
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام في الوجه ، واليد ، والعين ، والقدم ، والتنزل ،
والعزّة ، والرحمة ، والأمر ، والنفس ،
والذات ، والقوة ، والقدرة ، والأصابع
بسم الله الرّحمن
الرّحيم قال أبو محمد : قال الله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن : ٢٧]
فذهبت المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم.
وقال الآخرون :
وجه الله تعالى إنما يراد به : الله عزوجل.
قال أبو محمد :
وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته ، لما أبطلنا من القول بالتجسيم.
وقال أبو الهذيل :
وجه الله هو الله.
قال أبو محمد :
وهذا لا ينبغي أن يطلق ، لأنه تسمية ، وتسمية الله تعالى لا تجوز إلّا بنص ، ولكنا
نقول : وجه الله ليس هو غير الله تعالى ، ولا نرجع منه إلى شيء سوى الله تعالى. برهان
ذلك قول الله حاكيا عن من رضي قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ) [سورة الإنسان : ٩].
فصح يقينا : أنهم
لم يقصدوا غير الله تعالى به.
وقوله عزوجل : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [سورة البقرة :
١١٥].
إنما معناه : فثمّ
الله تعالى بعلمه ، وقبوله لمن توجّه إليه.
وقال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح : ١٠].
وقال تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [سورة ص : ٧٥].
وقال تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [سورة يس : ٧١].
وقال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [سورة المائدة :
٦٤].
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «المقسطون عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين» .
__________________
فذهبت المجسمة إلى
ما ذكرنا مما قد سلف من بطلان قولهم فيه.
وذهبت المعتزلة :
إلى أن «اليد» : النعمة. وهذا أيضا لا معنى له ، لأنها دعوى بلا برهان.
وقال الأشعري :
إنّ المراد بقول الله تعالى : «أيدينا» إنما معناه «اليدان» وأن ذكر «الأعين» ،
إنما معناه «عينان». وهذا باطل مدخل في قول المجسمة. بل نقول :
إنّ هذا إخبار عن
الله عزوجل ، لا يرجع من ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى. ونقرّ أن لله
تعالى ـ كما قال ـ يدا ، ويدين ، وأيد ، وعينا ، وأعينا كما قال عزوجل : (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) [سورة طه : ٣٩].
وقال تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [سورة الطور : ٤٨].
ولا يجوز لأحد أن
يصف الله تعالى بأنّ له عينين لأن النصّ لم يأت بذلك ونقول : إنّ المراد بما ذكرنا
الله عزوجل لا شيء غيره.
وقال تعالى حاكيا
عن قول قائل : (يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [سورة الزمر : ٥٦].
وهذا معناه فيما
يقصد به الله عزوجل وفي جانب عبادته. وصحّ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وكلتا
يديه يمين» و «عن يمين الرحمن» .
فهو مثل قوله : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [سورة النساء : ٣٩].
يريد «وما ملكتم».
ولما كانت اليمين
في لغة العرب : يراد بها الحظ للأفضل كما قال الشّماخ :
إذا ما راية
رفعت لمجد
|
|
تلقّاها عرابة
باليمين
|
يريد أنه يتلقاها
بالسعي الأعلى ، كان قوله : «وكلتا يديه يمين» أي كل ما يكون منه تعالى من الفضل
فهو الأعلى.
وكذلك صح عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّ جهنم لا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه»
__________________
وصح أيضا في
الحديث : «حتى
يضع فيها رجله».
ومعنى هذا ما قد
بينه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حديث آخر صحيح
أخبر فيه أن الله تعالى بعد يوم القيامة يخلق خلقا يدخلهم الجنة ، وأنه تعالى يقول
للجنّة والنار : لكل واحدة منكما ملؤها .
فمعنى القدم في
الحديث المذكور : إنما هو كما قال تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ
صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سورة يونس : ٢].
يريد سالف صدق ،
فمعناه الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم ، ومعنى «رجله» مثل ذلك ،
لأن «الرجل» : الجماعة في اللغة أي يضع فيها الجماعة التي سبق في علمه أنه يملأ
جهنم بها.
وكذلك الحديث
الصحيح أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إنّ
قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله تعالى» .
أي بين تدبيرين
ونعمتين من تدبير الله عزوجل ونعمه ، إمّا كفاية تسرّه ، وإمّا بلاء يأجره عليه.
والإصبع في اللغة : النعمة. وقلب كل أحد بين توفيق الله وجلاله ، وكلاهما حكمة.
وأخبر عليهالسلام : «إنّ
الله تعالى يبدو للمؤمنين يوم القيامة في غير الصورة التي عرفوه عليها» .
__________________
وهذا ظاهر بيّن ،
وهو أنّهم يرون صورة الحال من الهول والمخافة غير الذي كانوا يظنون في الدنيا.
وبرهان صحة هذا
القول : قوله عليهالسلام في الحديث المذكور : «غير الذي عرفتموه بها». وبالضرورة نعلم أننا لا نعلم لله عزوجل في الدنيا صورة أصلا فصحّ ما ذكرنا يقينا. وكذلك القول في
الحديث الثابت : «خلق
الله آدم على صورته» فهذه إضافة ملك ، يريد الصورة التي تخيرها الله عزوجل ليكون آدم مصورا عليها. وكلّ فاضل في طبقته ، فإنه ينسب
إلى الله عزوجل ، ويضاف إليه ، كما نقول بيت الله عزوجل عن الكعبة ، والبيوت كلها بيوت الله ولكن لا يطلق على شيء
منها هذا الاسم ، كما يطلق على المسجد الحرام ، وكما نقول في جبريل وعيسى عليهماالسلام «روح الله» والأرواح كلها لله تعالى ، ملك له ، وكما نقول
في ناقة صالح عليهالسلام : «ناقة الله». والنوق كلّها لله تعالى. فعلى هذا المعنى
قيل : على صوة الرحمن. والصور كلها لله ، وهي ملك له ، وخلق له. وقد رأيت لابن
فورك ، وغيره من الأشعرية في الكلام في هذا الحديث أنهم قالوا في معنى قوله عليهالسلام : «إنّ الله خلق آدم على صورته» إنما هو على صفة الرحمن من
الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه ، وأسجد له ملائكته كما أسجدهم
لنفسه ، وجعل له الأمر والنهي على ذرّيته كما كان لله ذلك.
قال أبو محمد :
هذا نص كلام أبي جعفر السمناني قاضي الموصل الضرير عن شيوخه حرفا حرفا ، وهذا كفر
مجرد لا مرية فيه ، لأنّه سوّى بين الله عزوجل وبين آدم في الحياة ، والعلم ، والاقتدار ، واجتماع صفات
الكمال فيهما والله يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. ثم
لم يقنعوا بهذا حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله تعالى. ولا خلاف بين أحد
من أهل الإسلام ، في أنّ سجودهم لله تعالى سجود عبادة ، ولآدم سجود تحية وإكرام.
ومن قال : إن
الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عزوجل فقد أشرك ، ثم زاد في الأمر والنهي لآدم على ذريته كما هو
لله عزوجل ، وهذا شرك لا خفاء به. ولو أردنا أن نعرف ما هي صفات
الكمال التي ذكر هذا الإنسان أنها اجتمعت في آدم
__________________
كما اجتمعت في
الله عزوجل؟ إن هذا الإلحاد والاستخفاف بالله تعالى ، لا ندري كيف
تكلم ، وأنطق لسانه من يعرف أن الله تعالى لم يكن له كفوا أحد ..؟ وو الله إن صفات
الكمال في الملائكة لأكثر منها في آدم ، وإنّ صفات الاثنين التي شاركوا فيها آدم عليهالسلام كصفات الجن ، ولا فرق بين الحياة والعلم والقوّة والتناسل
، وغير ذلك ، فالكل على هذا على صورة الله تعالى.
هذا القول الملعون
قائله. ونعوذ بالله من الضلال ، وكذلك ما صحّ عن النبي صلىاللهعليهوسلم عن يوم القيامة : «إنّ الله عزوجل يكشف
عن ساق ، فيخرون سجّدا» .
فهو كما قال عزوجل : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [سورة القلم : ٤٢].
وإنما هذا إخبار
عن شدة الأمر ، وهول الموقف ، كما يقال : «قد شمّرت الحرب عن ساقها».
قال جرير :
ألا ربّ سامي
الطّرف من آل مازن
|
|
إذا شمّرت عن
ساقها الحرب شمّرا
|
والعجب ممن ينكر
هذه الأخبار الصحاح ، وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصّا ، ولكن من ضاق علمه أنكر
ما لا علم له به ، وقد عاب الله هذا فقال :
(بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [سورة يونس : ٣٩].
واختلف الناس في
الأمر ، والرّحمة ، والعزّة.
فقال قوم : هي
صفات ذات لم تزل.
وقال آخرون : لم
يزل الله تعالى : هو الله العزيز ، الحكيم ، بذاته. وأمّا الرّحمة ، والأمر :
فمخلوقان.
قال أبو محمد :
والرجوع عند الاختلاف إنما هو إلى القرآن ، وكلام الرسول صلىاللهعليهوسلم ، قال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة النساء : ٥٩].
ففعلنا فوجدنا
الله تعالى يقول : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) [سورة النساء : ٤٧].
__________________
والمفعول مخلوق
بلا شك.
وقال الله عزوجل : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى
أَمْرِهِ) [سورة يوسف : ٢١].
وبلا شك في أن
المغلوب عليه مخلوق ، وأنه غير الغالب عليه.
وقال تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [سورة الطلاق : ١].
وهذا بيان جلي ،
لا إشكال فيه على أنّ الأمر محدث.
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله يحدث من أمره ما يشاء» .
فصح بيقين أن أمر
الله تعالى محدث مخلوق.
فقالت الأشعرية :
لم يزل الله تعالى آمرا لكل من أمره بما يأمره به إذا وجد.
قال أبو محمد :
وهذا باطل متيقن ، لأنه لو كان ذلك كذلك لكان الله عزوجل لم يزل آمرا لنا بالصلاة إلى بيت المقدس ، لم يزل آمرا لنا
لألّا نصلي إلى بيت المقدس لكن إلى الكعبة ، فيكون آمرا بالفعل للشيء والترك له
معا. وهذا تخليط جلّ عنه الله.
