصيّتها مفتقرة إليها ، وإلّا لم تكن توجد قائمة
فيها. فلو كانت علّة مطلقة لقوامها ، لسبقتها بالتّقرّر والوجود بنفسها وبعلل
ماهيّتها وعلل وجودها جميعا ، وهي من علل وجودها متشخصة. فإذن ، قد سبقت الهيولى
نفسها بالوجود لا بمرتبة واحدة.
وأيضا ما يفتاق
إليه الشّيء في ذاته أو في وجوده ، يفتاق إليه في فاعليّته أو في آليّته للفاعل ،
فيلزم افتياق الصّورة إلى الهيولى في أن تفعلها أو تكون آلة لفاعلها.
ثمّ الصّورة
الجرميّة المتشخّصة لا يتمّ وجودها في حدّ نفسها الشّخصيّة إلّا بالتّناهي
والتّشكّل أو معهما أو هما من العوارض المسبّبة بالمادّة. وقد دريت أن المتقدم على
المتقدّم أو على المع متقدّم.
وبالجملة إنّ الهيولى
مستغنية الوجود عن الصّورة الجرميّة والّتي تصحبها من المنوّعة بما هي صورة شخصيّة
وإن لزمتها في عوالم الطّبيعة الخامسة ، لا في عالم الطّبائع الأربع. والمستغنى
عنه في شخصيته ، ليس له أن تكون علّة مطلقة لما يستغنى عنه من الهويّات الشّخصيّة
، ولا أن تكون من الآلات أو المتوسّطات المطلقة.
فإذن بقي أنّ
الصّورة بما هي صورة مرسلة وبما هي صورة ما جزء من العلّة التامّة للهيولى
الشّخصيّة ، غير الفاعل قريبا أو بعيدا ، أو غير الآلة المطلقة.
إيماض
(٢٦ ـ الشّخصيّة والمادّة)
هل أشعرك مسلف
القول : [البيان ل] أنّ الشخصيّة مستحيل الانعدام ، فقد تلى عليك : أنّ طروء العدم
بحسب الدّهر ممتنع على الإطلاق ، وبحسب الزّمان لا يصحّ إلّا بسبق المادّة ، فيلزم
أنّ يكون للمادّة الأولى مادّة. وأيضا [٤٥ ظ] لو انعدمت ، فإمّا أن تنعدم بالمرّة
، وهو متصوّر ، أو تنفعل إلى هيوليين حادثتين من كتم اللّيس ، فتكون للهيولى هيولى
، ويتمادى الأمر إلى لا نهاية.
وبالجملة ، كلّ ما
ليس وجوده للمادّة فليس له قوّة على قبول الفناء بعد فعل الوجود ، وإنّما بالنّظر
إلى ذاته دائما إمكان ارتفاع ذلك الوجود بالانتفاء الباتّ المطلق في الآزال
والآباد رأسا وإن استحال انجذاذه بعد الحصول بالفعل.
إيماض
(٢٧ ـ الصّورة والتّناهي والتشكّل)
أليس الشّكل هيئة
تلحق المقدار من حيث يحاط بحدّ واحد أو حدود متكثّرة ، فهو بدرجات بعد الجرم الّذي
هو بعد الصّورة الجرميّة ، لأنّها جزؤه ، لكنّ البعديّة إنّما له بالقياس إلى
ماهيّة الصّورة ، لا من حيث هي متشخصة.
فالصّورة من حيث
الماهيّة لا تتعلق بالتّناهي والتّشكّل ، بل إنّها لا تنسلخ عنهما من حيث الوجود
فقط ، أعني أنّ الصّورة المشخّصة متعلقة بهما بما هي متشخّصة.
فالشّيء ربّما
يتعلق في شخصيّته بما يتأخّر عن جوهر ماهيّته ، كالجسم ، بالأين والوضع المتأخّرين
عن ماهيّته المرسلة.
إيماض
(٢٨ ـ المعلولات على أقسام)
إنّ من المعلولات
ما هو مباين الذّات عن ذات العلّة ، كالعالم ، عن بارئه الحقّ سبحانه ؛ ومنها ما
هو مقارن لذات علّته ، إمّا معلول نفس ماهيّتها ، كالفرديّة للثلاثة ، أو معلولها
بحسب الوجود ، سواء كانت بعينها هي العلة الموجبة ، كطباع الصّورة
الجرمانيّة
الموجودة لتناهي الامتداد ـ لست أعني تناهيا ما شخصيّا بهيئاته وتعيّناته ، فإنّ
للمادّة بقوّتها الانفعاليّة مدخلا في ذلك ، فاختلاف التناهيات بحسب انفعالات
المادّة ، بل أعني طبيعة مطلق الانبتات المساوق لانتفاء اللّانهاية ـ أو كانت هي
عضة من العلّة الموجبة التامّة ، كمطلق الصّورة الموجودة بما هي الصّورة المرسلة
وبما هي صورة ما للهيولى الموجودة [٤٥ ب] الشّخصيّة. فالعقل في ما يبدو بأوّل
اللّحظ لم يكن ينقبض عن تسويغ هذه الأقسام ، ثمّ النّظر الفحصىّ قد أوجب إحقاقها
جميعا في عالم التقرّر.
إيماض
(٢٩ ـ الصّورة وتقويم الهيولى)
فإذن ، الصّورة
بما هي صورة ما مبدأ تقويم الهيولى أوّلا بما هي موجودة في جوهر ذاتها وبما هي
متشخصة في الوجود جميعا ، ثمّ اقتضاء كونها ملاقية الذّات إيّاها على أن تكون هي
في درجة التّشخّص قائمة الوجود فيها. والمرجع إلى أنّ الصّورة يلزمها بطباع
نوعيّتها أن تصير بحسب التشخّص حالّة الذّات والوجود في الهيولى الشّخصيّة بعينها.
سياقة
(٣٠ ـ الصّورة وواهب الصّور بإذن ربّه)
وإذ بان أنّ
الصّورة ليست السّبب ، ولا العلّة الفاعلة ؛ فهناك ، لا محالة ، شيء وراء الصّورة تتعلق به الهيولى
لتفيض بتوسّطه عن المبدع الحقّ. لكن يستحيل أن يكمل فيضانها عنه بلا صورة أصلا ،
بل إنّما يتمّ الأمر بهما جميعا ، ويمتنع بالضّرورة الفحصية أن يكون هو نفسا
مدبّرة لجرم فضلا عن كونه جرما أو طبيعة ما جرمانيّة. فهو ليس إلّا جوهرا نوريّا من الأنوار القدسيّة والقادسات
العقليّة ، وإن هو إلّا الّذي يهب الصّور بإذن ربّه.
تنصيص وتشبيه
(٣١ ـ الصّورة تتمّة العلّة)
فالنور العقليّ
الّذي يهب الصّور بإذن الله يقيم الهيولى بذات الصّورة من دون العكس. وإذا ما انجذّ
تقرّر صورة هي لابستها استبقاها بتعقيب صورة عاقبة ، فبما أنّ العاقبة تشارك
السّابقة في أنّها صورة تعاون المقيم على الإقامة ، وبما تخالفها تجعل الهيولى
بالفعل جوهرا غير الجوهر الّذي كان بالسّابقة ؛ فالصّورة من وجه واسطة في التّقويم
بين الهيولى [٤٥ ظ] المستبقاة وبين مستبقيها ، فلا محالة ، هي متقوّمة أوّلا ،
أولية بالذّات ، فهي أقدم تقوّما ووجودا من الهيولى ، وهي فعل وقوّة ، فعليّتها في
المادّة الّتي هي في نفسها بالقوّة من كلّ جهة ، إلّا الاستعداد الصّرف ، وإنّما
تصير بالفعل بالصّورة.
وإن شئت شبّهت
المقيم المفارق واستحفاظه الهيولى الشّخصيّة بالصّور المترادفة بمن يمسك سقفا
بعينه بدعامات متعاقبة ، يزيل منها واحدة فواحدة ، ويقيم أخرى بدلها. والفحص يقضى
أنّ ما يصحّ أن يعدّ عضة من العلّة بالذّات إنّما هو الطّباع الوحدانىّ المشترك ،
لا كلّ واحدة واحدة على التّبادل ، وكذلك الأمر في الصّور اللازمة.
فكلّ واحدة من
هيوليات عالم الطّبيعة الخامسة تتخصّص بصورتها من قبل عقل يهب الصّورة بإذن الله ،
ويستحفظ المادّة بها بما هي صورة مرسلة ، لا بما هي تلك الصّورة الشخصيّة ، وإن
كانت بشخصيّتها غير مفارقة ، بل لازمة.
فإذن ، الصّورة
مطلقا ، لا بشخصها ، بل بسنخ جوهرها ، من تتمّات العلّة المؤثّرة. وأمّا المادّة ،
فلا تأثير لها بشيء من الاعتبارات ، بل إنّما شاكلتها القبول والاستكمال. وإلّا
اجترّتها التّحليل إلى أنّ تكون في حدّ جوهرها ذات أمرين ، بأحدهما تستعدّ وبالآخر
تؤثّر ، فيكون الأمر المستعدّ منهما هو الجوهر المادّة بالحقيقة والآخر أمرا زائدا
مقارنا.
وهم وتشريق
(٣٢ ـ الصّورة واحدة بالطبيعة)
أو لعلّك تقول :
وكيف تكون طبيعة مرسلة مبدءا لهويّة شخصيّة ، ومن الاصول البرهانيّة : أنّ الواحد
بالعموم لا يكون علّة للواحد بالعدد.
فيقال لك : إنّ
البرهان إنّما أحال ذلك في العلّة الجاعلة ، فالعقل ينبو عن تسويغ كون المجعول
والمصنوع أقوى تحصّلا من جاعله وصانعه. وأمّا الشّرائط والرّوابط وما يسير مسير
عضة السّبب [٤٦ ب] الموجب وتتمّة العلّة الفاعلة ، فلا ينقبض
العقل عن كونها
على وحدة مبهمة نوعيّة أو جنسيّة وإن كان المعلول ذا وحدة معيّنة شخصيّة، وأنّ ذلك
ليس يخرج العلّة التامّة عن الوحدة بالعدد ، بل إنّما يجعل الواحد بالعدد تامّا
بالتأثير.
وبالجملة ، إنّ
الواحد بالمعنى العامّ المستحفظ وحدة عمومه بواحد بالعدد ، قد يكون علّة للواحد
بالعدد. أليس إذا كانت الطبيعة المرسلة علّة بالذّات ، لم يكن شيء من أفرادها علّة
من تلك الجهة إلّا بالعرض.
فإذن يأتلف من
انضياف الواحد بالطّبيعة إلى الواحد بالشّخص علّة شخصيّة تامّة التأثير باقية
التقرّر بعينها غير متكثّرة بتكثّر أشخاص تلك الطّبيعة بتّة ، إذ شيء منها ليس
علّة بالذّات ، وإنّما جزء العلّة بالذّات نفس الطّبيعة الواحدة المشتركة
المنحفظة. وهاهنا فإنّ الواحد بالطّبيعة ، أعني طبيعة الصّورة ، مستحفظ بواحد
بالعدد ، أعني النّور المفارق الّذي يهب الصّور بإذن ربه الحكيم.
تشريق
(٣٣ ـ الافتقار إلى الجاعل والعلل
الأخرى)
ثمّ ألم يبلغك من
سلّاف شركائنا في العلم بأقاويلهم الحقّة : أنّه إنّما المفتاق إليه بالذّات
وبالقصد الأوّل مجرّد العلّة الجاعلة. وأمّا افتقار المعلول إلى سائر العلل فليس
إلّا في أن يكمل تهيّؤه وتأهبه للاستناد إليه ، فهي المفتاق إليها بالعرض وبالقصد
الثّاني.
وعساك إن فتّشت عن
حاقّ الحقّ الصريح أن تجد أنّ كلّ معلول بطباع جوازه الذّاتيّ إنّما افتياقه
واستناده بالقصد الأوّل إلى الجاعل القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، فإن لم
يكن بجوهر حقيقته فقط صالحا لقبول الفيضان عنه نآى بالدّرجة وتعلّق بالغير ليقتنص
الصّلوح للقبول ويستكمل القوّة على الاستناد.
والّذين يحاجّون
في ذلك ، من بعد ما قضى البرهان ، حجّتهم داحضة ، فإذن ، ما أسهل أنّ يتأنّى [٤٧ ظ]
لك تعليق الهويّة الشّخصيّة بعلّة متعيّنة تامّة عضة منها ماهيّة ما مرسلة.
إيماض
(٣٤ ـ تعلّق الهيولى والصّورة)
حان حين أن يتلى
عليك : إنّ الهيولى وإن لم تكن تناط بها إفادة القوام للصّورة حتّى يصدق فيها
أنّها تقوّمت فأقامت ، كما كان يصدق في الصّورة ؛ إلّا أنّها مع ذلك سابقة
الماهيّة والشّخصيّة على شخصيّة الصّورة القائمة فيها بتّة. فاعتبار الشّخصيّة
يوجب تكرّر التعلّق من الجنبتين ، لا على الإدارة.
فاعلمن أنّ تشخّص
الهيولى بنفس ذات الصّورة المرسلة لا بهويّتها الشّخصيّة ، فهي بماهيّتها فقط أقدم
من الهيولى مطلقا ، أي : بما هي هيولى مرسلة وبما هي هيولى شخصيّة جميعا. وأمّا
الصّورة فلا يعقل تشخّصها بالجوهر الهيولى بما هي هيولى ما ، إذ ليس يصحّ أن يعقل
هذه الصّورة هذه بعينها ، وهي مفارقة لهذه الهيولى بما هي هذه بعينها وإن تعلّقت
بها بما هي هيولى مطلقة ، بل إنّما تلك شاكلة الهيولى بالنّسبة إلى الصّورة. فلذلك
إنّها بماهيّتها وشخصيّتها جميعا أقدم من الصّورة بشخصيّتها فقط.
ثمّ إنّ تشخّص
الهيولى بالصّورة المطلقة من حيث إنّها من تتمّات فاعل الشّخصيّة ، وتشخّص الصّورة
بالهيولى الشّخصيّة من حيث إنّها المحلّ القابل لهويّتها المتشخّصيّة ، فهذه مسألة
من غامضات المسائل.
تشريق
(٣٥ ـ مقوّمات الهويّة)
فما قد أسمعناك من
قبل : أنّ كلّ نوع يحتمل أشخاصا كثيرة فإنّما يتشخّص ويتكثّر بالشّخص بالمادّة ،
قد بزغ الآن ما يرام به ، وهو أنّ تشخّص النّوع المتكثّر الأشخاص إنّما يكون
بالمادّة من حيث إنّها تقبل الشّخصيّات ، لا من حيث إنّها تفعل التّشخّص ، أو إنّ
لها صنعا ما في فعله.
فجاعل التّقرّر
وفاعل الوجود يفعل الشّخص على أنّ من [٤٧ ب] تلقائه التّخصّص بالوجود ، المتعيّن
بالوجود ، المتعيّن بامتناع الشّركة. والأعراض المكتنفة بالمادّة ، كالوضع والأين
ومتى ، مثلا ، مسمّاة بالمشخّصات ، على أن هي لوازم وأمارات للمتشخصيّة ، وربّما
تعدّ من مقوّمات الهويّة الشّخصيّة ومن لحاقات العلّة لتشخّص النّوع ومتمّماتها
وإن لم يتحصّل منها بطباع امتناع الحمل على كثيرين.
إيماض
(٣٦ ـ الجواهر وسائط والأعراض)
الجسم يفتقر ، لا
في تقرّره جسما ، بل في وجوده متشخّصا ، إلى الأين ، مثلا ، لا من حيث هو أين
بعينه ، بل من حيث هو أين ما ؛ والأين ، بما هو أين ما ، إلى الجسم بما هو جسم ما
، وبما هو أين بعينه إليه بما هو جسم بعينه. فالجواهر بماهيّاتها المرسلات وسائط
في وجود الأعراض بعد تقوّمها في حدّ أنفسها بالفعل.
ثمّ الأعراض من
مقوّمات هويّات الجواهر الشّخصيّة ، وإن لم يكن طباع امتناع الحمل على الكثرة لها
من تلقائها ، بل بحسب نحو الموجوديّة من تلقاء الجاعل.
فإذن ، الأعراض
المشخّصة ليست صورا ، لكنّها مضاهية الصّور من بعض الوجوه ، وفي طائفة من الأحكام.
فالصورة مقيمة المادّة في ذاتها وفي شخصيّتها ، والأعراض مقيمة الجسم لا في
جسميّته ، بل في معروضيّته للتّشخّص. ومعقّب الصّورة مستبقى جوهر المادّة وشخصها
جميعا بالصّورة ، ومعقّب الأيون مستبقي الجسم المتشخّص بالأين ، فالأين بما هو أين
ما من اللوازم التّابعة لنفس جوهر الجسم ، لا مقيم الجسميّة أصلا ، فهناك مراوغة
للمتشكّكين من باب إيهام العكس.
تنبيه
(٣٧ ـ الهيولى والصّورة كالمتضايفين)
أمر الهيولى
والصّورة ، كأمر المتضائفين ، من حيث تكرّر التّعلّق من الجنبين ، لكنّ الصّورة
أقدم ذاتا من الهيولى ، وإنّما التّعلّق المتكرّر بينهما بحسب التّشخّص فقط ،
ولكلّ واحدة منهما بالأخرى نفسها لا بمتعلّقها ، وأنّ المتضايفين [٤٨ ظ] على خلاف
ذلك كله.
إيماض
(٣٨ ـ تكامل الصّور بأحوال)
إنّما يستتبّ
تعقيب الصّور بالمعقّب القدسيّ والحركة المستديرة المستمرّة الاتّصال ، وأحوال
تتفق من خارج ، طبيعيّة قسريّة ، بها يتجدّد ما يجب من القدر والشّكل مثلا ، على
ما قد سلف.
إيماض
(٣٩ ـ وجود الصّورة وجودها في الهيولى)
إنّ وجود الصّورة
الشّخصيّة في نفسها هو بعينه وجودها في الهيولى الشّخصيّة وإلّا لم يكن يصحّ لها
الحلول بتّة ، فلا محالة ، عدمها عنها هو عدمها في نفسها. فإذن يمتنع عليها أن
تنتقل عنها إلى هيولى ما غيرها ، وكذلك سبيل العرض بالقياس إلى الموضوع.
إيماض
(٤٠ ـ التحرّك في الهيولى والجسم)
ألسنا قد بيّنا لك
في صحفنا : أنّ المتحرّك في مقولة ما إنّما له التّلبّس بالفعل بفرد ما زمانيّ من
تلك المقولة في زمان حركته الشّخصيّ. وأمّا في الأبعاض الوهميّة المفترضة لذلك
الزّمان بعينه والآنات المنوّعة المنتزعة منه ، فليس له إلّا التوسّط بين الأفراد
بالفعل والتلبّس بها بالقوّة القريبة منه دون الصّرفة الّتي قبل فعل التوسّط بين
المبدأ والمنتهى ، فهو في كلّ حدّ بحيث لو انبتّت الحركة عنده للبس فردا هو
بإزائه. فاحدس من ذلك : أن كلّ ما لا يتقوّم الشّيء في ذاته ووجوده إلّا وهو لابسه
بالفعل البتّة ، فإنّه يستحيل أنّ يتحرّك الشّيء فيه ، وإلّا لبطلت ذاته في أبعاض
زمان الحركة وآناته ، إذ لم يتقرّر فيها مقوّم ذاته بالفعل أصلا ، فعادت الحركة
فسادا لذاته ، وهو متهافت. فإذن ، لا حركة للهيولى في الصّورة الجوهريّة لا بما هي
هيولى شخصيّة ولا بما هي هيولى مرسلة. وأمّا الجسم الشّخصيّ فقد يتحرّك في الأعراض
المسمّاة مشخّصات ، إذ هويّته الشّخصيّة متقوّمة إمّا بتلك الأعراض أنفسها وإمّا
بالتوسّط بينها على الشاكلة الموصوفة. فمقوّم الشّخص إمّا أين ما مثلا بالفعل
وإمّا التوسّط بالفعل وإمّا التّوسّط بالفعل بين الأيون على تلك الشّاكلة.
وهم وتثبيت
(٤١ ـ تقرّر الهيولى والصّورة) [٤٨ ب]
أفربّما إهمال
الفحص أو همك : أنّ الصّورة ممتنعة أن تدخل في التقرّر ، والهيولى غير داخلة فيه ،
وأن تبقى مستمرّة التقرّر ، والهيولى منصرمته ، وكذلك الهيولى بالقياس
إلى الصّورة ،
فكلّ منهما ترتفع برفع الأخرى ، فلا أحقيّة لإحداهما بالتقدّم أو التّأخّر.
فعليك بالتثبّت ،
فإنّ التّلازم المتكرّر من جنبتى العلّة الكاملة أو مكمّلها الأخير والمعلول في
الرّفع والوجود إنّما يكون بحسب الزّمان أو الدّهر ؛ وأمّا من حيث الذّات فالعلّة
متعيّنة رفعا ووجودا بالملزوميّة والمعلول باللازميّة. فرفع العلّة ووجودها أقدم
بالذّات من رفع المعلول ووجوده وإن كانا معا في الزّمان أو في الدّهر.
وذلك كوجود
الإنسان في نفسه وإحقاق القائل أنّه موجود ، فهما مصطحبان على التّلازم انتفاء
وتحقّقا. والعقل يحكم أنّه إذا انتفى صدق القول بأنّه موجود ، كان هو قد انتفى في
نفسه أوّلا ، وإذا تحقق يكون هو أوّلا قد وجد في نفسه ، وكذلك اليد والمفتاح في
التحرّك.
دفاع شكّ
(٤٢ ـ تركّب الهيولى والصّورة)
لا ينكتمنّ عن
بصيرتك : أنّ أجزاء الشّيء في العقل ، أي : في اعتباره الملقّب بلحاظ التعيّن
والإبهام ، أعني الجنس والفصل ، وراء أجزائه في الوجود ، أعني المادّة والصّورة.
وما لا يقع في مطلب «لم» أصلا ، أي : لا بحسب الثّبوت للشيء ولا بحسب الإثبات له ،
إنّما هي الجوهريّات دون الأجزاء الوجوديّة.
فإذن ، تركّب
الجسم من الهيولى والصّورة ليس يستوجب الاستغناء عن البرهان ، وأنّه يتعرّف
بجوهريّاته المحمولة ، فتطلب بالحجّة أجزاؤه الوجوديّة وإن اشتملت الأولى بالقوّة
على الأخير. فالأبعاد المأخوذة في الحدّ تدلّ على صورته الّتي هي الجوهر الممتدّ
بالذّات ، والقبول المأخوذ فيه على مادّته الّتي هي الهيولى الأولى.
تنبيه
(٤٣ ـ الجسم وأجزاؤه)
إنّ التناهي
والسطح من عوارض الجسم ، والأخير يلزمه من حيث يلزمه الأوّل ، وإنّما تعلّقه به من
حيث الطرف لا بحسب نفسه ، فلا يعقل كونها من أجزائه [٤٩ ظ] العقليّة ولا من أجزائه
الوجوديّة وكذلك ذو السّطح والتّناهي. فالصّورة الجرميّة
تنتهى بحسب
جسميّتها التّعليميّة ببسيطها ، وهو قطعها. والبسيط إذا كان متناهيا في الوضع
بخطّه ، وهو قطعه ، والخطّ المتناهي في الوضع بنقطته ، وهي قطعه ، وكذلك الزمان
بالآن ، وهو قطعه ، ولكن بالقوّة وفي الوهم ، لا بالفعل في الأعيان.
والفحص يقضي أنّ
هناك أمورا ثلاثة : نفاد تمادي الممتدّ المقداريّ ، كالجسم ، بانجذاذه ، لا عدم
ذاته رأسا ؛ والسّطح ، مثلا ، وهو الكمّ المتصل ذو البعدين فقط ، وإنّما يستدلّ
على ثبوته للجسم بثبوت الأوّل له ؛ وإضافة إلى ذلك الممتدّ المقداريّ إذا اعتبرت
عارضة للأوّل ، كان المجموع نهاية مضافة إلى ذى النّهاية ، وإذا اعتبرت عارضة
للثاني كان ، مثلا ، بسيطا مضافا إلى ذى البسيط ، أو خطّا مضافا إلى ذى الخطّ.
تشريق
(٤٤ ـ الأطراف نهايات)
لا ينخبئنّ عنك
أنّ الأطراف إنّما تكون نهايات بالذّات لذويها إذا كانت في جهات تلك الامتدادات ،
كالنقطة للخطّ ، والخطّ للسطح ، مثلا. فأمّا السطح المثلّث ، مثلا ، بالقياس إلى
نقط زواياه ، فغير منته بها ، بل إنّما منتف عندها. وكذلك سطح المخروط ، وجسمه عند
نقطة الرّأس ، والجسم المسنّم عند خطّه ، فالانتهاء بالطّرف أخصّ من الانتفاء
عنده.
تذكير
(٤٥ ـ قبول الهيولى الصّورة لازم لجوهرها)
استعداد الهيولى
لقبول صورة بعينها في الأثيريّات لازم لجوهر ذاتها المستفادة عن مبدعها ، وفي
الأسطقسات ليس تستتبعه نفس جوهر الذّات ، بل إنّه يستفاد من الأحوال المتجدّدة من
خارج.
تلحقه التّكملة [الثّالثة]
بفرائد جمّة غامضة وفوائد مهمّة وامضة
تفصلة
(١ ـ القوّة تطلق على أمور)
إنّ لفظة «القوّة»
تطلق ، بالاشتراك الصّناعىّ [١] على كلّ ما هو مبدأ تأثّر وتغيّر من تلقاء شيء في
آخر بما هو آخر ، كانت هناك إرادة أو لم تكن. فالمبدأ إن كان في المنفعل من آخر ،
فالقوة الانفعاليّة ، وإن كان في الفاعل في الآخر ، فالقوّة الفعليّة.
و [٢] على مقابلة
ما بالفعل ، أعني إمكان فعليّة الحصول ، فيسمّى ما تقرّره في حدّ الإمكان متقرّرا
بالقوّة. وهي أخصّ من العدم ، بمعنى السّلب الصّرف المطلق ، فإنّها انتفاء الوصف
حين تقرّر ذات الموضوع [الموصوف ، ل] بالفعل مع جواز التلبّس به بالنّظر إلى جوهر
الذّات البتّة ، أو لا فعليّة نفس الذّات بما هي نفس الذّات حين فعليّتها بما هي
من تلقاء الجاعل ، كما عدم الملكة أخصّ منه بقيد الاستعداد شخصا أو نوعا أو جنسا
فقط. ومن هناك ما يسمّى إمكان الوجود قوّة الوجود. وربّما تقصر على لا فعليّة
الوصف ، ويقال : الإمكان بالقوّة أشبه منه بالعدم. وما عنيناه هو الإمكان الذّاتىّ
، وليس هو إلّا نفس ممكنيّة الشّيء ، كما الشّأن في الوجود وفي الوجوب أيضا ذلك.
وبالجملة ، فإمكان القبول والانفعال قوّة انفعاليّة ، وإمكان الفعل والتّأثير قوّة
فعليّة ، وإمكان حصول الوجود قوّة الحصول والفعليّة ، لا قوّة فعليّة ولا قوّة
انفعاليّة. ثمّ الفعل تمام هذه القوّة فعلا ، وإن لم يكن فعلا ، بل انفعالا أو
أمرا آخر غيرهما.
[٣] وقد تطلق
القوّة أيضا على القوّة على الفعل. وتباين هذه تلك : بأنّها تبطل مع الفعل وهذه
تنحفظ ، وبأنّ الفعل الّذي بإزائها يعمّ الفعل ، والانفعال ؛ وما ليس شيئا منهما ،
إذ كان لا يعنى به إلّا فعليّة التقرّر وحصول الوجود ، بخلاف الّذي بإزائه هذه.
وكثيرا ما يغلط
اللفظ ويورث [٥٠ ظ] الغلط إغفالا عن الفرق. فمن العجب ما وقع للتلميذ في «التحصيل»
(ص ٤٩٢) من بعد ما نبّه عليه شريكنا السّالف ، وهو شيخه، في «النجاة» (ص ١٢٨).
[٤] ويقال أيضا
قوّة : لما به يجوز من الشّيء فعل أو انفعال ، ولما به يصير الشّيء مقاوما لآخر ،
ولما به يصير الشّيء ثابتا لا يتأثّر ولا يتغيّر ، فإنّ التغيّر محلوب الضّعف.
والمهندسون جعلوا المربّع : قوّة خطّ في منتّه أنّ يكون ضلعه ومربّعي ضلعيه قوّة
قطره.
[٥] والقوّة
الفعليّة مهما كانت الفاعليّة عن مشيّة ـ أي : منبعثة عن علم وإرادة ـ سميّت قدرة
وقوّة اختياريّة. فكلّ من هو بحيث إذا عقل شيئا فشاءه فعله ، وإذا لم يشأه لم
يفعله ، فإنّه قادر عليه بالاختيار بتّة وإن كان دائم الاختيار غير متغيّر الإرادة
دواما اتفاقيّا أو مستحيل تغيّرها استحالة ذاتيّة ، لكونه بذاته كامل الجود تامّ
الإفاضة. فمن المستبين أنّ القوّة الاختياريّة على الفعل والترك بالمشيّة واللامشيّة ،
ليس في طباعها استيجاب جهة إمكانيّة في الذّات بحسبها ولا اصطدام وجوب المشيّة
بالنّظر إلى مفيض بحسب فيّاضيّته للخير ووهّابيّته، وكون إيثاره الإفاضة بالاختيار
والمشيّة ، بل إنّ حقيقة الاختيار تتأكّد بوجوب المشيّة. فهذا من الأقاويل الصحيحة
، الخفيفة على لسان العقل الصّريح وإن كانت ثقيلة على الأسماع الجمهوريّة.
[٦] ثمّ قوّة
المنفعل قد تكون مهيّأة نحو شيء واحد ، كقوّة الماء على قبول الشّكل ، ولا قوّة
فيه على حفظه ، وفي الشّمع قوّة عليهما جميعا ، والهيولى الأولى هي بالقوّة كلّ
شيء ، ولكنّها تقوى على قبول المعوق عنه بالفعل بزوال ما عاقها عنه ، ويتمّ
استعدادها للبعض ، كالمزاج. وربّما كانت في الشّيء قوّة انفعاليّة بحسب الضدّين ،
كما الشّمع فيه قوّة أن يتسخّن وأن [٥٠ ب] يتبرّد. وكذلك قوّة الفاعل إمّا محدودة
نحو شيء واحد ، كقوّة النّار على الإحراق فقط ، وإمّا هي أمور شتّى ، كقوّة
المختارين على مختاراتهم ، وأيضا على الضدّين. وقد تكون القوّة الاختياريّة
الفعليّة في الفاعل القويّ على كلّ شيء ، ولكن تمام فاعليّتها بالفعل بتوسيطات
وتسبيبات.
والقوى الّتي هي
مباد للحركات والأفعال :
[١] منها : ما
تقارن النّطق والتّخييل ، فلا تكون تامّة تفعل البتة مهما صادفت القوّة
المنفعلة الّتي في
منفعلها ، بل إنّما تكون مبدأ تغيير من آخر في آخر بما هو آخر بالتّمام وبالفعل
بانبعاث القوّة النّزوعيّة عن اعتقاد وهمىّ يتبع تخيّلا شهويّا أو غضبيّا أو عن
رأي عقلىّ يرتدف فكرة عقليّة أو تصوّر صور عقليّة وبتأكّدها إلى حيث تستتمّ إرادة
اجماعيّة ، تستوجب هزّ القوى المنبثّة في الأوتار والعضلات وتحريك الأعصاب
والأعضاء الأدوية وتتمّ العلة الموجبة.
[٢] ومنها : ما في
غير ذوات النّطق والتّخييل ، وإنّها إذا لاقت القوّة المنفعلة التّامّة الانفعال ،
ولم يصدّها صادّ من خارج ، وجب الفعل ، إذ ليس هناك اختيار منتظر ، بل إن كان فعسى
طبع منتظر وكذلك القوّة الفعليّة المحدودة مهما لقيت منفعلها بقوّته الانفعاليّة
التّامّة القربية ، حصل الفعل بتّة.
والقوى بضربيها
الفعليّة والانفعاليّة [اى ، سواء كانت فعليّة أو انفعاليّة. منه] طباعيّة وعاديّة
وصناعيّة واتفاقيّة وإن كان بين ما بالصّناعة وما بالعادة فرق فارق ، لكنّك إذا
دقّقت النظر ، عادت الصّناعة والعادة إلى جهة واحدة هي أنّ الملكة المستحصلة منهما
إنّما حصولها من واهب الصور بإذن ربّه.
ثمّ إنّ فريقا من
المتفلسفين الأوائل وغارا من المتكلفين الأواخر ، طحت بهم أهواؤهم وتاهت بهم
أوهامهم ، فزعموا [انّما زعمهم هذا في القوّة الحادثة] أنّ القدرة ، بل القوّة
مطلقا [٥١ ظ] (أي : سواء كانت فعليّة أو انفعاليّة. منه) إنّما تكون مع الفعل ولا
يتقدّمه بحسب الحصول إلّا تقدّما بالذّات ، ولا يكاد يستصحّه العقل ، اللهمّ إلّا
أنّ يعنى القوّة المستجمعة المشطّرات الفعل بالأسر. أليس من المستبين أنّ القاعد
في جبلّته أن يقوم ، والخشب في جبلّته أنّ ينحت منه باب. بل كلّ ما ليس في الوجود
، ولا قوّة على أن يوجد ، فإنه مستحيل الوجود.
وأمّا القوّة
الّتي هي مقابلة الفعل ، بمعنى حصول الوجود ، فعند أمة من عامّة الأقدمين متقدّمة
على الفعل تقدّما دهريّا ، وقد عبّر عنه في «الشفاء» بالقبليّة على الإطلاق ، لا
في الزّمان وحده. فقد جعلوا للهيولى وجودا في وعاء الحصول الّذي هو الدّهر قبل
الصّورة مفارقا لسائر اللواحق المادّيّة. ثمّ الفاعل بعد ذلك ألبسها
الصّورة وكساها
عوارضها. إمّا ابتداء من نفسه وإمّا لداع دعاه إليه.
ولعلّك غير ناس ما
أسلفناه لك : أنّه يمتنع أن تفارق الهيولى ملابسة الصّورة في الوجود ، وإلّا لم
تكن مبهة في وحدتها الشّخصيّة ، فلم تكن على سنة الطّباع الهيولوىّ ، وأنّه إنّما
يصحّ سبق القوّة حاملها ، أعني المادّة ، على الزّمنيّات ، أي الجزئيّات الكائنة
الفاسدة بما هي حوادث زمانيّة ، سبقا زمانيّا ، ولا الأبديّات والدّهريّات ، بل
الزّمنيّات أيضا بما هي حوادث دهريّة معز ولا فيها النّظر عن حدوثها الزّمانيّ
فغير مسبوقة الحصول في الدّهر بالقوّة وبالمادّة الّتي هي حاملتها مسبوقيّة
بالدّهر أصلا ، بل هي مسبوقيّة بالطّبع فقط.
والآن ، فبالحريّ
أنّ نستأنف تأمّلا أدقّ من سبيل آخر : أليست القوّة لا محيد لها من أن تقوم بجوهر
، فلا محالة يكون هو بالفعل في ذاته ، وإلّا فكيف يعقل أن يكون مستعدّا لقبول شيء
وراء ذاته.
ثمّ قد يتقرّر شيء
بالفعل ولا يكون هو بالقوّة شيئا ، كالأبديّات المفارقة ، وهو بفعليّته يقع في
نظام الوجود في السّلسلة الطّوليّة منه منتهية في التّرتّب بالطّبع إلى الّذي
بالقوّة. فمن هذه الجهة حقيقة ما بالفعل قبل حقيقة ما بالقوّة قبليّة بالذات
وأيضا ليس ما
بالقوّة مفتاق الذّات من حيث هي بالقوّة إلى ما يخرجه من القوّة إلى الفعل ، وليس
يصحّ أن يكون المخرج بالحقيقة إلّا ما هو متقدّس الذّات عن ملابسة معنى ما بالقوّة
من كلّ جهة ، إذ لو كان لما بالقوّة من جهة ما هو بالقوّة ، جسما كان أو نفسا أو
عقلا ، حظّ ما من الجاعليّة والإيجاب كان للقوّة والعدم شركة فى إفاضة الفعليّة
والوجود ؛ ولذلك كان الجاعل المفيض على الإطلاق هو القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ
ذكره ، لا غير ، إذ كان لا يعرى شيء من الجائزات في حدّ ذاته عن ملابسة الهلاك
والقوّة.
فالتّحليل يذر
حيثيّة الذّات الجائزة بما هي هي تحت مفهوم ما بالقوّة وفي تيه قاع الهالكيّة ،
فيجدها صفر الكفّ من اقتضاء الفعليّة لشيء ما ، إذ هي من سنخها باللّيس بذورة
ملغاة السّعي في استنقاذ شيء ما من هلاك الذات ، إذ هي بجوهرها به ممنوّة
__________________
قد كنّا برهنّا في
ما سلف ، على أنّ جملة الجائزات بقبائلها وشعبها وكليّاتها وجزئيّاتها كانت باطلة
الذّوات معدومة الهويّات ، فأخرجها الجاعل الحقّ من كتم اللّيس الصّرف ومن جوف
العدم المطلق.
فإذن قد استبان
أنّ الفعل المحض من جميع الجهات ، وهو القيّوم الحقّ من كلّ جهة ، قبل مطلق القوّة
والقوّة المطلقة ، قبليّة بالذّات وقبليّة سرمديّة وقبليّة بالشّرف جميعا.
إيماض إيقاظىّ
(٢ ـ معنى القابل ومعنى الفاعل)
إنّ أقواما سبقونا
، من المتكلّفين لما لا يعنيهم في جماهير النّظريّين ومن عوامّ الفلسفييّن أولي
القرائح الجمهوريّة والأذهان المشهوريّة ، جعلوا وقوع القبول في الاصطلاح
الصّناعيّ ، على ما تلزمه صحّة استصحاب القوّة المقابلة لفعليّة الحصول ، والنّسبة
بحسبه جوازيّة لا غير وعلى مجرّد معنى الموصوفيّة والمنتزع منتهية ومبدئيّة
الانتزاع الّتي ليست تأبى أن تكون النّسبة بحسبها وجوبيّة اقتضائيّة باشتراك الاسم
؛
ولم يستطيعوا إلى
الفرقان بين المعنيين سبيلا ، فظنّوا أنّ القبول مطلقا نسبة بالجواز ؛ وقد أخطئوا
في ذلك خطّا سيّالا مستطيرا ، حاسبين أنّ مرصاد الحكمة أنّه لا يكون شيء ما من
الأشياء قابلا وفاعلا بجهة من الجهات أصلا ، أيّ شيء كان ، لأيّ شيء كان على
الإطلاق ؛ فعراهم الوهم وتمادى الخطأ بهم إلى إبطال أن تكون حقيقة ما بسيطة ، بل
ماهيّة ما واحدة ، بما هي طبيعة واحدة ، علّة موجبة للازمها الّذي هي قابلة له ،
كماهيّة الأربعة للزّوجيّة وماهيّة المثلّث لذي الزّوايائيّة.
وبذلك برهنوا على
كون صفات الله ، سبحانه ، هي بعينها ذاته القدّوس وإنيّته الحقّة، ولم يفقهوا أنّ
نفي صفات حقيقيّة كماليّة زائدة على نفس ذاته الحقّ وحقيقته الأحديّة إنّما برهانه
لزوم استناد حيثيّات متكثّرة إلى اقتضاء البسيط الحقّ من كلّ جهة في درجة واحدة ،
وتأدية الأمر إلى كونه ، تعالى عزّه ، في مرتبة نفس الحقيقة عروا عمّا هو زينة
الذّات وبهاء الإنّ وكمال الوجود ، فليزم النّقصان في مرتبة الذّات ، ثمّ التّجمّل
بحلية الحقيقة في مرتبة أخيرة.
وأيضا تجرّده
التّامّ ، سبحانه ، عن المادّة وعلائقها ، وتقدّسه عن ماهيّة وراء إنيّته ، و
كون نفس حقيقته في
مرتبة الذّات بعينها وجوب التقرّر وتأكّد الوجود وتمام الفعليّة وينبوع الخير ، من
أنور البراهين وأبلغها وأوثقها على أنّ نفس مرتبة ذاته ، تعالى ، هي بعينها العلم
التّامّ بذاته وبما عدا ذاته على أبسط الوجوه وأبلغها في الظّهور والانكشاف ،
والقدرة البالغة على كلّ شيء على أشدّ المراتب وأقواها ، والحياة المحضة على أشرف
الأنحاء وأقدسها ، والإرادة المتأكدة لنظام الخير على أكمل الضّروب وأجملها.
والعجب كلّ العجب
اجماع الجماهير عامّتهم على إسناد ذلك كلّه إلى كافّة الحكماء من بعد [أن كان]
شريكانا السّلفان ، قد نبّها على الحقّ وحقّقا : أنّ البسيط فيه وعنه واحد.
وأوضح [ابن سينا]
الأمر فيه ، كما في «تعليقاته» (ص ١١٥) ، حيث قال : «القابل يعتبر فيه وجهان ،
أحدهما أن يكون يقبل شيئا من خارج ، فيكون ثمّة انفعال وهيولى يقبل ذلك الشّيء
الخارج ، وقابل من ذاته لما هو في ذاته لا من خارج ، فلا يكون ثمّة انفعال. وإن
كان هذا الوجه الثاني صحيحا ، فجائز أن يقال على الباري تعالى.»
وقالا : «لا فرق
بين أن يوصف جسم بأنّه أبيض ، لأنّ البياض فيه من خارج ، وبين أن يوصف بأنّه أبيض
من لوازمه. وإنّما وجد فيه لأنّه لو كان يجوز ذلك في الجسم ، وإذا أخذت حقيقة
الأوّل تعالى على هذا الوجه ولوازمه على هذه الجهة استمرّ هذا المعنى فيه. وهو
أنّه لا كثرة فيه ، وليس هناك قابل وفاعل ، بل هو من حيث هو قابل هو فاعل. وهذا
الحكم مطرد في جميع البسائط ، فإنّ حقائقها هي إنّما تلزم عنها اللوازم وفي ذاتها
تلك اللّوازم على أنّها من حيث هي قابلة فاعلة ، فإنّ البسيط فيه وعنه شيء واحد ،
إذ لا كثرة فيه ، ولا يصحّ فيه غير ذلك ؛ والمركّب يكون ما عنه غير ما فيه ، إذ
هناك كثرة ثمّ وحدة ، وحقيقته أنّه يلزم ذلك ، فيكون عنه وفيه شيئا واحدا ، وكلّ
اللّوازم هذا حكمها. فالوحدة في الأوّل تعالى هي عنه وفيه ، والوحدة في غيره واردة
عليه من خارج ، فهي فيه لا عنه ، وهناك قابل ، وفي الأوّل تعالى القابل والفاعل
شيء واحد» ، فهذا قولهما بألفاظهما.
نعم يصحّ ذلك في
الأوّل ، تعالى ، بالقياس إلى ما يلزم حقيقته ويستتبعه كمال ذاته ، لا بالقياس إلى
ما هو بهاء حقيقته وجمال إنيّته ؛ إذ كلّ ما هو بهاء معتبر التّقرّر بما هو تقرّر
، وكمال مطلق الوجود بما هو وجود ، فإنّه يجب أن يكون هو بعينه نفس
حقيقته سبحانه
وعين ذاته وصرف إنيّته ، لا من لوازمه ، المقتضاة لنفس حقيقته ، التّابعة لكمال
ذاته ، كجعل ماهيّة.
فماهيّته وإيجاد
إنيّته واللّازم القريب الأوّل له ، سبحانه ، ليس يجوز أنّ يكون إلّا واحدا بسيطا
، فإنّه لا يلزم عن الواحد بما هو واحد إلّا واحد ، إذ ليس في طباع الكثرة أنّ
تصدر عنه معا فى درجة واحدة. ثمّ الآخر بالتّوسّط ، أي في درجة متأخّرة ، وهكذا
إلى أقصى اللّزوم. وإنّما كثرة اللوازم لذاته الأحد الحقّ ، كإيجادات المعلولات
المتقدّمة على وجوداتها بالذّات ، على هذا النّمط ، ثمّ الإضافات تتبع على هذا
السّبيل. وكذلك السّلوب.
أوهام وتسديدات
(٣ ـ القابليّة والفاعليّة والبحث في معانيهما)
أسمعت أمثلهم
طريقة يقول في كتاب «المطارحات» ، (ص ، ٤٠) إذ يراوغ متوغّلا في الحيود عن السّبيل
:
«إنّ الجهة
الفاعليّة غير الجهة القابليّة. أمّا أوّلا : لأنّ الفعل للفاعل قد يكون غيره ـ أي
الفعل بما هو فعل ليس يأبى ذلك القبول للقابل بما هو قبول يستحيل أن يكون في غيره.
وإذا امتنع على أحد شيئين ما يمكن على الآخر بالإمكان العامّ أو الخاصّ كانا لا
محالة متباينين. وثانيا : إنّ الجهة القابليّة لا تقتضي التّحصيل بالفعل ،
والفاعليّة هي المخرجة إلى التّحصيل ، فاختلف الجهتان. وثالثا : إنّه لو كانت
الفاعليّة. عين القابليّة لقبل كلّ ما فعل بنفسه وفعل كلّ ما قبل بنفسه.
ومن الضّوابط
الكليّة : أنّ الاثنين أبدا لا يصيران واحدا إلّا بما يفرض من اتّصال وامتزاج
يستوجب أمرا ثالثا ، هو الواحد ، فإنّه إن بقى كلاهما أو بطل أحدهما فلا اتّحاد
أصلا. وكذلك الواحد أبدا لا يصير اثنين إلّا بتفصيل أو بتفريق أجزاء ، فإنّه إن
بقى هو ـ وهو واحد ـ فما صار اثنين ، فأبدا لا يصير المفهومان مفهوما واحدا ، ولا
الاعتباران اعتبارا واحدا ، ولا المفهوم الواحد والاعتبار الواحد مفهومين
واعتبارين. فإذا كانت جهة القبول غير جهة الفعل فى نفسها وفي اقتضائها ، فكيف
يتصوّر أن تكون في شيء واحد بما هو واحد ، ولا سيّما إذا كان أحديّ الذّات من كلّ
جهة ، جهتان
مختلفتان في نفسها
ومختلفتا الاقتضاء» [مع اختلاف في العبارة]
فلا تسدد النظر ،
فتفطّن بما نبّهناك : أنّ الفعل بمعنى التّأثير في غير الفاعليّة ، بمعنى مبدئيّة
الانتزاع ، أي كون الشّيء في حدّ نفسه بحيث ينتزع منه مفهوم ما وراء جوهريّاته
باقتضاء ذاته ، وأمّا بمعنى تأثير الشّيء في نفس ذاته أو في جوهريّاته فلا يكاد
يعقل أبدا. وكذلك القبول بمعنى انفعال الشّيء من فاعل خارج وبمعنى استعداده لما
ليس فيه بالفعل غير القابليّة. بمعنى منشئيّة الانتزاع والموصوفيّة بحسب الذّات ،
أي كون الشّيء في نفسه بالفعل بحيث ينتزع العقل منه مفهوما ما ، لا بمقتض من خارج
، وإنّما المشترك فيه فيها لفظة القبول، كما المشترك فيه في ذينك لفظة الفعل.
فإذن ، الفعل
بالمعنى الأخير يأبى مفهومه أن يكون له عمل في أمر آخر منفصل عن ذاته ، كما القبول
يأباه ، وليس يأبى القبول بمعنى الموصوفيّة ، بل إنّه يحقّقه ويؤكّده. وكذلك
الموصوفيّة ، وهي القابليّة بالمعنى الأخير ، ليست تأبى أن تكون هي من تلقاء
اقتضاء الذّات.
لست أقول : إنّ
هناك اعتبارين غير مصطدمين ، بل أقول : إنّ اعتبارا واحد للشيء فى نفسه يستحقّ أنّ
يطلق عليه اسم القابليّة إذا قيس بحال القوابل مع مقبولاتها لجامع الموصوفيّة ،
واسم الفاعليّة إذا قيس بحال الفواعل بالقياس إلى آثارها لجامع الاقتضاء. فكلّ ما فعل بنفسه
هذا الفعل قبل هذا القبول ، وكلّ ما قبل بنفسه هذا القبول فعل هذا الفعل بتّة.
وكما الفاعليّة
تقتضي وجوبيّة لا جوازيّة ، فكذلك هذه القابليّة. فهما ليستا بمختلفتين في نفسهما
ولا بمختلفتي الاقتضاء. كأنّك قد قرع سمعك ما وزانه هذا الوزان وسبيله هذا السّبيل
، قد بسطناه في كتاب «التقديسات» ، أعني بذلك أمر العاقليّة والمعقوليّة. فليس
الموجود المفارق الذّات عاقل ذاته ومعقول ذاته ، وليس في عاقليّة ومعقوليّة ذاته
استيجاب اثنينيّة في الذّات ولا في الاعتبار ، إذ ليس يوجب ذلك تكثير الحيثيّة
أصلا ، بل إنّما هناك اختلاف في التّعبير والتّرتيب والتّسمية ، إذا ما قويس بينه
وبين الذّوات العاقلة لمعقولات هي غيرها تارة والذّوات المعقولة لعاقلات هي غيرها
أخرى.
فإن غولط : بأنّ
المعقوليّة بما هي معقوليّة ليست تأبى أنّ تفارق العاقليّة ، وكذلك العاقليّة من
حيث هي عاقليّة ؛ والمعقوليّة بما هي معقوليّة تستدعي وجود موصوفها لشيء ، لا وجود
شيء لموصوفها ، والعاقليّة بما هي عاقليّة على العكس ، فهما حيثيّتان مختلفتان
مفهوما واقتضاء.
حوول كشف غطاء
التّدليس على مضاهاة ما ذكر.
ثمّ أليس الفحص
يقضى أنّ الماهيّات علل للوازمها ، إذ لو لم يكن الاقتضاء لازم نفس ذات الملزوم
وماهيّته ، بل كان حصول اللّازم له باقتضاء علّة من خارج ، لصحّ تقرّر الملزوم
عريا عن ذلك اللّازم عند فرض انتقاء تلك العلّة ؛ أى ما لم يلحظ الاستناد ، فلم
يكن هو لازما ، وهي أيضا متّصلة بها ، أو هى حاصلة فيها ، لا فى شيء آخر منفصل
عنها. فالزّوجيّة من ماهيّة الأربعة وفيها ، ومساواة الزّوايات للقائمتين من
ماهيّة المثلّث فيها ، واستعداد الكتابة من ماهيّة الإنسان وفيها.
وإن اوهم : أنّ
هذه الماهيّات مركبّة : إمّا في التّصوّر واللّحاظ التّحليلىّ فقط ، وإمّا في
الوجود أيضا.
ازيح : بأنّ في
كلّ مركّب بسيطا ، ولكلّ من البسائط شيء من اللّوازم لوحدته وهويّته أيضا ، لأنّ
للحقيقة المركّبة لا محالة وحدة تخصّها ، واللّازم إنّما يلزم عند الاجتماع ، وليس
علّة لزومه أحد أجزاء المجتمع ، وإلّا لكان حاصلا قبل الاجتماع ؛ ولا القابل له
جزءا ما ، إذ إنّما الموصوف به نفس الحقيقة المجتمعة. فالقابل والفاعل إنّما هو
المجموع بما هو المجموع. فإذن الشيء الأحديّ الذّات ، والشيء الواحد بالاعتبار
الذي هو به واحد قابل وفاعل.
ومن المستغرب ،
أنّ هذا الشّيخ المراوغ مساعد الشّركاء ، أساء في بعض كتبه على استناد لازم
الماهيّة إلى نفس ذاتها من غير مدخليّة مرتبة الوجود ولا جاعليّة الجاعل في
العليّة إلّا بالعرض ؛ ومنفرد بتشريك اللّوازم والجوهريّات في إحدى خاصيّاتها ،
وهي امتناع رفعها عن الماهيّة في التوهّم.
فإن كنت ، بعد ،
يزعجك : «أنّه إذا اقتضت ماهيّة بسيطة أو حقيقة ما واحدة لازما ما من اللّوازم
العرضيّة ، كانت نسبته إليها بحسب مرتبة نفسها من حيث هي هي ، نسبة
جوازيّة ، أو ليست
العرضيّات في مرتبة جوهر الذّات بما هي هي ، وبحسب مرتبة الاقتضاء نسبة وجوبيّة ،
فيلزم أن يختلف نسبة الأمر الواحد إلى الشّيء البسط أو إلى الحقيقة الواحدة بما هي
واحدة بالجواز والوجوب ، وإن هي إلّا القابليّة والفاعليّة الممتنعان الاجتماع في
موضوع واحد» ؛
فافقهن : أنّه إنّما تكون النّسبة إلى
الذّات جوازيّة إذا أمكن الانساخ والافتراق بالنّظر إلى الذّات بحسب نفس الأمر ،
ووجوبيّة إذا امتنع ذلك بالقياس إلى الذّات بحسب نفس الأمر ، لا ما إذا كان ذلك
بحسب مرتبة ما بخصوصها من مراتب الذّات ، وفي لحاظ ما بخصوصه من لحاظات العقل.
فمن المستبين :
أنّ نسبة المجعول إلى جاعله الموجب التّامّ بالوجوب ، مع أنّ كلّ معلول فإنّه ليس
في مرتبة العلّة ، بل متأخّر الذّات والوجود عن مرتبة ذات العلّة بتّة. والضّرورات
السّبع قد استوفينا البحث عنها في كتابنا «الأفق المبين».
تشريق ضابط بضوابط
(٤ ـ المعيار فى أقسام القابليّة
والفاعليّة)
فإذن كأنّك قد
استشعرت أنّ القابليّة والفاعليّة على ضروب ثلاثة :
أحدها : من القبول
بمعنى القوّة الاستعداديّة ، والمعتبر فيها عدم المستعدّ له بالفعل ، ومن الفعل
بمعنى حصول الوجود والخروج من القوّة الاستعداديّة إلى التلبّس المستعدّ له بالفعل
، إلى كون معنى ما من المعاني للشيء تارة بالقوّة وتارة بالفعل ؛ أو من القبول
بمعنى القوّة الجوازيّة التي هي الإمكان الذّاتيّ ، ومن الفعل بمعنى تقرّر الذّات
وموجوديّتها بالفعل ، أي كون نفس ذات الشّيء بحيث يحمل عليها ما بالقوّة بحسب
مرتبة جوهر الذّات ، وما بالفعل بحسب نفس الأمر معا.
فالقابل ما له هذا
القبول ، والفاعل ما منه هذا الفعل ، ويستحيل أن يتّفق افتراقهما فى موضوع واحد
غير متكثّر الذّات بالفعل ، إذ الشّيء لا يكون مخرج ذاته من القوّة إلى الفعل ،
وإلّا لم يكن ذاته بالقوّة أصلا ، ولا مبدءا ما لتغيّر ما في نفسه ، إذ لو كان
مبدءا لثبوت صفة له كانت تدوم له تلك الصّفة ما دامت ذاته ، فيمتنع أن يكون هو
متغيّرا فيها.
فالقابل والفاعل
على هذا الضّرب مطلقا ذاتان متمايزتان فى الوجود ، لكنّ القبول
الّذي هو
الاستعداد والفعل الّذي بإزائه ، أي كون أمر ما للشّيء بالقوّة تارة وبالفعل أخرى،
فلا يتصحّح الّا يكون الشّيء متركّب الذّات متكثّر الجهة بالفعل في الوجود والقبول
الّذي هو الجواز الذّاتيّ ، والفعل بمعنى حصول التّقرّر بالفعل ممّا يكثر
الحيثيّات في لحاظ العقل لا في الأعيان.
وثانيها ، من
القبول ، بمعنى الانفعال والتّأثّر من فاعل ، ومن الفعل بمعنى التّأثير في منفعل.
فالقابل ما يقبل التأثير من فاعل فوقه ، والفاعل ما يؤثّر في منفعل دونه ؛ وليسا
يستدعيان تكثّر الموضوع البتّة في الوجود ، بل ربما كانا يتّفقان للشّيء البسيط
الذّات في الوجود ، ولكنّه إذا كانت ذاته متكثّرة الجهات والحيثيّات في لحاظ العقل
، كما الأنوار المفارقة العقليّة متأثّرة من جناب نور الأنوار ، تقدّست أسماؤه ،
ومؤثّرة في النّفوس النّاطقة الإنسانيّة ، وكذلك النّفس الإنسانيّة بالقياس إلى
الجنبة العالية أعني عالم الأنوار العقليّة ، والجنبة السّافلة أعني العالم الجسد
انيّ.
وثالثها ، من
القبول ، بمعنى الموصوفيّة بمفهوم ما بالذّات ، ومن الفعل ، بمعنى اقتضاء نفس
الذّات تلك الموصوفيّة ؛ وليسا يستوجبان الكثرة أصلا ، ولا بالحيثيّات ، بل ربما
كانا كالبسيط الحقّ الأحديّ الذّات من كلّ جهة ، وإنّما الاختلاف بالأسماء ، لا
غير.
فإذن الضّابط
المعيارىّ في الحيثيّات المختلفة للشّيء أنّها مهما كانت في التّعبير والحكاية فقط
، لا في المعبّر عنه أيضا ، أوجبت تكثّر أنحاء مختلفة وعنوانات متغايرة للذّات
الأحديّة البسيطة من كلّ جهة ، لا غير.
وإذا كانت في
الذّات المحكيّ عنها : فإن كانت متعاندة غير مضمّنة إحداهما في الأخرى متفارقة
الحصول ليس انتفاء إحداهما بعينه مضمّنا فيه انتفاء الأخرى البتّة ، كانت هي لا
محالة حيثيّات تركيبيّة مستوجبة أجزاء وجوديّة للشّيء في الأعيان ، وتكثّر فيه
بحسب الخارج إزاء لتكثّر الحيثيّات في لحاظ العقل.
وإن كانت متخالطة
مضمّنة عضة منها في عضة ليس يتصوّر انتفاء إحداهما إلّا ويتضمّن فيه بعينه انتفاء
الأخرى ، كانت هي لم تكن إلّا حيثيّات تحليليّة ، إنّما تستوجب للشّيء تركّبا
وتكثّرا في التّصوّر التّحليليّ الّذي هو لحاظ التّعيّن والإبهام وظرف الخلط
والتّعرية ، وهي جهات واعتبارات متكثّرة تصوّريّة لذات عينيّة بسيطة في الوجود.
ثمّ مطلق
الحيثيّات المتكثّرة طباعيّ لها على الإطلاق ـ أي سواء كانت متقابلة أو متخالفة
غير متصادقة ـ أنّها إذا تحيّنت بها ذات المعروض تحيّنا تقيّديّا أو اختلافا
وتكثّرا في الذّات لاحقا بحسبها وإنّما يلحق الذّات بحسب إحداهما ، ليس يصحّ
يلحقها بحسب حيثيّة أخرى أصلا ، وإنّها لا يتصحّح حصولها إلّا بالاستناد إلى
اختلاف حيثيّات سابقة تعليليّة ، وليس من حقّها البتّة أنّها لا تعرض ذاتا واحدة
إلّا من بعد حيثيّات تقييديّة سابقة.
وأمّا الحيثيّات
المتقابلة بخصوصها فمن حقّ طباعها ، بما هي حيثيّات متقابلة مع ذلك كلّه ، أنّها
لا تصحّح في ذات واحدة إلّا من بعد حيثيّات تقييديّه سابقة مكثّرة أوّلا الذّات
المعروضة.
فإذن شيء من
الحيثيّات الذّاتيّة والعرضيّة لا يكون لشيء من حيثيّة أخرى ؛ فلا النّاطقيّة مثلا
تكون من حيث الحيوانيّة ولا المتحرّكيّة من حيث المتشكّليّة. وإنّما الشّيء ونقيضه
من سبيل الحمل الهو هويّ ، كمفهومي الكتابة واللّاكتابة ، لا يصطدمان اقترانا في
موضوع واحد بعينه بالحمل الذّوهويّ بحسب نفس الأمر.
فأمّا بحسب حيثيّة
ما تقييديّة بخصوصها فليس يصوغ ذلك بتّة إلّا باختلاف الحيثيّة التّعليليّة.
والأخير أنّ يحشد النّقيضان من سبيل كلّ من الحملين بذلك الحمل بعينه. أليس إذا
كانت حيثيّة ما ، لكنّه نفسها وبما هي هي بعينها ، بحيث ترتّبت عليها اللّاحركة في
موضع بعينه من حيثيّة تقييديّة بعينها. فإذا ترتّبت عليها اللّاحركة في ذلك
الموضوع بعينه بما هو على تلك الحيثيّة من حيث يترتّب عليها اللّاحركة كانت
اللّاحركة بالضّرورة الفطريّة حركة ، فيقترن النّقيضان من سبيل الحمل المواطاتي
مواطاة. أليس انبعاث اللّاحركة ليس هو بعينه انبعاث الحركة. فبالجبلّة العقليّة ليس من حيث لا تنبعث اللّاحركة تنبعث
الحركة.
فإذا كانت
اللّاحركة والحركة بحسب جهة واحدة ومن تلقاء حيثيّة بعينها كان لا محالة تنبعث
عنها الحركة ولا تنبعث. وكذلك اللّاحركة والحركة ؛ فتحته النّقيضان بحسب الحمل
الاشتقاقيّ اتّفاقا.
فإذن ، فما الفرق
بين الاقتران في الموضوع بحسب نفس الأمر وبحسب حيثيّة ما
بخصوصها من
الحيثيّات النّفس الأمريّة ، وكذلك بين اختلاف الموضوع بالحيثيّة التّقييديّة
والاختلاف بالحيثيّة التعليليّة؟
فهذه ضوابط فحصيّة
، إن حقّقتها باللّحظ ربما استنقذك ، من جهالات وهيجة وإعضالات وشيجة في تشكيكات
مبيدة في مقامات.
تشريق
(٥ ـ المخرج من القوّة إلى الفعل)
فقد بان ممّا
استبان أنّ النفس العاقلة لا تستطيع أن تخرج ذاتها من القوّة الهيولانيّة الّتي هي
درجة العقل المنفعل إلى فعل العقليّة الّتي هي درجة العقل بالفعل ، ثمّ الّتي هي
درجة العقل المستفاد ؛ إذ لا شيء من الأشياء مخرج نفسه من القوّة الى الفعل ؛ كيف
ولو كانت نفس الذّات مستوجبة الخروج لما كانت بالقوّة أصلا.
وأيضا كلّ ما ذاته
تخرج من القوّة إلى الفعل فمن حيث الفعل أشرف وأكمل من حيث القبول ، فيلزم أنّ
تكون ذاته أشرف وأكمل من ذاته لتستكمل وتقبل الكمال من نفس ذاته. وبالجملة ، إنّ
الشّيء لا يستكمل عن نفسه ، إذ واهب الكمال المطلق لا يكون عريّا عنه ، وإن كان ما
ليس كمالا مطلقا للموجود بما هو موجود ، كالحرارة والسّواد ، ربما يكون معطيه عروا
عنه.
فإذن ، مخرج
النّفوس البشريّة إلى مراتبها الفعليّة نور قدسي هو عقل فعّال بإذن ربّه ، بريء في
جوهره عن القوّة الانفعاليّة الهيولانيّة ؛ قياس إشراقه إلى كوّة القوّة النّظريّة
وحدقة البصريّة العقلانيّة هو قياس إضاءة الشّمس إلى كوّات البيوت المدريّة وأحداق
الأبصار الجسمانيّة.
وهو أيضا خزانة
معقولات النّفس ، كما القوّة الخياليّة خزانة لمحسوساتها. فبمقدار ما يتمّ استعداد
النّفس وتأهّبها للاتّصال تستفيض وتقبل الفيض عنه على الرّشح أو على الإشراق ، وما
دامت مستديمة ذلك الاتّصال تتمكّن من استعراض الصّور المعقولة.
وإذا أعرضت عنه
إلى ما يلي العالم الجسمانيّ أو إلى صور أخرى غيرها انمحت عنها المتمثّلات الّتي
كانت فيها ، كأنّ المرآة الّتي كانت يحاذى بها جانب القدس قد اعرض بها عنه إلى
جانب الحسّ أو إلى لحاظ صورة قدسيّة أخرى.
فمهما بقيت على
ملكة الاتّصال الّتي اكتسبتها كانت تلك المنمحيات مذهولات عنها مقويّات على
إعادتها ؛ وهي ما دامت على تلك الهيئة قويّة على الاستعادة من دون مؤن اكتساب جديد
وهيئة طريّة. وإذا زالت عنها ملكتها المكتسبة وهيأتها المستحصلة صارت تلك
منسيّاتها الغير المقويّ على استرجاعها إلّا بتجشّم كسب مستأنف.
ثمّ إن دقّقت
التّأمّل وأسبغت التّدبّر ، بزع لك أنّ المخرج الحقّ إلى الفعل بما هو مخرج الشّيء
من القوّة إلى الفعل لا يجدر أن يشينه في حدّ نفسه ملابسة ما بالقوّة.
فإذن طريق
التّحليل بذر الطّباع الجوازيّ صفر الكفّ من فضيلة الإخراج من كتم اللّيس بالإيجاب
والإفاضة ، وإنّما بدع العقول القدسيّة الفعّالة بالسّير مسير الإعداد والرابطيّة
، ويرجع الأمر كلّه إلى القيّوم الحقّ كلّه وحده ، وهو المخرج الحقّ من الظّلمات
إلى النّور. (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، (يس ، ٨٣).
تشريق
(٦ ـ لكلّ متحرك محرّك لا يتحرك)
وكذلك كلّ متحرك
فإنّ له محرّكا وراء ذاته ، إذ لو تحرّك شيء بنفس ذاته لكان قابلا وفاعلا على
الضّرب المستحيل ، ولكان كاملا من حيث هو مستكمل. وأيضا ليس أمر المتحرك ،
كالهيولى ، مدمجة في فعلها القوّة ، وقد أوضحنا ذلك في «الأفق المبين».
فالمتحرك بما هو
متحرّك ومتلبّس بالحركة بالفعل فوق ما هو في القوّة بحسب بلوغ الغاية ، له شيء من
نفس تلك الحركة بالقوّة ، فكيف يكون هو بنفسه مفيد فعليّة تلك الحركة ، فكيف تستأهل
ذاته من تلك الجهة كفلين من الفعل ، وإنّ له بذلك الاعتبار ضعفين من القوّة الّتي
هي اللّاحصول بالفعل ، وكذلك نسبة القول في الهيولى. وكثيرا ما يكون التّلبّس
بالحركة أيضا بالقوّة ثمّ يصير بالفعل أخيرا.
وإذ لكلّ متحرّك
محرّك ، وليس يستسوغ العقل متحرّكات تتمادى إلى لا نهاية ، وإلّا لكانت بالأسر
أوساطا بلا طرف ، وما دام حكمها حكم الواسطة لا تكون حركة بالفعل ؛ فإذن يجب
الانتهاء إلى محرّك لا يتحرّك. وكذلك مخرج الأمور من القوّة إلى الفعل والموجد
إيّاها أمر هو بالفعل بذاته ، وموجود بذاته.
والمتحرّك : إمّا
متحرّك بالإرادة ، ومبدأها النّفس ، وإمّا متحرّك بالطّبيعة ، وهي قوّة
جوهريّة منبثّة في
الجسم. وكذلك القوى الجسمانيّة الّتي هي مبادى الأفاعيل الطّبيعيّة.
والمحرّك الّذي لا
يتحرّك ، ليس يصحّ أن يكون قوّة جسمانيّة. وتحريكه إمّا بإعطاء المبدأ القريب
الّذي به التّحرّك ، وإمّا بأن يكون المؤتمّ به والمعشوق للجوهر المتحرّك والموجب
له أشواقا متتالية وتخيّلات متتابعة.
فمن المستبين :
أنّ الحركة إنّما وجودها على سبيل التّقضّي والتّجدّد. فإذا كانت علّتها التّامّة
ثابتة التّقرّر قارّة الوجود لم يكن ينعدم شيء من أجزاء الحركة ، فلم تكن الحركة
حركة ، بل تكون ثابتة.
وهناك تفصيلات
مستعسرة الاندفاع ، لا رادّة للفصية عنها في ما نحن الآن بسبيله ، ولها حيّز
طبيعىّ يترقب في ما نستأنفه من ذي قبل ، إن شاء الله ، سبحانه وتعالى.
تنبيه
(٧ ـ النّفس المجرّدة ومعالجة الجسد والنفس)
النفس المجرّدة
إذا عالجت جسدها كان فاعل العلاج مباين الذّات والوجود لقابله ، وإذا عالجت نفسها
كان تغاير المعالج والمستعلج بالجهات والحيثيّات التّقييديّة والمتكثّرة الذّات
المتحيّثة ، كالاستضاءة بأنوار عالم القدس والاتّساخ بأوساخ الطّبيعة في ظلمات
السّجن الجسدانيّ.
سياقة استشراقيّة
(٨ ـ الاستناد إلى المبدأ القيّوم
الحقّ ، جلّ مجده)
رأيت كيف بلغ
القول في الهيولى الأولى ، في الحركة ، وفي النّفس ذروة سنامه في الانسياق إلى
إثبات المبدأ القيّوم الحقّ بذاته ، وتبرهن وجوب الاستناد إلى جناب الواجب بالذّات
، جلّ مجده ، من السّبيل اللّميّ الّذي هو الطّريق الوثيق في البرهان ، إذ قد بان
ولوج ما بالقوّة بحسب نفس الأمر في ما بالفعل هنالك ، أعني جواهر هويّاتها.
ومن البتّيّ
المستبين ، إذا ما اتّقدت القريحة الحدسيّة والجبلّة القدسيّة ، أنّه ما لم يكن
فعل بذاته لم يكد يتصوّر خروج شيء إلى الفعل أصلا ؛ كيف ولو انحصر الفعل في
فعليّات هي بالقوّة في حدّ ذاتها ، هالكة بحسب أنفسها ، فحيثما الغريزة العقليّة
المتقدّمة حاضرتها باللّحاظة الإجماليّة ، متناهيّة كانت أو متمادية إلى لا نهاية
؛
حكمت أنّ الفعل قد
انبعث عن القوّة اللّيس والتّقرّر عن الهلاك والبطلان ، إذ ليس إلّا ذوات باطلة ،
وقد حقّت الفعليّة. فإذن يلزم انبعاث الشّيء عمّا هو في قوّة نقيضه.
وهذا أسلوب بحسب
هذا الموضع بإزاء الأسلوب الّذي في حيّزه الطّبيعيّ ، وهو أنّ الشّيء ما لم يجب
تقرّره لم يتقرّر ، وما لم يجب وجوده لم يوجد.
فإذا انحصر التّقرّر
في الذّوات الجائزة ، ولم يكن في الوجود حيثيّة الوجوب بالذّات ، يستبين باللّحاظة
الإجماليّة انبعاث ضرورة أحد الطّرفين عن لا ضرورة الطّرفين ، وذلك كانبعاثها عن
ضرورة ذلك الطّرف بخصوصه ، بل أفحش منه من وجه. فإذن يجب الانتهاء إلى واجب
التقرّر والوجود بالذّات ، وهو مبدأ المبادى.
ثمّ بالبيان
المتقدّم يستشعر : أنّ الحقيقة الجوازيّة ، إذ هي بما هي على طباع الإمكان ، على
أفق القوّة الصّرفة وعلى شفا جرف هار من اللّيس المطلق ، ليس يسع وسع منّتها أن
يكون مبدأ الإيجاب والإيجاد ، بل إنّما الهويّات الإمكانيّة تجري مجرى الرّوابط
والشّرائط.
وهناك بيانات أخرى
على ذمّة حيّزها الطّبيعىّ ، كبرهان الوسط والطّرف النّافذ الحكم في السّلسلة
الدّوريّة وفي سلسلة تسلسليّة ، وبرهان امتناع العدم الواثق الرّصانة في اثبات
المفيض الحقّ وفي سلب وسع الإفاضة رأسا عن طباع الإمكان ، وغيرها من البراهين
الوثيقة الرّصينة.
سياقة تشريقية
(٩ ـ العقل الفعّال والجوهر العاقل
البشريّ واستكماله)
ثمّ الفحص هناك
يساق إلى إثبات الجوهر القدسيّ المعبّر عنه بالعقل وبالعقل الفعّال. أليس تراكم
القوّة على قصيا المراتب يحجز الحقيقة المتراكمة القوّة عن الاقتراب في سلسلة
الوجود من الفعل المحض اللّامتناهي الفعليّة والكمال الّذي هو التّامّ الحقّ بذاته
من كلّ ماهيّة كماليّة وفوق التّمام ، ويعوقها عن الاستناد إليه من بدء الأمر لا
بوسط يناسب الطّرف الأعلى والطّرف الأسفل كلّا من جهة.
أما عندك من
الحدسيّات ، بل من الفطريّات : أنّه ما لم يكن بين ذاتي العلّة والمعلول خصوصيّة
ارتباطيّة ليست هي بين سائر الذّوات ، لم يتعيّن هي من بين
الأشياء بالعليّة
له ولا هو بالمعلوليّة لها. وكيف يترتّب على نفس الذات التّامّ في الغاية بذاته
ناقص في الغاية بذاته.
فإذن ، لا مجاز من
توسيط جوهر ذي وجهين لا يعتريه في فعليّته معنى ما بالقوّة. وذلك وجهه الّذي به
يلي جناب المتقدّس إلّا عن الفعليّة الحقّة بنفس الذّات من كلّ ماهيّة كماليّة ،
ولا يتخلّص عن ملابسة معنى ما بالقوّة بحسب جوهر الذّات حين ما هو بالفعل من تلقاء
الجاعل ، لا من حيث ما هو بالفعل ، وذلك وجهه الّذي به يلي ما يلج ما بالقوّة فيه
من حيث ما هو بالفعل ، كما يغشاه ما بالقوّة بحسب جوهر الذّات حين ما هو بالفعل ،
أعني الهيولى والحركة والنّفس. وإن هو إلّا «الجوهر العقليّ». وفي النفس والحركة
وجه آخر محوج إلى العقل للمعشوقيّة والائتمام به : ثمّ قاعدة الإمكان الأشرف أيضا
سابقة إليه ، وهي مستمرّة الاطّراد في كلّ ما اتّفق فوق عالم الطّبيعة.
وبالجملة ، ليس
يستصحّ العقل الصّريح إلّا أن يكون الأقرب من الجاعل الحقّ أفضل المجعولات
المترتّبة في سلسلة المجعوليّة ، وأن يكون ما يكفيه في أن يبتدعه الجاعل ويفعله
جوازه الذّاتيّ أوّل ما يجعل.
فإذن ، إنّ أوّل
ما يبدعه الباري الفاطر من زمر مجعولاته ومفطوراته ، فيبوّئه مبوّء الفعليّة
ويقرّه مقرّ التّقرّر في عالم الوجود ماهيّة «العقل الأوّل» وإنيّته ، وآخر
مبدعاته في سلسلة البداية «الهيولى».
والجوهر العاقل
البشريّ ما لم يستعمل زيت الحدس في مصباح قريحته العقليّة ولم يتّقد بوقود
الانجذاب إلى عالم القدس لم يكن من حزب الحقيقة ولا من ورثة الحكمة ، ولم يستأهل
أن يطمح بصر سرّه إلى العالم الرّبوبيّ ، ولم يتأهّب لأن يتّمض الوميضات الإلهيّة.
إيماض
(١٠ ـ ......)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والاستيقان من العليم الحكيم
سبحانك اللهمّ
أتحرّى سمت مجدك وأروم سبل هداك ولا أرى إلّا نور وجهك ولا أبتغى إلّا مستقرّ
رضاك. نوّر صوامع روعى بذكراك وطهّر شراشر سرّى عمّن سواك ، واخلفنى من أسر شرك
الهيولى بجذباتك وارقبنى من درك كيد الطّبيعة بلحظاتك ، وأرنى حريم بابك ، وأرشدنى
إلى مرصاد جنابك بأعظم الهداة إلى حماك والدّعاة إلى علاك. سيّدنا ونبيّنا وهادينا
محمّد وعترته الأنجبين ، أمناء سرّك وسفراء وحيك وأدلّاء صراطك.
السّقاية الخامسة
من كتاب الإيماضات والتشريفات ، الملقّب بالصّحيفة الملكوتيّة
فيها التّدريج إلى الأخذ في الصّقع الرّبوبىّ وسوق النّظر إلى القول الأحرى
بالجناب الوجوبىّ.
إيماض
(١ ـ متقرر الحقيقة وغير متقرر
الحقيقة)
ما في عالم
التّقرّر إن كان متقرّر الحقيقة بنفس ذاته ، ويتبع ذلك ان هو بذاته مبدأ انتزاع
الوجود عنه ومصداق حمل الموجود عليه بالضّرورة ، على أنّ مطابق مفهوم المحمول ليس
إلّا نفس حيثيّة الموضوع ، فهو القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره ، وإن كان غير
متقرّر الذّات بذاته ، بل مجهول الماهيّة عن غيره ، فلا محالة ليس هو فى غير ذاته
مبدأ انتزاع الوجود ومصداق حمل الموجود ومطابقة ، بل إنّما من تلقاء إفاضة الجاعل
جوهر ماهيّته ونفس ذاته جعلا بسيطا ومن جهة الاستناد إليه ، فهو الجائز الفاقر
المفتاق ماهيّة ووجودا. والماهيّة الجائزة جنبتان : حقيقة منعوتيّة وطبيعة
ناعتيّة.
فعنوان الأولى :
أنّ ذاتها ووجودها لنفسها ، أى لا فى غيرها ، وإلّا فالذّات المجعولة إن هى إلّا
فالذّات المجعولة إن هى إلّا لجناب الجاعل ، أعنى ماهيّة ففيها ومنها اذا تقرّرت
فى الأعيان كانت لا فى موضوع وإن كانت بحسب شخصيّتها وبوجودها الشّخصيّ فى محلّ ،
فهذا مفهوم جنس مقولة الجوهر وتحتها الجوهر
المفارق مطلقا في
الأنوار العقليّة الّتي هي بالسماء فى الفطرة الأولى على الإطلاق والمفارق فى ذاته
فقط ، كالنفوس المفارقة التي لها فى سيرتها الأولى كمالات بالقوّة تتجمل بها
بالفعل فى الفطرة الثانية والهيولى الأولى التي فعليّة جوهر ذاتها منضمة فيها
القوّة المطلقة والصّورة القابلة بالوجود والتّشخّص فى المادّة بضربيها الجرمانيّة
والمنوّعة والمتقوّم من المادّة والصّورة أى البرازخ الجسمانيّة بأنواعها وعنوان
الثّانية. أنّ تقرّرها ووجودها فى نفسها هو بعينه تقرّرها ووجودها فى غيرها. أعنى ماهيّة
، حقّها إذا تقرّرت فى الأعيان أن تكون البتة فى موضوع بحسب شخصيّتها وبحسب
طبيعتها المرسلة جميعا. وهذا طباع مشترك بين مقولات الأعراض التّسع المشهورة.
فأمّا مفهوم
الموجود بالفعل فى الموضوع فمن العوارض اللّاحقة للتّسع بحسب الأعيان وبحسب الوجود
فى الذّهن جنسا ولمقولة الجوهر أيضا ولكنّه من حيث خصوص حصولها فى الذّهن وبحسب
شخصيّتها الذّهنيّة فقط وكذلك الموجود بالفعل فى الأعيان لا فى موضوع ليس هو
المعنى الّذي جنسناه لمقولة الجوهر ، بل هو من عرضيّاتها اللّاحقة.
إيماض
(٢ ـ الماهيّات المتأصّلة والمقولات)
إنّما استيعاب
المقولات العشر بجنسها للمتقرّرات بالذّات من الماهيّات المتأصّلة المتأحّدة
تأحّدا جنسيّا ، فليس يستضرّ حصرها فى عددها إذا لم يقع تحتها الموجودات بالعرض ،
كمفهومات العرضيّات وما ليس لها تحصّل نوعى ولا تأحّد جنسيّ ، كفصول الأنواع
والأجناس وأشخاص لا تأحّد لها نوعيّا وأنواع لا تأحّد لها جنسيّا إن تمّ إثباتها. فليس اعتبار أىّ شيء
إلى شيء كمقولة إلى مقولة ، أو لحاظ أىّ اعتبار لمعنى ما ، كالتّقييد بالبياض مثلا
لمفهوم مطلق الذّات المرسلة ممّا يفرد لذلك الشّيء أو ذلك المعنى ذاتا أحديّة
محصّلة وتأحّدا جنسيّا يستحقّ بذلك أن يجعل نوعا ويوضع نوعا ويوضع تحت جنس أو يعدّ
جنسا من الأجناس. وذلك كما إذا قيل : المدن منحصرة فى بلاد عشرة ، سنّة التمدّن
فيها على شاكلتين. ثمّ وجد قوم ... فلا يتمدّنون ، فإنّه ليس ضارّا فيه.
إيماض
(انتهى الموجود من الإيماضات)
مصنّفات ميرداماد
(٢)
التقديسات
(تقريظ صدر الدّين محمّد بن إبراهيم الشّيرازيّ)
هو الحكيم العليم
هذه رسالة شريفة
إلهيّة ، ومقالة جليلة ربانيّة ، مسمّاة ب «عرش التقديس» ، فارق بين الحقّ
والتّدليس ، طلعت عن مطلع العرفان والتّحقيق ، ولمعت عن منبع الإيقان والتّدقيق. لعمري لو لا أنّ
الجاهل عنود والإنصاف في الخلق مفقود ، لحريّ بها أن تكتب نقوشها في صفحات الأبصار
ظاهرا ، وتثبت معانيها في ألواح البصائر باطنا. ولكنّ الجاحدين الغافلين المغترّين
بلا مع السّراب لمحرومون من رحيق هذا الشراب ، فإنّهم لا يبصرون ولا يسمعون ،
لأنّهم عن السّمع لمعزولون ، وعن آيات ربّهم لمحجوبون ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (الرّوم ، ٧).
ولو كان يتيسّر
لكلّ عاجز السّياحة في فضاء عالم الملكوت والسّير ، لما كان سليمان ، صلوات الله
على نبيّنا وعليه ، مختصّا بفهم منطق الطير ، فهؤلاء هم محقّون معذورون في أمرهم
هذا ، لو لم يسمّوا جبنهم حزما وفتورهم نفورا. ونعم ما قيل :
يرى الجبناء أنّ
الجبن حزم
|
|
وتلك خديعة
الطّبع اللّئيم
|
ولكنّ الكلّ ميسّر
لما خلق له. وكتب هذه الأحرف خادم القوى العالية الرّوحانيّة ، محمّد بن إبراهيم ،
الشهير بالصّدر الشّيرازيّ ، أحسن الله أحواله ، حامدا لله ، مصلّيا على نبيّه
وخلفائه ، مستغفر لذنبه وخطاياه. [پس از آن در حاشيه به خطّ ديگرى چنين نوشته شده
است :] اللهمّ
أيّد وأبّد منشي هذه الفقرات ، بحقك ، أنت ؛ يا قدّوس. وأنا مخلصه القديم على
جادّة الإخلاص المستقيم القويم ، روح شاه الهمدانيّ.
اللهمّ اجعل رضاك
عنّى في ما تشغلني به ولا تشغلني عن ذكراك بما تشوّقني إليه
بسم الله الرحمن الرحيم
والاستيفاق من العليم الحكيم
يا هو ، يا من هو
، يا من لا هو إلّا هو ، يا فوق الفوق ، ويا وراء الوراء ، ويا عاليا عن سمك الوصف
، ويا رفيعا (متقدسا) عن افق الثناء ، لا هو إلّا أنت ، ولا أنت إلّا أنت ، هويّتك
إنيّة إحاطيّة ظهوريّة ، إنيّتك هويّة قيّوميّة نوريّة ، لا أحقّ إلّا حقّيتك ،
ولا خير إلّا إنيّتك. يا جاعل الماهيّات المتجوهرة ، ومذوّت الذّوات المتقرّرة ،
ومؤيّس الإنّيات المتأيّسة ، لا أثق بغيرك ، ولا أؤمّل من سواك ، ولا أرى إلّا نور
وجهك ، ولا أبتغى إلّا مستقرّ رضاك.
إنّ هذه النفس لهى
الهابطة النائية الجائرة الحائرة ، فبحقّ رحمتك على غضبك وبعزّة بسطك عند قبضك ،
ألحقها بالحافّات القادسات الواصلات والصّافات العاقلات القارعات، إنّك وفيّ
السّابقات العاليات ووليّ الباقيات الصّالحات.
وقدّس أشرف
الوسائل إليك ، وأكرم الدلائل عليك ، سيّد الداعين إلى طريقك ، وخير الهادين
لسبيلك ، محمّدا وحامّته الأقربين وخاصّته الأنجبين ، بشرائف تحيّاتك ؛ وخصّصهم
بكرائم صلواتك وتسليماتك.
وبعد ، فأحوج
المربوبين إلى الربّ الغنيّ ، محمّد [٥٧ ب] بن محمّد ، يلقّب باقر الدّاماد
الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى. يملى على معاشر الأولاد المعنويّة ، وزمر ذوي
القربى الرّوعيّة : إنّ من آيات الله الكبرى لديّ وأنعمه العظمى علي ، حسبما شرح
صدرى للإيمان وغبّ ما جعل قسطى اصطياد الحقّ بالبرهان ، أن فضّلني على شركاء
الصّناعة ورؤسائها في السّابقين واللّاحقين ، بإنضاج نيّ الحكمة ، ولمّ شعث العلم
، وتقويم الحكمة الإيمانيّة اليمانيّة البهيجة ، وتسوية الفلسفة الدينيّة
اليقينيّة النّضيجة ، وإبطال جاهليّة الأذهان في الفلسفة الأولى ، وإكمال سنّة
القوّة النظريّة ، باستحداث فطرة أخرى تتولّى تقنين قوانين حكميّة قدسيّة ، وترصين
ضوابط عقليّة
فحصيّة ، في
إلهامات غيبيّة ملكوتيّة ، على أساليب نوريّة لاهوتيّة.
فما أكثر ما نظرت
في علوم الأوّلين وسبرت أنظارهم ، وعثرت على فنون الآخرين ، واختبرت أفكارهم ،
ففككت وسبكت ونقدت ونخلت ، ثمّ قطعت باب الإعضال بهم وقمعت دار الإشكال فى ما أشكل
عليهم. وللسان روعى في ذلك أسوة حسنة بلسان سيّدي ومولاي ، سيّد المسلمين ومولى
المؤمنين ، عليه أزكى صلوات المصلّين ، إذ يقول : «ولكن بقوّة ربانيّة ، لا بفطرة
إنسانيّة» («بحار الأنوار» ، ج ٥٨ ، ص ٤٧). ومن قوارع تلك القوانين تتميم براهين
التقديس والتّوحيد ، وإراءة السّبيل إلى سويّ القول المقشوّ فيه على أمم التنزيه
والتمجيد.
فألحّت علي [٥٨ ظ]
عصبة من العصابة الرّوحانيّة ، ولمّة من أولي القرابة العقلانيّة، أن افرد ، ممّا
ضمّنت لتبيان ذلك صحفي البسيطة الحكميّة ، صحيفة حصيفة تومض بالفحص الناصع ، وتلمع
بالتحقيق النافع. فها أنا آت بمأمولهم على طباق مسئولهم ، مستعينا بأيد الله
العزيز العليم ، إنّه ذو الفضل العظيم والطّول القديم.
إخاذة
(١ ـ وجوب الوجود بالذّات من براهين
التّوحيد)
إنّ هناك تعويصا
معضلا وتعضيلا عويصا : هو أنّ من جملة براهين التّوحيد تدور رحاها على تسليم لزوم
طباع ذاتيّ مشترك بين قيّومين واجبين بالذّات ، هو حقيقة وجوب التّقرّر والوجود
بالذّات ، تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن الشريك والشبيه والنّدّ والضّدّ علوّا
كبيرا. ومن المسوّغ ، في بادى اللحظ وعلى فرض التعدّد ، شيئان بسيطان مجهولا الكنه
، مفترقان بتمام الماهيّة البسيطة ، كلّ منهما متقرّر بنفسه ، ومبدأ انتزاع وجوب
التّقرّر والوجود عن ذاته بذاته ، ومصداق حمل المفهوم المشتقّ من ذلك المعنى
المصدريّ على ذاته بذاته ، على أنّ ذلك من العرضيّات ، وليس بين الحقيقتين
المختلفتين المعروضتين بالذّات قدر مشترك ذاتيّ أصلا.
وهذا الإعضال
معزيّ على ألسن هؤلاء المحدثة إلى رجل من المتفلسفين المحدثين ، يعرف ب «ابن كمونة».
لكنّه ليس أوّل من اعتراه هذا التّشكيك. كيف والأقدمون كالعاقبين قد وكدوا الفصية
عنه وبذلوا مجهودهم في سبيل ذلك قرونا و
دهورا [٥٨ ب].
تشريق
(٢ ـ استناد معلول واحد إلى علتين
مستقلتين مستحيل)
أما قرع سمعك ، من
الرؤساء والأتباع المحصّلين ، أنّه يستحيل أن يستند معلول ما واحد ، وحدة بالشّخص
أو بالنّوع ، إلى علّتين مستقلّتين ، ولو على البدليّة ، وسواء في الاستحالة : أكان
ذلك على التّعاقب التعقّبيّ ، أو على التبادل الابتدائيّ من بدو الأمر. وإن كانت
المتعاقبات عللا تامّات أو شروطا ومعدّات للعلّة على سبيل التّبادل ، فذلك أيضا
يفضي إلى اختلاف العلّة التامّة بالمعنى أو بالعدد. وبالجملة ، يمتنع استناد طبيعة
واحدة بعينها إلى طبيعتين مختلفتين بالمعنى أو بالعدد أصلا. أليس إمّا أن يكون
لخصوصيّة إحدى الطبيعتين مدخل في حصول المعلول فيمتنع أن يتحقق بالأخرى بتّة ، أو
لا؟ فتعود العليّة إلى الطباع المشترك ، وهو أمر واحد بحسب نفسه. ومهما اختلفت
العلّة في ظاهر الأمر ، كانت العلّة بالحقيقة هي القدر المشترك ، والخصوصيّات
ملغاة في العلّية.
فكما وحدة العلّة
مستلزمة وحدة المعلول ، فكذلك وحدة المعلول مستدعية وحدة العلّة ، فانحفاظ أصل
الوحدة بالطّبيعة وبالعدد متكرر اللزوم على التعاكس من الجنبتين في مطلق العلّة.
وأمّا نحو الوحدة الشّخصيّة أو النّوعيّة بخصوصها فغير لازمة الانحفاظ من الجنبتين
، بالنّظر إلى طباع المعلول بما هو معلول ، إلّا بالقياس إلى خصوص العلّة الجاعلة.
فهذا ما أنا أذهب إليه وأرى اتّجاه الفحص نحوه.
وإنّ شريكنا
السّالف ، رئيس مشائيّة الإسلام ، يذهب إلى إيجاب الانعكاس من الجنبتين مطلقا في
مطلق العلّة ، ويحكم أنّ الواحد بالنّوع يجب أن [٥٩ ظ] يكون لعلته أيضا الوحدة
النّوعيّة. [«شرح الإشارات» ، ج ٣ ، ص ٦١]. لكنّى لست أجد مساق البرهان إليه ،
اللهمّ إلّا في العلّة الجاعلة.
تشريق
(٣ ـ المعلول الواحد له علّة واحدة بعينها)
فإذن ليس يصحّ أن
يكون لمعلول واحد بعينه إلّا علة تامّة واحدة بعينها ، والجاعل
للشىء الشخصىّ
يمتنع أن يكون إلّا شخصيا. وربّما يعتبر انضمام طبيعة ما مرسلة إليه ، لتتمّ
العلّة التامّة الواحدة بالشّخص ، وليس يوجب ذلك خروجها عن الوحدة الشّخصيّة. وكذلك
ليس يصحّ أن يكون لعدمه علّة إلّا عدم علّته التامّة الواحدة بعينها. فأمّا عدم
إحدى العلل بعينها أو لا بعينها ، وعدم إحدى الأجزاء بعينه أو لا بعينه ، إن كان
المعلول مركّب الذّا ، فليس ممّا له العليّة بالذّات ، بل إنّما يقارن ما هو
العلّة بالذّات ويلزمها.
تشريق
(٤ ـ المتّحد بالنّوع يستند إلى المتّحد بالنّوع)
فعلى ما ذهب إليه
الشيخ الرئيس ، من : «أنّ المتحد بالنّوع لا يستند إلّا إلى المتحد بالنّوع» يكون
اتحاد اللوازم في الحقيقة النّوعيّة دليل اتحاد الملزومات أيضا بالحقيقة
النّوعيّة.
وأمّا على ما
ذهبنا إليه حسبما ساقنا إليه البرهان ، من «أنّ أصل الوحدة واجب الانحفاظ من
الجنبتين بالاستلزام على التعاكس ، لا خصوص نحو الوحدة ، أعني : أنّ وحدة العلّة
بالنّوع مستلزم وحدة المعلول أيضا كذلك ، إذ ليس في طباع الكثرة أن تصدر عن الواحد
بما هو واحد في مرتبة واحدة. وأمّا وحدة المعلول بالنّوع فإنّما يقضي البرهان أنّها
مستدعية وحدة العلّة بالطّبيعة ، لا كونها البتة طبيعة نوعيّة ، فالممتنع استناد
طبيعة واحدة إلى طبيعتين ، كان ذلك على التّعاقب التبادلىّ أو التبادل الابتدائيّ
، لا استناد الطبيعة الوحدانيّة النّوعيّة [٥٩ ب] إلى الطبيعة الوحدانيّة الجنسيّة
، إلّا إذا روعى انقباض العقل من كون المعلول أقوى في مرتبة التّحصّل من العلّة ،
عسى أن يكون ذلك من الفطريّات أو الحدسيّات أو المقتنصات البرهانيّة في العلّة
الّتي هي جاعلة الماهيّة وفاعلة الذّات والوجود ، لا على الإرسال المطلق.
فتأحّد اللّازم
بالحقيقة النّوعيّة يستلزم كون الملزوم بالذّات طبيعة وحدانيّة ، نوعيّة كانت أو
جنسيّة ، والممتنع هو لزوم الواحد بالنّوع لكلّ من الحقائق المتخالفة لزوما
بالذّات ، بل إنّما الملزوم بالذّات هناك القدر المشترك ، لا اختلاف نحو الوحدة
نوعيّة وجنسيّة في طبيعتى حاشيتى اللزوم.
وأمّا تشكيك
المشكّكين ـ باستناد الإمكان الذّاتيّ ، وهو مفهوم واحد ، إلى ذوات الممكنات
المتخالفة بالماهيّة ، ولزوم الزّوجيّة وهو مفهوم وحدانىّ للأربعة والستّة ،
مثلا ، وهما نوعان
مختلفان ـ فمحسوم بأنّ الإمكان ليس إلّا سلب ضرورة التّقرّر واللاتقرّر ، بالنّظر
إلى نفس الذّات المتقرّرة من تلقاء العلّة ، سلبا بسيطا تحصيليا صادقا ، لا من حيث
اقتضاء وعليّة من الذّات له ، بل من حيث عدم اقتضائها الضرورة المسلوبة ، وزوجيّة
الأربعة مخالفة بالحقيقة لزوجيّة السّتّة ، لانقسامها إلى متساويين مخالفين
بالماهيّة النّوعيّة للمتساويين المنقسم إليهما السّتّة. ومطلق الزّوجيّة المرسلة
يستند إلى القدر المشترك ، وليس يصادم ذلك كون العدد متنوّعا بنفس الوحدات من غير
جزء صوريّ. وفي «المباحث المشرقيّة» عقد مختلفة من التشكيكات ، فككناها بفضل الله
، تعالى ، فى صحفنا وتعاليقنا.
تشريق
(٥ ـ مبدأ الانتزاع هو الطباع المشترك [٦٠ ظ])
ليس هذا الضابط
يتخصّص بالمعلول والعلّة ، بل إنّ أيّ مفهوم يحمل على خصوصيّات عدّة ، كان من
جوهريّاتها أو من عرضيّاتها اللاحقة ، وأىّ معنى يلحق بها أو ينتزع منها فإنّ
مطابق الحمل ومستحقّ الالحاق ومبدأ الانتزاع إنّما هو الطّباع المشترك ، ولا حظّ
لشيء من الخصوصيّات من أن يكون لها بخصوصها مدخل في مصحّحيّة ذلك أصلا. وإن دخلت
الخصوصيّة في الموضوع والملحوق به والمنتزع عنه بالعرض على أن يسوغ اعتبار اللحوق
والانتزاع بالنسبة إلى الطبيعة المرسلة المخلوطة بتلك الخصوصيّة. ثمّ عند التحليل
يقضي الفحص أنّ الملحوق به والمنتزع منه بالذّات ليس إلّا الطّبيعة المرسلة
المشتركة بتّة. وكذلك مهما حمل مفهوم ما على طبيعتين مترتّبتين بالأعميّة
والأخصيّة كان عند اللحاظ التحليلىّ إنّما موضوع الحمل بالذّات وبالقصد الأوّل
الطبيعة العامّة ، ثمّ بتوسّطها الطبيعة الخاصّة الملغاة خصوصيّتها في استحقاق ذلك
الحمل وتصحيحه.
تشريق
(٦ ـ الوجود المطلق مطابق لنفس الذّات المتقرّرة)
أما لديك من
المستبين الملتحق بالفطريّات : أنّ المفهوم من تحقّق الشّيء في ذاته
وراء المفهوم من
تحقّق معنى ما خارج عن قوام ذاته لذاته. أليس الثّاني إمّا فرع الأوّل أو مستلزمه
، بتّة ، فكيف يكون عينه؟ فإذن ، فاحكم أنّ الوجود المطلق العامّ الفطريّ ـ وليس
معناه إلّا التحقّق والكون المصدريّ ـ إنّما مطابقة نفس الذّات المتقرّرة ، لا
قيام وصف ما بالذّات قياما انضماميّا أو انتزاعيّا يقوم بالذّات أو ينتزع منها ،
فيصحّح انتزاع ذلك المعنى المصدريّ عنها وحمل الموجود المشتقّ منه عليها. ومفاد
قولنا : «الإنسان موجود» مثلا ، أعني المحكىّ عنه [٦٠ ب] بذلك العقد الهلىّ البسيط
المشهوريّ ، هو وقوع نفس ذات الإنسان في ظرف ما ، وإن افتيق إلى لحاظ مفهوم
المحمول في الحكاية ، لضرورة طباع العقد وطباع الإدراك التصديقيّ ، لا انضمام صفة
ما إلى ذاته في ظرف الأعيان مثلا ، كما في قولنا «زيد أبيض» أو انتزاع معنى ما عن
الذّات بحسب ذلك الظرف غير نفس المعنى المصدريّ ، كما في قولنا «السّماء فوق الأرض».
ثم الأمر في العقد
الهليّ البسيط الحقيقيّ ، كما في قولنا «الإنسان متقرّر» ، أعلى درجة من ذلك أيضا
، إذ المحكىّ عنه هناك هو نفس تجوهر الماهيّة ، كالإنسان ، أى : إنه من الماهيّات
المتجوهرة التحقيقيّة وفى مرتبة الوقوع في مطلب «ما الحقيقة» لا من الماهيّات
المفروضة التقديريّة المستحقّة لمطلب ما الشّارحة للاسم فقط ، ولا يلتفت لفت مفهوم
التّقرّر والتّجوهر والوقوع المصدريّ بوجه أصلا. وإن كان التفتيش يخرّج أنّ ذلك هو
صيّور الأمر أخيرا على الإطلاق.
فإذن قد استبان
أنّ نسبة الوجود إلى الماهيّة المتقرّرة على شاكلة نسبة المعانى المصدريّة
المأخوذة من الماهيّات أنفسها ، إليها كالإنسانيّة والحيوانيّة والجسميّة المنتزعة
من الإنسان والحيوان والجسم ، في أنّ مبدأ انتزاع المعنى المصدريّ ومطابق حمل
المفهوم المحمول نفس الماهيّة من دون حيثيّة تقييديّة غير جوهرها ، وإن باينها في
الماهيّات الجائزة بالافتياق إلى الحيثيّة التعليليّة في الوجود دون الذّاتيّات.
فالماهيّة
الجوازيّة إذ ليست هي متجوهرة متقرّرة بنفسها ، بل إنّما من تلقاء إبداع الجاعل
وإفاضته نفسها ، فلا جرم ليست هي بنفسها مبدأ انتزاع الوجود ومصداق حمل الموجود ،
بل بنفس جعل [٦١ ظ] الجاعل نفسها جهلا بسيطا لا بجعل مستأنف بسيط أو مؤلّف ،
لكنّها بنفسها مصداق حمل جوهريّاتها عليها ، لا
بالمجعوليّة ولا
بالوجود ، بل ما دامت المجعوليّة ، وما دام الوجود وباقتضائها لوازمها الّتي هي
معان وراءها ، قائمة بها قياما انتزاعيّا ، مصداق حمل اللوازم حين المجعوليّة
والوجود معهما ، لا بهما. فبين الاعتبارين بون بائن.
فأمّا الحقيقة
الحقة القيّوميّة الوجوبيّة ، فإذ هي بنفسها متقرّرة ، فلا محالة بنفسها مبدأ
لانتزاع الوجود ووجوب التّقرّر والوجود المصدريّين ، ومصداق لحمل الموجود ، وواجب
التقرّر والوجود بالضّرورة المطلقة الأزليّة السّرمديّة ، لا بحيثيّة تقييديّة ،
ولا بحيثيّة تعليليّة ، ولا بتقييد حكم العقد بما دام الوجود ، والتّقرّر والوجود
هناك واحد ، وكذلك الوجود ووجوب الوجود واحد. فوجوب الوجود شرح اسم الحقيقة الحقّة
، ومعناه المفهوم وأخصّ لوازم الحقيقة عند العقل.
تقديس
(٧ ـ الوجوب الذاتيّ فعليّة الحقيقة والإمكان هلاك الذّات)
الوجوب الذّاتىّ :
حقيّة الذّات وتأكّد الوجود وفعليّة الحقيقة في حدّ مرتبتها بنفسها من كلّ حيثيّة
كماليّة. والجواز : هلاك الذّات وبطلان الماهيّة وليسيّة الحقيقة ليسا بسيطا صرفا
في حيّز نفسها وبحسب مرتبة جوهرها بما هي هي ، مع كونها متقرّرة بالفعل من تلقاء
جود الجاعل ، وسائر ضروب القوّة قوّة معان هي وراء جوهر الذّات وحين ما ليست هي
لها بالفعل. فالماهيّة من حيث نفسها وبحسب طباع الجواز ليست إلّا تقديريّة
تخمينيّة [٦١ ب] بحسب الفرض ، وإنّما تستحقّ بذلك مطلب «ما الشّارحة» للاسم ، ومن
جهة الاستناد إلى الجاعل تحقيقية بالفعل مستحقة الوقوع في مطلب «ما الحقيقيّة».
والجواب الحقّ بالذّاتيّات في الأوّل بحسب التقدير وفي الثّاني بحسب التحقيق ،
فلذلك ينقلب ذاك بعينه إلى ذا ، مهما استوقن التّقرّر.
وأمّا الحقيقة
الحقّة القيّوميّة الوجوبيّة ، فإنّ مرتبة «ما الشّارحة» لها هي بعينها مرتبة «ما
الحقيقيّة» ، فالمطلبان بالقياس إلى ذلك الجناب واحد. والمسئول يضطرّه الأمر إلى
أن يجيب باللوازم والعرضيّات على سبيل التوسّع ، كما وقع ل «كليم الله» على نبيّنا
وعليه الصّلوات والتّسليمات ، تنبيها على تقدّس مجد المسئول عنه عن
تسويغ السّؤال ،
لتعاليه عن تصوّر التّكنيه والتّحديد. إذ عزّة أعظم من أن يسعه مدرك ما ، وأحديّته
أقدس من أن يلتقط من ذاته معنى ما أصلا. فليس يمكن أن يشرح اسمه أو يعبّر عن
حقيقته إلّا بلوازمه وعوارضه المعقولة. وكذلك مرتبة مطلب «هل» هناك هي بعينها
مرتبة مطلب «ما» ، وبالعكس ، كما أنّ مرتبة مطلب «هل البسيط الحقيقى» هي بعينها
مرتبة مطلب «هل البسيط المشهوريّ». فإذن قد استبان أنّ تكثّر المطالب إنّما هو في
الماهيّات الجائزة ، فأمّا في الحقيقة الحقّة فقاطبتها واحد.
وإذ حقيقة الجواز
سلب طرفي التّقرّر واللاتقرّر وضروريّتهما بالنّظر إلى نفس الذّات ، ويتبعه سلب
طرفي الوجود والعدم وضروريّتهما سلبا بسيطا تحصّليّا ، وهو صادق في مرتبة نفس
الماهيّة ، وليس من لوازم الماهيّة على الاصطلاح الشّائع ، والشّيء بحسبه ، لا
المتقرّر ولا اللّامتقرّر ، ولا الذّات ولا اللّاذات ، بل في مفازة القوّة المحضة
وفي بلقعة الليس السّاذج ؛ فلا محالة الموجود الجائز هالك الذّات ، [٦٢ ظ] باطل
الحقيقة في الآزال والآباد ، وإن كان مجعول الذّات والوجود بالفعل. فكلّ معلول
فإنّه بلسان ماهيّته يشهد بليسيّته. فإذن ، القيّوم الواجب بالذّات هو الحقّ ، وما
سواه هالكات باطلات ، كما يقول القرآن الحكيم : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص ، ٨٨).
تقديس
(٨ ـ الواجب بالذّات مبدأ وجوب التّقرّر بالفعل)
إنّ القيّوم
الواجب بالذّات يلزمه ، بحقيقته ، أنّ الاستناد إليه بالفعل مبدأ استيجاب وجوب
التّقرّر والوجود بالفعل ، واللّااستناد إليه مبدأ استيجاب امتناع الحصول بالفعل
بتّة ؛ والممكن الجائز الماهيّة أنّ الاستناد إليه ليس يستوجب شيئا من التّقرّر
واللاتقرر بالفعل أصلا. ألم يقرع سمعك : أنّ الفحص يقضي ، أوّلا ، أنّ طباع الجواز
هو العلّة المفقرة إلى العلّة الجاعلة ، ثمّ يستبين ، بتأمّل أدقّ ونظر أبلغ ،
أنّه علّة الافتياق إلى الجاعل الواجب بالذّات ، جلّ مجده ، وأنّ الشّيء ما لم يجب
لم يتقرر ، وما لم يوجبه الجاعل لم يجعله ، والمجعول ممتنع التّخلّف عن الجاعل
التامّ. فالاستناد إلى الواجب بالذّات غير ممكن الانسلاخ عن الوجوب بالغير ، وإلى
الجائز بالذّات غير ممكن الاستيجاب له بتّة.
فحص
(٩ ـ القيّوم بالذّات في الوجود)
إنّ القيّوم
الواجب بالذّات ليس يصحّ أن يكون مكانىّ الذّات في الوجود لقيّوم آخر واجب الوجود
، أو مستلزم الذّات له ، لو فرض أن يوجد ، تعالى القيّوم الحقّ عن ذلك علوّا كبيرا
، بحيث يتحقّق بينهما علاقة ذاتيّة يمتنع بحسبها بالنّظر إلى كلّ منهما أو أحدهما
أن يكون موجودا ، وليس هو مستصحب الآخر في الوجود ، وهما متكافئان في الوجود [٦٢ ب]
بالذّات.
أليس إذا كان أحد
الواجبين بالذّات له وجوب أيضا بحسب اعتباره. مع الثّاني ، كان ذلك الوجوب إمّا
بالثانى والواجب بالذّات ليس يجوز أن يعرضه الوجوب بالغير ، أو بالقياس إلى
الثّاني. والوجوب بالقياس إلى الغير لا يكون للشىء إلّا بالقياس إلى ما هو علّة أو
معلول له ، أو ما هو معه في معلوليّة علّة واحدة. وريثما ليست علاقة العليّة
والملوليّة ليس وجوب بالقياس. فإذن كلّ منهما لا يأبى ذاته أن يتقرّر ويوجد وليس
يتقرّر ويوجد الآخر وإن كان كلّ يجب بالنّظر إلى ذاته أن يوجد ويمنع أن لا يوجد.
فالوجوب بالذّات
ليس بطباعه يصادم الإمكان الخاصّ بالقياس إلى الغير. وإنّما يمتنع بلحاظ علاقة
العليّة. فإنّ للمعلول بالنّظر إلى العلّة وجوبا بالغير ووجوبا بالقياس إلى الغير
جميعا ، وللعلّة بالنّظر إلى المعلول وجوبا بالقياس إلى الغير فقط ، لا وجوبا
بالغير أيضا. فهما تحققت علاقة العلّة ، صحّ الإمكان العامّ بالقياس إلى الغير ،
لصحّة الوجوب بالقياس إلى الغير الّذي هو أخصّ منه.
تقديس
(١٠ ـ تضامّ الحقائق ليس يفيد تحصّلا نوعيّا)
أمّا قبلك من
المستبينات ، بل من الفطريّات والحدسيّات ، أنّ تضامّ الحقائق المتباينة بالنّوع
المختلفة بالجنس ، ليس يستحقّ أن يفيد تحصّلا نوعيّا ويحصّل ذاتا أحديّة وواحديّة
محصّلة ، بل ربّما يستوجب تصنّفا أو يحصّل هويّة شخصيّة ، كما الأعراض المصنّفة أو
المشخصة تدخل في صنف ما أو شخص ما جوهريّ ، ولا تدخل في قوام الحقيقة النّوعيّة
الجوهريّة ، وكيف تتأحّد من ماهيّتين مختلفتين حقيقة وحدانيّة.
أفليس ما يدخل في
قوام جوهر الحقيقة بما هي هي جوهريّاتها المحمولة ، وهي الطّبائع المرسلة المتّحدة
، هي تلك الحقيقة ، وبعضها [٦٣ ظ] وبعض آخر ذاتا ووجودا في الأعيان وفي لحاظات
الذهن إلّا لحاظ التّعيّن والإبهام الذي هو بعينه ظرف التمايز والتخالط باعتبارين
ولحظين ، فكيف تكون هي ماهيّات مختلفة متباينة؟ وما يدخل في تقوّمها بحسب الوجود
أجزاؤها الوجوديّة الّتي بإزائها الجوهريات المحمولة. وهي وإن كانت ممايزة الذّوات
، متفارزة الوجودات ، إلّا أنّها تلتحق بالمتحدات في ضرب من لحاظ العقل. فالمادّة
تنقلب جنسا والصّورة فصلا باعتبار اللابشرطيّة والإرسال في لحاظ آخر. وأيضا مع عزل
النظر عن ذلك ، لا محالة ، يتأحّد منها في الوجود حقيقة وحدانيّة محصّلة ، فكيف
تكون هي ماهيّات مختلفة من مقولات متناهيّة؟
فإذن أنت ميسّر
لأن تستيقن : أنّ القيّوم الواجب بالذّات أحدىّ الذّات ، بسيط الحقيقة من كلّ وجه
، ليس يجوز أن يأتلف من مباد عينيّة هي الأجزاء الوجوديّة ، ولا أن يتقوّم من
طبائع مرسلة هي الذّاتيّات المحمولة. وبالجملة ، لا تعقل في حقيقته كثرة ، ولا
يتصوّر تحليل إلى حيثيّات ، ولا يلتقط من ذاته حيثيّة ما أصلا ، وراء حيثيّة نفس
الذّات الأحديّة البسيطة الحقّة من كلّ جهة. أليس إذا كانت له أجزاء عقليّة أو
عينيّة ، كانت إمّا بأسرها جائزات الماهيّة ، هالكات الحقيقة ، في حيّز نفس الذّات
، أو بأسرها قيّومات واجبات بالذّات ، أو متشابكة من الجائز بالماهيّة والواجب
بالذّات.
فالأوّل ، كأنّه
غريزىّ الاستحالة ، فطريّ البطلان ، أفكيف يسوغ أن يتصحّح الحقّ المحض من الباطلات
الصرفة ، ويتحصّل الغنيّ المطلق والفعليّة الحقّة من الفاقرات البحتة والهالكات
السّاذجة.
والثّاني ، مستبين
الفساد ، بماريت أنّ الواجبات بالذّات إن فرضت لا تتصوّر إلّا وهي ذوات متلاينة
متفارقة متّفقة [٦٣ ب] في الوجود بصحابة اتفاقيّة ، لا بعلاقة ذاتيّة لزوميّة،
فكيف تتأحّد منها حقيقة وحدانيّة محصلة. فكلّ واحد إذن هو القيّوم الواجب بالذّات
، فلينظر في بساطته.
والثّالث ، تضامّ
الحقائق المختلفة المنفصل كلّ واحد منها عن سائر ما عداها بتمام الماهيّة ، وهو
غير محصّل للحقيقة ، ولا بمجد للتأحّد في المقولات المتباينة ،
مع اتفاقها في
طباع الجواز ، فما ظنّك بالمختلفة بالجواز والوجوب ، أفكيف يلحم الجائز الباطل
بالواجب الحقّ ، ويعقل أن يلتئم ويتأحّد الحقّ المحض من ازدواج الحقّ والباطل ،
وهل الحقّ المحض إلّا من وراء الباطل؟ فإذن هو القيّوم الواجب بالذّات ، والباطل
الجائز خارج عنه وفاقر إليه.
تقديس
(١١ ـ البسيط في العقول والبسيط في الوجود)
إنّ هذا الاسلوب
وإن عمّ الأجزاء بقبائلها ، إلّا أنّه ليس يعوزنا نفى الأجزاء المعنويّة الوجوديّة
، غبّ أن نفينا الأجزاء المحمولة العقليّة ، أليس كلّ ما يتقدّس عن الأجزاء بحسب
تحليل العقل ، فانه يتقدّس ، لا محالة ، عن الأجزاء بحسب الوجود وإن لم يلزم العكس
مستغرقا. فكلّ بسيط في العقل فهو بسيط في الوجود ، نعم ربّما يكون الشّيء بسيطا في
الوجود ، وهو من المركّبات العقليّة.
تقديس
(١٢ ـ الأجزاء الوجوديّة للماديات)
إنّما يصحّ
المادّة والصّورة ، أعني الأجزاء الوجوديّة ، لقطّان عالم الظّلمات من المادّيّات
الغاسقة ، دون ما ليس في كورة المادّة من المفارقات النّوريّة ، بتّة. فما ظنّك
بربّ الأنوار العقليّة ومبدعها.
تقديس
(١٣ ـ المتقرّر بنفس
ذاته لا يكون ملتئم الذّات من طبائع ومن أجزاء متباينة)
وهناك تبيان آخر
مستوعب ، أليس المتقرّر بنفسه الموجود بذاته ليس يعقل أن يكون مسبوق الماهيّة
والوجود بشيء ، فلا يسوغ أن يتقدّمه شيء ما تقدّما بالماهيّة أو تقدّما بالطبع ،
بالضّرورة الفطريّة. وكيف يستحيل العقل أن يكون ما ليس متقررا موجودا في حيّز نفسه
قبل المتقرّر الموجود بنفس ذاته ، أو يكون أحد مفروضى التقرّر والوجود بنفس ذاته
قبل الآخر بالوجود أو بالتقرّر.
فإذن [٦٤ ظ] بطل
أن يكون المتقرّر الموجود بنفس ذاته ملتئم الذّات من طبائع
متّحدة أو من
أجزاء متباينة ، وإلّا لكان مسبوقا بالماهيّة أو بالطبع.
استقصاء
(١٤ ـ تقدّس الواجب
عن الذّاتيّات المحمولة والأجزاء المعنويّة)
أجزاء الشّيء :
إمّا ما يتركّب منها الشّيء ، وهي الأجزاء الحديّة بحسب جوهر الماهيّة ، والأجزاء
المعنويّة الوجوديّة المتباينة بحسب المعنى وبحسب الوجود ؛ وإمّا ما ينحلّ إليها
الشّيء ، وهي الأجزاء المقداريّة بحسب الكميّة والاتصال. والأوليان من حيّز
الحقيقة المرسلة ، والأخيرة من حيّز شخصيّة الطبيعة الامتداديّة.
فأحد الدّاخلين في
قوام الحقيقة إن لوحظت طبيعته مرسلة بما هي هي ، لا بشرط خلط الذّات بالآخر خلطا
اتّحاديّا وافترازها عنه افترازا امتيازيّا ، كان : إمّا الجنس الطبيعيّ المرسل ،
وله بجوهره الوحدة المبهمة بالنسبة إلى الفصول المضمّنة فيه والأنواع المندرجة
تحته على أنّه بعينه عينها ، وإمّا الفصل المرسل ؛ وهما اعتباران جوهريّان لحقيقة
واحدة هي النّوع ، ومتّحدان بالوجود وبالحقيقة في اللحاظات كلّها إلّا لحاظ
التّعيّن والإبهام ، حيث يلحظ العقل أمرا واحدا في نفسه محصّلا وغير محصّل. فيعتبر
الجنس المرسل بوحدته المبهمة ، ويضمّ إليه الفصل المرسل ؛ لا على أنّه يضيفه إليه
على أن قد لحقه شيء من خارج ، فتحصّل منها ثالث هو النّوع ، بل على أنّه يتحرّى
أحدا من المضمّنات فيه بالتعيّن ويخصّصه باللحاظة ، فيأخذه معه من حيث هو يعيّن
إبهامه ويحصّله في نفس معناه ، لا من حيث هو شيء آخر يقارنه.
فالنوع يحدّه
العقل منحازا عن الجنس والفصل ومخلوطا أيضا بهما في ذلك اللحاظ وبحسبه لحظين ،
وكذلك حال الجنس أو الفصل بالقياس إلى الآخرين [٦٤ ب] هناك. فبما هما ينحازان عن
النّوع يستبين أنّهما جوهريّان للنوع ومتقدّمان عليه تقدّما بالماهيّة ، وربّما
يدعى بالطبع أيضا ، والنّوع خاصّة ، لهما. وبما الجنس ينحاز عن الفصل يستبين أنّه
عرض عامّ له ، وهو علة لتقويم حصة النّوع منه ، والحصّة مطلقا هي الطبيعة المضافة
إلى قيد ما ، على أن يخرج القيد ويدخل التقييد على التقييديّة لا على القيديّة.
فإذن لفظ الجزء
إنّما يقع على الجوهريات المحمولة على سبيل التّوسّع والتّسامح ، لانسحاب حكم
الجزئيّة عليها بحسب ذلك اللحاظ باعتبار ، ولاعتبارها
بالقياس إلى الحدّ
دون المحدود ، وإن كان الحدّ هو المحدود بعينه. فلذلك يقال : إنّ الطّبيعة المرسلة
تتقدّم على الشّيء الطبيعيّ تقدّم البسيط على المركب.
وإن لوحظت طبيعته
وحدها باشتراط أن تكون منحازة الذّات ومنفصلتها عمّا عداها مطلقا ، غير صحيحة
الحمل على شيء ما ينضمّ إليها أصلا ، ولا على الملتئم منها ومن ذلك المنضمّ ، ولكن
على أن تكون صالحة للاقتران أو مقترنة بالفعل البتّة بواحد بعينه من الامور الّتي
هي غيرها ، أعني الّذي يضاهيها في الدخول في قوام الحقيقة بحسب الوجود اقترانا
انضماميّا ، كان إمّا المادّة وإمّا الصّورة. فإن كانت البشرطلائيّة على هذه الجهة
في الوجود العينى مع عزل النظر عن لحاظ العقل ، كانت المادّة والصّورة الخارجيّتين
، وإن كانت في لحاظ العقل كانت المادّة والصّورة التعقليتين. والجنس المرسل يحمل
على المادّة مطلقا والفصل المرسل على الصّورة كذلك ، كما هما يحملان على النّوع ،
لكنّ البسائط الخارجيّة من الماهيّات الجائزة ليس إلّا الجنس والفصل ، والمادّة
والصّورة العقليّتان [٦٥ ظ] والأمر هناك أوضح.
وإن لوحظت طبيعته
بشرط خلط الذّات بالآخر خلطا اتحاديّا ، كان هو النّوع بعينه ، وربّما يكون تقوّم
النّوع ممّا يجري مجرى المادّة فقط من غير صورة ، كالعدد من الوحدات. ثمّ إنّ
الاعتبارات الثلاثة ، أى : الارسال والبشرطلائية والبشرطشيئيّة ، سائغة اللحاظ في
الطبائع المحمولة ، دون الأجزاء المعنويّة ، مع أنّ الطبائع محمولة على الأجزاء
أيضا ، فتكون ، لا محالة ، عينها. فهذا ما استشكلته أقوام ، ولعلّ له سرّا قد
اعتاص عليهم.
والّذي أنصّ عليه
في ذلك هو أنّ الطّبيعة المحمولة لما كانت مرسلة لا بشرط شيء لم تكن تأبى ذاتها أن
يدخل هناك شرط أو شروط ، أو لم يدخل ، فكانت ، لا محالة ، متحققة بتحقق ما بشرط
شيء وما بشرط لا شيء ، فساغ فيها لحاظ الاعتبارات بأسرها ، وإن كانت هي معروضة
أحدها بعينه ، بخلاف الجزء ، فإنّه طبيعة الجوهريّ بشرط لا شيء ؛ فليس يسوغ
بالنّظر إلى ذاته أن يكون هناك شرط.
فإذن هذه اعتبارات
متغايرة في أنفسها متباينة بحسب المفهومات منها ، إلّا أنّ اعتبار اللابشرطيّة ليس
يصادم أن يحمل معروضة بما هو معروضه على معروضي شقيقيه حمل التواطؤ ، بل إنّه
يسوّغه. وأمّا شقيقاه فعلى خلاف تلك الشّاكلة.
وبالجملة ، الّا
بشرطيّة ، والبشرطلائيّة ، والبشرطشيئيّة على هذا الاصطلاح إنّما يصحّ اعتبارها في
الطبيعة الإبهاميّة بالقياس إلى كلّ من الأشياء المتباينة الّتي هي بوحدتها عينها
ومبهمة بالنسبة إليها. والأولى مناط تصحّح الحمل الشّائع. والثّانية منشأ امتناع
الحمل مطلقا. والثّالثة [٦٥ ب] مبدأ استحقاق الحمل الأولىّ الذّاتىّ.
فإن كانت الطبيعة
مبهمة بالقياس إلى تلك الأشياء في حدّ أنفسها وفي مرتبة ماهيّاتها ، وذلك إذا كانت
من جوهريّاتها ، كالحيوان بالقياس إلى الإنسان ، والفرس ، كان الحمل المتصحّح حملا
بالذّات. وإن كانت مبهمة بالقياس إليها في مرتبة أخيرة بعد مرتبة الذّات ، وذلك
إذا كانت من عرضيّاتها ، كمفهوم الأبيض ، أى : ذات ما ينتسب إليها البياض ، على أن
يؤخذ ذلك على طباع التقييد ، لا على سبيل القيد بالقياس إلى الذّوات المعروضة ،
كان هو ، لا محالة ، حملا بالعرض. وأمّا الماهيّة المحصّلة بالقياس إلى شيء ،
كالإنسان بالقياس إلى الفرس ، والفلك بالقياس إلى الأرض ، والبياض بالقياس إلى
الجسم ، فليس يعقل أن تجرى فيها تلك بتّة. فإذن قد استتبّ القول في ما تلتئم منها
ماهيّة الشّيء.
فأمّا الأجزاء
المقداريّة الّتي ينحلّ إليها الموجود الشخصىّ المتصل ، فهى المتوافقة والموافقة
للكلّ في تمام الماهيّة والمتشاركة في الاسم والحدّ ، وليست هي أجزاء الكلّ على
الحقيقة ، بل إنّما على المسامحة والتشبيه. أليس من المستبين في «صحفنا» بالفحص
والبرهان : أنّ الصّورة الاتصالية الشّخصيّة داثرة عند الانحلال والانفصال بتّة؟
وإذ من الفطريّات : أنّ الموجود بالفعل ، كما ليس يتألّف من المعدومات الصرفة ،
فكذلك ليس ينحلّ إلى المعدومات الصرفة ، والوحدة الاتصاليّة تأبى تكثّر الوجود
بالفعل ، فلا محالة ، تلك الأجزاء موجودة حين الاتصال نحوا ما من الوجود ، هو
بعينه وجود الكلّ المتصل الواحد ، لا بوجودات متمايزة متفارزة [٦٦ ظ]. فإذن لها
بهويّاتها وجود متوسط بين صرافة القوّة ومحوظة الفعل ، وهي بالوجود الوحدانيّ
صالحة للتمايز في الوضع والإشارة الحسيّة.
تقديس
(١٥ ـ تقدّس القيّوم الواجب عن الأجزاء الانحلاليّة أيضا)
أما بان لك :
تقدّس القيّوم الواجب بالذّات عن الذّاتيّات المحمولة وعن الأجزاء المعنويّة ،
فاعلمن أنّه ليس يتصور هناك الأجزاء الانحلاليّة أيضا. أليس إذا صحّت ، فإمّا هي
بأسرها جائزات ، أو بأسرها واجبات ، أو متشابكة. فعلى الأوّل يبطل تشابه الكلّ
والجزء فى الحقيقة ، وعلى الثّاني تكون الواجبات بالذّات غير موجودة بالفعل المحض
، بل بالقوّة المتوسّطة ، وعلى الثّالث يعود المحالان جميعا مع ارتفاع تشابه
الأجزاء أيضا بعضها لبعض في الحقيقة. ثمّ إنّ التقدّس عن الجهة والوضع وبالجملة عن
المادّة وغواشيها يضمن إحالة ذلك.
تقديس
(١٦ ـ القيّوم الواجب لا يصير جزءا لحقيقة)
كأنّك من حيث
التمعت لك البساطة الحقّة ، تعرّفت أنّ القيّوم الواجب بالذّات يمتنع أن يصير جزءا
لحقيقة ما متأحّدة أصلا. أليس لا يتأحّد حقيقة وحدانيّة من الواجب بالذّات ومن ذات
جائزة بتّة.
تقديس
(١٧ ـ الجناب الرّبوبى مسبّب الأسباب لا سبب له)
وبالجملة ، جلّ
الجناب الوجوبيّ الرّبوبيّ عن أن يعقل له سبب به أو سبب منه ، أو سبب عنه ، أو سبب
فيه ، أو سبب له ، بل لا سبب له أصلا ، وهو مسبّب الأسباب على الإطلاق من غير سبب.
تقديس
(١٨ ـ الواجب بالذّات إنّيّته نفس ماهيّته)
تحقّقن أنّ
القيّوم الواجب بالذّات ، إنيّته هي نفس ماهيّته. والدليل على استحالة كون وجوده
وراء ماهيّته ، استحالة وقوع الكثرة فيه بوجه ، فإنّ [٦٦ ب] كلّ كثرة مفتاقة إلى
مباد ، فمبدأ المبادى ليس تكون فيه كثرة بوجه من الوجوه بتّة. أليس ماله البساطة
الحقّة لا يمكن تحليله إلى حيثيّتين أصلا ، ولا انتزاع الكثرة منه بوجه ما أبدا ،
وأنّ مبدأ المبادى هو البسيط الحقّ ، فلا تكون حيثيّة الوجود فيه وراء حيثيّة
الماهيّة ، بل
إنّ حيثيّة
الماهيّة هناك هي بعينها حيثيّة الإنيّة.
تقديس
(١٩ ـ الماهيّة مطابق الوجود العينىّ)
ومن سبيل آخر ،
أما دريت أنّ مطابق الوجود في ظرف ما هو نفس حيثيّة الذّات المتقرّرة في ذلك
الظرف. فإذا كانت الماهيّة بنفسها متقرّرة في الأعيان ، لا بحيثيّة ما وراء نفسها
مطلقا ، كانت ، لا محالة ، هي بنفسها مطابق الوجود العينىّ ، فلم تكن نسبة الوجود
إليها نسبة العوارض واللواحق. أيسوغ أن تكون حيثيّة الماهيّة بما هي هي مطابق شيء
ما من العوارض واللواحق ، وقد كان بزغ لك أنّه ليس يصحّ هناك ذاتيّ للماهيّة داخل
فيها. فإذن الوجود هناك هو بعينه نفس الماهيّة ، ومفاده هو تحقّق نفسه ، لا تحقّق
شيء. وأيضا إنّ وجوب التّقرّر والوجود بالذّات ، هو تصحّح الحقيقة وتأكّدها ، وهو
ينبوع كلّ حقيقة ومبدأ كلّ وجود ، فكيف لا يكون هو بنفسه حقيقة غير لاحقة بماهيّته
، ولا متعلقة بحقيقة أخرى.
تقديس
(٢٠ ـ ما سوى الأحد الحقّ روح تركيبىّ)
وإلى سبيل البيان
طريق آخر مستفيض ، هو أنّ وجود الشّيء لا يكون من لوازمه المقتضاة لماهيّته ،
وإلّا كانت الماهيّة مخلوطة به في مرتبة الاقتضاء المتقدّمة عليه ، إذ الوجود
المصدريّ أوّل العوارض المنتزعة من الماهيّة المتقرّرة ، وإن كانت علّة اللوازم
بالذّات هي نفس الماهيّة ، ولا حظّ للوجود المنتزع العارض من العليّة إلّا بالعرض.
فإذن ، الموجود بالذّات إنّما الوجود نفس حقيقته ، لا من لوازم ماهيّته. فإذن ليس
يصحّ تحليله إلى ماهيّة [٦٧ ظ] ووجود ، كما كان ليس يصحّ إلى جزء وجزء. فهو الأحد
الحقّ ، وما سواه زوج تركيبىّ. وستزداد فى ذلك استبصارا. إن شاء الله.
تقديس
(٢١ ـ إضافة الوجود إلى القيّوم بيانيّة)
لعلّ إضافة الوجود
إلى القيّوم الواجب بالذّات إذا قيل : «وجود القيّوم الواجب
بالذّات» إضافة
بيانيّة على الاصطلاح الّذي لعلماء علوم اللسان ، وذلك معنى قولنا : ماهيّته هي
بعينها إنيّته ، على اصطلاح علماء الحقائق.
تقديس
(٢٢ ـ المفهوم من : ماهيّة الأوّل تعالى إنيّته)
نحن ، معاشر
الحكماء المتألهين ، إنّما نعنى بقولنا : «ماهيّة الأوّل ، تعالى ، هي بعينها
إنيّته» أنّ نسبة مفهوم الوجود المطلق الانتزاعيّ الفطريّ ومفهوم الموجود المشتقّ
منه ، وكذلك مفهوم وجوب التّقرّر والوجود بالذّات ، ومفهوم واجب التّقرّر والوجود
بالذّات المأخوذ منه إلى نفس ذاته الحقّة ، عزّ مجده ، كنسبة مفهومي الإنسانيّة
والإنسان إلى نفس ذات الإنسان ، لا كنسبة مفهومي الزّوجيّة والزّوج ، ومفهومي ذى
الزّوايائيّة وذى الزّوايا إلى ماهيّة الأربعة وماهيّة المثلّث.
ولسنا نعنى أنّ
هذه الحمولات العقليّة والطبائع المعقولة المنتزعة الّتي ليست هي وراء المعانى
المصدريّة الانتزاعيّة هي عين ذاته المتقرّرة الحقيقيّة. وحقيقته الحقّة المتأكدة
ذات الذّوات وحقيقة الحقائق وينبوع الماهيّات والإنيّات. وكيف يسوّغ ذلك من له
طباع الغريزة الإنسانيّة؟ فكيف من يضمن نضج العلم ويتولّى طبخ الفلسفة ويحمل عرش
تسوية الحكمة؟
تقديس
(٢٣ ـ الأوّل الحقّ مصداق حمل الوجود)
فمفهوم الوجود
المصدريّ زائد على جملة الحقائق والماهيّات ، لكنّ الأوّل الحقّ الواجب بالذّات
بذاته مبدأ الانتزاع ومصداق الحمل. وأمّا الماهيّات الثّواني ، أعني جملة الجائزات
، فمن حيث هي من تلقاء الجاعل ، لا من حيث الذّات بما هي هي ، وكون المعنى
المصدريّ الانتزاعيّ بعد مرتبة الذّات ليس يصادم صدق الحمل وتحقّق الحكم [٦٧ ب]
بمفهوم المحمول بحسب تلك المرتبة. أليست الإنسانيّة والحيوانيّة المصدريّتان
متأخّرتين عن نفس ذات الإنسان والحيوان؟ ومفهوم المحمول ، أعني الإنسان والحيوان ،
منحفظ في مرتبة الماهيّة من حيث هي هي ، إذ
العقل يقضي أنّ
الإنسانيّة أو الحيوانيّة المنتزعة أخيرا ليس مطابقها وما تنتزع هي منه بالذّات
إلّا نفس الماهيّة من حيث هي.
وبالجملة ، مهما
كان مطابق انتزاع المعنى المصدريّ أخيرا نفس جوهر الموضوع بذاته ، كان مفهوم الحال
المأخوذ منه منحفظا ، لا محالة ، مع الموضوع في مرتبة ذاته بذاته ، وإن لم يكن
المعنى المصدريّ في تلك المرتبة ، بل كان منتزعا أخيرا ولكن من نفس الذّات بما هي
هي. فإذن الوجود المصدرىّ بعد مرتبة ذات الأوّل الحقّ ، وهو ، تعالى شأنه ، موجود
في مرتبة ذاته ، بنفس ذاته ، لا باقتضاء من تلقاء ذاته.
تقديس
(٢٤ ـ الأوّل الحقّ موجود بالضّرورة وكذا صفاته تعالى)
لعلّ بين نسبة
الانسانيّة إلى ذات الانسان ونسبة الموجوديّة إلى الموجود الحقّ ، مع ما دريت من
الاتفاق بوجه ، اختلافا مستبينا من وجوه أخر وفرقانا مبينا. أليس ذات الإنسان
يكتنهها العقل ويجدها مرتسمة في النفس ، فينتزع منها الإنسانيّة. والموجود الحقّ
يمتنع أن يجده ذهن أو يناله عقل ، ولو من القادسات العاليات ، بل إنّما العقل يدرك
مفهوم الوجود.
ثمّ الفحص
والبرهان يشهدان على شدّة الوله والدهش : أنّ له مبدءا ومطابقا لا يتمثّل في القوى
العاقلة بمعايير الأنظار ، ولا تتعرّفه العقول القائسة بمقاييس الأفكار ؛ فهناك
يعقل المعنى الانتزاعىّ ، فيعرف أنّ له منتزعا منه بالذّات ؛ وفي الإنسان يعقل
المنتزع منه ، ثمّ ينتزع المعنى. وأيضا ليس يصدق «الإنسان [٦٨ ظ] إنسان بالضّرورة
المطلقة» بل على التقييد ب «مع الوجود» و «مع المجعوليّة» ، وإن صدق لا بالوجود
ولا بالمجعوليّة ، ويصدق : «الأول الحقّ موجود بالضّرورة» لا بتقييد أصلا ، بل على
الإطلاق الذّاتيّ الأزليّ السّرمديّ ؛ وكذلك سنّة الصفات قاطبتها في ذلك الجناب.
تقديس
(٢٥ ـ تخصّص الوجود وخصوصيّات الماهيّات)
عسى أن يعتاص عليك
: أنّ الوجود مفهوم واحد منتزع من جملة الماهيّات
المتخالفة ، فكيف
لا يكون إلّا معنى مصدريا مأخوذا من نفس جوهر الماهيّة ، لا من حيثيّة تقييديّة
غيرها ، كالإنسانيّة من الإنسان ، والفرسيّة من الفرس.
فاحدس ممّا تلى
وكرّر عليك ، من افتراق النّسبتين بالحيثيّة التعليليّة إثباتا ونفيا ، فمبدأ
انتزاع الإنسانيّة والفرسيّة ، مثلا ، هو نفس الإنسان والفرس بما هما إنسان وفرس ،
ومبدأ انتزاع الوجود هو نفس الإنسان مثلا ، لكن لا بنفسه وبما هو هو ، بل من تلقاء
الجاعل ومن حيث هو صادر عنه أنّ حيثيّة الإنسانيّة ، مثلا ، لا حظّ لها بخصوصها من
مناطيّة انتزاع الوجود ، بل الإنسان إنّما ينتزع منه الوجود بما هو منتسب إلى
الموجود الحقّ ، انتساب المجعوليّة والصّدور.
فإذن ، خصوصيّة
الإنسان ملغاة في مناطيّة الانتزاع ، حتّى لو كان مكانه العقل أو الفلك أو أيّة
ماهيّة فرضت في المجعوليّة والصّدور عن الموجود الحقّ الواجب بالذّات ، كانت صحيحة
لانتزاع الوجود ، منحفظة على شأنها.
فإذن قد بان فرق
ما بين المنتزع منه وبين مناط الانتزاع ومطابقه ، فخصوصيّات الماهيّات المتقرّرة
موصوفة بصحّة انتزاع الوجود منها ، ولكنّها ملغاة في مبدئيّة الانتزاع ومناطيّته ؛
بل إنّما مناط مبدئيّة الانتزاع هو القدر المشترك بين كلّ الجائزات المتقرّرة ،
أعني حيثيّة صدورها عن [٦٨ ب] الجاعل القيّوم الواجب بالذّات واستنادها إليه ، جلّ
جنابه ؛ والمعنىّ بالوجود ومفاده هو كون نفس الماهيّة تحقيقية في ظرف ما ، لا
فرضيّة تقديريّة ، وإنّما ذلك بجعل الجاعل إيّاها جعلا بسيطا.
فإذن ، قد صار
الأمر إلى أن مبدأ انتزاع طبيعة الوجود وما ينتزع منه معنى الموجوديّة المصدريّة
مطلقا على أن هو المطابق بالحقيقة إنّما هو القدّوس الحقّ القيّوم الواجب بالذّات
، فلذلك أىّ شيء استند إليه ، أيّة ماهيّة كانت له ، صحّ انتزاع طبيعة الوجود منه.
فإذن ، خصوصيّات
الماهيّات إنّما لها المدخلية في تخصّص طبيعة الوجود وتخصّصها بالإضافة إليها ،
وليس لشيء منها بحسب الخصوصيّة قسط مدخليّة ما البتّة في منشئيّة الانتزاع
ومناطيّته البتّة. فأيّة ماهيّة لوحظت ، فإنّما منشأ انتزاع الوجود منها هو
القيّوم الواجب بالذّات ، ومناط الانتزاع استنادها إليه ، والوجود المنتزع يتخصّص ويتحصّص
بالإضافة إليها. فهذا شأن الوجود.
وأمّا الانسانيّة
والحيوانيّة ، مثلا ، أعني المعانى المصدريّة للذاتيّات ، فليست على تلك الشّاكلة.
وكذلك الزّوجيّة والفرديّة ، مثلا ، أعني لوازم الماهيّات ؛ فمنشأ الانتزاع هناك
خصوصيّات الماهيّات بما هي تلك ، الخصوصيّات ، فالمنتزع منه ومطابق الانتزاع فيها
واحد ، هو خصوصيّة الماهيّة ؛ ولكن في الذّاتيّات نفس الخصوصيّة وبما هي هي ، وفي
اللوازم نفسها ، لا بما هي هي ، بل لها العليّة والاقتضاء لها.
تقديس
(٢٦ ـ الموجود الحقّ هو الواحد القيّوم الواجب بالذّات)
فإذن ، قد عاد
الأمر كلّه إلى إقليم الله ، ورجع الوجود كلّه إلى صقع الله. فاشهد : أنّ الموجود
الحقّ هو الواحد الحقّ الشخصىّ القيّوم الواجب بالذّات. أليس لا يعنى بالموجود
إلّا ما هو منشأ انتزاع الوجود ومصداقه [٦٩ ظ] ومطابقة بالذّات وإن انتزع مفهوم
الوجود عمّا سواه بالاستناد إليه على أن هي حين ما هي متقرّرة موجود بالفعل من جهة
ذلك الاستناد ، باطلة الماهيّات ، هالكة الإنّيّات ، باللّيس السّاذج والسلب
البسيط في حدّ أنفسها بحسب لحاظ ذواتها بما هي هي.
فإذن ، قد استبان
أنّ القيّوم الواجب بالذّات هو الحقيقة والذّات والهويّة على الحقيقة ، وما سواه
مجازات في التّقرّر وذوات مجازية في الوجود ، بحسب لغة الحكمة الحقّة الخالصة ،
الّتي واضعها الحدس والفحص والبرهان ، وإن شاع إطلاق الحقيقة والموجود عليها حقيقة
بحسب وضع اللغة اللسانيّة.
ولعلّ هذه المعرفة
هي كنه الكفر بالطاغوت وحقيقة الإيمان بالله في التنزيل الكريم ، إذ قال ، عزّ من
قائل : (فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا
انْفِصامَ لَها) (البقرة ، ٢٥٦).
فلعلّ الطاغوت كلّ عالم الإمكان بنظامه الجمليّ الّذي هو صنم الهلاك بطباع الجواز
الّذي هو طلسم البطلان ، والعروة الوثقى نور اليقين الحقّ الخالص الّذي لا يعتريه
فواصم الشكوك في ظلمات الأوهام من حوله ، و (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (فصّلت ، ٤٢).
والله ، تعالى ، أعلم برموز خطابه وأسرار وحيه.
وكأنّ قوم الذوق
وفريق الشّهود من العرفاء المتصوفين ، إذ يدينون بوحدة
الوجود وتوحيد
الموجود ، وفئة التّحدّس وحزب التألّه من الفلاسفة المحصّلين ، حيث يقولون: «الوجود
جزئيّ حقيقى قائم [٦٩ ب] بذاته ، وإنّما لفظ «الموجود» الواقع على غيره من باب «المشمس»
و «الحدّاد» الواقعين على الذّوات بمعنى الانتساب ، لا بمعنى الانتزاع ؛ لو كانوا
يشعرون بسرّ العلم ويسبرون دخلة الأمر ، فينطقون بالحقّ ، ويرفضون تشبيه الحقّ
المحض والباطلات من حيث الذّوات بالبحر والأمواج ، وتعطيل العقل عن انتزاع
الموجوديّة المطلقة الفطريّة من الجائزات المتقرّرة بالفعل بالجاعل ، لكانوا من
الحكماء العظماء اليمانيّين الإلهيّين ، أبناء الحقيقة ، ورصّاد المواقيت ،
وأولياء خلع الأجساد ، وأقوام رفض النّواسيت ؛ ولكان ما به يدينون مكيال الحقّ
والتّحصيل ، وما عليه يعوّلون ميزان الصدق والتحويل.
تقديس
(٢٧ ـ يجب أن يكون للوجود وجود بالذّات)
وليكن من المحقّق
عندك أنّه ، كما النّظر في تقرّر ما ووجود ما ، بل في طبيعة التّقرّر والوجود ،
يسوق العقل إلى إثبات تقرّر بالذّات ووجود بالذّات ، أعني المتقرّر بنفسه الّذي
ماهيّة هي بعينها تقرّره ووجوده ، فكذلك كلّ طبيعة هي كمال مطلق للتقرّر بما هو
تقرّر وحلية مطلقة للوجود بما هو وجود ، كالعلم والقدرة والحياة والإرادة
والاختيار. أليس ، كما أنّ مبدع الماهيّة ومفيض الوجود يجب أن يكون ، لا محالة ،
في نفسه حقيقة حقيقيّة موجودة ، فكذلك واهب الكمال المطلق للموجود بما هو موجود
ومفيضه ، ولا سيّما إذا كان واهبا ومفيضا بذاته ، يجب ، لا محالة ، أن يكون في
نفسه متحلّيا بذلك الكمال غير عرو منه. فلذلك يمتنع أن يكون شيء يهب كمالا ما
لذاته ويفيضه [٧٠ ظ] على نفسه.
فكما الوجود ليس
يسوغ أن يكون من لوازم الماهيّة على الاصطلاح الشّائع ، بل يجب أن يكون إمّا عينها
البتّة ، أو مفاضا عليها من تلقاء الغير. فكذلك الكمالات الحقيقيّة المطلقة للوجود
بما هو وجود. وكيف يكون الشّيء مفيض الوجود على نفسه وهو مسلوب الوجود في حدّ نفسه
؛ أو واهب الكمال لذاته ، وهو ممنوّ بالنّقص في مرتبة ذاته. وبالجملة المفيض ، لا
محالة ، أكرم وأمجد من المفاض عليه ، فكيف يكون الشّيء مفيضا
على نفسه. فإذن
يجب أن يكون في الوجود وجود بالذّات حتّى يتصوّر وجود ما ، وفي العلم علم بالذّات
حتّى يتصوّر علم ما ، وفي القدرة قدرة بالذّات حتّى تتصوّر قدرة ما ، وفي الحياة
حياة بالذّات حتّى تتصوّر حياة ما ، وفي الإرادة والاختيار إرادة بالذّات واختيار
بالذّات حتّى تتصوّر إرادة واختيار ما ، وكذلك فى السّمع والبصر وفي كلّ ما هو
كمال على الإطلاق ، وبهذا ينطق القرآن الكريم : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف ، ٧٦).
فإذن يجب أن يكون
القيّوم الواجب بالذّات في مرتبة ذاته موجودا بالذّات ، وواجبا بالذّات ، وعالما
بالذّات وقادرا بالذّات ، وحيّا بالذّات ، ومريدا مختارا بالذّات ، وسميعا بالذّات
، وبصيرا بالذّات ، حتّى تصحّ هذه الأشياء ، لا بالذّات ، في غيره ، من تلقاء فيضه
وجوده. فهو ، جلّ ذكره ، بنفس ذاته يستحقّ هذه الأسماء لا بحيثيّة ما وراء أحديّة
ذاته الحقّة أصلا ، لا تقييديّة ولا تعليقيّة ، فهو [٧٠ ب] يجب بما يوجد ويوجد بما
يجب ، ويعلم بما يقدر ، ويقدر بما يعلم ، ويريد ويختار بما يقدر ويعلم ، ويقدر
ويعلم بما يريد ويختار ، ويسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع.
فكلّ حيثيّة كماليّة
هي زينة الذّات وحلية الحقيقة ، فإنّها مضمّنة في حيثيّة الوجوب بالذات ، بل هي
بعينها نفس قاطبة الحيثيّات الجميلة الكماليّة. فإذن هو ، بنفس ذاته الأحد البسيط
الحقّ ؛ وجود كلّه ، وجود كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه ، إرادة كلّه،
اختيار كلّه ، سمع كلّه ، بصر كلّه ، وسنستأنف نمطا من بسيط القول في ذلك من ذى
قبل، إن شاء الله تعالى.
تقديس
(٢٨ ـ الحقيقة الحقّة هي الوجود القائم بذاته)
فإذن الحقيقة
الحقّة هي الوجود القائم بذاته ، ثمّ الحقائق والوجودات كلّها أظلال الوجود الحقّ
، والوجوب الحقّ هو القائم بذاته ثمّ الوجوبات كلّها أظلال الوجوب ، والعلم الحقّ
هو القائم بذاته ، ثمّ العلوم كلّها أظلال العلم ، وكذلك سنّة القدرة ، والحياة ،
والإرادة ، والاختيار ، والسّمع والبصر ، والأحديّة والوحدة.
استضاءة
(٢٩ ـ المتمايز في
التقرّر وفي لحاظ العقل والافتراق بالماهيّة أو بعضها)
هل قرع سمعك في
طبقات الصّناعة : أنّ المشّائية تذهب إلى أنّ كلّ متمايزين في التّقرّر وفي لحاظ
العقل : إمّا أنّهما مفترقان بتمام الماهيّة ـ ليس بينهما اشتراك هي الطبيعة
الجنسيّة طبيعة ما جوهريّة أصلا ـ أو بعضة من سنخ الماهيّة ، فهناك طبيعة ما مشتركة
جوهريّة هي الطبيعة الجنسيّة ومضمّنات إليها هي فصول ومقوّمات والمتحصّل عند
التّضامّ أفراد نوعيّة لتلك الطبيعة ، والتّضامّ اتّحاديّ على سبيل التّعيين وعلى
الجهة الّتي أومأنا إليها من قبل أو هما متشاركان في الحقيقة النّوعيّة ،
والماهيّة بتمامها [٧١ ظ] مشتركة بينهما ، وإنّما الافتراق من بعد الماهيّة
بمنضمّات عرضيّة لاحقة ، مصنّفات أو مشخّصات. والمتحصّل بالتّضامّ أفراد صنفيّة
لجوهر الماهيّة أو أفراد شخصيّة ، والتّضامّ تضامّ اقترانىّ يتخصّص به التّعيّن
ويتصحّح به الإشارة. وليس يصحّ قسم رابع ، بل القسمة مستوفاة ضابطة حاصرة.
والرّواقيّة ، ولا
سيّما الإشراقيّة ، تفسخ الضّبط وتدفع الحصر ، ذاهبة إلى أنّ الافتراق ربّما يكون
لا بسنخ الماهيّة ، لا برمّتها ولا بعضة منها ولا بمنضمّات زائدة فصول ومقوّمات أو
عوارض ولواحق ، بل إنّما بكمال نفس الماهيّة ونقصها ، على أن تكون لسنخ الماهيّة
بما هي هي مراتب في الكمال والنقص وعرض بالقياس إلى مراتب نفسها وراء ما لها من
العرض بالقياس إلى أفرادها المتضمّنة لنفس الماهيّة وأمر ما آخر زائد عليها في
الوجود أو في بعض لحاظات العقل. فالعرض هناك بالقياس إلى الانضمامات ، والمتحصّل
من التّضامّات أفراد متخالفة بالمنضمّات المعتبرة في ذوات الأفراد ، وما نحن
بسبيله هو العرض في نفس الماهيّة بالشدّة والضّعف ، وإنّما المتحصّل في كلّ مرتبة
بعينها هو نفس طبيعة الماهيّة على الشدّة والازدياد أو على الضّعف والنقصان. فهذا
تحديد حريم النزاع على حدة ، ويجب تقديس الواجب بالذّات عن تلك الأقسام جميعا
ليتلأّب الأمر في التّوحيد.
حكومة
(٣٠ ـ الوحدات في الماهيّات وكيفياتها)
إنّى أفتى بما
قالته المشّائيّة ، ولست أضمن تصحيح احتجاجاتهم عليه. فما تداولته
الأتباع : «أنّه
إن لم يكن في الأكمل شيء ليس في الأنقص فلا افتراق ، وإن كان فإمّا معتبر في سنخ
الماهيّة فلا اشتراك ، وإمّا زائد عليها ، فيكون ، لا محالة ، إمّا فصلا مقوّما
[٧١ ب] وإمّا عرضيا لاحقا» ليس في مستقرّ الانحصار ولا على حدّ الحريم المحدود.
أليسوا يضعون التفارق بكماليّة نفس الماهيّة ، كالسواد والحرارة ، ونقصيّتها ، لا
بشيء يزيد عليها ، وهما غير معتبرتين في سنخ الماهيّة ؛ بل لها وحدة مبهمة عريضة
بحسب مراتب نفسها في الكماليّة والنقصيّة.
وأمّا متمسّك
شركائنا السّلاف ، كالشيخ في «الشفاء» (ص ١٠٤) وغيره من أترابه : «وهو أنّ ذات كلّ
شيء واحدة ، فيجب أن يكون ذات الشّيء لا تزداد ولا تنقص، فإنّه إن كان ماهيّة
الشّيء وذاته هو الأنقص من حدود الزيادة والنقصان ، والأزيد غير الأنقص ، فالأزيد
غير ذاته ، وكذلك إن كان الأزيد ، وكذلك إن كان الأوسط. وأمّا المعنى المشترك
للثلاثة الّذي ليس واحدا بالعدد ، بل بالعموم ، فليس هو ذات الشّيء الواحد بالعدد.
فليس لك أن تقول : إنّ الزائد والناقص والوسط تشترك في معنى واحد هو ذات الشّيء».
فإنّه وإن كان في حدّ الحريم ، لكنّه ليس على مستقرّ الإجداء والاستقامة ، فإنّ ما
لا يحتمل الاشتراك والتعميم إنّما هي الوحدة العدديّة الشّخصيّة المعيّنة ، وأمّا
الوحدة بالعموم ، وهى الوحدة المبهمة الّتي هي للطبائع المرسلات ، والوحدة
العدديّة الشّخصيّة المبهمة الّتي هي لهيولى عالم الاسطقسّات ، فليستا تأبيان
انحفاظ الذّات الواحدة المبهمة بعينها في المراتب المتكثّرة المتباينة.
فكما أنّ ، في
الطبيعة المرسلة عرضا بحسب أنواعها المتباينة بالفصول ، وأشخاصها المتكثّرة بالعدد
بالمشخّصات ، فقد يكون فيها عرض بحسب مراتب [٧٢ ظ] نفسها الكماليّة والنقصيّة.
فالوحدة المبهمة بالعموم ، كما يكون إبهامها بالقياس إلى الأفراد النّوعيّة
والأفراد الشّخصيّة ، فكذلك يكون بالقياس إلى المراتب التماميّة والنقصيّة المرسلة
الواحدة في حدّ نفسها بالوحدة المبهمة العموميّة تعمّ المراتب بأسرها في جميع
الصّور. وكذلك سبيل الوحدة الشّخصيّة المبهمة والذّات المبهمة الواحدة بالشخص تلك
الوحدة بالقياس إلى مراتب التّنوّعات والتشخّصات الّتي لها بالعرض.
تشريق
(٣١ ـ ذات الشّيء ومقوّم الشّيء لا يحتمل الزيادة والنقصان)
ألم يستبن لك في
تضاعيف الصّناعة : أنّ تكثّر الطبيعة المرسلة بالذّات هو بعينه تكثّر الأشياء
الطّبيعيّة بالذّات ، وتكثّر الأشياء الطبيعية بالذّات هو تكثّر الطبيعة المرسلة
بالعرض. وإنّما ذلك لأنّ الطبيعة المرسلة داخلة في قوام الشّيء الطبيعيّ ، وهو
الفرد ، ومن جوهريّات ذاته بما هو فردها ، والشّيء الطبيعيّ بما هو فرد الطبيعة
المرسلة خارج عن قوام جوهرها ومن خواصها وعوارضها الّتي بعد الذّات وفي مرتبة
أخيرة ، وإن هذا إلّا لتضمّن الفرد ما هو من عرضيّات الطبيعة في لحاظ التّعيّن
والإبهام بتّة. فالكثرة بالعدد للأفراد بالذّات كثرة بالعدد للطبيعة بالعرض.
ثمّ ليس يصحّ أن
توصف الطبيعة بالكثرة بالعدد بالعرض إلّا من حيث الكثرة بالعدد الّتي هي للأفراد
بالذّات. أليس مفاد الوحدة أو الكثرة بالعدد توحّد الوجود أو تعدّده ، وليست
الطبيعة توجد إلّا بعين وجودات الأفراد. فإذن ، تكثّر المراتب الكماليّة والنقصيّة
إمّا هو تكثّر سنخ الطبيعة المرسلة [٧٢ ب] بالذّات ، فتكون هناك طبيعتان مختلفتان
في سنخيهما ، لا طبيعة واحدة مختلفة بالكماليّة والنّقصيّة ، وإمّا هو تكثّرها
بالعرض ، فيكون الكماليّة ، لا محالة ، بشيء يزيد على جوهر الطبيعة ويعرضها بعد
الذّات في مرتبة أخيرة ، لا بنفس الطبيعة ، فتكون المرتبة الكماليّة فردا ما من
الأفراد متحصّلا من فصل مقوّم أو عرض مصنّف أو مشخّص بتّة. فهذا سبيل تقويم
البرهان.
فإذن ، ذات الشّيء
لا يحتمل الزيادة والنقصان ، وكذلك ما هو مقوّم الذّات لا يحتملهما ، فإنّه إن كان
إذا زاد قوّمها بزيادته ، فالذات المتقوّمة ليست هي إلّا الأزيد فيه ، أو بنقصانه
فلست هي إلّا الأنقص فيه ، أو بما هو هو لا من حيث هو يزيد أو ينقص ، فيكون
المقوّم هو المعنى العامّ المرسل.
حكومة
(٣٢ ـ إختلاف الوجود القيّوميّ والوجودات الإمكانيّة الهالكة)
فأمّا متشبّثات
أولئك الأقوام ، من : «أنّ المقدار التامّ والنّاقص ما زاد أحدهما على الآخر
بعرضىّ ولا فصل مقسّم للمقدار ، فإنّه عرضىّ أيضا لما يقسّمه ، فالتفاوت في
المقادير بنفس المقدار ، وليس الزائد خارجا عن المقدار ، بل ما زاد به هو كما ساوى
به في الحقيقة ،
فليس الافتراق بين الخطين المتفاوتين بالطول والقصر إلّا بكماليّة الخط ونقصه.
وكذا بين السواد التامّ والنّاقص ، فإنّهما اشتراكا في السّواديّة وما افترقا في
أمر خارج عن السّواديّة ـ فصلا كان أو غيرها ـ فإنّ التفاوت في نفس السّواديّة ،
فالجامع بين هذه الأشياء كلّها التّماميّة والنّقص في نفس الماهيّة» (المطارحات ،
ص ٣٠٠).
و «أنّ حدّ
الحيوان هو أنّه جسم ذو نفس حسّاس متحرك بالإرادة. ثمّ الّذي نفسه أقوى على
التحريك وحواسه أكثر ، لا يشكّ أنّ الحسّاسيّة المتحركة فيه [٧٣ ظ] أتمّ ، فيكون
حيوانيّة الإنسان ، مثلا ، أتمّ من حيوانيّة البعوضة ، مثلا ، وإن لم يستعمل في
ذلك أدوات التّفضيل والمبالغة بحسب اللغة اللسانيّة. فالحقائق لا تقتنص من
الاستعمالات اللغويّة والإطلاقات العرفيّة الجمهوريّة ، وأنّ الوجود القيّومىّ
الوجوبىّ أتمّ ، لا محالة ، من وجودات الجائزات الفاقرة الهالكة» (حكمة الإشراق ،
ص ٨٨).
فواهنة الأساس ،
موهونة التبيان ، فإنّ المقدارين الزائد والناقص ماهيّة المقدار فيهما على شاكلة
واجدة ، وليست طبيعة المقداريّة في أحدهما أزيد ، بل إنّهما في حدّ التّعيّن
الفرديّ اختلفا في التمادى على أبعاد محدودة إلى حدود معيّنة ، وذلك أمر خارج عن
طبيعة المقداريّة بما هي مقداريّة عارض لها من جهة اختلاف استعدادات المادّة
المنفعلة ، وهو يستتبع كون الفردين في حدّ هويّتيهما الفرديتين ، بحيث إذا اعتبرا
مقيسا أحدهما إلى الآخر كانت هناك زيادة بحسب الهويّة الفرديّة العارضة للطبيعة
أخيرا بعد مرتبة الماهيّة المرسلة ، لا بحسب نفس جوهر الطبيعة ، فالخطّ الطّويل
والخطّ القصير إن لوحظا من حيث طبيعته الخطيّة ، أى : البعد الواحد ، كان كلّ
منهما طولا حقيقيّا يضاهي الآخر في أنّه بعد واحد ، ولا يعقل بينهما في هذا
الطّباع تفاوت أصلا ؛ وإن لوحظ أحدهما بقياسه إلى الآخر كان الأزيد منهما طولا
إضافيّا يفضل على الآخر بحسب خصوص الهويّة الفرديّة. فالطّول الحقّ ليس يقبل
الأزيد والأنقص ، بل إنّما الطّول المضاف. وكذلك الكثرة بلا إضافة هي العدد ،
والكثرة بالإضافة عرض [٧٣ ب] في العدد ، والكثير الحقّ ليس يقبل الأكثر والأقلّ ،
بل إنّما الكثير المضاف.
وطبيعة السواديّة
أيضا في السّوادات المختلفة بالشدّة والضّعف على سبيل واحد ، وإنّما ذلك الاختلاف
بحسب خصوصيّات أفراد الطبيعة ومن حيث الإضافة
العارضة ، لا في
جوهر الماهيّة وسنخ الحقيقة. فالسواد الحقّ لا يقبل أشدّ وأضعف ، بل الشيء الّذي
هو سواد بالقياس عند شيء هو البياض بالقياس إلى آخر. وكلّ ما يفرض من السواد فهو
لا يقبل الأشدّ والأضعف في حقّ نفسه ؛ بل إنّما عند ما يؤخذ بالقياس ؛ فلذلك كان
تقابل الطرفين ، وهما السّواد الصرف والبياض الصّرف بعينه ، يعمّ الأوساط. ولا
تزداد بذلك أنواع التقابل ولا ينصدم اشتراط التّضادّ الحقيقيّ بغاية الخلاف ، على
ما في الفلسفة الأولى الإلهيّة والحكمة الّتي هي فوق الطّبيعة. ثمّ ليس فصل
الحيوان هو الإحساس والتّحرّك بالفعل ، بل هما من الأفعال والخواصّ العارضة.
وإنّما الفصل مبدأ القوّة على ذلك ، حسب ما استيسر له ، من الآلات والمهيّئات.
وربّما تلك تختلف بحسب الأنواع المختلفة الّتي تحته. وكذلك ليس إذا كان بعض الناس
أفهم وبعضهم أبلد ، فقد قبلت القوّة النطقيّة زيادة ونقصانا ، بل ولو لا لو كان
واحد من الناس لا يفقه شيئا البتّة [كالطفل. ففصله : هو أنّ له في جوهره القوّة
التي إذا لم] يصدّها صادّ ، فعلت الأفاعيل النّطقية ، وهي واحدة ، ولكنّها يعرض
لها تارة عوز الآلات القلبيّة والدماغيّة ، مثلا ، وتارة معاسرتها وعصيانها ،
فتختلف بحسب ذلك أفعالها ، وطباعها ثابت على شاكلته ، كالنار ، تختلف أفعالها بحسب
اختلاف المنفعلات والمادّة الّتي تفعل بها فيها.
وربّما تكون النفس
الشّخصيّة [٧٤ ظ] ناقصة في جوهرها الشّخصىّ ، لنقصان استعداد المادّة الّتي
تستحقّها. فليس الذهن ولا الحدس ولا شيء من مضاهيات ذلك ، فصلا يقوّم الإنسان المرسل
بما هو إنسان ؛ بل هي عوارض وخواصّ لسنخ الماهيّة المرسلة. والكمال والنقص فيها من
جهة الاستعداد المتولّد من استعدادين : استعداد الفاعل واستعداد المنفعل. فأمّا
الّذي للفاعل نفسه فغير مختلف.
فأمّا كمال
القيّوم الواجب بالذّات وتماميّته فبحسب حقيقته الوتريّة الأحديّة القدّوسيّة ، لا
بحسب ماهيّة مشتركة. وقد دريت أنّ الحقيقة الحقّة هي بالحقيقة مبدأ انتزاع الوجود
، وإنّما ينتزع من الجائزات الباطلة من تلقاء استنادها إلى الحقيقة الحقّة. فلذلك
يختلف الوجود القيّومىّ الواجبىّ والوجودات الجائزيّة الهالكية ، بالأوليّة والأقدميّة
، والكمال والنقص ، من جهة تماميّة الحقيقة الغير المشتركة و
نقصانيّتها ، لا
أنّ في مفهوم الكون المصدريّ شدّة وضعفا.
تشريق
(٣٣ ـ التماميّة والنقص في موارد مختلفة)
فالتماميّة والنقص
في الهويّة الفرديّة شدّة وضعف في الكيف ، وقلّة وكثرة في الكم المنفصل ، وزيادة
ونقصان في الكم المتّصل. فتلك أنحاء مختلفة تستحقّ أسامى مختلفة.
أليس ما به الفضل
في التّماميّة المقداريّة بما هي تلك التّماميّة ليس بنفس الهويّة التامّة ، بل
عضة موهومة منها مضاهية الحقيقة للهويّة الناقصة ولمساويتها الّتي هي العضة الأخرى
من الهويّة التامّة؟ فلذلك لم يكن يمتنع هناك الاتحاد في الوجود ، إذ كانت الحقيقة
المشتركة [٧٤ ب] هي الممتدّ بالذّات ، وإنّما الافتراق بتخصّصات الأبعاد
الامتداديّة في المساحة. وفي التماميّة الّتي في الكميّة الانفصاليّة بما هي تلك
التماميّة أيضا عضة من الهويّة التامّة ولكن مباينة الماهيّة والوجود للعضة الأخرى
منها ولمساويتها الّتي هي الهويّة الناقصة ، وليس يتصوّر هناك الاتحاد بالوجود
أصلا.
وأمّا التماميّة
الّتي في الكيف بما هي تلك ، فطباعها : أنّ ما به الفضل فيها ليس عضة من الهويّة
التامّة موجودة أو موهومة ؛ بل ما به الأتميّة هناك هي نفس خصوصيّة الهويّة
التامّة من حيث تلك الهويّة بكليّة ذاتها الخاصّة.
وإنّما يستتبّ ذلك
لو كان لطبيعة ما جنسيّة ، كالماهيّة السواديّة ، فصلان يحصّلان حقيقتين
متباينتين. يكون كلّ واحدة منهما بنفسها أتمّ وأشدّ من الأخرى ، لا بجزئها الممايز
في الوجود أو في الوهم للجزء الآخر ؛ إذ لو صحّ ذلك من تضامّ طبيعة نوعيّة مشتركة
وعوارض لاحقة مصنّفة أو مشخّصة كانت تلك العوارض ، لا محالة ، متمايزة في الوجود
والتصوّر ، وإن كانت الطبيعة موجودة بعين وجود الصّنف والشخص بتّة. فكان ما به
الأتمّيّة في الهويّة الشديدة الصّنفيّة أو الشّخصيّة عضة منها متميّزة الوجود أو
الوضع ، وهو خرق الفرض ومخالفة الحدس والفطرة.
فإذن ، قد استبان
سبيل البرهان : على أنّ الشدّة والضّعف بتباين الحقيقة النّوعيّة واختلاف الفصول
المقوّمة ، والتّشديد والضعيف مختلفان بالنّوع ، وكذلك الكثرة والقلة والكثير
والقليل ، بتّة [٧٥ ظ]. وأمّا الزيادة والنّقصان فباختلاف المشخّصات و
تكثّر الهويّات
الشّخصيّة ، وكان ذلك أيضا على سلف العشيرة عسيرا ، فاضطرّهم إلى أن يكلوا الأمر
رأسا إلى الحدس الصائب. فإذن ليس في الكيف زيادة ونقصان ، ولا تزيّد وتنقّص ، بل إنّما
شدّة وضعف [واشتداد وتضعّف. ولا في الكم شدة وضعف] ولا اشتداد وتضعّف ، بل إنّما
الزيادة والنّقصان والتزيّد والتنقّص.
وأمّا مقولة
الجوهر ، فليس يصحّ فيها شيء من ذلك ، وليس الاشتداد ببقاء الضعيف متغيّرا في نفسه
، ولا بانضمام شيء ما إليه ، بل بتحرّك الجوهر الموضوع باقيا بعينه ، على أن ينسلخ
عن النّوع الضّعيف ويتلبّس بالنّوع الشّديد بالحركة ، وهذا الأخير قد استمرّ عليه
اتفاق الفئتين.
تشريق
(٣٤ ـ في تشكيك الطبيعة المرسلة)
فإن شاء شاء أن
ينقاد للحقّ ، يستمع لضابطة الاختلاف التشكيكىّ ، فليعلم أنّ التّشكيك : هو أن
يختلف قول الطبيعة المرسلة على أفرادها في نحو الفرديّة وفي درجة الفرديّة وأنواعه
أولويّة وأقدميّة وأتميّة ، إمّا بالأشديّة أو بالأكثريّة أو بالأزيديّة. وأمّا
الاختلاف بالنفسيّة والجزئيّة وبالذّاتيّة والعرضيّة ، فوراء طباع التشكيك ، وليس
يسوغ شيء من الأنواع في الماهيّة وفي جوهريّاتها أصلا. أمّا الأوّلان ، فلاستواء
نسبته الطبيعة إلى الأشياء الطّبيعيّة الّتي هي ذاتيّة لها ، وامتناع تخلّل
الاقتضاء بين جوهر الشّيء وجوهريّة. وأمّا الأخير بأصنافه الثلاثة ، فلما تلى عليك
[٧٥ ب] ، والنقض بالعارض ساقط.
فالذى يقال بالتّشكيك
مطلقا هو العرضىّ المحمول. والكماليّة المعتبرة في الأتميّة منه إنّما هي في
خصوصيّة الفرد القائم في المعروض من أفراد العارض المبدأ لاشتقاق المحمول بحسب
الهويّة الفرديّة. فطبيعة السّواد ، مثلا ، على التّواطى الصّرف في أفرادها
الشديدة والضعيفة قاطبة. وإنّما المشكّك مفهوم الأسود على معروضي الفردين
المختلفين بالشدّة والضّعف في حدّ الهويّة الفرديّة. وأمّا ازدياد الطبيعة المرسلة
في بعض الأفراد فقد أحاله البرهان المتلوّ عليك إحالة مرسلة على الإطلاق.
فكما لا كميّة
أزيد في أنّها كميّة من كميّة وإن كانت كميّة أزيد من كميّة ، ولا كثرة أكثر في
أنّها كثرة من كثرة وإن كانت كثرة أكثر من كثرة ، ولا سواد أشدّ في أنّه سواد
من سواد وإن كان
سواد أشدّ من سواد ؛ فكذلك لا متكمّم أزيد في أنّه متكمّم من متكمّم وإن كان
متكمّم أزيد في الكميّة العارضة له من متكمّم آخر في كميته العارضة ، ولا متكثّر
أكثر في أنّه متكثّر من متكثر وإن كان متكثر أكثر عددا ـ العدد العارض له ـ من
متكثّر آخر في عدده القائم فيه ، ولا مسودّ أشدّ في أنّه أسود من مسوّد وإن كان
مسوّد أشدّ في سواده القائم فيه من مسوّد آخر في سواده.
فإذن ، لا تشكيك
إلّا في «المشتقّ» عن العوارض المختلفة بالتماميّة والنقصيّة في حدّ هويّاتها
المتخصّصة ، لا في سنخ ماهيّتها المرسلة بالقياس إلى معروضاتها الّتي هي أفراد
بالعرض للمشتقّ.
وإذ مقولة «الجوهر»
ماهية [٧٦ ظ] منعوتيّة غير قائمة في شيء ، فلا تشكيك فيها أصلا ، ولا جوهر أتمّ
جوهرية من جوهر ، بل إنّما الجواهر الأولى أولى وأقدم من الجواهر الثّانية في
التّجوهر والوجود ، لا في الجوهريّة. وربّ حقيقة جوهرية هي كاملة تامّة بحسب ذاتها
الخاصّة بالقياس إلى حقيقة أخرى ناقصة جوهريّة. كالعقل بالنسبة إلى الهيولى ،
والإنسان بالنسبة إلى الفرس ، لا في طباع الجوهريّة ، ولا على شاكلة التماميّة
الّتي تعرّفتها في الكيف والكمّ.
ثمّ المتّصل
والمنفصل والوجود المطلق الفطرىّ التّصوّر يختلف في الموجودات بالأولويّة
والأقدميّة ، وليس يتصوّر له أفراد متحصّلة في أنفسها حتّى يصحّ اختلاف بينها
بالتماميّة والنقصان ، بل إنّما حصص متخصصة متمايزة بنفس الإضافة إلى الموضوعات
المختلفة ، لا قبل الإضافة.
تقديس
(٣٥ ـ الواجب بالذّات هو الواجب الحقّ والكمال المطلق)
ألم يستبن لك أنّ
حيثيّة الوجوب بالذّات فعليّة محضة من كلّ جهة ليس يعتريها شوب قوّة ، ولا يشذّ
عنها حيثيّة ما كماليّة أصلا ، بل هي بعينها جملة الحيثيّات الكماليّة والتماميّة
وفوق التماميّة. فإذن ، وجود الواجب بالذّات وكمال وجوده ، وحقيقته وكمال حقيقته
واحد ، وكذلك كماله وأقصى الكمال أى : لا تناهيه في مراتب الشدّة واحد. فليس يصحّ
أن يكون واجبان بالذّات ، مختلفا الهويّة بالتماميّة واللاتماميّة ، حتّى يكون
أحدهما أتمّ حقيقة
وأكمل هوية وأجمل ذاتا وأسبغ كمالا من الآخر. فالواجب بالذّات هو الوجود الصّرف
والوجوب البحت والجمال الحقّ والكمال المطلق.
تقديس
(٣٦ ـ حقيقة الوجوب لا تكون ماهيّة نوعيّة)
إنّ حقيقة [٧٦ ب]
وجوب التّقرّر والوجود بالذّات يمتنع أن تكون ماهيّة نوعيّة لمختلفين بالعدد. ألم
يبلغك ما أثبتناه ، في صحفنا ، أنّ كلّ ما يخصّه حدّ نوعىّ ، فإنّه لا يحتمل
أشخاصا كثيرة إلّا من جهة المادّة. أليس ما هو في ذاته بريء من الشوائب المادّيّة
والغواشى الغريبة الّتي لا تلزم ماهيّته ، عن ماهيّته. إنّما يلحقه ما يتبع
ماهيّته عن ماهيّته. فلا يمكن أن يتكثّر إلّا بالماهيّة ، لا بالأشخاص الداخلة تحت
ماهيّة محصّلة نوعيّة. فإنّما تشخّص النّوع المتكثّر الأشخاص بالمادّة الحاملة ،
من حيث إنّها تقبل الشخصيّات الكثيرة ، لا من حيث إنّها تفعل التشخّص ، أو إنّ لها
صنعا ما في فعله ، بل جاعل التّقرّر والوجود هو الّذي يفعل التشخّص. على أن من
تلقائه الوجود المتعين بامتناع الشركة من حيث الارتباط بالمتشخّص بالذّات.
والأعراض المحمولة ، كالأين والوضع ومتى ، مثلا ، مسماة بالمشخّصات ، على أن هي
لوازم وأمارات لمشخّصيّة الوجود المادّيّ.
فإذن ، الماهيّة
المجرّدة عن المادّة لا يمكن أن تكون لذاتين ، وإنّما من حقّ طباعها أن يكون نوعها
لشخصها بعينه ، والشيئان إنّما هما اثنان ، إمّا بسبب المعنى ، وإمّا بسبب الحامل
للمعنى ، وإمّا بسبب الوضع والمكان أو الوقت والزمان ، وبالجملة لعلّة من العلل.
فكلّ معنى موجود
بعينه ، لا لشخص بعينه فقط ، فهو متعلّق الذّات ، لا محالة ، بشيء من العلل ولواحق
العلل ، فلا يكون هو بعينه الحقيقة القيّوميّة الّتي هي بعينها الوجوب بالذّات.
ومن أسلوب آخر : المعنى الوحدانىّ لا يتكثّر بذاته ، وإلّا لم يكن يوجد لواحد ، [٧٧
ظ] وإذ لا وحدة فلا كثرة. فنكون إذا كثّرناه بنفسه ، فقد أبطلنا كثرته ، فقد
أبطلنا نفسه. فإذن وجب أن يكون لتكثّره ولوجود كثيرين منه علل ، فاستحال أن يتصوّر
ذلك في حقيقة الوجوب بالذّات بتّة.
وأيضا لو كان معنى
الوجوب بالذّات طباعا نوعيّا ، وليس هو لواحد شخصىّ
بعينه فقط ، بل
ولغيره أيضا : فإمّا أنّ كون ذلك الواحد واجبا بالذّات هو نفس كونه هو بعينه ، فلا
يكون الغير واجبا بالذّات بالضّرورة ، وإمّا أنّ كونه واجبا بالذّات أمر وراء كونه
هو بعينه ، فيكون هو بعينه شيئا خارجا عن طباع الوجوب بالذّات ، فيكون هو بهويّته
المعيّنة ، لا محالة ، جائزا فاقرا معلولا.
تقديس
(٣٧ ـ حقيقة الوجوب لا تكون ماهيّة مبهمة)
وكما امتنع أن
تكون حقيقة الوجوب بالذّات ماهيّة محصّلة نوعيّة ، فكذلك يستحيل أن تكون هي طبيعة
مبهمة جنسيّة منقسمة بالفصول. أما استبان لك ، في الحكمة الّتي هي فوق الطبيعة وفي
الفلسفة الّتي هي مكيال العلوم ، أنّ الفصل أو ما يقام مقامه ليس يستتبّ لجوهر
الجنس ، أى : ليس يفتاق إليه قوام سنخ الطبيعة الجنسيّة أو ما يقام مقامها ، بل
الفصول مضمّنة في سنخ جوهر الطبيعة المرسلة المبهمة الّتي هي الجنس ، وإنّما فصل
ما بعينه يعيّنها ويحصّلها ويفيدها استكمال تقوّم الحقيقة التّامّة المحصّلة
واستتمام تصحّح الإنيّة والحصول بالفعل؟
فإذن ، إذا كانت
الطبيعة ، كالحيوان واللّون ، أى : ليس الحصول بالفعل هو نفس طباعها ولا مضمّمنا
في جوهر ذاتها ، ساغ أن يكون قد بقى لها منتظرا أن تتقوّم ذاتا خاصّة في الوجود
وحقيقة [٧٧ ب] مستتمّة التّحصّل في الفعليّة ، فيكون لها فصل ليس يفيد المعنى
الجنسىّ حقيقته وقوام جوهره من حيث معناه ، بل يفيده التقوّم بالفعل ذاتا محصّلة
موجودة.
فأمّا حقيقة
الوجوب بالذّات فهى نفس تأكّد التّقرّر وتمحّض الوجوب ، وليست الموجوديّة بالفعل
أمرا خارجا عن مرتبة نفسها وعن معنى ذاتها. فلو كان لها العموم الجنسىّ كان ما هو
كالفصل هناك مفيدا معنى ذاتها وطباع حقيقتها. فكان ما هو كالفصل بما هو كالفصل
داخلا في طبيعة ما هو كالجنس بما هو كالجنس ، في اللحاظ الّذي فيه تمايز موضوعى التّعيّن
والإبهام مع تخالطهما ، وهو خلف فاسد.
تقديس
(٣٨ ـ الوجوب بالذات لا يحتمل الاشتراك)
وبالحريّ أن تقول
قولا مرسلا : إنّ كلّ طبيعة مرسلة ، جنسا كانت أو نوعا ، فإنّ الفصل المنوّع أو
الخاصّة المصنّفة أو المشخّصة ليس يسوغ أن يدخل في سنخ معناها ويفيد نفس ذاتها
العامّة المرسلة ، بل إنّما يكون مناط تحصّلها ومعيار موجوديّتها بالفعل والوجوب
بالذّات هو نفس التّقرّر والوجود ، مع امتناع البطلان وعدم العدم بالنّظر إلى نفس
المعنى وطباع سنخ المفهوم. فإذن ، الموجوديّة بالفعل مثابتها هناك مثابة نفس
اللونيّة والإنسانيّة هاهنا ، فكيف يصحّ أن تناط بشيء من الفصول أو الخصوصيّات
والعوارض.
والواجب بالذّات
هو الغنىّ المطلق ، وليس له وجود ثان ، بعد ما له في مرتبة ذاته بحسب نفس معناه.
واللّون أو الإنسان ، له ، بعد اللّونيّة أو الإنسانيّة ، وجود يستند إلى علله.
فإذن ، قد بزغ أنّ وجوب التّقرّر والوجوب بالذّات ليس يصحّ أن يكون طباعا يحتمل
الاشتراك [٧٨ ظ] أصلا.
وبالجملة ،
القيّوم الواجب بالذّات يجب أن يكون متوحّدا بحقيقته ومتشخصا بذاته. لست أقول «بلوازم
حقيقته وبعوارض ذاته» ، وإلّا لم يكن ماهيته هي بعينها إنيّته. فليس يسوغ أن يقال
له : إنّه طبيعة مرسلة ، ولا إنه شخص بعينه من طبيعة مرسلة ومن لوازم مخصّصة
مشخّصة ، بل إنّه بنفس ذاته ينفرد ويمتاز عن كلّ شيء هو غير ذاته ؛ ويمتنع أن يكون
حقيقته لغير هويّته الواحدة ، ولا يوصف بأنّه كلّىّ وطبيعة مرسلة ، ولا بأنّه
جزئيّ وفرد من طبيعة مرسلة ، بل هو الواحد الحقّ من كلّ وجه ، والأحد المطلق من
كلّ جهة.
تقديس
(٣٩ ـ المتوحّد بالحقيقة لا شريك له ،
متقدس ، لا علّة له ، ولا حدّ له ، حقيقته وجوده) وإذ حقيقة الوجوب بالذّات فعليّة محضة من جميع الجهات.
فالوحدة الشّخصيّة المبهمة ، كما للهيولى الأولى المبهمة الذّات الموجودة والمبهمة
الهويّة الشّخصيّة ، ليست عن ساحة جنابه إلّا في قصيا مراتب النأى والابتعاد. وإذ
هو متوحّد بالحقيقة متشخص بالذّات، غير متعلّق بالغير ، فلا مثل له. وإذ ليس يصحّ
تكافؤ بينه وبين
شيء في قوّة
الوجود ، فلا ندّ له ولا شريك له. وإذ هو وجود بحت متمجّد عن إمكان العدم وصحة
الفساد ، متعال عن الموضوع ، متقدّس عن المادّة وعلائقها. والأضداد بما هي أضداد
متفاسدة متكافئة إمكان الاستعقاب والتعقّب على موضوع واحد ، فلا ضدّ له ، ولا
كيفيّة ، ولا كميّة ، ولا وضع ، ولا أين ، ولا متى له.
وإذ لا علّة له
فلا لم له. وإذ لا جنس له ولا فصل ، بل لا جزء له أصلا ، ولا احتمال حيثيّة
وحيثيّة فيه ، بل لا صحّة الاكتساء بحيثيّة مغايرة أصل الذّات مطلقا [٧٨ ب]. فلا
حدّ له ولا ما يقام مقام الحدّ توسعا ولا ماهيّة له ، بل ماهيّته : إنّه ، وحقيقته
: وجوده. وليس له شيء ممّا تشا به الذّات ، وإنّما يوصف بعد الإنيّة بسلب
المشابهات عنه وبإيجاب الإضافات كلّها إليه ، فإنّ كلّ شيء منه. وليس شيء ممّا منه
، وهو كلّ شيء ، مشاركا له ، وليس هو شيئا من الأشياء بعده.
تقديس
(٤٠ ـ الواحد
الحقيقىّ لا حدّ له فلا برهان عليه بل هو البرهان والشّاهد)
وإذا لا حدّ له
ولا ما يقام مقام الحدّ على سبيل التوسّع ، بل إنّ العقل ربّما ألجأه الاضطرار في
شرح اسمه إلى استيناف توسّع آخر في التوسّع المألوف ، والحدّ والبرهان متساوقان
متشاركان ، فلا برهان عليه أصلا ، بل هو البرهان على الآفلين والآفلات ، أي : كلّ
ما في عالم الجواز الّذي هو افول جوهر الذّات في الليس الخالص والهلاك السّاذج ؛
فهو الشّاهد على كلّ ماهيّة ووجود ، وكلّ ذات وصفة ، كما يقول القرآن الحكيم : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت ، ٥٣).
ويقول : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (آل عمران ، ١٨).
وإنّما على
السّبيل إليه دلائل واضحة وبوارق لامعة. فالذى يحاول ، أوّلا ، أن يبرهن عليه هو
ثبوت ما من الثبوتات الرابطة في العقود الّتي هي الهليّات المركبة لشأن ما من
الشئون الإضافيّة لذاته ، ككونه جاعل الماهيّات وصانع العالم ، أعني فاقة العالم
إلى جاعليّته وصانعيّته على أن يكون حالا للعالم ، لا حالا للجاعل الصانع. أى :
يلحظ أنّ العالم ذو جاعل صانع واجب الوجود. أو كونه فردا لمفهوم الموجود المطلق ،
أى : كونه المنتزع منه لمفهوم الوجود المصدريّ الفطريّ و
المصداق لمفهوم
الموجود المشتقّ منه ، أعنى استدعاء [٧٩ ظ] طباع هذا المفهوم المصدريّ ذلك ، على
أن يكون بهذا اللحاظ حال المفهوم المنتزع ، لا حال الذّات الّتي هي المنتزع منه.
فيبيّن الأمر من جهة العلّة ، إذ طباع الجواز وطبيعة الوجود بحسب صحّة الانتزاع
بالفعل من الذّوات الجائزة علّة لذلك. فالمعلول بحسب الوجود المحمول ربّما يكون
علّة بحسب الثّبوت الرّابط ، كالمؤلّف بالقياس إلى المؤلّف.
ولزوم الشّيء
لملزومه قد يلحظ بحيث يكون حال الملزوم ، وقد يلحظ بحيث يكون حال اللّازم. ثمّ
اللازم قد يكون بخصوصه علّة للّزوم مهما لحظ على أن هو حاله ، أى : اعتبر كون
اللّازم بخصوصه بحيث لا يتبع إلّا ذلك الملزوم بعينه ، كما أنّ الملزوم أيضا علّة
له مهما لحظ على أن هو حاله ، أى : اعتبر كونه في ذاته بحيث يستتبع ذلك اللّازم ،
كما الحال في الحرارتين المختلفتين بالنّوع اللازمتين للشمس والنار ، وليس يلزم
كون شيء واحد هو اللزوم مستندا إلى علّتين هما الملزوم واللازم.
فإذن ، يستبين ،
بالفحص من طريق اللمّ ، أنّ العالم الموجود مفتاق البتّة في الحصول بالفعل إلى
الصّانع الواجب بالذّات ، فيتمّ أنّ الواجب بالذّات صانع للعالم ، عقدا إيجابيا.
فيكون إذن وجود موضوع ذلك العقد في نفسه من البيّنات بالضّرورة الفطريّة ، ثمّ
يتدرّج على التنزل منه ومن وجوده وخيريّته إلى مراتب المجعولات على سبيل البرهان
اللمّىّ إلى أقصى الوجود.
مفحص
(٤١ ـ الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر)
لا ينخبئنّ عن
فطانتك : أنّ جوهريّات الماهيّات الجوازيّة ، وكذلك عرضيّاتها المقابلة للجوهريّات
، ليست هي المفهومات المعبّر عنها. فإنّ المعبّر به خاصّة [٧٩ ب] ولازم لما يعبّر
عنه على الإطلاق ، وإنّما المحكوم عليه بأنّه جوهريّ أو عرضى هو المعبّر عنه الّذي
هو بذاته مبدأ لزوم ذلك اللّازم وخاصيّته ، والاختلاف بالجوهريّة والعرضيّة في
اولات العنوانات في حدّ ذواتها ، لا في مفهومات العنوانات أنفسها.
أليس ممّا قد بان
لك في الفلسفة الّتي فوق الطبيعة : أنّ الفصول المقوّمة للأنواع مطلقا ، والأجناس
العالية الّتي لا جنس فوقها ، إذ هي بسائط في ذواتها وعند العقل
أيضا لا يمكن
تعريفها وتحديدها. والأشياء الّتي يؤتى به على أنّها فصول أو أجناس فإنّما هي تدلّ
عليها ، وهي لوازم وعنوانات.
بل إنّ رهطا من
شركائنا الرؤساء السّلّاف ربّما تسمعهم يقولون :
«ليس في قدرة
البشر الوقوف على حقائق الأشياء ، ولا سيّما البسائط منها ، إلّا من سبيل اللوازم.
ونحن لا نعرف حقيقة «الحيوان» ، مثلا ، وإنّما نعرف شيئا له خاصيّة الإدراك
والفعل. والمدرك الفعّال ليس هو حقيقة الحيوان ، بل هو خاصّة أو لازم. والفصل
الحقيقىّ له لسنا ندركه ، وكذلك لا نعرف حقيقة «الجسم» ، بل نعرف شيئا له هذه
الخواصّ ، وهي الطّول والعرض والعمق» (ابن سينا ، التعليقات ، ص ٣٤).
والّذي يقضي به
الفحص البالغ أنّه ربّما تنطبع في العقل حقيقة ، كجنس مقولة «الجوهر» ، وإذ هي
بسيطة لا يحلّلها العقل إلى جنس وفصل ، فليس للعقل أنّ يعرّفها ويعبّر عنها بصرف
كنهها ، فيدرك منها خاصيّة أوليّة تلزمها بنفس ذاتها. وهي أنّها ماهيّة منعوتيّة ،
حقّها أنّها إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع ، فيعبّر عنها بتلك الخاصيّة
ويجعلها عنوان نفس الحقيقة ، فمفهوم العنوان وإن كان عرضيّا لازما إلّا أنّ [٨٠ ظ]
ذا العنوان والمعبّر عنه هو نفس جوهر الحقيقة. وفصول الأنواع بأسرها على هذه
الشّاكلة.
فالفصل المقوّم
للإنسان ، مثلا ، يدرك ويعبّر عنه بالناطق ، أى : مستحقّ إدراك الكليات ومبدأه ،
لأنّه يدلّ على الفصل المقوّم ، وهو المعنى الّذي أوجب للنوع أن يكون ناطقا. فإذن
التّحديد بمثل هذه الأشياء تكون رسوما اقيمت مقام الحدود على التوسّع ، لا حدودا
حقيقيّة. وليس يتصوّر في الفصول والأجناس البسيطة إلّا مثل هذا التّحديد الّذي هو
على سبيل التوسّع والتجوّز.
ثمّ المركّبات
يصحّ تحديدها بالحدود التوسّعيّة وبالحدود الحقيقيّة أيضا. فالإنسان ، مثلا ، إذا
عرّف ب «الحيوان الناطق». فإن عنى بهما مبدأهما ، أى : المعنى الّذي بنفسه أوجب
الحيوانيّة والمعنى الّذي بنفسه أوجب الناطقيّة ، كان حدّا حقيقيّا من جنس وفصل
حقيقيّين ؛ وإن عنى به عنواناهما المفهومان ، كان رسما
بالحقيقة وحدّا
على التوسّع من جنس توسّعيّ وفصل توسّعيّ ، لا كالرّسوم المشهورة من العوارض اللاحقة
والعرضيّات المصطلحة الّتي ليست هي عنوانات جوهر الحقيقة ، بل هي عنوانات امور
تلحق الذّات بعد قوام الحقيقة ، كالضاحك والكاتب.
فإذن ، قد استبان
: أنّ العرضىّ الّذي بإزائه الجوهريّ كالأبيض ، عنوان المفهوم منه ، وذو العنوان
المعبّر عنه بالعنوان كلاهما عرضيّان. وأمّا الجوهرىّ ، فإنّ عنوان المفهوم منه
عرضىّ ، بخلاف ذى العنوان المعبّر عنه بالعنوان ، فإنّه جوهرىّ بتّة. وإنّ أجزاء
لحدّه البسيط أجزاء لحدّه ، لا لقوامه ، وأجزاء حد المركب ، أى : الجنس والفصل ،
أجزاء لحدّه ولقوام جوهره جميعا. وإنّ الرؤساء الشّركاء يقولون : ربّما تقام رسوم [من
أجناس وخواصّ مقام حدود حقيقيّة] من أجناس وفصول ، ويرومون بالخواصّ الفصول
التوسّعيّة [٨٠ ب] المعبّر بها عن الفصول الحقيقيّة ، لدلالتها عليها بالذّات.
وبالجملة ، الفصول
والأجناس البسيطة تلحظ لها لوازم وعنوانات يوصل الذهن تصوّرها إلى حاقّ الملزومات
؛ وتعريفها بها لا يقصر عن التعريف بالحدود ، فلذلك تعدّ حدودا على التوسّع ، وذلك
في مطلبى «ما الاسميّة» و «ما الحقيقيّة» كليهما. والسؤال مطلقا عن نفس الماهيّة ،
ولكن تارة بحسب استعمال الاسم وتارة بحسب التّقرّر والوجود. والأتباع المقلّدون ،
إذ لا قسط لهم من التفتيش إلّا الذهول عن كنه الأمر ، يغلطون فيزعمون أنّه ريمت
بالخواصّ العرضيّات اللاحقة المستعملة في إزاء الجوهريّات. ثمّ ربّما يخصّصون
الحكم بمطلب «ما الشّارحة للاسم». وليسوا يشعرون أنّه إنّما المعلوم بالحقيقة في
العلم الارتسامىّ الصّورة الّتي في الذهن ، ثمّ الأمر العينىّ معلوم ثان بالعرض لا
بالحقيقة ، وأنّ افتراق العلم بالشيء بالوجه عن العلم بوجه الشّيء ليس إلّا بضرب
من الاعتبار ؛ والمعلوم بالحقيقة في الصّورتين ليس إلّا كنه الوجه ؛ ولا علم
بالذّات إلّا العلم بالكنه ، إلّا أنّه ربّما كان كنه شيء ما وجها لشيء آخر. فإذا
اعتبر بما يصلح للانطباق عليه ، قيل : إنّ معلوميّته بالذّات معلوميّة ذلك بالعرض
، وليس يصحّ أن مائيّته أو هليّته مائيّة أو هليّة له. ثمّ إنّ مطلب «ما الشّارحة»
ينقلب بعينه مطلب «ما الحقيقة» بعد العلم بالتقرّر ، فكيف يصحّ اختلاف الجواب
فيهما بالحديّة والرسميّة؟
تقديس
(٤٢ ـ تعريف الحقيقة القيّومية متعالية عن الماهيّات الجائزات)
فاعلمن أنّ سنّة
الحقيقة القيّوميّة الوجوبيّة متعالية عن شاكلة هذه الماهيّات ، فإنّها على
الأحديّة الحقّة والبساطة المطلقة ، بخلاف البسائط الجوازيّة. فليس للعقول القادسة
إلى اكتناه حقيقة يعبّر عنها بالوجوب بالذّات سبيل أصلا ، بل إنّما يعقل مفهوم
الواجب بالذّات من غير أن يدرك شيء هو حكايته وعنوانه. لكنّ الفحص يشهد بلسان [٨١
ظ] البرهان : أنّ في التّقرّر قيّوما لو أدرك بذاته ، كان مفهوم الوجوب الذّاتيّ
والواجب بالذّات عنوانا له وحكاية عنه. فهذا المفهوم له كعنوانات الجوهريّات
للماهيّات. إلّا أنّ تلك بحسب إدراك القوى العاقلة ونيلها ، وهذا بحسب شهادة
البرهان وحكمه ، مع أنّ العقول النّوريّة ليست بعقليّتها تنال من المشهود له شيئا.
فإذن قد انفصلت وانحازت نسبة الوجوب بالذّات إلى البارئ الحقّ تعالى عن نسبة
عرضيّات الماهيّات وجوهريّاتها إليها على الإطلاق.
فإذن ، شرح اسم
القيّوم الواجب بالذّات يضطرّ العقل إلى أن يستأنف توسّعا آخر في التوسّع المألوف
الشّائع في بسائط الجائزات على نمط أرفع واسلوب أقدس ، ويعبّر في زبر السّالفين عن
استيناف التوسّع في التوسّع بالاضطرار ، ويجعل مقابلا للتوسّع وشقيقا له. وبالجملة
إذ هو ، جلّ ذكره ، منفصل الحقيقة عمّا عداه مطلقا ، فليس له لازم يوصل تصوّره
العقل إلى حقيقته ، بل لا وصول للعقول إلى حقيقته. فإذن ، كما لا حدّ له ، لا
تعريف له يقوم مقام الحدّ على التوسّع ، بل هناك ضرب آخر من التوسّع يعرف
بالاضطرار.
تشريق
(٤٣ ـ المعنى المصدرىّ لا يكون من عوارض الذّات والماهيّة)
كلّ معنى مصدريّ
يكون مبدأ انتزاعه من الشّيء ذاته بذاته ، لا باقتضاء الذّات لذلك ، ولا باعتبار
حيثيّة من الحيثيّات مع الذّات أصلا لا تقييديّة ولا تعليليّة ، فإنّ ما في ذلك
الشّيء مطابق الانتزاع ومصداق الحمل بالذّات [٨١ ب] يجب أن يكون إمّا نفس ماهيّته
، كما في الإنسانيّة بالنّسبة إلى ذات الإنسان ، أو شيئا ممّا يدخل في جوهر
الماهيّة ، كما في الحيوانيّة بالنّسبة إليه. وبالجملة ، لا يكون ذلك المعنى من
لواحق الذّات وعوارض الماهيّة ، فإنّ شيئا من العوارض اللاحقة ليس ينتزع من
الذّات بما هي هي
، ولا يحمل عليها بنفس جوهر الماهيّة.