وأيضا : فإنه
يلزمهم في نهي الله تعالى عما نهى عنه : أنّه لم يزل ، لأنه لا فرق بين أمره تعالى
وبين نهيه.
فإن قالوا : بل
نهيه محدث ، وأمره قديم.
قلنا لهم : ما
قولكم فيما انعكس عليكم فقال : بل نهيه لم يزل ، وأما أمره فمحدث.
وكلا القولين
تخليط.
وأيضا : فإنهم
مقرّون بأن القديم لا يتغير ولا يبطل ، وقد صحّ أمره لنا بالصلاة إلى بيت المقدس ،
ثم قد بطل الأمر بذلك ، وعدم وانقطع ، فلو كان أمره تعالى لم يزل لوجب ألا يبطل
ولا يعدم ، وهذا كفر مجرد ممن أجازه.
وإن قالوا : إنّ
أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس باق أبدا لم يسقط ولا نسخ ، ولا بطل ، ولا
أحاله بأمر آخر ـ كفروا بلا خلاف.
والذي يدخل على
هذا القول الفاسد أكثر من هذا ، قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء :
٨٥].
__________________
فلو كان الأمر غير
مخلوق ولم يزل لكان الروح كذلك لأنه منه ، ومعاذ الله من هذا ، ولا خلاف بين
المسلمين في أنّ أرواحهم مخلوقة ، وكيف لا يكون كذلك وهي معذّبة في النار ، أو منعمة
في الجنة؟ وقال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [سورة النبأ : ٣٨].
وصحّ عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «سبّوح ، قدّوس ، ربّ الملائكة والرّوح» .
قال أبو محمد :
والمربوب مخلوق بلا شك ، فإن اعترض معترض بقول الله عزوجل : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤].
ورام بهذا إثبات
أن الخلق غير الأمر ، فلا حجة له في هذا لأن الله عزوجل قال : (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار :
٦ ـ ٨].
فقد فرّق الله
تعالى في هذه الآية بين الخلق والتسوية والتعديل والتصوير ولا خلاف في أنّ كلّ ذلك
خلق الله عزوجل ، مخلوق.
وقال تعالى : (خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [سورة الروم : ٤٠].
فعطف تعالى الرزق
، والإماتة ، والإحياء على الخلق بلفظة «ثم». فلو كان عطف الأمر على الخلق دليلا
على أنّ الأمر غير الخلق لوجب ولا بدّ أن يكون الرزق ، والإماتة ، والإحياء ،
والتصوير ، كلها غير الخلق ، وغير مخلوقات ، وهذا لا يقوله مسلم ، فبطل استدلالهم
على أنّ الأمر غير مخلوق لعطفه على الخلق. وقد عطف تعالى جبريل على الملائكة ،
فليس العطف على الشيء مخرجا له عنه إذا قام برهان على أنه داخل فيه. وقد قام برهان
النصّ بأنّ أمر الله تعالى مخلوق ، وأنه قدر مقدور ، مفعول.
وأما إذ لم يأت
برهان يدخل المعطوف في المعطوف عليه فهو غيره بلا شك هذا حكم اللغة وبالله تعالى
التوفيق.
وأمّا العزّة فقد
قال الله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الصافات :
١٨٠].
قال أبو محمد :
والمربوب مخلوق بلا شك ، وليس قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
__________________
جَمِيعاً) [سورة فاطر : ١٠]
بموجب أنّ العزّة لم تزل ، لأنه تعالى قال : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ
جَمِيعاً) [سورة الرعد : ٤٢].
وقال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [سورة الزمر : ٤٤].
وليس هذان النصّان
بلا خلاف موجبين أنّ الشفاعة غير مخلوقة ، إلّا أن هاهنا عزّة ليس غير الله تعالى
، فهي غير مخلوقة ، وهي التي صحّ عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنّ جبريل عليهالسلام حلف بها فقال : «وعزتك» في حديث خلق الجنة والنّار.
قال أبو محمد :
ومن الباطل أن يحلف جبريل بغير الله عزوجل.
وأمّا الرحمة :
فقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ
الله خلق مائة رحمة ، فقسم في عباده رحمة واحدة فبها يتراحمون ، ورفع التسع
والتسعين ليوم القيامة يرحم بها عباده» أو كما قال عليهالسلام.
وهذا رفع للإشكال
جملة في أنّ الرحمة مخلوقة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن إدخال الله تعالى الجنة
من أدخله فيها برحمته ، وأن بعثه محمدا صلىاللهعليهوسلم رحمة لمن آمن به ، وكل ذلك مخلوق بلا شك.
وأما القدرة ،
والقوة. فقد قال عزوجل : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [سورة فصلت : ١٥].
وحدثنا عبد الرحمن
بن عبد الله بن خالد الهمذاني ، حدثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ، حدثنا الفربري ،
حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا معن بن عيسى ، حدثنا عبد
الرحمن بن أبي الموال : سمعت محمد بن المنكدر ، يحدث عبد الله بن الحسن ، قال :
أخبرني جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعلم أصحابه الاستخارة ، فذكر الحديث وفيه : «اللهم إنّي أستخيرك
بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك» .
__________________
قال أبو محمد :
والقول في القدرة ، والقوّة ، كالقول في العلم سواء بسواء في اختلاف الناس على تلك
الأقوال وتلك الحجج ولا فرق ، وقولنا في هذا هو ما قلناه هنالك من أنّ القدرة
والقوّة حق لله تعالى ، وليستا غير الله تعالى ، ولا يقال هما الله تعالى. وقال
تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ) [سورة الأنعام :
١٢] وقال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) [سورة آل عمران :
٢٨].
فنفس الله تعالى
إخباره عنه لا عن شيء غيره أصلا ، فإن ذكر ذاكر قول الله عزوجل ، حكاية عن عيسى عليهالسلام أنه يقول لربه تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سورة المائدة :
١١٦]. إنما معناه بلا شك : ولا أعلم ما عندك ، وما في علمك. وصح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنه أخبر «إن الله تعالى يتنزل في كل ليلة إذا بقي ثلث
الليل إلى السماء الدنيا» .
قال أبو محمد :
وهذا إنما هو فعل يفعله الله عزوجل في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء ، وأنّ تلك الساعة
من مظانّ القبول والإجابة ، والمغفرة للمستغفرين ، والتائبين ، وهذا معهود في
اللغة ، تقول : نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي. ومن البرهان على أنه
صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم علّق التنزل المذكور بوقت محدود فصحّ أنه فعل محدث في ذلك
الوقت ، مفعول حينئذ. وقد علمنا أنّ ما لم ينزل فليس متعلقا بزمان البتة. وقد بيّن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور ـ ما ذلك الفعل المذكور ـ وهو
أنّه ذكر عليهالسلام : أن الله عزوجل يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك. وأيضا فإن ثلث الليل
مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب ، يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه ، فصح
ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك لأهل كل أفق.
وأمّا من جعل ذلك
نقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم بعون الله وتأييده. ولو انتقل
تعالى لكان محدودا ، مخلوقا ، مؤلفا ، شاغلا لمكان ، وهذه صفة المخلوقين ، تعالى
الله عن ذلك علوّا كبيرا.
__________________
وقد حمد الله عزوجل لإبراهيم خليله ، ورسوله ، وعبده صلىاللهعليهوسلم ، إذ بيّن لقومه بنقلة القمر أنه ليس ربّا. قال تعالى : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ) [سورة الأنعام :
٧٦].
وكل منتقل عن مكان
فهو آفل عنه. تعالى الله عن هذا. وكذلك القول في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا) [سورة الفجر : ٢٢].
وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [سورة البقرة :
٢١٠].
فهذا كله على ما
بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله عزوجل في ذلك اليوم ، يسمّى ذلك الفعل مجيئا وإتيانا ، وقد روينا
عن أحمد بن حنبل رحمهالله أنه قال : «وجاء ربّك» إنما معناه : وجاء أمر ربك.
قال أبو محمد : لا
تعقل الصفة والصفات في اللغة التي بها نزل القرآن وفي سائر اللغات ، وفي وجود العقل
، وضرورة الحسّ ، إلّا أعراضا محمولة في الموصوف بها ، فإذا جوّزوها غير أعراض
بخلاف المعهود فقد تحكّموا بلا دليل إذ إنما صاروا إلى مثل هذا فيما ورد به النص ،
ولم يرد قط نصّ بلفظ الصفات ، ولا بلفظ الصفة ، فمن المحال أن يؤتى بلفظ لا نصّ
فيه يعبّر به عن خلاف المعهود. وقال تعالى : (لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة النحل : ٦٠].
ثم قال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ
إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة النحل : ٧٤].
فلو ذكروا الأمثال مكان الصفات لذكر الله تعالى لفظة المثل لكان أولى. ثم قد بيّن
الله تعالى غاية البيان بأن قال : (فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ).
وقد أخبر تعالى :
بأن له المثل الأعلى ، فصحّ ضرورة أنه لا يضرب له مثل إلا ما أخبر به تعالى فقط ،
ولا يحل أن يزاد على ذلك شيء أصلا. وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الماهيّة
قال أبو محمد :
ذهبت طوائف من المعتزلة إلى أنّ الله تعالى لا ماهية له ، وذهب أهل السنة وضرار بن
عمرو إلى أنّ لله تعالى ماهية ، قال ضرار : لا يعلمها غيره.
قال أبو محمد :
والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق : أن له تعالى ماهية ، وهي إنّيّته نفسها ،
وأنه لا جواب لمن سأل : ما هو الباري ..؟ إلا ما أجاب به موسى عليهالسلام إذ سأله فرعون : وما ربّ العالمين ؟
نقول : إنه لا
جواب هاهنا إلّا في علم الله تعالى ، ولا عندنا إلّا ما أجاب به موسى عليهالسلام لأنّ الله تعالى حمد ذلك منه ، وصدّقه فيه. ولو لم يكن
جوابا صحيحا تاما لا نقص فيه لما حمده الله.
واحتجّ من أنكر
الماهية بأن قال : لا تخلو الماهية من أن تكون هي الله عزوجل ، أو تكون غيره ، فإن كانت غيره ، والماهية لم تزل ، فلم يزل
مع الله تعالى غيره ، وهذا كفر.
وإن كانت هي هو ،
وكنا لا نعلمها ، فقد صرنا لا نعلم الله عزوجل ، وهذا إقرار بأننا نجهله ، والجهل بالله تعالى كفر به.