تقديس
(٤٤ ـ وجوب التّقرّر للقيّوم الواجب يكون بنفس ذاته)
أما بان لك ، في
ما سلف ، تصحّح قولنا : كما أنّ لازم الحقائق المختلفة يجب أن يكون في الحقيقة
لازما للطباع المشترك ومستندا إليه ، والخصوصيّات بأسرها ملغاة ، فكذلك المعنى
المصدرىّ المنتزع من ذاتين بنفس الذّات ـ لا بحيثيّة ما وراء الذّات ، تقييديّة أو
تعليليّة ، كما الإنسانيّة من زيد وعمرو ، والحيوانيّة من الإنسان والفرس ـ يجب أن
يكون ما هو مبدأ انتزاعه بالحقيقة ومطابق حمل المشتقّ منه بالذّات ، هو الطباع
المشترك بين الذّاتين. ولا حظّ لشيء من الخصوصيّتين بخصوصهما من الدّخول في ذلك
إلّا بالعرض ، وإلّا لم يكن يسوغ الانتزاع والحمل بالنّظر إلى الخصوصيّة الأخرى.
وكذلك الوجود المنتزع من الماهيّات المتغايرة إنّما مناط منشئيّة انتزاعه حيثيّة
مشتركة بين الجميع هي حيثيّة الصدور عن القيّوم الواجب بالذّات والاستناد إليه ؛
ولا مدخل في ذلك لخصوصيّة ماهيّة ما بخصوصها أصلا.
فالوجود إنّما
ينتزع من الإنسان المتقرّر ، مثلا ، ويحمل عليه بما هو صادر عن القيّوم الواجب
بالذّات ومستند إليه ، لا بما هو على خصوصيّة الانسانيّة ؛ وكذلك في قاطبة
الماهيّات. وقد كنت دريت أنّ الوجود ووجوب التّقرّر والوجود يجب أن يكون للقيّوم
الواجب [٨٢ ظ] بالذّات بنفس ذاته ، لا بحيثيّة ما غير الذّات أصلا.
فإذن لو فرض قيّومان
واجبان بالذّات ـ تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن ذلك علوّا كبيرا ـ لكان مبدأ
انتزاع الوجود ووجوب التّقرّر والوجود من كلّ واحد منهما ، ومطابق حمله عليه
بالذّات هو الطّباع الذّاتىّ المشترك بينهما ، لا محالة ، وكانت الخصوصيّات ملغاة
بالضّرورة الفحصيّة والغريزة العقليّة. فحينئذ نقول : ذلك الطّباع المشترك إمّا
نفس الماهيّة المستتمّة التقوّم ، وإمّا داخل في الماهيّة ، وقد استبان لك سبيل
إحالتهما جميعا.
تقديس
(٤٥ ـ الوجوب بالذّات عنوان حقيقة القيّوم بالذّات)
إنّك مهما حصّلت
ما أصّلناه لك : ـ «أنّ الوجوب بالذّات هو بنفسه حقيقة ومبدع ، لا
أنّه وصف لماهيّة
أو عارض لحقيقة ، و [أنّ معنى قولنا إنّه] واجب التّقرّر والوجود : أنّه يجب
تقرّره ووجوده بنفس حقيقته ، وحقيقته وجوده ، ووجوده وجوبه ، لا أنّه ما يجب وجوده
، أى : شيء متقرّر موضوع فيه الوجود أو الوجوب. إذ ليس يتصوّر هناك محمول وراء نفس
الموضوع ، وهو الواحد الحقّ والأحد البحت» ، ورسخ في سرّك عرق استتقانه واستحصافه
، وأنت مستقيم الجبلّة ، مستوى الغريزة ، ملقّح العقل بلقاح الاصول الحكميّة ،
معاير النظر بمعايير الأحلام الفحصيّة ـ
انصرح لك أنّ مصداق ذلك الحمل وهو نفس
ذات الحقّ بالذّات من دون قيام شيء به أو انتزاع مفهوم عنه أو إضافته إلى شيء أصلا
، هو الّذي قصارى عقليّة العقل أن يعبّر عنه بالوجوب بالذّات والقيّوم الواجب
بالذّات ، ويجعل ذلك شرح اسمه وعنوان حقيقته ، من غير أنّ له سبيل إلّا إلى مجرّد
المفهوم المعبّر به ، إذ هو المتمثّل فيه [٨٢ ب] ، وذو العنان والمعبّر عنه ليس
للعقول أن تناله وتصل إلى إدراكه.
فإن كنت قد تعوّدت
تثقيف البصيرة النافذة في عمق العلم وسمك الحكمة ، تعرّفت وتحقّقت : أنّ صرف
الوجود الواحد الحقّ ، الّذي يمتنع أن ينقسم في ذاته ويتطرّق إليه التّحليل إلى
شيء من وجوه الأثنوة أو انتزاع شيء من اعتبارات الكثرة ، ليس يمكن أن يختلف بالعدد
، وكلّ ما يقدّر أنّه ثان له فهو بعينه. والتقدير باطل ، لأنّ المعبّر عنه بالوجوب
بالذّات قطعىّ الاشتراك بين اللذين هما مفروضا الوجوب بتّة. فإذ ليس هناك إلّا
الحقيقة البسيطة الحقّة الصرفة لم يكن يتصوّر اختلاف بالعدد أصلا.
وبالجملة ، وجوب
التّقرّر والوجود بالذّات يستحيل أن يكون عارضا لماهيّة ؛ وإلّا لكان معلولا في
ذاته ، فلم يتصوّر أن يكون ينبوع الوجوبات ومفيض الحقائق بأسرها. وأيضا كانت تلك
الماهيّة في مرتبة نفسها عروا عن الوجوب بالذّات. ثمّ إذا هي متكسّية به أخيرا ،
فكانت بحسب مرتبة ذاتها ، إمّا ممكنة بالذّات ، أو ممتنعة بالذّات ، أو فاسخة ضابط
القسمة المستوفاة الحقيقيّة المستغرقة قاطبة الذّوات والمفهومات والعقود بقاطبة
الاعتبارات. فإذن هو بنفسه حقيقة بالذّات ، وليس يعقل فيه وقوع الاسم بالاشتراك
على مختلفين بالمعنى.
فلو فرضت هناك
اثنوة ، كان التميّز والتخصّص ، لا محالة ، بأمر آخر زائد على
حقيقة الوجوب
بالذّات. فإن كان من لوازم نفس الحقيقة كان نوعها في شخصه ولم تكن اثنوة. وإن كان
لاحقا غريبا افتيق إلى علّة منفصلة عن الحقيقة ، وانخرق فرض الوجوب بالذّات لكلّ
من الاثنين المفروضين. ثمّ أيّا ما كان ، يلزم أن يكون الوجوب بالذّات طبيعة مرسلة
متشخّصة بنفس [٨٣ ظ] الذّات. وذلك غير مشكوك ، في إحالته ، بما بان لك في ما قد
سلف.
تقديس
(٤٦ ـ انتظم برهان التّوحيد نظمه الطبيعىّ)
ومن أسلوب آخر ، أما
كان قد تبرهن لك امتناع أن تستند طبيعة ما وحدانيّة بما هي طبيعة واحدة إلى
طبيعتين مختلفتين ، وسواء في ذلك التعاقب على التعقّب والتبادل من بدء الأمر
والعلّة الجاعلة وسائر العلل. فإنّما العلّة على ذلك التقدير الطباع المشترك ،
وليس يصحّ أن يكون مفهوم واحد لازما لكلّ من الحقائق المتكثّرة بخصوصيّتها ، بل
إنّما الملزوم هناك بالذّات ما هو القدر المشترك ، وهو أمر واحد.
فإذن لو فرض تعدّد
الواجب بالذّات على أن يكون مفهوم وجوب الوجود من العرضيّات اللازمة ـ تعالى
الواجب الحقّ عن ذلك علوّا كبيرا ـ كان الملزوم بالذّات لطبيعة وجوب الوجود إنّما
هو الطّباع الذّاتىّ المشترك بين الواجبين. فإذن ، يلزم أن يكون الواجب بالذّات قد
فاتته البساطة الحقة ، واعتراه أن يكون ذا ماهيّة مرسلة غير متشخّصة بنفس الحقيقة
، جلّ عن ذلك كلّه مجده وعزّه.
وأيضا ، ألسنا قد
نبّهناك : أنّ في طبيعة الماهيّة الجوازيّة تقرّرها وفعليّتها بالاستناد إلى
الواجب بالذّات ، ومن طباع الوجوب بالذّات إبداعها وتأسيسها بالجعل والإفاضة. وما
لا يكون استناد ماهيّة ما إليه مناط تصحّح فعليّة تلك الماهيّة ومستتبع انتزاع
الوجود المطلق الفطريّ منها بالفعل ، فإنّه لا يستحقّ اسم الواجب بالذّات ، ولا
يستوجب نصيبا من مفهوم المتقرّر بنفسه بحكم الحدس وقضاء البرهان؟
فإذن ، لو اختلف
الواجب بالذّات بالعدد ـ تعالى عن ذلك ـ كان استناد [٨٣ ب] كلّ ماهيّة جائزة
بعينها إلى كلّ من الواجبين موجب فعليّتها ومصحّح انتزاع الوجود المصدريّ منها وحمل
الموجود المشتقّ منه عليها ، إذ لو تخصّص ذلك بأحدهما
بعينه لم يكن
الآخر واجبا بالذّات. فإذن ، تعود خصوصيّة كلّ منهما ملغاة في الحكم ، ويرجع الأمر
في مناطيّة الجاعليّة والمفيضية واستتباع الوجوب ، فالوجود المعبّر عن ذلك
بالإيجاب ، ثمّ الإيجاد إلى القدر المشترك الذّاتيّ بين حقيقتى الواجبين.
ثمّ إنّه يختصّ
حينئذ وجوب الوجود ولوازمه بذلك الطّباع المشترك ، وتنحاز خصوصيّة كلّ بخصوصه عمّا
هو حقيقة الوجوب بالذّات وينخرق ما ريم بالفرض. فإذن ، قد انتظم برهان التّوحيد
نظمه الطبيعىّ من أنهاج شتّى واستقام ما سلكته سلّاف الشّركاء من رؤساء العشيرة
العقليّة من قبل.
تقديس
(٤٧ ـ المجعول الأوّل يستدعى الجاعل الواجب بالذّات)
هل تعرّفت في
تضاعيف العلم الرّبوبىّ : أنّ المجعول الأوّل ، بما له الفاقة المقتضاة لطباع
الجواز ، يستدعى الجاعل الواجب بالذّات ، وبما أنّه بخصوصيّة هويّته أكرم
المجعولات المفارقة وأقدس المفارقات المجعولة وأتمّ الأنوار العقليّة المبدعة ،
يأبى إلّا أن يكون في سلسلة البدء أقرب المبدعات من المبدع الحقّ ، فليس يتعلّق في
تجوهره ووجوده إلّا بالقيّوم الواجب بالذّات ، ولا يفتاق مطلقا إلّا إليه؟ وقد
كنّا أدريناك في ما سلف : أنّ من خواصّ القيّوميّة والوجوب بالذّات أن يتصحّح
التّقرّر والوجود ، لأيّ شيء كان من الجائزات ، بالاستناد إليه بالفعل ، لا بوسط
أو بوسوط ولا بشرط أو بشروط.
فإذن لو فرض
واجبان [٨٤ ظ] بالذّات ، كان المجعول الأول بخصوص هويّته بالقياس إلى كلّ منهما ،
بحيث يكون استناده إليه بالفعل مصحّح فعليّة التّقرّر والوجود له ، البتّة. فإن
كان ذلك بالقياس إلى خصوصيّتهما ، بما هما الخصوصيتان ، كان يصحّ لهوية واحدة
علتان مستبدّتان. وإن كان بالقياس إلى أمر واحد هو طبيعة مشتركة بينهما ، كانت
هوية شخصيّة مجعولة طبيعة مرسلة بما هي مرسلة ، لا بما هي متشخصة.
تقديس
(٤٨ ـ الناظم للنظام الجملى الواحد الأتمّ نظام الخير قيّوم واحد)
هل أتاك نبأ ما
أصّلناه نحن لمعاشر الحكماء الرّبّانيّين في أمر النظام الجملىّ لعوالم
الجواز المعبّر
عنه بنظام الخير : أنّه شخصىّ واحد بالارتباط والاجتماع بالفعل في وعاء الوجود
الّذي هو الدهر وإن كان متكثّرا بالأجزاء والتأليف ، فإنّ ضرورة وجود الشّيء عند
وجود أجزائه بالأسر من الفطريّات ، وليس يعتبر تألّف الشخص الجملىّ إلّا من
الموجودات بالأسر؟
وأيضا للهيئة
الجمليّة والمرتبة الاجتماعيّة ، كالخمسيّة والعشريّة ، مثلا ، معروض حاصل بالفعل
في الأعيان بتّة ، بكون العروض بحسب الأعيان وإن كان في الذّهن ، لأنّ العارض ،
أعني المجموعيّة ، من الاعتبارات الذّهنيّة ، وليس هو شيئا من الآحاد والعضين ،
فيكون هو ، لا محالة ، المجموع. وكلّ مجموع آحاد من شخصيّات صرفة أو هويّات شخصيّة
وطبائع مرسلة ، فإنّه بهويّته المجموعيّة شيء وراء الأجزاء ، وإن هو إلّا واحد
شخصىّ ليس يحتمل الشركة.
ثمّ هل استنام
سرّك إلى ما برهنّا عليه : أنّ الشخص الجملىّ أتمّ ما يعقل من النظامات وأسبغها
وليس يسوغ أن [٨٤ ب] يتصوّر نظام آخر هو فوقه تماميّة وكمالا ، أو في حيّزه خيريّة
وسبوغا. فالأتمّ من هذا النظام ليس من مفهومات هي لحقائق سائغة التّقرّر ، بل هو
مفهوم يختلقه الذّهن. ونظام الخير التامّ الشريف السّائغ يأبى إلّا أن يكون نوعه
في شخصه الحاصل بعينه. أليس ما ليس وجوده في مادّة أو عن مادّة لا يعوزه استعداد
مرهون بأمد واستحقاق مربوط بأجل ، فيمتنع أن يكون ممنوعا عن قسطه الأوفر ، أو
معوّقا عن كماله الأوفى وأن يكون نوعه متكثر الأشخاص. وأيضا قانون الإمكان الأشرف
منسحب الحكم على كلّ ما ليس تحت الكون وفي افق الزمان ومتيهة الهيولى.
وأيضا ، القيّوم
الواجب بالذّات هو الّذي بذاته يعقل النّظام الجملىّ الواحد بالشخص ، إذ لا خارج
عنه سواه. وما لم يكن المجعول من جاعله التامّ على أقرب النّسب بالقياس إلى غيره
لم يتخصّص ممّا عداه بالاستناد إليه بتّة. فإذ الجاعل تامّ وفوق التمام ، وهو
بذاته يعلم ذاته ولوازم ذاته بذاته ، فلمّا عقل من ذاته خيريّة نظام الكلّ على
الوجه الأتمّ الأسبغ والكمال الأفضل الأقصى أوجبت عنايته وجواديّته أن يفعله
بذاته.
فكما أنّ النّور
المفارق ، أعني الجوهر العقلىّ ، يتحد فيه مطلب «ما هو» ومطلب «لم
هو» ، وعلّته
الفاعلة هي علّته الغائيّة ، وأيضا علّة بدئه هي بعينها علّة تمامه ، إذ ليس
يتصوّر هناك بدء متقادم وتمام متراخ ؛ فكذلك النظام النظامىّ الجملىّ ، فمهما علم «ما
هو» ، وعلم أنّ بدأه هو بعينه تمامه ، ووجوده بعينه كماله ، وفاعله هو بعينه غايته
وليس يعقل له خير مرجوّ وكمال مرتقب ، إذ ليس هو حاصل الفعليّة [٨٥ ظ] عن الهيولى
القابلة قائم الوجود فيها ، فهو ، لا محالة خير ما يمكن ، وأفضل ما يصحّ وأكمل ما
يتصوّر.
فإذن إذا لوحظ
الشخص الجملىّ بوحدته الشّخصيّة ، بان أنّ فاعله وغايته بالذّات وبالقصد الأوّل
إنّما هو الجاعل الّذي هو مبدأه بذاته من غير وسط وشرط أصلا. وإذا ريم تشريحه
والنظر فيه على سنّة المشرّحين ، استبان أنّ أشرف أعضائه النّوريّة العقليّة
وأفضلها هو أقرب أجزائه من الجاعل الحقّ في سلسلة البدء ، وأكرم المجعولات وأقدمها
بحسب الترتيب من تلقاء جوده ، ثمّ يتلوه في المجعوليّة ما يتلوه بالرتبة ، وهكذا
إلى أن يبلغ الأمر أقصى الوجود.
فإذن ما أسهل ما
يتأتّى لك بالاصول المعطاة أن ترى من قطعيّاتك أنّ تعدّد الواجب بالذّات مبدأ
استيجاب طباع مشترك يستند إليه شخص هذا النظام الجملىّ المتّسق ، فيلزم أن تكون
العلّة الجاعلة للهويّة الواحدة بالشخص طبيعة مرسلة ، وذلك أمر غير سائغ ، فيفسد
النظام الشخصىّ المتّسق. فإذن ، قد انصرح كنه الأمر وبزغ نور الحقّ وذاع سرّ ما قد
قيل : «أبى النظام شمسين ، فكيف لا يأبى إلهين». فربّما يقال من باب ضرب الأمثال :
«نور الأنوار شمس عالم العقل» وإن كان لا نسبة بالحقيقة بين النّسبتين أصلا.
ولعلّ هذا الأسلوب
أدقّ الأساليب وأحقّها في قول الله العظيم في القرآن الحكيم : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) (الأنبياء ، ٢٢).
فمعاد ضمير التثنية جملة عوالم السّماويّات من العقول والنفوس والأجرام ، وعوالم
الأسطقسّيات [٨٥ ب] من الأجسام والطّبائع والقوى والنفوس. وأمّا مسألة التمانع وما
يجري مجراها ، فإنّما تورد على سبيل قشور الأقوال لإرشاد الغاغة من العوامّ ، لا
على سياق لبّ الأسرار والحقائق المقشوّة لإدراك الراسخين في العلم من الخاصّة.
تقديس
(٤٩ ـ القيّوم الواجب هو الوجود الصرف الحقّ)
أليس لا ميز في صرف
شيء ، فصرف الوجود الّذي لا أتمّ منه ، وهو تامّ المجد والبهاء ، وفوق التمام بما
لا يتناهى من القوّة والشدّة ، كلّ ما فرضته على أنّه ثان له ، فإذا حدّقت النظر
فيه لم تجده إلّا نفس الأوّل ، فكان هو بعينه.
فالقيّوم الواجب
بالذّات ، إذ تقدّس عن ماهيّة وراء الوجود ، فهو النّور الحقّ المحض والوجود
الصّرف البحت ، الّذي لا يشوبه شيء ، من خصوص وعموم وتحيّث وإرسال أصلا ، وهو كلّ
الوجود وكلّه الوجود ، وكلّ البهاء والكمال ، وكلّه البهاء والكمال ، وما سواه على
الإطلاق لمعات نوره ورشحات جوده وظلال ذاته. وإذ كلّ هويّة من نور هويّته ، فهو
الحق المطلق ، ولا هو على الإطلاق إلّا هو ، وأنّ تعدّده محال بالذّات ، لا في
الأعيان فقط ، بل وفي التّصوّر أيضا.
فإذن ، كلّ ذى
ماهيّة مجعول ، والجاعل لا ماهيّة له ، وهو الأول الحقّ. والثوانى وهي قاطبة ما
سواه لها ماهيّات هي بأنفسها أفراد مفهوم ما بالقوّة ، وفي حيّز ذواتها بما هي هي
جائزة التّقرّر والوجود ، وليس تعرض لها الفعليّة إلّا من تلقائه. فذوات الماهيّات
منه تفيض ماهيّاتها ووجوداتها على الاستغراق الحاصر الشّمولىّ ، وهو مجرّد الوجود
المحض بشرط سلب العدم [٨٦ ظ] عنه من كلّ جهة ، وكذلك سائر الزّوائد.
ولسنا نعنى بهذا :
أنّه الموجود المرسل المشترك فيه ، فذلك ليس الموجود المطلق المجرّد بشرط السلب ،
بل الموجود لا بشرط الإيجاب ؛ ولكنّا نعنى في الأوّل الحقّ أنّه الموجود مع شرط لا
زيادة تألّف وتحيّث. والمرسل هو الموجود لا بشرط الزيادة ، فلذلك ما أنّ المرسل
يحمل على كلّ شيء ، وهذا لا يحمل على ما هناك زيادة ، وكلّ شيء غيره فهناك زيادة.
تقديس
(٥٠ ـ كافّة الماهيّات ترتبط بواحد حق قيّوم)
إن اجتهدت في
استتقان القوانين الملقاة إليك ، لم تر عضيلا على الحادس الشديد الحدس أن يحدس ،
من اشتراك كافّة الماهيّات والهويّات الجوازيّة ، في معنى الوجود المرسل الفطريّ
المنتزع منها بحسب التّقرّر في الأعيان ، ارتباطها وتعلّقها طرّا بواحد حقّ قيّوم
بذاته هو حقيقة الوجود ومبدأ انتزاع الموجوديّة.
فقاطبة الجائزات
مشترطة في هذا الرباط ، متفقة في هذا العلوق ، (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (الملك ، ٣). (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) (إبراهيم ، ١٠).
وبالجملة لو استندت إلى فاطرين مختلفين بالحقيقة لم يكن يتهيّأ أن ينتزع منها
قاطبة معنى واحد فطرىّ الوحدة هو الوجود ، (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا
يَصِفُونَ) (المؤمنون ، ٩١).
تقديس
(٥١ ـ الصفات الكماليّة في الماهيّات ظلال الكمالات في القيّوم بالذّات)
فإذن ، وحدة
الوجود الانتزاعيّ ظلّ وحدّته الحقّة ، تقدّس شأنه وتمجّد سلطانه ، وبساطته لمعة
أحديّته المطلقة [٨٦ ب]. وإذ قد دريت أنّ الوجود هو نفس صيرورة الشّيء ، والواحد
الحقّ هو مصيّر الأشياء بأسرها ، لست أقول : إنّه يصير الماهيّات ماهيّات
والهويّات هويّات ، كما هو سبيل التصيير المؤلّف الّذي متعلقة الهيئة التأليفيّة ،
بل إنّه يصيّر الماهيّات والهويّات على سنّة التصيير البسيط الّذي أثره ومتعلّقة
نفس الحقيقة ، فهو مبدأ انتزاع الصيرورة والكون عنها بأسرها.
فإذن ، قد انصرح
لك ، لو كنت على ثقاف البصيرة ، أنّ بارئ الماهيّات ومفيض الهويّات هو بالحقيقة
وجود زمر الموجودات وموجدها معا ، لا أنّه موجدها فقط ، أعني أنّه موجدها بالوجود
المنتزع منها ووجودها الوجود الحقيقيّ الّذي هو بذاته مبدأ أن ينتسب هي إليه
بالارتباط الصدوريّ ، فينتزع منها الوجود الانتزاعىّ. فهو وجود الماهيّات وراسمها
، غير داخل فيها ، بل مفصّلا عنها بذاته ، وإنّما هو قيّوم بذاته تلزمه نسب لاحقة
وإضافات عارضة.
ولا تقيسن ذلك بما
يقرع سمعك : «أنّ الشّعلة المجتالة ، والنقطة الفاعلة ، والحركة التوسّطيّة ،
والآن السيّال ، امور بسيطة شخصيّة ترسم متصلات ، هي منفصلة عنها مباينة إيّاها ،
وهي مستمرّة الهويّات الشّخصيّة غير مستقرّة النّسب اللاحقة إلى الحدود المفترضة»
، فإنّ الأمر هناك أقدس من أن توصف وأعلى من أن يقاس. واعتبر الحكم في سائر الصفات
الكماليّة على هذا السنّة ، فقد عرّفك مسلف القول : «أنّه لا يهب الكمال القاصر
عنه ، وما ليس الكمال عين ذاته فهو قاصر عنه».
فكما مطلق الوجود
منته إلى [٨٧ ظ] الوجود القائم بذاته ، فكذلك مطلق العلم [منته] إلى العلم القائم
بذاته ، ومطلق القدرة والإرادة والحياة [منته] إلى القدرة والإرادة والحياة
القائمة بالذّات. فسبيلها سبيل الوجود في أنّ النظر فيها بما هي هي يسلك بالعقل
إلى إثبات المبدأ الحقّ. ثمّ الفحص البالغ عنها يتأدّى إلى توحيده. فإذن ، الوجود
الانتزاعيّ وكمالاته المطلقة ظلال الوجود القائم بالذّات ، فإنّ استناد الذّوات
إليه بحسب كلّ اعتبار واسم مبدأ الاتصاف بفعليّة وكمال.
فإذن ، القيّوم
الحقّ : وجود الموجودات بمعنى ، وموجدها بمعنى آخر ، وعلم العلماء بمعنى ، ومفيض
العلم عليهم بمعنى آخر ، وكذلك قدرة القادرين ومقدرهم ، وحياة الأحياء ومحييهم ،
وإرادة المريدين وخالق الإرادة فيهم. فهذه أرصاد عقليّة ومعاريج حدسيّة ،
تولّيناها باستيقاد نور القريحة والاستصباح بزيت السّجيحة من بعد سلوك سبيل القدس
ورفض عالم الطّبيعة. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). (الحديد ، ٢١).
ظنون وتنبيهات
(٥٢ ـ تعريفات للتوحيد ليست مرضيّة عند المصنف)
فأمّا الّتي
كسبتها أيدى أنظار المتفلسفين ولفّقها ألسن أفكار المتعسّفين فهى بالسفسطة أشبه
منها بالفلسفة ، وإلى المغالطة أقرب منها إلى البرهان.
[١] كقولهم : «لو
تعدّد الواجب بالذّات فإمّا أن يكون بينهما تلازم في الوجود ، فيكون أحدهما علّة
للآخر ؛ أو هما معلولى علّة واحدة ، أو لا ، فيمكن أن يتحقّق أحدهما مع عدم الآخر
، وهو إمكان عدم الواجب».
[٢] وقولهم : «التكثّر
إمّا أنّه يجب [٨٧ ب] بالنّظر إلى طباع الوجوب بالذّات ، فيلزم أن يتحقق الكثير من
دون الواحد أو أنّه يمكن بالنّظر إليه ، فيجوز ارتفاعه ، وفيه جواز ارتفاع الواجب
بالذّات أو أنّه يمتنع بالنسبة إليه ، وهو الحقّ المطلوب» ، فإنّ فيهما تدليسا من
جهة خلط الجواز بالقياس إلى الغير بالجواز بالذّات.
[٣] وكقولهم : «مجموع
الواجبين ، أى : معروض الاثنوة ، جائز بالذّات للفاقة إلى الجزءين فيفتاق ، لا
محالة ، إلى علّة ولا يصلح للعلّة شيء من الجزءين ولا نفس
المجموع ولا أمر
خارج». فإنّ فيه تلبيسا من جهة الخلط بين معروض الاثنوة بما هو معروض الاثنينية ،
أى : بما هو مؤلّف ، وبينه بحسب خصوصيّة الأجزاء ، ثمّ بين فاقة التألّف وبين فاقة
الصدور ، فإنّما الجواز الذّاتىّ بحسب طباع التأليف مع عزل النظر عن خصوصيّة
الأجزاء ، فمهما استغنت استغنى وتكون الأجزاء بالأسر علّة تامّة ومجموع الأجزاء معلولا.
وبين الاعتبارين فرقان مبين ، كما في الحدّ والمحدود ، وسواء في ذلك أكان للمؤلّف
جزء صورىّ أم لا.
[٤] وكقولهم : «إنّ
الوجود الحقيقيّ بصرافته إمّا أن يمتنع تعدّده ، وهو المطلوب ، أو لا ، فتكون نسبة
مراتب الأعداد الّتي فوق الواحد إليه واحدة ، فلا يترجّح له شيء منها إلّا بعلّة
منفصلة. فالمعنى كما يفتاق في تعدّده إلى الغير ، فكذلك في تعيّن عدد بعينه له دون
غيره من الأعداد». فإنّ فيه نسيانا لتشكيك الأصل الّذي ريمت الفصية عنه ، وهو
تسويغ حقيقتين مفترقتين بتمام الماهيّة [٨٨ ظ] كلّ منهما وجود حقيقىّ يجهل كنهه ،
وليس هناك طبيعة مشتركة يسوغ بالنّظر إليها التعدّد.
تقديس
(٥٣ ـ إطلاق «الوجود لا في موضوع» على القيّوم الواحد ليس من قبيل الجنس)
ألسنا قد أوضحنا
لك : أنّ البارئ لا ماهيّة له ، فلا جنس له ، إذ الجنس مقول في جواب ما هو ،
والجنس من وجه هو بعض الشّيء. والبارئ قد تحقّق : أنّه أحد حقّ ، وبسيط محض. فإذن
، هو لا يشارك شيئا في معنى جنسىّ ولا نوعىّ ، حتّى يجب أن ينفصل عنه بمعنى فصلىّ
أو عرضىّ ، بل هو منفصل عن الأشياء بتمام ذاته.
ولا تظنّنّ : «أنّ
«الموجود لا في موضوع» يعمّ البارئ وغيره عموم الجنس ، لكونه الّذي اعتبرناه رسم
جنس الجوهر». فإنّه ظنّ مختلق ، والوجود زائد طار على الماهيّات من تلقاء جعل
الجاعل إيّاها. فكيف يصير الموجود المشتقّ منه ـ وهو مفهوم ما من العرضيّات
بانضياف معنى سلبىّ إليه ـ جنسا لمقولة؟ بل المعنى الّذي جنّسناه لمقولة الجوهر : «أنّه
الشّيء ذو الماهيّة المنعوتيّة الّتي حقّها : أنّها مهما كانت متقرّرة في الأعيان
كان وجودها وجودا ليس في موضوع وإن كان بشخصيتها وبحسب وجودها الشخصىّ في محلّ ؛
كما الصّور الجرمانيّة والصّور المنوّعة الطّبيعيّة». وهذا
المعنى غير مقول
على البارئ ، لأنه ليس بذى ماهيّة ، بل هو وجود صرف.
وكذلك أمر العرض
على هذه الشّاكلة : فإن جعلنا معناه : «أنّه الطبيعة الناعتيّة الّتي حقّها أنّها
مهما كانت متقرّرة في الأعيان كان وجودها في نفسها ، سواء أخذت بحسب شخصيّتها أو
بحسب طبيعتها المرسلة ، هو بعينه وجودها في موضوع» [٨٨ ب] ، جنّسناه لمقولات الأعراض
التسع. وإن جعلناه «الموجود بالفعل في الموضوع» ، قلنا : إنه من عرضيّات المقولات
التسع فقط ، بحسب التّقرّر في الأعيان ، ومن عرضيّات مقولة الجوهر أيضا بحسب
التمثيل الذهنىّ ، ولكن من جهة الشّخصيّة الذهنيّة بخصوصها ، لا من حيث الطبيعة
الجوهريّة المرسلة. فإذن ، مقولات الجائزات محصورة في الوقوع تحت جنسين عاليين ،
وتسع منها تحت واحد منهما بعينه ، وإنّما الأجناس في العشر للمتقرّرات بالذّات
ممّا له تأحّد جنسىّ.
وأمّا ما لا
يتحصّل تحصّلا وحدانيّا ولا يتأحّد تأحّدا جنسيّا ـ كمفهومات العرضيّات الّتي هي
موجودات بالعرض ولا حقيقة لها متحصّلة متأحّدة ، وفصول الأنواع الّتي هي بسيطة لا
جنس لها وإنّما تحمل الأجناس عليها بالعرض ، والأشخاص الّتي لا حقيقة لها نوعيّة»
، والأنواع الّتي لا طبيعة لها جنسيّة إن صحّ لها تحقق ـ فليس يقع في المقولات ،
ولا يقال عليه شيء من الأجناس قولا بالذّات ، وليس الحكم بالإحاطة التامّة والقسمة
المستوفاة بالقياس إلى ذوات الطبيعة الجنسيّة يستضرّ بذلك. [وذلك ، كما إذا قيل : المدن
محصورة في بلاد عشرة ، سنّة التمدّن فيها على شاكلتين ، ثمّ وجد قوم بداة لا
يتمدّنون ، فإنّه ليس ضارّا في ذلك القول]. فهذا سبيل الحكمة المستوية النضيجة.
فأمّا الفاشى في
الأذهان المشهوريّة الدائر على الألسن الجمهوريّة : «أنّ اعتبار المعنيين ، على
أنّ أحدهما عنوان الجنس العالى للمقولة ورسم حقيقته ، والآخر عنوان المفهوم
العرشىّ له ، ليس إلّا في الجوهر ، والعرض لا يجعل معناه إلّا الموجود بالفعل في
الموضوع الّذي هو من العرضيّات». أو «أنّ اعتبارهما مستمرّ في الموضعين ، لكنّهما
جميعا من عرضيّات مقولات [٨٩ ظ] الأعراض ، إذ لا جنس فوق الأجناس العالية. فالأوّل
يقال عليها قول مفهومات العرضيّات الّتي هي لوازم الماهيّات ، لا قول عنوانات الجوهريّات
الّتي هي مقوّمات الحقائق. «والثّاني يقال
عليها قول
العرضيّات الغريبة الّتي هي للذات بعلل خارجة عن جوهر الماهيّة».
فمن الفلسفة
الفجّة النيّة ، لا من الحكمة الحقّة السويّة ، وليس إلّا تحكّما غاسقا قد عارضه
الفحص ، وتقحّما عاصفا قد صادمه البرهان. أما تحقّقت أنّ مفهوما واحدا لا يلزم
أمورا مختلفة إلّا إذا كان هناك طباع مشترك هو الملزوم بالذّات حقيقة ، وإلّا لم
تكن الخصوصيّات ملغاة فلا يتلأب اللزوم على الاشتراك؟ ثمّ ما الّذي أوجب أن تكون
المقولات التّسع أجناسا عالية ، والماهيّة الناعتية طبيعة مشتركة بين الجميع بحسب
حقائقها المرسلة ، كما الماهيّة المنعوتيّة بين الجواهر جملتها بتّة؟
فإذن ، مرّ الحقّ
إن رفضت الملاجّة ليس إلّا تثنية الجنس الأقصى المبتدأ أوّلا ، ثمّ إدراج المقولات
فيهما على القسمة المستوفاة. وشريكنا السّالف في فنون «الشفاء» بين تناقض في القول
في هذه المسألة ومعصية للبرهان.
تقديس
(٥٤ ـ وحدة البارى تعالى ليست وحدة عدديّة)
هل بلغك قول
السّالفين الأولين : «وحدة البارئ الأوّل ، تعالى ، ليست وحدة عدديّة».
فاعلمن : أنّ
الّذي من فتاوينا في معناه المحصّل : هو أنّ الوحدة العدديّة هي ما تكرّرها محصّل
الكثرة ، إذ ليس حقيقة الكثرة إلّا الوحدات المتكرّرة ، وليست هي بمجهولة الكنه ،
ولا بممكنة القيام بنفسها. فإنّ لها موضوعا تخرج هي عن قوام ماهيّته وتعرضه بعد
مرتبة الذّات [٨٩ ب] ، لا بحسب نفس جوهر الحقيقة بتّة ، كما الكثرة ، وليست
حقيقتها إلّا نفس الوحدات المعروضة للتعدّد ـ كالاثنينيّة والثلاثيّة ، مثلا ، ـ يمتنع
أن تكون قائمة بنفسها ، إلّا بمعروض هو مجموع معروضات الوحدات بالأسر. ووحدة
الأوّل الحقّ وحدة قائمة بذاتها غير معلومة الكنه ، وجودها وتشخّصها بعينه نفس
ذاتها ، وتكرّرها ممتنع بالذّات بحسب الأعيان وبحسب تصوّر العقل جميعا ، إذ كلّ ما
يوضع بالفرض أنّه ثان لها ، فهو هي بعينها عند التّحديق فإذن ليست الوحدة العدديّة
مضاهيتها. بل هي أقدس وأرفع.
ومن سبيل آخر :
أنّ وحدة البارئ الفاطر لا يصحّ أن تكون شيئا من الوحدات الّتي تتألّف منها كثرة
ما ، فلا شيء من الكثرة يعقل [أن يتحصّل من وحدته ووحدة أخرى
غيرها ، لما قد
انصرح لك :] أنّ وحدته تعالى وحدة حقّة صرفة ليس يصح تحليلها إلى شيء وشيء أصلا.
بخلاف الوحدة العارضة لأيّة حقيقة فرضت من الماهيّات الجائزة. أليس كلّ حقيقة
جوازيّة فللعقل أنّ يفصّلها باللحاظ التحليلىّ إلى جنس وفصل ، وإلى ماهيّة وإنيّة؟
وهذا الأخير يستوعب قاطبة الجائزات ، حتّى الأجناس القاصية والفصول البسيطة. فكلّ
جائز زوج تركيبيّ. ولا وحدة في الطّبائع الجوازيّة مركّباتها وبسائطها ؛ بل إنّما
هناك تأحّد واتحاد ويتوسّع في التعبير عنه بالوحدة.
فالوحدة الّتي
للطبيعة البسيطة ، كالجنس القصيّة والفصول الذّاتيّة والقاصيّة ، ظلّ للوحدة
الحقّة الصرفة وكذلك الوحدة الشّخصيّة الّتي لأشخاص الجائزات. والوحدة الصرفة لا
تكون إلّا قائمة بنفسها ، واجبة الوجود بذاتها. فإذن ، ليس شيء من الوحدات العارضة
لما في عالم الجواز من جنس الوحدة القائمة [٩٠ ظ] بالذّات ، فلا شيء من الكثرة
يصحّ أن يتقوّم من الوحدة العارضة والوحدة الحقّة.
فمن البتيّات أنّ
شيئا من الكثرة لا يتألّف إلّا من الوحدات الّتي هي نوع واحد من الوحدة ، ضرورة
أنّ الكثرة إنّما تحصل بتكرّر الوحدة وتعدّدها ، إذ المفهوم من الوحدات الوحدة
المتكرّرة ، فما لم تتكرّر وحدة ما بأخرى مثلها لم تكن كثرة أصلا. فكلّ كثرة إنّما
أجزاؤها الوحدات العارضة ، ولا يعقل أن يقع في شيء منها الوحدة البحتة الحقّة.
فإذن ، ليست هي وحدة عددية هي مبدأ الكثرة ، بل هي خارجة عن أقسام الوحدة الّتي
يعرف كنهها.
فأمّا قولى في بعض
صحفى : «إنّ الكثرة في عالم التّقرّر غير مشكوك في تحقّقها ، وليست هي إلّا جملة
من الوحدات وتنتهى ، لا محالة ، إلى الّتي هي الصّرفة وإلّا لتمادت إلى لا نهاية ،
فلم تكن وحدة فلم تكن كثرة. فإذن ، الوحدة الصّرفة مبدأ الكثرة ، ولا وحدة في عالم
الجواز صرفة. فالواحد الجائز على الإطلاق زوج تركيبيّ متأحّد من ازدواج حيثيّتين
مختلفتين. فإذن ، قد وجب الانتهاء إلى الوحدة الحقّة الوجوبيّة بالذّات لتكون مبدأ
الكثرة».
فإنّما عنيت به :
أنّه ليس بدّ من تحقّق الوحدة الحقّة ليتصحّح تحقّق الوحدة العارضة ، فيتقوّم الكثرة
من تكرّرها ، ضرورة أنّ الوحدة العارضة ظلّ الوحدة الحقّة و
مجعولتها ، فلا هي
لو لا هي ، فلا كثرة أيضا. لا أنّ الوحدة الحقّة من جملة الوحدات الّتي يأتلف منها
الكثرة. فليس أنّى وضعت ثمّ رجعت ، بل إنّما المبدأ في الموضعين بمعنيين على
اشتراك اللفظ.
ولشريكنا السّالف
في «المباحثات» و «التعليقات» (ص ١٠٠) بيان على اسلوب دقيق ، حاول التلميذ في [٩٠
ب] «التّحصيل» (ص ٥٧٠) أن يشرحه ولم يأت بمشبع. فحقّ تلخيصه : أنّ من الوحدة ما
سلب الكثرة من لوازمه ، ومنها ما هو من لوازم سلب الكثرة. وأولات الماهيّات ليس
معنى الوحدة فيها بعينه سلب الكثرة بحسب جوهر الحقيقة وفي مرتبة نفس الذّات ، بل
كلّ ذى ماهيّة فإنّ وحدته أمر غريب عن حقيقته تلحق ذاته ، كما إنّيته أمر غريب
داخل على حقيقته حين ما هي متقرّرة من الغير على أن هي بنفس جوهرها مستفادة منه.
فكما الوجود ليس من حيث نفس الماهيّة بما هي هي فكذلك الوحدة ليست من جهة نفسها.
وأيضا معنى الوحدة
، في كلّ ما له ماهيّة ، ما يصير به جملة معان أمرا متأحّدا ، ثمّ طبيعة ذلك الأمر
شيئا واحدا بالشخص غير مشارك في ذاته الشّخصيّة من جهة ما يخصّه من نحو الوجود
المتخصّص المستفاد من الوجود المتشخص بذاته. فإذن ، كلّ ماهيّة إنّما تكون واحدا
بوحدة دخيلة عليه من جهة تأحّده وتوحّده.
وأمّا الوجود
الحقّ ، فإذا وصف بأنه واحد ، فمعناه : أنّه بذاته ، لا بحيثيّة ملتقطة من ذاته
ولا لسبب خارج ، عنه ، بحيث لا ينقسم ولا يتكثّر بوجه أصلا ، ولا يتصوّر له نظير
ولا وجود في رتبة وجوده ، فسلب الكثرة هناك بحسب مرتبة الذّات ومن حيث نفس الحقيقة
، وليست الوحدة من لوازم (لواحق ل) الحقيقة. فهو وجود بحت مسلوب عنه الكثرة
والشركة والازدواج من ماهيّة وإنيّة ووجود ووجوب. ورسم حقيقته : أنّه لا اسم له
يدلّ به على نفس الحقيقة. وشرح اسمه : أنّه يجب وجوده [٩١ ظ] بلا علّة ، لا ما يجب
وجوده.
فإذن ، الوحدة في
صفاته تعالى ليست معنى وجوديّا بحسبه يستوجب الذّات سلب الكثرة ، كما هي في
الذّوات الجائزة والموجودات الفاقرة ، إذ يلحقها وحدة ، فتكون هي واحدة بتلك
الوحدة. بل معناها أنّه غير مشارك في وجوده وفي رتبة كما
له ومجده الّذي
يخصّه ، فهذا سلب محض ، إلّا أنّه يلزمه في العقل وجود ، وهو أنّه واحد بذاته.
وبالجملة ، لا يعقل له وحدة تلحق ذاته ، فيكون هذا واحدا بتلك الوحدة ، بل وحدته
سلب الشريك عنه بنفس ذاته.
ومن هذا النّمط ما
قال فيثاغورس ، واستمرّ عليه الفيثاغوريّون :
«تارة إنّ الوحدة
: إمّا وحدة غير مستفادة من الغير ، وهي مبدأ المخلوقات ، وتارة إنّ الوحدة على
الإطلاق وحدة قبل الدهر ووحدة مع الدهر ووحدة بعد الدهر ، وهذه وحدة النفس ، ووحدة
مع الزمان وهذه وحدة الأسطقسات والمركّبات».
إلّا أنّ مقالتهم
: «ثمّ الأعداد هي مبادى الموجودات ، وإنّما اختلفت الموجودات في طبائعها ،
لاختلاف الأعداد بخواصّها» ، إلى سائر المعزوّات إليهم ، لا يستصحّها البرهانيّون
وربّما تعدّ مرموزات فاقرة إلى تأويلات.
تقديس
(٥٥ ـ مبحث العلم ، علم الواجب الحقّ أكمل العلوم)
ألم يقرع سمعك في
أضعاف الصّناعة : أنّ المعقوليّة مطلقا هي وجود الشّيء للموجود المفارق ، وعاقليّة
الموجود [٩١ ب] المفارق هي وجود شيء له. ففى العقل الحضوريّ يوجد الشّيء بعينه له
، وفي العقل الانطباعىّ بصورته المتمثلة فيه. ووجود المعقول بما هو معقول في نفسه
هو بعينه وجوده لعاقله ، وجوده لعاقله هو بعينه عقله اياه. وكذلك المحسوس بما (ممّا)
هو محسوس ، وجوده في نفسه هو بعينه وجوده للجوهر الحاسّ ، ووجوده للجوهر الحاسّ هو
بعينه محسوسيّته له وحاسيّته الحاسّ إياه.
وبالجملة ، مطلق
العلم هو بعينه الوجود للعالم. والصّادّ عن التعقّل ليس إلّا الهيولى وعلائقها.
فالجوهر البريء الذّات عن علائق المادّة ، إذ وجوده لذاته ، لا للمادّة. فذاته غير
محتجبة من ذاته ، بل وجوده لذاته هو بعينه عقله لذاته. وبالجملة فالذي ذاته له ،
فهو عقل ذاته معقول ذاته وفيكون ذاته ، بما هي متقرّرة ، موجودة لنفسها عقلا وعاقلا
ومعقولا ، فوجوده هو بعينه الصّورة العقلية من ذاته لذاته.
وأمّا الوجود
الصّورىّ العقلىّ في العقل [الارتسامىّ ، فهو الوجود الّذي إذا تقرّر في الشّيء
صار للشىء به عقل. والّذي] يحتمل نيله هو عقل بالقوّة. أعني العقل بالملكة
بعد العقل المنفعل
الهيولانىّ. والّذي ناله بعد القوّة هو عقل بالفعل على سبيل الاستكمال. فإذن ، ما
أيسر لك أن تستيقن أنّ الجوهر المفارق الذّات مدرك ذاته ، وإدراكه ذاته ليس يزيد
على وجوده ، وإنّما يزيد على ماهيّته ، إذ ليست ماهيته هي بعينها إنّه.
وأمّا الموجود
الحقّ المتقدّس عن الماهيّة ، فضلا عن الموادّ والعهد وسائر ما يجعل الماهيّة بحال
زائدة ، فهو ظاهر لذاته وبنفس ذاته. وإذ [٩٢ ظ] إنّه بعينه حقيقته ، أى : وجوده
ماهيّته ، وهو على أعلى مراتب التجرّد والتقدّس ، فعلمه بذاته كما ليس يزيد على
وجوده فكذلك ليس يزيد على نفس حقيقته ، وهو أكمل العلوم وأشدّها نوريّة وتقدّسا.
تنبيه
(٥٦ ـ الشّيء العاقل المجرد معقول نفسه وعقل ذاته)
إنّ الشّيء إذا ما
جرّده العقل تجريدا تامّا صارت صورته المجرّدة القائمة في محلّها المفارق معقول
المحلّ وعلمه. فما ظنّك به إذا تجرّد بنفسه وقام بذاته ، أينسلخ عن شأن المعقوليّة
أم يصير معقول نفسه وعقل ذاته.
فتفكّر : أنّ
الحرارة الّتي بها حارّيّة النار ما دامت قائمة فيها إذا تجرّدت وقامت بنفسها ، أتتعرّى
عن كونها حرارة ، أم تكون حارّة بنفسها وحرارة لذاتها؟ والضّوء الناعت للشمس إذا
ما تذوّت وقام بذاته أيهجر حقيقته الضوئيّة ، أم يستوى ذاته ويتمحّض ضوء لذاته
ومضيئا بنفسه؟ ثمّ اعتبر من ذلك وتدبّر في أمرك.
تقديس
(٥٧ ـ العلم والكمالات عين الحقيقة الحقّة)
ثمّ أما أسمعناك ،
من قبل ، أنّ العلم «كمال مطلق» للتقرّر والوجود بما هو تقرّر ووجود ، وما هو كذلك
لا يمتنع على نفس ذات الموجود الحقّ بذاته. وكلّ ما ليس يمتنع عليه ، فإنّه يجب
لذاته في نفس مرتبة الحقيقة ، إذ لا تصحّ في الوجود الرّبوبىّ جهة جوازيّة بحسب
مرتبة نفس الحقيقة ، بل الجواز العامّ هناك وجوب صرف ، لا غير.
فإذن ، قد وجب أن
يكون العلم ، وكذلك الكمالات الّتي هي مضاهيته ، عين الحقيقة الحقّة الواجبيّة ، [٩٢
ب] وإنّما نروم ب «الكمال المطلق» : ما كماليّته على
الإطلاق من كلّ
جهة ، غير متخلّل فيها قد وقد ، وحيث وحيث ، فإنّ الّذي يكون كمالا من جهة ونقصانا
من جهة يوجب ، لا محالة ، تجسّما أو تكثّرا بالفعل أو تركّبا في لحاظ العقل أو
يحلّله تحليلا في الذهن إلى شيء وشيء ، وقد تعالى القيّوم بالذّات عن ذلك كلّه
علوّا كبيرا.
تقديس
(٥٨ ـ القيّوم الحقّ هو علم محض لا كثرة فيه من جهة العلم)
لا يتوهمنّ أنّ
عالميّته ومعلوميّته ممّا تكثر الحيثيّة والاعتبار فيه ، فليس نفس كون المفارق
عاقلا ومعقولا يوجب اثنينيّة في الذّات ولا فى الاعتبار أيضا. بل الذّات واحدة
والاعتبار أيضا واحد ، إذ ليس تحصيل الأمرين إلّا اعتبار أنّ هويّة مجرّدة لذاتها
، وهو المعقولية ، وأنّ هويّة مجرّدة ذاتها [لها] ، وهو العاقليّة ، فههنا تقديم
وتأخير في الترتيب ، والغرض المحصّل شيء واحد بلا كثرة ولا قسمة أصلا. فالأشياء لا
تعقل إلّا بالقوّة العاقلة ، والقوّة العاقلة إنّما تعقل بنفسها ، كما كلّ شيء غير
الوجود يكون موجودا بالوجود ، والوجود موجود بنفسه ، لا بوجود آخر وراءه ، وكلّ
شيء يكون مضافا بإضافة ، والإضافة هي المضاف بذاته ، لا بإضافة أخرى.
والزمانيّات
تتقدّم وتتأخّر بالزمان ، والزمان بنفسه لا بزمان آخر. والأشياء تظهر بين يدى
الحسّ بالنور ، والنّور بنفسه لا بنور آخر. والمادّيّات تختلف بالمادّة ، والمادّة
بنفسها لا بمادّة أخرى. والمعلومات العينيّة تعلم بالصورة العلميّة ، والصّورة
العلميّة بنفسها لا بصورة علميّة أخرى [٩٣ ظ].
وبالجملة ، العاقل
هو الموجود المفارق ، بما أنّ هويّة الشّيء أعمّ من أن يكون الشّيء هو أو آخر
غيره. والمعقول هو الشّيء بما أنّ هويّته لموجود مفارق ، سواء كان هو أو آخر غيره
، فما من الموجود المفارق بإزاء العاقليّة هو ما منه بإزاء المعقوليّة ، لكنّك إذا
ما قايست بينه وبين عاقلات لمعلولات هي غيرها وجدته بهويّته مستحقّا لاسمى العاقل
والمعقول لما له بنفسه ما للذوات العاقلة وما للحقائق المعقولة ، لا على أنّ أحد
الاعتبارين في ذاته تغاير الاعتبار الآخر. فهو بما هو هويّة موجودة لذاتها لا
لمادّة عقل ، وبما يعتبر له أنّ ذاته المجرّدة لها هويّته عاقل ، وبما يعتبر له
أنّ هويّته
لذاته المجرّدة
معقول.
فإذن ، إنّما
العاقليّة والمعقوليّة توجب تكثير الحيثيّة في المفارق الجائز الذّات من حيث
التغاير بين ماهيّته ووجوده وكون العاقليّة والمعقوليّة عين الوجود المجرّد ، لا
من حيث إنّهما اعتباران متغايران البتّة ، فإنّ اعتبار العاقليّة ليس يستوجب أن
يغاير اعتبار المعقوليّة ولا العكس. فالقيّوم الواجب بالذّات ، إذ هو نور مقدّس
ووجود متمحّض ، فهو علم محض ، فلا كثرة فيه من جهة العلم أصلا ، لا بحسب العالميّة
والمعلوميّة ، ولا بحسب الوجود والماهيّة.
تشريق
(٥٩ ـ العلم بالعلّة يوجب العلم بماهيّة المعلول وإنيته)
أمّا قبلك من
البتيّات : أنّ كلّ ما عقل سببه التامّ بما هو سببه التامّ ـ لست أقول بلحاظ
حيثيّة السّببيّة المضايفة للمسببيّة ، بل أقول الحيثيّة الّتي هو بها سبب تامّ ،
عقلا تامّا ـ فلا محالة قد عقل هو أيضا [٩٣ ب] عقلا تامّا. والعلم التامّ اليقينيّ
بذوات الأسباب إنّما حصوله من حيثيّته العلم بأسبابها. وأتمّ العلوم بذى السبب هو
العلم به من تلقاء العلم بأسبابه المتأدّية إليه من الحيثيّة الّتي بنفسها يترتّب
عليها التأدية.
فكلّ من لا يعزب
عنه الجاعل التامّ لمجعول ما بما هو جاعل تامّ موجب له بنفسه ، أى : يكتنهه ويعقله
من كنه الحيثيّة الّتي هي بنفسها بحيث ينشأ منها المجعول ، فكذلك لا يعزب عنه
إنّيّة ذلك المجعول ولا ماهيّته ، بل إنّه يكتنهه ويعقله بعينه عقلا تامّا ، فإنّ
المجعول بأنّه وبماهيته من لوازم الجاعل الموجب التامّ بأنّه.
فإذن فاحكم أنّ
كون الشّيء مدركا بعلّته أفضل من كونه مدركا بمعلوله ، لأنّ العلم التامّ بالعلّة
التامّة يوجب العلم التامّ بمعلولها ، وليس العلم التامّ بالمعلول يستوجب علما
تامّا بعلّته. إذ العلّة ، بما هي تامّة ، موجبة معلولها المعيّن من حيث هو هو
بعينه والمعلول بما هو معلول إنّما يقتضي علّة واحدة لتقرّره ، أيّة علّة كانت ،
لا أمرا متعيّنا بعينه لا غير ، فمعلول الشّيء ليس يجب أن يكون معلول نفسه ، بخلاف
علّته ؛ ولأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بماهيّة المعلول وإنيّته ، والعلم
بالمعلول ليس يقتضي إلّا العلم بإنيّة العلّة دون ماهيتها ، فلذلك كان أفضل
البراهين وأوثقها وأحقّها باسم
البرهان وبإعطاء
التّعيّن : هو الّذي من النمط اللّمّى.
تشريق
(٦٠ ـ المعلوم الفعلىّ والمعلوم الانفعالىّ)
مهما كان تقرّر جوهر
المعلوم مسبوقا بصورته العلميّة منبعثا عنها مترتّبا عليها ، كان العلم فعليّا
يفيد وجود ذى الصّورة ، وهو المعلوم بالقصد الثّاني. وتلك الصّورة هي العلم
والمعلوم بالذّات وبالقصد الأوّل ، كما الصّورة الصّناعيّة المتقرّرة أوّلا في ذهن
من يصنع شيئا بالقياس إلى مصنوعه.
ومهما كانت [٩٤ ظ]
الصّورة العلميّة الّتي هي المعلوم بالذّات مستفادة من جوهر المعلوم المتقرّر
متأخّرة عنه تأخّرا بالذّات ، كان العلم انفعاليّا يتبع وجود المعلوم في ذاته ،
وإن كانا على التطابق بحسب الماهيّة. كما علمنا بالموجودات الّتي ليست هي بصنعنا ،
وهو منحطّ في الفضل عن العلم الفعلىّ ، فإنّه ، لا محالة ، أفضل منه وأقوى وأتمّ. ومهما
كان جوهر المعلوم الموجود وذاته المتقرّرة هو بعينه صورته العلميّة ، ولا صورة له
في العلم إلّا نفس هويّته العينيّة ، كان العلم ظهورا خارجا عن القبيلين لا يعقل
فيه فعل ولا انفعال ، كما علم الذّوات العاقلة بأنفسها ، والاسم يقع على الثلاثة
بالاشتراك ، ثمّ كلّ يختلف في الموضوعات بالتشكيك.
تقديس
(٦١ ـ علم الجاعل التامّ بنفسه وبالأشياء فوق التمام)
أما استيقنت أنّ
سنّة الوجوب بالذّات إفاضة الخير من غير ضنين ، واصطباب العالم من فيضه بلا رهين
وضمين ، وأنّ كون البارئ الفاطر واجبا بذاته هو بعينه كونه مبدءا لفيضان الخير عنه
بالذّات. فنظام الخير ـ أى : نظام الكلّ الواحد ـ بالشخص الّذي هو «الإنسان الكبير»
، إنّما يتعيّن ويتخصّص من تلقاء ذات المبدأ الحقّ بذاته ويفيض من مجرّد وجوده
الّذي هو بعينه نفس ذاته.
__________________
فهو ، جلّ اسمه ،
بنفسه جاعله التامّ وموجبه الكامل وغايته المطلقة. وآحاد المجعولات الّتي هي أجزاء
النظام الشخصىّ بأسرها سواسية بحسب هذا اللحاظ في الافتياق إلى مبدئيّته الحقّة
والاستناد إلى جاعليّته المطلقة ، وهو افتياق عرضىّ. والنظام الجملىّ بحسبه سلسلة
عرضيّة ، إنّما الجاعل الحقّ فاعلها وغايتها ، مرّة واحدة. فكلّ تقرّر [٩٤ ب] وكلّ
كمال تقرّر ، وكلّ وجود وكلّ كمال وجود ، صنع فضله واصطناع رحمته ، على الإطلاق
الشّمولىّ والاستغراق الإحاطىّ على سنة واحدة. ثمّ إذا التفت لفت الآحاد متفاصلة
متباينة بما هي هي ، لا بما يتأحّد منها نظام متّسق ، صودف أكرمها في سلسلة البدو
أقرب من الجاعل الحقّ.
ثمّ الأمر متدرّجا
في التنازل على الترتيب السّببيّ والمسبّبىّ إلى أقصى الوجود ، وذاك استناد طولىّ
، والنظام بحسبه سلسلة طوليّة. وعضة من الآحاد كسلسلة الحوادث الكيانيّة متوقفة في
هذا الالتفات على عضة ، كالإبداعيّات. وهي قاطبة ترتقى على الترتيب الصاعد ارتقاء
منتهيا الى الجاعل التامّ المطلق. ولها أيضا في التصاعد الطّولىّ غايات أوليّة
قربية مرتقية إلى الغاية الأخيرة الّتي هي غاية الغايات ، أعني نفس ذات الحقّ
الأوّل.
فإذن ، عالم
الجواز بأسره قطران : طولىّ وعرضىّ ، وهما منتهيان إلى المحيط الّذي هو الجاعل
التامّ من حيث نفس ذاته. وقد دريت أنّه يعلم ذاته أتمّ العلوم وأقدسها. فهو ، لا
محالة ، يعلم أيضا ما بعد ذاته ، وهو سائر الأشياء من حيث وجوبها عن نفس ذاته في
سلسلة الترتيب النازل طولا وعرضا ، علما تامّا وفوق التمام تقدّسا وتمجّدا.
تقديس
(٦٢ ـ عقل الشّيء لذاته وجوده لذاته وعقله لغيره وجود الغير عنده)
أليس المجعول بما
هو مجعول من نعوت جاعله التامّ وشئونه؟ فمن غريزيّات الفطرة العقلانيّة : أنّ حصول
الشّيء لفاعله ليس في كونه حصولا لغيره دون حصول الشّيء لقابله. فإذن ، تقرّر
المجعول بما هو مجعول في نفسه هو بعينه تقرّره الرابطىّ لجاعله. والمجعولات بما هي
مجعولات حقائق رابطيّة وذوات ناعتيّة لجاعلها ، وإن كانت غير رابطيّة في محلّ أو
موضوع ، [٩٥ ظ] لكونها جواهر قائمة في الوجود
بذواتها ، لا في
موضوعات.
وقد تعرّفت : أنّ
وجود الشّيء للذّات المجرّدة مطلقا هو بعينه معقوليّته لها. فكما وجود المجرّد
لذاته هو بعينه عقله ومعقوليّته لذاته ، ووجود الصّورة في الجوهر العاقل هو بعينه
معقوليّتها له ، فكذلك تقرّر الجائزات ووجودها في ذواتها بما هو تقرّرها ووجودها
لجاعلها القدّوس هو بعينه معقوليّتها له وحضور هويّاتها لديه وشهوده إيّاها
بأعيانها. فعقل الشّيء لذاته هو وجوده في ذاته ، وعقله لغيره هو وجود هويّة الغير
له وعنده.
بسط
(٦٣ ـ المعلومات متضاعفة الفاقة الى الجاعل العالم بها)
ومن سبيل آخر ،
لست أظنّك من الممارين أو الممترين في أنّ القدّوس الحقّ ليس يحتجب عن علمه التامّ
شيء من جهات ذاته ، بل إنه يعلم ذاته من جميع جهاته ولوازمه علما تامّا. ومن جهات
ذاته : أنّه فاطر مفطوراته. فلا محالة ، علمه التامّ بذاته من جميع جهاته ولوازمه
يتضمّن العلم بقاطبة مجعولاته ومفطوراته : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك ، ١٤).
وبالجملة ، العاقل كما ليس تعوزه في إدراك ذاته صورة غير صورة ذاته الّتي بها هو
هو ، فليس أيضا يعوره [في] إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته صورة غير صورة ذلك الصادر
الّتي بها هو هو.
واعتبر من نفسك
أنّك تعقل شيئا بصورة تتصوّرها أو تستحضرها ، فهى صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا ،
بل بمشاركة ما من غيرك ، بل إنك بالقياس إليها تسير مسير الشّروط والمصحّحات ،
وتجرى مجرى القوابل والماهيّات ، والمفيض الواهب هو الفاطر الحقّ.
ومع ذلك ، فأنت
لست تعقل تلك الصّور بغيرها ، بل كما تعقل ذلك الشّيء بها ، كذلك تعقلها [٩٥ ب]
أيضا بنفسها ، من غير أن تتضاعف الصّور فيك ، فتمادى إلى لا نهاية ؛ بل ربّما
تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصّورة ، فحسب ، على سبيل التركّب. وإذا
كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك ، بل عن غيرك بتهييئ وتهيّؤ منك على هذه
الشّاكلة ، فما ظنّك بشأن العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه.
ولا تظنّنّ أنّ
كونك محلّا لتلك الصّورة شرط في عقلك إيّاها. ألست عاقل ذاتك مع أنّك لست بمحلّ
لها ، بل إنّما محليتك لها مصحّحة حصولها لك الّذي هو مناط عقلك إيّاها. فإن حصلت
هي لك على جهة وراء الحلول ، لعقلتها من غير حلول فيك. ومن المنصرح : أنّ الحصول
للفاعل ، في كونه تقرّرا رابطيا بالإضافة إليه ، أقوى من الحصول للقابل. فإذن
المعلولات الذّاتية للعاقل الفاعل بذاته حاصلة له بأعيانها غير حالّة فيه ، فهو
عاقل إيّاها بأنفسها وهويّاتها من غير أن تكون متقرّرة فيه.
فإذ قد علمت أنّ
البارئ الفاطر عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلّا
في اعتبار المعتبرين ، ودريت أنّ عقله لذاته علّة لعقله لمفطوره الأوّل الّذي هو
من اللوازم الأوّلية لفيّاضيّة ذاته ، فقد استبان لك أنّه كما العلّتان ـ أعني
ذاته تعالى وعقله لمفطوره الأوّل ـ شيء واحد في الوجود ، وإن لوحظ تغاير فيهما كان
اعتباريا صرفا ، فكذلك المعلولان ، أعني مفطورة الأوّل وعقله إياه ، شيء واحد في
الوجود غير معقول فيهما تغاير إلّا الاعتبارىّ الصّرف.
فإذن ، وجود
المجعول الأوّل هو بعينه عقل جاعله الحقّ إياه من غير صورة متقرّرة منه فيه ،
تعالى عنه. وعلى هذه السنّة وجودات الجواهر العقليّة وما فيها من صور الموجودات
[٩٦ ظ] المرسلة والشّخصيّة الكليّة والجزئيّة بأعيان تلك الجواهر والصّور ، وكذلك
نظام الوجود على ما هو عليه بقضّه وقضيضه وضرّاته وذرّاته ، إذ الوجود منساق منه ،
تعالى ، على الترتيب إلى التفصيل الّذي لا تفصيل بعده وقد تلونا عليك : أنّ كلّا
من المعلولات الأخيرة كالكيانيّات وإن لم يكن مستندا إليه في السلسلة الطّوليّة من
بدء الأمر إلّا أنّها مستندة إليه ، عزّ اسمه ، في السلسلة العرضيّة ابتداء
بالذّات وبالقصد الأوّل.
فكلّ معلول أخيرا
في الترتيب ، كما يفتاق إلى الجاعل الحقّ من حيث إنّه علّة علّته ، فكذلك هو ، بما
هو يفتاق إليه بالذّات مع عزل النظر عن المتوسّطات ، لكونه من الجائزات ، وطباع
الجواز موجب الافتياق إلى الواجب بالذّات بتّة ، فالفاقة إلى القيّوم الحقّ ،
والاستناد إليه طباعىّ كلّ ماهيّة ممكنة ، ومن خواصّ كلّ هويّة جائزة. وقاطبة
الجائزات بأسرها بحسب هذه الفاقة والاستناد سلسلة عرضيّة منتهية إليه ،
جلّ جنابه ،
بالذّات وبالقصد الأوّل من بدء الأمر.
فإذن ، المعلولات
متضاعفة الفاقة إليه ، تعالى ، بحسب البعد عن جنابه في السلسلة الطّوليّة وبعدد ما
يعوزه من المعدّات والشرائط ، وسواسية الفاقة إليه ، تقدّست أسماؤه ، بالنّظر إلى
طباع الجواز وبحسب هويّاتها بأعيانها في السلسلة العرضيّة ، فهذا ما يهتف به
البرهان من بطنان الحكمة.
تلويح
(٦٤ ـ الوجود الواجب بالذّات له الاضافة الجاعلية إلى غير ذاته)
أمّا قرع سمعك :
أنّ النفس تستخدم قوّة سلطانها في حيّز الرّوح الّذي ، في الجزء الأوّل ، من
التّجويف الأوسط الدّماغىّ ، تفصّل وتركّب [٩٦ ب] وترتّب ، هي المتفكّرة
والمتخيّلة باعتبارين فبذلك الاستخدام تنزع الطّبائع من الشخصيّات وتأخذ النّتائج
من المبادى ، فهى ، لا محالة ، تطالع الطّبائع المرسلة والهويّات الشّخصيّة
والقوّة الخادمة جميعا. وتلك لا سبيل لها إلى مطالعة المرسلات ولا إلى مشاهدة
نفسها ، لكونها جرمانيّة وتقرّر الجرميّات والجرمانيّات في ذواتها هو بعينه
تقرّرها الرابطىّ للمادّة الّتي ليس طباع جوهريّتها إلّا فعليّة القوّة المحضة.
فنفسك كما تعقل
ذاتها بنفس هويّتها العينيّة ، تدرك قواها الشّخصيّة بنفس هويّاتها وصور المرسلات
المتقرّرة في ذاتها ، والشّخصيّات المنطبعة في تلك القوى الحاضرة لها بنفس تلك
الصّور. والمدرك هو نفس الصّورة الحاضرة ، لا ما خرج عن التصوّر ، إلّا بقصد ثان.
فإذن ، لا إدراك
بالحقيقة إلّا العلوم الحضوريّة الشهوريّة. والنفس غير غائبة عن ذاتها ولا قواها ،
ولا الصّور المتمثّلة فيها وفي قواها محجوبة عنها ، ولا بدنها الشخصىّ مختف عليها.
وأمّا الإدراكات الانطباعيّة فعلوم بالعرض لمعلومات لا بالذّات بل بالقصد الثّاني.
ولو كان تجرّد النفس أكثر وأشدّ كان الإدراك لذاتها أزيد وأتمّ ، ولو كان سلطانها
على البدن أقوى كان حضور قواها أشدّ وظهور [الصّور] المنطبعة أصفى ، ولو كنّا ذا
سلطنة على غير بدننا سلطتنا عليه لكنّا أدركنا إياه.
فإذن قد لاح أنّ
الوجود البحت الواجب بالذّات ، إذ هو أعلى ما يتصوّر تجرّدا و
تقدّسا ، وأقدس ما
يعقل تعاليا وتمجّدا ، وله إضافة الجاعليّة إلى ما سوى ذاته طرّا ، وسلطانها على
الكلّ لا يحدّ ولا يقاس ، فأعداد الوجود وذرّاته سواسية الهويّات في الحضور لديه
والمثول [٩٧ ظ] بين يديه بذواتها وأعيانها ، وهو بكلّ شيء محيط ، ([أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ]) (فصّلت ، ٥٤).
تقديس
(٦٥ ـ ذات الجاعل العالم محيط بكل المعلومات)
لا يستحلّنّ أن
يقال : إنه ، سبحانه ، يعقل الأشياء من الأشياء ، وإنّ للأشياء صورا متقرّرة في
ذاته ، تعالى عن ذلك مجده. وإلّا فإمّا ذاته متقوّمة بما يعقل فيكون تقوّمه
بالأشياء ، وإمّا يعرضه بعد مرتبة الذّات أن يعقل فلا يكون واجب الذّات من كلّ جهة
بذاته ، ويكون لو لا امور من خارج لم يكن هو بحال هو كمال له ، ويكون له تجمّل
بحال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره ، فيكون لغيره فيه تأثير ، ويكون الجاعل الواجب محلّا
لمجعولاته الجائزة ، وتكون المتكثّرات منطبعة في الأحد الحقّ ، ويكون تقرّر الصّور
في ذاته غير مسبوق بعقله إيّاها مسبوقيّة بالذّات ، فيكون نفس الذّات مبدأ
اقتضائها لا عن علم ، كالطّبائع العديمة الإدراك في مرتبة الذّات للوازمها ، ويكون
الأشياء بهويّاتها العينيّة غير معلومة له بالحقيقة ، بل إنّما بالعرض ، إذ تلك
شاكلة العلوم الانطباعيّة. والأصول المسلفة تبطل هذه التوالى وما شاكلها.
فإذن ، إنّما عقله
للأشياء من ذاته ، فيعلم من ذاته ما هو مبدأ له ، وهو مبدأ للموجودات التامّة
بأعيانها ، وللموجودات الكائنة الفاسدة بطبائع أنواعها أوّلا ، ثمّ بهويّات
أشخاصها. فكلّ ما عقله خيرا فقد جعله ، والأشياء عقلت من ذاته ، فجعلت من تلقائه.
ثمّ وجودها في
الأعيان هو بعينه عقله إيّاها ، ومعقوليّتها له صدورها عنه منكشفة غير محجوبة ،
وليس [أنّ] له الإضافة العقليّة [إليها] من حيث وجودها في الأعيان [فيلزم أن لا
يعقل المعدوم منها إلى أن يتقرّر في الأعيان] ، فيكون لا يعقل من نفسه أنّه مبدأ
[٩٧ ب] ذلك الشّيء على التّرتيب إلّا عند فعليّته ، فلا يعقل ذاته ، لأنّ ما من
شأن ذاته بذاته أن يفيض عنه كلّ تقرّر وكلّ وجود ، وإدراك الذّات ، من حيث من
شأنها أن يصدر عنها كذا ، موجب إدراك كذا ، بل متضمّنه بتّة وإن لم يوجد كذا
بالفعل.
فإذن يجب أن يكون
العالم الرّبوبىّ محيطا بالوجود الحاصل بالفعل والممكن الفعليّة من حيث الإحاطة
بأسبابه المنتهية إلى الانسياق إليه في الترتيب الواجب من تلقاء الفياضيّة المطلقة
الربوبيّة فيكون لذاته الحقّة إضافة العاقليّة إلى الأشياء طرّا من حيث هي معقولة
من تلك الجهة المساقة إلى وجودها في الأعيان ، لا من حيث لها وجود في الأعيان
تتبعه المعقوليّة.
فعلمه المحيط
بالأشياء الموجودة قبل وجودها ومع وجودها على نمط واحد. وليس يسوغ أن يكون
معقوليّتها له قبل تقرّرها في الأعيان ، إنّما تصحّحها وفعليّتها من حيث هي صور
موجودة في عقل أو نفس. فإذا عقل الفياض الحقّ تلك الصور ارتسمت في أيّهما كان ،
فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوع لتلك الصّور المعقولة ، وهي معقولته على أنّها
فيه ، ومعقولة الفيّاض الحقّ على أنّها عنه ، وهو يعقل من ذاته أنّه مبدأ لها.
أليس يكون إذ ذاك
من المجعولات ما المعقول منه أنّ الجاعل الحقّ مبدأ له بلا واسطة صورة علميّة
سابقة ، بل يفيض تقرّره ووجوده عنه أوّلا من غير العلم به قبل الإفاضة قبليّة
بالذّات ، وهو ذلك العقل أو النفس. وما المعقول منه أنّه مبدأ له بتوسّط صورة
سابقة ، فهو يفيض عنه ثانيا ، وهو ما بعد المجعول الأوّل. والصّور المرتسمة في
المجعول الأوّل [٩٨ ظ] تدخل أيضا في جملة ما الجاعل الحقّ يعقل ذاته مبدأ له وليست
هي مسبوقة بصور أخرى قبلها ، فيلزم أن لا يكون صدور تلك الصّور ومحلّها عن الجاعل
الحقّ على سبيل أنّها عقلت فجعلت.
وقد كنت تحقّقت
أنّ سنّة إفاضته ، تعالى ، لأيّ شيء كان ، أنّه إذا عقله خيرا جعله وأفاضه. وكذلك
من هذا السّبيل ليس يجوز أن يكون عقله للاشياء من حيث يكون لها وجود مفارق لذاته ،
تعالى ، ولسائر الذوات كصور مفارقة على ترتيبات موضوعة في صقع الربوبيّة ، وهي
الصّور الأفلاطونيّة على أنّ تلك الصّور إن صحّت تكون من الجائزات.
وقد برهنّا في
صحفنا : على أنّ الجائزات بأسرها حوادث دهريّة ، وأنّ طباع الجواز يأبى الأزليّة
السّرمديّة. وأفلاطون والأفلاطونيّون إخواننا الذّاهبون في الإيمان بهذه المسألة ،
ومن المنصرح أنّ علم الجاعل الحقّ واجب الأزليّة غير سائغ
الانفصال عن
السّرمديّة. فإذن ، وجب أن يكون الفيّاض الحقّ يعلم من ذاته قاطبة الأشياء على ما
عليه نظام الوجود ونضده ، فإنّه يعقل ذاته ويعقل أنّ ذاته مبدأ كلّ طبيعة وكلّ
هويّة، فيعقل من ذاته كلّ شيء طبيعة مرسلة كانت أو هويّة شخصيّة.
فذاته ، تعالى ،
علم بسيط شيء ، فهو لذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثّر ذاته بها أو
يتقرّر في ذاته صورها ، فالعالم الرّبوبىّ عظيم جدّا ، وهو بعين ذاته الأحد الحقّ
كالصّورة العلميّة لجملة الأشياء ، وهو العلم بالأشياء قبل الجعل والإفاضة ، ثمّ
هي تفيض عنه معقولة [٩٨ ب] غير محجوبة ، وصدورها عنه منكشفة حدوثا وبقاء هو نفس
معلوميّتها له أخيرا عند التّقرّر ، فالجعل والإيجاد تفصيل العلم المتقدّم.
وبالجملة ،
القيّوم الواجب مبدأ كلّ فيض ، وهو ظاهر بذاته. فهو بما هو ظاهر لذاته ينال الكلّ
من ذاته ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه. فعلمه بذاته وبالكلّ نفس ذاته ، ثمّ علمه
بالكلّ أى : معلوميّة الكلّ له ، عين الكلّ. وبعد ذاته فيكثر علمه بالكلّ ، أى :
معلوميّة الكلّ لدى التّقرّر بعد ذاته ويتّحد الكلّ بالنّسبة إلى ذاته ، فكأنّه هو
الكلّ في وحدة ، وهو أولى بأن يكون علما بالكلّ من تلك التفاصيل الفائضة عن ذاته
وعن علميّته.
تشريق
(٦٦ ـ علوم العقول من فيوض علم الحقّ سبحانه)
ألم تتحصّل ، في
كتاب النفس ، من علم الطبيعة ، أنّ الإدراكات النفسيّة الانفعاليّة والفعليّة بأنواعها
الأربعة ، من الإحساسات والتخيّلات والتّوهّمات والتعقّلات النفسانيّة المتبدّدة
المبادى والمناسب ، إمّا رسم وروسم عن شاهد حسّيّ ، أو رشم وروشم عن طابع عقلىّ.
وهي على لونين : إجماليّات وحدانيّة بصورة بسيطة واختزاليّات تفصيليّة بصور
كثرانيّة. فالعقل البسيط في المرتبة الّتي هي العقل بالفعل مبدأ التفاصيل الفكريّة
المتقرّرة في النفس ، لامعا ، دفعة ، بل على الترتيب والتدريج.
ومن ذلك : ما إذا
نوظرت في مسألة ، فهجس في نفسك علمها دفعة ، بصورة وحدانيّة بسيطة ، هي بعينها
فاعلة التفاصيل المتصوّرة في ترتيب الأجوبة ، فتلك المرتبة البسيطة هو علم بالفعل
وصنيع الفعاليّة للمراتب الأخيرة المتتالية ، الّتي هي العلوم التفصيليّة ، كما
قوّة القدرة على تحريك مرتبة وزينة بعينها من ثقيل [٩٩ ظ]
بعينه كالحديد
قوّة وقدرة بالفعل على تحريك كلّ من شخصيّاتها المعيّنة بحسب موادّها الشّخصيّة.
فأمّا المتكلّفون الحاسبون أنّها عقل لا بالفعل ، بل بالقوّة القريبة من الفعل ،
فغير مميّزين بينها بالنسبة إلى تفاصيلها وبين العلم بالأصل ، ك «كلّ إنسان حيوان»
، بالنسبة إلى الفروع ، ك «زيد حيوان» و «عمرو حيوان».
فالعقل الإجمالىّ
كأنه بعينه هو جملة تلك العقول التفصيليّة في وحدة. وليس في وسع النفس ما دامت في
أرض الغربة ودار الجسد ، مكسوّة كسوة الحسّ مسحورة سحر الطّبيعة ، أن تعقل
التفاصيل والكثرانيّات دفعة واحدة. فتعقّلاتها التفصيليّة ما دام لبثها في افق
التقضّى والتّجدّد نفسانيّة على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول ، على التّدريج
، والتّرتيب.
نعم كلما كانت
أوفر طسقا من رفض ظلمة الجسد ، وأكثر تحرّزا من شرّ سحر الطبيعة ، وأصدق تأسّيا
وتشبّها بالعقول الفعّالة ، كان عقلها الإجمالىّ أحقّ فعليّة وأشدّ بساطة وأقوى
فعاليّة للمراتب التفصيليّة وارتباطا بها. فكان ، لا محالة ، أشبه بعلوم العقول
الّتي هي فيوض العلم الحقّ وظلاله. وأيها أيها لها مع تجرّدها وسبوغها أن تشبهه
تماميّة وتقدّسا.
تقديس
(٦٧ ـ العلم البسيط الحقّ ابلغ العلوم تجردا)
فإذن ، قد استبان
أنّ العلم البسيط الحقّ بالموجودات الّذي هو نفس ذات فاعلها القيّوم أبلغ العلوم
تجرّدا وأقدسها بساطة وأتمّها خلّاقيّة للعلوم التّفصيليّة الّتي هي بعده. وهي
ذوات الأشياء الصادرة عنه بطبائعها وهويّاتها ، وأنّ علمه ، جلّ ذكره ، بالتّفاصيل
[٩٩ ب] ليس كالعلوم النّفسانيّة ، بل إنّه بقضّها وقضيضها ، أزلا وأبدا ، على شأن
واحد وسنّة غير متبدّلة ، وإنّما عقله للشىء على أنّه عنه ، أى : على أن هو مبدأ
فاعليّ له ، ويعقل غيره على أنّه فيه ، أى : على أن هو مبدأ قابلىّ. وبالجملة ،
كما وجوده الّذي هو ذاته مباين لوجودات الموجودات ، فكذلك علمه مباين لعلوم
الموجودات العاقلة ، وعلى هذه السّنّة جميع شئونه ، فهو لا يقاس بشيء ممّا سواه في
حال من أحواله ، والعقول الخالصة القادسة في سبيل إدراكه دهشة حائرة.
استشراق
(٦٨ ـ الفاعل الحقّ العالم بالأشياء أقرب من كل شيء)
أليست الصّورة
الذهنيّة المعلومة ، بالقصد الأوّل في العلوم الانطباعيّة مع مباينتها للذّات
العينيّة في نحو الوجود والتّشخّص ، وتخالفهما في القيام بالذّات وبالغير ، عنوانا
لمدركيّة تلك الذّات تامّة في محاكاتها والنّيابة عنها في الحضور ، ونسختها
المطابقة لها في الانكشاف والمعلوميّة. فلا تستغربنّ أن يكون حضور الفاعل التّامّ
الّذي يفعل الشّيء ويشيّئه بأنّه وذاته ، لا بصفة تلحق إنه وذاته ، هو كحضور ذلك
الشّيء ، بل أقوى منه في تصحيح حكم الانكشاف. فالشيء يتميّز في الانكشاف عن أغياره
بصورته الظّليّة القائمة بالذّهن ، وهي ظلّ ذاته العينيّة ، فكيف لا يتميّز بجاعله
التام الذي منه جوهر ماهيّته وخصوصيّته ذاته وهويّته ، وهو بماهيّته وهويّته
الخاصّة الممتازة عمّا عداه ظلّ إنه وذاته. بل لا تقاس تبعيّة ومقهوريّة إنّه
وذاته لأنّه وذاته بتبعيّة ومقهوريّة الظّلّ لذى الظلّ.
وقل لى : ما
حسبانك أ ، إذا كانت الحركة التوسّطيّة المستمرّة [١٠٠ ظ] الذّات الشّخصيّة الغير
المستقرّة النّسب إلى الحدود المفترضة في المسافة عاقلة ذاتها الشّخصيّة على
الجهتين ، وكذلك الآن السيّال والشّعلة المجتالة ، كانت من تعقّل ذواتها على
الوصفين تعقل مرسوماتها الّتي هي الحركة القطعيّة والزمان الممتدّ والدّائرة
المشعلة ، أم كانت تذهل عنها؟ لست أظنّك في ذلك من الممترين ، فما ظنّك براسم
الذّوات والهويات بمجرّد إنّه الّذي هو نفس ذاته العليم.
فإذا كان كلّ جائز
الماهيّة في حدّ ذاته ليسا صرفا ، ولا شيئا بحتا ، وإنّما تشيّأ ماهيّته وتجوهر
ذاته وتعيّن هويّته من تلقاء المفيض الحقّ الّذي هو الجاعل البحت ، لا الشّيء
الجاعل، فتكون جملة الجائزات لوازم إنّه الّذي هو صرف ذاته ، فتكون برمّتها لوازم
ذاته بذاته.
فلا محالة ، ينطوى
في ظهور ذاته ظهور أعداد التّقرّر وذرّات الوجود ، كما ينطوى في عقل النّفس ذاتها
ونيلها شيئا ما عقل ذلك العقل ونيل النيل وعقل عقل العقل ونيل نيل النيل ، لا إلى
نهاية. لست أقول إلى لا نهاية. وأمّا في عقل العقل ذاته فيتمادى إلى لا نهاية ، إذ
ليس لذاته معنى ما بالقوّة بحسب نفس الأمر ، وإن كان في حدّ ذاته
بحت معنى ما
بالقوّة.
وبالجملة ،
الإيجاب والجعل التامّ يجعل الأثر المجعول بحيث يصير بالنّسبة إلى الموجب التامّ
الجاعل بصرف ذاته : كهو مع نفسه في الارتباط والاقتراب وعدم الاستتار والاحتجاب.
فلا تبتعدنّ عن السّبيل ، فبارئك المحيط أقرب إليك من ملاك نفسك إلى طلسم جسدك من
طبائع ذاتك إلى جوهر هويّتك مرّات [١٠٠ ب] لا متناهية.
تقديس
(٦٩ ـ القيّوم بالذّات يعقل كلّ شيء عقلا غير زمانىّ)
أليس إذن من بتّىّ
الثّبوت لديك : أنّ شخصيّات النّظام وذرّات الوجود ، أبديّاتها وبائداتها ،
ثابتاتها ومتغيّراتها ، واجبة الانتهاء والاستناد إلى القيّوم بالذّات ، وهو عالم
بذاته وبجميع جهاته ، أتمّ العلوم ، والعلم بالجاعل التامّ علم تامّ بمجعولاته.
وأيضا الماهيّات والهويّات بأسرها متقرّرات رابطيّة ، إنّما تقرّرها ووجودها
لجاعلها الحقّ. كما قال في القرآن الحكيم : (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة ، ٢٥٥) ،
ومعلوميّة الشّيء لغيره هي وجوده الرّابطىّ لذاته المجرّدة.
وأيضا ، قد
أقرأناك ، من صحفنا ، أنّ قسطاس التشخّص ، بمعنى امتناع المقوليّة على الكثرة ، من
بعد اعتبار التّمييز المستفاد من تضامّ الخواصّ والعوارض المسمّاة مشخّصات ، إنّما
هو نحو الوجود المتخصّص من حيث الاستناد إلى الموجود الحقّ المتشخّص بنفسه في
مرتبة ذاته.
فإذن ، ليس في
منّة العقل الصّريح إلّا أن يستيقن أنّ العليم الحقّ يعقل الثّابتات الشّخصيّة
بهويّاته الثّابتة ، والفاسدات المتشخّصة بشخصيّاتها الكائنة الفاسدة على أيّ ما
هي عليه من الأوصاف والأحوال والجهات والأوضاع ، عقلا تامّا ثابتا قبل الكون وقبل
الفساد وبعد الكون والفساد من سبيل واحد وعلى سنة واحدة.
فمن يحسب أنّه ،
جلّ ذكره ، إنّما يعلم الفاسدات على الوجه الكلىّ ـ أى : كلّ شخصىّ منها بطبائع
ومفهومات مرسلة منطبقة عليه بعينه ، لا تتعدّاه في الوجود ، وإن كانت في حدّ
أنفسها لم تأب القول على الكثرة ، وليس يعلمها بهويّاتها الشّخصيّة [١٠١ ظ]
المتغيّرة الفاسدة متغيّرة فاسدة على الوجوه الجزئيّة ، أو يتقوّل على الفلاسفة
أنّهم
يزعمون ذلك ـ فإنّما
حسبانه هذا وتقوّله عليهم من الجهل المضاعف.
وصراح قول رؤسائهم
: «أنّ الفاسدات إن عقلت بالماهيّة المجرّدة وبما يتبعها ممّا لا يتشخّص ، لم تعقل
بما هي فاسدة». وهو فاسد ، إذ [هي] مجعولة بما هي فاسدة ، وجاعلها الحقّ قد رتّب
الأسباب ، أواخرها فانتهت إلى الجزئيّات الشّخصيّة على سبيل الايجاب والتّرتيب
الّذي عنده شخصا فشخصا بغير نهاية. فكلّ كلىّ وجزئيّ مرسل وشخصىّ ظاهر عن ظاهريّته
الأولى ، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادّة وعوارض مادّة ووقت وتشخيص إدراكا زمانيّا
متغيّرا لم تكن معقولة بل محسوسة [أو متخيّلة].
ونحن قد بيّنّا في
كتب أخرى أنّ كلّ صورة محسوسة وكلّ صورة خياليّة ، فإنّما تدرك بما هي محسوسة أو
متخيّلة إدراكا حسيّا أو تخيّليّا بآلة متجرّئة. وكما أنّ إثبات كثير من الأفاعيل
للقيّوم الواجب بالذّات نقص له ، فكذلك إثبات كثير من التعقّلات.
فالقيّوم بالذّات
إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّىّ ، أى : عقلا تامّا غير زمانىّ لا يعتريه التغيّر
، ومع ذلك فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في السّماوات ولا في الأرض. وهذا من العجائب
الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة. فأمّا كيفيّة ذلك ، فتحقيقها على ذمّة بيان
وفيّ من قبلنا يضمن ثلوج النفس لكلّ ذى تأمّل غائر وتعقّب واسع.
تشريق
(٧٠ ـ العلّة الأولى للتكثر هي الموجود القارّ القابل للوضع)
من المستبين : أنّ
الكثرة المتّفقة الحقيقة ، إمّا هى بآحاد غير قارّة التّقرّر أو بآحاد قارّة.
والأولى : لا يمكن [١٠١ ب] حصولها إلّا منسوبة الوجود إلى الزمان بالفيئيّة أو
بالمعيّة المنتهية إليها ، فتكون هي ، لا محالة ، متزمّنات متخصّصة بأزمنة
متعيّنة. فالعلّة الأولى للتغيّر في الوجود على هذا السّبيل هي الموجود الغير
القارّ بالذّات الّذي بذاته يتصرّم ويتجدّد على الاتصال وهو الزّمان ، ويتغيّر
بحسبه ما هو فيه أو معه تغيّرا على تلك الشّاكلة. والثّانية غير متصوّرة الحصول
إلّا أن يكون وجودها في المكان أو مع المكان معيّة منتهية إلى الفيئيّة ، فتكون هي
، لا محالة ، متأيّنات متخصّصة بأيون متميّزة وأمكنة متعيّنة.
فالعلّة الأولى
للتكثّر في الوجود على هذا السّبيل هي الموجود القارّ الّذي لذاته
يقبل الوضع ، أى :
يكون بحيث يصحّ أن يشار إليه إشارة حسّيّة فيلزمه التجزّي بأجزاء مختلفة الأوضاع
بذلك المعنى وبالمعنى الّذي يتخصّص بعض الأجزاء بنسبة إلى البعض ، على أن هو في
جهة من الجهات وسمت من السّموت منه دون جهته وسمته ، وعلى بعد من الأبعاد غير
بعده. وكلّ موجود تلك شاكلته فهو هيولانىّ الوجود لا محالة.
والطّبائع المرسلة
المعقولة ليست بماديّة التّقرّر وإذا تحصّلت في شخصيّات عديدة كانت العلل الأول
لشخصيّاتها وتعيّن أشخاصها هي إمّا الأزمنة كما للحركات ، أو الأمكنة كما للأجسام
، أو كلاهما مع سائر العوارض المادّيّة المسمّاة مشخّصات ، كما للأشخاص المتغيّرة
المتكثّرة الواقعة تحت نوع ما من الأنواع (مستفاد من شرح مسألة العلم ، ص ٣٨).
تشريق
(٧١ ـ الزمان والدهر والسّرمد)
ألم يلح لك في ما
أوتيت من الحكمة : أنّه [١٠٢ ظ] حيث لا حجم ولا تكمّم ، أى : لا انبساط في الجهات
لا امتداد قارّا ، فلا علق بالمكان أصلا ؛ وحيث لا فوت ولحوق ـ أى : لا حركة ـ لا
امتداد متقضّيا ومتجدّدا ، فلا علق بالزمان أصلا. فإنّما في المكان الأجسام بما هي
متكممات وذوات حجوم ، وفي الزمان بما هي متغيرات واولات حركات. فالجسم في المكان
بالذّات ومقارناته فيه بالعرض. والحركة في الزمان بالذّات وما في الحركة فيه
بالعرض. فأمّا مطلق الوجود والعدم بما هما وجود وعدم فبمعزل عن ذلك كلّه ، فضلا عن
الوجودات الّتي هي للمفارقات الثّابتة. فالعقل مستنفر عن استنادها إلى شيء من ذلك.
وليس بمستسوغ أن
يقال : «الإنسان الصّراح من حيث طبيعته المرسلة أين يوجد أو متى يوجد؟ والخمسة نصف
العشرة في أيّة بلدة يكون أو في أيّ زمان يكون؟» بلى إذا تعيّن شخص ، كهذا الإنسان
وهذه الخمسة والعشرة ، ساغ العلق بأين ومتى من حيث الشّخصيّة. فالأشخاص المتفقة
الحقيقة زمانيّة ومكانيّة ، وبالجملة ، متعلّقة الوجود بالمادّة بتّة. وربّما كانت
الأشخاص المختلفة الحقائق أيضا متعلّقة بالمكان والزمان ، إذا كانت هيولانيّة
الذّوات ومعروضة الحركات ، كالأجرام العلويّة وكلّيّات الكرات السّلفيّة
الأسطقسيّة.
وأمّا الثّابتات
الصّرفة المفارقة الذّوات من كلّ جهة ، فلا يعقل كونها مكانيّة أو زمانيّة أو
متمّتية بجهة من الجهات أصلا. ثمّ من الموجودات ما ينشأ منه الزمان ويقوم [١٠٢ ب]
وجوده فيه ، كالفلك الأقصى وحركته ، فكيف يوجد في الزمان ، وهو متقدّم الوجود
عليه. وإذن فما ظنّك بالثابتات الصريحة المحضة ، أعني الجواهر العقليّة الّتي هي
أقدم في التّقرّر والوجود من الفلك أقدميّة بالذّات. ثمّ بالموجود الحقّ الّذي هو
مبدع الجميع وجاعل الكلّ على الإطلاق.
فإذن ، الثّابتات
الصّرفة ليست توجد في الزمان ، كما الزمانيّات ، بل إنّما وجودها مع الزّمان
الممتدّ من آزاله إلى آباده ، ومع أيّ جزء مفروض فرض فيه معيّة ، على خلاف شاكلة
المعيّة الزّمانيّة ، هذه المعيّة لها بإزاء تلك الفيئيّة للزّمانيّات. فتلك
الفيئيّة متى الزّمانيّات. وهذه المعيّة للثابتات بإزاء المتى. فهذا نحو من الكون
أرفع من الكون الزّمانىّ ، وهو المسمّى بالدّهر ، وهو وعاء الزّمان ، بل وعاء
الوجود الصريح المرسل على الإطلاق ؛ وليس يتصوّر فيه إمداد ينطبق عليه الممتدّات
والمستمرّات ، ولا طرف امتداد ينطبق عليه الدّفعيّات الغير المستمرّة ، لا بحسب
الأعيان ولا بحسب التوهّم.
وبالجملة ، «الزمان»
ظرف التغيّرات والحركات ، وما فيه حدود فوت الفائتات ولحوق اللّاحقات ، وما به
القبليّات المترتّبة المتعاقبة ، وما به المعيّات الزمانيّة الدفعيّة والاستمراريّة.
و «الدهر» وعاء التّقرّر السّاذج والثّبات الباتّ ، وما به القبليّة الواحدة الّتي
هي للجاعل الفاطر السّرمديّ على قاطبة الحوادث ، وهي زمر مفطوراته ومجعولاته بحسب
وجوده الحقّ ، وعدمها فوجودها الصّريحين ، أى : اللّذين لم يشابا بامتداد ومقابله
، وما به [١٠٣ ظ] المعيّات الغير الزّمانيّة والغير الآنيّة ، وما لا يعقل فيه
حدّا فوت ولحوق ، بل يقع فيه وجود الحادث في حيّز عدمه الصّريح بعينه على
الاستبدال وهناك كون متقدّس على نحو آخر أعلى من أن يوصف ، وأقدس من أن يقاس ،
محيط بالزّمان والدهر إحاطة غير متناهيّة الشدّة والقوّة ولا متصوّرة الكنه ، وهو
المصطلح على التّعبير عنه ب «السّرمد».
تشريق
(٧٢ ـ نسبة الأمكنة والأزمنة إلى القيّوم واحدة)
فإذ قد لاح لك :
أنّ الأيس ، وكذلك اللّيس يكون في زمان أو في جميع الأزمنة ، بما هو مستمرّ
استمرارا زمانيّا ، صالحا لأن ينحلّ في الوهم إلى أبعاض مترتّبة وتنتزع منه حدود
غير متشافعة ، وفي آن بما هو منبتّ ليس يفضل شيء من فعليّته عن الدفعة اللّامنقسمة
المطبقة على طرف الامتداد ، وفي حاقّ الأعيان صريحا ، لا في زمان ولا في آن ولا في
جملة الأزمنة والآنات ، بما هو أيس أو ليس صراح غير مشوب بالغواشى الهيولانيّة
والعوارض المادّيّة.
فالأيس العينىّ
أعمّ من الوجود في الآن ومن الوجود في الزمان ، إمّا على سبيل التطابق أو لا على
سبيله ، ومن الوجود الصّراح في حاقّ الأعيان لا في عالمى الزمان والمكان.
والثّابتات
العقليّة ، إذ هي فوق أرض الهيولى ووراء كورة الأبعاد القارّة والامتدادات الغير
القارّة المتّصلة التقضّى والتجدّد ، فهى ، لا محالة ، ليست بواقعة في ذينك
العالمين ، ولا بمنفصلة عنهما انفصالا متقدّرا [١٠٣ ب] زمانيّا أو مكانيّا ؛ بل هي
سواسية النّسبة إلى جملة الأزمنة والأمكنة وإلى زمر المتزمّنات والمتمكّنات نسبة
غير متقدّرة على سنّة متّفقة وسبيل واحد.
فإذن ، فادر أنّ
إدراك المتغيّرات بحسب حال مدركها على ضربين : زمانىّ متغيّر وعقلىّ ثابت.
«فإذا كان المدرك
متعلّق الهويّة بعالمى الزمان والمكان وإنّما تصحّ الإدراكات له بآلات هيولانيّة ،
كالحواسّ الجسدانيّة الظاهرة والباطنة ، فإنّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ،
ويحكم بوجودها ، ويفوته ما وجوده في زمان غير زمانه فيحكم بعدمه ويقول : إنّه متى
كان أو سيكون وليس الآن ، وكذلك يدرك المتكثّرات المكانيّة الّتي له أن يشير إليها
، فيحكم أنّها في أيّة جهة منه وعلى أيّة مسافة وأيّها دان منه وأيّها ناء عنه.
وإذا كان مرتفع
الذّات عن آفاق الزمان والمكان ، فإنّه يكون تامّ الإدراك ، محيطا بالكلّ على نسبة
متّفقة وسنّة غير متبدّلة ، عالما بأنّ أىّ حادث متزمّن هو موجود في أيّ زمان من
الأزمنة ومتخصّص الوجود به ، وكم من المدّة بينه وبين الّذي يتقدّمه
في أفق التّقضّى
والتجدّد أو يتأخّر عنه ؛ ولا يحكم على شيء من ذلك بالعدم ، إذ ليس يصحّ العدم
إلّا إذا رفعت جملة الوجودات ؛ بل بدل ما يحكم المدرك الزمانىّ حين حكمه أنّ
الماضى ليس موجودا في الحال ، هو أبدا يحكم على كلّ متزمّن بعينه بأنّه موجود في
زمانه بعينه ، وليس بحاصل التّقرّر في غير ذلك [١٠٤ ظ] الزمان من الأزمنة الّتي
قبله أو بعده. وكذلك يكون عالما بكلّ شخص مكانىّ بعينه ، وأنّه حاصل الوجود في أىّ
جزء بعينه من عالم المكان وأيّة نسبة مسافيّة بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع
جهاته وكم الأبعاد بينها جميعا على الوجه الواقع في نظام الوجود.
فإذن ، هو ليس
يحكم على شيء أصلا بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك بالقياس إليه أو
معدوم ، والأشياء ليست تنقسم عنده إلى حاضر وغائب ، لأنّه ليس بزمانىّ ولا مكانىّ
، بل نسبة الأزمنة والأمكنة جميعها إليه واحدة. وإنّما يتخصّص بهذا الآن أو بهذا
المكان وبالحضور والغيبة ، أو بأنّ هذا الجسم فوقىّ أو تحتيّ أو قدامي أو خلفىّ من
يقع وجوده في الزمان وفي زمان بعينه ، أو في المكان وفي مكان بعينه» (نصير الدين
الطّوسى ، شرح مسألة العلم ، ص ٣٩ ، ٤٠).
تأنيس تمثيلىّ
(٧٣ ـ نسبة الأشياء والموجودات إلى البارى تعالى)
إنّ من في عريش
وهو ناظر إلى الخارج من ثقبة ضيّقة إنّما يبصر العساكر المجتازة واحدا فواحدا ، أو
المقادير الطويلة العظيمة شيئا فشيئا ، وهى محتشدة في الوجود خارج العريش. والذي
هو بارز فاتح عينيه يبصرها محتشدة معا على ما هي عليه مرّة واحدة.
وإذا أمررت سلكا
مختلفا ألوان أبعاضه على بعض ضيّقات الحدقة ، كذرّة أو غيرها ، كانت السواسية
الحضور لديك ، لسعة إحاطتك بتلك الجملة متعاقبة في الظهور عليها لضيق حدقتها ،
والإنسان الحسّىّ الّذي هو صنم للإنسان العقلىّ مواضع أعضائه مختلفة ، والإنسان
العقلىّ جملة [١٠٤ ب] أعضائه روحانيّة لا تعقل لها مواضع مختلفة.
فاعتبر من ذلك
كلّه واخبر اختلاف نسبة الامتداد الزمانىّ جملة بقاطبة مقارناته من الحوادث
المرتبطة بالأزمنة والآنات إلى النظر الوهمىّ للقوى المدركة الزمانيّة وإلى البصر
العقلىّ البارز عن عريش التغيّر إلى سماء الثّبات تعاقبا واجتماعا. فالسالك
طريقا ما أرضيّا
إذا صار إلى آخره فارق أوّله. وأمّا السّالك في أرض الحياة ، فإنّه يسلك إلى
الأقصى من غير مهاجرة من المبدأ الأوّل ، ويكون في الأولى وفي القصيا وفي ما
بينهما على حالة واحدة.
تشريق
(٧٤ ـ التّشخّص مطلق على معنيين)
ألم يبلغك أنّ
لفظة التّشخّص يقع في الإطلاق الصّناعىّ على معنيين : أحدهما تميّز الشّيء عن سائر
مشاركاته في الوجود ، والآخر امتناع الشّركة الحمليّة فيه بحسب نفسه. فالأوّل
كثيرا ما يفيده تضامّ مرسلات عدّة ، ومنها الأعراض المادّيّة المسمّاة مشخّصات.
وذاك الّذي يرام في قولهم : «الأشخاص المتّفقة الماهيّة» ، يتشخّص بالوضع والوضع
يتشخّص بذاته وبالزمان ، والزمان بالوضع ، وكذلك المكان. وأمّا الثّاني ، فليس
يسوغ أن يتصحّح من ذلك. وجملة الطبائع المرسلة المتضامّة متناهية ومتمادية إلى لا نهاية
في حكم طبيعة واحدة في عدم الصّلوح لإفادته. فإذن ليس شيء من مقولات الجائزات ما
بحسبه الشّخصيّة المقابلة لصحّة الشّركة ، ولو كان كلّ شيء ذا ماهيّة مرسلة لم تكن
في التّقرّر ولا في التّصوّر هويّة شخصيّة [١٠٥].
تغريب وتشريق
(٧٥ ـ الجاعل التامّ يفعل تشخّص الهويّة بذاته)
لا تستسوغنّ ما قد
يخمّنّ بالظنّ أنّ مبدأ الشخصيّة ، الّتي هي امتناع الشركة الحمليّة في كلّ هويّة
متشخّصة جائز الذّات من أشخاص الطّبائع المرسلة ، جائز ما متشخّص بذاته ، غير
مندرج بجوهر حقيقته تحت طبيعة ما أصلا. وإن ساغ أن يخرج من جملة المقولات ما ليس
له ماهيّة محصّلة متأحّدة تأحّدا نوعيّا بعد أحديّة جنسيّة ، فإنّه إنّما لن
يستطيع ذاكر أن يذكر شيئا لا يقع بجوهر ذاته تحت واحدة منها إذا كان قد تحصّلت له
ماهيّة متأصّلة ذات تأحّد نوعىّ من بعد أحديّة جنسيّة.
أليس من
المتبرهنات ، بل من البيّنات ، بصريح الغريزة القويّة الحدس ، أنّ كلّ جائز الذّات
فإنّ وجوده وراء جوهر حقيقته ، والعقل ليس يستصحّ أن يضع للتشخّص مرتبة
قبل مرتبة الوجود
، فليس يصحّ أن يتشخّص بنفس ذاته إلّا الذي تكون إنيّته بعينها ماهيّته. ثمّ لا
يمترى في أنّ المتشخّص بحقيقته يجب أن يكون بسيط الحقيقة بساطة حقّة على الإطلاق.
فيلزم أن يكون في الوجود بسائط حقّة بعدد أشخاص الموجودات.
ولا تستصحّنّ أيضا
ما قد يخرص بالوهم أنّ الشخصيّة والإرسال والجزئيّة والكليّة من عوارض الإدراك ،
لا من أوصاف المدرك ، وليس يتفاوت الشخصىّ والمرسل والجزئيّ والكلىّ بأمر ما في
المدرك ، بل إنّما باختلاف نحو الإدراك. فمناط الشّخصيّة والجزئيّة هو الإدراك
الإحساسىّ أو إدراك المجرّد نفسه إدراكا شهوديّا. ومناط الإرسال والكليّة
الإدراكات [١٠٥ ب] التعقّليّة. ولا يزيد الشخص ، كزيد ، على الطبيعة النّوعيّة ،
كالإنسان ، بشيء يدخل في الحقيقة الشّخصيّة ، ولا يدخل في النّوع المرسل. فلذلك ما
إذا سئل عن الشخص ب «ما هو» لا يقع في الجواب إلّا النّوع.
أليس من البتّيّات
الباتّة : أنّ كلّ شخص من أشخاص الطّبيعة ، فإنّ له في حدّ هويّته وبحسب نفسه ، مع
عزل النظر عن وقوعه في التصوّر ، صلوح أنّ يحلّله العقل إلى هويّة شخصيّة مستحيلة
الحمل على هويّات متعدّدة ، وطبيعة مرسلة هي تلك الطّبيعة الجائزة الانسلاخ
الإرسالىّ عن تلك الشّخصيّة والاشتراك الحملىّ بين شخصيّات عدّة. فالهويّة
الشخصيّة منحازة في اللّحاظ التحليلىّ عن الطبيعة النّوعيّة ومتأخّرة عنها تأخّرا
بالذّات ، أى: تأخّرا بالماهيّة وتأخّرا بالطبع ، ولها مطلب «من» ، كما للحقيقة
النّوعيّة مطلب «ما». ثمّ إنّ الشخص ، بما له الهويّة الشّخصيّة الممتنع قولها على
الكثرة ، ربّما يدرك كذلك إدراكا تعقّليّا من جهة العلم الإحاطىّ بجملة الأسباب
المتأدّية إلى شخصيّته. فكيف يكون التعقّل هو مناط الإرسال والكليّة.
فإذا نفضت قريحتك
من الظنون الكاذبة نفضا ، ورفضت سبيل التّخمينات المكذوبة رفضا ، فاعلمن أنّ
متشخّصيّة الهويّة الشّخصيّة الجائزة هي نحو وجودها الّذي يخصّها على الانفراد
منفصلة منحازة عن سائر الهويّات الشّخصيّة الّتي هي مشاركاتها في الحقيقة والوجود.
لست أعني [١٠٦ ظ]
بذلك : أنّ تشخّصها هو الوجود على الحمل الأوّلىّ أو على الحمل الشّائع الصّناعىّ
، ولا أنّ مبدأ شخصيّتها هو وجودها الخاصّ ، أى : حصّتها من
الوجود المرسل
المنتزع منها. فالوجود مباين التشخّص بالمفهوم. وإنّما تحصّصه بالهويّة المتشخّصة
بعد استتمام شخصيّتها ، كما تشخّص الأعراض القائمة الوجود فيها بعد ذلك. بل إنّما
أعني : أنّ استنادها إلى الموجود الحقّ المتشخّص بذاته ممتازة منحازة عن سائر
المستندات إليه من الهويّات ، هو ما به متشخّصيّتها ، أى : امتناع قولها على
الكثرة ، والعوارض المشخّصة بالتّسمية الاصطلاحيّة لواحق النّوع ومفيدة التميّز عن
سائر الهويّات ولوازم الشّخصيّة المقابلة لإمكان الشركة وأماراتها. فإذن ، جاعل
الذّات والوجود هو فاعل التشخّص.
فاستذكر ما
علّمناك في مسلف القول ، من الفرق بين المنتزع منه ومطابق الانتزاع ، وتعرّف أنّ
سبيل الوجود والتشخّص في ذلك واحد. فكما الوجود ينتزع من الجائزات على أن هي
بذواتها ليست مطابق الانتزاع ، بل إنّما مطابقه ومصحّحه استنادها إلى الموجود
الحقّ بنفس ذاته ، فكذلك التشخّص ينتزع من الأشخاص الجائزة على أن هي بهويّاتها
ليست مطابق الانتزاع ، بل إنّما مطابقه ومبدأ تصحّحه استنادها إلى المتشخّص الحقّ
بنفس ذاته.
فكما تعرّفت : أنّ
الجاعل الحقّ ، سبحانه ، موجد الموجودات ، ووجودها أيضا الوجود الحقيقىّ ، لا
الانتزاعىّ ، فتعرّف أنّه ، عزّ شأنه ، مشخّص المشخّصات ، وتشخّصها أيضا التشخّص الحقيقيّ
الّذي هو مبدأ امتناع الشركة ، لا الانتزاعيّ [١٠٦ ب]. فالاستناد إليه ، على سبيل
الانفراد والانفراز عن سائر الشخصيّات بتضامّ عوارض مميّزة تلحق الطبيعة المرسلة ،
مناط المتشخّصيّة ، كما للهويّات الشّخصيّة وعلى سبيل المخلوطيّة ، والاتّحاد
بالهويّة المتشخّصة مناط المحفوفيّة بالشخص ، كما للطبائع المرسلة.
فلذلك ليس تعدّد
الأشخاص تعدّد الطبيعة المرسلة بالذّات ، بل إنّما بالعرض ، إذ العقل في اللحاظ
التحليلىّ يجد الوجود في الأعيان إنّما بالذّات للهويّات بما هي هويّات متعدّدة
وللطبيعة المرسلة بما هى هى ، لا بما هي واحدة أو متعدّدة. وقولنا في أضعاف
الصّناعة : «الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد» ، إنّما نروم به المعنى الأعمّ من
المشخّصيّة ومن المحفوفيّة بالتشخّص.
واعلمن : أنّ
الهويّة إذا كان نوعها فى شخصها ، فالجاعل التامّ يفعل تشخّصها
بذاته ويفيض
شخصيّتها من حيث هي هي بالذّات. وإذا كانت طبيعتها النّوعيّة منتشرة في أشخاصها
عديدة ، كان الجاعل الحقّ إنّما يفعلها بشخصيّتها من حيث إنّه جزء النظام التّامّ
الواحد بالشخص على الانفصال عن سائر الأجزاء المتمايزة المتفارزة فى الذّات
والوجود.
وإن سألت الصّواب
القراح ، فالجاعل الحقّ بذاته يفعل شخصيّة النظام الجملىّ بالذّات وبالقصد الأوّل
، وسائر الشخصيّات من حيث هي أجزاء نظام الغير الشخصىّ الواحد بالشخص منحازا بعضها
عن بعض. فالتّشخّص مطلقا من حيث إنّ نوع النظام لا يصحّ إلّا في شخصه الّذي يفعله
الجاعل الحقّ بمحض جوده الّذي هو نفس ذاته.
فهذا مبلغ كنه
المعرفة في مسألة التشخّص [١٠٧ ظ] ، وهو ما تواطأت عليه كرام الفلاسفة الأوّلون
ورؤساء الصناعة الأقدمون من المشّائيّة والرّواقيّة. ولكنّا نحن قد أسبغنا رمّه
وأبلغنا ثمّة ، فالفلسفة المنسوخة اليونانيّة والحكمة الناسخة اليمانيّة في رصد
هذه الحقيقة لبمرصاد واحد ، لكنّ الحكمة اليمانيّة على غضاضة بصيرة ونضارة غضيضة ،
وإنّ أمّة الظنّ والتخمين عن سبيل الملكوت لفى ضلال بعيد وجهالة عريضة.
تشريق
(٧٦ ـ العلم بالجسمانى إحساسى او تعقلى)
فإذن ، لا يختبئنّ
عن خبرك : أنّ العلم بالشخصىّ الجسمانيّ المدرك بشخصيّته وجسميّته يتصوّر على
سبيلين : أحدهما : أن يكون إشاريّا إحساسيّا انفعاليّا ، مستفادا عن نفس وجوده
المتخصّص بوضعه وأينه ومتاه ، وعن خصوصيّة وضعه ومكانه وزمانه. وهو الإدراك
المتغيّر بتغيّر المعلوم بتّة. ويسمّى في الاصطلاح الصّناعىّ بالعلم الزمانىّ
وبالعلم بالجزئىّ على الوجه الجزئيّ. وثانيهما : أن يكون علما تعقّليّا فعليّا من
جهة العلم بجملة علله والإحاطة بجميع أسبابه المتسلسلة على الترتيب والتدرّج
منتهية إليه. وهذا هو المسمّى في الصّناعة بالعقل التامّ الغير الزمانىّ وبالعلم
الجزئيّ على الوجه الكلّىّ ، لأنّه كتعقّل الطّبائع المرسلة والكليّات في الثّبات
على حالة واحدة.
فهو ليس يتبدّل
ولا يتغيّر بتغيّر المعلوم في نفسه بحسب افق التقضّى والتجدّد ، بل المعلوم وإن
كان متغيّرا في الزمان فإنّه بشخصيّه يحضر مع وقته ومكانه
الشّخصيّين ،
المتخصّص وجوده [١٠٧ ب] بهما عند عاقله المحيط به وبأسبابه أبدا ، أبديّة دهريّة
غير زمانيّة. فالمعلوم واحد في الضّربين. وهو الهويّة بما هي شخصيّة ممتنعة
الشركة، وإنّما المختلف نحو العلم ، إذ ما هو المحسوس في الضّرب الزمانىّ بالإدراك
الإحساسىّ هو بعينه معقول في الضّرب التامّ بالعلم التعقّلىّ الغير المتغيّر.
فمن المستبين :
أنّ العلم التامّ بالعلّة التامّة موجب العلم بالمعلول ، لا موجب الاحساس به أو
تخيّله ، بل إنّه مستوجب إحالة الإحساس والتخيّل. أليس هو موجب العلم التامّ به من
تلقاء إيجاب الجاعل إياه وتأدية الأسباب إليه لا من جنبة أعضاء أدويّة وآلات
متجزّية. والإدراك الإحساسىّ أو التخيّلىّ ليس يمكن إلّا بالقوى الهيولانيّة ،
كالحواسّ الجسمانيّة.
فإذن ، قد اقترّ
أنّ مناط الانكشاف في العقل التامّ من تلقاء عقل الأسباب ظهور تأدية الأسباب
وظاهريّة الجاعل التامّ من حيث كنه ذاته. ولا حظّ لوجود المعلوم من المدخليّة في
تصحيح أصل الانكشاف أو أشديّته واشتداده هناك أصلا. إنّما ذلك في الإدراكات
الانفعاليّة. فالشخص الهيولانىّ معقول بشخصيّه في هذا العقل ، قبل وجوده وحين
وجوده على سبيل واحد ، وليس وجوده بالفعل يزيده بسطة في الظّهور والانكشاف ، بل
إنّما يوجد حين ما يوجد منكشفا غير محتجب.
تقديس
(٧٧ ـ القيّوم الواجب أقدس من أن يكون زمانيّا أو مكانيّا)
ألم ينصرح لك :
تبيان أنّ القيّوم الواجب (الحقّ) على أعلى المراتب في سنّة التقدّس والمكان
والزمان من عوارض المادّة الهيولانيّة؟ فهو أقدس من أن يكون مكانيّا أو زمانيّا ، وأيضا
هو خالق الزمان والمكان ومبدع [١٠٨ ظ] عللهما ، فكيف يكون فيهما؟
وأنّه كما ليس
الوجود إلّا الموجوديّة المصدريّة ، لا حيثيّة ما تقييديّة وراء الماهيّة هي ما به
الموجوديّة ؛ وإنّما صحّة انتزاعه من الموجود الحقّ بنفس ذاته ، لا بحيثيّة ما
تقييديّة ولا تعليليّة ، ومن الموجودات الجوازيّة بحيثية هي استنادها إلى الموجود
الحقّ ؛ فكذلك التّشخّص ليس إلّا المشخّصيّة المصدريّة ، لا حيثية ما تقييديّة ،
تنضمّ إلى الماهيّة ، فتكون ما به المتشخصية ، بل إنّما صحّة انتزاعه من المتشخّص
الحقّ
بنفس ذاته ، لا
بحيثيّة ما تقييديّة ولا تعليليّة ، ومن كلّ من الأشخاص الجوازيّة بحيثيّة ما
تعليليّة هي استنادها إلى المشخّص الحقّ بنفس ذاته ، استنادا منفعلا ؛
وأنّ الجاعل الحقّ يعقل ذاته عقلا تامّا
، ويعقل أنّه جاعل كلّ ماهيّة وهويّة ؛ فيعقل أوائل المتقرّرات عنه وما يتولّد
عنها. ولا شيء من الأشياء إلّا وقد صار واجب التّقرّر والوجود من تلقائه ، يتأدّى
إليه بعينه قدره الّذي هو تفصيل قضائه الأوّل تأدّيا واجبا ؛ وأنّه جلّ قدسه ،
يمتنع أن يستفيد أو يزداد من وجود الأشياء علما أو يكون له حالة ما يتجمّل به ذاته
أخيرا ، إذ ذلك من خواصّ الانفعال ، وهو من عوارض القوّة الانفعاليّة الّتي هي شأن
جوهر الهيولى.
فإذن ، قد آن لك
أن تستيقن أن العليم الحقّ ، سبحانه ، ليس يسوغ أن يدرك المتقرّرات الزمانيّة
والمكانيّة إدراكا حسيّا أو خياليّا ، ويشير إليها إشارة حسّية ، وهي امتداد وضعىّ
من ذى وضع إلى ذى وضع آخر كائن منه في جهة معيّنة [١٠٨ ب] ، أو يعقل الأشياء شيئا
فشيئا على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول ، بل إنّه يجب أن يعقل قاطبة
الماهيّات والهويّات العقليّة والحسيّة معا ، عقلا تامّا وفوق التمام ؛ ويحيط
بجملة امتداد الزمان من أزله إلى أبده ، بما فيه من الأجزاء المفترضة وجميع
المتزمّنات المقارنة لزمان زمان ، وجملة النسب الواقعة بينها ومقادير قبليّاتها
وبعديّاتها على ما هي عليه في الوجود ؛ وكذلك بجملة الأحياز والأمكنة السّارية في
الجهات مع المتمكّنات الّتي تحويها والأوضاع والجهات والنسب الّتي هي عليها وما
يتألف منها إلى لا نهاية ، وكيفيّة الإشارات الحسيّة من كلّ إلى غيره ، ومقادير
الامتدادات بينها على ما عليه الوجود.
فالأشياء تامة
الحضور عنده أبدا ، زمانيّة كانت أم غير زمانيّة ، والماضى هناك قائم والمستقبل
حاضر. وبالجملة يحضر عنده عرش الزمانيّات وفلك المتغيّرات وعنصر التقضّى والتجدّد
وسنخ الامتداد بما يحتفّ به من الضرّات والذرّات. وهو يعقل الأشياء الغير
المتناهية على مراتبها واختلاف شئونها ، من الأبديّة والبائديّة ، والقارّيّة
واللّاقارّيّة ؛ فهى كلّها حاصلة بالفعل عنده. والموجود المتقضّى شيئا فشيئا ،
والمعدومات في الماضى ، والمعدومات في المستقبل كلّها بالإضافة إليه موجودة
بالفعل ؛ لأنّه
جاعل ماهيّاتها وإنّيّاتها ، ومبدأ الأسباب الّتي بمصادماتها ومصاكّاتها
ومصادفاتها ومطابقاتها واجبة الانتهاء إليها بتّة.
فهو يعقل ذاته
ولوازمه ولوازم لوازمه إلى أقصى التّقرّر ، دائما على سنّة ثابتة ، من غير أن
يقتنص حين وجودها علما جديدا ، أو يستأنف معرفة طريّة. فهى فى ظهور وجودها له على
حالة سواء في كلّ حال ، أعني [١٠٩ ظ] قبل حصولها بالفعل ومع الحصول وبعد الحصول.
ويجب أيضا أن يعلم
الشّخصيّات المحسوسة الزمانيّة والمكانيّة على الوجوه الشّخصيّة الغير القابلة
للاشتراك الحملىّ ، علما عقليّا هو أتمّ العلوم وفوق التمام ، فيعقل كلّا منها
شخصيّا في وقته الشخصىّ ومكانه الشخصىّ أبدا بعلله وأسبابه المتأدّية إلى شخصيّته.
فنظام الوجود
بجملة أجزائه وأحواله ، وإن لم يكن بحسب نفسه وفي حدّ طبيعته بحيث يأبى مطابقة صور
عوالم غير هذا العالم ، هي أمثال هذا العالم ، إلّا أنّ صدوره عن جاعله التامّ
المتشخّص بذاته وارتباطه بجنابه وترتّبه على نفس حقيقته الحقّة الشّخصيّة قد أحال
تلك المطابقة وأوجب له امتناع الشركة.
فالجاعل الحقّ ،
إذ يعلم صدور كلّ هويّة شخصيّة عن ذاته الأحديّة المشخّصة صدورا متميّزا على سبيل
الانفراد ، وذلك مناط المتشخّصيّة ، فلا محالة يعلمها متشخّصة ممتنعة الشركة. فإذن
، إنّما الّذي ليس يليق بمجده هو نحو العلم الإحساسىّ أو التخيّلىّ ، لا العلم
بالجزئيّات المحسوسة والمخيّلة مطلقا ـ أى : أىّ نحو كان من العلم ـ فإنّه يعلمها
بهويّاتها المحسوسة والمخيّلة ، علما عقليّا هو أتمّ العلوم ، والزمان محسوس لنا
من وجه ومعقول من وجه ، ومعقول له من كلّ وجه.
وكذلك ، فكلّ ما
هو محسوس لأحدنا بحاسّة ما في وقت بخصوصه ، فإنّه بعينه معقول له ، سبحانه ، على
أفضل الأنحاء دائما أبدا بجملة علله وأسبابه ، لا بآلة ، وما به الانكشاف لدينا
وجود ذلك المحسوس بالفعل ، وعنده ، عزّ مجده ، نفس ذاته الأحديّة الحقّة.
وكما لا يسوغ أن
يقال «إنّه ، تقدّست أسماؤه ، ذائق أو لامس ، مع علمه[١٠٩ ب]
بالمذوقات
والمشمومات والملموسات ، لا محالة ، وليس يثلم ذلك في تنزيهه بل يؤكّده» ، فكذلك
لا يسوغ أن يقال : إنّه عالم بالهويّات الشّخصيّة الهيولانيّة علما جزئيّا زمانيّا
متغيّرا مع علمه بها علما عقليّا تامّا ثابتا على أكرم الوجوه بتّة ، وليس يثلم
ذلك في تقديسه ، بل إنّه يؤكّده.
ولو كنّا نحن نعرف
حقيقة القيّوم الحقّ وما يوجبه ذاته بذاته من صدور اللوازم كلّها عنه ، لازما بعد
لازم ، إلى أقصى النظام ، لكنّا أيضا نعلم الأشياء بأسبابها علما تعقّليّا غير
متغيّر. فلو كنّا نحيط بأسباب شخص ما وضعىّ زمانىّ ، لكان يتهيّأ لنا أن نتعقّله
بشخصيّته تعقّلا أبديّا غير زمانىّ. لكنّا إنّما نستفيد العلم به بخصوصه من وجوده
ووضعه ومكانه وزمانه.
وكذلك المنجّم ،
بالقياس إلى تحقّق هذا الكسوف ، مثلا ، بالفعل ، في هذا الآن بخصوصه ، وإنّ قدّرنا
أنّه قد تثقّف وأحاط بحركات السّماويّات ، فلا جرم ، لسنا ندركه إلّا بالإحساس أو
التخيّل ، وهو أنّه ليس يدرك هذا الكسوف الشخصىّ إلّا بالمشاهدة الحسيّة.
والجاعل الحقّ
يعلمه مرتبطا بذاته المتشخّصة مسبّبا عن جملة الأسباب الّتي أفاضها ورتّبها منتهية
إليه ، فلا محالة ، يعلمه شخصيّا ويبصره متخصّصا بأينه ووضعه ومتاه. لست أقول :
أينه ووضعه ومتاه بالقياس إليه ، فإنّه ، تعالى عن ذلك ، جاعل الوضع والأين والمتى
وربّ الكلّ ومن وراء الجميع محيط ؛ بل أقول : أينه بالقياس إلى المتأيّنات ، ومتاه
بالقياس إلى المتمتّيات ، ووضعه بالقياس إلى ذوات الأوضاع.
حكمة تفسيرية
(٧٨ ـ توضيح في العلم الإلهي في الكتاب الكريم)
لعلّ في قول الله [١١٠
ظ] العظيم في القرآن الحكيم : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما
شاءَ) ـ بعد قوله ، سبحانه ـ (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة ، ٢٥) ،
دلالة ، بل تنصيصا على أنّ الملكوتيّات والملكيّات والماضيات والمستقبلات
والحاضرات والغائبات ، سواسية الفعليّة في علمه المحيط ، وتنبيها على أنّه إنّما
العلم بها ـ لأنّها ذوات ناعتيّة وموجودات رابطيّة بالقياس
إليه تقرّرها
ووجودها له ، سبحانه. وقوله ، سبحانه : (بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أى : بشيء من هويّات الموجودات ، الّتي هي بعين ذواتها
ووجوداتها أخيرة مراتب علمه التفصيلىّ.
ولعلّ في قوله عزّ
من قائل : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (الأنعام ، ٥٩)
إشارة إلى الإحاطة بالأسباب المنتهية إلى شخصيّات نظام الوجود ، فهى مفاتيح الغيب
، وليس يحيط بجميع الأسباب إلّا هو. ثمّ في قوله الكريم : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي
كِتابٍ مُبِينٍ) (الأنعام ، ٥٩) ،
وكذلك في كريمة أخرى (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ
مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يونس ، ٦١) ، إن سيق القصد إلى انكشاف الموجودات بحسب
وجوداتها العينيّة ، ريم ب (الْكِتابِ الْمُبِينِ) شخص النظام الجملىّ التامّ المتّسق. وإن سيق إلى
معلوميّتها بحسب صورها المنطبعة في المدارك العقلانيّة والنفسانيّة عنى به جوهر
مفارق ينتقش فيه صورة نظام الوجود من أوّله إلى أقصاه. والله عنده علم الكتاب.
وهم وتقديس
(٧٩ ـ علم البارى العلم التامّ بكنه الماهيّة ليس يزداد أو يشتدّ)
ربّما وسواس الوهم
يزعج [١١٠ ب] سرّك : أنّ الحوادث لم تكن متقرّرة الذّوات في الأعيان ، ثمّ تقرّرت
من بعد البطلان ، وقد أصّلتم أنّ ذوات الموجودات ووجوداتها هي بعينها أخيرة مراتب
العلم. فهذه المرتبة من العلم لم تكن عند عدم الحوادث ، ثمّ إنّها كانت من بعد
اللّاكون حين وجودها ، فما شأنها؟ أهى من المراتب الكماليّة للعليم الحقّ ، فكيف
يصحّ عدمها أوّلا ، ثمّ حدوثها أخيرا ، أو لا؟ فكيف تليق بجنابه؟
فإن كنت ، بعد ما
فصّل عليك ، في ريب من أمرك ، كرّر عليك القول المزيح ، لذلك الإزعاج على سبيل
الاستيناف ، فقل لى انزعاجك فى العدم الزمانىّ للحوادث الزمانيّة ، فقد عرّفناك
أنّ العدم الزمانىّ إنّما يحسب عدما في أفق التقضّى والتجدّد وبالقياس إلى الذّوات
الزمانيّة ، لا بحسب الواقع في وعاء الوجود الّذي هو الدهر وبالنسبة إلى الموجود
الحقّ والجواهر التامّة فالمعدوم الزمانىّ موجود بالفعل ، بحسب نفس الأمر في حدّ
وقته ، ووجوده في ذلك الوقت بخصوصه مبصر البصير الحقّ دائما أو في العدم الدهرىّ
للحوادث الدهريّة ، وهي جملة الجائزات طرّا. فقد
نبّهنا ، من قبل ،
على أنّ العلم الّذي هو بعينه هويّات الموجودات ووجوداتها ، إنّما معناه
معلوميّتها ، أى : مجعوليّتها ، للجاعل الحقّ ، مكشوفة غير محجوبة.
وليس يصحّ أن يعنى
به العالميّة الّتي هي من جهات ذات البارئ الجاعل وأسماء حقيقته المقدّسة وأنّه ،
جلّ مجده ، يمتنع أن يصير بحالة ما زائدة على ذاته بعد مرتبة ذاته وأنّ علومه
التفصيليّة ، حين وجود معلوماته الّتي معلولاته بالفعل ، أيضا علوم عقليّة فعليّة
تامّة. إنّما ما به الانكشاف ومناطه [١١١ ظ] فيها هو نفس ذاته الحقّة ومبدئيّته
بذاته لصدور نظام الوجود عنه على تراتيبه وتفاصيله.
وكون مناط انكشاف
الشّيء العلم التّامّ بجاعله التّامّ بنفس ذاته ، والإحاطة بجميع أسبابه المتأدّية
إليه ، أقوى في إفادة الظّهور من كون مناط الانكشاف وجوده وحضوره بمجرّد هويّته
الموجودة ، لا بعلله وأسبابه التّامّة. فالأوّل يوجب العلم التّامّ بكنه الماهيّة
والإنّيّة جميعا. والثّاني ربّما لا يفيد إلّا علما بالإنّيّة. وذلك إذا كانت
الإنيّة الحاضرة بمجرّد هويّتها من الأشياء الّتي هي ذوات العلل وأولات الأسباب ،
وأنّ علمه الفعلىّ التامّ بالموجودات من حيث الإحاطة بعللها وأسبابها ليس يزداد أو
يشتدّ حين وجودها بالفعل أصلا ، على خلاف شاكلتنا في علومنا الفعليّة بأمور نصنعها
، فإنّا إنّما نعلمها علما فعليّا ناقصا ، لعدم إحاطتنا بأسبابها جميعا.
ثمّ إذا ما هي
صنعت ووجدت ، ازددنا عالميّة بها ، لاستفادتنا من وجودها [بالفعل] معرفة جديدة
انفعاليّة. وكذلك الأمر في إدراكاتنا وعلومنا الإجماليّة والتفصيليّة. ولو كنّا
نحيط بالأسباب ونتقدّس عن الانفعال ، لكنّا لم نزدد بوجود المعلوم علما ، بل كان
علمنا به ، قبل وجوده ومع وجوده ، على سبيل واحد.
فإذن ، قد انصرح
أنّ وجود الحوادث المنكشفة عند بارئها إذا ما هي متقرّرة بالفعل من الأمور الملغاة
في تصحيح الانكشاف ، وإنّما هو داخل في الشّيء المنكشف ، لا أنّه معتبر في ما هو
مناط الانكشاف وملاك المعلوميّة.
فنسبة وجود
المعلوم الموجود بالفعل إلى معلوميّته لبارئه ، بمعنى كونه ظاهرا له غير عازب عنه
، نسبة الجار إلى صاحب الدار. ونسبته إلى معلوميّته ، بمعنى مجعوليّته له وصدوره
عنه بالفعل مكشوفا غير محجوب [١١١ ب] أحد اعتبارى
ذات الشّيء الواحد
إلى اعتباره الآخر.
فإذن ، عاد العدم
الصريح للحوادث الدهريّة في وعاء الدهر قبل الوجود إلى ليسيّتها في نفسها ،
وانتقاء معلوميّتها بالمعنى الأخير ، أى : كونها فائضة بالفعل عن مفيضها الحقّ
منكشفة غير محتجبة ، لا انتفاء معلوميّتها بالمعنى الأوّل ، أى : ظاهريّتها له
وعدم عزوبها عنه بنفس ظهور ذاته الفيّاض الّذي هو ما به الظاهريّة والانكشاف مطلقا
قبل تقرّر المجعولات المنكشفة وعند تقرّرها.
فإذن ، مرجع عدم
الموجودات الجائزة ، أوّلا ، إلى عدم المعلومات أنفسها ، لا عدم العلم بها. وإنّما
كانت مجعوليّتها بعد اللامجعوليّة ، أوّلا ، بعدية دهرية غير زمانيّة ، لأنّ طباع
الجواز ليس يسع الأزليّة السّرمديّة ، بل إنّه يتأبّاها ، لأنّ الجاعل كان يفقد
قوّة أو حالة أو تعوزه أداة أو آلة لم تكن حاصلة أوّلا ، ثمّ إذا هي قد حصلت أخيرا
، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
ثمّ تقرّر الحوادث
في وعاء الوجود الّذي هو الدهر يشغل حيّز البطلان الدهريّ ، ولا يذر للعدم حدّا ،
ولا يدع للحكم به بالإطلاق العامّ صحّة على خلاف شاكلة الوجود والعدم الزمانيّين.
فإذن ، ليس يبقى للوهم أن يتوهّم ، بعد حدوث الوجود في الدهر الذي هو متن الأعيان
وصلب نفس الأمر ، للعدم السّابق فيه ، حدّا وحيّزا يسأل عن المعلوميّة بحسبه.
وبالجملة ، إنّما المحال : المعلوميّة واللامعلوميّة بحسب حدّين متميّزين عند
الوهم ، إذ ذلك مستلزم التغيّر ، لكنّ الفتوى في سبيل التّقديس على النّمط المقدّم
[١١٢ ظ].
شكّ وتقديس
(٨٠ ـ إضافات الجاعل العالم الحقّ إلى مجعولاته ومعلوماته بغير نهاية)
فإن اغتال قريحتك
تشكيك المتشكّكين : أنّه كيف يعقل أن تكون الحوادث الكائنة الفاسدة هيولانيّة
الذّوات ، زمانيّة الهويّات ، ومعلوميّتها الّتي هي بعينها وجوداتها الزمانيّة
معقوليّة ثابتة غير زمانيّة ولا وضعية ؛ فاستذكر ما أسّسناه في صحفنا ولا سيّما في
«الصحيفة الملكوتيّة» : أنّ الثّابتات العقليّة غير متعلّقة بالهيولى وعوارضها
الّتي هي الوضع والمكان والزمان ، لا بحسب ذواتها ووجوداتها في أنفسها ، ولا
بحسب تقرّرها
ووجودها لجاعلها. وأمّا الهيولانيّات الوضعيّة ، فبحسب وجودها في أنفسها مكانيّة
وزمانيّة متخصّصة الهويّات بأوضاع وأمكنة وموادّ أو موضوعات وأزمنة أو آنات ،
وبحسب تقرّرها ووجودها لجاعلها غير واقعة في شيء من ذلك.
فلذلك كلّ منها له
في نفسه مدّة أو طرف مدّة ، وله في نفسه مادّة ، وليس بشيء منها بحسب صدوره عن
الجاعل ووجوده بالقياس إليه وحضوره عنده تكتنفه غواشى المادّة. فماديّة المادّيات
وزمانيّة الزمانيّات بحسب اعتبار ذواتها في حدّ أنفسها ، لا بحسب اعتبارها بالقياس
إلى جاعلها المحيط بكلّ شيء ، وإنّما معلوميتها عين وجوداتها بلحاظها رابطيّة.
فإذن ، هى فى أنفسهما هيولانيّات زمانيّات مختلفة بالمضىّ والاستقبال والحاليّة ،
ومعلوميّتها الّتي هي عين وجودها الرابطىّ معقوليّة تامّة غير وضعيّة ولا زمانيّة.
وليس يصحّ أن يقال
: إنّها معلومية زمانيّة بالعرض. وذلك ، كما قد استبان لك في أضعاف العلم [١١٢ ب]
: أنّ كلّ شخصىّ من شخصيّات الكثرة المتّفقية الحقيقة مادّىّ الهويّة ، محسوس
الذّات ، ونوعه المرسل متحد معه في التّقرّر والوجود ، متقرّر بعين تقرّره ، موجود
بعين وجوده. وليس يصحّ أن يقال : إنّه مادّىّ بالعرض ، محسوس بالعرض ، بل إنّما
يصحّ أن يقال إنّه مخلوط في الوجود بالمحسوس. وإضافات جاعليّة الجاعل الحقّ
وعالميّته إلى مجعولاته ومعلوماته بغير نهاية ، مرّات غير متناهيّة. وهي بأسرها
حاصلة بالفعل غير متعاقبة الحصول بالقياس إلى جنابه ، سبحانه. فكلّ يوم هو في شأن
، ولا يشغله شأن عن شأن. فهذا نمط من العجائب الملكوتيّة ، المحوج إدراكها ، بعد
رفض الوهم وتنظيف الغريزة ، إلى توسيع العقل وتلطيف القريحة.
تقديس
(٨١ ـ مراتب علم الفيّاض سبحانه بتراتيب النظام)
علّك ، إذن ، قد
تحقّقت : أنّ البارئ الفيّاض ، سبحانه ، يصبّ الفيض على «عالم الجواز» في وعاء
التّقرّر الصّرف الّذي هو الدهر أبدا ، صبّة واحدة ، فلا يزال يفيض جملة العوالم
معا مرّة واحدة غير زمانيّة. أمّا «عالم الحمد» ، أعني الأنوار العقليّة والجواهر
الثّابتة ، ففى متن الأعيان ، لا في زمان ولا في آن. وأمّا «عالم الملك» ، أعني
الظّلمات
الهيولانيّة والبرازخ الجسمانيّة ، ففى الأزمنة والآنات والأحياز والأمكنة ، كلّ
شخصىّ منها بشخصيّته في وقت بخصوصه وحيّز بعينه.
على ما في القرآن
الحكيم : (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (لقمان ، ٢٨). وفي
السنّة الشّارعة النبويّة : «جفّ القلم بما هو كائن». و «جفّت الأقلام
وطويت الصّحف». و «ما من نسمة
كائنة إلى يوم [١١٣ ظ] القيامة إلّا وهى كائنة».
فاعلمن : أنّ
لعلمه تعالى بتراتيب النظام الصادر مراتب : أولاها : نفس ذاته ، الأحد الحقّ ،
الّذي هو علمه البسيط المطلق بكلّ شيء. وثانيتها : «القلم» ، أى : الجوهر العقلىّ
الأوّل الثّابت بما يتمثّل فيه من صور عالم الوجود ، غير مغادر صغيرة ولا كبيرة
إلّا وهو محصيها. وهذه أولى مراتب التّفاصيل العلميّة المتكثّرة. وثالثتها : اللوح
المحفوظ ، أى : النّفوس المفارقة العاليّة ، بما يرتسم فيها من صور المرسلات
والكليات. ورابعتها : «كتاب المحو والإثبات» ، أى : القوى العلويّة بما ينطبع فيها
من صور الشخصيّات والجزئيات. وخامستها : «الكتاب المبين» ، الّذي هو النظام
الجملىّ التّامّ المتّسق بجملة ما فيه ، غير مغادر شيئا من الماهيّات والهويّات
العينيّة والصّور الإدراكية المنتقشة في المدارك العقلانيّة والمشاعر الإنسانيّة.
وجميع علومه ، سبحانه ، بما عدا ذاته ، عقليّة فعليّة تامّة. وأمّا علمه بذاته
القدّوس فأقدس من أن تضرب لمجده الأمثال أو يشرح سبيل عزّه بالمقال.
إيقاظ
(٨٢ ـ علم الجاعل الحقّ بأفعال الإنسان لا يصادم اختيار الإنسان)
لا تحسبنّ كون
علمه ، تعالى عزّه ، بأفاعيل الإنسان فعليّا ، مصادم ما عليه أصحابنا الإماميّون
المتمسّكون بحبل آل سيّدهم السّانّ الرّسول ، صلوات الله عليه وعليهم ، «أنّ فعل
العبد مسبوق بإرادته ومستند إلى اختياره» ، فعلّيّة الشّيء للشىء وجاعليّته
__________________
له ليست تصادم
توسيط وتسبيب الأسباب ، كما جاعليّته لهذا [١١٣ ب] الإنسان ، مثلا ، مع تسبّب
والديه وسائر الأسباب والشرائط له ، وكذلك لذرّات الوجود. ثمّ الوجوب بالاختيار
الواجب حصوله بعلله وأسبابه ـ ومنها الاستعدادات المتسابقة المتأدّية إليه ـ ليس
ينافي الاختيار.
والحقّ القراح
والكلمة السّواء في ذلك قول مولانا الصادق ، عليهالسلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين». وفي السّنّة
السّانّيّة النّبويّة وأحاديث الأوصياء المقدّسين ، صلوات الله وتسليماته على
ذواتهم الطاهرة ونفوسهم القادسة ، في المعارف الرّبوبيّة إشارات برهانيّة ونصوص
شعشعانيّة يتضيّق عن استعراضها طور هذه الصحيفة.
تقديس
(٨٣ ـ أكمل الإدراك للبارى تعالى ، ثمّ إدراك الأنوار العقليّة ثمّ العلوم
النفسانيّة)
فبما أنبهناك وبما
أدريناك ، تلخّص لك : أنّ الإدراك يقع على ضروب الإدراكات بالتشكيك. فله اعتبار من
حيث هو إدراك ، واعتبار من حيث هو حالّ ما للمدرك ، واعتبار من حيث هو حالّ ما
للمدرك ، وله بكلّ واحد من الاعتبارات مراتب مختلفة : أمّا اختلافه بحسب ماهيّته ،
فبكونه تارة إحساسا ، وتارة تخيّلا ، وتارة توهّما ، وتارة تعقّلا. وأمّا بحسب
القياس إلى المدرك ، فبكون العاقل شديد التّقدّس عن عوالم المادّة وغواشيها ، أو
هاويا متوسّط الهويّ إلى الانغماس فيها ، أو متوغّل الاغتماس فيها وفي علائقها ،
وبكونه فاعلا لمدركه أو منفعلا عنه.
فالإدراك الفعلىّ
المقتضى لكون المدرك فاعلا ـ إذ ليس معناه إلّا صدور ذات الشّيء عن فاعله ، المفيض
إيّاها ، منكشفة عنده ـ أتمّ حقيقة ووجودا [١١٤ ظ] من الإدراك الانفعالىّ المقتضى
لكونه منفعلا ، إذ ليس معناه إلّا حصول صورة الشّيء في نفس مدركه أو في آلته الّتي
هو أداة إدراكه ، وأيضا لأنّه مفيد وجود ، وهو مستفاد من وجود.
وأمّا بحسب القياس
إلى المدرك ، فبتجرّده عن المادّة أو ارتباطه بها أو مغموسيّته فيها ، وبانكشافه
بظهور معلولاته أو بحضور ذاته أو بحضور علله وأسبابه إذا كان ذا أسباب وعلل.
فالمدرك المجرّد عن المادّة أتمّ في كونه مدركا من المغموس فيها ، والمدرك بعلّته
وبحضور جملة علله أتمّ ظهورا من المدرك بمعلوله أو بشهود وجوده
المعلول من غير
شهود علله.
وقاطبة الأشياء ،
مرسلة أو شخصيّة ، وكلّيّة أو جزئية ، لها إلى بارئها ، سبحانه ، نسبة المعلوميّة
على أن هي معلومته ، سواء في ذلك أدخل شيء منها في التّقرّر بالفعل أم لم يدخل ، ونسبة
المجعوليّة على أن هي مفاضته [و] مجعولته غبّ عدمها الباتّ الصريح ، فيضانها عنه
لا ينسلخ عن انكشاف ذات ما فاض عنه بالفعل. بل إنّ معلوماته ، جلّ ذكره ، تبقى عند
الصّدور عنه بالفعل على انكشافها الّذي قد كان من قبل من غير أنّ يغيّر ذلك أمرا
منه في الحالين وفي الأحوال كلّها.
فإذن ، أكمل
الإدراكات وأتمّها في ذواتها : إدراك البارئ الحقّ ، سبحانه ، لذاته بذاته على ما
عليه ذاته ، ولجميع ما سواه أيضا بذاته من حيث هو عاجلها التّامّ بنفس ذاته. وهو
أيضا أفضل أنحاء كون الشّيء مدركا ، لأنّه فعلىّ ذاتيّ ؛ وأفضل أنحاء كون الشّيء
مدركا ، لأنّه تامّ حاصل من الوجه الّذي يجب أنّ يحصل [١١٤ ب].
ثمّ يتلوه إدراك
الأنوار العقليّة. أمّا إدراكها لكنه ذات بارئها فغير متصوّر الحصول أصلا. وأمّا
إدراكها لوجوده ، إدراكا تامّا فائضا ، غير ممكن من ذواتها المجعولة ، إلّا أنّ
المبدع الحقّ ، لمّا كان معقولا لذاته ، وهى عاقلة لذواتها ، فبإشراقه ، سبحانه ،
عليها عقلت نور وجوده ومجد قدسه وعزّ جلاله ، ثمّ عقلت ما دون الأوّل الحقّ ،
سبحانه ، من تعقّل ذات الأوّل وقيّوميّته ، تعقّلا تامّا غير نفسانىّ ، دون تعقّل
الأوّل ، سبحانه ، إيّاها بمراتب غير محصورة ومرّات غير متناهيّة.
ثمّ بعد ذلك ،
العلوم النفسانيّة ، وهى إدراكات النّفوس المستفادة من طرق الحواسّ والتخيّلات
وغيرها ، وتلك بأسرها نقوش ورواشم عن طابع عقلىّ ، إذ مخرج النّفوس من القوة إلى
الفعل عقل متصوّر بصور المعقولات ، فبحسب استعداداتها واتصالاته تنطبع منه فيها
على الانعكاس أو على الانعكاس أو على الرّشح صور معقولة ، وهى إدراكات : مترتّبة
الفعليّة ، متبدّدة المبادى ، إذ عضة منها تصاد بالحدس ، وعضة تقتنص من تلقاء
العلّة ، وعضة من تلقاء المعلول ، وعضة من طرق غيرها. ومتبدّدة المناسب ، إذ
الانتقال إلى العلم بالشيء ، تارة يكون من العلم بما يضاهيه ويلائمه ، وتارة من
العلم بما يوازيه ويقابله ، وتارة على وجوه غيرها.
فهذه أنقص مراتب
الإدراكات وأدونها.
ثمّ النفس
المستتمّة الذّوات بعقلها المستفاد عالما عقليّا مضاهيا للعالم الحسّىّ ونسخة
مطابقة لكتاب الله المبين ، الّذي هو النظام المتسق الوحدانىّ [١١٥ ظ] لعوالم
التّقرّر ، بكلّيّاتها وجزئيّاتها وجملها وتفاصيلها ؛ إذا استمكت عن سمط الامتداد
الزمانىّ الّذي هو عنصر التغيّر إلى حيّز الدهر الّذي هو وعاء صرف التّقرّر ،
وخرجت عن قرية الهيولى الظالم أهلها ، وانصرفت عن قبّة الطبيعة الغاسق جوّها ،
ونسيت مصطبة الحسّ الميّت فوجها ، كما كانت قد نسيت فيها وطن سنخ ذاتها ومسقط رأس
حقيقتها ، فاقترّت في مقرّ القرار ، واستقرّت على مستقرّ الثّبات في عالمها الّذي
هو صقع القدس وعرض البهجة وأرض الحياة : انتقلت من شوب القوّة النفسيّة إلى محوضة
الفعل العقلىّ ، وانقلبت إدراكاتها النفسانيّة المتعاقبة تعقّلات عقلانيّة متصافقة
متصاقبة. فهنا لك تكون قد نضّت عوارض النّفوس ورفضت خواصّها واستحقّت اسم القادس.
تعقيب
(٨٤ ـ تعرّف الإنسان بالأسماء الحسنى
لله تعالى)
لعلّ المستحصف
حظّه ، من أحصاف ما تلونا عليك ، في العلم والتّوحيد ، يستحقّ روعه العقلىّ نصيبا
ملكوتيّا من تعرّف أسماء الله الحسنى واستيناس الأنوار المودعة في بطون أسرارها
وبهجة قدسيّة من الألفاظ بذكر القيّوم ، الواحد ، الأحد ، الوتر ، الصمد ، الملك ،
الحقّ الغنىّ ، العليم ، الحكيم ، السميع ، البصير ، الجامع ، الواحد ، الواسع ،
المحيط ، الخبير.
تقديس
(٨٥ ـ جاعل النظام مفيض الخير بالعلم
والاختيار)
أليس من
المستبينات : أنّ الفاعل بالطبع ليس يفعل عن علم ، بل يتبعه الفعل ، لا عن علم به
وظنّ صلاح فيه ؛ والفاعل عن علم يفعل بالإرادة ويختار بالعلم لا محالة ، ويتبع
الفعل علمه بوجه [١١٥ ب] الخير فيه أو بكونه متشوّقا له ومؤثرا عنده.
وقد تحقّقت : أنّ
قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الّذي هو أتمّ العلوم
بكلّ معلوم معقول أو محسوس. فإذن ، هو ، سبحانه ، فاعل بالإرادة والاختيار بتّة ،
فإنّه يعلم ذاته ، وإنه بنفس حقيقته ، ينبوع كلّ تقرّر ووجود وكلّ كمال تقرّر وجود
، وذاته حقيقة محضة من كلّ جهة. فلا يوصف إلّا بالخيريّة المطلقة ، لا على أن هي
وصف له بعد مرتبة الذّات ، بل على أن ذاته نفس الخيريّة المحضة. فذاته بذاته مفيض
الخير وجاعل النظام الفاضل على الإطلاق.
فإذ يعلم من ذاته
كيفيّة الخير في الكلّ ، فيتبع ذاته ومعقوليّة ذاته فيضان الموجودات عنه على
النظام المعقول عنده من معقوليّة ذاته. لا على أن يتبعه ذلك اتّباع الضّوء للمضيء
والإسخان للحارّ ، تعالى عنه عزّه ، بل على أنّه عالم بكيفيّة نظام الخير في
الوجود ، وأنّه فائض عنه ، وعالم بأنّ هذه العالميّة يفيض عنها الوجود على
التّرتيب الّذي يعقله خيرا ونظاما فاضلا. وفيضان الخير والفضل عنه غير مناف لذاته
، بل إنّه مناسب لجنابه ، إذ هو تابع خيريّة ذاته ومقتضى جوده التامّ الذي هو نفس
ذاته. فإذن ، مجعولاته مرادة له ، ونظامها الصادر عنه مرضىّ لذاته. وليس أنّه
يعلمها ثمّ يرضى بها ، بل إنّ نفس علمه بنظامها الجملىّ الفاضل نفس رضاه بها ،
وذاته [الحقّ] بخيريّته الحقّة وحقيقته المحضة هو الّذي دعاه إلى اختيارها.
فإذن ، كما قد
أسمعناك أنّ : «إنّه عاقل وإنه معقول» ، فيه واحد ، فكذلك نتلو على
سمعك أنّ : «إنه مريد وإنه عالم» ، هناك واحد ، وأنّ إرادته للكلّ عين علمه بنظام
الخير الأكمل الأصلح ، وهو بعينه داعيه إلى اختيار الجعل وإيثار الإفاضة ، وهو
[١١٦ ظ] نفس ذاته الحقّ المستحقّ بحسب نفس ذاته ووجوده لتلك الأسماء المقولة على
الذّوات الجائزة بحسب جهات متكثّرة وحيثيّات مختلفة.
تقديس
(٨٦ ـ القيّوم المفيض للمجعولات
يعلمها ويوحى بها من غير طلب وشوق)
إنّ شاكلتنا في ما
هممنا بفعله وصنعه إنّما نتصوّره ، فنتعرّف تعرّفا ظنّيّا أو تخيّليّا أو
__________________
علميّا أنّ فيه
صلاحا ونفعا أو منقبة ومحمدة ، وبالجملة خيريّة ما بالقياس إلى ذاتنا أو بالقياس
إلى قوّة ما من قوى ذاتنا ، فينبعث من ذلك شوق إليه. فإذا قوى الشوق وتأكّد
الإجماع ، اهتزّت القوّة الشوقيّة والإرادة المتجدّدة ، أى : الإجماع [المنبعث]
منها. فحرّكتا القوّة المحرّكة الّتي في العضلات ، وهنا لك تتحرّك الأعصاب
والأعضاء الأدوية ، ثمّ تتحرّك الآلات الخارجة إلى تحصيله.
فالمعنى الّذي هو
فينا إدراك الفعل. وإدراك وجه الخير فيه ، غير المعنى الّذي هو سبيل تحصيله ، وهو
الشوق ومرتبته المتأكّدة الّتي هي الإجماع والإرادة ، إذ أفعالنا بالآلات وهي ليست
تتحرّك إلّا بالشوق ، وما به رضانا بالفعل هو معرفتنا لوجه الخير العائد إلينا
فيه.
فأمّا القيّوم
الحقّ ، سبحانه ، فإذ جلّ جنابه عن أن يكون فعله بالآلة وعن أن يتصوّر له خيريّة
غير حاصلة له في مرتبة ذاته بذاته ، فليس يعقل أن يتكمّل ويتجمّل ذاته بمعنى ما هو
وراء مرتبة ذاته ، فلا محالة ، لم يكن له شوق إلى شيء أصلا ، وكان ما به رضاه
بمجعولاته هو نفس علمه بها وبأنّها خيرات في أنفسها ، لا بأنّ لها خيريّة ما عائدة
إليه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وهذا العلم هو بعينه ذاته الحقّ ، وهو عين
الإرادة. فإذن ، هو ، سبحانه ، شاء بذاته ، لا بهمّة تعرض ذاته. ومعنى واحد منه
وهو ذاته هو إدراك المجعولات ووجه الخير فيها وسبيل إلى الجعل والإفاضة.
فكما فينا تترتّب
حركة [القوّة] الشّوقيّة على نفس تصوّرنا [١١٦ ب] الشيء واعتقادنا أنّه نافع أو
صواب بالقياس إلينا من دون أن يتوسّط بين التصوّر والاعتقاد وبين اهتزاز الشوق
إرادة أخرى غير نفس ذلك الاعتقاد ؛ ففى الصّنع الرّبوبىّ يترتّب الجعل والإفاضة
على نفس علمه ، سبحانه ، بالشيء وأنّه حسن وخير في نفسه ، من غير أن يتوسّط بينهما
شوق وإرادة أخرى وراء ذلك العلم الذي هو بعينه نفس مرتبة الذّات. فهو ، سبحانه ،
بذاته يعلم المجعولات ويرضاها ، فيفعلها طولا وجودا ، لا على أن يطلبها ويشتاق
إليها. فهو ، سبحانه ، أعلى في إرادته من الاختيار الّذي للمختارين من مجعولاته ،
فضلا عن الإيجاب الّذي للطّبائع المضطرّة إلى أفاعيلها ، وهي بذواتها وخواصّها
مسخّرات بأمر الله وحده.
تقديس
[٨٧ ـ العالم الحقّ كما لعلمه مراتب
لإرادته أيضا مراتب]
فإذ قد انصرح لك :
أنّ إرادته تعالى غير مغايرة الذّات والمفهوم لعلمه ، فاعلمن : أنّه، كما لعلمه ،
سبحانه ، مراتب ، وأخيرة مراتبه وجودات الموجودات ، على معنى أنّ وجودها غير
محتجبة عنه هو بعينه معلوميّتها له ، لا عالميّته بها ، على ما قد تعرّفت ؛ فكذلك
لإرادته ، جلّ ذكره ، مراتب ؛ وأخيرة مراتب الإرادة هي بعينها ذوات الموجودات
وهويّاتها المتقرّرة بالفعل ، وإنّما هي عين الإرادة بمعنى مراديّتها له ، لا
بمعنى مريديته لها.
ثمّ المراديّة
أيضا : بمعنى صدورها عنه بالفعل مرضيّا بها ، لا بمعنى كونها مرضيا بها ، فإنّ ما
به فعليّة الرّضا ومبدئيّة التخصّص هو نفس ذاته سبحانه ، وذلك أقوى في إفادة
الاختيار : ممّا أن يكون ما به فعليّة الرضا بالفعل أمرا زائدا على ذات الفاعل ،
وممّا أن تكون فاعليّة الفاعل لا بنفس ، ذاته بل بأمر ما يلحق ذاته. فإذن ،
مجعولاته ، سبحانه ، مرضىّ بها قبل الصّدور [و] عند [١١٧ ظ] الصدور على سبيل واحد
، وليس يتجدّد الرضا عند الصّدور بالفعل ، بل [إنّما] الحادث المتجدّد وجودها
بالفعل مرضيّة.
وهذا على مضاهاة
ما أسلفنا في العلم : أنّ المعلوميّة الّتي هي بعينها ذوات المتقرّرات ، إنّما
معناها تقرّرها بالفعل منكشفة ، لا منكشفيّتها بالفعل ، إذ تلك حاصلة قبل التّقرّر
وعند التّقرّر على سبيل واحد. وما به الانكشاف هو نفس ذات الجاعل التّامّ العليم.
والمنكشفيّة ، إذ ذاك أقوى ممّا أن يكون ما به الانكشاف هو وجود ذات المعلوم
بالفعل ، أو حصول صورته الظلّيّة.
فمن المستبين : أنّ
الشّيء الواحد بعينه يصحّ أن تكون له صور ظلّيّة غير محصورة بحسب أذهان كثيرة أو
بحسب أوقات كثيرة ، وليس يصحّ إلّا ترتّب المجعول الواحد بعينه على جاعله التامّ
الواحد بعينه. فانكشاف الجاعل التامّ أقوى إفادة لتعيّن ظلّه الّذي هو جوهر ذات
المجعول المترتّب على نفس ذاته من انكشاف الصّورة الظلّيّة.
فإذن ، قد استبان
: أنّ الإرادة الّتي هي عين هويّات المخلوقات إنّما هي تقرّرها بالفعل مرادة ، وهي
ليست صفة للخالق متجددة له أخيرا ، بل هي من شئون هويّات
المخلوقات. وعند
هذا بزغ سرّ ما قد رواه بعض الأقدمين من فقهائنا المحدّثين عن سادتنا الطاهرين
وأئمّتنا المعصومين ، صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين ، في زيادة الإرادة على
ذاته ، سبحانه ، وحدوثها أخيرا.
وأمّا ظنّ فريق من
جماهير المتكلّفين «أنّ له ، عزّ مجده ، إرادة هي من صفاته وحيثيّاته متجدّدة
الحصول لذاته» ؛ فتخمين غير معقول. أليس هو ، سبحانه ، يعلم في مرتبة ذاته نظام
الخير في ما عدا ذاته على الوجه الأكمل [١١٧ ب] ، وليس يليق بجود الجواد الحقّ
وحكمة الحكيم المطلق أن يعقل ما هو حسن وخير في نفسه على جهة حسنه وخيريّته في
نفسه من غير أن يكون على منافاة لذاته ولما عليه ذاته ولا يرضاه.
وبالجملة ، إنّما
المتجدّد نفس ذوات المجعولات والمعلومات والمرادات ، لا شيء ما في ذات الجاعل
العليم المريد ، أو جهة ما من جهات ذاته. فهو ، جلّ ذكره ، في مرتبة ذاته يرضى
نظام الخير المعقول من معقوليّة ذاته غير تائق إليه ، ثمّ يفعل الكلّ على النظام الأكمل
المعقول جودا وتفضّلا ، لا برويّة وتفكّر وهمّة.
تذييل
(٨٨ ـ مراتب العلم والإرادة)
فإن سألت : ما
خطبكم تجعلون نفس هويّات الأشياء بتقرّراتها ووجوداتها العينيّة من مراتب «العلم» و
«الإرادة» على نحو من الاعتبار ، ولستم تعتبرون مثل ذلك في «القدرة»؟ قيل لك : إنّ لفظ «العلم»
في الاصطلاح الصّناعىّ يقع بالاشتراك على معان ثلاثة : أحدها : المعنى المصدرىّ الإضافىّ ، وهو زائد على كلّ حقيقة
أصيلة التّقرّر ، فما ظنّك بالحقيقة القيّوميّة!
وثانيها : المعنى
الذي هو مبدأ تصحّح إطلاق العالم بالشيء على الموجود المجرّد وما به انكشاف الشّيء
المعلوم لديه. وهو عين الحقيقة الحقّة القيّوميّة في علمه ، سبحانه ، بذاته وبما
عدا ذاته مطلقا ، وأمر زائد على الماهيّات الجائزة والحقائق المجعولة على الإطلاق
، لكنّه نفس وجودات الجواهر العاقلة القائمة بأنفسها ، لا بمادّة في عقلها لذواتها.
وثالثها : الصّورة
العلميّة المنكشفة الحاضرة من المعلوم لدى العالم ، وهو بهذا المعنى يحمل ، لا
محالة ، على هويّات المتقرّرات في الأعيان والمنتقشات في المدارك بالقياس إلى
الموجود الحقّ ، عزّ مجده ، إذ هي بتقرّراتها العينيّة وانطباعاتها [١١٨ ظ]
الذهنيّة حاضرة لديه ، تعالى ، غير عازبة عنه ، سبحانه.
فحيث إنّ «الإرادة»
، مطلقا ، ضرب ما من العلم ـ على اعتبار ما أخصّ من اعتبار مطلق العلم ، لا أنّها
مباينة الذّات والمفهوم للعلم على شاكلة القدرة وسائر الصفات ولا سيّما إرادته ،
سبحانه فقد دريت أنّها بعينها علمه بوجوه الخيرات المرضيّة فى أنفسها ؛ فلا محالة
، مراتب العلم على تلك الاعتبارات هي مراتب الإرادة ، والمرتبة الأخيرة تقرّر
الأشياء المرادة بالفعل ، بما هي في أنفسها خيرات معلومة مرضيّة ، ومفيضها الجواد
يفعلها بجوده غير هام بها ولا مروّ في فعلها ولا متفكّر.
وربّما تطلق «الإرادة»
على نفس الجعل والتأييس ، لا برويّة وتفكّر ، والإبداع والاحداث لا بتشوّق وهمّة ،
أى : قصد حادث زائد على نفس ذات الفاعل ، كما في القرآن الحكيم : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس ، ٨٢).
تقديس
(٨٩ ـ فاعليّة الفاعل الحقّ والغرض
والغاية والفائدة)
إنّ العلّة
الغائيّة : هي الّتي بماهيّتها وشيئيّتها علة لفاعليّة العلّة الفاعلة ، فهى
العلّة الأولى الفاعلة ؛ والغرض : ما يلحظه الفاعل ؛ والغاية : ينتهى إليه الشّيء
والفائدة : ما يترتّب عليه.
ومن المنصرح : أنّ
فاعليّة الفاعل الحقّ ، سبحانه ، للكلّ ، إنّما هي بنفس ذاته ، عزّ مجده ، لا بامر
ما يلحق ذاته ويزيد على حقيقته ، إذ كلّ ما هو وراء حقيقته داخل في ما يستند إلى
ذاته ، وهو يفعله بجوده التامّ الذي هو بعينه نفس مرتبة ذاته.
فهو بذاته الفاعل
الأوّل القريب والعلّة الغائيّة الأولى لنظام الكلّ ولآحاد الجائزات ، بحسب لحاظها
في [١١٨ ب] السّلسلة العرضيّة ، ومن حيث هي أجزاء النظام الجملىّ المستند باتّساقه
العرضىّ وبرمّته الشّخصيّة الجمليّة إليه ، سبحانه ، مرّة واحدة.
مصنّفات ميرداماد
(٣)
الإيقاظات
صورة خطّ المصنّف دام ظلّه
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الإيقاظات ،
يسّرنا الله ، تعالى لإتمامه بمنّه وإكرامه. كان الشّروع فيه فى أواخر عام ١٠٢٥ من
الهجرة المباركة النبويّة ، صلىاللهعليهوآلهوسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتى
الحمد لله ربّ
العالمين حقّ حمده ، والصلاة على خيرته من خليفته محمّد والمعصومين من عترته.
(مقدّمة)
(فى مسألة خلق الأعمال)
وبعد ، فلقد
سألتنى ـ أفاض الله تعالى عليك سجال فيوضات عالم القدس ـ عن مسألة خلق الأعمال
وقراح الحقّ وصراح الأمر فيها. وهي من غامضات أغوار العلم وغوامض أسرار الحكمة.
ولقد أوفيناها حقّها من بالغ الفحص وسابغ النظر ، في كتبنا العقليّة وصحفنا
الحكميّة ، وفي كتابنا «الرّواشح السماويّة في شرح أحاديث الإماميّة» ، وهو شرحنا
لكتاب «الكافى» لشيخنا الأقدم ، رئيس المحدّثين أبى جعفر الكلينىّ ، رضوان الله
تعالى عليه. فالآن نلقى عليك ، ما إن أخذت الفطانة بيدى
قريحتك لفطّنك لما
يفى بإزاحة الشكوك وإماطة الأوهام بإذن الله سبحانه.
فاعلمن أنّه فرقان
ما بيّن ، بين الفاعل لفعل ما بالإرادة والاختيار وبين جاعله التامّ ، الموجب
بإرادته واختياره ، المفيض لوجوده ووجود علله وأسبابه (٢ ظ) وشرائطه ومنتظراته على
الإطلاق ؛ فالمباشر الذي اختياره أخير ما تستتمّ به العلّة التامّة لفعله ، فاعل
لذلك الفعل بالاختيار لغة وعرفا واصطلاحا لدى الجماهير من العامّة والخاصّة. وليس
هو بالجاعل التّامّ الموجب إيّاه بالإرادة والاختيار إلّا إذا كان مفيضا لوجوده
بإفاضته وإفاضة جملة ما يفتقر إليه من العلل والأسباب.
وإذ دريت ذلك بزغ
لك أنّ الإنسان حيث إنّه مباشر لفعله واختياره أخير منتظرات الفعل وآخر أجزاء
علّته التامّة ، فهو لا محالة فاعل مختار لأفعاله وأعماله. وحيث إنّه ليس الذي
يفيض وجود الفعل وعلله وأسبابه ، إذ من جملة العلل والأسباب وجود نفسه وتحقّق
قدرته واختياره وسائر ما يتعلّق به ذلك ممّا يغيب عن عقولنا ، ولا تحيط به
أوهامنا. فليس هو الجاعل التامّ الموجد الموجب لأفعاله بالضرورة الفحصيّة ؛ بل
إنّما الجاعل التامّ الموجد الموجب لكلّ ذرّة من ذرّات نظام الوجود بالإرادة
والاختيار هو الملك الغنىّ الحقّ المفيض لعوالم الوجود بقضّها وقضيضها على الإطلاق
؛ وليس يصادم ذلك توسيط العلل والأسباب والشرائط والروابط الفائضة جميعا من جناب
فيّاضيّته الحقّة المطلقة. ومن جملة العلل الرابطة والأسباب المتوسطة قدرة العبد
ومنّته وشوقه وإرادته بالنسبة إلى ما يؤثره من أعماله وأفعاله.
وذلك ، كما أنّ
الله ، سبحانه ، هو الموجد المفيض الجاعل لذات زيد ووجوده مثلا ، مع أنّ أباه
وأمّه وغيرهما ممّا يتوقّف عليه دخوله فى دائرة الوجود من جملة علله وأسبابه
المستندة في سلسلتيها الطوليّة والعرضيّة جميعا إلى جاعليّته التامّة ، تعالى شأنه
وتعاظم سلطانه. (قُلِ اللهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد ، ١٦).
وهذا البيان
يستكشف غطاء الخفاء عن سرّ قول سادتنا الطاهرين المعصومين ، صلوات الله وتسليماته
على أرواحهم وأجسادهم أجمعين : «لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين» (بحار
الأنوار ، ج ٥ ، ص ١٢).
ومن هناك ما تسمع
بعض شركائنا السّالفين من الحكماء الراسخين يقول : «الإنسان
مضطرّ في صورة
مختار» ، ومنهم من يعكس القول ، فيقول : «مختار في صورة مضطرّ».
وعند هذا سقط ما
أعضل لك في أمر المسألة ، من قولك : «إذا كان الفعل من العبد لزم تعدّد المؤثّر ،
وإذا كان من الله سبحانه لزم الجبر». بقوّة هذا الأصل يماط أذى الشكّ عن طريق
العقل في أمر الدعاء. إذ يتشكك ويقال : «إن كان ما يروم الدّاعى بالطلب والسّؤال
إنجاحه ممّا لم يجر قلم القضاء الأزلىّ بتقدير وجوده ولم يتطبّع لوح القدر الإلهيّ
بتصوير حصوله ، فلم الدعاء وما فائدته؟ وإن كان ممّا قد جرى به القلم وتطبّع به
اللوح فما الداعى إلى تكلّفه؟ وأىّ افتقار إلى تجشّمه؟» ويزاح : بأنّ الطلب أيضا
من القضاء ، والدعاء أيضا من القدر ، وهما من شرائط المطلوب المقضىّ ومن أسباب
المأمول المقدّر. فإذا كان قد جرى القضاء والقدر بحصول مأمول ، ما كان الطلب
والدعاء اللذان هما من شرائطه وأسبابه المتأدّية إليه أيضا من المقضىّ المقدّر ،
وإلّا فلا. وقد تكرّر ورود ذلك في الحديث عن خزنة الوحى وأصحاب العصمة ، صلوات
الله وتسليماته عليهم أجمعين.
فأمّا ما قد
استصعب واعتاص على سلّاف العشيرة وشركاء الصّناعة عن آخرهم هنالك من التعضيل : ب «أنّه
إذا تأسّس أنّ فعل العبد لا يكون إلّا بإرادته واختياره ، عطف النظر ونقل القول
إلى الإرادة نفسها : أهي أيضا بالإرادة والاختيار وكذلك إرادة الإرادة ، وإرادة
إرادة الإرادة؟ وهكذا ، فيلزم في كلّ فعل إرادات متسلسلة إلى لا نهاية». وذلك مع
بطلانه في نفسه وشهادة صريح الوجدان بانتفائه ليس ممّا ينجع أصلا. إذ سلسلة
الإرادات الغير المتناهية جميعا بحسب لزوم الاستناد إلى إرادة أخرى حينئذ في حكم
الإرادة الاولى بعينها أم حصولها بالاضطرار الصرف والإلجاء الباتّ من دون إرادة
واختيار. فقد رجع الأمر إلى الجبر وانصرم القول بالاختيار ، فلم يكن إلى زمننا إلى
إزاحة سبيل تحصيلىّ إلّا من كلماتنا وأقاويلنا. فنقول بإذن الله سبحانه :
إنّه إذا انساقت
العلل والأسباب المترتّبة المتأدّية بالإنسان إلى أن يتصوّر فعلا ما ويعتقد أنّه
خير ، حقيقيّا كان أو مظنونا ، أو أنّه نافع في خير حقيقىّ أو مظنون ؛ انبعث له من
ذلك شوق إليه. فإذا تأكّد الشوق وصار إجماعا ، وذلك الذي يعبّر عنه بالإرادة
المستوجبة اهتزاز العضلات والأعضاء الأدوية ؛ كانت تلك الحالة الشوقيّة الأكيدة
المتأكّدة حالة إجماليّة
، بحيث ما إذا قيست إلى نفس الفعل وكان هو الملتفت إليه باللحظ بالذّات ، كانت هي
شوقا وإرادة بالقياس إليه ؛ وإذا ما قيست إلى إرادته والشوق الإجماعىّ إليه وكان
الملتفت إليه باللحظ بالذّات تلك الإرادة والشوق ، لا نفس الفعل ، كانت هي شوقا
وإرادة بالقياس إلى الإرادة من غير شوق آخر مستأنف وإرادة أخرى جديدة. وكذلك الأمر
في إرادة الإرادة ، وإرادة إرادة الإرادة ، إلى سائر المراتب.
فإذن كلّ من تلك
الإرادات المفصّلة يكون بالإرادة والاختيار ، وهي بأسرها مضمّنة في تلك الحالة
الشوقيّة الإجماليّة المعبّر عنها بإرادة الفعل واختياره. وسبيل الإرادة في ذلك
سبيل العلم ، فإنّهما يرتضعان في الأحكام من ثدى واحد ، وتناغيهما القريحة
العقليّة في مهد واحد.
أليس إذا كانت
القوّة العاقلة قد تطبّعت بالصورة العلميّة لمعلوم ما ، وحصلت للنفس المجرّدة
الحالة الإدراكيّة المعبّر عنها بالعلم الذي هو من الكيفيّات النفسانيّة كانت تلك
حالة إجماليّة ، بحيث ما إذا لوحظ المعلوم كان معقولا بتلك الصورة ومعلوما بذلك
العلم. ثمّ إذا لوحظت تلك الصورة كانت معقولة لا بصورة أخرى غيرها ، بل بنفسها.
وإذا لوحظ العلم الذي هو الحالة الإدراكيّة كان معلوما لا بعلم آخر مباين ، بل
بنفسه فقط ، من غير أن يتضاعف الصور والعلوم المتباينة بالذّات ، بل إنّما تتضاعف
الاعتبارات المتعلقة بذات الجوهر العاقل وبتلك الصورة العلميّة وبتلك الحالة
الإدراكيّة على سبيل التركيب لا غير. وكذلك الأمر في علمنا بذاتنا.
وما في اعتراضات
شرف الدين المسعوديّ : «إنّه إذا كان تعقل ذاتنا نفس ذاتنا ، فعلمنا بذاتنا إمّا
أن يكون علمنا بذاتنا ، وحينئذ يكون هو ذاتنا بعينها. وهلمّ جرّا في التركيبات
الغير المتناهية ؛ وإمّا أن لا يكون هو علمنا بذاتنا ، ويلزم منه أن لا يكون أيضا
علمنا بذاتنا نفس ذاتنا» (شرح الإشارات ، ج ٢ ، ص ٣٢١).
فالجواب عنه ؛ ما
أورده خاتم المحصّلين في «شرح الإشارات» : «إنّ علمنا بذاتنا هو ذاتنا بالذّات
وغير ذاتنا بنوع من الاعتبار. والشيء الواحد قد تكون له اعتبارات ذهنيّة لا تنقطع
ما دام المعتبر يعتبرها».
فكما هناك صورة
علميّة وجدانيّة وحالة انكشافيّة مجملة ، يفصّلها العقل إلى
مراتب مرتّبة على
حسب تضاعف الاعتبارات والالتفاتات ، هي العلم بالمعلوم ، والعلم بالعلم بالمعلوم ،
والعلم بالعلم بالعلم ؛ ويحكم أنّ المراتب اللامتناهية مضمّنة بأسرها في تلك
الحالة الانكشافيّة بصورة واحدة بسيطة ؛ فكذلك هنا حالة شوقيّة إجماعيّة مجملة
يفصّلها العقل على حسب تضاعف الالتفاتات والاعتبارات إلى مراتب متسلسلة مترتّبة هي
إرادة الفعل وإرادة إرادة الفعل ، وإرادة إرادة الإرادة ؛ ويحكم بأنّ المراتب
المتسلسلة المرتّبة الغير المتناهية مضمّنة الحصول جميعا في تلك الحالة المجملة
الإجماعيّة بهيئة واحدة بسيطة. لكنّ الترتّب هنا متصاعد ، كما بين أبعاض الحركة
الواحدة المتصلة المتسابقة إلى مبدأ المسافة. وهناك متنازل ، كما بين أبعاضها
المتلاحقة إلى منتهاها.
ومن هذا السبيل
أمر النيّة في العبادة. فالعبادة منويّة بالنيّة والنيّة منويّة بنفسها. وكذلك
نيّة النيّة ونيّة نيّة النيّة إلى حيث يعتبرها الذهن ، لا بنيّة أخرى مبانية
لنفسها. فهى بنفسها كأنّها نيّة لأصل العبادة. ولتلك النيّات جميعا على الإجمال
باعتبارات متضاعفة. ومن هناك ينحلّ تشكيك أبى حنيفة في نيّة الطّهارة المائيّة.
وإن هو إلّا شبهة نيّة الورود على اشتراط مطلق العبادة بالنيّة.
وممّا يجرى هذا
المجرى من وجه آخر أمر اللّزومات المتضاعفة لا إلى نهاية ، في لزوم شيء لشيء. ومرّ
الحقّ وكنه الأمر فيه ما أوردناه في كتابنا «الأفق المبين».
وممّا في هذا
السبيل أمر الحركة الإراديّة في المسافة القابلة للانقسام لا إلى نهاية ، إذ هناك
إرادة وحدانيّة إجماليّة إزاء لوحدة المسافة المتصلة منحلّة في لحاظ العقل إلى
إرادات متعدّدة حسب انقسام تلك المسافة الى إجزائها الوهميّة المقداريّة.
فإن أزعج سرّك
أنّه وإن استتبّ القول واستقام الكلام حينئذ في توسيط اختيار العبد ، لكن بقى
الإعضال في أمر استحقاقه المثوبات والعقوبات الوارد لها الوعد والوعيد في
التنزيلات الكريمة الإلهيّة والأحاديث الشريفة النبويّة ، فإنّ فعله وإن كان
مترتّبا على إرادته إلّا أنّ إرادته للفعل وإرادته لإرادة الفعل وإرادته لإرادة
الإرادة ، وهلمّ جرّا في تمادى الاعتبار إلى لا نهاية واجبة الحصول جميعا ، لا منه
، بل من تلقاء مبدأ آخر ، فمن أين له استحقاق المثوبة والعقوبة؟
فتدبّر في فحصك
وتثبّت في أمرك ، وافقهنّ أنّه كما فعل العبد وإرادته واختياره إيّاه من القضاء
الربوبىّ والقدر الإلهيّ ، حسب ما أوجبه علمه التامّ القيّومىّ وإرادته الحقّة
الوجوبيّة الموجبة لإفاضة الخيرات على طباق استعدادات الموادّ وبمقدار استحقاق
الماهيّات ، على ما يقول القرآن الكريم : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) (الإنسان ، ٣٠) ،
ويقول عزّ قائلا : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ
إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (الكهف ، ٢٣) ؛
فكذلك المثوبة والعقوبة من القضاء والقدر ، كما قاله شريكنا السالف في رئاسة
الفلسفة الإسلاميّة في كتاب «الإشارات» (شرح الإشارات ، ج ٣ ، ص ٣٢٨). وأنّ
استيجاب المثوبة والعقوبة من لوازم ماهيّات الأفعال الحسنة والسيّئة المتفاوتة
بحقائقها المختلفة في اقتضاء درجات الحسن والقبح الذاتيين على المعنى الذي هو حريم
التنازع بين الفريقين المتخاصمين ؛ واختلاف تلك الدرجات الحسنة والقبيحة مبدأ
استيجاب اختلاف المثوبات والعقوبات الإلهيّة وإنّما يرجع ذلك إلى الفاعل المباشر ،
لأنّه المحلّ القابل دون المفيض الموجد.
وهذا ، إن هو في
الاعتبار والمقايسة لدى العقل الصريح ، إلّا كما الأدوية الترياقيّة والسميّة
إنّما تظهر خواصّها وآثارها في أبدان شاربها وأمزجتهم ، لا في ذات موجدها الجاعل
إيّاها ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، فالطّبّ الروحانىّ في ذلك على قياس الطبّ
الجسمانيّ ، والأدوية العقلانيّة على قياس الأدوية الجسدانيّة.
فإذن ، الثواب
والعقاب مترتّبان على إرادة الفاعل المباشر المستحقّ لهما بإرادته واختياره ،
واختلاف مراتبها جزالة وطفافة وشدّة وضعفا على حسب اختلاف ذوات الحسنات والسّيئات
المستوجبة لها في حدّ أنفسها.
ثمّ اعلمنّ أنّ
الشرور والآلام الواقعة في الوجود في هذه النشأة والنشأة الآخرة إنّما استنادها
إلى الإرادة الربانيّة والإفاضة السبحانيّة بالعرض من حيث هي لوازم للخيرات
الكثيرة التي يجب في سنّة الفيّاضيّة الحقّة والوهّابيّة المطلقة تعلّق إرادته
سبحانه بها بالذّات.
وأيضا قد اقترّ في
مقارّه أنّ لوازم الماهيّة إنّما تستند بالذّات إلى نفس الماهيّة ، وأمّا استنادها
إلى جاعل الماهيّة فبالعرض. على أنّك إنّ دقّقت التأمّل وفتّشت
بالتبصّر صادفت
بعقلك أنّ الشرور المرادة لا بالذّات بل بالعرض في النشأتين. إنّما شريّتها
بالقياس إلى جزئيّات بخصوصها وأشخاص بعينها من أجزاء نظام عوالم الوجود هي طفيفة
جدّا بالنسبة إلى سائر الأجزاء. فأمّا بالقياس إلى النظام الجملىّ الواحد بشخصيّته
الجمليّة. وكذلك بالقياس إلى تلك الأشخاص والجزئيّات ، لا بحسب أنفسها برءوسها ومن
حيث هويّاتها على انفرادها ، بل بما هي أجزاء الشخص الجملىّ والنظام الكلّىّ
التّامّ الفاضل الشريف الكامل ، فلا شرّ ولا شريّة أصلا.
فلو أنّ اللاحظ
لنظام الوجود ، المصادف بلحاظه شرورا واقعة فيه كان واسع العلم ، تامّ الإبصار ،
محيط اللّحظ بجملة النظام على هيأته الوحدانيّة وبالاسباب المتأدّية إلى المسبّبات
جميعا على سياقتها الاتساقيّة ، لم يكن يجد في الوجود ما يصحّ أن يطلق عليه الشرّ
أو تنسب إليه الشرّيّة بوجه من الوجوه ، فليتبصّر.
ولعلّ لكلا
الوجهين قال عزّ قائلا في آية الملك : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران ، ٢٦) ،
لا للأوّل منهما فقط ، كما في بيان البيضاويّ ، حيث قال : «ذكر الخير وحده ، لأنّه
المقضىّ بالذّات ، والشّرّ مقضىّ بالعرض» ، إذ لا يوجد شرّ جزئيّ ما لم يتضمّن
خيرا كليّا. وكذلك في حديث الدعاء بين التكبيرات السبع للصلاة : «لبّيك وسعديك ،
والخير في يديك والشرّ ليس إليك» (بحار الأنوار ، ج ٩٩ ، ص ٢٣٩).
وممّا يجب أن يعلم
أنّ الشرور الواقعة في الوجود إنّما دخولها بالعرض في القضاء لا في القدر. فما
استوجبه القضاء بالذّات أو بالعرض واستجمعه على النظام الإجمالىّ والسياقة
الإجماعيّة يستعرضه القدر بالذّات ويفصّله قضّا وقضيضا على التكثّر والتدريج
والتسابق والتلاحق فليفقه. فهذا شطر من جزيل القول هناك ، وحقّ البسط فيه على ذمّة
ما يسرّنا الله له بعظيم فضله وكبير طوله.
إيقاضات
الإيقاظ الأوّل
(خيرات نظام الوجود والشرور)
خيرات نظام الوجود
وكمالاته ، الفرائض والنوافل بأسرها ، من الذوات والصفات والأخلاق والملكات
والأفعال والأعمال ، إنّما انبعاثها بالذّات من إرادة الله الحقّة الواجبة ورحمته
الفيّاضة الواسعة وخيريّته المحضة التامّة ووهّابيّته الفعّالة الدّائمة وإن كان
فيضانها من فيض جوده العظيم بمقدار استعدادات الموادّ وعلى مبلغ استحقاقات
الماهيّات. فأمّا الشرور والآلام والنقائص والآثام فمن تلقاء سوء الاستعدادات ونقص
الاستحقاقات وتزاحمات أرهاط الهيولانيّات وتصادمات سكّان سواد عالم الظلمات ، لا
من بخل من المفيض وضنانة من الجائد أو عجز في القدرة وقصور في الإفاضة ، تعالى
جناب الفيّاض الحقّ عن ذلك كلّه علوّا كبيرا. ومن هناك قوله الكريم في تنزيله
الحكيم : «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك».
فلان أوهمك موهم :
أنّ الاستعداد والاستحقاق أيضا موجده ومفيضه هو الله سبحانه ، إذ ما من شيء إلّا
وهو من صنعه وإبداعه وتكوينه واختراعه. ولا في أقاليم قوام التقرّر وعوالم نظام
الوجود إلّا صنائع جوده وقدرته وآثار فيضه ورحمته ؛ وهو فعّال التقرّر وخلّاق
الوجود على الإطلاق. فما السبب في اختلاف الاستعدادات؟ وما مغزى قولكم : «الحقّ
الأوّل يهب لكلّ شيء ما يستأهله باستحقاقه ويعطى كلّ مادّة ما يليق باستعدادها» ،
وهو الجواد المطلق الذي لا يتوقف سيب جوده إلّا على استعداد القابل ، ولا ينتظر
فيض رحمته إلّا ورود المستحقّ.
فاستدفع كيد الوهم
عن عقلك واستكسح شوك الشّكّ عن صدرك ، بما نتلوه على سمع قلبك ، ونلقيه إلى اذن
فؤادك ، بإذن الله ، سبحانه. وهو أنّ خصوصيّات
الاستعدادات
والاستحقاقات لخصوصيّات الموادّ والماهيّات ولازم الماهيّة بحقيقته التصوريّة
مجعول صنع الجاعل الحقّ كسائر الجائزات ، وبحصوله الرابطىّ الذي هو مفاد الهيئة
العقديّة من حيث النسبة الارتباطيّة معلول نفس الماهيّة ومقتضاها : بل إنّ لازم
الماهيّة مطلقا إنّما هو المحكىّ عنه بالهيئة التأليفيّة من النسبة العقديّة ،
ككون الأربعة زوجا ، وكون المثلّث ذا الزوايا مثلا. فكلّ واحدة من حاشيتى اللزوم
من حيث حقيقتها التصوريّة مجعولة الجاعل الفياض.
وأمّا مفاد الهيئة
العقديّة اللازم حقيقة بما هو كذلك ، فمستند إلى خصوصيّة ذات الملزوم الذي هو
بجوهر ذاته ، وأنّ كلّا من هيوليات الأفلاك ملزوم استعداد خاصّ جزئيّ يتأبّى جوهر
ذات الملزوم بحقيقته النوعيّة الانسلاخ عنه.
فأمّا هيولى عالم
الأسطقسات ، فلها بخصوصيّة ذاتها القوّة الاستعداديّة المطلقة. ولها حركة في
الكيفيّة الاستعداديّة ، كما للأفلاك حركة وضعيّة في أجرامها ، وحركة كيفيّة
إشراقيّة وشوقيّة في نفوسها العاقلة. والحركة الاستعداديّة الأسطقسيّة مترتّبة على
الحركة الدوريّة الفلكيّة في الأوضاع ، وهي على الحركة النفسانيّة المذكورة في
الأشواق والإشراقات. وكلّ من تلك الحركات الثلاث حركة وحدانيّة متصلة. مهما اعتبرت
بوحدانيّتها كان الترتّب بينها على هذا السبيل. ثمّ إذا اعتراها التحليل وانقرضت
فيها الأجزاء كان كلّ جزء عاقب مترتّبا على الجزء الدراج ، وكان يتعاكس الترتّب
بين أجزاء حركتى الفلك الجرمانيّة والنفسانيّة من الجنبتين ، ولكن لا على الوجه
الدائر ، بل على نمط محصّل ، قد بسطنا القول فيه في «خلسة الملكوت».
فإذن إن سئلنا عن
سبب الاستعداد الكلّىّ المطلق والحركة الوحدانيّة الاستعداديّة المتصلة ، كان
الجواب أنّ ذلك من لوازم الذات بالنسبة إلى المادّة الأسطقسيّة وماهيّة تلك
المادّة بجوهرها مخصّصة لتلك الحركة الوحدانيّة المستمرّة الاتصال. وإن عطف اللحظ
إلى الاستعدادات الجزئيّة والأبعاض الانفراضيّة في تلك الحركة الاستعداديّة ، قيل
: كلّ استعداد جزئيّ لاحق متعيّن بالفرض ، فإنّه يترتّب على جملة ما يسبقه من
الحركات المتصلة والامكانات الاستعداديّة التي فيها الحركة ويتمادى الأمر في ذلك
على سبيل اللّانهاية اللّايقفيّة ،
لا العدديّة ، كما
يظنّه الأتباع والمقلّدون. أليس براهين استحالة التسلسل ـ ولقد أوردناها في كتاب «تقويم
الإيمان» ـ قد أحالت اللّانهاية العدديّة على التصاعد في قبال العلل وأصنافها
مطلقا ، سواء عليها أكانت في الأعيان أم في الذهن ، وأ كانت في الوجود الزمانىّ أم
في الوجود الدهريّ جميعا.
على أنّ هناك
تبيانا آخر من جهة لزوم الاجتماع في آن واحد معا قد حققناه في كتاب «خلسة الملكوت»
، وأورده أيضا شريكنا السالف في ثانى سادسة إلهيّات «الشفاء» فقال : «ولا نمنع أن
تكون علل معينة ومعدّة بلا نهاية ، بعضها قبل بعض ، بل ذلك واجب ضرورة ، لأنّ كلّ
حادث فقد وجب بعد ما لم يجب ، لوجوب علّته حينئذ ، كما بيّنّا. وعلّته ما كان أيضا
فوجبت ، فيجب ، في الأمور الجزئيّة أن تكون الأمور المتقدّمة التي بها يجب في
العلل الموجودة بالفعل ، أن تصير عللا لها بالفعل أمورا بلا نهاية. ولذلك لا يقف
فيها سؤال «لم» البتة.
ولكنّ الإشكال
هاهنا في شيء ، وهو أنّ هذه التي بلا نهاية لا يخلو : إمّا أن يوجد كلّ واحد منها
آنا ، فتتوالى آنات متشافعة ليس بينها زمان ، وهذا محال ؛ وإمّا أن يبقى زمانا ،
فيجب أن يكون إيجابها في كلّ ذلك الزمان لا في طرف منه ، ويكون المعنى الموجب
لإيجابها أيضا معها في ذلك الزمان ، ويكون الكلام في إيجاب إيجابها كالكلام فيه ،
وتحصل علل بلا نهاية معا.
وهذا هو الذي نحن
في منعه ، فنقول : إنّه لو لا الحركة لوجب هذا الإشكال ، إلّا أنّ الحركة تبقى
الشيء الواحد لا على حالة واحدة ، ولا يكون ما يتجدّد من حالة في آن بعد آن
بمشافعة ومماسّة ، بل كذلك على الاتصال ، فتكون ذات العلّة غير موجبة لوجود
المعلول، بل لكونها على نسبة ما ، وتلك النسبة تكون علّتها الحركة ، أو شريكة
علّتها ، أو التي به العلّة علّة بالفعل الحركة ، فتكون العلّة حينئذ لا ثابتة
الوجود على حالة واحدة ولا باطلة الوجود حادثته في آن واحد. فباضطرار إذن تكون
العلّة الحافظة أو المشاركة لنظام هذه العلل الّتي بسببها تنحلّ الإشكالات هي
الحركة. وسنوضح هذا في موضعه إيضاحا أشفى من هذا» (ص ٢٦٥). انتهى قوله بأليفاظه.
وقال في حادى عشر
ثالثة الفنّ الأوّل من طبيعيات «الشفاء» : «إنّ الحركة وكلّ ما لم يكن ثمّ كان ،
فله علّة توجب وجوده بعد عدمه ، ولولاها لم يكن عدمه بأولى من وجوده ، ولا يتميّز
له أحد الأمرين لذاته ، فيجب أن يتميّز لأمر. وذلك الأمر إن كان تميّز ذلك الوجود
عنه عن العدم ولا تميّزه سواء ، كان الأمر بحاله ، بل يجب أن يكون الأمر يترجّح
فيه تميّز الوجود من العدم ، والترجيح إمّا أن يكون ترجّحا يوجب أو ترجّحا لا يبلغ
أن يوجب ، فيكون الكلام بحاله ، بل يجب لا محالة أن يوجب. وعلى كلّ حال فيجب أن
يكون سبب مرجّح أو موجب قد حدث.
والكلام في حدوثه
ذلك الكلام بعينه ، فإمّا أن يكون لحدوثه أسباب ذات ترتيب بالطبع ، لا نهاية لها
موجودة معا ، أو موجودة على التتالى. فإن كانت موجودة معا فقد وجد المحال. وإن
كانت موجودة على التتالى ، فإمّا أن يكون كلّ واحد منها يبقى زمانا أو تتتالى
الآنات ، فإن بقيت زمانا كانت حركة بعد حركة على التشامع لا تنقطع ، وكان قبل
الحركة الأولى حركة ، وكانت الحركات قديمة ، وقد جعلنا لها مبدأ ، هذا خلف ؛ وإن
بقيت آنات فتتالت الآنات بلا توسّط زمان. وذلك محال.
فبيّن أنّه إذا
حدث في جسم أمر لم يكن ، فقد حصل لعلّه ذلك الأمر إلى الجسم نسبة لم تكن. وتلك
النسبة نسبة وجود بعد عدم لذات أو لحال ، إمّا حركة توجب قربا أو بعدا أو موازاة ،
أو خلافها ، وإمّا حدوث قوّة محرّكة لم تكن وإمّا إرادة حادثة.
وكلّ ذلك فلحدوثه
سبب الاتصال شيئا بعد شيء. [وذلك لا يمكن إلّا بحركة تنظم الزمان شيئا بعد شيء] ،
ويحفظ الاتصال لامتناع تتالى الآنات ، ولأنّه إن لم تكن حركة تنقل أمرا إلى أمر
وجب أن تقع العلل والمعلولات معا. فإنّ السبب الحادث الموجب أو المرجّح إن كان قارّ
الوجود فإنّه إمّا أن يكون بطبيعته يوجب ويرجّح ، أو يكون لأمر يعرض له. فإن كان
ذلك لطبيعته تميّز عنه وجود ما هو علّته ، وإن كان لعارض فليس هو لذاته علّة، بل
مع ذلك
العارض. فيجب إن
كانت قارّة الوجود أن يجب معها المعلول بلا تأخّر وأمّا إذا كانت دائمة غير متجددة
لزم بعينه الكلام الأوّل.
فإذا كانت العلل
أو الأحوال التي بها العلل عللا قارّة الوجود حادثة أو غير حادثة ، لم يتمّ للحادث
بها وحدها وجود. فإنّ القارّ إن كان دائما كان موجبه لا يتأخّر فيصير حادثا ؛ وإن
كان حادثا كان لكونه علّة علّة أخرى. فيجب إذن أن تكون في العلل أو أحوال العلل
علّة غير قارّة الوجود ، بل وجودها على التبدّل وعلى التنقّل من أمور إلى أمور ،
وليس هذا غير الحركة أو الزمان ، والزمان في نفسه لا يفعل فعلها. فالحركة تقرّب
وتبعّد ، فتكون سببا وعلّة بوجه ما ، إذ تقرب العلّة» انتهى كلامه بعبارته (ص ٢٣٥).
وكذلك التلميذ في
طبيعيات «التحصيل» قال : «الأمور الواقعة تحت الكون والفساد أمور حادثة ، فيجب أن
تكون عللها حادثة. فيجب أن تكون تلك العلل بالحركة حتى يصحّ الحدوث ، كما عرفت ،
فإذن تعلّق حدوثها بالحركة الدوريّة. وأمّا وجود صورها فبسبب المفيد للصور الذي
اثبتناه في ما تقدّم.» (ص ٦٤٤).
ومساق القول في
زيادة بيان هذا إلى إثبات حركة المادّة في الاستعدادات المختلفة بالشدّة والضعف
والكمال والنقص. ثمّ أخذ في فصل كيفيّة دخول الشرّ في القضاء الإلهي والإشارة إلى
نظام العالم ، وقال فيه :
«إنّ الإرادات
حادثة ، وكلّ حادث فله أسباب غير متناهيّة ، كما عرفته. فيكون أيضا تعلّقها
بالحركة التي يصحّ فيها وجود غير المتناهي. وخصوصا بالحركة المتصلة السرمديّة التي
هي حركة الفلك ، وأنّ الحركة صادرة عن الأوّل ، فيجب أن تكون إرادتنا أيضا بهذا
متعلقة بواجب الوجود بذاته وسببها هو» (ص ٦٥٧).
ثمّ قال : «وأمّا
وجود أصناف الشرّ في هذا العالم وكيفيّة دخوله في القضاء الإلهيّ فعلى ما أقوله ،
معلوم أنّه ليس للماهيّات الممكنة في ذواتها وفي كونها ممكنة سبب ؛ ولا في حاجتها
إلى علّة لوجودها ، سبب ، ولا لكون المتضادين متمانعين في الوجود علّة ، ولا لكون
كلّ كائن فاسد علّة ، ولا لقصور الممكن عن الوجود الواجب الوجود بذاته ونقصانه عن
رتبته علّة ، ولا
لكون النار محرقة
علّة ، ولا لكون المحترق في قبوله الإحراق علّة. إذ كلّ ذلك من مقوّمات الماهيّات
وطبائع الأركان أو من لوازمها.
ولهذا نظائر ، مثل
كون غايات بعض الموجودات مضرّة ببعض الموجودات أو مفسدة له ، كما أنّ غاية قوّة
الغضب مضرّة بالعقل وإن كان خيرا بحسب القوّة الغضبيّة.
وقد عرفت في ما
تقدّم الضرورات التي تلزم الغايات ، وكلّ ما وجوده على كماله الأقصى ، وليس فيه ما
بالقوّة ، فلا يلحقه شرّ. فإنّ الشرّ هو عدم وجود أو عدم كمال وجود ، وكلّ ذلك حيث
يكون ما بالقوّة. والنقصان عن رتبة الأوّل في الماهيّات متفاوت ، فإنّ نقصان الأرض
عن رتبته أكثر من نقصان الشمس عن رتبته. وكلّ ذلك لاختلاف الماهيّات في ذواتها.
فلو كان النقصان في جميع الماهيّات متشابها لكانت الماهيّات واحدة. وكما أنّ
ماهيّات الأنواع متفاوتة في ذلك فكذلك ماهيّات الأشخاص التي تحت الأنواع».
هذا ما قاله
بعبارته. ثمّ ذكر : أنّ النقصان قد يكون من اقتضاء المعدّات المستتبعة لنقصان
الاستعدادات العارضة للموادّ ، وأنّه قد أعطى كلّ ما استحقّه من الصورة والكمال ،
وأنّ بعض الموادّ أنقص من غيرها بسبب المعدّات التي هي غير متناهية. وبيّن أنّ ذلك
يجب أن يكون بحركة دوريّة متصلة يكون التغيّر والتبدّل والفوات واللحوق ذاتيّا لها
، لئلّا يلزم الدور والتسلسل. وقال :
«وبالجملة ، فإنّه
كان محالا أن يكون أمرا مبيّنا على الحركة ، ثمّ كان مقتضى جميع الحركات فيه واحدا
، بل يجب أن يكون مقتضى كلّ حركة غير مقتضى الأخرى. فإن كان مقتضى الأولى موافقا
كان مقتضى الثانية غير موافق. فلهذا وجب أن تكون الأمور المنسوبة إلى الشرّ موجودة
في هذا النظام وكلّه خير وحكمة ونظام ، وما كان في الحكمة أن لا يخلق هذا الخلق
الذي يلزمه شرّ ، لما ذكرنا» (ص ٦٦١). انتهى ما رمنا نقله من ألفاظه.
ثمّ في الإلهيّات «التحصيل»
استأنف القول فقال في فصل من المقالة الثانية : فى أنّه ليس للحركة والزّمان شيء
مقدّم عليهما إلّا ذات البارى جلّ جلاله :
«وسنبيّن ، في ما
بعد ، أنّ إمكان الوجود يجب أن يكون في موضوع ، وهناك يتبيّن أن كلّ حادث فإنّه
يسبقه مادّة والشيء الذي فيه وجود الحركة هو الذي من شأنه أن يتحرّك. فظاهر من هذا
أنّه إذا كان ذلك الشيء موجودا ولا يتحرّك. فلأنّ العلّة المحركة أو الأحوال
والشرائط التي لأجلها يصدر التحريك من المحرّك غير موجودة. فإذا تحرّك فلحدوث علّة
محرّكة.
والكلام في حدوث
العلّة كالكلام في حدوث الحركة. فإنّه إمّا أن يكون لحدوثها أسباب ذوات ترتيب
بالطبع لا نهاية لها موجودة معا في آن واحد ـ وسنبيّن استحالة هذا بعد ـ أو لأسباب
لا نهاية لها موجودة على التتالى حتّى يكون وجود كلّ علّة وعدمها دفعة، أو يبقى
واحدة منها زمانا ؛ فإن بقى كلّ واحدة منها زمانا كانت حركة بعد حركة من غير
انقطاع وكانت الحركة سرمديّة ، وإن بقى كلّ واحدة منها آنا ، لزم تتالى الآنات بلا
توسّط زمان. وسنذكر استحالة هذا.
فبيّن أنّه إذا
حدث في جسم أمر لم يكن ، فقد حصل لعلّة ، أو لوجود نسبة بعد عدمها إمّا بحركة توجب
قربا أو بعدا أو حدوث قوّة محرّكة لم تكن أو إرادة حادثة. ولحدوث جميع هذه الأشياء
أسباب تتصل لا يمكن إلّا بحركة متصلة» (ص ٤٤٤).
ثمّ قال : «فلو لا
أنّ الحركة لا أوّل لها ، لما صحّ وجود الحوادث ، ولا عدم الأمور التي يصحّ عليها
العدم. فإنّ العدم يكون بسبب عدم علّة الوجود ، ولا محالة يعدم الشيء بسبب يحدث ،
وعلّة الحدوث ، كما عرفت ، الحركة. ولو لا أنّ في الأسباب ما يعدم بذاته لما صحّ
العدم. وذلك هو الحركة التي لذاتها وحقيقتها تفوت وتلحق. ومثل هذه الأسباب ـ كما
ستعرفه ـ تكون أسبابا بالعرض ، أعنى أنّها لا تفيد الوجود ، بل تفيد هذه الصفة ،
أعنى الحدوث للوجود.
ولنجمل هذا الكلام
فنقول : إنّ الفاعل إمّا أن يريد حدوث ما يحدث عنه بلا شرط ، فيجب ان يكون موجودا
معه ؛ وإمّا أن يريد تعلّق وجوده بشرط. والكلام في ذلك الشرط كالكلام في الأوّل
فتسلسل إلى غير نهاية. وهذه الشرائط إمّا أن تكون ثابتة فيجب وجود أسباب لا نهاية
لها معا في آن واحد ، وهذا محال. وإمّا
أن لا تكون ثابتة.
وهذا على قسمين : فإنّه إمّا أن توجد لا على الاتصال ، بل توجد منها آنا غير متصل
بآن يليه ، فيلزم تتالى الآنات ؛ وكيف يصحّ تتالى الآنات ، ومعنى تتالى الآنات هو
أن يكون ما بينهما لا شيئا مطلقا وما بين آنين أقلّ ممّا بين أكثر منهما.
واللّاشيء المطلق لا يقبل الأقلّ والأكثر ، وهو المطلوب. وهذه الحركة التي لا أوّل
لها ولا انقطاع فيها هي الحركة التي يصحّ عليها الاتصال ، وسنبيّن ، أنّها هي
الحركة الدوريّة لا غير ، في موضعه» (ص ٤٤٥).
ثمّ ساق الكلام
إلى حيث قال : «وإذ قد بان أنّه لو لا الحركة لما صحّ وجود حادث ولا عدم شيء.
والحركة من جملة الحوادث ، فبيّن أنّه لو لا الحركة لما صحّ وجود الحركة. وأنت قد
عرفت أنّ الحركة ليست ممّا يقع عليه التناهي وغير التناهي ، إذ لا توجد منها جملة.
وإن وجدت لم تكن كثرة طبيعيّة تقبل التناهي وغير التناهي إلّا بالفرض. وأيضا فكلّ
واحد من الحركات ليس بموقوف وجوده على حركات لا نهاية لها» (ص ٤٤٧).
هذا ما ريم نقله
من كلامه. وأمثال ذلك في أقاويل الأوائل متكرّرة جدّا.
وبالجملة ما قد
دير به على الألسن الجمهوريّة وسير به في الأذهان المشهوريّة ـ من إسناد القول
بعلل مترتّبة على التعاقب متسلسلة في التصاعد إلى لا نهاية بالعدد لتصحّح الحدوث
الزمانىّ إلى شركائنا المبرّزين في الصناعة من الرّؤساء والمعلّمين ـ ممّا لا اصل
له يركن إليه ، في كلماتهم وأقاويلهم. وإن أحببت التنطّع في أسرار هذه المسألة
والتضلّع بمداقّ هذا المقام ، فلتكن ملازمتك لكتاب «خلسة الملكوت» على السّهم
الأكثر والنّصيب الأوفر.
الإيقاظ الثاني
(المادّة الأولى القابلة والحركة المتصلة)
إنّ الله ، جلّ
سلطانه ، كان ذا جود فيّاض ، لا يبقى في الإفاضة والإعطاء من باقية وقوّة فعالة في
شدّة الفعّاليّة وديموميّته الفيّاضيّة وفي آثارها المقوى عليها عدّة ومدّة غير
متناهية وكانت جواهر عالم الإبداع مفطورة الهويّات على استثبات ما يصحّ لذواتها من
الاصطناعات الربوبيّة والفيوضات الإلهيّة وكان من المحال وجود ما لا يتناهى
من الزمنيّات معا
في آن واحد ، فأبدع ، عزّ مجده ، بقدرته السابغة وحكمته البالغة : الهيولى الأولى
الأسطقسيّة الحاملة لطباع ما بالقوّة ذات قوّة منفعلة غير متناهيّة في القبول
والانفعال. كما قوّته الفعّالة غير متناهية في الفعل والإفاضة ، وإن كانت
اللانهاية هناك ، على نمط آخر أرفع وأعلى لا يقاس ولا يكتنه ، متضمّنة في فعليّة
جوهرها القوّة من سبيلين. وكذلك الحركة المستديرة المستمرّة الاتصال مضاهية لها في
حمل ما بالقوّة وتضمّن فعليّتها أيضا للقوّة من سبيلين ، ثمّ استعملهما على تكوين
الكون والفساد وجعل تصحيح أمر الحدوث الزمانىّ تدور رحاه على المادّة الأولى
القابلة والحركة المستديرة المتصلة الحاملتين بطباع فعليّتهما لطبيعة ما بالقوّة
من غير وجه واحد بتقدير الله العزيز العليم ، سبحانه. وبسط القول في ذلك كله على
ذمّتى «الأفق المبين» و «الصحيفة الملكوتيّة».
الإيقاظ الثالث
(لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)
من المتّفق على
ثبوته في الحديث من طرق العامّة والخاصة عن النبي ، صلىاللهعليهوآله ، «القدريّة مجوس هذه الأمّة» (التوحيد ، ص ٣٨٢) ، ولعنت
القدريّة على لسان سبعين نبيّا» (بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ٤٧). فاختلف الفئتان
المتخاصمتان في تعيين القدريّة وتحقيق المعنى الذي هو ملاك تصحّح النسبة إلى
القدر. فالشيعة والمعتزلة على أنّها الفئة المجبّرة من الأشاعرة ومن في حزبهم.
والمعنى المصحّح للنسبة إسنادهم الخيرات والشرور جميعا إلى مجرّد قضاء الله تعالى
وقدره من غير مدخليّة ما لقدرة الإنسان وإرادته في شيء من أفعاله ، بل لممكن ما من
الممكنات في شيء ما من الأشياء أصلا. والأشاعرة تزعم أنها أصحاب العدل والتوحيد من
المعتزلة والشيعة. ومصحّح نسبتهم إلى القدر توغّلهم وتبالغهم في نفيه وإنكاره. قالوا
، ما تلخيصه : إنّ تنزيله ـ صلىاللهعليهوآله ـ القدريّة منزلة المجوس [يأبى] إلّا أن تكون هي المثبتين
لبعض الجائزات ، كالأعمال والأفعال ، مبدءا غير الواجب بالذّات جلّ سلطانه ،
كالعباد. كما المجوس مثبتون للوجود مبدأين ، مبدأ للخيرات ، يسمّونه يزدان ، ومبدأ
للشرور ، ويسمّونه أهرمن. فأمّا المسندون جملة ما في نظام
الوجود وعالم
الامكان إلى الله الواحد الحقّ ، سبحانه ، من غير إثبات تأثير ما ومدخليّة ما
لغيره ، سبحانه وتعالى ، في ذرّة من ذرّات الوجود أصلا ، فإنّ تشبيههم بالمجوس
والثنويّة ممّا لا يكاد يصحّ له وجه يستصحّه أولو الألباب.
قلت ، أوّلا ، لا
يستراب في أنّ الفريقين المتخاصمين متّفقان على أنّ كل ما على ساهرة التقرّر وفي
دائرة الوجود ، فإنّه منته في سلسلة الاستناد ولو بأخرة إلى مبدأ واحد هو الله
الأحد الحقّ ، تعاظم سلطانه. ومن ليس يعتقد ذلك فهو في طريق الشرك وفلاة الإشراك ،
لا في مدينة الإخلاص ودين التوحيد. إنّما الاختلاف والاختصام في أنّ المبدأ القريب
المستند إليه المعلول ابتداء لفعل : أهو قدرته وإرادته أم القدرة الوجوبيّة
الربوبيّة والإرادة الحقّة الإلهيّة. فإذن ليس مناط التشبيه هنالك القول بتثنية
المبدأ ، بل إنّ ملاكه أنّه كما المجوس يجعلون الإنسان معزولا مطلقا من المدخليّة
في فعله خيرات أفاعيله مستندة إلى يزدان وشرورها إلى أهرمن ، فكذلك المجبّرة
والكسبيّة. إلّا أنّهم يسندون الجميع من بدء الأمر إلى الله الواحد القهار.
وثانيا ، أنّه لو
كان ذلك مساغ المجوسيّة لم يكن للأشاعرة مساق إلّا إلى الوقوع فيها ، ضرورة أنّ
كلّ مخلوق مستند إلى الله سبحانه وإلى قدرته وعلمه وإرادته بتّة. وتلك صفات أزليّة
زائدة على الذات الأحديّة عندهم وليس ما وراء الذات الواجبة إلّا الجائزات الصرفة.
فإذن لا محيص لهم من إثبات مبادى متعدّدة للوجود وإسناد كلّ موجود إليها جميعا.
وما يتمجمج به أبو
الحسن الأشعريّ : «إنّ هذه الصفات أزليّة قائمة بذاته تعالى ، لا يقال هي هو ولا
غيره ولا هو ولا غيره» ، كما نقله عنه صاحب «الملل والنحل» (ص ١٠٩). ممّا لا يفوه
به من يستحقّ مخاطبة العقلاء. ولقد أصاب واصل بن عطا في ما قال: «من أثبت معنى
وصفة قديمة فقد أثبت إلهين» (الملل والنحل ، ص ٦٠)
وفي أحاديث أصحاب
العصمة من أئمّة المسلمين ، صلوات الله عليهم ، نصوص ناصّة على أنّ من أثبت لمبدإ
الوجود صفة أزليّة وراء ذاته القيّومة فقد أشرك وثنّى واتخذ مع الله آلهة أخرى.
ولروايات بذلك متكاثرة الطرق متواترة المعنى. وهي جميعا في معنى ما رواه الصدوق ،
رضوان الله تعالى عليه ، في كتاب «عيون أخبار الرضا» عليه
السلام ، مسندا عن
الحسين بن خالد ، قال : سمعت الرضا ، عليهالسلام ، يقول :
«لم يزل الله عزوجل عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا». فقلت له : يا بن
رسول الله، إنّ قوما يقولون : لم يزل الله عالما بعلم وقادرا بقدرة وحيّا بحياة
وقديما بقدم وسميعا بسمع وبصيرا ببصر. فقال عليهالسلام : من قال ذلك ودان به فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى وليس من
ولايتنا على شيء. ثمّ قال عليهالسلام : لم يزل الله تعالى عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا
لذاته. تعالى الله عمّا يقول المشركون والمشبّهون علوّا كبيرا» (عيون أخبار الرضا
، ج ١ ، ص ١١٩).
ثمّ ممّا ينصّ على
ما حققناه في شرح الحديث ما روى عن النبي ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، «إنّه قال لرجل قدم عليه من فارس : أخبرنى بأعجب شيء
رأيت. فقال : رأيت أقواما ينكحون أمّهاتهم وأخواتهم. فإذا قيل لهم : لم تفعلون ذلك؟
قالوا بقضاء الله علينا وقدره. فقال ، ص: «سيكون في آخر أمّتى أقوام يقولون مثل
مقالتهم ، أولئك مجوس أمّتى» (بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ٤٧. عن الفائق ، ص ٩٨).
ونظائر ذلك عن الأوصياء الطّاهرين ، عليهمالسلام ، متظافرة متباهرة.
ولقد اتّقح من
لاجّ في المحاجّة : بأنّ ما ذكر لا يدلّ إلّا على أنّ القول ، بأنّ فعل العبد إذا
كان بقضاء الله وقدره وخلقه وإرادته ، يجوز للعبد الإقدام عليه ويبطل اختياره فيه
واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذمّ ، قول المجوس. فلينظر أنّ هذا قول
المعتزلة أم المجبّرة. ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وبالجملة محزّ
الصواب هنالك كلام خاتم المحصّلين من حملة العلم في «نقد المحصّل» من قوله : «وقال
أهل التحقيق في هذا الموضع : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين». فهذا هو
الحقّ. ومن لا يعرف حقيقته وقع في التحيّر» (ص ٣٣٤).
وفي «شرح رسالة
مسألة العلم» ، حيث قال : «وكلّ فعل يصدر عن فاعل بسبب حصول قدرته وإرادته فهو
باختياره ، وكلّ ما لا يكون كذلك فهو ليس باختياره. وسؤال السائل : إنّه بعد حصول
القدرة والإرادة ، هل يقدر على الترك ، كقول من يقول : الممكن بعد أن يوجد ، هل
يمكن أن يكون معدوما حال وجوده. ومحال أن يكون قدرته إنّما تحصل بقدرته ، وإلّا
لتسلسل.
وأمّا الإرادة ،
فربّما تحصل له بقدرة وإرادة سابقة ، كالمتروّي في طلب أصلح الوجوه ، فإنّه بعد
علمه بالوجوه يقصد إلى فرض وقوع واحد واحد منها بفكره ، الذي يصدر عنه أيضا
باختياره ، لينكشف الصلاح والفساد فيها ، فتحصل له الإرادة بما يراه أصلح.
وهذه الإرادة
مكتسبة له. أمّا أسباب كسبها ، وهي القدرة على الفكر وإرادته والعلوم السابقة ،
فبعضها يحصل أيضا بقدرة وإرادة ، لكنّها لا تسلسل ، بل تقف عند أسباب لا تحصل
بقدرته وإرادته. ولا شكّ أنّ عند حصول الأسباب يجب الفعل وعند فقدانها يمتنع.
فالذى ينظر إلى الأسباب الأول ويعلم أنّها ليست بقدرة الفاعل وبال بإرادته ، يحكم
بالجبر. وهو غير صحيح مطلقا ، لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وإرادته. والذي
ينظر إلى السبب القريب يحكم بالاختيار. وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا ، لأنّ الفعل لم
يحصل بأسباب كلّها مقدورة ومرادة. والحقّ ما قاله بعضهم (عليهمالسلام) : «لا جبر ولا تفويض ولكنّ أمر بين أمرين» (التوحيد ، ص
٣٦٢) ، وأمّا في حقّ الله تعالى ، فإن أثبتت له قدرة وإرادة متباينتان ، لزم ما
يلزم هاهنا من إمكان نقص. لكنّ صدور أفعاله تعالى عنه ليس موقوفا على كثرة. إنّما
هو سبب وجود الكثرة. فلا يتصور هناك إيجاب ولا اختيار». انتهى كلامه بعبارته ، (ص
٤٥).
ومن المستعجب أنّ
إمام المتشككين أيضا ودّع أصحابه في «المطالب العالية» وسار بنظره مسير مذهب
التحقيق في هذا المرصد. ولقد حكى عنه فاضل تفتازان في («شرح المقاصد» ، ج ، ص)
كلاما له بهذه العبارة : «إنّ حال هذه المسألة عجيبة ، فإنّ الناس كانوا مختلفين
فيها أبدا ، بسبب أنّ ما يمكن الرجوع إليه فيها متعارضة متدافعة. فمعوّل الجبريّة
على أنّه لا بدّ لترجيح الفعل على الترك من مرجّح ليس من العبد ؛ ومعوّل القدريّة
على أنّ العبد لو لم يكن قادرا على فعله لما حسن المدح والذّمّ والأمر والنهى ،
وهما مقدّمتان بديهيّتان.
ثمّ من الدلائل
العقليّة اعتماد الجبريّة على أنّ تفاصيل أحوال الأفعال غير معلومة للعبد ،
واعتماد القدريّة على أنّ أفعال العباد واقعة على وفق قصودهم ودواعيهم ، وهما
متعارضتان. ومن الالزامات الخطابيّة : أنّ القدرة على الإيجاد صفة كمال لا يليق
بالعبد الذي هو منبع النقصان وأنّ أفعال العباد تكون سفها وعبثا ، فلا يليق
بالمتعالى عن النقصان.
وأمّا الدلائل
السمعيّة ، فالقرآن مملوّ بما يوهم بالأمرين ، وكذا الآثار ، فإنّ أمّة من الأمم
لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الأوضاع والحكايات المتدافعة من الجانبين. حتّى
قيل: إنّ وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر. إلّا أنّ مذهبنا أقوى ،
بسبب أنّ القدح في قولنا : «لا يترجّح الممكن إلّا بمرجّح» يوجب انسداد باب إثبات
الصانع. ونحن نقول : الحقّ ما قال بعض أئمّة الدين : «إنّه لا جبر ولا تفويض ولكن
أمر بين أمرين».
وذلك لأنّ مبنى
المبادى القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره. والمبادى البعيدة على عجزه
واضطراره. فالإنسان مضطرّ في صورة مختار ، كالقلم في يد الكاتب والوتد في شقّ
الحائط. وفي كلام العقلاء : قال الحائط للوتد : لم تشقّنى؟ قال : سل من يدقّنى؟»
هذا كلامه المحكىّ.
قلت : ما أورده ،
من معوّل الجبريّة وأولئك هم القدريّة حقّا ، ليس ممّا يصحّ التعويل عليه أصلا. أليس
الاحتياج إلى مرجّح من خارج غير مصادم لكون قدرة العبد وإرادته ممّا يتوقّف عليه
فعله ، ووجوب الفعل بالقدرة والاختيار ليس ينفى ثبوتهما ، بل إنّه يشهد لهما
بالتحقّق ويسجّل على ذلك بتّة. وما ذكره من معتمدهم غير حفىّ الوهن على
المتبصّرين.
وليعلم أنّ
المشهور لدى الجمهور أنّه سلك هذا المسلك وسار هذا المسير من المعتزلة أبو الحسين
البصريّ فقال : الفعل موقوف على الداعى. فإذا تحققت القدرة وانضمّ إليها الداعى
صار مجموعهما علّة موجبة للفعل. وهو مذهب الحكماء ، واختاره أيضا إمام الحرمين ،
فذهب إلى أنّ فعل العبد يقع بقدرته إيجابا. وكذلك الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينىّ ،
إذ ذهب إلى أنّ وقوع الفعل بمجموع القدرتين الإلهيّة والإنسانيّة. وإنّ حامل عرش
التحصيل والتحقيق يقول : لا خلاف بين الحكماء والمعتزلة في هذه المسألة. ويأتمّ به
في ذلك أكثر من بعده من الأتباع المحصّلين.
قال في «شرح
المقاصد» ، (ص ...) : «فعل العبد واقع عند الحكماء بقدرة يخلقها الله تعالى في
العبد. ولا نزاع للمعتزلة في أنّ قدرة العبد مخلوقة لله تعالى ، وشاع في كلامهم :
أنّه خالق القوى والقدر ، فلا يمتاز مذهبهم عن مذهب الحكماء. ولا يفيد ما أشار
إليه في «المواقف» ، من أنّ المؤثّر عندهم قدرة العبد ، وعند الحكماء مجموع
القدرتين على أن
يتعلّق قدرة الله تعالى بقدرة العبد وهي بالفعل». وذكر الإمام الرازيّ وتبعه بعض
المعتزلة : «أنّ العبد عندهم موجد لأفعاله على سبيل الصحّة والاختيار ، وعند
الحكماء على سبيل الإيجاب ، بمعنى أنّ الله تعالى يوجب للعبد القدرة والإرادة ،
ثمّ هما يوجبان وجود المقدور».
وأنت خبير بأنّ
الصحّة إنّما هي بالقياس إلى القدرة ، وأمّا بالقياس إلى تمام القدرة والإرادة
فليس إلّا الوجوب وأنّه لا ينافي الاختيار. ولهذا صرّح المحقّق في «قواعد العقائد»
: أنّ هذا مذهب المعتزلة والحكماء جميعا. وقال في «التلويح» تبيينا وشرحا لقول صدر
الشريعة ، وهو من فضلاء المعتزلة وحذّاقهم : «الجبر إفراط في تفويض الأمور إلى
الله تعالى والقدر تفريط في ذلك. والحقّ ، أى الثابت في نفس الأمر ، هو الحاقّ. أى
الوسط بين الإفراط والتفريط ، على ما أشار إليه بعض المحقّقين ، حيث قال : «لا جبر
ولا تفويض ، ولكنّ أمر بين أمرين». وحقيقة الحقّ احتراز عن مجازه ، أى عن ما يشبه
الحقّ وليس بحقّ».
الإيقاظ الرابع
(الروايات والأخبار في الأمر بين الأمرين)
ما نحن ، معشر
الحكماء الراسخين والعقلاء الشامخين ، أفدنا المستفيدين في هذه المزلقة وأفتينا
المستفتين في هذه المسألة ، فهو ممّا قد تظافرت بالتنصيص عليه من سادتنا الطاهرين
خزنة أسرار الوحى وحملة أنوار الدين ، صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين ، أخبار
جمّة معتبرة الأسانيد متواترة المعنى.
(١) فقد روينا من
طريق رئيس المحدّثين أبى جعفر الكلينىّ ، رضى الله عنه ، في جامعه «الكافى». (ص
١٧٠) ومن طريق الصدوق أبى جعفر بن بابويه ، رضوان الله تعالى عليه ، في مسنده
المعروف بكتاب «التوحيد» (٢٦) عن يونس بن عبد الرحمن ، عن غير واحد ، عن أبى جعفر
وأبى عبد الله (ع) قالا : «إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر ، خلقه على الذنوب ثمّ
يعذّبهم بها ، والله أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون. قال : فسئلا : هل بين الجبر
والقدر منزلة ثالثة؟ قالا : نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض».
(٢) ومن طريقهما
عن يونس بن عبد الرحمن ، عن حفص بن قرط ، عن
أبى عبد الله ، عليهالسلام ، قال : قال رسول الله (ص) : «من زعم أنّ الله تعالى يأمر
بالسّوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشّر بغير مشيّة الله
فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصى بغير قوّة الله فقد كذب على الله ،
ومن كذب على الله أدخله الله النار» (التوحيد ، ص ٣٥٩ ؛ الكافى ، ص ١٥٨).
(٣) ومن الطّريقين
عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله ، عليهالسلام ، قال : «الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ،
والله أعزّ من أن يكون فى سلطانه ما لا يريد». (الكافى ، ص ١٦ ، التوحيد ، ص ٣٦٠).
(٤) ومن الطريقين
، عن أحمد بن محمّد بن أبى نصر البزنطى ، من طريق الصدوق في الصحيح ، عن أحمد بن
محمّد بن عيسى عنه ؛ ومن طريق الكلينىّ عن سهل بن زياد عنه ، قال : قلت لأبى الحسن
الرضا (ع) : إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة ، قال : فقال لى
اكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، قال على بن الحسين (ع) قال الله عزوجل : يا بن آدم ، بمشيّتى كنت الذي تشاء ما تشاء وبقوّتى
أدّيت فرائضى وبنعمتى قويت على معصيتى ، جعلتك سميعا بصيرا ، ما أصابك من حسنة فمن
الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّى أولى بحسناتك منك وأنت أوّلى
بسيّئاتك منى. وذلك إنّى لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون. قد نظمت لك كلّ شيء تريد.»
(الكافى ، ص ١٦٠).
(٥) ومن الطّريقين
، عن يحيى الخرّاز من طريق الكلينى ، عمّن حدّثه ، ومن طريق الصدوق عن المفضّل بن
عمر ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «لا جبر ولا تفويض وكلن أمر بين أمرين» الحديث. (الكافى
، ص ١٦ ، التوحيد ، ص ٣٦٢).
(٦) ومن طريقيهما
كليهما في الصحيح عن الحسين بن سعيد ، فمن طريق «الكافى» (ص ١٦٢) عن بعض أصحابنا ،
عن عبيدة بن زرارة ؛ ومن طريق كتاب «التوحيد» (ص ٣٤٦) عنه لا بواسطة ، قال :
حدّثني حمزة بن حمران ، قال : «سألت أبا عبد اللهعليهالسلام عن الاستطاعة ، فلم يجبنى ، فدخلت عليه دخلة أخرى ، فقلت :
أصلحك الله ، إنّه قد وقع في قلبى منها شيء لا يخرجه إلّا شيء أسمعه منك. قال :
فإنّه لا يضرّك ما كان في قلبك. قلت : أصلحك الله ، إنّى أقول : إنّ الله تبارك
وتعالى لم يكلّف
العباد ما لا
يستطيعون ولم يكلّفهم إلّا ما يطيقون ، وإنّهم لا يصنعون شيئا إلّا بإرادة الله
ومشيّته وقضائه وقدره. قال : فقال : هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائى. أو كما
قال».
(٧) ومن طريقهما
كليهما في الصحيح عن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليمانى عن أبى عبد الله (ع)
قال : «إنّ الله ، عزوجل ، خلق الخلق ، فعلم ما هم صائرون إليه وأمرهم ونهاهم. فما
أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل
لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذن الله تعالى» (الكافى
، ص ١٥٨) ، التوحيد ، ص ٣٥٩). ورواه الصدوق تارة أخرى من طريق آخر عن إسماعيل بن
جابر عن أبى عبد الله عليهالسلام. قال : «سئل عن الجبر والقدر ، فقال : لا جبر ولا قدر ،
ولكن منزلة بينهما ، فيها الحقّ ، التي بينهما لا يعلمها إلّا العالم أو من علّمها
إيّاه العالم» (التوحيد ، ص ١٥٩).
(٨) ومن طريق
الكافى (ص ١٥٩) ، عن صالح بن سهل ، عن بعض أصحابه ، عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سئل عن الجبر والقدر ، فقال : لا جبر ولا قدر ، ()
ولكن منزلة بينهما ، فيها الحقّ ، التي بينهما لا يعلمها إلّا العالم أو من علّمها
إيّاه العالم».
(٩) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٩) ، عن أبى طالب القمىّ ـ وهو عبد الله بن الصلت الثقة المسكون إلى روايته
من أصحاب الرضا (ع) عن رجل ، عن أبى عبد الله (ع) قال : «قلت : أجبر الله العباد
على المعاصى؟ قال : لا. قال : قلت : ففوّض إليهم الأمر؟ قال : لا. قلت : فما ذا؟
قال : لطف من ربّك بين ذلك».
(١٠) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٩) ، عن يونس ، عن عدّة ، عن أبى عبد الله (ع) قال : «قال له رجل : جعلت فداك
، أجبر الله العباد على المعاصى؟ قال : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصى ، ثمّ
يعذّبهم عليها. فقال له : جعلت فداك ، ففوّض الله إلى العباد؟ قال : لو فوّض إليهم
لم يحصرهم بالأمر والنهى. فقال له : جعلت فداك ، فبينهما منزلة فقال : نعم ، أوسع
ما بين السماء والأرض» (التوحيد ، ص ١٥٩).
(١١) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٩) ، عن الموثق ، عن إسماعيل بن جابر ، قال : «كان في مسجد المدينة رجل
يتكلّم في القدر والناس مجتمعون ، قال : فقلت : يا هذا ، أسألك ، قال : سل ، قلت :
يكون في ملك الله تبارك وتعالى ما لا يريد؟ قال :
فأطرق طويلا ، ثمّ
رفع رأسه إلى ، فقال لى : يا هذا. لئن قلت : إنّه يكون في ملكه ما لا يريد ، إنّه
مقهور ، ولئن قلت : لا يكون في ملكه إلّا ما يريد ، أقررت لك بالمعاصي. فقلت لأبى
عبد الله عليهالسلام : سألت هذا القدريّ ، فكان من جوابه كذا وكذا ، فقال : لنفسه
نظر ، أمّا لو قال غير ما قال هلك».
(١٢) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٤) ، لى الصحيح العالى الإسناد ، عن معاوية بن وهب ، قال : سمعت أبا عبد الله
يقول : إنّ ممّا أوحى الله إلى موسى عليهالسلام وأنزل عليه في التوراة : إنّنى أنا الله ، لا إله إلّا أنا
، خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريت على يدى من أحبّ. فطوبى لمن أجريته على يديه ،
وأنا الله لا إله إلّا أنا ، خلقت الخلق وخلقت الشرّ وأجريته على يدى من أريده ،
فويل لمن أجريته على يديه».
(١٣) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٤) ، في الحسن بل في الصحيح عن ابن أبى عمير ، عن محمّد بن حكيم ، عن محمّد
بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : إنّ في بعض ما أنزل الله من كتبه : إنّى أنا الله ،
لا إله إلّا أنا ، خلقت الخير وخلقت الشرّ. فطوبى لمن أجريت على يديه الخير ، وويل
لمن أجريت على يديه الشرّ ، وويل لمن يقول كيف ذا وكيف ذا».
(١٤) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٤) ، عن المفضل بن عمر وعبد المؤمن الأنصاريّ ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «قال الله جلّ وعزّ : أنا الله ، لا إله إلّا أنا
، خالق الخير ، والشرّ ، فطوبى لمن أجريت على يديه الخير ، وويل لمن أجريت على
يديه الشرّ ، وويل لمن يقول : كيف ذا ، وكيف هذا ، قال يونس : يعنى من ينكر هذا ،
لا من يتفقّه فيه».
(١٥) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٦) ، عن الحسن بن على الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبى بصير ، عن أبى
عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على
الله. ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله».
(١٦) ومن الطريقين
عن الحسن بن على الوشّاء ، عن أبى الحسن الرضا ، عليهالسلام ، قال : «سألته فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال :
الله أعزّ من ذلك. قل : فجبرهم على المعاصى؟ قال : الله أعدل وأحكم من ذلك. قال :
ثمّ قال : قال الله : يا ابن آدم ، أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك
منّى ، علمت المعاصى
بقوّتى التي
جعلتها فيك» (الكافى ، ص ١٥٧).
(١٧) ومن الطريقين
، من طريق الصدوق في جامعه المسند في «التوحيد» (ص ٣٨٠) ، وفي كتاب «عيون أخبار
الرضا» بعدّة أسانيد مسلسلات : منها على بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق ،
بإسناده المتصل المسلسل بالتحديث ، عن على بن جعفر الكوفي قال : «سمعت سيّدى على
بن محمّد عليهالسلام يقول : حدّثني أبى محمّد بن على ، عن أبيه الرضا على بن
موسى ، عن ابيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمّد ، عن أبيه محمّد بن على ، عن
أبيه على بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن على بن على عليهمالسلام ومنها محمّد بن عمر الحافظ البغدادىّ بالإسناد المسلسل
بالتحديث عن سليمان بن محمّد القرشى ، عن إسماعيل بن أبى زياد ، عن جعفر بن محمّد
، عن أبيه محمّد بن على ، عن أبيه ، عن جدّه عن على عليهمالسلام قال. واللفظ لعلىّ بن محمّد بن عمران الدقّاق ومنها أبو
الحسين محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسى بإسناده المسلسل بالتحديث متصلا إلى
محمّد بن عبد الله بن بحبح عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه عليهمالسلام ومنها أحمد بن الحسن القطّان مسلسلا بالتحديث عن عكرمة عن
ابن عباس. ومن طريق رئيس المحدثين الكلينى في جامعه «الكافى» ، (ص ١٥٥) ، على بن
محمّد ، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمّد وغيرهما ، رفعوه ، قال :
«كان أمير
المؤمنين عليهالسلام جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفّين ، إذ أقبل شيخ فجثى بين
يديه وقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام ، أبقضاء من الله
وقدر؟ فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : أجل ، يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا
بقضاء من الله وقدر. فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائى يا أمير المؤمنين ،
فقال له : مه يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي
مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم
مكرهين ولا إليه مضطرّين.
فقال له الشيخ :
وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين ، وكان بالقضاء والقدر
مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له : وتظنّ أنّه كان قضاء حتما و
قدرا لازما؟ إنّه
لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهى والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد
والوعيد. فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من
المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان
وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدريّة هذه الأمّة ومجوسها. إنّ الله تبارك وتعالى
كلّف تخييرا ونهى تحذيرا وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ،
ولم يملّك مفوّضا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث
النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثا. ذلك ظنّ الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار.
فأنشأ الشيخ يقول :
أنت الإمام الذي
نرجو بطاعته
|
|
يوم النجاة من
الرّحمن غفرانا
|
أوضحت من أمرنا
ما كان ملتبسا
|
|
جزاك ربّك
بالإحسان إحسانا
|
ولهذا الحديث في
المستفيض طريق مسند عن الأصبغ بن نباتة. وفيه يسير من الزيادة والنقصان.
(١٨) ومن طريق
الصدوق مسندا مسلسلا بالتحديث عن أبى حازم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه
قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لا يؤمن أحدكم حتّى يؤمن بالقدر خيره وشرّه وحلوه ومرّه»
، (التوحيد ، ص ٣٨٠).
(١٩) وممّا قد صحّ
عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه خطب الناس على منبر الكوفة فقال : «ليس منّا من لم
يؤمن بالقدر خيره وشرّه (من لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه فقد كفر» ، (بحار الأنوار ،
ج ١٠ ، ص ١٣٧).
(٢٠) ومن طريق
الصدوق عن الحسن بن الحسين اللؤلؤى ، عن ابن سنان ، عن مهزّم قال : قال أبو عبد
الله عليهالسلام : «أخبرنى عمّا اختلف فيه من خلّفت من موالينا. قال: قلت
في الجبر والتفويض؟ قال : فسلنى. قلت : أجبر الله العباد على المعاصى؟ قال : الله
أقهر لهم من ذاك. قال : قلت : ففوّض إليهم؟ قال : الله أقدر عليهم من ذاك. قال :
قلت: فأيّ شيء هذا. أصلحك الله؟ قال : فقلّب يده مرّتين أو ثلاثا. ثمّ قال : لو
أجبتك فيه لكفرت» ، (التوحيد ص ٣٦٣).
(٢١) ومن طريق
الصدوق من طريق ابن بطّة في العالى الإسناد عن الحسين بن
سعيد ، عن حمّاد
بن عيسى الجهنىّ ، عن حريز بن عبد الله ، عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ النّاس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم انّ
الله عزوجل أجبر الناس على المعاصى ، فهذا قد ظلّم الله في حكمه فهو
كافر ، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر ،
ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، وإذا أحسن
حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ» ، (التوحيد ، ص ٣٦٠).
(٢٢) ومن الطريقين
في الصحيح ، من طريق الصدوق عن جعفر بن بشير ، عن العرزمىّ ، وهو أبو محمّد عبد
الرحمن بن محمّد بن عبيد الله العرزمىّ الفرازيّ ، عن أبى عبد الله عليهالسلام. ومن طريق رئيس المحدثين على بن الحكم ، عن محمّد بن عبد
الرحمن العرزمىّ ، عن أبيه ، عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «كان لعلىّ عليهالسلام غلام اسمه قنبر وكان يحبّ عليّا ، حبّا شديدا. فإذا خرج
على ، عليهالسلام ، خرج على أثره بالسيف ، فرآه ذات ليلة ، فقال : يا قنبر ،
مالك؟ قال : جئت لأمشى خلفك ، فإنّ الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين ، وخفت عليك.
قال : ويحك أمن أهل السماء تحرسنى أم من أهل الأرض؟ فقال : لا ، بل من أهل الأرض.
قال : إنّ أهل الأرض لا يستطيعون بى شيئا إلّا بإذن الله عزوجل من السماء فارجع فرجع» ، (التوحيد ، ص ٣٣٨).
(٢٣) ومن طريق «الكافى»
، (ج ٢ ، ص ٥٨) ، في الصحيح ، عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن على
بن حكم عن صفوان الجمّال ، عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم
يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وإنّ الضارّ النافع هو الله عزوجل».
(٢٤) وفي معناه من
طريقه عن الوشّاء ، عن أبان عن زرارة ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام على المنبر : لا يجد أحد طعم الإيمان حتى يعلم أنّ ما
أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» ، (الكافى ، ج ٢ ، ص ٥٨).
(٢٥) وفي معناه من
طريق مسند الصدوق في (٣٧٤) ، «التوحيد» مسلسلا عن جعفر بن محمّد قال : «حدّثني أبى
عن أبيه عن جدّه عليهمالسلام قال : دخل الحسين بن علىعليهماالسلام على معاوية ، فقال له : ما حمل أباك على أن قتل أهل البصرة
، ثمّ دار عشيّا
في طرقهم في ثوبين؟
فقال عليهالسلام : حمله على ذلك علمه أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأنّ ما
أخطأه لم يكن ليصيبه ، قال : صدقت. قال : وقيل لأمير المؤمنين ، عليهالسلام ، لمّا أراد قتال الخوارج : لو احترزت يا أمير المؤمنين ،
فقال عليهالسلام :
أيّ يومىّ من
الموت أفرّ
|
|
يوم لم يقدر أم
يوم قدر
|
يوم ما قدر لا
أخشى الرّدى
|
|
وإذا قدّر لم
يغن الحذر
|
(٢٦) ومن طريق في جامعه المسند في «التوحيد»
، (ص ٣٦٩) ، وفي كتاب «عيون أخبار الرضا» في المسلسل ، حدّثنا ابو الحسن محمّد بن
عمرو بن على البصرى ، قال : حدّثنا أبو الحسن على بن الحسن الميثى ، قال : حدّثنا
أبو الحسن على بن مهرويه القزوينى ، قال : حدّثنا أبو أحمد القزوينى وهو داود بن
سليمان ، قال : حدّثنا أبو الحسن على بن موسى الرضا عليهالسلام قال : حدّثنا أبى عن آبائه عن الحسين بن على عليهالسلام ، قال : «سمعت على بن أبى طالب عليهالسلام ، يقول : الأعمال على ثلاثة أحوال : فرائض وفضائل ومعاصى.
فأمّا الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضاء الله وبقضاء الله وبقدره ومشيّته وعلمه.
وأمّا الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضاء الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيّته
وبعلمه. وأمّا المعاصى فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيّته
وبعلمه ثمّ يعاقب عليها».
(٢٧) ومن طريق
الصدوق في الكتابين في القويّ بل في الحسن ، حدّثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد
المؤدّب ، رضى الله عنه ، قال : حدّثنا على بن ابراهيم بن هاشم ، عن أبيه، عن على
بن معبّد ، عن الحسين بن خالد ، عن على بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن
على بن ابى طالب عليهمالسلام ، قال : «سمعت رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : قال الله جلّ جلاله : من لم يرض بقضائى ولم يؤمن
بقدرى فليلتمس إله غيرى. وقال رسول للهصلىاللهعليهوآلهوسلم : في قضاء الله خيرة للمؤمن».
(٢٨) ومن طريق
الصدوق في كتابيه جامع «التوحيد» ، (ص ٤١٦) ، وكتاب «عيون أخبار الرضا» في الصحيح
العالى الإسناد من الثلاثيات مكاتبة. حدّثنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس
النيشابورىّ العطّار رضى الله عنه ، قال : حدّثنا على بن محمّد بن قتيبة
النيشابورىّ ، عن حمدان بن سليمان ، قال : «كتبت إلى الرضا ، عليه
السلام ، أسأله عن
أفعال العباد مخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فكتب عليهالسلام : أفعال العباد مقدّرة في علم الله قبل خلق العباد بألفي
عام».
(٢٩) ومن طريق
جامع الصدوق في «التوحيد» ، (ص ٣٦٦) ، مسندا عن سيف بن عيينة ، عن الزهريّ ، وهو
محمّد بن مسلم بن شهاب التابعىّ المدنىّ ، قال : قال رجل لعلىّ بن الحسين عليهماالسلام ، «جعلنى الله فداك ، أبقدر الله يصيب الناس ما أصابهم أم
بعمل؟ فقال فقال : إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد. فالروح بغير جسد لا تحسّ
، والجسد بغير روح لا حراك بها ، فإذا اجتمعا قويا وصلحا. كذلك العمل والقدر. فلو
لم يكن القدر واقعا على العمل لم يعرف الخالق من المخلوق وكان القدر شيئا لا يحسّ
، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض ولم يتمّ ، ولكنّهما باجتماعهما قويا.
ولله فيه العون لعباده الصالحين. ثم قال عليهالسلام : ألا إنّ من أجور الناس من رأى جوره عدلا وعدل المهتدى
جورا. ألا إنّ للعبد أربعة أعين : عينان ليبصر بهما أمر آخرته ، وعينان يبصر بها
أمر دنياه. فإذا أراد الله عزوجل بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه ، فأبصر بهما
العيب. وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه. ثمّ التفت إلى السائل عن القدر فقال
: هذا منه وهذا منه».
(٣٠) ومن طريق
الصدوق في جامعة المسند في «التوحيد» ، (ص ٣٥٢) ، حدّثنا أبى ، رضى الله عنه ، قال
: حدّثنا أبو الخير صالح بن أبى حمّاد ، قال : حدّثني أبو خالد السجستانىّ ـ وهو
الذي لمّا مضى أبو الحسن موسى ، عليهالسلام ، وقف عليه ، ثمّ نظر في نجومه فزعم أنّه قد مات فقطع
بموته عليهالسلام ، ورجع إلى الحقّ وخالف أصحابه ـ عن على بن يقطين عن أبى
ابراهيم عليهالسلام ، قال : «مرّ أمير المؤمنين عليهالسلام بجماعة بالكوفة وهم يختصمون في القدر ، فقال لمتكلمهم :
بالله تستطيع أم مع الله أم من دون الله تستطيع؟ فلم يدر ما يردّ عليه. فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : إنّ زعمت أنّك بالله تستطيع فليس لك من الأمر شيء وإنّ
زعمت أنّك مع الله تستطيع فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه ، وإنّ زعمت أنّك من دون
الله تستطيع فقد ادّعيت الربوبيّة من دون الله عزوجل. فقال : يا أمير المؤمنين : لا ، بل بالله أستطيع. فقال عليهالسلام : أمّا إنّك لو قلت غير هذا لضربت عنقك».
(٣١) ومن طريق
رئيس المحدّثين في الصحيح العالى الإسناد من ثلاثيّات «الكافى» ، (ج ١ ، ص ١٥٢) ،
محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن أحمد بن محمّد بن أبى نصر قال : قال أبو
الحسن الرضا عليهالسلام : «قال الله عزوجل : ابن آدم ، بمشيّتى كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ،
وبقوّتى أدّيت فرائضى ، وبنعمتى قويت على معصيتى. جعلتك سميعا بصيرا قويّا ، ما
أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك. وذلك أنّى أولى بحسناتك منك
وأنت أولى بسيّئاتك منّى. وذلك أنّى لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون».
(٣٢) ومن الطريقين
حسنة حمزة بن الطيار ، بل صحيحة فضالة بن أيّوب ، عن حمزة بن الطيّار ، عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «إنّه ليس شيء فيه قبض أو بسط ممّا أمر الله به أو
نهى عنه إلّا وفيه لله عزوجل ابتلاء وقضاء» ، (التوحيد ، ص ٣٥٤).
(٣٣) ومن طريقهما
في الحسن على الأصحّ على بن إبراهيم بن هاشم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس
بن عبد الرحمن ، عن حمزة بن محمّد الطيّار ، عن أبى عبد اللهعليهالسلام ، قال : «ما من قبض ولا بسط إلّا ولله فيه مشيّة وقضاء
وابتلاء» ، (التوحيد ، ص ٣٥٤).
(٣٤) ومن طريق «الكافى»
، (ص ١٥٣) ، لرئيس المحدثين ، على بن محمّد ، رفعه ، عن شعيب العقرقوفي عن أبى
بصير ، قال : كنت بين يدى أبى عبد الله عليهالسلام جالسا ، وقد سأله سائل فقال : جعلت فداك يا ابن رسول الله
، من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتّى حكم لهم في علمه لا عذاب على عملهم؟ فقال
أبو عبد الله عليهالسلام : أيّها السائل علم الله عزوجل الّا يقوم أحد من خلق بحقّه. فلمّا علم ذلك وهب لأهل
المعصية القوّة على معصيتهم ، لسبق علمه فيهم ولم يمنعهم إطاقة القبول منه. لأنّ
علمه أولى بحقيقة التصديق ، فوافقوا ما سبق لهم في علمه ، وإن قدروا أن يأتوا
خلالا تنجيهم عن معصيته ، وهو معنى شاء ما شاء ، وهو سرّه». (التوحيد ، ص ٣٥٤).
قلت : يعنى عليهالسلام : لسوء استعدادهم الجبلّىّ ونقص استحقاقهم الذاتىّ وقصور
قابليّتهم الطباعيّة الموجبة لسوء الاختيار وخسران الاتّجار. وذلك الذي يقال له
سرّ القدر. ويتضح لك ببيان أشفى ممّا قد أسبقناه إن شاء الله سبحانه.
(٣٥) ومن طريق
الصدوق عروة الإسلام في جامعه في «التوحيد» ، (ص ٢٣٧) ، في الحسن عن عبد الله بن
ميمون القدّاح ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهماالسلام. قال : «قيل لعلىّ عليهالسلام : إنّ رجلا يتكلّم في المشيّة. فقال : ادعه لى. قال : فدعا
له ، فقال : يا عبد الله ، خلقك الله لما شاء ، قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال
: إذا شاء ، قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : إذا شاء. قال : فيدخلك حيث
شاء أو حيث شئت؟ قال : حيث شاء. قال : فقال على عليهالسلام له : لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك».
(٣٦) ومن طريقه
بهذا الإسناد ، قال : دخل على أبى عبد الله عليهالسلام أو أبى جعفرعليهالسلام رجل من أتباع بنى أميّة ، فخفنا عليه. فقلنا له : لو
تواريت ، وقلنا : ليس هو هاهنا. قال : ائذنوا له ، فإنّ رسول الله ، صلىاللهعليهوآله ، قال : إنّ الله عزوجل عند لسان كلّ قائل ويد كلّ باسط. فهذا القائل لا يستطيع أن
يقول : إلّا ما شاء الله. وهذا الباسط لا يستطيع أن يبسط يده إلّا بما شاء الله.
فدخل عليه فسأله عن أشياء وآمن بها وذهب» ، (التوحيد، ص ٣٣٧).
(٣٧) ومن طريقه فيه
مسندا في الموثّق عن مروان بن مسلم ، عن ثابت بن أبى صفية ، عن سعد الخفّاف ، عن
الأصبغ بن نباتة. قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : أوحى الله عزوجل إلى داود عليهالسلام : يا داود ، تريد ، وأريد ولا يكون إلّا ما أريد. فإنّ
أسلمت لما أريد أعطيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك في ما تريد ، ثمّ لا
يكون إلّا ما أريد» ، (التوحيد ، ص ٣٣٧).
(٣٨) ومن طريقه
رضى الله عنه فيه ، حدّثنا على بن أحمد بن محمّد بن عمران ، رضى الله عنه ، قال :
حدّثنا محمّد بن أبى عبد الله الكوفي ، قال : حدّثنا موسى بن عمران النخعى ، عن
عمّه الحسين بن يزيد النوفلىّ ، عن على بن سالم ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «سألته عن الرّقى ، أتدفع من القدر شيئا؟ فقال :
هي من القدر. وقال عليهالسلام : إنّ القدريّة مجوس هذه الأمّة ، وهم الذين أرادوا أن
يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه ، وفيهم نزلت هذه الآية : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى
وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ، (الإسراء ، ٢٣) (التوحيد ، ص ٣٨٢).
(٣٩) وفي كتاب «الاعتقادات»
(ص ٧١) ، قال رضى الله عنه : «وسئل الصادق عليهالسلام عن الرّقى ، هل
تدفع من القدر شيئا؟ فقال : هي من القدر.
(٤٠) ولقد ورد
وصحّ لدى العامّة والخاصة عن سيّدنا رسول الله (ص) أنّه سئل : هل يغنى الدواء
والرّقيّة من قدر الله؟ فقال ، لمن سأله : الدواء والرّقية أيضا من قدر الله».
(٤١) ومن طريقه ،
رضى الله عنه ، في كتابه الجامع المسند في «التوحيد» (ص ٣٤٩) ، صحيحة أبان بن
عثمان ، عن حمزة بن محمّد الطيّار ، قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل : (وَقَدْ كانُوا
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) (القلم ، ٤٣) ،
قال : مستطيعون ، يستطيعون الأخذ بما أمروا به والترك لما نهوا عنه. وبذلك ابتلوا.
ثمّ قال : ليس شيء ممّا امروا به ونهوا عنه إلّا ومن الله عزوجل فيه ابتلاء وقضاء».
(٤٢) ومن طريقه في
الصحيح أبى رحمهالله قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى
، عن أبى عبد الله البرقىّ ، قال : حدّثني أبو شعيب صالح بن خالد المحاملى ، عن
أبى سليمان الجمّال ، واسمه داود بن سليمان ، عن أبى بصير ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «سألته عن شيء من الاستطاعة ، فقال : ليست
الاستطاعة من كلامى ولا كلام آبائى» ، (التوحيد ، ص ٣٤٤).
(٤٣) ومن طريقه
فيه بإسناده عن محمّد بن عجلان ، قال : «قلت لأبى عبد اللهعليهالسلام : فوّض الله الأمر إلى العباد؟ فقال : الله أكرم من أن
يفوّض إليهم ، قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال : الله أعدل من أن يجبر
عبدا على فعل ثمّ يعذّبه عليه» ، (التوحيد ، ص ٣٦١).
(٤٤) ومن طريقه
فيه في القويّ ، بل في الحسن العالى الإسناد ، حدّثنا أبى ومحمّد بن الحسن بن أحمد
بن الوليد رحمهماالله ، قالا : حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار وأحمد بن إدريس
جميعا ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعريّ ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن
على بن معبد ، عن عمر بن اذينة ، عن زرارة ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام ، يقول : كما أنّ بادى النّعم من الله عزوجل وقد نحلكموه ، فكذلك الشرّ من أنفسكم وإن جرى به قدره» ، (التوحيد
، ص ٣٦٨).
(٤٥) ومن طريقه
فيه مسندا عن الأوزاعى عن يحيى بن كثير ، قال : «قيل
لأمير المؤمنين عليهالسلام : ألا نحرسك؟ قال : حرس كلّ امرئ أجله» ، (التوحيد ، ص
٣٧٩).
(٤٦) ومن طريقه في
«عيون أخبار الرضا» (ص ١٣٨) ، بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى ، عن
الإمام على بن محمّد ، عن أبيه محمّد بن على ، عن أبيه الرضا عليهمالسلام ، قال : «خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق عليهالسلام ، فاستقبله موسى بن جعفر عليهالسلام فقال له : يا غلام ، ممّن المعصية؟ قال عليهالسلام : لا تخلو من ثلاث : إمّا أن يكون من الله وليست منه ، فلا
ينبغى للكريم أن يعذّب عبده بما لا يكسبه ، وإمّا أن تكون من الله عزوجل ومن العبد ، فلا ينبغى للشريك القويّ أن يظلم الشريك
الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد ، وهي منه ، فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفى عنه
فبكرمه وجوده» ، (التوحيد ، ص ١٣٨ ؛ عيون الأخبار الرضا ، ص ١٣٨).
(٤٧) ومن طريقه
رضى الله عنه في جامع «التوحيد» (ص ٤١٥) ، في الصحيح ، حدّثنا أبى رضى الله عنه ،
قال : حدثنا على بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن أبى عمير ، عن محمّد بن
حمران ، عن سليمان بن خالد. ومن طريق «الكافى» (ص ١٦٦) ، أيضا بهذا الإسناد بعينه
عن سليمان بن خالد ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في
قلبه نكتة من نور ، وفتح مسامع قلبه ووكّل به ملكا يسدده. وإذا أراد الله بعبد سوء
نكت في قلبه سوداء وسد مسامع قلبه ووكّل به شيطانا يصلّه. ثمّ تلى هذه الآية : ومن
يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا
كأنّما يصعّد في السماء».
(٤٨) ومن طريقه
فيه : حدّثنا أبى ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رض) قالا : حدّثنا محمّد بن
يحيى العطّار وأحمد بن إدريس جميعا ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعرى ،
عن إبراهيم بن هاشم ، عن على بن معبد ، عن درست ، عن فضيل بن يسار ، قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : شاء الله أن أكون مستطيعا لما لم يشأ أن أكون
فاعله. قال : وسمعته يقول : شاء وأراد ولم يحبّ ولم يرض. شاء أن لا يكون في ملكه
شيء إلّا بعلمه ، وأراد مثل ذلك ، ولم يحبّ أن يقال له : «ثالث ثلاثة» ، ولم يرض
لعباده الكفر» ، (التوحيد ، ص ٣٤٣).
(٤٩) ومن طريقه
رضى الله عنه فيه في الصحيح ، حدّثنا الحسين بن أحمد بن
إدريس ، قال :
حدّثنا أبى قال : حدّثنا ابراهيم بن هاشم ، عن محمّد بن أبى عمير ، عن هشام بن
سالم ، قال : «سئل ابو عبد الله عليهالسلام ، فقيل له : بما عرفت ربّك؟ قال : بفسخ العرم ونقض الهمم ،
عزمت ففسخ عزمى وهممت فنقض همّى» ، (التوحيد ، ص ٢٨٩). قلت : العزم بكسر المهملة
وفتح الزاء لمشاكلة الهمم من باب صنعة الازدواج ، كما في قولهم : أخذه ما حدث وما
قدم بالضمّ للمشاكلة.
(٥٠) ومن طريقه
فيه ، حدّثنا احمد بن زياد بن جعفر الهمدانى ، رض ، قال : حدّثنا على بن ابراهيم
بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمّد بن سنان ، عن زياد بن المنذر ، عن أبى جعفر محمّد بن
على الباقر عن أبيه عن جدّه عليهمالسلام أنّه قال : «إنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بما ذا عرفت ربّك؟ قال : بفسخ
العزم ونقض الهمّ ، لمّا هممت فحيل بينى وبين همّى ، وعزمت فخالف القضاء عزمى ،
عرفت أنّ المدبّر غيرى. قال : فبما ذا شكرت نعماءه؟ قال : فنظرت إلى بلاء قد صرفه
عنّى وأبلى به خيرى ، فعلمت أنّه قد أنعم على فشكرته. قال : فلما ذا أحببت لقاءه؟
قال : لما رأيته قد اختار لى دين ملائكته وأنبيائه ورسله ، علمت أنّ الّذي أكرمنى
بهذا ليس ينسانى ، فأحببت لقاءه» ، (التوحيد ، ص ٢٨٨).
(٥١) ومن طريقه
رضى الله عنه فيه في الموثق ، حدّثنا أبى ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رض)
، قالا : حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار وأحمد بن إدريس جميعا ، عن محمّد بن أحمد
بن يحيى بن عمران الأشعرى. قال : حدّثنا يعقوب بن يزيد ، عن على بن حسّان ، عن
إسماعيل بن ابى زياد الشعيرىّ ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن سعدان ، عن معاذ بن
جبل قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «سبق العلم وجفّ القلم ومضى القدر بتحقيق الكتاب وتصديق
الرسل ، وبالسعادة من الله عزوجل لمن آمن ، واتقى ، وبالشقاء لمن كذّب وكفر ، وبولاية الله
المؤمنين وببراءته من المشركين». ثمّ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عن الله أروى حديثى ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول : يا
ابن آدم ، بمشيّتى كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتى كنت أنت الذي تريد
لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتى عليك قويت على معصيتى ، وبمعصيتى وعونى وعافيتى أدّيت
إلى فرائضى. فأنا
أولى بحسناتك منك
، وأنت أولى بسيئاتك منّى. فالخير منّى إليك بما أوليت بداء ، والشّرّ منّى إليك
بما جنيت جزاء ، وبإحسانى إليك قويت على طاعتى ، وبسوء ظنّك بى قنطت من رحمتى ،
فلى الحمد والحجّة عليك بالبيان ، ولى السبيل عليك بالعصيان ، ولك جزاء الخير عندى
بالإحسان. لم أدع تحذيرك ، ولم آخذك عند غرّتك ، ولم أكلّفك فوق طاقتك ، ولم
أحمّلك من الأمانة إلّا ما أقررت به على نفسك ، رضيت لنفسى منك ما رضيت لنفسك منّى»
، (التوحيد ، ص ٣٤٣).
(٥٢) ومن طريقه
فيه بسند آخر مسندا عن عبد الله بن عمر ، عن النبي صلىاللهعليهوآله مثله باختلاف يسير ، وفيه مكان «مضى القدر» تمّ القضاء.
ومكان «إلّا ما أقررت به على نفسك» إلّا ما قدرت عليه ، (التوحيد ، ص ٣٤١).
(٥٣) ومن طريقه
فيه بإسناده عن عبد الله بن مسكان ، عن أبى بصير ، عن أبى عبد الله عليهالسلام : «أنّه سئل عن المعرفة أهي مكتسبة؟ فقال : لا. فقيل له :
فمن صنع الله عزوجل وعطائه هي؟ قال : نعم ، وليس للعباد فيها صنع. ولهم اكتساب
الأعمال. وقالعليهالسلام: أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير ، لا خلق تكوين» ، (التوحيد
، ص ٤١٦).
(٥٤) ومن طريقه
فيه وكذلك طريق رئيس المحدّثين في «الكافى» (ص ١٦٦) ، موثّقة أحمد بن محمّد بن
فضّال ، عن على بن عقبة ، عن أبيه قال : «سمعت أبا عبد اللهعليهالسلام يقول : اجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس ، فإنّه ما كان
لله فهو لله ، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله. ولا تخاصموا الناس لدينكم ، فإنّ
المخاصمة ممرضة القلب ، إنّ الله عزوجل قال لنبيّه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (القصص ، ٥٦) ،
وقال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس ، ٩٩).
وذروا الناس ، فإنّ الناس أخذوا عن الناس ، وإنّكم أخذتم عن رسول الله ، صلىاللهعليهوآله. إنّى سمعت أبى عليهالسلام يقول : إنّ الله عزوجل إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من
الطير إلى وكره» ، (التوحيد ، ص ٤١٥).
(٥٥) ومن طريقه
فيه بإسناده عن محمّد بن عبد الرحمن العرزميّ ، عن أبيه عبد الرحمن ، رفعه إلى من
قال : «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين
بخمسين ألف سنة» ، (التوحيد ، ص ٣٦٨).
(٥٦) ومن طريقه
رضى الله عنه فيه وفي كتاب «من لا يحضره الفقيه» موثّقة إسماعيل بن مسلم بإسناد
صحيح عنه ، حدّثنا أبى رضى الله عنه قال : حدّثنا على بن الحسن الكوفي ، عن أبيه
الحسن بن على بن عبد الله الكوفي ، عن جدّه عبد الله بن مغيرة ، عن إسماعيل بن
مسلم أنّه سأل الصادق عليهالسلام : «عن الصلاة خلف رجل يكذّب بقدر الله عزوجل. قال : فليعد كلّ صلاة صلّاها خلفه» ، (التوحيد ، ص ٣٨٣).
(٥٧) ومن طريقه
فيه وفي كتاب «الخصال» بإسناده عن الأعمش ، عن جعفر بن محمّد عليهالسلام. قال : «في ما وصف له من شرائع الدين : إنّ الله لا يكلّف
نفسا إلّا وسعها ، ولا يكلّفها فوق طافتها ، وأفعال العباد مخلوقة خلق تقدير ، لا
خلق تكوين ، والله خالق كلّ شيء. ولا نقول بالجبر ولا بالتفويض» ، الحديث بطوله ، (التوحيد
، ص ٤٠٨).
(٥٨) ومن طريقه
مسندا عن جابر بن يزيد الجعفى ، قال : قلت لأبى عبد الله عليهالسلام يا ابن رسول الله ـ وساق الحديث إلى حيث قال : ـ فقال عليهالسلام : «إنّ الله تبارك وتعالى أولى بما يدبّره من أمر خلقه
بينهم ، وهو الخالق والمالك لهم ، فمن منعه التعمير فإنّما منعه ما ليس له ، ومن
عمّره فإنّما أعطاه ما ليس له ، فهو المتفضل بما أعطاه وعادل في ما منع ، ولا يسأل
عمّا يفعل وهم يسألون. قال جابر : فقلت له : يا ابن رسول الله. وكيف لا يسأل عمّا
يفعل؟ قال : لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصوابا ؛ وهو المتكبّر الجبّار
والواحد القهار. فمن وجد في نفسه حرجا في شيء ممّا قضى الله فقد كفر ، ومن أنكر
شيئا من أفعاله جحد». يعنى عليهالسلام : ممّا قضى من الكفر والمعاصى ، (التوحيد ، ص ٣٩٧).
(٥٩) ومن طريقه
فيه مسندا عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، وأورده في كتاب «الاعتقادات»
مرسلا قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : في القدر : إنّ القدر سرّ من سرّ الله وحرز من حرز الله
مرفوع في حجاب الله ، مطوىّ عن خلق الله ، مختوم بخاتم الله ، سابق في علم الله ،
وضع الله العباد عن علمه ، ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم ، لأنّهم لا ينالونه
بحقيقة الربانيّة ولا بقدرة الصمدانيّة ، ولا بعظمة النورانيّة ، ولا بعزة
الوحدانيّة لأنّه بحر زاخر موّاج خالص لله عزوجل. عمقه ما بين السماء والأرض ، عرضه ما بين المشرق والمغرب
، أسود كالليل الدامس ، كثير الحيّات والحيتان ، يعلو مرّة
ويسفل أخرى ، في
قمره شمس تضيء لا ينبغى أن يطّلع إليها الّا الله الواحد الفرد. فمن تطلّع إليها
فقد ضادّ الله في عزّه ونازعه في سلطانه وكشف عن سرّه وسرّه وباء بغضب من الله ،
ومأواه جهنّم وبئس المصير» ، (التوحيد ، ص ٣٨٣).
قوله : «إلّا
الواحد الفرد» ، يعنى عليهالسلام به من كان ممّن قد خصّه الله عزوجل بعميم طوله ، وحفّه بعظيم فضله من العلماء الراسخين
والحكماء الشامخين ، فإنّه يحقّ له أن يتطلع إليها ويتنطّح في سبيل الاستكشاط عن
سرّها ، فيتعرّف بالبرهان أنّه ليس يمكن أن ينال كنه حقيقتها إلّا البصير بجملة
نظام الوجود والمحيط بأسباب كلّ موجود ، كما قال عليهالسلام ، لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربانيّة. قلت : وأرجو من
الله جلّ سلطانه أن يكون مصنّف هذا الكتاب ، وهو أضعف خلق الله وأفقرهم إليه بفيض
فضله العظيم سبحانه من ذلك الواحد الفرد المحتفّ بالنور والأيد.
(٦٠) من طريق رئيس
المحدّثين الكلينى رضى الله عنه في جامعه «الكافى» صحيحة عبد الله بن مسكان ، عدّة
من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن إسماعيل السراج
، عن ابن مسكان ، عن ثابت بن سعيد ، قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : يا ثابت ، ما لكم وللناس ، كفّوا عن الناس ولا تدعوا
أحدا إلى أمركم. فو الله ، لو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا
عبدا يريد الله ضلاله ، ما استطاعوا أن يهدوه. ولو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين
اجتمعوا على أنّ يضلّوا عبدا يريد الله أن يهديه ما استطاعوا أن يضلّوه. كفّوا عن
الناس ، ولا يقول أحد : عمّى وأخى وابن عمّى وجارى. فإنّ الله إذا أراد بعبد خيرا
طيّب روحه ، فلا يسمع معروفا إلّا عرفه ، ولا منكرا إلّا أنكره ، ثمّ يقذف الله في
قلبه كلمة يجمع بها أمره» ، (الكافى ، ج ١ ، ص ١٦٥).
(٦١) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٦٧) ، في الصحيح أبو على الأشعريّ ، وهو أحمد بن إدريس القمىّ عن محمّد بن عبد
الجبّار ، عن صفوان بن يحيى ، عن محمّد بن مروان، عن فضيل بن يسار ، قال : «قلت
لأبى عبد الله عليهالسلام : ندعو الناس إلى هذا الأمر؟ قال : لا ، يا فضيل ، إنّ
الله إذا أراد بعبد خيرا ، أمر ملكا ، فأخذه بعنقه ، فأدخله في هذا الأمر طائعا أو
كارها». يعنى عليهالسلام إنّ الله عزوجل يهديه لإرادة
الدخول في هذا
الأمر ، ويهيّئ له أسباب التبصّر والهدى ، لا أنّه سبحانه يجبره على ذلك يضطرّه
إليه من غير إرادته واختياره.
(٦٢) ومن طريق «الكافى»
(ج ٢ ، ص ١٥٨) ، في الصحيح ، عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن
أحمد بن محمّد بن أبى نصر ، عن صفوان الجمّال ، قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل : (وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) (الكهف ، ٨٢) ،
فقال : أمّا إنّه ما كان ذهبا ولا فضّة وإنّما كان أربع كلمات : لا إله إلّا أنا.
من أيقن بالموت لم يضحك سنّه ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر
لم يخش إلّا الله».
(٦٣) ومن طريقه عن
الحسن بن على الوشّاء ، عن المثنّى بن الوليد ، عن أبى بصير ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «ليس شيء إلّا وله حدّ. قال : قلت : جعلت فداك :
فما حدّ التوكّل؟ قال : اليقين. قلت : فما حدّ اليقين؟ قال : أن لا تخاف مع الله
شيئا».
(٦٤) ومن طريق
عروة الإسلام في مسنده الجامع في «التوحيد» صحيحة أبان بن عثمان الأحمر ، عدّة من
اصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن على بن الحكم ، عن أبان الأحمر ، عن حمزة
بن الطيّار ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «قال لى : اكتب ، فأملى على : إنّ من قولنا : إنّ
الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم
الكتاب ، فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصوم. فنام رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عن الصلاة فقال : أنا أنيمك وأنا أوقظك. فإذا قمت فصلّ ،
ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ، ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك. وكذلك
الصيام : أنا أمرّضك وأنا أصحّحك ، فإذا شفيتك فاقضه. ثمّ قال أبو عبد الله ، عليهالسلام : وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ،
ولم تجد أحدا إلّا ولله عليه الحجّة ، وله فيه المشيّة ، ولا أقول : إنّهم ما
شاءوا صنعوا. ثمّ قال : إنّ الله يهدى ويضلّ ، وقال : وما أمروا إلّا بدون سعتهم ،
وكلّ شيء أمر الناس به فهم يسعون له ، وكلّ شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم. ولكنّ
أكثر الناس لا خير فيهم. ثمّ تلى عليهالسلام : «ليس على الضّعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا
يجدون ما ينفقون حرج» فوضع عنهم : «ما على المحسنين من سبيل ،
والله غفور رحيم.
ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم». قال : فوضع عنهم ، لأنهم لا يجدون» ، (الكافى
، ج ٢ ، ص ١٦٤ ؛ التوحيد ، ص ٤١٣).
(٦٥) ومن طريق
رئيس المحدثين في «الكافى» (ص ١٤٩) ، صحيحة فضالة بن أيّوب العاليّة الإسناد :
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد خالد ، عن أبيه ، ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن
محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ومحمّد بن خالد جميعا ، عن فضالة ، عن أيّوب ،
عن محمّد بن عمّارة ، عن حريز بن عبد الله وعبد الله بن مسكان جميعا ، عن أبى عبد
الله عليهالسلام أنّه قال : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بهذه
الخصال السّبع ، بمشيّة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل. فمن زعم أنّه يقدر على
نقض واحدة فقد كفر».
قال رضى الله عنه
: ورواه على بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن حفص ، عن محمّد بن عمّارة ، عن حريز
بن عبد الله وابن مسكان مثله. ثمّ قال : ورواه أيضا عن أبيه ، عن محمّد بن خالد ،
عن زكريا بن عمران ، عن أبى الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام ، قال : لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلّا بسبع :
بقضاء وقدر وإرادة ومشيّة وكتاب وأجل وإذن. فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله ، أو
ردّ على الله عزوجل».
(٦٦) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥١) ، قويّة بل حسنة على ابن معبد ، عن واصل بن سليمان ، عن عبد الله بن سنان
، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «سمعته يقول : أمر الله ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر.
أمر إبليس أن يسجد لآدم ، وشاء أن لا يسجد. ولو شاء لسجد. ونهى آدم عن أكل الشجرة
، وشاء أن يأكل منها. ولو لم يشأ لم يأكل».
(٦٧) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥١) ، على بن إبراهيم ، عن المختار بن محمّد الهمدانيّ ومحمّد بن الحسن ، عن
عبد الله بن الحسن العلويّ جميعا ، عن الفتح بن يزيد الجرجانىّ ، عن أبى الحسن عليهالسلام قال : «إنّ لله إرادتين ومشيّتين ، إرادة حتم وإرادة عزم.
ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء. أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من
الشجرة وشاء ذلك. ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيّتهما مشيّة الله. وأمر إبراهيم
أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيت إبراهيم مشيّة الله».
(٦٨) ورواه الصدوق
، رحمهالله ، في كتاب «التوحيد» (ص ٦١) ، في حديث بسنده عن أبى القاسم
إبراهيم بن محمّد العلوى ، عن فتح بن يزيد الجرجانىّ ، قال : لقيتهعليهالسلام على الطريقة ، بعد منصرفي من مكة إلى خراسان ، وهو سائر
إلى العراق ، فسمعته يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يطاع. فتلطفت في
الوصول إليه ، فوصلت فسلّمت ، فردّ على السلام ، ثمّ قال : يا فتح ، من أرضى
الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق ، فقمن أن يسلّط عليه سخط المخلوق ،
وإنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه ، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن
تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به ، جلّ
عمّا وصفه الواصفون ، وتعالى عمّا ينعته الناعتون. وفي آخر الحديث ، قلت : إنّ
عيسى ، عليهالسلام ، خلق من الطين طيرا دليلا على نبوّته ، والسامرىّ خلق
عجلا جسدا لنقض نبوّة موسى عليهالسلام ، وشاء الله أن يكون ذلك كذلك. إنّ هذا لهو العجب. فقال عليهالسلام : ويحك ، يا فتح ، إنّ لله إرادتين ومشيّتين ، إرادة حتم
وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء. أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته عن
أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ، ولو لم يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لقلبت مشيّتهما
مشية الله. وأمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل ، وشاء أن لا يذبحه. ولو لم يشأ أن لا
يذبحه لغلبت مشيّة الله عزوجل. قلت : فرّجت عنى فرّج الله عنك ، غير أنّك قلت : السميع
البصير سميع بأذن وبصير بعين. قال : إنّه يسمع بما يبصر ويرى بما يسمع. بصير لا
بعين ، مثل عين المخلوقين ، وسميع لا بمثل سمع السامعين. لكن بما لا تخفى عليه
خافية» ، الحديث.
(٦٩) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٠) ، على بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن أبان عن
أبى بصير ، قال : «قلت لأبى عبد اللهعليهالسلام : شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحبّ. قال هكذا خرج إلينا».
(٧٠) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٥٠) ، بإسناده عن على بن إبراهيم الهاشميّ قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام ، يقول : لا يكون شيء إلّا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى»
، الحديث.
(٧١) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٦١) ، في العالى الإسناد محمّد بن يحيى و
على بن إبراهيم
جميعا ، عن أحمد بن محمّد ، عن على بن الحكم وعبد الله بن يزيد جميعا ، عن رجل من
أهل البصرة. قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الاستطاعة. فقال : أبو عبد الله : أتستطيع أن تعمل ما
لم يكون؟ قال : لا. قال : فتستطيع أن تنتهى عمّا قد كوّن. قال : لا. قال : فقال له
أبو عبد الله : فمتى أنت مستطيع؟ فقال : لا أدرى. فقال أبو عبد الله عليهالسلام : إنّ الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة. ثمّ لم
يفوّض إليهم. فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل ، فإذا
لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه. إنّ الله عزوجل أعزّ من أن يضادّه في ملكه أحد. قال البصريّ : فالناس
مجبورون؟ فقال : لو كانوا مجبورين كانوا معذورين. قال : ففوّض إليهم؟ قال : لا.
قال : فما هم؟ قال : علم منهم فعلا ، فجعل فيهم آلة الفعل. فإذا فعلوا كانوا مع
الفعل مستطيعين. قال البصريّ : أشهد أنّه الحقّ وإنّكم أهل بين النبوّة والرسالة».
(٧٢) ومن طريق «الكافى»
(ص ١٦٢) ، في العالى الإسناد محمّد بن أبى عبد الله ، عن سهل بن زياد وعلى بن
إبراهيم ومحمّد بن يحيى جميعا ، عن أحمد بن محمّد ، عن على بن الحكم ، عن صالح
النيلىّ ، قال : «سألت أبا عبد الله : هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال : فقال لى
: إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم. قال : قلت :
وما هي؟ قال : الآلة. مثل الزانى إذا زنى كان مستطيعا للزنا حين زنى. ولو أنّه ترك
الزنا ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك. قال : ثمّ قال : ليس له من الاستطاعة
قبل الفعل قليل ولا كثير ، ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا. قلت : فعلى ما يعذّبه؟
قال : بالحجّة البالغة والآلة التي ركّب فيهم ، إنّ الله لم يجبر أحدا على معصيته
، ولا أراد إرادة حتم من أحد ، ولكن حين كفر كان في إرادة الله يكفر ، وهم في
إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير. قلت : أراد منهم أن يكفروا؟
قال : ليس هكذا أقول ، ولكنى أقول : علم أنّهم سيكفرون ، فأراد الكفر ، لعلمه فيهم
، وليست هي إرادة حتم ، إنّما هي إرادة اختيار».
عنى عليهالسلام : بالاستطاعة المنفىّ كونها قبل الفعل ، قدرة العبد على
الفعل بالقياس إلى النظام الجملىّ ، لا قدرته بحسب حال نفسه مع عزل النظر عن نظام
الوجود ، أو قدرته
المستتمّة باستجماع الشرائط واستتمام المنتظرات جميعا ، لا أصل القدرة المستوية
النسبة إلى طرفي الفعل ، من الفعل والترك مع عزل النظر عن سائر الشرائط
والمنتظرات. فليس في ذلك نفى القدرة قبل حصول الفعل على ما تذهب إليه الأشعريّة.
وسيزداد الأمر بيانا من ذى قبل إنّ شاء الله.
(٧٣) ومن طريق «عيون
أخبار الرضا» (ج ١ ، ص ١٣١) ، في الصحيح العالى الإسناد من الثلاثيّات ، حدّثنا
عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس العطار ، رضى الله عنه ، قال : حدّثنا محمّد بن على
بن قتيبة النيسابورىّ ، قال : سألت الرضا عليهالسلام : عن قول الله عزوجل : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (الانعام ، ١٢٥) ،
قال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنّته ودار كرامته يشرح صدره للتسليم
لله والثقة به والسكون على ما وعده من ثوابه حتّى يطمئنّ إليه. ومن يرد أن يضلّه
عن جنّته ودار كرامته في الآخرة ، لكفره به وعصيانه له في الدنيا ، يجعل صدره
ضيّقا حرجا يشكّ في كفره ويضطرب من اعتقاده قلبه حتّى يصير كأنّما يصعّد في السماء
، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون».
قلت : حمدان بن
سليمان أبو سعيد النيسابورىّ الثقة المعروف بابن التاجر من وجوه أصحابنا. أورده
الشيخ ، رحمهالله ، في كتاب «الرجال» في أصحاب أبى الحسن الهادىعليهالسلام ، وفي أصحاب أبى محمّد العسكريّ عليهالسلام. وله فى أسانيد طائفة من الأخبار ، كهذا الخبر وغيره رواية
عن أبى الحسن الرضا عليهالسلام. وذلك مثل أنّ إبراهيم بن هاشم إنّما المعروف من حاله في
كتب الرجال أنّه من أصحاب أبى الحسن الرضا وأبى جعفر الجواد عليهماالسلام.
ثمّ إنّ له في بعض
الأخبار رواية عن أبى عبد الله الصادق ، كما في «الكافى» في غير موضع واحد. وفي
التهذيب في باب الزيارات من باب الزكاة محمّد بن يعقوب عن على بن إبراهيم ، عن
أبيه. قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن صدقات أهل الذمّة وما يؤخذ من ثمن خمورهم ولحم
خنازيرهم. الحديث. وكان بعض من عاصرناه يستبعد ذلك أشدّ الاستبعاد. وليس هو بذاك
البعاد. ونظائر هذا في تضاعيف الأسانيد وأضعاف كتب الرجال كثيرة جدّا.
وأمّا ما أورده ،
جلّ سلطانه ، من التمثيل ما سبيله وكيف مسلكه؟ ففى «الكشّاف» يجعل صدره ضيّقا حرجا
، يمنعه ألطافه حتّى يقسو قلبه فينبو عن قبول الحق وينسدّ ، فلا يدخله الإيمان.
وقرئ ضيقا بالتخفيف والتشديد. وحرجا بالكسر ، وحرجا بالفتح وصفا بالمصدر. كأنّما
يصعّد في السماء كأنّما يزاول أمرا غير ممكن. لأنّ صعود السماء مثل في ما يمتنع
ويبعد من الاستطاعة وتضيق عنه المقدرة. وفي تفسير البيضاويّ : وقيل : معناه كأنّما
يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحقّ وتباعدا في الهرب منه.
قلت : ولعلّ مغزاه
، كم قد نبّه عليه قول العالم عليهالسلام ، إنّه من ضيق صدره وجاش روعه واضطراب قلبه من فزع هجوم
الشكّ ووجيب فقدان اليقين كمن يصعّد في السماء من ارتعاد فرائضه وخفقان فؤاده من
مخافة التّسقّط وخشية السقوط.
(٧٤) ومن طريق «عيون
أخبار الرضا» : (ص ١٤١) ، حدّثنا الحاكم أبو على الحسين بن أحمد البيهقىّ. قال :
حدّثني محمّد بن يحيى الصولىّ ، قال : حدّثنا أبو ذكوان. قال : «سمعت إبراهيم بن
العباس ، يقول : سمعت الرضا عليهالسلام ، وقد سأله رجل : أيكلّف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال :
هو أعدل من ذلك. قال : أفيقدرون على كلّ ما أرادوه؟ قال : هم أعجز من ذلك».
(٧٥) ومن طريق «الكافى»
(ج ٢ ، ص ٥٨) ، في الصحيح على بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبى عمير ، عن زيد
الشحّام ، عن أبى عبد الله عليهالسلام : «إنّ أمير المؤمنينعليهالسلام جلس إلى حائط مائل يقضى بين الناس ، فقال بعضهم : لا تقعد
تحت هذا الحائد ، فإنّه معور. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : حرس امرئ أجله. فلمّا قام سقط الحائط. قال : وكان أمير
المؤمنين عليهالسلام ممّا يفعل هذا وأشباهه». وهذا اليقين. ورواه الصدوق أيضا.
(٧٦) ومن طريق «الكافى»
(ج ٢ ، ص ٥٧) ، في الصحيح العالى الإسناد ، الحسين بن محمّد ، عن معلّى ، عن الحسن
بن على الوشّاء ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبى عبد الله عليهالسلام ، ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن
أبي ولّاد الحنّاط. وعبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «من صحّة يقين المرء المسلم أن لا يرضى الناس بسخط
الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله. فإنّ
الرزق لا يسوقه
حرص حريص ولا يردّه كراهية كاره ؛ ولو أنّ أحدكم فرّ من رزقه كما يفرّ من الموت
لأدركه رزقه كما يدركه الموت. ثمّ قال : إنّ الله بعدله وقسطه جعل الرّوح والراحة
في اليقين والرضا ، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط».
قلت : الأمر بحسب
ذلك في الرزق الجسمانيّ الجسدانىّ المعروف لدى العوامّ والجماهير ، والرزق
العقلانىّ الروحانىّ المعبّر عنه في التنزيل الكريم بقوله عزّ من قائل : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه ، ١٣١) ، على
نمط واحد ونسبة واحدة. إلّا أنّ الاهتمام بالرزق الجسمانيّ وصرف العمر وبذل
المجهود في سبيل تحصيله وطريق توسيعه أمر خسيس دريس ، مزهّد فيه ، موضوع ، تجشّمه
وتكلّفه عن العباد. وأمّا الرزق العقلانىّ فخطب كبير محثوث عليه ، مرغّب فيه ،
مفروض على ذمّة العقل ، ووقف شراشر الهمّة وأوراق المنّة على السعى إليه والإكثار
من قنيته.
(٧٧) ومن طريق «الكافى»
(ج ٢ ، ص ٥٧) ، في الصحيح على تعليق الإسناد ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، قال :
سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إنّ العمل
الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين».
(٧٨) ومن طريق «الكافى»
(ج ٢ ، ص ١٥٤) ، في الصحيح ، محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن
الوشاء ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبى حمزة ، عن سعيد بن قيس الهمدانيّ. قال : «نظرت
يوما في الحرب إلى رجل عليه ثوبان ، فحرّكت فرسى ، فإذا هو أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقلت : يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع؟ فقال : نعم
، يا سعيد بن قيس ، إنّه ليس من عبد إلّا وله من الله عزوجل حافظ وواقية ، معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو
يقع في بئر. فإذا نزل القضاء خليّا بينه وبين كلّ شيء».
(٧٩) ومن طريق «الكافى»
(ج ٢ ، ص ١٥٩) ، على بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عمّن ذكره. قال : «قيل
للرضا عليهالسلام : إنّك تتكلم بهذا الكلام والسّيف يقطر دما؟ فقال : إنّ
لله واديا من ذهب ، حماه بأضعف خلقه ، النمل. فلو رامه البخاتيّ لم تصل إليه».
(٨٠) ومن طريق «عيون
أخبار الرضا» (ج ١ ، ص ١٣٥) ، في حديث طويل،
بإسناده عن أبى
الصلت عبد السلام بن صالح الهروى ، في ما سأل المأمون أبا الحسن الرضاعليهالسلام. ثمّ قال له : «يا بن رسول الله ، فما معنى قول الله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) (يونس ، ٩٩). (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (يونس ، ١٠٠).
فقال الرضا عليهالسلام : حدّثني أبى موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمّد ، عن
أبيه محمّد بن على ، عن أبيه على بن الحسين بن على ، عن أبيه الحسين بن على ، عن
أبيه على بن أبى طالب ، عليه وعليهمالسلام قال : إنّ المسلمين قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوآله : لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على
الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدوّنا. فقال رسول الله ، صلىاللهعليهوآله : ما كنت لألقى الله عزوجل ببدعة لم يحدث إلى فيها شيئا. وما أنا من المتكلفين. فأنزل
الله تعالى عليه : يا محمّد ، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (يونس ، ٩٩) ، على
سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا ، كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس وفي
الآخرة. ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقّوا منّى ثوابا ولا مدحا ، لكنّى أريد منهم أن
يؤمنوا مختارين غير مضطرّين ، ليستحقّوا منّى الزلفى والكرامة ودوام الخلود في
الجنة. (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس ، ٩٩)».
(٨١) ومن طريق
كتاب «التوحيد» (ص ٣٦١) ، و «عيون أخبار الرضا» (ج ١ ، ص ١٤٤) ، في الصحيح :
حدّثنا أبى ، قال حدّثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا أحمد بن محمّد بن خالد
البرقى ، عن أبيه ، عن سليمان بن جعفر الجعفرى ، عن أبى الحسن الرضا عليهالسلام ، قال : «ذكر عنده الجبر والتفويض. فقال : ألا اعطيكم في
هذا اصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسرتموه؟ قلت : إنّ رأيت ذلك.
فقال : إنّ الله تعالى لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبة ، ولم يمهل العباد في ملكه ،
هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه. فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن
الله عنها صادّا ولا منها مانعا ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء يحول بينهم وبين ذلك
فعل. وإن لم يحل وفعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه. ثمّ قال عليهالسلام : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه».
(٨٢) ومن طريق «الكافى»
(ج ٢ ، ص ٤٦٧) ، في الحسن بل في الصحيح. عدّة من
أصحابنا ، عن أحمد
بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن القاسم بن سليمان ،
عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه ، عن رجل قال : «قال أبو عبد اللهعليهالسلام : الدّعاء هو العبادة التي قال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) (غافر، ٦٠) ، ادع
الله عزوجل ، ولا تقل : إنّ الأمر قد فرغ منه. قال زرارة : إنّما يعنى
: لا يمنعك ايمانك بالقضاء والقدر أن تبالغ بالدعاء وتجهد فيه أو كما قال».
(٨٣) ثمّ روى
بإسناده : عن أبى القدّاح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : أحبّ الأعمال إلى الله عزوجل في الأرض الدّعاء ، وأفضل العبادة العفاف ، قال : وكان
أمير المؤمنين عليهالسلام رجلا دعاء».
(٨٤) ومن طريقين
في المقبول المعوّل عليه ، بل في الصحيح الشائع عدّة من الصحاح طريق رئيس المحدثين
في «الكافى» (ج ١ ، ص ٣٥٧) ، عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد وطريق
الصدوق عروة الإسلام في كتاب «التوحيد» : (ص ٣٥٧) ، أبى رحمهالله قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن خالد
، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلى ، عن معلّى بن عثمان ، عن
على بن حنظلة ، عن أبى عبد الله عليهالسلام. «أنّه قال : يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتّى يقول
الناس : ما أشبهه بهم ، بل هو منهم ، ثمّ يتداركه السعادة ؛ وقد يسلك بالشقي طريق
السعداء حتّى يقول الناس : ما أشبهه بهم ، بل هو منهم ، ثمّ يتداركه الشقاء. إنّ
من علمه الله تعالى سعيدا وإن لم يبق من الدنيا إلّا فواق ناقة ختم له بالسعادة».
(٨٥) ومن الطريقين
في الصحيح من طريق «الكافى» (ج ١ ، ص ١٥٢) ، محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان
، عن صفوان بن يحيى ومن طريق جامع «التوحيد» ، حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن
الوليد رحمهالله قال : حدّثنا محمّد بن الحسن الصفار ، عن يعقوب بن يزيد ،
عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم ، عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ الله عزوجل خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه. فمن خلقه الله
سعيدا لم يبغضه أبدا ، وإن عمل شرّا أبغض عمله ولم يبغضه ؛ وإن كان شقيّا لم يحبّه
أبدا ، وإن عمل صالحا أحبّ عمله وأبغضه لما يصير إليه ، فإذا أحبّ الله شيئا لم
يبغضه أبدا ، وإذا أبغض شيئا لم يحبّه أبدا».
(٨٦) ومن طريق
الصدوق في كتاب «عيون أخبار الرضا» ، (ج ١ ، ص ٢٨١) ، حدّثنا على بن عبد الله
الورّاق ، قال : حدّثنا على بن مهرويه القزوينىّ. وفي كتاب «التوحيد» ، (ص ٣٧١) ،
أبو الحسن محمّد بن عمرو بن على البصرى قال : حدّثنا أبو الحسين على بن الحسن
الميثمىّ ، قال : قال : حدّثنا أبو الحسن على بن مهرويه القزوينىّ ، قال : حدّثنا
أبو أحمد داود بن سليمان الغازى ، عن أبى الحسن الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه، عن
أمير المؤمنين عليهمالسلام ، أنّه قال : «الدنيا كلّها جهل إلّا مواضع العلم ، والعلم
كلّه حجّة إلّا ما عمل به ، والعمل كلّه رياء إلّا ما كان مخلصا ، والإخلاص على
خطر عظيم ، حتّى ينظر المرء بما يختم له».
(٨٧) ومن طريق
كتاب «التوحيد» (ص ٣٥٦) ، في الصحيح ، حدثنا الشريف أبو على محمّد بن أحمد بن
محمّد بن عبد الله بن الحسن بن على بن ابى طالب ، قال : حدّثنا على بن محمّد بن
قتيبة النيسابورى ، عن الفضل بن شاذان ، عن محمّد بن أبى عمير قال : «سألت أبا
الحسن موسى بن جعفر عن معنى قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الشقىّ شقىّ في بطن أمّه ، والسعيد سعيد في بطن أمّه.
قال : الشقىّ من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء ، والسعيد من
علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السّعداء. قلت له. فما معنى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له». فقال : إنّ الله عزوجل خلق الخلق والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه. وذلك قوله عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات ، ٥٦) ،
فيسّر كلما خلق له. فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى. قلت : وهناك معنى من سبيل
آخر سينكشف على نمط البيان في مؤتنف القول إن شاء الله.
(٨٨) ومن طريق
جامع «التوحيد» (ص ٢٧٢) ، موثقة على بن الحسن بن على الفضّال ، عن ابيه ، عن هارون
بن مسلم ، عن ثابت بن أبى صفيه ، عن سعد الخفّاف. عن أصبغ بن نباتة ، قال : «قال
أمير المؤمنين عليهالسلام : إن كنت لا تطيع خالقك فلا تأكل رزقه ، وإن كنت واليت
عدوّه فاخرج من ملكه ، وإن كنت غير قانع بقضائه وقدره فاطلب ربّا سواه».
(٨٩) ومن طريق
رئيس المحدّثين في «الكافى» (ج ١ ، ص ٣٧١) ، والصدوق في جامع «التوحيد» وكتاب «الخصال»
في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن يزيع ، عن محمّد بن عذافر ، عن أبيه عن أبى جعفر
عليهالسلام قال : «بينا رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ذات يوم في بعض أسفاره إذ لقيه ركب ، فقالوا : السلام
عليك يا رسول الله ، فالتفت إليهم ، فقال : ما أنتم؟ قالوا نحن مؤمنون يا رسول
الله ، قال : فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا : الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله
والتفويض إلى الله. فقال رسول الله (ص) : علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة
أنبياء. فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا
الله الذي إليه ترجعون».
(٩٠) ومن طريق «الكافى»
(ج ١ ، ص ٣٧٦) ، وطريق الصدوق في الكتابين ، وفي كتاب «من لا يحضره الفقيه» صحيحة
أبان الأحمر عن الصادق جعفر بن محمّد عليهالسلام «انّه جاء إليه
رجل ، فقال : بأبى أنت وأمّى ، عظنى موعظة. فقال : إن كان الله تبارك وتعالى قد
تكفّل بالرزق فاهتمامك لما ذا؟ وإن كان الرزق مقسوما فالحرص لما ذا؟ وإن كان
الحساب حقّا فالجمع لما ذا؟ وإن كان الخلف من الله عزوجل حقا فالبخل لما ذا؟ وإن كانت العقوبة من الله عزوجل النار فالمعصية لما ذا؟ وإن كان الموت حقا فالفرح لما ذا؟
وإن كان العرض على الله عزوجل حقا فالمكر لما ذا؟ وإن كان الشيطان عدوّا فالغفلة لما ذا؟
وإن كان الممرّ على الصراط حقا فالعجب لما ذا؟ وإن كان كلّ شيء بقضاء الله وقدره
فالحزن لما ذا؟ وإنّ كانت الدنيا فانية فالطمأنينة إليها لما ذا».
(٩١) وقال عليهالسلام : كان أمير المؤمنين عليهالسلام كثيرا يقول : «اعلموا علما يقينا أنّ الله تعالى لم يجعل
للعبد ، وإن اشتدّ جهده وعظمت حيلته وكثرت مكيدته ، أن يسبق ما سمّى له في الذكر
الحكيم ، ولم يحل بين العبد على ضعفه وقلّة حيلته وبين أن يبلغ ما سمّى له في
الذكر الحكيم ، (نهج البلاغة ، كلمة : ٢٧٣ ، ص ٥٢٧ ، طبع صبحى صالح). يا أيّها
الناس ، إنّه لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه ، ولن ينتقص امرئ نقيرا لخرقه» ، (بحار
الأنوار ، ج ١٠٣ ، ص ٣٣ ؛ ج ٧٧ ، ص ٤٠٨ ؛ تحف العقول ، ص ١٥٤).
(٩٢) ومن طريق «الكافى»
(ج ١ ، ص ١٥٧) ، في القويّ على المشهور وفي الصحيح على التحقيق ـ لما قاله شيخ
الطائفة ، رحمهالله ، في «الفهرست» في ترجمة
يونس بن عبد
الرحمن ـ على بن إبراهيم ، عن أبيه عن إسماعيل بن مرّار ، عن يونس بن عبد الرحمن ،
قال : «قال لى أبو الحسن الرضا عليهالسلام : يا يونس ، لا تقل بقول القدريّة ، فإنّ القدريّة لم
يقولوا بقول أهل الجنّة ، ولا بقول أهل النار ، ولا بقول إبليس. فإنّ أهل الجنّة
قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) ، (الأعراف ، ٤٣) ، وقال أهل النار : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا
وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) ، (المؤمنون ، ١٠٦) ، وقال إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ، (الحجر ، ٣٩) ، فقلت : والله ما أقول بقولهم ولكنّى أقول
: لا يكون إلّا ما شاء الله وأراد وقضى وقدر. فقال : ليس هكذا ، لا يكون إلّا ما
شاء الله وأراد وقدّر وقضى. يا يونس ، تعلم ما المشيّة؟ قلت : لا ، قال : هي الذكر
الأوّل ؛ فتعلم ما الإرادة؟ قلت : لا ، قال : هي العزيمة على ما يشاء. فتعلم ما
القدر؟ قلت : لا ، قال : هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء. قال : ثمّ قال
: والقضاء هو الإبرام وإقامة العين. قال : فاستأذنته أنّ أقبّل رأسه ، وقلت : فتحت
لى شيئا كنت عنه في غفلة».
قلت : وسيتبيّن من
ذى قبل ، إن شاء الله العزيز ، سرّ تقديمه عليهالسلام القدر على القضاء. وإذ أحاديث هذا الباب كثيرة ، وفي ما
أوردناه كفاية للمتبصّر ، فلنكتف الآن بما حواه هذا الإيقاظ ، وذلك اثنان وتسعون
حديثا.
الإيقاظ الخامس
(القدريّة والجبريّة والمفوّضة)
لعلّك تقول : إنّك
قد قضيت قضاء باتّا من القدريّة الواردة في الحديث : «إنّها مجوس هذه الأمّة
وإنّها ملعونة على لسان سبعين نبيّا» ، إنّها هي الأشاعرة. وأعنى بهم الجبريّة
والكسبيّة ، وهم المسندون جملة الخيرات والشرور والطاعات والمعاصى بحذافيرها إلى
الله سبحانه من بدء الأمر إلى قدرته وإرادته فحسب ، ولا يقولون بالعلل والأسباب
أصلا ، وينكرون قدرة العبد واختياره رأسا. وذلك الجبر المحض ؛ أو يثبتون له قدرة
وإرادة مقارنتين لفعله غير متقدّمتين عليه تقدّما بالذّات ، ولا مؤثّرتين فيه بوجه
من الوجوه ، ويعبّرون عن ذلك بالكسب ، ويستنكرون قضيّة صراح العقل الصريح ، إنّ
الشيء ما لم يجب لم يوجد ، ويقنعون بمجرّد الأولويّة الغير الوجوبيّة ، ولا يؤمنون
بوجوب شيء في الحكمة البالغة الربوبيّة مطلقا ، لا من
الله ولا على الله
، ويزعمون أنّ كلّ ما يفعله الله أو يأمر به فإنّه يصير حسنا ، لا أنّ كل ما هو
خير وحسن في نفسه أو بالقياس إلى نظام الوجود فإنّ الله سبحانه يفعله أو يأمر به
بجوده ورحمته وعلمه وحكمته.
وفي ما أخرجت
بالرواية من أحاديث أئمّتك الطاهرين أنوار العلم والحكمة وأصحاب الوحى والعصمة ،
صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين ، نصوص ناطقة بإطلاق القدريّة على المفوضة
المسندين حركات العباد وأفاعيلهم إلى قدرة العبد وإرادته على الاستبداد والاستقلال
من غير افتياق في الوجود إلى القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ سلطانه ، ولا استناد
لها بأخرة إلى قدرته ومشيّته وقضائه وقدره تعالى شأنه.
فيقال لك : كان
حقا علينا ما تلونا عليك من الحكم ، فالقدريّة في ما ورد عن سيّدنا رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعن مولانا أمير المؤمنين ، صلوات الله وتسليماته عليه ،
هم هم ، كما قد أوضحناه من قبل. وأمّا أبو جعفر الباقر وأبو عبد الله الصادق وأبو
إبراهيم الكاظم ، عليهم صلوات الله وصلوات ملائكته ، فحيث إنّ في عصورهم كان قد
انعقد الاصطلاح من الجماهير وشاع تسمية الذاهبين إلى الجبر والكسب جبريّة. وأصحاب
القول بالتفويض وإنكار القضاء والقدر في أفعال العباد قدريّة ، فربما جرى في
أحاديثهم ، صلوات الله عليهم ، ابتناء الأمر على الاصطلاح الشائع واللقب الذائع.
والتحقيق : أنّ
الفريقين ، وهما الطرفان الناكبان عن الصراط ، يجمعهما مجوس هذه الأمّة كلا منهما
من جهة على ما هو المستبين. والفرقة المحقوقة بأصحاب العدل والتوحيد هي الأمّة
الوسط. فالفرقتان الحائدتان عن السّبيل يعمّهما جميعا لزوم الاعتراف بكون التحريض
والتحذير والأمر والنهى والترغيب والترهيب التي هي من أسباب انبعاث الشوق وتأكّده
وعلل اهتزاز العزيمة وإجماعها ، عبثا لغوا ؛ والاستيفاق والاستيزاع والدعاء
والمسألة والاستعانة بالله ، سبحانه ، في توفيق الطاعة والعصمة من المعصية وطلب
أسباب الرشاد والهداية والاستعاذة به من موجبات الضلال والغواية هدرا ساقطا.
أمّا على الجبر
والكسب ، فلأنّ إرادة العبد ممّا لا مدخل له في فعله أصلا ، ولا هي منبعثة إلّا عن
إرادة الله سبحانه ، وكلّ شيء فإنّه مستند إلى الإرادة السّبحانيّة فقط
من دون استناد إلى
أمر آخر من الأمور غيرها ؛ وأمّا على التفويض ، فلأنّ العبد مستقلّ بإيجاد إرادته
من غير أن يكون لها مباد إلّا من تلقائه وأسباب إلّا من جنبه. ويخصّ فرقة الجبر
بطلان الثواب والعقاب والشرائع والأديان وإنزال الكتب وإرسال الرسل رأسا. فهل هذا
إلّا جادّة الكفر ومقام الجحد ؛ وفرقة التفويض استغناء بعض الممكنات ، أعنى أفعال
العباد عن الواجب بالذّات ، ولزوم انسداد باب إثبات الصانع. إذ لو ساغ لجائز ما من
الجائزات أن يدخل في الوجود لا من تلقاء الاستناد إلى القيّوم الواجب بالذّات ،
جلّ سلطانه ، لساغ ذلك من بدء الأمر.
ثمّ من بعد ما قد
قضى البرهان قضاء فصلا أنّ طباع الامكان هو العلّة التامّة للاحتياج إلى الواجب
بالذّات ، كيف يتصحّح الدخول في إقليم الوجود من دون انتهاء الفيض إليه واستناد
الأمر إلى جنابه ، على ذكره وتعالى جدّه. وهل هذا إلّا طريق الأثنوة وسبيل
الاشراك. ومن هناك ما قد ورد وتكرّر عنهم ، صلوات الله عليهم ، في ما رواه الصدوق
في جامعه المسند في «التوحيد» وغيره ، من الحكم بأن من يقول بذاك فهو كافر، ومن
يقول بذا فهو مشرك.
ولا يتوهّمن إلزام
القول بالتشريك على الأمّة الوسط ، لأن ذلك أن يكون المعلول في درجة الاستناد
مستندا إلى مبدأين هما إرادة الله وقدرته وقدرة العبد وإرادته جميعا على سبيل
الشركة. وليس الأمر كذلك ، بل إنّما هنالك مسبّبات مترتبة على أسباب متسلسلة
والأسباب والمسبّبات منتهية الاستناد جميعا في نظامها الجملىّ وفي سلسلتها
الطوليّة والعرضيّة معا إلى مبدأ واحد ، هو الله الحقّ سبحانه ، وهو مسبّب الأسباب
على الإطلاق من غير سبب.
فهذا ميقات الحقّ
، وعنده تجتمع الآيات المتدافعة وتتوافق الروايات المتعارضة ، وينصرح سرّ «ما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن» ، (بحار الأنوار ، ج ٩٤ ، ص ١٩٤). أشهد وأعلم انّ الله على
كلّ شيء قدير. وقال الله على لسان عبده : «سمع الله لمن حمده». و «أنّ الله عزوجل عند لسان كلّ قائل ويد كل باسط» (التوحيد ، ص ٣٣٧). ولو
اجتمع الخلق على أن ينفعوك ما نفعوك ، إلّا بشيء كتبه الله» ، (عدّة الداعى ، ص
٢٧). [ولو اجتمعوا على أن يضرّوك لم يضرّوك إلّا بشيء كتبه الله
عليك]. و «رفعت
الأقلام وطويت الصّحف» ، (بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ٤٩).
وجفّ القلم بما هو
كائن إلى يوم القيامة. قيل : ففيم العمل؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اعملوا ، فكلّ ميسّر لما خلق له» (التوحيد ، ص ٣٥).
وسئل (ص) : «أنحن في أمر فرغ منه أم في أمر مستأنف. فقال عليه وآله السّلام : «في
أمر فرغ منه وفي أمر مستأنف» ، ونظائرها.
ومنها قول أمير
المؤمنين عليهالسلام في الدعاء المفضّل على كلّ دعاء. وقد أورده السيّد رضى
الدين على بن طاوس ، رضى الله عليه ، في «مهج الدعوات» : «فسبحانك تثيب على ما
بدؤه منك وانتسابه إليك والقوّة عليه بك ، والإحسان فيه منك ، والتوكّل في التوفيق
له عليك. فلك الحمد حمد من علم أنّ الحمد لك ، وأنّ بدأه منك ومعاده إليك». وهنالك
يرتفع التضادّ بين : «سبحان من تنزّه عن السوء والفحشاء» ، و «سبحان من لا يجرى في
ملكه إلّا ما يشاء».
وليعلم أنّ لخاتم
حملة العلم والتحقيق ، رضى الله تعالى عنه وأرضاه ، كلاما محصّلا محققا في رسالة
له في هذا المرصد على لغة الفرس ، فلا جناح علينا لو نقلناه بأليفاظه. قال بهذه
العبارة :
«فصل نهم ، در
آنچه حاصل اين مباحث است در اين مطلوب وحلّ بعضى شبه مذكوره : از اين بحثها معلوم
شد كه مردم را قوّتهائى هست اصلى ، كه در او آفريده اند. وبعضى از آن بى إرادت
واختيار او مبادى بعض افعال او است وبعضى مبادى بعض قوّتهاى ديگر هم از آن او ،
مانند ادراك كه مبدأ شهوت وغضب وديگر قوّتهاى شوقى است. يا از آميزش قوّتهاى اصلى
وحادث او را قدرتى وإرادتى حاصل مى شود ، كه با وجود هر دو صدور افعال إرادى از او
واجب باشد ، وبا عدم هر دو يا يكى ممتنع. وقدرت وإراده او اسباب افعال إرادى اويند
، همچنان كه هاضمه سبب هضم او ، بل همچنان كه آتش سبب احراق است. وقدرت وإراده
مستندند به ديگر اسباب. وجمله با كثرت واختلاف در سلسله احتياج مستند به سبب أوّل
، كه واحد حقيقى وواجب الوجود لذاته ومسبّب الأسباب است.
پس مى گوييم :
مراد ما از آنكه مردم مختار است ، آن است كه قادر است بر آنكه
بعضى افعال از او
به حسب إراده او وجهد او صادر شود. وظاهر شد كه فائده تكليف وامر ونهى ومدح وذمّ
وثواب وعقاب آن است كه او را شوقى انگيخته شود به طلب كمالى كه آن شوق مبدأ إراده
او باشد ، وآن إراده باعث او بر طلب وجهد وسعى كردن در آن. ودانسته آمد كه وجود او
وقوى وافعال إرادى وغير إرادى او در سلسله معلولات واجب الوجود ، تعالى أسماؤه ،
مرتّب ومنظّم است ، وبه سبب قوّتهاى او افعال او را به تقدير إلهي ومشيّت او بر آن
جمله كه قضا وقدر او اقتضا كرده است.
پس اگر كسى به سبب
آنكه صدور فعل إرادى انسان از قدرت وإراده او بر سبيل وجوب است ، او را مجبور
خوانند وسلب اختيار كنند از او ، يا به سبب آنكه اين افعال در سلسله معلولات مستند
است به علّت أولى ، گويند فعل خداى تعالى است ، بعد از وضوح معنى ، در عبارت
مضايقتى نيست ؛ امّا اگر گويند : اين افعال تا ربع قدرت وإراده انسانى نيست وفعل
خدا است بى واسطه اسباب وتكليف وامر ونهى ، وجهد وسعى مردم را در آن تأثيرى نيست ،
حاشا وكلّا. اين اعتقاد مخالف حق است ، وبا وجود ، غير مطابق.
وآنچه بعضى گويند
: چون خداى تعالى پيش از خلق مردم دانست كه مردم چه خواهند كرد ، خلاف آن نتوانند
كرد ، واين جبر باشد. در جواب به معارضه گوئيم : همچنان كه افعال مردم را پيش از
ايشان دانست ، به اعتراف تو ، افعال خود را پيش از آفرينش آن هم دانست ، پس او را
تعالى هم جبر لازم آيد. وهرچه جواب تست در افعال او تعالى ، جواب ماست در افعال
مردم.
وآنچه تحقيق است
در اين موضع ، آنست كه علم او تعالى هرچند موجب فعل معيّن باشد كه سبب قريب اين
فعل قدرت وإرادت شخص باشد ، منافي اختيار آن شخص نباشد ، چنان كه بيانش در فصل ششم
گفته آمد.
وآنچه گويند : در
جهد چه فائده؟ اگر خداى تعالى كسى را چيزى تقدير كرده باشد ، اگر جهد نكند لا
محاله به او رسد ، واگر تقدير نكرده باشد واو بسيار جهد كند به او نرسد ، جواب آن
هم از آنچه گذشت معلوم شود. وآنچه خداى تعالى تقدير چنان كرده باشد كه به توسّط
جهد حاصل شود ، آن كس را كه جهد نكند حاصل
نشود. وجهد ناكردن
او دليل تقدير ناكردن خداى تعالى باشد. چنان كه عدم آلت تناسل در خلقت دليل باشد
صاحبش را فرزند تقدير نكرده اند ، چه عدم سبب همچنان كه سبب عدم مسبّب باشد ، دليل
عدم سبب موجب آن مسبب نيز باشد. امّا آن كسى را كه جهد كند واجب نباشد كه هر چيزى
كه به توسّط جهد تقدير كرده باشد به او رسد ، چه جهد تنها سبب موجب نباشد ، بلكه
با آن شرائط ديگر ببايد كه حسن توفيق عبارت از استجماع آن شرائط باشد ، وسوء توفيق
عبارت از فقدان بعضى از آن. ووجود سبب غير موجب ، اقتضاء وجود مسبّب نكند. اين است
آنچه محرّر اين سواد را در اين مسأله معلوم شده از مقتضاى افكار اهل تحقيق.
وپوشيده نماند بر
كسانى كه از نصوص انبيا وبزرگان دين ودعوت خبردار باشند ، اين سخن موافق إشارات
ايشان است. واز همه ظاهرتر آنست كه در خبر آمده است كه از پيغمبر صلىاللهعليهوآله پرسيده اند كه : «أنحن في أمر فرغ منه أم في أمر مستأنف؟»
، فقالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «في أمر فرغ منه وفي أمر مستأنف» ، وآنچه گفته است (ص)
كه : «جفّ القلم بما هو كائن» ، قيل له : «ففيم العمل؟» قال (ص) : «اعملوا ، فكلّ
ميسّر لما خلق له». وآنچه در شرح قدر فرموده كه : هرچه هست ومى باشد از قدر است ، به
عبارتى كه در موضع آن مثبت است. سائلى پرسيده است كه من چنين وچنان كرده ام ،
فرموده است عليهالسلام : «وهذا أيضا من القدر». وآنچه امام جعفر صادق عليهالسلام فرموده است : «لا جبر ولا تفويض ولكنّ أمر بين أمرين».
وآنچه در سخن بعضى آمده است كه : «مفروغ ومستأنف به هم تمام است وبا هم مفروغ
ومحقّق العبارة». وبر جمله ، شاه اين باب بسيار است. واين موضع نه جاى ايراد آن
است. چه اساس اين مختصر بر ايراد معقول وقياس برهانى نهاده آمد ، نه بر تتبّع
منقول واقناعات خطابى. ولا شكّ ، كسانى كه آنچه در اين مختصر تعريف داده شد فهم
كنند ، چون به اشارتى از آن اشارات رسد ، آن را خود بازشناسند ، والله الموفّق» (رساله
جبر وقدر ، ص ٢٤).
الإيقاظ السادس
(أفعال العباد والإرادة ونظام الوجود الخير)
فذلكة الفحص ، على
ما قد بزغ لك ، أنّ هنالك مقامات ثلاثة. يجب في كلّ منها تحديد حريم النزاع على
حقّه ثمّ تحقيق القول في المتنازع فيه من سبيله.
الأوّل : أنّ
أفعال العباد بإرادتهم واختيارهم ، وذلك مستمرّ الصحة في نفس الإرادة أيضا من غير
لزوم أشواق مختلفة مترتّبة وإرادات متباينة متسلسلة. بأنّ للنفس الفاعلة بالاختيار
عن انبعاث الشوق وتأكّده حالة واحدة إجماليّة يفصّلها العقل بتكرّر الالتفات
وتضاعف الاعتبار بالفعل إلى إرادة الفعل ، وإرادة الإرادة ، وإرادة إرادة الإرادة
إلى حيث يستطيع إلى أن يعتبر سبيلا على مضاهاة الأمر في العلم بالمعلوم ، والعلم
بالعلم بالعلم والعلم ذاهبا في الاعتبار لا إلى نهاية أخيرة يتعين الوقوف عليها
بصورة علميّة واحدة. وفي الحركة الاختياريّة على مسافة شخصيّة متصلة صحيحة
الانقسام إلى أبعاض انفراضيّة متمادية اللاوقوف يكون حصول تلك الحركة الشخصيّة
الاختياريّة في كلّ منها من أسباب حصولها في سائر ما يتلوه بإرادة واحده إجماليّة.
وهذا النظر البالغ
قد كان السالفون بأجمعهم عنه في غطاء حتى أنّ بعض شركائنا المعلّمين ، وأعنى به
الشيخ أبا نصر محمّد بن محمّد بن الطرخان الفارابىّ في «الفصوص» ، أعضل به الأمر
وضاق عليه المحيص عنه ، فسلك بذلك الشكّ مسلك ما يتمسك به ويعوّل عليه في سلوك
السبيل من البرهان. فهنا لك التجئوا جميعا إلى تخصيص القاعدة بما عدا الإرادة من
الأفعال.
الثاني : أنّ
الإرادة المستندة في سلسلة المعلوليّة إلى علل خارجة منتهية الإسناد إلى القدرة
القيوميّة الوجوبيّة والإرادة الحقّة الربوبيّة هل هي مجدية في استحقاق الثواب
والعقاب أم لا؟ وقد أدريناك أنّه يستتبّ بأصلين ضابطين : أحدهما أنّ الحسن والقبح
بالمعنى المتنازع فيه، وهو منشئيّة استحقاق المثوبة واستحقاق العقوبة من لوازم
ماهيّات الأعمال والأفعال وذاتيّات خصوصيّاتها لا بصنع فاعل وجعل جاعل. والآخر :
أنّ الطبّين الجسمانيّ والروحانىّ سنتهما متفقة ، والترياقات والسّموم العقلانيّة
من الملكات والأخلاق والأدوية والأغذية النفسانيّة من النيّات والعزائم والأفعال
والأعمال ، على شاكلة الترياقات والسّموم المزاجيّة والأدوية والأغذية البدنيّة ،
في أنّه إنّما خواصّها وآثارها بالقياس إلى المباشرين والمتعاطين و
الشاربين
والمتناولين ، لا بالقياس إلى الموجد الفيّاض.
الثالث : أنّ
إيجاد الشقىّ الذي سوف يختار بسوء استعداده الذاتىّ وانسياق العلل الخارجة
المتأدّية إلى انبعاث شوقه وإرادته ما يكون من لوازم قبحه الذاتىّ أن يستجرّ فاعله
إلى الوقوع في استحقاق العقوبات الشديدة الإلهيّة التي لا يكاد تطاق صعوباتها هل
هو خير أم إنّه معدود من الشرور.
ولقد أريناك سبيل
الحقّ فيه أيضا. وسنتلو عليك من ذى قبل بالبرهان إن شاء الله العزيز العليم : أنّه
ما فى نظام الوجود إلّا ما هو خير فى النظام الأكمل ، وما في أفاعيل الله سبحانه
من شيء إلّا وهو أصلح وأنتم وأحكم وأتقن. فعليك بالفرق بين هذه المقامات وعدم خلط
بعضها ببعض وإعطاء كلّ منها مقتضى حقّه والوقوف في حريم كلّ منها على عدم تجاوره
حدّه.
فلئن اعتراك الوهم
وغشيك الشكّ فقلت : «إنّ من المقترّ في مقرّه أنّ العلّة البعيدة لا يصل أثرها إلى
المعلول ، فما خطبكم أيّها الحكماء المتألهون والعلماء الراسخون تقولون بالعلل
المتوسّطة والأسباب المترتبة. ثمّ إنّكم تسندون كلّ شيء حتّى المعلولات الأخيرة في
سلاسل الوجود الطوليّة والعرضيّة إلى الله الحقّ سبحانه وقدرته الوجوبيّة وعلمه
الربوبىّ وإرادته القيّوميّة التي ليست إلّا نفس حيثيّة حقيقته وبحت مرتبة ذاته ،
جلّ مجده وعزّ سلطانه.
فاعلمن أنّ من
المعلول البعيد ما إنّما فاقته إلى العلّة البعيدة في دخول العلّة المتوسّطة التي
هي علّته القريبة بالذّات في دائرة الوجود من تلقائها حتى لو صحّ لها وجود لا من
تلقائها لتمّ استغناؤه بالاستناد إليها عنها. فمثل هذا المعلول البعيد لا يصل إليه
أثر تلك العلّة البعيدة أصلا ، ولا يكون له استناد إليها إلّا بالعرض. وذلك كما
لوازم الماهيّات ، كزوجيّة الأربعة بالنسبة إلى جاعل ماهيّة الملزوم ؛ ومنه ما هو
مفتاق الذات في حدّ ذاته إلى العلّة الأولى بالذّات ، لا من جهة استناد العلّة
المتوسّطة إليها فقط ، حتّى أنّه لو وجدت العلّة القريبة وسائر المتوسّطات من
دونها لم يكن يصحّ للمعلول البعيد بالنظر إلى ذاته أن يدخل في ما يشمّ رائحة
التقرّر والوجود أصلا. ومثل هذا المعلول البعيد مستند الذات مفتاق الحقيقة إلى
العلّة
الأولى البعيدة
بالذّات من حيث جوهر ذاته. وبالعرض من جهة استناد علّته القريبة وافتياقها إليها
جميعا وإن كان هو في حدّ جوهره بحيث لا يصلح للاستناد إليها من بدء الأمر ، بل
يفتقر إلى أن تكون هناك وسائط متمّمة ومتوسّطات مهيّئة. وذلك كما كلّ ما على ساهرة
طباع الجواز بالنسبة إلى جناب القيّوم الواجب بالذّات جلّ ذكره.
ألسنا قد علّمناك
باذن الله ، سبحانه ، فى أضعاف ما حققناه في كتبنا وتضاعيف ما أوضحناه في صحفنا ،
أنّ طباع الجواز الذاتىّ هو العلّة التامّة المستند بالعليّة لفاقد الشيء الجائز وافتقاره
إلى علّة فاعلة تفعل ذاته وتفيض وجوده على الإرسال في جليل النظر وإلى أن يكون ما
يفعل ذاته ويفيض وجوده ويعطى وجوبهما قيّوما واجبا بالذّات في النظر الدقيق
والتأمّل الغائر. وأنّ الفحص البالغ في ظاهر النظر يقضى أنّ المفتاق إليه بالذّات
وبالقصد الأوّل بالنظر إلى طباع المعلوليّة الصدوريّة إنّما هو خصوص العلّة
الجاعلة. وأمّا سائر العلل من الشرائط والأسباب ، فليس افتقار المعلول إليها إلّا
في أن يتمّ تهيّؤه ويكمل تأهّبه للاستناد إلى العلّة الفاعلة ، فتلك هي المفتاق
إليها بالعرض وبالقصد الثاني ، وإلّا لزم إمّا أن يكون لكلّ معلول جميع قبائل
العلل وشعوبها وإمّا أن لا يكون طباع الامكان هو العلّة التامّة للافتقار إلى
العلّة.
ثمّ عند غائر
التأمّل وغائص التفتيش ينصرح أنّ كلّ معلول بطباع معلوليّة حقيقته وإمكان ذاته
إنّما هو حائج بالقصد الأوّل إلى الجاعل القيّوم الواجب بالذّات عزّ سلطانه : فإن
كان بجوهر حقيقته وخصوص هويّته تامّ الصلوح للفيضان عنه ، كان الصادر الأوّل
والمجهول الأقرب ، وإلّا نأى بالدرجة وتعلّق بما يكسبه صلوحا لقبول الفيض ويستكمل
به قوّة على الاستناد. وأنّ البارى الفعّال فيّاض لذاته وهّاب على الإطلاق ، جواد
لا بضنانة. وإنّما يتخصّص فيضه العامّ وجوده المعلّق بحسب تخصصات القوابل
وخصوصيّات الماهيّات واستحقاقات الذوات.
فإن أزعج سرّك :
أنّ لازم الماهيّة ، ككون الأربعة زوجا ، مثلا ، أيضا من الجائزات بالذّات وتحت ما
يحكم عليه بالإمكان الذاتىّ ، فما باله يستند إلى نفس ماهيّة الملزوم بالقصد
الأوّل وإلى جاعله الواجب بالذّات بالعرض؟
قيل لك ، أوّلا :
إنّما قد أسمعناك أنّ لازم الماهيّة على الإطلاق إنّما هو مفاد الهيئة
العقديّة ، فهو
بذلك الاعتبار مستند إلى نفس الماهيّة. فأمّا إذا لوحظ بما أنّه في حدّ نفسه شيء
ما من الأشياء من حيث حقيقته التصوريّة كان محكوما عليه بالاستناد إلى الجاعل الحق
الواجب بالذّات بالقصد الأوّل بتّة.
وأمّا التشكيك :
بأنّه إذا وجّه إليه اللحظ من حيث اعتبار الهيئة العقديّة لم يكن واجبا بالذّات.
فكان هو بذلك الاعتبار أيضا في إقليم الامكان ، لا محالة.
فجوابه : أنّه
بذلك الاعتبار وجود رابط ومفهوم نسبىّ ملحوظ بالعرض بين الحاشيتين ، لا حقيقة
ملحوظة برأسها تلحظ في حدّ جوهرها ، فيحكم عليها بالوجوب أو الجواز : فإذن ليس
هناك من حيث ذلك الاعتبار إلّا نسبة عقديّة واجبة للحاشيتين باقتضاء جوهر ذات
الموضوع لا غير. ولا يلزم من ذلك أمر واجب بالذّات يجب وجوده في ذاته ، كما رغمه
بعض المقلدين ممّن ليس له درجة الاجتهاد في العقليّات أصلا ، لا النسبة ولا شيء من
حاشيتها. بل اللازم أن يكون إمّا الأربعة مثلا واجبة الزّوجيّة وإمّا الزوجيّة
مثلا واجبة الثبوت للأربعة باقتضاء من تلقاء جوهرها.
وثانيا : إنّا ولو
ماشيناك على أنّ حقيقة الهيئة العقديّة بما هي ملحوظة بذلك الاعتبار في جملة ما
ينسحب عليه الحكم بالجواز الذاتىّ. ولكنّا قد بيّنا في كتابنا «الأفق المبين» :
أنّ شاكلة المعلوليّة وسنّة طباع الجواز الذاتىّ في اقتضائه الافتقار إلى الجاعل
الواجب بالذّات أن يكون ذلك شأن موضوع الجواز بحسب سنخ ذاته الجائزة ومن حيث
اعتبار نفس حقيقته التصوريّة ، لا من جميع الوجوه وبقاطبة الاعتبارات. فإذن كون
الهيئة العقديّة بما هى هيئة عقديّة من سواد إقليم الامكان إنّما يستوجب استنادها
إلى القيّوم الواجب بالذّات ، عزّ مجده، بحسب حال حقيقتها التصوريّة ، لا بهذا
الاعتبار أيضا. أى بما هي حالة ارتباطيّة بين حاشيتى العقد.
وثالثا : إنّا ولو
جاريناك وساعدنا على لزوم استنادها إليه ، جلّ سلطانه ، بما هي حالة عقديّة بين
مطلق الحاشيتين بحسب ما لها من طباع الامكان المشترك بين الجائزات قاطبة مع عزل
النظر عن الخصوصيّات مطلقا ، لكن هناك فحص تفتيشىّ بحسب خصوصيّات أطراف العقود
ولحاظ استحقاقاتها من جهة اعتبار الخصوصيّات مع عزل اللحظ عن مرسل الطباع المشترك.
وهنالك أمر كلّ من
الذاتيّات ولوازم
الماهيّة والعوارض المفارقة ينفصل عن ذينك الشقيقين الآخرين. ففى عقود الجوهريّات
لا اقتضاء ولا استناد رأسا. بل إنّما ضرورة ذاتيّة بحسب مرتبة ذات الموضوع وفي
عقود لوازم الماهيّات اقتضاء من تلقاء جوهر ذات الموضوع فحسب ، وضرورة بحسب ذلك.
وفي عقود العوارض المفارقة استناد متكرّر إلى علّة مقتضية من خارج من سبيل حال
خصوصيّة حاشيتى العقد ومن سبيل حال مطلق الهيئة العقديّة ، بل مطلق طباع الجواز
الذي تشترك فيه الممكنات جميعا. فهذا أقصى أمد الفحص والتحقيق. والحمد لله ربّ
العالمين ولىّ الفضل والطول حقّ حمده.
قد تمّ هذه
الإيقاظات بتوفيق خالق الأرض والسّماوات ، على يد أقلّ السّادات ابن عاليجاه سلالة
السّادات العظام ، ميرزا نظام قوام الدّين الحسنيّ الحسينيّ ، غفر الله له
ولوالديه ولمصنّف هذا الكتاب ولناظره ؛ وأسأل الدّعاء لناظره أن لا ينسانى من
الدّعاء إذا نظر فيه. وكان ذلك التّحرير فى يوم الأربعاء ، الرّابع من العشر
الثّالث ، من الشّهر الثّالث ، من السّنة الرّابعة من الحشر السّابع ، من المائة
الثّالثة من الألف الثاني ، [٢٤ / ٣ / ١٣٦٤ ق] على هاجرها آلاف التّحيّة والثّناء.
ألا إنّما
الدّنيا كمنزل راكب
|
|
أناخ عشيّا وهو
فى الصّبح ، راحل
|
إلهى به عزّت كه
خوارم مكن
|
|
به جرم گنه
شرمسارم مكن
|
خداوندا به حق
شاه مردان
|
|
مرا محتاج
نامردان مگردان
|
حسب الخواهش ملاذ
اسعد ومطاع امجد ، جناب ميرزا عبد الصمد ، حفظه الله ، سمت تحرير يافت ، اميد كه
اين جانب را در دنياى فانى از دعا فراموش نكنند. الخطّ باقى والعبد فانى.
مصنّفات ميرداماد
(٤)
الإعضالات
بسم الله الرحمن الرحيم
والاعتصام بالعزيز العليم
بعد الحمد لله
والصلاة على عباده المصطفين. فيا ولدي الروحانىّ ويا حبيبى العقلانىّ ، يا شرف آل
خاتون ، ويا من هو بقريحته الشاهقة الملكوتيّة لكلّ علم غامض قانون. رقاك الله إلى
قصيا المعارج في النشأتين ، ولقّاك نضرة العيش على قصوى المدارج في العالمين. أقرّ
الله أعيننا بمشاهدة جمالك ، وسقانا كأسا دهاقا من رحيق وصالك.
لا تلهينّ سرّك
اللطيف عن التدبّر في هذه الإعضالات العويصة التي كسائر نظائرها من العويصات
الداهية السّاجية والمعضلات السّاحية السّاطية في فنون العلوم وأفانين الصّناعات ،
كان فلّ وفدتها وحلّ عقدتها أمرا مرهونا في الأعصار والدّهور بزمننا وشيئا مضمونا
للأفهام والعقول من قبلنا. والله سبحانه قد يسّرنا للفصية عنها والقول الفصل فيها
بجميل منّه وإكرامه وجزيل فضله وإنعامه. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو
الفضل العظيم.
الإعضال الأوّل
(زاوية حدبة الدائرة والخط المماسّ إيّاها)
قد برهن أقليدس في
خامس عشر ثالثة «الأصول» على أنّ زاوية حدبة الدائرة و
الخطّ المماسّ
إياها أصغر من كلّ حادّة مستقيمة الخطين. ويلزم من ذلك أن تكون زاوية ما حدبيّة
بعينها من تلك الحدبيّات تتعاظم إلى غير نهاية بتصاغر الدائرة المماسّ لها ذلك
الخط لا إلى نهاية وتتصاغر حادّة ما بعينها من تلك الحوادّ المستقيمة الخطين إلى
غير نهاية بخطوط مستقيمة بين ضلعيها لا إلى نهاية. ومع ذلك ، فأبدا تكون تلك
المتعاظمة أصغر من هذه المتصاغرة. وذلك خلف باطل بما من الأصول الموضوعة ، وبما في
أوّل عاشرة «الأصول».
فإن وقع في ذهن
ذاهن ما من الذاهنين وظنّ ظانّ ما من الظانّين في سبيل الخروج عن مضيق التعضيل أنّ
ما من العلوم المتعارفة والأصول الموضوعة هو أن كلّ مقدارين محدودين من جنس واحد ،
فإنّ الأصغر منهما يصير بالتضاعف والتزايد مرّة بعد أخرى أعظم من الأعظم.
والزاويتان المستقيمة الضلعين والمختلفة الضّلعين من مستقيم ومستدير ليستا من جنس
واحد ؛ فليشعر أنه إذا لم تكن المختلفة الضلعين من جنس المستقيمتاهما لم يصحّ
الحكم بأنّها أصغر منها. فيبطل حكم خامس عشر ثالثة «كتاب أقليدس».
وبالجملة مهما
تصحّحت المفاضلة بين مقدارين محدودين وصحّ الحكم على أحدهما بأنه أصغر من الآخر ،
نهض العلم المتعارف أو الأصل لموضوع بالحكم على الأصغر منهما بأنه يصير بالتزيّد
مرّة بعد أخرى أعظم من الأعظم.
ونحن بفضل الله
العلىّ العظيم ، قد أسّسنا في كتاب «الصراط المستقيم» وفي كتاب «تقويم الإيمان»
أساسا تفتكّ به هذه العقدة ، وبسطنا القول فيه في رسالة «جيب الزاوية» ، وفي رسالة
«التشابه والتناسب». والحمد لله ربّ العالمين على فضله العظيم ومنّه القديم.
الإعضال الثاني
(نسبة الكرة إلى الكرة وحكمها)
قد برهن أقليدس في
خامس عشر ثانية عشر «الأصول» ، على أنّ نسبة الكرة إلى الكرة كنسبة القطر إلى
القطر مثلّثة بالتكرير بأنّ نسبة القطر إلى القطر مثلّثة إن لم تكن كنسبة الكرة
إلى الكرة. فلا محالة تكون إمّا كنسبة إحدى كرتى ذينك القطرين إلى كرة
أخرى أعظم من
صاحبتها. وإمّا كنسبتها إلى كرة أخرى أصغر منها. فأبطل الشقّين.
ثمّ قال : فالحكم
ثابت. وذلك باطل ، بما تحقّق في العلوم الفلسفيّة : إنّ الاستقامة والاستدارة
وكذلك مراتب الاستدارات فصول منوّعة ، لا عوارض مصنّفة. فالكرتان أو الدائرتان
المتخالفتا الانحداب لا مناوعة بينهما. فإذن لا نسبة بينهما أصلا ، لا بالتساوى
ولا بالتفاضل. وطرفا التّرديد في الشقّين غير حاصرين.
قال الحكيم
الطوسىّ ، نوّر سرّه القدّوسي ، في «التحرير» : وهذا أعظم شكّ يرد على ما في «كتاب
اقليدس».
الإعضال الثالث
(نسبة المحيط والقطر ومقدارها)
قد بيّن أرشميدس
وغيره كون نسبة المحيط والقطر نسبة ثلاثة أمثال وسبع تقريبا ، بأنّها إن لم تكن
تلك النسبة فتكون إمّا أعظم منها وإمّا أصغر. وهما مستبينا البطلان بأشكال
هندسيّة. وعلى ذلك من الشكّ ما على ما في «كتاب اقليدس».
الإعضال الرابع
(جيب نصف سدس الدور وحكمه)
قد تقرّر فى جدول
الجيب في «المجسطى» البطلميوسىّ وغيره من المجسطيات والزيجات : أنّ جيب نصف سدس
الدور ، وهو ثلاثون درجة ، مساو لقوسه ، ويلزم منه مساواة المستقيم والمستدير ،
وهو باطل.
وما به تفصّى
الفاضل البيرجندىّ وغيره عن ذلك : «بأنّ ذاك هو الجيب الموضوع لا الحقيقىّ ، فلا
يلزم تلك المساواة» ، غير مجد رادّة يعبأ بها. إذ إنّما الخلف المحال مساواة
المستقيم للمستدير وتساوى الجيب والقوس إنّما استحالته من تلك الجهة ، لا من حيث
خصوصيّته الجيبيّة والقوسيّة. وفي مساواة الجيب الموضوع لقوسه ذلك الخلف المحال
مستمرّ على حاله.
ثمّ إنّ هذا الجيب
الموضوع المساوى لقسميه جيب حقيقىّ لا محالة ، لقوس أخرى. وكذلك بقاعدة الأربعة
المتناسبة من الثلاثة المعلومة منها. وهي هاهنا
الجيب الموضوع
لثلاثين درجة وثلاثون درجة ، والجيب الحقيقىّ لثلاثين درجة المستخرج أيضا من تلك
القاعدة يستخرج الرابع المجهول ، وهو هاهنا قوس تكون نسبة الجيب الموضوع لثلاثين
درجة قوسيّة إلى تلك الثلاثين درجة كنسبة الجيب الحقيقىّ للثلاثين درجة إلى تلك
القوس. فتلزم المساواة الباطلة. ولكن لا بين جيب وقوس ، بل بين قوس نصف سدس الدّور
وجيبها الموضوع. وكذلك بين الجيب الحقيقىّ لقوس نصف سدس الدّور وقوس أخرى ليس ذاك
جيبها.
وبقوّة ما نحن
أوردنا في كتابنا «التقويمات والتصحيحات» ينحلّ عقد التّشكيك في هذه الإعضالات
الثلاثة. وقد أوضحنا سبيله في رسالتينا المذكورتين. والحمد لله واهب العقل ومفيض
الرحمة إزاء لفضله ورحمته.
الإعضال الخامس
(مبصران معا وإبصارهما يمكن أم لا)
قد بيّن أقليدس في
أوّل وأشكال كتاب «المناظر» أنّه ليس يبصر مبصران معا دفعة واحدة بالقصد الأول من
ذلك : إمّا أن لا يرى شيء بالقصد الأول ، فيلزم أن لا يرى أيضا شيء بالقصد الثاني
أصلا. إذ من المستبين أنه لا ما بالعرض أو لا ما بالذّات أصلا ؛ وإمّا أن يكون ما
يرى بالقصد الأوّل من المتحيّزات بالذّات غير قابل للانقسام في شيء من الجهات أصلا
، ولا بالقسمة الوهميّة والفرضيّة ، فيلزم الجزء الذي لا يتجزّى. وهذا الشكّ قد
أوردنا حلّه في رسالتنا المعمولة في مباحث لما في «ابطال الجزء» ، والحمد لله
سبحانه.
الإعضال السّادس
(مقدار اليوم وليله دورة تامّة من معدّل النهار)
إنّه قد استبان في
علم الهيئة : أنّ مقدار اليوم بليلته دورة تامّة من أدوار معدّل النهار مع مطالع
ما سارته الشمس بحركتها الخاصّة في تلك الدّورة ، وأنّ مقدار النهار هو ما دار من
المعدّل من حين طلوع نقطة منه حين إذ يطلع مركز الشمس إلى حين غروب تلك النقطة مع
مغارب ما سارته الشمس بحركتها الخاصّة في تلك المدّة. ومقدار اللّيل
هو ما دار من
المعدّل من حين غروب نقطة منه ، إذ يغرب مركز الشمس إلى حين طلوع تلك النقطة مع
مطالع ما سارته الشمس بحركتها الخاصّة في تلك المدّة.
ويلزم من ذلك :
إمّا تساوى مطالع ما سارته الشمس بمقوّمها النّهاريّ ومغاربه ، وإمّا كون مقدار
بعينه مقسوم قسمين مخالفا لمقدارى قسميه. فيكون مقدار القسمين لا كمقدار مجموعهما.
والأخير بيّن الاستحالة والأول ممتنع في الآفاق المائلة ، مبرهن على امتناعه في
الأفق المائلة في علم الهيئة حيث تبرهن أنّ كلّ قوس فإنّ مطالعها في كلّ أفق مائل
مخالفة لمطالع نظيرة تلك القوس في ذلك الأفق بعينه. وكذلك مغاربها لمغارب النظيرة
، وأنّ مطالع كلّ قوس في كلّ أفق ، استوائيا كان أو مائلا ، كمغارب نظيرة تلك
القوس في ذلك الأفق بعينه. فمطالع كلّ قوس في كلّ أفق مائل كمغارب نظيرتها
المخالفة لمغاربها ، فتكون لا كمغاربها بتّة. وهذا الإعضال قد انفكّت عقدته بما قد
حققنا في رسالة «قوس النهار». والحمد لله وحده حقّ حمده.
الإعضال السّابع
(المعلول مع تحقّق العلّة متصاعد إلى الجاعل الحقّ)
من المستبين أنّه
ليس يتصوّر انعدام المعلول مع تحقّق علّته التامّة ، وأنّ لكلّ معلول بعينه علّة
تامّة واحدة بعينها. وكذلك لعلّته التامّة المعيّنة أيضا علّة تامّة واحدة
بعينهما. وهكذا متصاعدة في السلسلة الطولية إلى الجاعل الواحد الأحد الحقّ من كلّ
جهة ، جلّ سلطانه وعلا نوره وبرهانه. فإذن لا يسوغ أن يزول شيء ما من الأشياء
الموجودة أصلا. وإلّا لزم : إمّا زوال معلول ما مع بقاء علّته التامّة بعينها ،
وإمّا انعدام تلك السلسلة الطولية المرتبة المتراقية إلى جناب الجاعل التام الواحد
البسيط الأحد القدّوس الحقّ من كلّ جهة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وهذا
الإعضال قد يسّرنا الله سبحانه لحلّ عقده وفكّ عقدته في كتاب «خلسة الملكوت».
والحمد لله ربّ العالمين حق حمده.
الإعضال الثامن
(العلة المعدّة ومادّة المعلول)
العلة المعدّة ،
وهي التي يلزم طباعها أن لا تجامع المعلول في أفق التقضّى والتجدّد الذي هو الزمان
، لا بدّ أن تستفيد منها مادّة المعلول استعدادا ما لقبول المعلول وحصوله بالفعل.
وذلك الاستعداد أيضا ، بعيدا كان أو قريبا ، لمّا كان ممتنع الاجتماع مع المعلول
المستعدّ له وممّا يتوقف عليه حصوله ، كان لا محالة من علله المعدّة. فكان
بالضرورة موجبا لاستعداد آخر من بعده ، حكمه أيضا حكمه. فيلزم أن يكون بين كلّ
استعداد من الاستعدادات وبين المعلول المستعدّ له استعدادات مترتبة متعاقبة الحصول
إلى لا نهاية عدديّة بالفعل في جانب الأبد. وذلك أمر ليس يتصور فرضه ، حتى يحتاج
في إحالته إلى برهان على خلاف الأمر في التسلسل التعاقبىّ في جانب الأزل. فإذن
يلزم أن لا يوجد المعلول المستعدّ له أبدا. وهذا الشكّ أيضا ممّا سبيل حلّه في
كتابنا «خلسة الملكوت» ، والحمد لولىّ الحمد كله.
الإعضال التاسع
(السلسلة الوجوديّة والعلة التامة)
لا محيص من لزوم
سلسلة وجوديّة غير متناهيّة الآحاد من موجودات مترتبة مجتمعة الحصول متراقية في
التّرتب والاجتماع إلى لا نهاية بالفعل لحصول كلّ معلول زمانىّ أو آنيّ. وذلك لأنه
يجب أن لا تكون علّته التامة متحققة بجميع أجزائها قبله وإلا لكان المعلول متخلفا
عن العلة التامّة في التحقق ، فكان لا محالة جزء ما من أجزاء العلة التامة ، وهو
الجزء الأخير منها ، إنّما يدخل في الحصول حين حصول المعلول لا قبل. ولذلك الجزء
أيضا علّة تامّة لا يدخل الجزء الأخير من أجزائها في التحقق إلّا عند تحقق ذلك
الجزء لا محالة. وكذلك الأمر متراقيا إلى لا نهاية بالفعل.
فاذن يلزم تحقق
أمور مترتبة الحصول معا إلى نهاية بالفعل عند وجود المعلول في الحصول بتّة.
فإمّا أنّها جميعا
وجودات مترتبة ، فيلزم التسلسل المستحيل حين حصول المعلول. وإمّا أنها بأسرها
عدمات وجودات مترتبة كانت متحققة قبل حصول المعلول فانقلبت عدمات حين حصوله ،
فيلزم ذلك التسلسل قبل وجود المعلول. وإمّا أنّها متشابكة من وجودات وعدمات. فإما
الوجودات غير متناهية والعدمات
متناهيّة. وإمّا
بالعكس. وعلى الأول فالاول وعلى الثاني فالثانى.
وهذا التعضيل قد
استبان سبيل المخرج عن مضيقه إلى منتدح التحقيق في غير موضع واحد من كتبنا وصحفنا
، ولا سيّما كتاب «الإيماضات والتشريقات» وكتاب «خلسة الملكوت» ، والحمد لله ولى
الفضل والطول.
الإعضال العاشر
(لازم الماهيّة واستناده الى الماهيّة والجاعل)
قد تحقق بما قد
حققه أئمة العلم ورؤساء الحكمة أنّ لازم الماهيّة إنّما يستند بالذّات إلى نفس
الماهيّة. وأمّا استناده إلى جاعل الماهيّة فبالعرض من حيث استناد الماهيّة إليه ،
لا من حيث نفسه بالذّات وعلى الحقيقة. وعلى هذا ، فيلزم أن لا يكون علم الجاعل
الحقّ سبحانه بلوازم الماهيّة علما فعليّا. وذلك أمر خارج عن طور الحقّ وسبيل
الحكمة.
وهذا التشكيك قد
أزحنا تهويشه وأمطنا تهويله عن السبيل في كتاب «التقويمات والتصحيحات» ، وهو كتاب «تقويم
الإيمان» ، من سبل عديدة. والحمد لله على منّه وإنعامه.
الإعضال الحادى عشر
(علم الله سبحانه بكلّ شيء عين ذاته)
قد استبان في
الشطر الربوبىّ من العلم الأعلى : أنّ علم الله سبحانه بكلّ شيء عين ذاته سبحانه.
ومن المقترّ في مقرّه أنّ العلم والمعلوم متحدان بالذّات متغايران بالاعتبار ،
فيكون علمه سبحانه بكلّ ممكن عين ذاته سبحانه وعين ذات ذلك الممكن أيضا. فإذن يلزم
اتحاد الواجب والممكن بالذّات.
وهذا الشكّ قد
أوضحنا سبيل حلّه والمنتدح عن داهيته في كتاب «التقديسات» ، والحمد لله ربّ
العالمين على فضله العظيم.
الإعضال الثاني عشر
(الجعل المركّب واستناد المركّب الى الجاعل)
من المنصرح بيانه
في حكمة ما فوق الطبيعة أنّ سبيل الجعل المركّب وإيجاده جعل
أجزائه وإيجادها ،
وأنّه إنّما استناد المركّب إلى الجاعل من حيث استناد أجزائه إليه ولا استناد له
إليه وراء استناد الأجزاء ، ضرورة أنّ تحقق المركّب ، وهو مجموع الأجزاء بما هو
المجموع المعروض للهيئة المجموعيّة عند تحقق الأجزاء بالأسر ، من الضروريات الغير
الممكنة الانتفاع بتّة. فإذا حصلت الأجزاء بالأسر لم يكن حصول مجموع الأجزاء بما
هو المجموع مضافا بالذّات إلى تأثير آخر مستأنف من الجاعل وراء التأثير في الأجزاء
بالأسر.
وعلى ذلك شكّ. وهو
أنّه لا يستراب في أنّ المجموع بما هو المجموع الذي هو موجود آخر وراء الموجودات
التي هي الاجزاء بالأسر أيضا ممكن ما من الممكنات بالذّات ، كما أنّ الأجزاء
بالأسر ممكنات ، وكلّ ممكن فإنّ عدم نفسه بما هو هو من حيث نفسه ممكن بتة. فلا
محالة لا بدّ من أن يمتنع ذلك العدم بعلّة موجبة لا بالعرض بل بالذّات حتى يتحقق
وجوده. فإذن ، المجموع لا يتصحح وجوده إلا إذا امتنع عدم نفسه مع عزل النظر عن
عدمات الأجزاء من تلقاء علته الموجبة إياه. فكيف لا يكون له استناد بالذّات إلى
علته وراء استناد ذات الاجزاء.
وهذا الشكّ مستبين
بما قد بسطنا تحقيقه في كتاب «الافق المبين». والحمد لله على جميل منّه وجزيل
إنعامه.
الإعضال الثالث عشر
(إرادة الله تعالى ليست عين علمه تعالى)
إرادة الله لا
يصحّ أن تكون عين علمه سبحانه. فإنه سبحانه يعلم كلّ شيء ولا يريد شرّا ولا ظلما
ولا كفرا ولا شيئا من القبائح والسيّئات. فعلمه متعلق بكلّ شيء بالذّات ، ولا كذا
إرادته ، فلا محالة تكون إرادته تعالى أمرا آخر وراء علمه سبحانه ، وعلمه سبحانه
عين ذاته الأحديّة الحقّة جلّ سلطانه : فإذن تكون إرادته سبحانه أمرا آخر وراء صرف
حقيقته وزائدا على نفس ذاته. فلا يكون المريد من جهات ذاته ولا من أسماء صفاته
وإلّا لكان هو بعينه عين ذاته.
وهذه شبهة قد
استوثقها شيخنا الأقدم الأفخم رئيس المحدّثين ابو جعفر محمّد بن يعقوب الكلينى ،
رضوان الله عليه ، في كتاب التوحيد من كتابه «الكافي». فظنّها برهانا و
أشكل عليها في
بيان أنّ الإرادة القيّومية ليست عين الذّات ولا هي من صفات الذّات.
ونحن بفضل الله
العظيم سبحانه وجميل تأييده قد كشفنا الغطاء عن محيّا الحق وأرينا سبيل القول
الفصل هناك في كتابنا «تقويم الايمان» وفي حواشينا المعلّقات على كتاب «الكافي»
لتفسير محكمات الأحاديث وتأويل متشابهاتها وشرح مبهماتها ومستبهماتها وحلّ
مشكلاتها ومستشكلاتها والحمد لله رب العالمين حق حمده.
الإعضال الرابع عشر
(القدرة الاختياريّة والمعنيان لها)
قد استقرت آراء
أئمّة حكمة ما فوق الطبيعة على أنّ معنيى القدرة الاختياريّة ، وهما كون الفاعل في
حدّ ذاته بحيث إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل ، وكونه في ذاته بحسب نفس ذاته
بحيث يصحّ منه الإيجاد واللاإيجاد عنه أو الصدور واللاصدور مفهومان متلازمان.
وتمجمج المحدثين
من المتكلفين لما لا يعنيهم : «أنّ أفاخم الفلاسفة لا يثبتون للقدير الحق إلّا
المعنى الأول. وأمّا المعنى الثاني فيختصّ بإثباته المليّون خاصة» ، مجمجة لا تئول
إلى مدرجة. وعلى أنّ القيّوم الواجب الوجود بالذّات واجب بالذّات من جميع جهاته
وأنّه تعالى شأنه لا جهة فيه إمكانيّة أصلا ، بل إنّه جلّ سلطانه بنفس ذاته وبكلّ
جهة من جهات ذاته وبكلّ حيثيّة من حيثيات صفاته واجب بالفعل وجوبا بالذّات ، فهو
وجوب حقّ لا إمكان فيه بوجه من الوجوه ، وفعليّة محضة لا قوّة فيها بجهة من الجهات
أصلا.
وهذان قولان
متدافعان وسبيلان متمانعان. فلا مندوجة : إمّا من ارتكاب أنّ قدرته سبحانه قدرة
غير وجوبية ، بل جهة إمكانيّة ، وإمّا من الذهاب إلى أنّ القدرة الاختياريّة لا
يعتبر في حدّ حقيقتها الصدور واللاصدور والإيجاد واللاإيجاد.
ونحن قد فككنا
عقدة هذا التشكيك والتعضيل في كتاب «تقويم الايمان» وفي حواشينا المعلقات على
إلهيات «الشفاء» بفضل الله العظيم سبحانه والحمد لله ربّ العالمين كما ينبغى لكرم
وجهه ويليق بجناب مجده.
الإعضال الخامس عشر
(حمل الجزئىّ على الجزئىّ وحمله على الكلّى)
قد تصحّح في
كتابنا «الأفق المبين» وفاقا لشيخ الفلسفة أبى نصر محمّد بن محمّد بن طرخان
الفارابى ، حمل الجزئىّ على الجزئىّ وحمل الجزئىّ على الكلّىّ. فإذا كانت جزئيّات
عديدة متحدة في الوجود ، كهذا الإنسان وهذا الناطق وهذا الحيوان وهذا الضاحك وهذا
الكاتب ، صحّ حمل هذا الناطق مثلا على سائر تلك الجزئيّات. فيكون لا محالة ذا وحدة
مبهمة بالنسبة إليها. ويلزم من ذلك أن يكون الجزئىّ كليا. ولذلك لم يستصح الشيخ
الرئيس في قاطيغورياس «الشفاء» حمل الجزئىّ ، كما مفيد الصّناعة للمشّاءين في «التعليم
الأوّل».
ومثل هذا التعضيل
معقود الورود على الرؤساء والمعلّمين جميعا ، حيث أطبقوا على الحكم بأنّ الحركة
التوسّطية لمتحرك شخصىّ بعينه على مسافة شخصيّة بعينها أمر شخصىّ باق بهويّته
الشخصيّة من مبدأ المسافة إلى منتهاها.
وذلك لأنّ كون
المتحرك الشخصىّ متوسّطا بين مبدأ المسافة الشخصيّة ومنتهاها المتعيّنين
المتشخّصين ، وهو حقيقة حركته الشخصيّة التوسّطيّة يحمل حملا صادقا على كلّ كون
كون بعينه في حدّ حدّ بعينه من الحدود التوسّطية الممكنة الانفراض لا إلى نهاية
بين الحدّين الطرفين. فيكون لا محالة ذا وحدة مبهمة بالقياس إلى تلك الأكوان
الشخصيّة الوسطيّة ، فيكون كليا.
وفكاك رقبة
الفلسفة عن أسر هذه العقدة في المقامين على ذمّة كتابنا «الأفق المبين» وغيره من
كتبنا وصحفنا وفوائدنا ومعلقاتنا التي يسّر الله لنا بفضله وطوله ، والحمد لله ربّ
العالمين ، إزاء لعزّه ومجده وجوده ومنّه.
الإعضال السّادس عشر
(تقسيم الحكم إلى الأحكام الخمسة)
قد اتفقت الفقهاء
والأصوليّون على تقسيم الحكم إلى الأحكام الخمسة المشهورة وحصره فيها. وهناك شكّ
معضل. وذلك أنّه إنّما يعنى بالحكم الحكم الصريحىّ أو الأعمّ من الصريحىّ
والضمنىّ.
وعلى الأوّل تزداد
الأقسام بالأحكام الوضعية. وهي في المشهور عند الأكثرين ثلاثة ، السببيّة
والشرطيّة والمانعيّة. فتصير الأحكام ثمانية. وفريق من الأصوليين يزيدون في خطاب
الوضع ، الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة. وزاد آخرون التقدير والحجّة ، فيزداد
بحسب ذلك أقسام الاحكام الخمسة.
وعلى الثاني ينتقص
الأحكام ، إذ كما الحكم الصريح الوضعيّ حكم ضمنيّ تكليفىّ ؛ فالسببيّة في قوّة
وجوب المسبّب أو استحبابه عند وجود السّبب. والشرطيّة في قوّة وجوب الشرط أو
استحبابه عند شغل الذمّة بالمشروط. والمانعيّة في قوّة حرمة الإتيان بالفعل أو
كراهته مع تحقّق المانع ؛ فكذلك الحكم التكليفىّ الوجوبىّ في قوّة حرمة ترك الفعل
، والحكم التحريمىّ في قوّة وجوب التّرك ، والحكم الاستحبابىّ في قوّة كراهة
التّرك ، والحكم الكراهيّ في قوّة استحباب التّرك. فعلى هذا تصير الأحكام ثلاثة ،
الإباحة ، والوجوب أو الحرمة ، والندب أو الكراهة.
وهذا الشكّ قد
حلّلنا عقده من سبيلين في حاشيتنا على الشرح العضدىّ للمختصر الحاجبى في أصول
الفقه ، وفي حواشينا المعلّقات على قواعد شيخنا المحقق الفريد السعيد الشهيد نوّر
الله تعالى رمسه ، وفي رسالتنا «السبع الشداد» في حلّ إشكالات سبعة عويصة. والحمد
لله ربّ العالمين حمدا يليق بكرم وجهه وعزّ جلاله.
الإعضال السّابع عشر
(الصلاة في المكان المغصوب)
قد استدلّ أصحابنا
، رضوان الله تعالى عليهم ، على عدم صحّة الصلاة في المكان المغصوب. وكذلك من
وافقنا من العامّة بأنّه لو صحّت تلك الصلاة لكان واحد شخصىّ بعينه متعلق الأمر
والنهى معا. فهذا الكون في هذا المكان جزء هذه الصلاة ، فيكون مأمورا به. ثمّ إنّه
بعينه الكون في الدار المغصوبة ، فيكون منهيّا عنه.
وعليه شك عويص قد
تداولته الأقوام وتناقلته الجماهير من العامّة : وهو أنّ متعلق الأمر والنهى واحد
بالشخص واحد بالشخص ، ولكن يتعدد باعتبار جهتين ، فيجب بإحداهما ويحرم بالأخرى.
فهذا الكون واجب ، لكونه جزءا من الصلاة وحرام ، لكونه غصبا. وهل الكلام إلّا في
أنه هل يجوز ذلك من حيثيّتين متغايرتين أولا؟
فالاحتجاج به على
بطلانه مصادرة على المطلوب الأوّل وأخذ للشىء في بيان نفسه.
وعقد هذا التّعويص
إنّما ينفسخ بما أسّسناه في ضابط الحيثيّات في كتابنا «الإيماضات والتشريفات» ،
وأوردناه في كتاب «التقويمات والتصحيحات» ، وأوضحنا سبيله في فسخ هذا الشكّ في
رسالتنا «السبع الشداد» ، والحمد لله ربّ العالمين ، إزاء لفضله العظيم وطوله
القديم.
الإعضال الثامن عشر
(ترك المسنونات بأسرها من الكبائر)
قد عدّ الأصحاب ،
رضوان الله تعالى عليهم ، والفقهاء من العامّة ، ترك المسنونات بأسرها من الكبائر
، وأورد شيخنا الشهيد ، نوّر الله رمسه ، في «قواعده». ومن المستبين أنّ ما هو
حرام فضدّه العام ، وهو الذي في قوّة نقيضه ، واجب ، وما هو واجب فضدّه العام
حرام. فإذن يكون فعل مسنون ما من المسنونات لا بخصوصه مأمورا به وجوبا ، فيرجع
المندوب إلى الاندراج تحت الواجب وتكون المندوبات جميعا من الواجبات التخييريّة
السّائغ تركها إلى بدل ، لا لا إلى بدل. وكذلك قد عدّ بعضهم فعل المكروهات بأسرها
أيضا من الكبائر. وذلك يصادم كون المكروه ما يمدح ويثاب تاركه بما هو تارك له أو
لا يذمّ ولا يعاقب فاعله من حيث هو فاعل له. فإنّ المكروهات الصرفة بأسرها يجب أن
يصدق عليها حدّ المكروه ، كما يصدق على كلّ واحد من آحادها. وكذلك يجب أن يصدق على
الفرد المنتشر من المكروهات لا بعينه ، كما يصدق على كلّ مكروه مكروه بخصوصه ،
ضرورة أنّ جملة الجائزات الصرفة في حكم الجواز ، ككلّ واحد من آحادها بتّة.
وهذه العقدة
المعضلة العوصاء قد أوضحنا بفضل الله العلىّ العظيم سبحانه سبيل انفساخها
وانفكاكها في رسالة «السبع الشداد» وفي حواشينا المعلقات على «قواعد» شيخنا
الشهيد. والحمد لله ربّ العالمين مفيض العقل حقّ حمده.
الإعضال التاسع عشر
(نيّة المعصية وحكمها)
قد أجمع أصحابنا ،
رضوان الله تعالى عليهم ، والفقهاء من العامّة على أنّ نيّة المعصية
لا مؤاخذة بها
وليست منشأ استيجاب ترتّب عقاب ولا ذمّ. إنّما مبدأ استيجاب الذمّ والعقاب التلبّس
بتلك المعصية المنويّة وفعلها بالجوارح.
ثمّ إنهم ذكروا
أنّ الإصرار على الصغائر المعدود من الكبائر قسمان ، فعلىّ وحكمىّ. أمّا الفعلىّ
فهو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة أو الإكثار من جنس الصغائر بلا
توبة. وأمّا الحكمىّ فهو العزم على فعل تلك الصغيرة المأتيّ بها بعد الفراغ منها.
فهذان القولان
متدافعان ، فإنّ مجرّد العزم على فعل الكبيرة ليس من المعصية في شيء ، فكيف يكون
العزم على فعل الصغيرة معصية ومن كبائر المعاصى؟ فشيخنا السعيد الشهيد ، قدّس الله
نفسه الزكيّة ، قد أورد هذين المتدافعين في قواعده.
ونحن بفضل الله
العظيم قد بيّنّا سبيل التحصيل وحققنا القول الفصل الجزل المحصّل هنالك في حواشينا
المعلّقات على كتابه وفي رسالتنا «السبع الشداد». والحمد لله ربّ العالمين على
عظيم منّه وجزيل إنعامه.
الإعضال العشرون
(معنى الكراهة في العبادات)
قد تطابقت آراء
الفقهاء قولا واحدا على أنّ الكراهة المستعملة في العبادات إنّما معناها طفافة
الثواب وطفف درجات المثوبة وبخس كمال الرجحان وضعف تمام الجهة المحسّنة المرجّحة ،
لا المعنى المصطلح عليه ، الذي هو أحد الأحكام الخمسة ، وكيف تتصحح عبادة صحيحة
شرعيّة لا ثواب ، كما لا عقاب ، على فعلها ، بل إنّما الثواب على تركها فقط ، على
ما هو ديدن شأن المكروه المصطلح عليه. فكما لا مباح في العبادات فكذلك لا مكروه
فيها ، على معناه الحقيقىّ المعقود عليه الاصطلاح.
ثمّ إنّك لتسمعهم
يقولون : العبادات تنظم الأقسام الخمسة جميعا ما عدا المباح ، فتوصف العبادة
بالوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة ، كالصلاة المنقسمة إلى الواجبة والمستحبّة
، وإلى صلاة الحائض ، وإلى الصلاة في الأماكن المكروهة والأوقات المكروهة ؛
والصّوم المنقسم إلى الأربعة ، كصوم رمضان وشعبان والعيدين والسفر.
فهذه عبارة شيخنا
المحقق الشهيد ، قدّس الله لطيفه ، بأليفاظه في كتابه «القواعد» وفاقا لمن تقدّمه
من العلماء والفقهاء. وهل ذلك في ظاهر الأمر إلّا صرح التدافع وصراح التهافت؟
ونحن بفضل الله
تعالى وكريم تأييده قد قوّمنا الفحص الجزل وتمّمنا القول الفصل في سبيل التحصيل
هنالك في غير موضع واحد بخصوصه من مواضع تعليقاتنا الدينيّة ومعلقاتنا الفقهيّة.
فهذه المعضلات
العويصة وسائر العويصات التي هي في مرتبتها إشكالا وإعضالا وأعظم منها نائبة
وداهية ، وأشدّ منها تعويصا وتعضيلا في علم علم من أنواع العلوم ومراتبها وفنّ فنّ
من أصناف الأفانين وطبقاتها ، لا يدلّ على سمت الحق فيها إلّا من قبلى ولا يهتدى
إلى صقع التحصيل فيها إلّا من سبيلى. فربّى العظيم تعاظم سلطانه قد جعل ذلك سهمى
من منائح فضله وقسطى من خزائن رحمته.
فعليك أيّها
السليل الناهض والخليل الماحض برهن العمر عند ملازمة كتبى وصحفى وتعليقاتى
ومعلّقاتى ورسائلى ومقالاتى ، وقف الهمّة على تعرّف سبلها ومسالكها ، والتدرّب في
طرقها ومداركها ، وفّقك الله لأن تتسنّم سنام معرفتها وبلّغك أوج سماء العلم من
أعلى ذروتها وجعلك من الحاملين لأعباء أسرارها ومن الحافّين حول عرش أنوارها وخصّك
بفيض فضله وحفّك بمنّه وطوله. إنّ سبيله جدد للمسترشدين ، ونائله غير مجذوذ عن
المستعدّين.
وكتب أحوج
المربوبين وأفقر المفتاقين إلى رحمة ربّه الجواد الغنىّ محمّد بن محمّد يدعى باقر
الداماد الحسينيّ ، ختم الله له في نشأتيه بالحسنى ، دادئ ذى الحجة الحرام ، سرر شهور
عام ١٠٢٢ من الهجرة المقدسة المباركة النبويّة ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا ،
نمقه في ١٠٣٦.
[قد تمّ هاتين
النسختين ، أعنى السبع الشداد والإعضالات ، لخاتم الحكماء والمجتهدين ، السيّد
الداماد ، قدّس الله سرّه ، بعون الله تعالى ، به سعى واهتمام جناب مستطاب عمدة
المحققين والمدقّقين ، علامة العلماء الراشدين ، كهف الحاج والمعتمرين ، حاجى شيخ
احمد شيرازى ، زاد الله توفيقاته في دار الخلافة طهران ، صانها الله عن الحدثان ،
بيد أقلّ أبناء العلماء على اكبر ابن مرحوم مبرور ملا محمّد على طالقانى صورت
اتمام وانجام پذيرفت ، في يوم الأحد ، غرّه ذى حجة الحرام ١٣١٧].
مصنّفات ميرداماد
(٥)
خلسة الملكوت
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سبحان خالق العدم
، فاطر الوجود ، واهب الغرائز بالفضل والطول ، مانح الفطر بالمجد والجود ، فاعل
الذوات ، مبدع الماهيّات ، جاعل الحقائق ، صانع الانيّات ، بارئ العاليات الفاعلات
والسّافلات القابلات ، خالق الأرضين الرّاسيات والسّماوات السّائرات ، بديع
المبدعات بأطوارها وأنوارها ، خلّاق الكائنات بجهاتها وأقواتها ، قيّوم الأنوار
القدسيّة في جوّ الملكوت من عقول ونفوس ، فعّال العقل النّظريّ ، شعشانىّ ثاقبات
العلوم في أضواء البراهين ، كسماء ، زانها بأقمار وشموس ، مقيم الفعل على متن
القوّة ، ومخرج الايس من كنتم اللّيس ، فيّاض الصّور على السّنخ القابل بالجوهر
والطّباع ، ومسيّر الرّوح في أرض الجسد على المرح والرّيس.
أشهدك اللهمّ ،
مالك الملك والملكوت ، عالم الغيب والشّهادة ؛ وأقرّ لعزّ ربوبيّتك وسلطان
ألوهيّتك ، بذلّ العبوديّة. وأنّى للذّمم الهالكة البائرة أن توازي كبرياء مجدك
بالتكبير والتّمجيد ، وأستعينك لحمدك على امتنانات نعمك واصطناعات مننك. وأيها
أيها للألسن البائدة الدّاثرة أن تكافئ حقوق نعمائك بالتّسبيح والتّمحيد.
وأصلّي على أكرم
مصطفيك من الذوات المقدّسة ، وأقدس مجتبيك من النّفوس المكرّمة ، أفضل من دعى إليك
، وخير من دلّ على المزلفات لديك ، سيّد النّبيّين وختمهم وخاتمهم ، أسوة المرسلين
وقرمهم ومقرمهم ، شرف عالم الإمكان وسطاع نور
البرهان ، محمّد ،
صلىاللهعليهوآله وعترته الأنجبين وأوصيائه الأطيبين ، الذين تناقلتهم كرائم
الأصلاب إلى مطهّرات الأرحام ، صلاة تبدّ شرائف صلوات المصلّين وتغبطها عزائم
تحيّات الأوّلين والآخرين ، ما اصطدم الضّياء والظّلام وارتدفت اللّيالى والأيّام.
وبعد ، فإن أحوج
المربوبين إلى الرّب الغنيّ ، محمّد بن محمّد ، يقلّب باقر الدّاماد الحسينىّ ،
ختم الله له بالحسنى ، يقول : معشر الملكوتيّين بقرائحكم النّقيّة وزمرة
المتألّهين بعقولكم القدسيّة ، إنّى ، بفضل ربّي العظيم وسيبه ، وطول جاعلي العليم
وأيده ، أملي عليكم صحيفة القدس في «خلسة الملكوت» ، على قصوى المراتب وقصيا
الغايات ، لعلّ الله سبحانه يجعلها أوثق الأوكار للأسرار وآنق قدّة للعقل إلى عالم
الأنوار ، يستحبّها الحكماء القدسيّون ويهبّ لها العرفاء الرّبيّون ، يتلونها على
كلّ متبصّر ناصع الجيب ، متّقد القريحة ، مشتعل البصيرة ، متّمض الغريزة ملتمع
السّريرة. فيهدون بها قوما يبتغون لبّ العلم البهيج ويتوخّون مخّ الحكمة النّضيجة.
قد هزّت الأشواق أذهانهم ونشطت الأذواق ألبابهم. لا يزاغ بعقولهم عن شطر الحقّ ولا
يتاه بأوهامهم في خلوات الباطل. فأمّا اللّانسلّميّون واللّم لا يكونيّون من أمّة
الوهم وحزب الطّبيعة فذهّابون في التّيه ، روّاغون عن القصد. وإنّا نحن لبمعزل عن
مخاطبتهم ولفي منتدح عن مجاوبتهم. وربّنا العزيز الوهّاب ، تعاظم سلطانه ، وفيّ
المواهب في السّابقات العاليات ، وولىّ الرّغائب في الباقيات الصّالحات. وهو حسبى
وإليه المصير.
ربّ ، منك
الرّهبوت وإليك الرّغبوت. ربّ إنّما أشكو بثّي وحزني إليك ، وأبثّ لوعتي وضراعتي
بين يديك ، ولم يك يقنعني أن ترفع إلى سمت ملكوتك يداى الدّاثرتان ، وأن تمدّ إلى
صقع جبروتك عيناى الحاسرتان ، بل اعتملت شراشر روعي القدسيّ يدا ، فرفعتها وبسطتها
، يا ربّ ، شطر باب سبّوحيّتك ، واتّخذت أكنان سرّي الملكوتيّ بصرا ، فأشخصتها
وأطمحتها ، ربّ ، تلقاء جناب قدّوسيّتك. ربّ ، إنّي أجعل صمتي لسانا وولهي بيانا ،
وأستوسع رحمتك وأؤمّل فضلك وأسألك ، فآنسني بكلامك النّاطق وميزانك الفارق وترجمة
وحيك ولسان أمرك ونهيك ، صراطك القويم ووصيّ رسولك الكريم. وأقول : اللهمّ اغفر لي
رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ وسهوات الجنان وهفوات اللّسان ، وأنت خير الغافرين.
الرّشح الأوّل
في أنّ صانع التّجوهر والوجود قد توحّد بالقدم الصّريح واستأثر بالأزليّة
السرمديّة
(١ ـ الإفاضة من عالم
الملكوت لإملاء هذه الرّسالة)
ممّا أفيض علي من
عالم التحميد والتسبيح ، وهو عالم الملكوت ، أنّي بالليلة الثّالثة عشر من شهر
رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، شعبان المعظّم ، لعام ١٠١٤ من الهجرة المقدّسة ، وقد كنت
علمت «الصّحيفة الملكوتيّة» ، وهو كتاب «الإيماضات والتّشريقات» ، من قبل بعامين ،
أريت بالمنام محتشدا قدسيّا ، يستهشّ الرّوع بمشاعره ، محتفلا روحانيّا يهتزّ له
السّرّ بشراشره ، وكأنّ هناك حشدا عقلانيّين ورهطا قدّيسين ربّانيّين. وكأنّي أنا
رأسهم وكبيرهم القويّ عليهم ، وأنّ لمّة منهم يسألونني عن إثبات الوعاء الذي هو
الدّهر وحدوث عالم الجواز فيه. وأنا أملى عليهم هكذا :
برهان إثبات
الدّهر هو بعينه برهان حدوث العالم بأسره ، وسياقته أنّ المفارق المحض ، كالعقل ،
يمتنع أن يكون بالقياس إلى قاطبة الأزمنة والآنات ، وكذلك الأمكنة والحدود ، بحيث
تختلف نسبته إليها بحسب الوجود في الأعيان بالمعيّة واللّامعيّة. أليس لو صحّ ذلك
لكان يكون يوجد لا محالة بالفعل مع بعض ، وليس هو موجودا بالفعل مع البعض الآخر.
ثمّ إذ هو موجود مع البعض الآخر أخيرا ، فيكون قد حصل له الوجود الذي هو مقارن
لوجود زمان ما وآن ما ، أو وجود مكان ما وحدّ ما ، بالمعيّة ، في الأعيان ولم يحصل
له ، بعد ، الوجود الذي هو مقارن بالفعل بالمعيّة الوجود زمان آخر وآن آخر أو مكان
آخر وحدّ آخر ، فيعرضه أن يكون بالفعل من جهة وبالقوّة من جهات أخرى ، ومن
المستبين : أنّه إنّما احتمال ذلك شأن ما في سجن عالم الهيولى ؛ والمفارق القراح
النّاصع ، لا تكون له جهة منتظرة وفعليّة
مرتقبة ، بل يكون
جميع جهاته حاصلة بالفعل مع حصول ذاته ما دامت حاصلة.
وبالجملة ، كما
المكان مع جميع الأمكنة والحدود بالوجود في الأعيان على سنّة واحدة؛ فكذلك الزّمان
من عوارض المادّة ، والمفارق المحض يكون خارج الذات والوجود عن عالم الزّمان ومع
جميع الأزمنة والآنات بالوجود بالفعل معها في الأعيان على سنّة واحدة. ومن هناك
قيل : للزّمان أسوة حسنة بالمكان في الأحكام.
فكما ليس بالقياس
إلى المفارق هنا وهناك المكانيّان ، ويعسر على الغريزة الوهمانيّة تصوّر ذلك ؛
كذلك ليس بالقياس إليه اليوم وأمس ، وهاهنا وهناك الزّمانيّان ، أى الحضور والغيبة
، والتّجدّد والتّقضّى. والقريحة الوهميّة تستغرب ذلك.
فقد استبان أنّ
عالم المكان بأسره بالنّسبة إلى الموجود المفارق في معيّة الوجود في حكم نقطة
واحدة ، وعالم الامتداد الزّمانيّ من أزله إلى أبده بالقياس إليه في معيّة الوجود
في حكم آن واحد ، وقاطبة الموجودات بأسرها في نسبة وجوده إلى وجوداتها بالمعيّة
الدّهريّة في حكم موجود واحد. فإذن قد اقترّ وعاء الدّهر الذي بحسبه تلك المعيّة.
ثمّ إذا كان العقل
المفارق ذلك شأنه ، فما ظنّك بالقدّوس الحقّ الذي لا يكتنه كنه قدسه ولا يقاس عزّ
مجده. فما بقي إلّا أن تستيقن أنّ قاطبة الموجودات بالقياس إليه سبحانه وإلى
إفاضته إيّاها وإحاطته بها بالفعل في حكم موجود واحد ، وجملة الامتداد الزّمانيّ
في حكم آن واحد ، وجملة الامتداد المكانىّ في حكم نقطة واحدة.
وبالجملة ، تشطير
الجائزات في حكم الحدوث والسّرمديّة وتسويغ اختلاف نسبة المفيض الحقّ إليها
بالإفاضة بالفعل واللّاإفاضة وبالمعيّة في الوجود واللّامعيّة ، حتّى يلزم أن يكون
هي نسبة متقدّرة امتداديّة ، فاحشة ظنيّة في ملّة القوّة النّظريّة وسيّئة وهميّة
في دين الفطرة العقليّة.
والذي يجب عند الفحص
الصّحيح في شريعة العقل الصّريح هو أن يقال : إنّ جملة الجائزات والمتجوهرات
بالنّسبة إلى جنابه سبحانه وإلى إفاضته الحقّة على سبيل واحد. فإمّا أنّه يسوّغ
سرمديّة عوالم الجواز بحذافيرها ، مبدعاتها وكائناتها جميعا ، وليس ذلك من ضريبة
الفطرة الإنسانيّة ؛ أو يحكم أنّها بأسرها سواسية في حكم الحدوث و
المجعوليّة في
وعاء الدّهر من بعد بطلانها الباتّ وعدمها الصّريح. وذلك بإفاضة الجاعل الحقّ
إيّاها بأسرها مرّة واحدة دهريّة. وتلك المرّة الواحدة الدّهريّة بعينها في
الكائنات مرّات زمانيّة متعاقبة بحسب أنفسها وبالقياس إلى الداخل ، أي بقياس بعضها
إلى بعض وإن كانت محتشدة غير متعاقبة في متن الأعيان وفي كبد الواقع وبالقياس إلى
الخارج المتقرّر في حاقّ نفس الأمر ، وهذا سبيل الفحص وسنن البرهان.
ومن حيث استقرّ
ذلك ، استبان أنّ الإضافات أيضا ، مطلقا ، إنّما يصحّ تعاقبها بحسب قياس بعضها إلى
بعض في عالم الزّمان وبالنّسبة إلى الشّيء الزّمنيّ. وأمّا بالقياس إلى عالم
الدّهر وبالنّسبة إلى الموجود المفارق المتعالي عن عالمي الزّمان والمكان ، أعني
القدّوس الحقّ وملائكته العقليّة القدسيّة ، فليس يتصوّر بوجه من الوجوه أصلا ،
ضرورة أنّ الإضافات المختلفة الّتي تلحق الشّيء بالقياس إلى أشياء غيره إنّما يعقل
تجدّدها وتعاقبها وتصادمها في الحصول إذا كان ذلك الشّيء متزمّنا متأيّنا متوضّعا
متخصّص الذات والوجود بوضع بعينه ومست وبعد بعينه وحدّ بعينه وسمت بعينه ، من
الأوضاع والسّموت والأبعاد والحدود الّتي في عالمي الامتداد الغير القارّ
الزّمانىّ والامتداد القارّ المكانيّ. وتلك الأشياء أيضا متخصّصة الذوات بأوضاع
وسموت وأبعاد وحدود. وأمّا إذا كان هو متعاليا عن جميع ذلك ومع الجميع على جميع
نسبة واحدة ، فلا يكون فيه ما هو مبدأ تصحيح الإضافات المختلفة المتعاقبة بالنّسبة
إليه.
وبالجملة ، لا فرق
في استحالة التّعاقب والتّلاحق بالقياس إلى المفارق الحقّ بين الذوات والصّفات
القارّة والإضافات ، سواء كانت أولات مباد ملزومات لها هي صفات حقيقيّة متقرّرة في
ذات المعروض أو الإضافات المحضة ، لتقدّسه عمّا هو مبدأ تصحيح التّغيّر والتّجدّد
والتّعاقب والتّلاحق بالقياس إليه رأسا.
وإنّما الفرق بين
الصّفات الحقيقيّة ولوازمها والإضافات بالنّسبة إلى القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ
ذكره ، أنّه يمتنع تكثّر صفاته الحقيقيّة الكماليّة الّتي هي بهاء ذاته وجمال
حقيقته ، بخلاف اللّوازم والإضافات العارضة لذاته. فإذن إضافة القدّوس الحقّ إلى
ما بعد ذاته ، وهو قاطبة الجائزات ، وهي مجعولاته بالأسر ، على نسبة متّفقة وسنّة
غير متبدّلة ، وإن كانت إضافات متكثّرة حسب تكثّر المجعولات و
المصنوعات. فهذا
كنه الحكمة وهو طبخ الفلسفة. والحمد لله ربّ العالمين.
فإذن الأوّل الحقّ
، تعالى مجده ، قبل جملة ما بعد ذاته في الوجود قبليّة غير متكمّمة. وهذه لقبليّة
اللّامتكمّمة غير متبدّلة النسبة إلى الأبديّات والزّمانيّات أصلا ، بل هي بالقياس
إلى ما في عوالم الجواز من أوّل الوجود إلى ساقته على شأن واحد. فكما أنّه ، تعاظم
عزّه ، قبل الكائنات ، أى الحوادث الزّمنيّة والأشباح الكونيّة في الوجود قبليّة
غير متكمّمة ، فكذلك هو قبل المبدعات أى المفارقات الأبديّة والأرواح القدسيّة ذلك
النحو من القبليّة وراء القبليّة وراء القبليّة الذاتيّة الّتي هي بحسب مرتبة
الذات ، وأنّ من توخّى الفلسفة واستحصلها واستحصفها ثمّ لم يكتنه غور هذه المسألة
فلقد باع صريح عقله بثمن بخس وشراه بدراهم زائفة.
ترشيح
(٢ ـ الحركة التوسطيّة وعروضها للوجود)
ثمّ هناك مسلك
للتبيان من سبيل الحركة ، أليس يرتاب في أنّ كلّ ما يتلبّس بالحركة بالفعل ، يعرضه
، لا محالة في الوجود ، ما دام متلبّسا بها ، شخصيّة بسيطة غير منقسمة ، هي
التّوسّط بين مبدأ المسافة ومنتهاها ، المعبّر عنه بالحركة التّوسّطيّة ، وهي
مستقرّة الذات الشّخصيّة ما دامت الحركة غير مستمرّة النّسبة إلى الحدود الممكنة
الانفراض في المسافة بالموافاة ، ولا يعقل انطباقها على شيء من المقادير الّتي هي
تلك الحدود أصلا ، بل هى أبدا في كلّ آن من الآنات المفروضة في زمان الحركة على
حدّ من تلك الحدود بتّة.
فإذن ليس يصحّ
للمتحرّك بحسب ماله الحركة التّوسّطيّة موافاة مقدار ما هو بين حدّين من تلك
الحدود المفروضة ، بل إنّما له من تلك الجهة في كلّ آن بخصوصه موافاة حدّ بخصوصه
لا غير. فلو لم يكن له في الوجود إلّا الحركة التّوسّطيّة لم يكن له بحسب الوجود
إلّا موافاة الحدود من دون موافاة شيء من المقادير الّتي هي بينها. فيكون لا محالة
يطفر ما دام متحرّكا طفرات لا إلى نهاية على حسب المقادير المنفرضة بين تلك الحدود
لا إلى نهاية ، ليتصحّح له موافاة تلك الحدود ، فيكون يطفر عن جملة المقادير
ويوافي جملة الحدود. فهذه هي الطّفرة الحقيقيّة ، وإن هي إلّا أكبر فاحشة من
الطّفرة
المشهوريّة الّتي
قد تكلّف تسويغها بعض غاغة الجماهير من المتكلّفين.
فإذن ليس بدّ في
قطع المسافة ونيل موافاتها في الأعيان من حركة قطعيّة متّصلة موجودة في الأعيان
منطبقة على الاتّصال المسافيّ أعني المسافة الّتي فيها الحركة ، وعلى الزّمان
الممتدّ الذي تتكمّم وتتقدّر هي به وتوجد بهويّته المتكمّمة المتّصلة فيه. فقد وجب
وجود الزّمان الممتدّ الذي هو ظرف وجودها أيضا في الأعيان. وهل وعاء وجود الزّمان
الممتدّ إلّا ما سمّيناه الدّهر؟.
فقد ثبت الوعاء
الذي هو الدّهر ، واستبان أنّ الحركات السّماويّة وجملة الحركات والزّمان الممتدّ
الذي هو مقدار حركة الجرم الأقصى ، وهو بعينه ما تتقدّر به سائر الحركات المتكمّمة
موجودة بهويّاتها الامتداديّة الاتّصاليّة في الدّهر.
فاشعر إذن أنّه لو
كان الزّمان الممتدّ الموجود متمادي المقدار في جهة الأزل إلى لا نهاية ، وكذلك
الحركات المتكمّمة السّماويّة ، كانت براهين إبطال اللّانهاية بالفعل منتهضة الحكم
هناك بالاستحالة بتّة.
فإذن ، قد صحّ
أنّها لا محالة حادثة الوجود متناهية الامتداد في جهة الأزل ، لا على الوجه
الملزوم لوجود الآن بالفعل ، فكذلك الأجرام الّتي هي موضوعاتها ، إذ لا يصحّ
للسماويّات وجود في سكون ، فإنّ السّكون موت ، وهي حيوانات مطيعة لله تعالى ،
رقّاصات فى ابتهاجات بإشراقات نوره ، وكذلك نفوسها المفارقة ، العاقلة لمجد ربّها
، المتخيّلة تخيّلات حقيقيّة ؛ وكذلك العقول الّتي هي متشوّقاتها القريبة ومصحّحات
استشراقاتها بأشعّة النّور الحقّ ، والفاعل الحقّ قد فعل الأجرام الفلكيّة وأخرجها
من اللّيس إلى الأيس في الدّهر متحرّكة ، لا أنّه أيّسها بلا حركة ثمّ من بعد
أيسها عروا عن التّحرّك قد ألبسها الحركة.
خلسة قدسيّة
(٣ ـ «تقدّم البارى سبحانه سرمدىّ وذاتيّ والعالم متأخّر هويّا»)
كأنّك لو كنت
متّقد القريحة متّمض السّجيّة محتدّ التّفطّن مشتدّ التّحدّس ، لم يكن ينخبئ عن حدسك
: أنّ المتأخّر بالماهيّة إذا كان مباين الذات والوجود في الأعيان للمقدّم
بالماهيّة ، غير مقارن ومخالط إيّاه ، بل منفصلا عنه في الوجود ، مسبوق
الذات والوجود
بذاته ووجوده ؛ والمتقدّم [كان] غير زمنيّ ، بل متعالي الذات والوجود عن أفق
الزّمان من كلّ جهة ، ومع ذلك متقرّر الحقيقة ، موجود الذات بنفس مرتبه ذاته الّتي
هي بعينها وجوده في الأعيان ، والمتأخّر مصنوع الماهيّة والإنيّة والذات والوجود
للمتقدّم ، وباطل الحقيقة ، هالك الذات في حدّ نفسه ، وهو فائض عن المتقدّم فيضانا
مباينا لذاته ، فإنّه لا محالة لا يكون تقدّم المتقدّم عليه تقدّما بالذّات وفي
لحاظ العقل لا غير ، بل إنّه يكون متقدّما عليه تقدّما سرمديّا أيضا في الأعيان. فإذا
فاض عنه صار معه في الأعيان معيّة دهريّة ، وهو متأخّر عنه بالذّات في لحاظ العقل
تأخّرا بالماهيّة وتأخّرا بالمعلوليّة ، ومحكوم عليه بأنّه قد تأخّر عنه بحسب
الأعيان تأخّرا دهريّا بعدمه الدّهريّ ، ثمّ صار معه معيّة دهريّة بإفاضته إيّاه
في الدّهر.
فإذن تقدّم البارى
، سبحانه ، على العالم تقدّم سرمديّ بالوجود في الأعيان بالقياس إليه ، لا أنّ
الوجود شيء ثالث ، بل هو نفسه. وإنّما تفرضه في ذهنك ووهمك ثالثا ؛ وتقدّم بالذّات
في لحاظ العقل ، أعنى تقدّما بالماهيّة وتقدّما بالعليّة ؛ والعالم متأخّر عنه ،
سبحانه ، تأخّرا دهريّا بحسب الأعيان وتأخّرا بالذّات في لحاظ العقل ، أعني
التأخّر بالماهيّة والتأخّر بالمعلوليّة ، إذ كان المجعول لا يتأخّر عن جاعله التامّ
تأخّرا بالطّبع.
عقد وعقبات ثلاث
(٤ ـ الجاعل التامّ البارى الأزليّ والزمان الحادث)
إنّ في هذا المقام
العضيل المحار المهيل إعضالات عويصة ودواهي عسيرة غير يسيرة ، دير بها على الأذهان
وسير بها في الأوهام أدوارا وعصورا ، واعتاص الأمر على فئين من أساطين أولى الحقيقة
وكرام أرباب البرهان. فحيل بها في جاهليّة الفلسفة وتشويش الصّناعة بينهم وبين سمت
تسواء الحكمة الحقّة المسوّاة قرونا ودهورا. لكنّ الأكثريّ التّدوار على ألسن
أرهاط من الأوائل والأواخر في أكثر العصور والأعصار من التّشكيكات والتّعضيلات شبه
ثلاث.
أولاها : أنّ
الجاعل الموجب التّامّ لعالم الجواز ، إن كان هو القدّوس الحقّ ، تعاظم مجده ، وهو
أزليّ الوجود ، والعالم حادث بعد العدم ، فقد لزم التّخلّف عن جاعله التّامّ ، وإن
لم يكن هو ايّاه فحسب ، أى لم يكن الجاعل التّامّ بما هو جاعل تامّ أزليّا ،
فيكون عدم العالم
في الأزل لعدم جاعله التّامّ. فلا محالة يجب أن يخرج شيء ممّا يعتبر في تماميّة
الجاعل من القوّة إلى الفعل مع خروج العالم من القوّة إلى الفعل بتّة ؛ ويعطف
النّظر إلى ذلك الخارج ، ويساق الفحص إلى حيث تتمادى الخارجات إلى الفعل معا إلى
لا نهاية.
فيقال : أهي وجودات
مترتبة ، فيلزم التّسلسل المستحيل عند الخروج أو عدمات مترتّبة حادثة معا فيلزم
ذلك التّسلسل من قبل الخروج ، أو متشابكة فيلزم التّسلسل المستحيل أيضا إمّا عند
الخروج أو قبله.
وهذه الدّاهية
تعمّ حدوث جملة العالم وحدوث أيّ جزء كان من أجزائه ، فيلزم قدم العالم بضرّاته
وذرّاته جميعا ، حتّى الحوادث اليوميّة والكائنات الآنيّة الوجود. ولا يجدى ما
يتخيّل من التّسلسل التّعاقبىّ في المعدّات والمهيّئات لحدوث شيء من الأشياء ، كما
هو مستبين.
وثانيتها : إنّ
القول بأزليّة البارى ، سبحانه ، وحدوث مجعولاته بالأسر تعطيل الجواد الحقّ عن
جوده عند عدم المجعولات رأسا ، وذلك خلف محال. إذ إنّما جوده المطلق وجواديّته
المختصة بالذّات بحسب مرتبة الذات ، لا من جهة أمر وراء نفس الذات أصلا. والواجب
بذاته لا يكون إلّا واجبا بالذّات من جميع جهاته. وليس يصحّ أن يتّصف به أخيرا بما
ليس له أوّلا فى مرتبة ذاته. وأو لا يتدبّر ما ذا يضرّ الشّمس دوام شعاعها وبقاء
ذرّات في نورها. فما ظنّك بشمس عالم العقل ، وهو نور الأنوار ، غير متناهى
النّوريّة والمجد والكمال ، إذا كان مفيضا للنور وقائما بالقسط أزلا وأبدا ؛ ومن
البيّن أنّ ما يفيض منه الوجود دائما ، فإنّه أفضل ممّا يتعطّل مدّة لا عن بداية
فينبعث فيه فعل الإيجاد والإفاضة. وهذان الإعضالان من شبهات أبرقلس في الدّورة
اليونانيّة.
وثالثتها : أنّ
الزّمان لو كان حادثا كان متناهي الكميّة من جانب الأزل ولم يكن يمتنع بالنّظر
إليه أن يكون يخلق أطول تماديا وأكثر تقدّرا ممّا قد خلق عليه ومن كلّ مرتبة
مقداريّة بعينها تفرض له من مراتب التقدّرات الممكنة الانفراض لا إلى نهاية في جهة
البداية ، إذ طباع الكم ليس يأبى الزّيادة والنّقصان ولا شيئا من مراتبهما
المفروضة. وأيضا
لم يكن يمتنع بالنّظر إلى قدرة البارى الحقّ سبحانه أن يخلق الحركات الحادثة
السّماويّة أكثر أدوارا في جهة الأزل ممّا قد خلقت عليه ومن كلّ مرتبة مفروضة
بعينها للأكثريّة لا إلى نهاية وأن يلحق حركات متخالفة السّرعة والبطء ، منبتّة
الاتّصال عند خلق العالم ، مسبوقة الوجود بحركات أخرى كذلك ، وهكذا إلى لا نهاية ؛
فيكون لا محالة يتوهّم من عند الخالق إلى أوّل الخليقة امتداد غير متناه تنطبق
عليه تلك الأزمنة والأدوار والحركات المفروضة ، ولا يكون عدما محضا ، إذ يكون لا
محالة لا يساويه بعضه ، ويصحّ تحليله إلى أبعاض تجرى بينها المفاوتة والمساواة.
فإذن ، إن هو إلّا
ما سميّناه الزّمان القديم الممتدّ الغير المتناهي المقدار في جهة البداية، وليس
له بدّ من حركة قديمة تكون محلّه وجسم قديم يكون موضوع محلّه ، فقد لزم بتّة قدم
الخلق على فرض الحدوث. وهذا سبيل للتعضيل سلكه رئيس مشّائيّة الإسلام في «الشّفاء»
و «النّجاة» وتوغّل فيه في «التعليقات».
خلسة ملكوتية
(٥ ـ إفاضة الجاعل التامّ على المجعول الحادث)
ونحن إذ أيّدنا
الله بفضله وخصّنا بهداه ففككنا العقد وحلّلنا الشّكوك واستسهلنا العقبات ، نملى
عليك بمنّه وإكرامه فنقول : أوّلا ، ليكن عندك من المستبين أنّه ليس من الواجب في
سنن العليّة والمعلوليّة أن يقرن العلّة التامّة ومعلولها بحسب الوجود الزّمانىّ
بحيث يجمعهما البتة زمان أو آن ، إلّا إذا كانت العلّة والمعلول كلاهما زمنيّين.
وأمّا إذا كانت العلّة غير زمانيّة وبالقياس إلى الأزمنة والآنات قاطبة على نسبة
متّفقة وسنّة واحدة ، فإنّما الواجب بحسب طباع تامّيّة العليّة احتشاد العلّة
والمعلول معا في وقوع التّقرّر بالفعل بحيث يجمعهما الوجود الصّريح ووعاء الفعليّة
المعبّر عنه بالواقع ، وبالجملة تخلّف المجعول عن جاعله التّامّ مستحيل ، زمنيّا
كان الجاعل أو دهريّا أو سرمديّا ، ومادّيّا كان أو مفارقا.
ولكنّ التّخلّف
المستحيل القائم على استحالته البرهان إنّما هو التّخلّف المكمّ ، وهو التخلّف
السّيال والبعديّة المتقدّرة ، وكذلك التّخلّف الصّريح إذا كان من تلقاء
تسويف الجاعل في
الإفاضة مع إمكان اللّاتخلّف ، أى الفيضان عنه من قبل ، بالنّظر إلى طباع جوهر المجعول
، إذ يلزم ، حينئذ ، إمّا خرق فرض استتمام الجاعل ، وإمّا وقوع التّرجيح بالفعل من
غير مرجّح يقتضيه ، أو إمكان وقوعه بتّة. وأمّا التّخلّف الصّريح من حيث امتناع
الفيضان من قبل بحسب طباع جوهر المجعول ونقص حقيقته ، فليس بجليّة البرهان ولا
يصادمه تماميّة الجاعل الموجب ، بل إنّ عزيزة العقل النّاصع توجبه.
والذي يعنى بكميّة
التّخلّف وسيّاليّته هو أن يتخلّل بين الجاعل التّامّ ومجعوله امتداد ما غير قارّ
، موجودا كان أو موهوما ، أو طرف امتداد ما كذلك ولو بحسب التّوهّم ، أى يتقدّم
الجاعل على المجعول في الوجود تقدّما متقدّرا بذلك الامتداد ومستمرّا بحسبه أو
منطبقا على طرف الامتداد ومتخصصا به.
والتّخلّف الصّريح
إنّما يعنى به عدم المجعول مع وجود جاعله التّام عدما صريحا ساذجا خارجا عن جنس
التّمادى واللّاتمادى ، ثمّ وجوده بالفعل فائضا عنه من بعد ذلك العدم الصّريح الذي
قد أبطله صنع الجاعل بالإبداع والإفاضة.
فإذا كان المجعول
تامّ القوّة في جوهر ذاته على قبول الفيض مرسلا مطلقا ، امتنع تخلّفه عن جاعله
التّامّ على الإرسال والإطلاق. وإذا كان في طباع جوهره بحيث يأبى ذاته إلّا
التّخلّف الصّريح ، من جهة ما إنّ طباعه يقصر عن قابليّة التّسرمد ويمتنع بالنّظر
إليه إلّا الوجود من بعد العدم الصّريح ، كان يتخلّف عن جاعله التّامّ تخلّفا
صريحا غير سيّال ولا متقدّر ولا متكمّم بتّة ولم يكن هناك خلف أصلا. أليس الإمكان
الذاتىّ ممّا يتوقّف عليه المجعوليّة وحصول المجعول ، وليس تنثلم بذلك بساطة الجاعل
التّامّ ، إذ الإمكان من مراتب ذات المعلول المفروغ عنها عند النظر فى استناده إلى
العلّة ، لكونه من متمّمات جوهر المجعول المفتاق ومن مصحّحات المعلوليّة والفاقة
إلى العلّة.
وبالجملة إنّما
إفاضة الجاهل التّامّ على طباق إمكان جوهر المجعول وقوّة طباعه على القبول. فإذا
قيل ، مثلا ، المبدع الجاعل التّامّ لم لم يبدع النّفس غنيّة عن علق المادّة في
أفاعيلها كالعقل؟ أو لم لم يخلق الفرس مدركا للطبائع المرسلة ومرتّبا للضوابط
الكليّة وصائرا إلى عالم القدس بالاستكمال كالبشر ، أو لم لم يبدع الخمسة
منقسمة إلى
متساويين كالسّتة؟ عدّ من هذر القول ومن سخيف السّؤال.
وإذا علّمناك
الضّابط ، فالآن نعود إلى حيث فارقناه ونكر ، فنختبر الشّبه المعضلات ونروز شأنها
في التّعضيل :
تشريق
(٦ ـ أجوبة المعضلات والشّبهات في الجاعل والحدوث)
فنقول : أمّا
الأولى من الشّبه فكأنّك استشعرت وهنها بضابط الجاعليّة والمجعوليّة. فالبارئ
الحقّ ، سبحانه ، هو الجاعل التّامّ بذاته لعالم الجواز بنظامه الجملىّ.
وحيث إنّ طباع
الإمكان يقصر عن تصحيح قبول التّسرمد ، كان المجعول تقرّر العالم ووجوده من بعد
ليسيّته الصّريحة وعدمه الصّرف السّاذج والتّخلّف الصّريح من جنبة جوهر القابل
ونقصان ذاته وقصور طباعه من القبول ؛ لا من جهة عدم استتمام الفاعل لفقدان أمر ما
منتظر ولا من قبل تسويفه في الإفاضة ، فإنّ وجود العالم ، قبل ما وجد ، ممتنع
بالنّظر إلى نفس ذات العالم ، إذ لا يعقل وجود قبله إلّا الوجود السّرمديّ الأزلىّ
، وطباع الجواز الذاتيّ ليس يقبل السّرمديّة الأزليّة. فالجائز بالذّات هو ما لا
يأبى بذاته الوجود المرسل ولا العدم المرسل. وذلك ليس يصادم امتناع وجود ما بخصوصه
أو عدم ما بخصوصه بالنّسبة إلى ذاته.