وقالوا : لو أمكن
أن تكون له ماهية لكانت له كيفية.
قال أبو محمد :
وهذا من جهلهم بحدود الكلام ، ومواقع الأسماء على المسمّيات. وماهية الشيء إنما هي
الجواب في سؤال السائل بما هو. وهذا سؤال عن حقيقة الشيء وذاته ، فمن أبطل الماهية
فقد أبطل حقيقة الشيء المسئول عنه بما هو؟ لكن أول مراتب الإثبات فيما بيّنا هي
الإنية ، وهي إثبات وجود الشيء فقط ، وهذا أمر قد علمناه وأحطنا به ، ولا يتبعض
العلم بذلك فيعلم بعضه ويجهل بعضه ، بل يتلو
__________________
الإنية ، التي هي
جواب السائل بهل فيما بيّنا السؤال بما هو ..؟
وأمّا الباري عزوجل فالسؤال عنه بما هو ..؟ هو السؤال بهل ، وهو والجواب في
كليهما واحد. فنقول : هو حق واحد ، أحد ، أوّل ، لا يشبهه شيء من خلقه. وإنما
اختلفت الإنية والماهية في غير الله تعالى لاختلاف الأعراض في المسئول عنه ، وليس
الله تعالى كذلك ، ولا هو حامل أعراضا أصلا. هاهنا نقف ، ولا نعلم أكثر ، ولا
هاهنا أيضا شيء غير هذا إلّا ما علّمنا ربنا تعالى من سائر أسمائه ، كالعليم
والقدير ، والمؤمن ، والمهيمن ، وسائر أسمائه. وقد أخبر تعالى على لسان نبيه صلىاللهعليهوسلم : «أن
له تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحد» .
وقال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [سورة طه : ١١٠].
قال أبو محمد :
وهذا كلام صحيح على ظاهره ، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفي عن
الله عزوجل ، وواجب في غيره لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما
دونه تعالى ، ولا يحاط بما لا حدود له ، ولا عدد له ، فصحّ يقينا أننا نعلم الله عزوجل حقا ، ولا نحيط به علما ، كما قال تعالى.
قال أبو محمد :
فالإنيّة في الله تعالى هي الماهية التي أنكرها أهل الجهل بحقائق القرآن والسنن.
نحمد الله عزوجل على ما منّ به علينا من تيسيرنا لاتباع كلامه وتدبّره وطلب
سنن نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم والوقوف عندهما ، ومعرفتنا بأنّ العقل لا يحكم به على
خالقه ، لكن نفهم به أوامره تعالى ، ونميز به حقائق ما خلق فقط ، وما توفيقنا إلّا
بالله.
وأما قولهم : لو
كانت له ماهية لكانت له كيفية ، فكلام قوم جهال بالحقائق ، وقد بيّنا وبان لكل ذي
عقل أنّ السؤال بما هو الشيء؟ غير السؤال بكيف هو الشيء؟ وأن المسئول عنه بإحدى
اللفظتين المذكورتين ، غير المسئول عنه بالأخرى. وأن الجواب عن إحداهما غير الجواب
عن الأخرى.
وبيان ذلك : أن
السؤال بما هو الشيء ...؟ إنما هو سؤال عن ذاته واسمه. وأن السؤال بكيف ...؟ إنما
هو سؤال عن حاله وأعراضه. وهذا لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى ، فلاح الفرق
ظاهرا. وبالله تعالى التوفيق.
__________________
الكلام في السّخط ، والرضا ، والعدل ، والصدق ، والملك ،
والخلق ، والجود ، والإرادة ، والسّخاء ، والكرم ، وما يخبر عنه
تعالى بالقدرة عليه ، وكيف يصحّ السؤال في ذلك كله ..؟
قال أبو محمد :
نقول : لم يزل الله تعالى عالما بأنه سيسخط على الكفار ، وسيرضى على المؤمنين ،
وسيعذّب بالنّار من عصاه ، وسينعّم بالجنة من أطاعه ، وسيعدل إذا حكم ، وسيصدق إذا
أخبر ، ولم يزل عالما بأنه سيخلق ما يخلق ، وأنه رب ما يخلق من العالمين ، ومالك
كل شيء ، ويوم الدّين ، وأن له ملك كل ما يخلق ، لأن كل ما ذكرنا يقتضي وجود كلّ
ما علق به ، وكلّ ما علق به محدث لم يكن ثم كان. ولم يزل تعالى عليما بكل ذلك ،
وأنه سيكون كل ما يكون على ما هو كائن عليه إذا كوّنه. وأمّا الإرادة فقد أثبتها
قوم من صفات الذّات وقالوا : لم تزل الإرادة ، ولم يزل الله تعالى.
قال أبو محمد :
وهذا خطأ لبرهانين ضروريين.
أحدهما : أن الله
تعالى لم ينص على أنه مريد ، ولا على أن له إرادة ، وقد قدّمنا البرهان فيما سلف
من كتابنا هذا ، على أنه لا يجوز أن يشتق الله تعالى أسماء ولا صفات ، وأوردنا من
ذلك أنه لا يقال : إنه تعالى متبارك ، ويقال : تبارك الله ، ولا يقال إنه مستهزئ ،
ويقال : «الله يستهزىء بهم» ولا أنه عاقل. وكذلك لا يجوز أن يقال : إنه تعالى باق
، ولا دائم ، ولا ثابت ، ولا سخي ، ولا جواد لأنه تعالى لم يسمّ به نفسه ، لكن
يقال : المتعالي ، كما قال تعالى ويقال : هو الكريم الغنيّ ، ولا يقال : الموسر ،
ويقال : هو القوي ، ولا يقال : الجلد ، ويقال : لم يزل ولا يزال ، هو الأول ،
والآخر ، والظاهر ، والباطن ، ولا يقال هو : الخفي ، ولا الغائب ، ولا البارز ،
ولا المشتهر. ويقال : هو الغالب على أمره ، ولا يقال هو الظافر. والمعنى ، في كل
ما ذكرنا من اللغة واحد ، فمن أطلق عليه تعالى بعض هذه الصفات والأسماء ، ومنع من
بعضها فقد ألحد في أسمائه عزوجل ، وأقدم إقداما عظيما. نعوذ بالله من ذلك.
وأيضا : فإن
الإرادة من الله تعالى لو كانت لم تزل ، لكان المراد : لم يزل بنص
القرآن ، لأن الله
عزوجل قال : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢].
فأخبر تعالى : أنه
إذا أراد الشيء كان ، وأجمع المسلمون على تصويب قول من قال : ما شاء الله كان.
والمشيئة هي الإرادة ، فصح بما ذكرنا صحة لا شك فيها ، أنّ الواجب أن يقال : أراد
الله تعالى كما قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً).
ونقول : إنه تعالى
يريد ما أراد ، ولا يريد ما لم يرد ، كما قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة :
١٨٥].
وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ
يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [سورة المائدة :
٤١].
(وَإِذا أَرادَ اللهُ
بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) [سورة الرعد : ١١].
وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً) [سورة الأنعام :
١٢٥].
فنحن نقول كما قال
الله تعالى : أراد ، ويريد ، ولم يرد ، ولا يريد. ولا نقول : إن له تعالى إرادة ،
ولا أنه مريد ، لأنه لم يأت نصّ من الله تعالى بذلك ، ولا من رسوله صلىاللهعليهوسلم. ولا جاء ذلك قط من أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم.
وإنما أطلق هذا الإطلاق الفاحش قوم من الخوالف المسمّين بالمتكلمين ، الخوف عليهم
أشدّ من رجاء السلامة لهم ، لا قدم صدق لهم في الإسلام ، ولا في الورع ، ولا في
الاجتهاد ، في الخير ، ولا في العلم بالقرآن ، ولا بسنن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا بما أجمع المسلمون عليه ، ولا بما اختلفوا فيه ، ولا
بأقوال الصّحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ، ولا بحدود الكلام ، ولا بحقائق
ماهيات المخلوقات ، وكيفيّاتها ، فهم يتبعون ما تراءى لهم ، ويقتحمون المهالك بلا
هدى من الله عزوجل. ونعوذ بالله من ذلك ، وقد قال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) [سورة النساء : ٨٣].
فنص تعالى على أن
من لم يردّ ما اختلف فيه إلى كتابه ، وإلى كلام رسوله ، صلىاللهعليهوسلم ، وإلى إجماع العلماء من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
أجمعين ، ولا من سلك سبيلهم بعدهم ، فلم يعلم ما استنبطه بظنه ورأيه ، وليس ننكر
المحاجة على القصد إلى تبيين الحق وتبينه ، بل هذا هو العلم الفاضل الحسن وإنما
ننكر الإقدام في الدّين بغير برهان من قرآن أو سنة ، أو إجماع ، بعد أن أوجبه
برهان الحس ، وأوّل بديهة العقل ، والنتائج الثابتة من مقدماته الصحيحة ، من صحة
التوحيد ، والنبوة. فإذا ثبت ما
ذكرنا ، فضرورة
العقل توجب الوقوف عند جميع ما قاله لنا الرسول الذي بعثه الله تعالى إلينا ،
وأمرنا بطاعته ، وألّا يعترض عليه بالظنون الكاذبة ، والآراء الفاسدة ، والقياسات
السخيفة ، والتقليد المهلك.
فإن قال قائل :
وما الذي يمنع من أن نقول : لم يزل الله مريدا لما أراد كونه إذا كونه؟
قلنا وبالله تعالى
التوفيق : يمنع من ذلك أن الله عزوجل أخبر نصّا : بأنه إذا أراد شيئا كوّنه فكان ، فلو كان تعالى
لم يزل مريدا ، لكان لم يزل ما يريد وهذا إلحاد.
ويقال لهم أيضا :
ما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم ، فقال : لم يزل الله تعالى غير مريد لأن يخلق
حتى خلق ، وهذا لا انفكاك منه.
قال أبو محمد :
ولو أن قائلا يقول إن الخلق هو المراد كونه من الله تعالى فهو مراد الله تعالى ،
وهو الإرادة نفسها ، وأنه لا إرادة له إلّا ما خلق لما أنكرنا ذلك وإنما ننكر قول
من يجعل الإرادة صفة ذات لم تزل ، لأنه يصف الله تعالى بما لم يصف الله تعالى به
نفسه ، وقول من يجعلها صفة فعل ، وأنها غير الخلق لأنه يلزمه أن تلك الإرادة إمّا
مرادة مخلوقة ، وإما غير مرادة ، ولا مخلوقة.