وشقيق هذا
التّخلّف ، فى أنّه من قبل استحقاق طباع جوهر المجعول ، لا من تلقاء ضنانة من
الجاعل أو رهانة بشيء من منتظرات الجعل ، تخلّف المعلول عن مرتبة ذات علّته
التّامّة ، إذ له في تلك المرتبة العدم بمعنى السّلب ، لا بمعنى العدول ، مع تمام
العلّة واستتمام حصول المنتظرات بأسرها ، وإنّما ذلك من قبل استحقاق طباع جوهر
المعلول لا غير ؛ وكذلك ليسيّته ولا وجوده في مرتبة نفس ذاته الواقعة في الأيس
بالفعل من تلقاء جعل الجاعل وتأييسه إيّاه ، وذلك بحسب ماله الحدوث الذاتيّ
باستحقاق جوهره وطباع ذاته.
ومطرد هذا القول
مطرد الانسياق في النّظام الجملىّ وفي أجزائه ، وبالجملة في الحوادث الدّهريّة
مطلقا حتّى الحوادث الزّمانيّة والآنيّات ، ولكن بما هي حوادث دهريّة.
فهى بذلك الاعتبار
متخلّفة الوجود عن البارئ الحقّ ، سبحانه ، لا بما هي حوادث زمانيّة ، إذ إنّما
الحدوث الزّمانىّ مبدأ تصحيح التّخلّف السّيّال المتكمّم ، لا التّخلّف الصّريح؛
وعن زمانىّ متقدّر الوجود ، لا عمّا يتقدّس عن التّقدّر والتّزمّن ، إلّا أنّ
النّظام الجملىّ لا يعقل توقّفه على غير ذات البارى الحقّ سبحانه وكذا أقرب أجزائه
من البارئ الحقّ ، وهو العقل الأوّل. وأمّا سائر أجزائه حتّى الحوادث الكونيّة
الزّمنيّة فيحدث كلّ منها في الدّهر مع جملة ما يرتبط ويشترط هو به بإفاضة الجاعل
الحقّ إيّاها كلّها جميعا مع معيّة دهريّة.
والحدوث الزمانىّ
إنّما يستتبّ أمره بالهيولى والحركة والزّمان ، والحوادث الزّمانيّة إنّما يتصحّح
ترتّباتها وتعاقباتها وتخصّصاتها بأزمنة وآنات بأعيانها بحركات الأجرام السّماويّة
في الأوضاع ؛ وحركة هيولى عالم الأسطقسات في الاستعدادات والكيفيّات الاستعداديّة
واللّانهاية في المعدّات والمتمّمات ، إنّما هي لايقفيّة عدديّة ؛ والعدمات
الزّمانيّة ليست بأعدام بالحقيقة بل إنّما المعقول من العدم الزّمانىّ غيبوبة
زمنىّ محدود الوجود عن زمنىّ آخر محدود الوجود لا غيره.
والتّقدّمات
والتّأخّرات والتّقضّيات والتّجدّدات مستندة إلى أفق التّقضّى والتّجدّد وهو
الزّمان ، ومنتهية إلى نفس هويّات أجزائه. وإنّما ضمان بسط البيان وتفصيله في ذلك
كلّه على ذمّة كتابنا «الإيماضات والتّشريفات».
عقد وحلّ
(٧ ـ إيجاد العالم المعدوم والوجود الحادث)
فإن عضّل عليك
المشكّكون ، بأنّ عدم العالم في الدّهر قبل وجوده ، إمّا أنّه واجب بالذّات فكيف
ينقض ويوجد العالم بعده ، وإمّا أنّه ممتنع بالذّات فيكون العالم واجب السّرمديّة
بتّة ، وإمّا أنّه جائز بالذّات فيكون لا محالة له علّة ، وعلّة العدم ليست إلّا
عدم علّة الوجود وأنّ علّة الوجود هو الجاعل الحقّ الممتنع العدم الواجب الوجود
بالذّات ، جلّ مجده ، لا غير.
فاتل عليهم : أنّ
الممتنع بالنّظر إلى ذات العالم إنّما هو الوجود السّرمديّ ، فلا محالة إنّما
الواجب بالنّسبة إلى ذاته نقيضه ، وهو رفعه ؛ ورفع الوجود السّرمديّ إمّا
برفع مطلق الوجود
، وهو العدم المطلق في الآزال والآباد رأسا ، أو برفع السّرمديّة ، ويتحقق بالوجود
بعد العدم الصّريح. فالّذى يجب بالنّظر إلى ذات العالم هو مطلق العدم الصّريح أعمّ
من أن يكون بطلانا محضا فى الآزال والآباد رأسا ، أو ليسا صريحا دهريّا منقضا
بالوجود الدّهريّ بعده ، وخصوص كلّ منهما إنّما يتعيّن بعلّة خارجة.
فإذن عدم العالم
في الدّهر قبل وجوده الدّهريّ : بما هو عدمه الصّريح في الواقع ، أى بما هو رفع
سرمديّته. ذاتيّ له وغير مستند إلى علّة أصلا ؛ وبما هو ينقض بالوجود الدّهرىّ
بعده مستند إلى جاعل الذات والوجود بعينه. ولا خلف ، إذا المستند حينئذ حقيقة هو
انقضاض العدم ، لا نفسه ، وجاعل الذات والوجود فى الدّهر هو بعينه علّة انقضاض
العدم الدّهرىّ.
أما عندك من
المستبين أنّ العدم هو ليسيّة الشّيء وانتفاؤه ، لا شيء يعبّر عنه بالانتفاء؟ فإذن
قد تمّ ميقات الحقّ وانقضّ جدار التّشكيك بحسب المعضلة الأولى ، (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، (الأنعام : ٤٥).
تشريق
(٨ ـ الابداع والصنع في قاطبة الموجودات»)
وأمّا المعضلة
الثّانية ، فلعلّك بما بان لك لو كنت منضوّ الوهم ممقوّ الذهن ، غير مستعسر أمرها
ولا مستثقل قدرها أيضا. أليس إنّما يعقل التّعطيل لو كان يوهم هناك امتداد قد سوّف
الجاعل فيه الجعل والإفاضة ، أو كان حدّان يتحدّد بهما الجعل واللّاجعل ، فينماز
حدّ اللّاجعل عن حدّ الجعل ، أو كان جعل المجعول لا على السّرمديّة ، بل من بعد
عدمه الصّريح الواقع في نفس حيّزه الوجود بدلا عنه من تلقاء ضنانة من الجاعل
بالإفاضة وإمساك عن الجعل أوّلا ، ثمّ إطلاق الرّحمة وبسط اليد بالجود أخيرا.
وما تلك إلّا ظنون
أقوام من الغاغة والجماهير ، أخفّاء الهامّ ، سفهاء الأحلام ، ضعفاء العقول ،
أقوياء الأوهام ، يخرصون ما لا يعلمون ويقولون ما لا يفقهون.
فأمّا إذا لم يكد
يتوهّم شيء من ذلك أصلا وكان العدم الصّريح الذي قد عبّرنا عنه باللّاخلاء
واللّاملاء الزّمانىّ بمعزل عن تصوّر السّيلان واللّاسيلان والاستمرار واللّااستمرار
فيه ، ووجود العالم واقعا في حيّزه بعينه بدلا عنه من جهة انقضاضه
بإفاضة الجاعل ؛
وكان الجاعل غير مكتس أخيرا بما ليس هو متجمّلا به أوّلا في نفس مرتبة ذاته ؛ ولم
يكن يسنح شيء ممّا هو من جهات ذات الجاعل ولا شيء من الاعتبارات التي هي منتظرات
جاعله ؛ بل إنّما كان لا تسرمد المجعولات من قبل قصور حقائقها وضعف ذواتها عن قوّة
القبول ، وكان إنّما المتجدّد نفس ذات المجعول لا أمر ما في الجاعل كان يعوزه في
الجاعليّة ؛ لم يكن لتوهّم التّعطيل متّسع ، ولا عن القضاء على جملة الجائزات
بالحدوثين الذاتىّ والدّهرىّ ممتنع.
أفلا يتبصّر ما ذا
يضرّ الشّمس لو لم تكن ساهرة مدريّة تستضيء بنورها أو جدران طينيّة تستشعّ بضوئها
، فما ظنّك بالملك الحقّ والغنىّ المطلق ، فاعل الشّمس والقمر ، جاعل الظّلمات
والنّور ، إذا كان مستأثرا بالقدم ، متوحّدا بالسّرمديّة.
فافقهنّ أنّ علوّ
البارى الصّانع ومجده في الإبداع والصّنع هو أنه بذاته بحيث يبدع ويصنع ويخلق ، لا
بأنّ الأشياء خلقه ، كما شأنه في العلم ، إذ علوّه ومجده في العلم هو أنّه بذاته
يعقل قاطبة الأشياء بعين عقله ذاته وتفيض عنه جملة الأشياء منكشفة معقولة ، له
بأنّ الأشياء معقولة له ، فإذن علوّه ومجده بذاته ، لا بلوازمه ومجعولاته
ومصنوعاته.
تشريق
(٩ ـ كيفيّة خلق العالم بعد عدمه الصريح)
وأمّا التّعضيل
الثّالث ، فكأنّا قد كنّا كشفنا الأمر فيه في «الأفق المبين» ، حيث أوضحنا الفرق
بين الكميّة الغير القارّة العديمة الوضع والمقادير القارّة ، وحقّقنا أنّ الكم
الغير القارّ ، وهو الزّمان المتّصل القائم بحركة الجرم الأقصى ، يمتنع بالنّظر
إلى ذاته أن يكون أزيد مقداريّة وأطول تماديا في جهة الأزل ممّا قد خلق عليه.
إنّما احتمال الزّيادة والتّزيّد والقوّة على قبول ذلك سنّة المقدار القارّ ، كما
لامتداد الجرم الأقصى ؛ فليس يعقل بالقياس إلى الزّمان إلّا عدم واحد هو انتفاء
ذاته بالمرّة رأسا ، لا العدم الآخر الذي هو انتهاء انبساط المقدار وانبتات
تماديه.
وأمّا حامل محلّه
، وهو الفلك الأقصى ، فيعقل بالقياس إليه العدمان جميعا. فلذلك لم يكن يلزم
الزّمان بحسب الحدوث الدّهريّ وتناهي الكميّة في سمت الأزل حدّ ونهاية يحكم على
تماديه بالانبتات عند ذلك الحدّ. والأبعاد القارّة
المتناهية وضعا
منبتّة الامتداد لا محالة عند حدود مقداريّة.
وإنّما لازم
ماهيّة المقدار وطباعىّ الكم المتصل ليس إلّا تصحّح قبول المساواة والمفاوتة، فعضة
من الزّمان أقصر مقدارا من الزّمان كلّه ، وزمان كذا مثلا مساو أو مفاوت لزمان
كذا. وكذلك بعد كذا بالقياس إلى بعد كذا إلا تصحّح إمكان الزّيادة أو التّزيّد
البتة على الحاصل في الفطرة الأولى ، فمن المستحيل بالقياس الى ذات الزّمان فى حدّ
نفسه أن يخلق فى الفطرة الأولى أطول مدّة ممّا خلق عليه.
وكذلك ليس من
الجائزات بالذّات خلق دورة أو حركة أخرى قبل ما قد خلقت من الحركات السّماويّة
بدورانها فضلا عن أدوار وحركات غيرها. أليس لا يعقل في العدم الصّريح امتداد موهوم
حتّى يتصوّر وجود حركة فيه وانطباق ممتدّ عليه.
فكما الجرم الأقصى
الذي لا يحتفّ به خلأ ولا ملأ تنتهى عنده الجهات والأبعاد القارّة ، ولو فرض شخص
ماد يديه هناك استحال أن تذهب يده وراء سطحه المحدّد للجهات وتنبسط ، لعدم انقضاء
وانتهاء الأبعاد ؛ فكذلك مقدار حركته الذي ليس وراء امتداد منقسم سيّال أو حدّه
غير منقسم ، لا موجودا ولا موهوما ، تتحدّد به التّقضّيات والتّجدّدات والانبساطات
والتّماديات الغير القارّة ، وهو مسبوق الوجود في الأعيان بعدمه الباتّ الصّريح
وبوجود جاعله الحقّ ، ويستحيل أن يفرض شيء آخر قبله متوسّط الوجود بنيه وبين
جاعله.
فإذن قد استبان :
امتناع خلق دورة أو حركة أخرى قبل الأدوار والحركات المخلوقة السّماويّة ، وأنّ
الامتناع ليس من جهة أنّ ذلك أمر معجوز عنه بالقياس إلى تعلّق القدرة الواجبة
التّامّة السّبحانيّة ، بل إنّما من حيث إنّه مستحيل ذاتا ، والمحال بالذّات ليس
في منّته أن يستأهل ذاتا متصوّرة تستطيع إلى صلوح قبول التّأثير ومتعلقيّة القدرة
سبيلا. فالنّقص والعجز من جهة ذات المستحيل ، إذ لا ذات له في التّصوّر والتّوهّم
؛ لا من تلقاء قدرة القدير الحقّ تعالى عزّه.
فإذن خلق العالم
بعد عدمه الصّريح ليس من حيث انتقال الخالق من عجز إلى قدرة ، ولا من حيث انتقال
العالم من امتناع إلى إمكان ، ومن لا مقدوريّة إلى مقدوريّة ؛ بل إنّما من حيث
قاصريّة طباع الجواز الذاتىّ عن تصحّح التّسرمد وامتناع
أزليّة التّقرّر
بالقياس إلى ذوات الجائزات دائما ، واستحالة توهّم امتداد أو لا امتداد ، وسيلان
أو لا سيلان في العدم الباتّ الصّريح.
توفية
(١٠ ـ الشبهات في الدهر والزمان والحادثات)
فإذن إنّما هذه
التّعضيلات والتّعسيرات ، سلطانها على فئين من الجماهير والغاغة ، وهم متكلّفون
تسمّوا بالمتكلّمين ، يتجشّمون أنّ قبل العالم عدما ممتدّا لا عن بداية مع ذلك
العدم ومرجّح لوجود العالم في حدّ وجوده بإرادته المخصّصة ، ومن السّائغ أن يخلق
قبل أيّ خلق توهّم في ذلك الامتداد خلقا :
وليسوا يشعروه
أنّه لو كان الأمر على ما يخرصون ، كان ذلك العدم بعينه الامتداد الغير القارّ
المتصحّح فيه المساواة والمفاوتة والتقضّى والتجدّد والقبليّة والبعديّة ، ولكن
مفارقا عن المادّة ، غير قائم الوجود في محلّ ، بل قائم الحصول المجرّد عن
المادّة. والزّمان أيضا هو بعينه الكميّة الغير القارّة ، المتصحّحة فيها المساواة
والمفاوتة. والقبليّات والبعديّات ، إلّا أنّها قائمة الوجود في الحركة القائمة في
الجرم المتحرّك الذي هو موضوعها.
فإذن تختلف أفراد
طبيعة نوعيّة بعينها بالتّجرّد والهيولانيّة. وهو مستبين الفساد لذوى البضاعة
العقليّة ، أليس كما لا تختلف طبيعة بعينها بالعرضيّة والجوهريّة ، كذلك لا تختلف
بالحلول واللّاحلول وبالفاقة إلى الهيولى والغنى عنها؟
ثمّ إذا صحّ
لطبيعة ما نوعيّة أن تكون مستتمّة التّقوّم والتّحصّل الشّخصىّ من دون علق المادّة
، فكيف يعتريها أن تعتلق في شخصيّتها وتحصّلها في الوجود بالمادة وعلائقها وعهدها؟
ومن هذا السّبيل
أيضا يستبين إبطال الخلأ والبعد المفطور القارّ المجرّد عن المادّة القائم بذاته ،
وهو مذهب فريق من رواقيّة الحكماء ، وإبطال كون الزّمان مجرّدا بحسب نفسه ويسمّى
بالدّهر ، ومتعلّقا بالمادّة بحسب ما يقع فيه من التّغيّرات ويسمّى بالزّمان ، وقد
ذهبت إليه فئة من مهوّشة الفلاسفة. والمحدثون قد
تقوّلوهما على
إمام الفلسفة أفلاطون الإلهيّ.
ثمّ لو عزل النّظر
عن كون العدم غير معقول الامتداد إلّا عن جهة الزّمان ، أفلم يكونوا فاقهين أنّ
الأنوار المفارقة العقليّة متنزّهة الذات والوجود عن الاستمرار السّيّال المكمّم
الزّمانىّ ومقابله ، فكيف جناب النّور الحقّ جلّ ذكره ، وبالجملة المتكلّفون لما
لا يعنيهم يقحمون القحم ويركّمون الظلم.
فأمّا الملكوتيّون
الرّبيّون ، وأولئك هم الحكماء القدّيسون حقّا ، فليس يستطيع سلطان الوهم وتسخير
الطبيعة أن يضطرّهم إلى سجون التّشكيك ومضائق التّعويص أبدا.
فلذلك ما إن ترى
رئيس مشّائيّة الإسلام يسير هناك على المجادلة. ألم تسمعه يعترف في كتبه ، كالشفاء
والنجاة والتعليقات : أنّ ما يقام في المحاجّة على قدم العالم من الحجج شبه جدليّة
، إنّما عقدها وسوقها على قانون الجدل وعلى أوضاع المتكلّفين ؛ وأنّ من يفقه سبق
الأوّل الحقّ على الثّوانى ـ سبقا مطلقا في متن الأعيان وكبد الواقع بحسب نفس ذات
المتأخّر فى كبد الأعيان بعد ذات المتقدّم بعديّة صريحة ، لا تقدّما مكمّما ،
وسبقا سيّالا ، لا بحسب أمر ما ثالث مارّ بهما في الوهم يتحصّصان بحدّين منه هو
الامتداد الغير القارّ ، ولا محالة ليس إلّا ما نحن نسمّيه الزّمان ، وإن كان
المتكلّفون يظنّون أنّه وعاء الزّمان ـ فإنّه في متندح عن ذلك كله ، وإنّه من روح
الحقّ في مقام رحب.
وأمّا ما اعتمله
ابن غيلان «أنّ معنى حدث العالم بعد عدم ممتدّ ، لا عن بداية امتداد ذلك العدم ،
بقياسه إلى وجود الأوّل الحقّ سبحانه ، لا امتداده بحسب نفسه» ، فقد دريت أنّه من
سخيف الاعتمال. أليس لا يعقل ذلك إلّا في ما يقارن ذاته ووجوده كمّية غير قارّة
الثّبات. والمفارقات العقليّة في تنزيه إلّا عن الثّبات الصّرف. فما ظنّك بربّ
الأرباب ونور الأنوار ، جلّ ذكره وعزّ مجده.
وهم وتحصيل
(١١ ـ العدم المستمرّ والفضاء الممتدّ والجرم الأقصى)
أو لعلّك تقول : ما
بال الفلك الأقصى ليس يأبى زيادته أو تزيّده بحسب المقدار على ما
هو عليه الآن ،
وليس يستوجب ذلك تقدّرا في العدم الموهوم فوق سطحه المحدّد للجهات والأبعاد
القارّة ؛ والزّمان لو ساغ مثل ذلك بالنّسبة إليه وجوّز أن يكون قبل خلق العالم
خلق أيّ شيء كان لكان مبدأ استيجاب سبق الامتداد عليه واجبا ، وأن يكون العدم
الصّريح المتوهّم قبله متقدّرا؟
فيقال لك : السّرّ
في ذلك أنّه ليس فوق الجرم الأقصى شيء يتخلل بينهما بالفعل عدم مستمرّ وفضاء ممتدّ
، فيكون هناك بعد بالفعل ويكون لا محالة يفضل ويزيد على عضة موهومة منه ويتساوى أو
يتفاوت شطران منه موهومان ، بل إنّما الجرم الأقصى بحسب نفسه يمكن له مقدار أزيد
وإن كان يمتنع ذلك بحسب انتفاء بعد وجهة فوقه يتمادى وينبسط جرمه فيه.
وأمّا الزّمان بل
العالم بجملته ، فإنّ الصّانع الحقّ موجود قبله. فإذا تخلل بينهما عدم موهوم
الامتداد يصحّ أن يقع فيه وينطبق على شطر منه شيء ما يخلق فيوجد قبل العالم وبعد
الصّانع ، زمانا كان أو غيره ، كان لا محالة هو أطول امتدادا من عضة موهومة منه ،
وعضتان منه موهومتان غير عريّتين البتة إمّا عن المساواة أو عن المفاوتة. فكان
بالضّرورة البتيّة متقدّرا متكمّما بالفعل مجرّدا عن محلّ يقوم فيه.
وهذا كما لو تخلّل
بين جسمين خلأ وفضاء غير مشغول بامتداد جرمانىّ ، فإنّه يكون بينهما بعد بالضّرورة
، وإنّه مبدأ استيجاب أن يكون ذلك الخلأ والبعد بعينه امتدادا متقدرا متكمّما
موجودا بالفعل غير قائم الذات والوجود في موضوع ومحلّ ، إذ هو لا محالة أزيد
تماديا وأعظم انبساطا وأوغل في الانبساط ذهابا من نصفه الموهوم مثلا بتّة.
حكومة
(١١ ـ أقوال المتكلفين وقول الحكماء في النظام وأجزائه)
لن يجدى
المتكلّفين ، في ما يتجشّمونه لتصحيح الحدوث وتسويغ التّخلّف ، قولهم :
إنّ الصّانع الحقّ
لم يزل بإرادته القديمة الأزليّة علّة تامّة لوجود الحادث في حدّ وجوده في ما لا
يزال من حدود الامتداد الموهوم إلى لا بداية في الآباد وإلى لا نهاية فى الآباد
فإذن لا تخلّف إلّا على تقدير وجود المعلول في غير ذلك الحدّ بعيبه ؛ ولا قولهم :
حدوث العالم في ذلك الحدّ بعينه من حدود ذلك الامتداد من مقتضيات
النّظام الأكمل
المتعيّن بعناية البارى الحقّ سبحانه وعلمه التّامّ بالأصلح على احتذاء ما قالته
الحكماء في خصوصيّات النّظام الجملىّ وأجزائه.
أليس الأوّل
تتضاعف به الدّاهية ، إذ يستوجب وجود الحادث المتحدّد بذلك الحدّ بعينه في الأزل ،
إذ علّته التّامّة موجودة في الأزل ، فإذن تلزم أزليّة الحادث وذلك الحدّ جميعا.
ثمّ أليس التّرجيح بنفس الإرادة لا بمرجّح غيرها ملزوم التّرجّح لا مرجّح أصلا.
والثّاني ليس يتصحّح على أصولهم وأوضاعهم ، إذ لممتدّ الموهوم ليس على ما يزعمون
إلّا عدما محضا. ولن يستسوغ العقل الصّريح أن يتميّز في العدم الصّرف حال ، الأولى
بالصّانع فيها أن لا يضع شيئا ، أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلا ، وحال بخلافها.
وأمّا الحكماء فأمرهم في ما قالوه على طور آخر محصّل.
تعقيب
(١٣ ـ قاطبة الأشياء المسبوقة بالعدم الدهريّ فائضة عن صنع الجاعل الحقّ)
إن غشيك الوهم
أنّه قد صحّ أن لا تعطيل في الوجود بحسب اللّاإفاضة في العدم الصّريح الدّهريّ ،
لكنّه لا محيص عنه بعد الإفاضة على ما قد اقترّ أنّه سبحانه قد فعل النّظام
الجملىّ بقضّه وقضيضه في الدّهر مرّة واحدة. وهل ذلك إلّا على مضاهاة قول اليهود: (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤).
فتدبّر أمرك واعمل
رويّتك واعلمن أنّه إنّما كان يعترى التصوّر شيء من ذلك لو كان يعقل عند ربّك وفي
صقع الرّبوبيّة وفي كبد الوجود الصّريح ومتن وعاء الدّهر سيلان وامتداد وتقضّ
وتجدّد. وأمّا على ما هو الحقّ القراح وقد استبان لك سبيله فليس يتصوّر بحسب
الدّهر إلّا وجود صريح لجملة الجائزات من مبدأ التّجوهر إلى ساقة الوجود في حاقّ
كبد الأعيان ، وإنّما هو من تلقاء صنع الجاعل الحقّ وإفاضة وجوده ورحمته. فإذن ليس
للإفاضة في الدّهر والفيضان الدّهرى بعد متصوّر وعقب موهوم حتّى يذهب الوهم إلى
التّعطيل.
ومن سبيل آخر :
إنّا كنّا قد تلونا عليك في صحفنا : أنّ طباع الجواز الذاتىّ هو العلّة المفقرة
إلى الجاعل القيّوم الواجب بالذّات جلّ مجده ، وأن سواء بالقياس إلى ذلك حدوث
المجعول وبقاؤه جميعا.
فإذن قاطبة
الأشياء المسبوقة بالعدم الدّهريّ فائضة عن صنع الجاعل الحقّ في الدّهر أبدا بحسب
حدوثها وبقائها الدّهريّين جميعا ، ليست هي بعد الفيضان غير منسلخة عن طباع الجواز
، والتّقرّر حال التّقرر جائز الانتفاء بالنّظر إلى الذات الجائزة في ضمن الانتفاء
المطلق رأسا ، فلا يكون وجوبه إلّا من قبل التقرّر المفروض ، وليس هو إلّا من
تلقاء إفاضة الجاعل.
ثمّ أليس ما في
عالم الزّمان من الكائنات على ما هي عليه من التّدريجات والتّدرّجات والتّقضّيات
والتّجدّدات من تلقاء صنع الصّانع الحقّ وتكونيه ، والمرّة الواحدة الدّهريّة
بعينها مرّات زمانيّة متعاقبة بالقياس إلى الزّمانيّات المتلاحقة لا إلى نهاية
أخيرة لا تتعدّاها ، وكذلك الإفاضة الدّهريّة بعينها إفاضات زمانيّة عند
الزّمنيّين.
فإذا تدبّرت انصرح
لك من هذه السبل : أنّ رحمة ربك فعّالة الجود عمّالة الفيض على الاستدامة والاتصال
جودا غير مصروم وفيضا غير مجذوذ ، وأنّه ، عظم سلطانه ، يصبّ الفيض فى وعاء
التجوهر والوجود ، وأنّ الله سبحانه لا يجرى عليه حركة ولا سكون ، لا في ذاته ولا
في صفاته وجهات ذاته ، ولا في فعله وصنعه ، ولا في أفا عليه ومصنوعاته بقياسها إليه
ومصنوعاته بقياسها إليه بحسب الصّدور عنه والمثول بين يديه.
ومع ذلك كلّه ،
فسبحانه عن العطلة والكلال ، إنّ رحمة ربّك فعّالة الجود ، عمّالة الفيض على
الاستدامة والاتّصال جودا غير مصروم وفيضا غير مجذوذ ، وإنّه ، عظم سلطانه ، يصبّ
الفيض في وعاء التجوهر والوجود ، أعني الدّهر ، أبدا ، صبّة واحدة. فلا يزال يصنع
ويجعل ويفيض العوالم بأسرها معا مرّة واحدة غير زمانيّة ولا آنيّة :
أمّا عالم الأمر
والحمد ـ وهو الأنوار العقليّة والجواهر الثّابتة وبالجملة الإبداعيّات ـ ففى كبد
الواقع ومتن الأعيان لا في زمان ولا في آن. وأمّا عالم الخلق والملك ـ وهو
الظّلمات الهيولانيّة والبرازخ المتغيّرة الجسمانيّة وبالجملة التكوينيّات ـ ففى
الأزمنة والآنات والأحياز والأمكنة ، كلّ هويّة شخصيّة منها بشخصيّتها في وقت
بخصوصه وفي حيّز بعينه ، وهي على تدرّجاتها وترتّباتها وغيبوبة بعضها عن بعض في
عالمى الزّمان والمكان غير متدرّجة التقرّر ولا متعاقبة الحصول بالقياس إلى جنابه
سبحانه ، وبحسب المثول بين يدى علمه وقدرته و
جاعليّته
وصانعيّته. فإذن كلّ يوم هو في شأن ولا يشغله شأن عن شأن.
ولعلّ لمبلغ ذا في
التّحصيل ميقات بزوغ السّرّ في قول سيّدنا ونبيّنا خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين ،
عليه وآله الطاهرين أنمى صلوات المصلّين ، حيث سئل : «أنحن في أمر فرغ منه أم في
أمر مستأنف؟ فقال عليه صلوات ربّه : في أمر فرغ منه وفي أمر مستأنف». وحيث قال
صلوات الله عليه : «جفّ القلم بما هو كائن. فقيل له : ففيم العمل؟ فقال (ع) :
اعملوا فكل ميسّر لما خلق له.» (صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ٢٠٤٠).
وحكى من انصبغت
يداه بالبراعة في علوم اللّسان في «الكشاف» عن عبد الله بن الطّاهر : أنّه دعى
الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت علي ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لى ومنهنّ قوله
عزّ من قائل : «كلّ يوم هو في شأن» ، وصحّ : أنّ القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم
القيامة. فكلّم الحسين بهنّ ـ إلى أن قال : ـ وأمّا قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرّحمن : ٢٩) ؛
فإنّها شئون يبديها لا شئون يبتديها ، فقام عبد الله وقبّل رأسه وسوّغ خراجه.
ختام
(١٤ ـ الخلق والبعث والمخلوقات)
إنّ ممّا ينصّ في
القرآن الحكيم على هذه الحقائق قوله عظم سلطانه وبهر برهانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ، (لقمان : ٢٨).
في «الكشّاف» : و
«ذلك أنّه إنّما كانت تتفاوت النّفس الواحدة والنّفوس الكثيرة العدد أن لو كان
يشغله شأن عن شأن وفعل عن فعل ، وقد تعالى عن ذلك. «إنّ الله سميع بصير» ، يسمع
كلّ صوت ويبصر كلّ مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن ادراك بعض ،
فكذلك الخلق والبعث» (الكشاف ، ج ٣ ، ص ٥٠٢)
وكذلك قوله سبحانه
: (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
ما كُنْتُمْ) ، (الحديد : ٤) ، حيث أثبت المعيّة الإحاطيّة العامّة
بالنّسبة إلى الجميع على الاستغراق. وقوله عزّ شأنه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، (يس : ٨٢) ، حيث آثر «إذا» الإطلاقاتيّة الحقيقيّة
الوجوبيّة على «كلّ» التكثيريّة التكريريّة التّدريجيّة.
وفي السّنّة
السّانيّة الشّارعيّة النّبويّة قول سيّدنا رسول الله ، صلىاللهعليهوآله : «جفّ القلم بما هو كائن» ، وقوله عليه صلوات ربّه : «جفّت
الأقلام وطويت
الصّحف». وقوله عليه وآله تسليمات من الله وملائكته : «ما من نسمة
كائنة إلى يوم القيامة إلّا وهي كائنة».
وفي الخطب
القدسيّة الوصويّة قول ترجمان الوحى وقهرمان الحكمة وباب مدينة العلم ومن عنده علم
الكتاب ، مولانا أمير المؤمنين ، وصىّ رسول الله ، صلوات الله وتسليماته عليه :
(١) في «نهج
البلاغة». «الحمد لله الذي لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ،
وظاهرا قبل أن يكون باطنا لم يحلل في الأشياء فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها
فيقال : هو منها بائن» (ع ٦٥ ، ص ٩٦).
(٢) وقوله ، صلوات
الله عليه ، في خطبة الأشباح : «ما اختلف عليه دهر فتختلف منه الحال ، ولا كان في
مكان فيجوز عليه الانتقال. ومن هذه الخطبة : المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة فكر
آل إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ، ولا تجربة أفادها من حوادث الدّهور ، ولا
شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور ، فتمّ بأمره وأذعن لطاعته وأجاب إلى دعوته ،
لم يعترض دونه ريث المبطئ لا أناة المتلكّئ». (ع : ٩١ ، ص ١٢٤) إلى آخر كلامه
الشريف صلوات الله تعالى عليه.
(٣) وفي خطبة
تتضمّن أصول التوحيد وتجمع مجامع التمجيد : «لا تصحبه الأوقات ولا تردفه الأدوات ،
سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله ، لا يجرى عليه السّكون والحركة ،
وكيف يجرى عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذن
لتفاوتت ذاته ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء إذ وجد له
أمام ، ولا لتمس التمام إذ لزمه النّقصان ، لا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل في الأحوال
، ولا تبليه اللّيالى والأيّام ، ولا يغيّره الضّياء والظّلام ... ليس في الأشياء
بوالج ، ولا عنها بخارج» ، (ع : ١٨٦ ، ٢٧٢).
(٤) ومن خطبة أخرى
له عليهالسلام : ... لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح
والأدوات. لا يقال له : متى ، ولا يضرب له أمد بحتّى ... لم يقرب من
__________________
الأشياء بالتصاق ،
ولم يبعد عنها بافتراق ، ... تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار ونهايات
الاقطار وتأثّل المساكن وتمكّن الأماكن ، فالحدّ لخلقه مضروب وإلى غيره منسوب». (ع
١٦٣ ، ص ٢٣٢).
(٥) وفي خطبة اخرى
له صلوات الله عليه : «لا يشغله شأن ، ولا يغيّره زمان ، ولا يحويه مكان ...». (ع
١٧٨ ، ص ٢٥٦).
(٦) وفي أحاديث
سادتنا الأوصياء الطاهرين ، صلوات الله وملائكته عليهم أجمعين ، ممّا رواه شيخنا
الأقدم الأعظم ، عروة الدّين. أبو جعفر محمد بن على بن الحسين بن موسى بن بابويه
القمى ، رضى الله عليهم ، قول مولانا الصّادق جعفر بن محمد الباقر عليهماالسلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة
ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزّمان والمكان والحركة والسّكون ، تعالى عمّا
يقول الظّالمون علوّا كبيرا» (التوحيد ، ع ٢٠ ، ص ١٨٤).
(٧) وفي حديث آخر
: «استوى من كلّ شيء ، فليس شيء أقرب إليه من شيء. لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه
قريب ، استوى من كلّ شيء».
(٨) وفي حديث آخر
: «هو منها بائن من خلقه ، محيط بما خلق علما وقدرة واحاطة وسلطانا. وليس علمه بما
في الأرض بأقلّ ممّا فى السّماء. لا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء ، علما وقدرة
وسلطانا وملكا واحاطة».
(٩) وقول مولانا
الكاظم أبى ابراهيم موسى بن جعفر عليهماالسلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجرى عليه
زمان». (التوحيد ، ص ١٧٥).
(١٠) وفى حديث آخر
: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآن كما كان ، لا يخلو
منه مكان ، ولا يشتغل به مكان ولا يحلّ في مكان. (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (المجادلة ، ٧) ،
ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر
مستور ، لا إله إلّا هو الكبير المتعال». (التوحيد ، ص ١٧٩).
(١١) وقول مولانا
أبى الحسن على بن موسى الرّضا ، صلوات الله عليه ، في كلام
له جليل القدر
طويل الباع ، تكلّم به عند المأمون في التوحيد :
«جهل الله من
استوصفه ، وقد تعدّاه من اشتمله ، وقد أخطأه من اكتنهه. ومن قال : كيف فقد شبّهه ،
ومن قال : لم فقد علّله ومن قال : متى فقد وقّته ، ومن قال : فيم فقد ضمّنه ، ومن
قال إلى م فقد نهّاه ـ إلى قوله عليهالسلام ـ لا يتغير الله بانغيار المخلوق كما لا يتحدّد بتحديد
المحدود ، أحد لا بتأويل عدد ـ إلى قوله ع ـ باطن لا بمزايلة ، مباين لا بمسافة ،
قريب لا بمداناة. ثمّ قوله ع : مدبّر لا بحركة ، مريد لا بمهامة ، شاء لا بهمّة ـ إلى
قوله ع : ـ لا تصحبه الأوقات ولا تضمنه الأماكن. ـ ثم قوله : شاهدة ـ يعنى الأشياء
ـ بغرائزها ـ أن لا غريزة لمغرّزها ، دالّة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها ، مخبرة
بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها
غيرها. ـ إلى قوله : ـ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق. ـ ثمّ إلى قوله : ـ ولا
تجرى عليه الحركة والسكون» ، (التوحيد ، ص ٣٦).
إلى آخر ما ساق
إليه القول ، صلوات الله وملائكة عليه. فتلك كلمات تامّات ونظائرهنّ في أقوالهم ،
صلّى الله على ارواحهم واجسادهم ، كثيرة غير يسيرة».
تعقيب
(١٥ ـ نظام الكلّ ونظر الطوائف في الحدوث)
يا ليتنى كنت أشعر
أنّ الزّمنيّين الذين هم عن ثبات متن الدّهر لا هون ، وبتغيّرات أفق التّصرّم
والتّجدّد ملتهون ، كيف يحلّ لهم أن يصطلحوا على النّظام الجملىّ ويقنّنوا على
احتذاء الكرام المقنّنين أنّ المطلق العامّ من العقود وإن كان حكم العقد على
الموضوعات الزّمنيّة لا يكون صدقه متحيّنا شيئا من الأحايين بل يكون إمّا دائم
الصدق وإمّا دائم الكذب ، لا غير ، ويقتاسوا بالحكماء القدّيسين في حكمهم : أنّ
نظام الكلّ حاصل بالفعل ، فائض عن الصّنع ، بريئا عن الشّر ، نقيّا من السّوء ،
على أبلغ الوجوه في انتظام الخير. أليس لا يعقل لغير القارّات كلّ موجود بالفعل في
وعاء التّعاقب وظرف اللّاقرار. فمصير نظام الكلّ عند ظنونهم إلى المذهون في الوهم
، لا إلى الموجود في الأعيان. وبالجملة ، نظام الكلّ على حسباناتهم فاسد كائن ، بل
متصرّم متجدّد متحرك فى التّصرّم والسّكون على الاتصال أبدا.
الرّشح الثّاني
في تحقيقات وتفصّيات يستتمّ بها إسباغ الفحص وإشباع النظر في ما كنّا بسبيله
خلسة ملكوتية
(١ ـ موضوع التغيّر مستوجب للامتداد وصدور الحوادث)
التّغيّر هو أن
يصدق عقد مطلقين عامّين معا على الموضوع بثبوت صفة ما وسلبها له وعنه فى حاقّ نفس
الأمر أو بعروض فردين من طبيعة ما والطّباع المشترك له على التجدّد والتّلاحق ،
فيكون المتجدّد له بالقوّة ولا يصير هو موضوعا له إلّا بانفعال مادّته لحصول
استعداد يطرأ على جوهرها ويحدث في ذاتها.
وبالجملة ، إنّ []
التّغيّر ما هو المستوجب للامتداد ، وما ليس فى شبكة الهيولى وشركة الطبيعة وفى
سجن الجهات والأبعاد لا يكون موضوعا للتّغير أصلا ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا
في لوازم ذاته وصفاته ، ولا فى الإضافات العارضة لذاته من جهة ما هي عارضة لذاته ،
ولا في الأمور المتغيّرة بحسب أنفسها [ومقيسا] بعضها إلى بعض إذا أخذت مقيسة إلى
ذاته بالصّدور عنه والحضور عنده والمثول بين يدى علمه وقدرته.
ترشيح
(٢ ـ وجود المبدع الحقّ وجعل العالم وإفاضة الخير)
كلّ ما تعرضه صفة
أو طبيعة ما على سبيل التّجدّد والتّلاحق بأن يتقرّر فيه منها فرد ففرد ، فإنّه
يكون هيولانيّا بتّة ، ضرورة أنّ تلاحق الأفراد المتقرّرة فيه إنّما يكون بتلاحق
الاستعدادات القائمة بمادّته ، وعروض تلك الأفراد ، لا معا ، بل على التّلاحق ، هو
تبدّل للموضوع وتغيّر له بحسب تلك الصّفة أو تلك الطبيعة ، وحدوث للفرد المتجدّد
منها فيه ، ولا يكاد يكون ذلك لا محالة إلّا بحدوث استعداد لمادّته.
فإذن ، ما لا
يعتريه علق المادّة وغواشيها يمتنع أن تعرضه أفراد طبيعة ما على
التجدّد والتلاحق
، وكذلك الطبيعتان المتباينتان ، ولا يصحّ بالنّسبة إليه كمال يفقده ويرتقبه، لا
من فرائض جوهر الحقيقة ، ولا من نوافل الهويّة والإنيّة. فالمفارقات المحضة جملة
فرائضها ونوافلها بالفعل في الفطرة الأولى ، وليس لها كمال منتظر مسلوك إليه وصفة
مرتقبة معوق عنها أصلا.
وأمّا مبدعها
الحقّ ، تعالى عزّه ، فأقدس وأجلّ من أن ينقاس في مجده ويقاس بغيره. فهو من جميع
الجهات والحيثيّات تقرّر بلا ليس ، ووجود بلا عدم ، وفعل بلا قوّة ، ووجوب بلا
جواز ، وحقيّة بلا بطلان ، وحياة بلا موت ، وتمام بلا نقص ، ودوام بلا تجدّد ،
وبقاء بلا تغيّر ، ووجود بلا تعطيل ، وفضل بلا تأجيل ، فكيف يصحّ أن يتوهّم في
حقّه أن يكون موضوعا لتغيّر وتجدّد ومحلا لحادث ومتجدّد ، تعالى الله عن ذلك علوّا
كبيرا.
وأمّا جعل العالم
وإخراج الإبداعيّات والتّكوينيّات جميعا من كتم اللّيس الصّرف المطلق ومن العدم
الباتّ الصّريح فليس من جهة تغيّر في الذات واستحالة من حال إلى حال وطرأ منّة
وسنوح همّة ، بل إفاضة الخير على الاطلاق من تلقاء نفس الجواد المطلق الجائد بفضله
ورحمته على سياق علمه وطباع حكمته ، وعدم تسرمد الخيرات المجعولة من جهة سنخ جوهر
الماهيّة الجوازيّة من قبل طباع الجواز ، لا غير.
تفصية
(٣ ـ الحوادث الدهريّة والحوادث الكونيّة الزمنيّة ونظام الخير)
لا يجتذبنّ سرّك
ما أورده رئيس مشّائيّة الإسلاميّين في «التعليقات» ، (ص ١٧٦): أنّ «المعدوم على
الإطلاق لا قوّة فيه يقبل بها الوجود من موجده ، فلا يوجد البتة، وليس كذلك الممكن
، فإنّ فيه قوّة ، فلذلك يوجد. ولولاها لما كان يوجد» ؛
فيزعجك إذن : أنّ
ما لا يكون هو موجودا ولا مادّته لا يقبل الصّدور عن الجاعل ، إذ المعدوم المطلق
ليس له أن يقبل الفيض ، فكيف يتصحح حدوث الجائزات بزمرها وجملها في الدّهر ، وهي
معدومة على الإطلاق ، وما قابل الجعل والتّأثير في العدم المطلق. أما تحققت ممّا
بسطنا لك تحقيقه في كتبنا وصحفنا : أنّ الشّيء إنّما يقبل الوجود من موجده حين هو
موجود ، لا حين هو معدوم ، سواء في ذلك حادث الوجود وسرمديّ التقرّر.
فإذن ، الحوادث
الدّهريّة على الإطلاق الاستغراقىّ ، سواء كانت حادثات زمانيّة أو قديمات زمانيّة أو
خارجة رأسا عن الدّخول في جنس القدم والحدوث الزّمانيّين ، لها بحسب الجواز
الذاتىّ قوّة الصّدور حال التّقرّر وحين الوجود ، لا إذا كانت معدومة في الدّهر
على الإطلاق.
وأمّا الحوادث
الكونيّة الزّمنيّة ، فإنّ لها من حيث سبق المعنى الآخر الذي يسمّى الجواز الاستعداديّ
قوّة الصّدور قبل الوجود ، بحسب حال مادّتها الحاملة لا مكانها المتحرّكة في
الكيفيّات الاستعداديّة ، وليس يستوجب سبق قوّة القبول بحسب الجواز الذي بمعنى
الاستعداد إلّا الحدوث الزّمانىّ ، فإذن العدم على الإطلاق إنّما يصادم التكوين
دون الإبداع والاختراع.
فأمّا أنّه كيف
يتصحح فى العدم الباتّ المطلق أن يتخصّص شيء ما باستحقاق الصّدور ، فتصحيحه أنّ
ظهور الجاعل التّامّ وحضوره بما هو جاعل تامّ ـ لست أعنى بذلك لحاظ هذه الحيثيّة ،
بل إنّما أعنى أنّ ظهوره من كنه الحيثيّة التي منها منه يصدر وعليها يترتب المجعول
لا محالة ـ هو بعينه ظهور المجعول وحضوره ، وهو أقوى في إفادة انكشاف المجعول من
حضور المجعول بنفسه فضلا عن حضور صورته الظّليّة.
واذ من المستبين
سبيله أنّ القيّوم الحقّ ، جلّ ذكره ، بنفس ذاته جاعل تامّ لنظام الخير في الوجود
كلّه ، وهو بكنه ذاته بحيث يفيض عنه الخير ويترتب عليه النظام الجملىّ من البدء
إلى ساقه. فإذ هو سبحانه يعلم كنه ذاته أتمّ العلوم وأقواها ، فهو من نفس عقله
ذاته يعقل نظام الخير في عوالم الجواز من بدء التجوهر إلى ساقته ومن أوّل الوجود
إلى أقصاه. وهو ، سبحانه ، بنفس ذاته ومن حيث كنه حقيقته واسع عظيم وبكلّ شيء محيط
عليم ، وسواء بالقياس إلى إحاطة علمه التّامّ الأشياء قبل الوجود وحال الوجود ، إذ
ليس هو يستفيد من وجودها علما جديدا ، وكذلك المبصرات بالقياس إلى بصره ،
والمسموعات بالقياس إلى سمعه ؛ وسمعه وبصره هما نفس ذاته وبحت حقيقته ، لا أمر
وراء حقيقته مزيد على مرتبة ذاته.
فإذ هو ، جلّ مجده
، يعقل من نفس ذاته وجه سياق الفضل وإسباغ الفيض وإتمام الرّحمة في عوالم التقرّر
بجملتها وكيفيّة نظام الخير في الوجود كلّه أشدّ التعقّلات و
أسبغها يتعيّن
الكلّ بخصوصيّة الكليّة وبشخصيّته الجمليّة لا محالة بالصّدور والفيضان عنه ،
فيجعل النّظام الجملىّ برحمته ويفعله ويفيضه من البدء إلى السّاقة بجوده وحكمته.
فسبحان الواسع العليم الخلّاق الحكيم ، بيده ملكوت كلّ شيء ، وإليه رجوع كلّ شيء ،
وهو بكلّ شيء بصير.
شكّ وتحقيق
(٤ ـ الزمان والحركة والبحث فيهما)
إنّ لرهط من هؤلاء
المتهوّسة الذين كادوا يطئون أرض الإشراك ، ومنهم رئيس مشّائية الإسلام في كتاب «المبدأ
والمعاد» ، (ص ٤٥) سبيلا في التّشكيك ، «هو أنّ الإن إنّما يوجد بوجود الطرف ، لا
يكون يدخل في الوجود إلّا وما هو طرف له داخل في الوجود لا محالة ، لأنّ أحد
المتضائفين إذا وجد بالفعل فيجب أن يكون الآخر قد وجد لا محالة. ومن البيّن أنّ
الآن وجوده الطرف ، وكذلك نهايات المقادير جميعا. وليس يكون شيء ممّا الآن طرف له
موجود إلّا الزّمان الماضى ، إذ المستقبل لم يوجد بعد.
فإذن إنّما ذو
الآن الطرف في جهة النّهاية هو الزّمان الماضى لا غير ، وليس هو مفصول الاتصال في
جهة البداية بآن أصلا. ولا يشبه الآن النّقطة في أنّها قد تفصل ، إذ يكون ما هي
طرف له وهي فاصلة موجودا ، بخلاف ما الآن طرف له وهو مستقبل.
وأمّا الحركة ،
فإنّها وإن انفصلت بطرف لا يتصل بحركة قبلها فالسبب في ذلك : أنّ الحركة ليست
بذاتها كما ، بل هي متكمّمة إمّا بالمسافة وإمّا بالزّمان ، وفطرفها في تكمّمها
إمّا من الزّمان فيكون هو بالذات طرفا للزّمان الماضى وقد صحّ به وجوده ، وإمّا من
المكان فيكون طرفا للمسافة الصّحيحة الوجود. وبعد هذا فإنّ مبدأ الحركة من أحد
الأمرين هو نهاية السكون.»
فإذن ، قد تمّ أنّ
الزّمان لا يكون حادثا ، وكذلك الحركة التي هي محلّها ، وكلّ آن فإنّه لا محالة
بعد قبل وقبل بعد ، فهو حدّ مشترك بين أمرين يلزمه كلاهما دائما.
فهذا مرقاة بذل
مجهودهم في التّغليظ والتّعضيل ، وذلك مبلغهم من العلم وميقات عقولهم من التّحصيل
في هذه المسألة. والفحص البالغ يحقق ويقضى أنّه إن ريم أنّ المستقبل لم يوجد في
الآن الطرف ، فكذلك الماضى لم يوجد ولا يعقل أن
يوجد فيه أصلا ؛
وإن ريم أنّه في نفسه غير مقيس إلى الآن غير موجود في الواقع وبخلاف الماضى فهو
شطط عن الحدّ ، والفرق تعسّف على الحقّ.
وإنّما الّذي
استصحّته العقول الصّريحة واستحقّته الحكمة الحقّة الصّحيحة : هو أنّ الماضيات
بالذّات والمستقبلات بالذّات ليست إلّا الأجزاء الوهميّة المأخوذة من موجود واحد
هو الكم المتّصل الغير القارّ بالذّات الموجود على امتداده الاتّصالىّ في الدّهر
شيئا وحدانيّا صالحا للانحلال في الوهم إلى ممتدّات هي الماضيات والمستقبلات
بالذّات.
ثمّ إنّ المضىّ
والاستقبال يختلفان باختلاف المقيس إليه من الزّمنيّات فربّ مستقبل بالقياس إلى
زمنىّ ما ، هو ماض بالقياس إلى زمنىّ آخر وبالعكس ، والآن لا يصحّ له وجود بالفعل
إلّا في الوهم ، فلا يكون يوجد وجود فاصل أصلا. بل إنّما وجوده وجود واصل بين ماض
ومستقبل أبدا. ولكن ذلك ليس يصادم كون الزّمان حادث الوجود من بعد عدمه الدّهرى. أفلسنا
قد تلونا عليك أنّ الحدوث الدّهريّ ليس مبدأ استيجاب الآن أصلا ، بل الحدوث
الزّمانىّ أيضا إلّا في الدّفعيّات الحصول.
وإن سألت عن الحقّ
الصّريح ، فإنّ تناهي الزّمان بحسب مقداريّته في جهة الأزل ليس على ما يستوجب طرفا
له بالفعل يكون من عنده البداية ، فضلا عن حدوثه الدّهريّ.
تذكرة
(٥ ـ نهايات المقادير من الوضع لا من جهة المقداريّة)
يا قوم ، قد
أبلغتكم ، في صحفى من قبل ، أنّ أطراف المقادير نهايات لها من جهة الوضع ، لا من
جهة المقداريّة ، ولذلك لا يكون لمتناهي الكميّة في المساحة إذا كان غير متناهي
الوضع طرف ؛ وإنّه فرق ما بين انتفاء المقدار وانتهائه إلى حدّ ، وأنّه إنّما عدم
المقدار في الانتهاء انتفاء تماديه عند الحدّ ، لا انتفاء ذاته رأسا ، وأنّ طرف
المقدار المتناهى الامتداد يكون فى جهة امتداده أبدا ، بحيث لو توهّم تماديه
منبسطا عاد الطّرف الفاصل حدّا واصلا ، وأنّ حدوث الحركة لا يتحدّد بآن ، وإنّما
الآن نهاية زمان السّكون إذا كان هناك سكون قبل الحركة ، وأنّ في حدوث الزّمان والحركة
الّتي هي محلّه وتناهيهما بحسب الكميّة في جهة الأزل ليس يتصوّر شيء من ذلك كلّه ،
فهل أنتم متبصّرون.
خلسة ملكوتيّة
(٦ ـ أنواع اللزوم والتلازم بين اللازم والملزوم)
لا يحتجبنّ من
خبرك أنّ لزوم شيء لشيء ربما يكون بحسب نفس خصوصيّتى الحاشيتين بذاتيهما ، كما
لزوم الزّوجيّة للأربعة ؛ وربما يكون لا بحسب نفس جوهرى الحاشيتين ، بل على تباعة
لزوم آخر متوسّط ومن حيث سطة لازم آخر متأصّل ، كما لزوم الزّوجيّة للأربعة لها ،
فإنّه ليس من تلقاء ذوات الأربعة نفسها ، بل من تلقاء امتناع افتراقها عن
الزّوجيّة واستلزام ذلك امتناع الافتراق عن لزومها أيضا ، حتّى لو وسعت منّتها
احتفاظ لزوم الزّوجيّة مع إمكان الافتراق عن لزوم اللزوم كانت ، ذاتها في منتدح عن
اقتضاء لزوم اللّزوم. وكذلك الأمر في لزوم لزوم اللزوم ولزوم لزوم لزوم اللّزوم ،
وهلمّ جرّا ، لا إلى نهاية ، فإنّ القول فيها مصبوب في هذا القالب.
ثمّ اعملنّ أنّ
التّلازم الأصيل بين الملزوم ولازمه الأولىّ المتأصّل ملزوم التّلازم بين نقيضيهما
على الانعكاس لا محالة. وأمّا التّلازم التّباعىّ بالقياس إلى اللّازم على
التّباعة في الدّرجة الأخيرة ، فربّما لا يقتضي الانعكاس بين النّقيضين ، وذلك إذا
كان نقيض اللازم برفع أصل التّلازم المتأصّل بين العينين.
أليس إنّما انعكاس
التّلازم بين النّقيضين على تقدير بقاء التّلازم بين العينين ، فتلازم الأربعة
ولزوم الزّوجيّة لها مثلا ليس يقتضي التلازم بين نقيضيهما ، كما تلازم الأربعة
والزّوجيّة يقضى ذلك ، إذ نقيض اللّازم ، وهو عدم لزوم الزّوجيّة للأربعة ، في
قوّة بطلان أصل الملازمة بين الأربعة والزّوجيّة. فلا محالة تبطل الملازمة الأولى
المتأصّلة ، فليس ينحفظ نقيض اللّازم نقيضا للازم ، ولا نقيض الملزوم نقيضا
للملزوم حتّى يستحقّ بينهما تلازمه.
فإذن قد استبان
أنّ عدم لزوم الزّوجيّة للأربعة ، ليس يستوجب عدم الأربعة ؛ بخلاف عدم الزّوجيّة ،
فإنّه يستوجب عدم الأربعة بتّة.
تنوير
(٧ ـ معنى ملزوم الزّوجيّة ونسبته لنفس الأربعة مثلا)
إنّه إمّا ملزوم
الزّوجيّة ، مثلا ، وهي اللّازم على الأصالة ، نفس الأربعة. وإمّا ملزوم لزومها
لها ، وهو اللازم على التباعة ، فليس هو نفسها ، بل إنّما هو ملزوميّتها للزوجيّة.
فإذن عدمه إنّما يستلزم عدم تلك الملزوميّة ، لا عدم نفس الأربعة.
إزاحة إعضال
(٨ ـ الملازمة وقدم العالم والدوام الدهرىّ)
هل بلغك تعضيل
المغالطين : أنّه كلّ ما لم يكن وجوده مستلزما رفع واقعىّ ما ، كان لا محالة
موجودا دائما دواما دهريّا. إذ لو صحّ له في نفس الأمر عدم ما دهرىّ ، كان وجوده
مستلزما بطلان ذلك العدم الواقعىّ ، وارتفاعه عن وعاء الوجود الذي هو الدّهر بتّة
؛ وإلّا احتشد النّقيضان في كبد الواقع ، فكان ينخرق الغرض ، لكن كلّ جائز الذات
فإنّ وجوده غير مستلزم ارتفاع واقعىّ ما أصلا ، إذ لو كان مستلزما إيّاه كان
مستلزما لذلك الاستلزام أيضا. فكان وجوده ملزوما واستلزام ذلك الارتفاع لازما. وقد
اقترّ في مقرّه ، في العلم الذي هو مكيال العلوم وميزان الأنظار ، أنّ الملازمة
بين العينين واجبة الانعكاس بين النّقيضين ، فيلزم أن يكون عدم استلزامه ارتفاع
واقعىّ ما مستلزما لعدمه ، وقد كان تأصّل بالتّمهيد وتصحّح بالفحص أنّ ذلك مستلزم
لوجوده دائما. هذا خلف.
فإذن يستبين أنّ
كلّ ما هو جائز الذات فإنّه يكون متحقق الوجود بالفعل ، لا من بعد عدم دهريّ بل
على الدّوام الدّهريّ ، فيلزم قدم العالم بجميع أجزائه قدما دهريّا ، وهو خلاف ما
انعقد عليه إجماع العقلاء كافّة. فتلك داهية من دواهي العقد الّتي قد أعقمت
الأنظار وأعيت القرائح.
وكأنّك الآن قد
فككت العقدة بما علّمناك وأبصرت السّبيل بما بصّرناك ، إذ دريت أنّ عدم الاستلزام
لارتفاع واقعىّ ما ليس يستلزم عدم الملزوم الأصل ، لأنّه في قوّة عدم انحفاظ
الملازمة المتأصّلة ، بل إنّما يلزمه أن يستلزم عدم ما هو الملزوم لذلك الاستلزام
على الحقيقة ، وهو ملزوميّة الملزوم الأصل لذلك الارتفاع ، لا نفس الملزوم الأصل بجوهره.
فهذا محزّ طور الفحص ومحطّ رحل الحقّ ، فخذ ما آتيناك وكن من الشاكرين.
تذنيب
(٩ ـ العلاقة والاستلزام وجائز الذات الحادث)
ربّما يسبق إلى
الوهم في سبيل الفصية ، تارة ، أنّ ما أصّله التّمهيد ليس إلّا أنّ عدم الاستلزام
لرفع واقعىّ ما رأسا من بدو الأمر مستلزم للوجود دائما. وما ألزمته القعدة
المغالطية ، بناء على المقترّ مقرّه ، هو أنّ عدم ذلك الاستلزام من بعد تحقّقه
وعلى فرض فعليّته مستلزم للعدم. وشتّان ما بينهما ؛ وتارة ، أنّ عدم استلزام وجود
ما هو جائز الذات لرفع واقعىّ ما محال. فساغ أن يستلزم على تقدير تحقّقه عدم ذلك
الجائز ، وإن كان ذلك الاستلزام أيضا من المستحيلات ، إذ من المسوّغ أن يستلزم
محال في تحقّقه محالا آخر.
ويفضح الأوّل :
أنّ المقترّ مقرّه هو أنّ عدم ما هو مفروض اللّازميّة رأسا من بدو الأمر مستلزم
عدم ما هو المفروض الملزوميّة رأسا من بدو الأمر بتّة ، كما عدمه من بعد تحقّقه
مستلزم عدمه من بعد تحقّقه. فإذا كان هناك ذلك الاستلزام مقدّر اللزوم مفروض
اللّازميّة ، كان لا محالة عدمه رأسا من بدو الأمر مستلزما للعدم ، وقد كان تأصّل
بالتّمهيد أنّ ذلك مستلزم للوجود دائما.
والثّاني : أنّ
تسويغ استلزام المحال محالا آخر من الاعتراضات اللّانسلميّة المجيئة ومن اللم لا
يكونيّات الخسيسة الجدليّة ، فمن الذاتيات المقبولة أنّه لا يسوّغ ذلك إلّا إذا لم
يكن بين ذينك المحالين تناف عند العقل ، وقد حقّقنا في «الأفق المبين» : أنّ مجرّد
انتفاء المنافاة ليس يتصحح به الاستلزام ، بل لا بدّ من علاقة عقليّة تصحّح
الملازمة ، وليس يعقل فرق بين المحال والممكن في الاستلزام بعلاقة عقليّة طبيعيّة
وعدمه بعدمها. وكما أنّ تحقّق الاستلزام بالفعل لا يكون إلّا بتحقّق العلاقة
الطبيعيّة بالإمكان فكذلك الاستلزام بالإمكان لا يكون إلّا بتحقّق العلاقة
الطبيعيّة بالإمكان.
خلسة ملكوتيّة
(١٠ ـ الحركة ثباتها مستندة إلى الجاعل السرمدىّ)
لعلّك تكون ـ بما
انصرح لك : أنّ الموجود الغير القارّ في أفق التقضّى والتجدّد متحقق بالفعل
بوحدانيّته الاتّصاليّة في الدّهر الذي هو متن الواقع ، وغير مختلف الأجزاء
بالمضىّ والاستقبال بالنّسبة إلى الثابت الحقّ ، والثابت الحقّ يشاهد
المضيّات
والاستقبالات بينها مقيسة عضون منها إلى عضين ـ قد استشعرت تصحيح استناد المتغيّر
الغير القارّ إلى الثّابت القارّ وتنظيم الحدوث الزّمانىّ بالحركة الدّوريّة
وتوسيط الحركة المتصلة الدّوريّة بين القديم الحقّ والحوادث الزّمانيّة.
فالحركة ذات جهتين
: ثبات واتّصال في الدّهر وتصرّم وتجدّد في أفق التقضّى والتجدّد. فهى بثباتها
الاتّصالىّ الدّهريّ وبهويّتها المتّصلة الوحدانيّة مستندة إلى الجاعل السّرمديّ
الحقّ المخرج إيّاها من كتم العدم الصّريح إلى متن الواقع مرّة واحدة ،
وبتصرّماتها وتجدّداتها التي هي من تلقاء جوهرها ـ إذ هي بطباع جوهرها مقدارها
الزّمان ، وهو بنفس حقيقته متقضّ متجدد بالقياس إلى آن موهوم فيه ـ معدّة لوجود
الحوادث الزّمانيّة على حسب استعدادات متواردة على المادّة القابلة ، ونائطة
ايّاها بأزمنة محدودة وآنات مخصوصة، وكلّ شطر علّة معدّة أيضا لوجود شطر آخر.
فإذن ، لا حدوث في
أفق التّغيّر ، أعني الزّمان ، لو لا الحركة. وأمّا الزّمان فإنّما قسطه من
المدخليّة في نظام الحدوث الظرفيّة بالقياس إلى الحوادث دون الإعداد والسّببيّة. وكذلك
ليس لشطر منه الإعداد بالقياس إلى شطر آخر ، بل إنّما طباعىّ هويّات أجزائه
التّعاقب في الحصول والتّصادم في الاجتماع بالقياس إلى العوالم الزّمانيّة وحدودها
، كما الأمكنة بطباع هويّاتها مصطدمة في الاجتماع بالقياس إلى حدود العوالم
المكانية. فلذلك التّقدّم والتّأخّر هناك بالزّمان ، كما هنالك بالمكان ؛ لا
بالطّبع ، كما حسبه صاحب «حكمة الاشراق» و «المطارحات» ، وتبعه على ذلك ثلّة من
مقلّديه.
ترشيح
(١١ ـ الحركة القطعيّة والتوسّطيّة معدّة للحوادث الزمانيّة)
إنّ نظم الحدوث
الزّمانىّ على ذلك الأسلوب ليس ممّا لم ينتظم إلّا في تسواء الحكمة النّضيجة ، بل
إنّ رؤساء الفلسفة النّيّة وأئمّة المتهوّسين بتسرمد الإبداعيّات قد وردوا على هذا
المنهل ونسجوا على هذا المنوال إذ نهضوا للفصل ، فقالوا : الحركة الدّوريّة ذات
جهتين ، الاستمرار والتّجدّد ، فإنّها ثابتة متجدّدة ، ثابتة التجدّد ، متجدّدة الثّبوت.
فبحسب الجهتين صلحت للتوسّط بين جانبى القدم والحدوث. فمن جهة الاستمرار صدرت عن
القديم واستغنت عن علّة حادثة ، ومن جهة
التجدّد صارت
مستند الحوادث وواسطة في صدورها عن القديم.
وليس يتخصص الأمر
بالحركة التوسّطيّة أو القطعيّة ، بل الحركتان القطعيّة والتّوسّطيّة سبيلهما من
جهة الاتّصال المتقدّر الغير القارّ واحد ، لكنّه في الحركة القطعيّة بحسب ما لها
من الأجزاء والأبعاض المنحلّة هي في حدّ هويّتها إليها ، وفي الحركة التّوسّطيّة
بحسب ما يكتنف حصولها ويلزم طباعها من النّسب المختلفة الغير المستقرّة إلى حدود ما
فيه الحركة ، إذ هي بحقيقتها مستمرّة الذات الشّخصيّة ، سيّالة النّسبة المتقدّرة.
ولا تزعمنّ أنّه
يعود عليهم السّؤال عن علّتها من جهة الحدوث والتجدّد ، إذ كلّ متجدّد فله في
تجدّده لا محالة علّة متجدّدة ، كما ظنّه الشّيخ الغزالىّ ومن اقتاس به ؛ أو عن
علّة عدمها الطّارئ من بعد التجدّد الموقوف عليه وجود المعلول الحادث ، إذ الحادث
الزّمانىّ يتوقّف لا محالة على وجود المعدّ وعدمه الطّارئ جميعا ، كما توهّمه بعض
متأخّرة المقلّدين. أليسوا قد جبّوا عرق الوهم في ذلك كلّه ، بقولهم المحصّل
المقشوّ. وهو أنّ المتجدّد المفتاق إلى علّة متجدّدة ليس إلّا الماهيّة الّتي عرض
لها التجدّد من حيث هي معروضة.
فأمّا الحركة ،
فإنّما حقيقة متجدديّتها أنّ ماهيّتها هي الحدوث والتّجدّد ، لا أنّها شيء عرض له
أن يكون متجدّدا. وإذ حقيقتها نفس التّجدّد فإذا كانت دائمة الوجود دواما دهريّا
لم تكن مفتاقة إلّا إلى علّة دائمة وكذلك إذا كانت حادثة في الدّهر من حيث هى
حادثة في الدّهر من بعد العدم الصّريح ، على ما عرّفناك من قبل. وأمّا إذا كانت
حادثة في الزّمان من بعد العدم المستمرّ فليس لها محيد عن علّة حادثة متجدّدة.
وبالجملة ، العقل
الصّراح ليس يقضى بوجوب حدوث العلّة إلّا للمعلول المتجدّد ، أمّا المعلول الذي هو
في حدّ نفسه ماهيّة التجدّد والتغيّر فلا يستوجب عند العقل ذلك ، إلّا إذا عرض له
تجدّد وتغيّر يزيدان على جوهر ذاته ، كالحركة الحادثة حدوثا زمانيّا بعد أن لم يكن
بعديّة زمانيّة ، والحركة الحادثة المستديرة الفلكيّة المتّصلة المستمرّة ليست على
تلك الشّاكلة.
فإذن هي غير
مستندة إلّا إلى علّة دائمة سرمديّة وسواء عليها في ذلك أكانت سرمديّة الوجود فى
الدّهر أم غير حادثة إلّا حدوثا دهريّا. وليس إذا كان المعلول
حادثا بالزّمان
يجب أن يكون حدوث علّة ما من علله حدوثا زائدا على جوهر ذات تلك العلّة. فإذن كلّ
متغيّر فإنّه لا محالة ينتهى إلى ماهيّة دائمة ، أى غير حادثة بالزّمان هي نفس
التّغيّر.
ولو لا أنّ في
الأسباب ما يعدم بذاته ، ينصرم انصراما زمانيّا ، لما صحّ لحادث ما زمانىّ وجود في
أفق الزّمان ولا عدم طار بعد الوجود. وذلك المنصرم بذاته هو الحركة الّتي لذاتها
حقيقتها تفوت وتلحق. ومثل هذه الاسباب تكون أسبابا بالعرض ، فإنّها لا تفيد الوجود
بل إنّما تفيده هذا الصّفة ، أعنى تخصّص الحدوث بحدّ ما بعينه من حدود الزّمان.
فصّ
(١٢ ـ الحدوث الذاتىّ والدّهريّ والزّمانىّ وملك الامكان)
فإذن إنّما ملاك
الحدوث الذاتىّ والحدوث الدّهريّ طباع الجواز بالذّات ، وأمّا الحدوث الزّمانىّ
فملاكه الجواز الذي هو بمعنى الاستعداد. فكلّ حادث ذاتيّ هو متصحح الفيضان عن
الجاعل بجوازه الذاتىّ ، فإنّ له الحدوث الدّهريّ لا غير. وكلّ ما ليس له ذلك التّصحّح
بمجرّد الجواز بالذّات بل هو مرهون الوجود بالجواز الاستعداديّ ، فإنّه مع ذينك
الحدوثين حادث زمانىّ أيضا ، وأن بين عوالم التّقرّر بأسرها تساوقا وتطابقا ، أعني
اتّساقا طبيعيّا وارتباطا لزوميّا ، به يتصحح أنّ يتحصّل من جملتها نظام وحدانىّ
في الوجود مستند إلى الجاعل الحقّ بالصّدور عنه أبدا مرّة واحدة.
فعالم الملك على
الإطلاق ، بما فيه من امتزاج النّسب الهيولانيّة واعتناق الهيئات الجرمانيّة
بخصوصيّات الأقدار والكيفيّات والأوضاع والإضافات ، كظلّ لعوالم الحمد في الاستناد
إلى وجود الجاعل الحقّ ورحمته ، بما فيها من امتزاجات نسب الإشراقات العقليّة
واعتلاقات عكوس الأشعّة القدسيّة والازدواجات البهيّة الملكوتيّة بين ابتهاجات
الملائكة النّوريّة.
ثمّ عالم الطبائع
الأربع الأسطقسيّة بما في أقطاره وآفاقه وأقطاعه وأرباعه من النّسب الممتزجة
والهيئات المزدوجة بحسب أطوار الصّور والكمالات والكميّات والكيفيّات والأوضاع
والإضافات ، كمؤتمّ بعوالم الطبيعة الخامسة الفلكيّة بما
يسنح فيها من نسب
الحركات الشّريفة المستديرة وإضافات الأوضاع المعجبة البهيجة. وطباع ما بالقوّة
إنّما يقوم هاهنا بذات الهيولى الواحدة بالشّخص المبهمة في وحدتها الشّخصيّة ،
وهنالك بطبيعة الحركة المستديرة.
فنفس ذات الهيولى
المبهمة الشّخصيّة هنا مثال الحركة المستديرة هناك ، والحوادث المتواردة عليها هنا
من الكمالات والصّور والأعراض أمثلة الأوضاع الخارجة من القوّة إلى الفعل هناك.
فإذن الحدوث الزّمانىّ تدور رحاه على الهيولى القابلة والحركة المستديرة الحاملتين
لطبيعة ما بالقوّة بإذن الله تعالى.
تصريح تشريقىّ
(١٣ ـ الحركة في الأسطقسات والأفلاك والنفوس العقليّة)
لعلّك تكون قد
تحدّست ، ثنى ما تلى عليك ، أنّ لهيولى عالم الأسطقسات حركة في الكيفيّة
الاستعداديّة ، ولأجرام الأفلاك حركة وضعيّة في الأوضاع ، ولنفوسها العقليّة حركة
شوقيّة إشراقيّة في الأشواق والإشراقات الّتي تأتيها من الأفق النّوريّ الأقصى
والصّقع القدسىّ الأعلى.
أما تعتبر بالنّفس
العاقلة الإنسانيّة المتطهّرة من أقذار الطبيعة كيف إذا ما نالت بوارق قدسيّة
اهتزّت في جوهرها ، فانبعث من ذلك حركات تصفيقيّة في الجسد ، ثمّ الحركات الجسديّة
تتأدى إلى بارقات إلهيّة تارة أخرى ، كما لحركات العبادات الّتي قد سنّها القانون
الإلهيّ يستعدّ الإنسان للشوارق القدسيّة؟
فكذلك النّفس
الفلكيّة تنفعل بلذّات قدسيّة لإشراقات عقليّة تصطادها من صقع النّور ، فينفعل
بدنها ، وهو الجرم الفلكىّ ، وتنبعث عن ذلك فيه حركات دوريّة على مناسبة تلك
الإشراقات النّوريّة ، وتتهيّأ بكلّ حركة لإشراق آخر ، فلا ينقطع عنها شروق أنوار
الله تعالى ، المتلألئة ، ولا تنجّذ في حقّها أمداد اللّطائف الإلهيّة والبارقات المتلامعة
القدسيّة ، فيتبعها رشح الخير في عالم الطبائع الأسطقسيّة.
فإذن حركات
الأفلاك كأنّها عبادات فلكيّة ومناسك ملكيّة ولا يزال يدوم هناك تجدّد الشّروقات
من أفق عالم القدس بتجدّد الحركات ، وتجدّد الحركات بتجدّد الشّروقات. كما قد قيل
: «إذا تغيّبت بدا ، وإن بدا غيّبنى». فكلّ حركة منبعثة عن
إشراق هي غير
الحركة التي كانت معدّة لذلك الإشراق بالعدد. واعداد الحركات والإشراقات يضبطها
عشق مستمرّ غير مبتوت وشوق سيّال غير مجذوذ.
والقول الفصل :
أنّ هناك إشراقا وحدانيّا متجدّدا مستمرّا تنبعث عنه حركة وحدانيّة مستمرّة للنفس
الفلكيّة في الكيفيّات الإشراقيّة ، وأخرى كذلك لبدنها ، وهو جرم الفلك فى الأوضاع
، وتأتمّ بهما هيولى العالم الأسطقسىّ في حركتها الوحدانيّة المستمرّة
الاستعداديّة. فإن اعتبرت تلك الحركات بوحدانيّاتها ، كان التّرتّب بين
النّفسانيّة والجرمانيّة والهيولانيّة ؛ وإن فرضت في كلّ واحدة منها أجزاء وقيست
الأجزاء إلى الأجزاء ، كان كلّ جزء عاقب مترتبا على الجزء الدارج.
ذنابة
(١٤ ـ الإرادة الجزئيّة والحركة الجزئيّة والنسبة بينهما)
وعلى ذلك المرتع
ايتمام الأمر في كلّ حركة جزئيّة إراديّة. ومن المستبينات : أنّ الرّأى الكلّىّ أو
المرسل لا ينبعث عنه شوق جزئيّ بخصوصه ، ولا يصدر عنه شيء شخصىّ بعينه، إلّا أن
يكون الشّيء ممّا مقتضى طباعه أن يكون نوعه في شخصه ، على ما ظنّه التلميذ في «التحصيل».
ولكن ليس يستصحّه سابغ النّظر وبالغ الفحص ، والتّصوّر الكلّىّ والمرسل بالقياس
إلى قاطبة الجزئيّات والشّخصيّات على نسبة واحدة ، وكلّ شطر من الحركة بالقياس إلى
الإرادة الكليّة أو المرسلة في نسبة واحدة ، فليس يجب أن يتعيّن بها هذه الحركة
دون تلك.
فإذن ليس بدّ هناك
من إرادة جزئيّة ، فتحققن أنّه كما الإرادة الجزئيّة سبب حدوث حركة جزئيّة ، فتلك
الحركة أيضا سبب حدوث إرادة أخرى جزئيّة حتّى تتصل الإرادات في النّفس والحركات في
الجرم ، ولا يتسلسل دفعة بل يصير كلّ وصول إلى حدّ سببا لوجود إرادة متجدّدة مع
ذلك الموصول ، ووجود كلّ إرادة سببا لوصول يتأخّر عنها ، فتستمرّ الإرادات
والحركات استمرار شيء غير قارّ ، بل على سبيل تصرّم وتجدّد. والسّابق لا يكون
بانفراده علّة للّاحق ، بل إنّه شرط ما ، تتمّ العلّة بانضيافه إليها.
وبالجملة ، إنّ
كلّ بضعة دارجة من الحركة علّة معدّة للبضعة العاقبة من الإرادة. وكذلك كلّ بضعة
دارجة من الإرادة معدّة للبضعة العاقبة من الحركة. وهكذا لا إلى
نهاية من الطرفين
، لا على الوجه الدّائر ولا على الوجه المتسلسل المستحيل. والسّلسلتان متعيّنة
إحداهما بالعليّة والأخرى بالمعلوليّة بوحدانيّتهما ومتعاكستان في العليّة
والمعلوليّة بحسب أجزائهما الفرضيّة ، ولا افتياق إلى أمر متجدّد خارج عنهما.
وكذلك الأمر في
الحركات الطبيعيّة والقسريّة بحسب مراتب الميل المتجدّدة المختلفة بالاشتداد
والتّضعّف. فالميل الطبيعىّ يشتدّ بالاقتراب من الحيّز الطبيعىّ ، والميل القسريّ
يتدرّج في الاشتداد إلى غاية ما ، ثمّ يأخذ في التّضعّف إلى أن يفنى ، والعليّة
والمعلوليّة بين سلسلتى الميل والحركة والتّعاكس في العليّة والمعلوليّة بين
أجزائهما الفرضيّة على ذلك السّبيل. وهذه المسألة قد عدّت من غامضات المسائل.
تتمة
(١٥ ـ النفوس الفلكيّة وتأثيرها في الاجرام السماويّة)
يشبه أن تكون
النّفوس العاقلة الفلكيّة الّتي هي ضرب من ملائكة الله تعالى ـ وليست هى فى
جوهريّة ذواتها عقولا صرفة ، بل يخالطها طباع ما بالقوّة مخالطة ما ، ولها ما يشبه
الأوهام الصادقة وما يشبه التّخيّلات الحقيقيّة ، كالعقل العملىّ فينا ـ مبادى
ميول في أبدانها الّتي هي الأجرام الفلكيّة. فلا يزال كلّ نفس فلكيّة تحدث في جرم
فلكىّ ميلا بعد ميل. وهو الذي يقال : إنّه الميل الاشتداديّ ، ولها معشوقات
ومتشوّقات تتوخّى هي بسلوكاتها التشبّه بها ، وتلك مبادى تحريكاتها بالإشراق
والتّشويق. والمعشوق الحقّ والمتشوّق الأعلى الذي منه ترتعج الشّروقات وإليه تهتاج
الأشواق جناب الملك القدّوس العلىّ العظيم ، نور الأنوار ، تعالى جدّه.
اقتصاص
(١٦ ـ المعدّات وترتّب الوجود إلى القيّوم الواجب تعالى)
إنّ هناك
استشكالات اختراميّة واستدفاعات اقتضابيّة لا جناح علينا لو قصصناها عليك ، بلغتك
أم لم تبلغك.
(١) فمنها ـ وهو
أطفّها استصعابا ـ ما رواه خاتم الحاملين لعرش التحصيل والتحقيق عن أستاده السيّد
الإمام ، فريد الدّين محمّد الدّاماد النّيسابوريّ :
«إنّ السّابق
واللّاحق من المعدّات كأجزاء الحركة متعاندا التّحقق وممتنعا الاجتماع ، وإيجاد
اللّاحق رافع لإيجاده الذي هو شرط في وجود السّابق المعاند له. ورافع الشّرط علّة
للعدم ومتقدّم عليه. فإذن وجود اللّاحق متقدّم على العدم اللّاحق بالسّابق. فإذا
جعل العدم اللّاحق به شرطا لوجود اللّاحق دار».
فاستسقطه : «أنّ
وجود اللّاحق ، كما أنّه معاند لوجود السابق ، فكذلك هو معاند لوجود السّابق على
السّابق. فإن صحّ ذلك البيان استوجب أنّ يكون وجود اللّاحق شرطا في عدم السّابق
على السّابق ، وهو متأخّر عنه بالزّمان. هذا خلف».
ثمّ قال : «والحقّ
عندهم أنّ وجود السّابق علّة لإعداد وجود اللّاحق ، وعدمه اللّاحق به شرط في وجود
اللّاحق ، وهو بالذّات متقدّم عليه ومقارن لتمام الإعداد ، لوجوده الذي هو الشّرط
المتمّم لعليّة المبدأ الأوّل الأزلىّ». (تلخيص المحصل ، ربط الحادث بالقديم ، ص
٤٨٣) وليس في شيء من ذلك إفشاء موضع التّدليس فيه.
(٢) ومنها ـ وهو
أثقل عليهم صعوبة ـ أنّ انعدام الحادث الزّمانىّ من بعد وجوده ، لا محيد له من
الاستناد إلى تجدّد أمر ما يقتضيه لا محالة ، وليس يسوغ أن يكون وجود شيء ، من
الحوادث المتعاقبة الّتي هي معدّات وجود ذلك الحادث أو عدمه ، هو المتجدّد
المتقضّي.
أليس كلّ منها
بوجوده وعدمه الطّارئ جميعا من أسباب وجود الحادث ، فكيف يعود وجوده أو عدمه سببا
لارتفاعه؟. فإذن ، إمّا المتجدّد ، وجود ما خارج عن تلك السّلسة ، فيساق النّظر
إليه إلى أن يتمادى وجودات مترتّبة معا إلى لا نهاية عند الارتفاع ، وإمّا عدم ما
كذلك. فيترتّب طرأ عدمات متمادية إلى لا نهاية حين الارتفاع ، ويستوجب وجودات كذلك
من قبل.
(٣) ومنها ـ وهو
الأكبر عند الجماهير داهية ـ أنّه إنّما العلّة التّامّة لوجود الحادث المبدأ
القديم بوجوده الأزلىّ والحوادث المتعاقبة بما أنّها وجدت ثمّ انعدمت ، والمبدأ
القديم غير جائز الزّوال ، لكونه سرمديّ الوجود ، والحوادث المتعاقبة متّصفة في
الآباد بأنّها قد انعدمت بعد ما أن وجدت. فهى مستحيلة الزّوال من تلك الجهة ، وهي
من تلك الجهة معتبرة في استتمام العلّة.
فإذن ، العلّة
الأزليّة موجودة ، والإعداد التّامّ المقارن للعدم اللّاحق بالسابق موجود ، فما
بال اللّاحق ينعدم؟ وإن هو إلّا زوال المعلول مع بقاء علّته التامّة بتّة. والأشياء
بأسرها منتهية في سلسلة ترتيب الورود إلى القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ ذكره. فإذن
يلزم انتهاء عدم الشّيء المفروض الانعدام إلى مبدأ السّلسلة وخلافها بالأسر ،
تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.
وليس يصحّ أن يقال
: حدوث العدم اللّاحق بالسّابق المعدّ شرط في وجود اللّاحق وعند استمرار ذلك العدم
ليس يبقى الحدوث. فلذلك ينعدم اللّاحق ، إذ على ذلك التقدير يكون الحدوث آنيّا ،
لا زمانيّا. فالمشروط به ، وهو وجود اللّاحق ، يجب أن يكون أيضا آنيّا. وانعدامه
آنيّ ، ووجود ما يحدث بعد اللّاحق يكون أيضا آنيّا. فيلزم من ذلك تشافع الآنات وأن
يتخلّف المعلول عن علّته ، التّخلّف المكمّم المستحيل.
وإنّ فئة جمهوريّة
من المستدفعين قد وكدت المخرج عن داهية الأخيرين جميعا ، فقسقطتهما : بأنّ زوال
الحادث إنّما استناده إلى ارتفاع عدم ، لا إلى ارتفاع وجود. فمن المقترّات في
مقارّها أنّ عدما لا يستند إلى وجود ، بل إنّما إلى عدم ما ، وأنّ انتفاء المانع
ممّا يعتبر في استتمام السّبب التّامّ. فالمبدأ الأزلىّ والسّلسلة المتعاقبة علّة
لوجود الحادث بشرط انتفاء حادث ما بعينه مصادم لوجوده. فإذا وجد المصادم زالت
العلّة التّامّة بزوال جزئها الذي هو انتفاء ذلك المصادم ، فزال الحادث الذي هو
معلولها.
فإن أوهم : أنّ
المصادم الحادث إذا كان جائز الزّوال ، لزم عود الحادث عند زواله. أزيح : بأن عدم
المصادم المعتبر في تتميم العلّة هو انتفاؤه السّابق الأزلىّ لا ارتفاعه الطّارئ
الحادث ، فزواله بعد وجوده ليس يعود متمّما للعلّة ، أو أنّ الحادث المنعدم ممتنع
الدّخول في الوجود تارة أخرى لامتناع العود ، والإمكان من مراتب جوهر المعلول ومن
مصححات طباع المعلوليّة. فقد تصحّح أنّه لا يكون انعدام حادث ما إلّا بارتفاع عدم.
وليس عدم لاحقا ، إذ هو أبديّ ، لاستحالة العود ، بل هو عدم سابق أزليّ ، وارتفاع
العدم الأزلىّ ملزوم حدوث ما زال عدمه. فإذن كلّ ما ينعدم من الحوادث يتعقّبه لا
محالة وجود حادث آخر.
وعند ذلك يستشكل :
أنّه يلزم حينئذ أن يكون انعدام كلّ حادث بطباعه مستوجب
حصول حادث آخر
أبديّ الوجود ، أو أن يكون هناك سلاسل لا متناهية من الحوادث ، يتعلّق كلّ من آحاد
واحدة منهنّ في زواله بواحدة من آحاد الأخرى في وجوده.
فهنالك حسب حاسب
منهم المخلص أن يقال : إن المصادم الحادث هو من سلسلة المعدّات المتعاقبة ، لا
خارج عنها. فإذا أفضت سلسلة الأوضاع الفلكيّة إلى حادث بخصوصه، كصورة بعينها ،
فتلك الأوضاع متسبّبة لوجود تلك الصّورة بشرط انتفاء الوضع المستوجب حصوله
ارتفاعها. ثمّ تلك السّلسلة الوضعيّة بعينها تنساق إلى حدوث ذلك الوضع ، وعند
حدوثه تزول تلك الصّورة ، ويتعقّبها حدوث صورة أخرى يستوجبها الوضع الحادث.
واستوهن جدواه
بإعادة النّظر إلى زوال ذلك الوضع الحادث ما شانه : أهو لحدوث وضع آخر لاحق؟ وقد
تأصّل أنّ الوضع السّابق بحدوثه وزواله من أسباب حدوث الوضع اللّاحق فيكون قد صار
الأمر دائرا ؛ أو لزوال الوضع السّابق؟ وكان قد استبان أنّ زواله هو المتمّم
الأخير لعلّة الحدوث ، فيكون أمر واحد بعينه علّة الحدوث والزّوال جميعا ؛ أو
لحدوث أمر آخر خارج عن سلسلة الأوضاع ، أو لزواله؟ فيكون إذن قد عاد مخشىّ الخلف
جذعا ، ولزمت تلك السّلاسل اللّامتناهية ، والسّلاسل للّامتناهية من الحوادث إنّما
تنتظم بحركات لا متناهية لمتحرّكات لا متناهية. فإذن يلزم أن يكون فى الوجود أجسام
وراء النّهاية العدديّة.
ولثلّة من
المستدفعين أطوار أخر للقول تسير مسير المتلوّات عليك في المحاذير وبالجملة لم
يبلغنى عنهم هناك ما يبلغ نصاب الصحّة أو يستكمل فضيلة الإجداء. ولعلّ أجدر
أقاويلهم باستحقاق الذكرى ما تجشّمه خاتم حملة عرش التّحقيق : (تلخيص المحصل ، ربط
الحادث با تقديم ، ص ٤٨٤)
«إنّ إعداد أحد
المتعاندين يزيل إعداد المعاند له والسّابق لمّا كان معدّا للّاحق كان ذلك الإعداد
مزيلا لإعداد وجود السّابق ، حتّى إذا تمّ إعداد اللّاحق زال إعداد وجود السّابق
بالتّمام ، وحينئذ يفنى السّابق ويحدث اللّاحق. وليس هذا دورا ، لأن إعداد اللّاحق
معلول لوجود السّابق ، وهو المزيل لإعداد وجود السّابق ، فهو علّة للعدم اللّاحق
بالسّابق بالغرض ، وذلك العدم شرط في وجود اللّاحق ، لا في إعداد
وجوده ، فلا يدور.
وإذن يتمّ صدور الحوادث عن المبدأ الأزلىّ ويتأخّر حادث عن حادث لتعاندهما ويكون
كلّ حادث علّة لزواله بالعرض ولوجود آخر بعده بالذّات». (تلخيص المحصل ، ربط
الحادث بالقديم ، ص ٤٨٤) فهذا منتهى اعتمالات القرائح وامتحانات الأذهان في هذا
الموضع.
خلسات ملكوتيّة
(١٧ ـ الذوات الممكنة باطلة إلّا بافاضة الجاعل القيّوم تعالى)
كأنّه قد اخلولق
لنا الآن أن نلقى إليك ملكوت الأمر في تحاتّ الشّبه وامتحاء الشّكوك وانحساس
التّعضيلات بإذن الله سبحانه ، فنقول ، اعتصاما بواهب العقل وولىّ الأنوار
العقليّة : إنّ عدم المعلول ليس يتوقّف بالذّات إلّا على عدم العلّة التّامّة
بعينها ، أى على لا جاعليّة الجاعل التّامّ إيّاه ، كما تقرّره ليس يترتّب إلّا
على جاعليّته. فشيء بعينه لا يترتّب وجودا وعدما إلّا على شيء بعينه. وأمّا عدم
أحد الأجزاء بعينه أو لا بعينه ، وعدم إحدى العلل بخصوصها أو لا بخصوصها ، فعلى
خلاف متصوّرات الجماهير ومظنوناتهم من مقارنات الموقوف عليه بالذّات ولوازمه لا من
الدّاخلات فيه. وما خمّنه فريق : «إنّ ارتفاع الجزء هو بعينه ارتفاع المركّب» ،
ليس أيضا على مستقرّ التّعويل. أليس الجزء والكلّ متغايرين ، والعدم متحصّص متكثّر
بتكثّر الموضوعات ، كما الوجود كذلك؟ وإذا لوحظ الكلّ بحسب الفاقة الصّدوريّة صودف
الجزء في حيّز المفتاق الصّادر ، لا فى حيّز المصدر المفتاق إليه. فليس يعقل للكلّ
صدور مستأنف وراء صدور الأجزاء بالأسر ، ولا فيه تأثير مستأنف وراء التّأثير فيها.
وإنّما الجزء في حيّز المفتاق إليه بحسب الفاقة التقوّميّة التّألفيّة. وهو خارج
عن جاعل التّقرّر وعن متمّمات الجاعليّة ومنتظرات الصّدور.
ولو كان الأمر على
تخميناتهم ، كان الجزء بما هو جزء بعينه داخلا في العلّة وفي المعلول جميعا ، وكان
عدمه بما هو عدمه بعينه علّة تامّة لعدم العلّة ولعدم المعلول معا في درجة واحدة ،
أو كان هو بعينه عدم العلّة وعدم المعلول جميعا. فكان بعينه علّة ومعلولا لنفسه ،
إذ عدم العلّة علّة المعلول :
فإذن قد انصرح أنّ
أوّل تلك الاستشكالات ، تشكيك مغالطىّ ، من أخذ ما
بالعرض مكان ما
بالذّات واللّازم مكان المفتاق إليه ، وهو كأخذ الجار مكان صاحب الدّار. فعدم
الشّرط ليس ممّا يتوقّف عليه عدم المشروط ، بل هو مقارن لعدم العلّة التّامّة الذي
هو العلّة للعدم. وكذلك وجود المصادم ليس يتوقّف عليه عدم المعلول ، بل ربما ينتفى
المعلول مع انتفاء المانع ، لعدم تحقّق العلّة التامّة.
فوجود أحد
المتعاندين ليس يتوقّف عليه عدم المعاند الآخر وإن استصحّ توقّف وجود كلّ منهما
على عدم الآخر ، إذ ربما يعدم أحدهما مع عدم الآخر أيضا ، لانتفاء العلّة الموجبة.
فإذن وجود اللّاحق لا يتوقّف عليه عدم السابق ، بل يستلزمه. نعم وجود السّابق
يشترط بعدم اللّاحق ، على ما من الذائعات «أنّ انتفاء المانع من أجزاء العلة
التامّة». لكنّ الذي يستصحّه الفحص ويخرّجه التّفتيش : هو أنّ انتفاء المصادم من
لوازم تحقّق المعلول ومن مقارنات علّة والموجبة ، لا أنّه من المفتاق إليه له ،
المتقدم عليه تقدّما بالطّبع اللهمّ إلّا بالعرض من جهة استصحاب استعداد للمادّة
هو المتقدّم بالذّات.
ثمّ ولو عزلنا
النّظر عن ذلك كلّه ، فما يتوقّف عليه وجود السابق إنّما هو لا وجود اللّاحق.
فإنّما اللّازم على الوضع والمماشاة توقّف عدم السّابق على رفع لا وجود اللّاحق ،
وهو ملزوم لوجوده ومساوق له ، لا أنّه عينه ، وتوقّف الشيء على أحد المساوقين ليس
يستوجب توقّفه على المساوق الآخر ، بل إنّما يستوجب استلزامه إيّاه في التّحقّق.
وأمّا الإعضالان
الآخران ، فمع أنّ في منّة ما أسلفنا لك ، أنّ حدوث أيّ حادث فرض في أفق الامتداد
الزّمانىّ لا ينتظم أمره إلّا وأن يتأثّل الانتهاء إلى طبيعة متجدّدة متصرّمة يكون
طباع جوهرها الثّبات مع البطلان ، فلا يكون في بطلانها التّصرّمى مستندة إلى علّة
، أن يستبدّ بكفالة الأمر في توهينهما.
لكنّا نستأنف الآن
ذكرا على نمط طريّ ، فنتلو عليك : إنّه إنّهما بحسب الشّأن فيهما عضيلان أن لو كان
العدم الطّارئ على الشّيء في الزّمان حادثا متجدّدا في متن الواقع ، وطرأ العدم
الزّمانىّ عبارة عن تجدّد البطلان بعد التّقرّر ، وانعدام الحادث الزّمانىّ.
بارتفاع وجوده الحاصل في زمن حصوله من تلقاء الجاعل الموجب عن وعاء التّحقّق وعن
زمان الحصول ، والعدم فعل الفاعل ، والفاعل فاعل البطلان و
الانتفاء ، وعدم
حصول الشّيء في زمان ما غير متحقّق الصدق ، إلّا في ذلك الزّمان ، ومع تحقّق ،
وإنّ شيئا من تلك الأوهام ليس له في الحكمة من خلاق ، وإن هي إلّا أقاويل أذهان
عقيمة وتهاويل قرائح معقوقة. وإنّ في المتكلّفين والمتفلسفين أقواما وعشائر تلك
أمانيّهم.
ومن هو على بصيرة
في أمره يعلم أنّ ما يحدث ويتجدّد ويعقل فيه فعل وقبول يكون لا محالة شيئا ما ؛
والعدم ليس شيئا ما ، يعبّر عنه بالانتفاء والبطلان ، بل هو ليس صرف. وإنّما يخبر
من لفظه فقط. ويعنى به أنّه ليس هناك أمر ما أصلا. وطرأ العدم على الوجود الزمنىّ
سلب وجوده في الزّمان العاقب سلبا بسيطا. على أنّ الزّمان قيد الوجود المسلوب ، لا
قيد السّلب الوارد عليه ، وهو متحقّق الصّدق في زمان وجود الموجود في الآزال
والآباد. وليس للموجود المتقدم وجود في الزّمان العاقب حتى يرتفع ويتجدد. اللّيس
الصرف فيه بدلا عنه.
أفليست الذات
الجائزة لا بإفاضة الجاعل باطلة في متن الدّهر في الآزال والآباد جميعا؟ فإذا
أفاضه الجاعل في الدّهر لا في زمان وآن أو في زمان ما وآن ما ، أبطل بطلانه
الدّهريّ ، أو بطلانه في ذلك الزّمان والآن ، وأبدله بالتقرّر الدّهريّ أو التقرّر
في ذلك الزّمان والآن ، ويستمرّ التقرّر إلى حيث يتصل الإفاضة.
فإذا ما أمسك
المفيض عن الجعل ، لعدم تحقّق مصحّحات الإفاضة ، انصرم التقرّر وانبتّ الوجود ،
ورست سفينة اللّيسيّة الأصليّة الّتي هي رأس مال طباع الجواز ثابتة على مرساتها ،
واتّقف البطلان الصّرف الذي هو غريم ذمّة الإمكان قائمة رحاها على قطبها. فحينئذ
ينتهى فيضان الوجود وينجذّ استمراره ، لا أنّه يرتفع الوجود الذي قد فاض في
الزّمان الدّارج عن كبد الدّهر وعن ساهر الزّمان.
أفليس من المنصرح
أنّ ارتفاعه عن زمانه في قوّة احتشاد النّقيضين وعن الزّمان العاقب غير معقول إذ
لم يكن متحققا فيه قطّ.
فإذن قد استوى أنّ
الزّوال حقيقته انجذاذ اتّصال الفيضان ، لعدم الإفاضة الإبقائيّة ، المعبّر عنها
في القرآن الحكيم تارة بالحفظ (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما) (البقرة : ٢٥٥)
وتارة بالإمساك (يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (الفاطر : ٤٢).
وأنّ لا
عدم إلّا وهو
أزليّ ، وأنّ طرأ العدم على الحادث إنّما معناه تخصيص وجوده بزمان محدود في جهة
النّهاية بعينه ، كما هو محدود وفي جهة البداية كذلك. وذلك الوجود غير مرتفع عن
الدّهر وعن ذلك الزّمان المحدود في الجهتين. وإنّما مضيّه بالقياس إلى الزّمنيّات
التي بعده وتخصّص الوجود وتحدّده في الطرفين محوج إلى استعداد المادّة القابلة.
فإذن قد بزغ أنّ
العدم اللاحق أزليّ وإنّما استناده إلى عدم تحقّق العلّة التامّة للوجود في
الزّمان العاقب من بدء الأمر رأسا ، كما العدم السابق أيضا كذلك ، لا إلى انتفاء
جزء من أجزاء العلّة التامّة للوجود في الزّمان الدّارج. فالعلّة التامّة لذلك
الوجود ولأىّ وجود قد دخل في التحقّق غير منتفية أبدا.
وإنّما الصّحيح
أنّ العلّة التامّة لتقرّر ما مفروض ووجود ما مقدّر غير داخلة في التحقّق من بدو
الأمر أزلا وأبدا ، والعدمات الأزليّة ، سابقة كانت أو لا حقة ، متسلسلة في
العلّيّة والمعلوليّة على الجهة اللّايقفيّة بما هي متمثّلة في لحاظات العقل ، لا
إلى نهاية أخيرة لا تتعدّاها. وهذه الحقائق تستحقّ قريحة ألطف من القرائح
الجمهوريّة وذهنا أرفع وأحقّ من الأذهان المشهوريّة.
خلسة استذكارية
(١٨ ـ الحوادث الزّمانيّة وآنات الوجود)
أما كنّا قد
أدريناك في كتبنا من قبل : أنّ الحوادث الزّمانيّة على أضرب ثلاثة ، تدريجىّ
الحدوث ودفعىّ الحدوث وضرب آخر كالواسطة بينهما هو زمانىّ الحدوث ، لا على
المشاكلة الانطباقيّة ؛ وألقينا إليك ضابطا : إنّ كلّ ما هو حادث في الزّمان وليس
حصوله متحدّد البداية بآن بعينه يكون هو أوّل آنات الوجود ، فإنّ عدمه السّابق
متحدّد النّهاية بعينه بآن هو آخر آنات اللّاوجود. وإذا كان لبداية حصوله آن أوّل
، لم يكن لنهاية لا حصوله السّابق آن آخر ، وكلّ ما هو متجدّد الحصول في الزّمان
وليس وجوده الزّمانىّ متحدّد النّهاية بآن بعينه ، يكون هو آخر آنات الحصول ؛ فإنّ
عدمه اللّاحق متحدّد البداية الزّمانيّة بآن بعينه هو أوّل آنات الانتفاء. وإذا
كان لحصوله في جهة النهاية آن ، لا آن لحصول بعده ، لم يكن لبداية انتفاء اللّاحق
آن أوّل ، لا يصحّ للانتفاء آن قبله؟
فإذن فاشعر : أنّه
إذا بلغ تمام الإعداد نصابه ، تمت المادّة المتحرّكة في الاستعداد ، استعدادها
التّامّ للّذي يفيض عليها من الحوادث.
فإن كان الحادث
المستعدّ له تدريجىّ الحدوث أو زمانىّ الحدوث ، لا على سنّة التدريج ، كان تمام
استعداد المادّة المستعدّة له متخصّص آخر الحصول بآن هو طرف زمان حدوث الحادث من
جهة المبدأ ، وزواله في نفس ذلك الزّمان غير متخصّص البداية بآن أصلا. كما حدوث
الحادث.
وإن كان دفعىّ
الحدوث كان زوال تمام الاستعداد متخصّص البداية بآن الحدوث بعينه، وحصوله غير
متخصّص النهاية بآن أصلا ، كما العدم السابق على ذلك الحدوث الدفعىّ.
فقد انحلّت العقدة
المعضلة بالجماهير : إنّ في تمام الإعداد والاستعداد حصولا ثمّ زوالا ، ثمّ حدوث
الحادث من بعد استيجاب تشافع الآنات أو تأخّر المعلول عن العلّة ولا سيّما في الآنات
الغير الباقية زمانا لوصولات المتحرّك إلى الحدود المنفرضة المنافية.
فأمّا التشكيك :
بأنّ كلّ استعداد فإنّه علّة معدّة ، إذ هو ممّا له بوجوده الحادث فعدمه العاقب
مدخليّة في وجود المعلول. والمعدّ ما يفيد حصول استعداد ما. فإذن يلزم أن يتوسّط
بين أيّ استعداد فرض والمعلول استعدادات حاصلة على التّعاقب إلى اللّانهاية
العدديّة ، واللّانهاية العدديّة على التّعاقب في جهة الأبد غير متصوّرة الخروج
إلى الفعل ، فضلا عن أن تكون مستحيلة الحصول ، للانحصار بين طرفين حاضرين. فإذن
يمتنع أن يحدث المعلول وأن يتحقّق استعداد تامّ قريب.
فاحلل العقدة فيه
: بأنّه لا استعداد إلّا وهو مستخلف في الهيولى المتحرّكة في الاستعدادات استعدادا
آخر مؤتنفا. وإذا ما هي في حركتها وافت استعدادا آخر هو بعينه تامّ قريب بالنّسبة
إلى معلول ما حادث بعينه ، حان حين أن يزول ذلك الاستعداد ويحدث ذلك المعلول معا
في درجة واحدة ، فيحصل فيها استعداد آخر مع وجود ذلك الحادث لحادث آخر عاقب. فإذن
، كلّ من الاستعدادات النّاقصة البعيدة ، فإنّ له في حدوث المعلول مدخلا لحصوله
فزواله.
وأمّا الاستعداد
التامّ القريب فإنّما حديث المعلول يتوقّف على حصوله الدّارج ويستلزم عدمه العاقب
، لا أنّه يتأخّر عنه البتة تأخّرا بالذّات وهو من معدّات شبكة الهيولى وشركة
المادّة لاصطياد حادث آخر وكمال آخر.
وإن فتّشت عن
الحقّ ، فإنّما المعدّات : الحركات الدّوريّة الفلكيّة والصّور والهيئات القائمة
في الهيولى. وأمّا الاستعدادات الحاصلة فيهما فمقارنات المعدّات ، وإنّما ينسب
الإعداد إليها بالعرض.
حكومة
(١٩ ـ محاولة تصحيح الحدوث الزّمانىّ)
إنّ أكثر شعوب
المتكلفين وفريقا جمّا من متفلسفة المقلّدين ، إذ يظنّون بالفلاسفة المتهوّسين في
جاهليّة الفلسفة وفجاجة الصّناعة أنّهم يتأثّلون ، حيث هم في محاولة تصحيح الحدوث
الزّمانىّ.
تمّت فى شهر جمادى
الأوّل من شهور سنة خمسة وعشرين ومائة بعد الألف على يد الحقير الفقير ابن المرحوم
ملّا أبو على محمّد رفيع ، الطالقانىّ الساكن بالقزوين ، غفر لهما ولجميع المؤمنين
والمؤمنات بمحمّد وآله الأطهار.
مصنّفات ميرداماد
(٦)
الصراط المستقيم
هو مفيض الحقّ وملهم الصّدق
كتاب الصّراط المستقيم في كيفيّة ارتباط الحادث بالقديم
وفّقنا الله
لإتمامه ، بمنّه وكرمه ، كان الشّروع فيه في العشر الأخير من أوّل ربيعى عام ١٠٠٣.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
البقاء دون أفق
عزّك وجلالك ، اللهمّ ، والثّناء وراء سرادق قدسك وكمالك ، يا أوّل الأوّل وعلّة
العلل ، القدم حريم لجبروت ربوبيّتك ، فأسر بعقولنا ليلا من أدنى قاع الحدوث إلى
الأقصى من ساحة جنابه ، الّذي باركت حوله ، والعدم غريم لذمّة مربوبيّتنا ، فدلّ
نفوسنا صحوا على تجارة لا تبور ، من محو عماء الموهوم مع صحو فضاء المعلوم بفيض
فضلك الّذي لا يوازى الحمد طوله. نبّهنا من رقدة الطّبيعة في غسق ليل الخلق بفلق
صبح الأمر ، نزّهنا [٤ ظ] عن قاذورة الجسميّة بتلويث الوهم ، ونحن بموطئ العقل على
شاطئ النّهر الغمر ، هيّج لنا من تيّار قدسك أمواجا تثير سحابا يطهّرنا من شوائب
رجس الهيولى ، وهيّئ لنا من تطوار أمرنا رشدا يحثّنا على رفض أدناس الحواسّ ، فندع
الجلباب الجسدانىّ كقميص نلبسه تارة ونخلعه أخرى.
يا من شموس أنواره
أضاءت وجوه النّفوس الزّاكية ، وعكوس أشعّته أنارت نجوم
العقول الهادية ،
حمدك عن لسان قدرة [٤ ب] العقل في الأفق الأقصى ، ولك المجد الّذي لا سبيل إليه
للمنتهى ، وأنت وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى ، احتجبت بشدّة ظهورك عن أبصار
بصائر المفارقات النّاظرة ، ورتّبت بكمال عنايتك الأولى على حسب ازدواج جهتى القهر
والمحبّة سلسلتى الأنوار المدبّرة والقاهرة.
يا آخذ العقول
والنفوس بنواصيها ، إنّ نفسا جائزة هبطت من ذروة كمالها ، فاغتربت في مغارب هاوية
الإدراكات الحسّيّة ، ورجعت عن صوب تجرّدها ، فانتكست في مغايب زاوية اللّذات
الجسميّة ، ثمّ أتتك تائبة [٥ ظ] من ذنوب الهيولى فطلبتك ، وناجتك بسهرة الأعين في
حيّ جودك على باب عطائك ، وتذكّرت فسارعت راجعة إليك ، مضرمة نار اللهف في مهجة
الأسف ، رانّة على ضالّتها من الحكمة المتلفة ، نزيلة بجوار فنائك ، فهل لها إليك
من سبيل ، أو تردّها في انقلاب النّاكسين من غير دليل ، لا بل تبلّغها حقّها
بالوصال وتؤدّى إليها قسطها من الكمال.
ربّنا وربّ
مبادينا ، أنت مبدأ الوجود ومعاده ، [٥ ب] فمنك بدأ في بادئ الأمر وإليك يعود في
عائده ، وفضلك ذخر طود الإمكان وعماده ، فلك منك حمد يكون إزاء لوافر إفضالك
ورافده.
وصلواتك على ذوى
الزّلفة لديك واولى السّفارة من لدنك ، من الذّوات المقدّسة والنّفوس المطهّرة ،
ملوك بقعة الشرف والعصمة ورؤساء حظيرة العلم والحكمة ، نفوس جسد الإمكان وشموس فلك
العرفان ، مخصّصة بيت قصيدتهم وصدر جريدتهم ، مقوّم الشّريعة النقيّة السّمحاء
ومتمّم الطريقة القويمة البيضاء ، (٦ ظ) محمّدا وآله ، نجوم سماء العصمة والهداية
، وأقمار فلك الإمامة والخلافة ، وحماة معالم الدّين وهداة سبل العلم واليقين ،
ولا سيّما من هو منهم أعظم بين الأمّة وهم أرومة الفضل وأشرف قبائل النّوع ،
كالمعقول بين المحسوس ، إمام طبيعة الإمكان وأمير نوع الإنسان ، على بن أبى طالب ،
بأطائب التّسليمات وأزاكيها.
ربّ بدأت فتمّم ،
يا واهب الحياة ومفيض العقل ، خلقت فاهد ، قضيت فاعف ، ملكت فأنعم.
[مقدمة]
وبعد ، فأحوج
الخلق إلى [٦ ب] الربّ الغنىّ ، محمد بن محمد المدعوّ بباقر داماد الحسينىّ، يلقى
إليكم إخوان التجريد ويملى عليكم خلّان التفريد : إنّه قد طال اقتراحكم ، معاشر
المتعلّمين ، في استكشاف معضلة «ارتباط الحادث بالقديم» وتسهيل عويصاتها بالفكر
القويم ، على طريقتى الفلسفة اليونانيّة والحكمة اليمانيّة ، وتحقيق كلام الملّيين
والذّبّ عنهم على أحكم تحرير وأقوم تبيين ، ظانّين أنّى أنا ابن بجدتها والكافل
بإشباع القوّة النظريّة في رسلها ونجدتها. وإنّه لدىّ يعرّف (٧ ظ) بدخلة الأسرار
وعلى يديّ تصرّف ناخلة الأفكار، إذ نهوض مواكب الحقائق الحكميّة يرصد عندى بتكارير
الأرصاد العقلانيّة ، وفيوض خواطف البوارق الإلهيّة تتصل إلى بخلسات تتفق في
تضاعيف الأسفار الرّوحانيّة ، لأنّى ، على ما قيل :
إذا ما بدت ليلى
فكلّى أعين
|
|
وإن هى ناجتنى
فكلّى مسامع
|
تجافت جنوبى في
الهوى عن مضاجعى
|
|
إلى أن جفتنى في
هواها المضاجع
|
فمسك حديثى في
هواها لأهله
|
|
يضوع وفي سمع
الخليّين ضائع [٧ ب]
|
وما ربّك على
الغيب بضنين ،
|
|
ولا فيضه عن
القابل بمتراخ إلى حين
|
فأستعفيت عنكم
عشيرتى بالتّأخير ، وأتيتكم رهط طلّاب الحكمة بالمعاذير ، علما منّى بأنّ المطلب
لعلى غموضة تعمش فيها أبصار العقول وتدهش فيها بصائر الفحول ، دارت على ذكره
الكئوس الرّءوس وسكرت به ، وهمجت له العيون ونفهت له النّفوس. ومع أنّه أحد أقطاب
الإسلام الّتي يدور عليها رحى الدّين لم يأت أحد فيه بما يقنص شارد اليقين ، لم ير
الرّاءون ولم يرو الرّاوون عن أحد من الأواخر والأوائل في مداحض (٨ ظ) غوامضه
استقصاء إلّا كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء.
هذا مع ما أنا فيه
، من تراكم الفتن وتزاحم المحن وانقراض الأحبّاء وانخفاض الألبّاء ، على فترة من
أولياء العلم وتناهيهم ، واعترام من دهيماء الكربة ودواهيها. فلقد أصبح قلب الفضل
مثقوبا ، وأمسى عيش الخلق مجبوبا. فالله ، الله ، من زمان منينا به ، عظم فيه
البلاء وبرح الخفاء وضاقت الأرض ومنعت السّماء ،
تولّى زمان
لعبنا به
|
|
وهذا زمان بنا
يلعب
|
ومع ذلك ، فإنّ
قلوب العشيرة من الحقد مملوّة ، [٨ ب] ونفوس الطّائفة بالحسد ممنوّة ، لله درّ
صاحب المثنوى ، حيث قال :
چون كه اخوان را
دلى كينه ور است
|
|
يوسفم در قعر
چاه اولاتر است
|
فالشادّ حيزومه
لإنجاح طلبتكم ، والأمر على هذا المساق يعدّ من حزب من يدّعى مساحة السّماء بذرعه
والمتشمّر ذيله للسماح بسدّ مسغبتكم ، والزّمان على هذا السّياق يلحق فى الحكم بمن
يبتغى البروز إلى قتال القضاء برمحه ودرعه. ومهما استعفيت أبيتم إلّا المراجعة ،
وأبيت إلّا المدافعة. فالآن لذت بربّى وربّكم معتصما بحبل تأييده وتسديده ، وتذكرت
(٩ ظ) قول الشّاعر :
لإن كان هذا
الدّمع يجرى صبابة
|
|
على غير ليلى
فهو دمع مضيّع
|
وأسعفتكم على
مؤمّلكم حسبما اقتضاه ذوقى من الفطنة ووسعه قسطى من الحكمة بهذا «الصّراط المستقيم»
النّاطق بكلمات إلهاميّة من لدن حكيم عليم تعيها أذن واعية.
فيا قوم ، هاؤم
اقرءوا كتابيه ، فإنّ فيه من الجواهر ما بأبأته البحار بدررها وفدته الأفلاك
بدراريها عسى أن يصبح به بحر المرام بسججه عذبا فراتا بعد ما كان ملحا اجاجا ،
ويوضح به طور الكلام بقبسه ، [٩ ب] إلى طور المقام طرقا فجاجا.
فقد أوردت فيه طريقة
الفلسفة اليونانيّة على مشرب متفلسفيها وفلاسفتها وأوضحت مسلك الملّة الإسلاميّة
من الحكمة اليمانيّة على اختلاف أذواق الفرق من محقّتها ومبطلتها ، حتّى أشاعرتها
ومعتزلتها ، بطبقات بسط الكلام ، من الردّ والإحكام والنّقض والإبرام ، ثمّ تشييد
ما هو الرّكن الوثيق لديّ ، وتحقيق ما هو الطّريق الأنيق إلى ، على ما ورثته من
الأقدمين. التقطت من عباراتهم واستفدت من إشاراتهم ما لم يورثه أحد أحدا ، (١٠ ظ)
ألهمت وتحدّثت به ، أو أسهرت العين وكهّرت النّفس له من تعيين للمبهمات وتبيين
للمهيّمات على تدقيق لم أزاحم عليه وتحقيق لم أسبق إليه ، أجرى به قلمى ، والأمر
أوضح من نار على علم ، مضيفا إلى ذلك كلّه ما ناسبه من المقدّمات أو زامله من
المتمّمات. (وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَما هُوَ
بِالْهَزْلِ) ، (الطارق ، ١١ ، ١٤).
ولمّا استوى أمر
المرام واستقام مقام الكلام ، خدمت به أعلى سدّة [١٠ ب] من
هو للعدل مزاج ،
وللدهر ابتهاج ، وبعهده بين الأضداد تمزيج ، لا الإمكان لنظيره في السّلطنة على
احتذاء ، ولا الملك عنه بغيره إلى الخلافة في اجتزاء ، حارس بيضة الملك والدّين ،
حامى حوزة الحقّ واليقين ، مشبع جياع السّيوف والسّهام من مهج الأعادى ، مطعم
طمّاح الأمل بالإنعام من نوال الأيادى ، جماهير الخلق من حزمه وحمايته في مهد
الأمن والأمان وكنف العدل والإحسان ، الحائز السّعادتين الدّينيّة والدّنيويّة ،
الجامع السّيادتين النّسبية والسّببيّة ، [١١ ظ] سلطان سلاطين الآفاق ، كجدّه
وأبيه ، خاقان الخواقين على الإطلاق ، كعمّه وأخيه ، المؤيّد من السّماء على سهم
قويّ ، المظفّر على الأعداء بتأييد سماويّ ، أبى المظفر ، السلطان ، شاه عبّاس ،
بهادر خان ، الصّفويّ الموسويّ الحسينىّ ، لا زال أطناب الخلود مربوطة منوطة
بأوتاد ملكه ، وأعناق الجنود خاشعة خاضعة لأطواق حكمه ، ولا برح مذهب العترة
الطاهرة من الدّين المبين مكنوفا بحمى حمايته ، والطّائفة الفائزة الإماميّة [١١ ب]
من أهل اليقين محفوفة بالرّفاهية بمحروسة عنايته ، ملحوظة على الكلاءة بعين حراسته
:
من قال آمين
أبقى الله مهجته
|
|
فإنّ هذا دعاء
يشمل البشرا
|
فإن بلغ بتلك
الحضرة نصاب
|
|
القبول فهو
منتهى مآرب المأمول.
|
نقص در باشد ار
بها كنمش
|
|
هم به انصاف شه
رها كنمش
|
والله أسأل أن
يعصمنى من سقطات الفكر وهفوات الوهم ، ويرشدنى طريقا إلى رفض البدن ولذّاته ،
لذّات الزّور ، ونفض الحواسّ وآلاتها ، آلات القبور ، ويهب لقلبى راحلة من صحيح
النّظر ، فيسهل بها [١٢ ظ] مسيرى ما بين تهامة العلم وفلسطين الحكمة ؛ ولخلدى
جناحا من العقل ووشاحا من النّور ، للطيران الرّوعىّ واللمعان السّطوعىّ ، فيتيسّر
لى أن أطير إلى فضاء عالم القدس وجوار صقع الرّبوبيّة ، وأن يجعل مبلغى من العلم
الكمال ، ونصابى من العمل الإخلاص ، وقسطى من الحكمة الفلاح ، وسهمى من السّعادة
عظماها ، ونصيبى من البهجة قصواها ، وجهتى من العقل الانجذاب إلى سعة علله ووميض
جنابه ، وخاتمة [١٢ ب] أمرى المصير إلى الإعراض بجمّة الهمّة عن صوب الخلق ،
والإقبال بكليّة القلب على وجهة الحقّ ، إنّه لا يجبه بالرّدّ السّائلين ، ولا
يقطع بالخيبة أمل الآملين.
وها أنا أتأهّب
لعرض بضاعتى المزجاة في عرض من البيان يودع في مساقات ، تسبقها وصيّة ، وتلحقها
تختمة ، مبتهلا إلى الله لنيل الرّشاد ، إنّ ربّك لبالمرصاد ، فليصغ الهلوع في
تحقيق الحقّ لما يتلى عليه وليصغ المولع بتصديق الصّدق لما يلقى إليه. [١٣ ظ]
عهد ووصيّة
إنّ أقوى ما تتخذه
مطيّة في سفرك إلى العالم العقلىّ ورجوعك إلى مبدأ الوجود ومعاده ، هو بارقة العلم
، كما ورد به شريف التّنزيل ونطق به مبلّغه الكريم النبيل ، عليهالسلام ، ولقد قيل: «لو صوّر العقل لأظلمت عنده الشمس ، ولو صوّر
الجهل لأضاءت عنده الظّلمة».
وقال معلّم صناعة
الفلسفة أرسطوطاليس : «النفس ليست في البدن ، بل البدن في النّفس ، لأنّها أوسع
منه ؛ ومن أراد أن ينظر إلى صورة نفسه المجرّدة فليجعل من الحكمة [١٣ ب] مرآة».
وذكر الشيخ الرئيس
أبو على ابن سينا في رسالة («المعراج» ، ص ٩٤) على لغة الفرس ما ترجمته :
«إنّ أشرف النّاس
وأعزّ الأنبياء وخاتم الرّسل ، عليهالسلام ، قال لمركز الحكمة وفلك الحقيقة وخزانة العقل ، أمير
المؤمنين على بن أبى طالب ، عليهالسلام ، الّذي كان بين الصّحابة ، الّذين كانوا هم أشرف قبائل
العالم ، كالمعقول من المحسوس : «إذا تقرّب النّاس إلى خالقهم بأنواع البرّ تقرّب
إليه بأنواع العقل تسبقهم». («احاديث مثنوى» ، به نقل از حلية الاولياء ، ص ٣١).
ومثل هذا الخطاب لا يصحّ ولا يليق إلّا أن تكون المخاطبة مع كريم رفيع القدر [١٤ ظ]
عظيم المجد مثله.
قال : «يا على ،
إذ عنّى النّاس أنفسهم فى تكثير العبادات والخيرات ، فأنت عنّ نفسك في إدراك
المعقول حتّى تسبقهم كلّهم».
فلا جرم ، لمّا
صار على ، عليهالسلام ، ببصر البصيرة العقليّة مدركا للأسرار ، نال الحقائق
كلّها ، ولذلك قال : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». لا حشمة ولا جاه للإنسان
أعظم من إدراك المعقول. الجنّة المزيّنة المحلّاة بأنواع حليها ونعيمها وزنجبيلها
وسلسبيلها إدراك المعقولات ، ودركات جهنّم بأغلالها وسلاسلها [١٤ ب] و
جحيمها وزقّومها
متابعة الأشغال الجسمانيّة ومعانقة القوى الدّاثرة الحسّانيّة».
وقال فيها أيضا :
فكّ رقبة النّفس عن أسر الوهم بالعلم أهون منه بالعمل ورفع غلّ الوهم عن الإنسان
يتيسّر بالعلم أسرع ممّا يتيسّر بالعمل ، لأنّ العمل ممّا يقبل الحركة ، وقابل
الحركة لا يكون معاده ومرجعه إلّا إلى المحسوسات. وأمّا العلم فإنّه قوّة الرّوح
ولا يسير إلّا إلى المعقول. كما قال سيّد الكائنات عليهالسلام : «قليل العلم خير من كثير العمل» ، وقال : «نيّة المؤمن
خير من عمله» ، وقال أمير المؤمنين [١٥ ظ] على بن أبى طالب عليهالسلام : «قيمة كلّ امرئ ما يحسنه» ، يعنى قدر الإنسان في العلم.»
انتهت عبارته مترجمة. («معراج نامه» ، ص ٩٤).
إيقاظ عقلىّ
معانقة حبيب العلم
ومشاهدة نور الحقّ عنك بمراحل لا تتناهى ، وأنت من داثر بدنك في قرية الهيولى
الظّالم أهلها. اذكر الله وتذكّر قول سيّدنا ونبيّنا وهادينا ، عليه وآله الصّلاة
والسّلام : «أعدى عداك نفسك الّتي بين جنبيك» ، وأهمل جهة الجسم واهتد.
قال أرسطوطاليس في
كتابه («أثولوجيا» ، ص ٢٢) ، أى الرّبوبيّة : «إنّى ربما خلوت [١٥ ب] بنفسى وخلعت
بدنى جانبا وصرت كأنّى جوهر مجرّد بلا بدن ، فأكون داخلا في ذاتى راجعا إليها
خارجا من سائر الأشياء ، فأرى في ذاتى من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجبا باهتا ،
فأعلم أنّى جزء من أجزاء العالم الشّريف الفاضل البهىّ ذو حياة فعّالة. فلمّا
أيقنت بذلك رقيت بذهنى من ذلك العالم إلى العلّة الإلهيّة ، فصرت كأنّى موضوع فيها
متعلق بها ، فأكون فوق العالم العقلىّ كلّه ، فأرى كأنّي واقف في ذلك الموقف
الشريف الإلهيّ. فأرى هناك من النور والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته ولا تعيه
الأسماع [١٦ ظ]. فإذا استغرقنى ذلك النّور والبهاء ولم أقو على احتماله هبطت من
العقل إلى الفكر والرويّة. فإذا صرت في عالم الفكر حجبت الفكرة عنّى ذلك النور
والبهاء ، فأبقى متعجّبا أنى كيف انحدرت من ذلك الموضع الشّامخ الإلهيّ ، وصرت في
موضع الفكرة بعد أن قويت نفسى على تخلية بدنها والرّجوع إلى ذاتها والترقّى إلى
العالم العقلىّ ثمّ إلى العالم الإلهيّ حتّى صرت في موضع البهاء والنّور الّذي هو
علّة كلّ نور وبهاء. ومن العجب أنّى كيف رأيت
نفسى ممتلية نورا
، وهي في البدن [١٦ ب] كهيأتها وهي غير خارجة منه». انتهى كلامه («افلوطين عند
العرب» ، ص ٢٢).
واعلم أنّ العلم
الإلهيّ ، لصعوبته ، لكونه علما بما وراء المحسوسات والمتوهّمات المألوفة للطبائع
الإنسيّة ومحتاجا إلى برهان صحيح وكشف صريح ، ولا يخلو شيء منها عن موانع وشبه ،
يعسر على أكثر الخلق التلخّص عنها إلّا من أيّد بروح قدسيّة تريه الأشياء كما هي ،
من بين العلوم ، بمزيد احتياج إلى تجريد للعقل وتصفية للفكر وتلطيف للسرّ.
ولذلك قال سقراط :
«لا يعلم العلم الإلهيّ إلّا كلّ ذكىّ صبور ، لأنّه لا تجتمع الصّفتان إلّا على
النّدرة» [١٧ ظ] ، إذ الذّكاء يكون من ميل مزاج الدّماغ إلى الحرارة ، والصبر يكون
من ميله إلى البرودة ، قلّ ما يتفق الاعتدال الّذي يستويان فيه ويقومان به.
وقال أرسطو : «من
أراد الحكمة فليستحدث لنفسه فطرة أخرى». وكأنّه أراد بها الإلهيّة ، فإن اشتهيت أن
تشفى في صدر الوصال بكأس الكمال من رحيق مختوم ختامه مسك ، فارفض الجسم ومت
بالإرادة تحي بالطّبيعة.
وبالجملة ، رفض
البدن الّذي هو سجن النور الأسفهبديّ ومحتد [١٧ ب] ظلمة الطّبيعة وأفق غسق الهيولى
ومهوى كدورة المزاج وموطن الموت الأبديّ ومعدن النّقص السّرمديّ وزاوية موتان
الأرواح وهاوية خسران الأرباح ، واستحقار ملاذّه الخسيسة الحسّية الجسمانيّة
الهيولانيّة ؛ إكسير البهجة والسعادة ، وكبريت نور الحياة السّرمديّة ، ورأس مال
تجارة الكمال ، وسراج حظيرة البهاء والجمال ، وترياق سمّ الموت ، ومغناطيس قرب نور
الأنوار ، جلّت سرادقات عظمته عن اصطكاك أيدى العقول والأفكار ، مع أن [١٨ ظ] ليس
غاية الحركة في سفر النّفس للاستكمال ، ولا منتهى المنازل الذي فيه قرار العقل
وسكوت النفس واطمينان القلب وراحة البال ؛ بل إنّما وقع في وسط الطريق وهويّته
بالنّسبة إلى الغاية ، والمقرّ المستقرّ هو الغيبوبة عن النفس وملاحظة جناب القدس
وترك الالتفات إلى ما تنزّه عن الاشتغال به ومهاجرة البجج بزينة الذّات من حيث هي
الذّات وإن كان بالحقّ ، فإنّ ذلك أيضا غرور وخيال وبعد ووبال.
فإذا وصل العارف
إلى هذا [١٨ ب] المقام ـ وليس وراء عبّادان قرية ـ رأى كلّ وجوب مستغرقا في الوجوب
بالذّات ، وكلّ وجود في الوجود بالذّات ، وكلّ علم في العلم بالذّات ، وكلّ قدرة
في القدرة بالذات ، وكلّ إرادة واختيار في الإرادة والاختيار بالذّات ، وكلّ حياة
في الحياة بالذّات ، فيصبح كلّ وجود وكلّ كمال وجود صادرا عن واجب الوجود بالذات ،
فائضا من لدنه تعالى ، بل مستهلكا في حضرته ، بحيث لا يستحقّ غيره اسم الوجود ،
فيصير الحقّ تعالى للعارف بصره الّذي به يبصر ، وسمعه الّذي به يسمع ، [١٩ ظ]
ويتمّ هناك التّخلّقّ بأخلاق الله بالحقيقة.
ويعجبنى في
التعبير عن هذه المراتب قول الشيخ أبى نصر الفارابيّ : «إنّ لك منك غطاء ـ فضلا عن
لباسك ـ من البدن ، فاجتهد أن تتجرّد ، فحينئذ تلحق ، فلا تسأل عمّا تباشره ، فإن
ألمت فويل لك وإن سلمت فطوبى لك ، وأنت في بدنك ، كأنّك لست في بدنك. وكأنّك ترى
من صقع الملكوت ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فاتّخذ لك
عند الحقّ عهدا إلى أن تأتيه فردا («فصوص الحكم» ، ص ٦٨).
وقوله (ص ٦٠) : «إذا
كان مرتع بصرك ذلك الجناب ، ومذاقك (١٩ ب) من ذلك الفرات كنت في طيب ثمّ تدهش.
انفذ إلى الأحديّة تدهش إلى الأبديّة.»
وصاحب («الإشارات»
، ص ٣٩٠) ، جمع مقامات العارفين في هذه العبارة : «العرفان مبتدأ من تفريق ونفض
وترك ورفض ، ممعن في جمع هو جمع صفات الحقّ للذات المريدة للصدق ، منته إلى الواحد
الحقّ تعالى ثمّ وقوف» فهذه درجات التزكية.
وأمّا درجات التحلية
، فجمعها بقوله : «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثانى ، ومن وجد العرفان ،
كأنّه لا يجده ، بل يجد المعروف به ، فقد خاض لجّة الوصول. وهنالك درجات [٢٠ ظ]
ليست أقلّ من درجات ما قبله ، آثرنا فيها الاختصار ، فإنّها لا يفهمها الحديث ،
ولا تشرحها العبارة ، ولا يكشف المقال عنها غير الخيال. ومن أحبّ أن يتعرّفها
فليتدّرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة ، ومن الواصلين إلى العين دون
السّامعين للأثر.» (ص ٣٩٠) انتهى ، فليتبصّر.
ثمّ معاشر الإخوان
، إنّ لى عندكم عهدا وعليكم ميثاقا ، أشهد الله به على و
عليكم ، وكفى به
شهيدا وكفى به وكيلا ، أن لا تبيحوا النّظر في مطالب كتابى هذا للجهلة أو
المتفلسفة الّذين لا يوثق لهم بنقاء السّرّ وسلامة (٢٠ ب) الذّوق وعلوّ الهمّة
وتوقّد الفطرة واستقامة الفطنة ؛ ولا للهمج الرّعاع من الّذين انصرفت همم نفوسهم
عن صوب سلوك الطريقة العقليّة ودخول المدينة الرّوحانيّة وتطواف كعبة الملكوت مع
الملأ الأعلى واستقبال شطر مسجد حرام الكمال ، وهو الوجهة الكبرى ، إلى تدبير مدن
الأبدان المظلمة الفاسدة المستحيلة الهالكة واقتناء شهواتها وتحصيل آمالها
ولذّاتها وتسليط النّاسوت على اللّاهوت وتصيير النّفوس أسارى الأجساد وعبيدها وجعل
الأجساد آكلة للنفوس ، وحبل [٢١ ظ] الأسر في جيدها ، لا مخفّفة عنها أو زار
الطبيعة ولا مذهبة ظلمها بأنوار الشّريعة، لا هم بمعزل عن تقيّة الموت ولا بمعزل
عن محبّة الباطل ، لا نفوسهم صفّاحة للأحقاد ولا قلوبهم نسّاءة للأكياد ، فاهجروهم
، واصبروا صبرا جميلا ، ولا تعدّوا الضّانّ عليهم بخيلا ، فكلّ ميسّر لما خلق له ،
وإلى الله مرجعهم جميعا.
المساق الأوّل
في مقدّمة ما أريد تقديمه ،
وفيه ترع
التّرعة الأولى
في أوعية الوجود وأحوال الموجود بحسبها وما يلتصق بذلك
فصل (١)
يبتدأ منه مأخذ النّظر
[٢١ ب] في الامتداد الزّمانىّ وما نيط به تقرير الزّمان. وإن أنكر المتكلمون وجوده
، فالّذى يشبه أن يكون ظاهر الإنيّة وإن كان خفىّ الماهيّة على وفق ما ذهب إليه
المحققون من الحكماء ممتدّا امتداد الكميّات المتصلة به تتكمّم الحركة.
[١] تنبيه تحصيليّ
أليس بعض الحوادث
بوجوده أو عدمه يسبق بعضا ، بحيث يمكن للعقل بمعونة الوهم أن يتصوّر مرور أمر
ممتدّ بهما ، فيختصّ كلّ منهما بجزء معيّن منه ينطبق هو عليه. فهذا نحو من
القبليّة والبعديّة. وما أسهل لك بسليم ذوقك أن تحكم على الوجود والعدم من حيث [٢٢
ظ] هما وجود وعدم ، أو من حيث الإضافة إلى أشخاص معيّنة من الماهيّات ليست بينها
علاقة التقدّم والتأخّر من حيث هي تلك الأشخاص بامتناع عروض تلك القبليّة
والبعديّة لهما بالذّات ، فالمعروض بالذّات هو ما نسمّيه الزّمان.
وأنت إذا فتّشت
وجدت المنكرين في الاعتراف من حيث هم لا يشعرون ، فإنّ جمهورهم يقسمونه إلى أجزاء
يعبّرون عنها بالقرون والسّنين والشّهور والأيّام والسّاعات ، لا على أنّه مجرّد
اعتبار من عقولهم أو اختراع من أوهامهم.
[٢] تحكيم
كأنّك [٢٢ ب]
ببصيرة العقل لو اتّخذتها مقياسا تجد ما سلكناه أوثق من طريقتهم أنّ الحادث بعد ما
لم يكن له قبل قبليّة يمتنع بها للقبل والبعد أن يكونا معا في الوجود ، لا كقبليّة
الواحد على الاثنين وأمثالها من التي لا تمنع ذلك. ففيه تجدّد بعديّة بعد قبليّة
باطلة ، وليست هي نفس العدم ، فقد يكون العدم بعد ، ولا ذات الفاعل. فقد يكون قبل
ومع وبعد. فإذن هناك شيء آخر لا يزال يتجدّد ويتصرّم على الاتصال ، فسيقرع سمعك
أنّ القبليّة الّتي تحجز القبل والبعد عن أن يكونا معا حصول الوجود أعمّ [٢٣ ظ]
وأوسع من الّتي تعرض الزّمان بالذّات وتوصف بها الزّمانيّات. فنحو منها يكون
باعتبار الزّمان ونحو آخر منها يتقدّس عن الوقوع في افق الزّمانيّات ، وإنّما يكون
بحسب الدّهر أو السّرمد.
[٣] تسديد
القبليّة
والبعديّة وإن كانتا إضافيّتين لا توجدان إلّا في العقول ، فإنّ ثبوتهما في العقل
لشيء بحسب الأعيان يفضى إلى وجود معروضهما بالذّات ، وهو الزّمان ، مع ذلك الشّيء
وكونهما إضافيّتين يجب أن يوجدا معا لا يوجب فساد ظنّهم أنّه متصل غير قارّ
الذّات. إذ الإضافتان العقليّتان يجب أن يوجد معروضاهما (٢٣ ب) معا في العقل لا في
الأعيان ، وعدم الحادث يتصف بالقبليّة باعتبار مقارنة معروضنا ، إذ العدم المقيّد
بشيء ما يعقل ويلحق به الاعتبارات الوجوديّة العقليّة.
[٤] إفصاح
هذا المعروض
بالذّات ، وهو المسمّى بالزّمان ، حقيقة متجدّدة متصرّمة متصلة بذاتها تنفرض فيها
قبليّات وبعديّات متصرّمة ومتجدّدة مطابقة للأجزاء المسامتة والحركة متصلة
اتّصالها تضاهي المقادير في امتناع التّألف من غير المنقسمات. فهو مقدار الحركة الّتي
هي التّقضّى والتجدّد ، وليس له ماهيّة غير اتصال الانقضاء والتجدّد. كما أنّ الكم
المتصل [٢٤ ظ] مقدار الجسم ، ولا حقيقة له سوى امتداد الجسم ، فذلك الاتصال امتداد
لا يتجزى إلّا في الوهم. فليس له أجزاء بالفعل ، ولا فيه قبليّة وبعديّة قبل
التّجزئة.
ثمّ العقل بمعونة
الوهم ربما يحلّله إلى أجزاء يخرجها له من القوّة إلى الفعل. فتلك القبليّات
والبعديّات ، أعنى بذلك أنّ تلك النّحو من القبليّة والبعديّة لا تزيد على حقيقة
الزمان ، بل إنّ ما به القبليّة والبعديّة هو نفس أجزاء الزّمان ، سواء كان القبل
والبعد هي أو غيرها. فكلّ جزء من أجزاء الزّمان هو نفس القبل والقبليّة باعتبارين [٢٤
ب]. وكذلك ما به المعيّة في ما تجرى فيه المعيّة الزّمانيّة ، فإنّه أيضا هو بعينه
جزء من أجزاء الزّمان.
فإذن ، التقدّم
والتأخّر ليسا بعارضين يعرضان للأجزاء ، فيصيّرانها متقدّما ومتأخّرا ، بل تصوّر
عدم الاستقرار الّذي هو حقيقة الزّمان يستلزم تصوّر التقدّم والتّأخّر للأجزاء
المفروضة فيه لعدم الاستقرار ، بل هما آن جزء منه أو حدّان مفروضان فيه. وهذا
تحصيل معنى عروضهما له بالذّات.
وأمّا ما له حقيقة
غير عدم الاستقرار يقارنها ذلك ، كالحركة وغيرها ، [٢٥ ظ] فإنّما يصحّ حمل
المتقدّم والمتأخّر عليه بتصوّر عروضهما له. فانفصال ما هو المعروض بذاته عن الّذي
بغيره قد استوى إذن أمره.
قال الشيخ أبو على
في طبيعيّات («الشفاء» ، ص ١٥٨) في الفصل المعقود للمختار من المذاهب ، بعد قسط من
البيان :
«فبيّن من هذا إنّ
هذا المقدار هو بعينه الشّيء الّذي هو لذاته يقبل إضافة قبل وبعد، بل هو في نفسه
منقسم إلى قبل وبعد. لست أعنى بهذا : أنّ الزّمان يكون قبل لا بالإضافة ، بل أعنى
أنّ الزمان لذاته تلزمه هذه الإضافة ، وتلزم سائر الأشياء بسبب الزّمان ، فإنّ
الشيء إذا قيل له قبل ، وكان ذلك الشيء غير الزّمان ، (٢٥ ب) فكان مثل الحركة
والإنسان وغير ذلك ، كان معناه : أنّه موجود مع شيء هو بحال ، تلك الحال تلزمها
إذا قيست إلى حال الآخر إن كان الشّيء بها قبل لذاته ، أى يكون هذا اللزوم له
لذاته. فالمتقدم تقدّمه أنّه له وجود مع عدم شيء آخر لم يكن موجودا ، وهو موجود ،
فهو متقدّم عليه إذا اعتبر عدمه ، وهو معه إذا اعتبر وجوده فقط ، وفي حال ما هو
معه ، فليس متقدما عليه ، وذاته حاصلة في الحالين ، وليس حال ما هو له متقدم هو
حال ما هو مع ، فقد يبطل منه لا محالة أمر كان له من التقدّم عند ما هو مع
فالتقدّم [٢٦ ظ]
والقبليّة معنى لهذا الذّات ، ليس لذاته ، ولا ثابت مع ثبات ذاته. وذلك المعنى
مستحيل فيه أن يبقى مع الحالة الأخرى استحالة لذاته ، ومستحيل فيه أن يصير مع ،
ومعلوم أنّ هذا الوجود لا يثبت له عند وجود الآخر.
وأمّا الشيء الّذي
له هذا المعنى والأمر ، فلا يستحيل ذلك فيه ، فإنّه تارة يوجد ، وهو قبل ، وتارة
يوجد وهو مع ، وتارة يوجد وهو بعد وهو واحد بعينه. وأمّا نفس الشّيء الّذي هو قبل
وبعد لذاته ، وإن كان بالقياس ، فلا يجوز أن يبقى هو بعينه ، فيكون بعدا ، بعد ما
كان قبلا ، فإنّه ما جاء المعنى الّذي به الشّيء بعد إلّا بطل (٢٦ ب) ما هو به قبل
والشيء ذو هذا الأمر هو باق مع بطلان الأمر القبل».
(«الشفاء» ، «السماع
الطبيعى» ، ص ١٥٨) ، انتهى ما رمنا نقله ، لتقرير غامض المعنى. وإن كانت هذه
السّياقة من الإطناب وراء طور الكتاب.
[٥] تبيان
ربما يتوافق
المتحركان في ابتداء الحركة وانتهائها ويختلف مقطوع المسافة قلّة وكثرة ، إمّا
لاختلاف السّرعة والبطء أو لتفاوت عدد السّكونات المتخلّلة كما يراه قوم ، أو في
أحد الأمرين فقط ، وتساوى مقطوعا هما من المسافة لذلك أيضا ، أو فيهما وفي حدّ
السّرعة والبطء جميعا ، فتتساوى [٢٧ ظ] المقطوعتان حينئذ.
وأيّا ما كان ،
يكون من مبتدأ الحركة إلى منتهاها إمكان قطع المسافة بعينها بالحركة المعيّنة
السّرعة والبطء أو المعيّنة التّركيب مع السّكون ، وإمكان قطع ما هي أطول أو أقصر
بالأسرع ، والأقلّ مخالطة سكونات أو الأبطأ والأكثر مخالطة السكونات ، فبين المبتدأ
والمنتهى إمكان محدود بالقياس إلى الحركة وإلى السرعة.
وإذا نصّفت
المسافة والسّرعة بعينها والبطء بعينه ، حصل إمكانان متساويان ، كلّ منهما نصف
الإمكان المفروض أوّلا فذلك الإمكان منقسم ، وكلّ منقسم (٢٧ ب) فمقدار أو ذو
مقدار. فقد صحّ أنّه لا يعرى عن مقدار ما ، فهو إمّا مقدار المسافة ، فتعود
المتساويات مسافة متساويات فيه. وليس كذلك ، أو مقدار المتحرك ، فيكون الأعظم أعظم
فيه ، وهو منتف. ومن المعلوم أنّ الحركة ليست نفسها ذات هذا المقدار نفسه ، ولا
السّرعة والبطء ذلك ، إذ الحركات تتفق في أنّها حركة وفي
السّرعة والبطء ،
وتختلف في هذا المقدار. وربّما تختلف في السرعة وتتفق فيه الحركة ، ولا يجوز أن
يكون قائما بنفسه ، كيف وهو منقض فاسد مع ، بقدره. فهو إذن متعلق بموضوع ليس مادّة
المتحرك [٢٨ ظ] بلا واسطة ، وإلّا لتصير به أصغر وأعظم ، فهو فيه بواسطة هيئة ولا
تكون قارّة ، كالبياض والسّواد ، فيكون بتمام مقدارها يحصّل في المادّة مقدارا
ثابتا قارّا ، والمادّة تزيد بزيادته وتنقص بنقصانه ، وليس كذلك ، فبقى أن يكون
مقدار هيئة غير قارّة ، وهي الحركة. ولذلك لا يتصوّر الزّمان إلّا مع الحركة ،
ومتى لم يحسّ بحركة لم يحسّ بزمان ، كما وقع لأصحاب الكهف ولقوم من المتألهين
قبلهم ، على ما حكى المعلّم الأوّل.
فإذن ، الزّمان هو
لذاته مقدّر للتغيّر ومقدار لما هو في ذاته ذو تقدّم وتأخّر ، لا يوجد المتقدّم
منها مع المتأخّر ، [٢٨ ب] فلا يكون هو قبل وبعد ، لأجل شيء آخر ، وإلّا لكان ذلك
الشيء أو شيء آخر ينتهى إليه التّدريج آخر الأمر هو لذاته قبل وبعد. وأمّا سائر
الأشياء ، فإنّما يكون فيها قبل وبعد ، بمعنى أنّ القبل منها فائت أو البعد غير
موجود مع القبل ، لا لذواتها ، بل لمقارنتها في الوجود لقسم من أقسام هذا المقدار.
فما طابق منها جزءا هو قبل قيل له قبل ، فما طابق منها جزءا هو بعد قبل قيل له
بعد. وهذا الأشياء هي ذوات التّغيّر ، إذا لا فائت ولا لاحق حيث لا تغيّر. وكيف
يكون [٢٩ ظ] قبل وبعد إذا لم يحدث أمر فأمر ، ولم يكن اختلاف وتغيّر ، فالزّمان
مادّيّ موجود في المادّة بتوسّط الحركة، ولا توجد إلّا بوجود تجدّد حال مع استمرار
ذلك التّجدّد ، فهو كم متصل ليس بذى وضع.
[٦] إشارة
أمّا تحقق عندك :
أنّ للحركة كميّة من جهة مقدار المسافة ، فتزيد وتنقص بزيادتها ونقصانها وكذلك من
جهة الزّمان ، وأنّ لها عددا من حيث انقسامها إلى أجزاء متقدّمة واخر متأخّرة حسب
انقسام المسافة إليهما إلّا أنّ الأجزاء المتقدمة للمسافة تجتمع [٢٩ ب] في الوجود
مع المتأخّرة منها ، بخلاف ما بإزائهما من متقدّمة الحركة ومتأخّرتها ، فإنّهما لا
توجدان معا ، وكذلك من جهة الزّمان إذا انقسم إلى أجزاء متقدمة ومتأخرة ، ولكن ذلك
إنّما يكون من جهة المسافة. فالتقدّم والتّأخّر من جهة
ما هما للحركة
معدودان بها ، فإنّها بأجزائها تعدّ المتقدّم والمؤخّر. فالحركة لها عدد من حيث
لها في المسافة تقدّم وتأخّر ومقدار بإزاء مقدار المسافة. فما أيسر لك أن تعتبر
الزّمان كميّة الحركة ومقدارها [٣٠ ظ] ما دامت على اتّصالها وعددها إذا انفصلت إلى
متقدّم ومتأخّر لا بالزمان ، بل من جهة ما يتبع انقسام المسافة على ما هو المسلوك
في «الشفاء». فلا تقع في التحديد الدّورىّ. وأمّا مسلك «الإشارات» ، وهو أن تعتبر
كميّة وعددا لها ، لا من جهة المسافة ، بل من جهة التقدّم والتأخّر اللّذين لا
يجتمعان. فربما يفضى بك إلى الوقوع في الدّور ، إلّا تمتطى تسامحا.
[٧] سياقة
الزّمان كم متّصل
بالذات وبالعرض أيضا ومنفصل بالعرض ، أمّا الأوّل ، فلأنه في نفسه مقدار الحركة.
وأمّا الثاني [٣٠ ب] فلأنّه يقدّر بالمقايسة إلى مسافة ما ، فيقال : زمان حركة
فرسخ فيقدّر الزّمان بالفرسخ ، وهو مقدار خارج عنه ، فقد يكون الشيء في مقولة. ثمّ
يعرض له شيء من تلك المقولة ، كالكيفيّة تعرض لها الكيفيّة ، والإضافة تعرض لها
الإضافة. وأمّا الثالث ، فلما يعرض له من الانفصال إلى الساعات والأيّام وغير ذلك.
وإنّما يعرض له ذلك بسبب التقدّم والتأخّر.
[٨] تلويح استفادىّ
أليست الحركة في
ذاتها حقيقة هي كمال ما بالقوّة أو خروج من قوّة إلى فعل ، وليس في طبيعة هذا
المعنى أنّ هناك بعدا ما بين [٣١ ظ] المبتدأ والمنتهى متصلا قابلا للقسمة الوهميّة
، بل إنّما يعلم ذلك بنوع من النّظر يحقق أنّ هذا المعنى إنّما يوازى المقدار
المتصل لا غير. فلا يدخل في ماهيّتها اتصال أو تقدّر ، بل إنّما يعرضها ذلك من جهة
المسافة ، واتصاله المسافة تصير علّة لوجود تقدّم وتأخّر فيها ، وهي بهما تقتضى
وجود عدد لها هو الزّمان. فهى متصلة من جهتين. فعلّة اتصال الزّمان اتّصاله المسافة
بتوسّط اتّصال الحركة بها. لست أعنى بذلك أنّه علّة لصيرورة الزّمان متصلا. كيف
وهو متصل بذاته لا بعلّة ولا بأمر عارض ، بل [٣١ ب] عليّته لوجود ذات الزّمان
المتّصل. كما أنّ سبب الحركة علّة لوجود الحرارة التي هي كيفيّة بذاتها لا
لكون الحركة
كيفيّة. فالاتصال المسافيّ يقتضي وجود المتقدّم والمتأخّر في الحركة على الاتصال،
وعدد المتقدم والمتأخّر يكون بمقدار الحركة ، والحركة تعدّ الزّمان من المتقدم ،
والمتأخّر والزّمان يعدّ الحركة على أنّه نفسه عدد لها. كما أنّ وجود المعروض
للعدد علّة لوجود العدد العارض ، ثمّ هو يعدّ المعروض على أنّه عدد له.
واعتبر الأمر في
وجود الناس [٣٢ ظ] بالنسبة إلى عددهم ، وهو مثلا عشرة. فلوجودهم وجدت العشريّة ،
وهي جعلتهم ذوى عدد. فإذا عدّتهم نفس لم يقع المعدود طبيعة الإنسان ، بل العشريّة
الّتي حصّلها افتراق الطبيعة وإن كانت هي صحّحت لها المعروضيّة للعدد. فكما أنّ
النّفس بالانسان تعدّ العشريّة ، فكذلك بالحركة تعدّ الزّمان بالمعنى المذكور على
الجهة المستقصاة تلخيصا وترصيصا.
[٩] مصباح
كأنّك إذن متحدّس
أنّ الزمان ، لكونه بذاته مقدارا ، يكون استعداد [٣٢ ب] الموهوب من القسمة فيه له
بذاته ، ولا كذلك الحركة. وأمّا تعيّن الامتداد بالفعل فإنّما يعرض له بسبب
الحركة.
فإذن الحركة علّة
لوجود الزمان ، كالجسم لوجود المقدار ، والزّمان علّة لكون الحركة غير متناهية
المقدار أو متناهيته ، والمحرّك علّة لوجود الحركة ، فهو علّة أولى لوجود الزمان
وعلّة أيضا لثبات الحركة المستتبع لازدياد كمّيتها ، أعنى الزّمان ، ولا علّة لكون
الزّمان مستعدّا لأن يمتدّ إلى نهاية معيّنة أو لما إلى نهاية أصلا. فإنّ ذلك له
لذاته ، كما كان قبول الانقسام له كذلك. [٣٣ ظ].
لكن وجود هذا
المعنى ، أعنى الامتداد إلى نهاية أو لا نهاية بالفعل ، إنّما يكون له بسبب
المحرّك وبتوسّط الحركة. كما أنّ وجود الانقسام له بالفعل إنّما يكون بقاسم خارج.
فالحركة بذاتها توجد الزّمان على نحو يلزمه استعداد قبول الانقسام لذاته ،
وبثباتها كونه ممتدّا إلى نهاية أو لا نهاية بالفعل.
ثمّ الزّمان يفيد
كون الحركة ذات مقدار متناه أو غير متناه. فكثير من الأشياء يوجد أمرا ، وكذلك
الأمر صفة أوّليّة ، ثمّ يكون له تلك الصّفة بالقصد. [٣٣ ب] الثاني. فتولّ الخوض
كى تدرك فيه غوره.
[١٠] إحصاء
من النّاس من نفى
وجود الزمان مطلقا ، ومنهم من أثبت له وجودا ، لا على أنّه في الأعيان بوجه من
الوجوه ، بل إنّه أمر متوهّم ، ومنهم من جعل له وجودا لا على أنّه أمر واحد في
نفسه ، بل على أنّه نسبة ما على جهة ما ، لأمور أيّها كانت إلى أمور أخر ، أيّها
كانت تلك أوقات لهذه ، فتخيّل أنّ الزّمان مجموع أوقات ، والوقت عرض حادث يفرض مع
وجوده وجود عرض آخر ، أيّ عرض كان ، فهو وقت لذلك الآخر ، كطلوع الشمس وحضور
إنسان. ومنهم [٣٤ ظ] من وضع له وجودا وحدانيّا على أنّه جوهر قائم بذاته مفارق
للجسمانيّات. ومنهم من جعله جوهرا جسمانيّا هو نفس الفلك الأقصى. ومنهم من عدّه
عرضا ، فجعله نفس الحركة عودة الفلك زمانا ، أى دورة واحدة. فهذه هي المذاهب
المسلوكة في الأعصار السالفة قبل نضج الحكمة. حكى عنها في طبيعىّ «الشفاء» ، (ص
١٤٨).
وأمّا المحصّلون
من أرباب الحكمة النضيجة ، فذهبوا [إلى] أنّه موجود مقدار للحركة. ولعلّك من أنفة
القول على هدى فيه. ثمّ [٣٤ ب] في مستأنف البيان يتعيّن لديك أنّ ما يستتبعه هي
حركة معدّل النهار إن شاء الله الحكيم. وصاحب «التلويحات» يزعم أنّ الحركة من حيث
تقدّرها عين الزمان وإن غايرته من حيث هي حركة. فهو لا يزيد عليها في الأعيان ، بل
في الذهن فقط إذا اعتبرت من حيث هي حركة. وأبو البركات البغداديّ يتقوّل على الحكمة
، فيألق ويقول : إنّ الزمان مقدار الوجود.
[١١] تذنيب
انتحلت الأشاعرة
ثالث المذاهب ، فعندهم الزّمان متجدد معلوم يقدّر به متجدّد مبهم يزال به إبهامه.
وقد يتعاكس بحسب متصوّر المخاطب [٣٥ ظ]. فإذا قيل : متى جاء هذا الإنسان ، يقال :
عند طلوع الشمس إذا استحضر الطلوع دون المجيء. ثمّ إذا قال مستحضر المجيء دون
الطلوع متى طلعت الشمس ، يقال : حين جاء هذا الإنسان ، وكذلك يختلف بالنسبة إلى
الأقوام ، فيقال لهم : أجعلتم الزمان نفس ذلك المتجدد وهو أمر موجود ، فكأنّكم
نسيتم ما كنتم تذهبون إليه ، من أنّه موهوم. ثمّ إذا بقى مدّة ، و
هو واحد بعينه ،
كان مدّة البقاء ووقت الابتداء واحدا ، ولا يتفوّه به إنسان أو نفس الاقتران
والمعيّة. فكلّ مقترنين ومعين [٣٥ ب] إنّما يقترنان في أمر ما هما فيه معا. فما به
المعيّة هو الوقت الذي يجمعهما ويجعل كلّ منهما دالا عليه ، بل قد يدلّ عليه بغير
هما ممّا يقع فيه ، فقد جعلتم أمارات الأوقات أوقاتا ، فأمكن عندكم تعاكس التوقيت.
ولو كنتم تفقهون ما هو الوقت حقيقة ، لحكمتم بامتناع ذلك.
[١٢] تشعيب
من النّاهضة لرابع
الآراء من تحيّف بخداج الظنّ فيتخيل للزمان وجودا مفارقا للمادّة على أنّه واجب
الوجود بذاته ، مستقلّ بالقيام بنفسه. وإليه ذهبت متقدّمة الفلاسفة من متهوّشتهم.
ومنهم من يضع إدراجه في الطبائع [٣٦ ظ] الإمكانيّة. لكن لا على أن يعتريه تعلّق
بمادّة ، بل على أنّه جوهر موجود ، منفصل الذّات عن المادّيّات ، مفارق الوجود
للجسمانيّات ، مستقلّ بنفسه ، قائم في وجوده بذاته. وهذا الرأى ينسب إلى إمام
الحكمة أفلاطون الإلهيّ وشرذمة من أشياعه.
ومشرع الفريقين
استيجاب أن لا يقع في بحث ذات الزمان. والمدّة تغيّر أصلا ما لم تعتبر نسبة ذاته
إلى المتغيّرات. فالمدّة إن لم يقع فيها شيء من الحركات والتغيّرات لم يكن فيها إلّا
الدوام والاستمرار ، وإن وقع حصلت [٣٦ ب] لها قبليّات وبعديّات لا من جهة التغيّر
في ذات الزمان والمدّة ، بل إنّما من قبل تلك المتغيّرات.
ثمّ إن اعتبر
نسبته إلى الذّوات الدائمة الوجود المتنزّهة عن التغيّر سمّى من تلك الجهة بالسرمد
، وإن اعتبرت نسبته إلى ما فيه الحركات والتغيّرات من حيث حصولها فيه ، فذاك هو
الدّهر الدّاهر ؛ وإن اعتبر من جهة نسبته إلى المتغيّرات المقارنة إيّاه فذاك هو
المسمّى بالزمان. وصاحب «المباحث المشرقية» يتزحزح عن مندوحة الحقّ بمضايق الشّبه
، ويجتنح ، في شرحه لعيون الحكمة ، إلى التشبّث [٣٧ ظ] بذيل أفلاطون.
[١٣] إيضاح
ليست الحركة تتصف
بالسرعة والبطء حقيقة. لا بالزيادة والنقصان والمساواة والمفاوتة إلّا من جهة
المسافة أو الزمان ، ولا كذلك الزمان ، بل إنّما يتّصف بالطول و
القصر والزّيادة
والنّقصان والمساواة والمفاوتة بالذات ، ويكون حركتان معا ، ولا يكون زمانان معا ،
وقد يحصل حركتان مختلفتان معا في زمان واحد ، وزمانهما لا يختلف ، والحركة فصولها
غير فصول الزمان ، والأمور المنسوبة إلى الزمان مثل هو ذا وبغتة والآن وآنفا ،
ليست هي من حدّ الحركة في شيء ، والزّمان [٣٧ ب] يصلح أن يؤخذ في حدّ الحركة السريعة
دون الحركة. وكذلك حكم الحركة الأولى الفلكيّة وجزء الزّمان زمان وجزء الدّورة ليس
بدورة. وليس كلّ ما يتقضّى منه شيء ويتجدّد آخر زمانا. بل إنّما يكون إذا كان ذلك
لطبيعته بذاتها ، والحركة ليست كذلك بطبيعتها ، بل بمقارنة الزمان. والقياس من
موجبتين في الشكل الثاني لا ينتج على أن إحدى مقدّمتيه كاذبة ، وكلّ موجود ليس
ينطق عليه الزمان ، بل بعض الموجودات يرتفع عن سمط الزّمان ويحيط به. فاستقم كما
أمرت ، ولا تقتحم عقبات الظنون والأوهام. [٣٨ ظ]
[١٤] تفصلة فيها
تبصرة
عند محصّليهم أنّ
عدم الزّمان قبل وجوده أو بعده ، قبليّة وبعديّة تصدّان ما هو قبل وبعد عن
الاجتماع في الوجود يمتنع بالنظر إلى ذاته. ولا يلزم أن يكون واجب الوجود ، كما
توهّم ، عديم التحصيل منهم في سالف الحكمة ، لأنّ امتناع خصوص نحو عدم لذاته لا
يستلزم امتناع طبيعة العدم ، فلا يأبى ذاته أن يعدم أزلا وأبدا ، فلا يوجد أصلا.
ولعلّ الحقّ لا يسع إلّا ما هو أخصّ من ذلك. فالممتنع بالنظر إلى ذاته عدمه
المتقدم على وجوده التقدّم الذاتىّ الزمانىّ ، أو المتأخر [٣٨ ب] عنه ذلك التأخّر
، إذ يلزم إذ ذاك اقتران وجود الشيء بعدمه. ولنأتينّك بمشبع النّظر في مستقبل
القول ليطمئنّ قلبك.
[١٥] أسّ قانونىّ
وجوب الطبيعة بشرط
شيء لذاتها أو بالنظر إلى شيء يستلزم وجوب الطبيعة لا بشرط شيء كذلك ، بل هو عينه
، ولا عكس ؛ وامتناع الطبيعة لا بشرط شيء في نفسها أو بالنظر إلى شيء يستلزم
امتناع الطبيعة بشرط شيء كذلك ، وليس عينه ، ولا عكس.
[١٦] عقد وحلّ
لعلّك تقول : أما
جعلتم في أساسات تعاليمكم الإمكان محوج الممكن في بقائه
أيضا إلى العلّة ،
وأحد النقيضين إذا امتنع بالنظر إلى ذات بذاتها. أما [٣٩ ظ] تضعون الآخر واجبا
بالنسبة إلى تلك الذات من حيث هي تلك. فإذا امتنع العدم الطارئ بالنظر إلى ذات
الزمان ، كان نقيضه ، وهو الوجود ، في آن الوجود أو الوجود المستمرّ ، أو ما شئت
فسمّه ، واجبا له بذاته ، فكيف يحتاج هو في بقائه إلى علّة مبقية.
فيقال لك : كيف
يكون ذلك النحو من الوجود واجبا لذات الزمان ، ويمكن انتفاؤه عنه نظرا إلى ذاته ،
في ضمن انتفاء الوجود المطلق عنه بالكليّة ، وإن لم يمكن ذلك بعد عروض الوجود ،
فالوجوب على تقدير لا يوجب الوجوب بالذّات [٣٩ ب] نحو شيء من أنحاء الوجود لا يقع
نقيضا للعدم الطارئ ، بل هو رفعه ، ويتحقق بالوجود ، وبعدم لا يكون طاريا.
فالمقيّد قد يرتفع برفع ذاته المقيّدة ، وقدير تقع برفع قيده ، وما يتبرهن امتناعه
هو العدم الطّارئ على طريق التوصيف التقييدىّ دون الإضافة ، أى رفع الوجود على
التّقييد بالطريان ، أعنى الرّفع المقيّد لا الرفع المضاف على سبيل رفع المقيّد.
فما أسهل لك أن تجتزى في تحقق نقيضه برفع الطريان ، فيتحقق برفع غير طار.
[١٧] تنوير
سبيل العدم بعد
الوجود بعديّة زمانيّة بالنظر إلى ذات الزّمان سبيل الوجود بعد العدم أيّة بعديّة
كانت [٤٠ ط] بالقياس إلى ذات الواجب الوجود تعالى ، فإنّه يمتنع هناك مع امتناع
جميع أنحاء العدم ويتحقق نقيضه بوجود ليس بعد عدم.
[١٨] شكّ وتكشاف
ربما يستكن بخلدك
أنّ فردا من الماهيّة كيف يكون نقيض فرد آخر منها وأفراد الماهيّة متشابهة من جهة
ما لها من تلك الماهيّة. أفليس العدم الطارئ ورفعه فردين لطبيعة العدم. فيزال :
بأنّ طبيعة العدم تختلف باختلاف ما أضيفت إليه. فإن أخذ العدم الطارئ فردا من
طبيعة رفع الوجود ، لم يكن رفعه فردا من فلك الطبيعة ، بل من طبيعة العدم ، بمعنى [٤٠
ب] مطلق الرفع المساوق للسلب المستفاد من كلمة النفى مطلقا. والفرق غير متضح
الفساد ، سيّما في المفهومات الاعتباريّة.
فإن لجّ لاجّ وقصر
الرفع البتة على الإضافة إلى الثّبوت دون الماهيّة في نفسها ، فيكون
قد أرجع النقيضين
إلى الثبوت العدم الطارئ ورفعه. وإن أعيد النظر في رفع شيء ما من الأشياء مقيّدا
بالطريان ، وقيل إنّه فرد من طبيعة الرّفع المساوق لمفهوم كلمة السلب مطلقا ؛
ونقيضه ، وهو رفعه أيضا فرد من تلك الطبيعة ، ارتكب أنّ نقيض الشيء قد يكون من
أفراد ماهيّته [٤١ ظ] في نفسه. ومن هاهنا يتأسّس أنّ التناقض بهذا المعنى لا
يتكرّر من جانبى النّقيضين ، إذ لا يكون مفهوم كلّ منهما رفع الآخر ، وأنّه لا
يتحقق بين أكثر من مفهومين. فلا يكون شيئان ، مفهوم كلّ منهما شيء واحد بعينه.
[١٩] مدحضة [٤١ ب]
أنت على سلطنة التشكيك
من قولك ، وإذن قد صار عدم العدم مقابل العدم ونوعه. وبينهما تدافع ، لأنّ
النوعيّة توجب حمل ما هو الجنس على ما هو النوع مواطاة ، وعلى ما يحمل عليه النوع
مواطاة أو اشتقاقا ذلك الحمل بخصوصه. فما أظهر أنّ عروض النوع بالأخصّ مطلقا لشيء
يلزمه عروض الجنس أو طبيعة الأعمّ مطلقا له ، بل هو عينه. وما أسخف قول من قال :
النوعيّة بحسب حمل المواطاة ومقتضاها الصّدق بحسبه والتقابل بحسب الحمل الاشتقاقىّ
على ثالث. وسبيله [٤٢ ظ] امتناع الاجتماع بحسبه ، فلا يتنافيان ويدانيه في الفساد
وسبيله [٤٢ ظ] امتناع الاجتماع بحسبه ، فلا يتنافيان.
ويدانيه في الفساد
حديث من يسرد [صدر المدققين] أنّ موضوع التقابل هو مسمّى لفظ عدم العدم ، وهو لا
عدم ، لا أنّه عدم ، فليس من أنواعه ، وموضوع النوعيّة نفس مفهومه ، وهو ما عيّن
مسمّاه به في الذّهن ، والمسمّى قد يتناول ما عيّن هو به ، وهو الحاصل منه في
الذّهن ، كالمفهوم ، فيطلق اللفظ الموضوع للمسمّى عليه حقيقة ، وقد لا يتناوله ،
كاللّامفهوم ، إذ ما يحصل منه في الذّهن مفهوم ، فيطلق عليه اللفظ الموضوع لمسمّاه
المقابل للمفهوم على سبيل التّوسع. [٤٢ ب] ، فلفظ عدم العدم يطلق على مفهومه في
الذّهن ، وهو العدم المضاف إلى نفسه توسّعا ، وعلى مسمّاه الّذي هو موضوع التقابل
، وهو اللّاعدم حقيقة ، فيختلفان.
وكيف يفرّق بين
المسمّى والمفهوم أفنسي ما تحقق عند أهل التحصيل ، وقد حصّله هو أيضا ، من أنّ
الألفاظ إنّما توضع للصّور الذهنيّة بالذّات وللحقائق الّتي تلك عنوانات لها
بالعرض ، ولم أهمل حيثيّتى الحملين الذاتىّ والعرضىّ ، ولم
يحصّل أنّ شيئا لا
يسلب عن نفسه ، وكلّ مفهوم يحمل على نفسه بالحمل الأوّلىّ الذّاتىّ. إلّا أنّ
طائفة [٤٣ ظ] من المفهومات تحمل على أنفسها بالحمل العرضيّ ، كالموجود المطلق
والممكن العامّ والمفهوم والكلىّ وأمثالها ؛ وطائفة منها لا تحمل على أنفسها ذلك
الحمل ، بل الحمل الأوّلىّ فقط ، كالجزئىّ واللّامفهوم واللّاممكن وعدم العدم
وأشباهها. ولذلك اعتبر في وحدات التّناقض وحدة الحمل أيضا. ولا يجبّ عرق الشّبهة
إلّا تكثير الحيثيّة التّقييديّة الموقعة تكثّرا في ذات الموضوع دون التّعليليّة ،
كما يقال : إنّ النّوعيّة من حيث إنّه عدم مقيّد ، والتقابل من حيث إنّه رفع للعدم
، ولا يقرن بما يكثّر الجهة ، [٤٣ ب].
[٢٠] تذييل فيه هدم
وتحصيل
أسمعت الّذي هو [الفاضل
المحقق جلال الملّة والدين محمّد الدّوانىّ] بعيدىّ الغور يتفصّى بأنّ العارض
للعدم هو حصّة من العدم محصّصة به تحصّص العارض بالمعروض. وهذا لا يقابل العدم ،
بل هو نوع منه ومعروضه معدوم ، والمقابل له هو عدم العدم الّذي تحصّصه بالعدم سابق
على العروض ، ويصير ، بعد اعتبار عروضه له عدم عدم العدم ، ومعروضه موجود.
فالمعنيان متغايران.
ولا يتوهّم أنّ
معروض الأخير إن لم يتصف بالعدم المطلق يحقّق المقيّد بدون المطلق ، وإن اتصف به
كان موجودا ومعدوما ، لأنّه متصف به ، بمعنى أنّه سلب [٤٤ ظ] عنه شيء ما ،
والمعدوم بهذا المعنى لا يقابل الموجود ، إنّما المقابل له هو بمعنى ما سلب عنه
الوجود ؛ ويعترف بعدم حسمه لمادّة الشّبهة ، إذ لو قيل : إنّ عدم العدم الّذي
تحصّصه بالعدم سابق على العروض عدم مقيّد بقيد ، فيكون نوعا منه ، ولا يجتمع مع
العدم في الموضوع ، فيكون مقابلا له ، لتأتّى.
ثمّ يقول : الحقّ
أنّ هذا المقيّد ، من حيث إنّه عدم مقيّد بقيد مع قطع النظر عن خصوصيّة القيد نوع
منه ، ومن حيث إنّه رفع للعدم ، مقابل له. فالمنظور إليه [٤٤ ب] في الاعتبار
الأوّل هو كونه عدما مقيّدا بقيد ، وفي الاعتبار الثاني هو كونه رفع العدم وسلبه.
فالموضوع مختلف بالاعتبار ، كما يقال ، مثلا في معالجة الشخص نفسه : إنّه ، من حيث
إنّه معالج ، غيره من حيث إنّه مستعلج. فالمؤثّر النّفس من حيث ما لها من
ملكة المعالجة ،
والمتأثّر هي من حيث ما لها من قبول العلاج. وفي علم النّفس بذاتها إنّها من حيث
حضور مجرّد عندها عالم ، ومن حيث إنّها مجرّد حضر عند مجرّد معلوم. فموضوع
العالميّة يغاير موضوع المعلوميّة بالاعتبار ؛
ولا يستشعر أنّ المقيّد باعتبار [٤٥ ظ]
مطلق التقييد ، مع عزل النظر عن خصوصيّة القيد إذا كان نوعا من العدم ، بمعنى
الأخصيّة منه ، كان باعتبار الخصوصيّة أحرى بأن يكون كذلك ، ونوعيّة الأوّل
بالنّسبة إلى طبيعة العدم المطلق غير مدافعه لأن يكون الثاني أيضا نوعا منه ، بل
محققة لذلك. وكيف ظنّ أنّ علم المجرّد بذاته ممّا يحوج إلى تكثّر جهة تقييديّة فيه
على أن يكون في ذاته شيء بإزاء العالميّة وآخر بإزاء المعلوليّة ولو بحسب انتزاع
العقل. ولا يتكلّفه من في نفسه قوّة طابخة للحكمة. فقد استبان لذويها أنّ معقوليّة الشيء هو كون ماهيّته [٤٥ ب]
المجرّدة لشيء ، وعاقليته هي كون ماهيّته مجرّدة لشيء له بلا شرط أن يكون ذلك
الشيء هو أو غيره ، ووجود المعقول في ذاته هو وجوده لمدركه ، ووجوده لمدركه نفس
معقوليّه.
فلمّا كان المجرّد
وجوده لذاته بخلاف الماديّ ، فإنّ وجوده في ذاته هو وجوده للمادّة ؛ كان وجوده
بعينه عقله لذاته ، وما منه بإزاء العاقليّة هو ما منه بإزاء المعقوليّة ، إلّا
أنّك إذا قايست بينه وبين الذّوات العاقلة لمعقولات هي غيرها سمّيته باعتبارك أنّ
ذاته لها هويّته المجرّدة عاقلا ؛ وحكمت بأنّ ذلك منه بإزاء العاقليّة ، [٤٦ ظ]
وباعتبارك أنّ هويّته المجرّدة لذاته معقولا ؛ ووضعت هذا منه بإزاء المعقوليّة ،
لا على أنّ في ذاته أحد الاعتبارين يخالف الآخر. فاختلاف الاسم يتبع اختلاف
الإضافة الحاصلة بالمقايسة.
ولو كان الأمر كما
ظنّ ، لا نجرّ تغاير اعتبارات ذات المبدأ الأوّل ، تعالى شأنه ، إلى تكثّر
الحيثيّات في ذاته ، جلّ ذكره ، وهو قول فضيح يتقدّس عن أمثال ذلك جناب قدّوسيّته
، فليس هناك إلّا تكثّر الأسماء باعتبار السّلوب والإضافات اللّازمة من المقايسة
بينه وبين غيره ، وكبرياؤه أعلى من ذلك كلّه. وليته ينظر إلى قول الشيخ الرئيس [٤٦
ب] أبي على في كتابى «الشفاء والنجاة».
فقد فهمت أنّ نفس
كونه عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون اثنين في الذّات ولا اثنين في الاعتبار أيضا ،
فإنّه ليس تحصيل الأمرين إلّا اعتبار أنّ له ماهيّة مجرّدة هي
ذاته ، وأنّه
ماهيّة مجرّدة ذاته له. وهاهنا تقدير وتأخير في ترتيب المعانى. والغرض المحصّل شيء
واحد بلا قسمة.
فقد بان أنّ كونه
عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة البتة. وفي كتاب «المباحثات» : «إنّه عاقل وإنّه
معقول ، فيه ، شيء واحد». (ص ٢٤٢). وفي كتاب «التعليقات» : «والبارى تعالى هو عقل
، لأنّه هويّة مجرّدة ؛ وهو عاقل ، لأنّ ذاته له ؛ وهو معقول ، لأنّ هويّته
المجرّدة لذاته. وكون ذات البارى عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون هناك اثنينيّة في
الذّات ولا في الاعتبار. فالذات واحدة والاعتبار واحد ، لكن في الاعتبار تقديم
وتأخير في ترتيب المعانى ، ولا يجوز أن تحصل حقيقة الشيء مرّتين ، كما تعلم. فلا
يجوز أن تكون الذات اثنين» (ص ٧٨). فانظر كيف زلّ حتّى كاد يضلّ ، والله يهدى من
يشاء إلى صراط المستقيم.
[٢١] قسطاس
ما هو أخصّ [٤٧ ظ]
من طبيعة ، ولنضعه نوعا منها ، كالإنسان من الحيوان ، إنّما نوعيّته من حيث إنّه
تلك الطبيعة مع قيد ، لا من حيث تخصّصه بخصوصيّة القيد ، كالناطق ، فإنّ الطبيعة ،
وإن كانت عين الفرد بحسب أنحاء الوجود جميعها ، إلّا أنّ للعقل أن يأخذها تارة من
حيث التعيّن وأخرى من حيث الإبهام ، ويضع بينهما اثنينيّة ما. والفرد وإن كان في
تلك الملاحظة أيضا مخلوطا بالطبيعة بحسب نفس الأمر ، لأنها لا بشرط شيء لم تأب في
ذاتها عن أن يكون معها شرط أو لم يكن ، فيتحقق بوجود الطبيعة بشرط [٤٧ ب] شيء ،
أينما وجدت ، ولو في هذا النّظر إلّا أنّ هذا اللّحظ لمّا كان اعتبارا للطبيعة
بشرط شيء من حيث خصوص تعيّنها حتّى يكون أصل الطبيعة لا بشرط شيء مفصولة عنها ،
ريثما تلحظ بذلك اللحظ ؛ صحّ أيضا أن يحكم عليهما بالتّعرية فيه بحسبه ، فيشبه أن
يكون تلك الملاحظة ظرف الخلط والتعرية باعتبارين.
وما أشبه ذلك
بقولهم في ظرف اتصاف الماهيّة بالوجود : «إنّ المعتبر في مطلق الاتّصاف بحسب ظرف
ما هو أن يكون الموصوف بحسب مرتبة وجوده في ذلك الظرف غير مخلوط بذلك الوصف العارض».
ولا يستراب [٤٨ ظ]
أنّ الماهيّة في الوجود الخارجى مخلوطة بذلك الوجود و
في الوجود في نفس
الأمر كذلك مخلوطة به بحسب نفس الأمر وفى الوجود العقلىّ أيضا مخلوطة به بحسب نفس
الأمر ، لكن للعقل أن يأخذها غير مخلوطة بشيء من العوارض. فهى في هذا الاعتبار
معرّاة عن جميع العوارض حتّى عن هذا الاعتبار.
فهذا النظر وإن
كانت التعرية فيه ، لكنّه ممّا به الخلط بحسب النفس الأمر ، وهذا النحو ظرف
للاتصاف به ، وهو نحو من أنحاء وجود الماهيّة في نفس الأمر. وهو وإن تقدّم على
سائر الاتصافات ، لكنّه لا يتقدّم على [٤٨ ب] نفسه ، والاتصاف به أيضا فيه ، فلذلك
أهمل بعض أهل التحقيق اشتراط التقدّم في الموصوف.
[٢٢] وهم وإزاحة
ولعلك تقول :
فيلزم تحقّق المقيّد دون المطلق أو الفرد دون الطبيعة في هذا النظر ، وهو نحو من
أنحاء الوجود في نفس الأمر.
فيقال لك : هذا
النظر وإن كان من أنحاء نفس الأمر ، لكن تلك أوسع من هذا ، واللازم تحقيق للفرد
دون الطبيعة في هذا ، لا بحسب تلك ، والخرق في ارتكاب ذاك دون ذا ؛ أو يقال : هذا
إنّما يكون من أنحاء نفس الأمر من حيث إنّه وجود لا بتعمّل العقل اتفق أن صار [٤٩
ظ] ذلك عينه ، لا من حيث خصوصيّة الاعتبار ، على ما سيقرع سمعك. وذلك التّحقق فيه
من حيث خصوص الاعتبار ، لا بالاعتبار الأوّل.
[٢٣] تذكير. (تنبيه خ)
فعدم العدم فرد من
أفراد العدم باعتبار طبيعة أنّه طبيعة العدم مع قيد لا ، من حيث خصوصيّة القيد في
نحو ملاحظة التّعيّن والإبهام ، فإنّه من حيث تلك الخصوصيّة ، هو هذا الفرد بخصوصه
، وهو شيء غير طبيعة الفرد في تلك الملاحظة ومقابل له من حيث الخصوصيّة ، لا من
جهة مطلق الفرديّة. ولا أظنّك شاكّا في أنّ التدافع إنّما هو بين [٤٩ ب] التقابل
وسنخ مطلق الفرديّة ، لا بينه وبين التخصّص بخصوصيّة هذه الفرديّة من غير أن يجعل
النّظر إليها مشوبا بالنظر إلى سنخ الفرديّة ، وإن كان ذلك السّنخ وهذه الخصوصيّة
متخالطين في الوجود. فهذا سبيل اختلاف الحيثيّة التقييديّة ، طباق أملك ، فاسلكه
ممجّدا لربّى وربّك تمجيدا.
فصل (٢)
في استيناف القول في أمر الزّمان على طور آخر
[١] تمهيد
أما استبان لك ،
من المتلوّ عليك من قبلنا ، والمخزون عندك من تلقاء نفسك في أصل إيصال الجسم وأنّه
عديم المفاصل في ذاته بالفعل ، [٥٠ ظ] أنّ الزّمان مقدار ، وهو متّصل محاذ لاتصال
الحركات والمسافات. فعند المتهوّشين بإثبات القدم أولى التحصيل منهم هو بجملته من
الأزل إلى الأبد موجود متصل واحد شخصىّ ، وكذلك محلّه ، وهو الحركة المستديرة
الحافظة له بسرمديّته. وأهل التّهويش من أسلافهم يضعون أزمنة متكثّرة يلتئم
السّرمد من تركيبها.
وعلى ما ذقناه من
الحكمة ، ويشبه أن يكون فيه طعم التّحقيق ، هو بهويّته الامتداديّة المتناهية ، لا
على أن ينتهى إلى أزل زمانىّ ، بل على نحو آخر ، سيستبين سبيله على ما نصف [٥٠] لك
، إن شاء الله الحكيم تعالى ، موجود وحدانىّ شخصىّ متصل من أزله إلى أبده ، حذاء
اتصال محلّه من الحركة المستديرة كذلك. فلا محالة يتوهّم بين أجزائه الوهميّة فصول
مشتركة حسب ما هو شأن المتّصلات. فتلك هي الّتي تسمّى الآنات ، ولا تتشافع ، وإلّا
استلزمت الأجزاء الّتي لا تتجزّى في الجسم.
[٢] إشارة
إنّك لتعلم أنّ
أجزاء المتصل الواحد الموجود ، وتسمّى الأجزاء المقداريّة ، ليست معدومة صرفة ،
كيف والذهن يحلّله إليها. ولعلّ عقلك ينقبض من تحليل الموجود إلى المعدومات الصرفة
، ثمّ هي ربما تصير موضوعات في صوادق [٥١ ض] الموجبات ، كما إذا كان شيء من أبعاض
وآخر منها بارد أو متصل حارّا أحد أقسام متصل محاذيا لأحد أقسام اخر ، فيصدق عليها
الإيجاب الخارجىّ ، والربط الإيجابيّ مطلقا في طباعه استيجاب وجود الموضوع. فإذن
لها نحو من الوجود إلّا أنّه ليس منفرزا عن وجود الكلّ ، بل هي موجودة بعين وجوده.
[٣] سدّ ثغرة
لا تكن كمن يسبق
إلى وهمه أنّ ذلك يستوجب كونها بالحقيقة أجزاء ذهنيّة ، كالجنس والفصل. فتذكّر أنّ
تلك ما بحسب الماهيّة وهذه [٥١ ب] ما بحسب الكميّة ؛ ولا كمن يتشبّث بمنع استلزام
اختلاف العرض للانقسام الخارجىّ ، وكون محلّ الحرارة والبرودة مثلا في الخارج هو
الكلّ الموجود بالفعل ؛ إذ يمكن أن يجتمع الضدّان في محلّ على أن يكون التّمايز
بحسب الإشارة دون الوجود ، والإشارة الحسيّة إلى الأجزاء إنّما توجب الوجود
بالقوّة لا بالفعل. فتحدّس من نفسك أنّ العقل ، بعد تحليل المتصل إلى قسمين ، يجد
أنّ محلّيّته للحرارة مثلا باعتبار أحدهما.
فتوقع الحكم
الإيجابيّ بذلك عليه على أنّه صادق [٥٢ ظ] وكون الأجزاء في الخارج بالقوّة لا يدفع
كون الانقسام خارجيّا. فحيثيّة اختلاف العرض توجب الانقسام الخارجىّ وإن لم تستلزم
كون نفس ذلك بالفعل. فهو من تلك الحيثيّة إنّما يكون بالقوّة ، لكنّه حيث تحقق في
الذهن بالفعل يكون مأخوذا بالنسبة إلى ما بحسب الخارج.
ويشبه أن يكون هذا
هو مراد من سمّاه ذهنيّا إن صحّ. فلم نر في زبرهم إلّا أنّ اختلاف العرض ، كالبلقة
، هل يحدث في المتصل انفصالا بالفعل في الخارج ، كالقطع والكسر ، فيترتب عليه
إثبات [٥٢ ب] الهيولى أولا ، فيحتاج إلى بيان آخر. وكلّ صار إلى مذهب. وأمّا أنّ
ما يستتبعه من الانقسام عند لحاظ العقل بعد فعليّته هل يعدّ خارجيّا أو ذهنيّا ،
فلا تعرّض له في أقوالهم. وهو مفروغ عنه بتحديد أقسام الانقسام في مظانّه.
[٤] وهم وإحصاف
ولعلّ متحيّن وقت
التشكيك يقول : فقد أوجبت بما وضعت صحّة أن تحمل الأجزاء المقداريّة على المتصلات
، فيقال ، مثلا ، الزّارع المتصل نصف ذلك الذراع ، إذ مجرّد الاتحاد في الوجود
مصحّح للحمل مواطاة. فيجاب : بأنّ جزئيّة الجزء المعيّن [٥٣ ظ] من تلك للمتصل ،
كنصف الذراع له ، إنّما يكون باعتبار حقيقته الشخصيّة ، لا من حيث نفس الماهيّة ،
إذ هو من جهة الماهيّة الاتصاليّة ليس على تعيّن شيء من الامتدادات ليصلح لانتزاع
جزء بعينه منه. فاتّحاده معه وجودا إنّما هو من حيث الشخصيّة ، لا بالذات من جهة
الماهيّة. والمعتبر في الحمل ذاك لا غير.
فيقول : إنّ كثيرا
من المفهومات تحمل على الأشخاص من حيث خصوصيّات الهويّات الشخصيّة ، ويدفع بأنّ
ذلك إنّما يكون في المحصول حملا عرضيّا. [٥٣ ب] فالاتحاد هناك بالعرض لا بالحقيقة
، فيكفى أن يكون وجود الشّخص باعتبار من الاعتبارات منسوبا إليه. وأمّا الحمل
الذاتىّ فلا يتحقق إلّا حيث يكون وجود الشخص لمفهوم بالذّات من حيث الماهيّة ،
فيعود بأنّ المعتبر في مطلق الحمل مطلق الاتحاد. فإن استكفى في العرض بانتساب وجود
الموضوع من جهة هويّته الشخصيّة إلى مفهوم بالعرض ، لكفى في الذاتىّ أيضا كون ذلك
له بالذات من تلك الجهة ، إذ مفاد الهيئة التركيبيّة عندهم في الحمليّات مطلقا
مطلق الاتحاد ولا يختلف في الحملين.
[٥] افتحاص وفحص
[٥٤ ظ] كأنّك
أصغيت إلى الذي من أهل التحقيق [الدوانىّ في حاشية الاشارات] يقول : إنّ الحمل
مطلقا وإن كان هو الاتحاد في الوجود ، لكنّ التعارف الخاصّى خصّه بذلك مع عدم
التمايز في الوضع ، كما خصّه ، من بين مطلق الاتحاد ، بالاتحاد في الوجود ، فهو
مطلق الاتحاد ، ويقتضي اثنينيّة ما ووحدة ما ، إذ لو كانت الوحدة الصّرفة لم تتحقق
، أو الكثرة الصّرفة لم تصدق.
وكما أنّ الوحدة
على جهات شتّى ، كالنوعيّة والجنسيّة ، فكذلك هو ، حتى أنّه لا يجرى في جميع
أقسامها ، إلّا أنّ أشهر أفراده هو الحكم بالاتحاد في الوجود ، إذ لا يقال في
المتعارف «زيد عمرو» من حيث [٥٤ ب]. اشتراكهما في النوع أو «الثّلج الجصّ» من جهة
الاشتراك في عرض هو البياض. فلذلك قيل : الحمل هو الاتحاد في الوجود.
أفرضيت منه بتخصيص
لا يناسب طور الحكمة ، وهو الذي قد كان يضع أنّ الحقائق لا تقتنص من الإطلافات
العرفيّة.
ثمّ لو كان النظر
في إطلاق لفظ الحمل لوسع هذا الطور ، لكن ليس هو ، بل إنّه يلزم كون المتصل الواحد
عين جزئه المقداريّ بحسب الأعيان ، إذ المصحّح لتلك العينيّة هو الاتحاد في
الوجود. وتخصيص الحمل بالاتحاد في الوجود ليس بحسب اللفظ أو التّعارف ، بل على
سبيل أنّ سائر الأنواع [٥٥ ظ] لا تفيد العينيّة المصحّحة للحمل
بحسب الخارج ، بل
بحسب جهة الوحدة فقط بخلاف هذا.
[٦] ميزان ،
معيار الحمل في
الذاتيّات أن ينسب وجود ذى الذاتىّ إليها بالذات ، لا من حيث إنّها أبعاض الأمر
الواحد الموجود في العرضيّات أن ينسب إليها وجود المعروض بالعرض ، لا من حيث إنّها
أبعاضه. والأجزاء المقداريّة وإن كانت موجوديّتها بعين وجود المتصل الواحد ، لكن
ليس من حيث إنّها أمور موجودة برءوسها اتفق أن كان وجودها عين وجود ذلك الواحد ،
كما في الطّبائع [٥٥ ب] المحمولة ؛ بل من حيث إنّها أبعاض الموجود الواحد ، فلا
تغاير هناك بحسب الوجود ولا حمل.
[٧] أساس
الوجود ليس إلّا
نفس الموجوديّة التي ينتزعها العقل من الماهيّات ونفس تحققها بالمصدريّ ، ولا يثبت
له فرد يقوم بالماهيّة سوى الحصص المعنيّة بالإضافة أو بالوصف ، كالوجود الذي لا
سبب له ، والوجود المطلق ليس له خصوصيّة إلّا الإضافة إلى ما ينتزع هو منه ، ولا
يتحصص إلّا بتلك ، لا قبلها.
وهذا متكرّر في
كلام الشيخ الرئيس أبى على وأترابه وتلامذته ومن في طبقتهم.
ففى «التعليقات» :
«الوجود [٥٦ ظ] الذي للجسم هو موجوديّة الجسم ، لا كحال البياض والجسم في كونه
أبيض». وفي («التحصيل» ص ٢٨١) : الوجود ليس هو ما يكون به الشيء في الأعيان ، بل
كون الشيء في الأعيان أو صيرورته في الأعيان».
وتخصيص كلّ وجود
هو بإضافته إلى موضوعه وإلى سببه ، لا على أن يكون الإضافة لحقته من خارج ، فإنّ
وجود الإنسان ، مثلا ، متقوم بإضافته إلى الإنسان ، ووجود زيد بإضافته إلى زيد.
وإنّا إذا قلنا : «كذا موجود» فليس المعنىّ به أنّ الوجود معنى خارج ، بل نعنى أنّ
كذا في الأعيان أو كذا في الذّهن. ولعلّنا نوضحه بضرب [٥٦ ب] آخر من البيان في ما
نستقبله إن شاء الله تعالى.
[٨] إرشاد
فالماهيّات
المتباينة لا تتحد في الوجود. وكيف ينتزع من إحداها عين المنتزع من
الأخرى مع
اختلافهما. ونقول : المنتزع بالإضافة إلى ما ينتزع منه ، فالواحد بالاتصال لا
يختلف بالطبيعة. والماء ، مثلا ، لا يكون بينه وبين ما يخالفه في الحقيقة وحدة
بالاتصال ، بل وحدة بالتّماسّ. والقسمة الوهميّة أو الفرضيّة ، إنّما يكون إلى
أمور متحدة في الماهيّة مشابهة للكل في الحقيقة. وعليه بنى إبطال مذهب ديمقراطيس. فلا
تصغ إلى المنكر «صدر المحققين» ، فإنّه مخاصم العقل وعدوّ الحكمة.
قال في المقالة [٥٧
ظ] الثالثة من الإلهيّات «الشفاء» ؛ «والوحدة بالاتصال إمّا معتبرة في المقدار فقط
، وإمّا أن تكون مع طبيعة أخرى ، مثل أن تكون ماء أو هواء. ويعرض للواحد بالاتصال
أن يكون واحدا في الموضوع ، فإنّ الموضوع المتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق بالطبع.
وقد علمت هذا في الطبيعيّات. فيكون موضوع وحدة الاتصال أيضا واحدا في الطبيعة من
حيث إنّ طبيعته لا تنقسم إلى صور مختلفة» (ص ٩٩).
[٩] إفصاح
أفقد بان لك أنّ
اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود الّذي هو مناط الحمل الّا إذا كان [٥٧ ب]
حقيقتهما واحدة بالذات متغايرة بالاعتبار ، لأنّ الوجود ليس إلّا نفس المعنى
المصدريّ المنتزع عن الماهيّات المتخصّص بالإضافة إليها ، لا قبل ، فلا يتصوّر
اتحاد الحقائق المتباينة بالذات بحسبه. فحقيقة الموضوع والمحمول إن كانتا متحدتين
بالذات ، كالإنسان والحيوان ، استتبع ذلك اتحاد هما في الوجود أيضا كذلك ، فيكون
الحمل ذاتيّا وإن كان اتحادهما بحسب الحقيقة بالعرض ، كما في الإنسان والأبيض ،
استتبع ذلك اتحادهما بحسب الوجود أيضا كذلك ، فيكون الحمل بالعرض. فليكن ذلك
لقريحتك [٥٨ ظ] في الفطانة دستورا ، وليخترط في سلك ما لا مجاز لك من الغياهب دون
أن تتّخذ منه لبصرك نورا.
[١٠] تذكرة
سبيل الآن من
الزّمان يشبه من وجه سبيل النّقطة من الخطّ ، وهي للخطّ طرف ونهاية ، كما الخطّ
للسطح ، والسّطح للجسم. لكن الآن لا يوجد أصلا إلّا بحسب التوهّم على خلاف الأطراف
، والأطراف ربما تكون فاصلة ، والآن لا تكون إلّا واصلا.
[١١] فصّ تاسيسىّ
فأحقّ ما يجب أن
يحقق إذن في أمر الآن يشبه أن لا يتعدى أنّ نسبته إلى الزمان نسبة النقطة إلى [٥٨
ب] الخطّ المستدير المتناهي مقدارا ، لا وضعا وقد حقق ذلك أو لو بضاعة في البراعة
في الصّناعة.
[١٢] إشارة
إنّ اتصال الزّمان
وما يتلى عليك في تناهي امتداده ، ليس على أن ينتهى إلى أزل زمانىّ محدود بالآن ،
بحيث يمكن وراء الزمان امتداد ، يوقع العقل بمعونة الوهم بينهما اتصالا بحسب
التصوّر ، فإن حكم به حاكم فهو بحت ذات الوهم ، لا غير ، بل على سبيل آخر يسرى
بفطانتك إليه إن شاء الله يضمنان لك بيان عدم وجود الآن البتة بالفعل في الأعيان
وبالقياس إلى نفس الزمان. فإن وجد فإنّما هو على أن يتوهّمه الوهم في مستقيم
الامتداد إذا قطعه ضربا [٥٩ ظ] من القطع ، فيجده إذ ذاك واصلا بين منتزعيه منه
بالفعل إلّا أنّ المتهوّسين بالقدم يبيّنونه ضربا من البيان على طور آخر.
[١٣] تذكار
ذكر في («الشفاء»
، ص ١٦) : «إنّ الآن لا يوجد بالفعل بالقياس إلى نفس الزّمان أصلا ، والّا لقطع
اتّصاله ، بل إنّما وجوده على أن يتوهمه الوهم واصلا في مستقيم الامتداد ، والواصل
لا يكون بالفعل في المستقيم الامتداد من حيث هو واصل ، وإلّا لكانت واصلات بلا
نهاية ففعليّته إنّما تكون لو قطع الزمان ضربا من القطع ، ومحال أن يقطع اتصاله.
فلو جعل له قطع ، فإمّا في بدايته ، فيكون معدوما ، ثمّ وجد [٥١] فعدمه قبل وجوده
، ولا شيء غير الزّمان يحصل به هذا النوع من القبيلة ، فيكون هذا الزمان قبله زمان
يتصل به ، ذلك قبل ، وهذا بعد. وهذا الفصل يجمعهما وقد فرض فاصلا ، أو على أنّه
نهاية له. وليس لا يمكن أن يوجد بعده شيء ، ولا واجب الوجود حتّى يستحيل أنّ يوجد
شيء مع عدمه.
فالوجود الواجب
والإمكان المطلق لا يرتفعان ، فيكون بعده إمكان وجود شيء ، فله بعد ، وهو قبل ،
فالآن واصل ، لا فاصل ، فقد خولف ما فرض وضعه.
فالزمان لا يكون
له آن بالفعل موجود بالقياس إلى نفسه ، بل بالقوّة القريبة من الفعل، فإنّه يتهيّأ
أنّ يفرض فيه الآن [٦٠ ظ] دائما ، إمّا بفرض فارض أو بموافاة الحركة حدّا مشتركا
غير منقسم ، كمبدإ طلوع أو غروب أو غير ذلك. وذلك ليس بالحقيقة إحداث فصل في ذاته
نفسه ، بل في إضافته إلى الحركات ، كما يحدث من الفصول الإضافيّة في المقادير
الاخر ، كما ينفصل جزء جسم من جزء آخر بموازاة أو مماسّة أو فرض فارض ، من غير أنّ
يكون قد حصل فيه بالفعل فصل في نفسه ، بل مقيسا إلى غيره» («السماع الطبيعى» ، [باختصار].
[١٤] نقد
كأنّا نبهناك
بالذكر والوعد ، على ما ابين به فاسد هذا القول من صحيحه ، فعدم وجود الآن بالفعل
، ثمّ عدم قطعه بعد الانقراض اتصال الزمان في نفسه ، بل باعتبار الإضافة صحيح ما
أيسر [٦٠ ب] أن يتحدّس ذلك. وأمّا استيجاب نهاية الزمان مطلقا قبليّة العدم ذلك
النحو من القبليّة ، أعنى التي ليس معروضها بالذات إلّا الزمان ، أو بعديّة الوجود
الواجب أو الإمكان المطلق تلك البعديّة ، فعساه كاد يسير منكشف الفساد لثاقب
بصيرتك.
وإنّى لعلى شدّة
التعجّب من الرئيس أبى على ابن سينا ، كيف يجعل معيّة غير الزمانيّات مع الزمان أو
الزمانيّات نحوا آخر من المعيّة الزمانيّة ، وسيحيط به علمك إن شاء الله. وكذلك
معيّة بعض المفارقات بالنسبة إلى بعض ، ولا يأتى بمثل ذلك في القبليّة أو البعديّة
[٦١ ظ] ، فيثبت بإزاء تلك المعيّة نحوا من القبليّة أو البعديّة لا يكون زمانيّة.
ولعلّ ذلك من جملة ما أوجبته المماشاة الملتزمة في كتاب «الشفاء» ، فقد نبّأ بها
في مفتتحه.
[١٥] استذكار
أما تبيّن لك ،
بما قرع سمعك في طبقات التعاليم الحكيميّة ، أنّ الأطراف إنّما تكون نهايات
للمقادير من جهة الوضع ، لا من جهة المقدار. فما يكون غير متناهي الوضع لا يكون له
طرف وإن كان متناهي المقدار في المساحة ، كمحيط الدائرة ومحيط الكرة.