فإن قال : هي
مرادة مخلوقة.
قيل له : أهي
مرادة بإرادة هي غيرها ، ومخلوقة بخلق هو غيرها ..؟ أم لا بإرادة ولا بخلق ..؟
فإن قال قائل : هي
مراده لا بإرادة ، أتى بالمحال الذي يبطله العقل ولم يأت به نصّ ، فيلزمه الوقوف
عنده ، وكذلك قوله : مخلوقة بغير خلق.
وإن قال : هي
مرادة بإرادة هي غيرها ، ومخلوقة بخلق هو غيرها ، لزمه في إرادة الإرادة ، وخلق
خلقها ما ألزمناه في الإرادة وفي خلقها وهكذا أبدا. وهذا يوجب وجود محدثات لا
نهاية لعددها أبدا ، وهذا هو قول الدّهرية الذي أبطله الله تعالى بضرورة العقل
والنص على ما بينا في صدر كتابنا هذا ، وبالله تعالى التوفيق.
وإن قال قائل : إن
الإرادة ليست مرادة ولا مخلوقة أتى بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير
مرادة محال ، غير موجود ، ولا يعقل ولا يحسّ فيما بيننا ، ولا بدليل فيما غاب
عنهم. فهو قول مجرد الدعوى ، فهو باطل ضرورة. وكذلك يلزمه إن قال : إنها محدثة غير
مخلوقة ما يلزم من قال : إن العالم محدث لا محدث له ، وقد تقدّم بطلان هذا القول
بالبراهين الضرورية. وبالله تعالى التوفيق.
وأمّا تسمية الله عزوجل جوادا ، أو سخيا أو وصفه تعالى : بأن له جودا ، وسخاء ،
فلا يحل ذلك البتة. ولو أن المعتزلة المقدمين على تسمية ربهم : جوادا ، وأن له
جودا ـ يكون لهم علم بلغة العرب ، أو بحقيقة الأسماء ، ووقوعها على المسمّيات ، أو
بمعاني الأسماء والصفات ـ ما أقدموا على هذه العظيمة ، ولا وقعوا في الاقتداء
بالكفار القائلين : إن علة خلق الله تعالى لما خلق إنما هي جوده حتى أوقعهم ذلك في
القول بأنّ العالم لم يزل ، ولكن المعتزلة قوم معذورون بالجهالة عذرا يبعدهم عن
الكفر ولا يخرجهم عن الإيمان لا عذرا يسقط عنهم الملامة لأن التعليم لهم معروض
ممكن ، ولكن لا هادي لمن أضلّ الله عزوجل. ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
والمانع لهم من ذلك وجهان :
أحدهما : أنه
تعالى لم يسمّ بذلك نفسه ولا وصف به نفسه ، ولا يحلّ لأحد أن يتعدّى حدود الله
تعالى ، لا سيما فيما لا دليل فيه إلّا النص فقط.
والوجه الثاني :
أنّ الجود ، والسخاء ، في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ، وبها نتفاهم
مرادنا إنما هما لفظان واقعان على بذل الفضل عن الحاجة ، لا يعبّر بلفظ الجود
والسخاء إلّا عن هذا المعنى ، وهذا المعنى مبعد عن الله عزوجل ، لأنه تعالى لا يحتاج إلى شيء فيكون له فضل يبذله ،
فيسمّى ببذله له سخيّا ، وجوادا ، ويوصف من أجل ذلك بجود وسخاء. أو يكون بمنعه
بخيلا ، أو شحيحا ، أو موصوفا ببخل أو بشحّ.
قال أبو محمد :
ولا يختلف اثنان من كل من في العالم في أن امرأ له ماء عذب حاضر كثير ، لا يحتاج
إليه ، وطعام عظيم فاضل به إليه ، ورأى رجلا من عرض الناس ، أو عبدا من عبيده يموت
جوعا أو عطشا فلم يسقه ، ولا أطعمه فإنه في غاية البخل والشح ، والقسوة ، والظلم ،
والله تعالى يرى كثيرا من عباده ، وأطفالا من أطفالهم لا ذنب لهم ، وهم يموتون
جوعا أو عطشا ، وعنده مخارج السماوات وخزائن الأرض ، ولا يرحمهم بنقطة ماء ، ولا
لقمة طعام حتى يموتوا جوعا وعطشا ولا يوصف لذلك ببخل ، ولا بظلم ، ولا بقسوة بل هو
أرحم الراحمين والرحمن ، والكريم ، الذي لا يظلم ، ولا يجور ، كما سمّى نفسه ـ
فبطل قياسهم الفاسد في الصفات الغائب على الشّاهد ، وبطل أن يوصف الله عزوجل بشيء من كل ذلك ، وليس لأحد أن يحيل الأسماء اللغوية عن
موضعها في اللغة إلا أن يأتي نصّ بإحالة شيء من ذلك عن موضوعه فيوقف عنده ، ومن
تعدّى هذا الحكم فإنه مبطل للتفاهم كله ، نعم ، وللحقائق بأسرها ،
لأنه لا يعجز أحد
أن يسمّي الحقّ باطلا ، والباطل حقا ، وأن يحيل الأسماء كلّها عن موضوعها ، وهذا
خروج عن الشرائع والمعقول. ولكنّا نقول : إنه كريم ، كما قال تعالى. ولا يبعد عنّا
أن تسمى نعم الله تعالى على عباده كرما ، وأن الله تعالى كريم ـ نستحسن إطلاق ذلك
، ونسميها أيضا فضلا ـ قال الله عزوجل : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة الحديد : ٢١].
وقد ثبت النص بأن له تعالى كرما.
وحدّثنا عبد
الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ، أنبأنا الفربري ، حدثنا
البخاري : قال لي خليفة بن خياط : حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد عن قتادة ، عن أنس بن
مالك ، وعن معتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي
صلىاللهعليهوسلم قال : «لا
يزال يلقى فيها ، وتقول هل من مزيد ، حتى يضع فيها رب العالمين قدمه ، فيزوى بعضها
إلى بعض وتقول قد قد ، وعزتك ، وكرمك» .
قال أبو محمد :
وقد اضطرب الناس في السؤال عن أشياء ذكروها وسألوا : هل يقدر الله عليها أم لا؟
واضطربوا أيضا في
الجواب عن ذلك.
قال أبو محمد :
ونحن إن شاء الله تعالى مبينون بحوله وقوته وجه تحقيق السؤال عن ذلك ، وتحقيق
الجواب فيه دون خلط ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
فنقول وبالله
تعالى التوفيق : إنّ السؤال إذا حقق بلفظ يفهم السائل منه مراد نفسه ، ويفهم
المسئول مراد السائل عنه فهو سؤال صحيح والجواب عنه لازم ، ومن أجاب عنه بأن هذا
سؤال فاسد ، وأنه محال فإنما هو جاهل بالجواب ، منقطع متسلل عنه.
__________________
وأما السؤال الذي
يفسد بعضه بعضا ، وينقض آخره أوله فهو سؤال فاسد لم يحقق بعد ، وما لم يحقق السؤال
عنه فلا يسأل عنه ، وما لا يسأل عنه فلا يلزم فيه جواب على تمثله ، فهاتان قضيتان
جامعتان ، وكافيتان في هذا المعنى ، لا يشذ عنهما شيء منه إلّا أنه لا بدّ من جواب
ببيان حوالته لا على تحقيقه ، ولا على تشكله ولا على توهمه. وبالله تعالى التوفيق.
ثم نحدّ المسئول
عنه في هذا الباب بحدّ جامع بحول الله وقدرته ، فيرتفع الإشكال في هذه المسألة إن
شاء الله. فنقول وبالله تعالى نتأيّد :
إنّ الشيء المسئول
عنه في هذا الباب إن كان إنما سأل السائل عن القدرة على إحداث فعل مبتدأ ، أو على
إعدام فعل مبتدأ فالمسئول عنه مقدور عليه ، ولا نحاشي شيئا ، والسؤال صحيح ،
والجواب عنه بنعم لازم.
وإن كان المسئول
عنه ما لا ابتداء له : فالسؤال عن تغييره أو إحداثه أو إعدامه سؤال متفاسد ، لا
يمكّن السائل عنه فهم معنى سؤاله ، ولا تحقيق سؤاله وما كان هكذا فلا يلزم الجواب
عنه على تحقيقه ، ولا على تشكله ، لأن الجواب عن التشكل لا يكون إلّا عن جواب عن
سؤال ، وليس هاهنا سؤال أصلا ، فلا جواب.
ثم نقول وبالله
تعالى التوفيق : إنّ من الواجب أن نبيّن بحول الله تعالى وقوّته : ما المحال ..؟
وعلى أي شيء تقع هذه اللفظة؟ وعن ما ذا يعبّر عنها ..؟ فإن من قطع بشيء ولم يعرف
تحقيق معناه فهو في غمرات من الجهل ، فنقول وبالله تعالى نتأيّد :
إنّ المحال ينقسم
أربعة أقسام لا خامس لها :
أحدها : محال
بالإضافة.
والثاني : محال
بالوجود.
والثالث : محال
فيما بيننا في بنية العقل عندنا.
والرابع : محال
مطلق.
فالمحال بالإضافة
مثل : نبات اللحية لابن ثلاث سنين ، وإحباله امرأة ، وكلام الأبله الغبي في دقائق
المنطق ، وصوغه الشعر العجيب ، وما أشبه هذا. فهذه المعاني موجودة في العالم ممن
هي ممكنة منه ، ممتنعة من غيرهم.
__________________
وأما المحال في
الوجود : فكانقلاب الجماد حيوانا ، والحيوان جمادا ، أو حيوانا آخر ، وكنطق الحجر
، واختراع الأجسام ، وما أشبه ذلك ، فإن هذا النوع ليس ممكنا عندنا البتة ، ولا
موجودا ، ولكنه متوهم في العقل ، متشكل في النفس كيف يكون لو كان. وبهذين القسمين
يأتي الأنبياء عليهمالسلام في معجزاتهم الدالة على صدقهم في النبوة.