[١٦] نياط
أفتذكّرت أنّ
النقطة لا تلزم طبيعة الخطّ من حيث هي خطّ ، ولا من جهة الوجود مطلقا ، [٦١ ب] بل
قد تتخلّف ، وكذلك الخطّ بالنسبة إلى السطح ، وأمّا السّطح ، فإنّه يلزم الجسم في
الوجود البتة ، لكن من حيث هو متناه ، لا من حيث هو جسم. فاحتفظ أنّ الآن سيرته
ذلك بالنسبة إلى الزمان ، فلا يلزمه ، بل يتخلّف عنه في الأعيان دائما وأمّا في
الأوهام فقد يعرض من جهة الإضافة.
[١٧] مفحص تذكيرىّ
عساك تكون ممّن
تفطّن في علومه الحكميّة : أنّه ليس انتفاء المقدار الموجود في امتداده مطلقا
انتهاء لذلك الامتداد بشيء من الأطراف ، انتفاء الامتداد عند حدّ على أنّ يمكن
للعقل بمعونة الوهم تصوّر امتداد آخر متصل به ، [٦٢ ظ] يجمعهما ذلك الحدّ هو
انتهاء له طرف ، هو ذلك الحدّ ، حيثما ليس هذا السبيل ، فلا طرف ولا انتهاء ، بل
انتفاء ، فحسب فأحد امتدادى سطح المخروط المستدير ، أعنى المقاطع للامتداد الآخذ
من جهة القاعدة ذاهبا إلى جهة الرأس لا ينتهى بنقطة الرأس بالذات ، بل هو غير
متناه في الوضع منتف عند تلك النّقطة ، وانتفاء امتداديه عندها لا يستلزم انتهاء
هما بالذّات بها. أفليس امتدادا سطح المثلّث ينتفيان عند نقطة من نقطة زواياه. ثم
لا يستوجب ذلك كونهما منتهيين بها بالذات ، [٦٢ ب] وأ ليس الجسم المخروط المستدير
ينتفى عند نقطة الرأس. وكذلك الجسم المسنّم عند خطّ به ينتهى سطحان من محيطه ، ثمّ
لا ينتهى الأوّل بتلك النقطة ، ولا الثاني بهذا الخطّ بالذات. بل انتهاؤهما بالذات
إنّما هو بالسطح ، وهو ينتهى في المخروط بإحدى جهتى أحد امتداديه بتلك النقطة
وينتفى بالامتداد الآخر عندها وفي المسنّم بالخطّ.
[١٨] فصّ
فكما أنّ الامتداد
المستدير لسطح المخروط منتف عند نقطة الرأس وحادث بتمامه بعدها من دون الانتهاء
بها. وكذلك الدائرة حول القطب في سطح الكرة ، فإنّها منتفية عند نقطة القطب
وموجودة بتمامها بعدها ، فكذلك الزمان منتف في جانب الأزل
على معنى أنّه كان
معدوما صرفا. ثم إنّه أخرج من صرف العدم الى الوجود بتمام امتداده المقداريّ من
غير أن يكون له آن أوّل ينتهى به امتداده بحسب الوجود ، لقد علمت أنّ الانتفاء لا
يلزمه الانتهاء فلا تكن من الجاهلين.
[١٩] استبصار
انقطاع الزمان في
جهة البداية مثلا ، إنّما يستلزم وجود الآن لو كان هو بطرفه مسبوقا بالعدم على
سبيل أن يمكن وراءه امتداد يوقع العقل [٦٣ ط] بمعونة الوهم بينهما اتصالا. فربّما
يسبق إلى الوهم ؛ أنّه قد وقع الانقطاع في شيء من أوساط ما يتصوّر من الامتداد ،
فحصل طرف للموجود من الامتداد تخلّل بينه وبين العدم. وأمّا لو كان له بنفسه أيس
بعد ليس مطلق على أن يكون انتفاؤه بحيث لا يتصوّر وراءه امتداد أصلا ، كما يكون
للزمان ، ولا امتداد ، كما يكون للآن ، بل عدم صرف للزمان لا ممتدّ ولا غير ممتدّ
، على ما نضعه لضروب التّبيين ، فلا يكون الانتفاء في جهة الامتداد يلزم الانتهاء
بالآن. فالآن لا يستطيع هناك إليه سبيلا. وأمّا تحققه في التوهّم ريثما يخلّل
الوهم امتداد الزمان إلى أجزاء ينتزعها منه. فليس بقطع اتصاله [٦٣ ب] في الأعيان
أصلا ، ولا في الوهم بحسب نفس ذاته ، بل بحسب الإضافة ، حسب ما افيد في كلام الشيخ
الرئيس ، فتلطّف في سترك وتقدّس في نفسك واخلع بدنك واقلع حسّك وخذ الحكمة بعقلك
وطهّرها عن رجس وهمك ، ولا تمنحها ذا فطرة عو جاء أو فطانة بتراء.
[٢٠] نقاوة معيارية
إنّما يلزم الوجود
للآن بالفعل حيث يكون لمسافة الحركة التي هي علّة الزمان. فجلّه امتداد خطّيّ
استقامىّ يتعيّن طرفه بأنّه منه تبتدأ الحركة ، فالانطباق بين المسافة والحركة
يوقع ذلك. وأمّا لو كانت المسافة أوضاعا متصلة ، كما في الحركة الوضعيّة لجرم ما
مستدير ، فلا يتعيّن [٦٤ ظ] نقطة بمبدئيّة الحركة أصلا ، لا في الجسم المتحرك ولا
في سطح هو نهايته ولا في محيط دائرة مفروضة فيه ، فإنّ تبدّل الوضع يعرض لجميع
الأجزاء والنّقاط بعضها بالنسبة إلى بعض أو إلى خارج معا ، ولا يكون آن يتعيّن
أوّل حدوث ذلك التبدّل بأنّه فيه ، بل لا يصحّ لمثل هذا الحدوث أوّل آنيّ على ما
تتعرّفه من بعد ، إن شاء الله تعالى
شأنه. فمثل هذا
الحركة لا يستلزم ذلك من جهة البداية أصلا ، لا في العين ولا في الوهم. نعم ربّما
استلزمته في الوهم من جهة النهاية لانتهاء الحركة. فإنّ الوصول إلى منتهى المسافة
آنيّ الحدوث. فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. [٦٤ ب]
[٢١] إشارة
إنّك لتعلم أنّ
الحركة إذا وجدت لا مع احد من السّرعة والبطء في زمان فإذا فرض وقوع أخرى في نصف
ذلك الزمان أو في ضعفه ، كانت لا محالة أبطأ أو أسرع من الأولى. فكانت تلك أيضا
على حدّ من السرعة والبطء ، وقد كانت وضعت لا حدّ على حدّ منهما ، هذا خلف. فإذن ،
الحركة بنفسها ليس في طباعها استدعاء زمان بعينه. كيف وكلّ حركة في مسافة يقع في
زمان ، يمكن وقوعها على أنّها في تلك المسافة في زمان أقلّ ، وكلّ زمان أيضا يمكن
بالنظر إلى هويّته وقوع الحركة في أقلّ منه.
[٢٢] تأسيس
إنّ السّرعة
والبطء لا تختلف بهما الحركات اختلافا [٦٥ ظ] بالنوع ، فكيف وهما تعرضان لكلّ صنف
منها ، وهما ممّا يقبل الأشدّ والأضعف ، والفصل لا يقبلهما ، بل الحركة الواحدة
بالاتصال تتدرّج من سرعة إلى بطء ، فهما من الأمور التي هي الحركة بالإضافة إلى
حركة ، لا من التي لها في ذاتها ولا في الأزمنة تختلف هي بها اختلافا نوعيّا. فكيف
وهي لا تختلف من حيث هي أزمنة بالنوع البتة ، لأنّها أقسام متصل واحد ، بل إن كان
فبالشّخص ، ومقارنة ما تختلف بالشخص دون النوع لا توجب البتة مخالفة فصليّة
منوّعة. فإذن الحركة إنّما تختلف نوعا باختلاف الأمور التي تقوّم ماهيّتها ، [٦٥ ب].
[٢٣] ذنابة
لعلّ الاستقامة
والاستدارة في الحركة تتعاندان تعاند الفصول أو لو حق الفصول اللازمة التي يدلّ
تعاندها على اختلاف الأشياء في النوع ، كما هما في الخطّ.
[٢٤] تنبيه وهتك
أليس حدّ السّرعة
والبطء في المستقيمة والمستديرة من الحركة واحدا. فالسريع هو
الذي يقطع مقدارا
أطول في الزّمان الواحد ، وهذا يتناولهما معا. فكما أنّ المستقيم مقدار ، فكذلك
المستدير ؛ وكما أنّ الأطول في المستقيم ما فيه المثل بالقوّة والزيادة ، فكذلك في
المستدير ، والزمان غير مختلف. فإذن ما قد ظنّ أنّ السّرعة إنّما يقال عليها
باشتراك الاسم فاسد. ولا يؤبه لمن ظنّه ، وإن كان النظر [٦٦ ظ] ربّما أوجب أنّه لا
يصحّ المقايسة بين المستقيم والمستدبر ، ولا المناسبة فيهما ، كما لا يصحّ بين
الخطّ والسطح مع قول المقدار عليهما على التّواطؤ.
[٢٥] استكشاف
أما تبيّن لك أنّ
للحركة المستقيمة طرفا بالفعل ، إزاء لما ينطبق عليه من المسافة ، وهو طرفها. فلو
كان الزمان مقدارا لحركة مستقيمة كان له أيضا طرف ينتهى هو به بالفعل ، أعنى الآن
بالمعنى المسلف تفسيره. كأنّك تفطّنت أنّ الزمان لا يكون له ذلك بالفعل البتة.
فإذن إنّما هو مقدار الحركة المستديرة. لا أيّة حركة كانت ، بل التي هي أسرع
الحركات ، وهي حركة الجرم الأقصى من المشرق [٦٦ ب] إلى المغرب على منطقة معدّل
النّهار.
فقد بيّن ، بما
تبرهن في «علم الهيئة» ، أنّه يقطع مقدار درجة من مقعّره وعدد أميالها تسعة آلاف ،
ألف وثلاث مائة وثلاثة وأربعون ألفا ، وثلاثة وتسعون في ثلاث خمس ساعة مستوية وفي
جزء من تسع مائة جزء منها. وذلك بقدر ما يعدّ أحد من واحد إلى ثلاثين يقطع ما عدد
أمياله مائة وخمسة وخمسون ألفا وسبع مائة وثمانية عشر وسدس. فمقدار ما يقول أحد
واحد يتحرّك خمسة آلاف ومائة وستة وتسعين ميلا ، وهو ألف وسبع مائة واثنان وثلاثون
فرسخا من مقعّره. والله أعلم بما يتحرّك محدّبه [٦٧ ظ] حينئذ.
[٢٦] تأييد
كأنّك تحدّست أنّ
الزّمان بأجزائه من الساعات والأيّام والشهور والأعوام أظهر المقادير إنّية ،
فيكون محلّه المستحفظ هو به أظهر الحركات فعليّة : وهي الحركة اليوميّة ، أعنى
حركة فلك معدّل النهار التي يتحرك بها جميع السماويّات ، وبها تتقوم الأيّام
والساعات
في بقاع الأرض
بأسرها ، وتطلع وتغرب الكواكب الثابتة والسيّارة في الآفاق أكثرها.
[٢٧] تشييد حدسىّ
إنّ جملة
الزّمانيات يسعها الزمان بالفيئيّة ، كما يسع المكان جملة المكانيّات كذلك. وكما
أنّ كلّا من مظروفات المكان يتصل منه امتداد مكانىّ إلى أقصى عالم المكان ، وهو
فلك محدّد الجهات ، كذلك كلّ [٦٧ ب] من مظروفات الزمان يتصل امتداد زمانىّ منه إلى
أقصى عالم الزّمان ، وهو أفق محتد التغيّر ومحدّد جهة التقضّى والتجدّد. وكما
المكان يحيط بالمكانيّات جميعها ، كذلك الزّمان بالزّمانيّات جملتها ، وإلّا كان
نسبة بعضها إليه بالمعيّة الغير الزمانية دون الفيئيّة. وما أيسر أن يظهر لك فساد
ذلك.
فلو كان محلّ
الزمان حركة مستقيمة ، ولا شيء منها يحيط بالكلّ ، كان لم تقع فيه الزمانيّات على
أن تنسب إليه ب «في» ، بل كان أكثرها تقع مبانية له على أن يقتصر في النسبة على «مع»
معيّة على نحو أخرى غير زمانيّة. وفيه خداج وزيغ. وسيتلى عليك ضربا ما من البيان [٦٨
ظ] إن شاء الله تعالى.
فإذن محلّ الزمان
حركة مستديرة تحيط بهذا العالم كلّه ، وما هي إلّا حركة الجرم المحيط بالكلّ
المحدّد للجهات. فتقدّس بعقلك وتحدّس من نفسك.
[٢٨] إيقاظ
ارجع إلى نفسك ،
عساك تجد فعليّة تحقق الآن في الزّمان بحسب الوهم ، كأنّها تشبه فعليّة النّقطة في
السطح المستدير ، كما لقطب الحركة في سطح الكرة ؛ أو المستوى ، كما لمركز الدائرة
في سطحها. ما أسهل ما يتأتى لك بعد ما سبق أن تتفطّن.
[٢٩] تبصير
ليس الجرم المتحرك
الحركة الحافظة للزمان ، وجد ، ثمّ إنّه تحرّك ، بل إنّما أخرجه [٦٨ ب] مبدعه من
الليس إلى الأيس متحرّكا.
[٣٠] مضيق شكّ وفصية
تحقيق
لعلّك تقول : إن
كان للزمان وجود على أن يكون مقدارا للحركة ، وجب أن يتبع كلّ
حركة زمان ، فيكون
كلّ حركة تستتبع زمانا.
فيقال لك : ألست
تفرّق بين أن يقال : إنّ الزمان مقدار لكلّ حركة ، وبين أن يقال : إنّ إنيّته
متعلقة بكلّ حركة ، فالصحيح هو الأوّل دون الثاني. فليس من شرط ما يقدّر الشيء أن
يكون عارضا له وقائما به ، بل ربما قدّر المباين بالموافاة والموازاة. وأيضا بين
أن يقال : [٦٩ ظ] ذات الزمان متعلّقة بالحركة على سبيل العروض فالصحيح هو الثاني ،
فيكون هذا يعرض لتلك دون الأوّل ، فيكون تلك تستتبع هذا ، فليس إذا تعلّق ذات شيء
بطبيعة شيء ، وجب أن لا تخلو طبيعة الشيء عنه. وما تبرهن من أمر الزمان إنّما هو
أنّه متعلق بالحركة وهيأته لها ، ومن أمر الحركة أنّ كلّ حركة تقدّر بزمان. وليس
يلزم من هذين أن يكون كلّ حركة يتعلق بها زمان يخصّها. فلو أنّ كلّ ما قدّر شيئا
استلزم إن كان عارضا له ، كان لكلّ حركة زمان يعرض ذاتها ، وليس بذلك ، بل الحركات
التي لها ابتداء أو انتهاء مطلقا عند [٦٩ ب] المتهوّسين بالقدم أو على وجه يستلزم
وجود الآن بالفعل على ما يشبه أن يكون هو الحقّ لا يتعلق بها زمان. وكيف ، ولو كان
لكان مفصولا بالآن ، وقد زاف ذلك.
فإذن الزمان
العارض لحركة واحدة على صفة تصلح لأن يتعلق بها هو يقدّرها وتقدّر به سائر الحركات
، وتلك حركة تستمرّ ، ولا يكون لها بالفعل أطراف تستلزم آنات تنطبق عليها ، وذلك
كالمقدار الموجود في جسم يقدّره ويقدّر ما يحاذيه ويوازيه ، وليس يوجب تقديره ،
وهو واحد بعينه للجسمين ، أنّ يكون متعلّقا بهما ، بل يتعلّق [٧٠ ظ] بأحدهما
ويقدّره ، والآخر الّذي لم يتعلق به أيضا. وأمّا السكون ، فإنّما ينسب إليه الكون
في الزمان أو التقدّر به على مسلك التجوّز. والمعنى أنّ السّاكن لو كان متحرّكا
كان مقدار حركتها الزّمان.
[٣١] تذنيب
فإن قلت : أرأيت ،
إن لم توجد تلك الحركة أكان يفقد الزّمان ، حتّى إذا وجدت حركات غيرها كانت بلا
تقدّم وتأخّر. قيل : أجاب عنه الشيخ في «الشفاء» بأنّه إن لم يكن حركة مستديرة
لجرم مستدير ، لم تعرض للمستقيمة جهات ، فلم يكن حركات مستقيمة طبيعيّة ، فلم تكن
قسريّة ، فيجوز أن يكون حركة جسم من الأجسام [٧٠ ب]
وحده ولا أجسام
أخر مستحيلة ، وإن لم تكن استحالتها بيّنة ، فكثير من المحالات لا تتبيّن
استحالتها إلّا ببرهان. والوهم إذا رفع المستدير وأتى بالمستقيم يجد زمانا محدودا
لا يستنكره. لكنّ النظر في ما يصحّ في الوجود ، دون التوهّم.
[٣٢] تفريع وضبط
فالدّوريّة غنيّة
عن سائر الحركات غير مستغنية عنها. فهى إذن أقدم الحركات بالطبع ، فيجب أنّ تتقدّم
جميع الحركات حتّى يصحّ وجودها. وأيضا المستديرة تامّة لا تقبل الازدياد والنقص
والاشتداد والتضعّف ، كما تعرض في الحركات الطبيعيّة أن تشتدّ آخر الأمر ، كمدرة
إذا قربت (٧١ ظ) من المركز فى القسريّة إن تتضعّف إلى أن تبطل رأسا. والتّامّ
وكذلك الجرم الأقصى المستدير الذي هو موضوع تلك الحركة الدوريّة ، فإنّه أقدم
الأجرام بالطبع ، وبه تتجدّد جهات الحركات الطبيعيّة المستقيمة ، فلا تحيّف بسطحه
المحدّب خلأ ولا ملأ وهو. أيضا أشرف من الناقص. فالدوريّة أقدم من سائر الحركات بالشرف
أيضا أشرف من سائر الأجرام.
[٣٣] كشف وإذاعة
رأيت كيف بدأنا
بما يحيل قيام الزّمان بشيء من الحركات الفاعلة حدودا ونقطا ، أينيّة كانت أو
كميّة أو كيفيّة ؛ ثمّ ثنّيناه بإيجاب كون مستديرة بوضعيّة الاستحفاظ هي أظهر
الحركات [٧١ ب] ، وليست إلّا اليوميّة ، فرجع إبداء احتمال وضعيّة لا يشعر بها ،
وهي أسرع من اليوميّة ساقطا سقوط اللّغو من القول [مبدئ الاحتمال هو الشريف
العلّامة في حاشية شرح العين. منه رحمهالله]. ثمّ قفّيناه بما شمل الحركة الكيفيّة الغير المتناهية لو
أمكنت ، كحركة الهيولى في الكيفيّات الاستعداديّة عندهم. وأمّا حركة النّفوس في
الكيفيّات النفسانيّة والشوقيّة ، فأنت متحدّس من نفسك حالها. وكيف لم تحوجها
سياقة البيان إلى أخذ وجوب السكون بين المستقيمتين.
وفيه تجشّم أنت
عنه لفى مندوحة. فالرواقيّون ، ومنهم أفلاطون الإلهيّ نافوه ، وأكثر المتكلمين
موافقوهم. والمشّاءون مثبتوه بقول دحض ، والجبّائيّ من [٧٢ ظ] من المعتزلة بما هو
أدحض.
[٣٤] تبصرة
المتهوّسون بالقدم
يجعلون الزمان غير متناهي الامتداد في جانب الأزل ، ولا منقطعه في جنب الأبد ،
فينزّهونه عن العدم أزلا وأبدا. ونحن ، قاطبة المليّين ـ نردعهم عن الحكم الأوّل.
ويوافقنا من أوائل القدماء الحكماء السّبعة المقتبسون نور الحكمة من مشكاة
النبوّة. فمن الملطيّين ثالس وانكساغورس وانكسيمايس ، ومن غيرهم أنباذقلس
وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون دون الثاني. فلم يقم عقل أو شرع بامتناع بقاء ممكن ما
أبدا ، بل قد يقومان بإثباته ، كما في المفارقات من النّفوس النّاطقة الإنسانيّة
وغيرها [٧٢ ب]. ولعلّه هو الحقّ في الزّمان أيضا.
[٣٥] تكملة
من نفى منهم
السّكون بين الحركات المختلفة أينيّة وغيرها ، يتمسّك في الإسناد إلى المستديرة
بامتناع اتصال الحركات المختلفة بعضها ببعض بحيث يصير المجموع حركة واحدة.
فالزّمان إذ هو شيء واحد متصل دائما يجب إسناده إلى ما هو مثله في الاتصال
الوحدانىّ. فإذن الحافظة له متصلة دائمة ، ولا يكون سوى الدّوريّة.
ومن أثبت ، قال :
المتحرك إلى حدّ ما بالفعل إنّما يصل إليه في آن. ثمّ إذا تحرّك عنه فلا محالة
يصير مقارنا أو مباينا له بعد أن كان واصلا في آن أيضا ، ولا يتّحدان ، فيكون
المتحرك واصلا ، [٧٣ ط] ، مباينا معا ، فليجتمع النّقيضان ، فهما متغايران ولا
تتشافعان، فيلزم الجزء الّذي لا يتجزّى ، فبينهما زمان ، والمتحرك لا يكون فيه
متحرّكا إلى ذلك الحدّ ، ولا عنه. فإذن هو ساكن. ونوقض بالحدود المفروضة في
المساقات المتصلة المقطوعة بحركة واحدة.
وذكر الشيخ في «الشفاء»
(...) : إنّ مباينة المتحرّك للحدّ ، أعنى حركته ، إنّما تقع في زمان. فإن عنى بآن
المباينة طرف زمانها ، فلا يمتنع أنّ يكون هو بعينه آن الوجود ، فإنّه طرف للحركة
عن ذلك الحدّ ، وطرف الحركة يجوز أنّ يكون شيئا ليس فيه حركة ، فيخرج عن ذى الطرف
، وفيه [٧٣ ب] يقع اللاوصول ولا يجتمع النقيضان ؛ وإن عنى به آن يصدق فيه الحكم
بالمباينة فهو مغاير لذلك الآن ، وبينهما زمان. لكنّ المتحرك لا يسكن فيه ، بل
يقطع مسافة تقع بين ذلك الحدّ وبين المباين له وضعا.
قال : «وكذلك إن
بدّل لفظ المباينة لا مماسّة».
ثمّ أتمّ الحجّة
بأنّ الحركة الموصلة إلى الحدّ المذكور إنّما تصدر عن علّة موجودة تسمّى باعتبار
كونها مزيلة للمتحرك عن حدّ ما ، مقرّبة له إلى آخر مثلا. وتلك هي علّة الوصول إلى
ذلك الحدّ. لكن باعتبار الإيصال. وذلك اعتبار آخر [٧٤ ظ] غير ما بحسبه التّسمية
ميلا ، وهي موجودة آن الوصول. فالميل من الأمور التي توجد في آن يكون معلوله ،
وليس من التي لا توجد إلّا في زمان ، كالحركة. ثمّ المباينة لا تحدث إلّا بميل ثان
يحدث أيضا في آن ويبقى زمانا ، ولا يكون ذلك الآن هو آن الوصول ، فكيف يجتمع ميلان
مختلفان في جسم واحد ، فإذن بينهما زمان يكون المتحرّك فيه عديم الميل ، فيسكن.
[٣٦] أوهام وتنبيهات
ولعلّك تقول : ألا
لم لا يكون الميل علّة معدّة للوصول ، لا موجبة ، فيجوز أنّ تنعدم ، فيوجد معلولها؟
فيقال لك : ألم يكن النظر في علّة علّته الموجدة ، وهي بعينها علّة صدور الحركة لا
باعتبار [٧٤ ب] ما يسمّى ميلا ، أعنى كونها مزيلة المتحرك عن حدّ ما ، مقرّبه إلى
حدّ آخر ، فيزول بذلك الاعتبار عند الوصول إلى ذلك الحدّ ، بل باعتبار الإيصال
إليه وأنّه يبقى ما بقى معلوله ، كما في طبيعة الحجر من الثقل قبل الوصول إلى
حيّزه الطبيعىّ وما دام فيه بعده.
أو تقول : ما ذكر
إنّما يصحّ لو صحّ للآن وجود ، وليس يصحّ. فيقال لك : أليس يتعيّن عند الوهم آنات
في الزمان تطابق حصول أشياء واقعة ، لا شيئا فشيئا ، بل دفعة ، كطلوع أو غروب.
وهذه موهومات انتزاعيّة ليست اختراعيّة ، فيصدق كونها [٧٥ ظ] ظروفا لحصولات أو
ارتفاعات.
أو تقول : أليس
ينتقض البيان بعلّة الآن وعلّة عدمه. فإمّا أنّ تجتمعا في وقت واحد أو يكون
إحداهما تدريجيّة أو يقع بينهما زمان؟ فيقال : سيقرع سمعك أنّه ليس كلّ ما لا يكون
حدوثه على التدريج ، فإنّه يكون آنيّا ، بل هناك قسم ثالث هو الحادث في جميع
الزمان على أنّ يكون له آن أوّل الحدوث فتربّص.
[٣٧] هتك وحكومة
ربما يقال : لم
يكون اللّامماسّة حاصلة في الزّمان الحاصل بعد المماسّة ، لا على أنّ يكون لزمانها
طرف غير آن المماسّة ، فيكفى هناك [٧٥ ب] آن واحد.
ويدفع : بأنّ آن
المماسّة الذي يجب أنّ يوجد فيه السبب الموصل لا يمكن أنّ يقع مبدأ زمان يزول فيه
عن السبب كونه موصلا ، لأنّ ذلك الزّوال فاقر إلى حدوث سبب متجدد ، لا يمكن
اجتماعه مع السبب الأوّل. والسّببان ليسا من الموجودات التي تحصل في أزمنة دون أطرافها
، ولا ممّا لا يوجد إلّا في أطراف الأزمنة ، ولا ممّا تكون منطبقة على أزمنتها.
فهما إذن ممّا توجد في الأزمنة وفي أطرافها. لكن يتأتّى أنّ المفارقة تتحقق في نفس
زمان ، طرفه آن الوصول وفي أيّ جزء فرض فيه ، فهى مع الحركة التي [٧٦ ظ] يوجد منها
اللّاوصول. وإذ ليس لها آن أوّل الحدوث فكذلك لما معها.
فإذن الميل الثاني
إنّما يحدث في نفس ذلك الزمان ، لا على سبيل أنّ يكون لحدوثه آن أوّل ، لكون
معلوله أيضا على هذا السبيل. فلا ينفصل علّة المفارقة واللّاوصول عنهما في الحكم.
ثمّ لو لم يؤخذ ذلك على مسلك التّبيين ، فلم لا يسلك في تزييف الحجّة على طريقة
المنع؟
وما يقال : «إنّ
الطّبيعة ، بعد أن يتقدّم عن محلّها القوّة الموصلة ، لا يمكن أن يوجد فيه الميل
المزيل إلّا بعد زمان. وإذ ليس للميل هويّة اتصاليّة تنطبق على الزمان لا يمكن أن
يوجد شيئا [٧٦ ب] فشيئا. فإذن حدوثه في آن هو آخر ذلك الزمان» ، يشبه أن يكون دعوى
خليّة عن برهان. فإنّ تأثيرات الجسمانيّات وإن كانت زمانيّة ، لكن ليس يلزم أن
يكون لآثارها أوّل الحدوث.
[٣٨] شكّ وإفشاء
إنّه ليسبق إلى
الوهم : أنّ لنا أن نفرض ثلاث كرات صغرى ووسطى وكبرى ، بعضها في ثخن بعض ، على أن
يكون البعد بين مركزى الاوليين كالبعد بين مركزى الاخريين ، وكلّ حاوية متحركة
ومحرّكة ، محويّتها حول مركزها ، وحركة الوسطى المحاطة ضعف حركة الكبرى المحيطة
وعلى خلاف جهتها. ولنفرض المراكز في مبدأ [٧٧ ظ] الدّور على خطّ مستقيم هو قطر
المحيطة الكبرى. في تمام دوراتها
يتحرّك مركز جرم
الصغرى على تمام قطر منطقة الكبرى مرّتين نزولا وصعودا ، ولا يتخلّل بينهما سكون
لاتصال الحركات.
فكيف وقد أسّس ذلك
من قام لسدّ ثغور الحكمة ، [هو الحكيم المحقق الطوسىّ قدّس سره القدوسىّ ، منه رحمهالله] على أن يكون أساسا لحلّ العقدة في أشكال تشابه حامل القمر
حول مركز العالم مع عدم تساوى أبعاد مركز التدوير عنه في أجزاء الدّور. وإنّك تعلم
أنّه لا يتطرّق السكون إلى الفلكيّات ويفشى الزّلل فيه بأنّه إنّما يحصل الصعود
والهبوط هناك بالحركات المستديرة في نفس الأمر والمركّبة [٧٧ ب] منها في مركز
الصغرى إنّما هي المستقيمة بحسب الرؤية ، لا التي يلزمها الميل الاستقامىّ ،
والحكم إنّما كان على المستقيمتين تلك الاستقامة ، فهما تستندان إلى تخالف
الميلين. وأمّا هذه فلا تستلزم مبدأ ميل استقامىّ، فلا يلزم أن يكون في الفلكيّات
مبدأ ميل مستقيم ، وفيها مبدأ الميل المستدير. ثمّ إنّ الكلام في الحركات
المستقيمة بالذات ، وهذه حركة بالعرض.
[٣٩] وضع استنكارىّ
كأنّ الرّائين ذلك
الرأى يجعلون امتناع وجود الميلين سببا لتحقق السكون ، كما أنّ امتناع الخلأ قد
يكون سبب الحركة التّخلخليّة ، ويرون أنّ عدم حدوث الميل [٧٨ ظ] المحرّك عن القوّة
المحرّكة هو المبدأ القاسر للسكون. فالميل القريب ربّما يستولى على الميل الطبيعىّ
ويعدمه ، ويمنع الحركة الطبيعيّة ، وتكون عند انتهاء الحركة القسريّة بقيّة من
الميل الغريب تقوى على منع القوّة الطبيعيّة عن إحداث الميل الطبيعىّ إلى أن تبطل
بنفسها أو يبطلها سبب آخر. كما أنّ السّخونة الغريبة بعد انقطاع الحركة قد تمنع
طبيعة الماء عن انبعاث بردها الطبيعىّ عنها ، أو أنّ السّبب فيه معنى وجوديّ ،
فإنّ المحرّك يفيد قوّة غريبة يتحرّك بها الجسم ، وبتوسّطها قوّة مسكّنة هي أمر
كالمضادّ للميل ، أعنى بذلك أنّها أمر غريب ، به يحفظ الجسم مكان [٧٨ ب] ما هو فيه
، كما بالميل يترك مكانه فيكون منه قسريّ وطبيعىّ ، كما يكون من الميل. ويلتزمون
السّكنات حيث تحصل في المسافة حدود بالفعل ، كما إذا اختلفت أبعاضها بعروض البياض
والسواد مثلا. والسكون في الكرة المركّبة على دولاب دائر
تحت سطح بحيث
تلقاه عند الصّعود على نقطة ، ثمّ تفارقه حين المماسّة ، والرئيس أبو على لم يصوّب
تعليق أحكام طبيعيّة بأوهام رياضيّة.
ومنهم من ينشط
العقدة بأنّ موافاة الحركة المستديرة لموضع المماسّة لا يقتضي انقطاعها ، كما في
سائر الحدود المفروضة في المسافة ، [٧٩ ظ] فكيف والكواكب تنتهى بالحركات المستديرة
المتصلة إلى نقاط معيّنة ، وترجع عنها ولا سكون في الفلكيّات.
ومنهم من لم يفرّق
بين الحركات المستقيمة والمستديرة إذا ما كان الوصول إلى حدود بالفعل ، ويقصر
الحكم بتخلّل السكون على الحركات المختلفة الذاتيّة ، والكواكب إنّما تتحرّك تلك
الحركات بالعرض ، وبه يسدّ الخلل أيضا في حجر الرّحى المرمىّ إلى فوق إذا ما عارضه
في مسلك نزوله حصاة صغيرة صاعدة. وفى «الشفاء» ، سيق المقال إلى ضرب من البسط لا
يحمله طور [٧٩ ب] الغرض في هذا الكتاب ، واسلوب الجبّائىّ مستبين الوهن بالمسلف من
القول.
فصل (٣)
فيه يستقصى النّظر في الآن السّيّال ، وتحلّ شكوك قيلت في أمر الزّمان والآن ،
ويحقّق معنى كون الزمان غير قارّ الذات.
[١] مدخل
هل كفاك سلف القول
في كشف الغطاء عن حقيقة الآن ، بمعنى الطّرف الوهمىّ للزمان ، أعنى الذي هو حدّ
مشترك بين حاشيتيه ، الماضى والمستقبل ، به يتصل أحدهما بالآخر ، وهو واصل بينهما
بذلك الاعتبار ، فاصل باعتبار أنّه يفصل الأوّل عن الثاني ، لكونه نهاية لذلك
وبداية لذا. لكن على الجهة التي عرّفناكها [٨٠ ظ] من قبل. وتتحصّل فعليّته
الذهنيّة بشعور دفعىّ بمماسّة جسم لآخر ، أو وصول مركز النيّر إلى محاذاة الأفق أو
شيء من أشباه ذلك ، وهو نفس طرف الزمان ، لا شيء في طرفه وكذلك سنّة الأطراف.
فالسّطح هو نفس ظاهر الجسم ، لا شيء في ظاهره. والخطّ هو نفس طرف السّطح وظاهره،
لا شيء هو كذلك. وكذلك النقطة ، فقد حان حين أن تتعرف أنّ هناك آنا على سبيل آخر.
[٢] توطئة
ألم يقرع سمعك في
الحكمة أنّ الحركة على معنيين : أحدهما التوسّط بين مبدأ المسافة ومنتهاها ، بحيث
أيّ حدّ يفرض في الوسط لا يكون [٨٠ ب] المتحرّك قبله ولا بعده فيه، لا كحدّى
الطّرفين ، فهذا هو صورة الحركة ، وهو صفة واحدة بسيطة شخصيّة تلزم المتحرّك ولا
تتغيّر ما دام هو متحرّكا وإن تغيّرت حدود التوسّط بالفرض إزاء ما ينفرض في
المسافة من التقاط مثلا. وليس كون المتحرّك هو متوسّطا ، لأنّه في حدّ دون حدّ ،
بل لأنّه على الصفة المذكورة.
ثمّ هذا الكون في
الوسط وإن كان واحدا شخصيّا ، فإنّه من حيث له حدود بالقوّة من جهة اتصال موافاة
حدود المسافة يقبل الانقسام بالفرض إلى غير نهاية ، وإلّا كان دفعة ؛ فهو مستمرّ
بحسب الذات غير مستقرّ بحسب [٨١ ظ] النسبة إلى حدّ تلك الحدود. فكما أنّ النقطة
مثلا في المسافة لا تكون بالفعل ولكن بالقوّة ، فكذلك كلّ
كون من الأكوان
المنتزعة من ذاك لا تتميّز عمّا يليه بالفعل إلّا بالقوّة.
فإذن ، الحركة
وجود بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل. فهى كمال أو فعل أوّل ، به يتوصّل إلى كمال
أو فعل ثان هو الوصول إلى الغاية ، فلذلك رسموها بكمال أو فعل أوّل لما هو بالقوّة
من جهة ما هو بالقوّة أو بالخروج من القوّة إلى الفعل يسيرا يسيرا على سبيل اتجاه
نحو شيء. وثانيهما الأمر المتصل المنطبق على الممتدّ من المسافة بين طرفيها ؛ وهذا
يسمّى الحركة بمعنى القطع ، (٨١ ب) والأوّل الحركة التوسّطيّة. فتذكّر ولا تكون من
الذاهلين.
[٣] إيناس
هل اختطفت ما
يقولون : إنّ النقطة فاعلة للخطّ ، كالوحدة للعدد ؛ فإنّ طرف المتحرّك ، وليكن
نقطة ما ، كرأس مخروط يرسم بحركته وسيلانه مسافة ، بل خطّا ما ، كأنّه ، أعنى ذلك
الطرف ، هو المنتقل ، فقد تعرض للنقطة مماسّة منتقلة ، والمماسّة لا تحدث إلّا في
آن. فلا يصحّ تتالى المماسّات.
فإذن ، بين كلّ
مماسّتين حركة وزمان ، فيوجد هناك لا محالة خطّ ينطبق عليهما. ثمّ ذلك الخطّ تنفرض
فيه نقطة متوهّمة ، لا على أنّها فاعلة له أو أجزائه ، بل على أنّها [٨٢ ظ] واصلة
بين أجزائه الوهميّة. فالفاعلة للخطّ غير المتوهمّة فيه.
فهذا القول في
النقطة وإن كان أمرا يقال للتخييل ، لا على أنّ له إمكان وجود ، على ما حققه الشيخ
الرئيس في «الشفاء» و «التعليقات». فإنّه إذا ماسّ الجسم جسما بنقطة ثمّ ماسّه
باخرى تكون النقطة الاولى قد بطلت بالحركة التي بينهما ، إذ المماسّة لا تثبت ،
والجسم يكون بعد المماسّة كما كان قبل المماسّة ، فلا تبقى فيه نقطة ثابتة تكون
مبدأ خطّ بعد المماسّة ولا يبقى امتداد بينهما وبين أجزاء (آخر) المماسّة. فإنّ
تلك النقطة إنّما هي نقطة بالمماسّة لا غير ، كما علم في الطبيعيّات. فإذا بطلت [٨٢
ب] تلك المماسّة بالحركة فكيف تتبقى هي نقطة ، وكيف تبقى الخطّ الذي هي مبدأ له.
وأيضا ما لم يكن هناك سطح موجود ، لم يصحّ للنقطة حركة. فإذن السطح والخطّ يوجدان
قبل النقطة ، فلا تكون النقطة حركة النقطة علّة لوجود الخطّ ، بل هذه الحدود جميعا
متأخّرة عن وجود الجسم. لكنّك إذ انجذبت بذهنك إلى لحاظه تدرّجت إلى نيل ما أنت
بسبيله.
[٤] إذاعة
يشبه أن يكون في
الحركة بمعنى القطع شيء ، كالنقطة الفاعلة للخطّ وأشياء كالنقط المفروضة فيه التي
لم تفعله ، بل تأخّرت عنه (٨٣ ط) وكذلك في الزمان ، فإنّه يتوهّم منتقل وحدّ في
المسافة وزمان. فالمنتقل بفعل نقلة متصلة على مسافة متصلة في زمان متصل ، فهو ، بل
حالته التي تلزمه في الحركة ، أعنى الكون في الوسط ، أمر بسيط غير منقسم ، فعّال
بسيلانه اتّصالا متقدّرا بالزمان ، ويطابقه من المسافة نقطة ، أعنى الفاعلة ، لا
الواصلة بين جزءين من اجزائها ، ومن الزمان آن.
وهذا هو ما نسمّيه
الآن السّيال. لست أعنى بذلك ، الآن المحفوف بالماضى والمستقبل ، كأنّه حدث زمان
فحدّ بعد حصوله بذاك ، على ما عرّفناك من قبل ، بل الأمر [٨٣ ب] البسيط الراسم
للزمان الذي هو مقدار الحركة المنطبق على الحركة التوسّطيّة. فمن البيّن أنّه لا
يكون مع المنتقل المتحرّك خطّ المسافة فقد خلفه ، ولا الحركة بمعنى القطع فقد
انقضت ، ولا الزمان فقد سلف. فإذن إنّما يكون معه من كلّ واحد أمر غير منقسم باق
دائما ما بقى الانتقال. فمن القطع الشيء الذي هو الحركة ما دام الشيء يتحرك ، ومن
المسافة الحدّ إمّا نقطة أو غيرها ومن الزمان هذا الآن.
[٥] ذكر فيه تشييد
قال الشيخ في
طبيعيات («الشفاء» ، ص ١٦٤) : «فكلّ واحد من هذه نهاية ، والمنتقل أيضا نهاية
لنفسه ، [٨٤ ظ] من حيث انتقل ، كأنّه شيء ممتدّ من مبدأ المسافة إلى حيث وصل ،
فإنّه من حيث هو منتقل شيء منتقل من المبدأ إلى المنتهى ، وذاته الموجودة المتصلة
حدّ ونهاية لذاته من حيث قد انتقل إلى هذا الحدّ.
فحرى بنا أن ننظر
: هل كما أنّ المنتقل ذاته واحدة ، وبسيلانه فعل ما هو حدّه ونهايته ، وفعل
المسافة أيضا ؛ فكذلك في الزمان أيضا شيء هو الآن يسيل ، فتكون هي ذاتا غير منقسمة
من حيث هي هو ، وهو بعينه باق من حيث ذلك ، وليس باقيا من حيث هو الآن ، لأنّه
إنّما يكون آنا ، إذا أخذ مجدّدا للزمان ، كما أنّ ذلك [٨٤ ب] إنّما يكون منتقلا
إذا كان محدّدا لما يحدّده ، ويكون في نفسه نقطة أو شيئا آخر.
وكما أنّ المنتقل
يعرض له ، من حيث هو منتقل ، أنّه لا يمكن أنّ يوجد مرّتين ، بل
هو يفوت بفوات
انتقاله ، كذلك الآن من حيث هو آن ، لا يوجد مرّتين. لكنّ الشيء الذي لأمر ما صار
آنا ، عسى أنّ يوجد مرارا ، كما أنّ المنتقل من حيث هو أمر عرض له الانتقال عسى أن
يوجد مرارا. فإن كان شيء مثل هذا موجودا ، فيكون حقّا ما يقال : إنّ الآن يفعل
بسيلانه الزمان ، ولا يكون هذا هو الآن الذي يفرض بين زمانين يصل بينهما. كما أنّ
النّقطة الفاعلة بحركتها [٨٥ ظ] مسافة هي غير النقطة المتوهّمة فيها. فإن كان لهذا
الشيء وجود فهو مقرون بالمعنى الذي حققنا في ما سلف أنّه حركة ، من غير أخذ متقدم
ولا متأخر ولا تطبيق.
وكما أنّ كونه ذا
أين إذا استمرّ سائلا في المسافة أحدث الحركة ، كذلك كونه ذا ذلك المعنى الّذي
سمّيناه الآن إذا استمرّ سائلا في متقدّم الحركة ومتأخّرها أحدث الزّمان. فنسبة
هذا الشيء إلى المتقدم والمتأخّر هي كونه آنا ، وهو في نفسه شيء يفعل الزمان».
[١٦] تنبيه
أيتيسّر لك أن
تتلطّف من نفسك فتجد أنّ استمرار ذلك الأمر البسيط في الحركة مع عدم استقرار [٨٥ ب]
نسبته إلى الحدود المفروضة في المسافة بحسب الوجود في الأعيان واتصال ذلك مدّة
الحركة بحيث تنطبق على المسافة المتصلة في ذاتها وحصول قطع المسافة في الخارج على
الاتصال ، لا على أن يكون هناك قطوع أجزاء المسافة متمايزة على الانفصال ، فيلزم
أن يكون هي ذات مفاصل بالفعل يستوجب الحكم البتّى بوجود أمر ممتدّ من الحركة في
الأعيان منطبق على المسافة المتصلة ، لكن على أن يكون موجوديّته في مجموع شخص زمان
الحركة على التطابق. فتنفرض الأجزاء فيه جسمات ، تنفرض في ذلك الزّمان ولا يجتمع
اثنان [٨٦ ظ] متها في شيء من أجزاء الزّمان أو شيء من الآنات المنفرضة فيه. وكذلك
وجود الآن السيّال في الخارج على وصفى الاستمرار وعدم الاستمرار ، ووجود الحركات
المعيّنة مع انطباق الحركة على الزمان يستدعيان الممتدّ المتصل من الزمان أيضا في
الأعيان على نحو ما في الحركة ، إلّا أنّ الممتدّ من الزمان موجود في نفسه ، لا في
آن ولا في زمان ، بخلافه من الحركة ، فإنّها توجد في الزمان.
ثمّ أليس قول
جمهور الحكماء في تقسيم الكم الموجود في الأعيان إلى القارّ و
غير القارّ ،
وتبيين وجود الزمان بأجزائه الممتدّة من الليالى والأيّام والشهور [٨٦ ب] والأعوام
، والحكم بأنّ الموجود من الحركة يتقدّر بالزمان وينطبق على المسافة وتتكمّم
بكميّتها بالعرض ، وهو لا يصحّ في التوسّطيّة ؛ ومخالفة عامّة المتكلّمين لهم في
وجود العرض الغير القارّ من الأمور الموضعة مذهبهم في وجود الممتدّ من الزمان
والحركة وإجراء تلك الأحكام مجرى المسامحة يشبه أن يكون فشفشة في القول وتقوّلا
على الفلاسفة وقعقعة في الفلسفة وهدما لبنيان الحكمة.
[٧] إشارة
كما أنّ الحركة
التوسّطيّة والآن السيّال ترسمان الممتدّ من الحركة والزمان الذي هو مقدارها في
الأعيان ، كذلك يرتسم [٨٧ ظ] من كلّ منهما بحسب الاستمرار وعدم الاستقرار أمر
ممتدّ في الذهن ، أعنى الخيال. وحدوث ذلك الارتسام الخيالىّ إنّما يكون على
التدريج في زمان. فالأجزاء المفروضة في ذلك الممتدّ تكون متعاقبة في الارتسام على
نحو ما تتعاقب الأجزاء المفروضة في الخطّ المستقيم المرتسم من القطرة النازلة أو
المستدير المرتسم من الشعلة الجوّالة ، أعنى بذلك التعاقب في صرف الحدوث دون
البقاء ، فإنّ تلك الأجزاء مجتمعة هناك في البقاء آنا على خلاف ما يكون في
الارتسام الخارجىّ ، فشأنه [٨٧ ب] هناك تعاقب ما تنفرض من الأجزاء المتوهمة حدوثا
وبقاء. فاحدس من ذلك أنّ من حكم بكون الزمان أو الحركة غير قارّ الذات مطلقا ، عنى
به ذلك بحسب الوجود في الأعيان.
[٨] وهم وهتيكة
أرأيت من الناس من
ضلّ فظنّ أنّه لا يوجد في الأعيان من الحركة والزمان إلّا التوسّط والآن السيّال
المنطبق عليه. وأمّا الممتدّ منهما فإنّما يرتسم في الخيال من ذينك الراسمين على
الجهة المستقصاة ، لا غير. ثمّ من العجب ما يدور على السنة المتأخّرين عامّتهم أنّ
ذلك [٨٨ ظ] هو ما اجتمعت عليه آراء الفلاسفة بشتاتها. وقد ذكر الشيخ في طبيعيات «الشفاء»
أنّه من المذاهب الباطلة التي اضطر كثير من النّاس إلى انتهاجها من جهة شكوك اوردت
، ويعسر على الأوهام حلّها. وسنبلّغك قوله بعبارته إن شاء الله.
[٩] شكّ وتحقيق
ربما يقال : نعيّن
آنا في زمان الحركة فنقول : أفيه حركة ، فيقع الحركة في الآن ويستلزم جزءا غير
منقسم في المسافة ، وقد أبطل ؛ أو سكون ، فتنبتّ الحركة ، وقد وضع أنّها متصلة
واحدة كالمسافة غير ملتئمة من المبتدءات. ثمّ من المتحرّكات ما في طباعه مبدأ [٨٨
ب] امتناع السكون ، كالفلكيّات ، أو ليس فيه شيء منهما ، فيخلو الموضوع القابل
عنهما ، وهو خلف.
فيزال بانه ليست
فيه حركة لعدم كونها دفعية ولا سكون لتحقق الحركة وإن لم يكن في الآن. فالحركة في
الآن أخصّ من اللّاسكون وممّا يساويه. فانتفاؤهما لا يستلزم انتفاء مساوى
اللّاسكون ، لتحقّقه بالحركة لا في الآن. ونظير ذلك من وجه المتحرّك في البيت ،
فإنّه ليس بساكن ولا متحرك في السوق. فإذن ، الآن إن أخذ ظرفا للاتّصاف اختير
الاتّصاف فيه بالحركة الواقعة في الزمان ، لا فيه ، وإن جعل ظرفا لوقوع [٨٩ ظ]
الحركة والسكون ؛ قيل: لا يقع شيء منهما فيه ، ولا يلزم خلوّ الموضوع فيه عن
الاتّصاف بهما.
[١٠] عقدة وحلّ
ولعلّك تقول : إنّ
المتحرّك ما لم يصل إلى المنتهى لم توجد الحركة بتمامها. وإذا وصل فقد بطلت
الحركة.
فيقال لك : إنّما
يستدعى ذلك امتناع وجودها في آن الوصول إلى المنتهى ، بل أيّ آن فرض من الآنات ،
ويعيّر عنه بالحال ، والوجود في الأعيان أعمّ من ذلك. فالحركة إنّما توجد في زمان
، نهايته آن الوصول. فهناك يتمّ وجودها في الماضى. ولا ينقبض العقل من أن يكون بعض
الأشياء بحيث يكون ظرف وجوده نفس الزمان دون الآن ، فيكون إمّا ماضيا أو مستقبلا
كالزمان. نعم الشيء الذي يكون ظرف وجوده الآن إذا لم يوجد [٩٩ ب] في آن من الآنات
لم يصحّ أن يوصف بالوجود أصلا.
فإن توهّمت أنّها
لا تتصف بالوجود العينىّ قبل الوصول لعدم انقطاعها ، ولا حاله وإلّا استلزمت شيئا
لا ينقسم من المسافة.
أزيل وهمك ، بأنّه
إن اريد بقبل الوصول آن قبله ، فالترديد غير حاصر ، وإن اريد
به ما يعمّه
وزمانا اختير أنّها تتصف بالوجود العينىّ في زمان قبل آن الوصول ، نهايته ذلك ،
فهى بنفسها توجد في نفس ذلك الزّمان ويحدّها في تلك النهاية. فإذن الحركة لا وجود
لها إلّا في الماضى من الزمان أو في المستقبل منه. وأمّا الحال ، فإنّما هو نهاية
أحدهما وبداية الآخر ، وليس [٩٠ ظ] بزمان. فلا يكون فيه حركة أصلا.
ولا يسوغ لك أن
تقول : الماضى من الحركة هو الذي كان موجودا في آن حاضر ثمّ مضى ، فإنّه هو الّذي
كان بعضه بالقياس إلى آن قبل الحال مستقبلا وبعضه ماضيا ، وصار في الحال كلّها
ماضيا. وهكذا في المستقبل. والآن الفاصل بين الماضى والمستقبل ليس يقع فيه حركة.
أو لم يكفك قول
خاتم الحكماء في «شرح الإشارات» و «نقد المحصل» : أنّه لا يصحّ قسمة الحركة
والزمان إلى ماض ومستقبل وحال ، لأنّ الحال هو حدّ مشترك بين الماضى والمستقبل هو
نهاية أحدهما وبداية الآخر ، والحدود المشتركة بين [٩٠ ب] المقادير لا تكون أجزاء
لها ، وإلّا لكان التنصيف تثليثا والتثليث تخميسا ، بل هي موجودات مغايرة لما هي
حدوده بالنوع.
[١١] وهم وإزاحة
كدت أسمعك تقول : أما
يلزم من اتصال الحركة الماضية بالمستقبلة اتصال الموجود بالمعدوم. أفلا تتفكّر
أنّك إن عنيت اتصال الموجود بالمعدوم المطلق بحيث يحصل منهما موجود عينىّ ، فذلك
غير لازم ، وإن عنيت اتصال الكائن في الزمان الماضى بالمعدوم في الحال الكائن في
الزمان المستقبل بحيث يلتئم منهما موجود في مجموع الزمانين على أن ينحلّ إليهما في
الوهم ، وهو في نفسه وفي الوجود العينىّ متصل وحدانىّ ، فذلك [٩١ ظ] غير مستحيل ،
بل هو ما عليه الأمر نفسه.
[١٢] إماطة ريبة
أأصغيت إلى الذي
يقول ، وهو ممّن قد يسير مع زمرة الحافّين حول عرش التحقيق ، أنّه إذا قيل بوجود
الماضى ، فإمّا أن يراد أنّ وجوده مقارن لوصف المضىّ ، فيلزم أن يكون موجودا أو
معدوما معا ، إذا لا معنى للمضيّ إلّا الانقضاء أو أنّه كان مقارنا
لوصف الحضور ،
فيلزم أن يكون موجودا في آن. فما لا يكون موجودا في آن ، لا يكون موجودا في
الماضى. وعليه يقاس مقارنة الوجود للاستقبال.
وبعبارة اخرى ،
الشيء إذا استلزم أحد الوصفين [٩١ ب] ولم يجامع شيئا منهما ، فإنّه لا يوجد أصلا.
والحركة تستلزم أحد الأمرين من المضىّ والاستقبال ، إذا لا يتصف بالحضور أصلا ،
ولا يجامع وجودها شيئا منهما ، لأنّ وجودها إمّا ماض الآن وليس بوجود الآن ، أو
مستقبل الآن وليس بموجود الآن ، فهى لا توجد في الخارج قطعا.
فهلّا قلت له :
أما تفكّرت أنّ الانقضاء إنّما هو بالقياس إلى الآن ، لا في نفس المتصل ولا بحسب
الأعيان مطلقا ، فإنّما يصحّ سلب الوجود العينىّ المقيّد ذلك الوجود بالوقوع في
الآن ، فهو نقيضه ، فلا يرتفعان عن شيء ، لا سلب مطلق الوجود في الأعيان [٩٢ ظ]
المقيّد ذلك السلب بكونه في الآن. فهذا لا يناقض الوجود العينىّ في الآن ، بل ربما
يكذبان معا. فإذن وجود الماضى إنّما يقارن وصف المضىّ بالقياس إلى الآن ، لا بحسب
الأعيان مطلقا ، فلا يصدق الآن الحكم بعدمه في الأعيان مطلقا ، بل بعدم وجوده في
الآن فقط ، فلا يلزم من عدم وجود الماضى في الآن عدم وجوده مطلقا. وكذا القول في
الاستقبال. فانظر كيف تخبّط فتورّط. ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ، فلا تكوننّ
من الجاهلين.
[١٣] دفاع وهم
لعلّك تجد عبارة
الشيخ الرئيس [٩٢ ب] في طبيعيات («الشفاء» ، ص ٨٣) :
«إنّ الحركة اسم
لمعنيين ، أحدهما لا يجوز أن يحصل بالفعل قائما في الأعيان ، والآخر يجوز أن يحصل
في الأعيان ، فإنّ الحركة إن عنى بها الأمر المتصل المعقول للمتحرّك بين المبدأ
والمنتهى. فذلك لا يحصل البتة للمتحرّك ، وهو بلين المبدأ والمنتهى ، بل إنّما
يظنّ أنّه قد حصل نحوا من الحصول إذا كان المتحرّك عند المنتهى. وهناك يكون هذا
المتصل المعقول قد بطل من حيث الوجود ، فكيف يكون له حصول حقيقىّ في الوجود ، بل
وهذا الأمر بالحقيقة ممّا لا ذات له قائمة في الأعيان. وإنّما يرتسم لأنّ [٩٣ ظ]
صورته قائمة في الذّهن بسبب نسبة المتحرّك إلى مكانين : مكان تركه ومكان أدركه ،
أو يرتسم في الخيال ، لأنّ صورة المتحرّك وله حصول في
مكان وقرب وبعد من
الأجسام تكون قد انطبعت فيه ، ثمّ تلحقها من جهة الحسّ صورة أخرى بحصول له آخر في
مكان آخر وقرب وبعد آخرين ، فيشعر بالصّورتين معا على أنّهما صورة واحدة متحركة ،
ولا يكون لها في الوجود حصول قائم كما في الذهن ، إذ الطّرفان لا يحصل فيهما
المتحرّك في الوجود معا ، ولا الحالة التي بينهما لها وجود قائم. وأمّا المعنى [٩٣
ب] الموجود بالفعل الذي بالحريّ أن يكون الاسم واقعا عليه ، وأن تكون الحركة التي
توجد في المتحرّك ، فهى حالته المتوسّطة حين يكون ليس في الطرف الأوّل من المسافة
ولم يحصل عند الغاية ، بل هو في حدّ متوسّط» ، إلى آخر ما ذكر هناك ، بظاهرها.
ناصّة على عدم وجود الممتدّ من الحركة في الأعيان بوجه أصلا.
فتظنّ و ـ أنت غير
محصّل لمذهب الشيخ ، من مقامات اخر ـ أنّ ذلك هو ما عناه بها ، فاعلم أنّ ما رامه
إنّما هو نفى وجود الحركة الممتدّة على أن تكون تارة تجتمع أجزاؤها في الوجود في
الآن ، فإنّ ذلك لا يصحّ بحسب الأعيان بوجه أصلا ، بل إنّما يكون بحسب الارتسام [٩٤
ظ] في الخيال من حيث البقاء دون الحدوث ، على ما سلف ، لا نفى وجودها العينىّ
مطلقا.
ويرشدك إلى ذلك
قوله : «لا يجوز أن يحصل بالفعل قائما» حيث قيد الحصول بالقيام ، أعنى قرار الذّات
، وقوله : «ولا يكون لها في الوجود حصول قائم ، كما في الذهن ، إذ الطرفان» ، إلى
آخره ، حيث نصّ على نفى الوجود من حيث يجتمع الطّرفان ، فكيف لا ، وقد قال ، بعد
هذا القول بيسير (ص ٨٤) : «إنّ الّذي يقال ، من أنّ كلّ حركة ففى زمان ، فإمّا أن
يعنى بالحركة الحالة التي للشيء بين مبدأ ومنتهى وصل إليه ، فتقف عنده أو لا تقف.
فتلك [٩٤ ب] الحالة الممتدّة هي في زمان ، وهذه الحالة فوجودها على سبيل وجود
الامور في الماضى وتباينها بوجه آخر ، لأنّ الأمور الموجودة في الماضى قد كان لها
وجود في آن من الماضى كان حاضرا ، ولا كذلك هذا ، فيكون هذه الحركة يعنى بها القطع
؛ وإمّا أن يعنى بالحركة الكمال الأوّل. الذي ذكرناه ، فيكون كونه في زمان ، لا
على أنّه يلزمه مطابقة الزمان ، بل على أنّه لا يخلو من حصول قطع ذلك القطع مطابق
للزمان فلا يخلو من حدوث زمان ، لا أنّه كان ثابتا في كلّ آن من ذلك الزّمان
مستمرّا فيه» ، انتهى قوله. [٩٥ ظ].
فهل تظنّ بمثله أن
يناقض نفسه في عدّة أسطر. ومن توهّم التوفيق بأنّ المراد بهذا الأخير أنّ وجودها
في الخيال على نحو وجود الأشياء في الماضى. ألم تتفطّن أنّ عدم قرار الذّات إنّما
يتمّ إذا لم تجتمع الأجزاء في الوجود والبقاء معا.
ثمّ إنّ الشيخ
سيعلن بتحقيق وجود الزمان الممتدّ ولا يتصوّر إلّا بوجود الحركة الممتدّة ، إذ هو
مقدارها ، فتبصّر وتصرّف من ذلك معنى قول بهمنيار أيضا في («التحصيل» ، ص ...) : «أنّ
الوهم يقيس الحركات المنقضية بأناس ، يجتاز واحد منهم أثر الواحد ، فيجتمعون في
مكان [٩٥ ب] واحد ، وليس الحال في الحركات كذلك ، فقد أعلن بأنّ المنفىّ هو
الاجتماع في الوجود والبقاء ، فاستقم كما امرت».
[١٤] استصباح
العادّ الحقيقىّ
هو أوّل معط للشيء معنى الوحدة ، ومعط له الكثرة بالتكرير ، والآن الذي وصفناه
يعدّ الزّمان بما يحدث إذا أخذنا آنا من الآنات التي هي حدود ، لأنّه حينئذ يجعله
ذا عدد بما يفيده من التّقدّم والتأخّر. فإنّا إذا أخذنا آنات إزاء لحدود المسافة
حدثت في الزّمان تقدّمات وتأخّرات معدودة ، كالنقط بعد الخطّ ، بأن يكون كلّ نقطة
مشتركة بين خطّين بإضافتين ، [٩٦ ظ] وما لم يكن آن لم يتعدّد الزمان ولم يكن
متقدّم ولا متأخّر ، والمقدّمات والمتأخّرات تعدّ الزمان على أنّها أجزاؤه ؛ وكلّ
جزء من أجزائه ، فإنّ من شأنه الانقسام ، كأجزاء الخطّ فإذن أولى يوصف بأن نسبته
إلى الزمان تشبه نسبة الوحدة إلى العدد إنّما هو الآن [أعنى السيّال ، منه رحمهالله] ، وأجزاء الزمان متشابهة بالحقيقة مختلفة بالقبليّة
والبعديّة بالنسبة إلى الآن المحفوف بجزءين من تلك الأجزاء أو إلى الزمان الذي
حواليه. فالأقرب من أجزاء الماضى إليه بعد ، والأبعد قبل ، وفي المستقبل بالعكس.
ولو لا الحركة بما تفعل [٩٦ ب] في المسافة من حدود التقدّم والتأخّر للزمان ، لما
وجد للزمان عدد ، على ما تكرّر ذكره سابقا.
ثمّ إنّ الزمان
يقدّر الحركة ، والحركة أيضا تقدّر الزّمان. لكن هو يقدّرها على وجهين ، بأن
يجعلها ذات قدر ، وبأن يدلّ على كميّة قدرها ، وهي تقدّره على وجه واحد فقط ، بأن
تدلّ على قدره بما توجد فيه من المتقدم والمتأخّر ، فإنّ الدلالة على القدرة ،
تارة تكون كما يدلّ المكيال على المكيل ، وكذلك تارة تدلّ المسافة على
قدر الحركة ،
فيقال : مسير [٩٧ ظ] فرسخين ، وتارة الحركة على در المسافة ، فيقال : مسافة رمية ،
إلّا أنّ الذي يعطى المقدار للآخر هو أحدهما بعينه ، وهو الذي بذاته مقدار.
والزمان ـ لأنّه متصل في جوهره ـ صحّ أن يقال : إنّه طويل وقصير ، ولأنّه عدد بما
يلحقه من الانقسام إلى متقدم ومتأخّر ـ صلح أن يقال : إنّه كثير وقليل. وكذلك
الحركة يعرض لها اتصال وانفصال ، فيقال : عليها خواصّ المتصل وخواصّ المنفصل. لكن
جميع ذلك إنّما بعرض لها من غيرها على الوجه السّالف تقريره.
[١٥] ذيل
الماء كما يطلق
على ما سلف ، يطلق أيضا على الزّمان القليل الذي [٩٧ ب] على جنبتيه. قال الشيخ في
رسالة («الحدود» ، ص ٣٠) «الآن هو طرف موهوم يشترك فيه الماضى والمستقبل من الزمان».
يقال : آن لزمان صغير المقدار عند الوهم متصل بالآن الحقيقىّ من جنبتيه وقد. وهذا
كما يقال : يكتب الآن ، فيمتنع أن يقع الكتابة في الدفعىّ دون الزمان الذي حواليه.
وفي («شرح الإشراق» ، ص ٣٩١) : «إنّه مشترك بين الماضى والمستقبل» وهو تخمين قياسا
على الآن ، ليس بتحقيق.
وفي («طبيعيّات
الشفاء» ، ص ١٧٢) : «إنّ تحقيق سبب هذا القول ـ أعنى أن يقال : الآن ، ويعنى :
الزّمان القصير ـ هو أنّ كلّ زمان يحدث عنه ، فله حدّان [٩٨ ظ] لا محالة هما آنان
يفترضان في الذهن له وإن لم يشعر به وهذان الآنان يكونان في الذهن حاضرين معا لا
محالة ، لكنّه قد يشعر الذهن في بعض الأوقات بتقدّم آن في الوجود وتأخّر آن. وذلك
لبعد المسافة بينهما ، كما يشعر بالآن المتقدّم من آنى السّاعة واليوم ، وفي بعضها
يكون الآنان من القرب بحيث لا يشعر الذهن بما بينهما في أوّل وهلة ، ما لم يستند
إلى استبصار ، فيكون الذّهن يشعر بهما كأنّهما وقعا معا ، وكأنّهما آن واحد».
[١٦] شكوك وأوهام
من نفى وجود
الزّمان تعلّق بأنّ الزمان [٩٨ ب] إن كان موجودا ، فإمّا أن يكون شيئا غير منقسم ،
فلا يكون منه ساعات وسنون وشهور وماض ومستقبل ؛ أو منقسما ، فإمّا أن يوجد بجميع
أقسامه ، فيتحقق الماضى والمستقبل واليوم وزمان الطوفان
مثلا معا أو
ببعضها ، ولا يكون ذلك البعض الماضى أو المستقبل ، لكونهما معدومين ، فتعيّن أن
يكون هو الحاضر. فإن كان منقسما عاد الفساد بعينه وإن لم ينقسم كان هو المسمّى
بالآن ، وليس بزمان ، ومع ذلك فإنّه لو وجد فإمّا أن يبقى ، فيكون منه شيء متقدم
وشيء متأخر ولم يكن كلّه آنا ، او يعدم ويكون ذلك لا محالة دفعه ، لئلّا يعود
الانقسام [٩٩ ظ] فعند فنائه يحدث آن آخر دفعة ، ولا يتخلّل بينهما زمان ، لفرض عدم
البقاء ، فتتشافع الآنات ، وهو محال.
وبأنّ كلّ زمان
يفرض فقد يتحدّد عند فارضه بآنين ، آن ماض وآن هو بالقياس إلى الماضى مستقبل ، ولا
يوجدان معا. وبالجملة كيف يكون شيء واصلا من موجود ومعدوم.
وبأنّ المعيّة
التي بالزمان هي أن يكون عدّة أشياء في زمان واحد او في آن واحد ، وكلّ حركة
تستتبع زمانا. فإذا كانت عدّة حركات موجودة معا كانت أزمنتها لا محالة معا ، فيكون
لتلك الأزمنة زمان واحد.
ثمّ الكلام في ذلك
الزمان مع تلك [٩٩ ب] الأزمنة كالعدم فيها ، بعضها مع بعض ، إلى أنّ يلزم أزمنة
بلا نهاية معا. والأزمنة تتبع الحركات ، فتكون هناك حركات لا نهاية لها معا ، فيلزم
وجود حركات لا نهاية لها معا. هذا خلف. وقد سبق ما يزال به الأخير، إلّا أنّ له
دفعا من وجه آخر أيضا.
قال الشيخ في
طبيعىّ («الشفاء» ، ص ١٥٠) : «فمن جهة هذه الشكوك ووجوب أنّ يكون للزمان وجود ،
اضطرّ كثير من الناس إلى أن جعل للزمان نحوا من الوجود آخر ، وهو الذي يكون في
التوهّم ، والامور التي من شأنها أن توجد في التوهّم ، هي الأمور التي تلحق
المعانى إذا عقلت ونوسب بينهما ، فتحدث (١٠٠ ظ) هناك صور نسب ، إنّما وجودها في
الوهم فقط ، فجعلوا الزمان شيئا ينطبع في الذّهن من نسبة المتحرّك إلى طرفي مسافته
اللّذين هو بقرب أحدهما بالفعل وليس بقرب الآخر بالفعل ، إذ حصوله هناك لا يصحّ مع
حصوله هاهنا في الأعيان. ولكن يصحّ في النّفس ، فإنّه يوجد في النفس تصوّرهما
وتصوّر الواسطة بينهما معا ، ولا يكون في الأعيان أمر موجود يصل بينهما ، ويكون في
التوهّم أمر ينطبع في الذهن أنّ بين وجوده
هاهنا وبين وجوده
هناك شيئا في مثله تقطع هذه المسافة بهذه السّرعة أو البطء ، فيكون التي لهذه
الحركات أو لهذا العدد من الحركات والسكونات المركبة هذا تقديرا [١٠٠ ب] للحركة لا
وجود له. لكنّ الذهن يوقعه في نفسه ليصول أطراف الحركة فيه بالفعل معا ، مثل ما أنّ
الحمل والوضع والمقدّمة وما يجري هذا المجرى أشياء يقضى بها الذّهن على الأمور
المعقولة ، ومناسبات بينها ، ولا يكون في الأمور الموجودة شيء منها».
ثمّ قال : (ص ١٥٢)
«والأولى بنا أن ندلّ أوّلا على نحو وجود الزمان وعلى ماهيّته ، بأن نجعل الطريق
إلى وجوده من ماهيّته ، ثمّ نكر على هذه الشّبه فنحلّها».
ثمّ قال في آخر
الفصل (ص ١٥٤) : «وإذ قد أشرنا إلى المذاهب الباطلة في ماهيّة الزمان ، فيتّضح من
هناك وجوده ، ويتّضح حلّ الشبه المذكورة [١٠١ ظ] في وجوده».
[١٧] ذكر فيه إشارات
كأنّه حقيق بنا
أنّ نورد لإزاحة هذه الأوهام قول الشيخ في «الشفاء» بألفاظه ، ليكون شاهدا لنا في
تثبيت ما حقّقناه ، ومشيّدا لأركان الحقّ في تقويم ما مهّدناه.
قال في فصل حلّ
الشكوك المقولة في الزمان بهذه العبارة (ص ١٦٦) : «وأمّا الزّمان ، فإنّ جميع ما
قيل في أمر إعدامه وأنّه لا وجود له ، فهو مبنىّ على أن لا وجود له في الآن. وفرق
بين أن يقال : لا وجود له مطلقا ، وبين أن لا وجود له في آن حاصلا ، ونحن نسلّم
ونصحّح أنّ الوجود المحصّل على هذا النّحو لا يكون للزمان إلّا في النفس والتوهّم
، وأمّا الوجود المطلق المقابل للعدم [١٠١ ب] المطلق ، فذلك صحيح له ، فإنّه إن لم
يكن ذلك صحيحا له ، صدق سلبه.
فصدق أن نقول :
إنّه ليس بين طرفي المسافة مقدار إمكان لحركة على حدّ من السّرعة يقطعها ، وإن كان
هذا السلب كاذبا ، بل كان للحركة على ذلك الحدّ من السّرعة مقدار ، فيه ، يمكن قطع
هذه المسافة ، ويمكن قطع غيرها بأبطإ وأسرع ، على ما قد بيّنا قبل. فالإثبات الذي
يقابله صادق ، وهو أنّ هناك مقدار هذا الإمكان ، والإثبات دلالة على وجوده مطلقا ،
وإن لم يكن دالّا على نحو وجوده محصّلا في آن أو على جهة ما. وليس هذا الوجه له
بسبب التوهّم ، فإنّه وإن لم يتوهّم ، [١٠٢ ظ] كان هذا النحو من الوجود وهذا النحو
من الصدق حاصلا.
ومع هذا فيجب أن
يعلم أنّ الموجودات ، منها ما هي متحققة الوجود محصّلته ، ومنها ما هي أضعف في
الوجود. والزمان يشبه أن يكون أضعف وجودا من الحركة ومجانسا لوجود أمور بالقياس
إلى أمور ، وإن لم يكن الزّمان من حيث هو زمان مضافا ، بل قد تلزمه الإضافة. ولمّا
كانت المسافة موجودة ، وحدود المسافة موجودة ، صار الأمر الذي من شأنه أنّ يكون
عليها ومطابقا لها أو قطعا لها ، أو مقدار قطع ، لها نحو من الوجود ، حتّى إن قيل
إنّه ليس [١٠٢ ب] له البتة وجود ، كذب. فإن اريد أن يجعل للزمان وجود لا على هذه
السبيل ، بل على سبيل التحصيل ، لم يكن إلّا في التوهّم. فإذن ، المقدمة المستعملة
ـ في أنّ الزمان لا وجود له ثابتا ، معناه : لا وجود له في آن واحد ـ مسلّمة. ونحن
لا نمنع أنّ يكون له وجود ، وليس في آن ، بل وجوده على سبيل التّكون بأن يكون أيّ
آنين فرضتهما ، كان بينهما الشيء الذي هو الزمان ، وليس في آن واحد البتة.
وبالجملة طلبهم :
إنّ الزمان إن كان موجودا فهو موجود في آن أو في زمان ؛ أو طلبهم : متى هو موجود
ممّا ليس يجب أن يشتغل به ، فانّ الزمان موجود لا في آن [١٠٢ ظ] ولا في زمان ولا
له متى ، بل هو موجود مطلقا ، وهو نفس الزّمان ، فكيف يكون له وجود في زمان.
فليس إذن قولهم : «إنّ
الزّمان إمّا أن لا يكون موجودا أو يكون وجوده في آن أو يكون وجوده باقيا في زمان
، قولا صحيحا ، بل ليس مقابل قولنا : إنّه ليس بموجود ، هو أنّه موجود في آن ، أو
موجود باقيا في زمان ، بل الزمان موجود ولا واحد من الوجودين ، فإنّه لا في آن ولا
باقيا في زمان. وما هذا إلّا كمن يقول : إمّا أن يكون المكان غير موجود أو يكون
موجودا في مكان أو في حدّ من مكان. وذلك لأنّه ليس يجب إمّا أن يكون موجودا في
مكان [١٠٢ ب] أو حدّ مكان ، وإمّا غير موجود ، بل من ما ليس موجودا البتة في مكان
، ومن الأشياء ما ليس البتة موجودا في الزمان. والمكان من جملة القسم الأوّل. والزمان
من جملة القسم الثاني. وستعلم هذا بعد». انتهت عبارته بألفاظها.
[١٨] تلخيص فيه تأييد
إنّ أحسن ما لخّص
به كلام الشيخ قول خاتم الحكماء في («نقد المحصّل» ، ص
١٣٦) : «إنّ
الزمان إمّا الماضى وإمّا المستقبل. وليس له قسم آخر هو الآن. إنّما الآن هو فصل
مشترك بين الماضى والمستقبل ، كالنقطة في الخطّ ، والماضى ليس بمعدوم مطلقا ،
إنّما هو معدوم في المستقبل ، والمستقبل معدوم [١٠٤ ظ] في الماضى ، وكلاهما معدومان
في الآن ، وكلّ واحد منهما موجود في حدّه. وليس عدم شيء في شيء هو عدمه مطلقا ،
فإنّ السماء معدوم في البيت وليس بمعدوم في موضعه ولو كان الآن جزءا من الزمان لما
أمكن قسمة الزمان إلى قسمين. مثلا ، تقول : من الغداة إلى الآن ، ومن الآن إلى
العشاء ، فإن كان الآن جزءا لم تكن هذه القسمة صحيحة ، وإلّا لأمكن قسمة مقدار من
الزمان إلى قسمين. فالآن موجود ، وهو عرض حالّ في الزمان ، كالفصل المشترك في
الخطّ ، [١٠٤ ب] وليس بجزء من الزمان ، وليس فناؤه إلّا بعبور الزمان ، فلا يلزم
منه تتالى الآنات».
[١٩] وهم وإيماء
إن كنت من المتربّصين
للتشكيك ، كأبي البركات البغدادى ، أو ممّن يستمع إليهم ، فهوى قلبه سبيلهم ،
كالفاضل فخر الدين الرازيّ ، فلعلّك تقول : الزمان لو كان موجودا ، فإنّما يكون
مقدارا لمطلق الموجود ، فإنّ الباقى من الأشياء الزمانيّة لا يتصوّر بقاؤه إلّا في
زمان مستمرّ. وما لا يكون زمانيّا ويكون باقيا ، فإنّه أيضا لا بدّ وأن يكون
لبقائه مقدار من الزمان.
وأيضا إنّا كما
نعلم بالضرورة أنّ من الحركات ما كانت موجودة أمس ، [١٠٥ ظ] ومنها ما يوجد اليوم ،
ومنها ما يوجد غدا ، كذلك نعلم أنّ الله تعالى كان موجودا بالأمس وأنّه موجود اليوم
وسيبقى غدا. فلو جاز إنكار أحدهما جاز إنكار الآخر ، فيكون الزمان مقدار الوجود ،
وقد وضع أنّه مقدار الحركة.
ثمّ إنّه كيف يكون
مقدارا لمطلق الوجود ، وهو في نفسه إمّا متغيّر فيستحيل انطباقه على الثابت وإمّا
ثابت فيمتنع أن ينطبق على المتغيّر. فيقال لك : أما تبيّن في ما سلف أنّ الزمان
إنّما هو مقدار كهيئة غير قارّة. وسيستبين الفرق بين الزمانيّات والموجودات الغير
الزمانيّة في كيفيّة [١٠٥ ب] الانتساب إلى الزمان وعدمه ، وينكشف معنى البقاء في
كلّ من القسمين ، فيستقيم الأمر على ذوق الحكمة وعلى
طباق مذهب
الحكماء. وأمّا المتكلّمون فحيث قالوا : القديم موجود في أزمنة مقدّرة لا نهاية
لأوّلها ، فقد حكموا بصحة انطباق الثابت على المتغيّر.
[٢٠] شكّ وإشارة
ربما يتخالج في
صدرك من أمر الآن ، الذي هو من الزمان كالنّقطة من الخطّ ، أنّه إمّا أن يعدم على
التدريج يسيرا يسيرا ، فيمتدّ آخذا إلى العدم مدّة ، أو دفعة ، فيكون عدمه في آن ،
فيقع مشافعة بين آنين ، هذا خلف.
فاعلم أنّ السبيل
إلى تحقيق الحقّ في ذلك هو ما ذكره [١٠٦ ظ] الشيخ في («الشفاء» ، ص ١٦٢) : «إنّه
ليس قول القائل : إمّا أن يعدم يسيرا يسيرا أو دفعة صادفا صدق المنفصل المحيط
بطرفي النقيض أو المحيط بالشيء ، وما يلزم نقيضه». فإنّ هناك قسما ثالثا ، وهو أن
يكون عدمه في جميع الزمان الذي بعده. وسنتكلّم فيه في المستقبل من القول على ضرب
ما من البسط إن شاء الله تعالى.
[٢١] وهم وتحقيق
كأنّه يسبق إلى
بعض الأوهام أنّ الآن هو نفس نهاية الزمان ، فقد توهّم في سائر الأطراف ، وهي
السطح والخطّ والنقطة ، أنّها نهايات لذويها. فتشبّث صاحب «المحصّل» بذلك في نفى
الوجود عن [١٠٦ ب] الأطراف مطلقا ، سواء كانت نفس الكميّات ، كالسطح والخطّ أو
مبادى الكم ، كالنقطة والآن ، وجعلها عدميّات ، فإنّ نهاية الشيء هي فناؤه ، فكيف
أمرا وجوديّا. واضطرب كلامه في شرحه للاشارات ، فتارة جعل النهاية من المضاف
المشهوريّ واخرى جعلها إضافة عارضة لكلّ من الأطراف بالقياس إلى ذى الطرف ، فيكون
من المضاف الحقيقىّ. قال : «فالسطح مثلا إذا قيس إلى الجسم عرضت له إضافة هي
النهاية ، وهي وإن كانت متأخرة عن السطح في التحقّق لكونه معروضا لها ، إلّا أنّ
ثبوتها للجسم علّة لثبوت السطح [١٠٧ ظ] له ، كالأوسط في برهان اللم إذا كان معلولا
للاكبر وعلّة لثبوته للأصغر ، وبذلك صحّح حكم الشيخ بأن لزوم السّطح للجسم بواسطة
التّناهي. وهذا كلّه خبط في خبط. وكيف يكون إضافة العارض إلى معروضه سببا لعروض
ذلك العارض
للمعروض وتلك
الإضافة لا تعقل إلّا بعد العروض.
وتحقيق المقام هو
سياق كلام خاتم الحكماء في «شرح الإشارات» و «نفد المحصل» أنّ السّطح مثلا ليس هو
فناء الجسم فقط ، فإنّ الفناء لا يقبل الإشارة الحسية والسّطح يقبل.
والفحص التحقيقىّ
يقتضي أنّ هناك ثلاثة أمور. أوّلها ماهيّة السّطح الذي هو المقدار [١٠٧ ب] المتصل
ذو البعدين ، وثانيها فناء الجسم وعدم له ، بمعنى نفاده وانقطاعه وانتهائه في جهة
معيّنة لا العدم المطلق ، وثالثها إضافة إلى الجسم عارضة للقناء ، فيقال له بحسب
ذلك نهاية لجسم ذى نهاية.
وإنّما يستدلّ على
ثبوت الأوّل للجسم بثبوت الثاني له ، إذ هو مقارن ومستلزم للأوّل. وأمّا الثالث ،
فإذا اعتبر عروضه للأوّل ، كان المجموع سطحا مضافا إلى ذى السّطع. وإذا اعتبر
عروضه للثانى كان نهاية مضافة إلى ذى النهاية. فالنّهاية ليست عارضة للسطح بالقياس
إلى الجسم ، بل الانقطاع يعرض لامتداد [١٠٨ ظ] الجسم أوّلا ، ثمّ السطح يلزم ذلك
الانقطاع ثانيا ، ثمّ يعرض لهما الإضافة بالاعتبارين. وكذلك القول في الخطّ
والنقطة.
فإذن عليك باعتبار
الأمر في الآن. وإنّ هناك أيضا ثلاثة أمور ، شيء لا ينقسم بحسب الامتداد هو الآن ،
وفناء للزمان عنده ، وإضافة عارضة لكلّ منهما. بحسبها يقال لذلك الفناء : إنّه
نهاية مضافة إلى ذى نهاية هو الزمان وللآن : إنّه آن مضاف إلى ذى الآن، وهو
الزمان. وربما يقال بحسبها للآن : إنّه نهاية الزمان ، بمعنى أنّه مقارن لما هو نهاية
، أعنى الفناء من حيث الإضافة.
[٢٢] تذييل
ربما يقال : يطلق
الخطّ والسّطح [١٠٨ ب] باشتراك الاسم على معنى لا يؤخذ في مفهومه النهاية. كما
يقال : خطّ ، ويعبّر به عن مجرّد الطول مع قطع النظر عن العرض والعمق ، لا على أن
يكون مجرّدا عن مقارنتهما ، بل على أنّه طول غير ملحوظ فيه سوى حقيقة الطّوليّة ،
أعنى الامتداد الواحد من غير منافة الاقتران العرض والعمق به في الوجود ، أو لا
اقترانهما. وكذا يقال : سطح ، لمجرّد الطول والعرض ، أعنى
الامتدادين مع قطع
النظر عن الامتداد الآخر ، وكلّ منهما بهذا الاعتبار مقدار موجود محسوس. وذلك
موضوع لعلم الهندسة. وعلى ما تؤخذ النهاية في مفهومه ، كما يقال : خطّ وسطح ،
بالمعنى المذكور. ولكن يشترط أنّ لا يبقى شيء آخر وراءهما ، [١٠٩ ظ] فشيء منهما لا
يصير نهاية إلّا من حيث هذا المفهوم السلبىّ ، وكذلك الآن والنقطة يطلقان باشتراك
الاسم على معينين ، أحدهما مبدأ الكميّة ، والآخر ذلك المعنى بشرط لا بقاء شيء آخر
وراءه. وما يطلق عليه النهاية إنّما هو المعنى الأخير.
وهذا هو كلام صاحب
«التلويحات» حيث قال ، بعد أنّ قرّر أنّ النهايات عدميّة ، لأنّها هي كون الشيء ذا
كميّة لا يبقى وراءها منه شيء آخر : «فإن قيل : ألستم حكمتم بأنّ السّطح يحسّ فهو
موجود ، يقال : قد يعبّر عن مجرّد طول بالخطّ ومع العرض بالسّطح ، وهما من الكميّة
فهو بالاشتراك ، وإلّا النهايات العدميّة [١٠٩ ب] من حيث عدمها لا تحسّ ،
والكميّات ما لم يشترط فيها لا بقاء شيء آخر وراءها لا تصير نهاية. فلا بدّ من سلب
في مفهومها». فما يدور على ألسنة المتأخّرين أنّه يخالف الحكماء ، فيقول : السّطح
والخطّ والنّقطة عدميّات يرجع إلى افتراء عليه أو سوء تفطّن لمرامه.
[٢٣] حكومة وردع
إنّ جمهور الحكماء
يقضون بوجود السطح والخطّ والنقطة على أنّها موجودات مغايرة لما هي حدوده بالنوع.
ومنهم من يجعلها [الجاعل هو صدر المحققين وتبعه قوم من المتأخرين عنه ، منه رحمهالله] من العوارض التحليليّة للجسم ، يعنى الموجودة بعين وجوده
على قياس الأجزاء التحليليّة ، ظانّا أنّ الموجود في الأعيان ليس إلّا الجسم. ثمّ
العقل بضرب من التحليل ينتزع منه [١١٠ ظ] السطح ومن السطح الخطّ ومن الخطّ النقطة.
ويحكم بأنّها موجودة في الأعيان. لكن لا بوجودات منفرزة عن وجود الجسم ، بل بعين
ذلك الوجود. وربما يزعم أنّ في كلام المعلّم الأوّل في إثبات تجرّد النّفس تصريحا
بذلك ، وأنّ الشيخ قد حققه في «الشفاء» ناصّا عليه. وكأنّى قد أسلفت لك ما يصدّك
عن تسويغ اتحاد العرض والجوهر في الوجود. فعسى أن تكون على هدى في أمرك إن كنت من
المتذكرين.
وليست أفقه من قول
الشيخ في «الشفاء» إلّا نفى التمايز بحسب الوضع دون نفى التغاير
بحسب الوجود. فهذه
عبارته في فصل تجرّد النفس من الطبيعيات («الشفاء» ، ص ١٨٧) :
«إن كان محلّ
المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير ، فإمّا أن تكون [١١٠ ب] الصورة المعقولة
تحلّ منه شيئا وجدانيّا غير منقسم أن يكون إنّما تحلّ منه شيئا منقسما ، والشيء
الذي لا ينقسم من الجسم هو طرف نقطىّ لا محالة.
ولنمتحن أوّلا
أنّه هل يمكن أن يكون محلّها طرفا غير منقسم؟ فنقول : إنّ هذا محال، وذلك لأن
النقطة هي نهاية ما لا تميّز لها عن الخطّ في الوضع ، أو عن المقدار الذي هو منته
إليها تمييزا يكون به النقطة شيئا يستقرّ فيه شيء ومن غير أن يكون في شيء من ذلك
المقدار.
بل كما أنّ النقطة
لا تنفرد بذاتها ، وإنّما هي طرف ذاتيّ لا هو بالذات مقدار ، كذلك إنّما يجوز [١١١
ظ] أن يقال بوجه ما : إنّه يحلّ فيها طرف شيء حالّ في المقدار الذي هي طرفه ، فهو
متقدّر بذلك المقدار بالعرض.
وكما أنّه يقدّر
به بالعرض ، كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة ، فتكون نهاية بالعرض مع نهاية بالذات ،
كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد بالذات. ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من
الأشياء لكان يتميّز لها ذات ، فكانت النقطة إذن ذات جهتين : جهة منها تلى الخطّ
الذي تميّزت عنه ، وجهة منها مخالفة له مقابله ، فتكون حينئذ منفصلة عن الخطّ
بقوامها. وللخطّ المنفصل عنها نهاية لا محالة [١١١ ب] غيرها تلاقيها. فتكون تلك
النقطة نهاية الخطّ لا هذه. والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد. فيؤدى هذا إلى أن
تكون النقط متشاعفة في الخطّ ، إمّا متناهية وإمّا غير ما ناهية». انتهت بألفاظها.
وأمّا قوله في «الشفاء»
: «إنّ السطح هو نفس ظاهر الجسم» ، فليس فيه استيجاب للاتحاد في الوجود أصلا.
وما يقال [القائل
صدر المدققين] : «من البيّن أنّ الجسم في الخارج ليس شيئين ، أحدهما ظاهره والثاني
باطنه ، بل كلاهما موجود واحد في الخارج ، والعقل يميّز ظاهره عن باطنه» ، فإنّه
تخييل بلا تحصيل ، إذ الجسم في الخارج ليس شيئين ، بل الموجود [١١٢ ظ] في الخارج
شيئان ، أحدهما الجسم والآخر مقدار حالّ فيه ذو
بعدين ، يقال له
باعتبار أنّه ظاهر الجسم.
قال الشيخ في («التعليقات»
، ص ٧٤) : «السطح يعتبر فيه أنّه نهاية ويعتبر فيه أنّه مقدار ، وليس هو مقدار
بالجهة التي هو بها نهاية ، ونسبة ذلك المعنى ، وهو أنّه يمكن أن يفرض فيه بعدان
إلى المقداريّة فيه نسبة فصل إلى جنس».
ثمّ كيف يكون وجود
العرض يعينه وجود الجوهر الذي هو موضوعه ، ووجود الجوهر هو وجود الشيء لنفسه ،
ووجود العرض هو وجود الشيء في موضوعه ، أعنى الوجود الرابطىّ [١١٢ ب].
ولعلّ في قول
الشيخ في («التعليقات» ، ص ...) : «الوحدة والنقطة والخطّ والسطح كلّها تحدّ من
دون الموضوع وإن لم تكن توجد إلّا في موضوع» ، كفاية. وأيضا قد يتداخل سطحان أو
خطّان او نقطتان. ولا يمكن أن يتداخل جسمان أصلا. فلو لم يكن بين الجسم وبين تلك
الأمور تغاير بحسب الوجود مع عدم التمايز بحسب الوضع ، فكيف يصحّ ذلك. فإذ قد
ذكّرناك فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
[٢٤] استيقاظ
أليس قد ظهر بما
قد سلف أنّ معنى كون الزمان غير قارّ الذات هو أنّ أجزاءه لا تجتمع في الوجود دفعة
، أعنى الوجود بالقياس [١١٣ ظ] إلى الآن ، لا أنّها لا توجد في الأعيان على وجه
الاتصال. فالزمان في نفس اتصاله موجود واحد ذاته على قرار بحسب الوجود الاتصالىّ
الوحدانىّ في الأعيان ، وهو غير قارّ الذات بحسب أجزائه الحاصلة بعد تحليل الوهم
إيّاه بالقياس إلى ما يتوهّم فيه من الآنات ، فتحقّق القلبيّة والبعديّة في الزمان
إنّما يكون بانفراض الآن واتصاف أجزائه بالمضىّ والاستقبال باعتبار ذواتها
وهويّاتها ، وأمّا الحركة فإنّما الحركة فإنّما تتّصف بعدم قرار الذات والمضىّ
والاستقبال من جهة مقارنة الزمان لا بذاتها وسيعا. وفي ذلك كلّه ضرب [١١٣ ب] آخر
من القول في مستأنف الكلام إن شاء الله العزيز الحكيم.
فصل (٤)
في تحقيق معانى الدهر والسّرمد وبيان متى الأشياء والفرق بين الزمانيّات و
الأشياء الغير الزمانيّة في الانتساب إلى الزمان وأمور اخر تتمّم النظر وتكمّل
الغرض
[١] سرّ طيّه أسرار
ما أسهل ما يتأتى
لك أن تتحدث أن الامتداد إنّما هو من أوصاف الكميّة المتصلة لا غير ، فلا يوصف به
الوجود أو العدم بالذات أصلا ، بل إنّما يصحّ ذلك بالعرض على أن يكون الممتدّ
حقيقة هو الزمان ، واتّصاف الوجود أو العدم بالامتداد عبارة عن مقارنة أحدهما لما
هو الموصوف به حقيقة [١١٤ ظ] ، أعنى الزمان ، فوجود شيء من الموجودات لا يصلح أن
يحكم عليه بامتداد خاصّ ، أو الامتداد المطلق إلّا باعتبار المقارنة لزمان معيّن
أو لطبيعة الزمان. وكذلك اللاامتداد بمعنى كون الشيء دفعيّتا غير ممتدّ ، فإنّ
موصوفه بالذات إنّما هو الآن طرف الزمان لا ، شيء آخر أصلا. وأمّا الوجود أو العدم
أو أيّة طبيعة كانت من الأمور التي هي غير الآن ، فلا تتصف بذلك المعنى إلّا
باعتبار مقارنة الآن على سبيل الانطباق عليه. ففى طبيعة الوجود من حيث هو وجود ،
أى لا من حيث مقارنة الزمان ، وطرفه ليس [١١٤] إلّا التحقّق الصّرف من دون أن يكون
على امتداد أو لا امتداد. وكذلك في العدم الصّرف ليس إلّا الانتفاء البحت من غير
أن يتّصف باستمرار أو لا استمرار. فلست أعنى باللّاامتداد مجرّد سلب الامتداد ، أى
مقابله مقابلة السلب والإيجاب.
أفليس من البيّن
أنّ المتقابلين تلك المقابلة لا يعرى عنهما موضوع بحسب نفس الأمر البتة. وإن عريت
عنهما الذات بحسب خصوص بعض الملاحظات التي هي أنحاء وجود الشيء في نفس الأمر ،
أعنى حيث تؤخذ الذات من حيث هي ، بل إنّى أعنى بذلك إمّا مقابل الامتداد [١١٥ ظ]
مقابلة العدم والملكة الذي هو أخصّ من نقيضه بقيد الاستعداد ، فيخلو عنها الموضوع
الغير القابل ، كالوجود الذي لا يشاب بالدخول تحت الكون والعدم الذي لا يختصّ
بالوقوع في زمان أو في طرفه أو الأخصّ من ذلك أيضا ، أى كون الشيء دفعيّا غير
ممتدّ منطبقا على طرف الزمان ، فإنّ هذا
المعنى قد يكذب هو
والامتداد كلاهما معا. وكان الموضوع على القابليّة باعتبار الوقوع في أفق
الزمانيّات كحدوث الحركة التوسّطيّة المنطبقة على الآن السيّال.
فإذن إنّما يعقل
الامتداد والاستقرار ومقابلاهما في الأمور الواقعة [١١٥ ب] في افق الزمانيّات فقط.
وهناك أيضا من قبل الزمان وطرفه لا غير.
والشيخ الرئيس أبو
على أمعن النظر فقال في كتاب («التعليقات» ، ص ١٣٩) «كلّ ما يكون له أوّل وآخر ،
فبينهما اختلاف مقداريّ ، أو عدديّ ، أو معنويّ. فالمقداريّ ، كالوقت والوقت ، أو
الطرف والطرف ؛ والعدديّ كالواحد والعشرة ؛ والمعنويّ كالجنس والنوع ، والوجود لا
أوّل له ولا آخر بذاته».
[٢] منهل
مقولة متى هي
نسبية ما للشيء إلى الزمان ، وهي كونه فيه نفسه أو في طرفه ، فإنّ كثيرا من
الأشياء يقع في أطراف الأزمنة لا في زمان أصلا ، كالمماسّة والتقاطع بين الخطّين
والوصول [١١٦ ظ] إلى ما إليه الحركة ويسأل عنها بمتى يجاب.
وذكر الشيخ في
قاطيغورياس («الشفاء» ، ص ٢٣٢) : «أنّه كما لم يكن الإضافة معنى مركّبا ، كذلك
الأين ومتى يجب أنّ لا يظنّ فيهما تركيب. ولخّص ذلك فى («التعليقات» ، ص ٤٣) بقوله
: «قولنا متى وأين ، ليس يعنى به كون الشيء في المكان أو الزمان مركّبا ، ويعنى
بالتركيب الموضوع مع نسبة ؛ بل يعنى به نفس النسبتين. فنفس النسبة هو الأين ، لا
المنسوب ولا المنسوب إليه ، ولا مجموع النسبة والمنتسبين. وكذلك الحال في الإضافة
، كالأخوّة» ، ثمّ قال بعد ذلك بيسير (ص ٤٤) : «متى الشيء هو كونه في زمانه. وقد
يكون الزمان [١١٦ ب] موجودا ، ولا يكون ذو الزمان فيه ، فلا يكون متى وكذلك الأين».
[٣] جمع وتفريق
أليس الأين ، منه
حقيقىّ أولى ، وهو كون الشيء في مكانه الحقيقىّ ، ومنه ما هو ثان غير حقيقىّ ، وهو
كون الشيء في مكانه الغير الحقيقىّ ، كالكون في الدار أو في السوق ، ومنه جنسىّ ،
كالكون في المكان المطلق ، ومنه نوعىّ ، كالكون في الهواء ، و
منه شخصىّ ، ككون
هذا الشيء في هذا الوقت في الهواء ، وهو مكان ثان ، أو كون هذا الجسم في هذا
المكان الحقيقىّ.
فكذلك متى ، منه
حقيقىّ ، ككون الشيء في زمان مطابق له لا يفضل عليه ، كقولهم : كان هذا الأمر [١١٧
ظ] وقت الزوال ، ومنه غير حقيقىّ ، كقولهم : في سنة كذا ، ولم يكن الأمر في جميع
السنة ، بل في جزء منها ، فالسنة نظير السوق في الأين ، ومنه جنسىّ ، كمطلق الكون
في الزمان أو في طرفه ، ومنه نوعىّ ، ككلّ من ذينك الكونين ، ومنه شخصىّ ، ككون
هذا الشيء في هذا الزمان المطابق له ، أو في هذه السّنة. لكنّ الزمان الواحد قد
يكون بعينه زمانا بالتحقيق لأشياء كثيرة على سبيل المطابقة. وإن كان متى كلّ منها
هو خلاف متى الآخر ، لأنّ كون كلّ واحد منها في ذلك الزمان هو غير كون الآخر ، ولا
كذلك المكان الواحد [١١٧ ب] ، فهو لا يكون مكانا حقيقيّا لعدّة فوق الواحد. فهناك
يختلف النسبة والمنسوب إليه ، اللهمّ إلّا في الغير الحقيقىّ ، فيختلف النسبة فقط
دون المنسوب إليه.
وأيضا يقع
المضادّة في الاين ، فإنّ الكون عند المحيط يخالف الكون عند المركز ، وهما معنيان
يوجد لهما موضوع واحد يتعاقبان عليه ، وبينهما غاية الخلاف ، وأيون متوسّطة ليس
بينها تلك الغاية ، وليس يقع في متى. فالكون في الزمان وإن كان غير الكون في طرفه
على أنّ بينهما غاية الخلاف ، فليس يوجد موضوع واحد يتعاقبان عليه أيصير التدريجىّ
تارة دفعيّا أخرى [١١٨ ظ].
ثمّ الأين سبيله
أن تقبل الأشدّ والأضعف فقد يكون اثنان كلاهما فوقين وأحدهما أشدّ فوقيّة ، إلّا
أنّ قبول الأشدّ والأضعف لا يكون له باعتبار طبيعة الفوقيّة أو التحتيّة ، بل
باعتبار الإضافة إلى فوقيّة أو تحيّة أخرى. فالفوق الحقّ لا يقبل الأشدّ والأضعف ،
بل الفوق المضاف إلى آخر ، كما أنّ السواد الحقّ لا يكون أشدّ وأضعف ، بل المضاف
إلى سواد آخر. ومتى ليس على ذلك السبيل ، فليس فيه أشدّ وأضعف مطلقا أو بحسب
الإضافة. فإذن المقولتان لهما عوارض جامعة وعوارض فاصمة.
[٤] ذنابة
قال الشيخ في
قاطيغورياس («الشفاء» ، ص ٢٣١) : «أقول : وقد هوّل فاضل المتأخّرين
[١١٨] ـ يعنى به
المعلّم الثاني أبا نصر الفارابىّ ـ في العبارة عن المتى الخاصّ ، تهويلا مفرطا ،
فقال : إنّ متى نسبة الشيء إلى الزمان الذي تنطبق نهاياته على نهايتى وجوده ، أو
زمان محدود ، هذا الزمان جزء منه. وذلك أنّه ذكر نهايتى وجوده ، فبيّن أنّ الذي
يصحّ أن يعنى الشيخ أبو نصر بذلك ليس الّا نهايتا متى الشيء ونسبته إلى زمانه.
قال بعد إبطال
سائر ما يحتمل العبارة : وأمّا نهايتا النسبة ، فيمكن أن يجعل له وجه تأويل ،
فيقال : إنّ معناه أنّ متاه هو نسبته إلى زمان ينطبق نهايتاه على نسبتين له إلى
نهايتى هذا الزمان ، ثمّ لا نسبة له قبل ولا بعد [١١٩ ظ] إليه ، فيحب أن يفهم قوله
على هذا الوجه. لكن نسبة الشيء إلى الآن الذي يقارنه عسى أن يظنّ بها أنّها ليست
من مقولة متى بذاتها. فإن كان ذلك كذلك ، فكان هذا الرسم غير صحيح. وذلك لأنّ كون
الشيء في آن ما لا يحمل عليه هذا الحدّ. لكنّ الحقّ أنّه يكون للشيء نسبة إلى
الزمان ، لا على أنّه فيه ، بل على أنّه في طرفه ، ومع ذلك يكون آنا. فهذا يفسد ما
قاله هذا الفاضل الفهم ، إلّا أن يحكم بأنّ النّسبة إلى الآن ليس من مقولة متى ،
لكنّها لا مقولة لها يليق بها غير هذه المقولة ، ولا يعلمها غير داخلة في مقولة
أصلا» انتهى قوله.
ثمّ قال : «ثمّ
بعد هذا [١١٩ ب] نظر ، لكنّ الاشتغال به يخوض بالمبتدى في ما لا يعنيه». قلت :
وكأنّه عنى به النظر في متى الأمور الغير الزمانيّة ، أعنى المفارقات ، فإنّه
بخلاف متى الزمانيّات وأنّ فيه لغموضة يقصر عنها قواصر الأنظار ، فالاشتغال به لا
يناسب فنّ قاطيغورياس ، الموضوع لمن بضاعته من الحكمة ، بضاعة المبتدعين.
[٥] استشهاد
ألست لو نظرت إلى
قول بهمنيار في («التحصيل» ، ص ...) في فصل الأين والمتى ، بعد إيماء الكلام فيهما
: «وستعلم أنّ الأمور الزمانيّة التي توصف أنها في زمان ، فهى أمور واقعة تحت
التغيّر ، وأنّ الأمور الثابتة لا يصحّ أن يقال : إنّها موجودة في زمان ، بل لها
كون آخر نبيّنه في مكان» ، لوجدت فيه [١٢٠ ظ] ، سوق ذلك القول من «الشفاء».
[٦] هداية وتحصيل
ألا إنّ ما ذكر هو
متى الزمانيّات لا غير، أعنى الأمور الواقعة في الزمان أو في طرفه، و
الزمان نفسه
لوجوده أو عدمه متى. فما أحسن قول الشيخ في («التعليقات» ، ص ...) «الزمان ليس
وجوده في زمان ، فكذلك ليس بعدم في زمان ، والآن نفسه ليس لوجوده متى بخلاف عدمه ،
فإنّ متاه نفس مجموع الزمان الذي بعده. وهذا كما أنّ المكان نفسه ليس له أين أصلا.
والنقطة نفسها ليس وجودها في الخطّ أو النقطة وأنّها معدومة في مجموع خطّ بعدها.
وأمّا الأمور الغير الزمانيّة فربما يقال [١٢٠ ب] بحسب جليل النظر أنّ متاها يباين
متى الزمانيّات بالمعنى. فمتى الزمانيّات هو النسبة إلى الزمان بالفيئيّة ، ومتى
ما هو أعلى من الكون نسبته إلى الزمان بالمعيّة.
ثمّ إنّ ضربا من
النظر الدقيق يأتى بفحص بالغ ، فيحكم بأنّ هذا الأخير كون أعلى طور آخر على من أن
يكون متى ، بل إنّما هو بإزاء المتى ، أعنى كون الزمانيّات في الزمان أو في طرفه ،
فلا ينبغى أن يدخل ذلك في التسمية إلّا أن يسلك مسلك التشبيه من طريق بعيد ، فإنّ
النسبة التي هي المتى يعتبر فيها انطباق المنسوب على المنسوب إليه ، وما يرتفع عن
الزمان لا ينسب إليه [١٢١ ظ] بالانطباق على شيء من الأزمنة أو الاطراف ، بل إنّه
يحيط بالجميع ، فبالحريّ أن ينزّه عن الوقوع تحت ما يعتريه هذا الاسم ، فكيف
والزمان لا يكون له متى ، فما ظنّك بشواهق العوالى ، وما هو أعلى منها.
[٧] تأييد تنصيصىّ
عساك تكون ممّن
ظفر من كلام الشيخ الرئيس بقول ناصّ على ما حققناه ، ألم يكفك قوله في رسالته
المسمّاة «الكلمة الإلهيّة» : «سبحان الملك القهّار ، الإله الجبّار ، لا تدركه
الأبصار ، ولا تمثّله الأفكار ، لا جوهر يقبل الأضداد فيتغيّر ، ولا عرض فيسبق
وجوده الجوهر ، لا يوصف بكيف فيشابه ويضاهى ، ولا بكم فيقدّر [١٢١ ب] ويجزّى ، ولا
بمضاف فيوازى ويحاذى ، وبأين فيحاط به ويحوى ، ولا بمتى فينتقل من مدّة إلى أخرى».
وأشباه ذلك في كتبه غير محصورة فتصفح.
وممّا في زبر من
سبقه من الأقدمين ينصّ على ذلك قول المعلّم الثاني للحكمة في («فصوصه» ، ص ١٠١١) :
«هو أوّل ، من جهة أنّ كلّ زمانىّ ينسب إليه تعالى بكون، فقد وجد زمان لم يوجد معه
ذلك الشيء ووجد ، أعنى الحقّ الواجب، معه لا فيه».
[٨] دعامة تنويريّة
ألست تذعن أنّ
الكائن في شيء يلزمه أن يختصّ بذلك الشيء على سبيل الانطباق عليه ، ولا كذلك
الموضوع مع شيء فكأنّك [١٢٢ ظ] تفرّق بين المعينين ، فالأمر الزمانىّ هو ما يختصّ
وقوعه بالانطباق على الزمان أو على جزء من أجزائه أو على آن من الآنات ، وما ليس
بزمانىّ لا يكون كذلك ، بل إنّما يوجد مع الزمان ، لا كمعيّة الزمانيّات ويحيط به
كلّه دفعة ، والزمان لكونه متغيّرا سيّالا بذاته ، فلا يكون فيه ولا معه معيّة
زمانيّة إلّا ما يتغيّر بتغيّره ويسيل بسيلانه ، ويصحّ أن يكون له ابتداء وانتهاء.
وأمّا ما هو خارج عن هذه فإنّه يوجد مع الزمان المعيّة التي هي إضافة عارضة ، فيجب
أن يكون له اقتران به طبيعىّ ، فيتحقّق بينهما تضايف بالفعل لا بالفرض [١٢٢ ب]
وذلك بأن يكون حاملا لمحلّه كالفلك او فاعلا لوجوده كالمبدإ المفارق.
قال الشيخ الرئيس
في («النجاة» ، ص ١١٨) : «وليس كلّ ما يوجد مع الزمان فهو فيه ، فإنّا موجودون مع
البرّة الواحدة ولسنا فيها».
وقال في («الشفاء»
، ص ١٧٠) : ومن المباحث في أمر الزمان أن نعرف كون الشيء في الزمان ، فنقول :
إنّما يكون الشيء في الزمان على الأصول التي سلفت ، بأن يكون له معنى المتقدّم
والمتأخّر ، وكلّ ما له في ذاته معنى المتقدّم والمتأخّر ، فهو إمّا حركة أو ذو
حركة. أمّا الحركة فذلك لها من تلقاء جوهرها ، وأمّا المتحرّك فذلك له من تلقاء
الحركة. وأمّا الأمور التي لا تقدّم فيها ولا تأخّر [١٢٣ ظ] بوجه ، فإنّها ليست في
زمان ، وإن كانت مع الزمان ، كالعالم ، فإنّه مع الخردلة وليس في الخردلة. وإن كان
شيئا له من جهة تقدّم وتأخّر ، مثلا لا من جهة ما هو ذات وجوهر ، فهو من جهة ما لا
يقبل تقدّما وتأخرا ليس في زمان ، وهو من الجهة الأخرى في الزمان» انتهى.
وكأنّه لم يرم حصر
الزمانيّات مطلقا في الحركة وذى الحركة. فكيف وإنّ ما يتوقف على الحركة ، كالحوادث
المرتبطة بالأزمنة وأطرافها لمن الزمانيّات. فوجود الحادث باعتبار الحدوث والبقاء
كليهما ممّا يختصّ بالوقوع في الآن أو في جزء من الزمان ، وليس بحركة ولا بذى
حركة، بل إنّما رام [١٢٣ ب] بالزمانىّ ما يكون زمانيّا بالذّات ، أى لا من حيث
كونه متوقفا على شيء هو زمانىّ بذاته أو بالحركة وذى
الحركة ما هو أعمّ
منهما وممّا يجرى ذلك المجرى من حيث توقفه على الحركة. فالأمور الغير الزمانيّة هي
ما لا تكون حركة ولا متحركا ولا متوقفا في شيء من الحدوث والبقاء على وجود الحركة
أصلا ، وما دونها ينسب إلى الزمان أو طرفه بالفيئيّة. إنّ هذا لهو قسطاس زنة
الحكمة، فلا عليك لو اتّخذته ميزانا.
[٩] مشكاة فيها مصباح
إنّي إذن كدت أشهد
أنّك تحدّست وتعرّفت أنّه إذا انتسب متغيّر إلى متغيّر بالتطابق على أن يصلح
أحدهما لأن تنفرض فيه [١٢٤ ظ] أجزائه بإزاء ما تنفرض في الآخر ، فينطبق كلّ ما
انفرض فيه على ما بإزائه في الآخر ، حصل هناك كون متصف بالامتداد ، فإن كان
المنسوب إليه من المنطبقتين بحيث لا يكون في طباعه قبول الانقسام أصلا ، اتصف ذلك
الكون باللاامتداد ، ويعبّر عن تلك النسبة في الصورتين بالفيئيّة. فالمنتسب إلى
الزمان بالفيئيّة له كون ممتدّ ، وإلى الآن بها له كون غير ممتدّ. وأمّا النسبة
إليهما بإضافة المعيّة في التحقّق لا على سبيل الانطباق ، فهى كون ودهريّ ، لا
يتصوّر فيه امتداد واستمرار أصلا ولا مقابلاهما. نعم المنسوب إليه هو ما كونه [١٢٤
ب] ممتدّ وما هو كونه غير ممتدّ.
قال الشيخ الرئيس
في رسالة («الحدود» ، ص ٢٩) : «الدهر معنى معقول من إضافة الثبات إلى النفس في
الزمان كلّه».
ثمّ إنّ نسبة ما
هو ثابت الذات إلى ما هو غير متغير الذات بإضافة المعيّة في التحقّق هي كون سرمديّ
يتقدّس عن الامتداد ، ومقابله في نفس الكون وفي المنتسبين جميعا. فالدهر نوع من
أوعية الكون يحيط بالزمان كلّه ، فهو وعاء الزمان ، إذ معيّة الثابت وشيء من أبعاض
الزمان وإن كان معنى غير النسبة إلى الزمان بالفيئيّة ، إلّا أنّ الكون الذي
بحسبها لا يسمّى دهرا. والسّرمد [١٥٢ ظ] نوع آخر أرفع من الدهر أيضا ومحيط به.
والحكماء المحصّلون عبّروا عن هذه المعانى بقولهم : «نسبة المتغيّر إلى المتغيّر
زمان ، ونسبة الثابت إلى المتغيّر دهر ، ونسبة الثابت إلى الثابت سرمد» ، ويعمّها
الدوام المطلق. والدهر وعاء الزّمان.
[١٠] تزييف وهم
وإزالة شكّ
عساك تكون ممّن لن
يستمع إلى مثير التشكيك ، الإمام الفاضل ، فخر الدين الرازى ، حيث يقول في «المحصّل»
، رادّا على الفلاسفة ، أى «هذا التهويل خال عن التحصيل ، لأنّ المفهوم من «كان» و
«يكون» لو كان أمرا موجودا في الأعيان [١٢٥ ب] ، لكان إمّا أن يكون قارّ الذات
فيلزم أن لا يوجد في المتغيّرات وأنّ غير تارّ الذات استحال وجوده في الثوابت.
وهذا التقسيم لا يندفع بالعبارات».
أو لم يكفك قول
خاتم الحكماء المحقق نصير الدين الطوسىّ في نقده (ص ١٣٨) :
«إنّه لا شكّ في
أنّ وقوع الحركة مع الزمان ليس كوقوع الجسم القارّ الذات الثابت الوجود مع الزمان
، وليس كوقوع القارّ الذات الباقى مع القارّ الذات الباقى ، كالسماء مع الأرض.
وذلك الفرق معقول محصّل ، سواء كان تهويلا أو غير تهويل ، وليس معيّة المتغيّر
والثابت مستحيلا ، [١٢٦ ظ] فإنّا نقول ؛ نوح ، عليهالسلام ، عاش ألف سنة ، فانطبق مدّة ثباته على الف دورة من الشمس.
وإذا تقرّر اختلاف المعانى ، فللمصطلحين أن يعبّروا عن كلّ معنى بعبارة يرون أنّها
مناسبة لذلك المعنى ، ولا يعنون بالتحصيل هناك غير دلالة العبارات على المعانى».
فو النفوس
الصّافّة بمشهد الحقّ صفّا ، إنّه لقول منقّح محقّق. وبالجملة هذه المعيّة متحققة
على أنّها ليست معيّة شيئين يقعان في زمان واحد. وهذا معنى محصّل. فإن كان أحد
المعين الذات الثابتة والآخر الزمان كلّه ، سمّى ذلك المعنى دهرا. وهذه المعانى
وإن كانت جليّة على ذوى الحدس [١٢٦ ب] فربما تكون مخبوة تحت الاختفاء عن أنظار
المعاصرين. ونعمّا العبارة ما قيلت : «إنّ نور الحقّ كلّما كان أشرق وأجلى ، فهو
للعقول الرّمدة أضعف وأعشى».
[١١] بسط وإحكام
أليست هذه المسالك
وراء مألوفات الأوهام ، فلا علينا لو بسطنا الكلام بنمط من القول يورد فيه شيء من
عباراتهم. فلعلّ في ذلك ضربا من الإعانة ، على ما نحن بسبيله.
قال الشيخ الرئيس
في طبيعيّات («الشفاء» ، ص ١٧١) : «والشيء الموجود مع الزمان وليس في الزمان ،
فوجوده مع استمرار الزمان كلّه هو الدهر ، وكلّ استمرار
وجود واحد فهو في
الدهر. وأعنى بالاستمرار وجوده بعينه ، كما هو مع كلّ وقت [١٢٧ ظ] بعد وقت على
الاتصال ، فكأنّ الدهر هو قياس ثبات إلى غير ثبات ، ونسبة هذه المعيّة إلى الدهر
كنسبة تلك الفيئيّة إلى الزمان ، ونسبة الأمور الثابتة بعضها إلى بعض، والمعيّة
التي لها من هذه الجهة هي معنى فوق الدّهر ، ويشبه أنّ أحقّ ما سمّى به السّرمد ،
وكلّ استمرار وجود بمعنى سلب التغيّر مطلقا من غير قياس إلى وقت فوقت ، فهو
السّرمد».
وقال في موضع آخر
من («الشفاء» ، ص ...) : «معنى قولنا : الجسم في زمان ، أنّه في الحركة والحركة في
الزمان. وأمّا غير المتغيّر ، أعنى ما يكون قارّ الذات فإنّما ينسب إلى الزمان
بالحصول معه [١٢٧ ب] لا بالحصول فيه ، إذ ليس له جزء يطابق المتقدّم من الزمان
وجزء يطابق المتأخر منه. وهذا كما أنّ نسبة استمرار غير المتغيّر وثباته إلى
استمرار غير المتغيّر ، كالسماء إلى الأرض يكون بالحصول معه من غير تصوّر الحصول
فيه». ثمّ قال (ص ...) : «وغير الحركة أو المتحرّك إنّما ينسب الى الزمان بالحصول
معه ، لا فيه. وهذه المعيّة إن كانت بقياس ثابت إلى غير ثابت فهو الدهر ، وإن كانت
بقياس ثابت إلى ثابت فهو السّرمد. وهذا الكون ، أعنى كون الثابت مع غير الثابت
والثابت مع الثابت بإزاء كون الزمانيّات في الزمان ، فتلك [١٢٨ ظ] المعيّة كأنّها
متى للأمور الثابتة. ولا يتوهّم في الدهر ولا في السّرمد امتداد ، وإلّا لكان
مقدارا للحركة. ثمّ الزمان كمعلول للدهر ، والدهر كمعلول للسرمد ، فإنّه لو لا
دوام نسبة علل الأجسام إلى مباديها ما وجدت الأجسام فضلا عن حركاتها. ولو لا دوام
نسبة الزمان إلى مبدأ الزمان لم يتحقق الزمان» ، انتهى بألفاظه.
ففى قوله «كأنّها
متى للأمور الثابتة» إشارة إلى ما حققناه ، من التحاشى عن إثبات متى لما لا يدخل
في الزمان.
وقال أيضا (ص ...)
: «إنّ اعتبار أحوال المتغيّرات مع المتغيّرات هو الزمان ، واعتبار أحوال الأشياء
الثابتة هو السّرمد [١٢٨ ب] ، والدهر في ذاته من السّرمد ، وهو بالقياس إلى الزمان
دهر ، يعنى أنّ الدهر في نفسه شيء ثابت إلّا أنّه إذا نسب إلى الزمان الذي هو
متغيّر في ذاته سمّى دهرا».
وقال في كتاب («عيون
الحكمة» ، ص ٢٨) : «وذوات الأشياء الثابتة وذوات الأشياء الغير الثابتة من جهة ،
والثابتة من جهة إذا أخذت من جهة ثباتها لم تكن في الزمان، بل مع الزمان ، ونسبة
ما مع الزمان وليس في الزمان هو الدهر ، ونسبة ما ليس في الزمان إلى ما ليس في
الزمان من جهة ما ليس في الزمان ، الأوّلى أن يسمّى بالسّرمد ، والدهر في ذاته من
السّرمد ، وبالقياس إلى الزمان دهر».
وقال في كتاب («التعليقات»
، ص ١٤١) : «العقل يدرك ثلاثة أكوان أحدها : الكون في الزمان ، وهو «متى» الأشياء
المتغيّرة التي يكون لها مبدأ ومنتهى ، ويكون مبدؤه غير منتهاه ، بل يكون متقضّيا
ويكون دائما في السيلان وفي تقضّى حال وتجدّد حال. والثاني : كون مع الزّمان ،
ويسمّى الدهر ، وهذا الكون محيط بالزمان ، وهو كون الفلك مع الزّمان ، والزّمان في
ذلك الكون ، لأنّه ينشأ من حركة [١٢٩ ظ] الفلك ، وهو نسبة الثالث إلى المتغيّر.
إلّا أنّ الوهم لا يمكنه إدراكه ، لأنّه رأى كلّ شيء في زمان ، ورأى كلّ شيء يدخله
كان ويكون والماضى والحاضر والمستقبل ، ورأى لكلّ شيء «متى» إمّا ماضيا أو حاضرا
أو مستقبلا. والثالث : كون الثابت مع الثابت ، ويسمّى السّرمد وهو محيط بالدهر».
وقال : «الشيء الزمانىّ يكون له أوّل وآخر ويكون أوّله غير آخره». وقال : «الوهم
يثبت لكلّ شيء «متى» ومحال أنّ يكون للزمان نفسه «متى» ، والفلك لا يتغيّر في ذاته
، والحركة حالة طارئة عليه. وأنّ ما يكون في الشيء يكون محاطا بذلك الشيء ، فهو
متغيّر بتغيّر ذلك [١٢٩ ب] الشيء فالشيء الذي يكون في الزمان يتغيّر بتغيّر الزمان
ويلحقه جميع أعراض الزمان ويتغيّر عليه أوقاته ، فيكون هذا الوقت الذي يكون مثلا
مبدأ كونه أو مبدأ فعله غير ذلك الوقت الذي يكون آخره ، لأنّ زمانه يفوت ويلحق ،
وما يكون مع الشيء فلا يتغيّر بتغيّره ولا يتناوله أعراضه» ، ثمّ قال : «الدّهر
وعاء الزمان ، لأنّه محاط به» ، (ص ١٤٢).
وقال في طبيعيّات («النجاة»
، ص ١١٨) : ليس كلّ ما وجد مع الزمان فهو فيه ، فإنّا موجودون مع البرّة الواحدة
ولسنا فيها» ، وعدّ ما يصحّ أن ينسب إلى الزمان بالفيئيّة.
ثمّ قال : «فما هو
خارج عن هذه الجملة فليس [١٣٠ ظ] في زمان ، بل إذا قوبل مع الزمان ، واعتبر ، له
ثبات مطابق لثبات الزمان وما فيه ، وسمّيت تلك الإضافة وذلك
الاعتبار دهرا له
، فيكون الدهر محيطا بالزمان».
وقال في رسالته
المسمّاة «الكلمة الإلهيّة» : «وهي في صورة محتوية على معظمات المعارف الإلهيّة ،
الزمان عنه في الأفق الأقصى وناحية الجوهر الأولى عند اشتمال الحركة على متقدم
ومتأخر ووجود الجسم في تبدّل وتغيّر ، والدهر وعاء زمانه ويفيض عنه وجود جواهر
روحانيّة لا مكانيّة ولا زمانيّة».
وقال بهمنيار في («تحصيله»
، ص ...) : و «هذه المعيّة إن كانت بقياس ثبات إلى غير ثبات [١٣٠ ب] فهو الدهر ،
وهو محيط بالزمان ؛ وإن كانت بنسبة الثابت إلى الثابت ، فأحقّ ما يسمّى السّرمد ،
بل هذا الكون ، أعنى كون الثابت مع غير الثابت والثابت مع الثابت بإزاء كون
الزمانيّات في الزمان ، فتلك المعيّة كأنّها «متى» الأمور الثابتة ، وكون الأمور
في الزمان متاها ، فليس للدهر ولا للسرمد امتداد ، لا في الوهم ولا في الأعيان ، وإلّا
كان مقدار الحركة» ، انتهى بعبارته.
وقال خاتم الحكماء
في («شرح الاشارات» ، ج ٣ ، ص ١١٩) : إنّ الاصطلاح كما وقع على إطلاق الزمان على
النسبة التي تكون لبعض المتغيّرات إلى بعض في امتداد الوجود ، فقد وقع على إطلاق
الدّهر على النسبة التي تكون للمتغيّرات إلى الأمور [١٣١ ظ] الثابتة ، والسّرمد
على النسبة التي تكون للأمور الثابتة بعضها إلى بعض».
فهذه ألفاظه ،
ولقد رمز بأنيق اسلوب الكلام إلى كشف أسرار المقام ، وإنّها لمن لطائف الخفيّات ،
فلا تكوننّ من الذين هم لا يشعرون.
[١٢] ظنّ واستنكار
من الناس من نزّل
نفسه منزلة المفسّرين لأقوالهم ، فنظر إلى ما في «شرح الإشارات» ، ولم يطلق الفطنة
ولم يذق الحكمة ولم ينل اللّبّ من قشور العبارات ، وتخيّل أنّه توغّل ، فقال في («كشف
المقال» ، ص ...) : «نسبة المتغيّرات بعضها إلى بعض بالتقدّم والتأخّر زمان ،
ودوام صدور المتغيّرات عن الأمور الثابتة دهر ، ودوام ثابت بدوام ثابت قبله بالذات
[١٣١ ب] سرمد».
وكأنّ تحصيل
المطالب سبيله تحقيق ما حققناه ، وتفصيل ما أجملناه طباق ما لوّح إليه صاحب
الإشراق بقوله في كتاب («التلويحات» : ص ...؟ «وكما أن الشيء في
العدد إمّا مبدؤه
كالواحد ، أو أقسامه ، كالزوج والفرد ، أو معدوده. ففى الزمان ما يوجد كالمبدإ ،
وهو الآن ، وأجزاؤه من الشهور والأيّام وما يعدّه الزمان ويقدّره كالحركات. والجسم
من حيث هو جسم ليس في الزمان ، بل لأنّه في الحركة ، وهي في الزمان. والأشياء
الغير المتغيّرة أصلا ، كالعقليّات. والتي تتغيّر وتثبت من جهة كالأجسام هي مع
الزمان لا فيه. ونسبة ما مع الزمان إليه في الثبات هو الدّهر ، ونسبة بعضه [١٣٢ ظ]
إلى بعضه اصطلح عليه بالسرمد».
[١٣] أوهام وتزييفات
ظنّت طائفة من
قدماء الفلاسفة أنّ الدهر ليس حقيقته إلّا الزمان المجرّد من الحركة. قالوا ـ بناء
على ما توهّمته أوهامهم : إنّ الزمان جوهرا زكىّ ، وهو واجب الوجود : إنّه لمّا
كان كذلك استحال أنّ يتعلق وجوده بالحركة ، فجائز أن يوجد الزمان وإن لم توجد
الحركة ، فالزمان عندهم تارة يوجد مع الحركة فيقدّر الحركة ، وتارة مجرّدا فحينئذ
يسمّى دهرا.
وكأنّك بتذكار ما
أسلفناه لك تذعن أنّ هذه خيالات فاسدة وتخييلات مضلّة. ومنهم من يقول : إنّ الدهر
مدّة السكون أو زمان ، [١٣٢ ب] غير معدود بحركة. ويفسده أنّه لا يعقل مدّة ولا
زمان ليس في ذاته قبل ولا بعد قبليّة وبعديّة زمانيّتين. وإذا كان فيه قبل وبعد ،
وجب تجدّد حال على ما سلف ، فلم يخل من حركة. والسكون يوجد فيه التقدّم والتأخّر
على نحو ما أورد سالفا. والقيصريّ يتخيّل «أنّ الدّهر ليس إلّا مقدار الزمان
بجملته ، أى بماضيه ومستقبله جميعا بحيث لا فاصل بينهما. وكون هذا المقدار دائما
غير منقطع الأوّل والآخر هو السّرمد». فنحن قد أوضحنا ما يكشف عن وهنه ويحدّث
بسخافته.
[١٤] ذكر وإفادة
أما كان قد تحقّق
لديك ممّا [١٣٣ ظ] سلف أنّ القبليّة والبعديّة الزمانيّتين لا بدّ أن تكونا بحسب
الزمان وانفصاله الوهمىّ ، أمّا في أجزاء الزمان فبحسب الزمان الذي هو نفس القبل
والبعد ، وأمّا في غيرها فبحسب الزمان المحيط بالقبل والبعد. فاعتبر
الأمر إذن في
المعيّة الزمانيّة أيضا على تلك السياقة ، فإنّ معيّة الحركة والزمان هي «متى»
الحركة ، أى كون الحركة في زمان ، ومعيّة شيئين زمانيّين هي أنّ «متى» أحدهما عين
«متى» الآخر ، أى كونهما في زمان واحد. فالمعيّة الأولى ليست بحسب زمان خارج عن
المعين ، بخلاف الثانية ، فلا يلزم من كون الحركة في زمان كون الحركة والزمان [١٣٣
ب] في زمان.
[١٥] إيقاد وإنارة
ألست تفطّنت بما
تلى عليك أنّ معيّة الأمور الغير الزمانيّة كالمفارقات ليست بحسب الزمان ، بل
إنّما هي بحسب الدهر أو السّرمد. فما به المعيّة هناك ليس إلّا نفس التحقّق
الدهريّ أو السّرمديّ من غير أن يكون للزمان إلى ذلك الحريم سبيل أصلا. فكيف ولا
ترتبط تلك الأمور بشيء من الزمان وأجزائه بوجه من الوجوه. وفيضانها عن مبدعها
إنّما يكون بأن يخرجها إلى الأيس من الليس المطلق ، ولا يعقل أن يتعلق ذلك أو
يختصّ بزمان أو آن. وهذه الإضافة ضرب من التأثير مسمّى عند الحكماء بالإبداع [١٣٤
ظ] ، وهو أعلى ضربى التأثير عندهم ، وتتعرف ذلك في ما بعد إن شاء الله تعالى. فتلك
المعيّة ليست معيّة زمانيّة ، بل هي معنى آخر وراء الأقسام الخمسة المشهورة للمعيّة
، وهي في المفارقات بإزاء المعيّة الزمانيّة في الزمانيّات ، فإذن هي قسم سادس
للمعيّة ، وإنّ أحقّ ما تسمّى به المعيّة الدّهريّة والسّرمديّة.
ثمّ إنّ قاطبة
الحكماء وجمهور المتهوّسين بالقدم من محصّليهم لم يذهلوا عن هذه المعيّة، وعدّها
من أقسام المعيّة المطلقة على أنّها معنى آخر خارج عن تلك الخمسة. فمنهم من جعلها
قسما سادسا ، ومنهم من جعل أحد الأقسام [١٣٤ ب] الخمسة معنى هو القدر المشترك بين
المعيّة الزمانيّة والمعيّة الدهريّة والسّرمديّة. وذلك المعنى هو مطلق الاجتماع
في التحقّق أعمّ من أن يكون بحسب الزمان أو الدهر والسّرمد. قالوا : العلّة
التامّة. والمعلول إمّا أن يكون كلاهما زمانيّين أو كلاهما غير زمانيّين أو أحدهما
زمانيّا والآخر غير زمانىّ. ولا محالة يكون الغير الزمانىّ هو العلّة دون
__________________
المعلول فقسموا
معيّتهما بحسب هذه الأقسام إلى الزمانيّة والدهريّة والسّرمديّة ، وجعلوا معيّة
الواجب الوجود تعالى بالنسبة إلى معلولاته [١٣٥ ظ] المجرّدة بالنسبة إلى الزمان
والزمانيّات سرمديّة ودهريّة ، وحكموا بامتناع اتصافه تعالى بالمعيّة الزمانيّة
أصلا ، بل قد نزّهوه تعالى عن التقدّم الزمانىّ أيضا ، لأنّه ليس زمانيّا ، بل هو
محيط بالزمان ، والمتقدم على الشيء تقدّما زمانيّا لا يكون إلّا من الزمانيّات.
قال الشيخ الرئيس
في كتاب («التعليقات» ، ص ...) : «نسبة الأوّل تعالى إلى العقل الفعّال أو إلى
الفلك نسبته غير متقدرة زمانيّة ، بل نسبة الأبديّات ، ونسبة الأبديّات إلى
الأبديّات تسمّى السّرمد ، والدهر والزمان يدخل فيه ما هو متغيّر ونسبة الأبديّات
إلى الزمان [١٣٥ ب] هو الدهر ، فإنّ الزمان متغيّر ، والأبديّات غير متغيّرة. وقال
فيه أيضا : «إمّا أن يكون الشيئان معا في الوجود أو في الزمان أو في شيء ثالث
ينسبان إليه. والعلّة والمعلول هما معا ، وهما متلازمان. ولا يجوز أن يكونا هما
معا في الوجود ، لأنّ العلّة أقدم من المعلول ولا في الزمان إن كانا غير زمانيّين»
، انتهى.
ومراده أنّ
معيّتها ليست في مرتبة الوجود ، بل في الوجود باعتبار الدهر أو السّرمد.
قال في إلهيّات («الشفاء»
، ص ...) : «إنّه إذا صار ، أى الشيء الذي هو العلّة ، بحيث يصلح أن يصدر عنه
المعلول من غير نقصان شرط باق ، وجب عنه [١٣٦ ظ] وجود المعلول. فإذن وجود كلّ
معلول واجب مع وجود علّته ، ووجود علّته واجب عنه وجود المعلول ، وهما معا في
الزمان أو الدهر أو غير ذلك. ولكن ليسا معا في القياس إلى حصول الوجود. وذلك لأنّ
وجود ذلك لم يحصل من هذا ، فذلك له حصول وجود ليس من حصول وجود هذا. ولهذا حصول وجود
، وهو من حصول وجود ذلك. فذلك أقدم بالقياس إلى حصول الوجود» ، انتهى. وقال
بهمنيار في («التحصيل» ، ص ...) : «وهما ، أى العلة والمعلول ، معا في الزمان أو
الدّهر لا في حصول الوجود».
وإنّ كتب أساطين
الحكمة بنظائر ذلك لمشحونة. ففى («شرح حكمة الإشراق» ، ص ...) قول بهذه العبارة :
وقد يكونان ، اى العلّة والمعلول في الزمان معا ، وذلك اذا كانا زمانيين. ولذلك
قال. يعنى مصنف «حكمة الإشراق» : وقد يكونان كذلك ، لأنّهما قد لا يكونان «كذلك ،
كما في المجرّدات. وكيف ما كان لا يتخلّف وجود المعلول عن
وجود العلّة
التامّة ، زمانيّين كانا أولا. ومنه يعلم أنّ تقدّمها عليه ليس زمانيّا» انتهت
بألفاظهما. وفيه عند عدّ أقسام المعيّة : «وكذلك المع على خمسة أقسام ، أمّا
بالزمان فظاهر ، كالعلّة مع المعلول. وذلك في غير المفارقات لأنّها غير زمانيّة».
وفي «شرح
التلويحات» [١٣٧ ظ] بعد ذكر أنواع التقدّم : «وبما علم من حال المتقدّم يعلم حال
المتأخر والمعيّة إلّا أنّ المفارق بالكليّة لا يصدق عليه المعيّة الزمانيّة ،
لكونه ليس زمانيّا. والجسمان لا يصحّ بينهما المعيّة المكانيّة من جميع الوجوه ،
لاستحالة اجتماعهما في مكان واحد» نجزت عبارته.
والذي يشبه أن
يكون أخرى وأحقّ هو أن تجعل المعيّة ستّة أقسام ، والقسم السادس قدرا مشتركا بين
المعيّة الدهريّة والسّرمديّة ، لأنّ ما به المعيّة فيهما ، أعنى الدهر والسّرمد ،
متشاركان في عدم الاتصاف بالامتداد ومقابله ، كما أنّهم جعلوا السبق بالذات قدرا [١٣٦
ب] مشتركا بين السبق بالطبع والسبق بالعليّة ، لأنّ ما به السبق فيهما هو الوجود
إمّا باعتبار نفسه أو باعتبار كيفيّته ، أعنى الوجوب ، وكأنّ الكلام قد بلغ نصاب
الحقّ ومبلغ الكفاية ، فإنّ بما دونه يتبصّر سليم الفطنة ، وبما فوق الفوق لا
يهتدى سقيم الفطرة. فكلّ ميسّر لما خلق له.
[١٦] تفسير
كأنّك إذن بما
تحقّق لديك استشعرت قول سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين على بن أبى طالب ، عليه أزكى
الصلاة وأو في التحيّة ، في خطبة يصف بها توحيد البارى تعالى شأنه ويمجّد بها
جلاله وعزّه : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير [١٣٨ ظ] كلّ شيء لا بمزايلة».
[١٧] محاجّة برهانيّة
فيها محجّة شعشعانيّة
يا ليتك كنت ذا
لسان طلق عقلانىّ غير جسمانىّ ، فتقول لزمرة المتهوسين بالقدم : يا قوم ، أليست
المعيّة في المعانى المختلفة جارية مجرى التقدّم والتأخّر ، فكلّ اثنين من هذه
الثلاثة ، بمعنى من تلك المعانى ، مقابلان لثالث بذلك المعنى. فإذا تحقق في
المعيّة لا يتخلّف بحسبه وجود أحد المعين عن وجود الآخر من دون مدخليّة للزمان فيه
أصلا ، بل على أن يكون ما به المعيّة أمرا آخر غير المقدار المقضيّ
المتجدّد أو طرفه [١٣٨
ب] أمّا يلزم بإزاء ذلك معنى في التقدّم والتأخّر أيضا ، به يتخلّف المتأخّر عن
المتقدّم من دون أن يدخل الزمان فى ما به التخلّف ، بل على أن يكون ما به التّقدم
والتأخّر شيئا آخر غير مقدار الزمان أو طرفه يعبّر عنه بالدهر أو السّرمد. فلم
تخادعون الحكمة وتخدعون العقل وتعادون الحقّ وتتعدّون عن السبيل ، وأنتم تشعرون.
فهذا النحو من التقدّم معنى معقول ، سواء تحقق في مادّة أو لم يتحقق.
فذلك أمر يتبيّن
بضرب آخر من النظر ، يبيّن أنّ بعض المعلولات اخرج من العدم الصرف الذي لا يتصوّر
فيه الامتداد [١٣٩ ظ] ولا مقابله إلى الوجود الذي هو أيضا كذلك من غير أن يرتبط
بزمان أو آن ، فلا يسوغ لكم إلّا الاعتراف بأنّ هذا السبق أمر محصّل عند العقل.
نعم لو ادّعيتم أنّه يمتنع أن يتصف به شيء أصلا ، لسمع منكم لو استطعتم إلى
الإتيان بساطع البرهان سبيلا. وهذا كما أنّ المعيّة المكانيّة عندكم معنى معقول
بإزاء التقدّم المكانىّ. ثمّ البرهان يحقّق أنّه ليس لها معروض أصلا ، لامتتاع
وقوع جسم في مكان جسم إلّا على التعاقب. فهلّا اعترفتم بمثل ذلك هناك أيضا. ولكن
من لم يجعل الله له نورا فماله من نور.
[١٨] تذكرة وهداية
كأنّه قد قرع سمعك
[١٣٩ ب] ما ذهبت الفلاسفة إليه أنّ ترتّب أجزاء الزمان وتعاقبها إنّما يكون بالقياس
إلى ما يقع وجوده تحت الكون وفي حيطة الزمان. وأمّا ما يتعالى عن أفق الزمان
ويرتفع عن محتد الزمانيّات ، كالواجب الوجود تعالى ، فإنّ وجوده ليس مشمولا للزمان
ولا هو مقارن للزمانيّات مقارنة زمانيّة ، بل هو وجود صرف ، سرمد محيط بالامتداد
والاستمرار ، والزمان والزمانيّات. فالأمور التدريجيّة لا تعاقب لها بالنسبة إليه
أصلا ، بل إنّما تحضر عنده دفعة ، غير متخلّف آخرها عن أوّلها ، لا في الحضور
عنده. [١٤٠ ظ].
وبالجملة ، إنّ
علّة الزمان والأكوان الزمانيّة لا تكون تحت الكون والزمان ، بل يكون كونا بنوع
آخر أعلى وأرفع ، محيطا بالزمان مع ما فيه من سلسلة الزمانيّات ، بل بجميع الأشياء
، من أوّلها إلى آخرها ، ضربا ما من الإحاطة أعلى وأشدّ من الّتي لمحيط الدائرة
بالنسبة إلى سطحها أو مركزها أشديّة غير متناهية المرّات. فتلك
الأشياء من مبدئها
، كنحو الظلّ من دى الظلّ ، بل هو أرفع من ذلك كلّه. فكم بين الإحاطة الوهميّة
الزمانيّة أو الحسيّة المكانيّة وبين الإحاطة النوريّة العقليّة السّرمديّة.
فإذن ، الأوّل
تعالى كما لا يقرب منه [١٤٠ ب] مكان بالنسبة إلى مكان ، بل إنّ الأمكنة
والمكانيّات متساوية الإقدام جميعا بالنسبة إليه ، فكذلك لا يقرب منه زمان بالنسبة
إلى الزمان. فليس هناك ماض أو مستقبل أو حال ، بل هو محيط بالكلّ دفعة واحدة. ومن
ذلك يعلم الأمر في المراتب العالية على الزمان من الجواهر المفارقة.
[١٩] زيادة هداية
فالامتداد
الزمانىّ المتصل الذي هو سنخ التغيّر وعنصر التقضّى والتجدّد وفلك المتغيّرات ،
وعرش الزمانيّات يحضر بما يحتفّ هو به ، من الحوادث الكونيّة عند مبدع الكلّ أزلا
وأبدا. أليس حضور الشيء [١٤١ ظ] عنده هو بعينه علمه بذلك الشيء ، وعقله للأشياء هو
فيضانها عنه معقولة؟ فإذن هو يعلم جملة الزمانيّات كلّا منها في وقته علما غير
زمانىّ ، ويشاهد ما بينهما من الأزمنة ، فلا يفوته شيء. ولا يعزب عن علمه مثقال
ذرّة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وهو بكلّ شيء محيط :
فهذا ما حققه الحكماء مشّاءوهم ورواقيّوهم.
قال المعلّم
الأوّل أرسطوطاليس في كتاب («أثولوجيا» ، ص ...) : «إنّ كلّ علم كائن في العالم
الأعلى الواقع تحت الدهر لا يكون بزمان ، لأنّ الأشياء التي في ذلك [١٤١ ب] العالم
كوّنت بغير زمان».
وزاده الشيخ
الرئيس بيانا في كتاب («التعليقات» ، ص ٥٩) فقال : «لو كانت الصّور العقليّة فائضة
عن الأوّل ، لا معا ولا دفعة واحدة بلا زمان ، بل شيئا بعد شيء ، لم تكن معقولة
بالحقيقة ، بل كانت مادّية ، إذ كانت تكون بعد ما لم تكن ، ولو كان هو لا يدركها
بالفعل معا ، بل شيئا بعد شيء لكان فيه أيضا قوّة تقبل الأشياء بعد ما لم تقبلها
وكان مادّيّا».
[٢٠] تشبيه وتمثيل
ألست إذا أخذت
خيطا تختلف أجزاؤه لونا ، فأمررته في محاذاة ما تضيق حدقته عن
الإحاطة بتلك
الجملة دفعة ، كذرّة أو غيرها ، [١٤٢ ظ] ، وجدت ما هي متساوية الحضور لديك لقوّة
إحاطتك ، متعاقبة في الحضور لديها ، لضيق حدقتها؟ فاعتبر الأمر في الامتداد
الزمانىّ بما فيه من الحوادث المرتبطة بالأزمنة أو الآنات المنتزعة عنه ، واختلاف
حضورها بالقياس إلى الزمانيّات وإلى ما هو خارج عنها تعاقبا ومعيّة.
قال في («أثولوجيا»
، ص ...) : البصر إذا رأى شجرة رآها من أصلها إلى فرعها دفعة واحدة ، يعلم أصلها
قبل أن يعلم فرعها بنوع ترتيب وشرح ، لا بنوع زمان ، لأنّ البصر إنّما رأى أصل
الشجرة وفرعها وما بينهما دفعة واحدة. فالبصر يعرف [١٤٢ ب] أوّل الشجرة وآخرها
بالترتيب ، لا بالزمان ، على ما قلنا. فإن كان البصر يعلم ذلك ، فبالحريّ أن يكون
العقل يعلم أوّل الشيء وآخره بالترتيب لا بالزمان ، والشيء الذي يعلم أوّله وآخره
بالترتيب لا بالزمان يعرف كلّه دفعة واحدة معا». وذكر فيه أيضا (ص ٦٩) : «إنّ
الإنسان الحسّىّ إنّما هو صنم للإنسان العقلىّ وظلّ له. والإنسان العقلىّ روحانىّ
وجميع أعضائه روحانيّة ، ليس موضع العين غير موضع اليد ، ولا مواضع الأعضاء كلّها
مختلفة. لكنّها كلّها في موضع واحد».
فهذه أمور شبّه
بها المرام تارة ، وتضرب بها له الأمثال [١٤٣ ظ] أخرى. فانتقل من ذلك إلى اعتبار
الأمر في العالم العقلىّ وتفطّن أنّ الأزل عند المبدأ الأوّل لا يقع حيث لا يقع
الأبد ، بل هما وموقعاهما هناك واحد ، ومع ذلك فإنّه يشاهد ما بينهما من الامتداد.
ونعم القول فيه ما في إلهيّات («الشفاء» : ص ...) «إنّ هذا من العجائب التي يجوح
تصوّرها إلى لطف قريحة».
[٢١] كشف وشرح
كأنّه استبان بما
ذكر أنّ الحكماء إنّما ينفون عن المبدأ الأوّل تعالى نحو العلم ، أعنى العلم
الزمانى ، لا شيئا من المعلومات. كما أنّهم في تحقيق علمه تعالى بالجزئيّات إنّما
ينفون عنه نحو العلم الإحساسى [١٤٣ ب] أو التخيّلىّ ، لا انكشاف شيء من الجزئيّات.
فقد حقق القول فيه
خاتم الحكماء نصير الدين الطوسىّ ، حيث قال في «أجوبة الأسئلة القونويّة» كاشفا عن
مقالتهم : «أمّا نفى تأثير الحقّ في الموجودات ونفى تعلّقه بالجزئيات. فممّا أحال
عليهم من لم يفهم كلامهم. وكيف ينفون تأثيره في
الموجودات بعد أنّ
جعلوه مبدأ الكلّ. وكيف ينفون تعلّقه بالجزئيّات ، وهي صادرة عنه ، وهو عاقل لذاته
عندهم. ومذهبهم أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، بل لمّا نفوا عنه الكون
في المكان جعلوا نسبة جميع الأماكن إليه نسبة واحدة متساوية. ولمّا نفوا عنه الكون
في الزمان جعلوا نسبة جميع الأزمنة ماضيها ومستقبلها وحالها إليه واحدة. [١٤٤ ظ]
فقالوا : كما أنّ العالم بالأمكنة إذا لم يكن مكانيّا يكون عالما بأنّ زيدا في أيّ
جهة من جهات عمرو ، وكيف يكون الإشارة إليه وكم بينهما من المسافة. وكذلك في جميع
ذرّات العالم ولا تجعل نسبة شيء منها إلى نفسه ، لكونه غير مكانىّ. كذلك العالم
بالأزمنة إذا لم يكن زمانيّا يكون عالما بأنّ زيدا في أيّ زمان يولد ، وعمروا في
أيّ زمان وكم يكون بينهما من المدّة. وكذلك في جميع الحوادث المرتبطة بالأزمنة.
ولا تجعل نسبة شيء منها إلى زمان يكون حاضرا له ، فلا يقول : هذا مضى وهذا ما حصل
، [١٤٤ ب] بعد ، وهذا موجود الآن ، بل يكون جميع ما في الأزمنة حاضرا عنده متساوى
النسبة إليه ، مع علمه بنسب البعض إلى البعض وتقدّم البعض على البعض.
وإذا تقرّر هذا
عندهم وحكموا به ولم يسمع هذا الحكم أوهام المتوغّلين في المكان والزمان ، حكم
بعضهم بكونه مكانيّا ، ويشيرون إلى مكان يختصّ به ، وبعضهم بكونه زمانيّا. ويقولون
: إنّ هذا فاته وإنّ ذلك ما يحصل له بعد ، وينسبون من ينفى ذلك عنه إلى القول بنفى
العلم بالجزئيّات الزمانيّة وليس كذلك».
[٢٢] تقرير وبسط
قال أرسطوطاليس في
(«أثولوجيا» ، ص ٦٨) : «إنّ كلّ [١٤٥ ظ] فعل فعله البارى الأوّل عزوجل ، فهو تامّ كامل ، لأنّه علّة ثابتة ليس من ورائها علّة
أخرى. ولا ينبغى لمتوهّم أن يتوهّم فعلا من أفاعيله ناقصا ، لأنّ ذلك لا يليق
بالفواعل الثوانى ، أعنى العقول ، فبالحريّ أن لا يليق بالفاعل الأوّل. بل ينبغى
أن يتوهّم المتوهّم أنّ أفعال الفاعل الأوّل هي قائمة عنده ، وليس شيء عنده أخيرا
، بل الشيء الذي عنده أوّلا ، هو هاهنا أخيرا وإنّما يكون الشيء أخيرا لأنّه
زمانىّ ، والشيء الزمانىّ لا يكون إلّا في الزمان الذي وافق أن يكون فيه. فأمّا في
الفاعل الأوّل فقد كان لأنّه ليس هناك
زمان ، فإن كان
الشيء الملاقى (٤٥ ب) فى الزمان المستقبل هو قائم هناك ، قلا محالة إنّه إنّما
يكون هناك موجودا قائما ، كما أنّه سيكون فى المستقبل. فإن كان هذا هكذا ، فالشيء
إذن الكائن في المستقبل هو هناك موجود قائم لا يحتاج في تمامه وكماله هناك إلى أحد
الأشياء البتة. فالأشياء إذن عند البارى ، جلّ ذكره ، كاملة تامّة ، زمانيّة كانت
أم غير زمانيّة ، وهى عنده دائما ؛ وكذلك كانت عنده أوّلا كما تكون عنده أخيرا فالأشياء
الزّمانيّة إنّما يكون بعضها من أجل بعض ، وذلك أنّ الأشياء إذا هي امتدّت وانبسطت
وبانت عن البارى الأوّل ، كان بعضها علّة كون بعض. وإذا كانت كلّها معا [١٤٦ ظ]
ولم تمتدّ ولم تنبسط ولم تبن عن البارى الأوّل ، لم يكن بعضها علّة كون بعض ، بل
يكون البارى الأوّل علّة كونها كلّها». وقال فيه (ص ١١١) أيضا : «القيام هناك دائم
بلا زمان ماض ولا آت ، فإنّ الآتى هناك حاضر والماضى موجود ، لأنّ الأشياء التي
هناك دائمة على حال واحدة لا تتغيّر ولا تستحيل».
وقال الشيخ الرئيس
في كتاب («التعليقات» ، ص ٢٨) : «والمعقولات صادرة عنه على مراتبها واختلاف
أحوالها من الأبديّة والحادثيّة والقارّة وغير القارّة. فهى كلّها حاصلة له
بالفعل. وهذا كما تقول : إنّ الأشياء الموجودة دائما والموجودة في وقت بعد [١٤٦ ب]
وقت ، والشيء المتقضّى شيئا فشيئا ، كالزمان والحركة التي هى غير موجودة الجملة والقارّة
بالجملة والمعدومة فى الماضى والمعدومة في المستقبل ، كلّها بالإضافة إليه موجودة
وحاصلة بالفعل ، لأنّه سبب وجودها ومبدأ الأسباب التي توجد عنها ، وهو يعقل ذاته
ولوازمه ولوازم لوازمه إلى أقصى الوجود ، وكلّ المعقولات حاصلة له حاضرة عنده ،
وحالها عنده بالسواء في كلّ حال ، أعنى قبل وجودها وبعد وجودها ، ومع وجودها لا
يتغيّر بوجه ، وهو يعقل الأشياء معا ولا يعقلها شيئا فشيئا».
وقال فيه أيضا : (ص
٢٨) : «علم البارى [١٤٧ ظ] بالأشياء الجزئيّة هو أنّه يعلم الأشياء من ذاته ،
وذاته مبدأ لها ، فيعلم أوائل الموجودات ولوازمها ولوازم لوازمها إلى أقصى الوجود
، وكلّ شيء فإنّه بالإضافة إليه واجب الوجود وبسببه ، فهو موجود بالإضافة إليه
ممّا وجد وممّا يوجد. فإذا كانت للأشياء الجزئيّة أسباب يلزم
عنها تلك
الجزئيّات ، ولتلك الأسباب أسباب حتى تنتهى إلى ذات الأوّل ، وهو يعلم ذاته ويعلمه
سببا للموجودات ويعلم ما يلزم عن ذاته وما يلزم عن لازمه ، وكذلك هلمّ جرّا حتى
ينتهى إلى الجزئىّ ، فإنّه يعلمه ، لكن يعلمه بعلله وأسبابه».
ثمّ قال (ص ٢٩) : «ويعلم
الأشياء [١٤٧ ب] الغير المتناهية على ما هى عليه من اللاتناهى بأسبابها ، ويعلم
الزمان الغير الثابت الذي يتقضّى شيئا فشيئا بعلله وأسبابه». ثمّ قال : «فيكون
علمه محيطا بجميع الأشياء ، فلا يكون لعلمه تغيّر ، فإنّ معلومه لا يتغيّر».
ثمّ قال : «فلا
تخفى عليه خافية.» ، وقال : و «هو يعلم الأشياء الغير المتناهية ، فعلمه غير
متناه. وقد يتشكّك فيقال : إنّ تلك الأشياء غير موجودة بالفعل ، بل بالقوّة. فبعض
علمه يكون بالقوّة أو يكون لا يعلمها. فيقال : إنّ كلّ شيء فإنّه واجب بسببه
وبالإضافة إليه ، فيكون موجودا بالفعل وبالإضافة إليه. فسبب وجود كلّ موجود هو
أنّه [١٤٨ ظ] يعلمه. فإذا علمه قد حصل وجوده ، فهو يعلم الأشياء دائما».
ثمّ قال : «الأسباب
كلّها عند الأوائل واجبات ، وليس هناك إمكان البتة. وإذا كان شيء لم يكن في وقت
فإنّما يكون ذلك من جهة القابل ، لا من جهة الفاعل ، فإنّه كلّما حدث استعداد من
المادّة حدثت فيها صورة من هناك ، إذ ليس هناك منع ولا بخل. فالأشياء كلّها واجبات
هناك لا تحدث وقتا وتمتنع وقتا ، ولا تكون هناك كما تكون عندنا. وقد يتشكك فيقال :
إذن ، الأفعال كلها طبيعيّة لا إراديّة. والجواب : أنّ إرادتها على هذا الوجه ، إذ
هو دائم الفيض [١٤٨ ب] فالامتناع من جهة القابل».
وقال فيه : أيضا (ص
٦٦) «علم الأوّل من ذاته ، وذاته سبب للأشياء كلّها على ترتيبها. فعلمه بالأشياء
هو نفس وجودها ، فهو يعلم الأشياء التي لم توجد بعد ، على أنّها لم توجد بعد ،
ويعرف أوقاتها وأزمنتها ولوازمها. وإذا وجدت تلك الأشياء لم يتجدد علمه بها ،
فيستفيد من وجودها علما مستأنفا».
ثمّ قال : بعد أن
حقق أنّه تعالى يعلم أشخاص الزمان وأشخاص كلّ شيء والأزمنة التي بينها علما بسيطا (ص
٦٦). و «كذلك أحوال كلّ شخص وأفعاله وتغيّراته واختلافات الأحوال به وعدمه وأسباب
عدمه على الوجه الكلّىّ ، أعنى الذي لا يتغيّر
البتة [١٤٩ ظ] ولا
يزول بزواله ، فلا يجوز أن يدخل علمه الماضى والحاضر والمستقبل من الزمان. كقولك :
كان وسيكون وهو كائن من حيث هو كذلك».
وقال فيه أيضا (ص
٩٧) البارى يعقل كلّ شيء من ذاته ، لا من ذلك الشيء ولا من ذاته ولا من وجوده ولا
من حال من أحواله ، فإنّه إن كان يعقله لا من ذاته ، بل من خارج عن ذاته ؛ لكان
فيه انفعال ، وكان هناك قابل لذلك المعقول ، لأنّه يكون له بعد ما لم يكن ، ويكون
على الجملة له حال لا يلزم عن ذاته ، بل عن غيره. وإذ هو مبدأ كلّ شيء فهو يعقل
ذاته ويعقل ما هو مبدأ له ، [١٤٩ ب] وهو العقل الفعّال ، ويعقل أنّه مبدأ له ،
ويعقل ما بعده ولوازمه وما بعد ذلك إلى ما لا يتناهى ويعقل الأشياء الأبديّة أنّها
أبديّة ، والأشياء الفاسدة أنّها فاسدة ، إذ يعقل أسبابها وعللها ولوازمها ويعقل
الأشياء والزّمانيّة. والزّمان إذ هو من لوازمها ، ويعقل المتحرّك والحركة وأنّها
زمانيّة ومتحرّكة ، ويعقل الشخصيّات من الفاسدات من جهة عللها وأسبابها».
ثمّ قال (ص ٩٨) و
«يعلم كلّ شيء كما هو موجود بعلله وأسبابه ، ويعلم المعدومات بعلل أعدامها
وأسبابها ، ويكون علمه بها سبب وجودها ، لا وجودها سبب علمه [١٥٠ ظ] وذلك بخلاف
أحوالنا ، فإنّا نعلمها من وجودها ونعرف الجزئيّات من جهة كليّة».
وقال فيه أيضا (ص
١٠٩) «العقليّات المحضة ثابتة لا يجوز عليها الانتقال والتغيّر، ومعقولاتها تكون
حاضرة معها دائمة لا يحتاج فيها إلى انتقال من معقول إلى معقول آخر ، والنفس وإن
كانت عقلا ، فإنّ تعقّلاتها مشوبة بتخيّل. فلذلك يصحّ عليها الانتقال من معقول إلى
معقول ، وتستعدّ بهذا المعقول لمعقول آخر».
وقال فيه أيضا (ص
١٥٥) : «أنا إذا علمت جزئيّات ، ككسوف ، ثمّ علمت لا كسوفا ، فليس علمى بالأوّل هو
علمى بالثانى ، لأنّ ذلك قد تغيّر ، لأنّى [١٥٠ ب] أعلم كلّ واحد منهما في آن
مفروض ، وأكون قد أدخلت الزمان في ما بينهما ، فتغيّر علمى».
ثمّ قال : (ص ١١٥)
«لو أدركنا هذا الجزئىّ من جهة علله وأسبابه الكلّيّة ، وعلمنا صفاته المشخّصة له
بأسبابها وعللها الكلّيّة لكان علمنا هذا كلّيّا لا يتغيّر بتغيّر المعلوم في ذاته
، فإن أسبابه وعلله الكلّيّة ، مشخّصاته ، لا تتغيّر ولا تفسد».
ثمّ قال (ص ١١٦) :
«مشخّصاته ، وإن كانت جزئيّة ، فإن لها عللا وأسبابا كلية لا تتغيّر ، والبارى
يعرفها كلّها كلية ، وهو يعرف أوائلها من ذاته ، لأنّ وجودها عنها ، وهو يعرف ذاته
ويعرفها علّة وأوّلا لصدور الموجودات عنه. فعلمه [١٥١ ظ] غير مستفاد من خارج يلزم
ذاته وذاته لا يتعيّن».
ثم قال (ص ١١٦) : «الأوّل
يعرف الشخص وأحواله الشخصيّة ووقته الشخصىّ ومكانه الشخصىّ من أسبابه ولوازمه
الموجبة له المؤدّية إليه. وهو يعرف كلّ ذلك من ذاته ، إذ ذاته هو سبب الأسباب.
فلا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرّة».
ثمّ قال (ص ١١٦) :
«ينبغى أن نجتهد في أن لا نجعل علمه عرضة للتغيّر والفساد البتة بأن نجعله زمانيّا
أو مستفادا من الحسّ ومن وجود الموجودات ، فيلزم ذاته أن أدخل في علمه الزمان ،
فيكون متغيّرا وفاسدا ، لأنّ الشيء يكون في وقت بحال ويكون [١٥١ ب] في وقت آخر
بحال آخر».
ثمّ قال (ص ١١٦) :
«الأوّل يعرف هذا الكسوف الجزئىّ بأسبابه المؤدّية إليه ووقته الشخصىّ الذي يكون
فيه بأسبابه الموجبة له ، ويعرف مقدار لبثه بسببه ، ويعرف انجلائه. بالسبب الموجب
له ، وكلّ ذلك يعرفه كليّا بأسبابه المؤدّية إليه الموجبة له ، ويعرف المدّة التي
بين الكسوفين وجميع أحواله وأسبابه الشخصيّة ، فلا يتغيّر علمه بتغيّر هذه الأشياء
وتشخّصها ، إذ ليس يعرفها مشارا إليها». ثمّ قال (ص ١١٦) : «الشيء المشار إليه لا
يعرف معقولا ، إنّما يعرف محسوسا».
ثمّ قال (ص ١١٦) :
«العلم في الأوّل غير مستفاد من الموجودات ، بل من ذاته. فعلمه سبب لوجود
الموجودات ، [١٥٢ ظ] فلا يجوز على علمه التغيّر ، وعلمنا مستفاد من خارج ، فيكون
سببه وجود الشيء. وإذ كنّا لا ندرك إلّا الجزئيّات المتغيّرة ، فعلمنا يتغيّر،
ولأنّها تبطل ، فيبطل علمنا بها».
ثمّ قال بعد قسط
من القول (ص ١١٨) : «هو يعرف كلّ واحد من الأشخاص والأعراض والصّور مرّة واحدة ،
وتكون كلّها متميّزة عنده بأعراضها وصورها. فأنا وأنت متميّزان عنده بصورنا
وأعراضنا ولواحقنا. وكذلك الكسوفات الجزئيّة كلّها متميّزة عنده بأعراض كلّ واحد
منها. والأزمنة أيضا متميّزة عنده بصورها و
أعراضها ، فإنّه
يعرف كلّ شيء على ما هو عليه في الوجود ، كلّيّا [١٥٢ ب] كان أو جزئيّا ، سرمديّا
أو زمانيّا ، فإنّه إذا كان يعرف الشيء بلوازمه ، والزمان من اللوازم ، فإنّه يعرف
الأشياء مع أزمنتها». وقال في موضع آخر منه أيضا (ص ...) : «كلّ ما لم يكن في
الزمان فلا يتغيّر ، إذ التغيّر يلحق أوّلا الزمان ثمّ ما يكون فيه».
وقال في كتابى («الشفاء
والنجاة» ، ص ٢٤٦). «وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء ،
وإلّا فذاته إمّا متقوّمة بما تعقل ، فيكون تقوّمها بالأشياء ، وإمّا عارضة لها أن
تعقل ، فلا تكون واجبة الوجود من كلّ جهة. وهذا محال. ويكون لو لا أمور من خارج لم
يكن هو بحال ، ويكون له حال لا يلزم عن ذاته ، بل [١٥٣ ظ] عن غيره ، فيكون لغيره
فيه تأثير. والأصول السالفة تبطل هذا وما أشبهه ، ولأنّه مبدأ لكلّ وجود ، فيعقل
من ذاته ما هو مبدأ له ، وهو مبدأ للموجودات التامّة بأعيانها والموجودات الكائنة
الفاسدة بأنواعها أوّلا وبتوسّط ذلك باشخاصها. ومن وجه آخر : لا يجوز أن يكون
عاقلا لهذه المتغيّرات مع تغيّرها من حيث هي متغيّرة عقلا زمانيّا ، فإنّه لا يجوز
أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيّا منها أنّها موجودة غير معدومة ، وتارة يعقل عقلا
زمانيّا منها أنّها معدومة غير موجودة ، فتكون [١٥٣ ب] لكلّ واحد من الأمرين صورة
عقليّة على حدة ، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود
متغيّر الذات.
ثمّ الفاسدات إن
عقلت بالماهيّة المجرّدة وبما يتبعها ممّا لا يتشخّص لم تعقل بما هي فاسدة ، وإن
أدركت بما هي مقارنة لمادّة وعوارض مادّة ووقت وتشخّص لم تكن معقولة بل محسوسة أو
متخيّلة.
ونحن قد بيّنا في
كتب أخرى : أنّ كلّ صورة محسوسة وكلّ صورة خياليّة فإنّما تدرك من حيث هي محسوسة
أو متخيّلة بآلة متجزّئة. كما أنّ إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له ،
كذلك إثبات [١٥٤ ظ] كثير من التعقّلات ، بل واجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على
نحو كلّىّ. ومع ذلك فلا يغرب عنه شخصىّ ولا يغرب عنه مثقال ذرّة في السماوات
والأرض. وهذا من العجائب التي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة.
وأمّا كيفيّة ذلك
، فلأنّه إذا عقل ذاته وعقل أنّه مبدأ كلّ موجود عقل أوائل
الموجودات عنه وما
يتولّد عنها ، ولا شيء من الأشياء يوجد إلّا وقد صار من جهة ما يكون واجبا بسببه.
وقد بيّنا هذا ، فيكون هذه الأسباب تتأدّى بمصادفاتها إلى أن توجد عنها الأمور
الجزئيّة. فالأوّل يعلم الأسباب ومطابقاتها ، فيعلم بالضرورة [١٥٤ ب] ما تتأدّى
إليه وما بينهما من الأزمنة وما لها من العودات ، لأنّه ليس بممكن أنّ يعلم تلك
ولا يعلم هذا».
ثمّ ساق الكلام
إلى أن بيّن إدراكه تعالى للجزئيّات بتشخّصاتها إدراكا عقليّا غير زمانىّ، لا
حسّيا زمانيّا ، وبعده ، قال (ص ٢٤٨) : «فإن منع مانع أنّ يسمّى هذا معرفة للجزئىّ
من جهة كليّة فلا مناقشة معه ، فإنّ غرضنا الآن في غير ذلك ، وهو تعريفنا أنّ
الأمور الجزئيّة كيف تعلم وتدرك علما وإدراكا لا يتغيّر معهما العالم. فإنّك إذا
علمت أمر الكسوف ، كما [١٥٥ ظ] توجد أنت ، ولو كنت موجودا دائما ، كان لك علم
بالكسوف المطلق ، بل بكلّ كسوف وكائن. ثمّ كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يتغيّر
منك أمرا. فإنّ علمك في العالمين يكون واحدا. وهو أنّ كسوفا له وجود بصفات كذا بعد
كسوف كذا ، أو بعد وجود الشمس في الحمل كذا في مدّة كذا ، ويكون بعد كذا وبعده كذا
، إذ يكون هذا العقد منك صادقا قبل ذلك الكسوف ومعه وبعده. فأمّا إن أدخلت الزمان
في ذلك فعلمت ، في آن مفروض ، أنّ هذا الكسوف ليس بموجود ، ثمّ علمت [١٥٥ ب] في آن
آخر أنّه موجود ، فلم يبق علمك ذلك عند وجوده ، بل يحدث علم آخر بعد التغيّر الذي
أشرنا إليه قبل ، ولم يصحّ أن تكون في وقت الانجلاء على ما كنت قبل الانجلاء ـ فهذا
لأنّك زمانىّ وآنيّ. وأمّا الأوّل الذي لا يدخل في زمان وحكمه ، فهو بعيد أن يحكم
حكما في هذا الزمان وذلك الزمان من حيث هو فيه ومن حيث هو حكم منه جديد أو معرفة
جديدة».
وقال في كتاب («الاشارات»
، ج ٣ ، ص ٣١٥) ، بعد تحقيق أنّ البارى تعالى ليس موضوعا للزمان : «فالواجب الوجود
يجب أن لا يكون علمه بالجزئيّات علما زمانيّا حتّى يدخل فيه الآن والماضى
والمستقبل ، فيعرض لصفة ذاته أن تتغيّر ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيّات على
الوجه المقدّس العالى عن الزمان والدهر. ويجب أن يكون عالما بكلّ شيء ؛ لأنّ كلّ
شيء لازم له ، بوسط ، أو بغير وسط ، يتأدّى إليه بعينه قدره الذي هو
تفصيل قضائه
الأوّل تأدّيا واجبا ؛ إذ كان ما لا يجب لا يكون ، كما علمت».
وبيّنه خاتم
الحكماء في شرحه (ص ٣١٦) ، بقوله : «فالصّواب أن يؤخذ بيان هذا المطلوب من مأخذ
آخر. وهو أن يقال : العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، ولا يوجب الإحساس به ،
وإدراك [١٥٦ ب] الجزئيّات المتغيّرة من حيث هي متغيّرة لا يمكن إلّا بالآلات
الجسمانيّة ، كالحواسّ وما يجرى مجراها. والمدرك بذلك الإدراك يكون موضوعا للتغيّر
لا محالة. أمّا إدراكها على الوجه الكلّىّ فلا يمكن إلّا بالعقل. والمدرك بهذا
الإدراك يمكن أنّ لا يكون موضوعا للتغيّر. فإذن ، الواجب الأوّل وكلّ ما لا يكون
موضوعا للتغيّر ، بل كلّ ما هو عاقل ، يمتنع أن يدركها من جهة ما هو عاقل على
الوجه الأوّل ، ويجب أن يدركها على الوجه الثاني».
[٢٣] مخلص وحكومة
أو قد بان لك أنّ
الحكماء إنّما اشمأزّت قلوبهم [١٥٧ ظ] من تسويغ القول بأنّ للبارى تعالى علما
متكثّرا وإدراكا متغيّرا ، حسّيا او تخيّليّا ، كما هو شأن الإدراك والعلوم
الزمانيّة؟ ولم ينف أحد من محصّليهم علمه تعالى بالشخصيّات أو بشيء من التشخصّات
والعوارض الشخصيّة لها أو الأزمنة والأوقات أصلا ، بل برهنوا على أنّ جملة
الموجودات ، كليّاتها وجزئيّاتها ، سرمديّاتها ودهريّاتها وزمانيّاتها ، معلومة له
معا دائما ، علما بسيطا مقدّسا عقليّا غير زمانىّ. فما هو محسوس لنا وقتا معيّنا ،
فهو بعينه معقول له دائما ، لا دواما زمانيّا ، بل أرفع من ذلك. فكما أنّ وجوده [١٥٨
ظ] ضرب آخر من الوجود لا يقاس بغيره ، فكذلك علمه لا يقاس.
قال الشيخ أبو على
في («التعليقات» ، ص ١١٩) : «الأوّل نعرفه معرفة كليّة بعللها وأسبابها ، لا معرفة
شخصيّة متغيّرة ، بل كليّة ، إذ لم نستفد المعرفة به من جهة شخصيّته ومن وجوده وقت
تشخّصه ووجوده ، فإنّه يكون حينئذ مدركا من حيث هو محسوس أو متخيّل ، لا معقول».
وقال : (ص ١٢١) «الأشياء الفاسدة تدرك من وجهين ، إمّا أن تدرك بشخصيّتها
وجزئيّتها. وذلك إمّا بالحسّ أو التخيّل ، وإمّا أن تدرك كذلك بأسبابها وعللها ،
والعلم بها من الوجه الأوّل يتغيّر بتغيّرها [١٥٨ ظ]. وبالوجه الثاني لا يتغيّر ،
لأنّ ذلك السبب كلّىّ لا يتغيّر».
وقال : (ص ١٢٢) «العلم
الزمانىّ هو أن يدرك ذلك المعلوم في زمان أدرك كما أدرك الشيء المنسوب إليه ، كما
يقول : هذا الشيء في هذا الزمان من حيث هو متخيّل أو محسوس أو معقول من حيث تأدّى
إلى العقل منهما ، لا من حيث حكم به العقل من أسبابه وموجباته». وقال : «الابديّات
وسائر الموجودات في حالة واحدة ، لها أحوال ونسب لبعضها إلى بعض ، وتلك النّسب
كلّها موجودة معا للأوّل ، فهى معلومة له».
وقال : «العقل
البسيط هو أن يعقل المعقولات على ما هي عليه من تراتيبها وعللها [١٥٨ ب] وأسبابها
دفعة واحدة بلا انتقال في المعقولات من بعضها إلى بعض ، كالحال في النفس بأن يكتسب
علم بعضها من بعض ، فإنّه يعقل كلّ شيء ويعقل أسبابه حاضرة معه. فإذا قيل للأوّل عقل.
قيل على هذا المعنى البسيط إنّه يعقل الأشياء بعللها وأسبابها حاضرة معها من ذاته».
ثمّ قال «كلّ
معقول للاول بسيط ، أى معلوم له بما له من اللوازم والملزومات إلى أقصى الوجود».
ثمّ قال : «الأوّل يعقل الصور على أنّه مبدأ لتلك الصور الموجودة المعقولة وأنّها فائضة
عنه مجرّدة غاية التجويد ، ليس فيه اختلاف صور مرتّبة متخالفة ، بل يعقلها بسيطا
ومعا ، لا باختلاف [١٥٨ ظ] ترتيب ، وليس يعقلها من خارج».
ثمّ قال : «كما
أنّ وجود الأوّل مباين لوجود الموجودات بأسرها ، فكذلك تعقّله مباين لتعقّل
الموجودات ، وكذلك جميع أحواله. فلا يقاس حالة من أحواله إلى ما سواه ، فهكذا يجب
أن يعقل حتى يسلم من التشبيه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا».
وقال فيه أيضا (ص
١٤٩) إن فرض أنّ الأوّل يخفى عليه شيء من الجزئيّات الكائنة لزم منه محال. وهو أنّ
في علمه ما هو بعد بالقوّة فلم يخرج إلى الفعل ، وإنّما يخرج إلى الفعل عند إدراكه
لوجوده. وأيضا فإنّ كلّ ما يحدث ويكون لا يخلو من أنّ يكون بقدر الله. فإن كان [١٥٩
ب] لا يعلمه فلا يكون من قدره ، فيكون هاهنا إله غير الله يكون ذلك الكائن بقدره ،
تعالى الله عن ذلك» ، انتهى بعبارته.
فقال المعلم
الثاني أبو نصر الفارابى في «فصوصه» (ص ٦٠) : «كلّ ما عرف سببه من حيث هو يوجبه
فقد عرف. وإذا رتّبت الأسباب انتهت أواخرها إلى الجزئيّات الشخصيّة على سبيل
الإيجاب. فكلّ كلّىّ وجزئيّ ظاهر عن ظاهريّته الأولى. ولكن
ليس يظهر له شيء
منها عن ذواتها داخلة في الزمان والآن ، بل عن ذاته ، والترتيب الذي عنده شخصا
فشخصا بغير نهاية ، فعالم علمه بذاته هو الكلّ الثاني لا نهاية له ولا حدّ. وهناك [١٦٠
ظ] الأمر».
فهذه أقوالهم
بألفاظهم. وليس فيها ما يوهم نفى العلم بالجزئيّات أصلا ، فانظر إلى بعض أعاظم
المتحذلقين ، كالشيخ الغزالىّ وأترابه ، كيف يجرّءون أنفسهم على تحريف الكلم
وترجيف القلم بالتّشنيع حيث لا يفقهون قولا ولا يعقلون دليلا ولا يدركون غورا ولا
يهتدون سبيلا. واستفت الذين يظنّون بهم انّهم أحبار الأمّة وائمّة الدين وحجج
الإسلام ، أهم أشدّ ضلالة أم أنتم؟ بل أنتم قوم تجهلون.
[٢٤] إحصاف
إنّ من حصيف
البيان قول رئيس الحكماء في («التعليقات» ، ص ١٢٢) : «الأوّل يعقل ذاته ويعقل
لوازمه ، وهي المعقولات الموجودة [١٦٠ ب] عنه ، ووجودها معلول عقله لها ، ويعقل
لوازم تلك الموجودات ، ومن لوازمها الزمان والحركة. وأمّا الفاسدات فإنّه يعقلها
فاسدة من جهة أسبابها وعللها ، كما تعقل أنت فاسدا إذا عقلته من جهة أسبابه. مثال
ذلك : إنّك إذا عقلت انّه كلّما تعفّنت مادّة في عرق يتبعها حمّى ، وتعلم مع ذلك
من الأسباب والعلل أنّ شخصا ما يوجد تحدث فيه هذه ، فتحكم أنّ ذلك الشخص يحمّ.
فهذا الحكم لا يفسد وإن فسد الموضوع.
وشيء آخر : وهو
أنّ المعقولات التابعة للمحسوسات [١٦١ ظ] ممّا لم يدرك بعلّة ، فإنّ كلّ ما نحسّ
به نعقله من وجه ، وإن لم يكن معقولا من جهة العلل والأسباب ، فإنّه زمانىّ
متغيّر. وبالحقيقة ، المدرك الزمانىّ يكون بالحسّ والتخيّل ، إذ نحن ليس يمكننا أن
نصادف شيئا جزئيّا إلّا في زمان. والأوّل حكمه بخلاف حكمنا ، فإنّ الزمان هو معقول
له من كلّ وجه ، وهو محسوس لنا من وجه ومعقول من وجه. والمشخّصات أيضا معقولة من
وجه ما ، فإنّ وضعا ما أوجبه سبب من الاسباب يمكن أن يعقل ذلك السبب كليّا ،
والوضع كليّا.
والأوّل لمّا عقل
هذه [١٦١ ب] الأشياء على تراتيب وجودها أدركها كلّها على تراتيبها. والشخص وإن كان
في الوجود شخصيّا ، فإنّ ذلك الشخص عقلىّ عنده من
حيث أدركه من
أسبابه وعندنا أيضا لو أنّا أدركنا علل شخص ما ، كنّا نحكم بأنّه كلّما وجدت تلك
العلّة وجد شخص ، تلك العلل علل شخصيّته. لكنّا لا نعلم أىّ سبب يتأدّى إلى وجوده
هذه الأسباب ، فإنّ الأسباب السابقة غير متناهية. وعند الأوّل تلك الأسباب على
نظامها وتراتيبها معقولة له. فلا يعزب عن علمه شيء من الموجودات» ، هذه ألفاظه.
وقال خاتم الحكماء
في («نقد المحصل» ، ص ٢٩٥) : «الفلاسفة لا يزعمون أنّه عالم بكلّ المعلومات مطلقا
، بل يقولون : إنّه تعالى يعلم جميع الجزئيّات من حيث هي معقولات ، لا من حيث هي
جزئيّات متغيّرة. قالوا : المدرك للجزئيّات الزمانيّة [١٦٢ ظ] من حيث هي متغيّرة ،
يجب أن يكون زمانيّا ذا آلة ، قابلا للتغيّر ، وهو شبيه بالإحساس وما يجرى مجراه.
وهو تعالى منزّه عن هذا النوع من الإدراك ، كما أنّه منزّه عن الإحساس والذوق
والشمّ والإشارة الحسّيّة. هذا هو مذهبهم» ، انتهى.
[٢٥] تكملة
ما ألطف ما أورد
لتلخيص عرض المرام وتحصيل غرض المقام ، أعنى كلام خاتم الحكماء في «شرح رسالة
مسألة العلم» (ص ٣٨) ، فلا بأس بأن يتلى عليك ، لما فيه من عظيم النفع ولطيف القول
، مع ما في المطلب من غوامض الفكر ومداحض الوهم. ولذلك آثرنا في ما [١٦٣ ظ] قصصناه
عليك من ترادف العبارة وسياقة الإطناب وإن كان فيه اجتياز عن طريقة طور الكتاب.
قال :
«أمّا علم البارى
تعالى بالجزئيّات ، فقيه خلاف بين المتكلمين والفلاسفة. وذلك أنّ المتكلمين قالوا
: إنّ البارى تعالى يعلم الحادث اليومىّ على الوجه الذي يعلمه أحدنا أنّه موجود في
هذا الوقت ولم يكن موجودا قبله ويمكن أن يوجد بعده أولا يمكن. ثمّ إذا نبهوا بوجوب
تغيّر العلم بالمتغيّرات حسب تغيّرها ، التزم بعضهم جواز التغيّر في صفات الله
تعالى أو في بعضها. فقال القائلون بالإضافات فقط : إنّ تغيّر [١٦٣ ظ] الإضافات في
صفات الله جائز عند جميع العقلاء ، كالخالقيّة والرازقيّة بالإضافة إلى كلّ شخص.
وقال غيرهم : يجوز أن يكون ذاته تعالى محلّا للحوادث ، كما جوّز طائفة من الحكماء
كونها محلّا قابلا لصور المعلومات غير المتغيّرة. ومن لم
يجوّز التغيّر في
صفاته تعالى عاند في هذا الموضع وأنكر التغيّر أصلا ، وقال : بأنّ الشيء سيوجد هو
العلم بوجوده حين وجد ، إلى أمثال ذلك من التمسّكات الواهية.
وأمّا الحكماء ،
فالظاهريّون من المنتسبين إليهم قالوا : إنّه تعالى عالم بالجزئيّات على الوجه
الكلّىّ ، لا على الوجه الجزئىّ. فقيل لهم : لا يمكن أن تنكروا وجود الجزئيّات على
الوجوه الجزئيّة المتغيّرة ، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة [١٦٣ ب] إلى البارى
تعالى الذي هو مبدؤه وعلّته الأولى ، وعندكم أنّ العلم التّام بالعلّة التامّة
مستلزم للعلم التامّ بمعلومها ، وأنّ علم البارى تعالى بذاته أتمّ العلوم. فأنتم
بين أن تعترفوا بعلمه تعالى بالجزئيّات على الوجوه الجزئيّة المتغيّرة وبين أن
تقرّوا بانثلام إحدى المقدّمات المذكورة ، إذ من الممتنع أن يستثنى من الأحكام
الكليّة العقليّة بعض جزئيّاتها الداخلة فيها ، كما يستثنى من الأحكام النقليّة
بعضها ، لتعارض الأدلّة النقليّة بعضها لتعارض الأدلّة السمعيّة. فهذا هو المذاهب
المشهورة.
وأمّا التحقيق في
هذا الموضوع [١٦٤ ظ] فيحتاج ، كما قيل ، إلى لطف قريحة. ولنقدّم لبيانه ما نحتاج
إليه فيه ، فنقول : إن تكثّر الأشياء إمّا أن يكون بحسب حقائقها أو يكون بحسب
تعدّدها مع اشتراكها في حقيقة واحدة ، والكثرة المتفقة الحقيقة إمّا أن تكون
آحادها غير قارّة ، أى لا توجد معا أو تكون قارّة ، أى توجد معا.
والأوّل من هذين
القسمين لا يمكن أن يوجد إلّا مع زمان أو في زمان ، فإنّ العلّة الأولى للتغيّر
على هذا الوجه في الوجود هي الموجود غير القارّ لذاته الذي يتصرّم ويتجدّد على
الاتصال ، وهو الزمان ، ويتغيّر بحسبه ما هو فيه أو معه تغيّرا [١٦٤ ب] على الوجه
المذكور.
والثاني لا يمكن
أن يوجد إلّا في مكان أو مع مكان ، فإنّ العلّة الأولى للتكثّر على هذا الوجه في
الوجود هي الوجود الذي يقبل الوضع لذاته ، أى يمكن أن يشار إليه إشارة حسّيّة.
ويلزمه التجزّي بأجزاء مختلفة الأوضاع بالمعنى المذكور وبالمعنى الذي يكون لبعض
الأجزاء نسبة بأن يكون في جهة من الجهات منه وعلى بعد من تلك الأبعاد غير تلك
الجهة والبعد. وكلّ موجود يكون شأنه كذلك فهو مادّيّ.
والطبائع المعقولة
إذا تحصّلت في أشخاص كثيرة تكون الأسباب الأول لتعيّن
أشخاصها ، [١٦٥ ط]
وتشخّصها هي إمّا الزمان ، كما للحركات ، أو المكان ، كما للأجسام ، أو كلاهما ،
كما للأشخاص المتغيّرة المتكثّرة الواقعة تحت نوع من الأنواع وما لا يكون مكانيّا
ولا زمانيّا ، فلا يتعلّق بهما ، ويتنفّر العقل من إسناده إلى أحدهما ، كما اذا
قيل : الإنسان من حيث طبيعة الانسانيّة متى يوجد أو أين يوجد ، أو كون الخمسة نصف
العشرة في أيّ زمان يكون وأيّ بلدة يكون. بلى إذا تعيّن شخص منها كهذا الإنسان أو
هذه الخمسة والعشرة فقد يتعلق بهما بسبب تشخّصهما.
وكون الأشخاص
المتفقة الحقائق زمانيّا أو مكانيّا لا يقتضي كون المختلفة الحقائق غير زمانىّ
وغير مكانىّ ، فإنّ كثيرا [١٦٥ ب] منها يوجد أيضا متعلّقا بالزمان والمكان ،
كالاجرام العلويّة بأسرها ، وكليّات العناصر السفليّة.
وإذا تقرّر هذا ،
فلنعد إلى المقصود ونقول : إذا كان المدرك أمرا يتعلّق بزمان أو مكان ، فإنما تكون
هذه الادراكات منه بآلة جسمانيّة لا غير ، كالحواسّ الظاهرة والباطنة أو غيرها ،
فإنّه يدرك المتغيّرات الحاضرة في زمانه ويحكم بوجودها ، ويفوته ما كان في زمان
غير ذلك الزمان ويحكم بعدمه ، بل يقول : إنّه كان أو سيكون وليس الآن ، ويدرك
المتكثّرات التي يمكن له أن يشير إليها ويحكم عليها بأنّها في أيّ جهة منه وعلى
أيّ مسافة إن بعد [١٦٦ ظ] عنه.
وأمّا المدرك الذي
لا يكون كذلك ويكون إدراكه تامّا ، فإنّه يكون محيطا بالكلّ ، عالما بأنّ أيّ حادث
يوجد في أيّ زمان من الأزمنة ، وكم يكون من المدّة بينه وبين الحادث الذي يتقدمه
او يتأخّر عنه ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ؛ بل بدل ما يحكم المدرك الأوّل بأنّ
الماضى ليس موجودا في الحال ، يحكم هو بأنّ كلّ موجود هو في زمان معيّن لا يكون
موجودا في غير ذلك الزّمان من الأزمنة التي قبله أو بعده ، ويكون عالما بأنّ كلّ
شخص في أيّ جزء يوجد من المكان وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع
جهاته ، وكم الأبعاد بينها [١٦٦ ب] جميعا على الوجه المطابق للوجود ، ولا يحكم على
شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ،
لأنّه ليس بزمانىّ ولا مكانىّ ، بل نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة.
وإنّما يختصّ بالآن ، أو
بهذا المكان ، أو بالحضور
والغيبة ، أو بأنّ هذا الجسم قدّاميّ أو خلفىّ أو تحتيّ أو فوقىّ ، من يقع وجوده
في زمان معيّن أو مكان معيّن.
وعلمه بجميع
الموجودات أتمّ العلوم وأكملها. وهذا هو المفسّر بالعلم بالجزئيّات على الوجه
الكلىّ ، وإليه اشير بطىّ السّماوات التي هي جامعة الأمكنة والأزمنة ، كلّها ،
كطىّ السّجلّ للكتب. فإنّ القارى للسجلّ يتعلّق [١٦٧ ظ] نظره بحرف حرف على الولاء
ويغيب عنه ما تقدّم نظره إليه أو تأخّر عنه. أمّا الذي بيده السّجلّ مطويّا تكون
نسبته إلى جميع الحروف نسبة واحدة ولا يفوته شيء منها.
وظاهر أنّ هذا
النوع من الإدراك لا يمكن إلّا لمن يكون ذاته غير زمانىّ وغير مكانىّ ، ويدرك لا
بآلة من الآلات ولا بتوسّط شيء من الصور ؛ ولا يمكن أن يكون شيء من الأشياء ،
كليّا كان أو جزئيّا ، على أيّ وجه كان ، إلّا وهو عالم به ، فلا تسقط من ورقة
إلّا يعلمها ، ولا حبّة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ، إلّا وجميعها مثبت عنده
في الكتاب المبين ، الذي هو [١٦٧ ب] دفتر الوجود ، فإنّ وجود كلّ شيء ممّا مضى أو
حضر أو يستقبل ، أو يوصف بهذه الصفات ، على أيّ وجه كان ، مثبت في جوهر عقلىّ
يعبّر عنه بالكتاب المبين. أمّا العلم بالجزئيّات على الوجه الجزئىّ المذكور ، فهو
لا يصحّ إلّا لمن يدرك إدراكا حسّيّا بآلة جسمانيّة في وقت معيّن ومكان معيّن.
وكما أنّ البارى
تعالى ، يقال : إنّه عالم بالمذوقات والمشمومات والملموسات ، ولا يقال : إنّه ذائق
أو شامّ أو لامس ، لأنّه منزّه عن أن تكون له حواسّ جسمانيّة ، ولا يثلم ذلك في
تنزيه ، بل يؤكّده ؛ فكذا نفى العلم بالجزئيّات المشخّصة ، على الوجه المدرك
بالآلات الجسمانيّة عنه ، لا يثلم في تنزيهه ، بل يؤكّده [١٦٨ ظ] ولا يوجب ذلك
تغيّرا في ذاته ولا في صفاته الذاتيّة التي يدركها العقول. إنّما يوجب التغيّر في
معلوماته ومعلولاته والإضافات التي بينه وبينها فقط. فهذا ما عندى من التحقيق في
هذا الموضع» ، انتهى بعبارته.
[٢٦] إيهام وتبيين
ربّما يتوهّم أنّى
، بما حقّقت سابقا مستفيدا من الشيخ الرئيس ومن في طبقته ،
خالفت سياق كلام
هذا الحكيم المحقق ، حيث جعلت نسبة الزمانيّات إلى الزمان مقصورة على الفيئيّة.
وهذا المحقق أخذ الزمانىّ على الأعميّة من أنّ يوجد في الزمان أو معه. وأيضا جعلت
نسبة حامل محلّ الزمان ، أعنى الفلك الأقصى المتحرّك بالحركة اليوميّة [١٦٨ ب] إلى
الزمان ، بالمعيّة الغير الزمانيّة ، لا التي تكون للزمانيّات ، وهو عدّ الأجرام
العلويّة بأسرها من الزمانيّات وجعل كلّ مكانىّ زمانيّا. فيكون نسبة جميع
الفلكيّات إلى الزمان نسبة متقدّرة زمانيّة.
فيبيّن وجه
الإزاحة : بأنّ هذا المحقق إنّما عنى بهذه المعيّة المعيّة الزمانيّة. وهي إمّا
نفس الفيئيّة ، كمعيّة الحركة والزمان ، أو راجعة إليها ، كمعيّة المتحرك والزمان
أو المتحركين. وإنّما عنيت بحامل محلّ الزمان ، في نفى المعيّة الزمانيّة عنه
بالنسبة إلى الزمان ، نفس ذات الفلك الأقصى مع قطع النظر عن كونه متحرّكا لا مع
اعتبار الحركة. فإنّه أيضا ينسب بذلك الاعتبار إلى الزمان بالفيئيّة [١٦٩ ظ]
المعبّر بها عن النسبة المتقدّرة الانطباقيّة ، والزمانىّ هو ما يصحّ أن يتعلق
بالزمان بالفيئيّة أو المعيّة المنتهية إليها أخيرا ، سواء كان ذلك له بالذات أو
باعتبار معروضيّة الحركة ، فالمعتبر في ما ليس بزمان هو نفى ذلك التعلّق بحسب
الأمر مطلقا لا بالنظر إلى الذات من حيث هي فقط.
فإذن ،
الجسمانيّات بأسرها من الأجرام العلويّة والسفليّة جميعا ، مع جميع ما يتعلّق
بالمادّة وجودا ، ذاتا أو فعلا ، وحدوثا وبقاء جميعا زمانيّات. وكيف يكون شيء
مكانيّا ولا يكون زمانيّا ، وكلّ مكانىّ فإنّه ذو وضع ، والوضع يتشخّص بذاته وبالزمان
، [١٦٩ ب]. والزمان يتشخّص بالوضع ، وكلّ زمان له وضع مخصوص ، لأنّه تابع لوضع
مخصوص من الفلك. والمكان يتشخّص أيضا بالوضع ، فإنّ لهذا المكان نسبة إلى ما يحويه
مغاير نسبة المكان الآخر إلى ما يحويه. وهذه المعانى ستنكشف من ذى قبل ، إن شاء
الله تعالى.
[٢٧] وهم وكشف
أرأيت بعض أولى
الاعتياد بدقّة النظر وسعة التعقّل ، [هو الحكيم الفاضل شمس الدين محمد الخفريّ في
حاشية إلهيّات شرح التجريد. منه رحمهالله]. كيف ضاق عقله وقصر نظره ، فتوهّم : أنّ علمه تعالى
بالجزئيّات الزمانيّة باعتبار وجودها العينىّ ،
وهو عبارة عن حضورها
، بل الحاضر بذلك الاعتبار زمانىّ ، أى واقع في الزمان ، فإنّ الحوادث لمّا كانت
مختصّة بأزمنة معيّنة كان كلّ منها حاضرا في وقته ، [١٧١ ب] لا فى الوقت المتقدّم
على ذلك الوقت ولا في الوقت المتأخّر عنه ، فيكون حضورها باعتبار الوجود العينىّ
مختصّا بتلك الأزمنة المعيّنة. ولا يخلو إمّا أن تكون تلك الحوادث بعينها باعتبار
الوجود العينىّ علما بها أو حضورها باعتبار ذلك الوجود علما بها. وعلى التقديرين
كان العلم بها باعتبار الوجود العينىّ زمانيّا ، أى واقعا في الزمان. فعلمه تعالى
الحادث المتعلق بالحادث باعتبار وجوده العينىّ مخصوص بالزمان ومختلف بالمضىّ
والحاليّة والاستقبال. نعم ، العلم المقدّم على الإيجاد ليس زمانيّا ولا تغيّر فيه
أصلا.
وهو : إمّا
إجماليّ هو عين ذات الواجب الوجود تعالى. ولا يخفى أنّ الجزئيّات باعتبار هذا
العلم [١٧٠ ب] معلومة على الوجه الجزئىّ. فإن قيل : إنّها باعتبار هذا العلم
معلومة على الوجه الكلىّ. فهو إنّما يصحّ بتأويل.
وإمّا تفصيلىّ ،
وهناك لا يحتاج في تصحيح ذلك القول إلى تأويل أصلا. فإنّ الجزئيّات قبل الإيجاد
الخارجىّ إنّما تعلم على الوجه الكلىّ ، فإنّ كلّ شخص من الأشخاص قبل الإيجاد يكون
معلوما بوجه كلّىّ منحصر في شخص ، وفي وقت الإيجاد يكون معلوما بذاته على وجه يكون
مانعا من وقوع الشركة فيه.
وكأنّك بما أوتيت
لو حصّلته كدت تقول : يا أيّها المتوهّم ، ألم تفقه ، من تضاعيف أقوال الحكماء
بمناطيق عباراتهم ، فضلا عن أساليب إشاراتهم ، أنّ الحوادث الزمانيّة [١٧١ ظ]
المترتّبة المتسلسلة إنّما تتعاقب في الوجود ويتقدّم بعضها على بعض تقدّما زمانيّا
بالنسبة إلى الداخل فقط ، أى باعتبار أن يؤخذ وجود بعضها بالقياس إلى وجود بعض آخر
أو يؤخذ جميع السلسلة بالنسبة إلى أمر آخر زمانىّ.
وأمّا بالنّسبة
إلى ما ليس بزمانىّ ، كالبارى تعالى ويكون لا محالة خارجا عن السلسلة
بأسرها ، ولا
يتصوّر له اختصاص بشيء من الأزمنة قطعا ؛ فلا تعاقب لها في الوجود ، ولا تقدّم
لشيء منها على شيء ولا تأخّر أصلا ، بل الجميع متساوية الإقدام في الحضور لديه ،
فإنّ الزمان لا يتّصف بالمضىّ [١٧١ ب] ومقابليها مقيسا إلى ذاته
تعالى ووجوده ،
فهو يتنزّه عن أن يقال : بعض الأزمنة ماض وبعضها مستقبل وبعضها حال بالنسبة إليه ،
بل هو محيط بالكلّ دفعة واحدة ، كما تحقق.
فتقدّم وقت على
وقت إنّما يصحّ بالنظر إلى هويّتى الوقتين بحسب وقوعهما في امتداد الزمان. وأمّا
بالقياس إلى من هو محيط بهما معا ، فلا يصحّ ذلك وإن صحّ اختصاص كلّ منهما بحدّ
معيّن من ذلك الامتداد. والحوادث وإن كان وجودها العينىّ هو بعينه علم المبدأ
الأوّل بها ، لكن وجودها العينىّ لباريهما ـ أعنى وجودها الرابطىّ ـ هو عين
معلوميّتها له ، وبذلك الاعتبار لا يلحقها تقدّم وتأخّر ، [١٧٢ ظ] بل إنّما يلحقها
ذلك باعتبار وجودها في أنفسها بالنظر إلى هويّاتها المختصّة بحدود معيّنة مقيسا
بعضها إلى بعض. وهي بهذا الاعتبار معلومات ، لا صور علميّة. فإذن المعلومات
زمانيّة ، والعلم بها غير زمانىّ ، ومع ذلك فإنّ وجودها في الأعيان هو نفس
معلوميّتها.
وهذا ممّا يحوج
إلى تلطيف للسرّ وتنزيهه عن الوهم ، فليتدرّج إليه من تصوّر الأمر في المكانيّات. أليس
كلّ منها في نفس يتقدّم بالمكان على الآخر أو يتأخّر عنه. ولا يمكن ذلك لها
بالقياس إلى البارى تعالى ، إذ لا يختلف نسبتها المكانيّة في الحضور عنده بالقياس
[١٧٢ ب] إليه تعالى ، وإن اختصّ كلّ منها بمكان معيّن.
ثمّ يا صاحب الوهم
، ما قصدت بالعلم المقدّم على الإيجاد ، إن عنيت بذلك التقدّم الزمانىّ ، فلا يسوغ
وصف ذاك العلم به أصلا ، فكيف والإجمالىّ منه عين ذاته تعالى ، كما اعترفت به ؛
والتفصيلىّ منه يكون على الوجه الكلىّ حسب ما اقتضاه نظرك ، فلا يكون شيء منه
زمانيّا. وذلك التقدّم لا يتّصف به إلّا الزمانيّات ؛ وإن عنيت به التقدّم
السرمديّ على سياق ما حصّلناه من نضيج الحكمة ، فقولك : إنّه ليس زمانيّا ، صحيح ،
لكنّ العلم الحادث حين الإيجاد على زعمك أيضا ليس بزمانىّ ، ولا بمختلف [١٧٣ ظ]
بالتقدّم والتأخّر الزمانيّين أصلا ، لما تعرّفت ، فتفقّه ولا تكن كمن يصطاد حمام
حرم الحكمة بشبكة الوهم فيضلّ ضلالا بعيدا.
[٢٨] زيادة كشف
وإيقان
أما قرع سمعك ، بل
استبان لديك ، أنّ التقدّم والتأخّر الزمانيّين يرجعان إلى زمانى المتقدّم
والمتأخّر ، وإنّما يكون اتصاف غير أجزاء الزمان بهما بالعرض ، فإنّ مفاد
الحكم بهما أنّ
متى المتقدّم قبل متى المتأخّر ، وكذلك المعيّة الزمانيّة هي كون متى أحد المعين
هو بعينه متى الآخر. فما لا يكون زمانيّا لا يصحّ وصفه بشيء من هذه المعانى أصلا.