وأمّا المحال فيما
بيننا في بنية العقل : فككون المرء قائما قاعدا معا في حين واحد وكسؤال السائل :
هل يقدر الله تعالى على أن يجعل المرء قاعدا لا قاعدا معا ..؟ وسائر ما لا يتشكل
في العقل فيما يفعل فيه التأثير لو أمكن فيما دون الباري عزوجل ـ فهذه الوجوه
الثلاثة من سأل عنها أيقدر الله تعالى عليها فهو سؤال صحيح مفهوم ، معروف وجهه ،
يلزم الجواب عنه بنعم إن الله قادر على ذلك كله. إلا أن المحال في بنية العقل فيما
بيننا ، لا يكون البتة في هذا العالم لا معجزة لنبي ولا غير ذلك البتة ، هذا واقع
في النفس بالضرورة ، ولا يبعد أن يكون الله تعالى يفعل هذا في عالم له آخر.
وأما المحال
المطلق : فهو كل سؤال أوجب على ذات الباري تغييرا فهذا هو المحال لعينه الذي ينقض
بعضه بعضا ، ويفسد آخره أوّله ، وهذا النوع لم يزل محالا في علم الله تعالى ، ولا
هو ممكن فهمه لأحد ، وما كان هكذا فليس سؤالا ، ولا سأل سائله عن معنى مفهوم أصلا
، وإذا لم يسأل فلا يقتضي جوابا على تحقيقه أو توهمه ، لكن يقتضي جوابا بنعم أو
بلا ، لئلّا ينسب بذلك إلى وصفه تعالى بعدم القدرة الذي هو العجز بوجهه أصلا ، وإن
كنا موقنين بضرورة العقل بأن الله تعالى لم يفعله قط ، ولا يفعله أبدا. وهذا مثل
من سأل : أيقدر الله تعالى على نفسه ، أو على أن يجهل ، أو على أن يعجز ، أو على
أن يحدث مثله ..؟ أو على إحداث ما لا أول له ..؟ فهذه سؤالات يفسد بعضها بعضا تشبه
كلام الممرورين ، والمجانين ، وكلام من لا يفهم. وهذا النوع لم يزل الله تعالى
يعلمه محالا ممتنعا باطلا قبل حدوث العقل وبعد حدوثه.
وأما المحال في
العقل فهو القسم الثالث الذي ذكرنا قبل ، فإن العقل مخلوق ، محدث خلقه الله تعالى
بعد أن لم يكن. وإنما هو قوة من قوى النفس ، عرض محمول فيها أحدثه الله تعالى ،
وأحدث رتبة على ما هي عليه ، مختارا لذلك تعالى. وبضرورة العقل نعلم أن من اخترع
شيئا لم يكن قط لا على مثال سلف ولا عن ضرورة أوجبت عليه اختراعه لكن اختار أن
يفعله ، فإنه قادر على ترك اختراعه ، قادر على اختراع غيره مثله ، أو خلافه ، ولا
فرق بين قدرته على بعض ذلك وبين قدرته على سائره ، فكل ما
خلقه تعالى محال
في العقل فقط ، فإنما كان محالا مذ جعله الله تعالى محالا ، وحين أحدث صورة العقل
لا قبل ذلك ، فلو شاء الله تعالى ألا يجعله محالا لما كان محالا.
وكذلك من سأل هل
يقدر الله تعالى على أن يجعل شيئا موجودا معدوما معا في وقت واحد ..؟ أو جسما في
مكانين ..؟ أو جسمين في مكان ..؟ وكل ما أشبه هذا ـ فهو سؤال صحيح ، والله تعالى
قادر على كل ذلك ، لو شاء أن يكوّنه لكوّنه. ومن البرهان على ذلك ما نراه في
منامنا مما لا شك أنه محال في حال اليقظة ممتنع يقينا ، ونراه في منامنا ممكنا
محسوسا مرئيا ببصر النفس ، مسموعا بسمعنا ، فبالضرورة يدري كل ذي حسّ سليم أن الذي
جعل المحال ممكنا في النوم قادر على أن يوجده ممكنا في اليقظة.
وكل من سأل : هل
الله تعالى قادر على أن يتخذ ولدا ..؟
فالجواب : أنه تعالى
قادر على ذلك ، وقد نصّ عزوجل على ذلك في القرآن قال الله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ) [سورة الزمر : ٤].
وقال تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً
لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [سورة الأنبياء :
١٧].
قال أبو محمد :
ومن لم يطلق أن الله عزوجل يقدر على ذلك ، وحسّن قوله ، بأن قال لا يوصف الله بالقدرة
على ذلك فقد قطع بأن الله عزوجل لا يقدر ، إذ لا واسطة فيمن يقدر ولا يقدر البتة ، فلا بدّ
من أحدهما ضرورة ، فمن قدر على شيء ما ، ثم وصف في شيء آخر بأنه لا يقدر عليه فقد
خرج من أنه لا يقدر عليه ، وإذا وصف في شيء بأنه لا يقدر عليه ، فقد خرج بأنه يقدر
عليه ، وإذا وجب أنه لا يقدر عليه فقد ثبت أنه عاجز ضرورة عما لا يقدر عليه ، ولا
بدّ. ومن وصف الله عزوجل بالعجز فقد كفر.
وأيضا فإن من قال
: لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال فقد جعل قدرته سبحانه وتعالى متناهية ،
وجعل قوته عزوجل منقطعة محدودة وملزومة بذلك ضرورة أن قوته تعالى متناهية ،
عرض ، وأنه تعالى فاعل بطبيعة فيه متناهية ، وهذا تحديد للباري عزوجل وكفر به مجرد وإدخال له في جملة المخلوقين.
ومعنى قولنا : إن
الله تعالى يقدر على المعلوم والمحال إنما هو على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
وهو أن سؤال
السائل عن المحال ، والمعدوم ـ هو بلا شك سؤال موجود مسموع ملفوظ به. فجوابنا له
هو أننا حققنا : أن الله تعالى قادر على أن يخلق لذلك اللفظ معنى يوجده ، وهذا
جواب صحيح معقول ، وهذا قولنا وليس إلّا هذا القول. وقول عليّ الأسواري الذي يقول
: إن الله تعالى لا يقدر على غير ما علم أنه يفعله جملة.
وأمّا كل من
خالفنا ، وخالف الأسواريّ فلا بد له من الرجوع إلى قولنا أو الوقوع في قول
الأسواري ، وإن زعم أنه متى وصف الله تعالى بالقدرة على شيء لم يفعله من إبراء
مريض أو خلق شيء ، أو تحريك شيء ساكن ، فإنه قد وصفه بالقدرة على إحالة علمه ،
وتكذيب حكمه ، وهذا هو المحال ـ فقد قال بقولنا ولا بدّ ، أو بقول الأسواري ولا
بدّ.
وأما كل سؤال أدّى
إلى القول في ذاته عزوجل ـ فإننا نقول : إن
كل ما سأل عنه سائل لا يحاشي شيئا فإن الله تعالى قادر عليه ، غير عاجز عنه ، إلّا
أن من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها ، ولا يحلّ النطق بها ، ولا يحل الجلوس حيث
يلفظ بها ، وهي كل ما فيها كفر بالباري عزوجل أو استخفاف به ، أو بنبي من أنبيائه ، أو بملك من ملائكته
، أو بآية من آياته.
وقد قال تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها
فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً
مِثْلُهُمْ) [سورة النساء :
١٤٠].
وقال عزوجل : (قُلْ أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [سورة التوبة : ٦٥
، ٦٦].
قال أبو محمد :
ولو أن سائلا سألنا : هل الله قادر على أن يمسخ هذا الكافر قردا أو كلبا ..؟
لقلنا : نعم.
ولو أنه أراد أن
يسألنا هذا السؤال فيمن يلزمنا تعظيمه من ملك أو نبي ، أو صاحب نبي ، أو مسلم فاضل
، لم يحل لنا الاستماع إليه. ولكنا قد أجبناه جوابا كافيا ، بأن الله قادر على كل
ما يسأل عنه ، لا يحاشي شيئا ، فمن تمادى بعد هذا الجواب الكافي ـ فإنما غرضه
التشنيع فقط والإيهام ، وهذا من دلائل العجز في المناظرة ، والانقطاع. والحمد لله
رب العالمين.
قال أبو محمد :
والناس في هذا الباب على أقسام :
فمبدؤها من الطرف
قول من قال : لا يوصف الله تعالى بالقدرة على غير ما يفعل ، وهو قول عليّ
الأسواريّ أحد شيوخ المعتزلة. واعلموا أنه لا بد لكل من منع أن يقدر الله تعالى
على محال ، أو على شيء مما يسأل عنه ، فلا بد له ضرورة من المصير إلى هذا القول أو
ظهور تناقضه وتفاسد قوله ، وخروجه إلى المحال البحت الذي فرّ عنه بزعمه على ما نبينه
بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد :
وقد قالت طائفة بمعنى هذا القول إلّا أنها استشنعت عبارة الأسواريّ فقالت : إن
الله تعالى قادر على كل شيء. ولكن إن سألنا سائل فقال : أيقدر الله تعالى على أمر
كذا مع تقدّم علمه بأنه لا يكون ..؟ قالوا : فالجواب أنه تعالى لا يوصف بالقدرة
على ذلك.
قال أبو محمد :
وهذا الإخفاء لأنهم أوجبوا قدرته وأعدموها على شيء واحد ، وهو الباطل بلا خفاء.
وقالت طائفة : إنّ
الله تعالى قادر على غير ما فعل إلّا أنه لا يوصف بالقدرة على أصلح مما فعل بعباده
، وهو قول جمهور المعتزلة.
وقالت طائفة : إن
الله تعالى قادر على غير ما فعل إلّا أنه لا يقدر على الظلم ، ولا على الجور ، ولا
على اتخاذ الولد ، ولا على إظهار معجزة على يد كذّاب ، ولا على شيء من المحال ،
ولا على نسخ التوحيد ـ وهذا قول النظامي وأصحابه ، والأشعرية ، وإن كانوا مختلفين
في ماهية الظلم.
وقالت طائفة : إن
الله تعالى قادر على غير ما فعل ، وعلى الجور ، والظلم ، والكذب ، إلا أنه لا يقدر
على المحال مثل : أن يجعل الشيء معدوما موجودا ما ، وقائما قاعدا معا ، أو في
مكانين معا ، وهذا هو قول البلخي ، وطوائف من المعتزلة.