فالمتصف بهما [١٧٣ ب] مقصور عند الحكماء على الزمانيّات لا يتعدّاها.
فإذن تقدّم ذات
البارى تعالى ووجوده وعلمه على شيء من الحوادث الزمانيّة ، كالذى يوجد من بعد ،
وهو معدوم بالفعل مثلا ، ليس تقدّما زمانيّا ، فكيف وليس لوجوده أيضا ولا تعالى
زمان يتصف هو باعتبار ، بذلك التقدّم ؛ ولا أيضا مكانيّا ، وهو ظاهر ؛ ولا تقدّما
بالعليّة ، لامتناع تخلّف المتأخّر بالعليّة عن المتقدم بها في الوجود ، الخارجىّ
قطعا ، ولا بالطبع ، لأنّ العقل يجد هناك نحوا آخر من التقدّم غير ما بالطبع يأبى
عن المعيّة في الوجود ؛ ولا بالشرف لذلك بعينه ، فيكون هو لا محالة [١٧٤ ظ] تقدّما
آخر خارجا عن الاقسام الخمسة يسمّى على طور حكمتنا التقدّم السرمديّ.
والفلاسفة لم
يذهبوا عن ذلك ، بل هم ناصّون عليه في هذا المقام ، ثمّ إنّهم ناسون له عند
تهوّسهم بإثبات القدم وحين عدّهم أقسام التقدّم والتأخّر.
[٢٩] نصّ ورصّ
قال الشيخ الرئيس
أبو على في كتاب («التعليقات» ، ص ١٥٨) : «واجب الوجود يجب أن تكون لوازمه ، وهي
معلوماته ، معه ، لا تتأخّر عنه تأخّرا زمانيّا ، بل تأخّر المعلول عن العلّة».
وقال (ص ٥٨) : «المعلومات لم تزل كائنة له معلومة له ، وكلّها متميّزة عنده ، أى
يعلم كلّ واحد منهما متميّزا عن الآخر». [١٧٤ ب].
وقال (ص ١٥٢) : «الأوّل
هو السبب في لزوم المعلومات له ووجوبها عنه ، لكن على ترتيب ، وهو ترتيب السّبب
والمسبّب ، فإنّه مسبّب الأسباب ، وهو سبب معلوماته ، فيكون بعض الشيء متقدّما
علميّته له على بعض». وقال (ص ١٥٢) : «العقل البسيط هو أن يعقل الشيء ولوازمه إلى
أقصى الوجود معا ، لا بقياس وفكر وتنقّل في المعقولات ومعرفة الشيء أوّلا واللوازم
ثانيا». ثمّ قال (ص ١٥٢) : «فهذا النّحو من التعقّل [بسبب] تعقّل الأول لذاته
ولوازم عنها وللموجودات كلّها : حاصلها وممكنها [و] أبديّها ، وكائنها وفاسدها ،
وكليّها وجزئيّها ، فإنّه [١٧٥ ظ] يعقلها كلّها معا على الترتيب السببىّ
والمسبّبىّ ، وهو يعقلها من ذاته ، لأنها فائضة عنه وذاته مجرّدة. فهو عاقل ذاته
وذاته
معقولة ، فهو عاقل
ومعقول ، والموجودات كلّها معقولة له على أنّها عنه ، لا فيه».
ثمّ قال (ص ١٥٣) :
«نفس تعقّله لذاته هو وجود هذه الأشياء عنه ، ونفس وجود هذه الأشياء نفس
معقوليّتها له على أنّها عنه». ثمّ قال : «وجود هذه الموجودات عنه وجود معقول ، لا
وجود موجود من شأنه أن يعقل أو يحتاج إلى أن يعقل».
وقال (ص ١٥٤) : «كون
هذه الصور موجودة عنه هو نفس علمه ، بها ، وعلمه بأنّه [١٧٥ ب] يلزم عنه وجودها ،
هو مبدأ لوجودها عنه ، وليس يحتاج إلى علم آخر يعلم به أنّه مبدأ لوجودها عنه.
فهذه المعقوليّة هي نفس هذا الوجود ، وهذا الوجود هو نفس هذه المعقوليّة». وقال (ص
١٥٥) : «الموجودات معلولة له لا محالة ، وإذا قلنا : إنّه يستفيد علم الأشياء من
وجودها ، يلزم أن يستفيد معقوليّة الأشياء من وجوداتها التي هي معلولة له ، فتكون
معقوليّة الشيء بعد وجوده ، وذلك محال».
ثمّ قال (ص ١٥٦) :
«الأوّل تعالى لا يستفيد علم الموجودات من وجودها ، فإنّه يفيدها الوجود ، فهو يعقلها
فائضة عنه. ففى عقله لذاته عقله لها ، إذ هي لازمة له ، وهو [١٧٦ ظ] يوجدها معقولة
، لا أنّه يوجدها ويكون من شأنها أن تعقل».
ثمّ قال (ص ١٥٦) :
«إن قال قائل : إنّه هل يعلمها قبل وجودها حتى يلزم من ذلك إمّا أن يعلمها ، وهي
في حال عدمها ، أو يلزم إمّا أن يعلمها حال وجودها حتى يكون يعلمها من وجودها. كان
قوله ذلك محالا ، ولأنّ علمه بها هو نفس وجودها ، ونفس كون هذه الموجودات معقولة
له هو نفس كونها موجودة ، وهو يعلم الأشياء لا بأن تحصل فيه فيعلمها ، كما نعلم
نحن الأشياء من حصولها ووجودها ، بل حصولها هو علمه بها ؛ ويعلمها بسيطة ؛ لا بأن
يعلم الأسباب ويجمعها ، فيستنتج [١٧٦ ب] منها العلم ، كما نحكم نحن بأنّ هذا كذا ،
وكلّما كان كذا فهو كذا ، فيكون في علمنا به تكرار أو استنتاج للآخر من الأوّل ،
بل يعلم هذه الأشياء من ذاته ولازمه ولازم لازمه ، فيكون علمه بها على ما هي عليه
علما بسيطا على الترتيب السببىّ والمسبّبىّ».
وقال فيه أيضا (ص
١٩١) : «كلّ ما كان وجوده لذاته فوجوده معقوليّته لذاته ، وكلّ ما كان وجوده لغيره
فوجوده معقوليّته لغيره. ولمّا كان واجب الوجود مبدءا لجميع الموجودات على ترتيب
الموجودات وكان عاقلا لحقيقة ذاته ، كان عاقلا
أيضا للوازمه ،
لأنّ ما يعقل شيئا بالحقيقة ، فإنّه يعقل لوازمه ، ووجود لوازمه [١٧٧ ظ] أيضا هو
معقوليّتها ، فلا يجوز أن يقال : إنّه عقلها ، فوجدت ، ولا أنّها وجدت فعقلها ،
وإلّا كان يلزم محالان : أحدهما أنّه يتسلسل إلى ما لا نهاية له ، فإنّه كان يسبق
كلّ وجود لازم عقل واجب الوجود له ، ويسبق كلّ عقل واجب الوجود لتلك اللوازم
وجودها» ، انتهى بألفاظه.
والمعلّم الثاني
أبو نصر الفارابىّ قال في («الفصوص» ، ص ١٠٣) : «هو ـ أى البارى تعالى ـ آخر ، من
جهة أنّ كلّ زمانىّ يوجد زمان يتأخّر عنه ، ولا يوجد زمان يتأخّر عن الحق». وقال
أيضا (ص ١٠١) : «وهو أوّل ، من جهة أنّ كلّ زمانىّ ينسب إليه يكون بعد ، فقد وجد
زمان لم يوجد معه ذلك الشيء ؛ ووجد ـ أعنى الحقّ الواجب تعالى ـ معه [١٧٧ ب] لا
فيه».
والمعلّم الأوّل
أرسطوطاليس في «أثولوجيا» ـ بعد أن ذكر أنّه ينبغى لك أن تنفى عن وهمك كلّ كون
بزمان حتّى تعرف المبدعات التي كوّنت من مبدعها بغير زمان ـ قال (ص ١١٤) : «فعلّة
الزمان لا تكون تحت الزمان ، بل تكون بنوع أعلى وأرفع ، كنحو الظّل من ذى الظّل».
ثمّ قال : (ص ١١٤) : «ولذلك صار ذلك العالم محيطا بجميع الأشياء التي في هذا العالم.
وهذه الصور في ذلك العالم من أوّلها إلى آخر إلّا أنّ ما هناك بنوع أعلى وأرفع».
وقال فيه أيضا (ص
١١٠) : «وذلك العالم ساكن دائم السكون ، لأنّه في غاية الإتقان والحسن ، فلا يحتاج
إلى الحركة بأن ينتقل من حال إلى حال. ولو أراد الحركة [١٧٨ ظ] والانتقال لم يقدر
على ذلك ، لأنّ الأشياء كلّها فيه ، وليس شيء منها خارجا منه فينتقل إليه».
وقال فيه أيضا (ص
١٣٠) : «العلّة الأولى واقفة ساكنة في ذاتها وليست في دهر ولا زمان ولا في مكان ،
بل الدّهر والزّمان والمكان وسائر الأشياء إنّما قوامها وثباتها به. وكما أنّ
المركز ثابت قائم في ذاته ، والخطوط الخارجة من المركز إلى محيط الدائرة كلّها
إنّما تثبت وتقوم فيه ، وكلّ نقطة أو خطّ في دائرة أو سطح فإنّما قوامه وثباته
بالمركز ، فكذلك الأشياء العقليّة والحسّيّة. ونحن أيضا قوامنا وثباتنا بالفاعل
الأوّل ، وبه
نتعلق ، وإليه [١٧٨ ب] نرجع ، وإن نأينا عنه وبعدنا. فإنّما مصيرنا إليه ومرجعنا ،
كمصير خطوط الدائرة إلى المركز وإن بعدت ونأت» ، انتهى.
وأنصّ من ذلك كلّه
، على ما ريم تحقيقه بالتفصيل المشبع ذا هو قول شيخ الحكماء الإلهيّين ، صاحب
الأنوار والإشراقات في كتابه الموسوم ب (ص ٣٠٧) «المشارع والمطارحات» حيث قال في
أوّل فصول المشرع الثالث من الإلهيّات ، بعد ذكر أقسام التقدّم والتأخّر بإزاء
المتقدّم : «وكذا مع وليس كلّ شيئين ليس بينهما تقدّم وتأخّر زمانىّ هما معا زمانا
، فإنّ المفارق بالكليّة لا يتقدّم على زيد مثلا زمانا ولا يتأخّر عنه وليس معه
بالزمان أيضا ، وكذا غيره. فاللذان هما معا بالزمان يجب أن يكونا زمانيّين. كما
أنّ اللذين هما معا في الوضع والمكان [١٨٩ ظ] يجب أن يكونا مكانيّين» ، انتهى
بألفاظه.
وخاتم الحكماء في «نقد
المحصل» (ص ١٢٨) ، حيث أثار صاحب «المحصل» فتنة التشكيك معترضا على الفلاسفة بقوله
: «إنّ تقدّم عدم الحادث على وجوده ، لو وجب أن يكون بالزمان لكان تقدّم عدم كلّ
واحد من أجزاء الزمان على وجوده بالزمان ، ولكان تقدّم البارى تعالى على هذا الجزء
من الزمان بالزمان ، فيلزم أن يكون الله تعالى زمانيّا ، وأن يكون الزمان زمانيّا
، وهما محالان». قال : إنّهم ـ أى الفلاسفة ـ يقولون : القبليّة والبعديّة تلحقان
الزمان لذاته ولغير الزمان بسبب [١٧٩ ب] الزمان ، والوجود والعدم لمّا لم يدخل
الزمان في مفهومهما احتاجا في صيرورتهما بعد وقبل إلى زمان. أمّا أجزاء الزمان فلا
تحتاج إلى غير أنفسها ، ولا العدم بالقياس إليها في كونه قبل أو بعد إلى غيرها.
وأمّا البارى تعالى وكلّ ما هو علّة الزمان أو شرط وجوده فلا يكون في الزمان ولا
معه إلّا في التوهّم حيث يقيسه الوهم على الزمانيّات. فهذا ما قالوه هاهنا». انتهى
قوله.
وقال فيه أيضا ،
حيث أعاد صاحب «المحصّل» (ص ١٩٩) ذكر هذا الوهم ، أعنى أنّ تقدّم البارى تعالى على
أجزاء الزمان كتقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض الآخر ، وهو الذي [١٨٠ ظ] سمّوه
المتكلّمون التقدّم بالذات : «قد سبق ما يرد عليه. والحقّ أنّ البارى تعالى ليس
بزمانىّ ، والزمان من مبدعاته ، والوهم يقيس ما لا يكون في الزمان
على ما في الزمان
، كما مرّ في المكان. والعقل كما يأبى عن إطلاق التقدّم المكانىّ على البارى تعالى
، كذلك يأبى عن إطلاق التقدّم الزمانىّ عليه ، بل ينبغى أنّ يقال : إنّ للبارى
تعالى تقدّما خارجا عن القسمين وإن كان الوهم عاجزا عن توهّمه» نجزت عبارته.
وقال فيه أيضا ،
حيث أورد صاحب «المحصل» عند نفى وجود الإضافات : إنّ كلّ حادث يحدث [١٨٠ ب] فإنّ
الله تعالى يكون موجودا معه في ذلك الزمان. فلو كانت تلك المعيّة صفة وجوديّة ،
لزم حدوث الصفة في ذات الله : «هم ـ أى الحكماء ـ يقولون : إنّ لله تعالى صفات إضافيّة
، كالأوّل والآخر والخالق والرازق والمبدع والصانع وغير ذلك ، ويلتزمون القول بهذه
الصفات غير المعيّة الزمانيّة لله تعالى» هذه ألفاظه. (تلخيص المحصل ، ص ١٣٢).
وقد سبق عن «شرح
حكمة الاشراق» أنّه يمتنع اتصاف المفارقات بالتقدّم الزمانىّ والمعيّة الزمانيّة.
وقال شارح «حكمة الإشراق» في المقالة الخامسة من الفنّ الأوّل من الجملة الثانية
في الفلسفة الأولى [١٨١ ظ] من كتاب «درّة التاج» (ص ٥٠٩) ما ترجمته هذه العبارة : «ليس
أنّ كلّ شيئين ليس بينهما تقدّم وتأخّر زمانيّان يلزم أن يكونا معا المعية
الزمانيّة ، إذ الأشياء التي وجودها ليس زمانيّا لا يعرضها التقدّم والتأخّر
الزمانيّان ولا المعيّة الزمانيّة ، فإنّ كلّ شيئين هما معا بالزمان يجب أن يكونا
زمانيّين ، كما أنّ الأمور التي ليست بمكانيّة لا يكون بينها تقدّم وتأخّر
مكانيّان ولا معيّة مكانيّة».
[٣٠] استيثاق فيه
ميثاق
أليس قد تحقق بهذا
التحصيل والتفصيل : أنّ تقدّم البارى تعالى على كلّ جزء من أجزاء الزمان وكلّ واحد
من الحوادث [١٨١ ب] الزمانيّة المقارنة لها تقدّم آخر خارج عن الأقسام الخمسة أدّت
إليه الفلسفة وأذعنت به الفلاسفة. وكذلك معيّته تعالى بالنسبة إلى شيء من تلك الأمور.
فاتّخذ ذلك ميثاقا لك عندهم لا ينسونه إلى أن نأتى بالنظر في ما يتشبثون به عند
تهوّسهم بإثبات القدم.
فصل (٥)
في تحقيق الأزل والأبد والبقاء والسرمديّة وتفصيل تناهي الامتداد الزمانىّ و
إحصاء المنتسبات إلى الزمان بالفيئيّة وبيان أنحاء الحدوث وذكر نيط بها القصد
من محصّلات الاصول ومكمّلات الفصول [١٨٢ ظ].
[١] دعامة استنتاجيّة
ألسنا قد تلونا
عليك من قبل ، ما إن أخذت الفطانة بيدك لفطّنك أنّ الدّوام يقال على ما بحسب
الوجود الزمانىّ وعلى ما بحسب الوجود الغير الزمانىّ بمعنيين مختلفين ، فإنّ
الدّوام الزمانىّ هو المساوق لاستمرار الوجود وامتداده من حيث المقارنة للزمان
بجميع أجزائه ، ويقابله اللّادوام من جهة المقارنة للآن أو لبعض أجزاء الزمان فقط
، وهو اللّادوام الزمانىّ ، أى من أزله إلى أبده. والدوام الغير الزمانىّ أعلى من
أن يتصف بذلك ، فهو ما للشيء بحسبه صرف الوجود الذي لا يعقل [١٨٢ ب] فيه امتداد
واستمرار أصلا ولا مقابلاهما ، بل يكون محيطا بذلك كلّه ، سواء كان ذلك الوجود في
الأعيان أو في الأذهان ، ويقابله اللّادوام من جهة سبق العدم في ذلك الطرف بحسب
الواقع سبقا سرمديّا لا زمانيّا ، وهو اللادوام الغير الزمانىّ.
[٢] تبصرة وإشارة
إنّك سوف تعلم ،
بما نبرهن عليه ، إن شاء الله سبحانه ، أنّ الدوام بالمعنى الأخير ، ولنصطلح على
تسميته دواما سرمديّا ، لا يثبت لشيء من الطبائع الإمكانيّة ، مفارقات عقليّة كانت
أو زمانيّات مادّيّة ، بل إنّما استأثر به مبدعها الواجب الوجود تعالى شأنه. لكنّ
العقليّات [١٨٣ ظ] تتصف بأنّها موجودة مع الزمان بجميع أجزائه معيّة غير انطباقيّة
بل دهريّة. فلو أنّك سمّيت هذه دواما دهريّا فوق الزمانىّ ودون السرمديّ ، لكنت من
الأمر في مساغ. فقد اصطلحت الفلاسفة بإطلاق الدهر على نسبة ما مع الزمان من الأمور
الثابتة إليه في الثبات ، على ما سلف ، فهذا سبيل الحكمة النضيجة. والمتهوّسون
بالقدم يجعلون الممكن القديم بالزمان سرمديّ الوجود وتأخّره عن مبدعه بالذات فقط ،
ويعبّرون عن الدوام بالسرمديّة. فلقد صدر من المعلّم الأوّل في
كلماته ، [١٨٣ ب]
ومن المعلّم الثاني في تعليقاته ، وتكرّر من الشيخ الرئيس في كتبه.
قال خاتم الحكماء
في «شرح الإشارات» (ج ٣ ، ص ١١٩). «وإنّما عبّر عن الدوام هاهنا بالسرمد ، لأنّ
الاصطلاح ، كما وقع على إطلاق الزمان على النسبة التي تكون لبعض المتغيّرات إلى
بعض في امتداد الوجود ، فقد وقع على إطلاق الدهر على النسبة التي تكون للمتغيّرات
إلى الأمور الثابتة ، والسرمد على النسبة التي تكون للامور الثابتة بعضها إلى بعض».
[٣] تلويح
وهناك قسم آخر هو
الدّوام بالذات ، وهو القدم الذّاتىّ ، ومرجعه إلى عدم مسبوقيّة الوجود بالعدم
بالذّات. وإنّما يتحقّق إذا كان [١٨٤ ظ] الوجود واجبا بذاته ، ويقابله اللّادوام
بالذّات ، أعنى المعبّر عنه في لسان الفلسفة بالحدوث الذّاتي ، وهو مسبوقيّة وجود
الشّيء بالعدم بالذّات ويستغرق الطبائع الإمكانيّة ، مفارقاتها ومادّياتها على
الإطلاق. فكما إذا تسرمد الوجود بحسب الواقع تحقق الدّوام السرمديّ ، فكذلك إذا
تسرمد الوجود بالذّات تحقّق الدّوام الذّاتىّ. وحيث يحين حينه من ذى قبل يبسط
القول فيه على مسلك التّحصيل إن شاء الله العزيز الجميل.
[٤] إيماض
كأنّك ، بما لاح
لك ممّا قرع سمعك ، [١٨٤ ب] مستأنس بعزيزتك بمسلك العقل، آنس ببصيرتك لمشهد الحقّ.
فلا بأس إن تلونا عليك : أنّ الأزل على ضربين ، زمانىّ وأرفع منه. فأمّا المرتفع
عن محتد الزّمانيّة ، فهو ما بحسب صرف وجود المبدأ الأوّل تعالى وجودا متقدّسا عن
الامتداد والاستمرار ، ومقابليهما اللّذين باعتبار عدم البقاء ، تعالى عن ذلك ، بل
محيطا بالاستمرار وبكلّ ما تسعه الشّيئيّة وصرف عدم الزمان عدما بمعزل أيضا عن ذلك
كلّه ، متقدّما على وجوده تقدّما سرمديّا لا زمانيّا ، والزمان بنفس امتداده
الاتصالىّ وبجميع أجزائه الممكن الانحلال هو إليها ، لا بطرفه ، فقد [١٨٥ ظ] مسبوق
بهذا الأزل ، ولا شطط ، سمّى الأزل السرمديّ.
وأمّا الأزل
الزمانىّ. فهو عبارة عن أزمنة في جهة الماضى إلى حيث لا يتقدّمها
شطر من الزمان
أصلا أو شيء آخر يسعه أو يستمرّ أو لا يبقى ، كوجود أو عدم يطاوع انطباقا على
ممتدّ أو طرفه بالمقارنة ، فيعقل فيه بحسب ذلك استمرارا ولا بقاء. وعلى ذاك يقاس
في معنيى الأبد ، إلّا أنّ الزّمان في جهة الأبد لا يجب أن ينتهى إلى حيث لا يلحقه
تحقّق شطر آخر منه ، وأزليّة البارى تعالى وأبديّته دوامه السرمديّ بالمعنى المسلف
عقد الاصطلاح عليه ، [١٨٥ ب] فهذا سبيل نضبح الفلسفة اليونانيّة لتستوى حكمة
يمانيّة.
[٥] اقتصاص
المتهوّسون بالقدم
يجعلون الأزل مقدارا من الزمان في الماضى لا بداية له أصلا ، والأبد مقدارا منه في
المستقبل لا ينتهى إلى حيث لا يستمرّ بعده ، والأزليّة حقيقتها استمرار الشيء في
الأزمنة المقدّرة بحيث لا يكون له أوّل. والأبديّة استمراره في الآتية من الأزمنة
بحيث لا يقف عند حدّ. والسرمديّة كون الشيء غير منقطع الأوّل والآخر. وربّما يطلق
عندهم الأزليّة على كون الشيء لا أوّل لوجوده ولا يتعلق وجوده بالزمان ، كما في
المفارقات ، [١٨٥ ظ] والأبديّة على نظيره. وربّما يقتصر فيهما على الأخير ،
فيستعمل كلّ من الأزليّات والأبديّات حيث تستعمل أخراهما.
قال الشيخ الرئيس
في («التعليقات» ، ص ١٨٨) ـ بعد ذكر الصفات الإضافيّة للمبدإ الأوّل تعالى ـ : «وأيضا
له صفات عدميّة ، أعنى لا صفتيّة ، كالوحدة ، فإنّ معناها أنّه موجود لا شريك له ،
أو لا جزء له. وإذا قيل أزليّ ـ أى إنّه لا أوّل لوجوده ـ فإنّه يسلب عنه الحدوث
أو وجودا متعلّقا بالزمان. وهذه السلوب والإضافات ، لا تتكثّر بها الذات ، فإنّ
الإضافة معنى عقلىّ لا وجود له في ذات الشيء. والنفى والسلب معان [١٨٦ ب] عدميّة ،
بل رفع الصفات عن الشيء. ولكن لمّا كان لمثل هذه السلوب ألفاظ محصّلة ، مثل الوحدة
والأزليّة ظنّ أنّها صفات محصّلة. وقد تكون ألفاظ محصّلة ومعانيها غير محصّلة
ووجوديّة ، بل سلبيّة ، وقد تكون ألفاظ غير محصّلة ومعانيها محصّلة ووجوديّة
انتهى.
[قال فالأوّل
كالوحدة والزوج والفرد ، والثاني كاللاأعمى ، أى البصير ، منه رحمهالله].
وأمّا المتكلّمون
، فإنّهم ، إلّا شرذمة من المنتمين إليهم ، يتوهّمون أنّ بين وجود
المبدأ تعالى وبين
حدوث العالم عدما للعالم مستمرّا لا إلى نهاية. فيتخيّلون بحسبه أزمنة موهومة غير
متناهية ، يعبّرون عنها بالأزل. وهل ذلك إلّا من خداج النحيزة [١٨٧ ظ] وفساد
العزيزة وعقوق العقل وإطاعة الوهم.
[٦] حكاية فيها دراية
اختلفت كلمة
الأشعريّ والكعبىّ وطائفة من قوميهما في إثبات البقاء على أنّه معنى زائد على نفس
الوجود الواقع في الزمان الثاني في الواجب تعالى وفي الممكنات جميعا ، أو نفيه في
الواجب تعالى فقط أو في الممكنات أيضا. وصاحب «المحصل» ارتضى الأخير. وشيء ممّا
أوردوه لا يرجع إلى تحصيل يستحسن القول فيه على تفصيل.
والحقّ ما حقّقه
خاتم الحكماء المحقّقين في («نقد المحصل» ، ص ٢٩٣) ، حيث قال ، وفق أسلوب الحكمة [١٨٧
ب] : «والتحقيق فيه : أنّ البقاء مقارنة الوجود لأكثر من زمان واحد بعد الزّمان
الأوّل. وذلك لا يعقل في ما لا يكون زمانيّا. واعتبر الحكم بكون الكلّ أعظم من
جزئه ، فإنّه لا يمكن أن يقال : إنّه واقع في زمان أو في جميع الأزمنة ، كما لا
يقال : إنّه واقع في مكان أو في جميع الأمكنة. وإذا كان الحكم كذلك ، فما يتوقّف
عليه الحكم ، كالتصوّرات ، أولى بأن يكون كذلك. وعلّة الزمان لا تكون زمانيّا ،
فكيف مبدأ الكلّ. فإذن اتصافه بالبقاء نوع من التشبيه بالزمانيّات. وأمّا كون
البقاء باقيا [١٨٨ ظ] أو غير باق ، فإن كان باقيا فبقاؤه إمّا بذاته أو بغير ذاته
، فحكمه حكم الأمور الاعتباريّة التي توجد في العقل وتنقطع عند عدم الاعتبار».
وقال الشيخ
الغزالىّ في («شرح الأسماء الحسنى» ، ص ١٥٩) : «الباقى هو الموجود ، الواجب وجوده
بذاته. ولكنّه إذا أضيف في الذهن إلى الاستقبال سمّى باقيا ، وإذا أضيف إلى الماضى
سمّى قديما. والباقى المطلق هو الذي لا ينتهى تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ،
ويعبّر عنه بأنّه أبديّ ، والقديم المطلق هو الذي لا ينتهى تقدير تمادى وجوده في
الماضى إلى أوّل ، ويعبّر عنه بأنّه أزليّ. وقولك «واجب الوجود [١٨٨ ب] بذاته»
متضمّن لجميع ذلك. وإنّما هذه الأسامى بحسب إضافة هذا الوجود في الذهن إلى الماضى
والمستقبل. وإنّما يدخل في الماضى والمستقبل المتغيّران ، لأنّهما عبارتان عن
الزمان ولا يدخل في الزمان إلّا التغيّر والحركة ، إذ الحركة بذاتها
تنقسم إلى ماض
ومستقبل ، والمتغيّر يدخل في الزمان بواسطة التغيّر.
فما جلّ عن
التغيّر والحركة فليس فيه ماض ومستقبل ، فلا ينفصل فيه القدم عن البقاء ، بل
الماضى والمستقبل إنّما يكون لنا إذا مضى علينا أو فينا أمور ، وستتجدّد أمور. ولا
بدّ من أمور تحدث شيئا بعد شيء ، حتى تنقسم إلى ماض [١٨٩ ظ] قد انعدم وإلى حاضر ،
وإلى ما يتوقع تجدّده من بعد. فحيث لا تجدّد ولا انقضاء فلا زمان. وكيف لا ،
والحقّ تعالى قبل الزمان ، وحيث خلق الزمان لم يتغيّر من ذاته شيء ، وقبل خلق
الزمان لم يكن للزمان عليه جريان ، وبقى بعد خلق الزمان على ما عليه كان. ولقد
أبعد من قال : البقاء صفة زائدة على ذات الباقى ، وأبعد منه من قال : القدم وصف
زائد على ذات القديم. وناهيك برهانا على فساده ما لزمه من الخبط في بقاء البقاء
وبقاء الصفات وقدم القدم وقدم الصفات». انتهى.
ولقد أصاب في أخذ
هذا الأصل من الفلاسفة [١٨٩ ب] ، لكنّه خبط في جعل الحركة بذاتها منقسمة إلى
الماضى والمستقبل ، فإنّ ذلك إنّما هو من جهة الزمان ، كما سلف تحقيقه ، ولم يحصّل
معنى قبليّة الحقّ بالنسبة إلى الزمان على اصل حكمىّ يوثق بأن ينبى عليه إشراق
عقلىّ. كيف يكون البارى تعالى زمانيّا ، وهو محدث الزمان ومبدعه ، بل موجد ما هو
محدث الزمان ، ومحدث الشيء لا يكون مشمولا له ، فضلا عمّن يوجد محدثه.
وهذا المعنى ممّا
نبّه عليه معلّم الفلسفة المشّائيّة أرسطوطاليس في كتاب «السماء والعالم» وفي غيره
من الكتب الطبيعيّة والإلهيّة ، حيث بيّن أنّ الزمان إنّما هو عدد حركة [١٩٠ ظ]
الفلك وهو يحدث عنه ، وما يحدث عن الشيء لا يشمله. فإذن البارى تعالى خارج عن
الزمانيّات وأرفع من أن تجرى عليه أحكامها.
[٧] استيناف
أليس لهذا الأصل
الحكمىّ ـ أعنى أنّ البارى تعالى أعلى من أن يوصف بالبقاء ، بل هو محيط بالبقاء ،
على أن تكون الأكوان الزمانيّة منه ، كنحو الظلّ من ذى الظلّ ، بل ما هناك أرفع
وأشدّ مرّات متضاعفة اللّانهاية أشباه وأتراب في مراتب الحكمة ، كما يقال : إنّ
ذات المبدأ الأوّل تعالى أعلى من أن يوصف بالتماميّة ، بل هو فوق التمام ، وأنّه
تعالى أعلى من أن
يوصف [١٩٠ ب] بالاختيار ، فضلا عن الإيجاب ، وإنّ علمه ، جلّ ذكره ، أجلّ من أن
يوصف بالصدق. وإنّما هو الحقّ ، بمعنى أنّه نفس الواقع ؛ لا المطابق للواقع ، على
ما ذكره المعلّم أرسطوطاليس في خواتيم كتاب («اثولوجيا» ، ص ...). ومن هناك يعلم
الحال في المراتب العالية على الزمان من المفارقات أيضا. وهذه المعانى مضمون عليها
بالبسط في كلامنا من ذى قبل.
ثمّ إنّ الأمر في
كلّ ما نصف به المبدأ تعالى من الصفات الحقيقيّة يشبه أن يكون كما قيل في البقاء ،
فإنّ كلّ ما يعقل لنا من تلك الصفات طبيعة إمكانيّة يتقدّس عنها جناب قدس الأوّل [١٦١
ظ] تعالى ، وما في عالم الربوبيّة حقيقة قائمة بالذات مجهولة الكنه واجبة الوجود ،
لا سبيل للعقول إلى اكتناهها.
فما مثلنا في
توصيف الربّ بالأشرف من طرفي التقابل ، طنّا منّا أنّ الكمال مقصور على ذلك ، إلّا
مثل البعوضة إذا توهّمت أنّ الكامل ليس إلّا من له جناح ، فأثبتت للبارى تعالى
جناحا.
وهذه حكمة إلهيّة
نطق بها سيّدنا ومولانا محمد بن على الباقر ، عليهما صلوات الله وتسليماته ، حيث
قال : «هل يسمّى عالما إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقدرين. وكلّ ما
ميزتموه بأوهامكم في أدقّ [١٩١ ب] معاينه مخلوق مصنوع منكم مردود إليكم ، والبارى
واهب الحياة ومقدّر الموت ، ولعلّ النّمل الصّغار تتوهّم إنّ الله تعالى زبانيتين
، فإنّهما كمالها ، وأنّ عدمهما نقصان لمن لا تكونان له» ، هكذا حال العقلاء في ما
يصفون الله تعالى به. في ما أحسب ، وإلى الله المفزع» ، («بحار الأنوار» ، ج ٦٩ ،
ص ٢٩٣) ، («الأربعين للشيخ البهائى» ، ص ١٦) ، فتبصّر ، إنّك إذن لمن المهتدين.
[٨] تبصير تنبيهىّ
كأنّك إذن تنبّهت
أنّ ما أشير إلى التنزيه عنه في كريم التّنزيل بقوله عزوجل من قائل : (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات ، ١٨٠) ،
هو ما يصفه به الواصفون من المؤمنين ، حسب ما أدركه الحكماء [١٩٢ ظ] الراسخون ،
فضلا عمّا يقول الظالمون من المشركين على ما وقف عنده القشريّون. فسبحانه سبحانه ،
تلاشى الكلّ في جبروته وتفاشى الرّضاض في العقول من رهبوته. أشهد أنّ كلّ مفهوم أو
موجود معقول
أو محسوس من لدن
عرشه العظيم إلى قرار أرضه باطل ، ما خلا وجهه الكريم.
[٩] ضابط تفصيلىّ
فإذن لا يجوز أن
يطلق عليه تعالى اسم على سبيل التوصيف إلّا إذا صحّ اتصافه تعالى بمفهومه. ولمّا
كانت أسماؤه توقيفيّة ، فلا يجوز أيضا أن يطلق عليه لفظ تسمية إلّا أن يكون قد سبق
ورود إذن بذلك [١٩٢ ب] من قبل شارع وسانّ. فأسماؤه تعالى ، منها ما يصحّ إطلاقه
عليه تسمية وتوصيفا معا ، كالعالم والقادر ، ومنها ما إنّما يجوز إطلاقه تسمية فقط
، لا توصيفا ، كالباقى والدائم ، إذا اشتقّ من الدّوام الزمانىّ ، ومنها ما لا
يجوز ذلك إلّا توصيفا ، لا تسمية ، كواجب الوجود ومرادفات أسمائه الحسنى من سائر
اللغات ، مثل خداى وتنگرى ودانا وتوانا. والله عليم بحقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
[١٠] تمهيد تذكيرىّ
ألست قد تعرّفت
أنّ الزمان بجميع أجزائه من أزله إلى أبده موجود واحد شخصىّ بهويّته [١٩٣ ظ]
الامتداديّة ، على ما أسّسته محصّلة الفلاسفة وأذعنت به طائفة من متفلسفتهم ، وهو
الذي يأذن به الحقّ المنضبح للحكمة ، ووجوده على امتداده الاتصالىّ إنّما هو في
وعاء الدهر ؛ وكذلك الحركة القطعيّة التي هو مقدار لها موجودة في شخص مجموع الزمان
على سبيل الانطباق عليه ، وهي بذلك تفارق مقدارها ، أعنى الزمان ، فإنّه موجود في
نفسه ، لا في زمان آخر أو في حدّ من حدوده ، وهي ذات المقدار ، أعنى الحركة موجودة
في الزمان. وهذا كما أنّ المتمكّن موجود في المكان ، والمكان موجود في نفسه لا في
مكان آخر ولا في حدّ من [١٩٣ ب] حدوده. ولكلّ من ذينك الممتدّين في الأعيان راسما
بسيطا. والرّاسمان هما الآن السيّال والحركة التوسطيّة البسيطة المنطبقة عليه.
فهل تذعن أنّ هناك
كونا في الوسط مستمرّ الذات غير مستقرّ النسبة إلى حدود المسافة ، وتقطع بذلك تلك
المسافة في الأعيان على سبيل قطوع منفصلة. ثمّ ليس هناك قطع للمسافة متصل منطبق
عليها. فإذن أنت لمن همج المتفلسفين. ثمّ إنّهما كما
يرسمان ذينك
الممتدّين في الأعيان يرسمانهما في الأذهان أيضا تدريجا ، ولكنّهما يتحققان هناك
على قرار الذات واجتماع الأجزاء بحسب البقاء دون [١٩٤ ظ] الحدوث ولا كذلك في
الأعيان.
هذا ما استقرّت
عليه آراء الأقدمين حتّى الشيخ الرئيس ومن تأسّى به من المحصّلين. وأمّا القاصرون
عن سلوك سبيل التحصيل ، كعامّة المتأخّرين ، فإنّهم يقتصرون في الحركة القطعيّة
ومقدارها من الزمان على الموجود في الأذهان.
[١١] استبصار
أليس إذا لم يتحقق
الحركة القطعيّة في الأعيان أصلا يكون المتحرك ليس ينال بحركته شيئا من المسافة
المتصلة في شيء من زمان الحركة أصلا ، ضرورة انطباقها على الحركة المعدومة المنطبقة
على الزمان المعدوم ، فلم يصدق أنّه نال [١٩٤ ب] مسافة ما متصلة في زمان ما متصل
بحركة ما متصلة ، بل هو يتوسّط أبدا بين حدود المسافة ، لا على أن يقطع شيئا من
أجزائها في الأعيان قطعا متصلا أو قطوعا منفصلة. نعم يرتسم في الخيال من ذلك
التوسّط متصل ، فيكون قد مرّ في الأعيان على متصل ويكون لم ينله بقطعة متصلا ، فهل
يسع عقلك أن يصدّق فيه وهما.
[١٢] ظلمة وهم وإلاحة
إزاحة
كأنّك تتوهّم أنّه
لا يعقل حصول الشيء الواحد في نفسه على سبيل التدريج ، لأنّ [١٩٥ ظ] الحاصل في
الجزء الأوّل من الزمان لا بدّ وأن يكون مغايرا لما يحصل في الجزئىّ الثاني منه ،
لامتناع أن يكون الموجود عين المعدوم ، فيكون هناك أشياء متغايرة غير صالحة
للانقسام متعاقبة ، لا يتصل بعضها ببعض اتصالا حقيقيّا ، لاستحالة اتصال الموجود بالمعدوم
كذلك ، وكلّ واحد منها حاصل دفعة لا تدريجا.
فهذا الشكّ قد عرض
لبعض أهل التهويل والتهويش من متقدّمة الفلاسفة ، فتشبّث به أفضل الدين الغيلانىّ
وافتتن عليه مثير فتنة التشكيك في «المباحث المشرقية» ، ثمّ تفصّى [١٩٥ ب] انتهاجا
لطريقة بهمنيار في «التحصيل» بالتزام أنّه لا يوجد من الحركة في الأعيان إلّا
التوسّطيّة البسيطة ، وأمّا القطعيّة المتصلة فلا تتحقق
إلّا في الذهن.
قال : «فهذا ما عندى في هذا الموضع المشكل العسر».
والمتأخّرون
أزاغهم ذلك عن الحقّ ، فتوغّلوا في الزيغ أمد الغاية. أو لم تستغرب أنّهم كيف ولم
لم يتفطّنوا انتهاض الشبهة عليهم أيضا حيث يعترفون بحدوث ارتسامها في الذهن على
التدريج؟ فهل للتشكيك اختصاص بأحد الوجودين ، أو يسع مطلق حصول الشيء الوحدانىّ
تدريجا. فإذا يشبه [١٩٦ ظ] أن يكون ما يزاح به عن المقامين هو أنّ وجود الشيء
بتمامه في الآن أخصّ من وجوده بتمامه مطلقا ، فإنّ ذلك قد يكون في الزمان لا في آن
، ووحدة الشيء لا تأبى ذلك أصلا. والتدرّج في الحدوث لا ينافي وجود الشيء المتصل
الواحد في نفسه بتمامه في مجموع الزمان الذي هو أيضا متصل واحد شخصىّ ، بل إنّما
ينفى وجوده بهويّته الامتداديّة في آن أو شيء من أبعاض ذلك الزمان المنطبق عليه ،
ولا استيجاب لكلّ حادث أن يكون لحدوثه بتمامه ابتداء غير منقسم على أن يختصّ وجوده
[١٩٦ ب] بهويّته الامتداديّة لو كانت له ذلك بآن يتحقق فيه.
قال الشيخ في
طبيعيات («الشفاء» ، (ص) : «المتصل لا أجزاء له بالفعل ، بل يعرض أن تتجزأ لأسباب
تقسم المسافة ، فتجعلها بالفعل مسافات على أحد أنواع القسمة ، وما بين حدود ذلك
أيضا مسافات لا يشتمل عليها آن وحركة على النحو الذي قلنا إنّه تكون في آن ، بل
الحركة التي على نحو القطع ويكون الزّمان مطابقا لها ، ولا يكون المعنى الذي
سمّيناه آنا هو متكثّر فيها بالفعل ، لأنّ ذلك لا يتكثّر بالفعل إلّا بتكثّر
المسافة بالفعل. وإذا لم يكن متكثّرا بالفعل وكانت الحركة على [١٩٧ ظ] الموضوع
الواحد ، أعنى المسافة ، حقّا موجودة ولم تكن كثيرة بالعدد ، كانت بالضّرورة واحدة
بالعدد».
وقال بهمنيار في «التحصيل»
، (ص ٤٣٧) بعد ما حسبه إبطالا للتشكيك : «والحركة الفلكيّة ـ بالمعنى الذي تحققته
، أعنى ما يكون بين ماض ومستقبل ـ واحدة باقية فيه أبدا ما تحرّك، وأمّا الذي
بمعنى القطع فيشبه أن يكون وحدته بالفرض ، لأنّ كلّ دورة إنّما تتحدّد بالفرض ،
وبالجملة فإنّ وحدة الحركة مثل وحدة المسافة ، أعنى وحدة الاتصال».
[١٣] تسديد
فأنت إذن لست تزاغ
عن الحقّ بما يوهمه ظاهر كلام الشيخ [١٩٧ ب] : إنّ الحركة اسم لمعنيين : الأوّل ،
الأمر المتصل المعقول للمتحرك من المبدأ إلى المنتهى. وذلك ممّا لا حصول له في
الأعيان ؛ لأنّ المتحرك ما دام لم يصل إلى المنتهى ، فالحركة لم توجد بتمامها ،
وإذا وصل فقد انقطع وبطل. فإذن لا وجود له في الأعيان بل في الذهن. وذلك لأنّ
للمتحرّك نسبة إلى المكان الذي تركه وإلى المكان الذي أدركه. فإذا ارتسمت صورة
كونه في المكان الأوّل في الخيال ، ثمّ قبل زوالها عن الخيال ارتسمت صورة كونه في
المكان الثاني ، فقد اجتمعت الصورتان في الخيال ، فحينئذ [١٩٨ ظ] يشعر الذهن
بالصورتين معا على أنّهما شيء واحد. الثاني ، هو الأمر الوجوديّ في الخارج ، وهو
كون الجسم متوسطا بين المبدأ والمنتهى ، وهو حالة موجودة مستمرّة ما دام الشيء
يكون متحركا ، وليس في هذه الحالة تغيّر أصلا. نعم قد يتغيّر حدود المسافة بالفرض
؛ لكن ليس كون المتحرك متحركا ، لأنّه في حدّ معين من الوسط ، وإلّا لم يكن متحركا
عند خروجه منه ، بل لأنّه متوسّط على الصفة المذكورة ، وتلك الحالة ثابتة في جميع
حدود ذلك الوسط ، وهذه الصورة توجد في المتحرك في آن ، لأنّه يصحّ [١٩٨ ب] أن يقال
له ، في كلّ آن يفرض ، : إنّه في حدّ متوسّط لا يكون قبله ولا بعده فيه.
والذي يقال ، من
أنّ كلّ حركة ففى الزمان ؛ فإمّا أن يعنى بالحركة الأمر المتصل ، فهو في الزمان
ووجوده فيه على سبيل وجود الأمور فى الماضى ، لكن تباينها بوجه آخر. فإنّ الأمور
الموجودة في الماضى قد كان لها وجود في آن من الماضى ، وكانت حاضرة فيه ، ولا كذلك
هذا ؛ وإمّا أن يعنى بها المعنى الثاني ، فيكون كونه في الزمان ، لا على معنى أنّه
يلزمه مطابقة الزمان ، بل على معنى أنّه لا يخلو من حصول قطع ذلك القطع [١٩٩ ظ]
مطابق الزمان ، فلا يخلو من حدوث زمان ، ولأنّه ثابت فى كلّ آن من ذلك الزمان
فيكون ثابتا في هذا الزمان بواسطة.
فقد استبان لديك
أنّ ما قصد نفيه أنّما هو وجود الحركة المتصلة في الأعيان على سبيل قرار الذات
واجتماع الأجزاء في الآن ، لا الوجود في مجموع زمان الحركة
على وجه الانطباق
، كما أعلن به في خواتم كلامه على التنصيص. ومن ثمّ عبّر بهمنيار في («التحصيل» ،
ص ...) عن المقصود ثمّة بقوله : و «بان أيضا أنها ليست من الأمور التي تحصل بالفعل
حصولا قارّا مستكملا ، ولا يكاد يصحّ أنّ يراد بالوجود في مجموع الزمان على
المطابقة على سبيل وجود [١٩٩ ب] الأمور في الماضى هو الوجود في الأذهان. فكيف وقد
بيّن أنّ هذه الحركة المتصلة توجد في الذهن على سبيل قرار الذات كما توجد الأمور
في الآن الحاضر ، لا على نحو الأمور في الماضى.
ثمّ قد تلى عليك
في مسلف الكلام أنّه ناصّ على وجود الزمان الممتدّ في الأعيان. فكيف يكون ما لا
يوجد في الخارج يتقدّر بالزمان الموجود في الأعيان وينطبق عليه ، بل الحركة عنده
محلّ الزمان الممتدّ الموجود وعلّته. فالعدم كيف يكون محلا للموجود وعلّة له ،
فإذن الحركة القطعيّة المتصلة موجودة في الأعيان ، كالزمان ، لكن وجودها [٢٠٠ ظ]
في الأعيان إنّما هو في الزمان الماضى.
وفي (نقد المحصل) (ص
١٨٥) لخاتم الحكماء : إنّ وجودها في الأعيان لا يكون إلّا في الماضى أو في
المستقبل. وأمّا الحال فهو نهاية الماضى وبداية المستقبل ، وليس بزمان. وما ليس
بزمان لا يكون فيه حركة ، لأنّ كلّ حركة في زمان. وكذلك سائر الفصول المشتركة
للمقادير الأخر ليست بأجزاء لها ، إذ لو كانت الفصول المشتركة أجزاء للمقادير التي
هي فصولها لكانت القسمة إلى قسمين ، قسمة إلى ثلاثة أقسام. وقسمة إلى خمسة أقسام.
هذا خلف. فإذن الحاضر ليس بحركة ، والماضى من الحركة لم يكن موجودا في آن [٢٠٠ ب]
حاضر ، بل إنّما كان بعضه بالقياس إلى آن قبل الحال مستقبلا وبعضه ماضيا ، وصار في
الحال كلّه ماضيا. وهكذا في المستقبل ، وفي الآن الواصل بين الماضى والمستقبل ، لا
يمكن أن يتحرّك ، فإنّ الحركة إنّما تقع في زمان ، وليس شيء من الزمان بحاضر ،
لأنّه غير قارّ الذات».
[١٤] تأييد
ألم يقل الشيخ في
المقالة الثانية في طبيعيات («النجاة» ، ص ١٠٥) : «فالحركة وجودها في زمان بين
القوّة المحضة والفعل المحض ، وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولا قارّا
مستكملا». وليس يعنى بذلك وجودها في الأذهان.
كيف والحركة ممّا
يحصل بالفعل في الذهن حصولا قارّا مستكملا ؛ ولا بالحركة معناها التوسّطيّة ، إذ
هي أمر بسيط يحصل [٢٠١ ظ] بتمامه بعد نهاية زمان السكون ، ولا يعقل لذلك التوسّط
أجزاء ، فلا يصحّ الحكم بأنّه من الأمور الغير القارّة إلّا من جهة أحواله ونسبه.
ونظر الشيخ في أصل الوجود وأنّه ليس حصولا قارّا. ولذلك قال هناك بعد شطر من الكلام
: «فالحركة هي ما يتصوّر من حال الجسم ، لخروجه عن هيئة قارّة يسيرا يسيرا. وهو
خروج من القوّة إلى الفعل ممتدّا لا دفعة» ، (ص ١٠٧). فتدبّر عساك تراك من
المستبصرين.
[١٥] تكملة
الزمان الممتدّ
والحركة المتصلة كما يوجد أن في الأعيان ، كذلك يرتسمان في الأذهان من راسميها
المتحققين [٢٠١ ب] من حيث ثبات تحقّقهما واختلاف نسبتهما إلى حدود المسافة وما
يرتسم منهما في الذهن قارّ الذات بحسب الوجود البقائى هناك. وأمّا حدوث الارتسام
فى الذهن فعلى التدريج في مجموع الزمان الممتدّ الموجود في الأعيان المطابق لذلك
المرتسم فى الذهن. وأمّا في أيّ آن من الآنات فلا يرتسم من ذلك المرتسم جزء أصلا ،
إذ كلّ من أجزائه زمان أو حركة ، فكيف يطابق الآن ، بل الآن إنّما يطابق طرف ذلك
المرتسم الذي هو آن أيضا أو حدّ من حدود الحركة المتصلة. فإذن الزمان الممتدّ
موجود في الأعيان [٢٠٢ ظ] ومرتسم في الأوهام أيضا من الآن السيّال ، وكذلك الحركة
القطعيّة المتقدرة به من الحركة التوسطيّة. فاتّخذ ذلك مطيّا يعوزك امتطاؤه في ما
انيلك إيّاه بالأسفار العقليّة من الأفكار العرشيّة.
[١٦] تسجيل
أليس مجرّد عدم
الاجتماع بحسب الحدوث إذا لم يكن هناك تعاقب في البقاء ممّا لا يحقق معنى كون
الشيء غير قارّ الذات. أفليس هذا المعنى يتحقق في المقادير القارّة عندهم ، كالجسم
التعليمىّ ، إذا تحققت حركة في الكم ، كما في النموّ ، بل في التخلخل والتكاثف
الحقيقيّين ، ولا يفضى ذلك إلى الخروج عن قرار الذات ، [٢٠٢ ب] فالمرتسم من الزمان
أو الحركة في الذهن من حيث كونه تدريجىّ
الحدوث فقط على
معنى أنّ أجزاءه المفروضة متعاقبة في ذلك الارتسام الذي هو نحو وجودها. ثمّ هي
توجد باقية معا هناك ممّا يصحّ أن يعدّ في ما ليس قارّا الذات. فلو لم يكن الأمر
على سبيل ما حصّلناه ، من وجود الممتدّ المتصل منهما في الأعيان ، لا على جهة قرار
الذات ، لم يكد يصحّ الحكم ، منهم بوجود العرض الغير القارّ ، ولا الإصرار ، في
الإنكار عليهم في ذلك لخصمائهم.
[١٧] نكتة
الراسم لهما في
الذهن إنّما هو التوسّط المذكور ، والآن السيّال بحسب وجودهما في الأعيان مستمرّين
[٢٠٣ ظ] غير مستقرّى النسبة إلى حدود المسافة ، كما على ما حصّله محققوهم ، لا
بحسب إدراكنا لهما كذلك ، كما ربّما يذهب إليه بعض الأوهام ، وكذلك الأمر في رسم
القطر النازل خطّا مستقيما في الحسّ المشترك والنقطة الدائرة بسرعة خطّا مستديرا.
فالمشاهد هو الخطّ المستقيم والخطّ المستدير ، لا القطر والنقطة ، وهما راسماهما
من جهة الوجود في الأعيان مع تبدّل الأمكنة والأيون والسّموت. ثمّ كما يكون ذلك
الارتسام في الأوهام الخياليّة ، فكذلك يكون في النفوس المنطبعة الفلكيّة أيضا.
فيرتسم فيها الزمان [٢٠٣ ب] وحركة معدّل النهار التي محلّه من حيث كون الراسمين في
الأعيان على الجهة المذكورة.
[١٨] إنارة تبصيريّة
أليس إذا تحقّق
لديك : أنّ الزمان على أصول الفلسفة بهويّته الامتداديّة من الأزل إلى الأبد واحد
شخصىّ موجود في وعاء الدهر ، لا تكثّر فيه إلّا بحسب ما يعرض له من الانفصال في
الأوهام ، لأسباب مؤدّية إلى انقسامات وهميّة. ولا يثلم ذلك في وحدانيّته وشخصيّته
في نفسه بحسب الأعيان. وكذلك الحركة. ثمّ إذا فرضت فيهما أجزاء كانت هي متعاقبة
التحقّق حدوثا وبقاء باعتبار وجوداتها في أنفسها [٢٠٤ ظ] بالنسبة إلى ما في أفق
الزمانيّات وبقياس بعض تلك الأجزاء إلى بعض ، ومن جهة نسبتها إلى الآن. وأمّا بحسب
الثبوت الرابطىّ ، أعنى وجودها لمبدئها وحضورها عنده ، وبالجملة بالنسبة إلى
المرتفع عن كورة الزمانيّة ، بل باعتبار الوجود في نفسه
في وعاء الدهر ؛
فلا تعاقب بينها أصلا ولا بين الزمانيّات مطلقا ، بل هي سواسية الإقدام في الحضور
والتحقّق بحسب ذلك الاعتبار ؛ استشعرت أنّ الموجود الغير القارّ إنّما يكون له وصف
عدم قرار الذات حدوثا وبقاء بحسب الوقوع في الافق الزمانىّ. وأمّا بالقياس إلى عرش
وعاء الدهر وبالنسبة [٢٠٤ ب] إلى المراتب المتعالية عن الزمان ، لإحاطتها به ، فهو
قارّ الذات على وصف اجتماع الأجزاء المفروضة في الحضور والتحقّق. وكذلك حال
المرتسم في المشاعر من الطبيعة الغير القارّة برسم راسمها بالقياس إلى تلك الجنبة
الرفيعة القدسيّة. وأمّا بالنسبة إلى ما يقع في قطر الزمان فإنّما يصف بعدم قرار
الذات من جهة الحدوث فقط دون البقاء.
فإذن قولهم «ما
يتجدّد من الزمان إنّما يوجد على سبيل وجود الأمور في الماضى» يعنى به أنّه إنّما
يتمّ وجوده ويبقى في وعاء الدهر فقط ؛ وما يوصف من غير الزمان بالمضىّ فإنّما يقصد
أنّه يوجد [٢٠٥ ظ] في شطر مخصوص أو حدّ معيّن من الزمان مضى ، والماضى بذاته إنّما
هو زمان. وأمّا الحركة وغيرها فإنّما تتصف بالمضىّ بمقارنة الزمان لا بالذات ، كما
أسلفناه. وقد صرّح بذلك في طبيعيات «الشفاء» وغيره. وقال في إلهيّات «الشفاء»: «الماضى
إمّا بذاته وهو الزمان ، وإمّا بالزمان وهو الحركة ، وما فيها ومعها.
[١٩] تنظير استشهادىّ
أسمعتهم يقولون :
إنّ للمنتسب إلى الزمان أسوة في الأحكام بالمنتسب إلى المكان ، فاعتبر ، في الحكم
بأنّ الزمان قارّ الذات باعتبار وعاء الدهر غير قارّ الذات باعتبار افق وجوده الذي
هو وعاء الزمانيّات ، من أنّ الجسم [٢٠٥ ب] المتصل يعدّ قارّ الذات من حيث تجتمع
أجزاؤه بحسب الوجود في وعاء الزمان أو الآن وإن لم تكن مجتمعة باعتبار نسبة الوجود
إلى وعاء المكان بحيث تجتمع في حدّ واحد من حدوده. أفليست أجزاء الجسم المتمكن إذا
كانت تدرك أنفسها وأمكنتها كانت تزعم أنّ أمكنتها غير قارّة الذات ، من حيث إنّ
أجزاء المكان غير مجتمعة التحقق بالنسبة إلى شيء من أجزاء المتمكن ، فالزمان ،
سبيله بحسب وجوده في نفسه في وعاء الدهر لا في زمان ، سبيل المكان بحسب وجوده في
نفسه لا في مكان ، و
الحركة القطعيّة
بما فيها أو معها من الأمور الزمانيّة بحسب [٢٠٦ ظ] وجودها في مجموع زمان ما ، لا
في شيء من أجزائه أو حدوده ، كالمتمكن بحسب الوجود في مجموع المكان ، لا في جزء
منه أو حدّ من حدوده ، والآنات بما يختصّ بها من الآنيّات كحدود المكان بالنسبة
إلى حدود المتمكن.
[٢٠] إشارة ملكوتيّة
أليس ما يكون حالا
أو مستقبلا من الزمان بالنسبة إلينا ربما يكون ماضيا بالنسبة إلى من سيوجد ،
والماضى بالنسبة إلينا مستقبلا بالنسبة إلى بعض من قبلنا ، فلا ثقة بالحكم على
الزمان الماضى بالعدم على الإطلاق ، بل بالإضافة فقط ، لأنّه يختلف بالقياس إلى
الأشخاص الزمانيّة ، والمحيط بافق الكلّ لا يحكم على شيء منها [٢٠٦ ب] بالعدم ، بل
باختصاص الوجود بحدّ معيّن ، فليس يعرض لشيء من الأمور المتعاقبة المخرجة من
اللّيس إلى الأيس بتأثير جاعلها عدم في وعاء الدهر وبالنسبة إلى المبدأ ، بل إنّما
اختصاص لكلّ من الحوادث الزمانيّة بجزء من أجزاء الزمان أو حدّ من حدوده.
فإذن العدم إنّما
يرجع إلى غيبوبة زمانىّ عن زمانىّ ، أو عدم تحقّق ما هو مختصّ بحدّ من حدود
الامتداد في حدّ آخر ، والعدم الطارئ في ما يعرضه انقطاع الوجود مرجعه إلى عدم
تحقق الوجود في زمان ذلك العدم ، وهو عدم أزليّ مستند إلى عدم علّة الوجود في ذلك
الجزء من الزمان ، لا إلى رفع الوجود عن زمان [٢٠٧ ظ] الوجود ، فيشتمل على
التناقض. فالوجود المتحقق لا يرتفع قطعا ، بل إنّما لا يتحقق فيضان الوجود عن
الجاعل في ما بعد ، وبينهما فرقان مبين.
[٢١] كلمة عقليّة
لعلّك إذن تفقه
سرّ قولهم : «القضيّة المطلقة العامّة إمّا صادقة أزلا وأبدا وإمّا كاذبة غير
متحققة الحكم دائما ، على تقدير أنّ يصار إلى جعل الإطلاق العامّ في القضيّة مقابل
التوجيه تقابل العدم والملكة ، فيكون عنوانا لعدم ملاحظة شيء من الجهات ، لا
تقييدا بجهة ما هي الإطلاق. وهو مسلك الشيخ الرئيس ومن يضاهي ، اتّباعا لما أخذه
ثامسطيوس من كلام [٢٠٧ ب] المعلّم أرسطوطاليس ويشبه أن يكون هو التحقيق. و
ربما تعدّ المطلقة
في الموجّهات توسّعا ، كما تعدّ السالبة في الحمليّات ، فلا يوثق بما يقال في دوام
صدقها مع الذهول عن ذلك الأصل. ولقد تحقق ، أيضا لديك في ما تأسّس من قبل ، أنّ
مفاد المطلقة العامّة الفعليّة والدائمة إنّما هو التحقّق في أحد الأزمنة وفي جميع
الأوقات في الموضوعات الزمانيّة ، لا في نفس الزمان ولا في ما يرتفع عنه.
[٢٢] نقاوة عرشيّة
فإذن تحقق لديك
أنّ ما لا يتعدّى طور الحقّ في تحقيق علم المبدأ الأوّل تعالى ، يشبه أن يكون هو
ما ذهبت إليه [٢٠٨ ظ] محققة الأوائل من الفلاسفة ومحصّلة القدماء من الحكماء ، حسب
ما تلى عليك مفصّلا. وتلخيصه : أنّ علمه تعالى ، بحسب الأخيرة من المراتب
التفصيليّة بجميع المعلومات من الموجودات العينيّة والصور الإدراكيّة الأذهان ، هو
عين وجود تلك المعلولات في الأعيان وعين صور تلك المدركات في الأذهان.
فكلّ موجود عينىّ
شخصىّ بحسب وجوده العينىّ إذا اعتبر ذلك وجود إله في نفسه معلوم ، وبحسب ذلك
الموجود بعينه إذا اعتبر أنّه وجود رابطىّ له ، أعنى بذلك أنّ يلحظ أنّه بعينه
وجود ذلك الموجود لبارئه المجرّد ، أى حضوره [٢٠٨ ب] عنده علميّة حضوريّة لبارئه
تعالى. وكذلك الصورة الإدراكيّة باعتبار وجودها في أنفسها في الذهن معلومة ،
وباعتبار أنّ ذلك بعينه وجود رابطىّ لها للمبدإ الأوّل تعالى ، أى حضور لها عنده
صورة علميّة حضوريّة له تعالى. فجميع معلوماته تفيض عنه منكشفة عليه ، وفيضانها
عنه بعينه معلوميّتها ومعقوليّتها له ، وعلمه بكلّ موجود كلّىّ أو شخصىّ علم به من
طريق العلم بأسبابه المؤدّية إليه. وهذا علم تعقّلي وإن كان بالجزئىّ بجزئيّته
وشخصيّته. فمعلوماته بأسرها مترتّبة في علمه تعالى من تلك الجهة الترتّب [٢٠٩ ط]
السببىّ والمسبّبىّ.
وأمّا الترتّب
التعاقبىّ بين الحوادث الزمانيّة المتعاقبة من جهة تعاقب الأجزاء المفروضة للزمان
والحركة ، فلا يكون بالنسبة إليه وبالقياس إلى علمه قطعا ، بل إنّما يجرى ذلك بين
تلك الأجزاء بما يختصّ بها من الحوادث الزمانيّة باعتبار وجوداتها في حدود أنفسها
وبقياس بعضها إلى بعض في وعاء الوجود الزمانىّ ، وهي بذلك
الاعتبار معلومات
، لا باعتبار وجودها لمبدئها وحضورها عنده ، وهي بذلك الاعتبار علوم وصور علميّة ،
وإن كان وجودها لمبدئها ، أعنى حضورها عنده ، هو بعينه [٢٠٩ ب] وجوداتها في حدود
أنفسها. فإهمال الاعتبارات افق اختلال الحكمة. نعم هو يعلم تعاقب تلك المتعاقبات
بعضها بالقياس إلى بعض وما يتخلّل بينها من الأزمنة على ما هي عليه. والعلم
بالزمانيّات على هذا السبيل علم تعقليّ متعال عن شوائب التغيّرات اللازمة للمعلوم
الزمانيّة. فاذن علمه تعالى بجميع الجزئيّات الشخصيّة والمتشخّصات الزمانيّة
بهويّاتها وشخصيّاتها علم عقلىّ على نحو ما يحكى عنه الإدراك التعقّلىّ للمعقولات
الكلّيّة الغير المتغيّرة من سبيلين.
ونعم ما عبّر به
عن المقصود قول بهمنيار في «التحصيل» (ص ٥٧٤) كونه واجب الوجود [٢١٠ ظ] بذاته هو
بعينه كونه مبدءا للوازمه ، أى معقولاته. فإذا وصف بأنّه يعقل هذه الأمور ، فإنّه
يوصف به ، لأنّه يصدر عنه هذه ، لا لأنّه محلّها ، ولوازم ذاته هي صور معقولاته ،
لا على أنّ تلك الصور تصدر عنه فيعقلها ، بل نفس تلك الصور تفيض عنه ، وهي معقولة
له. فنفس وجودها عنه نفس معقوليّتها له ، فمعقولاته إذن فعليّة.»
وقول خاتم الحكماء
في («شرح الاشارات» ، ج ٣ ، ص ٣٠٦) : «قد علمت أنّ الأوّل تعالى عاقل لذاته من غير
تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلّا في اعتبار المعتبرين ، [٢١٠ ب] ،
على ما مرّ ؛ وحكمت بأنّ عقله لذاته علّة لعقله لمعلوله الأوّل. فإذا حكمت بكون
العلّتين ، أعنى ذاته وعقله لذاته ، شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير ، فاحكم
بكون المعلولين أيضا ، أعنى المعلول الأوّل وعقل الأوّل تعالى له ، شيئا واحدا في
الوجود ، من غير تغاير [يقتضي كون أحدهما مباينا للأوّل والثاني متقررا فيه]. وكما
حكمت بكون التغاير في العلّتين اعتباريّا محضا ، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك.
فإذن وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل إيّاه ، من غير احتياج إلى صورة
مستأنفة تحلّ ذات الأوّل ، تعالى عن ذلك.
ثمّ لمّا كانت
الجواهر العقليّة تعقل ما ليس بمعلولات لها ، بحصول [٢١١ ظ] صور فيها. وهو تعقل
الأوّل الواجب ، ولا موجود إلّا وهو معلول للأوّل الواجب ؛ كانت جميع صور
الموجودات الكليّة والجزئيّة ، على ما هي عليه الوجود ، حاصلة فيها. و
الأوّل الواجب
يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور ، لا بصور غيرها ، بل بأعيان تلك الجواهر والصور ،
وكذلك الوجود على ما هو عليه. فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة من غير لزوم محال
من المحالات المذكورة ، فهذا أصل إن حققته وبسطته ، انكشف لك كيفيّة إحاطته تعالى
بجميع الأشياء الكليّة والجزئيّة إن شاء الله تعالى ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»
، انتهى. فضمّ ذلك إلى أشباهه ممّا حكى سالفا عن الحكماء المحققين ، واهتد إلى
الحقّ سبيلا [٢١١ ب].
[٢٣] استبصار عقلىّ
ألم يستبن لبصيرتك
: أنّ ما تحقّق لديك ـ من وجود الزمان الممتدّ في نفسه على أنّه متصل واحد موجود
في وعاء الدهر تجتمع أجزاؤه الفرضيّة في الوجود معا بالقياس إلى المبدأ الأوّل
والمراتب العالية عن الزمانيّة ، وإن لم تكن مجتمعة بالنسبة إلى الزمانيّات ، وفي
حدّ واحد من حدوده ؛ وكذلك الحركة المتصلة التي هي محلّه وعدم تعاقب الحوادث
الزمانيّة بحسب وجوداتها العينيّة بالقياس إلى بارئها يستنهض برهان التطبيق
والتضايف وبرهان الحيثيّات وغيرها من التي اقيمت [٢١٢ ظ] لدى المتهوّسين بالقدم
وغيرهم من أئمّة الفلسفة الذين هم الحكماء الأصول على بطلان اللّانهاية في الكم
المتصل ، كالمقدار الموجود في الكم المنفصل كمراتب الأعداد المجتمعة الوجود ، وفي
الموجودات المجتمعة المترتبة وضعا أو الترتّب السّببىّ والمسبّبىّ بالطبع أو
بالعليّة هناك أيضا.
فتنتهض تلك
البراهين لإبطال كون الزمان والحركة لا بداية لهما في جانب الأزل ، وكون الحوادث
المتسلسلة المتعاقبة غير متناهية لا أوّل لها ، فيلزم أن يكون امتداد الزمان
ومحلّه من الحركة في جانب [٢١٢ ب] الأزل متناهيا ، كما أنّ الأبعاد الجسمانيّة أو
المجرّدة المشغولة بها متناهية. وكذلك الحوادث المترتّبة المتعاقبة في أفق الزمان
لا في وعاء الدهر وبالقياس إلى المبادى المفارقة منتهية إلى أوّل لا يتقدّمه حادث
آخر زمانىّ.
فالآن حصحص الحقّ
وبطل تشبّث المتهوّسين بالقدم في مصادمة البرهان بأنّ الموجود الغير القارّ بالذات
وإن كان كمّا متصلا لكنّه لا يوجد بتمامه دفعة ، والأمور
المتعاقبة وإن كان
لها عدد مترتّب الذات بالطبع لكنّها غير موجودة معا.
فهل حكم التطبيق
وتكافؤ المتضائفات [٢١٣ ظ] في العدد وتناهي المحصور بين حيثيّة ما وأيّة حيثيّة
كانت وغير ذلك ، مقتصر على ما يوجد بتمامه في حدّ من حدود الامتداد وعلى الموجود
بجميع آحاده معا بالقياس إلى زمانىّ ما ، أو يشمل ذلك والموجود بتمامه في نفسه وما
يوجد بجميع آحاده معا بحسب الواقع بالقياس إلى من يحيط بالزمان؟ أم هل أظنّك شاكّا
في ضوء الحقّ بعد ما سطح صبح اليقين. فإذن قطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد
لله ربّ العالمين.
[٢٤] وهم وإزاحة
لعلّك تقول :
امتداد الزمان بحسب حضوره عند المبدأ الأوّل لا تكون أجزاؤه مترتّبة ، [٢١٣ ب] إذ
لا ترتّب ولا تعاقب بذلك الاعتبار ، إذ لا تدريج من تلك الجهة ، بل الكلّ بذلك
الاعتبار يتحقق معا دفعة. والترتّب إنّما هو باعتبار كونه تدريجيّا. وإنّما ذلك
بحسب أصل الوجود في نفسه وأخذه مقيسا إلى شيء من الزمانيّات أو الآنات ، وبحسب ذلك
الاعتبار لا يوجد ذلك الامتداد بتمامه. وكذلك الأمر في الحوادث المتعاقبة ، وحيث
لا تدرّج ولا ترتّب ، لا جريان لحكم التطبيق.
فيقال لك : ألم
يتل عليك أنّ المبدأ الأوّل تعالى ، بل المفارقات العقليّة ، يدرك ترتّب أجزاء
الزمان والحوادث الزمانيّة [٢١٤ ظ] وتعاقبها بقياس بعضها إلى بعض ، على ما هي عليه
؛ وإن لم يكن ذلك بالقياس إلى المدرك وإدراكه ، فهو يعلم التدرّج فيها باعتبار ما
يكون ، على أنّ هناك ترتّبا سببيّا ومسبّبيّا بحسب حضور المدركات عند المبدإ تعالى
، وإن يكن لها تعاقب زمانىّ بالنسبة إليه ؛ فإنّ أجزاء الزّمان ، كما يتقدّم بعضها
على بعض تقدّما زمانيّا من حيث التدرّج ، فكذلك يتحقق بينها التقدّم والتأخّر
بالطبع أيضا من حيث إنّ كلّا منها يتوقّف عليه ما بعده. وهي وإن لم يجر بينها
التقدّم والتأخّر الزمانيّان من حيث تعاقب لها [٢١٤ ب] بحسب حضورها عند بارئها ،
لكنّها تتصف بالتقدّم والتأخّر بالطبع بحسب ذلك الحضور ، فإنّ علمه تعالى بكلّ شيء
إنّما يكون من جهة العلم بأسبابه المؤدّبة إليه. وكذلك حال الحوادث المتسلسلة
المتعاقبة.
ثمّ إنّ وجود
امتداد الزمان الذي هو مقدار متصل واحد في نفسه بحسب الواقع
في وعاء الذهن
يستقلّ بجريان حكم التطبيق فيه من دون أن يخرج إلى توهّم أجزاء موهومة فيه بقطع
اتصاله في الوهم. فإذن الممتد الوحدانىّ المتصل الموجود في نفسه من الزمان في
الأعيان متناه في جهة الأزل ، وكذلك المتصل الموجود [٢١٥ ظ] من الحركة ، فإنّ
الحركة المتصلة موجودة في نفسها ، إلّا أنّ ظرف وجودها الزمان ، لا الآن. فإذن قد
ثبت أنّ لهما بداية.
[٢٥] إشراق برهانىّ
أليس إذا كانت
الحركة التوسّطيّة الراسمة لمحلّ الزمان من الحركة الفلكيّة والآن السيّال الراسم
للزمان الذي هو مقدار حالّ فيها أزليّتين لا بداية لوجودهما ، على ما يراه
المتهوّسون بالقدم ؛ استوجب ذلك أن يكون المرتسم من كلّ منهما في المدارك
الخياليّة أو النفوس المنطبقة الفلكيّة ممتدّا متصلا غير متناهي المقدار [٢١٥ ب]
في جانب الأزل تدريجيّا بحسب حدوث الارتسام قارّ الذات بحسب أنّ ما يرتسم في الذهن
تدريجا يبقى بتمامه فيه دفعة واحدة وبجميع أجزائه الفرضيّة معا.
ثمّ أليس مقتضى
البراهين امتناع لا تناهي المقدار المتصل المرتسم على اتصاله بتمامه في المدارك
الوهمية والخياليّة والنفوس المنطبعة والقوى الجسمانيّة ، كما في المقدار الموجود
في الأعيان ، كذلك [أى الموجود بتمامه معا. منه رحمهالله]. وكذلك لا تناهي الصور الإدراكيّة المترتّبة المنطبعة في
الأذهان مجتمعة ، كما في الأعداد المترتّبة الموجودة في الأعيان معا.
وأ ليس الحكماء
جميعا ، [٢١٦ ظ] بل المتهوّسون بالقدم قاطبة لا يفصلون بين الصور الإدراكيّة
المنطبعة في الأوهام وبين المعدودات أو الأعداد الموجودة في الأعيان في حكم امتناع
اللّانهاية مهما تشاركت في استجماع وصفى الترتّب والاجتماع لكن في الانطباع في
الأوهام لتلك وفي الوجود في الأعيان لهذه ، ولا بين الكم المتصل المرتسم على
امتداده في الذهن والكم المنفصل المنطبع فيه في ذلك الحكم إذا كان المرتسم فيه على
قرار الذات بتمامه دفعة واحدة ، والمنطبع على اجتماع الآحاد المترتّبة المنطبعة
معا على التفصيل ؛ ويستيقنون امتناع التسلسل واللّانهاية في الأمور [٢١٦ ب]
الذهنيّة والكم المتصل المتخيّل ناصّين على أنّ جواز التسلسل فى
الاعتباريّات
العقليّة يرجع معناه إلى عدم تحصّله هناك ، لانقطاع ملاحظة العقل.
فإذن ، يشبه أن لا
يسعهم إلّا الاعتراف بحقّ القول : إنّ الآن السيّال والتوسّط الموجودين من الزمان
والحركة في الأعيان ليسا أزليّين ، بل لوجودهما في الماضى بداية ، وكذلك الحوادث
المادّيّة المترتّبة المتعاقبة ، المسبوق كلّ منها بالزمان والحركة الدوريّة.
فلعلّ هذا سبيل النضج للفلسفة اليونانيّة ومسلك الحقّ في الحكمة اليمانيّة ، وما
ذا بعد الحقّ إلّا الضّلال ، [٢١٧ ظ].
[٢٦] شكّ وتحقيق
ربما يستكن هوى
التشكيك في يسرّك ، فتقول : كما يبتّ حكم البرهان امتداد الزمان والحركة ولا
تناهيهما من جانب الأزل ، ويبطل أزليّة وجود التوسّط والآن السيّال ، فكذلك يبتّ
ذلك فيهما من جانب الأبد ، ويبطل أبديّة وجود هذين أيضا من دون فارق ، ضرورة أنّ
الماضى والمستقبل كليهما موجودان على وصف الوحدة الاتصاليّة ومتصفان بالحضور عند
البارى تعالى معا دفعة ، فيلزم أن ينتهى الزمان في جانب الأبد إلى حيث لا يستمرّ
بعده أصلا. وقد وضع من قبل : أن المتهوّسين بالقدم إنّما [٢١٧ ب] زاغوا عن الحقّ
في حكمهم بأزليّة الزمان ، لا في استيجاب أن لا ينقطع في جانب الأبد ولا يقف على
حدّ لا يتعدّاه استمرارا ، بل يشبه أن يكون ذلك هو سبيل الصواب ؛ فإنّ فيض المبدأ
الدائم لا يقصر عن الاتصال وجود الجواد الحقّ لا يتعطّل عن الإفاضة.
وكأنّه قد نطق بذلك
كريم التنزيل أيضا في قوله ، عزّ من قائل ، (قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) («الكهف» ، ١٠٩).
فإنّ كلمات الرّبّ يشبه أن تكون هي معلولاته من الموجودات المتسلسلة إلى الأبد.
فيقال لك : إنّ
الموجود التدريجىّ وجود الماضى منه في جانب الأزل [٢١٨ ظ] يتصوّر اللانهاية فيه
ويبطل بالبرهان ؛ وأمّا المستقبل في جانب الأبد فإنّما يعقل أن يكون غير متناه على
معنى أنّه لا يقف عند حدّ لا يستمرّ الوجود على وصف الاتصال بعده ، لا أن يكون له
لا تناه بالفعل ، وإلّا لم تكن موجوديّة على سبيل
التدريج. نعم ،
كلّ ما يوجد من ذلك المتصل يتمّ وجوده في الماضى على الاتصال ، كما سبق في ما نقل
عن «الشفاء» ، وتستمرّ موجوديّته بعده أيضا على جهة الاتصال. فكلّ ما يخرج من
القوّة إلى الفعل متناه أبدا لا يشكّ في ذلك.
وأمّا ما يمكن له
بحسب القوّة البحتة أن يخرج من القوّة إلى الفعل ، فيظنّ [٢١٨ ب] أن له لا نهاية
وإن كان الخارج منها إليه بالفعل متناهيا. وهو صرف وهم كاذب ، فإنّ ما يوصف
باللانهاية ليس في قوله «أن يخرج إلى الفعل». فما يمكن له بحسب القوّة ذلك محكوم
عليه بالتناهي قطعا ، إلّا أنّ مرتبة تناهيه غير متعيّنة بالوقوف عند حدّ أخير
أصلا ، فإنّما يصحّ أن يسلب عنه التناهى إلى النهاية الأخيرة ، لا تناهي الكميّة
بالمعنى الذي له بحسب الحقيقة. فهناك مغالطة باشتراك الاسم ، وقد بسط الشيخ تحقيق
ذلك في كتبه ، كالشفاء والنجاة.
فإذن المستقبل
الحاضر مع الماضى عند البارى تعالى هو ماله إمكان الفعليّة ، وهو [٢١٩ ظ] متناهي
الكميّة ، لا إلى نهاية أخيرة معيّنة.
فإن رجعت : بأنّ
ما يوجد من الزمان تدريجا حاضر بماضيه ومستقبله عند البارى تعالى دفعة ، فالحاضر
عنده دفعة إمّا متناه عند حدّ معيّن ، وقد فرض خلافه أو غير متناه ، فيجرى فيه حكم
البرهان.
قيل لك : هو غير
متناه عند حدّ معيّن. وذلك ليس بلا تناه بل أعمّ منه. والسرّ فيه، على ما أدّى
إليه الفحص البالغ والبحث الحاسم والنظر السائغ ، هو أنّ المستقبل لمّا كان حادثا
زمانيّا كان وجوده في نفسه متوقّفا على ما يتقدّمه من الزمان.
فالبارى تعالى
يعلمه قبل حدوثه على أنّه مستقبل [٢١٩ ب] بالنسبة إلى بعض الزمانيّات ، لا بالقياس
إليه ، بإحدى مراتب العلم السابقة على وجود المعلوم في نفسه عينا. ثمّ إذا وجد في
نفسه عينا حضر بعين وجوده العينىّ عند بارئه.
فكان ذلك بعينه
صورة علميّة لبارئه ، لا على أن يتجدّد له في علمه شيء لم يكن يعلمه ، أو يحكم
عليه بالحاليّة بالنسبة إليه بل بالنسبة إلى ما يقارنه من الزمانيّات فقط ، ثمّ لا
، يرتفع ذلك الوجود عن الأعيان أصلا ، بل يبقى في وعاء الدهر على وصف المضىّ
بالنّسبة إلى من يتأخّر عنه من الزّمانيّات فقط ، لا بالنسبة إلى من يرتفع
عن الزمان ، فيكون
[٢٢٠ ظ] بقاؤه في الأعيان على سبيل وجود الأمور في الماضى بالنسبة إلى زمانىّ ما ،
لا غير. وهكذا إلى ما لا يقف على حدّ.
فإذن لا ينفذ حكم
البرهان إلّا في الماضى ، من حيث كونه موجودا في نفسه عينا بحسب وعاء الدهر
وبالقياس إلى المبدأ دون المستقبل الذي لا وجود له في نفسه بعد.
ثمّ لو بنى الكلام
سلوكا لمسلك الجدل على تسليم أنّ ما يمكن أن يخرج إلى الفعل في الأبد يوصف
باللّاتناهي ، والخارج بالفعل إلى الفعليّة متناه أبدا. قيل أيضا : إنّ المستقبل
باعتبار حضوره عند المبدأ وإن صحّ وصفه باللّانهاية ، لكن ذلك ليس اعتبار وجوده
[٢٢٠ ب] في نفسه ولا يكون هو بذلك الاعتبار موصوفا بالاستقباليّة ، وأمّا بحسب
وجوده في نفسه فانّه متناه قطعا ، إلّا أنّه مستمرّ على الاتصال على أن لا يقف
تناهيه عند حدّ أصلا ، بل يسيل على الاتصال إلى ما بعده أيضا.
ونظير ذلك من وجه
: هو أنّ انقسامات الجسم المتصل الواحد غير متناهية في القسمة الفرضيّة العقليّة
الكليّة ، وأقسامه الغير المتناهية بالعدد بحسب تلك القسمة داخلة في ملاحظة العقل
بالفعل على أنّها غير متناهية بالعدد. وأمّا انقساماته الفعليّة بحسب القسمة
الوهميّة الجزئيّة فهى متناهية بالعدد [٢٢١ ظ] غير متناهية ، على معنى أنّ مرتبة
تناهيها غير متعيّنة ، لأنّ القسمة لا تقف عنده وإن كان كلّ ما يخرج منها إلى
الفعل متناهية.
والفرق أنّ العقل
لا يلحظ تلك الانقسامات إلّا نحوا إجماليّا ، لقصورها عن الإحاطة بما لا يتناهى
تفصيلا. والبارى وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى ، فله الإحاطة التفصيليّة.
وبما حقّق أمر
المستقبل من الزمان تحقّق أمر الحوادث المترتبة المتعاقبة في الأبد على القوانين
البرهانيّة والجدليّة ، والمطلب رفيع السمك غائر العمق. فولّ وجهك شطر الخوض في
النظر كى تدرك سمكه وغوره.
[٢٧] حكومة
كأنّ سبيل إبطال
ما يهواه المتهوّسون بالقدم هو [٢٢١ ب] ما سلكناه على قواعد حكميّة تحصيليّة.
وأمّا ما يتكلفه المتكلمون ، من إنفاذ حكم البرهان في ما لا يترتّب أولا يوجد دفعة
واحدة من الأمور الغير المتناهية ؛ فيلتئم ، إمّا من ذائعات محمودة ، و
إمّا من مقدّمات
سوفسطائيّة. وليس شيء منها ببرهانىّ ، على ما حققه الشيخ الرئيس في «الشفاء» و «النجاة»
وغيرهما.
وأمّا قولهم : «الحركة
تقتضى المسبوقيّة ، والأزليّة تنافيها» ، ففيه سخافة ظاهرة ، إذا لمسبوقيّة إنّما
هي في الحركات الحادثة وفي أبعاض الحركة الأزليّة التي هي أشخاص لماهيّة نوعها ،
ولا ينافي ذلك وجود حركة قبل حركة لا إلى أوّل [٢٢٢ ظ] على أن يكون كلّ منها حادثة
والنوع أزليّا محفوظا بتعاقبها. وكذلك الشخصيّة المتصلة لا إلى أوّل ، بحيث يمكن
تحليلها إلى أبعاض غير متناهية في جانب الأزل.
وتشبّث مثير فتنة
التشكيك في «المحصل» (ص ٢٠٠) : «بأنّ ماهيّة الحركة بحسب نوعها مركّبة من أمر
يتقضّى ومن أمر يتحصّل ، لأنّها لا بدّ أن تكون منقسمة إلى أجزاء لا يجوز اجتماعها
، والمتحصّل مسبوق بالمتقضّى ، فماهيّتها إذن متعلقة بالمسبوقيّة ، وماهيّة
الأزليّة منافية لذلك المعنى». فاسد ، بما حصّل ناقده (ص ٢٠١) : «إنّ التركّب ، من
أمر تقضّى وأمر حصل ، يرجع إلى أشخاصها ، لا إلى نوعها».
والنوع باق مع
المتقضّية [٢٢٢ ب] والحاصلة ، فإنّ الحركة لا تنقسم إلّا إلى أجزاء كلّ واحد منها
حركة. فكلّ من المتقضّى والمتحصّل جزئيّ من جزئيّات ماهيّة الحركة ، وهي مستحفظة
بكلّ منهما. وكذلك إذا قسم ذلك المتقضّى إلى جزءين ، يتقدّم أحدهما على الآخر ،
وكلّ منهما جزئيّ لماهيّة الحركة الموجودة.
فإذن ، مسبوقيّة
المتحصّل بالمتقضّى لا تستلزم إلّا مسبوقيّة فرد من ماهيّة الحركة بفرد آخر منها ،
لا مسبوقيّة الماهيّة. ثمّ الزمان هو المتقضّى المتجدّد بالذات ، لا الحركة ، على
ما تعرّفت. فالأحرى بذلك النظر ذاك ، لا هذه.
وما سبقت إليه
أوهام [٢٢٣ ظ] : «أنّ كلّ جزئيّ من جزئيّات الحركة لمّا كان حادثا كان مسبوقا بعدم
أزليّ ، فيجتمع عدمات تلك الجزئيّات في الأزل ، فلا توجد ماهيّة الحركة في الأزل ،
إذ لو وجدت كان ذلك بعين وجود جزئيّ من جزئيّاتها ، فكان قد اجتمع وجود ذلك
الجزئىّ وعدمه معا في الأزل» ؛
فلعلّك تجده أسخف
من إخوانه ، فإنّ الأزل ليس وقتا محدودا وزمانا معيّنا تجتمع فيه عدمات الحركات
بأسرها ، حتى لو وجد فيه شيء منها جامع وجوده
عدمه ، بل معنى
كونها أزليّة أنّ تلك العدمات لا بداية لها ولا ترتّب بينها ، بخلاف وجوداتها ،
فإنّ لها بداية وترتّبا ، فليس يفرض شيء من أجزاء الأزل إلّا وينقطع فيه شيء من
تلك العدمات التي لا بداية لها بوجود من تلك الوجودات ، وليس لأجزاء الأزل أوّل في
جانب الماضى.
فإذا وجد في كلّ
منها حركة وانقطع فيه عدمها ، لم يكن هناك محذور. إلّا أنّ الوهم ، لقصوره عن
إدراك الأزل ، يحسب أنّه وقت معيّن يجتمع فيه وجود الحركة وعدمها.
وأمّا أنّ كلّ ما
يقبل الزيادة والنقصان ، ففى طبيعته استيجاب أن يكون له بداية ، فيشبه أن يكون
أوهن من ظنونهم في هذا المقام.
[٢٨] صديع نور عقلىّ
لصدع غيوم وهميّة
السبق الذي لا
يجتمع بحسبه السابق والمسبوق إن كان بحيث يمكن بحسبه تصوّر مرور ممتدّ غير قارّ
الذات بهما فهو سبق زمانىّ ، ومعروضه بالذات أجزاء الزمان. وإنّما يوصف غيرها به
من حيث مقارنته لما هو معروضه حقيقة.
وإن كان بحيث لا
يستوجب تخلّل زمان أو آن بينهما ، ولا يمكن للعقل بمعونة الوهم تصوّر مرور متصل
غير قارّ الذات بهما ، بل إنّما كانت السابقيّة والمسبوقيّة بحسب صرف وجود السابق
وعدم المسبوق من دون أن يتصوّر هناك استمرار [٢٢٤ ب] أو لا استمرار ، لكونهما معا
غير زمانيّين أو لكون السابق وحده غير زمانىّ ؛ كان ذلك قسما آخر من السبق ، ويشبه
أن يكون أحرى ما يسمّى به التقدّم السرمديّ أو الدهريّ.
فالعقل إنّما يحكم
هناك بأنّ ذات السابق متقدّمة بأن كانت متحققة دون المسبوق ثمّ تحقق المسبوق ، لا
على أن يمكن أن يتخلّل بينهما زمان أو آن ، فالوجود أعمّ من أن يكون تحققا صرفا أو
تحققا في زمان أو آن. وكذلك العدم.
فإذن تصدّعت غيوم
أوهام المتهوّسين بالقدم ، حيث يستدلّون على أزليّة الزمان وأبديّته بأنّه لو وجد
بعد عدمه ، [٢٢٥ ظ] أو عدم بعد وجوده ، لزم أن يسبق عدمه وجوده أو وجوده عدمه سبقا
لا يجتمع معه السابق والمسبوق. وذلك سبق زمانىّ ليس معروضه حقيقة إلّا أجزاء
الزمان ، فيكون الزمان موجودا على تقدير عدمه.
ومن ثمّة قال
معلّم الفلسفة المشائيّة أرسطوطاليس : «من قال بحدوث الزمان فقد
قال بقدمه من حيث
لا يشعر».
فقد ظهر أنّ
اللازم على ذلك التقدير إنّما هو وجود الزمان بعد بحت عدمه الصرف ، لا على أن يكون
عدما مستمرّا ، إذ ذلك إنّما يكون من جهة مقارنة الزمان ، أو غير مستمرّ، إذ ذلك
إنّما يكون من [٢٢٥ ب] جهة مقارنة الآن.
وحيث يقولون :
الزمان لا يتقدمه إلّا بارئه فقط بالذات ، إذ لو كان قد سبقه لا بذاته فقط ، بل
بذاته وبالزمان بأن كان وحده ولا زمان ولا حركة. ولا شكّ أنّ لفظة «كان» يدلّ على
أمر مضى وليس الآن ، وخصوصا ويعقبه قولك «ثمّ» ، فقد كان كون قد مضى قبل خلق
الزمان ، وهو متناه حين ابتداء الزمان ، فقد كان إذن زمان قبل الزمان والحركة ؛
لأنّ الماضى إمّا بذاته ، وهو الزمان ، وإمّا بالزمان وهو الحركة وما فيها ومعها.
والشيخ الرئيس بسط
التطويل فيه في طبيعيّات «الشفاء» [٢٢٦ ظ] ، و «النجاة» وإلهياتهما. وقال في «التعليقات»
، الزمان غير محدث ، لأنّه لا يصحّ أن الخالق يتقدم على الزمان بزمان آخر. فإن لم
يكن الحدوث بسبب تقدّم الزمان ، بل بسبب تقدّمه بشيء آخر ، فهو شيء لا نعرفه.
فلعلّك تقول لهم : البارى يتقدم الزمان بذاته ويصرف وجوده في الواقع وعدم الزمان
ووجوده بإيجاد البارى له من غير وصف مضى وامتداد وغير ذلك من أوصاف الزمانيّات.
ومن المستغرب أنّ
الشيخ الرئيس ممّن ينزّه وجود البارى تعالى عن ذلك كلّه ، ولم يجعل تقدّمه على كلّ
جزء [٢٢٦ ب] حادث من أجزاء الزمان تقدّما بالزمان ، مع أنّ ذلك ليس تقدّما بالذات
فقط ، ضرورة أنّ المتقدّم قديم والمتأخّر حادث زمانىّ ، بل يضعه خارجا عن التقدّم
الذي يكون لبعض الزمانيّات بالنسبة إلى بعض آخر. ثمّ إنّه لم يستطع عند تحصيل
تقدّمه تعالى على مجموع الزمان إلى الحقّ سبيلا.
وأمّا ما تمسّك به
الرئيس في طبيعيّات «الشفاء» و «النجاة» وإلهيّاتهما. وفي «التعليقات» أيضا ، من «أنّه
إذا فرض الزمان حادثا والحركة حادثة كان الذي يسبقهما ليس لا شيئا مطلقا» ، فإنّه
لم ينازع أحد من المتكلمين [٢٢٧ ظ] في أنّه لا يمتنع في قدرة الله تعالى إيجاد
حركة أو حركات في ذلك العدم الذي يقولونه تنتهى مع بداية الزمان الحادث والحركة
الحادثة.
فإن فرضنا وجود
عشرين حركة تنتهى مع بدايتهما ووجود عشر حركات تنتهى أيضا مع بدايتهما ، لم يصحّ
أن يقال : إنّ مطابق الحركتين من ذلك العدم واحد ، بل يجب أن يكون مطابق الحركات
العشرين مخالفا لمطابق الحركات العشر ، واللاشيء المطلق ليس فيه اختلاف. وليس
الاختلاف بينهما إلّا اختلافا مقداريّا سيّالا ، وهو الزمان ، فيكون قد سبق الزمان
الحادث [٢٢٧ ب] والحركة الحادثة زمان ، والزمان مقدار الحركة ، فيكون قد سبق
الزمان زمان والحركة حركة ، ولا بدّ من وجود متحرّك مع الحركة ، وقد منعنا أن يكون
المفارق الذي لا علاقة له مع المادّة متحرّكا ، فيجب أن يكون المتحرك جسما أو
جسمانيّا.
وإن منع أن يكون
في قدرة الله تعالى إيجاد حركات قبل بداية الزمان الذي يفرض حادثا والحركة الحادثة
فرضا ، كان تحكّما عجيبا ، وتقدير الحركات بذلك العدم فهو مساو لتقدير الخلأ في
باب أنّه لا شيء مطلقا ، فعساك تراه بيّن السّخافة على طريقتنا العقلانيّة [٢٢٨ ظ]
البرهانيّة من الحكمة اليمانيّة ، فإنّ وجود الحركة مع عدم امتداد زمانىّ من
الممتنعات بالذات ، إذ الانطباق على الزمان مأخوذ في المفهوم من طبيعة الحركة.
وكما أنّ
المسبوقيّة بالعدم مأخوذ في طبيعة الحدوث فقدم الحادث من حيث هو حادث مستحيل
بالذات. والممتنع بالذات ، لا يتعلق به القدرة ، لا لضيق القدرة وقصرها ، بل لنقص
ذلك الممتنع بحيث لا يقبل تعلّق القدرة به ، لأنّه ليس في نفسه شيئا حتى يتعلّق به
قدرة ، فكذلك وجود الحركة بلا زمان محال ، فلا يمكن إيجاد الحركة [٢٢٨ ب] إلّا مع
إيجاد الزمان ، ووراء وجود الزمان ليس إلّا وجود صرف للمبدإ وعدم صرف للزمان. وليس
هناك امتداد موهوم ولا مقابله.
وإنّما ذلك بحت
حكم الوهم الغلوط الذي هو سوفسطائىّ الحكمة وإبليس الفطرة. وهذا كما أنّ وراء
محدّد الجهات ليس ملأ ولا فضاء ، بل عدم صرف. والوهم يغلط فيتوهّم هناك فراغا
محدودا وبعدا موهوما. فكما لا يستوجب حكم إبليس الوهم هناك تقدّرا للعدم ، فكذلك
لا يستوجب تقدّرا وراء أفق الزمان الذي هو محدّد جهات [٢٢٩ ظ] التقضّى والتجدّد
والمضىّ والحاليّة والاستقبال.
نعم هذا القول
المغلط يعضل به الأمر بالمتكلّمين ، حيث يضعون أنّ للمعلولات عدما قبل وجودها
مستمرّا غير متناه ، متخلّلا بينهما وبين البارى تعالى ، يتوهّم بحسبه أزمنة
موهومة غير متناهية يعبّر عنها بالأزل ويمكن وجود حركة في كلّ جزء من أجزاء ذلك
الأزل الموهوم ، فليس لهم عن ذلك محيص.
والشيخ أيضا لم
يورده على أنّه نظر برهانىّ ، بل إنّما أورده على أنّه مسكّت للمتوهّمين مبكّت
للمتكلمين على قانون الجدل. [٢٢٩ ب].
قال في إلهيّات «النجاة»
في عنوان الفصل المعقود لبيان هذه الشكوك (ص ٢٥٧) : «إنّ المخالفين يلزمهم أن
يضعوا وقتا قبل وقت بلا نهاية وزمانا ممتدّا في الماضى بلا نهاية ، وهو بيان جدلىّ
إذا استقصى قاد إلى البرهان».
وما قال في («التعليقات»
، ص ١٣٨) : «الزمان لا يمكن رفعه عن الوهم ، فإنّه لو توهّم مرفوعا ، لأوجب الوهم
وجود زمان يكون فيه الزمان مرفوعا لهذا أثبت المعتزلة هاهنا امتدادا ثابتا بين
الأوّل وبين خلق العالم ، وسمّوه «اللّاوجود».
وهذا مثل ما أثبت
خلأ يكون فيه وجود العالم ، وإنّه إذا توهّم العالم [٢٣٠ ظ] مرفوعا ، وجب وجود
الأبعاد ، فإنّه يتوهّم دائما فضاء غير متناه. ولذلك يتوهّم امتدادا ثابتا.
وكلاهما محال. وفي امتناع ارتفاعهما عن الوهم دليل على أنّ الزمان سرمديّ والعالم
سرمديّ ، وأنّ الأوّل يتقدّم عليهما بذاته لا غير. ولا يمكن أن يتوهّم الوهم
الزمان إلّا شيئا متقضّيا سيّالا لا يثبت على حال وعندهم أنّ هذا الامتداد الثابت
هو وعاء الزمان. وهو محال ، إذ هو نفس الزمان ، فإنّه متقضّ متجدّد سيّال ، فإنّ
ذلك الجزء من الامتداد ، الذي كان فيه مثلا زمان الطوفان ، هو غير الجزء الذي [٢٣٠
ب] فيه هذا الوقت لا محالة» ؛ فإنّما هو من تنصيصاته على أنّ ذلك مذهب استدلالىّ
يصحّ على قوانين الجدل بناء على مسلّمات الأقوام المذعنة للأوهام ، لا على مسالك
البرهان حسب ما تقتضيه الحكمة الحقّة النضيجة.
[٢٩] حكومة
كأنّ طريق التهوّس
بالقدم سبيل بتّه ما حصّلناه. وأمّا ما تشبّث به المتكلمون ، «من إنكار وجود
الزمان رأسا تارة ، وجعل تقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض قسما آخر
غير التقدّم
الزمانىّ سمّوه التقدّم بالذات ، ووضع أنّ تقدّم عدم الزمان بل عدم [٢٣١ ظ] الشيء
مطلقا على وجوده من قبيل ذلك أخرى» ، فأوهام ضعيفة لا تسمن ولا تغنى من جوع.
[٣٠] استقصاء فلسفىّ
نقول ، على سبيل
ما قاله الشيخ في «الشفاء» وغيره : إنّما يكون الشيء في الزمان على الأصول التي
سلفت بأن يكون له معنى المتقدّم والمتأخّر اللذين من جهة التغيّر. وكلّ ما له في
ذاته ذلك المعنى ، فهو إمّا حركة أو ذو حركة. أمّا الحركة فذلك لها من تلقاء
وجودها وأمّا المتحرّك فذلك له من تلقاء الحركة. وقد يقال لأنواع الشيء ولأجزائه
ولنهاياته إنّها في الشيء.
فاذن ، المنتسبات
إلى الزمان [٢٣١ ب] بالفيئيّة ، على معنى أنّ وجودها يكون في الزمان ، هي أمّا
أوّلا ، فأقسامه ، وهي الماضى والمستقبل والساعات والأيّام والشهور والسنون
وأطرافه ، وهي الآنات ؛ وأمّا ثانيا ، فالحركات ؛ وأمّا ثالثا ، فالمتحرّكات. فالمتحركات
فى الحركة ، والحركة فى الزمان ، فالمتحرّكات بوجه ما في الزمان.
وكون الآن فيه
ككون الوحدة في العدد ، وكون الساعات والأيّام والماضى والمستقبل فيه ، ككون أنواع
العدد ، من الاثنين والثلاثة والأربعة ولوازمها من الزوج والفرد فيه ، وكون الحركة
فى الزمان لكون العرض المعروض لعدد في ذلك العدد ، كالعشرة الأعراض [٢٣٢ ظ] في
العشريّة ، وكون المتحرك فيه ككون موضوع العرض المعدود في العدد ، كالموضوع
للأعراض العشرة في العشريّة والذوات الحادثة أيضا في الزمان ، لاختصاصها بأزمنة
مخصوصة ، وكونها في الزمان أيضا ككون معروض نوع العدد في العدد.
وأمّا ما هو خارج
عن هذه الجملة ، كالأمور التي لا تقدّم فيها ولا تأخّر من جهة التغيّر بوجه ،
فإنّه ليس في الزمان أصلا وإن كان مع الزمان. فليس كلّ ما وجد مع الزمان فهو فيه. أفليس
الإنسان موجودا مع الخردلة وليس فيها ؛ وما له تقدّم وتأخّر من جهة [٢٣٢] لا من
جهة ما هو ذات وجوهر ، كالفلك فهو من جهة ما لا يقبل تقدّما وتأخّرا ليس في زمان ،
وهو من الجهة الأخرى في الزمان.
ثمّ معيّة ما هو
خارج عن الزمان بالقياس إلى الزمان ليست معيّة زمانيّة ، بل نحو آخر منها ليست
بالانطباق على الزمان أو على طرفه.
وما يتحقق بينه
وبين الزمان هذه المعيّة الغير الانطباقيّة ، إمّا أن يكون له اقتران طبيعىّ
بالزمان ، كأن يكون فاعلا له كالمبدإ أو حاملا لمحلّه كالفلك الأقصى ، فيكون
معيّتهما معيّة سرمديّة أو دهريّة بالطبع على أنّ بينهما تضايفا بالفعل دون مجرّد
الفرض [٢٣٣ ظ] لا على الاتفاق البحت ، بل من جهة تلك العلاقة الطبيعيّة ومن جهة
حصول الوجود لهما جميعا ؛ وإمّا أن لا يكون له ذلك ، كالنفس المجرّدة لفلك الثوابت
مثلا ، فتكون معيّتهما دهريّة غير طبيعيّة ، بل على الاتفاق البحت من جهة حصول
الوجود لهما فقط.
والمعيّة
الزمانيّة إمّا نفس الفيئيّة ملحوظة على اعتبار آخر ، هو اعتبار المقارنة لما هو
منتسب إلى الزمان بالفيئيّة معه بحسب حصول الوجود ، كمعيّة الحركة والزمان ؛ أو
راجعة إليها ، كمعيّة المتحرك والزمان أو الحركتين أو المتحركين أو الحادثين
المختصّين [٢٣٣ ب] بزمان معيّن.
فهذه المعيّة هي
على سبيل التضايف الطبيعىّ من حيث الحامليّة والمحموليّة ، كالمعيّة بين السواد من
حيث هو محمول والجسم من حيث إنّ الجسم هو حامل ، أو بين السواد والشكل من حيث إنّ
الجسم حامل لهما ، فهى إنّما تكون بالطبع لا على مجرّد الاتفاق البحت من حيث حصول
الوجود لهما لا غير.
ولعلّ سلوك سبيل
الحكمة الفلسفيّة على هذه البضاعة لم يتفق لأحد بعد الرئيس من أصحاب الصناعة ، فقد
اختلف نمط القول فيه في «النجاة» و «الشفاء» ، وبهمنيار لم يطق تحصيل الغرض على
وجهه في «التحصيل» فأتى [٢٣٤ ظ] بما شاء.
[٣١] استصباح
على ما حصّلناه ،
من الحكمة اليمانيّة النضيجة المنضجة بإنضاجات القوّة العقلانيّة ريثما أدّت إليه
القياسات البرهانيّة والإضافات الربّانيّة ، يشبه أن يكون للحدوث ثلاثة معان
محصّلة :
أحدها مسبوقيّة
وجود الشيء بالعدم بالذات ، ويقال له عند الفلاسفة الحدوث
الذاتىّ ، ولا
ينافى وجود الحادث أزلا وأبدا بوجود علّته الموجدة له دائما.
وثانيها مسبوقيّة
وجود الشيء بعدمه مسبوقيّة دهريّة وسرمديّة لا زمانيّة ، بأن يكون الشيء معدوما في
الواقع بأصل العدم الصرف [٢٣٤ ب] الغير المتصف بالاستمرار ومقابله ، ثمّ قد أخرج
من صرف العدم إلى الوجود. ويشبه أن يكون أحقّ ما يصطلح عليه في تسميته هو الحدوث
الدهريّ.
وثالثها مسبوقيّة
وجود الشيء بعدمه مسبوقيّة زمانيّة ، بأن يتقدّم وجوده شطر من الزمان ، وهو
المسمّى عند الجمهور بالحدوث الزمانىّ. ولا شطط أن يصطلح على جعل الحدوث الزمانىّ
للقدر المشترك بين الأخيرين ، إلّا أنّه ليس ممّا تحدو عليه ضرورة عقليّة أو
شرعيّة ، فلا جناح في الاصطلاح الأوّل ، وكأنّ الحقّ لا يتعداه.
وكذلك القدم بإزاء
تلك المعانى يطلق [٢٣٥ ظ] على معان ثلاثة ، القدم الذاتىّ ، وهو بأن لا يكون وجود
الشيء مسبوقا بالعدم مسبوقيّة بالذات. والقدم الدهريّ ، وهو بأن لا يكون وجود
الشيء مسبوقا بعدمه في الواقع أصلا ، سواء سبق عدمه وجوده سبقا بالذات أو لم يسبق
، ويستلزمه في التحقق القدم الذاتىّ دون العكس. والقدم الزمانىّ ، وهو بأن لا يكون
وجود الشيء مسبوقا بشطر من الزمان والحركة ، سواء كان مسبوقا بالعدم في الواقع
أوّلا. وعلى هذا المعنى تتصف به المفارقات ، ويستلزمه في التحقّق القدم الدهريّ
دون العكس.
ولو فسّر [٢٣٥ ب]
القدم الزمانىّ بمقارنة وجود الشيء للزمان بجميع أجزائه من أزله إلى أبده لم يصحّ
اتصاف المفارقات الغير الزمانيّة به حقيقة اللهمّ إلّا على تكلّف ، بل يختصّ صحّة
الاتصاف به حينئذ بالزمانىّ ، كالحركة. ثمّ لو جعل الحدوث الزمانىّ للقدر المشترك
بين المعنيين كان القدم الزمانىّ بإزائه عدم كون وجود الشيء مسبوقا بعدمه في
الواقع أصلا. وظاهر أنّه حينئذ لا يكون مسبوقا بشطر من الزمان والحركة.
ثمّ القديم
الزمانىّ عند المتهوّسين بالقدم يطلق تارة بالقياس وتارة مطلقا. فالقديم بالقياس
هو شيء زمانه [٢٣٦ ظ] في الماضى أكثر من زمان شيء آخر. والقديم مطلقا هو الذي وجد
في زمان ماض غير متناه. والمتكلمون يجعلون القديم ما يكون موجودا في أزمنة موهومة
مقدّرة غير متناهية لا بداية لأوّلها.
[٣٢] حكمة إلهيّة
أتفطنت ممّا قرع
سمعك : أنّ الزمان والحركة التي هي محلّه أخرجا من العدم في الواقع إلى الوجود.
فهما بجميع أجزائهما مسبوقان بالعدم. والبارى تعالى أخرجهما بهويّتهما
الاتصاليّتين من العدم البحت والليس المطلق إلى الأيس والوجود في وعاء الدهر مرّة
واحدة. فكلّ جزء منفصل بحسب الوهم عمّا يسبقه ، يتقدّمه بحسب وجوده [٢٣٦ ب] في
نفسه شطر من الزمان والحركة ، لا بحسب نسبته إلى بارئه ، فلا يتخلّل بين شيء من
تلك الأجزاء وبين بارئها زمان ولا آن أصلا. وسنبرهن من ذى قبل إن شاء الله تعالى
على أنّ مفارقات المادّة من الطبائع الإمكانيّة أيضا كذلك. فإذن الممكنات طرّا
حادثة حدوثا دهريّا.
ثمّ هي على أضرب :
منها حوادث زمانيّة يسبق وجود كلّ منها شطر من الزمان والحركة ، وهي الحوادث
الكونيّة الماديّة ، ومنها زمانيّة تتصف بالمقارنة للزمان والانطباق عليه ، لكنّها
ليست ممّا يتقدّم وجوده شطر من الزمان ، كالحركة التي هي فلا محلّ الزمان معنى
[٢٣٧ ظ] تتصف بالحدوث الزمانىّ ، بل هي قديمة زمانيّة ، على أنّها موجودة في جميع
أجزاء الزّمان ، وإن كانت حادثة دهريّة موجودة بعد عدمها في الواقع ، ومنها
مفارقات غير زمانيّة هي أيضا حوادث دهريّة ، وهي موجودات إبداعيّة ولا تتصف بشيء
من القدم والحدوث الزمانيّين ، إلّا على أحد التّفسيرين للقدم الزمانىّ ، إذ على
التفسير الآخر يشترط في مفهوميهما جميعا كون الشيء زمانيّا. ولو اصطلح على إدراج
الحدوث الدهريّ في المسمّى بالحدوث اصلا ، بل كانت الزمانىّ لم يتصف شيء من
الممكنات بالقدم الزمانىّ بجملة آحادها [٢٣٧ ب] هي حوادث زمانيّة.
لكن ما نطقت به
ألسنة الشرائع المتلقّاة من قبل السّانّين الشارعين المعصومين ، صلوات الله عليهم
أجمعين ، ليس إلّا أنّ العالم بجميع أجزائه حادث ، بمعنى أنّه كان معدوما ، وقد
أخرجه مبدعه من العدم إلى الوجود ، لا أنّ كلّ ممكن يتقدّم وجوده شطر من الزمان
والحركة. كيف وهذا ممّا لا ينبغى أن يسبق إليه وهم أصلا ، فإنّ من الممكنات نفس
الزمان والحركة ، ولا أنّ كلّ ممكن يجب أن يطلق عليه لفظة الحادث الزّمانىّ ،
[٢٣٨] فإنّ الفرض إنّما تعلّق بإثبات ذلك المعنى المحصّل من
الحدوث ، أى
الوجود بعد العدم ، لا بإطلاق لفظ الحادث الزمانىّ أو عدمه. فبعد وضوح المقصود لا
صادّ عن أن يصطلح على ما يراد. كما أنّ القدم قد يطلق اصطلاحا على المعنى الإضافىّ
ويتّصف به بعض الممكنات بالنّسبة إلى بعض. ثمّ عند الفلاسفة ربّما يعدّ نفس الزمان
من المبدعات ، وإنّه ليتلى عليك من ذى قبل ، إن شاء الله ، القول في الإبداع
ومقابلاته.
[٣٣] مصباح عقلىّ
فإذن ، ما أسهل ما
يتأتى لك أن تتعرف أنّ مجموع الزمان ، [٢٣٨ ب] على الحكمة اليمانيّة ، مسبوق
بالأزل الغير الزمانىّ ، لا بأزل زمانىّ ، وكلّ جزء منفصل منه عند الوهم عمّا سبقه
من أجزاء الزمان مسبوق بحسب وجوده في نفسه بأزل زمانىّ هو مجموع الزمان السابق
عليه ، لا الأزمنة الغير المتناهية في الماضى ، على ما يراه المتهوّسون بالقدم.
وأمّا بحسب نسبته
إلى بارئه فلا يسبقه أيضا إلّا الأزل الغير الزمانىّ ، أى الأزل السرمديّ ، فان
مسبوقيّته بذلك الامتداد الزمانىّ إنّما هو لأنّ هويّته الشخصيّة اقتضت أن يختصّ
هو بحسب وجوده في نفسه [٢٣٩ ظ] بذلك الحدّ ، فيسبقه ما وراء ذلك الحدّ من امتداد
الزّمان ، ويقع بينه وبين ما يختصّ بحدّ آخر شطر منه ضرورة. فأمّا من لا يختصّ
بالوقوع في حدّ أو في مجموع الامتداد ، فلا يمكن أن يتخلّل بينه وبينه شطر من
الزمان أو حدّ من حدوده.
فإذن ، سبق البارى
تعالى على شيء من أجزاء الزّمان ليس تقدّما بالزمان ، بل إنّما هو تقدّم سرمديّ ،
كسبقه على مجموع الزّمان المتّصل الشّخصىّ من غير تفاوت يقتضيه ذات السّابق الأوّل
تعالى. ومع ذلك ، فإنّ كلّ جزء من الأجزاء المنفصلة وهما [٢٣٩ ب] عمّا يسبقها لا
يوجد في نفسه إلّا بعد انقضاء ذلك السّابق الممتدّ. فلو كان لم؟ إلّا الأزل
السّرمديّ. وسبيل الحركة وكلّ جزء من أجزائها وجميع الحوادث الزمانيّة بسلسلتها ،
وكلّ واحد من آحادها فى ذلك المعنى هو بعينه سبيل الزمان وكلّ جزء من أجزائه.
وهذا ممّا يحوج
تصوّره إلى تلطيف للقريحة وتنزيه للغريزة وتقويم للفكر وتقديس للسّر. وبالجملة ،
لا يتخلّل بينه تعالى وبين شيء ما من الأشياء ، أصلا ، آن أو
زمان ، لكونه غير
مختصّ بزمان أو بمجموع الأزمنة ، فتقدّمه [٢٤٠ ظ] على أيّ شيء كان إنّما هو التقدّم
السّرمديّ من جهة سبق الوجود والتقدّم بالذات أيضا من جهة العلّيّة ، فإذن لا يكون
شيء بالقياس إليه أشدّ تأخّرا من شيء ، بل الحادث اليومىّ والحادث الأمسىّ بل
الأزل والأبد في مرتبة واحدة من التأخّر عنه. نعم بعض الأشياء بحيث لا يوجد في
نفسه إلّا بعد انقضاء زمان وحركة ، وأمّا المتقدّمات الزمانيّة فبعض المتأخّرات
عنها ربما يكون أشدّ تأخّرا بالنسبة إليها من بعض آخر. فعيسى ، مثلا ، أشدّ تأخّرا
بالنسبة إلى نوح من موسى ، صلوات الله تعالى على نبيّنا وعليهم.
وهذا كما [٢٤٠ ب]
أنّ تقدّم البارى تعالى على المكان ليس تقدّما مكانيّا ، ولا على شيء من أجزاء
المكان. والمكان وأجزاؤه سواسية في نحو التأخّر عنه ، وأنّ شيئا من المكانيّات لا
يكون أقرب إليه أو أبعد عنه من مكانىّ آخر ، كما يكون ذلك في المكانيّات بقياس
بعضها إلى بعض.
[٣٤] تبصير تفريعىّ
فلعلّك إذن تتفطّن
أنّه لمّا كانت أجزاء الزمان حاضرة عند البارى تعالى دفعة ، فلا تتمايز هناك
أوّليّة عن آخريّة. فكلّ زمان فإنّ نسبة أوّله إليه تعالى كنسبة آخره. فكما أنّه
بأوّله [٢٤١ ظ] ينتهى إليه تعالى فكذلك بآخره منته إليه وسبيل الزمانيّات كلّها
بالنسبة إليه ذلك. وأمّا ما ليس بزمانىّ فإنّ أوّله بعينه هو آخره ، وهو ينتهى
إليه تعالى ، فهو أوّل كلّ شيء وآخره فهو الأول والأخر على الإطلاق.
وهذا معنى آخر
لأوّليّته وآخريّته غير ما ارتسم في أكثر الأذهان ، وغير ما حصّله الحكماء
المحصّلون ، من جهة أنّه تعالى فاعل الوجود وغايته على الإطلاق ، وغير ما نحقّقه
عند تحقيق سلسلة البدو والعود إن شاء الله.
ولقد أنلناك بذر
الفحص ، [٢٤١ ب] فأنت منه في روضة التحقيق على طلع مبين ، فلا عليك إذن إلّا
اجتناء ثمرة الحقّ من شجرة اليقين.
[٣٥] خصومة جدلية على
أسلوب برهان
يا زمرة
المتهوّسين بالقدم ، يا أسارى الطبيعة الوهمانيّة؟ ألستم تجعلون البارى
متقدّما على
الحادث الزمانىّ ، الذي يوجد من بعد ، وهو معدوم بالفعل ، فذلك أمر من أوائل
القطعيّات؟
ثمّ ألستم جعلتم
الاتّصاف بالتقدّم الزمانىّ مقصورا على الزمانيّات فقط ، والأوّل تعالى غير داخل
فيها ، فإذن لا يكون تقدّمه على الحادث زمانيّا. وكيف يكون زمانيّا ، واتصاف [٢٤٢
ظ] غير أجزاء الزمان بالتقدّم الزمانىّ إنّما هو بالعرض ، بمعنى المقارنة لأجزاء
الزمان المتصفة به حقيقة. وليس لوجود الواجب زمان يتصف هو من جهته بذلك ؛
وليس تقدّما
بالعليّة ، لامتناع تخلّف المتأخّر بالعليّة عن المتقدم بها في الوجود الخارجىّ
قطعا ، ولا تقدّما بالطبع ، إذ العقل يجد بينهما غير التقدّم بالطبع تقدّما آخر
بحسب عدم الاجتماع في الوجود ؛
وبهذا الوجه بعينه
؛ ليس ذلك تقدّما بالشرف ولا بالمكان أو بالرتبة ، فيكون لا محالة تقدّما آخر
خارجا عن الأقسام الخمسة. لكن لا على نحو ما تخيّله المتكلمون ، بل بحسب السرمديّة
[١٤٢ ب] وعدمها. فلم اشمأزّت قلوبكم إذا قيل : إنّ الواجب تعالى متقدّم على الزمان
، بل على العالم كلّه ، ذلك التّقدّم ، فهل ذلك إلّا معاداة الحكمة ومعصية العقل
وطاعة الوهم ، فأنتم إذن عصاة العقل وخصماؤه وولاة الوهم وأصدقاؤه.
[٣٦] استشهاد
واستغراب
أليس مثبتو الوجود
للزمان من المتهوّسين بالقدم ، وهم أسراء الوهم ، يجعلونه موجودا في نفسه مطلقا ،
لا في زمان أو في آن ، فإنّ ذلك إنّما يلزم استيجابه في الوجود الزمانيات دون
الزمان نفسه. كما أنّ المكان موجود في نفسه ، لا في مكان أو في حدّ من حدوده ، فإن
ذلك [١٤٣ ظ] إنّما يستوجب في المكانيّات لا في المكان نفسه ، وقد سبق ذلك في
المنقول عن «الشفاء» ، وشحن به كتب المتهوّسين بالقدم. ثمّ أليست نسبة العدم إلى
الشيء ، شاكلتها في ذلك شاكلة نسبة الوجود إليه.
فإذن ، أليس لنا
أن نقول : لمّا كان الزمان معدوما كان معدوما في نفسه ، لا في زمان أو في آن ، كما
أنّ المكان حيث يكون معدوما يكون معدوما كذلك ، فاستفتهم : أمعدوميّة المكان وراء
الفلك الأقصى عبارة عن عدمه هناك في مكان أو في حدّ من
حدوده ، أم المكان
معدوم وراء محدّد الجهات في نفسه ، فكذلك الزمان ، [١٤٣ ب] وراء امتداده في جانب
البداية معدوم في نفسه عدما صرفا ، بمعزل عن الامتداد ومقابله.
ثمّ من المستغرب ،
يا أسراء الوهم ، أنّ معلّمكم ورئيسكم ومن هو فى طبقتهما منكم لا يذهلون عن تلك
الحقائق ، ومع ذلك فإنّهم يستنكرون الحقّ وهم لا يستشعرون.
أفليس رئيسكم يقول
في («التعليقات» ، ص ٤٣) : «متى هو الكون في الزمان ، والزمان الواحد يصحّ أن يكون
زمانا لعدّة كثيرة بالتحقيق. فأمّا متى كلّ واحد منها فإنّه يخالف متى الاخر ،
فإنّ كون كلّ واحد منها في ذلك الزمان هو غير كون الآخر. والأين هو كون الشيء في
المكان ، [١٤٤ ظ] ومعناه في وجوده فيه ، وهو وجود نسبىّ ، لا وجود على الإطلاق ،
وهو مختلف فيه ، فإنّ كون زيد في السوق غير كون عمرو فيه ، والكون في الزمان غير
نفس الزمان. وإذا بطل كون الواحد في زمان لم يبطل كون الآخر ، والزمان ليس وجوده
في زمان ، فكذلك ليس بعدم في زمان».
هذا قوله بألفاظه
، ثمّ يقول في «التعليقات» أيضا : «الوهم يثبت لكلّ شيء متى ، ومحال أن يكون في
للزمان نفسه متى ، والدهر وعاء الزمان ، لأنّه محاط به».
وأ ليس تلميذه
بهمنيار يقول في الفصل الآخر من المقالة الثانية [١٤٤ ب] من إلهيّات كتاب «التحصيل»
، (ص ٤٦٢) : «ومعلوم أنّ الزمان ليس وجوده في زمان حتى يكون عدمه في زمان آخر».
وأمثال ذلك في
صحفهم غير محصورة ، فكيف يحصّلون ذلك في أبعاض الزمان وينقبضون عنه في الزمان نفسه
؛ فليت شعرى ما خطبكم ، أيّها المتهوّسون بالقدم ، تكتمون الحقّ وأنتم تشعرون.
[٣٧] تسوية برهانية
فيها حكمة ربانيّة
يا أيّها
المتهوّسون بالقدم ، أنسيتم ما أدركتموه بعلومكم البرهانيّة : أنّه لو وقع أحد في
الفلك الأقصى ، فأراد أن يمدّ يده وراء سطح المحدّد ، لم يمكن أن تذهب يده وتنبسط
[٢٤٥ ظ] ، لا لمانع مقداريّ ، بل لعدم فضاء وجهة وبعد ، لانتهاء الجهات مع الأبعاد
؛ فكذلك عند عدم الزمان لا يمكن أن يقع شيء في ذلك العدم ، بحيث يتوسّط بين البارى
تعالى وبين الزمان ، فيتأخر عنه تعالى ويتقدّم على الزمان تقدّما
سرمديّا ، لأنّ
هناك عدما صرفا ، لا غير. وإنّما كان يمكن ذلك لو كان يتصوّر في ذلك العدم امتداد
يعقل بحسبه واسطة يقع فيها ذلك الشيء وطرفان يقع فيهما البارى والزمان. وذلك بحت
كذب الوهم وصرف توهّم المحبوس في سجن الهيولى ومحض ظنّ المستوطن في كورة الزمان [٢٤٥
ب].
فأمّا من يطير
بجناح العقل في فضاء القدس فلا يصاد بشبكة الطبيعة وبرّة الوهم. نعم قد يتصوّر ذلك
التوسيط بحسب التقدّم والتأخّر بالعليّة وبالطبع ، فيقال : لعلّ المتأخّر بالعليّة
أو بالطبع عن المبدأ الأوّل تعالى ، كالعقل أو النفس أو جرم الفلك الأقصى أو حركته
، يتقدّم بالعليّة أو بالطبع على الزمان. ثمّ يشبه أن يكون أمر الزمان مناسبا لأمر
المكان في أكثر الأحكام ،
فكما يمكن أن يقع
مكانيّان [بينهما] قسط من المكان في زمان واحد ، فكذلك يمكن وقوع زمانيّين بينهما
قسط من الزمان في مكان واحده ، وكما لا يتصوّر [٢٤٦ ظ] فوق محدّد الجهات امتداد
مكانىّ أو لا امتداد كذلك ، إذ ليس وراءه خلأ ولا ملأ ؛ كذلك ليس يتصوّر وراء
مجموع الزمان امتداد زمانى ولا لا امتداد كذلك ، إذ ليس فوقه ممتدّ ولا غير ممتدّ
، فلا يصدق هناك الّا امتداد مطلقا عدوليّا على أنّ له موضوعا هناك ، بل إنّما
يصدق سلبا بسيطا في نفسه ، إذ هناك عدم صرف لا يتصف بالامتداد واللّاامتداد ، فإذن
اللّاامتداد الزمانىّ لا يتصوّر هناك أصلا ، فضلا عن الامتداد.
وكما أنّ المكان
موجود في نفسه بجميع أجزائه وإن لم يجتمع المكانيّات في شيء منها ، فكذلك الزّمان
موجود في نفسه بجميع [٢٤٦ ب] أجزائه وإن لم يكن ذلك بالقياس إلى الزّمانيّات. فهذا
ضرب من النّظر فيه نمط من التحصيل.
[٣٨] اقتصاص وحكومة
ما جبّ عرق
إعضالها من شبه المتهوّسين بالعدم يقرب مسلكها من رابعة شبهات أبرقلس ، وهي تسع ،
وما لفّقها الشيخ الرئيس وتلونا عليك إبطالها أيضا مستنبطة منها ومن التاسعة.
وعبارة أبرقلس في
تقرير الرابعة على هذا السبيل : «إن كان الزمان لا يكون موجودا إلّا مع الفلك ،
ولا الفلك إلّا مع الزمان ، لأنّ الزمان هو العادّ لحركات
[٢٤٧ ظ] الفلك.
ثمّ لا جائز أن يقال : متى وقبل إلّا حين يكون الزمان ، ومتى وقبل أبديّ ، فالزمان
أبدىّ ، فحركات الفلك أبديّة ، فالفلك أبديّ».
والتاسعة هي قوله
: «لن يتوهّم حدوث العالم إلّا بعد أن يتوهّم أنّه لم يكن ، فأبدعه تعالى ، وفي
تلك الحالة التي لم تكن ، لا يخلو من حالات ثلاث : إمّا أنّ البارى تعالى لم يكن
قادرا فصار قادرا ، وذلك محال ، لأنّه قادر لم يزل ؛ وإمّا أنّه لم يرد ، وذلك
محال أيضا ، لأنّه مريد لم يزل ؛ وإمّا أنّه لم تقتض الحكمة ، وذلك محال ، لأنّ
الوجود أشرف ، [٢٤٧ ب] من العدم على الإطلاق».
ولعلّ درء سائر
تلك الشّبهات وحسم جميع ما أعضل الشيء فيه بالمتهوّسين بالقدم يستبين لديك سبيله
على مسلك التحصيل ، حيث يحين حينه من ذى قبل ، إن شاء الله. وأبرقلس من أفاضل
تلامذة إمام الحكمة ، أفلاطون الإلهيّ.
وعلى ما وصل إلينا
، من برعة المترجمة لأقوال الفلاسفة ومهرة المورّخة لأحوالهم ، القول في قدم
العالم وأزليّته ، بعد إثبات الصانع والقول بالعلّة الأولى ، إنّما ظهر بعد معلّم
الفلسفة المشّائيّة أرسطاطاليس ، لأنّه خالف القدماء [٢٤٨ ظ] صريحا وأبدع المقالات
على قياسات ظنّها حجّة وبرهانا ؛ فنسج على منواله من كان من تلامذته ، وصرّحوا
القول فيه ، مثل الإسكندر الإفروديسىّ وثامسطيوس وفرفوريوس شرّاح كلام أرسطاطاليس
، ومثل الشيخ اليونانىّ وديوجانس والإسكندر الرّومى ، وصنّف أبرقلس المنتسب إلى أفلاطون
في هذه المسألة كتابا ، وأورد فيه تلك الشّبه ، وإلّا فالقدماء ما أبدوا في العالم
إلّا القول بالحدوث ، والمتعصّبون لأبرقلس يمهّدون له الأعذار فى إيراد تلك
الشبهات [٢٤٨ ب].
ثمّ فلاسفة
الإسلام ، من معلّميهم ورؤسائهم ، صيّروا أنفسهم كالمقلّدين للمعلّم أرسطاطاليس ،
لا يخالفون طوره ولا ينحرفون عن سبيله ، فهذا ما قد استبان لى من تتبّع كتبهم
وكلامهم. وعليه استقرّ أيضا رأى الشّهرزوريّ صاحب «الشجرة الإلهيّة» ،
والشهرستانىّ صاحب «الملل والنحل».
وأمّا الشّيخ
المعلّم أبو نصر الفارابىّ ، فقد قال في مقالته في («الجمع بين الرأيين» ، ص ١٠٠ ـ
١٠٤) بهذه العبارة :
«إنّ ممّا يظنّ
بأرسطوطاليس أنّه يرى أنّ العالم قديم ، وبأفلاطون على خلاف رأيه وأنّه كان يرى
أنّ العالم محدث. فأقول [٢٤٩ ظ] : إنّ الذي دعى هؤلاء إلى هذا الظنّ القبيح
المستنكر بأرسطاطاليس الحكيم ، هو ما قاله في كتاب «طوبيقا» إنّه قد توجد قضيّة
واحدة بعينها ، يمكن أن يؤتى على كلا طرفيها بقياس من مقدّمات ذائعة ، مثال ذلك :
«هل العالم قديم أم ليس بقديم».
وقد ذهب على هؤلاء
المختلقين ، أمّا أوّلا ، فإنّ الذي يؤتى به على سبيل المثال لا يجرى مجرى
الاعتقاد ؛ وأيضا ، فإنّ غرض أرسطوطاليس في كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان أمر العالم
، لكنّ غرضه بيان أمر القياسات المتركّبة من المقدّمات الذائعة ، وكان قد [٢٤٩ ب]
وجد أهل زمانه يتناظرون في أمر العالم : «هل قديم أم محدث» ، كما كانوا يتناظرون
في اللّذة : «هل خير أم شر» ، وكانوا يأتون على كلا الطرفين من كلّ مسألة منهما
بقياسات ذائعة. وقد بيّن أرسطاطاليس في ذلك وفي غيره من كتبه : أنّ المقدّمة
المشهورة لا يراعى فيها الصدق والكذب ، لأنّ المشهور ربّما كان كاذبا ، ولا يطرح
لكذبه. وربّما كان صادقا ، فيستعمل ، لشهرته في الجدل ، ولصدقه في البرهان. فظاهر
أنّه لا يمكن أن ينسب إليه الاعتقاد بأنّ «العالم قديم» ، بهذا المثال الذي أتى به
في هذا الكتاب.»
«وممّا [٢٥٠ ظ]
دعاهم إلى ذلك الظنّ أيضا ما يذكره في كتاب «السماء والعالم» : أنّ «الكلّ ليس له
بدء زمانيّ» ، فيظنّون عند ذلك : أنّه يقول بقدم العالم. وليس الشيء كذلك ، إذ قد
تقدّم فبيّن في ذلك الكتاب وفي غيره من الكتب الطبيعيّة والإلهيّة : أنّ الزمان
إنّما هو عدد حركة الفلك ، وعنه يحدث ، وما يحدث عن الشيء لا يشمل ذلك الشيء.
ومعنى قوله : «إنّ العالم ليس له بدء زمانىّ» ، أنّه لم يتكوّن أوّلا فأولا ،
بأجزائه ، كما يتكوّن البيت مثلا ، أو الحيوان الذي يتكوّن أوّلا بأجزائه ، فإنّ
أجزاءه يتقدّم بعضها [٢٥٠ ب] بعضا بالزّمان والزّمان حادث عن حركة الفلك. فمحال أن
يكون لحدوثه بدء زمانىّ. ويصحّ بذلك أنّه إنّما يكون عن إبداع البارى ، جلّ جلاله
، إيّاه دفعة بلا زمان ، وعن حركته حدث الزمان.»
«ومن نظر في
أقاويله في كتابه المعروف ب «أثولوجيا» لم يشتبه عليه أمره في
إثباته الصّانع
المبدع لهذا العالم ، فإنّ الأمر في تلك الأقاويل أظهر من أن يخفى. وهناك تبيّن
أنّ الهيولى أبدعها البارى ، جلّ ثناءه ، لا عن شيء ؛ وأنّها تجسّمت عن البارى ،
سبحانه ، وعن إرادته ؛ ثمّ ترتّبت. وقد بيّن أيضا [٢٥١ ظ] في «السماع الطبيعى» :
أنّ الكلّ لا يمكن أن يكون حدوثه بالبخت والاتفاق ؛ وكذلك في العالم جملة. يقول في
كتاب «السماء والعالم» : «ويستدلّ على ذلك بالنظام البديع الذي يوجد لأجزاء العالم
بعضها مع بعض». وقد بيّن هناك أمر العلل ، كم هي ، وأثبت العلّة الفاعلة ؛ وقد
بيّن هناك أيضا أمر المكوّن والمحرّك ، وأنّه غير المكوّن والمتحرّك.»
وكما أنّ أفلاطون
في كتابه المعروف ب «طيماوس» بيّن أنّ كلّ مكوّن فإنّما يكون عن علّة مكوّنة له
اضطرارا ، وأنّ المكوّن لا يكون علّة لكون ذاته ؛ كذلك أرسطاطاليس بيّن في كتاب «أثولوجيا»
: «أنّ الواحد موجود [٢٥١ ب] في كلّ كثرة» ، ثمّ بيّن أنّ الواحد الحقّ هو الذي
أفاد سائر الموجودات الواحديّة. ثمّ بيّن : أنّ الكثير بعد الواحد لا محالة ، وأنّ
الواحد تقدّم الكثير. ثمّ بيّن أنّ كلّ كثرة تقرب من الواحد الحقّ ، كان أقلّ كثرة
ممّا يبعد عنه ؛ وكذلك بالعكس. ثمّ ترقّى بعد تقديمه هذه المقدّمات إلى القول في
أجزاء العالم الجسمانيّة والروحانيّة ؛ وبيّن بيانا شافيا أنها كلّها حدثت عن
إبداع البارى لها ، وأنّه ، عزوجل ، هو العلّة الفاعلة ، الواحد الحقّ ومبدع كلّ شيء ، على
حسب ما بيّنه أفلاطن في كتبه في الرّبوبيّة ، مثل «طيماوس» و «بوطيقا» وغير ذلك [٢٥٢
ظ] من سائر أقاويله.»
«وأيضا ، فإنّ «حروف
أرسطاطاليس في ما بعد الطبيعة» إنّما يترقى فيها من المقدّمات الضروريّة
البرهانيّة إلى أن يبيّن وحدانيّة البارى ، جلّ وعزّ ، في «حرف اللّام» ، ثمّ
ينحدر راجعا في بيان صحّة ما قدّمه من تلك المقدّمات إلى أن يستوفيها. وذلك ممّا
لا يعلم أنّه يسبقه إليه من قبله ، ولم يلحقه من بعده إلى يومنا هذا. فهل يظنّ بمن
هذا سبيله أنّه يعتقد نفى الصّانع وقدم العالم؟»
«ولأمونيوس رسالة
مفردة في ذكر أقاويل هذين الحكيمين في إثبات الصّانع ، استغنينا ، لشهرتها ، [٢٥٢
ب] عن إحضارنا إيّاها في هذا الموضع.»
«ولو لا أنّ هذا
الطريق الذي نسلكه في هذه المقالة هو الطريق الأوسط ، فمتى ما
نكبّناه كنّا كمن
ينهى عن خلق ويأتى بمثله ، لأفرطنا في القول وبيّنا أنّه ليس لأحد من أهل المذاهب
والنحل والشرائع وسائر الطرائق ، من العلم بحدوث العالم واثبات الصّانع وتلخيص أمر
الإبداع ، ما لأرسطاطاليس ، وقبله لأفلاطون ، ولمن يسلك سبيلهما» «ولو لا ما أنقذ
الله أهل العقول والأذهان بهذين الحكيمين ومن سلك سبيلهما ممّن أوضحوا أمر الإبداع
بحجج واضحة [٢٥٣ ظ] مقنعة ، ـ وإنّه إيجاد الشيء لا من شيء ، وأنّ كلّ ما يتكوّن
عن شيء ما ، فإنّه يفسد لا محالة ، إلى ذلك الشيء ، والعالم مبدع من غير شيء ،
فمآله إلى غير شيء ، في ما شاكل ذلك من الدلائل والحجج والبراهين التي توجد كتبهما
مملوّة منها ، وخصوصا ما لهما في الربوبيّة وفي مبادى الطبيعة ؛ ـ لكان النّاس في
حيرة ، فطرق البراهين الحقيقيّة مستفادة من عند الفلاسفة الذين تقدّمهم هذان
الحكيمان ، أعنى أفلاطون وأرسطوطاليس.»
«وأمّا طرق
البراهين المقنعة المستقيمة العجيبة النفع فمستفادة [٢٥٣ ب] من عند أصحاب الشرائع
الذين عوضدوا بأنواع الوحى والالهامات. ومن كان هذا سبيله ومحلّه من إيضاح الحجج
وإقامة البراهين على وحدانيّة الصانع الحقّ ، وكان لأقاويله في كيفيّة الإبداع
وتلخيص معناه ما لأقاويل هذين الحكيمين ، فمن المستنكر أن يظنّ بهما فساد يعترى ما
يعتقدانه ، وأنّ رأييهما مدخولان في ما يسلكانه» ، انتهى قول المعلّم الثاني
للحكمة بألفاظه [بتفاوت وتلخيص في العبارات].
والذي أنا أراه ،
هو أنّ كلام هذا الحكيم المبرّز يشبه أن يكون ممّا يحوج صرفىّ القوّة الفطريّة [٢٥٤
ظ] إلى نقده ، فالذى ذكر ـ من اتّفاق الحكيمين على أنّ العالم ليس له بدء زمانىّ ،
يعنى : لم يتقدّمه زمان ـ فذلك حقّ لا يسع ذا قسط صالح من الحكمة أنّ يستنكره
ويتعدّاه. ثمّ يتصوّر بعد ، هناك ، افتراق من جهة القول : بأنّ ما ليس له بدء
زمانىّ من العالم ، له بدء غير زمانىّ من تلقاء المسبوقيّة بالعدم في الأعيان ،
على سياق معنى حصّلته من الحدوث الدّهريّ ، لا من تلقاء المسبوقيّة بذات الفاعل
فقط ، والتأخّر عن العدم بالذات لا غير ، على ما هو شأن الحدوث الذاتىّ أو عدم
القول [٢٥٤ ب] بذلك القول ، بل الاقتصار على المسبوقيّة بالعدم من تلقاء الحدوث
الذاتىّ فقط.
فإن أراد : «أنّ
المعلّم أرسطاطاليس لا يقتصر في حدوث العالم على الأخير ، بل
يذهب إلى الحدوث
الدهريّ أيضا ويقنع بالقدم الزمانىّ على معنى أنّه لم يتقدّم الكلّ شطر من الزمان»
؛ فكلام أرسطاطاليس في كتبه ناصّ على أنّه لم يشعر بذلك أصلا. ألم يقل في كتاب «أثولوجيا»
من الحرف اللّام ، عند إثبات كون الحركات سرمديّة : «أنّ صدور الفعل عن الحقّ
الأوّل إنّما يتأخّر لا بزمان بل بحسب الذات ، والفعل ليس مسبوقا بالعدم ، بل هو
مسبوق [٢٥٥ ظ] بذات الفاعل فقط». ثمّ تلامذته وشيعته أطبقوا على ذلك. وكلّ ما
استدلّوا به على قدم العالم ناسج على منوال عدم الشعور بذلك المعنى من الحدوث.
ولعلّ هذا الحكيم المبرّز أيضا لم يتفطّن لذلك ولم يقصده بقوله هذا.
وإن أراد «أنّ
إمام الحكمة أفلاطون ، أيضا لم يدّع إلّا الحدوث الذاتىّ. وإنّما لم يطلق لفظ
القدم هناك ، نظرا إلى أنّ كون العالم ليس له بدء زمانىّ ممّا لا يستوجب إطلاق
القديم عليه ، مع كونه مسبوقا بالعدم بالذات وبذات الفاعل أيضا ، وكأنّ هذا [٢٥٥ ب]
هو الذي عناه». فإنّه ومن في طبقته في التحصيل قلما يستصحّون إطلاق القديم بلا
تقييد على المحدث المسبوق بالعدم بالذات.
وكذلك ترى الشيخ
الرئيس يقول في «أجوبة المسائل العشر» ، (ص ٨٠) : «كلّ ما تعلّق وجوده فهو مسبوق
في ذاته ، وكلّ مسبوق في ذاته فهو غير قديم. اللهمّ إلّا أن يعنى بالقديم ما لم
يسبق بزمان. إمّا على الإطلاق وإمّا بالقياس».
ويقول في «الشفاء»
و «النجاة» ص ... : «كلّ معلول محدث وليس حدثه إنّما هو في آن في الزمان فقط ، بل
هو محدث في جميع الزمان والدهر».
فأقول : إنّ
أفلاطون الإلهيّ قد صرّح في كتابه الذي يسمّى «فإذن» وفي كتابه الذي يدعى («طيماوس»
، ٢٥٦ ظ) وبالجملة في أكثر ما وصل إلى من كتبه وكلامه ، أو بلغنى من قبل ناقلى
أقواله : بأنّ العالم اوجد بعد ما لم يكن في الأعيان ، بل كان الموجود موجده فقط ،
حيث قال بهذا العبارة :
[ص ...] «إنّ
للعالم مبدعا محدثا أزليّا واجبا بذاته ، عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب
الكلّية ، كان في الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل».
وأحال وجود حوادث
لا أوّل لها. لكنّه بيّن امتناع ذلك بما يحوج إلى تدقيق للنظر يخرجه عن الحمل على
سياق ما يتكلّفه المتكلّمون ، من شمول حكم كلّ
واحد واحد لمجموع
الآحاد ، وسوف نحقّقه من ذى قبل [٢٥٦ ب] إن شاء الله تعالى. وأثبت جوهرا سمّاه
العنصر الأوّل ، وأطلق لفظ الإبداع عليه ، وقد أخرجه عن الأزليّة بذاته ، بل جعل
وجوده بوجود واجب الوجود ، كسائر المبادى التي ليست زمانيّة ، ولا وجودها ولا
حدوثها حدوث زمانىّ.
قال : «فالبسائط
حدوثها حدوث إبداعىّ غير زمانىّ ، والمركّبات حدوثها بوسائط وسائط حدوث زمانىّ».
وقال : «الشيء
الذي لا حدوث له هو وجود البارى تعالى. والشيء الحادث الذي ليس بباق هو وجود
الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حاله واحدة. والشيء الحادث [٢٥٧ ظ] الموجود
بالفعل. وهو أبدا بحال واحد هو وجود البسائط والمبادى التي لا تتغيّر من الجواهر
العقليّة التي هي فوق الزمان».
وقال : «إنّه لم
يسبق العالم زمان ، ولكنّه حادث أبدع ، ولم يكن فى الوجود شيء ، ولم يبدع عن شيء»
، فإذن لا يكاد يصحّ اتفاق الحكيمين في أمر الحدوث.
ويشبه أن يكون هذا
الحكيم المبرّز قد أخذ هذا الحكم من فرفوريوس الشارح لكلام أرسطاطاليس ، حيث قال :
«إنّ الذي يحكى عن أفلاطون عندكم ، من أنّه يضع للعالم ابتداء زمانيّا ، [٢٥٧ ظ] ،
فدعوى كاذبة. وذلك أنّ أفلاطون ليس يرى : أنّ للعالم ابتداء زمانيّا ، [٢٥٧ ب] لكن
ابتداء من جهة العلّة ، ويزعم : أنّ علّة كونه ابتداؤه. وقد رأى أنّ المتوهّم (عليه
خ) في قوله : «إنّ العالم مخلوق وإنّه أحدث لا من شيء إنّه خرج من لا نظام إلى
نظام» غلط. وذلك لأنّه لا يصحّ دائما أنّ كلّ عدم أقدم من الوجود في ما علّة وجوده
شيء آخر غيره ، ولا كلّ سوء نظام أقدم من النظام. وإنّما يعنى أفلاطون : إنّ
الخالق أظهر العالم من العدم إلى الوجود ، إنّ وجدانه لم يكن من ذاته ، لكن سبب
وجوده من الخالق.
وكأنّ فرفوريوس
إنّما لم يهتد إلى ما رامه أفلاطون ، إمّا ذهولا [٢٥٨ ظ] عن المعنى المحصّل في
المسبوقيّة بالعدم ، وإمّا تشوّقا وتهوّسا بإثبات القدم ، على أنّه أقلّ تحصيلا من
سائر تلامذة أرسطاطاليس ، وليس بعيد الغور طويل الأمد في التحقيق ، كأترابه. أفترى
الشيخ الرئيس ما يصنع به في «الشفاء» و «الاشارات» ، وقلّما
يتّكل عليه في شرح
كلام أرسطاطاليس ، بل أكثر تعويله على سامسطيوس.
وأمّا ما قاله
صاحب الأنوار والإشراقات في «حكمة الإشراق» ، (ص ١٩) : «إنّ الاختلاف بين متقدّمى
الحكماء ومتأخّريهم إنّما هو في الألفاظ واختلاف عاداتهم في التصريح والتعريض.
والكلّ قائلون [٢٥٨ ب] بالعوالم الثلاثة ، متفقون على التوحيد ، لا نزاع بينهم في
اصول المسائل». ففسّر الشارح [وهو قطب فلك التحقيق منه رحمهالله] ذلك بقوله : «أي في المسائل المهمّة التي هي الأمّهات ،
كقدم العالم وصحّة المعاد وثبوت السعادة والشقاوة ، وأنّه تعالى عالم بجميع
الأشياء ، وأنّ صفاته عين ذاته ، وأنّه يفعل بالذات ؛ وأمثال ذلك من الأصول
الحكميّة وأمّهاتها. وأمّا الفروع ، فقد يقع الخلاف فيها ، لاختلاف مآخذها».
فالمراد بقدم
العالم فيه إنّما هو نفى البدء الزمانىّ عنه ، يعنى أنّه لم يتقدّمه شطر من الزمان
أصلا. ولا شكّ أنّه [٢٥٩ ظ] متفق عليه بين الفلاسفة. لا يستنكره من له قسط من
تحصيل الحكمة ، بل بضاعة من غريزة العقل. وأمّا إثبات البداية له ، على المعنى
المحصّل الذي سمّيناه الحدوث الدهريّ ، فدقيق غامض ، لم يتعرّفه الجمهور لدقّته
وغموضته. إنّ معلّم الفلسفة المشائيّة ومن تأخّر عنه إلى يومنا هذا لفى غفلة عنه ،
لمحوضة عقليّته وشدّة ارتفاعه عن الوهم. وأيم الله ، إنّه لمن أمّهات المسائل
وعويصاتها. ولكن يعسر إليه بلوغ الطبيعة الوهميّة بنقيصاتها. فصقالة الجوهر القابل
لفيض [٢٥٩ ب] العقل إنّما إكسيرها رفض البدن الغليظ السابل لفطرة النفس ، و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
، («الحديد» ٢١)».
[٣٩] ذيل
ما أصحّ قول الشيخ
الرئيس في «التعليقات» ، (ص ٨٥) : «المحدث ، إن عنى به كلّ ما له أيس بعد ليس
مطلقا ، أى بعد أن كان معدوم الذات لا معدوما في حال من أحواله. وإن لم يكن في
الزمان ، كان كلّ معلول محدثا ، وإن عنى به كلّ ما وجد في زمان ووقت قبله [فبطل]
لمجيئه بعده ، أو تكون بعديّته بعديّة لا تكون مع القبليّة موجودة ، بل ممايزة له
في الوجود ، لأنّها زمانيّة».
فلا يكون كلّ
معلول محدثا [٢٦٠ ظ] ، بل المعلول الذي سبق وجوده زمان ، و
سبق وجوده لا
محالة حركة وتغيّر ؛ لو كان يشعر أنّ هناك قسما آخر يتوسّط القسمين ، هو أن يعنى
بالمحدث كلّ ما سبق وجوده عدم واقعىّ في الأعيان ، فتكون أيسيّته بعد ليسيّة مطلقة
سرمديّة ، لا بحسب الذات فقط في اعتبار العقل ، بل واقعة في الاعيان خارج الأذهان
، على أن تكون البعديّة ممايزة للقبليّة ، لا ممايزة زمانيّة ، بل سرمديّة ، فيكون
كلّ معلول محدثا على هذا النحو أيضا ، كما أنّه محدث بحسب الذات ، والحوادث
الزمانيّة محدثة على الأنحاء الثلاثة جميعا.
ثمّ لو تفطّن [٢٦٠
ب] لذلك لم يردف قوله ب «بأنّ العالم ليس وجد بعد أن لم يكن موجودا بعديّة حدثت مع
بطلان معنى هو القبليّة» ، فيكون قد وجد وجودا زمانيّا متقدّرا يكون فيه القبل
متقدما على البعد ويكون القبل باطلا لمجيء البعد.
فكأنّه قد استبان
لديك : أنّ بعض ما يوجد بعد أن لم يكن ، ليس يوجد وجودا زمانيّا متقدّرا ، كالزمان
نفسه ، وهو مسبوق بجميع أجزائه بالعدم ، لا بأن ينتهى إليه طرفه فقط.
[٤٠] ختام
ذكر المشّاءون :
أنّ الموجودات ، منها ما هي متحققة الوجود محصّلته ، ومنها ما هي أضعف في الوجود
والزمان من الأمور الضعيفة [٢٦١ ظ] الوجود ، كالحركة والهيولى. وقيل في «الشفاء» :
«الزمان يشبه أن يكون أضعف وجودا من الحركة».
وكأنّ المعلّم
الأوّل أخذ هذا المعنى من قول أستاده إمام الحكمة أفلاطون الإلهيّ في أسئلته عن
تلميذه طيماوس : «ما الشيء الكائن ولا وجود له ، وما الشيء الموجود ولا كون له».
يعنى بالأوّل الحركة المكانيّة والزمان ، لأنّه لم يؤهّله لاسم الموجود ؛ ويعنى
بالثانى: الجواهر العقليّة التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة ، وحقّ لها اسم
الموجود ، إذ لها السرمد والبقاء والدهر.
ثمّ من الأمور
المتعلّقة بالزمان : أنّ الزمان محسوس لنا من وجه [٢٦١ ب] ومعقول من وجه ، فإنّ
كلّ إحساس يتبعه تعقّل ـ و «من فقد حسّا فقد علما» ، ـ ومعقول للبارى تعالى من كلّ
وجه. فلذلك لا يكون المدرك الزمانىّ لنا إلّا بالحسّ والتخيّل ، ويكون للبارى
تعالى على المعقوليّة الصرفة. وعقل البارى له أتمّ وأرفع من إدراكاتنا العقليّة
بما لا يحصى وأشدّ وأقوى منها بما لا يتناهى.
ومن المباحث
المتعلّقة بالزمان : أنّ الزمان ليس بعلّة لشيء من الأشياء ، بل إنّما تتوقف
الحوادث على حصص من الحركة التي هي محلّه. فلذلك تختصّ وجوداتها بالأزمنة المعيّنة
على مجرّد أن تكون هي ظروفا وأوقاتا [٢٦٢ ظ] لها ، لا على أن تكون هناك عليّة
وتسبّب. لكنّه إذا كان الشيء مع استمرار الزمان يوجد أو يعدم ، ولم تر له علّة
ظاهرة ، نسب الناس ذلك إلى الزمان ،
إذ لم يجدوا هناك
مقارنا غير الزمان أو لم يشعروا به. فإن كان الأمر محمودا مدحوا الزمان ، وإن كان
مذموما ذمّوه. لكنّ الأمور الوجوديّة في أكثر الأمر ظاهرة العلل ، والعدم والفساد
خفىّ العلّة ، فإنّ سبب البناء معقول ، وسبب الانتقاض والاندراس مجهول في الأكثر.
وكذلك إن شئت
استقريت جزئيّات كثيرة ، فيعرض أن يكون أكثر ما ينسب إلى الزمان [٢٦٢ ب] هو من
الأمور العدميّة والفساد ، كالنسيان والهرم والانتقاص ووهن المادّة وغير ذلك.
فكذلك صار الناس يولعون بذمّ الزمان وهجوه. ولكلّ من تلك الأعدام والفسادات علل
وأسباب في عالم الطبيعة. هذا على ظاهر الفلسفة.
وأمّا على ما أدّى
إليه الفحص التحقيقىّ ، كما أشرنا إليه ، فشيء من العدميّات لا يستند إلّا إلى
علّة عدم علّة الوجود أو عدم علّة استمراره. وكلّ عدم وإن كان طارئا في ظاهر الأمر
فهو أزليّ في نفسه ، لأنّه عبارة عن عدم تحقّق الوجود في زمان ذلك العدم ، والوجود
غير متحقق في زمان ذلك العدم من الأزل ، إذ الوجود [٢٦٣ ظ] إنّما يتحقق في زمان
الوجود ولا يرتفع تحقّقه في ذلك الزمان أصلا ، بل قد لا يستمرّ ، فلا يتحقق الوجود
في زمان آخر ، فيبقى الشيء على عدمه الأزلىّ في ذلك الزمان ، لعدم تحقّق ما يستوجب
فيضان الوجود فيه عن العلّة ، فينقطع استمرار الوجود بعدم فيضانه ، فيظنّ أنّه قد
انقطع الوجود بأن ارتفع وحدث عدم ، وليس كذلك ؛ فكلّ عدم وفساد في اندراس ووهن في
المادّة ، فإنّما يكون على ذلك السبيل.
وذلك كلّه على
مسلك الحكمة وما يذهب إليه الحكماء. ورهط من المتكلّمين يجعلون الأعدام والفسادات
وتخصيصات الوجودات بتأثيرات العلّة [٢٦٣ ب] من قبل خصوصيّات الأوقات.
وأمّا أنا فلا
أقلّد في ما أعتقده إلا الحقّ ولا أتّبع إلّا البرهان. فللحقّ أهل يجدون العقل
عليه دليلا ، وللباطل أهل لا يستطيعون إلى الحقّ سبيلا. ولو لا أنّ ثبّتنى ربّى
لقد كدت أركن إليهم شيئا قليلا.
وإذ قد بلغ فحص
الحقّ بنا إلى هذا النصاب ، فلنختم عليه التّرعة الأولى ، من المساق الأوّل ،
ونأخذ في ابتداء القول من التّرعة الثانية. وعالم العقل لنا بفضل الله ورحمته
كالمشرعة ، والقوّة النظريّة كانسانيّة. فقد تولّينا أرصادا عقليّة رصدنا فيها
مسير كوكب التحقيق في فلك الحكمة وسير نجم الحقّ على معدّل نهار التحقيق بآلات
رصديّة [٢٦٤ ظ] ، من تقويم الفكر وتلطيف السرّ وتهذيب النفس وتخليص العقل عن الوهم
صالحة للرصدين الحدسىّ والفكريّ ، متخذين ، ذات شعبتين ، من النفس المجرّدة ، وذات
حلق من القوّة العاقلة ، وذات ثقبتين من القوّة النظريّة ، وأسطرلابا من العقل
الخالص ، وربعا مجيّبا من السّرّ النقيّ ، ومقياسا من البرهان الصريح ، وفرجارا من
الوجد أن الصحيح ، ومسطرة من سلامة الفطرة واستقامة الفطنة ، وحلقة إسكندريّة من
دائرة اليقين على جيب النظر البالغ وقطر القول المبين.
ولا بدّ لمدرك
الحقّ من أن يضع لزنة العلم ميزانا [١٦٤ ب] من الطبع المستقيم ، ومعيارا من الذوق
السليم مع إهمال لجانب البدن ورفض لجهة الطبيعة. فليكن عندك سنّة عقليّة في مطالعة
هذه التّرعة ، بل ترع هذا الكتاب على العموم لا تتعدّاها ، هي أنّه متى ما ضاق
عليك الأمر في نيل المرام وإذعان الحقّ من بعد فقه الكلام.
فعليك أن تهاجر
كورة الطبيعة وتجاهد بغاة العقل ، من القوى الوهميّة والخياليّة ، وترفض أعداء
الله فيك ، من الدواعى الجسميّة والصوارف البدنيّة وتستهتك الجلابيب الجسدانيّة
والغواشى الهيولانيّة وتستحقر البهجة [٢٦٥ ظ] الجسديّة واللّذة المزجيّة. فعساك
تنفصل عن عالم الغرور ، وتتصل بالملإ الرفيع حول حضرة القدس بالأفق الأقصى ،
وتفارق أصفاق إقليم الزور ، وتتمسّك بجناب ربّك الأعلى ، فيتيسّر لك أن تشاهد فضاء
الملكوت من كوّة النفس الناطقة عين العقل المستفاد. وهناك يتهيّأ لعقلك أن يسبح في
نهر علم اليقين ، فيصل إلى شاطئ حقّ اليقين.
وإذ دريت أنّ
مغناطيس درك الحقّ هو صدع غيم القلب بالبروق الخاطفة
الملكوتيّة وتنوير
جوّ السّرّ بالأنوار الحقّة اللّاهوتيّة. فإذا استقيت الحكمة [٢٦٥ ب] من شطّ العقل
؛ فاحذر أن يدور بك دولاب الوهم أدوار الشكوك. والله ولىّ الفضل والجود ، وبيده
مفاتيح الفيض ومقاليد الوجود. والحمد لله كما يليق بكرم وجهه وعزّ جلاله. فلقد نجز
القول في التّرعة الأولى بمنّه وإفضاله.
وكتب مصنّفه أحوج
الخلق إلى الرّبّ الغنىّ ، محمد بن محمد ، المدعوّ باقر الداماد الحسينىّ ، ختم
الله له بالحسنى ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا راجيا مؤمّلا داعيا.
أمّا بعد ، فقد
كان من منّ الرحيم الرّحمن ، الذي لا يكدّر عطاياه بالامتنان ، ولا يبيع نعمه
بالأثمان ، أن وفّق عبده ، وهو أولى بالحرمان ، لاقتطاف وورود هذه الأزهار واجتناء
هذه الثّمار واقتناء هذه اللّئالى البحريّة والعقود الجوهريّة والنّخب الصّحاح
اللّغويّة وأخذها من السّاحل ، حيث ألقاها اليمّ فيه وأبداها قذف متلاطم العباب
إليه. وهي لعمرى الجوهر الذي لم يثقب والمطيّة التي لم تركب. ولمّا كان مؤلّفها
ومبدعها ومصنّفها من ذريّة المصطفى وعترة المرتضى ، كانت بكلامهم أنسب وإملائهم أقرب.
فهى حدّ وسط بين كلامهم وكلام البريّة ، ولها على ما سواها ما لمؤلّفها من
المزيّة. كتبتها بحمد الله [من] مسودتها الأصليّة ونسختها الّتي بخطّه الأوّليّة.
ثمّ هذا الكتاب
بعون الله الملك الوهّاب ، في يوم الخميس ، ثامن شهر ربيع الأوّل ، سنة ستّ وستّين
بعد الألف من الهجرة النبويّة ، صلوات الله عليه ، أنا أقلّ العباد الحقير الفقير
الجانى المذنب العاصى ، محمد قاسم بن أحمد الطبرستانىّ [بلدة من بلاد الطبرستان
المشهور بالبارفروش]. نقل من خطّ السيّد الزكيّ ، أفضل المتقدّمين والمتأخّرين ،
مير محمد باقر الداماد الحسينىّ ، نوّر الله مرقده ونوّر ضريحه. وكان مسكنى ومنامى
في ذلك [الزمان] في مدرسة الشيخ المغفور المبرور ، شيخ لطف الله الميسىّ العاملىّ.
[٢٢٦ ب]
ربّ لا أثق إلّا
بك ولا أتّكل إلّا عليك ولا أرى في الوجود إلّا نور وجهك ، فأدركني بفيض فضلك
واهدني سبيلا إلى جناب قدسك ، ولا تجعل للشّيطان على قلبي دليلا ولا للباطل إلى
سرّي سبيلا. وصلّ وسلّم على أفضل الوسائل إليك ، محمّد اكرم المرسلين وآله أفاضل
المعصومين ما دارت السّماوات على الأرضين.
المساق الثّانية
التّرعة الثّانية من المساق الأوّل من كتاب الصراط المستقيم
في أنحاء الحدوث الزّمانيّ وتحقيق القول فيها وما يترتّب على الفحص عنها وكشف
غطاء الخفاء عن محيى الحقّ في غوامض حكميّة ترتبط بمسائل الحركة وتلتصق
بالمباحث الزّمانيّة.
فصل (١)
في أنحاء الحدوث الزّمانىّ وتحقيق ما عليه الشيء فيها و
ما يناط بالفحص عنها على سبيل قول تحصيليّ.
إشارة
لعلّ النّظر
التّحقيقيّ لا يسع إلّا أن نقول ، على سياق ما قاله الشّيخ في «الشفاء» وغيره : إنّ
وجود الشّيء الواجد الزّمانيّ أو عدمه : إمّا أن يكون دفعيّا ، بأن يحصل أو يعدم
دفعة في آن يختصّ به ، فإن استمرّ كان ذلك أوّل آنات حصول الوجود أو العدم ، وإن لم
يبق كالأمور الآنيّة كان مجرّد (٢٦٧ ب) ذلك الآن لا غير ظرف الحصول.
وامّا أن يكون
تدريجيّا ، بأن يكون الشّيء الوحدانيّ له هويّة اتّصاليّة لا يمكن أن تتحصّل إلّا
في زمان واحد متّصل على سبيل الانطباق عليه ، ويعبّر عن ذلك بالحصول على سبيل
التّدريج ، ولا يلزم أن يكون حصول ذلك الشّيء حصول أشياء كثيرة في أجزاء ذلك
الزّمان ، لأنّه من حيث هويّته ليس بملتئم عن أشياء كثيرة هو شيء واحد من شأنه
قبول القسمة إلى أجزاء ، فهو قبل عروض القسمة ليس إلّا شيئا واحدا منطبقا على زمان
واحد ، ولا يكون لذلك الزّمان طرف يوجد هو فيه ، لأنّ
وجوده ممتنع
الحصول في طرف زمان أو حدّ من حدوده (١٦٨ ظ) ، بل واجب أن يحصل مقارنا لجميع ذلك
الزّمان ، وأمّا بعد عروض القسمة ، فيكون حصول أجزائه في أجزاء ذلك الزّمان شيئا
بعد شيء. فهذا الحاصل ، أعني ما يكون له حصول واحد تدريجيّ ، لا يكون له آن ابتداء
الحصول ، بل ظرف حصوله إنّما هو الزّمان ، لا طرفه.
وإمّا أن يكون
زمانيّا ، بأن يكون حصول الوجود أو العدم في نفس الزّمان لا في طرفه ، ولا فيه على
سبيل الانطباق عليه ، إذ لا يكون للشىء الحاصل هويّة اتّصاليّة تنطبق على الزّمان
، بل إنّما يختصّ حصوله بذلك الزّمان ، على معنى أن لا يمكن أن يوجد أو يفرض في
ذلك الزّمان أن إلّا ويكون ذلك الشّيء (٢٦٨ ب) حاصلا فيه ، وتقرير القول كأنّه على
أسلوب تحصيليّ قد اضمحلّ به ما استشكله مثير فتنة التّشكيك ، من الشّكوك في «الملخّص»
وفي شرحه للإشارات.
شك وهميّ وفحص حكمي
كأنّك متوهّم أنّ
وجود الشيء أو عدمه بتمامه : إمّا أن يحصل يسيرا يسيرا ، فيكون في زمان على وجه
الانطباق عليه والانقسام إلى الأجزاء حسب انقسامه أو دفعة واحدة ، فيكون في آن
قطعا ، وهو أن أوّل الحصول ؛ أن وكذلك تقول : إمّا يحصل بتمامه دفعة واحدة ، فيكون
في آن هو آن أوّل (٢٦٩ ظ) الحصول ضرورة ، أو لا ، بل قليلا قليلا ، فيكون لا محالة
في زمان ينطبق هو عليه ، فكيف يتصوّر هناك الواسطة.
فيقال : ذلك
الموجود أو المعدوم دفعة ، بمعنى الّذي يحصل في آن واحد يختصّ به ابتداء وجود
الشّيء أو عدمه بتمامه ، ليس لازما لقابل الّذي يوجد يسيرا يسيرا أو يعدم يسيرا
يسيرا ، بل هو أخصّ صدقا وتحقّقا ممّا هو المقابل ، والمقابل هو الّذي ليس يذهب
إلى الوجود أو العدم أو الاستحالة أو غير ذلك يسيرا يسيرا. وهذا يصدق على ما يحصل
وجوده بتمامه دفعة واحدة في آن ما ، سواء استمرّ زمانا ما ، أو لم يبق بعد ذلك الآن
أصلا ، أو يحصل عدمه (٢٦٩ ب) بتمامه دفعة واحدة في آن ما ، على ما يحصل وجوده
بتمامه في زمان ما ، بأن يكون في جميع ذلك الزّمان موجودا ، على أنّه في كلّ جزء
من أجزاء ذلك الزّمان وفي كلّ آن من الآنات
المفروضة فيه
موجود بتمامه ، ويكون في الآن الذي هو طرف ذلك الزّمان وليس بزمان معدوما أو ما
يقع عدمه بتمامه في زمان ما بأن يكون في كلّ جزء من أجزاء ذلك الزّمان وفي كلّ آن
من الآنات المفروضة فيه معدوما ، ويكون في الآن الّذي هو طرف ذلك الزمان وليس
بزمان موجودا.
فهذا الوجه الأخير
ليس يوجد فيه الشّيء أو يعدم قليلا قليلا. والأوّل أيضا كذلك ، وهو الّذي يكون
وجوده (٢٧٠ ظ) أو عدمه في آن. لكن هذا الوجه يباين ذلك الوجه الأوّل : بأنّ ذلك قد
فرض فيه الحكم في الآن الّذي هو نهاية الزّمان بالذّات ، كالحكم في جميع ذلك
الزّمان اذا كان للحكم استمرار ، وفى هذا قد فرض الحكم في ذلك الآن مخالفا للحكم
في ذلك الزمان من غير أن يوضع آن بعد ذلك الآن لابتداء المخالفة ، وإلّا لوقعت
مشافعة بين آنات ، ولكان ذلك الآن هو الطّرف بالذّات.
وليس كلامنا الآن
في أنّ هذا الوجه الثّاني يصحّ وجوده أولا يصحّ ، فإنّا لا نتكلّم فيه من حيث
نصدّق بوجوده ، بل إنّما نلحظه من حيث يحمل عليه سلب ما ، أعني أنّه ليس يوجد أو
يعدم قليلا قليلا ، وله في ذلك (٢٧٠ ب) شريك. فذلك الشّريك أخصّ من هذا السّلب ،
والأخصّ لا يلزم الأعمّ ، وليس يجب أن يكون الشيء من حيث يتصوّر موضوعا أو محمودا
بحيث يصدّق بتحقّقه أو لا يصدّق ، وقد علم هذا في صناعة المنطق.
فإذن قولنا : «ليس
يوجد أو يعدم يسيرا يسيرا» ، الّذي هو مقابل قولنا : «يوجد أو يعدم يسيرا يسيرا»
أعمّ من قولنا : «يوجد أو يعدم دفعة» ، بمعنى أنّه يكون حاله ذلك في آن مبتدأ ،
وكذلك مقابل ما يوجد أو يعدم دفعة هو ما لا يوجد دفعة ، أى لا يوجد في آن مبتدأ أو
لا يعدم كذلك ، وليس يلزمه لا محالة أنّه يوجد أو يعدم قليلا قليلا ، بل قد يصدق
معه الذي بحسب الوجه المذكور (٢٧١ ظ).
فليس قولك : «إمّا
أن يكون يسيرا يسيرا أو يكون دفعة في آن مبتدأ» ، أو قولك: «إمّا أن يكون دفعة أو
يكون قليلا قليلا» صادقا صدق المنفصل المحيط بطرفي النّقيض أو المحيط بشيء ، وما
يلزم نقيضه ، فقد تبيّنت الواسطة ، فاعتزل الوهم تتعرّفها.
تبيان
سبيل البرهان على
تثليث القسمة وتحقّق هذه الواسطة ، على سياق ما في «الشفاء» ،
هو أن ننظر : هل
الآن المشترك بين زمانين ، في أحدهما الشيء بحال وفي الآخر بحال أخرى ، قد يخلو
الأمر فيه عن الحالين جميعا أو يكون فيه على احدى الحالين دون الأخرى. ومن المعلوم
أنّ الشيئين اللّذين هما في قوّة (٢٧١ ب) المتناقضين أو المتقابلين تقابل العدم
والملكة يمتنع خلوّ الشيء أو الموضوع القابل عنهما جميعا في ذلك الآن.
ثمّ من الأمور :
ما يحصل في آن ، ثمّ تتشابه حاله فى أيّ آن فرض في زمان وجوده ، ولا يحتاج في أن
يكون إلى أن يطابق مدّة ، كالمماسّة والتربيع وغير ذلك من الهيئات القارّة
المتشابهة الحال في كلّ آن من زمان وجودها ؛ وما كان كذلك ، فالشيء في ذلك الآن
الذي هو الفصل المشترك موصوف به.
ومنها : ما يقع
وجوده في الزّمان الثاني وحده ، والآن الفاصل بينهما لا يحتمله ، كالحركة التي لا
تتشابه حالها في آنات زمان وجودها ، بل يتجدد بحسبها في كلّ آن قرب جديد إلى
الغابة وبعد عن المبدأ ، وهي إنّما تحصل بعد الآن الذي هو الفصل المشترك ، أي في
جميع الزّمان الذي هو بعده وفي جميع آناته ، وكذلك ما لا يقع إلّا بالحركة ،
كاللّامماسّة الّتي هي المفارقة بعد المماسّة. فلمثل هذه الأمور لا يكون أوّل آنات
، التحقّق ، وإلّا : فإمّا أن يتصل ذلك الآن بالذي هو الفصل المشترك ، فيلزم تشافع
الآنات ، أو يتخلّل بينهما زمان ، فيلزم خلوّ الشيء في ذلك الزّمان عن الحركة
والسّكون والمماسّة واللّامماسّة مثلا.
وبالجملة ، الحركة
التوسّطية موجودة قطعا ولا تحصل في الآن الذي هو طرف زمان الحركة القطعيّة ، لأنّه
آخر آنات السّكون ؛ وأيضا هو منطبق (٢٧٢ ب) على طرف المسافة الذي هو مبدأها ، فكيف
يصدق أنّ المتحرك بحسب وقوعه فيه متوسّط بين مبدأ المسافة ومنتهاها. وبعد ذلك الآن
لا يخلو عنها آن من آنات زمان الحركة ولا جزء من أجزائه ، ولا يمكن أن يتلو ذلك
الآن آن آخر ، فيقع بين الآنات متشافعة.
فإذن ، هي موجودة
في زمان ما وفي كلّ آن من آناته ، وليس لها آن ابتداء الحصول. وكذلك حال ما لا
يتمّ حصوله إلّا بالحركة التّوسّطيّة ، ولا يستدعى قدرا معيّنا من الحركة القطعيّة
أصلا ، بل يكفي فيه تحقّق حركة ما على أيّ قدر كان.
وأيضا ما يختصّ
وجوده بآن (٢٧٧ ظ) فقط ، كالأمور الآنيّة الوجود إنّما يعدم في جميع الزّمان الّذي
طرفه آن الوجود وفي جميع الآنات بعد ذلك الآن ، ولا يكون هناك آن مبتدأ يختصّ به
أوّل وقوع العدم.
تنبيه
أوّل الأقسام ،
أعنى الحصول الدّفعيّ ، وهو الحصول دفعة في آن هو طرف للزمان وفصل مشترك بين
حاشيتيه لا يقع إلّا في الحوادث الزّمانيّة ، فإنّ القديم الزّمانيّ لا يبتدأ وجوه
في آن ، بل إنّما يكون حادثا دهريّا يخرجه مبدعه من العدم الصّرف الواقع في الخارج
إلى الوجود من دون أن يتحقّق هناك آن يكون طرفا لزمان ، على ما قد استبان لديك من
قبل (٢٧٣ ب).
وأما الأخيران ،
أعنى الحصول يسيرا يسيرا في زمان على سبيل الانطباق عليه ، وهو الحصول التدريجيّ ،
والحصول في نفس الزّمان لا على التّطابق وهو الحصول الزّمانيّ ؛ فكما يكونان في
الحوادث الزّمانيّة ، كالحركات القطعيّة الحادثة زمانا ومقاديرها من الأزمنة
والحركات التّوسّطيّة الراسمة لتلك الحركات والآنات السّيالة الرّاسمة لتلك
الأزمنة ، فقد يكونان للقديم الزّمانيّ أيضا ، كالحركة القطعيّة للفلك الأقصى
والزّمان الّذي هو محلّه والحركة التّوسّطيّة لذلك الفلك والآن السيّال الذي هو
منطبق عليها.
توضيح
فإذن ، الحادث (٢٧٤
ظ) الزّمانيّ ليس ما يكون له أوّل آنات الوجود ، بل هو ما يكون زمان وجوده مسبوقا
بزمان عدمه أو آن وجوده طرفا لزمان علامه السّابق ، سواء كان طرفا لزمان عدمه
اللّاحق أيضا ، فيكون فصلا مشتركا بين زمانيّ عدميه السّابق واللّاحق ، أو كان
طرفا لزمان وجوده البقائيّ.
فالحادث الزّمانىّ
يكون على ثلاثة أضرب : ضرب منه يوجد عن العلّة دفعة في آن ما من الآنات ويكون وجود
هذا الحادث أو أوّل حدوثه لا محالة منطبقا على ذلك الآن. وضرب منه يوجد عن العلّة
في مجموع زمان معيّن على نحو الانطباق (٢٧٤ ب) عليه بحيث ينفرض بإزاء كلّ جزء من
الزمان جزء في ذلك الحادث ،
فيكون تحصّل كلّ
بعض من ابعاض ذلك الحادث في بعض معيّن من أبعاض ذلك الزمان ؛ وضرب منه يوجد مجموعه
في جميع أجزاء زمان ما ، لا على نحو الانطباق عليه ، بل بأن يوجد جميع ذلك الحادث
في كلّ جزء فرض من أجزاء ذلك الزّمان.
وأمّا الحادث
الدّهرىّ ، فيفيض بتمامه عن العلة مرّة واحدة ، ولكن لا في زمان ولا في آن ما من
الآنات ، وهو يشارك الحادث الذاتيّ في ذلك المعنى ويباينه من حيث إنّ وجوده يكون
مسبوقا بعدمه في الخارج ، فيحدث بتمامه (٢٧٥ ط) عن العلّة مرّة واحدة ، ويقع في
الدّهر الذي ليس فيه امتداد ولا مقابله. والحادث الذّاتيّ لو لم يكن حادثا دهريّا
على ما اخترعه المتهوّسون بالقدم لا يكون كذلك. بل يكون موجودا دائما دواما
دهريّا. لكن لا دواما ذاتيا ، بل بتأثير العلّة وإفاضة الموجد على الدوام.
استقراء
يندرج في النّوع
الأوّل الأمور الآنيّة ، كالوصولات إلى حدود المسافة والوصول إلى ما إليه الحركة
والكون والتّربيع والتّماسّ والسّكون وانطباق إحدى الدّائر تين على الأخرى وأحد
الخطّين على الآخر وكلّ ما يكون له آن ابتداء الحدوث ثمّ يستمرّ وجوده زمانا.
ويقع في النوع
الثاني (٢٧٥ ب) الحركات القطعيّة ومقاديرها المنطبقة هي عليها من الأزمنة الحادث
ارتسامها في الاذهان وما يتبع الحركات من الهيئات الغير القارّة ، كالأصوات
وأمثالها.
ويدخل في النّوع
الثالث الحركات التّوسّطيّة وحدوث الزّاوية بالحركة ، كزاوية المسامتة الحادثة بين
خطّين متوازيين يتحرك أحدهما عن المسامتة إلى الموازاة وافتراق أحد الخطّين
المنطبق أحدهما على الآخر عنه أو مقاطعهما بالحركة واللّاوصول واللّامماسّة
والفساد. وبالجملة ، كلّ ما لا يتمّ إلّا بالحركة ، لا بالانطباق عليها وعدم
الأمور الآنيّة الحصول وعدم الآن ، بل الأعدام الطّارية للحوادث مطلقا (٢٧٦ ظ) بعد
آخر آنات وجودها ولو استقريت وجدت جزئيّات تكاد لا تنحصر.
فإذن ، قد انكشف
لك ما أسلفناه ، من حلّ الشكّ للمتوهّمين في أمر عدم الآن ، وأنّه يلزم أن يكون
تدريجيّا أو يستوجب مشافعة بين الآنات.
فكأنّه قد بان أنّ
الآن إنّما يعدم في جميع الزمان الذي بعده وفي كلّ جزء وحدّ
منه ، لا في آن
يليه ، فإنّ فناء ليس إلّا بعبور زمان ما غير متعيّن الامتداد واعتبر الحكم من
النّقطة ، فما أشبه أمر الآن بأمرها.
كما أنّ النّقطة
موجودة طرفا للخطّ وليست موجودة في نفس الخطّ وليس يتلوها نقطة يبتدأ (٢٧٦ ب) منها
عدمها ، فالحكم بأنّ النّقطة موجودة هناك صادق على الخطّ وليس بصادق على نفس الخطّ
المتصل ، والحكم بأنّها ليست بموجودة هناك صادق على نفس الخطّ ، وليس بصادق على
طرفه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون للخطّ طرف آخر غير تلك النّقطة يصدق عليه الحكم
بأنّها ليست بموجودة هناك ، فكذلك في الآن بالنّسبة الى الزمان.
عقدة وحلول
أسمعت ما يعدّ من
عويصات الشكوك ومستصعبات الأوهام : أنّه قد برهن أقليدس الصّورى (٢٧٦ ظ) في خامس
عشر المقالة الأولى من «اصول الهندسة» على أنّ الزّاوية الحادثة من الدّائرة
والخطّ المماسّ لها حدّ من كلّ زاوية مادّة مستقيمة الخطّين ، فلا محالة تكون
الزّاوية الحادثة من منطقة الدائرة ومقعّرها أعظم من جميع الزوايا الحادّة
المستقيمة الخطّين ، لما بيّنه اقليدس في ذلك الفصل أيضا ولأنّها تتمّم الزّاوية
الأولى من قائمة ، إذ الخطّ الخارج من نقطة التماسّ إلى مركز الدّائرة عمل على
الخطّ المماسّ ، كما برهن عليه في تلك المقالة.
ويلزم من ذلك أنّه
يشترك القطر من طرف المركز أدنى طرف مع ثبات نقطة التماسّ تصير (٢٧٧ ب) الزاوية
الحادثة من القطر والدائرة بعد الحركة أعظم من قائمة من غير أن تصير مثل القائمة ،
لأنّ أيّ قدر يتحرّك القطر ينضاف إلى تلك الزّاوية زاوية مستقيمة الخطّين ، وهي
أعظم من الزاوية الحاصلة من الدّائرة والخطّ المماسّ التي كانت متمّمة للزاوية
الحاصلة من الدّائرة والقطر من قائمة ، فيكون مجموعها أعظم من قائمة ، فيلزم أن
يصير المقدار الصغير بالحركة أعظم من المقدار الكبير من غير أن يصير مساويا له.
وهذا هو الطفرة.
ويلوح الأمر من
النّظر في دائرة ب ج د (٢٧٨ ظ) على قطر د ، والخطّ المماسّ لها أب ه وخطّ ب د
منطبقا تارة على قطريه ومفترقا عنه أخرى بالحركة من جانب
المركز مع ثبات
طرفه المنطبق على ب نقطة التماسّ وبقاء قطر ب ح على ما كان.
ثمّ هل أصغيت إلى
الّذي يقول ، وهو ممّن قد يستطيل على أهل صقع التحصيل؛ وهذا الإشكال
ممّا لم يصل إلينا من أحد من الفضلاء والأذكياء حلّه.
وأقول : قد تحقق
عند المحققين : أنّ الزاوية من الكيفيّات المختصّة بالكميّات ، وليس كمّا بالذّات
، بل الكم بالذّات هو السّطح الّذي هو معروض الزّاوية ؛ ولا شك أنّ السّطح (٢٧٨ ب)
الصّغير في هذه الصّورة لا يصير أعظم من الكبير إلّا بعد أن يساويه ، وأمّا
الزّاوية القائمة فكيفيّة مخصوصة لا توجد في هذه الحركة ، كما أنّه لا توجد
الصّفرة في الحركة من الفستقيّة إلى السّواد لا البياض ، وفي الطّعوم لا توجد في
الحركة من الحموضة إلى الحلاوة المرارة.
والحاصل : أنّ
الطفرة إنّما تلزم لو كان المقدار الأصغر قد زاد على المقدار الأكبر من غير أن
يساويه ، والمقدار هو السّطح ، وهو لا يزيد على السّطح الأعظم منه إلّا بعد أن
يساويه.
وأمّا الزاوية
فليست مقدارا بالذّات ، بل هي من الكيفيّات العارضة للسّطح (٢٧٩ ظ) ، ولا يلزم
تحقّق جميع الكيفيّات في جميع الحركات الكيفيّة. ولا يستشعر أنّ الكيفيّات
المختصّة بالكميّات تتصف بالمساواة والمفاوتة حسب اتّصاف الكميّات الّتي هي
محالّها. نعم لا يكون ذلك لها بالذّات. فاختلافها بالعظم والصّغر أو مساواتها
يستلزم اختلاف كميّات هى معروضاتها أو مساواتها ، وبالعكس ، بل هو ذلك بعينه
منسوبا إليها بالعرض لعلاقة المقارنة.
فكما أن السّطح
الناقص عن آخر لا يزيد عليه بالحركة والتّدريج الّا بعد المساواة ، كما استيقنته ،
فكذلك الكيفيّة المختصّة به الموصوفة بالمساواة والمفاوتة (٢٧٩ ظ) بالعرض
والتّبعيّة لا تزيد على كيفيّة أخرى ناقصة عنها إلّا بعد البلوغ إلى مساواتها. والكميّة
والكيفيّة المتكمّمة بالعرض ، سبيلهما في ذلك واحد.
ثمّ أليس السّطح
المتوسّط بين السّطحين المعروضين لهيئتى الحدّة والانفراج هو السّطح المعروض
لهيئته القائمة. فإذ يبلغ السّطح الواقع في الدائرة إلى مساواة سطح القائمة ، هل
يعرى عن إحاطة الخطّين الغير المفارقين إيّاه ولا يكاد يتوهمّه ذو غريزة
__________________
العقل أصلا أو لم
يعر ، فيلزم أن تعرضه الهيئة التي هي القائمة قطعا ، وهو ممتنع هناك. فالذهاب إلى
الكيفيّة لا ينجى ، بل لا يجدى أصلا. (٢٨٠ ظ) على أنّ الرّياضيّين يجعلون الزّاوية
من مقولة الكم ، والإشكال عليهم والصّفرة غير متوسّطة بين الفستقيّة والسّواد ،
ولا واقعة في مسلك الانتقال من البياض إلى السواد من طريق الفستقيّة ، فإنّ لذلك
الانتقال مسالك شتّى وفي كلّ متوسّطات وفي السّلوك إنّما يجب البلوغ إلى المتوسّط
لا غير ، فلا يقاس عليها حال القائمة المتوسّطة بين الحادّة والمنفرجة.
تنوير وحلّ
أليس من المستبين
لديك أنّ الطفرة إنّما هى ترك حدّ من حدود ما فيه الحركة ونيل حدّ آخر منها
بالحركة التدريجيّة من دون البلوغ إلى حدّ يتوسّطهما. فاذا انضمّ إلى مقدار ما (٢٨٠
ب) مقدارا انضماما ما تدريجيّا من غير أن ينضمّ إليه أوّلا ما هو أقلّ من ذلك
المقدار هناك طفرة. وأمّا إذا فارق الشّيء مقدارا ونال مقدارا آخر عظيما ، لا على
سبيل التّدرّج ، فلا يلزمه أن يكون ذلك من بعد البلوغ إلى ما هو أقلّ منه ، فإنّه
إنّما يرجع إلى انعدام فرد من المقدار وحدوث فرد آخر عظيم من كتم العدم ابتداء. وهو
لا يستوجب أن يكون ذلك مسبوقا بحدوث ما هو أصغر منه.
وأما استبان لك
ممّا تأسّس أنّه إذا تحرّك خطّ عن الانطباق على خطّ آخر مع ثبات انطباق أحر طرفيه
على أحد طرفي ذلك الآخر يحدث بينهما زاوية لا على التّدرّج (٢٨١ ظ) ، بل حدوثا
زمانيّا في نفس مجموع الزّمان الّذي هو بعد آخر آنات الانطباق ولا يكون لها آن
أوّل الحدوث.
فإذن قد اكشف عليك
أنّ زاوية القطر والمحيط ليست تتعاظم على التّدريج إلى أن تصير منفرجة ، بل تحدث
المنفرجة في جميع زمان حركة القطر مرّة واحدة ، لا على أن يختصّ ابتداء حدوثها بآن
، إذ الحادّة المستقيمة الخطّين الحادثة بين القطر المتحرّك والقطر المفروض ثابتا
تحدث كذلك وتنضمّ إلى زاوية القطر والمحيط انضماما لا على التّدريج ، بل مرّة
واحدة في نفس ذلك الزّمان وكلّ آن مفروض (٢٨١ ب) فيه.
فلا طفرة فى تلك
الأعظميّة الحادثة مع الحركة التوسّطيّة للقطر وبسببها ، فإنّها تتوقّف في تحقّقها
على تحقّق حركة ما قطعيّة ، لا بأن تنطبق على قدر ما منها أصلا. فإذن قد
تحقّق الأمر ،
سواء كانت الزّاوية من الكميّات أو من الكيفيّات المختصّة بها ، فليحقّق.
تشكيك وتنظيم
ولعلّك تعود فتقول
: زاوية أب ح الحاصلة من القطر وب ح ج المقاطع للدائرة أصغر من زاوية القطر
والمحيط. لوقوع أحد ضلعيها ، وهو ب ح ج ، بين ضلع ا ب ، المشترك بينهما وبين قوس ب
ح الضلع الآخر لزاوية القطر والمحيط.
فإذا فرضنا حركة ب
ح ج مع ثبات نقطة ب منه (٢٨٢ ظ) منطبقا على نقطة التّماسّ إلى جهة ح ب إلى أن
ينطبق على ب ه الخطّ المماسّ بقرب نقطة ح موضع تقاطع خطّ ب ح ج والدائرة شيئا
فشيئا إلى نقطة ب محلّ تماسّ الدائرة وخطّ ه ب إلى أن تتبدّل إلى نقطة التماسّ
وتنطبق على ب ، فتعظم زاوية أب ح يسيرا يسيرا إلى أن تصير قائمة من دون البلوغ إلى
مساواة زاوية القطر والمحيط ، فإنّ ب ح ج ما دام مقاطعا للدائرة تكون تلك الزّاوية
أصغر من هذه. وإذا انتقل من التقاطع إلى التماسّ صارت هى أعظم منها ، فقد صار
الأصغر من مقدار أعظم منه بالتّدريج على سبيل الانطباق (٢٨٢ ب) على الحركة
القطعيّة من غير أن يساويه.
ثمّ إنّ زاوية ه ب
ح زاوية تماسّ خط ه ب ، والدّائرة وإن كانت أحدّ من جميع الزّوايا الحادّة
المستقيمة الخطّين ، لكنّها من المقادير القابلة الانقسام إلى غير النّهاية وإن لم
يمكن انقسامها بوقوع خطّ مستقيم بين ضلعيها.
وحين انتقال خطّ ب
ح ج من مقاطعة الدائرة إلى مماسّتها تنضاف زاوية التّماسّ القابلة للانقسام إلى
غير النهاية الى زاوية ا ب ح دفعة واحدة من دون أن تتضاف إليها أوّلا بعض من تلك
الزاوية ، مع أنّ ذلك الانضياف واقع على حدّ من حدود الحركة القطعيّة لخط ب ح ج
وإنّما نتحصل على التدريج. (٢٨٣ ظ)
__________________
فيقال لك : أليس
زاوية القطر والمحيط ، لها اعتباران ، اعتبار أنّها سطح واعتبار أنّها أحيطت
بمستقيم ومستدير. وهى إنّما تقع في طريق تلك الحركة بالاعتبار الأوّل فقط دون
الاعتبار الثاني ، وذلك لأنّ شيئا من الزوايا المستقيمة الخطين لا يمكن أن تساوى
زاوية مختلفة الضلعين.
وكذلك العكس ،
فإنّه إذا طبق الضلع المستقيم من المستقيمة الضّلعين على المستقيم من مختلفهما ، فإمّا
أن يقع المستقيم الآخر بين المختلفين أو خارجا عنهما ، إذ لا يمكن أن ينطبق
المستقيم على المستدير ، فلا تنطبق المستقيمة الضّلعين إلى ما هى مختلفتهما.
وبالجملة تخلف حقيقة الزّاوية من جهة اختلاف الضّلعين باستقامتهما معا وكون أحدهما
مستقيما «٢٨٣ ب) والآخر مستديرا ، لكون المستقيم والمستدير مختلفين بالماهية
النوعيّة ، وشيء من أفراد أحد المقدارين المختلفين بالماهيّة لا يقع في طريق
الحركة في الآخر.
فالمتزايد بحسب
المقدار الخطّي بالحركة مثلا لا يساوي في شيء من المراتب مقدارا ما سطحيّا ولا
بالعكس. وكذلك المتزايد في السّطح بالحركة لا يبلغ في شيء من حدود الحركة إلى
مساواة جسم ما ولا العكس.
فكلّ فرد من أحد
نوعي الزاويتين اذا تحرك ضلعه وصار أكبر إنّما يبلغ بالتّدريج إلى مساواة جميع
الأفراد المتوسّطة في القدر بين المبدأ والمنتهى من ذلك النّوع ، وهي الّتي تكون
واقعة في مسلك تلك (٢٨٤ ظ) الحركة. ولا يمكن أن يبلغ إلى مساواة شيء من أفراد
النّوع الآخر ولا تكون تلك الأفراد واقعة في مسلك تلك الحركة ولا متوسّطة بين
المبدأ والمنتهى.
فإذن ، ليس يلزم
مساواة الزاوية التي هي مستقيمة ضلعى ا ب ح من حيث إحاطة المستقيمين بها في شيء من
مراتب التّدريج لزاوية الفطر والمحيط من حيث احاطة مستقيم ومستدير بها.
يعم يلزم مساواتها
لها من حيث كونهما سطحين مع عزل النظر عن ملاحظة الحيثيّة. وكذلك زاوية التّماسّ
من خارج الدائرة إنّما تنضاف إلى زاوية ا ب ح المستقيمة الضلعين (٢٨٤ ب) دفعة
واحدة من حيث إنّها محاطة بمحيط الدّائرة والمستقيم المماسّ لها. وأمّا سطحها مع
قطع النظر عن تلك الحيثيّة فإنّما ينضمّ إلى
سطح هذه شيئا
فشيئا ، إذ كلّما تقرب نقطة التّقاطع إلى نقطة التّماسّ ينضمّ شيء من ذلك السطح
إلى هذا السّطح.
وهكذا ، إلى أن
ينتفى التقاطع ، فتنضمّ زاوية التّماسّ المحاطة بالمختلفين من تلك الحيثيّة إلى
تلك المستقيمة الضّلعين دفعة ، فتصير تلك أعظم من زاوية القطر والمحيط الغير
الواقعة من تلك الحيثيّة في مسافة الحركة. ولا حرج في ارتكابه ، فليتدبّر.
تذكار
ومن جملة ما تنحلّ
عقدة الإعضال (٢٨٥ ظ) فيه بما تأسّس لديك أمر منطقة البروج باعتبار طلوع نصفها في
أفق يساوي عرضه تمام الميل الكلّي ، فإنّ قطب منطقة البروج هناك ينطبق في كلّ دورة
من معدّل النّهار على قطب الأفق مرّة واحدة ، فتنطبق أيضا منطقة البروج على الأفق
لا محالة.
فإذا افترق قطب
منطقة البروج عن قطب الأفق بحركة المعدّل تفترق لا محالة منطقة البروج عن الأفق
دفعة وتتقاطعان ، فيطلع نصفها عن الأفق مرّة واحدة ، فتنطبق أيضا منطقة البروج على
الأفق لا محالة.
فإذا افترق قطب
منطقة البروج عن قطب الأفق بحركة المعدّل تفترق لا محالة منطقة البروج عن الأفق
دفعة وتتقاطعان ، فيطلع نصفها عن الأفق دفعة لا في زمان ويغرب نصفها الآخر.
وليس للنّصف
الطّالع مطالع من معدّل النّهار ولا للنّصف الغارب مغارب ، بل إنّما يكون طلوع ذلك
(٢٨٥ ب) وغروب ذا مع نقطة من المعدّل ؛ ثمّ يطلع النّصف الغارب مع تمام دور معدّل
النّهار ويضمحلّ ما يستشكل فيه : بأنّ الطلوع والغروب لا يكون إلّا بالحركة ، وهى
لا تكون إلّا في زمان ، فيستدعى طلوع قوس ما من المعدّل هى المطالع وغروب قوس ما
هى المغارب.
ولو ارتكب وقيل :
إنّ طلوع النّصف أو غروبه على سبيل التّدريج حتى يكون في زمان ، لزم تقاطع
العظيمتين ، لا على التّناصف ؛ فما أسهل لك أن تتعرفه من بعد ما تلي عليك ومنها
أمر حدوث زاوية المسامتة في برهان المسامتة على تناهى الأبعاد ، وسيتلى عليك إن
شاء الله تعالى (٢٨٦ ظ).
تتمّة
وممّا يستتمّ
بتأسيس تلك الأصول ما ذكره الشّيخ في طبيعيّات «الشفاء» إبطالا لشبهة الدّحرجة.
وتحقيقه : أنّ انطباق المستدير على المستدير كمنطقة للكرة المتدحرجة
على سطح مستو حتى
يعود إلى وضعها على خطّ مستقيم فيه ؛ إنّما يمنع دفعة في آن لا على سبيل التدريج
في زمان. وكذلك انطباق النّقطة على الخطّ في الزّمان غير ممتنع. كما إذا كان مخروط
ينطبق برأسه على نقطة من طرف سطح ، فأمررته عليه.
فالكرة إنّما
تماسّ السّطح المستوي والخطّ بالنقطة لا غير في حال الثبات والسّكون. فاذا تحركت (٢٨٦
ب) ماسّت بالخطّ في زمان الحركة ولم تكن في زمان الحركة مماسّة على النّقطة إلّا
في الوهم ، إذ لم يكن البتة وقت بالفعل تماسّ فيه بالنّقطة من دون
تعمّل الوهم، لأنّ ذلك لا يتوهّم إلّا مع توهّم الآن ، والآن لا وجود له بالفعل
البتة. والمسلّم هو أنّ الكرة لا تلقى السّطح في آن واحد إلّا بنقطة ، وليس يلزم
من ذلك أن تنتقل الحركة من نقطة إلى نقطة مجاورة لها ومن آن إلى آن مجاور له.
فالتّشافع بين
النّقط وبين الآنات ممتنع ، والملاقاة بالنّقطة تزول في جميع زمان الحركة (٢٨٧ ظ)
كذلك أمر المخروط المدود برأسه على خط.
وأمّا ما تشبّث به
مثير فتنة التّشكيك في «الملخّص» و «المباحث المشرقيّة» ، من: «أنّه إذا فرضت كرة
متلاقية للسطح على نقطة ، ثمّ زالت الملاقاة عن تلك النّقطة فقد حدث أمران ، زوال
الملاقاة وحصول اللّاملاقاة. فأمّا زوال الملاقاة فهو حركة ، فلا جرم ليس له بداية
يكون هو فيها حاصلا. وأمّا حصول اللّاملاقاة ، فهو من جملة ما يحصل في الآن ،
ويستمرّ في جميع الزّمان الذي بعده ، فاللّاملاقاة هى بداية هى حاصلة فيها.»
«فالآن الّذي (٢٨٧
ب) حصلت فيه اللّاملاقاة : إمّا أن يكون هو الآن الّذي كانت فيه الملاقاة أو غيره.
والأوّل باطل وإلّا اجتمعت الملاقاة واللّاملاقاة بالنّقطة الواحدة في الآن
الواحد. وعلى الثّاني ، فإمّا أن يكون بين آن الملاقاة وآن اللّاملاقاة زمان أو لا
__________________
يكون. فإن كان
كانت الكرة فيه ملاقية للنقطة الأولى ، فتكون ساكنة إن لم يتوسّطهما زمان ، فقد
تتالى آنان.»
«وأيضا ، الآن
الذي هو أوّل زمان اللّاملاقاة بتلك النّقطة إمّا أن تكون الكرة فيه ملاقية بنقطة
أخرى أو لا تكون. فإن لم تكن ملاقية بنقطة أخرى لم تكن الكرة ملاقية للسطح ، هذا
خلف ، وإن كانت (٢٨٩ ظ) ملاقية له ، فإمّا أن تكون ملاقية بالنّقطة الأولى أو
بنقطة أخرى. والأوّل يستلزم كون الملاقاة بالنقطة الأولى غير زائلة ، وعلى الثاني
، فإمّا أن تكون بين تلك النّقطة وبين النقطة الأولى واسطة أو لا تكون. فإن كانت ،
فتكون ملاقاة الكرة للسطح بذلك المتوسّط قبل الملاقاة بالنّقطة الثانية ، فلا تكون
الملاقاة بالنقطة الثانية في أوّل زمان اللّاملاقاة بالنقطة الأولى ، وذلك خلف ،
فإذن ليس بين النقطتين واسطة ، فيلزم تتالى النّقط » ؛
فمستبين الوهم
ممّا ظهر عليك.
فعلى ما تعرّفت ،
حصول اللّاملاقاة بالنّقطة إنّما هو (٢٨٩ ب) على النّحو الثالث من أنحاء الحدوث ،
وليس يلزم أن يكون اللّاملاقاة لها آن أوّل الحصول ، بل هى حاصلة في جميع الزّمان
الّذي هو بعد آخر آنات الملاقاة بتلك النّقطة وفي أيّ آن فرض فيه ، وليس لها بداية
آنيّة ؛ بل كلّ آن فرض في ذلك الزّمان يكون بينه وبين آخر آنات الملاقاة بالنّقطة
لا محالة زمانا ، ويكون الكرة فيه ملاقية للسطح لا بالنّقطة ، بل بالخطّ الذي
بإزاء ذلك الزمان ينفرز بحسب الوهم عن الخطّ الذي عليه تكون ملاقاتها له في مجموع
زمان الحركة ، وهكذا إلى حيث يذهب الوهم.
وليس يمكنه لا
محالة (٢٩٠ ظ) أن يبلغ إلى آن يصحّ أنّ فيه ابتداء اللّاملاقاة بالنّقطة
واللّاملاقاة بالنّقطة مع تحقّق الملاقاة أعمّ من أن يكون هناك ملاقاة بالخطّ أو
بنقطة أخرى. وعلى ذلك يقاس أمر رأس المخروط مع الخطّ.
فإذن ، قد صحّ ما
أورده الشّيخ : «إنّه إذا كان المسلّم هو أنّ الكرة تلاقى السّطح بالنّقطة في آن
وكان الخلاف في أنّ الحركات والازمنة غير مركّبة من أمور غير متجزية ومن آنات ،
كالخلاف في المسافة ، وكان إنّما يلزم تجاور النّقط لو صحّ تجاور
__________________
الآنات ؛ كان
استعمال ذلك في إثبات تتالى النّقط كالمصادرة على المطلوب الأوّل وسقط التشكيك (٢٩٠
ب).
وما أورده الشّيخ
أوّلا ، من منع إمكان تدحرج الكرة على السّطح المستوى ؛ فمعناه: لعلّ ضرورة امتناع
التتالى تحيل ذلك ، كما أنّ ضرورة الخلأ ربما تفسّر الطّبائع وتصدّها عن بعض
مقتضياتها ، وتمسك الأجسام في غير أحيازها. وبذلك ينحسم تشبّث مثير فتنة التشكيك
بحديث الانزلاق.
وأمّا الذي اعتمد
هو فيه عليه في حسم الشّبهة ، من «أنّ القول بالجزء الذي لا يتجزّى يمنع من امكان
وجود الكرة والدّائرة ؛ فكيف يستدلّ بوجود الكرة وحركتها على وجود الجزء ، وأيضا ،
الحركة لا يعقل وجودها مع القول بالجزء الّذي لا يتجزّى ، فلا يمكن أن يستدلّ بها
عليه» ، (٢٩١ ظ).
فلا ثقة به ، إذ
ذلك الاستدلال عند أصحابه إنّما هو على قانون الجدل ، بناء على مسلّمات الحكماء ،
من وجود الكرة وحركتها لا على سبيل البرهان. ثمّ بما تأسّس من الأصول ، ينقض جدار
الوهم في شكوك شتّى ، إن استقريناها كان يفضى بنا إلى سلوك سبيل التّطويل.
فصل (٢)
في كيفيّة تلبّس المتحرّك في زمان الحركة بالمقولة الّتي فيها الحركة. والنظر
في ما
يظنّ أنّه ليس للمتحرّك شيء من أفراد المقولة ما دامت الحركة ، وتحقيق
المعنى المحصّل من ذلك ، وتعيين ما له منها ما دامت هى
مدخل
بلغ مقابلة بحسب
الجهد والطاقة من نسخة بخطّه.
__________________
مصنّفات ميرداماد
(٧)
المختصرات
(١) قوس النّهار
بسم الله الرّحمن الرّحيم
يا خالق الأرض
والسّماء ، أنّى لخديج العقل أن يدرك طور مجدك بفطانته البتراء ، أو يبصر نور عزّك
ببصيرته العمشاء ، صلّ وسلّم على قوس نهار الشّرف في أفق فضل الأنبياء ، وعلى آله
مطالع طوالع العلم والحكمة ، في خطّ استواء الشّريعة الغرّاء على المحجّة البيضاء.
وبعد ، فيقول أحوج
الخلق إلى الرّبّ الغنىّ محمّد بن محمّد ، المدعوّ بباقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم
الله له بالحسنى : هذه مقالة فيها نياط قلب الفحص ومناط حقّ البحث عن مباحث معضلة
مهيّمة للآراء ، ومع ذلك ، فإنّها إنّما تجبّ عرق شبهة عوصاء بيد جذّاء. وعسى أن
نأتى من فضل الله العظيم برحيق محض الحقّ على رقيق صرف التّحقيق في كأس رسالة أخرى
مبسوطة ، فيها أمد النّظر من الجليل والدّقيق إن شاء الله تعالى.
فالآن نقول ،
وبالله الاعتصام : مقالتنا هذه يتضمّن مقاصدها فصول.
(١ ـ قوس النهار
المشهورية والحقيقيّة)
قوس النّهار
المشهوريّة هي مجموع نصف الدّور وضعف تعديل النّهار إن كانت الشّمس من المعدّل في
جهة القطب الظّاهر أو فضل نصف الدّور على ضعف تعديل النّهار إن كانت هي منه في
القطب الخفىّ إذا كان هناك تعديل نهار ؛ وأمّا إذا لم يكن ، كما في خطّ الاستواء
دائما وفي الآفاق المائلة لما يكون الشّمس في أحد الاعتدالين ، فقوس النّهار نصف
الدّور بلا زيارة ونقصان. وذلك لما بيّن في مظانّه : أنّ الأفق ينتصف المدارات في
خطّ الاستواء ومعدّل النّهار في الآفاق المائلة ، وأنّ المدار المتقسم بالأفق
المائل إن كان في جهة القطب الظّاهر كان قسمه الظّاهر أعظم من نصف الدّور بضعف
تعديل النّهار ، وإن كان في جهة القطب الخفىّ كان أصغر بذلك بضعف تعديل النّهار
أيضا
ولا يخفى أنّ
الحقيقة تقتضى خلاف هذا ، لأنّ النّقطة الّتي مع الشّمس من المعدّل لا تغرب معها
بسبب حركة الشّمس الخاصّة إلى التّوالى على خلاف جهة حركة المعدّل.
فقوس النّهار
الحقيقيّة هي ما يدور من معدّل النّهار من وقت طلوع مركز الشّمس من الأفق الشّرقىّ
إلى وقت غروب مركزها في الأفق الغربىّ ، وهو أزيد من الأوّل بقدر مغارب ما تسيره
الشّمس بسيرها المقوّم في ذلك النّهار لتلك البقعة ، لأنّ الجزء الّذي كانت الشّمس
فيه في أوّل النّهار إذا صار من المشرق إلى المغرب بالحركة اليوميّة ، فقد تحرّك
المعدّل قوسا في هذا الزّمان ، وهي قوس النّهار المشهوريّة. والشّمس قد تحرّكت
بحركتها الخاصّة إلى خلاف تلك الجهة على توالى البروج في ذلك الزّمان قوسا صغيرة.
فما لم يغرب هذا القوس لم تغرب الشّمس قطعا. وإذا غربت هذه القوس من البروج غربت
بإزائها قوس من معدّل النّهار هي مغارب للقوس الأولى.
فهذه المغارب إذا
زيدت على قوس النّهار وإن وقع في عبارة أعاظمهم ، كإمام المحققين الحكيم الطّوسىّ
، روّح رمسه ، والعلّامة قطب المحققين ، والفاضل العلّامة نظام الدّين
النّيشابورىّ ، فإنّه ليس بسديد. اللهمّ إلّا أن يقال : قد يطلق المطالع ويراد
المغارب ، بناء على أنّ مغارب القوس في أفق هي بعينها مطالعها في نظير ذلك الأفق.
وربّما يقال : إنّ
مقدار اليوم بليلته إذا أخذ المبدأ من الطّلوع دورة من معدّل النّهار
مع قوس المطالع
البلديّة لقوس من البروج تسيرها الشّمس في ذلك الزّمان ، وقوس اللّيل الحقيقيّة
أزيد من قوس اللّيل المشهوريّة بمطالع ما تسيره الشّمس في ذلك اللّيل.
فإذا نقصنا قوس
الليل الحقيقيّة من مقدار اليوم بليلته يبقى قوس النّهار الحقيقيّة أزيد من قوس
النّهار المشهوريّة بمطالع ما تسيره الشّمس في ذلك الوقت ، ضرورة أنّ مجموع قوس
النّهار وقوس اللّيل بعينه مقدار اليوم بليلته ، فيصحّ ما ذكروه من غير تعسّف.
(٢ ـ شبهة)
وأقول : إنّ هذا
الكلام ، ربما يصعب على بعض المدارك حلّها ويلزم منها أن تكون مغارب كلّ قوس
كمطالعها مع امتناع ذلك في الآفاق المائلة ، على ما برهن عليه في مقامه ؛ فإنّا قد
بيّنا أنّ فضل قوس النّهار الحقيقيّة على المشهوريّة بقدر مغارب ما تسيره الشّمس
في ذلك النّهار. فإذا كان ذلك الفضل بقدر مطالع ما تسيره الشّمس فيه كان المغارب
في أفق مائل كالمطالع في ذلك الأفق بعينه ، هذا خلف.
ومن العجب أنّ
الفاضل النّيشابورىّ تمسّك بذلك في تصحيح المرام ، حيث قال في «شرح التذكرة» : «وكيف
لا ، واليوم بليلته ، كما عرفت ، دورة من معدّل النّهار مع زيادة مطالع مقوّم
الشّمس في المدّة ، والمجموع ينقسم إلى نهار وليل. فالزّيادة أيضا يتوزّع عليها».
وتبعه الشّريف المحقق على ذلك في شرحه للتذكرة. وكان مرادنا بيان لزوم انضياف
الزّيادة إلى المشهوريّة ، لتحصيل الحقيقيّة ، لا أنّ تلك الزّيادة بقدر المطالع.
وفيه تأمّل.
(٣ ـ حلّ الشبهة)
وأمّا حلّ الشّبهة
، فربما يقال : وجهه أن يلتزم أنّ مقدار اليوم بليلته إذا أخذ المبدأ من الطلوع
يخالف اليوم بليلته إذا أخذ المبدأ من الغروب.
ولا يخفى ما فيه
من فقد الجدوى ، فإنّ كلّا من مقدارى اليوم بليلته إذا أخذ المبدأ من الطّلوع واليوم
بليلته إن أخذ المبدأ من الغروب وإن خالف صاحبه ، ضرورة أنّ الأوّل دورة من
المعدّل مع مطالع قوس ما سارتها الشّمس في تلك المدّة ، والثّاني هي مع مغارب تلك
القوس ، لكنّه بعينه مجموع مقدارى جزأيه ، أعنى زمانى النّهار ،
فيكون مقدار دورة
المعدّل مع مطالع ما سارته الشّمس في مدّتها ، سار بالمجموع مقدارى قسميه من قوس
النّهار واللّيل ، وقوس اللّيل هي ما دار من المعدّل من الغروب إلى الطّلوع مع
مطالع ما تسيره الشّمس في ذلك الزّمان ، فيبقى قوس النّهار ما دار من المعدّل من
الطلوع إلى الغروب مع مطالع ما سارته الشّمس في ذلك الزّمان.
فالوجه أن يقال :
إنّ مجموع قوس النّهار المأخوذ مبدءا من الطّلوع أو من الغروب ، فإنّ فضل ذلك
المجموع على دورة المعدّل يكون بقدر مجموع مغارب ما تسيره الشّمس في ذلك النّهار
ومطالع ما تسيره في ذلك الليل ، وفضل مقدار اليوم بليلته على الدّورة بقدر مطالع
ما تسيره الشّمس في اليوم بليلته إن أخذ المبدأ من الغروب.
والمطالع لطوالع
مدّة اليوم بليلته على الأوّل لا تساوى مجموع مغارب الغوارب النّهاريّة ومطالع
الطوالع الليليّة ، وإن كان ذلك النّهار مساويا لذلك الليل ، بناء على اختلاف
مطالع كلّ قوس ومغاربها فى الآفاق المائلة. وكذلك مغارب غوارب مدّة اليوم بليلته
على الثّاني لا تساوى مجموع تلك المغارب النّهاريّة والمطالع الليليّة ، وإن تساوى
اللّيل والنّهار ، بناء على ما ذكر بعينه من عدم مساواة مطالع شيء من القسىّ
لمغارب تلك القوس بعينها في الآفاق المائلة. وذلك لأنّ مطالع كلّ قوس في الأفق
المائل تكون مخالفة لمطالع نظيرها هناك ، ومطالع نظيرها مساوية لمغارب تلك القوس
هناك ، تكون مغارب كلّ قوس في كلّ أفق ، استوائيّا كان أو مائلا ، كمطالع نظيرها
فيه ، ضرورة أنّ تقاطع الأفق مع كلّ من المعدّل ومنطقة البروج على التّناصف.
فبمقدار ما يطلع
من كلّ منها من الأفق الشّرقىّ يغرب بذلك المقدار منها كلّ مساويا لنظيره في الأفق
الغربىّ ، فيكون مطالع كلّ قوس مخالفا لمغاربها في ذلك الأفق ويكون مطالع كلّ قوس
فى الأفق الشّمالىّ لمغاربها فى الأفق الجنوبىّ ، وبالعكس إذا تساوى عرضها الأفقين.
وهذا القول وإن
قرع باب التّحقيق ، لكنّه بعد لم يأمن قارعة الإشكال ، فإنّه يستلزم عدم مساواة
زمان الطّلوع إلى الطّلوع لمجموع زمانى ما بين الطّلوع والغروب ، وما بين الغروب
والطّلوع ، مع أنّ تساوى مقدار بعينه ومجموع مقدارى قسميه ممّا لا يخفى على كلّ ذى
فطرة إنسانيّة.
فلا محيص إلّا بأن
يصار إلى أنّ مقدار اليوم بليلته ليس دورة المعدّل مع مطالع مقوّم الشّمس فيها ،
بل هي مع مغارب المقوّم النّهارىّ ومطالع المقوّم اللّيلىّ. وذلك ، مع أنّه على
خلاف صرائح عباراتهم ، تصادمه الضّرورة القاطعة بأنّ المعدّل ، إذا أتمّت الدّورة
ثمّ طلعت مطالع ما سارته الشّمس فيها ، ينتهى مركز الشّمس إلى أفق الشّرق ، وقبل
ذلك يكون تحت الأفق.
وما يقتضيه الفحص
البالغ هو أنّ قوس مسير الشّمس في منطقة البروج من حين طلوع نقطة من المعدّل كانت
، مع مركز الشّمس على أفق الشّرق إلى حين غروب تلك النّقط ، إنّما تعتبر في مقدار
اليوم بليلته بالجزئيّة ، أعنى في زمان مفارقة مركز الشّمس أفق الشّرق إلى عوده
إليه باعتبار الطلوع ، فيكون المعتبر هناك مطالع تلك القوس لا غير. وأمّا فى مقدار
النّهار ، أعنى زمان ما بين كون مركز الشّمس على أفق الشّرق وبين كونه على أفق
الغرب ، فإنّما تعتبر تلك القوس باعتبار الغروب ، فيكون جزء قوس النّهار مغاربها.
فزمان ما بين طلوع
مركز الشّمس إلى طلوع آخر ، ليس هو مجموع زمانى الطّلوع إلى الغروب ثمّ الغروب إلى
الطّلوع ، إذ لا يتوقف ذلك على اعتبار الغروب أصلا.
نعم هو دورة من
المعدّل مع مجموع قوس مسير الشّمس في منطقة البروج من حين غروب نقطة من المعدّل هي
مع مركز الشّمس على أفق الشّرق إلى حين طلوعها. فكلّ من القوسين إنّما يتوقف عليها
الطّلوع إلى الطلوع باعتبار المطالع.
وملخّص القول :
أنّه تطلع نقطة من المعدّل مع مركز الشّمس وتتحرّك بحركة المعدّل إلى أن تصل إلى
أفق الغرب ، وتغرب بعد ذلك مغارب ما سارته الشّمس في تلك المدّة بحركتها الخاصّة
من منطقة البروج ، فتغرب مركز الشّمس ويتمّ زمان النّهار وقوسه ، ثمّ تغرب نقطة من
المعدّل مع مركز الشّمس وتتحرك إلى أن تصل إلى أفق الشّرق ، فتتمّ دورة المعدّل
وتطلع بعد ذلك مطالع مجموع ما سارته الشّمس في تلك الدّورة بحركتها الخاصّة من
منطقة البروج ، فتطلع مركز الشّمس من أفق الشّرق ثانيا ويتمّ مقدار اليوم بليلته ،
أعنى زمان ما بين طلوع مركز الشّمس اليوم آخر.
فإذن لا فساد في
عدم مساواة مقدار اليوم بليلته لهذا المعنى لمجموع مقدارى
زمانى النّهار
واللّيل. فتدبّر وأحسن إعمال رويّتك.
(٤ ـ القوس جزء أو
كلّ)
ثمّ مهما استيقنت
وتيقّنت ، تحقّق لديك : أنّه إن اعتبرنا قوس النّهار ، بما هي به جزء من مقدار
اليوم بليلته ، بمعنى زمان ما بين الطّلوعين ، مركز الشمس ، كان المعتبر فيها ما
سارته الشّمس بحركتها الخاصّة من منطقة البروج من حين طلوع نقطة من المعدّل مع
مركزها إلى حين غروب تلك النّقطة بحسب المطالع ؛ وإن اعتبرناها على معنى أنّها
مقدار ما بين طلوع مركز الشّمس وغروبها ، كان المعتبر فيها هي بعينها تلك القوس
الّتي سارتها الشّمس بحركتها التّقويميّة من حين طلوع نقطة من المعدّل مع مركزها
إلى حين غروب تلك النّقطة ، لكن لا بحسب المطالع ، بل بحسب المغارب.
فحينئذ لو صيّر
إلى مسلك الحكيم المحقق وشيعته من اعتبار تلك القوس بحسب المطالع ، لسانح أيضا
باعتبار ، وإن كان المصير إلى ما ذهبنا إليه أسوغ وأولى.
(٥ ـ سؤال)
فعلى ما حققناه ،
لو سئل وقيل : هل مقدار اليوم بليلته ، أى زمان ما بين طلوعى مركز الشّمس ، يخالف
مجموع مقدارى قوسى النّهار واللّيل ، أى زمانى ما بين طلوع مركز الشّمس وغروبها ،
ثمّ ما بين غروبها وطلوعها.
(٦ ـ جواب)
يجاب ويقال : نعم
، ويستغرب أشدّ الاستغراب. وذلك من خواصّ كون الأفق مائلا ومن الغرائب اللّازمة
لميلان الآفاق المائلة. كما أنّ كون حركة الشمس في الليل عن معدّل النّهار ، مثلا
، على مجموع قوس ما من منطقة البروج غير مساوية لضعف حركتها في اللّيل عنه على نصف
تلك القوس ، من خوّاص كون منطقة البروج مائلة عن معدّل النّهار غير مساوة لضعف
ارتفاع ساعة ، بل أقلّ منه ، من خواصّ مثل ذلك التّقاطع بين الأفق ومعدّل النهار.
فإنّ ذلك يقتضي أن تكون القسىّ الواقعة من دائرة نصف النّهار ، بل من دائرة
الارتفاع بين المنتظرات المارّة بأطراف القسىّ المتساوية المتتالية المفصولة بها
من معدّل النّهار فوق الأفق متخالفة المقدار بالتّصغر والعظم ، أعظمها ما يقرب من
الأفق.
كما أنّ القسىّ
الواقعة من المارّة بالأقطاب الأربعة بين مدارات الميول لأطراف القسىّ المتساوية
المتتالية المفصولة بها من منطقة البروج مخالفة ، أعظمها ما يقرب من المعدّل ، لما
في خامس ثالثة «أكر ثاوذوسيوس» ، وجيب مجموع القوسين المختلفين أصغر من ضعف جيب
الأعظم منهما. وإن استندت تلك المخالفة إلى غير ذلك أيضا ، كان جيب ضعف القوس أصغر
من ضعف جيب القوس ، كما برهنّا عليه في رسالتنا : «جيب الزّاوية» ،
فيشمل الحكم ما
إذا تساوت القسىّ الواقعة من دائرة الارتفاع بين تلك المنتظرات ، كما في خطّ
الاستواء من تلك الجهة ، كما يشمل الآفاق المائلة من الجهتين ، وككون جيب ارتفاع
ساعة منضمّا إلى ارتفاع جيب ارتفاع الأخرى أصغر في الرّؤية ممّا إذا انفرد لقربه
من الأفق ورؤيته أعظم ممّا إذا بعد عنه ، فيظهر الحكم حينئذ في جميع الآفاق مع قطع
النّظر عن تخالف جيب ضعف القوس وضعف جيب القوس أيضا.
ثمّ على ما حقق ،
يتفرع مسألة غريبة أخرى ، هي أنّ مقدار اليوم إذا أخذ المبدأ من الغروب. مثلا ،
إذا كانت الشمس في أولى السّرطان عند الطلوع ، كان مقدار اليوم بليلته إذا أخذ
المبدأ من الطلوع دورة من المعدّل ومطالع الدّرجة الأولى من السّرطان ؛ وإذا كانت
عند الغروب كذلك ، وأخذ المبدأ من الغروب ، كان مقداره دورة من المعدّل ومغارب
الدّرجة الأولى من السّرطان. وقد تبيّن أنّ مطالع القوس في آفاق المائل لا تساوى
مغاربها. فقد اختلف مقدار اليوم بليلته في أفق واحد والشمس في موضع واحد من جهة
اختلاف المبدأ.
فربما يسأل أنّ
مقدارا واحدا ، هل يمكن أن يخالف نفسه في الكميّة بسبب اختلاف اعتبار المبدأ.
ويجاب بالإمكان ، ويستغرب غاية الاستغراب. وفي المقام دقّة وغموضة مع لطافة
ونفاسة. فتلطّف في سرّك وتبصّر في تخيّلك كى تتجلّى عليك خبيئة المرام من جلباب
الكلام. والحمد لواهب الفكر ومفيض الإلهام.
كتابخانه مجلس
شوراى اسلامى ، مجموعه ، ش ١٢٣١).
(٢)
مفهوم الوجود
والماهيّة
اعلم أنّ كلّ ممكن
، سواء كان أزليّا أو حادثا ، يكون بالنّظر إلى ذاته لا شيئا صرفا ، فإذا حصل له
الشّيئيّة والكون الخارجىّ والحقيقة الخارجيّة المتأصّلة ، فلا يكون ثبوت شيء من
تلك الأمور في ذاته مع قطع النّظر عن الغير ، وإلّا يلزم أن يكون واجبا بالذّات
وموجودا بالذّات ، فيلزم الانقلاب ، وهو محال بالبديهة.
إذا تمهّد هذا ،
فنقول : لا شكّ أنّ السّماء والأرض وغيرهما من الحقائق الخارجيّة لمّا لم يكن لها
باعتبار ذاتها حقائق وأمور خارجيّة ، فيكون جميعها أثر الجاعل في الخارج ، فقد
تحقّق أثر الجاعل في الخارج.
ولمّا لم يكن بين
الحقائق الخارجيّة وبين وجوداتها الخارجيّة اثنينيّة خارجيّة ، لأنّ الوجود
الخارجىّ ليس أمرا انضماميّا ، كالسّواد والبياض ، على ما عرفت مشروحا صحفنا
الحكميّة ، فبقى احتمالان :
أحدهما : أن يكون
أثر الجاعل الحقائق الخارجيّة ، والوجود يكون أمرا انتزاعيّا ، وزيادة الوجود على
الماهيّة في الذّهن فقط ، على ما قال المحقق الفريد في «التجريد» ، بقوله :
«وزيادته في التّصوّر». وقد بسطنا تحقيق ذلك وحقّقنا الأمر في ذلك في مزبوراتنا
حقّ التّحقيق والبسط.
وثانيهما : أن
يكون أثر الجاعل نفس الوجودات الخارجيّة ، والماهيّات تكون أمرا انتزاعيّا ، على
عكس ما هو التّحقيق. وهذا الاحتمال باطل ، لأنّ المفروض أنّ الماهيّة أمر انتزاعىّ
والوجود الممكن أمر متأصّل.
وعلى هذا ، لقائل
أن يقول : إنّ الماهيّة التي تكون من الانتزاعيّات لا تخلو من أن تكون شيئا في
الخارج ، [أو تكون لا شيئا في الخارج] ؛
فإن كانت شيئا في
الخارج يلزم أن يتحقّق الاثنينيّة الخارجيّة من الماهيّة والوجود الخارجىّ ، فيلزم
أن يكون الوجود الخارجىّ أمرا انضماميّا ، وقد عرفت أنّه يلزم منها مفاسد كثيرة ،
على ما ذكرنا في حاشية «الأفق المبين».
وإن كانت لا شيئا
في الخارج ، فتكون الماهيّة من الأمور العامّة ، ليس لها تحصّل في الخارج ،
كالوحدة والكثرة والإمكان وغيرها من الأمور العامّة ، وهي لا تكون داخلة تحت
المقولة ، هي الموجودات الخارجيّة دون الماهيّات.
فالوجود بالنّسبة
إلى الوجودات الممكنة المتحقّقة في الخارج لا يخلو من أن يكون لفظيّا أو معنويّا.
والأوّل باطل ، على ما ثبت بالبرهان أنّ الوجود مشترك معنوىّ. وإذا كان الوجود
مشتركا معنويّا بين الوجودات المحصّلة الخارجيّة ، فيكون للوجود مفهوم ، وهو ظاهر
، ومعبّر عنه أيضا. وذلك المعبّر عنه أمر متحصّل في الخارج ، كما هو ، لا المفروض.
وذلك الأمر
المتحصّل لا يخلو من أن يكون كليّا طبيعيّا موجودا في الخارج ، أو لا يكون كليّا
طبيعيّا ، بل يكون جزئيّا حقيقيّا متشخّصا بذاته. وكلّ واحد منهما باطل.
[١] أمّا الأوّل ،
فلأنّه إذا كان كليّا طبيعيّا ، فلا بدّ أن يكون جنسا طبيعيّا أو نوعا طبيعيّا.
وكلا هما باطل ، لأنّه يلزم أن يكون الوجود جزءا جنسيّا بالقياس إلى الممكن ، أو
تمام ماهيّة الممكن. فيلزم أن لا يكون الممكن ممكنا ، لأنّ نسبة الوجود إلى الممكن
نسبة إمكانيّة ، ونسبة الجنس إلى ما هو جنس له ونسبة النّوع إلى ما هو نوع له ،
نسبة الذّاتىّ إلى ذى الذّاتىّ. ولا شكّ أنّ نسبة الذّاتىّ إلى ذى الذّات ليست
نسبة إمكانية. كما لا يخفى على المتتبّع ؛ فيلزم أن يكون نسبة الوجود إذا كان
للممكن نسبة غير إمكانيّة ، والنّسبة الغير الإمكانيّة قاطعة للاحتياج إلى العلّة
، فيلزم انقلاب الماهيّة.
وأيضا ، كلّ أمر
يكون نسبة الوجود إليه ضروريّة ذاتيّة يلزم أن يكون أزليّا وسرمديّا ؛ كما أنّ
القدم إذا كان ضروريّا ذاتيّا لأمر ، يلزم أن يكون أزليّا سرمديّا ، كالممتنع
بالذّات ، فإنّ عدمه لمّا كان ضروريّا ذاتيّا له يكون أزليّا سرمديّا. فيلزم أن
يكون جميع الموجودات المتحققة في الخارج أزليّا سرمديّا ، ولم يتحقق وجود حادث
أصلا ، فيلزم قدم العالم بجميع أجزائه ، وهو باطل اتّفاقا وبديهة.
ولا يجوز أن يكون
الوجود نوعا طبيعيّا ، وإلّا يلزم أن يكون تابعا تحت جنس ، والحال أنّ الوجود ليس
له جنس ، لأنّه لا أعمّ من الوجود ، فبقى أن يكون الوجود إذا كان كليّا طبيعيّا
يكون جنسا عاليا يندرج تحته جميع الوجودات الممكنة ، سواء كانت
الوجودات وجودات
جوهريّة أو عرضيّة ، لأنّه لا أعمّ من الوجود ، ليصير الوجود الجنس العالى إلّا
واحدا ، إذ يكون جميع الأشياء المحصّلة داخلة ، تحت جنس واحد ؛ فيلزم أن يكون جميع
الأشياء المحصّلة ، كانواع الجواهر وأجناس الأعراض وأنواعها ، داخلة تحت جنس واحد
؛ فيلزم أن لا يتحصّل المقولات المتباينة بالجنس ، والحال أنّ الجنس العالى إمّا
اثنان ، وهو الجوهر والعرض ، أو عشرة ، كما هو المشهور.
وأيضا ، كما كان
الوجود مفهوما واحدا مشتركا معنويّا ، ولا يكون لمفهوم الواحد إلّا المعبّر عنه الواحد
، لا المتعدّد ؛ فإذا كان المعبّر عنه بذلك المفهوم الواحد واحدا ، فيلزم أن
يتحقّق ذلك المعبّر عنه الواحد أينما ينتزع ذلك المفهوم الواحد ، ولا شكّ أنّ ذلك
المفهوم الواحد ينتزع من الواجب ، جلّ شأنه.
وأيضا ، المفروض
أنّ المعبّر عنه بذلك المفهوم الواحد هو الجنس الطبيعىّ ، فيلزم أن يتحقق ذلك
الجنس الطبيعىّ في الواجب ، جلّ شأنه. وهو أيضا باطل ، لأنّه قد ثبت بالبرهان أنّ
الواجب ، جلّ شأنه ، ليس له ماهيّة كليّة أصلا ، لا الماهيّة الكليّة الجنسيّة ولا
الماهيّة الكليّة النّوعيّة.
[٢] وأمّا الثّاني
، وهو أن لا يكون المعبّر عنه بمفهوم الوجود كليّا ، بل يكون جزئيّا حقيقيّا
متشخّصا بذاته ، فهو باطل أيضا من وجوه :
الأوّل ، أنّ كلّ
أمر يكون تشخّصه بذاته ، لا يجوز أن يكون تشخّصه عين ذاته لا معلول ذاته ، وإلّا
يلزم أن يكون الشيء علّة لتشخّصه ؛ وذلك باطل ، لأنّ علّة التّشخّص يجب أن تكون
متشخّصة في مرتبة العلّة ، فلا بدّ من تشخّص سابق على المعلول. فذلك التّشخّص
السّابق إن كان عين اللّاحق يلزم الدّور أو غيره ، فننقل الكلام إليه ، وهكذا ،
فيلزم الدّور أو التّسلسل ؛ ولا جزء ذاته ، وإلّا يلزم أن يكون ذلك الجزء متشخّصا
بذاته ، لا الشيء الذي يكون ذلك الجزء جزءا منه. فيكون ذلك الشّيء مركّبا من جزءين
، أحدهما متشخّص بذاته ، والآخر غير متشخّص بذاته.
وعلى أىّ تقدير ،
فنقول : لا جائز أن يكون شيء من الممكن بحيث يكون التشخّص عين ذاته ، لأنّ كلّ أمر
يكون التّشخّص عين ذاته يكون الوجود أيضا عين ذاته ، لأنّ الشيء اذا كان متعيّنا
بذاته يكون أمرا متحصّلا كمال التّحصّل في مرتبة ذاته ، لأنّه لا تحصّل أتمّ
من التّحصّل
التّعيّنى. وإذا كان الشّيء له كمال التّحصّل في مرتبة الذّات يكون له الوجود ،
وكلّ أمر يكون له الوجود والتّعيّن فى مرتبة الذّات يكون واجب الوجود بالبديهة ،
لأنّ نسبة الوجود والتّعيّن إليه حينئذ تكون مثل نسبة الإنسانيّة إلى الإنسان ،
ولهذا تكون عينيّة التّشخّص وعينيّة الوجود من خواصّ الواجب ، جلّ شأنه.
والثّاني ، أنّه
إذا لم تكن الماهيّات امورا متحصّلة في الخارج بل تكون من الانتزاعيّات فقط ،
كالأمور العامّة ، وتكون المتحصّلات الخارجيّة منحصرة في الوجودات المتشخّصة بذاته
، فيلزم أن لا يكون الكلّىّ الطّبيعىّ موجودا في الخارج ، لأنّ المفروض أنّ الأمور
المتحصّلة في الخارج منحصرة في الأمور المتشخّصة بذاته. والكلّىّ الطّبيعىّ ليس
متشخّصا بذاته ، فلا يكون الكلّىّ الطبيعىّ موجودا في الخارج أصلا ؛ فيلزم أن يسقط
مطلب «ما» ، وينحصر المطلب في مطلب «من» ، والحال أنّ القوم قاطبة جعلوا أمّهات
المطالب أربعة: مطلب ماء الشّارحة ، ومطلب هل البسيطة ومطلب ماء الحقيقيّة ، ومطلب
هل المركّبة ، على ما حقّق في مقامه.
والثّالث ، أنّ
المفروض هو أنّ الأمور المتحصّلة في الخارج إنّما هي الوجودات المتكثّرة ، فيكون
كلّ واحد من تلك الوجودات معبّرا عنه بمفهوم الوجود الّذي هو المشترك المعنوىّ ،
فيلزم أن يكون المفهوم واحدا ، والمعبّر عنه متعدّدا ، وقد عرفت أنّ المفهوم
الواحد لا يكون له إلّا المعبّر عنه الواحد. فخذ ما آتيناك واذهب إلى ما أريناك ،
وكن من الشاكرين.
(٣)
رسالة في القدرة أيضا
من مؤلّفاته ، أعلى الله درجته.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
قال خاتم الحكماء
المتألهين ، سيّد المدقّقين ، ثالث المعلّمين ، قدّس الله روحه : سألت ببيت المقدس
الشّريف عن حقيقة القدرة والإرادة والدّاعى وتحقيق المذهب على سبيل الإجمال.
فأجبنا بما هذه صورته :
«القدرة» تؤثّر
وفق الإرادة ، فخرج عنها ما لا تأثير له ، كالعلم ، إذ لا تأثير له وإن توقّف
تأثير القدرة عليه ، وما يؤثّر لا وفق الإرادة ، كالطبيعة للبسائط العنصريّة ، وهى
في
الحيوان كيفيّة
نفسانيّة مصحّحة للفعل وعدمه ، تعلّقها بالطرفين على السّواء ؛ ومن الواجب تعالى
ليست مندرجة تحت إحدى المقولات ، بل هى كون ذات الواجب تعالى بذاته ، بحيث يصحّ
عنه صدور الفعل وعدمه ، من دون أن يكون مصداق الحمل هناك قيام عرض به تعالى.
و «الإرادة» صفة
تخصّص تعلّق القدرة بأحد طرفي المقدور ، كذا فسّرها المتكلّمون ؛ فقيل : إنّه شوق
متأكّد ، وقيل : إنّها مغايرة للشوق ، فإنّها هى الإجماع وتصميم العزم. وربما يفرق
بينهما بأنّ الإرادة ميل اختيارىّ والشّوق ميل جبلىّ طبيعىّ.
وقال المحقق
الطوسىّ ، رحمهالله ، في «شرح رسالة مسألة العلم» (ص ٤٤) :
«إنّ صحّة الصّدور
واللّاصدور هو المسمّى بالقدرة ، وهى لا تكفى في الصّدور إلّا بعد أن يترجّح أحد
الجانبين على المسمّى بالإرادة ، والتّرجيح إنّما يكون بالقصد ، وهو المسمّى
بالإرادة».
والتّحقيق : أنّ
الإرادة في الحيوان كيفيّة نفسانيّة حاصلة عن شوق منبعث عن اعتقاد جلب ملائم للغرض
أو منافر في العقل. ومن الواجب تعالى هى كون ذاته تعالى بحيث يخصّص تعلّق القدرة
بأحد طرفي المقدور حسب تعلّق عنايته به ، وهى بحسب اصطلاحهم علمه بالنّظام الأكمل.
و «الدّاعى» ، هو
المرجّح لتخصيص الإرادة أحد طرفي المقدور لتتعلّق القدرة به ، وهو غير لازم
التّحقّق في أفعال الواجب تعالى عند الأشاعرة ، لإمكان ترجيح المختار أحد
المتساويين بمحض الإرادة من دون المرجّح.
وممّا لا بدّ منه
عند الحكماء والمعتزلة ، بشهادة العقل بامتناع التّرجيح بلا مرجّح مع استلزام
التّرجيح بلا مرجّح ، وهو بديهىّ الامتناع عند العقلاء كافّة. لكنّ الحكماء حكموا
بأنّ الدّاعى عين ذاته تعالى ، والمعتزلة يقولون بزيادة الدّاعى على ذاته وعلى
علمه تعالى. فمنهم من يقول : إنّه مصلحة راجعة إلى شخص من أشخاص الموجودات ، ومنهم
من يقول : إنّه ذات الوقت ، ومنهم من يقول بامتناع وجود المعلول من ذلك الوقت ،
فتأمّل في ضبط هذا المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام. تمّت بعون الله الملك
المتعال.
(٤)
رسالة في علم الواجب
أيضا من مؤلفاته برد الله تعالى مضجعه الشّريف
بعد الحمد لمفيض
العلم وواهب العقل ، والصّلاة على أفضل المرسلين وآله الطّاهرين ، يقول أحوج الخلق
إلى الله الغنىّ محمّد بن محمّد ، المدعوّ بباقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له
بالحسنى :
ضابط مقام
التّحقيق في علم الواجب أن يقال : العلم قد يطلق على المعنى المصدرىّ الإضافىّ
المعبّر عنه بالفارسيّة بدانستن ؛
وقد يطلق على ما
هو مبدأ الانكشاف ، وهو صفة وملكة تقوم بالمجرّد ، فيصحّ إطلاق العالم عليه ؛
وقد يطلق على
الصّورة الحاضرة من الشّيء عند المجرّد. وهذا المعنى الأخير هو المراد في قولهم : «العلم
متّحد مع المعلوم بالذّات والماهيّة ، مخالف له بالاعتبار».
والعلم بالمعنى
الأوّل ، لا يصلح أن يكون عين الواجب تعالى ، ولا شيئا من الماهيّات الحقيقيّة.
وعلمه تعالى ،
بالمعنى الثّاني ، بذاته تعالى مفصّلا أى باعتبار ذاته ومن حيث إنّه مصداق للصفات
الحقيقيّة ، وبما سواه من المعلومات مجملا ومفصّلا ، أى علما إجماليّا وعلما
تفصيليّا عين ذاته ، بمعنى أنّه لا يجب أن يقوم به تعالى مبدأ الانكشاف حتى يطلق
عليه العالم ، كما في الممكنات من المجرّدات ، بل ذاته تعالى بعين ذاته مبدأ
انكشاف ذاته ومعلوماته من دون قيام صفة وملكة ، به يكون منشأ الانكشاف ، فالأثر
المرتّب على منشأ الانكشاف يترتّب في الواجب على نفس ذاته ، فيكون ذاته بهذا
الاعتبار علما وعالما. وعلمه بهذا المعنى لا يكون عين معلوماته ، بل عين أحد
معلوماته ، وهو ذاته تعالى. فذاته تعالى معلوم وعلم وعالم باعتبارات.
وعلمه تعالى ،
بالمعنى الثّالث ، بذاته وبمعلوماته على سبيل الإجمال ، عين ذاته. فإنّه تعالى
لمّا كان بذاته علّة للمعلومات ، كان حضور ذاته بعينه حضور ذوات جميع معلوماته على
الاجمال ؛ وهذا العلم الإجمالىّ علم بسيط وحدانىّ إجماليّ
كمالىّ ، لا
بالقوّة على ما توهّم ، من حلّ معارضة وهمه عقله ، وهناك أيضا يتّحد العلم والعالم
والمعلوم. ولا فساد فيه ، كما يظهر على ذوى الفطرة القويمة.
وأمّا علمه تعالى
بالمعنى الثّالث بمعلولاته على سبيل التّفصيل ، فليس عينه ، بل عين معلولاته ،
ويتّحد هناك العلم والمعلوم فقط.
وعلمه تعالى
بالمعلومات ليس بأخذ صورة المعلوم ـ كعلمنا بالأمور الخارجة من ذواتنا الغير
الصّادرة عنّا ـ فإنّ معلومنا من هذه الأمور بالذّات هى الصّورة الذّهنيّة ،
والأمر الخارجىّ معلوم بالعرض ـ بل علمه تعالى بالأمور العينيّة والصّورة
الإدراكيّة بنفس ذواتها كعلمنا بأنفسنا وصفاتنا النفسانيّة ، والصّورة الذّهنيّة
المرتسمة في عقولنا ، والصّورة المرتسمة في القوى الآليّة للنفس ، لا تصوّرها لها
؛
فتكون معلولاته من
الأمور العينيّة والصّور الإدراكيّة في معلوميّتها له تعالى ، أو الصّور المعقولة
المرتسمة في الآلات في معلوميّتها لنا. فاحفظ ذلك ، لئلا تزلّ قدمك كسائر أقدام
العقول والأفهام.
ثمّ قد يقال : إنّ
علم النّفس أيضا بجميع الأشياء حضورىّ ، بناء على أنّ العقل ليس هو النّفس ، بل هو
قوّة للنفس ، كما أنّ الوهم والخيال وغيرهما آلات لها ؛ والمجرّدات ترتسم من العقل
، كما أنّ المادّيّات ترتسم من الآلات ، والقوى والعقل وسائر القوى حاضرة مع ما
فيها عند النفس ، فيكون علم النّفس بما فيها علما حضوريّا.
ولا يعجبنى هذا
الكلام ، فإنّه ، مع ما فيه ، من ظاهر الأمر ، يزيّفه أنّ النفس ليست قاهرة مع
القوى بتلك المثابة ، وإلّا كانت عالمة بحقائق ما هى عليه في نفس الأمر من مبدأ
الفطرة ، لكونها حاضرة عندها ، فلا يحتاج في العلم بحقائقها إلى اكتساب وفكر أصلا
، فإنّ العلم الحاصل بالاكتساب ما يكون علما تجدّديّا ، والعلم التّجدّدىّ لا يكون
علما حضوريّا. كما ارتكز من مدارك المحققين ، على ما فصّل في زبرهم ، فتأمّل.
والسّلام على من اتّبع الهدى. تمّت الرّسالة بعون الله الملك الوهّاب.
(٥)
برهان أخصر وأمتن
لتوحيد البارى تعالى.
ثمّ أقول : أخصر
براهين أعلى المطالب وأمتنها ، على ما استفدت من كلمات المعلّم
الثّالث المقلّب
بالشّيخ الرّئيس ، هو أن يقال : إنّ مفهوم واجب الوجود ـ وهو شيء ما ثبت له وجوب
الوجود ، أى شيء ما قام به وجوب الوجود ـ إنّما يطلق بالحقيقة على ما عرض له وجوب
الوجود ، أى شيء ما قام به وجوب الوجود. والبارى تعالى ليس شيئا ما قام به وجوب
الوجود ، بل هو الواجب الوجود البحت بنفس ذاته ، لا بوجوب ثابت له زائد على ذاته.
ولا نعنى بذلك أنّ
مفهوم وجوب الوجود الذي هو أمر اعتبارىّ ، عين ذاته تعالى ، بل المراد أنّ ذاته
تعالى ينوب مناب وجوب الوجود ، بمعنى أنّ مصداق حمل واجب الوجود عليه تعالى هو نفس
ذاته ، لا قيام وجوب وجود به.
فالمحمول عليه
تعالى حقيقة هو الحقيقة الواجبة الوجود بنفس ذاتها ، لا يجوز أن يكون عرضيّا لذات
الواجب تعالى ؛ ضرورة أنّ ثبوت العرضىّ في نفسه وللمعروض ، معلّل ، إمّا بنفس
المعروض ، أو بأمر خارج عن ذاته.
فلو كانت حقيقة
الواجب الوجود بنفسه طبيعة عرضيّة لذاته تعالى لكان ثبوت هذه الحقيقة له تعالى
معلّلا : إمّا بذاته ـ وحينئذ يلزم تقدّمه بالذّات على ذلك الثّبوت ، فلا يكون في
مرتبة التّقدّم ، أعنى مرتبة ذاته تعالى ، واجبا بالذّات ، ضرورة عدم المعلول في
مرتبة وجود العلّة ووجوبها ـ وإمّا بغيره تعالى ، وحينئذ يلزم احتياجه تعالى في
حقيقة وجوب وجوده إلى غيره ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
وأقول : أيضا
العرضيّات لا تثبت للماهيّة من حيث هى ، بل من حيثيّة أخرى غير حيثيّة الذّات. فلو
كانت الحقيقة الواجبة بذاتها من عرضيّاته تعالى لكانت مسلوبة عنه تعالى من حيث نفس
ذاته ، فلم يكن في حدّ ذاته واجب الوجود ، بل يكون شيئا ما متصفا بذلك ، هذا خلف.
فاتّضح بذلك : أنّ
طبيعة الواجب الوجود المحمول عليه تعالى حقيقة ـ أى الحقيقة الواجبة بنفس ذاتها ،
لا بوجوب زائد على الذّات ثابت لها بالمعنى الذي قرّرناه ـ ليست عرضيّة لذات
الواجب تعالى ، فإمّا أن تكون ذاتيّة له تعالى أو نفس ذاته تعالى ، لا سبيل إلى
الأوّل ، لاستحالة التّركيب ، فتعيّن الثّاني.
ووقتئذ نقول : قد
تقرّر أنّ تشخّص الواجب تعالى نفس ذاته. وأنا أبرهن عليه بأن
أقول : لو لم يكن
تشخّص الواجب تعالى عين ذاته ، لاحتاج في وجوده إلى ذلك التّشخّص ، ضرورة ، لا في
نفس حقيقته ، ضرورة أنّ الشّيء لا يحتاج في نفس ماهيّته إلى التّشخّص ، بل في وجوده
، فكان وجوده ما به الاحتياج إلى الشّخص دون نفس الذّات ، فلم يكن وجوده عين
الذّات ، هذا خلف
فتشخّصه وتعيّنه عين ذاته تعالى ، بمعنى
أنّ ذاته تعالى متشخّص بذاته ، من غير عروض تشخّص ومشخّص له تعالى ، يعنى مصداق
حمل المتشخّص عليه هويّته البسيطة ، لا عروض تشخّص له.
ولمّا كانت
الحقيقة الواجبة بنفس ذاتها على المعنى المتقرّر نفس ذاته تعالى ، فكانت تلك
الحقيقة والطبيعة أيضا متشخّصة بنفسها من غير عروض مشخّص وتشخّص لها ، فلا يتصوّر
فرض صدقها على كثيرين ، بمعنى تجويز العقل ذلك ، إذ العقل لا يجوّز صدق المتشخّص
بذاته على كثيرين.
وهذا معنى ما
تسمعهم يقولون : «ليس للواجب تعالى مفهوم كلّىّ يندرج حقيقته تحت ذلك المفهوم ، لا
بحسب الواقع ولا بحسب التصوّر أيضا» ، فإنّهم صرّحوا بأنّ الفرض الواقع في تعريف
الكلّىّ بمعنى تجويز العقل ، لا الاختراع. وحقيقة الواجب تعالى متشخّص بذاته ، فلا
يفرض العقل صدق حقيقته تعالى على كثيرين.
والحاصل : أنّه لو
تعدّد الواجب لكانت حقيقة الواجب الوجود وطبيعة وجوب الوجود ، أى الحقيقة الواجبة
، بنفسها ، لا بوجوب قائم بها ، محمولة عليها قطعا. وقد عرفت أنّها ليست عرضيّة
ولا ذاتيّة لذات واجب الوجود ، بل عين ذاته ونفس حقيقته ، فتكون هذه الطبيعة
والحقيقة نفس ذاتيهما ، مع أنّ فرض صدقها على المتكثّر بالعدد محال ، فضلا عن
صدقها بحسب الوجود الواقعىّ ، لكونها متشخّصة بنفس ذاتها ، فاعرف ، فإنّه لطيف.
وظهر في تضاعيف
تقرير الكلام : أنّ إطلاق وجوب الوجود عليه تعالى مجاز. معناه : أنّ الأثر
المترتّب على وجوب الوجود مترتّب على نفس ذاته تعالى ، كما أنّ إطلاق الوجود
المطلق عليه كذلك أيضا.
وأمّا إطلاق واجب
الوجود عليه ، فاعتبار نفس ذاته ، يعنى : مصداق الحمل ، ليس
أمرا غير ذاته.
كما أنّ إطلاق الموجود المطلق عليه بهذا الاعتبار أيضا.
وأمّا الحقيقة
الواجبة بذاتها ، فلا فرد لها سوى ذات الواجب تعالى. وإطلاق الفرديّة هاهنا على
سبيل التجوّز. فإنّ الحقيقة بنفسها عين ذات البارى ، لا كلّىّ صادق عليه وعلى غيره
، تعالى عنه.
وأمّا الواجب
الوجود ، بمعنى شيء ما ثبت وعرض له وجوب الوجود ، فليس محمولا عليه تعالى أصلا.
فاحفظه ، فإنّه حقيق بالحفظ ، والحمد لله ربّ العالمين على نعمائه الخارجة عن جهات
الإحصاء.
(٦)
حدوث العالم ، او
الجمع بين الرأيين للحكيمين
كتبه للسّيد منصور الكيلانيّ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أحمد الله ربّى
حمدا فوق حمد الحامدين ، كما يليق بكرم وجهه وعزّ جلاله. وأصلّي على سيّدى ومولاى
سيّد المرسلين وخاتم النبيّين وسادتى الطاهرين من عترته الأكرمين صلاة تبذّ صلوات
المصلّين إزاء لشروق مجدهم وسطوع كمالهم.
ثمّ أقول :
المشهور لدى العلماء والحكماء ، أنّ القول بأنّ العالم بأسره متعلّق الصّنع ، وأنّ
الجاعل الحقّ ، جلّ سلطانه ، صانع إيّاه جميعا بإبطال العدم الدّارج والإخراج إلى
الوجود العاقب على ما أجمعت عليه الفرق من أهل الملل والأديان وأصحاب المذاهب
والشّرائع ، انّما القائل به من أئمّة الفلسفة إمام الحكمة أفلاطون الإلهيّ
وأستاذوه الأساطين من قبل.
فأمّا معلّم
المشّائين أرسطوطاليس وأشياعه فليسوا يؤمنون بذلك ، بل إنّما يقولون بالتّشطير فى
العالم بالقياس إلى الصّنع والإبداع ، قائلين إنّ البارى الفعّال ، عزّ سلطانه ،
ليس هو بصانع لجملة العالم قاطبة ، بل هو مبدع للسرمديّات صانع للكائنات.
وعلى ذلك بنى
شريكنا السّابق ، شيخ مشائيّة الإسلام فى كتبه ، وعمل النّمط الخامس من كتاب «الاشارات»
فى الصّنع والإبداع ، وجعل الصّنع إيجاد الحادث المسبوق بالعدم ، بخلاف الإبداع ،
على ما هو سبيل الفلسفة المشّائيّة المشهوريّة.
وإنّ أقدم اللّذين
من رؤساء الحكماء فى الإسلام شاركانا من قبل فى تعليم الحكمة وتقويمها وتصحيح
الفلسفة وتتميمها ، وهو الشّيخ أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابىّ ، أصرّ
واستمرّ فى كتاب «الجمع بين الرأيين» على أنّ معلّم المشّائية أرسطاطاليس لم يخالف
أستاذه إمام الحكمة أفلاطون الإلهيّ ، فى حدوث العالم وكون البارى الحقّ صانعا له،
على أنّ صدوره عن إحداث البارئ الصّانع ، جلّ سلطانه ، إيّاه دفعة لا بحركة ولا
بزمان ولا آن ، وأنّه لم يجز فى أقاويله قطّ ما يستفاد منه القول بقدم العالم.
بل إنّما فى
أقاويله نفى البدو الزّمانىّ عن العالم. ومعناه : أنّه محال أن يكون لحدوث العالم
بدء زمانىّ وأن يكون حدوثه حدوثا زمانيّا فى زمان أو آن وعلى سبيل تدريج وتكوّن
شيئا فشيئا أو على سبيل الكون دفعة آنيّة ، بل إنّما حدوث الكلّ عن إرادة البارئ ،
سبحانه ، وعن إبداعه ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان وآن ولا عن شيء ومادّة. وذلك
هو بعينه ما ذهب إليه أفلاطون وبيّنه فى كتبه وجاءت به الشّرائع.
وليس لأحد من أهل
المذاهب والنّحل والشّرائع. وسائر الطّرائق من العلم بحدوث العالم وإثبات الصّانع
وتلخيص أمر الإبداع وأنّ الصّانع ، جلّ جلاله ، أحدث العالم عن إرادته لا بزمان
وحركة ولا عن شيء أصلا ، ما لأرسطاطاليس وقبله لأفلاطون ولمن سلك سبيلهما.
وقال : «إنّ الّذي
دعى هؤلاء إلى هذا الظنّ القبيح المستنكر بأرسطاطاليس الحكيم، هو ما قاله فى كتاب «طوبيقا»
: انّه قد تكون مسألة واحدة يؤتى بكلا طرفيها بأقيسة جدليّة. مثال ذلك : هل العالم
قديم أم ليس بقديم؟
وقد ذهب على هؤلاء
المختلفين أنّ الّذي يؤتى به على سبيل المثال لا يجرى مجرى الاعتقاد ؛ وأنّ غرض
أرسطوطاليس فى كتاب «طوبيقا» ليس هو بيان أمر العالم ، لكنّ غرضه بيان أمر
القياسات المتركّبة من المقدّمات الجدليّة. وكان قد وجد أهل زمانه يتناظرون فى أمر
العالم : هل هو قديم أو محدث ، كما كانوا يتناظرون فى اللّذة ، هل هي خير أم شرّ ،
وكانوا يأتون على كلا الطّرفين من كلّ
مسألة منهما
بقياسات ذائعة. فظاهر أنه لا يمكن أن ينسب إليه الاعتقاد بأنّ العالم قديم ، بهذا
المثال الّذي أتى به فى هذا الكتاب.
وممّا دعاهم إلى
هذا الظنّ أيضا ما يذكره فى كتاب «السماء والعالم» : «أنّ الكلّ ليس له بدء زمانىّ»
، فيظنّون عند ذلك أنّه يقول بقدم العالم. وليس الأمر كذلك ، إذ قد تقدّم فبيّن فى
ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعيّة والإلهية ، أنّ الزمان إنما هو عدد حركة
الفلك وعنه يحدث ، وما يحدث عن الشيء لا يشمل ذلك الشّيء.
ومعنى قوله : «أنّ
العالم ليس له بدء زمانىّ» ، أنّه لم يتكوّن أوّلا فأوّلا بأجزائه ، كما يتكوّن
البيت مثلا ، أو الحيوان الّذي يتكوّن أوّلا فأوّلا بأجزائه ، فإنّ أجزاءه يتقدّم
بعضها بعضا بالزمان ، والزّمان حادث عن حركة الفلك. فمحال أن يكون لحدوثه بدء
زمانىّ. وتصحّح بذلك أنّه إنّما يكون عن إبداع البارئ ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة
بلا زمان ، وعن حركته حدث الزّمان» ، (الجمع بين الرأيين ، ص ١٠٠ ـ ١٠١).
فهذا ما أزمع عليه
هذا الشّيخ الحكيم الشّريك مجامع همّته وألقى عليه شراشر رويّته وإنّا نحن قد
تجشّمنا حكاية عبارته على ما هي عليه بألفاظها وتراتيبها فى كتابنا «الصراط
المستقيم» ، وفى غيره من كتبنا.
ثم أوردنا أنّ
كلامه ممّا يحوج صيرفىّ القوّة النّظريّة إلى نقده.
فما حكى عن
أرسطاطاليس ، من نفى البدء الزّمانىّ عن الكلّ ، فهو أمر مستبين لا يكاد يستنكره
أحد من أولى العقل الصّريح ولا يتعداه الحقّ الصّراح. وذلك ممّا عليه اتفاق
الحكيمين الإمامين بل الحكماء الأثبات والعقلاء الثّقات جميعا.
ورهط من أبناء
سبيل الحقيقة يجرى فى كتبهم وأقاويلهم أنّه قد انعقد إجماع أئمّة الحكمة على قدم
العالم. ويعنون بذلك نفى الحدوث الزّمانىّ فى زمان أو فى آن عن الإنسان الكبير
الّذي هو جملة نظام العالم ، وإبطال حدوث الكلّ عن عدم ممتدّ زمانىّ يسبق الوجود
سبقا مكمّما زمانيّا وعن إحداث تدريجىّ وتكوين بحركة ، كما فى فعل الهيولانيّات
وأفاعيلها.
ولا يزيغ عن
السبيل ولا يذهب إلى القول بحدوث الكلّ حدوثا زمانيّا كيانيّا فى
زمان أو آن عن عدم
ممتدّ لا إلى بداية إلّا فريق من المتهوّسين فى الدّورة اليونانيّة وجماهير
المتكلّفين فى الملّة الاسلامية. ومن يفقه أنّ الزّمان نفسه لا يعقل له وجود ولا
عدم فى زمان أو آن وكذلك الجواهر المجرّدة المفارقة لعالمى الزّمان والمكان ليس
يتفوّه بتسويغ ذلك.
وأمّا ما خمّن : «أنّ
أرسطاطاليس يعنى بإثبات القدم نفى البد الزمانىّ ويقنعه ذلك ، وأنّه ليس يحيد عن
سبيل استاذه إمام الحكمة فى حدوث الكلّ عن إرادة البارى ، جلّ سلطانه ، وإبداعه
وإحداثه إيّاه دفعة لا بزمان وحركة».
فذاك قول مبهرج
وظنّ بهرج. أليس أرسطاطاليس فى غير موضع واحد من كتبه الإلهيّة والطبيعيّة ينصّ
على أنّ الإنّيّات الشّريفة المبدعة ليست مسبوقة بعدم فى الأعيان أصلا ، بل إنّما
مسبوقيّتها بذات الفاعل الأول فقط ، وتأخّرها عن الحق الأول تأخّر بالذّات لا غير
، وأنّ الكائنات الفاسدة كائنة عن الفاعل الأول الحقّ من بعد لا كونها فى الأعيان
الخارجة ومتأخّرة عنه ، سبحانه ، تأخّرا بالذات وتأخّرا بالوجود فى الأعيان جميعا
، ولا اختلاف عليه فى ذلك أصلا.
ولم يدع الظّانّين
به أنّه يقول بأزليّة العالم إلى ظنّهم. هذا ما قاله فى كتاب «طوبيقا». كيف وليس
فى ما قاله فى كتاب «طوبيقا» ، إلّا أنّ مسألة قدم العالم أو حدوثه بكلا طرفيها
جدليّة البيان غير برهانية التبيان. إذ بيانات الأقوام المتناظرين عليها فى كلا
الطرفين قصاراها أن تكون دلائل احتجاجيّة من مقدّمات ذائعة غير مقنعة ولا مثلجة
إلّا للقلوب المشهوريّة وقياسات جدليّة محمودة من أوضاع مسلّمة متسلّمة من الخصوم
، غير مقنعة إلّا للعقول الجمهوريّة ، ولم يأت الفريقان ولا واحد منهما بأقيسة
برهانيّة حقيقيّة وبراهين يقينيّة فاعلة نافذة القضاء على العقول الصّريحة الحقّة
والقرائح الشاهقة الملكوتية.
ولقد اكثر شريكنا
الماتع البارع أيضا من التّنصيص على ذلك فى كتبه ومعمولاته ، واستكثر من تكريره فى
طوبيقا «الشفاء» وطبيعيّة وإلهيّة ، وفى كتاب «النجاة» وفى كتاب «التعليقات» وفى
كتاب «المبدأ والمعاد» وفى رسالته المعمولة فى «قدم العالم».
وفى أولى طوبيقا «الشفاء»
، فى فصل الفرق بين المقدّمة الجدليّة والمطلب الجدليّ ،
نقل عن التعليم
الأول :
«أنّ المطلب
الجدليّ هو ما قد اختلف فيه فريقان من الفلاسفة واستمرّ فيه التشاجر والتناظر فى
ما بينهم ، وبالجملة ما يقع فيه شكّ وهو فى نفسه موضع الشكّ ، إمّا لتقاوم الحجج
وتكافئها وإمّا لفقدان الحجج فى الطرفين جميعا ، مثل حال العالم : أهو أزليّ أم
ليس؟ وإمّا لبعد الحجج فيه عن الأمر المشهور. وهو ما لا يكون عليه قياس من
المشهورات ويكون القياس عليه من الأوّليّات بعيدا ، مثل : أنّه هل زاوية نصف
الدائرة قائمة أم لا؟ والأحرى أن يكون ما تبعد حجّته ليس بمطلب جدلىّ ، لأنّ إلى
البرهان عليه سبيلا من الأوليّات ، وإن كان بعيدا فهو فى نفسه ليس بموضع الشك» ، (ص
٧٦).
فقد استبان أنّ
أزليّة العالم وحدوثه مطلب جدلىّ فى زعم ارسطاطاليس ، لأنه فى نفسه موضع الشّكّ ،
على ما قاله فى «التعليم الأول» ، فكيف يكون هذا الكلام منه داعيا إلى أن يظنّ به
القول بأزليّة العالم.
ولا أيضا دعى
هؤلاء الظانّين بالمعلّم أرسطاطاليس هذا الظنّ إلى ظنّهم هذا ما قاله فى كتاب «السماء
والعالم» : «أنّ الكلّ ليس له بدء زمانىّ».
فمن المنصرح للعقل
الصّريح الملقّح بلقاح الحكمة : أنّ ذلك إنّما يحيل ، كما ذكره هذا الشّريك الشّيخ
المعلّم أن يكون لحدوث الكل بدء زمانىّ من عدم ممتدّ موهوم مستمرّ إلى حين وجود
العالم على ما هو الطريقة المعروفة المألوفة للطبائع العاميّة الوهمانيّة
والمسلوكة لأمم من الأوائل من متفلسفة الفلسفة المشوّشة النيّة فى العصور
اليونانيّة وغيرهم ولجماهير الأواخر من متكلّفة المتوهّمين المنتمين إلى الملّة
الحنيفيّة الإسلاميّة ، لا أن يكون حدوث الكلّ من بعد العدم الصّريح الباتّ
السّاذج فى متن الواقع وحاقّ الأعيان الخارجة لا بزمان ومكان ولا بامتداد ولا بلا
امتداد عن علم البارئ الفعّال ، سبحانه ، وعنايته وإرادته وفعاليّته وإبداعه
وإحداثه إياه دفعة دهريّة ، لا بزمان وآن ولا بحركة ورويّة وتفكر وهمامة ، على ما
هو مذهب إمام اليونانيّين أفلاطون الإلهيّ ومن ساهمه من أئمّة الحكمة الحقّة
السّويّة.
ولكنّهم إنّما
دعاهم إلى هذا الظنّ بأرسطاطاليس المعلّم ما قد تكرّر منه فى كتاب
«اثولوجيا» وفى
كتاب «مطافوسيقا» وفى سائر كتبه ورسائله الإلهيّة والطبيعيّة وفى مفاوضاته
ومياوماته إلى ذى القرنين الإسكندر بن فيلقوس ملك الروم بعبارات شتّى وتعبيرات
تترى :
إنّ البارئ الحقّ
، سبحانه ، هو الفاعل الأوّل للعقل والنّفس والطبيعة وسائر الأشياء كلها. وهو ليس
يفعل أفاعيله شيئا فشيئا بحركة وتدريج ، بل إنّما يفعل فعله من الصّدر إلى السّاقة
دفعة واحدة ، لأنّه ليس يلقى بصره فى فعله وصنعه إلى شيء وراء ذاته ولا ينتظر أمرا
غير علمه بوجه الخير فى نظام الوجود ، الذي هو عين ذاته ، غير أنّه يفعل الكائنات
الدّاثرة دفعة واحدة دهريّة ، والإنيّات المبدعة الشريفة الثابتة دفعة واحدة
سرمديّة ؛ وأنّ الكائنات والدّاثرات بالقياس إلى البارئ ، سبحانه ، وفعله وصنعه
إيّاها فى حيّز الدّهر ، والإنيّات الثابتة الشّريفة ، وإبداعه إيّاها فى حيّز
السّرمد ، وأنّ الرّءوس الثلاثة التي عنها الكون ، وهي مبادئ الكائنات ، هي
الهيولى والصّورة والعدم لا بزمان ولا بمكان ، وأنّ الزمان سرمديّ الوجود ،
والحركة الّتي هي محلّ الزّمان ومنها وجود الزّمان سرمديّة الوجود ، والطبيعة
الخامسة خلقها الله ، سبحانه ، بالأبد لا بالزمان ، وأنّ الكائنات بالقياس إلى
عالم الثّبات فى حيّز الدّهر وبقياس بعضها إلى بعض فى حيّز الزّمان ، والثّابتات
كلّها فى حيّز السّرمد ؛ وأنّ النّفس ما دامت منغمسة فى جنبة البدن فهى فى حيّز
الزّمان ، فإذا فارقت الجهات والأبعاد ورجعت إلى عالمها صارت إلى حيّز الدّهر ؛
وأمّا العقل فإنّه يكون فى حيّز السّرمد.
وأيضا النّقل
المستفيض المتواتر عن كبراء تلامذته وأصحابه وشركائه وأترابه ، كثامسطيوس
وثاوفرسطس والإسكندر الأفروديسىّ ، وكبرقلس وديوجانوس وزينون والشّيخ اليونانىّ :
أنّه أجهر وأعلن بحيوده عن سبيل أستاذه أفلاطون الإلهيّ فى إثبات حدوث العالم
وإحالة حوادث لا أوّل لها.
وحكى يحيى النحويّ
، وهو من قدماء فلاسفة الإسلام وكبرائهم عن برقلس : أنّ أوّل من قال بقدم العالم
ووجود حوادث متسابقة لا أوّل لها هو أرسطاطاليس.
وهذا أمر قد أطبقت
عليه مهرة حملة العلم والفلسفة العارفون بمذاهب الأوائل وطرائقهم وإثبات
الأخباريّين من ثقات المورّخين المستقصين لأحوالهم وأقوالهم.
واستصحّه شريكنا
الشّيخ البارع الرّئيس وغيره من شركائنا البارعين. وكذلك الشهرستانىّ صاحب «الملل
والنحل» ، وقد فصّل القول فيه تفصيلا بالغا فى كتاب «نهاية الإقدام» ، وفى كتاب «الملل
والنحل» وفى كتاب «المصارعة».
ونحن نقول : إنّ
كلمات أرسطاطاليس فى هذه المسألة العوصاء الّتي هي أساس الأسس وأسّ الأساس متدافعة
متناقضة جدا ، ولا يكاد يعلم ممّا قد وقع إلى وبلغنى من كتبه ومقالاته وزبره
ومعمولاته اعتقاده الّذي كان يؤثره ويدين به فى هذه المسألة ، وقد نصصنا فى كتبنا
وصحفنا على أنّ ما احتجّ أفلاطون :
«أنّه إذا صحّ حكم
الحدوث على كل واحد واحد ، صحّ لا محالة على الجميع وعلى الطبيعة المشتركة بتّة»
مستقيم الصحّة مستيقن الاستقامة فى الحدوث الدّهريّ ، لا فى الحدوث الزّمانىّ بحسب
صحّة تجدّد الكون فى امتداد سيلان التقضّى والتّجدّد ؛ وأوضحنا الأمر بانحفاظ
الطبيعة الورديّة فى تعاقبات أفراد الورد على الاستمرار المتصل المحدود مدّة
محدودة ، لا قبلها. ومن هناك سمّيناه : البرهان الورديّ».
وأمّا أصحاب
المدارك العاميّة الوهمانيّة من الجماهير والمتكلفين فقد حرّفوه عن موضعه وبه
قاسوا الأمر فى الحدوث الزّمانىّ أيضا. وذلك إن هو إلّا قياس فاسد وتخمين باطل
وتحريف قبيح ، لا يصغى إليه ولا يعذر عليه.
وبالجملة ، تسوية
سطح الحجّة ونصب مقياس اليقين وإيفاء حقّ القول الفصل وإنضاج نىّ الأمر من سبيل
العقل المضاعف فى مسألة حدوث العالم والإتيان بالبرهان اللّمّىّ الباتّ الفاصل
عليها من جملة ما قد كانت مرهونة بذمّتنا ومخصوصة من رحمة الله وعنايته وفضل الله
وطوله بقسطنا. وقد بسطنا تعليمها وتتميمها وتصحيحها وتقويمها فى كتبنا وصحفنا
ومقالاتنا ومعلّقاتنا. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.
كتب بيمناه
الدّاثرة مسئولا أحوج المربوبين إلى الربّ الغنىّ محمد بن محمد ،
يدعى باقر
الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا فى عام
١٠٢٠ من الهجرة المقدّسة. وهو من اماجد الأولاد الرّوحانيّة وأفارد الأصحاب
الرّوعانيّة محفوفا بالسّعادة الأبديّة والبهجة الإلهيّة .
(٧)
(تعليقة على الجمع
بين الرأيين للفارابى)
«لا شكّ أنّ حدوث
الكلّ من إبداع البارى ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان ، هو الحدوث الدّهرىّ
للكلّ بتّة. ولكنّ النّظر فى أنّ أرسطاليس يقول به وفاقا لأستاذه الأكرم الإمام أم
لا؟ فإنّ عدم القول بالحدوث الزمانىّ لا يستلزم القول بالقدم الدهريّ أصلا. والذي
يظهر من أقاويل أرسطوطاليس أنّه لا يقول بحدوث الكلّ حدوثا دهريّا ، أى : حدوثه عن
إبداع البارى ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان ، بل يقوم بقدم بعض العالم ، أعنى
المبدعات قدما دهريّا.
أيضا منه :
فالمشهور عند أرسطاطاليس أنّ الصّنع والإبداع متقابلان متباينان بحسب المفهوم
وبحسب التّحقّق جميعا. فالصّنع هو الإيجاد المسبوق بالعدم ، بخلاف الإبداع. والبارى
الأوّل ، سبحانه ، صانع الكائنات التي هي الحوادث ، ومبدع المبدعات التي المعلومات
السّرمديّة. فهو تعالى غير صانع للعالم بأسره ، بل إنّه صانع لبعض العالم ، ومبدع
لبعضه. والشّيخ الرّئيس قد اقتفى أثره فى كتاب «الإشارات» وعمل النمط الخامس فى
الصّنع والإبداع. وأمّا عند أفلاطون وشيعته ، فالعالم بأسره محدث مصنوع ، صانعه
وموجده من بعد عدمه هو الله ، سبحانه ، والكائنات حادثة حدوثا زمانيّا أيضا ،
ومسبوقة بمادّة ومدّة بخلاف المبدعات ، والشّيخ المصنّف قد حاول بيان اتّفاق
الحكيمين إطباقا على القول الأخير». نقل بواسطة من خطّه ، رحمهالله تعالى.
(٨)
تعليقة على أنموذج
العلوم للدوانيّ
هو المتوكل عليه
في جميع أمورى قال العلم المحقق الدّوانىّ في رسالة «أنموذج العلوم» : «المسألة
التاسعة من المنطق :
__________________
استدلّ الشّيخ
الرّئيس في «الشفاء» على أنّ التّصوّر لا يفيد التّصديق ، بأنّه لو كان هذا الفرد
المتصوّر ، سواء كان موجودا أولا ، مفيدا للتّصديق فهو ليس موجبا له ، لأنّ ما لا
يختلف حال الشّيء بوجوده وعدمه فهو ليس علّة له ؛ وإن كان لوجوده مدخل في الإفادة
، فلا يكون مفردا ، بل قضيّة.
وأقول : فيه بحث :
أمّا أوّلا ، فلأنّه منقوض بإفادته التّصوّر ، فإنّ المقدّمات جارية فيها ؛ وأمّا
ثانيا ، فلأنا نقول : هذا المفرد بوجوده الذّهنىّ ربما يفيد التّصديق من غير أن
يصدق بوجوده ، كما في إفادته التّصوّر بعينه ، فظهر أنّ ما ذكره مغالطة .. ومثل
ذلك غريب عن مثله» ، انتهى ما ذكره في هذه المسألة بعبارته.
وأذعن بعض
المدققين ممّن تأخّر عنه بقوّة هذين الإيرادين وورود هما على الرّئيس ، بل على
قاطبة المحققين المستدلّين على القاعدة المذكورة بهذا الدّليل.
والأستاذ غوث الحكماء
لم يذكر في شرح تلك الرّسالة وجها لدفعهما أصلا. وبالجملة لم يصل إلى إلى الآن من
أحد من الفضلاء شيء في الجواب عنهما.
أقول : وضعفهما
ظاهر ، فإنّ التّصديق إذعان بثبوت المحمول للموضوع أو سلبه عنه ، وحقيّة النّسبة
الإيجابيّة أو السّلبيّة بينهما بحسب الواقع وفي حدّ نفسها ، مع قطع النّظر عن
خصوص الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ.
فإنّا إذا قلنا ،
مثلا : «زيد قائم» ، كان التّصديق هناك إذعان تحقّق النّسبة الإيجابيّة بين
الموضوع والمحمول في حدّ نفسها ، مع قطع النّظر عن وجودها الذّهنىّ التّصوّرىّ ،
لا إذعان تحقّق النّسبة في الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ فقط ، حتى يكون مفاد الحكم
أنّ تلك النّسبة الإيجابيّة متصوّرة. إذ ذاك ليس تصديقا بقيام زيد ، بل بأنّ قضيّة
«زيد قائم» متصوّرة ، والقضيّة حينئذ قولنا «قضيّة زيد قائم متصوّرة» ، لا قولنا :
«زيد قائم».
ثمّ التّصديق
حينئذ إذعان تحقّق النّسبة الإيحابيّة بين قولنا «قضيّة زيد قائم» وبين قولنا : «متصوّرة»
في حدّ نفسها ، لا بحسب الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ فقط ، إذ ذاك أيضا ليس تصديقا
بتحقّق تلك النّسبة الإيجابيّة ، بل يكون قولنا «قضيّة زيد قائم متصوّرة» متصوّرا.
ولمّا تحقّق ذلك ،
ظهر : أنّ المفرد المتصوّر ـ من حيث هو متصوّر ، أى بحسب خصوص الوجود الذّهنىّ
التّصوّرىّ ، سواء كان متحقّقا في حدّ نفسه أولا ، أعنى من دون أن تعتقد النّفس
تحقّقه فى نفسه ـ لا يفيد التّصديق ، أى الإذعان بتحقّق نسبته بحسب نفس الأمر ، مع
قطع النّظر عن الوجود التّصوّرىّ ، وإلّا لزم جواز تحقّق المعلول بدون تحقّق علّته
، إن أفاد التّصديق بحسب كونه متحققا ، لا بحسب كونه متصوّرا ، فالتّصوّر لم يفد
التّصديق، بل الإذعان بتحقّق ذلك المتصوّر أفاد تصديقا آخر.
وأمّا المتصوّر من
حيث هو متصوّر ، فلمّا لم يعتبر فيه من تلك الحيثيّة تحقّق في نفسه ، مع قطع
النّظر عن الوجود الذّهنىّ أصلا ، جاز أن يفيده من تلك الحيثيّة متصوّر آخر من حيث
كونه متصوّرا بحسب خصوص وجوده التّصوّرىّ ، سواء اعتبر له تحقق في نفسه مع قطع
النّظر عن هذا الوجود التّصوّرىّ أو لا ؛ لأنّ المعلول لمّا لم يكن إلّا الوجود
التّصوّرىّ لمفهوم فجاز أن يكون علّته الوجود التّصوّرىّ لمفهوم آخر ، فبان اندفاع
الإيرادين معا.
أمّا النّقض ،
فلأنّ مقدّمات الدّليل غير جارية في إفادة تصوّر مفهوم تصوّر مفهوم آخر ، لأنّ
حاصل الاستدلال : أنّ التّصديق لمّا كان إذعان تحقّق النّسبة ، مع قطع النّظر عن
خصوص الوجود الذّهنىّ التّصوّرىّ ، فلا يجوز أن يفيده خصوص الوجود الذّهنىّ
التّصوّرىّ لمفهوم ، سواء اعتبر تحقّق ذلك المفهوم في نفسه أولا ؛ لأنّ ما لا
يختلف عند العقل بتحقّقه وعدم تحقّقه حال شيء ، لا يكون علّة عند العقل لذلك
الشّيء.
وأمّا التّصوّر ،
فلمّا لم يكن إلّا ارتسام شيء في الذّهن ، سواء كان للمرتسم مع قطع النّظر عن ذلك
الارتسام والوجود التّصوّرىّ تحقّق في نفسه أولا ؛ جاز أن يكون مفهوم آخر بحسب
ارتسامه في الذّهن ومن حيث خصوص وجوده الذّهنىّ التّصوّرىّ الارتسامىّ علّة له ،
سواء اعتبر له تحقّق ، مع قطع النّظر عن هذا الارتسامىّ أو لا. إذ ليس للمعلول مع
قطع النّظر عن هذا الوجود تحقّق في اعتقاد النّفس ، حتّى إذا لم يعتبر للعلّة
تحقّق ، لزم أن يكون ما لا يختلف حال الشيء بتحقّقه وعدم تحققه في نفسه علّة لذلك
الشيء ، بل المعلول ليس إلّا هذا الوجود الارتسامىّ ، فجاز أن يكون الوجود
الارتسامىّ لشيء آخر علّة له.
وأمّا الإيراد
الثّاني ، فلأنّ التّصديق بشيء ليس هو الوجود الذّهنىّ الارتسامىّ لذلك الشّيء فقط
، بل هو اعتقاد تحقّق ذلك الشّيء في نفسه ، مع قطع النّظر عن الوجود التّصوّرىّ ،
فكيف يجوز أن يكون مفهوم بحسب خصوص وجوده التّصوّرىّ ، مع عدم تحقّقه في نفسه
مفيدا له. كيف ، والمعلول تحقّق الشّيء في نفسه ، فيجب تحقّق العلّة في نفسها
ليتحقّق ذلك المعلول ، وإلّا لزم الفساد الّذي أشار إليه الشّيخ.
وبهذا المبلغ من
الكلام يظهر انعكاس تشنيع المحقق على الشّيخ ، ولاح في تضاعيف ما ذكرنا وجه وجيه
لقولهم : «لا مطابقة في التّصوّرات أصلا» ، بمعنى أنّ التّصوّرات لا تحتمل
المطابقة وعدمها ، والمقابلة بين المطابقة وعدمها تقابل العدم والملكة ، فخلوّ
الموضوع الغير القابل عنهما جائز ، وذلك ، لأنّ التّصوّر هو الوجود الارتسامىّ
للشىء مع عدم اعتبار تحقّق أو لا تحقّق للمرتسم في نفسه ، مع قطع النّظر عن هذا
الوجود التّصوّرىّ الارتسامىّ ، فلا يعقل هناك مطابقة ولا لا مطابقة.
والتّصديق هو
الحكم بتحقّق الشّيء مع قطع النّظر عن الوجود التّصوّرىّ ، فله لا محالة مطابق
خارج عن اعتبار الذّهن ، وإن كان ذلك المطابق نفس ذلك الشّيء الموجود في الذّهن من
دون اعتبار خصوص وجوده الذّهنىّ ، فإن طابق الحكم المطابق كان صادقا ، وإلّا كان
كاذبا. فاندفع الإيراد المشهور على قولهم : «التّصوّرات لا تحتمل المطابقة ولا
عدمها». فتأمّل وكن على بصيرة في أمرك. وهذا من سوانح الوقت لساطر الأحرف.
(٩)
تعليقة على حكمة
الإشراق
كتبه للأمير أبو الحسنا الفراهانى
بسم الله الرحمن الرحيم ، والثّقة بالله العزيز العليم
بعد الحمد لواهب
الحياة ومفيض العقل حقّ حمده ، والصّلاة على عفوة الخليقة وناصية عالم الإمكان ،
سيّدنا ونبيّنا محمّد وعترته ، القدّيسين السّبّيقين ، وحامّته الأقربين ،
القائمين بالأمر من بعده.
سمير ضمير مستنير
مى دارد كه مرتبه تشوّق شراشر مشاعر ، ودرجه انجذاب أوراق باطن وظاهر ، به صحبت
عالم علوى بهجت حضرت سيادت ونجابت پناه ،
حقايق ودقايق
دستگاه ، غوامض واسرار آگاه ، افادت وافاضت انتباه ، فذلكه مراتب الربّيّين ،
فهرست كتاب ملكوتيّين ، سليلنا الرّوحانيّ وخليلنا العقلانىّ ، سماء لأرض السّيادة
والإفادة ، سناما لسماء الجلالة والحقيقة «أمير أبو الحسنا» ، أسبغ الله إكرامه في
النّشأتين ، وبلّغه قصيا الغايات في إسباغ القوّتين ، وراى وسع خامه احصاء وخارج
از اندازه دور فرجاء تناهى است. اگرچه مفارقت صورى جسمانى حاجز اتصالات حقيقيّه
روحانيّة نيست ، كه بعد الأبدان عن الأبدان لا يحجب النّفوس عن النّفوس ، ولكن
تقارب الأشباح طلسم تعانق الأرواح ، وتخاطب مجلس الأنس مغناطيس رشح الفيض ، قشع
الله سبحانه بفضل رحمته بيننا وجمع بطول رأفته بيننا.
[١] در طىّ مفاوضه
مبهجه ومكاتبه بهيجه ، استكشاطى رفته بود ، از سرّ آنچه محيى آثار الرّواقيّة وشيخ
أتباع الإشراقيّة ، در سابع خامسه كتاب «حكمت إشراق» بهذه العبارة گفته است :
«وقّع الله في
السّفر ، وقضى إلى الرّوح الأمين : إنّه ليجيب دعوة كلّ مغلوب بالظّلامة ، وكلّ ذى
نظافة يطلب التّظلّم لرضى الله ، وإنّه لينصر الصّابرين على بأساء أبناء الشّياطين
، وليلبس الفاجر سر بال النّار».
تأمّلى كه در حمل
جمله أخيره بر طريقه «تناسخ» فرموده اند ، در موضع استقامت ومحزّ اصابت واقع آمده
است ، سياق ساقت عبارت اشارت است به آنچه در تنزيل كريم ، در سوره مباركه «حجّ»
وارد شده : (قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ مِنْ نارٍ) ، ودر سوره مكرّمه «ابراهيم» : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى
وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ، ودر دعاى «وضوء» در غسل شمال وارد است : «وأعوذ بك من
مقطّعات النّيران». وبه هيچ وجه نسبتى به حكايت مسلك تناسخ ندارد. وهمچنين شيخ
مصنّف اين كتاب از عقيده اصحاب تناسخ واعتقاد صحّت آن بريء السّاحة وناصح الجيب مى
نمايد ، على ما وقع إلينا من زبره ، وبلغنا من أقاويله ، والله العليم ، عزّ
سلطانه ، أعلم.
[٢] واز رموز
تعريف علم منطق ، كه شارح محقّق علّامه ، در شرح كتاب ذكر كرده است نيز استكشاف
فرموده اند. رمز مذكور عبارت شريكنا السّالف ، رئيس مشّائية الإسلام است. ضوعف
قدره ، كه در رساله «حيّ بن يقظان» از علم منطق به آن تعبير
كرده است. وشارح
الإشراق ، قطب فلك التّحصيل والتّحقيق ، آن عبارات را بمادّتها وسنخها ، لا
بصورتها ونظمها آورده است. وها هى بهذه الألفاظ في «شرح الإشراق» :
«عين خرّارة ، من
شرب من مائها وتطهّر بها ، سرت في جوارحه منّة مبتدعة طويت له بها المهامة ، ولم
يتكأده جبل قاف ، ولم تزبنه الزّبانية ، فدهدهته إلى الهاوية ، ويخفّ على الماء
حمله ، ولا يغرق في البحر المحيط ، وهو في جوار عين الحيوان الرّاكدة ، من اغتمر
فيها لم يمت» (ص ٣٠).
وفي رسالة «حيّ بن
يقظان» بهذا النّظم وعلى هذه الصّورة :
«المكتسبون منّة
لم تتأتّ للبشر بالفطرة ، وممّا يفيدها الاغتسال بعين خرّارة فى جوار
عين الحيوان
الرّاكدة ، إذا هدى إليها السّائح فتطهّر بها وشرب من فراتها ، سرت في جوارحه منّة
مبتدعة طويت له بها تلك المهامة ، ولم يرسب في البحر المحيط ، ولم يتكأده جبل قاف
، ولم تزبنه الزّبانية ، فدهدهته إلى الهاوية» ، انتهى كلامه ، (ص ٤٦).
فلنشرح مطاويه ،
ولنحلّ رموزه : خرير الماء : صوته ، والعين الخرّارة : هى الشديدة النّبوع الكثيرة
الجريان. وعين الحيوان الرّاكدة ، الّتي من اغتمر فيها بل من تغمّر من مائها لم
يمت ولم يكن يذوق مرارة الموت أبدا هى الفلسفة الأولى ، الّتي هى العلم الإلهيّ ،
وعلم ما فوق الطبيعة ، وسيّد العلوم ، ومخدومها ، ومستخدمها. وكون العين الخرّارة
في جوار عين الحيوان الراكدة كناية عن أنّ المنطق من فروع العلم الإلهيّ ، لا من
أجزائه ولا من جزئيّاته ، على ما قد استبان في فنّ البرهان ، أعنى انولوطيقا
الثانية ، وقد أوضحناه نحن في صحفنا وتعاليقنا.
و «المنّة» بضمّ
الميم وتشديد النّون ، معناها : القوّة ، والقدرة ، والملكة.
و «المهامة» ، جمع
المهمهة : الفلاة القفر والمفازة البعيدة. والمراد بها طرق الفحص ومسالك البحث.
وفيا في النظر
وفلوات الاقتناص ، هي مداحض العلوم وغوامض المعارف بأسرها.
و «البحر المحيط»
: الحركة الفكريّة وقانون الاصطياد بها. و «الرسوب» فيه :
اقتحام عقبات
الغلط والتورّط في مغامر الخطأ باتّباع سبيل الغىّ بالظنون والحسبان.
و «لم يتكأده» :
أى لم يشقّ ولم يثقل عليه حمل جبل قاف ، أى إصابة الحقّ ونيل الكنه في جميع العلوم.
و «الزّبن» :
الدّفع ، ويسمّى فرق من الملائكة بالزّبانية ، لدفعهم أصحاب الشّمال إلى النّار.
والزّبانية ، هنا : الشّكوك والأوهام والغرائز الجسمانيّة والقرائح الهيولانيّة.
و «الدّهدهة» :
الدّحرجة. و «الهاوية» : الشّقاوة الأبديّة ، أعاذنا الله وسائر آل العقل وحزب
الحقّ منها.
و «السّائح» :
المهديّ إلى العين الخرّارة هو المبتغى لعين الحيوان الراكدة ، المستعمل لقوّته
النّظريّة في مسالك اقتناص مباديها المنتهية إليها.
و «الفرات» :
الماء العذب السّائغ القراح. و «التطهّر» بالعين الخرّارة ، و «الشرب من فراتها» :
إماطة أخباث الطّبيعة وأدناس الهيولى ، ورفع أحداث القوّة الوهمانيّة ، واستيقان
الأصول العقليّة ، واستتقان القوانين البرهانيّة.
ضمان تحقيق حقائق
، وتعهّد كشط خفيّات ، وكشف أغطيه ، وتوضيح مغامض ، بفضل الله العظيم ، سبحانه ،
در فنون علوم يقينيّه ، وابواب احكام دينيّه ، بر ذمّت محرّرات ومهلّقات اين ناسك
مناسك تعطّش واشتياق است. قوّة نظريّه انسان متألّه متبصّر را كبريت احمر واكسير
اكبر وجدوار اتمّ وترياق اعظم مطالعت صحف وملازمت مصنّفات مخلص است.
اوقات خجسته ساعات
عزيزة الآنات خود را صرف تحصيل وخرج سبيل آن نمايند ، كه جادّه صقع اقليم حقّ ،
ونردبان ذروه عالم قدس آمده است.
زياده ، اطناب نمى
رود. ثواقب كواكب فضل وافضال از مشرق اعتدال ربيعى أفق احوال بهجت منال سعادت مآل
راقب وثاقب ، وبارق وشارق ، وطالع ولامع باد.
وكتب مسئولا ،
بيمناه البائدة الدّاثرة ، أفقر المربوبين وأحوج المفتاقين إلى رحمة ربّه الحميد
الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر بن الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له في
نشأتيه بالحسنى ، عام ١٠٢٩ ، من الهجرة المقدّسة النّبويّة ، حامدا ، مصلّيا ،
مسلّما.
ختم الله له
بالحسنى عام ١٠٥٣ ، من الهجرة النّبويّة ، حامدا ، مصلّيا. في التاريخ المذكور.
وسمع من أوّله
وآخره من المصنّف ، مدّ ظلّه العالى ، از مقام حيدرآباد ، في قلعة كلكنده. (كتابخانه
مدرسه سپهسالار ، مجموعه ، ش ٢٩١٩. مجلس ، ش ...).
(١٠)
تعليقة على الشّرح
العضديّ لمختصر أصول الحاجبيّ في الدّلالات
كتبه لتاج الدّين حسين الطوسىّ
في الشّرح العضدىّ
لمختصر الأصول ، في مبحث الدّلالات :
«الدّلالة
الوضعيّة ، منها لفظيّة ، بأن ينتقل الذّهن من اللّفظ إلى المعنى ابتداء : وهى
واحدة. لكن ربما تضمّن المعنى الواحد جزءين ، فيفهم منه الجزءان ، وهو بعينه فهم
الكلّ ، فالدّلالة على الكلّ لا تغاير الدّلالة على الجزءين مغايرة بالذّات بل
بالإضافة والاعتبار. وهى بالنّسبة إلى كمال معناها تسمّى مطابقة ، وإلى جزئه
تضمّنا. ومنها غير لفظيّة ، بل عقليّة ، بأن ينتقل الذّهن من اللّفظ إلى معناه ،
ومن معناه إلى معنى آخر ؛ وهذا يسمّى التزاما» ، انتهت عبارته.
أقول : لا امتناع
في أن يكون شيء واحد بأحد الاعتبارين علّة لنفسه بالاعتبار الآخر ، كما تقرّر في
مدارك المحققين ، إذ مرجع ذلك حقيقة إلى عليّة أحد الاعتبارين للآخر ، على ما صرّح
به الشّيخ الرئيس في كتاب «النّجاة».
وحينئذ نقول :
يمكن أن يكون دلالة التّضمّن ، باعتبار كونها تضمّنا ، مستندة إلى دلالة المطابقة
باعتبار كونها مطابقة وبواسطتها وبتبعيّتها ، بل الأمر على هذا النّمط.
فكما أنّ دلالة
الالتزام ، لكونها بواسطة المعنى الموضوع له ، خارجة عن اللّفظيّة بالتّفسير
المذكور ، فكذلك دلالة التّضمّن ، لكونها بواسطة المطابقة لا ابتداء ، خارجة عنها
بذلك التّفسير. فلا فائدة لاتّحاد الدّلالتين ذاتا واختلافهما اعتبارا ، إذ مع ذلك
لم يلزم اندراج دلالة التّضمّن في اللّفظيّة ، فتأمّل.
حرّر ما تضمّنته
الأوراق أقلّ الخلائق خلالا وخصالا محمّد باقر بن محمد الحسينىّ ، المشتهر بداماد
، في شهر شوّال المنسطرة حروف أيّامه ولياليه ، طىّ صحيفة عام ٩٩٢ ، امتثالا لأمر
الصّاحب الأعلم الأكرم ، والمخدوم المعظم الأعظم ، شمس سماء الفضل والكمال ، تدوير
كوكب الإقبال والإجلال ، صاعد مدارج الكمالات النّفسانيّة ، محدّد جهات الفضائل
الإنسانيّة ، صاحب المنزلتين ، سمّى
ثانى السّبطين ،
لا زال كاسمه تاجا للحكمة والملّة والدّنيا والدّين ، وكنفسه إماما قمقاما لعظماء
المؤمنين ، بسيّد النبيّين وإمام الوصيّين.
(١١)
تعليقة في أنّ الحمل
دليل الوجود الذّهنىّ
وأقول : يمكن أن
يستدلّ على الوجود الذّهنىّ بأنّا لا نشكّ فى صحّة حمل بعض الأشياء على بعض آخر ،
كحمل الكاتب على زيد ، مثلا ، ومناط الحمل الاتّحاد من جهة والتّغاير بحسب جهة
أخرى. فلو انحصر الوجود في الخارجىّ لزم بطلان الحمل ، ضرورة أنّ الشيء المتّحد مع
آخر بحسب الوجود الخارجىّ لا يغايره بحسب ذلك الوجود أصلا ، والمغاير له بحسبه لا
يتّحد معه بحسبه أصلا.
فالمحمول إن اتّحد
مع الموضوع بحسب الوجود الخارجىّ لا يمكن أن يغايره بحسب ذلك الوجود أصلا ولا حمل
؛ وإن غايره بحسبه فلا يتّحد معه بحسبه أصلا ، فلا حمل أيضا ؛ وإلّا لزم أن يكون
شيء واحد في الوجود الخارجىّ متّحدا مع شيء مغايرا له ، هذا خلف. فلا بدّ من نحو
آخر من الوجود سوى الخارجىّ ، هو الذي بحسبه يتحد المحمول مع الموضوع ، فيتمّ أمر
الحمل. وذلك أيضا من سوانح الوقت.
(١٢)
دفع شبهة الاستلزام
المنقولة عن ابن كمونة
تقريره : أنّ كلّ
شيء يكون بحيث لو وجد لا يكون وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، فهو يكون موجودا
أزلا وأبدا ، لا محالة. إذ لو كان معدوما في وقت كان عدمه في ذلك الوقت أمرا
واقعيّا فيكون بحيث لو وجد لكان وجوده موجودا دائما.
وإذا تمهّد هذا ،
فنقول : إنّ الحوادث اليوميّة من هذا القبيل ، فيلزم أن تكون موجودة أزلا وأبدا ،
وهو محال. بيان ذلك أنّ الحوادث لو لم تكن بحيث لا يكون وجودها مستلزما لرفع أمر
واقعىّ لكان وجودها مستلزما لرفع أمر واقعىّ. فحينئذ يتحقق الاستلزام بين الحوادث
الواقعة [بين وجود الحوادث] وبين الرفع المذكور ، فيجب أن يكون ذلك الاستلزام
لازما لوجود الحوادث ؛ وقد تقرّر في مقرّه أنّ عدم
اللازم يستلزم عدم
الملزوم ، فيلزم على تقدير عدم الاستلزام عدم الحوادث.
وهذا مناقض لما
ذكر أوّلا فى المقدّمة ، من أنّ عدم الاستلزام يستلزم وجود السّرمديّ ، فبطل أن
يكون وجود الحوادث مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، فيجب أن يكون بحيث لا يكون وجودها
مستلزما. فبناء على ما ثبت في المقدمة يلزم أن تكون الحوادث سرمديّة الوجود.
والجواب : أنّ
اللوازم على قسمين ؛ أوّليّة ، كالضّوء اللّازم للشمس ، والزّوجيّة اللازمة
للأربعة ، وثانويّة ، كاللّزوم الّذي هو بين اللّازم والملزوم.
وإذا عرفت هذا ، فاعلم
أنّ قولهم : «عدم اللازم يستلزم» عدم مخصوص في اللوازم الأوّليّة فقط دون
الثانويّة ، فإنّ عدم اللازم الذي هو من الثانويّة لا يستلزم عدم الملزوم ، بل
إنّما يستلزم رفع الملازمة الأصليّة ؛ وانتفاء العلاقة بين اللازم والملزوم لا
يلزم انتفاء هما ولا انتفاء احدهما ، بل يجوز أن يكونا موجودين ، ولا علاقة
بينهما.
والسرّ في ذلك أنّ
اللازم الثانوىّ في الحقيقة لازم لملزوميّة الملزوم ولازميّة اللازم ، فيلزم من
انتفائه انتفاء هذين الوصفين ، ولا يلزم من ذلك انتفاء ذات اللازم ولا انتفاء ذات
الملزوم.
إذا عرفت هذا ،
فنقول : إنّ الاستلزام المذكور في الحوادث اليوميّة من قبيل اللوازم الثّانويّة ،
فلا يلزم من انتفائه انتفاء الحوادث ، حتّى يلزم المنافاة بين هذا وبين ما تقرّر
في المقدّمة الممهّدة. هذا من إفادة أستادنا وأستاد الكلّ في الكلّ أمير محمد باقر
الدّاماد. (كتابخانه مدرسه سپهسالار ، مجموعه ١٩١٩ ، برگ ١٤٧).
(١٣)
حلّ مغالطة ابن كمونة
اعلم ، أرشدك الله
وإيّاى إلى طريق الحقّ والصّراط السّوىّ ، : أنّ المغالطة المشهورة لابن كمونة قد
اختلف في تقريرها وحلّها أقوال النّاظرين. وأنا استوفيت الاحتمالات في تقريرها
وحقّقت الجواب عن كلّ تقرير ، فأقول :
فإن أريد إثبات
أزليّة الحوادث وجودا ، فلا بدّ أن يتمهّد مقدّمة ، وهى أنّ كلّ ما لا يكون وجوده
مستلزما لرفع أمر واقعىّ يكون موجودا أزلا وأبدا ، وإلّا لكان معدوما
في وقت ، فيكون
عدمه أمرا واقعيّا. وإذا فرضنا وجوده بعد العدم كان مستلزما لرفع أمر واقعىّ هو
العدم ، فيكون خلاف المفروض. فثبت أنّ كلّ ما يكون وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ
يكون موجودا أزلا وأبدا.
ثمّ أقول :
الحوادث اليوميّة لا يكون وجودها مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، وكلّ ما لا يكون وجوده
مستلزما لرفع أمر واقعىّ يكون موجودا أزلا وأبدا ، فالحوادث اليوميّة موجودة أزلا
وأبدا. أمّا الكبرى ، فلما ثبت في المقدّمة الممهّدة. وأمّا الصّغرى ، فلأنّه لو
لم يكن وجودها مستلزما لرفع أمر واقعىّ لكان مستلزما ، فيكون وجودها ملزوما للرفع.
وإذا كان ملزوما للرفع كان ملزوما لاستلزام الرفع ، إذ ملزوم الشّيء ملزوم
لاستلزامه ، والّا لم يتحقق الملازمة بينهما ، فيكون الاستلزام لازما لوجودها. وقد
ثبت فى موضعه أنّ عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم ، فيكون عدم استلزام الوجود
مستلزما لعدم الوجود. وهذا مناقض لما ثبت في المقدّمة ، من أنّ عدم استلزام الوجود
مستلزم لأزليّة الوجود. وهذا المحال إنّما نشأ من نفى عدم استلزامها ، فيكون عدم
استلزامها للرفع حقّا ، فيكون أزليّتها حقّا ، وهو المطلوب.
والجواب : أنّ عدم
استلزام الوجود الّذي هو ملزوم للوجود غير عدم استلزام الوجود الّذي هو ملزوم
للعدم. إذ الأوّل بمعنى أنّ هاهنا وجودا متحقّقا غير مستلزم للرفع. والثاني بمعنى
أن ليس هاهنا وجودا ولا استلزاما. والحاصل : أنّ الأوّل ينفى الاستلزام والثّاني
ينفى الاستلزام والوجود. والسّرّ في ذلك : أنّ الأوّل يرجع إلى موجبة معدومة
مقتضية لوجود الموضوع ، وهو «الوجود مستلزم» ، والثاني إلى سالبة بسيطة غير مقتضية
له ، وهو «الوجود ليس بمستلزم».
وإن أريد : به
إثبات أزليّة الحوادث عدما ، فأقول في تمهيد المقدّمة : كلّ ما لا يكون عدمه
مستلزما لرفع أمر واقعىّ يكون معدوما أزلا وأبدا ، وإلا لكان موجودا في وقت ،
فيكون وجوده أمرا واقعيّا. فإذا فرضنا عدمه بعد الوجود كان مستلزما لرفع أمر
واقعىّ هو الوجود ، فيلزم المفروض.
ثمّ أقول :
الحوادث اليوميّة لا يكون عدمها مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، فيكون معدوما أزلا
وأبدا. وإنّما قلنا : «إنّ عدمها غير مستلزم لرفع أمر واقعىّ» ، إذ لو كان
مستلزما له
لاستلزم ، فيكون الاستلزام لازما للعدم. فعلى تقدير عدم الاستلزام يلزم عدم العدم
الذي هو الوجود ، وهذا مناقض لما ثبت في المقدّمة الممهّدة ، من أنّ عدم استلزام
العدم ملزوم للعدم أزلا وأبدا.
والجواب : أنّ
هناك الاستلزام منتف ، والعدم متحقق ، وهاهنا الاستلزام والعدم كلاهما منتفيان.
وإن أريد : إثبات
أزليّة الحوادث مطلقا ، فتمهيد المقدّمة : أنّ كلّ ما لا يكون مستلزما لرفع أمر
واقعىّ بحسب الوجود أو العدم يكون أزليّا بحسب الوجود أو العدم ، وإلّا لكان
موجودا أو معدوما فى وقت ، فيكون وجوده مستلزما لأمر واقعىّ هو العدم ، أو عدمه
مستلزما لرفع أمر واقعىّ هو الوجود ، فيلزم خلاف المفروض.
ثمّ إنّ الحوادث
لا تكون مستلزمة لرفع أمر واقعىّ بحسب الوجود أو العدم ، فيكون أزليّته بحسب
الوجود أو العدم. وإنّما قلنا : إنّها لا تكون مستلزمة للرفع بحسب الوجود أو العدم
؛ إذ لو كانت مستلزمة لاستلزامه بحسبهما ، فيكون عدم عدم الاستلزام مستلزما
لعدمهما بحسبهما ، وإذا انتفى الشيء بحسب الوجود أو العدم لا يكون أزليّا بحسب
الوجود أو العدم. فذلك مناقض للمقدّمة الممهّدة ، من أنّ عدم الاستلزام ملزوم
للأزليّة ، إذ هاهنا ملزوم لعدم الأزليّة.
والجواب : أنّ
هناك شيئا بحسب الوجود أو العدم غير مستلزم للرفع ، وهاهنا لا شيء بحسب الوجود أو
العدم ، ولا استلزام ذاتيّ. وإنّى تفرّدت بهذا التحقيق والتّفصيل ، بعون الله
الملك الجليل.
من إفادات ثالث
المعلّمين ، قدوة المجتهدين ، السّيّد السّند ، الكامل الأمجد ، العالم الرّبّانىّ
، خاتم المحققين ، مير محمد باقر الدّاماد الحسينىّ العلوىّ. (كتابخانه آستان قدس
، مجموعه ، ٢٥١).
(١٤)
فحص تحقيقىّ فى حلّ
مغالطة الاستلزام
قد يكون اللّزوم
بين الشيء ولازمه باعتبار خصوصيّة ذاتى الملزوم واللّازم من دون ملاحظة أمر آخر ،
كما بين الأربعة والزّوجيّة ؛ وقد يكون لا بخصوص ذلك الاعتبار ،
بل من حيث لزوم
ذلك اللّازم لما هو لازم لذلك الشّيء باعتبار خصوص ذاته ، كما بين الأربعة ولزوم
الزّوجيّة لها. فإنّ امتناع الانفكاك بين الأربعة وهذا اللزوم ، إنّما هو من حيث
إنّ امتناع الانفكاك بين الأربعة والزّوجيّة يستلزم ذلك ، حتّى لو أمكن أن يكون
امتناع الانفكاك بين الأربعة والزّوجيّة مع إمكان انفكاك ذلك اللزوم عنها لما
استلزمت الأربعة ذلك اللزوم. وكذا الكلام فى لزوم اللزوم إلى غير النّهاية.
وبعد ذلك نقول :
إنّ التّلازم بين الشّيء ولازمه الأولىّ الذّاتىّ ، كالأربعة والزوجيّة ، يقتضي انعكاس
التلازم بين نقيضيهما. وأمّا التلازم بين الشّيء ولازمه الغير الذّاتىّ فقد لا
يقتضي انعكاس التّلازم بين النقيضين. وذلك إذا كان نقيض اللّازم مستلزما لرفع
التّلازم الأصليّ بين العينين ، فإنّ انعكاس التّلازم بين النّقيضين إنّما هو على
تقدير بقاء التّلازم بين العينين. مثلا ، التّلازم بين الأربعة وبين لزوم الزوجيّة
لها لا يقتضي التلازم بين نقيضيهما ، كما أنّ التّلازم بين أربعة والزّوجيّة يقتضي
ذلك. وذلك لأنّ عدم لزوم الزوجيّة للأربعة ، أعنى نقيض اللازم ، يقتضي بطلان أصل
الملازمة بين الأربعة والزّوجيّة ، فيبطل الملازمة بين الأربعة وبين ذلك اللزوم
أيضا ، فإنّ هذه الملازمة إنّما كانت من حيث الملازمة الأولى. فلا يبقى نقيض
اللازم نقيضا للّازم ولا نقيض الملزوم نقيضا للملزوم ، حتى يكون بينهما تلازم.
فظهر أنّ عدم لزوم الزّوجيّة للأربعة لا يقتضي عدم الأربعة بخلاف عدم الزّوجيّة ،
فإنّه يقتضي عدم الأربعة.
وعند إتقان هذا
التحقيق يظهر وجه الغلط فى الشّبهة المستصعبة المشهورة الدّائرة على ألسنة
الأذكياء بالصّعوبة. وتقريرها أن يقال : كلّما لم يكن وجود الشّيء مستلزما لرفع
أمر واقعىّ بحسب نفس الأمر كان ذلك الشّيء موجودا بالفعل دائما ، لكن كلّ ممكن ليس
وجوده مستلزما لرفع أمر واقعىّ بحسب نفسه ، فيكون كلّ ممكن موجود دائما ، هذا خلف.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّ الشّيء الغير المستلزم وجوده لرفع الأمر النفس الأمرىّ لو لم يكن
موجودا دائما كان معدوما وقتا ما بحسب نفس الأمر قطعا ، فكان وجوده مستلزما لرفع
عدمه ، وإلّا اجتمع النقيضان ، فيلزم خلاف الفرض.
وأمّا المقدّمة
الثانية ، فلأنّه لو كان وجود ممكن ما مستلزما لرفع أمر واقعىّ بحسب نفس الأمر كان
مستلزما لذلك الاستلزام أيضا. فكان عدم ذلك الاستلزام مستلزما لعدم ذلك الممكن ،
لتعاكس الملازمة بين نقيض الملزوم واللازم.
وقد ظهر من بيان
المقدّمة الأولى : أنّ عدم ذلك الاستلزام مستلزم لوجود ذلك الممكن ، فيلزم اجتماع
النّقيضين ، هذا خلف. فلاح أنّ وجود شيء من الممكنات ليس مستلزما لرفع أمر واقعىّ
فى نفس الأمر.
ووجه ظهور الغلط
أنّ استلزام وجود الممكن لاستلزامه رفع الأمر الواقعىّ إنّما هو من حيث الملازمة
الأولى ، وعدم ذلك الاستلزام يقتضي بطلان أصل الملازمة بين وجود الممكن وبين ذلك
الرّفع ، فيبطل الملازمة بين وجوده وبين ذلك الاستلزام أيضا. فعدم ذلك الاستلزام
لا يستلزم عدم ذلك الممكن قطعا ، على ما تحقق. فأتقن ذلك ولا تتّبع خطوات الأوهام.
وأمّا ما يقال ،
فى المشهور فى دفع تلك الشّبهة من : «أنّ عدم استلزام وجود الممكن لرفع أمر واقعىّ
محال ؛ فجاز أن يستلزم ، على ما مرّ تحقيقه ، عدم ذلك الممكن ، وإن كان ذلك أيضا
محالا ، لجواز استلزام المحال محالا آخر» ؛ فيقدحه : أنّ جواز استلزام المحال
محالا آخر إنّما يتصوّر لو لم يكن بين المحالين تناف ، كما تقرّر فى مظانّه. وأمّا
إذا تحققت المنافاة بين المحالين ، كما بين عدم استلزام وجود الممكن لرفع أمر
واقعىّ وبين عدمه على ذلك التّقدير ، فلا يتصوّر الملازمة بينهما. وهذا أمر كتب
القوم به مشحونة.
وأيضا ، معنى جواز
استلزام المحال محالا ، هو أنّ أحد المحالين على تقدير تحقّقه جاز أن يستلزم عند
تحقّقه تحقّق محال آخر. وأمّا مفهوم المحالين ، فلا يصحّ الحكم باللزوم بينهما
إلّا أن يكون بينهما علاقة الملازمة. والمأخوذ فى المغالطة هو اللزوم بين مفهوم
عدم استلزام وجود الممكن لرفع أمر واقعىّ وبين مفهوم عدم الممكن بالفعل بحسب
التّحقيق ، لتحقّق الملازمة بين مفهوم ذلك الاستلزام وبين مفهوم وجود الممكن
بالفعل بحسب التّحقق ، وانعكاس التّلازم بين نقيضى الاستلزام وبين مفهوم وجود
الممكن بالفعل بحسب التّحقق وانعكاس التّلازم بين نقيضى المتلازمين ، فأحسن
التّدبّر. م ح ق ، رحمهالله تعالى.
(١٥)
جواب المغالطة
المشهورة لابن كمونة
قد تمهّد للمغالطة
المشهورة لابن كمونة مقدّمة ، هى أنّ عدم استلزام الشّيء لرفع أمر واقعىّ مستلزم
وجود هذا الشّيء ، لأنّه لو لم يستلزم الوجود لكان محقّقا مع العدم ، والعدم لا
محالة يكون حينئذ أمرا واقعيّا ، والوجود يرفع هذا العدم ، فيلزم استلزام الوجود
لرفع الأمر الواقعىّ الّذي هو العدم. وهو خلاف المفروض ، لعدم استلزام الوجود لرفع
أمر واقعىّ مستلزم للوجود.
إذا تمهّد هذا ،
فنقول : المعدومات مطلقا موجودة ، لأنّ وجودها ليس مستلزما لرفع أمر واقعىّ ، وكلّ
ما ليس وجوده مستلزما لرفع امر واقعىّ فهو موجود.
أمّا المقدّمة
الثّانية ، فهى ظاهرة ، بناء على ما مهّد. وأمّا الأولى ، فلأنّه لو لم يكن حقّا
لكان نقيضه حقّا. وهو أنّ وجودها مستلزم لرفع أمر واقعىّ ، وإذا كان وجودها
مستلزما لرفع واقعىّ لكان مستلزما لذلك الاستلزام أيضا ، فيكون استلزام رفع الأمر
الواقعىّ لازما للوجود ، فعدم الاستلزام مستلزم للعدم ، بناء على أنّ نقيض اللّازم
ملزوم لنقيض الملزوم ، وقد سبق فى ما سبق أنّ عدم الاستلزام مستلزم الوجود ، هذا
خلف.
حلّه : أنّ عدم
الاستلزام الّذي فى ما سبق مباين للاستلزام الّذي هاهنا. وذلك أنّ المراد فى ما
سبق عدم الاستلزام بمعنى أن لا يكون أصل الاستلزام متحققا بين الوجود والارتفاع.
لكن ليس الوجود والارتفاع متحققين حتى يتحقق الاستلزام. ولنورد لتوضيحه مثلا :
أمّا عدم الاستلزام المذكور أوّلا ، فلعدم الاستلزام الّذي بين طلوع الشمس ووجود
اللّيل. وأمّا عدم الاستلزام المذكور ثانيا ، فلعدم الاستلزام الّذي بين طلوع
الشمس ووجود النّهار. م ح ق. انتهى (حكمت بوعلى سينا ، ج ٣ ، ص ١٨٣).
(١٦)
تعليقة
الحقّ أنّ انتفاء
أحد الأجزاء ليس علّة لعدم المركّب ، بل هو مقارن لعلّته ، فإنّ علّة عدم المركّب
انتفاء علّته التامّة ، وانتفاء أحد الأجزاء مقارن لانتفاء العلّة التامّة ولازم
له.
وما يقال ، من «أنّ
ارتفاع الجزء بعينه ارتفاع الكلّ ، فانتفاء أحد الأجزاء إمّا عين انتفاء المركّب
أو عين انتفاء علّته التامّة» ، فلا ثقة به ، إذ لو كان كذلك كان أمر واحد عين
العلّة والمعلول معا ، لأنّه جزء المركّب. كما أنّه جزء للمركّب كذلك هو جزء
لعلّته التّامّة ، فكان عدمه عين عدم المركّب وعين عدم علّته التامّة ، وعدم
العلّة علّة لعدم المعلول ، فكان عدم ذلك الجزء بعينه علّة ومعلولا من جهة واحدة.
وهو باطل ، فإنّ تغاير الحيثيّة التّعليليّة لا يفيد فى كون الشيء علّة ومعلولا ،
والحيثيّة لم تختلف التّقييديّة هاهنا ، فتأمّل وكن على بصيرة فى أمرك. «ح م ق.
أيّده الله.»
(كتابخانه آستان
قدس. ضميمه اعتقاد الحكماء سهروردى ، شماره ١٧٩٢).
(١٦) سدرة المنتهى
والاعتصام بالمنّان القديم
الحمد لله العزيز
العليم ، المهيمن العظيم ، الّذي أنزل كتابه الحكيم نورا ساطعا بالبرهان ، فظلّت
أحداق العقلاء لمساطع أشعّته عبّدا ، وفجرا صادعا بالتّبيان ، فطلّت أعناق المصاقع
دون سطاع بلاغته خضّعا ، ويخرّون للأذقان سجّدا ، وابتعث من بوتقة بطحاء العزّ
والشرف وسرّة بطاح العلم والحكمة رسولا كريما ، فتضاءل العقول في معاهد شرعته
ومماهد سنّته قنّتا وركّعا وسجّدا ، واستخلف له من صميم خاصّته الأقربين أوصياء
أنجبين وأئمة أكرمين ، حديثهم بين ، ويقينهم عيان. تأتيهم أفواج سرّ الغيب في
أنفاث روح القدس شرّعا وصدّعا. فهم تراجمة الوحى وأمناء السّرّ وقرناء الكتاب
الكريم ، صلّى الله عليه وعليهم أتمّ الصّلاة وسلّم أطيب التّسليم.
وبعد ، فإنّ دانق
سبيل معرفة الله وخادم دين رسول الله ، أفقر المفتاقين وأحوج المربوبين إلى رحمة
الله ، الحميد الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله
له نشأتيه بالحسنى وسقاه من كأس المقرّبين ممّن له لديه لزلفى ، وجعل خير يوميه
غده ، ولا أو هن من الاعتصام بحبل فضله العظيم يده ، يقول : معشر المتعطّشين
ومعاشر المتنشطين ، طالما أصبحت مهجكم العطشى ظامئة الأكباد ، وأضحت أفئدتكم
اللوعى خامئة الأدماغ ، أنتم في مهمه الشوق هائمون ، و
على مشاره اللوعة
دائمون ، أشواق عقولكم متمدّدة الأعناق ، راصدة الأقطار ، وأرواق قلوبكم متقلبة
الأحداق ، شاخصة الأبصار.
فها سلسبيل من
رحيق متشوّقكم ، وزنجبيل من عتيق مترقّبكم ، جدول فيض من نعمة الله ، ونهر رشح من
رحمة الله ، فلذة ممّا قد امتنّ به على من فضله العظيم ، وخصّنى به من منّه القديم
، موسوما ب «سدرة المنتهى» ، في تفسير كتابه العزيز ، الّذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه ، تنزيلا من ربّ السّماوات العلى. وتلك الفلذة هى ما يتعلّق
منه بأمّ الكتاب وسورتى الجمعة والمنافقين ، لما أنّا بحول الله تعالى وقوّته
وفضله ورحمته ، وأيده ومنّه وعونه وعصمته ، في مثل هذا الزّمان وشنئاته ، نقيم
صلاة الجمعة وفريضتها ، ونحيى شعارها ووظيفتها ، وإنهنّ ملاك هذه الصّلاة وقوامها
، وبهنّ نظامها وتمامها.
فلنفض الآن في
أجراء هذا النّهر الإلهيّ والجدول السّماوىّ ، راجين من فضل الله العظيم أن يتمّ
لنا نعمته وينشر علينا رحمته ، فيأخذ بجنانى وهمّى وبنانى وقلمى إلى إتمام أصل
الكتاب ، إنّه الكريم الوهّاب.
وعسى إن شاء الله
العزيز أن سيقرع السّمع عن كثب من صقع فضاء الرّحمة وعرش سماء التّوفيق ، هتاف
غيبىّ وخطاب قدسىّ ؛ أن قد آن آنه وحان حينه وحضر أوانه وجاء إبانه ، وأعظم علما
ليس بالظّن أنّه ... إذا الله سنّى عقد شيء تيسّرا ..... ممّا يتعاطاه علم ، لا
على سبيل التّصوير ، كما ربّما يظنّ ، بل على أنّ في ذمّته أن يتعاطاه وإن كانت
مباديه أو ضاعا ومصادرات في هذا العلم ، البحث عن الوحى والإيحاء وإنزال الكتاب
وتنزيله.
فمن الدّائر على
الألسن أنّ وصف القرآن بالنّزول الّذي لا يتّصف به إلّا المتحيّز بالذّات دون
الأعراض ، وسيّما غير القارّات ، كالأصوات ، إنّما هو بتبعيّة محلّه ، سواء أخذ
حروفا ملفوظة أو معانى محفوظة ، وهو الملك الذي يتلقف الكلام من جناب الملك
العلّام تلقّفا سماعيّا أو يتلقى تلقّيا روحانيّا أو يتحفّظه من اللوح المحفوظ ،
ثمّ ينزل به على الرّسول ، صلىاللهعليهوآلهوسلم. ولا يتمشى هذا النّمط إلّا على القول بتجسّم الملائكة.
وأمّا الخارجون عن دائرة التحصيل ممشاهم ذلك.
فأمّا على ما هو
صريح الحقّ وعليه الحكماء الإلهيّون والمحصّلون من أهل الإسلام : أنّ الملائكة على
قبائل ، سفليّة وعلويّة ، أرضيّة وسماويّة ، جسمانيّة وقدسانيّة ، وفي القبائل
شعوب وطبقات ، كالقوى المنطبعة والطبائع الجوهريّة ، وأرباب الأنواع والنّفوس
المفارقة السّماويّة والجواهر العقليّة القادسة بطبقات أنواعها وأنوارها ، ومنها
روح القدس النّازل بالوحى النّافث في أرواح أولى القوّة القدسيّة ، بإذن الله
سبحانه.
(وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر ، ٣١] ،
وفي الحديث عنه ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ «أطّت السّماء ، وحقّ لها أن تئطّ ، ما فيها موضع قدم
إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع» [الدّرّ المنثور ، للسيوطى ، بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص
١٩٩].
فالأمر غير مستتبّ
، اللهمّ إلّا أن يسمّى ظهورهم العقلانىّ لنفوس الأنبياء ، عليهمالسلام ، نزولا ، تشبيها للهبوط العقلىّ والاعتلاق الرّوحانيّ
بالنّزول الحسّىّ والاتصال المكانىّ ، فيكون قولنا : «نزل الملك» استعارة تبعيّة ،
وقولنا : «نزل الفرقان» مجازا مرسلا بتبعيّة تلك الاستعارة التبعيّة.
قلت : لا يطمعنّ
منّى أحد من النّاس أن أستصحّ ذلك بجهة من الجهات ، وإنّ فيه شقّا لعصا الأمّة
بفرقها المفترقة وأحاديثها المتواترة وخرقا للقوانين العقليّة الفلسفيّة ، وفسخا
للضوابط المقرّرة البيانيّة. فالأمّة مطبقة على أنّ النبي ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يرى جبرئيل وملائكة الله المقرّبين ، عليهمالسلام ، ببصره الجسمانيّ ، ويسمع كلام الله الكريم على لسانهم
القدسىّ بسمعه الجسمانيّ ؛ وقوائم الحكمة قائمة بالقسط أنّه إنّما ملاك الرّؤية
البشريّة والإبصار الحسّىّ انطباع الصّورة في الحسّ المشترك. وإنّما المبصر
المرئىّ بالحقيقة من الشيء الماثل بين يدى الحسّ صورته الذّهنيّة المنطبعة.
وأمّا ذو الصّورة
بهويّته العينيّة ومادّته الخارجيّة فمبصر بالعرض ، مرئىّ بالمجاز وإن كان مثوله
العينىّ شرطا بالإبصار ، والجليديّتان هما وسيلتا التأدية ، لا لوحا الانطباع ، وعلى
هذه السّنّة شاكلة السّمع أيضا ، والإفاضة مطلقا من تلقاء واهب الصّور.
فإذا كانت النّفس
واغلة الهمّة في الجنبة الجسدانيّة ، طفيفة الانجذاب إلى صقع
الحقّ وعالم القدس
، لم يكن لبنطاسياها سبيل إلى التّطبّع بالصّورة من تلقاء واهب الصّور ، إلّا من
مسلك الحاسّة الظاهرة ومثول المادّة الخارجيّة بين يدها.
فأمّا إذا كانت
قدسيّة الفطرة ، مستنيرة الغريزة في جوهر جبلّتها المفطورة ثمّ فى سجيّتها
المسكوبة ، صارت نقيّة الجوهر ، طاهرة الذّات ، أكيدة العلاقة بعالم العقل ، شديدة
الاستحقاق لعلم الحسّ ، قاهرة الملكة ، قويّة المنّة على خلع البدن ورفض الحواسّ
والانصراف إلى صقع القدس حيث شاءت ومتى شاءت بإذن ربّها ، وقوّتها المتخيّلة أيضا
قليلة الانغماس في جانب الظّاهر ، قويّة التلقّى من عالم الغيب ، فإنّها تخلص من
شركة الطّبيعة ، وتعزل اللّحظ عن الجسد في اليقظة ، فترجع إلى عالمها ، وتتّصل
بروح القدس وبمن شاء الله من الملائكة المقرّبين ، وتستفيد من هنالك العلم والحكمة
بالانتقاش على سبيل الرّشح ، مرآة مجلوّة حوذى بها شطر الشّمس.
ولكن حيث إنّها
يومئذ فى دار غربتها بعد بالطبع ، ولم تنسلخ عن علاقتها الطبيعيّة بتدبير جيوشها
الجسديّة وأمورها البدنيّة ، تكون مثلها في ما تناله بحسب ذلك الشّأن وتلك الدّرجة
، تحوّل الملك لها على صورة مادّيّة متمثّلة في شبح بشرىّ ، ينطق بكلمات إلهيّة
مسموعة منظومة. كما قال عزّ من قال : «فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرا سويّا [مريم
، ١٧]. وأعنى بذلك ارتسام الصّورة في لوح الانطباع ، لا من سبيل الظاهر والأخذ عن
مادّة خارجيّة ، بل بالانحدار إليه من الباطن ، والحصول عن صقع الإفاضة.
فإذن في السّماع
والإبصار المشهوريّين يرتفع المسموع والمبصر من الموادّ الخارجيّة الى لوح
الانطباع ، ثمّ منه إلى الخيال والمتخيّلة ، ثمّ يصعد الأمر إلى النّفس العاقلة.
وفى إبصار الملك
وسماع الوحى ، وهما الإبصار والسّماع الصّريحان ينعكس الشّأن ، فينزل الفيض إلى
النفس من عالم الأمر ، فهى تطالع شيئا من الملكوت مجرّدة غير مستصحبة لقوّة
خياليّة أو وهميّة أو غيرهما. ثمّ يفيض عن النّفس إلى القوّة الخياليّة ، فتخيّله
مفصّلا منضما بعبارة منظومة مسموعة ، فتمثّل لها الصّورة في الخيال من صقع الرّحمة
وعالم الإفاضة ، ثم تنحدر الصّورة المتمثّلة والعبارة المنتظمة من الخيال
والمتخيّلة إلى لوح الانطباق ، وهو الحسّ المشترك ، فتسمع الكلام وتبصر
الصّورة. فهذا
أفضل ضروب الوحى والإيحاء.
ويقال : إنّه
مخاطبة العقل الفعّال للنفس بألفاظ مسموعة مفصّلة ، وله أنحاء مختلفة ومراتب
متفاصلة ، بحسب درجات للنفس متفاوتة. وقد يكون في بعض درجاته لا يتخصّص المسموع
والمبصر بجهة من جهات العالم بخصوصها ، بل الأمر يعمّ الجهات بأسرها في حالة
واحدة.
وفي الحديث : «إنّ
الحارث بن هشام سأل رسول الله ، صلىاللهعليهوآله ، كيف يأتيك الوحى؟ قال : أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ،
وهو أشدّ على ، فيفصم عنّى ، وقد وعيت عنه ما قال ؛ وأحيانا يمثّل إلى الملك رجلا
، فيكلّمنى ، فأعى ما يقول» [بحار الانوار ، ج ١٨ ، ص ٢٦٠. عن المناقب لابن
شهرآشوب ،]
وربما تكون النّفس
المتنوّرة ، صقالتها في بعض الأحايين أتمّ ، وسلطانها على قهر الصّوارف الجسدانيّة
والشّواغل الهيولانيّة أعظم ، فيكون عند الانصراف عن عالم الحسّ والاتّصال بروح
القدس استئناسها بجوهر ذاته المجرّدة منه بالشّبح المتمثّل فتشاهده ببصر ذاته
العاقلة ، وتستفيد منه وهو في صورته القدسيّة ، كما ورد في الحديث : «إنّ جبرئيل
أتى النبي ، صلىاللهعليهوآله ، مرّة في صورته الخاصّة كأنّه طبق الخافقين» [بحار
الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٢١٥].
ثمّ دون هذه
الضّروب لسائر درجاته ما يتّفق له من القوّة القدسيّة نصيب مرتبة النبوّة أن يرى
ملائكة الله ويسمع كلام الله ، ولكن في النّوم ، لا في اليقظة.
وسبيل القول فيه
أيضا ما دريت ، إلّا أنّ الأمر هناك ينتهى إلى القوّة المتخيّلة ويقف عندها
بمحاكاتها وتنظيمها وتفصيلها ، لما قد طالعته النفس من عالم الملكوت من دون انحدار
الصورة المتمثّلة والعبارة المنتظمة منها إلى الحسّ المشترك.
فأمّا الرّؤيا
الصالحة لنفوس العرفاء والصّالحين فواقعة في هذا الطريق ، غير واصلة إلى درجة
النّبوّة وبلوغ الغاية. وفي الحديث : «إنّها جزء من ستّة وأربعين أو سبعين جزءا من
النبوّة» ، على اختلافات الرّوايات.
وقصاراها في مرتبة
الكمال وأقصاها للمحدّثين ـ بالفتح ، على البناء للمفعول ، من التحديث ـ وهم
الّذين يرفضون عالم الشهادة ، ويصعدون إلى عالم الغيب ، فربما
يسمعون الصّوت في
اليقظة من سبيل الباطن ، ولكنّهم لا يعاينون شخصا متشبّحا. وفي كتاب الحجّة من
كتاب «الكافي» لشيخ الدّين أبى جعفر الكلينىّ ـ رضى الله عنه ـ باب في الفرق بين
الرّسول والنبي ، صلىاللهعليهوآله ، والمحدّث ، وأنّ الائمة ، عليهمالسلام ، محدّثون مفهّمون ، [الكافي ، ج ١ ، ص ٢٧٠].
وإذ قد انصرح لك
من المسألة من سبيلها ، فقد استبان أنّ قولنا : «نزل الملك» ، مجاز عقلىّ مستعمل
طرفاه في معنييهما الحقيقيّين ، والتجوّز فيه في الإسناد ، إذ النزول حقيقة منسوب
إلى الصّورة المتشبّحة المتمثّلة ، وقد اسند بالعرض إلى الجوهر المجرّد القدسىّ ،
وهو الملك. وليس هو من الاستعارة في شيء أصلا ، كما قولنا : «تحرّك جالس السفينة»
، وقولنا : «أنا متحرّك» و «أنا ساكن» ، وقولنا : «رأيت زيدا» إذا عنينا به شخصه
الموجود في الخارج بهويّته العينيّة ، لا صورته الذهنيّة المرئيّة المنطبقة في
الحسّ المشترك ، وسائر المقولات في وجود الاتّصافات بالعرض كلّها على هذه الشاكلة.
وأمّا «نزل
الفرقان» ، فمجاز مرسل ، لاتّباعه استعارة تبعيّة ، بل من حيث إنّ النازل على
الحقيقة محلّه ، وهو تلك الصّورة البشريّة المتشبّحة النّازلة ، أو تجوّز عقلىّ ،
لا في شيء من الطرفين بل في الإسناد ، على أنّ الأصوات والحروف والألفاظ ليست
أعراضا حالة في لسان المتكلم ، بل هى تقطيعات عارضة للهواء من تلقاء حركة اللّسان.
إن قلت : بنيت
الأمر في ما أفدت على القول بالانطباع في باب الرؤية ، فما سبيل القول هنالك على
المذهبين الآخرين ، وهما خروج الشّعاع ، أى في فيضانه من المبدأ الفيّاض منبثّا في
الهواء المتوسّط بين الجليديّة وسطح المرئىّ على هيئة المخروط وحصول الإضافة
الإشراقيّة للنفس المستوجبة للانكشاف الإبصارىّ ما دامت المقابلة بين المرئىّ
والجليديّة على ذلك الهيئة.
قلت : لست اكترث
لذلك ، إذ إنّما يسمّى ذلك الخلاف وتثليث القول في الموادّ الخارجيّة والرؤية من
مسلك الجليديّة ، ومن مذهب الظّاهر ، لا في الإبصار من سبيل الباطن ومذهب الغيب من
دون الأخذ من مادّة خارجيّة. ثمّ الآراء الثلاثة متحاذية الأقدام في تطابق اللوازم
واتحاد الأحكام ، حذو القذّة بالقذّة ، والسّواد الأعظم على مسلك الانطباع. ويشبه
أن يكون الحقّ لا يتعدّاه.
وما يتجشّمه فرق
من فرق الإضافة الإشراقيّة ، من إثبات صور معلّقة خياليّة في عالم معلّق مثالىّ ،
ليستتبّ الأمر في صور المرايا والصّور الخياليّة وأمور الإيحاءات ومواعيد
النبوّات.
قلت : لا أجد
لاتّجاه البرهان إليه مساقا ، بل أجده بتماثيل الصّوفيّة أشبه منه بقوانين
الحكماء. وحقّ القول الفصل فيه على ذمّة كتبنا البرهانيّة» ، انتهى. [بحار الأنوار
، ج ٥٩ ، ص ٢١٢ ـ ٢١٦] ، عكس دو صفحه آغاز آن از كتابخانه برلين).
قال المجلسى مؤلف
بحار الأنوار : «فلعلّه ـ رحمهالله ـ حاول تحقيق الأمر على مذاق المتفلسفين ، ومزج رحيق الحقّ
بمموّهات آراء المنحرفين عن طرق الشرع المبين ، مع تباين السبيلين ووضوح الحقّ من
البين ، وقد اتضح بما أسلفنا صريح الأمر لذى عينين ، وسنذكر ما يكشف أغشية الشّبه
رأسا عن العين».
(١٧)
تفسير آيه امانت إلهى
هذه رسالة فى
تحقيق معنى الأمانة. لاكمل المحققين امير محمد باقر الداماد المغفور بسم الله
الرّحمن الرّحيم ، والاعتصام بالعزيز العليم.
قال الله العظيم ،
سبحانه وعلى وتعظم وتعالى ، فى تنزيله الكريم وقرآنه الحكيم : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ
مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً.) (الأحزاب ، ٧٢).
بتحقيق كه ما عرض
كرديم امانت را بر آسمانها وزمين وكوهها ، پس أبا كردند از حمل آن امانت معروضه
وترسيدند از حمل آن ، وانسان حامل آن شد از روى ظلم بر نفس خود وجهالت به وخامت
عاقبت آن ، به درستى كه انسان بغايت ظالم وجاهل بوده است.
ضمير «منها» يا
راجع است به امانت ومضاف محذوف ، وتقدير كلام آنكه «من حملها» ، وحذف مضاف به جهت
آن [است] كه سياق كلام بر آن دلالت دارد.
واين دلالت را در «علم
اصول» از اقسام مفهوم لحن خطاب مى گيرند ؛ يا راجع به حمل است كه از «يحملنها»
مفهوم است ، وضمير مؤنّث آوردن به اعتبار آن است كه
حمل كسب تأنيث از
مضاف إليه كه امانت است كرده است.
وحمل امانت به
قانون «علم لغت» دو احتمال دارد :
[احتمال] أوّل ،
آنكه به معنى خيانت وتضييع امانت وتقصير در اداى آن بوده باشد ، چه خيانت سبب آن
مى شود كه امانت در ذمّت خائن ثابت ومستقر شده ، هميشه ذمّت همّت او حامل آن امانت
بوده باشد ، مانند مركوب كه حامل راكب است ، بر خلاف اداى امانت كه منشأ آن است كه
ذمّت امين برى وفارغ باشد. به اين اعتبار خائن در امانت را حامل آن گفته اند. وبنا
بر اين مسلك ، مراد از امانت معروضه بر آسمانها وزمين وكوهها وجميع مخلوقات غرض
وغايتى است كه هر مخلوقى از براى انجام متعلّق ايجاد وداخل دايره نظام وجود شده
است.
ومحصّل المعنى :
آنكه آسمان وزمين وكوه ودشت وهر مكوّنى كه در دايره تكوين وايجاد داخل است در
امانتى كه به استعداد مادّه وذمّت هويّت او سپرده شده است. وآن مصلحتى كه به
استعداد مادّه وذمّت هويّت او سپرده شده است. وآن مصلحتى است از مصالح تماميّت
نظام كل ، كه به وجود آن مكوّن منوط ومربوط ، وغايت ايجاد او اتمام آن مصلحت
واسباغ آن كمال بوده ، تقصيرى ننموده حمل آن امانت ، يعنى خيانت در اداى آن ، به
هيچ وجه نكرده است ، إلّا انسان كه خلقت او از براى تكميل قوّتى نظرى وعملى وعلم
به حقايق موجودات وانصراف از ظلمات عالم هيولى واتصال به انوار عقليّه عالم ملكوت
اعلى وانخراط در سلك برره ملائكه مقرّبين بوده است ، تا به استكمال جوهر ذات
واستجماع واستحصال كمالات ملكات ، نسخه جامعه عوالم وجود شده ، در انتهاى سلسله
عود منزلت عقول فعّاله در ابتداى سلسله بدو حاصل نمايد.
واين درجه عاليه
ومرتبه متعاليه امانت عنايت سابغه ربوبى وحكمت بالغه إلهى است كه به ذمّت قابليّت
حقيقت كامله بشرى وقوّت جامعيّت نفس ناطقه انسانى سپرده ، واو در حمل اين امانت ،
يعنى در اداى آن ، خيانت ورزيده.
زبان مسألت از
مواظبت ورد (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) ، (النساء ، ٧٥) كه كنايت از قلمروى هيولاى عالم كون وفساد
است كوتاه وكشيده داشته ، جوهر ذات
خود را از اوج
فضاى شرف عالم علوى به حضيض تنگناى خسّت عالم سفلى انداخته است. و «ظلوما جهولا» ،
بر تقدير اين تفسير در مقام ذمّ ولوم تعبير وتوضيح واقع خواهد بود.
واين مذمّت تفسير
راجع به حال جنس نوع انسان است به اعتبار بعضى از افراد ، اعنى نفوس معطّله خسيسه
وعقول ناقصه سخيفه كه حقّ استعداد فطرى فطرت أولى را ضائع ساخته ، به سوء استعداد
مكسوب فطرت ثانيه ذات قدسى وجوهر ملكوتى نفس ناطقه مجرّده را ، كه به حسب جبلّت
مرتبه مفطوره عقل هيولانى قابليّت داشته است كه حاقّ عرض الكمال مرتبه عقل مستفاد
، به دام تحصيل در آورده ، ونسخه مطابقه نظام وجود وأخيرة المراتب سلسله عود واشرف
نخايل طبقات ممكنات باشد ، به رجع القهقرى ، در انتكاس مرتبه منكوسه مكسوبه فطرت
ثانيه ، به جايى رسانده است كه در خسّت ذات وخساست صفات تختمه ديوان سفالت وخاتمه
عنوان جهالت وادون اصناف مصنوعات واخسّ افراد مكوّنات شده است.
احتمال دوم ، آنكه
حمل امانت عبارت باشد از تحمّل وقبول والتزام حفظ ومحافظت وتعهّد اداء وتأديه آن ،
واشفاق وخشيت از حمل به جهت خوف تقصير در ايفاى حق اداى آن است.
ودر مسلك اين
احتمال ، مفسّرين را در تفسير امانت وتعيين مراد از آن ، اقوال مختلفه وآراى
متشعّبه است. بعضى گفته اند : امانت اينجا معرفت جناب مقدّس إلهى وعرفان كبرياى
متعالى ربوبى است ، كنه ذات وصفات قدّوس حق ، تعالى كبرياؤه وتقدّست أسماؤه ، محال
است كه در مدركى از مدارك عاليه وسافله مرتسم ومتمثّل ودر عقلى از عقول علويّه
وسفليه منطبق ومتحمّل شود ، فرق ميان عالم وجاهل در سبيل اين معرفت آن است كه عالم
جهل خود را به برهان عقلى مى داند به خلاف جاهل.
من در كتاب «ايماضات
وتشريفات» گفته ام : «الجهل المعلوم بالبرهان هى قصيا مراتب العرفان» ، غايت مرتبه
معرفت عارف كامل آن است كه اثبات وجود واجب بالذّات وصفات كمال تمجيديّه وتقديسيّه
او ، جلّ جنابه ، به براهين عقليّه يقينيّه دانسته. حلّ شكوك ودفع شبهات به قوانين
حقّه واصول محقّق كرده ، به حكم
برهان يقينى بداند
كه دام ادراك هيچ عقلى را امكان صيد معرفت اين حقيقت متقدّسه ممكن ومتصوّر نيست.
واين مرتبه عقل
مستفاد عرفان ، مخصوص عقل صريح مجرّد نفس ناطقه انسان است ، وآسمان وزمين وكوه
ودشت وبرّ وبحر وهيچ مخلوقى غير انسان را تحصيل اين منزلت در شبكه قابليّت ذاتى
واستعداد فطرى نيفتاده است.
حمل وقبول انسان
اين امانت را واباى ساير مكوّنات از حمل وقبول آن به زبان حال هويّت ولهجه استعداد
فطرى وقابليّت ذاتى ماهيّت است ، وعرض آن به زبان علم وعنايت واختيار ومشيّت وضع
وتكوين وايجاد وافاضت فيّاض حقّ عزيز حليم است ، جلّ وعزّ مجده.
و «ظلوما جهولا»
بنا بر اين مسلك ، مقام روح مدح منزلت وحيّز ذكر جرأت وبيان جسارت فطرت انسانى
خواهد داشت. همچنان كه در حق كسى كه متكفّل امرى بس عظيم ومتحمّل خطبى بغايت صعب
شود ، واز شدّت صعوبت ووخامت عاقبت آن نينديشد ، گويند : عجب ظالم جاهلى ، يا
گويند : عجب ديوانه بيباكى بوده است.
وطايفه اى از اهل
تفسير مى گويند : امانت عبارت از حكم تكليفى تشريعى امر ونهى وعصيان عاصى است در
دار خلود ونشأت حيات باقى وميقات جزاى ابدى كه قابليّت آن مختص است به حقيقت
انسانى.
وفرقه اى از
بارعين اهل تحقيق مى فرمايند : امانت مقام حمد است كه نهايت ارتفاع آن مقام مرتبه
كمال جامعيّت عقل مستفاد نفس مقدّس محمّدى ودرجه خاتميّت سفارت ورسالت ذات اقدس
حضرت احمدى است ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتالى آن مرتبت ، مرتبت نيابت وولايت ودرجه خلافت ووصايت
نفس مطهّر ولوى وذات مكرّم علوى است ، صلوات الله وتسليماته عليه.
بيان اين مقصد
اقصى ومطلب اعلى آنكه حقيقت حمد نيست إلّا اظهار صفات كمال محمود هر كائنى از
كائنات وموجودى از موجودات به زبان حال ولهجه ذاتى مرتبه كمالى از كمالات مطلقه
وجود ، مانند علم وقدرت وحيات وارادت واختيار ومشيّت كه در عالم امكان وصف ذات
وعارض حقيقت او شده است بيان مى كند
وق مبرهن مى سازد
كه صفت حق وكمال مطلقى قائم به نفس ذات خود هست كه آن كمال مطلقى قائم به نفس ذات
خود هست كه آن كمال عارض ماهيّت ممكن ظلّ ذات حق وفيض صنع مطلق اوست ، چه هر ما
بالغير لازم است كه منتهى ومستند باشد به ما بالذّات بالبداهة العقليّة والضّرورة
الفطريّة. مولوى معنوى در نظم مثنوى چه خوش مى گويد:
جنب سنگ آسيا در
اضطراب
|
|
أشهد آمد بر
وجود جوى آب
|
نفس ذات ماهيّت
ممكنى به حسب صفت كمال عارضى ، حمد ذات حق واجب قيّوم على الإطلاق است ، واز اين
جهت عالم ملكوت ، اعنى عالم انوار عقليّه وذوات امريّه را عالم حمد وعالم تسبيح
وتحميد ناميده اند. ودر تنزيل كريم وقرآن حكيم (لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ) (التغابن ، ١)
اشارت به اين تسميه است.
پس ذرّات افراد
كائنات وآحاد هويّات ممكنات به زبان حال طباع امكان ذاتى وتمهيد مقدّمه مقرّره «الشيء
ما لم يجب لم يتقرر ، وما لم يجب لم يوجد» گواهى مى دهند واقامت برهان لمى يقينى
مى نمايند بر اثبات وجود ووجوب ذاتى قيّوم حقّ واجب الذّات من جميع الجهات
والحيثيّات.
وچون استجماع صفات
وجامعيّت كمالات در عالم امكان ، خاصّه درجه نفوس كامله نوع بشر ووظيفه مرتبه عقل
مستفاد انسان عارف كامل است ، كه به زبان مرتبه صفات كمال خود به منصه بيان وذروه
برهان مى رساند كه صفات حقيقيّه وكمالات مطلقه وجود همه عين مرتبه بحت ذات حق
احديّه قيّوميّه است كه به محوضت حقيّت وحدت حيثيّت وجوب ذاتى بى شوائب حيثيّات
تقييديّه وتعليليّه مستحقّ جميع اسماء كماليّه تنزيهيّه وتمجيديّه است ، وكمالات
عوالم وجود بأسرها اظلال ذات قدّوس حق ومواهب جود فياضيّت مطلق او است. مرتبه نفوس
قدسيّه عرفاء كاملين در آخر مراتب سلسله عوديّه حسب درجه عقل مستفاد ، به ازاى
مرتبه عقول مفارقه فعّاله است.
در أوّل مراتب
سلسله بدء ، عقل مستفاد مقدّس خاتم انبياء وسيّد مرسلين در حقّ الكمال عرض اين
مرتبه اخيره سلسله عوديّه ، به منزله نور جوهر عقل أوّل
است در صدر الشّرف
سبق اوّلين مراتب سلسله بدويّه ، وحمد تامّ جناب كبرياى إلهى على الحقيقة جوهر ذات
قدسى وهويّت نورى او است ، عليه وعترته الطّاهرين أفضل صلوات المصلّين.
ومنزلت عليّه وصىّ
مكرّم او در اين مرتبه ، خاتمه سلسله طوليّه عود ، منزله نور جوهر عقل ثانى است در
آن مرتبه سابقه سلسله طوليّه بدء نصف قطر دايره نظام وجود طول مراتب خمس سلسله بدء
متنازل از عقول مفارقه تا هيولى ، ونصف ديگر قطر طول مراتب خمس سلسله عود متصاعد
از هيولى تا عقل مستفاد نفس انسان ومحيط دايره ومبدأ ومعاد آحاد سلاسل طوليّه
وعرضيّه جناب كبرياء احديّت حقّه وصمديّت مطلقه قيّوم على الاطلاق است ، تعاظم
شأنه وتساطع برهانه.
زبان غيب ترجمان
نهايت عود وغايت ايجاد وحقيقت حمد ، صلوات الله وتسليماته عليه وآله الطّاهرين ،
اشارت به اين حقايق كه غوامض حكمت است فرموده ، در حديث شريف صحيح ثابت متواتر خود
گفته است : «أوّل ما خلق الله العقل» ، ودر حديث ديگر «أوّل ما خلق الله نورى» ،
ودر حديث ديگر «أنا وعلى من نور واحد».
ومن محزّ تحقيق اين
احاديث شريفه وسبيل توفيق وطريق تنسيق مناطيق ومداليل آنها را مشروحا مبسوطا در
قبس تاسع وقبس عاشر «قبسات حق اليقين» ، ودر حواشى زبور آل محمد وانجيل اهل البيت
، عليهمالسلام ، اعنى صحيفه كريمه كامله سجّاديّه ، ودر «رواشح سماويّه»
ودر «سدرة المنتهى» بر وجهى آورده ام ، به فضل وافضال وتعليم وإلهام وتأييد وتوفيق
وعون ملك علّام وعصمت حضرت صمديّت إلهى ، كه همانا احدى را مزيدى بر آن ميسّر
ومقدور نبوده باشد. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ذو الفضل العظيم.
واين رساله «أمانت
إلهيّه» ورسالة «مكانا عليّا» در اردوى معلّاى موكب همايون شاهى نوّاب كامياب سپهر
ركاب ، اشرف ارفع اعلى ، خلّد الله تعالى ملكه وعدله ، وأيّد نصره وعزّه ابدا ، در
قصبه همدان ، حسب الالتماس نوّاب خانى عالى شأنى ، مستجمع المآثر والمعالى ، نوّاب
قورچى پاشى حسينى موسوى صفوى نسبة ونسبا
ومنصبا وحسبا ،
أيّده الله سبحانه بمنّه وتأييده وسدّده بتوفيقه وتسديده ، رقم تحرير ورشم تسويد
پذيرفت. وكتب مسئولا بيمناه الفانية الدّاثرة أحوج الخلق إلى الله الحميد الغنيّ ،
محمّد بن محمّد ، يدعى باقر بن داماد الحسيني ، ختم الله له بالحسنى ، فى شهر
جمادى الأولى لعام تسع وثلاثين وألف (١٠٣٩) من الهجرة المقدّسة المباركة حامدا
مصلّيا مسلّما.
(١ ـ كتابخانه
مجلس شوراى اسلامى ، مجموعه ، ش ١٢٢٤. ٢ ـ مجموعه رسائل ثمان ، چاپ سنگى در سال
١٣١٥ قمرى. ٣ ـ مجموعه الرسائل المختارة ، سيد احمد تويسركانى ، مكتبة أمير
المؤمنين ، اصفهان ، ١٣٦٤.)
(١٨)
ترجمه قوس النّهار
بسم الله الرحمن الرحيم
... خواهى كه
معرفت ارتفاع آفتاب از كرم بدانى نخست دايره نصف النهار راست كند بر كره چنان كه
بر تربيع كره راست باشد پس شاخصى بكند از موم وبر تربيع دايره نصف النهار نهد چنان
كه قائم باشد وبه هيچ جانب ميل ندارد وبعد از آن از افق برمى دارد تا چنان گردد كه
اين شخص را هيچ سايه نباشد وبس نگاه كند به آخرترين درجه كه از افق بر مى آيد از
دايره نصف النهار چنان كه مرتفع شده باشد از دايره آن را ارتفاع آفتاب باشد در آن
وقت والله اعلم مثالش خواستيم كه ارتفاع آفتاب بدانيم دايره نصف النهار بر چهار
قسمت كرديم وآنجا كه حرف نود نوشته شخصى از موم بگرديم وبر آخرترين درجه نهاديم كه
مماس افق بود بر تربيع دايره افق ونصف النهار وآن جايگاه بود كه حرف صاد نوشته بود
وبعد از آن دايره نصف النّهار كره بر افزوديم تا آنگاه كه آن شخص را هيچ سايه
نماند وبر نفس خويش سايه بر افكند ونگاه كرديم وسى درجه از افق برآمده بود اين است
ارتفاع وقت.
(١) باب در معرفت
طالع
نخست دايره نصف
النهار باز دست آورديم بالتى ديگر وكره را بر دايره نصف النهار
نهيم چنان كه
دايره نصف النهار كره بر دايره نصف النهار كه بر زمين پديد آورده باشيم منطبق شده
باشد شاقولى از دايره نصف النهار درآويزيم از آن جهت كه شمال باشد وجزو شمس از
دايره فلك البروج معلوم كنيم وآن شخص كه از موم كرده باشيم بر آن جزو نهيم وكره مى
جنبانيم تا آن سايه شخص نباشد پس ربع دايره بكشيم يا از چوب يا از كاغذ ونبود قسمت
كنيم ويكسر اين ربع بر دايره نصف النهار نهيم ويك سر مى جنبانيم بر سطح دايره افق
تا آن درجه كه ارتفاع باشد مماس درجه آفتاب شود واز آنجا كه شاقول در آويخته باشد
تا پاى اين ربع بشماريم آن سمت باشد وبر افق نگاه كنيم آنچه از دايره فلك البروج
برآمده باشد آن طالع وقت باشد.
(٢) باب در معرفت قوس
النهار
ومعلوم كنيم جزو
آفتاب را وبر دايره افق نهيم وآن جزو را كه از دايره معدل النهار بر افق باشد نشان
كنيم وكره بگردانيم در حلقه تا جزو آفتاب ديگر بار نشان كنيم وما بين هر دو علامت
بشماريم كه آن قوس النهار آن روز باشد.
(٣) باب در قوس الليل
بشبهه
جزو آفتاب را از
فلك البروج بر دايره افق مغرب است وكره در زير خلق بگردانيم تا ديگر بار آن درجه
آفتاب بر افق مشرق پديد آيد وبعد از آن نشان كند كه جزوى كه بر افق باشد از دايره
معدل النهار وما بين هر دو علامت بشماريم آن قدر كه يافته باشيم قوس النهار باشد.
(٤) باب در ساعات
مستوى
چون قوس النهار
معلوم كرده باشيم بر پانزده قسمت كنيم آنچه بيرون آيد ساعات مستوى باشد وچون از
پانزده چند عدد افزون باشد در چهار ضرب كنيم كه آن كسر ساعت باشد.
(٥) باب در ساعات
زمانيه
چون خواهيم كه
ساعات زمانى معلوم كنيم قوس النهار بر دوازده قسمت كنيم آنچه بيرون آيد ساعات
زمانى باشد ودر كسر همان كنند كه در ساعات گفته شد.
(٦) باب در مطالع
بروج
چون خواهيم كه
مطالع بروج بدانيم اوّل برج را بر افق بلد نهيم نشان بر دايره معدل النهار بكنيم
بر آن جزو كه با درجه فلك البروج باشد بر افق وبس جمله آن برج را از افق بلد
برداريم ونشان كنيم ديگر باره بر دايره معدل النهار وما بين هر دو علامت بشماريم
كه آن قدر مطالع بروج باشد.
(٧) باب در مطالع خط
استوا
چون خواهيم كه
بدانيم كه برجى به چند در وسط السماء مى رود نخست أوّل آن برج را بر خط وسط السماء
نهد ونشان به دايره معدل النهار بكند وما بين هر دو نشان بشمارد كه آن قدر مطالع
قمران برج باشد.
(٨) باب در مطالع
تنظير غروب
چون خواهيم كه
بدانيم كه برجى به چند درجه فرومى رود نخست أوّل ن برج بر افق نهيم ونشان كنيم بر
دايره مدل النهار پس با جمله آن بروج فروبريم تا آخر برج وديگر باره دايره معدل
النهار نشان كنيم وبا اين هر دو علامت بشماريم آن قدر كه يافته باشيم مطالع نظير
غروب باشد.
(٩) باب در ميل شمس
چون خواهيم كه ميل
شمس بدانيم نخست اوّل آن برج كه خواهيم بر خط نصف النهار نهيم ونشان كنيم وبر خط
نصف النهار بگذرانيم تا آخر برج بر خط وسط السماء آيد وبر دايره نصف النهار ما بين
هر دو علامت بشماريم آن قدر كه يافته باشيم ميل برج باشد.
(١٠) باب در غايت
ارتفاع
چون خواهيم كه
غايت ارتفاع آفتاب بدانيم در هر برج كه باشد آن درج كه خواهيم بر خط نصف النهار
نهيم ونشان بر دايره نصف النهار كنيم واز پاى دايره نصف النهار تا آنجا بشماريم
وآن قدر كه يابيم غايت ارتفاع آن درجه باشد.
(١١) باب در عرض كوكب
چون خواهيم كه عرض
كوكب بدانيم نخست كوكب را بر دايره نصف النهار نهيم وببينيم كه بر چند درجه افتاده
است از دايره نصف النهار وآنجاى كه نشان كنيم از دايره فلك البروج تا آنجا خداست
كه آن قدر عرض كوكب باشد.
(١٢) باب در بعد كوكب
چون خواهيم كه بعد
كوكب بدانيم نخست كوكب را بر دايره نصف النهار آورديم وبر دايره نصف النهار نشان
كنيم وبس نگاه كنيم تا از دايره معدل النهار تا آنجايى كه كوكب باشد چند درجه باشد
آن قدر بعد كوكب باشد.
(١٣) باب در سعت مشرق
آفتاب
چون خواهيم كه سعت
مشرق آفتاب بدانيم نخست آن درج كه آفتاب در وى باشد بر دايره افق نهيم ودر آن عرض
كه باشيم وبر دايره افق نشان كنيم آنجا كه مطلع آن درج باشد واز آنجاى كه به اوّل
حمل تا اوّل ميزان بشماريم از دايره افق چندان درج كه يافته باشيم سعت مشرق آن درج
باشد.
(١٤) باب در معرفت
سعت مشرق
كوكب چون خواهيم
كه سعت مشرق كوكب بدانيم نخست كره را بر عرض آن شهر كه خواهيم ببايد بست وبعد از
آن كوكب را بر افق مشرق آورد تا در كدام درجه افتاده باشد از دايره افق وآنجاى كه
نشان كنيم واز آنجاى كه با مطلع اوّل حمد ميزان ببينيم كه چند است آن قدر كه يابيم
سعت مشرق كوكب باشد در آن عرض.
(١٥) باب در تعديل
النهار آفتاب
چون خواهيم كه
تعديل النهار بدانيم نخست آن درج كه خواهيم بر دايره افق نهيم ونگاه كنيم تا از
دايره معدل النهار كدام درجه است بر دايره افق باشد ونشان كند وبعد از آن بر دايره
نصف النهار آورد ونگاه كند كه چند درجه از دايره معدل النهار دايره نصف النهار
آمده است ونشان كند وكم از پيش برود آنچه بماند تعديل النهار آن برج باشد.
(١٦) باب در تعديل
النهار كوكب
چون خواهيم كه
تعديل النهار كوكب بدانيم نخست آن كوكب را بر دايره افق نهيم ونشان كنيم بر دايره
معدل النهار وبعد آن كوكب را بر دايره نصف النهار آورديم ونشان كنيم ديگر باره بر
دايره معدل النهار چندان كه يافته باشيم ما بين هر دو علامت بشماريم وكم از بيش
نقصان كنيم آن قدر تعديل النهار كوكب باشد.
(١٧) باب در قوس
النهار كوكب
چون خواهيم كه قوس
النهار كوكب بدانيم نخست كوكب را بر دايره افق مشرق نهيم وبر دايره معدل النهار
نشان كنيم آن درجه را كه بر دايره افق باشد وبعد از آن كوكب بر افق مغرب آورده
ونشان كند بر دايره معدل النهار آن قدر كه ما بين هر دو علامت باشد وقوس النهار
باشد.
(١٨) باب در قوس
الليل كوكب
چون خواهيم كه قوس
الليل كوكب بدانيم كوكب را بر دايره افق مغرب نهيم ونشان كنيم بر دايره معدل
النهار وكوكب را در زير افق بگردانيم تا كوكب را بر دايره افق مغرب نهيم ونشان
كنيم بر دايره معدل النهار وكوكب را در زير افق بگردانيم تا كوكب بر دايره افق بر
آيد از جانب مشرق وديگر باره نشان كنيم بر دايره معدل النهار وما بين هر دو علامت
بشماريم آن قدر كه يابيم قوس الليل باشد.
(١٩) باب در درجه
طلوع كوكب
چون خواهيم كه
بدانيم كه كوكب در كدام درجه برجى مى آيد نخست آن كوكب را بر دايره افق مشرق بايد
نهاد ونگاه كردن تا كدام درجه از اجزاء دايره فلك البروج بر دايره افق آمده باشد
كه آن كوكب در آن درج بر افق بر مى آيد.
(٢٠) باب در درجه
غروب كوكب
چون مى خواهيم كه
در درجه غروب كوكب بدانيم نخست كوكب بر دايره افق
مغرب نهيم ونشان
كنيم بر آن درجه كه افق باشد از دايره فلك البروج كه آن كوكب به آن درجه فرومى
رود.
(٢١) باب در درجه قمر
كوكب
چون خواهيم كه
درجه قمر كوكب بدانيم نخست كوكب را بر دايره نصف النهار نهيم ونشان كنيم بر آن جزو
دايره فلك البروج.
(١٩)
تعليقة على الجمع بين
الرأيين للفارابى
از مير محمد باقر
داماد كه بر حاشيه جمع بين الرأيين فارابى نوشته [است] :
لا شكّ أنّ حدوث
الكلّ من إبداع البارى ، جلّ جلاله ، إيّاه رفعة بلا زمان هو الحدوث الدّهرىّ لكلّ
بتّة ، ولكن النّظر فى أنّ أرسطاليس يقول به وفاقا لأستاده الأكرم الإمام ، أم لا
، فإنّ عدم القول بالحدوث الزّمانىّ لا يستلزم القول بالقدم الدّهرىّ أصلا. والّذي
يظهر من أقاويل أرسطوطاليس أنّه لا يقول بحدوث الكلّ حدوثا دهريّا ، أى حدوثه عن
إبداع البارى ، جلّ جلاله ، إيّاه دفعة بلا زمان ، بل يقول بقدم بعض العالم ، أعنى
المبدعات قدما دهريّا.
فالمشهور عند
أرسطاطاليس : أنّ الصّنع والإبداع متقابلان متباينان بحسب المفهوم وبحسب التّحقّق
جميعا ، فالصّنع هو الإيجاد المسبوق بالعدم بخلاف الإبداع ، والبارى الأوّل سبحانه
صانع الكائنات الّتي هى الحوادث ، ومبدع المبدعات الّتي المعلولات السّرمديّة ؛
فهو تعالى غير صانع للعالم بأسره ، بل إنّه صانع لبعض العالم ومبدع لبعضه. والشّيخ
الرّئيس قد اقتفى أثره فى كتاب «الإشارات» وعمل النّمط الخامس فى الصّنع والإبداع.
وأمّا عند أفلاطون وشيعته ، فالعالم بأسره محدث مصنوع ، صانعه وموجده من بعد عدمه هو
الله تعالى سبحانه. والكائنات حادثة زمانيّا أيضا ، ومسبوقة بمادّة ومدّة ، بخلاف
المبدعات ، والشّيخ المصنّف قد حاول بيان اتّفاق الحكيمين إطباقا على القول
الأخير.
نقل بواسطة من
خطّه ، رحمهالله تعالى (مجلس ، مجموعه ، ش ١٤٠٥).
(٢٠)
تعريف ابن قتيبة مؤلف
الامامة والسياسة
بسم الله الرحمن الرحيم
مصنّف الكتاب عبد
الله بن مسلم بن قتيبة المروزىّ ، ولد فى بغداد ، وقيل : فى الكوفة. أقام بالدينور
مدّة قاضيا فنسب إليها. وكان أبوه مروزيّا ، ولد سنه ٢١٣ ومات سنة سبعين ، وقيل
إحدى وسبعين ، وقيل ستّ وسبعين ومأتين. وكانت وفاته فجأة : صاح صيحة سمعت من بعيد
ثمّ أغمى عليه ومات.
كان ابن قتيبة
نحويّا لغويّا ، وكان يرى رأى الحشويّة يعتقد إمامة نبى اميّة. والمرتضى علم الهدى
رضى الله عنه يحكى عنه فى كتبه كثيرا ، رايت له سوى هذا الكتاب طبقات الشعراء ،
وإصلاح المنطق ، وأدب الكاتب. وقد ذكروا له مصنّفات عديدة غيرها. قال ابن خلكان :
أقرأ كتبه ببغداد إلى حين. وفاته والدّينور ، بكسر الدّال ، وضبطها المعانى بفتحها
، بلدة بالقرب من قرمايسين من توابع سنندج.
ولا أعلم فى
القدماء أشدّ نصبا من ثلاثة ابن قتيبة ، وعمر بن بحر الجاحظ ، والقاضى عبد الجبّار
صاحب المغنى. والأخيران من المعتزلة.
(خط شريف ورقم
مبارك مير محمد باقر داماد قدس الله روحه مى باشد وانا العبد الفقير محمد على
الموسوى) (كتابخانه دانشگاه تهران ، مجموعه ، ش ١٤٠٦).
(٢١)
تعليقة فى إثبات
الواجب تعالى شأنه
هو فى إثبات
الواجب أقول : بعد تمهيد مقدّمتين : الأولى مفهوم يصدق على كلّ شيء فى نفس الأمر
لا بدّ وأن يكون هناك شيء يكون ذلك المفهوم بالذّات له بديهة. الثّانية انّ كلّ
شيء يكون لذاته أمرا يمتنع لذاته أن يكون من حيث ذاته متصفا بنقيض ذلك الأمر ، لا
شبهة انّه يصدق الموجود المطلق على الأشياء فى الخارج ، فلا بدّ أن يكون فى الخارج
أمر ،
هو موجود مطلق
بالذات.
بحكم المقدمة
الاولى ... وبحكم المقدمة الثانية يمتنع بذاته أن يكون ذلك الأمر من حيث ذاته
متصفا بنقيض الموجود ، وهو المعدوم ، بمعنى أنّه من حيث ذاته لا يكون موجودا بأن
لا يكون ذاته بذاته موجودا ، وكلّ ما يمتنع من حيث ذاته أن لا يكون موجودا هو واجب
الوجود.
فثبت انّ فى
الوجود واجب الوجود بذاته ، وهو المطلوب. حررّه من منّ الله تعالى عليه بإفهام هذا
البرهان أقلّ خلق الله أفضل تركه ، عفى عنه.
هذا البرهان طغيان
عن نقصان المعرفة وغلط فاحش فاسد سخيف فى غاية الفساد والسّخافة ، ناش من عدم
الفرق بين الذاتىّ والعرضىّ ، على ما لا يخفى.
حرّره أقلّ العباد
خلالا وخصالا محمد باقر بن محمد الحسينىّ الشهير بداماد. أيّها السيّدى ، مدّ شوى
، ثقّل كلامك وانظر مرامك ، ولنعم ما قيل : بزرگش نخواهند اهل نظر.
(كتابخانه مركزى
دانشگاه تهران ، مجموعه ، ش ... ، به خطّ داماد است از دوره جوانى او)
(٢٢)
تعليقات على حاشية
شرح تجريد الاعتقاد للخفرىّ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : «إذ تحقّق
إيجاد ما يتوقف أيضا على تحقق موجود ما ، لأنّ الشيء ما لم يوجد لم يوجد» الخ.
طبيعة الإيجاد
متأخّرة عن طبيعة الوجود ، لأنّها طبيعة ناعتيّة يستحيل قيامها بذاتها ، فهى إنّما
تكون وصفا لشيء ، والرّبط الإيجابيّ مطلقا متأخر عن وجود الموضوع ، فإنّ ثبوت
الصّفة لشيء فرع وجود الموصوف فى نفسه ، فطبيعة الوجود متقدّمة على طبيعة الإيجاد.
وعلى تقدير عدم وجود الواجب تعالى لا يتحفّظ ذلك ، لأنّ اتّصاف طبيعة الممكن
بطبيعة الوجود لا يكون إلّا بعد تعلّق الإيجاد بها. وهذا تقرير البرهان على وجهه.
فالمقصود من قوله
: «الشيء ما لم يوجد لم يوجد» أنّه ما لم يتّصف بطبيعة الوجود لم يتّصف بطبيعة
الإيجاد. وعلى هذا لم يتوجه شيء من وجوه الشّبه ، كما يقال : اللازم من
قولهم : «الشيء ما
لم يوجد لم يوجد» توقف إيجاد كلّ شيء شيئا على وجوده ، لا توقف طبيعة الإيجاد على
طبيعة الوجود. وعلى تقدير التّسلسل لا يلزم خلاف ذلك.
لا يقال : على ما
ذكرتم يلزم توقّف طبيعة الوجود أيضا على نفسها ، لأنّ اتّصاف الشيء بها يتوقّف على
وجود ذلك الشيء بعين ما ذكر.
لأنّا نقول : لا
يتمّ ذلك فى طبيعة الوجود مطلقا ، لأنّها ليست طبيعة ناعتيّة حتى يلزم كونها وصفا
لماهيّة ، بل قد يكون طبيعة الوجود قائمة بنفس ذاتها ، كما فى حقيقة واجب الوجود.
وإن أورد فى طبيعة
الوجود المطلق العامّ البديهىّ. فنختار أنّها عن طبيعة الوجود الخاصّ القائم بذاته
الواجب الوجود بنفس ذاته. فتحدّس واستقم ، كما أمرت.
قوله : «ذلك
التوقّف مع كون لزومه لحدوث الفعل المطلق» الخ.
تحرير سوق البحث
وتشريح نظم العبارة فى هذه الحاشية يستقيم على أوجه ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
مستلزم ذلك التوقّف والجارّة بمجرورها والمعطوف على مدخولها ، أعنى لمحاليّة
الحدوث على تقدير الإيجاب وإمكان استلزام المحال للمحال متعلقا بممنوع سندا للمنع.
فالكلام مصبوب فى قالب بحثين :
أحدهما أنّ توقّف
الحادث على شرط حادث وإن كان ثبوته مستبينا (مبينا خ ل) ونقيضه محالا ، إلّا أنّه
مع فرض حدوث الفعل المطلق على تقدير الإيجاب ممنوع ، لأنّ هذا الحدوث محال ،
والمحال يمكن أن يكون مستلزما لمحال آخر. فلعلّ هذا الحدوث المحال يستلزم عدم
توقّف الحادث على شرط حادث وإن كان هو أيضا محالا.
والآخر : أنّ
توقّف الحادث على شرط حادث مع فرض الحدوث للفعل المطلق ، وهو ما سوى الله سبحانه
على الإطلاق مستلزم لتقدّم الشيء ، وهو الفعل المطلق على نفسه ، ضرورة أنّ الفعل
المطلق حينئذ يكون متوقّفا على شرط حادث ، وهو أيضا من أفراد الفعل المطلق.
والشّرط متقدّم لا محالة على المشروط تقدّما بالذّات. فإذن توقّف الحادث على شرط
حادث على تقدير حدوث الفعل المطلق ، وهو العالم بجملته ، خلف محال.
والثاني : أن يكون
الجارّ والمجرور مع ما فى حيّزه متعلّقا بالخبر ، وهو مستلزم وتعليلا
للاستلزام. فتقدير
العبارة : أنّ ذلك التوقّف على تقدير الحدوث للفعل المطلق مستلزم لتقدّم الشيء على
نفسه ، لكون هذا الحادث (الحدوث خ ل) على تقدير كون البارى موجبا لوجود العالم
بإرادته التي هى عين ذاته محالا ، والمحال يمكن أن يستلزم محالا آخر ، فلعلّ هذا
الحدوث المحال يكون مستلزما لكون الحادث متوقفا على شرط حادث هو نفسه لا شيء آخر
غيره ، فيكون الحادث شرطا لنفسه ومتقدّما على نفسه.
والثالث : أن يكون
الجارّ والمجرور ، أعنى : لمحاليّة هذا الحدوث على تقدير الإيجاب ، خبر ذلك التوقف
، وإمكان استلزام المحال للمحال مبتدأ آخر ، خبره مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه.
فتقرير الكلام :
أنّ توقّف الحادث على شرط حادث إنّما يستقيم لمحاليّة حدوث الفعل المطلق ، إذ لو
أمكن هذا الحدوث لم يكن ذلك التوقف صحيحا بالضّرورة. فحدوث الفعل المطلق حينئذ
محال ، وإمكان استلزام المحال محالا مستلزم لصحّة حدوث الفعل المطلق. فيلزم إذن
تقدّمه على نفسه ، بناء على ذلك التوقّف.
ثمّ التحقيق : انّ
المقدمة القائلة : إنّ كلّ حادث موقوف على شرط حادث إن ريم بالحدوث الحدوث
الزّمانى ، صادقة بكلّيتها ، وليس يلزم من ذلك إلّا اللّانهاية اللّايقفيّة ، بحسب
تحليل الحركة الدّوريّة المتّصلة إلى أبعاضها التّحليليّة ، دون اللّانهاية العدديّة.
وإن ريم به الحدوث الدّهرىّ فكلّيتها ممنوعة ، بل إنّما يصحّ ذلك فيما عدا نظام
الكلّ ، وأقدم أجزائه الّذي هو الصّادر الأوّل ؛ وينتهى سلسلة التوقّف على شرط
حادث هو الصّادر الأوّل ، فليتعرّف.
قوله : «فإن قيل :
انفكاك العلّة التّامة عن المعلول. الخ».
لا يخفين عليك أنّ
فى نظم هذا السّؤال والجواب على ما أورده المحشّى خلطا وتحريفا. وذلك لأنّ
للمتشككين فى الحوادث الزّمانيّة إشكالا عويصا من مسلكين : الأوّل : أنّ كلّ حادث
زمانىّ بما هو حادث زمانىّ ـ أى مسبوق كونه الحادث فى زمانه بلا كونه الواقع فى
الزّمان القبل ـ فانّه يستلزم حدوثه : إمّا تخلّف المعلول الزّمانىّ عن علّته
التّامّة الزّمانيّة مكمّما زمانيّا يتحلّل بحسبه بين والمتخلّف عنه زمان أو آن و
، إمّا تسلسل علل موجودة غير متناهية مترتّبة مجتمعة فى الوجود معا فى آن واحد ؛
لأنّ
العلّة التامّة
لوجود الحادث فى وقت حدوثه إن كانت تسبقه بالزّمان لزم التّخلّف المذكور ، وإن
كانت غير متقدّمة عليه بالزّمان ، فلا محالة يكون جزءا من أجزائها حادثا معه فى آن
حدوثه ، فيكون الكلام فيه كالكلام فى ذلك الحادث ويكون له أيضا علّة تامّة وجزأ من
أجزاء علّته أيضا حادثا معه فى ذلك الآن بعينه ، وهكذا إلى لا نهاية.
فتحدث فى آن حدوث
الحادث أمور مترتبة غير متناهية معا : فإن كانت هى بأسرها وجودات لزم التّسلسل
المستحيل فى ذلك الآن ، وإن كانت هى عدمات حادثة معا فى ذلك الآن ، فيكون لا محالة
قبل ذلك الآن وجودات مترتّبة إلى لا نهاية متحققة معا ، فتحدث عدماتها جميعا فى
ذلك الآن ، فيلزم التّسلسل المستحيل قبل ذلك الآن.
وكذلك إذ كانت
متشابكة عرضيّة منها وجودات وعرضيّة منها عدمات ، إذا العرضيّة الغير المتناهية
منها ، إمّا الوجودات وإمّا العدمات. فلا محيص إذن عن لزوم التّسلسل المستحيل ،
إمّا فى حدوث الحادث ، وإمّا قبله بالضّرورة.
الثّاني : أنّ
حادث زمانىّ بما هو حادث الوجود فى حاقّ الواقع ، فإنّ حصول كونه الحادث فى الواقع
إنّما يكون بارتفاع كونه فى عين الواقع رأسا ؛ وحصول الكون بارتفاع اللّاكون فى
متن الواقع هو المعبّر عنه ب «الحدوث الدّهرىّ».
وحينئذ نقول :
الحدوث الكائن فى الدّهر بجميع ما يتوقف عليه من علله وشرائطه المترتبة الحادثة فى
الدّهر معا يستلزم تخلّف الجميع عن علّته التامّة الغير الزّمانيّة تخلّفا دهريّا
غير مكمّم فى حاقّ متن الواقع لا يتخلّل بين المتخلّف والمتخلّف عنه ممتدّ ولا طرف
ممتدّ ، لا فى الخارج ولا فى الوهم أصلا ، لكون المتخلّف عنه متعاليا عن عالمى
الزّمان والمكان متقدّسا عن ملابسة الهيولى وعوارضها.
وبالجملة ، مجموع
الحوادث المترتبة بالعليّة والمعلوليّة ، بحسب حدوثها فى الدّهر معا متخلّف عن
علّته التّامّة المتقدسة عن الزّمان والمكان بالضّرورة.
فإذن كما يلزم
تخلّف كلّ حادث زمانىّ بما هو حادث زمانىّ عن علّته التامّة الزّمانيّة تخلّفا
زمانيّا مكمّما ، فكذلك يلزم تخلّف مجموع الحوادث الزّمانيّة بما هى حوادث دهريّة
عن علّتها التامّة الغير الزّمانيّة تخلّفا دهريّا غير مكمّم. ولا منقدح عن شيء من
ذينك المتخلّفين لأحد من العقلاء أصلا. فهذا تقرير مسلكى الإشكال ملخّصا.
والحكماء تفصّوا
عن الأوّل : بأنّه إنّما يلزم التخلّف الزّمانىّ عن العلّة التّامة الزّمانيّة أو
التّسلسل المستحيل لو لم يكن فى علل حدوث الحوادث الزّمانىّ فى الزّمان ماهيّة
التّصرّم والتّجدّد والحدوث والزّوال ، وهو الحركة ، فلا حدوث فى الزّمان لو لا
الحركة ، ولا تسلسل هناك إلّا على سبيل اللّانهاية اللّايقفيّة دون اللّانهاية
العدديّة.
وعن الثاني : بأنّ
الحوادث غير تامّة القوّة على قبول الوجود الأزلىّ. فكون الكائن بعد اللاكون فى
متن الدّهر مقتضى ذات الكائن ، وليس هو من تلقاء الفاعل ، إنّما من تلقاء الفاعل
وجود الحادث وأمّا كونه بعد العدم الدّهرىّ فمن تلقاء جوهر ذاته ، لقصور طباعه عن
احتمال الأزليّة.
فإذن ، التخلّف
الدّهرىّ هنالك من طباع جوهر ذات المعلول ، لا من تلقاء تسويف العلّة فى الإفاضة ،
كما تخلّف المعلول عن مرتبة ذات العلّة من نقصان جوهر المعلول وقاصريّته عن قبول
الوجود فى تلك المرتبة.
وتفصيل القول فى
المقامين خيرة «الشفاء» والكتب التي فى مرتبته ، ومحزّ حقّ التّحقيق ضمانه على
ذمّة صحفنا وكتبنا الحكميّة البرهانيّة. فإذن ، قد استبان أنّ المحشّى خلط أحد
المقامين بالآخر ، وحرّف كلّا منهما عن موضعه ، فليعلم.
قوله : «وفى هذا
الدّليل سرّ ، تأمّل فيه ، إن كنت ذا شوق».
وهو أنّ ما سوى
الله تعالى من الممكنات ليس لها وجود ، بل هى منسوبة إلى حضرة الوجود ، لأنّ
الوجود ليس بعارض لها ولا قائم بها ولا بماهيّتها ، بل مصداق حمل الموجود عليها
مجرّد انتسابها إلى الوجود ، كما أنّ الحدّاد هو من ينتسب إلى الحديد ، وذلك هو
مصداق حمل الحدّاد عليه ، لا من يقوم به الحديد ، هذا هو ذوق المتألّهين من
الحكماء.
ومذاق الصوفيّة
أعلى من ذلك ، فانّهم يرون أن الحقيقة الممكنة لا يطلق عليها الموجود أصلا ، بل
إنّما الممكنات مظاهر للحقيقة القدسيّة الواجبيّة ، ونسبتها إلى تلك الحضرة كنسبة
الأمواج إلى البحر ، والأشعّة إلى النّور ، والتّعيّنات إلى الطبائع الكليّة.
ثمّ إذا لوحظ أنّ
الظّهور الحقّ إنّما هو الوجود ، وليس الوجود إلّا الموجود الحقّ الأوّل ، تعالى
شأنه ، فليس الظّهور إلّا له. فالظاهر الحقّ هو الله سبحانه ، وإنّما المخفيّ ما
عدا ذاته تعالى.
فإذا هو خفىّ من
فرط الظّهور ، ونسبته إلى عقول العقلاء فى الخفاء من شدّة
الظّهور نسبة
الشّمس إلى القوّة الباصرة ، بل لا نسبة بين النّسبتين ، فتبصّر.
قوله : «فيكون
الالتفات بها يستفاد ، الخ».
الباء للسببيّة ،
وضمير التّأنيث للمعجزة ، أى يكون الالتفات ، إلى كون المرسل عالما ، مستفادا من
الشرع بسبب المعجزة ، وإن كان أصل العلم ، بكون المرسل عالما ، حاصلا من سبيل
العقل ، وليست الباء للتعدية ، إلّا أن يكون بمعنى إلى ، لأنّ الالتفات إنّما
يتعدّى بإلى.
قوله : «وليعلم
أنّ لواجب الوجود علمين ـ إلى قوله ـ قال بهمنيار : بيان ذلك ... إلخ».
الغرض من هذا
الكلام ، المعتضد بما نقل عن بهمنيار والمعلّم الثاني ، تحقيق كون العلم الإجمالىّ
بالمعلومات عين ذاته تعالى ، ودفع ما يتراءى وروده ، من أنّ العلم عين المعلوم
بالذّات ومغاير له بالاعتبار على ما هو التّحقيق ، فكيف يكون علمه تعالى بالممكنات
عين ذاته تعالى مع تخالف الحقيقة الواجبيّة والممكنية بالذّات.
وتحقيق الدّفع :
أنّ حضور ذات العلّة بعنيه حضور ذوات المعلولات على سبيل الإجمال ، فكان ذاته
تعالى بهذا الاعتبار عين المعلومات على سبيل الإجمال ، فكان علما وعالما ومعلوما ،
فلا يغاير العلم المعلوم.
فكأنّ ذات الواجب
تعالى مجمل ما يصدر عنه مفصلا ، حتّى أنّ الوهم ربما يذهب إلى أنّ هذه الحقائق
المتعدّدة اتّحدت بحسب حضور ذواتها فى ذات الواجب تعالى. وهذا معنى قول المعلّم
الثاني : «فهو الكلّ فى وحده».
ويمكن دفع الإيراد
: بأنّ المراد من كون علمه تعالى بالمعلولات عين ذاته تعالى ، كون ذاته بذاته من
غير قيام صفة العلم به منشأ لانكشاف ذاته وجميع معلولاته عليه تعالى ، فافهم وتدبّر
وإن أحببت مرّ الحقّ ولبّ القول هنالك ، فعليك بملازمة كتابينا «التقديسات» و «تقويم
الايمان».
قوله : «والمدرك
ومراتبه أربع ... الخ».
المدرك لو كان
بضمّ الميم وفتح الرّاء ، كان عطفا على قوله «ما أوجده» ، أى العلم التفصيلىّ عين
الموجودات فى الخارج وعين المدركات والمعلولات (والمعلومات خ د) بخلاف العلم
الإجمالىّ ، فإنّه عين ذاته تعالى. ولو كان بفتح الميم والرّاء ، كان عطفا على
الخارج ، أى العلم التفصيلىّ عين ما أوجده فى الخارج وفى المدرك
العقلانىّ
والنّفسانىّ ، وحينئذ يكون هذا الكلام إشارة إلى مراتب العلم التفصيلىّ على ما
يشرحها مفصّلا.
قوله : «بل واجب
الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّىّ ... الخ».
هذا شقّ لشقّى
التّرديد المنفيّين بالبرهان. وقوله : «على نحو كلّى» قيد لقوله «يعقل» ، لا لقوله
«كلّ شيء». وملخّصه : أنّه يعقل كلّ جزئيّ وكلىّ علما ، ذلك العلم على نحو كلّىّ ،
أى على نحو غير متغيّر ، كما هو سنّة الكليّات. «م ح ق قدسسره». [قوله : ...]
أى ما من شأنه أن
يفعل فقط ، إن كان له يفعل من غير أن يشاء ويريد. فذلك الشّيء ليس له قدرة ولا
قوّة بهذا المعنى. وإن كان إنّما كون يفعل له بإرادة إلّا أنّه دائم الإرادة دواما
ضروريّا وواجبا وجوبا اتفاقيّا أو ذاتيّا ، ومستحيل تغيّرها استحالة اتفاقيّة أو
ذاتيّة ، فإنّه إنّما يفعل بقدرة واختيار لا محالة.
بل الحقّ ، على ما
نحن أوردناه فى كتابنا «الإيماضات والتشريقات» وفى ساير كتبنا ، أنّ القدرة
والاختيار تتأكد بوجوب الإرادة وجوبا ذاتيّا ، ولا سيّما ما إذا كان الفاعل القادر
نفس ذاته هى بعينها الإرادة ، ومع ذلك يستمرّ صحّة الصّدور واللّاصدور المعتبرة فى
حدّ القدرة بالنّسبة إلى ذات الفاعل القادر ، ولكن بحسب القياس إلى ذات المفعول
المقدور عليه ، إذ ذات الفاعل القادر بحيث ما إذا كان مفعوله ممّا يليق بنظام
الخير فى الوجود كان متعلق المشيّة بحسب ذلك الاعتبار.
وإذا كان ذلك
المفعول بعينه ليس هو ممّا ذاته خير النظام الجملىّ للوجود لم يكن متعلّق المشيّة
بتّه. ونعم القول ما قلناه فى «الصحيفة الملكوتية» : «انّ كلمة الحكمة الحقّة
الصحيحة خفيفة على لسان العقل الصريح ثقيلة على الأسماع الجمهوريّة». «م ح ق. قدسسره العزيز». (دانشگاه ، ش ٤١٤٦ ، مجلس ، ش ٤١٦٤).
(٢٣)
شرح حديث تمثيل
الإمام على بسورة التوحيد
رسالة فى تحقيق
حديث ورد فى شأن على بن أبى طالب عليه الصّلاة والسّلام من مؤلفات ثالث المعلّمين
باقر علوم الأولين والآخرين محمد باقر الداماد الحسينىّ ، قدسسره.
بسم الله الرحمن
الرحيم. ومنك الاستيفاق يا كريم
هذه رسالة فى
تحقيق حديث شريف ورد فى شأن مولانا ومقتدانا على بن أبى طالب ، صلوات الله وسلام
عليه ، لسيّدنا ومن إليه فى العلوم استنادنا ، ثالث المعلّمين بل الأوّل لو كشف
الغطاء من البين وجرّد القول عن المين ، محيى مراسم آبائه الطاهرين ، سمّى خامس
أجداده الطيّبين ، محمّد باقر علوم الأوّلين والآخرين ، قدسسره :
الحمد كلّه لصانع
الوجود كلّه ، والصّلاة أفضلها على أفضل الرّسل وآله.
وبعد ، فأيّها
الصّديق الماحض والخليل النّاهض ، إنّ أحوج المربوبين إلى الربّ الغنىّ محمّد بن
محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى ، يملى على قلبك ،
ويتلو على سمعك ، فاسمع وع ، ولا تك لما دريت من النّاسين وعمّا وعيت من السّاهين
:
روى شيخنا ،
الحديث ، الرّاوية ، الصّدوق ، عروة الإسلام ، أبو جعفر ، محمّد بن على بن الحسين
بن موسى بن بابويه القمّى ، خفّه الله وجلّله برضوانه ، فى كتاب «التّوحيد» (ص ٥٤)
بالإسناد عن أبى بصير ، عن مولانا الصّادق ، أبى عند الله ، جعفر بن محمّد الباقر
ـ عليهماالسلام ـ «من قرء «قل هو الله أحد» مرّة واحدة فكأنّما قرأ ثلث
القرآن وثلث التوراة وثلث الإنجيل».
وبالإسناد عن
إسماعيل بن أبى زياد ، عن مولانا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عليهالسلام ، «أنّ النبي ، صلىاللهعليهوآله ، صلّى على سعد بن معاذ ، فقال : لقد وافى من الملائكة
للصّلاة عليه سبعون ألف ملك ، وفيهم جبرئيل عليهالسلام ، يصلّون عليه ، فقلت : يا جبرئيل ، بما استحقّ صلاتكم
عليه ، فقال : بقراءة «قل هو الله أحد» ، قائما وقاعدا ، راكبا وماشيا ، وذاهبا
وجائيا». [أمالى الصدوق ، ص ٢٣٨].
وبالإسناد عن عيسى
بن عبد الله ، عن مولانا أبى عبد الله ، عن أبيه ، عن جده ، عليهمالسلام ، قال : «قال رسول الله ، صلىاللهعليهوآله ، من قرء «قل هو الله أحد» حين يأخذ مضجعه ، غفر الله عزوجل له ذنوب خمسين سنة» [أمالي الصدوق ، ص ١٠].
وروى ، رضوان الله
عليه ، فى كتاب «عيون أخبار الرّضا» [ج ٢ ، ص ٣٧]. بإسناده أنّ سيّدنا ومولانا
أمير المؤمنين على بن أبى طالب ، عليهالسلام ، قال : «صلّى بنا رسول الله ، صلىاللهعليهوآله ، صلاة الفجر ، فقرأ فى الأولى الجحد وفى الثّانية
التّوحيد ، ثمّ قال : قرأت لكم ثلث القرآن وربعه».
وروى شيخنا الثّبت
العلم ، الأقدم الأفخم ، رئيس المحدثين ، أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن اسحاق
الكلينىّ ، رضوان الله تعالى عليه ، فى باب التوحيد من كتابه «الكافى» : أنّه سئل
مولانا على بن موسى الرّضا ، عليهالسلام ، عن التّوحيد ، فقال : «من قرأ «قل هو الله احد» وآمن بها
فقد عرف التّوحيد» ، قيل : وكيف يقرؤها قال : «كما يقرؤها النّاس» ، وزاد : «كذلك
الله ربّى». [الكافى ، ج ١ ، ص ٩١].
وبالجملة ،
فالرّوايات متظافرة لدى العامّة والخاصّة بأنّ سورة التّوحيد تعدل ثلث القرآن. وفى
التّفسير الكبير لعلّامة العلماء الجمهوريّة وإمامهم ، فخر الدّين الرّازى : «إنّ
سورة الإخلاص للقرآن كالحدقة للإنسان ، وإنّ القرآن كلّه صدف ، والدّر هو قوله
تعالى : «قل هو الله أحد».
وقد تساطعت
الأحاديث عن سيّدنا رسول الله ، صلىاللهعليهوآله ، بروايات شتّى وأخبار تترى، من الطّرق المختارة العاميّة
، والأسانيد المعتبرة الخاصّيّة ، وقد تولّينا روايتها وبسطها فى شرح تقدمة كتابنا
«تقويم الإيمان» أنّه صلىاللهعليهوآله ، قال : «مثل على بن ابى طالب فى هذه الامة ، مثل قل هو
الله أحد فى القرآن». وفى عضة من روايات مشيختنا الأقدمين ، نور الله ضرائحهم ،
وطرق الشّيوخ الجمهوريّين «مثل عليّ بن أبى طالب فى النّاس كمثل قل هو الله أحد فى
القرآن». وكذلك رواه من علمائهم صاحب كتاب «الفردوس» ابن شرويه الدّيلميّ.
وفى أمالى الصّدوق
بإسناده إليه ، صلىاللهعليهوآله ، يقول لعلىّ عليهالسلام : «مثلك فى أمّتى مثل قل هو الله أحد ، فمن قرأها مرة فقد
قرأ ثلث القرآن ، ومن قرأها مرّتين فقد قرأ ثلثي القرآن ، ومن قرأها ثلاثا فقد ختم
القرآن. فمن أحبّك بلسانه فقد كمل له ثلث الايمان ، ومن أحبّك بلسانه فقد كمل ثلث
الإيمان ، ومن أحبّك بلسانه وقلبه وفقد كمل له ثلثا الإيمان ، ومن أحبّك بلسانه
وقلبه نصرك بيده فقد استكمل الإيمان. (بحار الانوار ، ج ٣٩ ، ص ، ٢٧٠ ، معانى
الأخبار ، ٢٣٤ ، أمالى الصدوق ، ص ٢٢).
والّذي بعثنى
بالحقّ ، يا على ، لو أحبّك أهل الأرض كمحبّة أهل السّماء لك ، لما يعذّب أحد
بالنّار». فهذا ما رمنا روايته.
وإنّا نحن قد
تلونا على أسماع المتعلّمين ، وأملينا على قلوب المتبصّرين فى كتبنا العقليّة
وصحفنا الحكميّة ، ولا سيما كتابنا التّصحيحات والتقويمات الموسوم ب «تقويم
الإيمان» أنّ جملة الممكنات ، أى النّظام الجملىّ لعوالم الوجود على الإطلاق ،
كتاب الله المبين الغير المغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، وهو المعبّر
عنه على ألسنة
أكارم الحكماء بالإنسان الكبير.
فإن روعيت أعميّة
الصّنف بالقياس إلى الشّخص المندرج تحته وشموله إيّاه ، وكذلك النّوع بالقياس إلى
الصّنف ، والجنس بالقياس إلى النّوع ، قيل : التّشخّصات والأشخاص بمنزلة الحروف
والكلمات المفردة والأصناف بمنزلة أفراد الكلام والجمل ، والأنواع بمنزله الآيات،
والأجناس بمنزلة السّور ، والقوى واللوازم والأوصاف بمنزلة التّشديد والمدّ
والإعراب.
وإن لوحظ تركّب
النّوع من الجنس والفصل ، والصّنف من النّوع ، واللواحق المصنّفة والشّخص من
الحقيقة الصّنفيّة والعوارض المشخّصة عكس ، فقيل : الأجناس العالية والفصول بمنزلة
حروف المبانى ، والأنواع الإضافيّة المتوسّطة بمنزلة الكلمات ، والأنواع الحقيقيّة
السّافلة بمنزلة الجمل ، والأصناف بمنزلة الآيات ، والأشخاص بمنزلة السّور.
وعلى هذا ، فتكون
النّفس النّاطقة البشريّة البالغة فى جانبى العلم والعمل قصيا درجات الاستكمال ،
بحسب أقصى مراتب العقل المستفاد ، لكونها وحدها فى حدّ مرتبتها تلك عالما عقليّا
هو فسحة عالم الوجود بالأسر ، ومضاهيته فى الاستجماع والاستيعاب ، كتابا مبينا
جامعا ، مثابته فى جامعيّته مثابة مجموع الكتاب الجملىّ الّذي هو نظام عوالم
الوجود ، بقضّها وقضيضها على الإطلاق قاطبة. ومن هناك يقال للإنسان العارف :
العالم الكبير ولمجموع العالم : الإنسان الصغير.
واذ قد هديناك
سبيلى النّسبتين المتعاكستين فى ما ينتظم منه العالم وما يأتلف منه الكتاب ،
فاعلمن أنّ لكلّ من الاعتبارين درجة من التحقيق ، وقسطا من التحصيل. فاذن
بالاعتبار الأوّل ، ينتزع منه إطلاق الكلمات على أشخاص المعلومات ، ومنه ما قال ،
جلّ سلطانه ، فى التّنزيل الكريم : (إِنَّ اللهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، [آل عمران ، ٤٥].
وبالاعتبار
الثّاني ، يظهر سرّ قول رسول الله ، صلىاللهعليهوآله : «مثل عليّ بن أبى طالب فيكم مثل قل هو الله أحد فى
القرآن». وطىّ مطاويه سرّ عظيم ، يكشف عنه قوله ، صلىاللهعليهوآله : «مثل عليّ بن أبى طالب فى هذه الامّة مثل عيسى بن مريم
فى بنى إسرائيل». وقد روته العامّة والخاصّة من طرق مختلفة.
ثمّ إنّ تخصيص
التّشبيه ب «قل هو الله أحد» فيه بعد روم التنبيه على قصيا الجلالة وقصيا المنزلة
رعاية الاطباق على حال على بن أبى طالب ، صلوات الله عليه ، فى درجه الإخلاص لله
سبحانه ، ومعرفة حقائق التوحيد ، فهو ينطق بلسان حاله لما ينطق به «قل هو الله أحد»
بلسان ألفاظها ، ولسان الحال أفصح وبيانه أبلغ. ومن هناك انبرغ عن لسانه، صلوات
الله عليه ، : «ذلك الكتاب الصامت ، وأنا الكتاب النّاطق». فعلىّ ، عليهالسلام ، سورة الإخلاص والتّوحيد فى كتاب العالم ، وكتاب عقلىّ
مبين ، مضاه لكتاب نظام الوجود.
وأسرار الآيات
مفاتيحها عند الله العليم الحكيم ، ورموز الأحاديث مصابيحها فى مشكاة كمال رسوله
الكريم. وما الفضل إلّا بيد الله ، وما الفوز إلّا باتّباع رسول الله والتّمسّك
بأهل بيته الأطهرين ، صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين.
وكتب مسئولا أحوج
المفتاقين إلى رحمة ربّه الغنىّ محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ ،
ختم له بالعاقبة الحسنى فى الألف والعشرين من الهجرة المباركة المقدّسة النّبويّة
، حامدا مصلّيا مسلّما تائبا مستغفرا ، والحمد لله حقّ حمده.
هذا صورة خطّه ، رحمهالله فى نشأته. وكتب هذه الرّسالة متنا وحاشية من نسخة الأصل
بخطّه ره ، أحوج المربوبين إلى ربّه الغنىّ ابن على نقى بهاء الدين محمّد
الطّغائىّ. (بحار الانوار ، ج ٣٩ ، ص ٢٧١ ـ ٢٧٢. من انا نحن الى آخر الرسالة.
آستان قدس ، ش ... ، ملك ، مجموعه ، ش ... ، مع الحواشى بخطّ المؤلّف).
(٢٤)
رساله «مكانا عليّا»
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله ، جلّ
مسجده وعزّ سلطانه ، فى تنزيله الحكيم وقرآنه الكريم : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ ،
إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (مريم ، ٥٧)
ياد كن در كتاب
مبين ما ادريس را كه او بتحقيق پيغمبرى بود در درجه يقين بغاية الغاية راسخ ، ودر
تصديق اسرار ربوبيّت وتحقيق مكنونات علم وغوامض حكمت سابق وشامخ ، وما او را
برداشتيم ورفعت داديم از روى علوّ منزلت وسموّ مرتبت ،
يا آنكه او را
عروج فرموديم به مكانى بس عالى ومقامى بسيار بلند.
إدريس پيش بعضى از
علماء ، لفظ عربى است بر وزن إفعيل ، صيغه مبالغه ، مشتقّ از درس ، وپيش اكثر عربى
نيست ، ولهذا منصرف نمى شود. ودر معنى به حسب آن لغت موافق لغت عرب است. او را
ادريس گفته اند از جهت كثرت درس ومدارست كتب علم وحكمت. ونزد من اين قول اصحّ است.
ونام او در تورات
اخنوخ است. وحكماء يونان او را هرمس الهرامسة مى گويند ، فرزند شيث نبىّ وجدّ پدر
نوح نبىّ است ، على نبيّنا وعليهمالسلام.
وأوّل كسى كه خط
نوشت وإعمال قلم كرد او بود. والله تعالى علم هيأت وعلم حساب وعلم نجوم را معجزه
او ساخت. وصاحب «تاريخ الحكماء» شمس الدّين شهرزورى ، وديگر مورّخين گويند : «هرمان
، بلكه أهرام ثلاثه مصر بناء اوست». از علم وحى وعلم نجوم دانست كه در زمان طوفان
نوح اكثر معموره عالم خراب خواهد شد ، كتب علمى را در موضعى جمع ساخته ، آن گنبدها
بر آن بنا نمود بى در ، تا كتابهاى حكمت از آسيب طوفان محفوظ بماند.
امام عصر ، صاحب
الزّمان ، صلىاللهعليهوآله. وعجّل فرجه ، در وقت ظهور ، إن شاء الله العزيز ، گنبدها
را شكافته ، كتابها را بيرون خواهد آورد.
«مكانا عليّا» به
قواعد علم تفسير ، دو احتمال دارد : أوّل آنكه تميز بوده باشد ، ومكان به معنى
منزلت است ، يعنى منزلت او را در نبوّت ورسالت بلند گردانيديم. دوم آنكه منصوب
باشد به نزع خافض ، وتقدير كلام : «إلى مكان على» يعنى او را صعود وعروج داديم ،
تا به مكانى بسيار عالى.