قال أبو محمد :
والذي عليه أهل الإسلام كلهم ومن سلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قبل أن
تحدث هذه الضلالات وهذا الإقدام الشنيع الذي لو لا ضلال من ضلّ به ، ما انطلقت
ألسنتنا به ، ولا سمحت أيدينا بكتابته ، ولكنا نحكيه حكاية الله عن ضلال من ضل ،
فقال : «المسيح ابن الله» ، و «العزيز ابن الله» ، و «يد الله مغلولة» ، و «الله
فقير ونحن أغنياء» ، و «إذ قال للإنسان اكفر». وكما أنذر رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بأن الناس لا يزالون يتساءلون فيما بينهم ، حتى يقولوا :
هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ..؟»
__________________
فقول أهل الإسلام
عامتهم وخاصتهم قبل ما ذكرنا ، هو أن الله تعالى : فعّال لما يشاء ، وعلى كل شيء
قدير ، وبهذا جاء القرآن ، وبهذا نقول. وكل مسئول عنه ، وإن بلغ الغاية من المحال
فهم أو لم يفهم» فالله تعالى قادر عليه.
قال أبو محمد :
وقال لي بعضهم : إنّ القرآن إنما جاء بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ، ونحن لا ننكر
هذا ، وإنما نمنع أن يوصف الله تعالى بالقدرة على ما لا يشاء ، وبالقدرة على ما
ليس بشيء. فقلت له : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [سورة الرعد : ٢٦].
فعمّ عزوجل ، ولم يخص ، فلا يحل لأحد تخصيص قدرته تعالى أصلا.
وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ
يُنَزِّلَ آيَةً) [سورة الأنعام :
٣٧].
وقال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [سورة الحاقة : ٤٤].
وقال تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ
نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [سورة الواقعة :
٦١].
وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً
مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [سورة الزخرف : ٣٣].
وقال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [سورة يس : ٨١].
وقال تعالى عن نوح
النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : (اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهاراً) [سورة نوح : ١٠ ،
١١ ، ١٢].
مع قوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ
إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [سورة هود : ٣٦].
وقال تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [سورة الأنعام :
٦٥].
__________________
وقال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [سورة التحريم : ٥].
فهذا نص على أنه
قادر أن يفعل خلاف ما قد سبق في علمه من هدى من علم. أنه لا يهديه ومن تعذيب من
علم أنه لا يعذّب أبدا ، وتبديل أزواج قد علم أنه لا يبدّلهن أبدا ، وكل هذا نص
على قدرته تعالى على إبطال علمه الذي لم يزل ، وعلى تكذيب قوله الذي لا يكذب أبدا.
ومثل هذا في القرآن كثير. فمن أعجب قولا ، وأتم ضلالة ممن يوجب بقوله : أن الله
تعالى كذب ، وأنه تعالى مع ذلك غير قادر على الكذب. مع قوله تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [سورة القمر : ٥٥].
وقال تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [سورة الروم : ٥٤].
وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) [سورة النساء :
١٤٩].
فأطلق تعالى لنفسه
القدرة ، وعمّ ولم يخص ، فلا يجوز تخصيص قدرته بوجه من الوجوه.
قال أبو محمد :
فإن قال قائل منهم : فما يؤمنكم إذ هو تعالى قادر على الظلم والكذب والمحال من أن
يكون قد فعله ، أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ، ولا تصح ، ويكون كل ما أخبرنا
به كذبا؟
قال أبو محمد :
وجوابنا في هذا هو أن الذي أمّننا من ذلك ضرورة المعرفة التي قد وضعها الله تعالى
في نفوسنا ، كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من اثنين ، وأن المميّز مميّز ، وأن البغال لا
تتكلم في النحو ، والشعر ، والفلسفة ، وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورة ،
وإلّا فليخبرونا ما الذي أمّنهم ما ذكرنا ، ولعله قد كان أو سيكون ولا فرق ، فإذ
قد صحّ إطباق كل من يقر بالله من جميع الملل أنّ هذا العالم ليس في بنيته كون
المحال المذكور فيه مع موافقته أكثر المخالفين لنا ـ على أن هذا كله ـ فإنّ الله
تعالى قادر عليه ولكن لا يفعله ، فالذي أمّنهم من أنه تعالى يفعله هو الذي أمننا
من أن يفعل ما قالوا لنا فيه لعله قد فعله ، أو سيفعله ، ولا فرق ـ وأن هذا العالم
ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه ، وأنه تعالى لا يجور ولا يكذب.
والضرورة الموجبة
علينا القول بحدوث العالم ، وبأن له صانعا لا يشبهه لم يزل ، وبأن ما ظهر من
الأنبياء عليهمالسلام فمن عنده تعالى ، وأن تلك المعجزات موجبة تصديقهم ، وهم
أخبرونا أنّ الله تعالى لا يكذب ولا يظلم ، وأنه تعالى قد أخبرنا بأنه قد تمت كلماته
صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وأنه تعالى قادر ، وليس كل ما يقدر عليه فعله ، وأيضا
فإن كان السائل عن هذا متدينا بدين الإسلام أو النصارى ، أو اليهود أو
المجوس ، أو
الصابئين أو البراهمة ، أو كل من يدين بأن الله حق فإنهم مجمعون على أن الله تعالى
لا يظلم ، ولا يكذب. وكل من نفى الخالق فليس فيهم أحد يقول إنه يظلم أو يكذب ، فقد
صح إطباق جميع سكان الأرض قديما وحديثا لا نحاشي أحدا على أنّ الله تعالى لا يظلم
ولا يكذب ، فلو لم يكونوا مضطرين إلى القول بهذا لوجد فيهم واحد يقول بخلاف ذلك ،
ومن المحال أن تجتمع طبائعهم كلهم على هذا إلّا لضرورة وضعها الله عزوجل في نفوسهم كضرورتهم إلى معرفة ما أدركوه بحواسهم وبداية
عقولهم.
وأيضا فنقول لمن
سأل هذا السؤال : أيمكن أن يكون إنسان في الناس قد توسوس ، وأوهمته ظنونه الكاذبة
، وتخيله الفاسد ، وهوسه أن الأشياء على خلاف ما هي عليه ..؟ وأن الناس على خلاف
ما هم عليه ..؟ ويتصوّر عنده هذا الظنّ الفاسد أنه حق لا شك فيه ، أم ليس يمكن أن
يكون هذا في العالم ..؟
فإن قالوا : لا
يمكن أن يكون هذا في العالم ـ أتوا بالمحال البحت ، وكابروا.
فإن قالوا : بل هو
ممكن موجود في الناس كثير من هذه صفته.
قيل لهم : فما
يؤمنكم من أن تكونوا بهذه الصفة ..؟
ونقول لمن يؤمن
بالله العظيم منهم : أيقدر الله تعالى على أن يحيل حواسّك كما فعل بصاحب الصفراء
الذي يجد العسل مرّا كالعلقم ، وبصاحب ابتداء الماء النازل في عينيه فيرى خيالات
لا حقيقة لها ، وكمن في سمعه آفة فهو يسمع ظنينا لا حقيقة له أم لا يقدر ..؟
فإن قالوا : يقدر.
قيل له : فما
يؤمنك من أنك بهذه الصفة ..؟
فإن قالوا : كل من
يحضر يخبرني أنّي لست من أهل هذه الصفة.
قيل له : وهكذا
يظن ذلك الموسوس ، ولا فرق ، فإنه لا بدّ أن يقول : إنّي أرى أنّي بخلاف هذه الصفة
ضرورة ، وعلما يقينا.
قلنا له بمثل هذا
سواء بسواء ، آمنا أن يكون الله تعالى يظلم أو يكذب أو يحيل طبيعة لغير نبيّ ، أو
يحيل ما لا يستحيل ولا فرق.
قال أبو محمد :
ويقال لجميع هذه الفرق ، حاشا من قال بقول عليّ الأسواري : هل شنعتم على عليّ
الأسواري إلا أنه وصف الله تعالى : بأنه لا يقدر على غير ما فعل ..؟ فقد وصفه
بالعجز ولا بدّ.
فلا بدّ من : نعم.
فيقال لهم : فإنّ
هذا نفسه يلزمكم في قوله : بأنه لا يقدر على الظلم ، والكذب ولا على المحال ، ولا
على نفسه ، ولا على أصلح ممّا فعل بعباده ضرورة. ولا ينفكون من ذلك.
فإن قلتم : إنّ هذا
لا يلزمنا.
قيل لكم : ولا
يعجز عليّ الأسواريّ عن أن يقول أيضا : إنّ هذا لا يلزمني وهذا ما لا انفكاك منه.
ويقال لهم : إذا
أخبر الله عزوجل أنه سيقيم السّاعة ، وسيميت زيدا يوم كذا ، أيقدر على أن
لا يميته في ذلك اليوم ، وعلى أن يميته قبل ذلك اليوم أم لا ..؟
فإن قالوا : لا.
لحقوا بقول الأسواريّ.
وإن قالوا : نعم.
أقرّوا بأنه يقدر على تكذيب قوله ، وهذا هو القدرة على الكذب الذي أبطلوا.
ونسألهم أيضا :
إذا أمرنا الله تعالى بالدعاء ومنه ما قدم علم أنه لا يجيب الدّاعي به هل أمرنا
بالدّعاء من ذلك فيما لا يستطيع ولا يقدر عليه ..؟ أم فيما يقدر عليه ..؟
فإن قالوا : فيما
لا يقدر عليه ، لحقوا بالأسواري ، وأوجبوا على الله تعالى القول بالمحال ، إذ
زعموا أنه أمرنا بأن نرغب إليه في أن يفعل ما لا يقدر عليه ـ تعالى الله عن ذلك.
وإن قالوا : بل
فيما يقدر عليه ، أقرّوا أنه يقدر على إبطال علمه. والذي يدخل على قولهم هذا الذي
هو الكفر المجرد من إبطال دلائل التوحيد وإبطال حدوث العالم وخلاف لإجماع غير
قليل.
فإن قال عليّ
الأسواري : لا يلزمني إثبات العجز بنفي القدرة بل أنفي عنه الأمرين جميعا كما قلتم
أنتم : إنّ نفيكم عنه تعالى الحركة لا يلزمه السكون ، ونفي السكون لا يلزمه الحركة
، كما تنفون عنه الضدين جميعا من الشجاعة والجبن وسائر الصفات التي نفيتموها ،
وأضدادها.
قال أبو محمد :
فنقول وبالله التوفيق : إن هذا تمويه ضعيف لأننا نحن في نفي هذه الصفات عنه تعالى
جارون على سنن واحد في نفي جميع صفات المخلوقين عنه كلّها ، وأنتم قد أثبتم له
قدرة على أشياء ، ونفيتم عنه قدرة على غيرها ، فثبت ضرورة إثبات العجز عنه في
الأشياء التي وصفتموها بعدم القدرة عليها ، وأما نحن فلو وصفناه
بالشجاعة في شيء
أو بالحركة في وجه ما ، أو وصفناه بالعقل في شيء ما ثم نفينا عنه هذه الصفات في
وجه آخر للزمنا حيث وصفناه بشيء منها نفي ضدّها وللزمنا حيث نفينا عنه ضدّها أن
نثبتها له ولا بدّ ، كما فعلنا في الرّحمة والسخط فإننا إذ وصفناه بالرحمة لأبي
بكر الصديق رضي الله عنه ، فقد نفينا عنه عزوجل السخط عليه. وإذ نفينا عنه الرحمة لأبي جهل فقد أثبتنا له
بذلك السخط عليه ، وهذا برهان ضروري. فإن موّه مموّه فقال : ألستم تقولون إنّ الله
تعالى لا يعلم الحيّ ميتا ، فهل تثبتون له بنفي العلم هاهنا الجهل؟
قلنا له : وهذا
أيضا تمويه آخر ، بل أوجبنا له بذلك العلم حقّا ، لأننا إذا نفينا عنه العلم بخلاف
ما الأشياء ، أثبتنا له العلم بحقيقة ما الأشياء. وهل هاهنا شيء يجهل أصلا ..؟
وإنما الجهل بشيء حق لا يعلمه الجاهل فقط.
قال أبو محمد :
وقد قلنا لمن ناظرنا منهم : إنكم تثبتون لله تعالى علما لم يزل ، فأخبرونا هل يقدر
الله تعالى على أن يميت اليوم من علمه أنه لا يميته إلّا غدا ..؟ وهل يقدر ربكم
على أن يزيل الآن بنية عن مكان قد علم أنها لا تزال إلّا غدا ..؟ وعلى رحمة من مات
مشركا ، مع قوله تعالى : إنه لا يرحمه أصلا ، أم لا يقدر على ذلك ..؟
فقال لنا منهم
قائل : إنه يقدر على ذلك.
فقلنا له : قد
أقررتم أنه يقدر على إحالة علمه الذي لم يزل ، وعلى تكذيب كلامه وهذا إبطال قولكم
صراحا.
وقال منهم قائلون
: إنه تعالى قادر على ذلك ، ولو فعله لكان قد سبق في علمه أنه سيكون كما فعله.
قلنا لهم : لم
نسألكم إلّا هل يقدر على ذلك مع تقدّم علمه أنه لا يكون ..؟ فضجروا هاهنا ،
وانقطعوا ، ولجأ بعضهم إلى القطع بقول الأسواري في أنه لا يقدر على ذلك.
فقلنا لهم : إذا
كان تعالى لا يقدر على شيء غير ما فعل ، ولا على نقل بنية عن موضعها ، فهو إذا
مضطر مجبر ، أو ذو طبيعة جارية على سنن واحد!! نعم. ويلزم الأسواري ومن قال بقوله
أن استطاعة الله ليست قبل فعله البتة ، وإنما هي مع فعله ولا بد ، لأنه لو كان
مستطيعا قبل الفعل لكان قادرا على أن يفعل في الوقت الذي علم أنه لا يفعل فيه ،
وهذا خلاف قوله نصا. وهو يقول : إن الإنسان مستطيع قبل الفعل ، فهو أتم طاقة وقدرة
من الله تعالى ويلزمه أيضا القول بحدوث قدرة الله تعالى ، ولا بدّ ، إذ لو
كانت قدرته لم تزل
لكان قادرا على الفعل قبل أن يفعل ولا بدّ. وهذا خلاف قوله ، وهذا كفر مجرد إذ
يقول : إن الإنسان قادر على غير ما علم الله تعالى أنه يفعله ، والله تعالى لا
يقدر على ذلك ، فإن هؤلاء جمعوا إلى تعجيز ربهم تعالى القول بأنهم أقوى منه تعالى.
وهذا أشد ما يكون من الكفر والشرك ، والحماقة.
قال أبو محمد :
وكلهم يقول بهذا المعنى ، لأن جميعهم يقول : إن كل مخلوق فهو قادر على كل ما يفعله
، من اتخاذ ولد ، وحركة وسكون ، وغير ذلك ، وإن الباري لا يقدر على شيء من ذلك.
وهذا كفر وحشيّ جدّا.
قال أبو محمد :
وسألناهم أيضا فقلنا لهم : أتقرون أن الله تعالى لم يزل قادرا على أن يخلق ..؟ أم
تقولون : إنه لم يزل غير قادر على أن يخلق ثم قدر ..؟
فقول كل من لقينا
منهم ، وقول جميع أهل الإسلام : إن الله عزوجل لم يزل قادرا على أن يخلق.
قال أبو محمد :
وهم وجميع أهل الإسلام منكرون على من قال من أهل الإلحاد إنّ الله تعالى لم يزل
يخلق ، قاطعون بأن لم يزل يخلق محال فاسد.
قال أبو محمد :
وصدقوا في ذلك إلا أنهم إذا أقروا أن قول من قال : إنه لم يزل يخلق محال ، وأقروا
أنه لم يزل قادرا على ذلك ، فقد أقروا بصحة قولنا وأنه تعالى قادر على المحال ،
ولا بدّ من هذا أو الكفر ، أو القول بأنه تعالى لم يزل غير قادر. والحمد لله على
هداه لنا إلى الحق.
قال أبو محمد :
وسألناهم أيضا فقلنا لهم : هل يجوز عندكم أن يدعى الله تعالى في أن يفعل ما لا
يقدر على سواه ، أو في ألّا يفعل ما لا يقدر على فعله؟
فإن قالوا : نعم.
أتوا بالمحال.
وإن قالوا : لا
يجوز ذلك.
قيل لهم : فقد
أمرنا الله تعالى أن ندعوه فنقول : «ربنا احكم بالحق» «ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا
به».
وهو عندكم لا يقدر
على الحكم بغير الحق ، ولا على أن يحملنا ما لا طاقة لنا به.
قال أبو محمد : ومن
عجائب الدنيا أنهم يسمعون الله تعالى يقول : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [سورة التوبة : ٣٠]
و (إِنَّ اللهَ ثالِثُ
ثَلاثَةٍ) [سورة المائدة :
٧٣] و (إِنَّ اللهَ هُوَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة :
١٧] و (اللهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [سورة
آل عمران : ١٨١] و
(يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) [سورة المائدة :
٦٤] و (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) [سورة الحشر : ١٦].
ولا يشك مسلم في
أن هذا كله كذب ، فأي حماقة أشنع من قول من قال : إن الله قادر على أن يقول كل ذلك
حاكيا ، ولا يقدر أن يقوله من غير أن يقول ما قيل هذه الأقوال من إضافتها إلى غيره
، وهذا قول يغني ذكره وسخافته عن تكلف الرد عليه.
قال أبو محمد : ثم
سألناهم فقلنا لهم : من أين علمتم أن الله تعالى لا يقدر على الكذب أو المحال ، أو
الظلم ، أو غير ما فعل ..؟
فلم تكن لهم حجة
أصلا إلّا أن قالوا : لو قدر على شيء من ذلك لما أمنا أن يكون فعله أو لعلّه
سيفعله.
فقلنا لهم : ومن
أين أمنتم أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله ..؟ فلم تكن لهم حجة أصلا ، إلّا أن
قالوا : إن الله لا يقدر على فعله.
قال أبو محمد :
فحصل من قولهم هذا أن حجتهم أنه تعالى لا يقدر على الظلم والكذب والمحال ، وغير ما
فعل ، أنه لا يقدر على شيء من ذلك ، فاستدلّوا على قولهم بذلك القول نفسه ، وهذه
سفسطة تامة ، وحماقة ظاهرة ، وجهل قوي لا يرضى به لنفسه إلا سخيف العقل ، ضعيف
الدين ، فلا بدّ لهم ضرورة من أن يرجعوا إلى قولنا في أنه بالضرورة علمنا أنه لا
يفعل من ذلك ، كما علمنا أن زريعة العنب لا يخرج منها الجوز ، وأن ماء الفرس لا
يتولد منه جمل.
قال أبو محمد :
وأما نحن فإن برهاننا على صحة قولنا أن البرهان قد قام على أنه تعالى لا يشبهه من
خلقه شيء من الأشياء ، والخلق عاجزون عن كثير من الأمور جملة والعجز من صفات
المخلوقين ، فهو منتف عن الله عزوجل جملة. وليس في الخلق قادر بذاته على كل مسئول عنه ، فوجب
أن الباري تعالى هو الذي يقدر على كل مسئول عنه ، وكذلك لما كان الكذب والظلم من
صفات المخلوقين ، وجب يقينا أنهما منفيان عن الباري تعالى فهذا هو الذي آمننا من
أن يكذب أو يظلم أو يفعل غير ما علم أنه يفعله وإن كان تعالى قادرا على كل ذلك.
وقلنا لهم أيضا :
إذا كان عزوجل لا يوصف بالقدرة على إبطال علمه ، ولا يوصف بالقدرة على
إمامته اليوم من علم أنه لا يميته إلّا غدا ، لأنه لا قدرة له على ذلك ، ولو كان
له قدرة على ذلك لوصف بها ، فإذا جاء غد فأماته فله قدرة على إماتته حينئذ ، فقد
حدثت له قدرة بعد أن لم تكن. وهذا يوجب أن قدرته تعالى حادثة ، وهذا خلاف قولهم.
قال أبو محمد :
وفي هذا أيضا محال آخر ، وهو أنه إذا حدثت له قدرة بعد أن لم تكن فمن أحدثها له ..؟
أهو أحدثها لنفسه ..؟ أم غيره أحدثها له ..؟ أم حدثت بلا محدث ..؟
فإن قالوا : هو
أحدثها لنفسه سئلوا : بلا قدرة أحدث لنفسه القدرة ..؟ أم بقدرة أخرى؟
فإن قالوا : أحدث
لنفسه قدرة بلا قدرة أتوا بالمحال.