اقوال مفسّرين ،
بنا بر مسلك ثانى ، مختلف است ، بعضى گفته اند : آن مكان عالى عبارت است از بهشت ،
وموقع آن فوق آسمان هفتم ، يعنى فلك زحل ، وتحت آسمان هشتم ، يعنى كرسى وفلك ثوابت
، است ودر حديث شريف نبوى وارد شده : «سقف الجنّة عرش الرّحمن» سقف بهشت عرش رفيع
إلهى است. ما بين آسمان چهارم وآسمان پنجم قبض روح إدريس عليهالسلام واقع شده باز الله ، سبحانه وتعالى او را حيات نبخشيده ،
كرامت عروج به بهشت روزى گردانيد ، واليوم
زنده است در بهشت.
واين معنى در كتب احاديث از مولاى ما امام باقر عليهالسلام مروى است.
وبعضى مى گويند كه
رفع ادريس تا آسمان ششم بوده. وبعضى گويند : چهارم ، واز آن تجاوز نشده ، ومحلّ
عيسى عليهالسلام نيز آسمان چهارم است.
لباس مردمان قبل
از زمان ادريس از پوست حيوانات بوده است ، او را صنعت خياطت إلهام فرمودند. أوّل
كسى وخيّاطى كه رخت دوخته پوشيده او بود.
ودر بعضى از
مؤلّفات تاريخ مصر وتواريخ خلفاى بنى عباس به نظر رسيده كه مأمون يا هارون الرّشيد
مقرّر كرد كه چند كس در ديوار يكى از هرمان كه بانى آن ادريس است سوراخى تا اندرون
گنبد معلوم نمايند كه آنجا چه چيز مخزون است. بعد از يك سال كندن در عرض نجف ديوار
طاقى ظاهر شد ودر آن مقدارى از زر طلا مخزون بود ، آن را به درگاه خلافت خليفه
فرستادند ، بعد از حساب مبلغ آن موازى مبلغى بود كه در آن يك سال خرج كندن بعضى از
عرض ديوار شده بود. خليفه از آن اشاراتى فهميد به ترك اين مطلب. فرمود كه دست از
كندن آن بازداريد ، واعلم عند الله سبحانه.
نسب ادريس بن يارد
بن مهلائيل بن قشا بن انوش بن شيث بن آدم ، على نبيّنا وعليهمالسلام. ومعنى شيث در لغت عرب هبة الله است ، چنانچه صدوق ابو
جعفر بن بابويه ، رضى الله تعالى عنه ، در كتاب «من لا يحضره الفقيه» روايت كرده.
وكتب مسئولا
بيمناه الدّاثرة الفانية ، محمّد بن محمّد يدعى باقر بن داماد الحسينىّ ، ختم الله
له بالحسنى حامدا مصلّيا مسلّما. (ميرداماد ، أربعة ايّام ، ص ٣٩٢ ـ ٣٩٦).
(٢٥)
جنت ومكان روح
وأيضا وجدته بخطه
، قدسسره ، من بعض إفاداته. وفى آخره مكانة الرؤيا :
حق آن است كه جنّت
موعود بالفعل مخلوق است بالاى هفت آسمان وپايين فلك ثوابت ، كه عرش است ، كه در
اصطلاح شرع مقدّس كرسى است ، وفلك الافلاك در اصطلاح شرع عرش است ، وآيه كريمه (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها
جَنَّةُ الْمَأْوى). وحديث شريف : «سقف الجنّة عرش الرّحمن» دلالت واضحه دارد
بر آنكه بالاى فلك الأفلاك ، يعنى عرش لا خلأ ولا ملأ است ، وبرهان تناهى ابعاد
تمام است وهيچ تخمين در آن نيست.
ودر حقيقت نفس
انسانى جوهرى است مجرّد ، بعد از قطع تعلّق بدن در عالم مجرّدات خواهد بود ، در
وقت حشر جسمانى بار به امر الله تعالى تعلّق بدن در عالم مجرّدات خواهد بود. در
وقت حشر جسمانى باز به امر الله تعالى تعلّق به بدن خواهد گرفت.
وارواح بدنيّه سه
اند : روح حيوانى ومحلّ آن قلب است. وروح طبيعى ومحلّ آن كبد است ، وروح نفسانى
ومحلّ آن دماغ است.
ودر وقت خواب روح
إلهى كه نفس ناطقه است از تدبير ظاهر بدن واستخدام حواسّ ظاهره بازمى ماند وعرض
مخزونات ومحفوظات قواى خياليّه ووهميّه ديده از غواشى عالم هيولى فى الجملة منصرف
شده به عالم مفارقات مى پيوندد وبا عقول ونفوس نحوى اتّصال مى يابد. والعلم
بالحقائق عند من بيده مقاليد السّماوات والأرض ، وهو بكلّ شيء عليم ، منه دام ظله.
(فضائل السادات از
سيّد محمد اشرف حسينى ، فرزند سيّد احمد علوى خواهر زاده وداماد ميرداماد حسينى ،
ص ٣٠٩ ، در حاشيه چاپ سنگى ، سال ١٣١٤ ه. ق. ودر پايان كتاب سه اجازه ميرداماد به
سيّد احمد علوى نيز آمده است).
(٢٦)
تعبير جزء لا يتجزى
امير محمّد باقر
الدّاماد قدّس الله روحه :
اگر كند متكلم
نظر به قدر عدوت
|
|
قياس جوهر فرد
ار چه خصم اوست عديم
|
مگر بديهه عقل
از عمل شود معزول
|
|
وگر نه بايدش از
جنس قابل تقسيم
|
حاصل معنى اين بيت
آن است كه اگر متكلم قدر عدوّت را نسبت دهد به جزء لا يتجزى وملاحظه كند قدر عدوّت
را برابر جزء لا يتجزى ، در اين صورت بر او لازم است كه معترف شود كه قدر عدوّ تو
كمتر از جزء لا يتجزى است وجزء لا يتجزى بزرگتر از اوست ، وهرگاه جزء لا يتجزى
بزرگتر از او باشد بالضرورة قابل قسمت خواهد بود وجزء لا يتجزى نخواهد بود.
پس متكلّم به بركت
ملاحظه نسبت مذكوره از مذهب باطل خود كه جزء لا يتجزى قابل قسمت نبودن است بر مى
گردد وبه مذهب حق مى آيد كه قابل قسمت بودن است. اين است بيان حاصل معنى ، امّا
ظاهر كلام دلالت دارد بر آنكه جوهر فرد نسبت داده مى شود به قدر عدوّ وملاحظه كرده
مى شود
كه جزء لا يتجزى
به قدر عدوّست يا نه. ودر اين صورت لازم است كه متكلم قائل شود كه جزء لا يتجزى
بزرگتر است از قدر عدوّ تو وحال هر دو احتمال قسمت جزء لا يتجزى است. س م س ر ه
(٢٧)
مقدمه شارع النّجاة
بسم الله الرحمن الرحيم والاعتصام بالعزيز العليم
الحمد لله ربّ
العالمين حمدا تامّا فوق حمد الحامدين كما ينبغى لبهاء وجهه وجهات عزّه وكبرياء
جلاله. والصّلاة منه ومن ملائكته المقرّبين وعباده المخلصين على خير الشارعين وصفو
المرسلين وخاتم النبيّين محمد المنبعث رحمة للعالمين وأوصيائه المعصومين القدّيسين
من أهل بيته وعترته وحامّته وآله.
امّا بعد ، أحوج
خلق الله وأفقرهم إلى رحمته محمد باقر الداماد الحسينىّ ، ختم الله له فى نشأتيه
بالحسنى ، مى گويد : اخوان دينى واخلّاء ايمانى واولاد معنوى واصحاب اخروى ،
كثّرهم الله تعالى ، عموما ومؤمن موفّق متديّن محمّد رضا جلبى تبريزى اسطنبولى
اصفهانى ، حفّه الله ، سبحانه وتعالى ، بعنايته وفضله ، خصوصا التماس وإلحاح
وتلمّس واقتراح از اندازه گذرانيدند كه متون اقوال ورءوس فتاواى من در مسائل ابواب
عبادات كه مكلفين را عمل به احكام آنها فرض متعيّن وواجب متحتّم وبى آن عبادت فاسد
وبدون آن اشتغال باطل است ، به لغت فارسى ، به عبارتى كه مناسب اندازه افهام عامّة
الانام بوده باشد ، صورت تحرير پذيرد ، والتماس ايشان را محيصى از اجابت وملتمس
عزيزان را محيدى از انجاح نيافته ، ابتغاء لوجه الله الكريم واحتسابا بذلك عنده
الأجر العظيم ، صحيفه اى مشتمل بر غرائب فروع ونوادر مسائل ترتيب نموده ، شارع
النّجاة فى أبواب العباداتش ناميد. ومن الله الاستيفاق والاستيزاع ، والتوفيق
والإيزاع ، وبه الثّقة والاعتصام ، ومنه التّأييد والعصمة. واين صحيفه ان شاء الله
العزيز المنّان مرتّب بر تقدمه وپنج كتاب وتختمه خواهد بود. كتاب الطّهارة
والصّلاة ، كتاب الزكاة والأخماس ، كتاب الصّيام والاعتكاف ، كتاب الحجّ والمزار ،
كتاب الجهاد والامر بالمعروف والنّهى عن المنكر.
تقدمه
در آن سه اصل است :
اصل اوّل
(اصول دين)
بر هر مكلّف واجب
عينى است كه قبل از نماز وقبل از وضو وغسل وتيمّم وبالجملة قبل از هر عباداتى از
عبادات شرعيّه علم يقينى به معارف مبدأ ومعاد كه اصول دين است ، به دليل وبرهان
مفيد يقين تحصيل نمايد ، وحصول اين علم يقينى شرط صحّت جميع عبادات است ، وهيچ
عبادتى بى آن صحيح نيست واسقاط تكليف نمى كند وتقليد قول غير در آن كافى نيست.
وأمّا قدرت بر حلّ شكوك وشبهات وتحقيق اسرار ومشكلات واجب عينى نيست ، بلكه واجب
كفايى است ، وشرط انعقاد صحّت عبادت نيست.
ومعارف مبدأ ومعاد
عبارت از آن است كه به معرفت يقينى حاصل از دليل وبرهان بداند كه : الله تعالى
موجود به حق وواجب الوجود بالذّات وخالق كلّ عالم وصانع جميع اشياء وموجد ذوات
ذرّات ممكنات است ، ومعبود به حق ومستحقّ عبادت غير از جناب مقدّس او نيست ، وصفات
حقيقيّه تمجيديّه كه صفات كمال ثبوتيّه است وصفات تقديسيّه تنزيهيّه كه صفات كمال
سلبيّه است ، همه را نفس مرتبه ذات واجب كامل حقّ او بر اعلى مراتب تماميّت وكمال
مستجمع است.
وصفات تمجيديّه :
آن است كه الله تعالى به جميع اشياء عالم است بر اتمّ واكمل وجوه وعلم تامّ او به
جميع اشياء در حال عدم اشياء ودر حال وجود اشياء بر يك طريق است وزياده ونقصان نمى
پذيرد. وبر جميع ممكنات قادر است ، وقدرت كامله وجوبيّه او بر جميع اشياء بر سبيل
ارادت واختيار است ؛ ومريد ومختار حقيقى اوست كه اختيار وارادت او تابع ارادت
واختيار ديگرى نيست ؛ وسميع است به جميع مسموعات ، بى آلت حاسّه وسامعه ؛ وبصير
است به جميع مبصرات بى آلت قوّت باصره ؛ وحيّ قيّوم قيّام است بى مشابهت وملابست
حيات جسمانى وروح حيوانى ؛ وحيات هر صاحب حيات حسّى وعقلى از فيض صنع اوست ؛
ومتكلّم است بى ادوات لهجه ولهات واعصاب وعضلات ؛ كلام او حقّ وصدق ومطابق واقع
ونفس الأمر است.
وقديم ازلى سرمدى
است ، ودائم باقى ابدى است : وبالفعل حقّ محض است از جميع جهات وجميع ، حيثيّات
صفات كمال عقل بالفعل مستجمع است به محوضت حقيّت يك حيثيّت جامعه كه آن حيثيّت
وجوبى ذاتى است ، وبه همين حيثيّت من جميع الوجوه والجهات تامّ است وفوق التّمام.
وصفات تقديسيّه :
آن است كه : يكى است به وحدت حقّه حقيقيّه كه از هيچ جهت شريك وانباز ندارد ومقدّس
ومنزّه است از مثل وشبيه وكفو ونظير وندّ وضدّ. وجسم وجسمانى
نيست. وجوهر نيست.
وعرض نيست. ومنقسم به اجزاء مقدارى نيست. ومركّب از اجزاء ماهيّت نيست ، خواه
اجزاء معنويّه وخواه اجزاء محموله ذهنيّه. احديّت حقّه وصمديّت مطلقه او مقدّس است
از كثرت قبل الذّات وكثرت مع الذّات وكثرت بعد الذّات. ومكانى وزمانى نيست ، بلكه
خالق زمان ومكان است. ومتعالى ومتعاظم است از حدود وجهات وابعاد وامتدادات. ومحال
است كه مرئى شود وقوّت باصره ادراك او كند ، نه در دنيا ونه در آخرت. وممكن ذاتى
نيست كه حقيقت متقدّسه در هيچ ذهنى از اذهان مرتسم شود ، وهيچ مدركى از مدارك
ومشعرى از مشاعر عاليه وسافله وعاقله ومتخيّله را به ادراك كنه ذات ودريافت نفس
ماهيّت وتصوّر مرتبه كمال او راهى بوده باشد.
ووجود وصفات
حقيقيّه در جناب احديّت او زائد بر ذات نيست ، بلكه عين مرتبه ذات است. وحقيقت
واجب بالذّات از ماهيّتى وراء صرف وجود حق متعالى است ، واز شوائب ما بالقوة
وتدريج وتعاقب وتغيّر وتبدّل من جميع الجهات متقدّس ومتعزّز است ، ومحال است كه با
موجودى از موجودات متّحد ومتّصل شود ودر چيزى حلول كند وبه موضوعى يا محلّى قائم
باشد. ونيز محال است كه چيزى در او حلول كند. وامكان ندارد كه محل حوادث باشد
وعوارض متجدّده على التعاقب بر ذات حقّ تامّ قدّوسش متوارد شود ، تعالى عن ذلك
علوّا كبيرا.
نفس حقيقت واجب
بالذّات به حسب مرتبه ذات جمله اسماء حسنى را ، خواه سلبيّه وخواه ايجابيّه ،
مستحقّ است ، بى تغاير جهات وتكثّر حيثيّات.
ونظام كلّ وجود
وجملگى عالم امكان فعل الله تعالى است وبه جميع اجزاء حادث است ، وهيچ چيز در
سرمديّت وجود با جناب إلهى شريك وانباز نيست. الله تعالى موجود بود در سرمد وچيز
ديگر غير او موجود نبود.
پس كلّ عالم بعد
از عدم صريح به عنايت وارادت وحكمت وقدرت الله تعالى در دهر حادث شد. هر چيز كه
علم إلهى محيط بود به آنكه آن چيز خير نظام وجود وموافق مصلحت عالم است ارادت ربوبى
وقدرت وجوبى به عنايت جامعه ورحمت واسعه ايجاد آن كرد وهيچ چيز را از خيرات نظام
وجود ترك نكرد. هرچه فى حدّ نفسه جهت خيريّت وحسن ذاتى ذات مختار ارادت واختيار
ازلى ومخلوق قدرت ورحمت لم يزلى ولايزلى شد. افضل واكمل وجوه ممكنه وحقّ استحقاق
هيچ ماهيّتى واستعداد هيچ مادّه ضائع ومهمل ومتروك ومعطل نماند.
خالق عالم حكيم
عدل وجواد مفضل است در غايت عدل وحكمت ولطف ورحمت بر او واجب واز عنايتش ممتنع
التّخلّف است واتيان به قبيح واخلال به واجب از جناب او ممكن نيست.
حكمت دو معنى دارد
: يكى ، افضل علوم به افضل معلومات ، والله تعالى كنه ذات خود را كه افضل معلومات
به علم تامّ كامل خود كه افضل علوم است مى داند وجز او هيچ كس را اين علم حاصل
نيست ، دوم ، آنكه فاعل فعل مختار محكم ومتقن ومنطوى بر فايده ومصلحت ومنفعت بوده
باشد ؛ وعقول مراجيح عقلاء در ادراك احكام واتقان وغايات وفوايد ومصالح ومنافع
وتدبير خيرات وبركات كه مطاوى هر فعلى از افاعيل فعّال على الإطلاق بر آن منطوى
ومشتمل است متحير ومبهوت ومتفكر ومدهوش مانده.
پس حكيم حقيقى به
هر دو معنى نيست الّا قيّوم واجب بالذّات ، جلّ سلطانه. وهرچه در عالم امكان وجود
يافته به قضاء وقدر إلهى است ، خيرات عالم متعلق اراده وداخل قضاء بالذّات شده است
وشرور بالعرض از آن حيثيّت كه لوازم خيرات كثيره ومصالح جليله است.
ودر لطف وحكمت
وفضل ورحمت وعنايت وعدالت واجب است كه تكليف بندگان كند كه به اراده واختيار خود ،
نه از روى جبر واضطرار ، اتيان به حسنات وافعال جميله واجتناب از سيّئات واعمال
قبيحه نمايند. حسن وقبح ذاتى افعال واعمال مناط امر ونهى إلهى است.
وواجب است كه
انبعاث انبياء وسفراء وارسال مرسلين وشارعين گرچه به طريق وحى وإلهام به توسيط
ملائكه وروح القدس كتب سماوى بر ايشان تنزيل نماند ، وقوانين شرع وسنّت ووظائف
طاعات وعبادات وضع كند ، ووعد ووعيد ومجازات افعال حسنه واعمال سيّئه مهمل نگذارد.
وواجب است كه
انبياء وائمّه از خطايا معصوم واز خطاء مفطوم بوده باشند.
وپيغمبر ما ،
محمّد مصطفى ، ص ، خاتم انبياء واكرم مرسلين است. ودين او افضل واتمّ اديان ،
وقرآن منزل بر او كتاب مبين سماوى ، وكلام كريم إلهى ، ونور عقلى درخشان ومعجزه
قولى باقى ، ما بقى الزّمان ، وبر جميع
صحف سماويّه وكتب
الهيّه دليل وبرهان است.
وهرچه خاتم انبياء
از آن خبر داده است در امر موت دنيوى وحيات اخروى وبعد از موت دنيوى ومعاد جسمانى
وروحانى در نشئه آخرت ، وجميع مواعيد إلهى على ألسن أنبيائه وبالجملة كلّ ما جاء
به النّبيّ محمد ، ص ، ونطق به ، همه حق وصدق ومطابق محض واقع است.
وائمّه اثنا عشر ،
كه اوصياء رسول الله وحفظة دين الله وشفعاء يوم المحشر ايشان اند ، اوّلهم كتاب
الله الناطق امير المؤمنين على بن ابى طالب ، ع ، وآخرهم مهديّ هذه الأمّة ، قائم
أهل البيت ، عجّل الله فرجه ، معصوم ومفطوم ، وخازن اسرار وحى وحافظ احكام دين ،
وامام مفترض الطّاعة ومطاع مرجوّ الشفاعه اند ، صلّى الله وسلّم على النّبيّ
وعليهم اجمعنى. وبى اقتداء واهتداء به ايشان ، وبى تصديق حقيّت معاد جسمانى
وروحانى وسعادت وشقاوت اجساد وارواح ، وثواب و [عقاب] اعمال ابدان ونفوس مجرّده ،
اميد فوز ونجات وآرزوى جنّت وبهجت ، خيالى است محال وطمعى است بيهوده.
اين است آن مقدار
از معارف مبدأ ومعاد كه تحصيل آن واجب عينى است ، ومعرفت آن من سبيل اليقين شرط
انعقاد عبادات است ؛ وتقليد هيچ كس از علماء ومجتهدين در آن كافى وجائز نيست.
وامّا تحقيق ساير
اصول وبراهين وتقدير مقدّمات وادلّه وتحرير أسئلة واجوبه وما يتعلّق بذلك واجب
كفائى است نه عينى ، وكافى است كه در قطرى از اقطار اسلام حكيمى عالم ماهر بوده
باشد كه عارف به اصول وأمّهات وقادر بر حراست بيضه دين از شكوك وشبهات باشد. وبعضى
گفته اند كه در هر مسافت قصر وجود شخصى واجب چنين است.
وعلمى كه متكفّل
بيان اين معارف است شطر بيان ربوبيّات عالم إلهى است ، وضامن اتمام حقايق آنها على
سبيل التّحقيق وحلّ عقده شكّ وجسم مادّه شبهه على القول الفصل من سواء الطّريق
مصنّفات من است ، مثل كتاب تقويم الإيمان وكتاب تقديسات وكتاب قبسات حقّ اليقين ،
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
(اصل دوم)
فروع دين ، اجتهاد وتقليد
مكلّف به قوانين
شرعيّه در زمان غيبت امام اصل ، كه امام معصوم منصوب من عند الله باشد ، منحصر است
در مجتهد ومقلّد :
فرض مجتهد آن است
كه در جميع مسائل اجتهاد نموده به ظنّ خود عمل نمايد ، واصحّ آن است كه تجزّى در
اجتهاد صورت صحّت ندارد ، بلكه مجتهد آن است كه بالفعل ملكه اقتدار بر اجتهاد در
كلّ مسائل ، وحالت استنباط جميع فروع از ادلّه تفصيليّه ومدارك اصليّه او را حاصل
بوده باشد. وعلومى كه مادّه اجتهاد كلّى است تحصيل كرده باشد.
وفرض مقلد آن است
كه جميع فروع دين واحكام مسائل را از مجتهد كلّ ، كه مستجمع شرائط اجتهاد وفتوى
است بى واسطه يا به يك واسطه يا به وسايط مترتّبه كه همه به صفت عدالت موصوف بوده
باشند اخذ نموده ، در عبادات ومعاملات وعقود وايقاعات وحدود وجنايات به مظنون
مجتهد وقول او عمل كند.
وشرط است كه آن
مجتهد زنده باشد ، چه عمل به قول مجتهد مرده جائز نيست. ومقرّر است «كه إذا مات
المجتهد مات قوله». واين مسأله نزد علماء ومجتهدين اماميه ، رضوان الله تعالى
عليهم ، محلّ خلاف نيست. ودر هيچ عصر منكر اشتراط حيات مجتهد واجب الاتّباع معروف
نبوده است. واكثر علماء جمهور نيز بر آن اتفاق دارند. وبالجملة مخالف اين مسأله
نيست الّا بعضى از مجاهيل علماء عامّة.
وسرّ مقام آن است
كه چون در ظنيّات خطا بر مجتهد جائز است ، ودر صورتى كه مخطى بوده باشد نيز مثاب
ومأجور. وظنّ او كه عبارت است از اعتقاد راجح قائم به نفس مجتهد على الإطلاق معمول
به واجب الاتّباع است. وموت جسمانى كه حقيقتش انقطاع نفس مجرّده است از عالم بدن
ورجوع به ملكوت ميقات ظهور حقيقت حق وانكشاف باطن باطل است.
پس تواند بود كه
ظنّ مجتهد كه در اين نشئه قائم است به نفس او موافق صورت نبوده باشد ، وبعد از موت
خطاى آن ظن منكشف شود. پس اعتقاد قائم به نفس مجتهد كه متّبع است باقى نماند ،
واستصحاب بقاء آن اعتقاد به طريق زمان حيات معقول نيست ، چه در استصحاب ، بقاء
موضوع بر حال خود معتبر است ، چنانچه در مقام خود مقرّر ومبيّن شده است.
پس حال موت را به
حال حيات مقايسه كردن بى بصيرتى است. واز اين جهت موت مجتهد موت وجوب اتّباع
ظنّ اوست. واين
نكته لطيف ودقيق [است] واز نظر غير متمهّر مستور ومحجوب است.
وچون مجتهد در
عصرى متعدّد باشد واجب است بر مقلّد كه تابع اعلم ومقلّد او بوده باشد. واگر در
علم متساوى بوده باشند تقليد اورع لازم است ؛ واگر در ورع نيز متساوى باشند مقلدين
در تقليد هركدام از ايشان كه اختيار كنند مختارند.
وحق آن است كه
همچنان كه به مقتضاى عنايت ورحمت ولطف وحكمت واجب است كه الله تعالى عصر را خالى
از مجتهد نگذارد ، همچنين واجب است كه به عنايت إلهى مجتهدى كه اعلم واورع مجتهدين
عصر بوده باشد مفقود مقلدين نباشد. وحيّز تحقيق اين مسأله علم اصول است.
وثبوت اجتهاد
مجتهد كه مناط وجود تقليد او است به يكى از سه امر حاصل است : أوّل ، آنكه مدّعى
اجتهاد مشهور العلم ومشهور الفتوى ودر مسائل وفتاوى مرجع ومتّبع بوده باشد. دوم ،
آنكه مقلّد اهل تميز وبه شرائط اجتهاد عارف بوده باشد وبه ممارسات ومناظرات حالت
اجتهاد شخصى بر او ظاهر شود. سوم ، اذعان علما كه به طريق اجتهاد عارف باشند اگر
مقلّد خود از اهل تميز وارباب معرفت نباشد ، ونيز مدعى اجتهاد معروف الحال ومشهور
العلم والفتوى نبوده باشد.
وعدالت از شرائط
قبول قول مجتهد است در اخبار از بذل جهد وحصول ظنّ كه وجوب تقليد او به آن منوط
است وشرط اجتهاد فى نفسه نيست. پس مجتهد غير عادل را عمل به ظنّ خود واجب است
ومقلّدين را عمل به قول او جائز نيست.
وعدالت مجتهد كه
شرط نفاذ حكم وقبول قول او است به يكى از چهار چيز ثابت مى شود : (١) يا به معاشرت
ومخالطت تام واختيار واستعلام احوال او ظاهرا وباطنا ، (٢) يا به شهادت عدلين ، (٣)
يا به استفاضه وشياع ، (٤) يا به اقتداء واهتمام صلحا واخيار به او در صلوات
فريضه. وبعضى از احكام اين مقام در باب امر به معروف ونهى از منكر مذكور خواهد شد
إن شاء الله العزيز العليم.
وبالجملة ، هركس
كه تحصيل معرفة الله نكرده ومعارف مذكوره مبدأ ومعاد را به دليل وبرهان ندانسته
باشد ، ومسائل طهارت وصلاة را از مجتهد حيّ اخذ نكرده باشد ، در حكم تارك الصلاة
ونماز او به منزله تارك نماز است.
اصل سوم
(نماز اساس دين اسلام است)
در اصول معتبره
واحاديث ثابت شده كه نماز اساس دين اسلام است ، وتارك متعمّد به طريق اصرار كافر
است. واين حكم اجماعى جميع فريق مسلمين است. واز جمله احاديث اين باب حديثى چند
معتبر متفق عليه ذكر مى كنم :
أوّل ، عروة
الإسلام ابو جعفر بن بابويه الصّدوق در كتاب «من لا يحضره الفقيه» به طريق ثابت
جزم از رسول ، ص ع ، نقل كرده ، ورئيس المحدّثين ، ابو جعفر كلينى در جامع «كافى»
به طريق صحيح از عبيد بن زرارة عن أبى عبد الله الصادق ، عليهالسلام روايت كرده است : قال : قال رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«مثل الصّلاة مثل
عمود الفسطاط ، إذا ثبت العمود نفعت الأطناب والأوتاد والغشاء ، وإذا انكسر العمود
لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء».
مثل نماز در ميان
اعمال دينيّه مثل عمود ، يعنى پرده خيمه است ، اگر عمود ثابت وقائم است طنابه
وميخها وپرده نفع دارد ، واگر عمود شكسته شود هيچ طنابى او ميخى وپرده اى فايده
ندارد.
ثانى ، به طريق
كلينى وطريق «من لا يحضره الفقيه» به سند صحيح از معاوية بن وهب : قال : سألت أبا
عبد الله ، عليهالسلام ، عن افضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم وأحبّ ذلك إلى
الله عزوجل ما هو ، فقال : ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه
الصّلاة. الا ترى أنّ العبد الصّالح عيسى بن مريم ، عليهالسلام ، قال : «وأوصانى بالصّلاة والزّكاة ما دمت حيّا». گفت :
خدمت امام صادق را ، عليهالسلام ، سؤال كردم از افضل آنچه بندگان به وسيله آن تقرب مى
جويند به درگاه پروردگار خود ودوست داشته ترين آن اعمال پيش جناب إلهى ، عزوجل. فرمود : كه نمى دانم بعد از معرفت معارف ربوبيات هيچ چيز
افضل از اين نماز. نمى بينى كه بنده صالح عيسى بن مريم ، عليهالسلام ، گفت كه : الله تعالى مرا وصيّت كرده است به نماز وزكات
ما دام كه در قيد حيات بوده باشم.
بعد المعرفة : دو
معنى دارد. أوّل آنكه معرفة الله افضل جميع حسنات است ، بعد از آن افضل ست از ساير
اعمال. دوم آنكه نماز كه بعد از معرفت الله وعلم به معارف مبدأ ومعاد بود باشد
افضل است از جميع طاعات وعبادات ، چه معرفت مبدأ ومعاد شرط صحّت نماز است ، چنانچه
در حواشى «من لا يحضره الفقيه» آورده ام.
ثالث ، از طريق «من
لا يحضره الفقيه» وكافى كلينى وساير اصول معول عليها به طرق واسانيد مختلفه. قال
الصادق ، عليهالسلام : أوّل ما يحاسب به العبد على الصّلاة. فإذا قبلت منه قبل
سائر عمله ، وإذا ردّت عليه ردّ عليه سائر عمله.
أوّل آنچه محاسبه
بنده بر آن مى شود نماز است ، اگر از او مقبول شد ساير اعمالش مقبول است ، واگر بر
او مردود شد جميع طاعات بر او مردود است.
رابع ، از طريق
كلينى ومن لا يحضره الفقيه وساير اصول حديث : قال رسول الله ، ص ع ، «الصّلاة
ميزان الدّين ، فمن وفى استوفى».
نماز ترا روى دين
است ومكيال سعادت است كه جميع طاعات وحسنات به آن سنجيده مى شود. پس هركس حق آن
ترازو را ادا نمايد وشاهين وكفّين وخيوط ، يعنى اركان وواجبات ووظائف او را ، چنان
كه بايد ، قائم ومستقيم دارد استيفاى سعادت دنيا وآخرت بود باشد.
خامس ، حديث مشهور
از اهل بيت نبوّت وعصمت ، صلوات الله وتسليماته عليهم ، كه صدوق ، رضوان الله
تعالى عليه ، در كتاب «من لا يحضره الفقيه» مرسلا روايت كرده است ـ ومرا سيل فقيه
در حكم مسانيد صحاح است نزد اصحاب ، نوّر الله مفاجعهم ـ وشيخ الطائفة أبو جعفر
الطوسى ، قدّس الله نفسه ، در كتاب «تهذيب الأحكام» به طريق مسند حسن ، بلكه صحيح
، على الأصحّ ، از حمّاد بن عيسى روايت كرده عن الإمام الصّادق أبى عبد الله عليه
جعفر بن محمد ، عليهالسلام ، أنّه قال : «الصّلاة لها أربعة آلاف حدّ».
يعنى : هريك نماز
فريضه چهار هزار حد دارد ، از واجبات ومستحبّات ووظائف وآداب.
ومثل آن است حديث
معمول به معول عليه ، مشهور از ائمّه طاهرين معصومين ، صلوات الله الزّاكيات عليهم
أجمعين. ودر فقيه ودر تهذيب مرسلا روايت شده ، عن سيّدنا المنتقى المرتضى أبى
الحسن الرّضا ، عليه أزكى الصّلاة والتّسليم ، قال : «الصّلاة لها أربعة آلاف باب».
يعنى نماز چهار
هزار در دارد ، از مقدّمات وشرائط ومتمّمات ووظائف واركان واحكام ومكمّلات
ومزيّنات. وما اين دو حديث شريف در حواشى فقيه ، بفضل الله
تعالى على أبلغ
الوجوه وأتمّها ، شرح كرده ايم.
سادس ، حديث مشهور
متفق عليه مختلف المتن والإسناد عن سيّدنا رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعن نور الله الباهر مولانا أبى جعفر الباقر ، عليهالسلام ، قال ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، : «إنّ من الصّلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها
إلى العشر ، وإنّ منها لما تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق ، فيضرب بها وجه صاحبها».
يعنى بتحقيق بعضى
از افراد نماز نمازى است كه نصف آن مقبول بارگاه كبريايى إلهى مى شود ، وبعضى از
آن نمازى كه ثلث آن درجه قبول مى يابد وبعضى از آن نمازى مى باشد كه ربع آن به
درجه قبول مى رسد ، وبعضى از آن نمازى كه خمس از آن قابليت شرف قبول مى دارد
وهمچنين تا به عشرى از اعشار ، وبعضى از آن مى باشد كه جزء از اجزاء آن لياقت بارگاه
صمديّت ندارد ، ومطلقا از استحقاق درجه قبول بى بهره است. وملائكه كه بر اعمال
بندگان موكّلند آن نماز را به تمامى درهم پيچند به طريقى كه جامه كهنه پاره پاره
شده در هم پيچند وبر روى صاحبش مى زنند.
سابع ، از طريق من
لا يحضره الفقيه قال رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّما مثل الصلاة فيكم كمثل السّرى ، وهو النهر ، على
باب أحدكم يجرى لها فى اليوم والليلة ، يغتسل منه خمس مرّات ، فلم يبق الدّرن على
الغسل.
يعنى : مثل نماز
يوميّه در ميان شما نيست إلّا چون مثل نهرى كه بر در خانه يكى از شما جارى بوده
باشد ، وآن شخص هر شبانه روز پنج بار بيرون آيد ودر آن نهر غسل كند وبدن خود را با
آن نهر بشويد ، همچنان كه وسخ وچرك بدن جسمانى به آب نهر با پنج مرتبه شستن باقى
نمى ماند وسخ وچرك روح مجرّد كه از ذنوب ومعاصى عارض شده باشد نيز با اين نماز پنج
وقت كه به منزله اغتسال واغتماس در آب صافى روشن نهر حيات حقيقى ابدى است باقى نمى
ماند. وچنانچه آب آن نهر شرط است كه از ملاطخت ومخالطت نجاسات وقاذورات پاكيزه
بوده باشد نهر نماز نيز شرط است كه از الواث واقذار شوائب خلل وفساد وقصور ونقصان
خالى ومجرّد وبه وظائف مكمّلات ومتمّمات آراسته ومزيّن بوده باشد.
ثامن ، از طريق من
لا يحضره الفقيه : قال النّبي ، صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما من صلاة يحضر وقتها إلّا نادى ملك بين يدى النّاس :
أيّها النّاس ، قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فاطفئوها بصلاتكم»
هيچ نمازى كه وقت آن حاضر شود نيست الّا آنكه ملكى از ملائكه موكّله بر اعمال عباد
ندا كند در برابر مردم
كه : اى مردمان
برخيزيد به جانب آتشهاى گناهان خود كه به هيزم معصيت بر پشت خود افروخته ، پس
إطفاى شعله آن آتشها بكنيد وفرونشانيد التهاب واشتعال آن را به آب نهر نماز خود.
تاسع ، از طريق
كافى كلينى ، رضوان الله تعالى عليه ، فى الصحيح عن زرارة عن أبى جعفر ، عليهالسلام ، قال : «بينا رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، جالسا فى المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّى ، فلم يتمّ ركوعه
ولا سجوده. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : نقر كنقر الغراب : لإن مات هذا وهكذا صلاته ، ليموتنّ
على غير دينى».
به سند صحيح از
زراره از مولاى ما ابى جعفر الباقر ، عليهالسلام ، فرمود كه : روزى از روزها ، رسول ، صلىاللهعليهوآله ، نشسته بود در مسجد كه مردى داخل مسجد شد ، پس برخاست به
نمازگزاردن ، پس نماز گذارد. از روى استعجال بى اكمال ركوع وسجود واتمام وظائف
وآداب. پس رسول ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فرمود : اين مرد نمازگزارنده در نماز خود نظير كلاغى است
در برچيدن دانه از روى زمين به منقار ، ونماز او با اين قيام وقعود وركوع وسجود
شبيه نقر آن كلاغ است. اگر اين شخص بميرد ونماز او در مدّت حيات به اين قاعده بوده
باشد ، هرآينه از لباس حيات عارى خواهد شد بر غير دين من ، بر دين ديگر غير دين
اسلام ، نعوذ بالله من ذلك.
عاشر ، به طريق
ابى جعفر كلينى در كافى ، از سهل بن زياد ، از نوفلى ، از سكونى ، از مولاى ما أبى
عبد الله جعفر الصّادق ، ع ، از پدر معصومش مولاى ما ابى جعفر الباقر ، ع ، قال :
قال رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لكلّ شيء وجه ، ووجه دينكم الصّلاة ، فلا يشيننّ أحدكم
وجه دينه ، ولكلّ شيء أنف ، وأنف الصلاة التكبير»
هر چيز را روى
باشد ، وروى دين شما نماز است ، وهر چيز را بينى باشد وبينى نماز شما تكبير است.
پس بايد كه هيچ يك از شما روى دين خود را كه نماز است به عيب نقصان عيبناك نكند.
حادى عشر ، از
طريق كافى كلينى ، رضى الله تعالى عنه ، فى الصّحيح عن هشام بن سالم ، عن أبى عبد
الله عليهالسلام ، قال : «إذا قام العبد فى الصّلاة فخفّف صلاته ، قال الله
تبارك وتعالى لملائكته : أما ترون إلى عبدى كأنّه يرى أنّ قضاء حوائجه بيد غيره. أما
يعلم أنّ قضاء حوائجه بيدى».
به سند صحيح از
مولاى ما أبى عبد الله الصّادق ، ع ، فرمود كه : هرگاه بنده برخيزد به اداى فريضه
وبه جهت حاجتى داشته باشد در آداب ومسنونات واذكار وادعيه
تخفيف كند ونماز
را مخفّف بجا آورد كه به تحصيل آن مطلب مشغول شود ، جناب مقدس إلهى ، تبارك وتعالى
، با ملائكه خود خطاب نمايد وگويد كه : هيچ نظر به اين بنده من نمى كنيد كه از
براى سعى در حاجت دنيا نماز خود را كه اكسير سعادت دنيا وآخرت است خفيف وناقص مى
كند ، همانا كه گمان مى دارد كه قضاء حوائج او در دست قدرت ديگرى غير من. آيا نمى
داند كه قضاء حوائج او در دست قدرت من است نه ديگرى.
ثانى عشر ، به
طريق رئيس المحدثين ابى جعفر كلينى ، رضوان الله تعالى ، عليه در جامع كافى وشيخ
الطائفة ابى جعفر طوسى ، رحمهالله تعالى ، در كتاب تهذيب فى الصحيح عن صفوان بن يحيى عن عيص
بن القاسم ، قال : قال أبو عبد الله ، عليهالسلام : «إنّه ليأتى على الرّجل خمسون سنة وما قبل الله تعالى
منه صلاة واحدة. فأىّ شيء أشدّ من هذا. والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم
من لو كان يصلّى ما يستخفّ به».
فرمود : بتحقيق كه
هرآينه بر مرد پنجاه سال مى گذرد وحال آنكه الله تعالى يك نماز از او در مدّت
پنجاه سال به شرف قبول خود لايق ندانسته وقبول نكرده است. پس چه قبيح از اين اشدّ
واقبح تواند بود.
وقسم به ذات پاك
الله تعالى كه بتحقيق كه شما از همسايه ها واصحاب خود مى شناسيد كسى را كه اگر از
براى بعضى از شما نمازى چنين كند از او قبول ننمايد ، از جهت استخفاف او به اين
نماز ، بتحقيق كه الله تعالى قبول نمى كند إلّا حسن تامّ كامل را. پس چون قبول
نمايد نماز ناقص منقوص مستخفّ منحوس را.
ثالث عشر ، از
طريق ابو جعفر كلينى در جامع «كافى» فى الصّحيح عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد
الله ، عليهالسلام ، أنّه قال : «مرّ بالنّبي ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، رجل ، وهو يعالج بعض حجراته ، فقال : يا رسول الله ، ألا
أكفيك. فقال : شأنك ، فلمّا فرغ ، قال له رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم : حاجتك؟ قال : الجنّة. فأطرق رسول الله ، صلىاللهعليهوآله ، ثمّ قال : نعم. فلمّا ولى ، قال له : أعنّا بطول السّجود».
به سند صحيح از
عبد الله بن سنان ، از مولاى ما أبى عبد الله الصّادق ، عليهالسلام ، فرمود كه : مردى گذشت بر نبى ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، در حالتى كه به عمل بعضى از حجرات خود مشغول بود. پس گفت
: يا رسول الله ، مى خواهم من كه به اين خدمت مشغول شوم وجناب تو را كفايت كنم از
اين عمل. پس رسول ، ص ، به او گفت شأنك ، وتقدير كلام آن است كه : اشأن شأنك. اى
اعمل ما تحسنه. يعنى : قصد امر خود بكن وبه عمل آور آنچه آن مى دانى.
پس آن شخص مشغول
عمل شد. وچون از اتمام آن عمل فارغ شد ، رسول الله ، عليه وآله الصّلاة والتسليم ،
به او گفت كه حاجت خود را ذكر كن تا به انجاح مقرون شود. گفت : حاجت من آن است كه
شفاعت مى كنى وبهشت را از براى من ضامن باشى ، پس رسول الله ، صلىاللهعليهوآله سر به زير افكند ، ساعتى نظر بر زمين داشت ، پس سر برآورده
فرمود : آرى قبول كردم. پس چون آن شخص پشت به جانب آن حضرت كرده روى به راه خود
آورده سيّد اولين وآخرين او را ندا كرد ، گفت : اى بنده الله تعالى تو نيز ما را
اعانت كن ويارى در باب شفاعت خود به درازى سجود ، ومراد اتمام ذكر ومواظبت بر دعاء
مأثور در سبحه نماز واجب است.
رابع عشر ، از
طريق من لا يحضره الفقيه مرسلا ، قال رسول الله ، صلىاللهعليهوآله ، واز طريق كافى ، كلينى فى الصّحيح عن زرارة عن أبى جعفر
الباقر ، عليهالسلام : أنّ النّبي ، صلىاللهعليهوآله ، قال عند موته : «ليس منّى من استخفّ بصلاته ، لا يرد على
الحوض ، لا والله ، ليس منّى من شرب مسكرا ، لا يرد على الحوض ، لا والله».
يعنى : رسول الله
، در وقت ارتحال از دار دنيا فرمود كه از من نيست كسى كه به نماز خود استخفاف كند
واذكار وادعيه وسنن وآداب كه زينت وزيور نماز است از نماز سلب نمايد وآن را تخفيف
نمايد وآن كس در حوض بر من وارد نخواهد شد. واين نفى را به تكرير مؤكّد وتأكيد را
به قسم مقرون ساخت. وهمچنين فرمود كه : از من نيست كسى كه مست كننده ، مانند خمر
ونبيذ ، بياشامد ، وبر من وارد نخواهد شد آن كس در حوض. وباز اين نفى را مؤكّد به
تكرير مقرون به قسم ساخت.
ودر اصول معتبره
كتب حديث ثابت است كه سيّد الصّادقين ، مولانا أبو عبد الله جعفر بن محمد ، عليهالسلام ، فرموده است كه : «بئس السّارق من سرق من صلاته». بدترين
دزد دزدى است كه از نماز خود چيزى مى دزدد. وزينت وزيور نماز خود را به دزدى غارت
مى كند.
حكايت مى كنند :
يكى از عارفين ، بعد از آنكه بر اين حديث شريف مطّلع شد مى گفت : «ربّما أصلّي
ركعتين ، فأنصرف عنهما بمنزلة من ينصرف عن السّرقة من الحياء».
يعنى : بسيار هست
كه دو ركعت نماز مى گذارم از براى الله تعالى پس از آن نماز منصرف مى شوم از خجالت
وشرمندگى به منزله دزدى كه از دزدى منصرف شود.
(شارع النجاة ، در
اثنى عشرية ، ص ٢٣٤ ، ونسخه خطى ، شخصى مصحّح).
مصنّفات ميرداماد
(٨)
الإجازات
(١)
صورة إجازة السّيد
الدّاماد للأمير السّيد أحمد العاملى صهره
بسم الله الرّحمن الرّحيم ، والاعتصام بحبل فضله العظيم
بعد الحمد كلّ
الحمد لربّنا ربّ العاقلات العالية والسّافلات البالية ؛ والصّلاة صفو الصّلاة منه
على سيّدنا سيّد الصّافات من النّفوس الزّاكية وقرم القادسات من العقول الهادية
وسادتنا الأوصياء الأطهرين من العترة الأنجبين ، ما دامت أنهار العلوم جارية وجبال
الحقائق راسية.
فإنّ الولد
الرّوحانيّ والحميم العقلانيّ ، السّيّد السّند ، الأيّد المؤيّد ، الألمعيّ
اليلمعىّ اللوذعيّ ، الفريد الوحيد ، العلم العالم العامل ، الفاضل الكامل ، ذا
النّسب الطّاهر والحسب الظّاهر والشّرف الباهر والفضل الزّاهر ، نظاما للشرف
والمجد والعقل والدّين ، والحقّ والحقيقة ، أحمدا حسينيّا ، أفاض الله تعالى عليه
رشائح التّوفيق ومرا شح التّحقيق. قد انسلك في من يختلف إليّ شطرا من العمر
لاقتناص العلوم ، ويحتفل بين يديّ ملاوة من الدّهر لاقتناء الحقائق ، فصاحبني
ولازمني ، وارتاد واصطاد ، واستفاد واستعاد ، وقرأ وسمع ، وأمعن وأتقن ، واجتنى
واقتنى.
وإنّي قد صادفته ،
منذ ما فاقهنى وفقهته ، على أمد بعيد في سلامة الفطرة النّاقدة ، و
باع طويل من صراحة
الغريزة الواقدة ، فما ألقيت إلى ذهنه من غامضات هي مهمّات العقول لم ين وسع
قريحته في حمل أعبائه ، وما أفرغت على قلبه من عويصات هي متيّمات الفحول لم يعى
وجد شكيمته بأخذ أضنائه ، ولقد ناء بنيل ما تاهت في مهامه سبله المدارك ، وما فاه
إلّا بما أماهه العقل الصّريح الحائر بالمسالك والمعارك.
وقد قرأ علي ما قد
قرأ في العلوم العقليّة من تصانيف الشّركاء الّذين سبقونا برياسة الصّناعة قراءة
يعبأ بها ، لا قراءة لا يؤبه لها ، الفنّ الثّالث عشر من كتاب «الشفاء» وهو
الإلهيّ منه ، أعني حكمة ما فوق الطّبيعة. وهو اليوم مشتغل بقراءة فنّ قاطيغورياس
منه ، وأخذ سماعا ، في من يقرأ ويسمع ، النّمطين الأوّل والثالث من كتاب «الإرشادات
والتنبيهات» للشيخ الرئيس ، ضوعف قدره ، وشرحه لخاتم المحققين ، نوّر سرّه ؛ ومن
كتبى وصحفي كتاب «الأفق المبين» الّذي هو دستور الحقّ وفرجار اليقين ، وكتاب «الإيماضات
والتشريفات» الّذي هو «الصحيفة الملكوتيّة» ، وكتاب «التّقديسات» الّذي فيه في
سبيل التمجيد والتوحيد آيات بيّنات ، كلّ ذلك قراءة فاحصة واستفادة باحثة ؛ وفى
العلوم الشّرعيّة كتاب الطهارة من كتاب «قواعد الأحكام» لشيخنا العلّامة ، جمال
الملّة والدّين الحليّ ، وشرحه لجدّي الإمام المحقق القمقام ، أعلى الله مقامهما ؛
وطرفا من «الكشّاف» للإمام العلّامة الزّمخشريّ ، وحاشيته الشّريفة الشّريفيّة.
وهو مشتغل هذه الأوان بقواعد شيخنا المحقّق الشّهيد ، قدّس الله لطيفه. وإنّي أجزت
له أن يروي عنّى جميع ذلك لمن شاء وأحبّ ، متحفّظا محتاطا على مراعاة الشّروط
المعتبرة عند أرباب الدّراية والرّواية.
وأوصيه ، أوّلا ،
بتقوى الله سبحانه وخشيته في السّر والعلن ، إنّ تقوى القلب أعظم مقاليد تأهّب
السّرّ لاصطباب الفيوض الإلهيّة ، والاستضاءة بالأنوار العقليّة القدسيّة. وليكن
مستديما لاستذكار قول مولانا الصّادق جعفر بن محمد الباقر ، عليهماالسلام : «استحي من الله بقدر قربه منك ، وخفه بقدر قدرته عليك» ،
مواظبا على الإلظاظ بالأدعية والأذكار ، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم ، ولا
سيّما سورة التّوحيد ، الّتي مثلها منه ومكانتها فيه مثل القرآن النّاطق أمير
المؤمنين على بن أبى طالب ، عليه صلوات الله التّامّات ، من كتاب الوجود ، ومكانته
فيه ؛ فمهما استحكمت علاقة عالم التّحميد والتّسبيح ، أوشك أن ترسخ ملكة رفض
السّجن الجسدانيّ ونضو الجلباب الهيولانيّ.
وثانيا ، بصون
أسرار عالم القدس الّتي مستودعها كتبي وكلماتي عمّن أخفرني وخرج عن ذمامي في عهد
سبق لي ووصيّة سلفت منّي في كتاب «الصّراط
المستقيم» ، فكلّ
ميسّر لما خلق له.
ومن يك ذا فم
مرّ مريض
|
|
يجد مرّا به
الماء الزّلالا
|
وثالثا ، بتكرار
تذكاري في صوالح الدّعوات المصادفة مئنّة الاستجابات ومظنّة الإجابات ، والله
سبحانه ولىّ الفضل والطّول ، وإليه يرجع الأمر كلّه.
وكتب أحوج
المربوبين إلى الرّب الغنيّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينيّ ، ختم
الله له بالحسنى فى منتصف شهر جمادى الأولى ، سنة ١٠١٧ ، من الهجرة المقدّسة
النّبويّة ، مسئولا ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا ، والحمد لله ربّ العالمين ،
والصّلاة على رسوله وآله الطاهرين أوّلا وآخرا.
(٢)
صورة الإجازة الثانية
من السّيد الدّاماد للأمير السيد أحمد العامليّ المزبور
بسم الله الرحمن الرحيم والثقة بالعزيز العليم
الحمد كلّه لله
ربّ العالمين ، ذي السّلطان السّاطع ، والبرهان اللّامع ، والعزّ الناقع ، والمجد
الناصع ؛ والصّلاة أفضلها على السّانّ الصّادع بالرّسالة ، والشّارع الماصع
بالجلالة ، سيّدنا ونبيّنا محمّد ، صفو المكرمين وسيّد المرسلين ، وموالينا
الأكرمين وسادتنا الأطهرين من عترته الأنجبين وحامّته الأقربين ، مفاتيح الفضل
والرّحمة ومصابيح العلم والحكمة.
وبعد ، فإنّ
السّيّد الأبد المؤيّد ، المتمهّر المتبحّر ، الفاخر الذّاخر ، العالم العامل ،
الفاضل الكامل ، الرّاسخ الشّامخ ، الفهّامة الكرّامة ، أفضل الأولاد الرّوحانيّين
وأكرم العشائر العقلانيّين ، قرّة عين القلب وفلذة كبد العقل ، نظاما للعلم
والحكمة ، والإفادة والإفاضة ، والحقّ والحقيقة ، أحمد الحسينيّ العامليّ ، حفّه
الله تعالى بأنوار الفضل والإيقان وخصّه بأسرار العلم والعرفان ، قد قرأ علي
أنولوطيقا الثّانية ، وهي فنّ البرهان من حكمة الميزان من كتاب «الشّفاء» لسهيمنا
السّالف وشريكنا الدّارج ، الشّيخ الرّئيس أبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا ،
رفع الله درجته وأعلى منزلته ، قراءة بحث وفحص وتدقيق وتحقيق ، فلم يدع شاردة من
الشّوارد إلّا وقد اصطادها ، ولا فائدة من الفوائد إلّا وقد استفادها.
وإنّي قد أجزت له
أن يروي عنّي ما أخذ وضبط ، واختطف والتقط ، لمن شاء كيف شاء ، ولمن أحبّ كيف
أحبّ.
ثمّ عزمت عليه أن
لا يكون إلّا ملقيا أرواق الهمّة وشراشر النّهمة على ملازمة كتبي وصحفي ومعلّقاتي
ومحققاتي ،
ومطالعتها ومدارستها ، على ما قد قرأ ودرى وسمع ووعى ، مفيضا لأنوارها ، موضحا
لأسرارها ، شارحا لدقائق خفيّاتها ، ذابّا عن حقائق خبيئاتها ، سالكا بعقول
المتعلّمين إلى سبيل ما في مطاويها ، من مرّ الحقّ ومخّ الحكمة الحقّة ، راجما
لشياطين الأوهام العاميّة وأبالسة المدارك القاصرة السّوداويّة عن استراق السّمع
لما فيها ، ببوارق شهبها القدسيّة. ولا سيّما في شاهقات عقليّة ، من أصول الحكمة ،
محوجة جدّا إلى محوضة عقليّة النّفس ، وشدّة ارتفاعها عن هاوية الوهم ، وصدق
مرافعتها ضريبة الحسّ ، وبعد مهاجرتها إقليم الطّبيعة ، كمباحث الدّهر والسّرمد ،
وحدوث العالم جملة من بعد العدم الصّريح في الدّهر ، وتسبيع أنواع التّقدّم
والتّأخّر ، وتربيع أنحاء الاعتبارات في الماهيّة ، وتثليث أنواع الحدوث ، ثمّ
تثليث أقسام النّوع الثالث ، وهو الحدوث الزّمانىّ ، وتثنية الجنس الأقصى لمقولات
الجائزات ، وغوامض مباحث التّوحيد ، وعلم الواحد الأحد الحقّ بكلّ شيء ، إلى غير
ذلك من غامضات مسائل الحكمة.
والمأمول أن لا
ينساني من صوالح دعواته الصّادقة ، مآنّ الإجابات ومظانّ الاستجابات. وكتب مسئولا
أحوج المربوبين إلى الرّبّ الغنيّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ
، ختم الله له بالحسنى ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا ، في عام ١٠١٩ ، من الهجرة
المقدّسة المباركة ، والحمد لله وحده.
(٣)
فائدة فى إيراد ما
كتب السيّد الدّاماد أيضا على بعض تصانيف الامير السيد أحمد المذكور رحمهالله
:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أصبحت قرير
العين بحقائق تحقيقات هذه التعليقة ودقائق تدقيقاتها ، أدام الله تعالى إفاضات
مصنّفها ، السيّد السّند ، المحقق المدقق ، المتبحّر المتهمّر ، السّالك سبيل
العلم ، على سنّة البرهان ، الناهج نهج الحكمة من شريعة العرفان ، وكتب أفقر
المفتاقين ، وأحوج المربوبين إلى رحمة الله الحميد الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، باقر
الداماد الحسينىّ ، ختم الله له بالحسنى ، حامدا مسلّما ، والحمد لله وحده حقّ
حمده.
(٤)
اجازة الميرداماد
للسيّد احمد العلوى أو لصدر الدّين الشيرازىّ
هو الله وحده ثقتى
لقد أنهاه ، أفاض
الله تعالى عليه وأدام فضله وحرس كماله ، استفادة واستكشافا وبحثا وفحصا وإمعانا وإتقانا
وتحديقا وتحصيلا. وقد اختلف إلى محفلي من قبل آونة من الأدوار ، ثمّ صحبني برهة من
العمر الأحضار والأسفار ، فأخذ وأمعن وسمع وأتقن ، وقرأ على في ما قد قرأ ، من
كتبي ومصنّفاتي وتعليقاتي ومعلّقاتي ، المجلّد الأوّل من كتاب «الصّراط المستقيم»
وشطرا صالحا يداني النّصف الأوّل من تعليقاتى ومعلّقاتي ، المجلّد الأوّل من كتاب «الصّراط
المستقيم» وشطرا صالحا يداني النّصف الأوّل من كتاب «الأفق المبين» وطرفا من كتاب «التّقديسات»
وكثيرا غير يسير من غيرها ؛ ومن زبر السّلاف ، بعض كتاب «الإشارات» لشريكنا
السّالف الشّيخ الرّئيس ، ضوعف قدره ، وشرحه للمحقق خاتم الحكماء السّالفين ، وغير
ذلك ممّا هو معدود في «إجازة مطوّلة منّي له» ؛ وأؤمّل أن لا ينساني في صوالح
الدّعوات وعند مظانّ الإجابات ، بلّغه الله أمد الغاية بالنّظر والتّحديق وقصيا
النهاية في التّدقيق والتّحقيق. وكتب بيمينه الجانية أحوج المربوبين إلى الربّ
الغنىّ محمّد بن محمّد ، يلقّب باقر الدّاماد الحسينىّ ، حامدا مصلّيا مسلّما
مستغفرا ، ختم الله له بالحسنى.
«إجازته لخاتم
الحكماء السّالفين المشتهر بصدر الدين الشيرازى ، طالب ثراه وجعل الجنّة مثواه.»
پس از شفاء ابن سينا اين حاشيه از «اجازته تا مثواه» به خطى جديد است كه مورد
اطمينان نيست. ظاهرا مجاز بايد سيد احمد علوى باشد.
(٥)
إجازة المير الدّاماد
لسلطان العلماء
بسم الله الرحمن الرّحيم ، والاعتصام بالعزيز العليم.
صدر كتاب الوجود
حمد سلسلتي البدء والعود لمدبّر عوالم الصّنع والإبداع ، وصدرة نظام الكون صلاة
العقل والنّفس في قوّتي النّظر والعمل على سفرة صقع النّور ، وخزنة سرّ الوحي ،
وحملة سنّة الدّين ، وهداة سبيل القدس بمعالم الشّرع والإيزاع.
وبعد ، فإنّ الّتي
احتوتها صدور هذه الأوراق وبطون هذه الأطباق عضة من صحفي ومصنّفاتي وزبري
ومرصّفاني ، فيها عضون من جذوات قبساتي وخلسات خلساتي ، يتّمض بها المستريض
المتبصّر ، ويتلمظ منها المستفيض المتمصّر ، قد اصطادتها شركة الانتساج ،
واقتنصتها شبكة الاستنساخ ، اختداما لخزنة كتب نواب الصّدر الأعظم والمخدوم
المعظّم ، سلطان أعاظم الصّدور والأمراء ، برهان أكارم العلماء والفقهاء ،
الفهّامة المقدام والعلّامة المكرام ، ملاذ الإسلام والمسلمين ، ملاك الإيمان
والمؤمنين ، لا زالت
مطالع سيادته
وصدارته ، وسماه وهداه ، كمجالى اسمه السّامي ولقبه الطّامي ، على قصوى مدارج
الحمد والرّضا ، وقصيا معارج المجد والعلى ، ولا عدمت الأيّام أضواء ثواقب حضرته
ولا فقدت الأدوار أنوار كواكب دولته ، رجاء أن يشرح صدر غوامض مباحثها بلحظ بصره
القدسيّ ويرفع قدر مغامض مداحضها بلحاظ نظره القدّوسيّ.
وإنّي قد أجزت له
، خلّد الله ظلاله ، أن يرويها ، كما شاء وكيف شاء ، وأن يفيض على المستفيضين بسط
أنوارها وكشط أستارها وحلّ وكشف مستبهماتها ، وهداية التّائقين إلى حمل عرش حملها
وروايتها وإرواء الظّامئين في مهامه فقهها ودرايتها. وكتب بيمينه الجانية الفانية
المستديم لظلال جلاله وشروق عزّه وإقباله أحوج المربوبين وأفقر المفتاقين ، محمّد
بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينيّ ، ختم الله له في نشأتيه بالحسنى ، وسقاه
في المصير إليه من كأس المقرّبين ممّن له لديه لزلفى ، وجعل خير يوميه غده ، ولا
أوهن من الاعتصام بحبل فضله العظيم يده ؛ في هزيع من سابع ذي القعدة الحرام ، لعام
١٠٢٤ ، من أعوام الهجرة المباركة المقدّسة النّبويّة ، حامدا مصلّيا مسلّما.
(٦)
إجازة المير الدّاماد
للشيخ عبد الغفّار الرّشتي
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أنهاه ، ضوعف
معارفه ومعاليه ، سماعا واستفادة وأخذا وضبطا واستكشاطا واستكشافا ، وفحصا
وافتحاصا وتحقيقا وتدقيقا. وقد أجزت له أن يرويه عني وسائر ما قرأ علي ودراه ،
وسمع ووعاه ، واستفاد وأحصاه ، بلّغه الله تعالى أقصى مبلغ الفحص ومنتهاه ، وقصيا
مطموعه من العلم والحكمة ومبتغاه ، فليرو جملة ذلك لمن شاء وأحبّ ، على ما استهوى
واستحبّ. والمأمول أن لا ينساني من صالح الدّعاء فى مئنّة الإجابة ومظنّة
الاستجابة. وكتب أفقر المربوبين إلى ربّه الحميد الغنيّ ، محمّد باقر ، الدّاماد
الحسينيّ ، ختم الله له بالحسنى ، حامدا مصلّيا مسلّما.
(٧)
إجازة المير الدّاماد
للشيخ صالح الجزائرىّ
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد الحمد
والصّلاة ، فإنّ الأخ الأوحد الأمجد الأفضل ، الالمعيّ اليلعمىّ اللوذعىّ ، الشيخ
البارع
السّامح السّابح ،
أفضل الدّين ، صالح الجزائريّ ، رفعت أعمد قدره إلى ذرى سماء المجد والسّناء ، قد
سرّني بكريم لقائه ، فحضر المحفل المعقود للمدارسة والمناظرة ، وأخذ طرفا من
المسائل بحقائقها ، على ما ساعدته الأقطار بجلائلها ودقائقها ، واستجازني ،
فاستخرت الله تعالى ، وأجزته أن يروي عنّي الأصول الأربعة ، في أحاديث أئمّتنا
الطّاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، بطرقي المتّصلة إلى الأقدمين من أصحاب
الحديث ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وأن يروي مصنّفاتي في العلوم العقليّة
والشّرعيّة ، ومصنّفات جدّي المحقق ، أعلى الله مقامه ، ومصنّفات مشايخى وأساتيذي
، ومصنّفات العلّامة ، آية الله ، جمال الملّة والدّين بن المطهّر الحلّيّ ، رضى
الله رمسه وأن يروي ما يجوز لي روايته مراعيا في ذلك الشّروط المقرّرة وإليه
النّهاية. حرّر الأسطر على ضيق المجال أحوج الخلق إلى الله الغنيّ ، محمّد بن
محمّد ، المدعوّ بباقر الدّاماد ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا.
(٨)
إجازة المير الدّاماد
للسّيد حسين الكركيّ العامليّ
صورة إجازة سيّدنا
وسندنا ومقتدانا ، مقتدى الفرقة الحقّة النّاجية لبعض السّادة الأجلة.
بسم الله الرحمن الرحيم ، والاعتصام بالعزيز العليم
الحمد لله ربّ
العالمين ، حمدا حامّا ضامّا تامّا ، وراء ما يبلغه عقول الحامدين ، كفاء حقّ حمده
وحذاء عزّ كبريائه وإزاء جلال مجده ؛ والصّلاة على سيّد زمر السّفراء السّانيّن
والأنبياء المرسلين ، وأوصيائه الأصفياء البررة المقرّبين المكرّمين ، خزنة الوحي
وحملة الدّين وأوعية العلم وهداة الخلق من بعده.
وبعد ، فإنّ
السّيّد السّند ، الأيّد المؤيّد ، الفقيه النّبيه ، الجليل النّبيل ، الفريد
الوحيد ، الأفضل الأكمل ، الأمجد الأوحد ، زبدة الفقهاء الفخام ، وعمدة الفضلاء
الكرام ، وبقيّة العلماء الأعلام ، شرفا للسيادة والنّجابة ، والفقاهة والنّباهة ،
والجلالة والكرامة ، والعلم والدّين ، الحسين بن السّيد الأجلّ ، المبرور المحبور
، المرحوم المغفور ، حيدر الحسينيّ ، الكركيّ الحامليّ ، أسبغ الله إفضاله ، ووفّر
في زمرة أهل العلم أمثاله ، قد شرّفني بصحبته الشّريفة ملاوة من الزّمان ، وعرّفني
مرتبته المنيفة تلاوة من الأوان ، واختلف إلى محفلي المعقود للمدارسة ومجلسي
المعهود للمفاوضة ليالي وأيّاما وشهورا وأعواما ، فقرأ وأمعن ، وسمع وأتقن ،
واستفاد واقتبس ، واصطاد و
اقتنص ، واختطف
واختلس ، وارتصد فاجتنى ، والتقط فاقتنى ، واستقمش واحتاز ، واستطرف ففاز ؛ أخذ
قسطا وافرا واستجمع قسما صالحا في فنون العلوم الدّينيّة وأفانين المعارف
الإيمانيّة ، أصولها وفروعها وكليّاتها وجزئيّاتها ، عقليّاتها وسمعيّاتها ،
نقليّاتها وشرعيّاتها.
ولقد استجاز منّي
في النقل والرّواية عنّي ، واقترح وألحّ ، والتمس وتلمّس ، فاستخرت الله تعالى ،
وأجزت له أن ينقل عنّي أقوالي في الأحكام ، وفتاواي في الحلال والحرام ، وأن يعمل
بها وأن يأذن للمكلّفين في العمل بها ، وأن يروي مصنّفاتى العقليّة والسّمعيّة ،
ومصنّفات جدّي المحقق الإمام ، ومعلّقات خالي المدقق المقدام ؛
وأبحت له أن يروي
عنّي ما تجوز لي روايته ، من أحاديث سيّدنا رسول الله وأحاديث سادتنا المعصومين
وأئمّتنا الطّاهرين ، صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين.
فما في أصول
أصحابنا وكتبهم ، أعلى الله مقامهم في دار المقام ، وحفّ أرواحهم بالتّقديس
والإكرام ، ولا سيّما الأصول الأربعة ، لأبي جعفرين الثّلاثة ، رضوان الله تعالى
عليهم ، التي هي المعوّل عليها ، المحفوفة بالاعتبار ، وعليها تدور رحى دين
الإسلام ، في هذه الأدوار والأعصار ، وهي الكافي والفقيه والتّهذيب والاستبصار ؛ وما
قد علّقت عليها من الحواشي والشّروح والتّعليقات والتّحقيقات ، الّتي ما بدت بما
يضاهيها الأزمنة والعصور ، ولا أتت بما يدانيها القرون والدّهور ، فليرو ذلك كلّه
لمن شاء كما شاء ، ولمن أحبّ كما أحبّ ، بطرقي المعتبرة المصحّحة المشروحة
المفصّلة في الإجازات المبسوطة المطوّلة ، إذا وضحت عليه وصحّت لديه.
وليكن مرتادا
محتاطا متبصّرا ، متثبّتا متيقّظا ، مستثبتا مستحيطا ، مراعيا لي وله طريق
الاحتياط وسبيل الاستحاطة ، محافظا على مراعاة الشّرائط المقرّرة عند أصحاب
الرّواية ولدى أرباب الدّراية ، غير ناس إيّاي عن صالح الدّعاء ، في مظان الإجابة
ومآنّ الاستجابة.
وكتب بيمناه
الوازرة الدّاثرة الجانية الفانية أفقر المربوبين إلى ربّه الحميد الغنىّ ، محمّد
بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ ، في عام ١٠٣٨ ، من الهجرة المقدّسة
المباركة النّبويّة ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا.
(٩)
إجازة المير الدّاماد لقارئ الصّحيفة
السّجاديّة
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد ما قد قرأ علي
الصّحيفة الكريمة السّجاديّة ، وهي زبور آل محمد ، عليهمالسلام ، قراءة ضبط وإتقان ودراية واستتقان ، وأنهاها استفادة
واستكشافا ، واستباثة واستكشافا ، أسبل الله تعالى إفاضاته عليه وأسبغ كراماته
لديه ، وبلّغه قصوى المعارج في نشأتيه ، وقصيا المدارج في تكميل قوّتيه ، أجزت
وأبحت له أن يرويها عني ، لمن شاء وكيف شاء ، ولمن أحبّ ، كما أحبّ ، بحقّ روايتي
إيّاها عن مشيختي وأشياخي وسلّافي واسلافى ، بطرقي وأسانيدي المضبوطة الموردة في «الرّواشح
السّماويّة». وليكن في روايته مرتادا محتاطا ، متضبّطا مستحيطا ، مراعيا للشّرائط
المعتبرة عند أصحاب الرّواية ، غير ناس إيّاي من صالح الدّعاء في خلواته ودعواته ،
عند مئنّة الإجابة ومظنّة الاستجابة. وكتب بيمناه الدّاثرة أحوج المربوبين إلى
ربّه الحميد الغنيّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينيّ ، ختم الله له
بالحسنى ، عام ١٠٢٩ ، من الهجرة المقدّسة ، حامدا مصلّيا مسلّما.
(١٠)
اجازة الميرداماد
لميرزا شاهرخ بيگا قارئ الصحيفة السّجاديّة
الحمد لله ربّ
العالمين حقّ حمده ، والصّلاة على سيّد [المرسلين] محمّد وعترته الطاهرين القائمين
بالأمر من بعده. وبعد ، فإنّ الجليل الناهض والخليل الماحض ، يلمعىّ الوزراء
والأمراء ، ميرزا شاهرخ بيگا ، بلّغه الله تعالى قصيا معارج الكمال ، قرأ وسمع على
الصحيفة الكريمة السجاديّة [زبور آل] محمّد ، على ارواحهم وأجسادهم التحيّة
والسّلام. ولقد أجزت وأبحت له أن يرويها عنّى بحقّ روايتى عن مشيختى وسلّافى
وأسلافى بطرقى إليهم وأسانيدى [المتصلة إليهم] ، وهى بتفاصيلها مضبوطة موردة [...]
لمن أسبغ الله إفضاله ، محتاطا فى روايتها ، مراعيا للشرائط المعتبرة عند أصحاب
الرواية [والدراية] غير ناس إيّاى من صالح الدّعاء فى مظانّ الإجابات والاستجابات.
وكتب بيمناه الدّائرة [أفقر الخلق إلى عفو] ربّه الحميد الغنىّ محمّد بن محمّد ،
يدعى باقر [الداماد ، ختم] الله له بالحسنى ، هزيعا من ثامن
عشر ، خامس [؟]
١٠١٠ ، من الهجرة المقدسة النبويّة حامدا مصليا [مسلما ، مستغفرا]. [صحيفه كامله ،
ش ٢٨٠ ، ادعيه ، آستان قدس ، مشهد. ضميمه].
(١١)
إجازة الميرداماد
للسيّد محمد باقر المشهدىّ
الحمد لله ربّ
العالمين ، وليّ كلّ حمد ، والصّلاة على صفو الورى وسيّد البر أبا محمّد وعترته
البررة الأصفياء وخزنة أحكام التّنزيل وحفظة أسرار التأويل من بعده.
وبعد ، فإنّ
السّيّد الفاضل الكامل المتورّع المتعبّد ، الذّكىّ الفطن اليلمعىّ اللوذعيّ
الملتزّ بلزاز الطّاعة والفائز بلذاذ العبادة ، السّيد محمد باقر المشهديّ ، بلّغه
الله تعالى قصيا ما يتمنّاه من كمالات القوّتين وسعادات النّشأتين قد خالني برهة
من الزّمان ، وضجني ملاوة من الأوان ، وقرأ علي في من قرأ ، وسمع في من سمع ،
فالتقط واختطف واجتنى واقتنى. فمن مصنّفاتي كتاب ضوابط الرّضاع تامّا كاملا ، ومن
أصول الأصحاب المعوّل عليها في المذهب شطرا موفّرا وقسطا صالحا وجانبا معتبرا
ونصيبا موفورا ، من كتاب من لا يحضره الفقيه لشيخنا الثّبت (الراوية) الصّدوق عروة
الإسلام ، أبي جعفر ، محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمىّ ، رضوان
الله تعالى عليه. وكذلك من كتاب الاستبصار لشيخ الطّائفة وفقيه العصابة أبي جعفر
محمّد بن الحسن بن علي الطّوسيّ ، نوّر الله تعالى مضجعه ، بما لي عليها من
الحواشي والمعلّقات والفوائد والتّحقيقات ، بسطا وتقريرا لغوامض أسرار العلم
والحكمة وشرحا وتفسيرا لأحاديث أصحاب الوحي والوصي. وكذلك من زبور آل محمّد وإنجيل
أهل البيت ، صلوات الله وتسليماته على أرواحهم وأجسادهم ، أعني الصّحيفة الكريمة
الكاملة السّجاديّة بما علّقت عليه من حقائق العلوم وبدائع الحكم ودقائق المعارف
ونوادر النّكات على الطّريق الأتمّ. ولقد استجاز منّي ، فأجزت له أن يعمل بفتاواي
وأقوالي وينقلها عنّي لمن ابتغى العمل بها وأن يروي عني ما قرأ ودرى وسمع ووعى ، محتاطا
مرتادا مستحيطا مستنبطا على مراعاة الشّرائط المعتبرة لدى أرباب الدّراية وعند
أصحاب الرّواية ، غير ناس إيّاي عن صالح الدّعاء في مئنّة الإجابة ومظنّة
الاستجابة. وكتب مسئولا أحوج المربوبين
إلى الربّ الحميد
الغنيّ محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينيّ ، فى أوّل شهور عام ١٠٣٤ من
الهجرة المقدّسة النبويّة ، حامدا مصلّيا مستغفرا. [نقلت هذه الإجازة من خطّ
المصنّف المحقق ره].
(١٢)
اجازة الميرداماد
لعبد المطّلب الطالقانيّ
هو الله تعالى حسبي
لقد أنهاه سماعا
وأخذا وإتقانا ، ضاعف الله إيقانه وإتقانه وأفاض عليه برّه وإحسانه. وذلك كان
بمجالس عديدة ، آخرها في آخر الأخير من شهور عام ١٠٢٠ من الهجرة المقدّسة المباركة
النبويّة. وكتب بيمينه الفانية أحوج المفتاقين إلى الله الغنيّ محمّد بن محمّد ،
المدعوّ باقر الدّاماد الحسينيّ ، ختم الله له بالحسنى ، حامدا مصلّيا مسلّما
مستغفرا.
وقد أجزت له ،
أيّده الله تعالى بطوله وفضله ، أن يرويه عنّي ... وسائر مأخوذاته ومسموعاته ،
فليروها لمن أراد على ما سمع وضبط ، متحفظا متيقظا مرتادا محتاطا ، غير مهمل
للشرائط المقرّرة المعتبرة عند أصحاب الرّواية وأرباب الدّراية ، ولا ناس إيّاي عن
صالح الدّعاء في صوالح الدّعوات المصادفة مظان الإجابات ، ولا سيّما أعقاب صلواته
وأدبار تلاوته وختماته للقرآن الكريم. والله ، سبحانه ، وليّ الطّول ، وبيده أزمّة
الفضل ، والحمد لله وصلواته على سيّد الأنبياء وعترته.
(اجازه مذكور در
برگ ٢٠٠ نسخه شماره ٢٥١٩ كتابخانه مرعشى آمده. اين نسخه شامل شرعة التّسمية
واختلاف الزّوجين فى المهر از ميرداماد است جناب مير با خط خود اجازه را در اين
نسخه مرقوم فرموده است.)
(١٣)
إجازة المير الدّاماد
لصدر الدين محمد الشيرازى.
وأخبرنى سيّدي
وسندي وأستاذي واستنادي في المعالم الدينيّة والعلوم الإلهيّة والمعارف الحقيقيّة
والأصول اليقينيّة ، السّيّد الأجلّ الأنور ، العالم المقدّس الأزهر ، الحكيم
الإلهيّ والفقيه الرّبانيّ ، سيّد عصره وصفوة دهره ، الأمير الكبير والبدر المنير
، علّامة الزّمان ، أعجوبة الدوران ، المسمّى بمحمّد ، الملقّب بباقر ، الداماد
الحسينيّ ، قدّس الله عقله بالنور الرّبّانيّ ، عن أستاذه وخاله المكرّم المعظّم ،
الشيخ عبد العلي ،
رحمهالله ، عن والده السّامي ، المطاع المشهور اسمه في الآفاق
والأصقاع ، الشيخ علي بن عبد العالي ، مسندا بالسّند المذكور وغيره ، إلى الشيخ
الشّهيد محمّد بن مكّى ، قدسسره ، عن جماعة من مشايخه ، منهم الشّيخ عميد الدّين عبد
المطّلب الحسينىّ ، والشيخ الأجلّ الأفضل فخر المحققين ، أبو طالب محمّد الحلّي ،
والمولى العلّامة مولانا قطب الدين الرازيّ ، عن الشيخ الأجلّ العلّامة ، آية الله
في أرضه ، جمال الملة والدين ، أبي منصور الحسن بن مطهّر الحلّيّ ، قدّس الله روحه
، عن شيخه المحقق ، رئيس الفقهاء والأصوليّين ، نجم الملّة والدّين ، أبي القاسم
جعفر بن الحسن بن سعيد الحلّيّ ، عن السّيد الجليل النّسابة ، فخّار بن معدّ
الموسوىّ ، عن شاذان بن جبرئيل ابيه ، عن محمّد بن أبى القاسم الطبريّ ، عن الشيخ
الفقيه أبي علي الحسن عن والده الأجلّ الأكمل ، شيخ الطائفة محمد بن الحسن
الطّوسيّ ، نوّر الله مرقده ـ ... ـ عن الشيخ الأعظم الأكمل المفيد محمّد بن محمّد
بن النعمان الحارثيّ ، سقى الله ثراه ، عن الشّيخ الأجل ثقة الإسلام وقدوة الأنام
محمّد بن على بن بابويه القمىّ ، أعلى الله مقامه ، عن أبي القاسم جعفر بن قولويه
، عن الشّيخ الجليل ثقة الإسلام ، سند المحدّثين ، أبي جعفر محمّد بن يعقوب
الكلينيّ. قال : حدّثني عدّة من أصحابنا ، منهم محمّد بن يحيى العطّار ، عن أحمد
بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي
جعفر عليهالسلام ، قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه. ثم قال له : أقبل ،
فأقبل. ثمّ قال له : أدبر فأدبر. ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقت خلقا هو أحبّ
إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا في من أحبّ. أما إنّي إيّاك آمر ، وإيّاك أنهى ،
وإيّاك اعاقب ، وإيّاك اثيب. (صدر الدين محمد الشيرازى ، شرح أصول الكافى ، ج ١ ،
ص ٢١٤)
(١٤)
إجازة المير الدّاماد
لمعصوم كاتب الخلعيّة
قد قرأ على
خلعيّتى هذه ، أدام الله مجده وكماله وأفاض عليه سيبه وسجاله ، وإنّى قد أجزت له
أن يرويها عنّى لمن وجده أهلا للأسرار الخفيّة وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله
الطاهرين.
كتب أفقر
المفتاقين إلى رحمة الله الحميد الغنىّ محمد بن محمد ، يدعى باقر الداماد الحسينىّ
، ختم الله فى نشأتيه بالحسنى حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا.
[من مجموعه به خطّ
معصوم فى مكتبة السيّد محمد المحيط الطباطبائىّ. الذريعة إلى تصانيف الشّيعة للشيخ
آقا بزرگ الطهرانىّ ، ج ٧ ، ص ٢٤١ ، فى الهامش].
مصنّفات ميرداماد
(٩)
المكاتبات
(١)
نامه ميرداماد به شمس
الدين امير محمد مؤمن [شمسا گيلانى]
ظلال خورشيد مثال
بندگان سيّد اعاظم ارباب تحقيق ومفخر افاخم اصحاب التدقيق ، سلطان العلماء
المتبحّرين ، مغبوط زمر المتقدّمين بصفاته القدسيّة ، سبّيق بيداء [الكمال]
بملكاته الملكوتيّة ، بر مفارق آل علم وحزب يقين ودر جوامع آفاق وصوامع اصقاع ،
حفظا لمحجّة الدّين وحماية لحوزة المؤمنين ، ممدودا إلى يوم الجمع الموعود ، مبسوط
باد.
من قال آمين
أبقى الله مهجته
|
|
فإنّ هذا دعاء
يشمل البشرا
|
مخلص مهجور وداعى
بر جبلّت اخلاص مفطور را به مخاطبه قلم حقايق رقم ومفاوضه خامه بدائع اسامه فايز
نداشتن از سنّت مرحمت عميم وسنن عطوفت قديم فوق النهاية مستبعد مى آيد وبه غايت الغايه
مستغرب مى نمايد.
اى ياد نياورده
دل ناشادم
|
|
ياد تو چو بوى
مى دهد بر بادم
|
يكباره ز ياد تو
فرامش بادم
|
|
گر بى تو همه
جهان نرفت از يادم
|
معروض خدمت سامى
آن عقول مقدّسه آنكه بعضى از حثالة الأعراب اين ديار كه همه بذور حسد وزروع عناد
وآباء لدد وابناى لدادند ، بر مشاكله ظلمت در معارضه نور ، با مخلص در افتاده ،
سوداء خام تكافو در
ديگ خيال مقابله
ومجادله مى پزد.
ودر بعضى از مسائل
ارتضاع ، از روى جهالت وبر سبيل عدم بصيرت جدال مى ورزيد ، صونا للدين عن تحريف
القالين ، در [مقام نقد] مباحث رضاع كتاب موسوم به «ضوابط الرضاع» مؤلّف آمده.
در اين وقت ، چون
تقوى وورع انتباه ، مولانا عبد الهادى مازندرانى ، كه از دعاگويان آستانه مقدّس
آشيانه آن محذوم العلماء المتقدمين است ، نمود كه بريدى در غايت استعجال متوجّه آن
آستانه است ، چندى از اغلاط وجهالات مجادل معاند در شرح احاديث وضبط الفاظ ادعيه
كه مبلغ وبضاعت دانش ودرجه تحصيل ومرتبه تديّن از آن معلوم مى شود به عرض رسانيد ،
تا ملاحظه فرمايند كه كار حق با مشاكسه اين مبطلين چه شكل افتاده است.
سيّدا ، سندا ،
اعتقادا ، مولانا عبد الهادى متورّع ومتديّن است ، واهليّت آن دارد كه خدمات سركار
عالى در اين صوب به انجام رساند. زياده چه اطناب نمايد ، ثواقب كواكب فضل وافضال
وتحقيق وتدقيق از مطالع افق جاه وجلال ساطع وطالع ولامع باد.
ناسك مناسك
دعاگويى واخلاص محمد باقر الداماد الحسينيّ ، به ملامسه انامل ومطالعه ألحاظ نوّاب
مقدّس القاب ، علّامة العلمائى فى العالم ، مرتضى ممالك الإسلام ، شمسا امير محمّد
مؤمن مشرّف باد.
(٢)
كتابتى كه مير محمد
باقر داماد سلّمه الله به ميرزا رضى صدارت پناه نوشته بود.
بسم الله الرحمن الرحيم
به صدر صفّه
امكان زهى شبيه عديم
|
|
به روز مجلس
دانش زهى عزيز نظير
|
ادوار مدارات جاه
وجلال ، وتداوير كواكب فضل وافضال را ، مسير درجات نطاقات بارگاه اماجد وافاضل
پناه آن مقتداى جواهر قدسيّه ، وفرمان فرماى اصقاع كمالات انسيّه مقصود بوده ، ذات
اقدس ونفس مقدّس ، كه شيرازه كتاب تألّه وديباچه
صحيفه تقدّس
ومجموعه حقايق دانش وبينش وفهرست ابواب حكم آفرينش است.
با همه عالم
جواد وز همه هستى فزون
|
|
در همه ميدان
تمام ، بر همه دانش سوار
|
ابد الآباد ،
خميرمايه بهجت مجلس ارواح وواسطه نظام عالم انوار باد ، وجويبار عمر تو نشو نهال
دهد ، تا چرخ را ز باغ مجراست جويبار.
به روح وريحان بهار
چمن اخلاص ، وسرسبزى اشجار حديقه محبّت قسم ، كه هرگاه محفل روحانى به ذكر نام
نامى رشك مجامع حلقه ملكوتيّين شود ، سكّان خلوتخانه هاى مشاعر وخلوت نشينان صوامع
سرّ وخيال ، سرها از دريچه هاى قواى ادراكيّه برآورده ، چشم وگوش بر در دروازه
صمّاخ دارند.
همواره در اوقات
دعوات واعقاب صلوات ، فى الخلوات والسّلوات ، مائة الإجابة ومظنّة الاستجابة را
رصد نموده ، تزايد ايّام خجسته فرجام عمر ودولت را مستديم وتضاعف مدارج وتصاعد
اقبال عالى را مستدعى مى باشد.
كوته نكند بحث
سر زلف تو حافظ
|
|
پيوسته شد اين
سلسله تا روز قيامت
|
ظلال آفتاب مثال
بر مفارق ايّام مبسوط ومستدام بسيّد المرسلين وعترته الطاهرين.
از اقاليم نفاذ
تو توقّف را خروج
|
|
در گلستان لقاى
تو تناهى را زكام
|
من قال آمين
أبقى الله مهجته
|
|
فإنّ هذا دعاء
يشمل البشرا
|
وسالك مسالك اخلاص
وناسك دعا محمد باقر داماد الحسينىّ.
(٣)
نامه ميرداماد به
نوّاب آصف خان
بسم الله الرحمن الرحيم
منطقه بارگاه عديم
المثال آن آسمان عالم جاه وجلال ، هميشه مدار آفتاب دولت واقبال ومدير كواكب فضل
وافضال باد ، بر لوح عرض مى نگارد كه با تأكّد علاقه اعتلاق مجلس تخاطب شهودى بوده
باشد محطّ استغراب ومحلّ استبعاد مى نمايد ، فى ما بعد مسلك فتح الباب مخاطبات
روحانيّة كه مهبّ فوحات روائح انس ومصبّ رشحات فيوض عالم قدس است مسلوك باد.
در اين اوقات از
سوانح وقتيّه وواردات قدسيّه كتاب «نبراس الضّياء فى شرح باب البداء وتحقيق جدوى
الدّعاء» ، به تكرّر التماس متلمّسين واقتراح متعطشين به قلم إلهام بر الواح توفيق
نگاشته شده ، وغرائب دقائق علوم وبدائع حقايق در مطاوى آن مضمّن آمده، وكيفيّت
استناد ميسّرات تدريجيّه وكونيّات زمنيّه به آستان ربوبيّت قدس خلّاق وجناب
فعاليّت فعّال على الإطلاق على أبلغ الوجوه به نصاب محض بالغ رسيده.
وهمچنين كتاب «جذوات
ومواقيت» بر غوامض خفايا ومكنونات خباياى حكمت محتوى ، واسرار نظام جملى وجود در
مطاوى آن منطوى ، به اندازه فرجاء مساعدت ايّام ومقدار حوصله عقول انام صورت
انتظام يافته ، فذلكه انجام وهندسه اتمام پذيرفته است ؛ مهيمن متعال ، مدرك ملكوت
مسلك را توفيق استكشاف دقايق مغامض آن روزى كناد.
حامل صحيفة
الإخلاص ، مقتنص بدائع مشاهق ومطاوى «مولانا محمد صالح كرامى» ، بلّغه الله تعالى
أقصى الغايات وقصيا النهايات ، بسيارى از اوابد شواهق آن حقايق ، در شكارگاه
فيوضات محلّ مدارسه ، به شركه اقتناص وشبكه اختلاس در آورده است. شايد كه مسموعات
ومأخوذات ومقنوصات ومختلساتش مسافر قوّت نظرى را در بيداى مطالعه غامضات مبدرق
وقافله انظار فكرى را در متيه استنباط عويصات زائد آيد.
مرتقب ومأمول آنكه
مشار إليه را منظور انظار مكرمت وملحوظ الحاظ عنايت داشته ، مراعات احوال ومواسات
آمالش بر ذمّت مرحمت مفروض شمرده ، عواطف التفات در انجاح مطالب وانجام مآريش موجب
انشراح صدور واسترار خاطر مخلص دانند ، زياده اطراء واطناب از حريم قوانين آداب
بيرون مى نمايد ، بسط الله ظلّكم أبدا.
(٤)
نامه ميرداماد به ملا
صدرا شيرازى
صورة ما كتبه
السّيد السّند الدّاماد ، باقر علوم الأنبياء والوصيّين إلى جدّنا
الأمجد ، صدر
العرفاء المتألهين ، أنار الله برهانهما المبين.
بسم الله الرحمن الرحيم
شوق صحبت عزيز
البهجت ، حضرت افادت وافاضت پناه ، حقايق ودقايق دستگاه ، وجه العلماء العارفين ،
عين العرفاء العارفين ، السّليل النّاهض ، الخليل الماحض ، أكرم الأولاد
الرّوحانيّة ، وأحمّ الحامّة العقلانيّة ، صدر جريدة الأفاضل ، بيت قصيدة الأماثل
، خصّه الله بسيوب نعمه وحفّه بفيوض مننه ، نه در آن درجه است كه طوامير عبارات
ويا مطاوى اشارات حيّز تعبير يا ادات تقرير آن تواند بود ، قشع الله بيننا وجمع
بيننا.
آسوده شبى خواهم
وخوش مهتابى
|
|
تا با تو حكايت
كنم از هر بابى
|
[وأنا] أحوج الخلق إلى الله محمّد
باقر الدّاماد الحسينىّ.
[آن كس كه مى گويد
: «جدّنا الأمجد» كيست؟ در ذيل يك بحث ديگر چنين امضا شده است : «محمّد شفيع بن
محمّد مقيم ، سنه ١١٢٠ ، بلدة قاسان.»]
(فهرست كتابخانه
مركزى دانشگاه تهران ، ج ١٧ ، ص ٦٣ ، مجموعه ، ش ٨٢٣١).
(٥)
كتابت ميرداماد در
مجموعه ملا صدرا شيرازى
ورأيت فى كاشان
مجموعة مخطوطة كتبها صدر الدّين بيده وعلى ظهر عنوانه كتب السّيّد محمّد الدّاماد
هذا الإطراء :
«ورقمت الأحرف
إتياتا بملتمس أعزّ الأولاد الرّوحانيّة وأقرب ذوى القربى العقلانيّة ، الأوحد
الأمجد ، الأفضل الأكمل ، اللّوذعىّ الألمعىّ ، صدرا للفضل والمجد ، والحقّ
والحقيقة ، والملّة والدّين ، محمّد الشّيرازىّ ، رقّاه الله تعالى الى أعلى مراتب
الظّهور العلمىّ والشّهود العينىّ. وأنا أحوج [الخلق] إلى الرّبّ الغنىّ ، محمّد
بن محمّد ، المدعوّ بباقر الدّاماد الحسينىّ: ختم الله له بالحسنى». (التفسير
الكبير لصدر الدّين محمّد الشّيرازىّ ، صحّحه السيّد عبد الله الفاطمىّ ، مقدّمة
النّاشر ، ص ٣٧ ، قم ، مطبعة الحكمة ، طبع على نفقة المحروم الحاج ميرزا أحمد
الخواجوىّ ، ١٣٥٢).
(٦)
نامه ميرداماد به
سؤال كننده براى توضيح وشرح شعر سيف اسفرنگ
بسم الله الرحمن الرحيم
به موقف عرض مقدّس
مى رساند كه بيتى از سيف اسفرنگ مذكور مى شود ومعنى در حجاب اختفاء است. آنچه در
پيشگاه اشراقات ضمير آفتاب نظير تابد به اظهار آن سرگردانان تيه جهالت را راهنمائى
خواهند فرمود. بيت :
زهد تو فضله وضو
، گر به سپهر برزدى
|
|
حيض چهار مادر
از بطن سه دختر آمدى
|
ظل ظليلت ابدى
التظليل باد ، إن شاء الله.
جواب : بسم الله
الرحمن الرحيم. به كلك عرض بر لوح ذهن وقّاد وطبع نقّاد مى نگارد كه وقتى قبل از
اين اوقات چنانچه گفته اند :
از اين پيش
گردون كه آزاده بود
|
|
بهين روزگارى
مرا داده بود
|
شرح اين بيت چندين
وجه زبان زد قريحه خامده مى شد.
از جمله آن وجوه ،
آنكه مراد از چهار مادر أمّهات اربع كه اسطقسات اربعه عالم عنصريّات است بوده
باشد. وحيض آنها عبارت است از عيب عروض دثور ونفاد ونقص قبول كون وفساد. وسه خواهر
يا سه دختر ، على اختلاف النّسخ ، كنايه از بنات ثلاث بنات النعش كبرى.
حاصل ومحصّل
المغزى آنكه جناب ممدوح كه وضوى زهادت او از احداث كيانيّات متطهر بوده وعالم
عنصريّات واقاليم سفليّات را از مطروحيّت نظر التفات انداخته است اگر فضله وضوى
زهد خود را ، به فتح واو وضو ، كه عبارت است از آب وضو ، به ضم ، به سپهر ، يعنى
عوالم افلاك وطبقات سماويّات برزدى ، اطباق علويّات اثيريّه در دام دثور وممات
ونفاد گرفتار آمدى ، حيض قبول كون وفساد كه خاصّه أمّهات عالم سفلى است ، از بطن
بنات عالم علوى واقليم سماوى آمدى ، والله سبحانه اعلم.
ومعنى ديگر اين
بيت ، آن است كه با آنكه بنات النّعش در عالم
مجرّدات است واز
علائق منزّه است ، اگر فضله زهد وتجرّد تو به او رسد شرمنده شود از تجرّد تو ،
چنانچه حيض از ايشان آيد ، زيرا كه مشهور است كه هرگاه شرم بر زن غالب شود از او
حيض جدا شود. يا آنكه مراد از بنات ثلاثة مواليد ثلاث است ، يعنى اگر فضله وضوى
زهد تو بر سپهر برسد چندان اثر كند كه به بركت آن از بطن چهار مادر كه عناصر است
حيض آن كار نطفه كند كه از آن حيض مواليد ثلاثة حاصل شود.
وبنا بر اين بيت
را چنان بايد خواند كه بطن مضاعف نباشد به سه دختر ، به اين روش كه حيض چهار مادر
از بطن سه دختر آوردى وبطن را به سكون نون خوانند ، نه به كسر آن ، ومراد از چهار
عنصر ، آب وخاك وآتش وباد است ، چنان كه مراد از سه دختر بنات ثلاث بنات النعش ،
وبنا بر نسخه اى سه خواهر مراد مواليد ثلاث است ، كه جماد ونبات وحيوان است.
(٧)
مشاعره ميرداماد وشيخ
بهائى
سؤال شيخ بهائى :
اى كه در بحر
علم تحميدى
|
|
اين معمّى ز كس
تو نشنيدى
|
شترى در ميان دو
الله
|
|
گم شده ، آن شتر
كجا ديدى
|
جواب من ميرداماد ، ره :
اى بهائى ترا
ضيا باشد
|
|
رخت آيينه صفا
باشد
|
اين معمّى كه
كرده اى تو بيان
|
|
آخر الشّمس
والضّحى باشد
|
أيضا من شيخ [بهائى] :
هم كان شريعتى
وهم كان سخا
|
|
دارى سخنى وآن
جوابش فرما
|
گويند خدا بود ،
دگر هيچ نبود
|
|
چون نبود ، پس
كجا بود خدا
|
فى الجواب [من ميرداماد] :
اى سائل اين
مسأله راهنما
|
|
ميدان بيقين كه
لامكان است خدا
|
خواهى كه تو را
كشف شود اين معنى
|
|
جان در بدنت
ببين كجا دارد جا
|
سؤال من ميرداماد :
اى شاخ برهنه
روى بر مى طلبم
|
|
از خانه عنكبوت
پر مى طلبم
|
اندر دهن مار
شكر مى طلبم
|
|
از پشه ماده شير
نر مى طلبم
|
فى الجواب
علم است برهنه
روى تحصيل بر است
|
|
تن خانه عنكبوت
دل بال وپر است
|
زهر است جفاى
علم معنى شكر است
|
|
هر پشه كزو چشيد
او شير نر است
|
(نقل از مجموعه خطى استاد محترم ،
آقاى سيّد محمّد محيط طباطبائى ، مكتوب در قرن دوازدهم هجرى قمرى ، ورق ٣٩ ، از
مرحمت والتفات ايشان سپاسگزارم).
اى كه در بحر
علم تحميدى
|
|
اين معمّى ز كس
تو نشنيدى
|
شترى در ميان دو
الله
|
|
گم شده ، آن شتر
كجا ديدى
|
جواب من ميرداماد ، ره :
اى بهائى ترا
ضيا باشد
|
|
رخت آيينه صفا
باشد
|
اين معمّى كه
كرده اى تو بيان
|
|
آخر الشّمس
والضّحى باشد
|
أيضا من شيخ [بهائى] :
هم كان شريعتى
وهم كان سخا
|
|
دارى سخنى وآن
جوابش فرما
|
گويند خدا بود ،
دگر هيچ نبود
|
|
چون نبود ، پس
كجا بود خدا
|
(٨)
نامه ميرداماد به
اعتماد الدولة ابو الحسن
كتب السيّد الدّاماد إلى اعتماد الدّولة أبى الحسن [حاتم بيك اردوبادى] :
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قيّوم مهيمن حفيظ
، على شأنه وتعالى سلطانه ، به عنايت جامعه بالغه ورحمت واسعه سابغه ، وجود فائض
الرّشح والجود نوّاب معلّى القاب ، وزارت واقبال پناه عالى جاه ، عضادة الملك
والملّة ، عصام الدّين والدّولة ، اعتضاد الحوزة الإيمانيّة را حارس وحافظ ،
وانتظام شئون نشأتين واستتمام سعادات دارين حضرتش را بر اتمّ وجوه وابلغ اسباب
عاضد ومتعاهد باد.
به مقتضاى مؤدّاى
: «إذا أحبّ الله عبدا زرع حبّه في قلوب النّاس» ، انجذاب قلوب علماء ومؤمنين
ولباب خلّص اتقياء صالحين نسبت به جناب مكرمت آداب ، خلايق مآب ، بر قرب درگاه
إلهى دليلى لايح ، وبر استيجاب واستحقاق دوام الاتّصال فيوض نامتناهى آيتى است
واضح.
التفات نامه نامى
، كه به مفاوضه آن مخلص را يادآورى نموده بودند ، مشاعر ادراكيّه را به روايع
عباراتش اهتزاز روحانى ، وقواى عقلانيّه را به بدائع استعاراتش التذاذ روحانى حاصل
شده ، إن شاء الله العزيز در مظانّ اجابت ومآنّ استجابت از ادعيه مستجابه ودعوات
مجابه منسى نخواهد بود.
طائفه اى از اقوال
وفتاواى داعى را دقايق آگاه معارف انتباه ، مولانا شمسا زاده الله تيسيرا وتوفيقا
، شنيده وبعضى از كتاب «شارع النجاة في أبواب العبادات» را كه در اين وقت مصنّف
شده تحصيل نموده است.
عامّه مكلّفين را
عمل به آن واجب وصحّت عبادات به آن منوط است. مناسك تعبّد وتهجّد ووظائف سلوك مسلك
احسان واعانت اهل ايمان ، كه شيمه كريمه وملكه جبليّه آن حضرت است ، جادّه طريق
فوز ومفتاح باب نجاح كه منحصر در آن است ، از سرّ : «من ساوى يوماه فهو مغبون»
ذهول ، واز اهوال معنى : «الوقوف بين يدي الله للحساب» غفول مجوّز ومعقول نيست.
زياده اطناب
واسهاب نمى رود ، بسط الله ظلّكم أبدا. ثواقب كواكب جاه وجلال از مطالع افق احوال
فرخنده مآل طالع ولامع باد.
اگر چنانچه مولانا
شمسا للفضائل والمعارف را به توجّه عالى رخصت معاودت اين صوب عن كثب حاصل شود ،
شواهق مطالب عاليه ومتطالبات ضروريّه را در دام اقتناص كشيده ، نتيجه آن به ايّام
مكارم آن غوث الأنام عائد خواهد بود. والسّلام. (كتابخانه مركزى دانشگاه تهران ،
بياض ، ش ٤٦٠٢ ، كتابخانه مسجد گوهرشاد ، مشهد ، به همراه مزيل النكبات ، ش ٤٤٢ ،
أربعة أيّام ، ص ...).
(٩)
نامه ميرداماد به
حكيم شفائى
رقعه ميرداماد كه
به حكيم شفائى نوشته بود :
(بسم الله الرحمن الرحيم)
نفايس دعواتى چون
انفاس مسيح از دم روح القدس مزاج گرفته ، ولطائف تحيّاتى چون حيات خضر از زلال
بقاء كيفيّت پذيرفته ، به رسم هديّه مبعوث خدمت آن مرضيّة السّجيّة مى گرداند.
آن خضر همايون قدم
كه چشمه سار آب زندگى در ظلمات قلمرو مدادش پنهان است ، وآن مسيح مبارك دم كه روان
بخش عيسى از لب معجز بيانش عيان.
دقيقه شناسى كه به
دستيارى سبّابه حذاقت حركت منشارى نبض بقم احساس تواند نمود.
(سبّابه بقراط قضا يك حركت يافت
|
|
شريان حسود تو
وشريان بقم را
|
«انورى»)
وبه كنجكاوى نيشتر
دقّت مور وپشه را قيفال وباسليق تواند گشود ، وبه تعيّن تسخين طلاى خورشيد راى
انوار صعوبت رطوبت از چشم قمر بارد الطبع بسوزاند ، وبه تدبير به طباشير صبح
انديشه حكمت پيشه ، مرارت حرارت از طبع خورشيد محرورى مزاج بگرداند.
ملال هزال از خاطر
هلال به تحريك سر انگشت خيال بربايد ، در اندوه رنج باريك
از نهاد مكر بتان
موى ميان به بستن نطاق اشفاق بگشايد ، از رشك درياى دلش محيط به نوعى در جوش كه
حركت موج نبضش ماهيان را در گرداب اضطراب انداخته ، واز غيرت سحاب طبعش سحاب به
نحوى در خروش كه خفقان وموى برقش را تابش برق با رعد كر ساخته.
نبض آزمائى
جالينوس خروش در سوء المزاج ايّام ، ولخلخه سائى بقراط انديشه اش در خبط الدّماغ
سرسام ، رازدان رموز حكمت يونانيان ، معرفت اندوز رسوم معالجه ايمانيان.
شيرازه قانون شفاء
، ديباچه ديوان وفاء ، قدوه حكماء العصر ، قبله عرفاء العهد ، وحيد الزمانى ، عظيم
الشانى ، حكيم الملكى ، لا زال مقرونا بالنّفائس الرّوحانيّة والأخلاق المسيحيّة ،
پيوسته ترقّى وترفّع مدار كمال وتزايد وتضاعف معارج مجد وجلال از درگاه واهب متعال
مسألت مى رود. مصراع : چون مسيحا باد بر چرخ اجابت جايگر.
چون [غرض] عرض رنجورى
دورى بود به زوائد اطناب ننمود. ترقّب از مكارم اخلاق آن يگانه آفاق اين كه نسخه
بند عطّار خانه دار الشّفاء التفات را مقرّر فرمايند كه گاهى قدرى دواء المسك
ريخته قلم صحّت رقم در كاغذ پيچيده ، به جهت تقويت مخلصان مهجور ومهجوران رنجور
ارسال فرموده باشند.
اى حدس تو برده
رنج را از موران
|
|
برچيده شد از تو
بستر رنجوران
|
شهد سخنت شربت
نزديكان است
|
|
مكتوب تو نسخه
شفاى دوران
|
يك ترش روئى
براى دفع صد مهمان بس است
|
|
چين ابرو چوب
دربان است صاحب خانه را
|
(كتابخانه مجلس شوراى اسلامى ، مجموعه
خطى ، ش ٣٥٣٧. ص ١٣٠ ـ ١٣٢)
(١٠)
نامه ميرداماد به
ملّا عبد الله شوشترى
بسم الله الرحمن الرحيم
عزيز من ، جواب
است اين نه جنگ است
|
|
كلوخ انداز را
پاداش سنگ است
|
رحم الله امرأ عرف
قدره ولم يتعدّ طوره. نهايت مرتبه بى حيائى است كه نفوس معطّله وهويّات هيولانيّه
در برابر عقول مقدّسه وجواهر قادسه به لاف وگزاف دعوى بى معنى برخيزند.
اين قدر شعور بايد
داشت كه سخن من فهميدن هنر است ، نه با من جدال كردن وبحث نام نهادن ؛ چه معيّن
است كه ادراك مراتب عاليه وبلوغ به مطالب دقيقه كار هر قاصر المدركى وپيشه هر قليل
البضاعتى نيست ، فلا محاله ، مجادله با من در مقامات علميّه از بابت قصور طبيعت
خواهد بود ، نه از بابت دقّت طبع. مشتى خفّاش همّت كه احساس محسوسات را عرش
المعرفه دانش پندارند واقصى الكمال هنر شمرند با زمره ملكوتيّين كه مسير آفتاب
تعلّقشان بر مدارات انوار عالم قدسى باشد لاف تكافو زنند ودعوى مخاصمت كنند روا
نبود ودر خور نيفتد. وليكن مشاكسه وهم با عقل ومعارضه باطل با حق وكشاكش ظلمت با
نور منكرى است نه حادث وبدعتى است نه امروزى. وإلى الله المشتكى ، والسّلام على من
اتّبع الهدى.
وإذا أتتك
مذمّتى من ناقص
|
|
فهى الشّهادة لى
بأنّى كامل
|
خاقانى آن كسانى
كه طريق تو مى روند
|
|
زاغند وزاغ را
روش كبك آرزوست
|
گيرم كه مارچوبه
كند تن به شكل مار
|
|
كو زهر بهر دشمن
وكو مهره بهر دوست
|
(١١)
نامه ملّا عبد الله
شوشترى به ميرداماد
قال : وكتب المولى
عبد الله هذا في جوابه : «جانا ، سخن از زبان من مى گويى. رحم الله امرأ عرف قدره.
بدا به حال كسى كه من أرسل إليه را از نفوس معطّله بشمارد ودعوى اسلام كند.
(محمّد باقر
خوانسارى ، روضات الجنّات ، ج ٤ ، ص ٢٤٢ ، كتابخانه آستان قدس ، مجموعه ، ش ٥٤٢).
تذكره : در عالم
آراى عباسى ، ج ٢ ، ص ٨٥٩ ، اين عبارات آمده است :
ديگرى از متوفاها
افضل الفقهاء والمجتهدين في زمانه ، مولانا عبد الله شوشترى
است ، كه چند سال
بود از نجف اشرف به ديار عجم آمده در دار السلطنة اقامت داشت وهمواره انوار توجّه
والتفات شاهانه بر وجنات احوالش تافته معزّز وگرامى بود. در روز جمعه ، بيست
وچهارم شهر محرّم الحرام ، اندك عارضه اى بر او طارى گشته ، در روز شنبه مير محمّد
باقر داماد وشيخ لطف الله ميسى عاملى ، كه مدّتى بود ، به جهت مباحثات علمى ومسائل
اجتهادى ، في ما بين غبار نقارى ارتفاع يافته بود ، به عيادت او رفتند. جناب
مولانا با اين هر دو بزرگوار معانقه كرد ودر كمال شكفتگى صحبت داشت.
شب يك شنبه ، بيست
وششم ، قريب به صبح ، بعد از اقامت صلاة اللّيل ونوافل ، بيرون آمده كه ملاحظه وقت
نمايد ، در بازگشتن از پاى فتاده ، بى آن كه مهلت سخن گفتن يابد دعوت حق را اجابت
نموده ، مرغ روحش از قفس بدن پرواز نمود.
جناب مولانا در
كمالات نفسانى وتقوى وپرهيزگارى وترك مستلذّات دنيا درجه عالى داشت ، از مأكول
ومشروب به سدّ رمق قناعت نموده ، اكثر ايّام صائم بود وبه شورباى بى گوشت افطار مى
كرد.
وقريب به سى سال
در نجف اشرف وكربلاى معلّى ساكن گشت. در خدمت مجتهد مغمور مولانا احمد اردبيلى بسر
برده ، از خدمتش اكتساب فضائل واستفاده مسائل مى نمود. وگويند كه از مولاناى مذكور
اجازت نماز جمعه وجماعت وتلقين مسائل اجتهادى يافته بود.
در روز وفاتش آواز
ناله ونفير صغير وكبير خلائق به اوج آسمان مى رسيد. اشراف واعيان سعى مى نمودند كه
به تيمّن وتبرّك دستى به زير جنازه مغفرت اندازه اش رسانند ، از غلواى خلائق ميسّر
نمى شد. در مسجد جامع عتيق صفاهان به آب چاه غسل داده ، در همان جا مير محمّد باقر
داماد وسائر فضلاء وعلماء [بر او] نماز كردند.
چند روز در مزار
فائض الأنوار امام زاده واجب التعظيم والتّبجيل ، امام زاده اسماعيل ، عليه و [على]
آبائه التّحيّة بود ، از آنجا نقل كربلاى معلّى شد. ارباب استعداد تاريخهاى مرغوبه
در سلك نظم كشيدند. مير صحبتى تفرشى : «آه آه از مقتداى شيعيان»
يافته. ديگرى گفت
: «حيف از مقتداى ايران حيف». شيخ محمود نام عرب جزائرى : «مات مجتهد الزّمن»
يافته بود.
(١٢)
نامه شيخ بهائى به
ميرداماد
(بسم الله الرحمن الرحيم)
طوبى لك ، أيّها
المكتوب ، حيث تتشرّف بملامسة أنامل سيّدنا ومخدومنا ، بل مخدوم العالمين ، سمّى
خامس أجداده الأئمّة الطاهرين ، سلام الله عليهم أجمعين. سلام عليكم ، لا حاجة إلى
ما استقرّ عليه العرف العامّ واستمرّ به الرّسم بين الأنام ، من توشيح الخطاب
وترشيح مبتدأ الكتاب ، بذكر المزايا والألقاب ونشر معالى المآثر في كلّ باب ، إذ
هو في ما نحن فيه كفت شهرته مئونة التصدّى لتحريره ، وأغنى ارتكازه في الخواطر عن
التّعرّض لشرحه وتقريره.
ولو أنّا أطلقنا
عنان القلم في هذا المضمار وأجرينا فلك البيان في ذا البحر الزّخار ، لكنّا بمنزلة
من يصف الشّمس بالضّياء أو ينعت حاتم بالسّخاء ، ونادينا المقام بأفصح لسان : إنّ
العيان يغنى عن البيان. وأمّا شدّة العطش إلى رشف راح الوصال وحدّة الحرق
والتّلهّف إلى شرف الاتّصال فأعظم من أن يحويه نطاق الكلام أو تنبئ عنه ألسنة
الأقلام. فلذلك طوينا كشحا عن مدّ أطناب الإطناب في ذلك ، فضربنا صفحا عن إنارة
شهاب الإسهاب في تلك المسالك واقتصرنا على إهداء طرائف صحائف تسليمات تنهل عن رياض
الوداد هواطلها ، وشرائف تحيّات تجتاز في مسالك الاتّحاد قوافلها ، وخوالص خصائص
دعوات تتهادى في جادّة الإخلاص رواحلها ، وتصدح في حدائق المودّة والإخلاص
بلابلها.
وإنّ مجارى أحوال
المحبّ القديم ، الّذي هو خالص بالوداد ومقيم على ما يوجب مزيد الحمد ويستدرّ
أخلاق الشّكر ؛ والأوقات بتوفيق الله ، سبحانه ، مصروفة في تدارك ما فات،
والاستعداد لما هو عن قريب آت.
والمأمول من
الألطاف القدسيّة الإجراء على صفحة الخاطر الأنور والضمير الأطهر بما يسنح من
صوالح الدّعوات المعطّرة مشامّ الإجابات وفتح أبواب المكاتبات و
المراسلات الجالبة
عن القلب صداء الآلام والكربات الجالبة إلى النفس أعظم الأفراح والمسرّات.
والسّلام عليكم
وعلى العاكفين ببابكم واللّائذين بأعتابكم ، ورحمة الله وبركاته ، مخلصكم ، حقّا
وصدقا ، بهاء الدين.
(دانشگاه تهران ،
أمل الآمل ، ش ١٨٩ ، به ضميمه آن. كتابخانه مجلس شوراى اسلامى ، مجموعه ، ش ٤٨٩٠ ،
مورّخ ١٠٧٢).
در نسخه چنين آمده
است : هذا ممّا نقله الأستاذ الأعظم النّحرير ، الآقا أبو القاسم المدرّس
الشيرازيّ في حاشية مجموعته المسمّاة ب «ديوان العروس». رأيتها بخطّه. وكتب في
آخره ما صورته هكذا : هو ، ممّا كتبه الشيخ بهاء الدين إلى المعلّم الثالث السيّد
محمّد باقر الحسينيّ الداماد ... ، انتهت صورة خطّه ، طاب ثراه).
(١٣)
نامه ميرداماد به شيخ
بهائى
ومن إنشائه البديع
الأسلوب ، الآخذ بمجامع القلوب ما كتبه إلى الشيخ بهاء الدين مراجعا ، رحمهماالله تعالى.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
لقد هبّت ريح الأنس
من سمت القدس ، فأتتنى بصحيفة منيفة ، كأنّها بفيوضها بروق العقل بوموضها ،
وكأنّها بمطاويها أطباق الأفلاك بدواريها ، وكأنّ أرقامها بأحكامها أطباق الملك
والملكوت بنظامها ، وكأنّ ألفاظها برطوباتها أنهار العلوم بعذوباتها وكأنّ معانيها
بأفواجها بحار الحقائق بأمواجها.
وأيم الله ، إنّ
طباعها من تنعيم ، وإنّ مزاجها من تسنيم ، وإنّ نسيمها لمن جنان الومضوت ، وإنّ
رحيقها لمن دنان الملكوت. فاستقبلتها القوى الروحيّة وبرزت إليها القوّة العقليّة
، ومدّت إليها قطنة صوامع السرّ أعناقها من كوى الحواسّ وروازن المدارك وشبابيك
المشاعر ، وكادت حمامة النّفس تطير من وكرها شغفا واهتزازا ، وتصير إلى عالمها
شوقا وهزازا. ولعمرى قد تروّيت ، ولكنّي لفرط ظمئي ما ارتويت.
شربت الحبّ كأسا
بعد كأس
|
|
فقد نفد الشّراب
ولا رويت
|
فلا زالت مراحمكم
الجليّة مدركة للطّالبين بأضواء الألطاف العليّة ، عوالم الوجود كمرآة مجلوة ،
ولغوامض أفانين العلوم ومعضلاتها كمصفاة مصحوّة.
وإنّكم لأنتم
بمزيد فضلكم المؤمّلون لإمرار المخلص على حواشى الضمير المقدّس المستنير عند صالح
الدعوات السانحات في مئنّة الاستجابة ومظنّة الإجابة. بسط الله ظلالكم وخلّد مجدكم
وجلالكم. والسلام على جنابكم الأرفع الأبهى ، وعلى من يلوذ ببابكم الألمع الاسمي ،
ويعكف بفنائكم الأوسع الأسنى ، ورحمة الله وبركاته أبدا وسرمدا ، مخلصكم الملتاع
محمّد باقر الداماد الحسينى.
(دانشگاه تهران ،
أمل الآمل ، ش ١٨٩ ، به ضميمه آن ؛ مجلس شوراى اسلامى ، مجموعه ، ش ٤٩٠٠ ؛ عكس آن
در دانشگاه تهران ، ش ٥٥٣٩ ، وسلافة العصر از سيّد عليخان مدنى ، ص ٤٧٨).
(١٤)
نامه شاه عباس به
شريف مكه ، به إنشاء ميرداماد
بسم الله الرحمن
الرحيم وبه نستمدّ وإليه زلفى. أنشأها ، أدام الله ظلال مجده وهداه ، حسب الحكم
الأشرف المطاع ، نفذه الله في الأقطاع والأرباع إلى شريف مكّة
بسم الله الرحمن الرحيم والاعتصام بالحكيم العليم
طلاع تهامة الحمد
زواهر طول الله الّذي جعل البيت مثابة للنّاس يرتاده الرّائدون من نافر وشارد ،
وسطاع هامّة المجد جواهر فضل الإله الّذي أحلّ الحطيم من الأرض محلّ الحدقة من
الرأس ، يحتشد عليه الواردون من قاصد ومارد ، جلّ جنابه عن أن يكون شرعة لوارد أو
يطّلع عليه إلّا واحد بعد واحد.
خليلىّ قطّاع
الفيافى إلى الحمى
|
|
كثير وإنّ
الواصلين قليل
|
تعالى العشق عن
همم الرّجال
|
|
وعن وصف
التّفرّق والوصال
|
إنّ أوّل بيت وضع للنّفوس
المنهمكة في أودية غسق الطبيعة مرتدية بغواشى عالم الخلق إذا ما نضّت جلابيب ظلمات
الهيولى مولّية وجوهها شطر مسجد حرام القدس للّذي ببكّة عالم الأمر من صديع نور
العقل مباركا وهدى للعالمين ، وأجمل سمك رفع للأنفس المستمكة في طيبة شفق الشريعة
متحدية بغواشى عوالم الفلق و
قد رفضت أجاشيب
نقمات هذه المدرة الشّوهاء عاطفة قلوبها نحو وجهة مقام الأنس هو ما بمكّة حرم
القلب لرفيع كعبة اليقين مطهّرة للطّائفين والعاكفين.
تحرم القوّة
النّظريّة بميقات العقل الهيولانيّة ، فتسعى بصفا العقل بالملكة ومروة العقل
بالفعل اللّتين هما من شعائر الله لقرع بابه وتطوف بالبيت العتيق لحريم النّظر ،
فتنفض عنها هيئات بيداء الوهم في مستجار العقل المستفاد للاتصال بالمعتكفين حول
جنابه ، وتفيض القوّة العلميّة من عرفات الطّبائع الجسمانيّة ، فتذكر الله عند
المشعر الحرام من ملكة خلع البدن وهي مزدلفة النّفس فيما أراها ربّها من مناسكها
العقليّة الرّوعيّة ، وتنحر هدى القوى الجرمانيّة ، فترمى جمار لذّاتها المزاجيّة
لتعرف النفس عن غير موجدها بدرجة رفض الجسد ، وهي خيف منى الأنفس فيما اهتدت إليه
من مسالكها النّوريّة السطوعيّة.
ثمّ سطيع الصّلوات
السّاطعة على نهار أفق الرّسالة ووميض التّحيّات اللّامعة لمدار فلك الجلالة ،
أبهر الدّلائل على منهل المربوبيّة وأفضل الوسائل إلى صقع الرّبوبيّة ، فضل بطحاء
الجود وشرف يثرب الوجود ، محمّد وآله المعصومين المكرمين ، شموس أفلاك العرفان
ونفوس أجساد الإيقان ، ولا سيّما مولود بطن كعبة العصمة وباب مدينة العلم والحكمة
، السّيّد الوصيّ ، نفس النبيّ ، باب أبواب المطالب ، علي بن أبي طالب ، ما سارت
الثواقب على مناطق الأدوار ودارت الكواكب على تعاقب اللّيل والنّهار.
وبعد ، فإنّ أضوع
مسك تحيّة تفوح من فيحاء رياض القلوب فتتقوت باستنثار روائحها الملأ المستوطنين
بمجامع روحاء التّقديس ، وألمع بروق أثنية تلوح في لمعاء أفق الرّوع فتغبط أضواء
لوامعها أشباح أقمار النّفوس وشموس العقول ، حين إذ هي من سماء مصاقع السّعادة على
سمت رأس صنعاء التثليث والتسديس يخصّ بهما من مفاح هذه السّلطنة المخلّديّة وملمع
هذه الدّولة الأبديّة المؤبّديّة سنيّ حضرة من هو من أشرف أرومة الشّعوب مولدا ،
وأفضل جراثيم القبائل محتدا ، وأطول الخلق نجادا ، وأرسخ النّاس في المكرمات
أوتادا ، الّذي هو لعاتق الجلالة كالسّيف المهنّد ، ولكنان الابّهة كالسّهم
المسدّد.
وهو ذو الشّرف
البديع والحسب المنيع ، الحائز للسّعادتين النّسبيّة والحسبيّة ،
الجامع بين
السّيادتين الإرثيّة والمكتسبيّة ، عامر عمارة مسجد العدل في الحرم ، ساقى سقاية
زمزم الفضل والكرم ، أعنى من ساد السّلاطين بحماية حوزتي الحرمين وفاق الخافقين
نجدى الكرمين.
من النّجوم
العلى حرّاس قبّته
|
|
من السّماء له
من جملة الخدم
|
وهو الحريّ بأن
ينشد فيه :
وإنّ قميصا خيط
من نسج تسعة
|
|
وعشرين حرفا عن
معاليه قاصر
|
أزهر الشّعبة
السّنيّة من أغصان الدّوحة الحسنيّة ، نطاقا لتدوير أفلاك العزّ والجلال ومساقا
لتفاسير آيات الشّرف والكمال ، الأمير الكبير ، مستخدم الأحرار والأشراف ، المشتهر
بلقبه الشّريف في الأصقاع والأطراف ، لا زال أطناب وفود السّموّ مربوطة بأوتاد
دوامه وأعناق جنود العلوّ خاضعة لأطواق أحكامه ، ويرصّع بهيّ جنابه بأبهى درر
التّسليمات المتلألئة من بطون أصداف الودّ والموالاة ، مستوثقا بانعطاف خطير خاطره
واعتلاق منير ضميره وانصراف صدق إرادته واستباق صفاء درايته بالنّسبة إلى ذروة هذه
الخلافة الباهرة وعروة هذه الدّولة الزّاهرة ، مستشرقا بأشعّة أنوار الوداد من
درارى سماء تلك البواد ، مستيقنا أنّ ما سيقت إليه زمر نوّاب هذا الباب من توفيق
الجهاد المفضّل في قوله ، عزّ من قائل : (أَجَعَلْتُمْ
سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صلوات منه على من نزّله إليه ، وتسليمات على من أنزل فيه ،
وتفريق الجيوش من أيوك الملوك وأبطال الرّجال ، قوّاد الغرام ووقّاد الضّرام
وأبناء الشّهامة وآباء السّهام ، وعرضهم عن آخرهم على السّيف ، وجمع كوكبة بأسرهم
في حبالة الأسر واستعادة المفاوز واسترداد البلاد واستثبات : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ، واستزادة أرض لم نطأها من قبل في الآباء والأولاد ،
ونصرة الحقّ وإدالته وقمع الباطل وإزالته.
إنّما أيّدنا الله
بها في جنود لم نرها من بركات خاتم النّبوّة ، سيّد الأنبياء والمرسلين وفاتح
الوصاية أفضل المهاجرين والمجاهدين وأولادهما الطيّبين الطّاهرين ، عليهم صلوات
المصلّين ، بلوامح همم أولئك الأنجاب وصوالح أدعية من بتلك الأعتاب.
فنحن إذ قد وطئنا
الأرض المقدّسة من مشهد البضعة النبويّة والطّور الأيمن من معقد
الرّوضة الرّضويّة
، على من حلّ فيها ، معادلا زيارته لسبعين ألف حجّة تطوعيّة ، أو فى الصلاة وأزكى
التّحيّة ، منشدة أبصارنا :
أبرق بدا من
جانب الغور لامع
|
|
أم ارتفعت عن
وجه ليلى البراقع
|
مستدكرة مهجنا :
يا صاحبي ، هذا
العقيق فقف به
|
|
متوالها إن كنت
لست بواله
|
مترنّمة أفئدتنا :
أفق الوصل بدا
إذ ومض البرق وقد
|
|
رفض القلب سوى
منيت تذلك القبب
|
ونوّرنا أحداق
الأرواح بروامس تلك التّرعة ، قائلا روع العقل بلسان الشّوق استعظاما للمطلب :
أنا في مشهد
مولاي بطوس أنا ذا
|
|
ساكب الدّمع
بعين ورثت عن سحب
|
لم ننس واجب ذكركم
ولم نهمل الدّعاء لثمركم وعكركم وأنتم المؤمّلون بتذكرنا في صوالح الدّعوات عند
مظانّ الإجابات.
ثمّ إنّ مقرّب
الحضرة العليّة وقطب رحى الخدمة المتعالية مهتر سلمان لمن خواصّ عبيد هذا الحريم
القويم البنيان وإنّ نياطة العواطف الخاقانيّة بالنّظر إليه من مدارج الأحصاف في
قصواها وكلاءة الأنظار السلطانيّة برفاغة حاله من مراتب الكمال في علياها.
فبعد أن يهتدى
لطيّ المسالك وإتيان المشاعر وقضاء المناسك لا يبعد أن تسعفوه في إنجاح ماله من
المآرب المحوجة إلى الأنصار والأعوان ، كى يسرع بالرّجوع إلى الانخراط في سلك
الحافّين حول هذه العتبة الرفيعة المنيعة الأركان.
وحيث إنّ عنان
ميلان الضّمير الأقدس منعطف إلى أن تتبرّك الطّوائل والخيول الخاقانيّة بحصان وفرس
ممّا رتعت في أبّ تلك الأراضي الشّريفة المقدّسة المراعي من العربيّة العتيقة
النّجيبة السّنخ الشّديدة العدو ، فلو وجّهتموه بأفراس جياد معروفة بجودة النّسب
في تلك القفار والبلاد لكان من المودّة في مقتضاها ومن المحبّة على مرتقاها.
وإنّى امرئ
للخيل من عندي مزيّة
|
|
على فارس
البرذون أو فارس البغل
|
وإذا كان الغرض
توثيق مواثيق الصّداقة بمفاوضة خلوص المصادقة فلنختم الإطناب
على الدّعاء حذرا
من الإسهاب لا زال سحاب ، سماء مجدكم ممطرا غيث الدّوام ، ما أصبحت أراضي غرائز
أولى الألباب ذات ربيع ناضر عقلانيّ تتولّع به الأرواح المتحابّة ، لا الرّياح
الهابّة ، ونور زاهر روحانيّ تزهر به الألسن المتساومة ، لا الأغصن المتراكمة ،
ولا برح أسطرلاب شمس قدركم مسرطنا لارتفاع كواكب الأحكام ما أمست ضياضئ صدور أصحاب
المدارك ذات شهاب لامع قدسيّ تستضيء به النّفوس المستشرقة فوق النّجوم الشّارقة
ونجم لامع عقليّ تستنير به العقول المشرقة فضلا عن البروق البارقة.
والسّلام عليكم
أبدا وعلى من يلوذ بحيّكم سرمدا بقريحته الخامدة. نظمه ولفّقه وبيمينه الفانية
حرّره ونمّقه أصدق الدّاعين للدّولة العبّاسيّة الصّفويّة الموسويّة الحسينيّة ،
خلّدها الله تعالى بالتّظليل على البريّة محمّد بن محمّد ، المدعوّ بباقر الدّاماد
الحسينيّ ، ختم الله له بالحسنى.
إلى هنا صورة خطّه
الشّريف ، أبّده الله تعالى على مسند الإفادة والإفاضة والهداية والإرشاد
والاجتهاد إلى يوم الدّين ، كتبه العبد الأقلّ أبو الفتح الجيلانيّ. (كتابخانه
مركزى دانشگاه تهران ، مجموعه ، ش ١٨٣٧).
(١٥)
مكتوب ميرداماد براى
رفع محاصره بغداد
صورت استفتاء شاه
عباس از ثالث المعلّمين مير محمد باقر داماد قدس سرّه.
چه مى فرمايند
بندگان نوّاب مستطاب معلّى القاب ، سيّد أعاظم المحققين وسند أفاخم المدققين ،
أستاد أهل الحقّ واليقين وأسناد الخلائق أجمعين فحل الفحول ، أمّ العقول ، حلّال
المشكلات بفكره الصّائب كشّاف المعضلات برأيه الثاقب ، سلطان العلماء الراسخين ،
برهان الحكماء المتألهين ، وارث علوم الأنبياء والمرسلين ، محيى مراسم آبائه
الطّاهرين ، شمس المشرقين ، بدر الخافقين ثالث المعلمين ، بل المعلّم الأوّل لو
كشف الغطاء عن البين وجرّد العقول عن المين ، آية الله فى العالمين ، عصام الفقهاء
المتمهّدين ، أعلم المتقدّمين والمتأخّرين ، خاتم المجتهدين ، سمي خامس أجداده
المعصومين ، محمد ، باقر علوم الأوّلين والآخرين ،
أبّده الله تعالى
على مسند الإرشاد والاجتهاد إلى يوم الدين ، در اين مسأله شرعيّه كه عسكر روميّه
كه قلعه دار السلام بغداد را محاصره كرده اند ، شرعا با ايشان مقاتله ومحاربه وجنگ
وجدال واجب است وهر مؤمن كه ايشان را قربة إلى الله بكشد غازى وجهادكننده در راه
خداست ، وهر مؤمن كه در دست ايشان در اين محاربه وجنگ كشته شود شهيد است وفرار
وگريختن از جنگ ايشان حكمش گريختن از جنگ وجهادى است كه در خدمت امام عليهالسلام باشد يا نه؟ بيّنوا ، خلّد الله ظلالكم على مفارق العالمين.
(جواب ميرداماد از
استفتاء) بسم الله الرحمن الرحيم آنچه مرقوم شده كه از من مأخوذ است مطابق واقع
ومقتضاى دين مبين وحكم شرع متين در مسأله مسئول عنها همين است ، مجاهده با عسكر
روم كه محاصر قلعه مدينه الإسلام بغدادند جهاد شرعى است ودر حكم آن است كه در معسكر
امام واجب الإطاعة واقع بوده باشد ، وتقاعد از اين جهاد به منزله فرار وگريختن از
معركه قتال اهل بغى است. هر مؤمن كه در اين واقعه خالصا لوجه الله الكريم واز براى
ابتغاء رضاى إلهى مقاتله ومحاربه نمايد غازى فى سبيل الله است ، واگر مقتول شود به
زمره شهداء ملحق ورتبه درجه شهادت مستحق خواهد بود. والله ، سبحانه ، يحقّ الحقّ
ويهدى السّبيل محلّ مهر مرحوم ثالث المعلّمين مير محمّد باقر داماد ، قدّس الله
سرّه.
(صورت استفتاء شاه
عباس صفوى از ميرداماد در خصوص محاصره بغداد در ظهر برگ اوّل نسخه خطى ، شماره
١٢٩٨ ، در كتابخانه مسجد گوهر شاد ، مشهد ، آمده است ونقل شد).
(١٦)
نامه شاه عبّاس به
مفتى روم در باره خان احمد گيلانى
سواد كتابتى كه از
جانب نواب كامياب همايون اعلى ، عبّاس پادشاه ، به جناب مفتى خواندگار روم نوشته
حضرت افادت وافاضت
پناه ، عوارف ومعارف آگاه ، جامع المعقول والمنقول ، حاوى الفروع والأصول ، وارث
علوم الأنبياء والمرسلين ، ملاذ الإسلام والمسلمين واكمل العلماء المتقدّمين
والمتأخّرين ، أفضل فضلاء الأوّلين والآخرين ، سيّد المحققين ،
مرجع المدقّقين ،
مقتدى الزّمانىّ ، مفتى الدّورانىّ ، اديمت أيّام بركاته.
بعد هذا ، بر رأى
شرع آراء پوشيده ومخفى نماند كه حكّام گيلان ـ از ايّامى كه سلطنت ايران به توفيق
ملك منّان بدين دودمان رفيع مكان ميسّر گشته ـ نصب كرده وخراج ده آباء واجداد اين
جانب ودر سلك أمراء وتابعان وملازمان ما منتظم بوده اند.
ودر اين ايّام
بعضى امور ، كه خلاف اطاعت وانقياد ومخالف عدل وداد بود ، از خان احمد حاكم گيلان
به ظهور رسيد كه منع وتنبيه وتغيير وتبديل او بر ذمّت همّت شاهانه لازم گرديد.
بدين جهت مشار
إليه از روى خوف وهراس به ممالك محروسه پادشاهى متحصّن شده وعرض نموده كه پناه
بدين درگاه كه كعبه اصحاب حاجات است آورده ام ، والگاء گيلان به منسوبان آن درگاه
عزّت وجلال متعلّق است.
اركان دولت قاهره
واعيان حضرت باهره در مقام حمايت او در آمده ؛ در نامه نامى ، كه از جانب اعلى
حضرت شاهنشاهى ارسال داشته بودند ، اشارت فرموده اند كه الگاء گيلان را به دستور
بدو بازگذاريم.
در عهد نامه
همايون ، كه در باب صلح وصلاح نوشته اند ، مقرّر شده كه بعد از انعقاد مصالحه ،
هركس از تابعان وملازمان طرفين فرار نموده به مملكت جانبين متحصّن شوند ، بر قول
ايشان اعتبار ننموده بازفرستيم.
خان احمد كه تابع
وملازم اين جانب است ، به حسب ضرورت بدان آستان خلافت مكان ملتجى شده ، امينان
دولت بى زوال پادشاهى حمايت وصيانت او بر ذمّت همّت لازم دانسته واين جانب را از
تنبيه وتغيير الگاى او منع مى فرمايند.
والتجاى مخلص
وفرستادن فرزند اعزّ ارجمند خود را بدان درگاه ، كه در هيچ عصر وزمان [مرسوم]
نبوده كه از پادشاه وپادشاه زادگان ايران بدان آستان عاليشان آمده در سلك ملازمان
وچاكران منسلك بوده باشند ، وچندين هزار شيعه ومسلمان را تابع پادشاه اسلام كرده
باشم ، منظور نظر عدالت اثر نفرمايند.
في الواقع اين
معنى اگر در شرع شريف وآئين سلاطين ما تقدّم وحال جائز است كه به جهت خاطر خان
احمد گيلانى خلاف شرط وعهد نموده ، چندين هزار كس را ،
كه به همه جهت
تابع ايشان شده باشند ، مأيوس گردانيده ، سعى وخدمت اين جانب را ضائع سازند ، در
يوم يقوم الحساب از عهده جواب چون بيرون مى توانند آمد.
اين جانب نيز بر
عنايت إلهى دل قوى داشته رضا به قضا مى دهد وبر عهد وشرط راسخ دم وثابت قدم است ،
وهرگز امرى كه خلاف معاهده بوده باشد در مخيّله خود راه نداده ونخواهد داد.
وبر آن افادت
وافاضت دستگاه كه مفتى وو الى شرع شريفند لازم است كه در اصلاح ورفاه حال مسلمانان
مساعى جميله به ظهور رسانند وچنان فرمايند كه به سخن ارباب غرض (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) در اركان مصالحه ومعاهده خلل نشود ونوعى نگردد كه به واسطه
فساد مفسدان چندين هزار كس كه به همه جهت تابع خاقان فلك قدر كيوان اقتدار گشته
اند بالضرورة از اين مقدمه نادم وپشيمان گشته ، در روز عقبى وبال ونكال آن بر گردن
ايشان بوده باشد ، ودر خدمت حضرت رسول ربّ العالمين مسندنشين طه ويس مشرّف به
تشريف (وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) شرمنده بوده باشيم. چون حقّانيت آن افادت پناه ظاهر است
زياده چه اطناب نمايد ، ايّام افادت وافاضت بر دوام باد.
(كتابخانه مجلس
شوراى اسلامى ، مجموعه ، ش ٣٤٥٥)
(١٧)
نامه شاه عبّاس به
سعد الدين معلّم خواندگار روم
صورت منشورى كه
بندگان نوّاب كامياب سپهر ركاب همايون اشرف اقدس اعلى به مولانا سعد الدين معلّم
خواندگار روم نوشته اند.
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرت افادت وافاضت
پناه ، فضائل وكمالات اكتناه ، حقايق ومعارف آگاه ، حاوى أنواع المعالم والإفادات
، حامى أصناف المكارم والسّعادات ، جامع المعقول والمنقول ، مستجمع فنون الفروع
والاصول ، أنيس الحضرة العليّة الخاقانيّة ، جليس الدولة البهيّة السّلطانيّة ،
المشهور بمحاسن الأخلاق والشّيم ، المذكور بمحامد الجلال والفضال بين الأمم،
الفائز من الله تعالى باللّطف الأبديّ و
الإحسان السّرمديّ
، ضاعف الله ميامن إفاداته وبركاته ، وأعلى في الدّارين درجاته.
سلام مرحمت انجام
ودعاى عطوفت فرجام ، مبلغ ومؤدّى داشته ، خاطر مهر مآثر وتوجّه ضمير منير خورشيد
مظاهر من جميع الوجوه مصرف حصول مطالب دارين وقرب وصول به مدارج منزلين آن افادت
پناه بوده ومى باشد.
بعد هذا ، منهاى
راى فضيلت انتما ومشهود ضمير منير علم آراء ، آنكه اين معنى مانند نور خورشيد
درخشان ومثل ضياء آفتاب تابان ظاهر ونمايان است كه غرض اصلى ومطلوب كلّى از وجود
فائض الجود علماى اعلام كه تارك مباركشان به افسر با فرّ : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ
الْعُلَماءُ) مزيّن ومعزّز وقامت قابليّتشان به خلعت واضح الاعزاز :
«العلماء ورثة الأنبياء» محلّى ومطرز بوده باشد ، وقرب ايشان به سلاطين فلك تمكين
، وتقرّبشان در خدمت خواقين عدالت آيين ، آن است كه پيوسته خسروان نصفت شعار ،
وپادشاهان جم اقتدار را به نشر اضواء شفقت واحسان وبسط بساط معدلت وامتنان ، نسبت
به كافّه عالميان وعامّه جهانيان ، كه بدائع ودايع صانع بيچون ومظهر آثار قدرت
خالق كن فيكون اند ، ترغيب وتحريص نمايند.
بر ضمير منير
همايون از اوضح واضحات است كه آن قدوه ارباب صلاح وسداد وزبده اصحاب علم ورشاد را
همگى همّت مصروف رفاه حال وفراغ بال رعيّت وآسايش عباد وآرامش سكنه امصار وبلاد
داشته ومى دارد.
ودر باب انجام صلح
وصلاح ، كه به يمن شفقت وعطوفت اعلى حضرت خاقان جمجاه اسلام پناه ، ظلّ الله ،
سلطان البرّين والبحرين ، خاقان المشرقين والمغربين ، امان الخافقين ، ثانى اسكندر
ذو القرنين ، خادم الحرمين الشريفين ، خلّد الله ملكه وظلّه أبدا ، سمت وقوع يافته
، نهايت اسعاد وكمال جدّ واجتهاد بعمل آورده ، به سبب اين مراحم جسيم وخطب عظيم
وحميم دعاى خير جهت نوّاب پادشاه اسلام پناه ، ظلّ إله حاصل نموده اند. رجاء واثق
است كه بيشتر از پيشتر در استحكام قواعد صلح وميثاق وعهد ووفاق خواهند كوشيد.
در اين وقت كه از
، خان احمد گيلان بيه پيش ، كه از منسوبان اين دولت ، وپرورده نعمت [اين] خاندان
است ، وملازم نصب كرده ما بود ، آثار خلاف وطغيان به ظهور
رسيده ، اكثر عجزه
ومساكين گيلان از بدعتهاى او به فغان واز دست تعدّى او به جان آمده بودند ، تنبيه
وتأديب او از لوازم امور سلطنت وجهانبانى ومتحتّمات مهامّ خلافت وكشورستانى بود.
لا جرم جمعى از عساكر را جهت دفع شرّ او مأمور ساخته ، به گيلان فرستاديم.
مومى إليه از بيم
جان خود در كشتى نشسته به شروان رفت. واجب بود كه حقيقت حال او ونسبتى كه با اين
سلسله دارد به عرض بندگان اعلى حضرت جمجاه گردون بارگاه ، ظلّ إله ، رسانيده [شود].
لهذا قبل از اين ، عمدة الأعاظم ، سيّدى بيگ ايشيك آقاسى ، جهت عرض اين مقدّمات به
سدّه سنيّه وعتبه عليّه پادشاه جهان پناه فرستاده بوديم. حالا نيز رفعت پناه ،
عمدة الاعيان ، عليخان بيگ ايشيك آقاسى ، را روانه آستان فلك آشيان ودرگاه آستان
نشان نمود.
از حسن راى صواب
نما مترصّد است كه چون در بدايت حال متوجّه [اتمام امر خير] مهمّ سعادت فرجام
مصالحه ومعاهده شده اند ، در نهايت كار هم در استحكام واشتداد اين امر ميمنت انجام
توجّه مبذول داشته ، نگذارد ، كه به سخن ارباب غرض وعناد واصحاب فتنه وفساد ، خلل
به اركان شديد الأركان صلحى كه به يمن صلاح واهتمام ايشان ومحض لطف وعنايت پادشاه
اسلام مؤكّد ومشيّد گرديده واقع شود. واگر احيانا كسى خواهد كه سخن مخلّى مذكور
سازد ، به نوعى ، كه از كمال دانش وفرط بينش آن صالح فضل وكمال زيبد وسزد ، سدّ
باب حكايات غرض آميز اهل شين فرمايند. تا رعاياى متوطّنه محالّ وبلاد طرفين وكافّه
خلائق وسكنه امصار ثغور جانبين ، از روى اطمينان خاطر وجمعيّت حواسّ باطن وظاهر ،
به دعاى دوام دولت وسلطنت ابدىّ الاتّصال ، ونظام شوكت وحشمت پادشاه والاجاه ثريّا
منزلت وبه ذكر خير آن افادت پناه قيام واقدام نمايند.
ودر اين وقت فرصت
، عليخان بيگ ، مومى إليه را به سعادت احراز بساط بوسى اعلى حضرت پادشاه گردون
بارگاه ، جمجاه سكندر سپاه ، رسانيده ، حقيقت حال را معروض گردانيده ، رخصت معاودت
مشار إليه حاصل خواهند كرد.
چون وثوق كلّى بر
حسن صلاح كيشى وحقّانيّت مصلحت انديشى ، وتأدّب آن
قدوه زمره علماء
متبحّرين وزبده سلسله فضلاء راشدين است ، زياده از اين اطناب ومبالغه مجوّز نمى
دانيم.
(١٨)
نامه سعد معلم سلطان
مراد به شاه عباس
اخلاص نامه مولانا
سعد الدين معلّم سلطان مراد به خدمت نواب گيتى ستانى. [شاه عباس صفوى].
بسم الله الرحمن الرحيم
اى به شاهى ملك
ايران را پناه
|
|
مظهر الطاف
درگاه آله
|
فارسان فارس را
فارس تويى
|
|
هم نهال جود را
فارس تويى
|
زينت افزاى سرير
سرورى
|
|
تاج پيراى شهامت
گسترى
|
وارث اورنگ
كيكاووس وجم
|
|
شاه عبّاس ابن
شاهان عجم
|
باش برخوردار
عمر وتاج وتخت
|
|
رهنمونت باد ميمونى
بخت
|
خواهم از درگاه
حيّ ذو الجلال
|
|
بگذرانى روزگارت
بى ملال
|
تحيّت وثنائى ، كه
بدان مقام والا ومحلّ اعلا شايسته وسزا باشد ، با دعايى كه استجابت نما وسعادت
افزا باشد اهدا نموده.
انهاى مخالصت نما
آنكه در اسعد آونه وأيمن ازمنه آن مطلع نور سرور ، ومنبع وفور حبور ، يعنى آن
رساله كه با ساله ينابيع نوازش شاهانه ، چمن زار دلهاى خيرانديشان را تر وتازه وآن
نامه نامى كه به يادآورى صفاكيشان ، آيين داورى را بلند آوازه كرد به عبارات شريفة
البشاراتش كه نمونه احداق زواهر است ، واستعارات لطيفة الإشاراتش كه حكايت كننده
الفاظ سواحر ، تفقّد منزويان گوشه فراموشى ، وتفحّص منطويان كنج بى توشه خاموشى
نموده ، طرز كرم ورزى را اظهار فرموده اند ، به خطوات اجلال استقبال ، ودر تلقّى
به قبول استعجال نموده شد ؛ ودر مضمون ميمنت نمونش قصّه «خان احمد گيلانى» وگله از
وكيلان اين بارگاه سعادت مكانى درج شده بود.
بر دل آگاه شاه
جمجاه پوشيده نخواهد بود كه حبّ اهل بيت وحمايتشان در مذهب ما واجب است ، ودر مذهب
اماميّه اوجب ، واهانتشان از همه غريب وازيشان اغرب ؛ چون
مشار إليه سيّد
صحيح النّسب وصريح الحسب ووارث ملك عزّ ، اب بعد اب بود ، قبل از قطع آن حدود ترس
وبيمى كه از وكلاء نوّاب آن جناب در دل داشته طريق توسّل به ارسال رسل ورسايل
پيمود ، واستغاثه به آستانه مراد نمود.
چون حضرت داور
مرادآور ، اعنى سلطان بحر وبر ، خديو دشمن گير دوست پرور ، دام فى حفظ ربّنا
الأكبر ، بنا بر درست پيمانى الكاء پيشكش نموده اش را قبول نفرموده ، از پيش بينى
به طريق درخواست منتج الفلاح ، نامه اصلاح آميز فرستادند ؛ وقصد تأليف ما بين
كردند ، وتذكير حقوق مرضيّه ميان اجداد ماضيه نمودند كه مبادا اگر تعرّض به حكومت
ولايت او (به حكومتگاه موروثش) كنند والتجا به درگاه خلافت آوردنى باشد. از دو چيز
يكى لازم آيد : يا ميهمان افكنى يا پيمان افكنى يا پيمانى شكنى ، واو كسى نبود كه
از خطّه خود خطوه اى تجاوز تواند نمود ، تا دفع ضرّ وشرّش لازم آيد وقدرت آن نداشت
كه به يد تعدّى تصدّى تواند كرد كه از تأخيرش محذور زائد ، بهر دفع صائل سايل وسائل
بود ، وفكر خروج وانديشه عروج نداشت ، از حدّ خود به تخطى متجبّرانه تمطى نمى كرد.
بنا بر شوق ثواب بناى دولتش را خراب كردن براى مجرد توسيع ملك موسّع چون محمول بر
طمع بود چنانچه فرموده اند : «همچنان در بند اقليمى دگر» ، خواستند كه ازين داعيه
جزئيّه بازآيند كه اگر به آستانه دولت آشيانه ملتجى شود وبه عون صون پادشاهى مرتجى
شود ارتكاب احد محذورين مزبورين لازم نيايد.
وچون مرد مقطوع
العقب بوده وبه قرابت ومصاهرت اساس مظاهرت فيما بين مستحكم شده بود ، بنا بر قرب
جوار شفقت گونه اى داشتند ، آخر كار باز به آن جانب منتقل مى شد جاى اين مضايقه
نبود. با وجود اين همه ، تغافل از قبول پند سودمند ودرخواست دلپسند فرموده ، رجاى
دوستانه را به نقض عهد وپيمان عمل نمودن از اذهان عاليه بزرگان دور نمود.
على الخصوص چون
مشار إليه مرد شاعر پيشه ومطالعه انديشه ودرويش روش ودانش منش بود ، واطوار روزگار
را نه به دلخواه خويش ملاحظه نمود ، ونقشى كه در لوحه ضمير مى نگاشت وتخمى كه در
مزرعه آرزو مى كاشت نتيجه اى از آن نيافت ، روى طلب به سوى عزلت گزينى وگوشه نشينى
تافت ، وبه دريافت شرف
ملازمت روضات
طيّبات وزيارت عتبات طاهرات ائمه سادات شتافت ، وبه داعيه «حجّة الإسلام» راغب
توطّن جانب بغداد دار السلام شده ، واز خزانه عامره بعداد زيدت عن التّعداد ـ موظّف
گشته ، در كنج خمول به دعاى دولت پادشاه اسلام مشغول شد.
ودر خصوص تعريض
اراده نقض ميثاق وقصد ايقاد نائره شقاق به اين طرف اسناد نمودن به آن قضيّه مى ماند
كه در آن زمان كه عمّار بن ياسر ، رضى الله عنه ، در حرب صفّين بر موجب حديث
معجزنماى محمّدى ، عليهالسلام السّرمديّ : «تقتلك الفئة الباغية» شهيد شد ، وبه امير طرف
خلاف كه تيغ كين از غلاف بيرون كرده بود اين حديث را خواندند ، گفته كه : «قتله من
جاء به» ، يعنى ، آن كس كه او را به معركه قتال آورده كشته. چون مباشر را گذاشته
فعل را به سبب نسبت نمودن دور از عقل ونقل است ، پس درخواست نمودن سيّدى را كه
پناه به درگاه عزّ وجاه آورده از نقض عهد وميثاق شمردن همين حكم دارد.
همواره اين دايره
نيلگون بر مساعده سعادتشان داير وسبع سيّاره بر معاضده دولتشان ساير باد. من أصدق
الدّاعين للدّولة العليّة العثمانية الفقير سعد الدّين.
(١٩)
نامه شاه عباس به
معلّم پادشاه روم مسوّده ميرداماد
سواد مكتوب ، كه
از جانب نوّاب همايون اشرف اقدس اعلى عباس پادشاه ، به حضرت افادت وافاضت افاضت
پناهى ، مولانا سعد الدّين محمّد ، معلم پادشاه روم نوشته اند به مسوّده حضرت
علامة العلمائى محمّد باقر داماد الحسينى.
بسم الله
الرّحمن الرّحيم
|
|
هست كليد در گنج
حكيم
|
نظم
نامه كه آراسته
چون جان بود
|
|
حمد خدا زينت
عنوان بود
|
نسخه كه دست خرد
آرايدش
|
|
فاتحه از نام
خدا بايدش
|
مشعله افروز
نجوم يقين
|
|
كوكبه سوز خرد
تيزبين
|
سرمه ده چشم عدم
از وجود
|
|
نورده جبهه چرخ
از سجود
|
رنگرز جامه نور
از شعاع
|
|
آب ده گلشن خم
از طباع
|
رشته كش گوهر
كان قدم
|
|
پرده در پردگيان
عدم
|
چاره گر كار فروماند
كان
|
|
بازپس بازپس
آرنده دل راندگان
|
طرح كن دفتر شش
مملكت
|
|
پايه نه غرفه نه
منزلت
|
هستى سازنده
افلاك «كن»
|
|
لوح دل از نقش
غلط پاك كن
|
موجد هر ذرّه كه
گيرد وجود
|
|
بر در او نه فلك
اندر سجود
|
عرصه هستى چمن
باغ او
|
|
ناصيه دل رهى
داغ او
|
داغ وى از ناصه
بيعت ستان
|
|
ياد وى از سينه
جنايت ستان
|
پاكترين ثنائى كه
اداى حقّ (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ
إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) وايفاى عهد (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) را تطهير زبان از ذكر ادناس غواشى امكان كه گفته اند. مصراع
: پاك شو أوّل وپس ديده بر آن پاك انداز. شعر :
وكيف ترى ليلى
بعين ترى بها
|
|
سواها وما
طهّرتها بالمدامع
|
وتلتذّ منها
بالحديث وقد جرى
|
|
حديث سواها فى
خروق المسامع
|
وتقديس
جنان از فكر ملابس تعلّقات اكوان ، كه فرموده اند ، نظم :
|
دعوى دل مكن كه
در ره حق
|
|
نبود در حريم دل
ديّار
|
ده بود آن نه دل
كه اندر وى
|
|
گاو وخر باشد
وضياع وعقار
|
نخستين منزل مراحل
عرفان شمامه به قلم تحقيق رقم (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) خطّ بطلان «ألا كلّ شيء ما خلى الله باطل» ، بر نواحى
أطباق عناصر وافلاك وصياصى آفاق مسابر ادراك انداخته ، هلاك ذاتى به رهانت وقت آتى
معلّق ندانسته ، خال عدم سرمدى وداغ فناى ابدى بر جباه عقول ورءوس نفوس به عين
اليقين مشاهده نمايد ، راهنماى كوى عزّت حضرت ربوبيّت را ، جلّ شأنه ، مى شايد.
وعظيم تر تحيّتى
كه در بارگاه جلال احديّت آن حضرت از ألسنه سكّان صوامع ملكوت كه خاك روبان آستان
الوهيّت اند صادر شود رتبه كمال صاحب هدايت مسند (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ
وَما غَوى) وفاتح ولايت محتد (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنى)كه على طبق ما قال به القائل فى نعته : نظم :
حلقه آن ميم كه
در نام اوست
|
|
كش افق از خاك
نشينان كوست
|
نه فلكش پيش
كنند از نخست
|
|
نسخه ده منطقه
خود درست
|
مناطق افلاك
كمالات در حلقه ميم مرتبه جامعيّت او مندرج ، وسوابق ولواحق شوارق انوار نبوّت در
زواياى جمعيّت خانه خاتميّت او مندمج است ؛ وعترت ابرار اطهارش را كه اقمار سماوات
عصمت وهدايت وارواح اجساد علم وحكمت وصدر جريده ايقان وبيت القصيده ديوان ايمان ،
سيّما آن رافع لواى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً). هو لا غير قيل فيه يقينا. رباعى :
بر قلعه انّما در
حق كه گشاد
|
|
پا بر سر كتف «أنت
منّى» كه نهاد
|
گوى از سر چوگان
سلونى كه ربود
|
|
احمد علم «أنا
مدينه» كه داد
|
در خور وسزاوار مى
نمايد. بعد الحمد والصّلاة ، انهاء مى رود كه نامه نامى كه در را لأصداف الفاظش به
غوص غوّاصان اقلام افادت از غور بحر دانش به ساحل انتظام آمده ، ع ، بدانسان كه در
وصف آن گفته اند ، نظم :
آن نامه كه قدر
معنى از وى بفزود
|
|
چندان به سواد
آن معانى در بود
|
كز تابش نور
معنى اندر دل شب
|
|
چون مهر فلك
هزار خورشيد نمود
|
بيان مرتبه عرفان
حضرت افادت مرتبت ، افاضت منقبت ، حقايق ودقايق آگاه ، عوارف ومعارف انتباه ،
علّامه العلماء المحققين ، فهّامة الفضلاء المدققين ، نطاق تداوير كواكب الفضل
والكمال ، مساق تفاسير مطالب العزّ والجلال ، أعنى الحضرة المولويّة ، الأعظميّة
الأفخميّة ، المكراميّة المقداميّة القمقاميّة ، غوث الإسلام والمسلمين ، سعد
الدّنيا والدّين محمّد ، لا زالت نضارة أزهار حدائق المعارف منوطة برشحات سحب
أقلامه وأطناب غزارة مراصد المقاصد مربوطة بأوتاد دوام أيّامه.
تاروپود ارقام
بوارق احكامش را در مناهج استحكام قواعد محبّت ومودّت فراهم آورده بود ، مصراع :
به طالعى كه تولّا كند به دو تقويم. حرفا به حرف به نظر اكسير اثر نوّاب محدّد
جهات همايون ما رسيده.
تجديد عهود مصادقت
وتشييد مواثيق مؤالفت على أحكم ما يتصوّر وأقوم ما يتقدّر نموده ، ضمير منير مهر
تنوير را بر جميع آنچه در حيّز تقرير امكان تسطير گرفته اطّلاع حاصل شد.
همانا در طىّ تضاعيف
مفاوضات سابقه سمير منير ضمير مستنير كه انموذج
اركان آفرينش
وسفير خاطر خطير كه فهرست كتاب دانش وبينش است گشته باشد كه : أرمد العين كوى
نادانى ، خان احمد گيلانى ، در إزاى حقوق اصطناعات اين دو رمان ولايت نشان ، كه بر
قاطبه عالميان چون راز روز روشن وهويدا ، وچون مجاز آفتاب به صفاست ، عقوق ورزيده
، على وفق ما ورد فى الكلمات الوصويّة الولويّة ، على قائلها أزكى الصّلاة وأنمى
التّحية : «إذا أقبلت الدّنيا على أحد أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته
محاسن نفسه» ، مقتضاى «إذا جاء القضاء عمى البصر» ، را سبل ديده دانشورى خود ساخته
، چنان كه گفته اند ، نظم :
سپهر أوّل كند
چشم خرد كور
|
|
پس آنگه بر
خردمند آورد زور
|
يا به مؤدّاى ،
نظم :
گاه عروسى چو شد
شانه حكايت كند
|
|
هركه به موى
دروغ زلف نهد بر عذار
|
به فساد صور اقيسه
افكار فاسده سوء درجه اصل استعداد ، ونقص مرتبه عقل هيولانى ومستفاد خود را مبرهن
گردانيده ، چنان كه تبديل داعيه حجّ بيت الله الحرام ، زيد شرفا وتعظيما فى
الاحترام ، وتوطّن مشاهده مقدّسه ائمّه طاهرين ، عليهم صلوات المصلّين ، به سانحه
عزيمت شيروان نيز اقامت برهان بر آن مدّعى به منصه بيان مى رساند ، به تسويلات
نفسانيّه وتخيّلات شيطانيّه عنان مطيّه حسن سرب را از سلوك مسلك پاس ادب منعطف
داشته ، به مسامحات ومساهلات نوّاب همايون ما موادّ اضغاث احلام غرور او هيجان
پذيرفته ، بر اولياى دولت قاهره لازم آورد ، كه ، على ما قيل. نظم :
خواب خرگوش
بدانديش تو خوش چندان است
|
|
كه ابن سيرين
قضا دم نزند در تأويل
|
كبش مغرور
چراگاه بهشت هنوز
|
|
باش تا داغ فنا
برنهدش اسماعيل
|
موميايى همه
دانند كرا خرج شود
|
|
هركجا پشّه به
پهلو زدن آيد با فيل
|
زبان پرچم قضا
توام قهرمان اقبال به تعبير رؤياى طغيان وتدبير بيداى قوانين ظلم وعدوانش گشوده ،
ديده جمهور عجزه گيلان را كه سالها سهر ستم كشيده بودند طريق غنودن أمن وامان به
ياد رسانده وقاعده آسودن از نوائب دوران به خاطر ناشاد آورده ، لله درّ من قال ،
بيت :
برده بودى ودادت
آمده بود
|
|
چون تو كج باختى
كسى چه كند
|
ومن العجب كلّ
العجب آنكه تأديب بى ادبان دوران ورفع بدع جور وعدوان را كه مغناطيس اكتساب سعادت
باقى است دام اقتناص توسيع ملك فانى شمرده اند. ولقد أحسن من قال. بيت :
چرخ نگويى كه
بدى مى كند
|
|
بى ادبان را
ادبى مى كند
|
وتعميم اهل بيت ،
بر وجهى كه جميع آحاد ذريّه طيّبه مصطفويّه را شامل باشد ، به روشى كه در صدر
عنوان بيان ، بر زبان خامه افادت پناه جارى شده ، ظاهرا نه بر طور دين اماميّه
انطباق دارد ، ونه به آيين مذهب اشاعره وفاق. همچنان كه لسان تصفّح كتب تفسير ،
سيّما ما ذكره المحقّقون فى نزول آية التطهير به آن ناطق است ، وتتّبع منطوق هريك
ازين دو حديث صحيح : «لمّا نزلت هذه الآية (نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ)دعا رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهمّ هؤلاء أهل
بيتى. وخرج النبي ، عليهالسلام ، غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن على
فأدخله ، ثم قال : إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» ،
كه بهذه العبارة در صحيح بخارى وصحيح مسلم ومصابيح بغوى مسطورند بر آن شاهدى صادق.
آرى ، در باب
تعميم وتخصيص آل ، آراى متشعّبه از علماى فريقين در سلك سمط قيل وقال سمت انخراط
وجهت اختراط دارد ، وشتّان ما بينهما.
ودر تذييل كلام
فصاحت آغاز بلاغت انجام كه به تنظير مقام اتّسام گرفته ، اين جانب را كه به اسناد
فعل به مباشر كه سبب فريب است نزد فرقه اماميّه ، على ما بيّن فى مبحث الجبر
والاختيار فى الكتب الكلاميّة علم انّه به نقيض آن متهم ساخته اند اعتراض نفى فعل
از فاعل را به آن طرف انداخته اند.
بر طبع وقّاد وذهن
نقّاد كه صرّاف نقود حقايق وكشّاف رموز دقايق است مستور نماند كه نسبت نقض ميثاق
به ارتكاب ما إليه ينساق از باب اسناد آثار به مبادى اوّل وتعليل معلومات به علل
علل است.
ودر افق مبين كلام
اعجاز نظام إلهى ، جلّ جناب قائله عن وصمة التّناهى ، وطريق مستبين احاديث كه
مواريث نبوّت ورسالت وملاويث عقول اصحاب فكرت
وحكمت است ، على
مصادرها من الصّلوات أزاكيها ومن التّحيّات أوافيها ، ودر اقوال اساطين حكما از
سابقين ولاحقين ومحقّقين متكلّمين من المتقدّمين والمتأخرين نظائر آن بيشمار واز
خطاير عدّ واحصا بر كنار ودر منظوم ومنثور بر ألسنه شعرا داير ودر خطب وامثال بلغا
ساير است ، كما جرى على لسان بعض بلغائهم :
بأسياف ذاك
البغى أوّل سلّها
|
|
اصيب على لا
بسيف ابن ملجم
|
وقد قيل : «قتل
الحسين يوم السّقيفة» ودر مقامات علميّه آن تنظير مسفور را نظيرى عديم النّظير بر
سبيل انعكاس در مقاصد علم كلام كه اساس علوم دينيّه است واقع است ، آنجا كه حديث
مقدّس نبوى ، على مصدره تحيّة الأمين القوىّ ، كه : «القدريّة مجوس هذه الامّة»
صورت ذكر پذيرفته. فضلاى اشاعره ، شيعه ومعتزله را به اعتبار نفى قدر به قدريّه
تلقيب كرده ، قول به تعدّد مؤثّر را ، چنانچه كيش مجوس است ، كه اسناد خيرات عالم
وجود به فاعلى كنند ويزدان نامند ، وشرور آن به فاعلى ديگر واهرمن خوانند ، مناط
صحّت اعتبار تشبيه دانسته اند.
وعلماى شيعه
ومعتزله به حكم اتّفاق متخاصمين بر اسناد جميع امور از خيرات وشرور بالأخره به
مبدع سماوات انفس وآفاق ومفيض وجود عالم امكان على الاطلاق ، جلّ جنابه عن أن يكون
شريعة لكلّ وارد ، أو يطّلع عليه إلّا واحد بعد واحد» سبيكه اعتبار مذكور را به
معيار نظر صحيح ناقص عيار يافته ، ابتناء تشبيه بر نفى تأثير بنده در افعال به
ميزان صدق مقال سنجيده ، وجدان عقل سليم را حكم محكمه تحكيم ساخته اند ، چه به
مذهب مجوس نيز بنده معزول مطلق ، خيراتش به يزدان موهوب وشرور به اهرمن منسوب است
واشاعره را كه
مثبتين قدراند به قدريّه موسوم ساخته اند ، تشنيع بليغ مى نمايند كه مثبت را
گذاشته ، نسبت امرى به نافى كردن از دايره معقوليّت بر كرانه.
واعتذار به آنكه
مبالغه نافين در نفى مصحّح نسبت منفى است به انسان از طور عقل ونقل بيگانه است ؛
وفى الواقع چنان كه ذوق سليم از اسناد امرى به نافى در مقام انقباض است ، وامام
علّامه فخر الدّين رازى در كتاب «نهاية العقول» به تسليم
آن معترف ، همچنين
طبع مستقيم را بر نسبت نفى مثبتين جاى اعتراض است ، ومدارك عاليه از تصدّى توجيه
آن مستنكف.
تا بسيط عالم
امكان مطرح اشعّه آفتاب وجود باشد وجود فائض الجود آن عضاده اسطرلاب فضل وكمال
ميزان مسير ثواقب كواكب تحقيق وبنيان مصير افاخم ارباب تدقيق باد ، نظم :
هميشه تا ز ره
عقل بر عقول ونفوس
|
|
تقدّمى نبود
صورت وهيولى را
|
ترا شرائط تقديم
جمع باد چنان
|
|
كه اقتدا به تو
باشد عقول اولى را
|
(مجمع الانشاء ، تأليف حيدر بيگ ،
مورخ جمادى الثاني ، سنه ١١٣٨ ، مجلس ، مجموعه ، ش ٦٠٦ ؛ كتابخانه مركزى دانشگاه
تهران ، مجموعه عكسى ، ش ٥٣٩١).
(٢٠)
نامه شاه عبّاس به معلّم پادشاه روم ، مسوّده ميرداماد
(جواب نامه ملّا
سعد الدين كه حاتم بيگ از روى جوابهائى كه نوّاب ثالث المعلّمين مير محمّد باقر
داماد وقاضى زاده كوهرودى نوشته بودند ترتيب داده ، منشآت حيدر ايوا اوغلى) رشحات
اقلام عنبرفام ونتائج افكار درر نظام كه غرر اصداف الفاظش به غوص غوّاصان ارقام
افادت وافاضت از غور بحر دانش به ساحل انتظام آمده. [رباعى]:
آن نامه كه قدر
معنى از وى بفزود
|
|
چندان به سواد
آن معانى در بود
|
كز تابش نور
معنى اندر دل شب
|
|
چون مهر فلك
هزار خورشيد نمود
|
مرقوم بنان عرفان
افادت وافاضت پناه ، حقايق ودقايق آگاه ، عوارف ومعارف انتباه ، علّامة العلماء
المحقّقين ، فهّامة الفضلاء المدقّقين ، نطاق تداوير كواكب الفضل والكمال ، مساق
تفاسير العزّ والجلال ، المولويّة الأعظميّة الأفخميّة ، سعد الدّنيا والدّين ،
محمّدا ، أعلى الله تعالى بركاته ولا زالت نضار أزهار حدائق حقائقه ، كه مشتمل بر
مقدّمات استحكام معاهدت ومصالحت بود ، موضوع مسأله [وداد] ومحمول مفهوم حقيقت
اتّحاد است ، از اذعان نسبت واقعى آنكه مصدّق قضيّه
مرضيّه (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) گرديده ، از خلوص عقيدت وخير خواهى كه از مهبّ (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ) وزيده ، به اهداء آنكه موجب مسرّت خواطر حواشى محفل فلك
تزيين ومجلس بهشت آيين بود ، ساحت منير شاهانه وعرصه مستنير پادشاهانه از غبار
تندباد ارباب فساد تصفيه تمام يافت ، وروابط طرفين وعلاقه جانبين از آن در اهتزاز
آمده ، نزهت فزاى فضاى دلگشاى خواطر زكيّه گرديده ، به نظر اكسير تأثير همايون ما
رسيد ، وبر جميع آنچه در حيّز تقدير ومكان تسطير گرفته بود اطّلاع حاصل شد.
وشرحى چند كه در
باب «خان احمد گيلانى» ونسبت نقض عهد به وكلاى ذى شأن اعلى حضرت خاقان سليمان
مكانى نگاشته كلك خجسته سلك گشته بود ، جواب هريك را بر سبيل اجمال طوطى قلم شيرين
زبان كه مترجم اصول أمّهات كون ومكان است در حيّز بيان آورد.
أوّلا ، آنچه در
وادى حسب ونسب مشار إليه ومحبّت اهل بيت ونسبت دودمان والامكان خاندان طيّبين
وطاهرين كه قوائم احترام ايشان از جواهر گرانبهاى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ترصيح پذيرفته وبنيان والامكان اعزازشان به موجب «إنّي
تارك فيكم الثّقلين» ارتفاع يافته ، مرقوم فرموده اند.
بر ضمير افاضت
تنوير مخفى وستير نيست كه چون كسى خود را نسبت به خاندان نبوّت وولايت نمايد واجب
ولازم است كه با خلايق وعباد الله وكافّه رعايا ، كه ودايع خالق البرايااند ، به
قوانين مستقيمه شرع مبين وسنّت سنيّه حضرت سيّد المرسلين ٦ ، عمل نموده ، نه آنكه
از مسلمانان به طريقى كه از مجوس وكفّار جزيه مى گيرند زر ستاده ، نام آن را «سره
زر» نهد ودختران مسلمين را به كنيزى برده «گيله» نام كند ، ومحدث انواع ظلم واقسام
ستم گردد.
وبا وجود اين
حالات ، در ازاء حقوق تربيت ورعايت كه از اين دودمان ولايت نشان يافته بود وبر
عالميان اظهر من الشّمس است وگلستان مطالب ومآربش از جويبار احسان ومكرمت شاهانه
سرسبز وشاداب گرديده ، از اقران وهمگنان به مزيد عواطف خسروانه وخلعت سامى نامى
مصاهرت وقرابت امتياز واختصاص
داده بوديم ، در
مقام عقوق وعصيان در آمده ، جمعى را كه از درگاه معلّى بر طبق قانون : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي
شِقاقٍ) كفران نعمت ورزيده روگردان مى شدند ، متدرّع به درع حمايت
ايشان مى گشت ؛ ونوّاب همايون ما به ملاحظه حديث صحيح «الصّالحون لله والطّالحون
لي» هرچند به نصيحت دلپسند وپند سودمند او را منع مى فرموديم ، به مضمون آنكه ،
نظم :
با سيه دل چه
سود خواندن وعظ
|
|
نرود ميخ آهنين
در سنگ
|
مواعظ وپند سودمند
در گوش بيهوش او اثر نداشت ، بدين جهت بر ذمّت همّت پادشاهانه تنبيه وتغيير او
لازم گشت ، نه براى مجرّد توسيع ملك موسّع كه محمول بر طمع بوده باشد تعرّض به
الگاى تفويض كرده به او نموده باشيم ، چه مجموع مداخل آن در برابر همّت والا نعمت
همايون ما وخوان احسان منتسبان اين دودمان ولايت نشان بغايت قليل الاعتبار است ،
وديده همّت كه به كحل الجواهر (ما زاغَ الْبَصَرُ
وَما طَغى) مكحّل گشته ، به غير نعم باقيه كه از خوان امتنان : (فيها
ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين) مرجوّ الوصول مى نمايد ، به چيزى ديگر التفات نمى
كند.
وحقيقت حال واطوار
ناهموار مومى إليه را از اين قياس فرمايند كه در اين آخر عمر ، به يمن شفقت ومرحمت
پادشاه اسلام پناه ، عنان عزيمت وى به جانب عتبات عاليات وروضات مقدّسات ائمّه
اطهار ، كه مصدوقه : (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) است منعطف گشته ، سعادت استسعاد آن دريافت.
مناسب صفاى عقيدت
وملائم حالات وكمالات آن مى نمود كه رحل اقامت انداخته ، به اكسير مجاورت آن
بارگاه عرش اشتباه مس زنگ گرفته خود را به زر تمام عيار دار الضّرب اخلاص وثوب
اطاعت را به زلال بى غش از چشمه صافى توبت وانابت نظافت داده ، با محرمان سرادق
انس همراز وبا معتكفان صوامع قدس هم آواز گردد.
واز ميامن توجّهات
خسروانه به زيارت بيت الله الحرام وطواف مدينه حضرت خير الأنام ، زادهما الله شرفا
وتعظيما ، كه همگى سلاطين اسلام را اين آرزو در خاطر مرتسم است وميسّر نمى شود ،
مشار إليه را از يمن مراحم پادشاهانه ميسّر گشته بود مشرّف شود.
در توجّه زيارت
وطواف اهمال نمودن همانا كه دليل بر ضعف ايمان واسلام اوست وجنود نفوس امّاره اش
به اغواى شياطين ستمكاره قدر جواهر انعامات بيكران پادشاهى وعنايات بى پايان
شاهنشاهى وتوفيقاتى كه او را روى نموده بودند ندانسته ، طوائر ملاعبات نفسانى
ومتابعات قواى جسمانى را بر اغصان اشجار هواپرستى جاى داده وبه نغمات آرزوى ملاهى
دنيوى از استماع اصوات معجز آيات طوطيان شكرستان مخاطبات آسمانى بازمانده.
بى امر وفرمان قضا
جريان خاقانى از دار السّلام بغداد ، صينت عن الفتنة والفساد ، فرار نموده ،
متوجّه جانب شروان گشته ، كه شايد از آنجا به جانب بخارا تواند رفت ، كه در درگاه
اعلى پادشاهى سخنان واهى او را مسموع نداشتند. در آنجا به تفكّرات باطله وخيالات
فاسده وآميزش وامتزاج با مخالفان نايره فتنه وفساد را تواند اشتعال داد.
كفران نعمت
دامنگير او گشته ، گرفتار پادشاهان سرحد گرديده ، همانا كه حقيقت حال او را به
حاجبان درگاه عظمت واجلال عرض نموده اند ، يقين كه آنچه مقتضاى حميّت پادشاهانه
است در باره او به عمل خواهد آمد.
[ثانيا] وآنچه در
باب نقض عهد به منسوبان آستان خلافت مكان وگله از وكيلان ذى شان بارگاه سعادت نشان
، وتمثيل قصّه عمّار ياسر ٢ ، در كتاب شريف مندرج گشته بود. بر آن افادت وافاضت
پناه مستور ومخفى وپوشيده ومختفى نماند كه چون در مفاوضه عليّه خاقانى وملاطفه
سنيّه ظلّ سبحانى سفارش منثور ومنظوم ، كه در باب مشار إليه فرموده بودند ، منشيان
فصيح البيان به وعده ووعيد اختتام داده ، با وجود اين حالت ، از اين جانب اسناد
نقض عهد نه از مقوله اذعان نسبت آن به مقرّبان آن درگاه گيتى پناه بود كه باعث
اعتراض تواند شد.
بلكه به واهمه
آنكه اگر خان احمد ثمره مرادى از شجره مغروسه كه در شوره زمين آرزوى محال نموده به
تحصيل مقدّمات منتجه به مخالفت فيما بين فائز گردد كه مطلب ومقصد اوست ، موجب نقض
عهود مستمرّه ومخالف اوضاع مأهوله خواهد بود ، التماس آن شده بود كه وكلاى عالى
شان رفيع مكان واحبّاى دولت كبرى واولياى سلطنت عظمى مضمون : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِها) را
منظور نظر اصابت
اثر فرموده ، به قول وبه فعل او اعتبار واعتماد ننمايند. در اين صورت تمثيل قصّه
عمّار ياسر بدينجا موافقت ونسبتى ندارد.
وزياده از اين ،
در اين ابواب چه اطناب نمايد. از حقّانيّت ودين دارى وفتوّت وپرهيزگارى آن عمدة
الأفاضل والأعالى توقّع آن است كه به نوعى كه از صفات حسنه واخلاق مستحسنه ايشان
سزاوار است در استحكام مبانى مصالحه واتحاد ساعى بوده ، نوعى فرمايند كه از يمن
انفاس با بركات وتوجّهات خاطر آن منبع فضائل وكمالات إلى انقراض الدّوران خلل
ونقصان به اركان شديد البنيان آن راه نيابد. وچون از واردين آن صوب مسموع سمع اشرف
گشت كه لشكر ظهر كردار وجنود نصرت شعار اسلام به غزاى كفّار نابكار متوجّه شده اند
، با جميع فضلاء وعلماى اين ديار از صغار وكبار در مساجد ومعابد جهت فتح ونصرت
عساكر فيروز مآثر به دعا ونياز وختم سوره مباركه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) قيام نموديم ، إنّه يسمع ويجيب. ودر طىّ مراسله اتحاد
وصحيفه وداد كه به خدمت اعلى حضرت پادشاه جهان پناه مرقوم گشته دو التماس از روى
اخلاص ويگانگى نموده شد ، مترصّد است كه آن افادت وافاضت پناه در قبول وحصول
ملتمسات اين جانب توجّه وسعى موفور مبذول فرموده ، چنان فرمايند كه به حسن توجّه
واهتمام ما لا كلام ايشان به حيّز قبول موصول گردد. واز آنجا كه كمال شفقت ومرحمت
شاهانه است به مضمون آنكه ، نظم :
چه باشد گر بدين
مخلص نوازى
|
|
مرا منّت پذير
خويش سازى
|
در انجاح ملتمسات
همايون ما كه سبب استحكام بنيان مصادقت وموجب ثواب دنيا وآخرت است فرمان قضا جريان
قدر توأمان پادشاهى نافذ گردد كه باعث ازدياد موادّ اخلاص وموجب تشييد مبانى
مصالحه واتحاد خواهد بود.
چون غرض اظهار
محبّت ووداد بود زياده تأكيد ومبالغه ننمود. تا بسيط عالم امكان مطرح اشعّه آفتاب
وجود باشد ، وجود فائض الجود آن عضاده اسطرلاب فضل وكمال مسير ثواقب كواكب تحقيق
وبنيان مصير مفاخم ارباب تدقيق باد.
(كتابخانه مجلس
شوراى اسلامى ، مجموعه، ش ٦٠٦ ؛ منشآت حيدر ايوا اوغلى).
مصنّفات ميرداماد
(١٠)
الإرشادات
(١)
الحرز الحارز
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والاعتصام بالعلىّ
العظيم ، وصلواته على سيّدنا النّبي الكريم وعترته الطاهرين.
حرز حارز ، رويته
فى ما رويته بطرقى وأساتيدى عن مشيختى ومشايخى وسلّافى وأسلافى ، رضوان الله تعالى
عليهم ونوّر ضرائحهم وقدّس أسرارهم.
أودعت نفسى وأهلى
ومالى وولدى ومن معى وما معى فى أرض ، محمد سقفها وعلى بابها وفاطمة والحسن
والحسين وعلى ومحمّد وجعفر وموسى وعلى ومحمد وعلى والحسن والحجة المنتظر حيطانها
والملائكة حرّاسها ، والله محيط بها وحفيظها والله من ورائهم محيط ، بل هو قرآن
مجيد فى لوح محفوظ.
ومن طريق آخر ،
رويته عن السّيد الثّقة الثّبت المركون إليه فى فقهه المأمون فى حديثه على بن أبى
الحسن الآملىّ ، رحمهالله ، قراءة وسماعا وإجازة ، سنة ٩٨٨ من الهجرة المباركة
النبويّة ، فى مشهد سيّدنا ومولانا أبى الحسن الرّضا ، صلوات الله وتسليماته عليه
، بسناباد طوس ، عن زين أصحابنا المتأخّرين ، عن زين الدين أحمد بن على بن أحمد بن
محمّد ، عن على بن جمال الدّين بن تقىّ الدّين صالح بن شرف
العاملىّ ، رفع
الله درجته فى أعلى مقامات الشّهداء والصّدّيقين :
«أودعت نفسى وأهلى
ومالي ووالدى فى أرض ، الله سقفها ومحمّد حيطانها وعلى بابها والحسن والحسين
والأئمة المعصومون والملائكة حرّاسها ، والله محيط بها ، والله من ورائهم محيط ،
بل هو قرآن مجيد فى لوح محفوظ».
(٢)
الخلسة
ومن لطائف ما
اختلسته واختطفته من الفيوض الرّبانيّة والمنن السّبحانيّة بجزيل فيضه وسيبه ،
سبحانه ، وعظيم فضله ومنّه ، جلّ مجده وعزّ سلطانه ، حيث كنت بمدينة الإيمان حرم
أهل بيت رسول الله ، صلّى الله عليه وعليهم ، قم المحروسة ، صينت عن دواهى الدّهر
ونوائب الأدوار ، فى بعض أيّام شهر الله الأعظم ، لعام ١٠١١ من المهاجرة المباركة
المقدّسة النّبويّة :
إنّه قد غشيتنى
ذات يوم من تلك الأيّام فى هزيع بقى من النّهار سنة شبه خلسة ، وأنا جالس فى تعقيب
صلاة العصر ، تاجها تجاه القبلة ، فأريت فى سنتى نورا شعشعانيّا على أبهة ضوآنيّة
فى شبح هيكل إنسانىّ مضطجع على يمينه وآخر كذلك على هيابة عظيمة ومهابة كبيرة فى
بهاء ضوء لامع وجدول نور ساطع ، جالسا من وراء ظهر المضطجع ، وكأنّى أنا دار من
تلقاء نفسى أو إنّه أدرانى أحد غيرى أنّ المضطجع مولانا أمير المؤمنين ، صلوات
الله عليه وتسليماته عليه ، وجالس من وراء ظهره سيّدنا وشفيعنا رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنا جاث على ركبتى وجاء المضطجع وقبالته وبين يديه
وحذاء صدره ، فأراه ، عليه صلوات الله وتسليماته ، متهششا متبششا ، متبسّما فى
وجهى ، ممرّا يده المباركة على جبهتى وخدّى ولحيتى ، كأنّه مستبشر متبشّر لى ،
منفّس عنّى كربتى ، جابر انكسار قلبى ، مستنفض بذلك عن نفسى حزبى وعن خلدى كآبتي.
وإذ أنا عارض عليه ذلك الحرز ، على ما هو مأخوذ سماعى ومحفوظ جنانى ، فيقول لى :
هكذا اقرأ ، وأقرأ هكذا :
«محمّد رسول الله
، صلىاللهعليهوآله ، أمامى ، وفاطمة بنت رسول الله ، صلوات الله عليها ، فوق
رأسى ، وأمير المؤمنين على بن أبى طالب وصىّ رسول الله ، صلوات
الله وسلامه عليه
، عن يمينى ، والحسن والحسين وعلى ومحمّد وجعفر وموسى وعلى ومحمّد وعلى والحسن
والحجّة المنتظر أئمّتى ، صلوات الله وسلامه عليهم ، عن شمالى ، وأبو ذرّ وسلمان
والمقداد وحذيفة وعمّار وأصحاب رسول الله ، رضى الله تعالى عنهم ، من ورائى ،
والملائكة عليهمالسلام حولى ، والله ربّى ، تعالى شأنه وتقدست أسماؤه ، محيط بى
وحافظى وحفيظى ، والله من ورائهم محيط ، بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ، فالله خير
حافظا ، وهو أرحم الرّاحمين».
وإذ قد بلغ بى
التّمام ، فقال ، عليهالسلام ، لى : كرّر ، فقرأ وقرأت عليه. ثم قال : أبلغ ، وأعاده
على ، فعدت عليه ، وهكذا ، كلّما بلغت النّهاية يعيده على إلى حيث حفظته ، فانتبهت
من سنتى متلهّفا لهوفا عليها شيّقا حنونا إليها إلى يوم القيامة.
فلقد كانت هي
اليقظة الحقّة ، وما لدى الجماهير يقظة فهى هجعة عندها ، ولقد كانت هى الحياة
الصّرفة ، وما عند الأقوام حياة فهو موتة بالنّسبة إليها.
وكتب الأحرف حكاية
وعبارة عنها ، ببنان يمناه الفاقرة الدّاثرة ، أفقر المربوبين وأحوج المفتاقين إلى
رحمة ربّه الحميد الغنىّ ، محمّد بن محمّد ، يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ ، ختم
الله له فى نشأتيه بالحسنى ، وسقاه فى المصير إليه من كأس المقرّبين ممّن له لديه
لزلفى ، وجعل خير يوميه غده ، ولا أوهن من الاعتصام بحبل فضله العظيم يده ، حامدا
مصلّيا مسلّما مستغفرا ، والحمد لله ربّ العالمين وحده حقّ حمده.
إلى هنا صورة رقمه
الشّريف المقدّس وخطّه الأنيف الأقدس ، أدام الله بركات أنفاس اجتهاده وإرشاده
وفضله وإفضاله إلى يوم الدين ، بعزّ سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطّاهرين ، حرّره
أقلّ عباد الله الغنىّ ابن مراد عادل الأردستانىّ.
(كتابخانه مركزى
دانشگاه تهران ، مجموعه خطى ، ش ١٨٣٧).
(٣)
ترجمة الخلسة
منقول من ثالث
المعلّمين وقطب العارفين امير محمد باقر الملقّب بداماد.
طاب ثراه وجعل الجنّة مأواه.
واز لطائف غيبى
چيزى غنيمت شمردم از فيض ربّانى ومنن سبحانى به عظيم
فيض وعطيّه خدا.
چون بودم به مدينه ايمان ، حرم اهل بيت رسول الله ، ص ، قم محروسه، كه محفوظ باد
از حوادث دهر وتغيير روزگار ، در بعضى از ايّام شهر الله الأعظم ، در سنه ١٠١١ ،
از هجرت مباركه مقدّسه نبوى ، ص ، روزى پوشيده شد بر من اين عالم جسمانى ، در بعضى
از آخر روز به سبب خوابى كه مرا روى داد ، شبيه به خلسه.
وخلسه مرتبه اى از
مراتب تجرّد نفس است ، كه از جهت بارگاه الوهيّت روى دهد ، واز اين عالم غافل مى
شوند وبه عالم روحانى مربوط مى گردند.
من مشغول به تعقيب
نماز عصر نشسته بودم رو به قبله. پس نموده شد در آن عالم نور شعشانى به ابهت ضوآنى
در شبح هيكل انسانى كه بر جانب راست خود ـ واستراحت فرموده بود. وباز ديدم نور
شعشعانى ديگر كه مردم ديده وديده مردم از شعاع نور او خيره بود ، با هيبت عظيم در
بهاء ضوء لامع وجلال نور ساطع كه نشسته بود ، در عقب آن عالى قدرى كه به دست راست
استراحت فرموده بود. پس گويا من از پيش خود به خود گفتم ، يا آنكه كسى ديگر مرا
گفت كه آنكه به دست راست استراحت فرمود مولانا امير المؤمنين ، ع ، وجالس در عقب
او سيّد ما وشفيع ما ، رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، است. ومن به دو زانو در مقابل وبرابر دو دست ومحاذى صدر
آن حضرت نشسته بودم ، كه ديدم ، آن بزرگوارى كه به دست راست استراحت فرموده بودند
، از روى شكفتگى وتبسّم وانبساط ومهربانى به من متوجّه اند ، ودست مبارك را چون
پنجه آفتاب بر پيشانى ورو ومحاسن وروى من كشيد ، گويا از روى اشفاق وبشارت رفع
كدورات من مى فرمايند ودل شكسته مرا از دست معجزنما درست مى سازند ، وگرد اندوه
وحزن از من مى زدايند. فى الجواب :
علم است برهنه
روى تحصيل برست
|
|
تن خانه عنكبوت
، دل بال وپر است
|
زهر است جفاى
علم ، معنى شكر است
|
|
هر پشه كز وچشيد
، او شير نر است
|
(٤)
خلعيّة المير
الدّاماد
ومن غريب رسائله
رسالته الخلعيّة ، وهى ممّا يدلّ على تألّه سريرته وتقدّس سيرته ، وصورتها :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد كلّه لله
ربّ العالمين ، وصلواته على سيّدنا محمد وآله الطاهرين.
كنت ذات يوم من
ايّام شهرنا هذا ، وقد كان يوم الجمعة ، سادس عشر شهر رسول الله ، صلىاللهعليهوآلهوسلم ، شعبان المكرّم ، لعام ثلاث وعشرين وألف من هجرته
المقدّسة ، فى بعض خلواتى ، أذكر ربّى فى تضاعيف أذكارى وأورادى ، باسمه «الغنىّ»
فأكرّز : «يا غنيّ يا مغني» مشدوها بذلك عن كلّ شيء إلّا عن التّوغّل فى حريم سرّه
، والانمحاء فى شعاع نوره. وكأنّ خاطفة قدسيّة قد ابتدرت إلى ، فاجتذبتنى من الوكر
الجسمانيّ ، ففككت حلق شبكة الحسّ ، وحللت عقد حبالة الطّبيعة ، وأخذت أطير بجناح
الرّوع فى جوّ ملكوت الحقيقة. وكأنّى قد خلعت بدنى ، ورفضت عدنى ، ومقوت خلدى ،
ونضوت جسدى ، وطويت إقليم الزّمان ، وصرت إلى عالم الدّهر.
فإذا أنا بمصر
الوجود بجماجم أمم النّظام الجملىّ من الإبداعيّات والتكوينيّات ، والإلهيّات
والطبيعيّات ، والقدسيّات والهيولانيّات ، والدّهريّات والزّمانيّات ، وأقوام
الكفر والإيمان ، وأرهاط الجاهليّة والإسلام ، من الدّارجين والدّرجات ، والغابرين
والغابرات ، والسّافلين والسّالفات ، والعاقبين والعاقبات ، فى الآزال والآباد ،
وبالجملة ، آحاد ومجامع الإمكان ، وذوات عوالم الأكوان ، بقضّها وقضيضها ، وصغيرها
وكبيرها ، بأثباتها وبأبئادها ، حاليّاتها وإنيّاتها.
وإذ الجميع زفّة
زفّة ، وزمرة زمرة ، بحزبهم قاطعة معا ، مولّون وجوه ماهيّاتهم شطر بابه ، سبحانه
، شاخصون بأبصار إنّياتهم تلقاء جنابه ، جلّ سلطانه ، من حيث هم يعلمون ، وهم
جميعا بألسنة فقر ذواتهم الفاقرة ، وألسن فاقة هويّاتهم الهالكة ، فى ضجيج
الضّراعة وصراخ الابتهال ذاكروه وراجوه ومستصرخوه ومنادوه : ب «يا غنيّ يا مغنى» ،
من حيث هم لا يشعرون.
فطفت ، فى تلك
الضّجّة العقليّة والصّرخة الغيبيّة أخرّ مغشيّا على ، وكدت من شدّة الوله والدّهش
أنسى جوهر ذاتى العاقلة ، وأغيب عن بصر نفسى المجرّدة ، وأهاجر ساهرة أرض الكون ،
وأخرج من صقع قطر الوجود رأسا ، إذ قد ودّعتنى تلك
الخلسة الخالسة
شيّقا حنونا إليها ، وخلّفتنى تلك الخطفة الخاطفة تائقا لهوفا عليها. فرجعت إلى
أرض التبار وكورة البوار وبقعة الزّور وقرية الغرور تارة أخرى.
هذا منتهى
الرّسالة المذكورة ، والله سبحانه أعلم. (بحار الأنوار ، ج ١٠٩ ، ص ١٢٥).
(٥)
التبرّى والتولّى
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمّ ، إنّ
نبيّك النّاطق بالحقّ ورسولك المبلّغ بالصّدق ، صلواتك عليه وآله ، قام خطيبا بماء
يدعى خمّا بين مكّة والمدينة ، فحمدك وأثنى عليك.
ثمّ قال : «أيّها
النّاس ، إنّما بشر يوشك أن يأتينى رسول ربّى فأجيب. وأنا تارك فيكم الثّقلين ، ما
إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا. فانظروا كيف تخلفونى فيهما ، كتاب الله وعترتى
أهل بيتى». أذكركم الله فى أهل بيتى ، أذكركم الله فى أهل بيتى.
فنصب لخلافته
ووصايته ووراثته والكينونة بمكانته والمقامة فى مقامه والقيام بالأمر من بعده أخاه
وخليفته ووصيّه وابن عمّه وروح جسده ونور بصره وروح مهجته وزوج ابنته وأبا سبطيه
ومسمّط سمطيه ، عبدك ووليّك ونورك وصراطك المستقيم وحجّتك البيضاء ومحجّتك اللمعاء
وميسم خاصّتك وامام أوليائك وعينك النّاظرة فى خلقك وجنبك المفرّط فيه ، كتابك
النّاطق وبابك الصّادق وميزانك الفارق ، خازن وحيك ومستودع سرّك وحامل حكمك وقفّة
دينك وعيبة علمك وشريك قرآنك وسبيل عرفانك ودليل فرقانك ، نور النيّرين وشمس
القمرين وهادى النّجدين وامام القبلتين ، والد النّجلين وأبا الحسنين وأخا سيّد
الثقلين ، سيّد المسلمين وقدوة المتقين وأمير المؤمنين ، على بن أبى طالب ، عليه
وعلى أولاده الطّاهرين أفضل صلوات المصلّين وأجزل تسليمات المسلمين.
فالأقوام بعد
نبيّك الصّادق المصدّق ، صلواتك وتسليماتك عليه وآله المعصومين ، حاصوا عن السّبيل
وزاغوا عن السّمت ومرقوا عن الدّين وحادوا عن الحقّ ونكبوا عن الطّريق وخالفوا
أمرك وعصوك وعصوا رسولك ، وآذوا وليّك وإمامهم وتركوه وقهروه واستبدّوا عليه
وظلموه وغضبوا حقّه ومنعوه تراثه وحالوا
بينه وبين مسنده
الّذي خصّصته به وأخّروه عن مرتبته التي جعلتها له وأوليتها إيّاه ، وانحرفوا
واتّقحوا ورجعوا القهقرى ونكثوا بيعتهم ونكبوا إسلامهم ونبذوا أهل بيت نبيّك وراء
ظهورهم واستهزءوا بهم واتخذوهم ظهريّا.
والعن اللهمّ
النّاكبين والنابذين والناكثين والقاسطين والمارقين لعنا وخيما وعذّبهم عذابا
أليما. والعن من سار بسيرتهم. واستنّ بسنّتهم وجرى على طريقتهم وحاد عن اهل بيت
نبيّك ونكب عنهم ونبذهم وراء ظهره منذ ما توفيت رسولك وقبضته إليك ، صلواتك
وبركاتك عليه وآله الطّاهرين ، إلى زمننا هذا وإلى يوم القيامة ، كائنا من كان ،
وعذّبهم عذابا أليما شديدا يستغيث منه أهل النّيران ، واغفر لنا وارحمنا وألحقنا
بنبيّنا وأئمّتنا ، يا ولىّ الرّحمة والغفران.
هذا من أقاويل
سيّدنا ومولانا ، أدام الله بركات أنفاسه وأنفاس بركاته إلى يوم الدّين. وأنا أحقر
مستفيضيه وأفقر مستفيديه من بحار فضله المستوعب ، ابن مراد عادل الأردستانى، عفى
عنهما. (كتابخانه مركزى دانشگاه تهران ، مجموعه خطّى ش ١٨٣٧)
(٦)
وصيّت نامه ميرداماد
ويشهد عبد الله
الضّعيف النّحيف ، الضّئيل الذّليل ، محمّد يدعى باقر الدّاماد الحسينىّ : أن لا
إله إلّا الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا أحدا فردا حمدا قدّوسا ، لم يتّخذ فى
عزّ جلالته صاحبة ولا ولدا ، ولا ارتقب فى صنع فعاله عاقبة ولا أمدا. وأنّ صفو
الوراء وناخلة البرايا محمّدا عبده ورسوله وبعيثه وسفيره ، وأنّ قرم الأصفياء
ويعسوب الأوصياء ، سيّد المسلمين وأسوة الصدّيقين ، أمير المؤمنين على بن أبى طالب
، عبد الله ووليّه ومنتصاه وصفيّه ، وأنّ الأوصياء الطاهرين من ولد على وفاطمة ،
الحسن والحسين وعلى بن الحسين ومحمّد بن على وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلى بن
موسى ومحمّد بن على وعلى بن محمّد والحسن بن على والحجّة الخلف الصّالح القائم
بأمر الله ، المرتقب لإعلاء كلمة الله، سمّى رسول الله وكنيّه ، أئمّة وولاة وحجج
، وأنّ الموت حقّ ، والقبر حقّ ، ومسائلة منكر ونكير فى القبر حقّ ، والبعث حقّ ،
والنّشور حقّ ، والحساب حقّ ، والكتاب حقّ ، والوقوف
حقّ ، وتطاير
الكتب حقّ ، وإنطاق الجوارح حقّ ، والوقوف بين يدى الله عزوجل للحساب حقّ ، والجنّة حقّ والنّار حقّ ، وأنّ السّاعة لا
ريب فيها وأنّ الله يبعث من فى القبور ، وأنّ الله سبحانه هو الأوّل والآخر ، منه
البدء وإليه المصير.
امّا بعد ، غرض از
تنميق اين صحيفه صحيحه شرعيّه آن است كه وصىّ شرعىّ خود گردانيم سيادت وافادت پناه
، اعزّ اولاد روحانى ، امير سيّد احمد ، وافادت وافاضت پناه نورا محمّدا اصفهانى
كمالى ، وافادت پناه فقاهت دستگاه شيخ محمّد سعيد ، وشيخ محمّد سعيد نزد من اهمّ
است ، كه چون داعى حق را لبّيك اجابت گويم مبلغ پنجاه تومان تبريزى از متروكات من
در حجّ ونماز وروزه من صرف نمايند ، وثلث متروكات من از كتاب وغيره ممّا يطلق عليه
اسم الشّيء فى سبيل الله صرف كنند ، ومبلغ سى تومان تبريزى به معتقه من ، مسمّاة «زهره»
دهند ، ومبلغ سى تومان به موصوف به حاجى نوروز دهند ، وبيست تومان به ملّا طالب ،
ويرد كتابخانه در منزل اين جانب واقع در «شيخ يوسف بنّا» كه در دار السلطنه
اصفاهان است ملك «زهره» مذكوره است. ويردى كه حاجى نوروز در آن مى باشد بالا
وپائين از وى باشد ، وباقى خانه ملك فرزندم «أمّ البقاء» باشد. ومسمّاة «زهره»
مزبوره امين است ، قول او را معتبر دانند ، واحدى را برو حرفى نباشد. فمن بدّله
بعد ما سمعه فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه. وحرّر فى حائر الحسين ، عليهالسلام ، يوم الاثنين ، بيستم شهر شعبان المعظّم ، سنة أربعين بعد
الألف.
(كتابخانه مركزى
دانشگاه تهران ، مجموعه خطى ، ش ١٠٧٩ ، در ٢٢ سطر ، ص ٢٧٩)
|