وإن قالوا : بل
بقدرة. أثبتوا قدرة لم تزل ، بخلاف قولهم.
وإن قالوا : غيره
أحدثها له ، أو حدثت بلا محدث ـ لحقوا بقول الدّهرية ، وكفروا. وفي قولهم هذا من
خلاف المعقول ، وخلاف القرآن ، وخلاف البرهان ما تضيق به نفوس المؤمنين. والحمد
لله على معافاته لنا مما ابتلاهم به.
وإن قالوا : لو
فعل تعالى كل ذلك كيف كان يسمّى ..؟
قلنا : هذا سؤال
سخيف عمّا لا يكون أبدا ، وهو كمن سأل : لو طار الإنسان كم ريشة كانت تكون له ..؟
وما أشبه هذا من الحماقة المأمون كونها. وتسمية الله تعالى نفسه المقدسة إليه لا
إلينا. وبالله تعالى التوفيق.
وقال أبو هذيل
العلّاف : إنّ لما يقدر الله تعالى عليه كلّا وآخرا ـ كما له أوّل ؛ فلو خرج آخره
إلى الفعل ـ ولا يخرج ـ لم يكن الله تعالى قادرا على شيء أصلا ، ولا على فعل شيء
بوجه من الوجوه.
وقال عبد الله بن
أحمد بن محمود الكعبي : ما نعلم أحدا يعتقد هذا اليوم إلا يحيى بن بشر الأرجائيّ. وادّعى أنّ أبا الهذيل تاب عن هذا القول.
__________________
قال أبو محمد :
وهذا كفر مجرّد لا خفاء به ، لأنه يجوّز على ربّه تعالى الكون في صفة الجماد ، أو
المخدور ، أو المفلوج ، مع صحة الإجماع المتيقن على خلاف هذا القول الفاسد مع
خلافه للقرآن ولموجب العقل ، وبديهته كذا عنده. وأظنه قد شبهه تعالى بالمخلوقين.
قال أبو محمد :
وأمّا الأسواري فجعل ربّه تعالى مضطرا بمنزلة الجماد ولا فرق ، لا قدرة له على غير
ما فعل. وهذه حال دون حال البق والبراغيث.
وأما أبو الهذيل :
فجعل ربّه تعالى قدرته متناهية ، بمنزلة المختارين من خلقه ، وهذا هو التشبيه حقا.
وأمّا النظّام
والأشعرية : فكذلك أيضا ، وجعلوا قدرة ربهم تعالى متناهية يقدر على شيء ، ولا يقدر
على آخر. وهذه صفة أهل النقص.
وأمّا سائر
المعتزلة : فوصفوه تعالى بأنه لا نهاية لما يقدر عليه من الشر ، وأن قدرته على
الخير متناهية ، وهذه صفة شرّ ، وطبيعة خبيثة جدّا نعوذ بالله منها إلا بشر بن
المعتمر ، فقوله في هذا كقول أهل الحق ، وهو ألّا تتناهى قدرته أصلا
والحمد لله رب العالمين.
__________________
الكلام في الرؤية
قال أبو محمد :
ذهبت المعتزلة ، وجهم بن صفوان ، أن الله تعالى لا يرى في الآخرة ، وقد روينا هذا
القول عن مجاهد ، وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه ، وروينا هذا القول أيضا عن
الحسن البصري ، وعكرمة ، وقد روي عن الحسن وعكرمة إيجاب الرؤية له تعالى ، وذهبت
المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا والآخرة. وذهب جمهور أهل السنة ،
والمرجئة ، وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ، ولا يرى
في الدنيا ، وقال الحسين بن محمد النجار هو جائز ولم يقطع به.
قال أبو محمد :
أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين ،
وأيضا فإن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة
وهذا مبعد عن الباري عزوجل. وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا
سوء وضع منه لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عزوجل وإنّما قلنا إنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة
الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله عزوجل وقد سماها بعض القائلين بهذا القول : الحاسة السادسة.
وبيان ذلك أننا نعلم الله تعالى بقلوبنا علما صحيحا هذا لا شك فيه ، فيضع الله
تعالى يوم القيامة في الأبصار قوة يشاهد الله تعالى بها ويرى كالتي وضعها في
الدنيا في القلب ، وكالتي وضعها الله تعالى في أذن موسى عليهالسلام حتى شاهد الله تعالى وسمعه مكلّما له. واحتجت المعتزلة
بقول الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [سورة الأنعام :
١٠٣].
__________________
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك ، والإدراك عندنا في اللغة
معنى زائد على النظر والرؤية ، فالإدراك منتف عن الله تعالى على كل حال في الدنيا
والآخرة ، لأن في الإدراك معنى من الإحاطة ليس في الرؤية ، برهان ذلك قول الله عزوجل (فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي
رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء :
٦١].
ففرق الله تعالى
بين الإدراك والرؤية فرقا جليا لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني
إسرائيل ، ونفى الله الإدراك بقول موسى عليهالسلام : (كَلَّا إِنَّ مَعِي
رَبِّي سَيَهْدِينِ).
فأخبر تعالى أنه
رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ، وشك أن ما نفاه الله عزوجل فهو غير الذي أثبته ، فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا
هو قول الله عزوجل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [سورة القيامة :
٢٢ ، ٢٣].
واعترض بعض
المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي فقال : إن «إلى» هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة
الآلاء وهي النعم وهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة. وهذا بعيد لوجهين
أحدهما : أنّ الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت لها النضرة وهي النعمة ، فإذا
حصلت لها النعمة فبعيد أن تنتظر لما قد حصل لها ، وإنما تنتظر ما لم يقع بعد.
والثاني تواتر الأخبار عن النبي صلىاللهعليهوسلم ببيان أن المراد بالنظر : هو الرؤية ، لما تأوله
المتأولون. وقال بعضهم إنّ معناها إلى ثواب ربّها أي منتظرة ناظرة.
قال أبو محمد :
وهذا فاسد جدا لأنه لا يقال في اللغة نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.
__________________
قال أبو محمد :
وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنصّ أو إجماع
، لأن من فعل ذلك فقد أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله. فإن قالوا
إنّ حمل الكلام على المعهود أولى من حمله على غير المعهود. قيل لهم الأولى في ذلك
حمل الأمور على معهودها في اللغة ، ما لم يمنع من ذلك نصّ أو إجماع أو ضرورة ، ولم
يأت نصّ ولا إجماع ولا ضرورة تمنع مما ذكرنا في معنى النظر فقد وافقنا المعتزلة
على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير ولا فعّال إلا بمعاناة ، ولا رحيم إلا برقة. ثم
أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير ، وأنه عزوجل فعّال بلا معاناة ، ورحيم بلا رقة. فأيّ فرق بين تجويزهم
ما ذكرنا وبين عدم تجويزهم رؤية ونظرا ، بقوة غير القوة المعهودة لو لا الخذلان
ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك.
وقد قال بعض
المعتزلة : أخبرونا إذا رؤي الباري تعالى أكلّه يرى أم بعضه؟
قال أبو محمد :
وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذ سألونا نحن والمعتزلة فقالوا : إذا علمتم الله
تعالى أكله تعلمونه أم بعضه ..؟
قال أبو محمد :
هذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلّا وبعضا حيث لا كلّ ولا بعض. والبعض والكل
لا يقعان إلا في ذي نهاية ، والباري تعالى خالق النهاية والمتناهي فهو تعالى لا
متناه ولا نهاية له فلا كلّ له ولا بعض.
قال أبو محمد :
الآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة
للقبول ، لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ، ورؤية الله عزوجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا ذلك الله من فضله ،
ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن العارفين به تعالى يرونه في الدنيا
بقلوبهم ، وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك. فإن قال قائل إنما أخبر الله تعالى
بالرؤية عن الوجه. قيل له وبالله تعالى التوفيق : معروف في اللغة التي خوطبنا بها
أن تنسب الرؤية إلى الوجه والمراد بها العين. قال بعض الأعراب :
أنافس من ناجاك
مقدار لفظة
|
|
وتعتاد نفسي إن
نأت عنك عينها
|
وإنّ وجوها
يصطبحن بنظرة
|
|
إليك لمحسود
عليك عيونها
|
الكلام في القرآن وهو القول في كلام الله تعالى
قال أبو محمد :
واختلفوا في كلام الله عزوجل بعد أن أجمع جميع أهل الإسلام كلهم على أن لله تعالى كلاما
، وعلى أن الله تعالى كلّم موسى عليهالسلام ،
وعلى أن القرآن
كلام الله عزوجل وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور
والصحف وكل هذا لا خلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام.
فقالت المعتزلة :
إن كلام الله عزوجل صفة فعل مخلوق. وقالوا إن الله تعالى كلّم موسى عليهالسلام بكلام أحدثه في الشجرة.
وقال أهل السنة :
إن كلام الله تعالى هو علمه لم يزل ، وهو غير مخلوق ، وهو قول الإمام أحمد بن حنبل
وغيره. وقالت الأشعرية : كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله
تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى ، وإنه ليس لله تعالى إلا كلام
واحد. واحتج أهل السنة بحجج منها :
أن قالوا إن كلام
الله عزوجل لو كان غير الله تعالى لكان لا يخلو من أن يكون جسما أو
عرضا ، فلو كان جسما لكان في مكان واحد ، ولو كان ذلك لكان لم يبلغنا كلام الله عزوجل ولا كان يكون مجموعا عندنا في كل بلد كذلك. وهذا كفر. ولو
كان عرضا لاقتضى حاملا ولكان كلام الله الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا
وهذا محال. ولكان أيضا يفنى بفناء حامله ، وهذا لا يقولونه.
قالوا : ولو سمع
موسى كلام الله عزوجل من غيره تعالى لما كان لموسى عليهالسلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عزوجل من غيره ، فصحّ أن لموسى عليهالسلام مزية على من سواه وهو أنه عليهالسلام سمع الله تعالى مكلّما له بلا خلاف من سواه.
وأيضا فقد قامت
الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من
المعاني ، فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقا وجب ضرورة أن يكون كلام الله عزوجل ليس مخلوقا ، وليس غير الله تعالى كما قلنا في العلم سواء
بسواء.
قال أبو محمد :
وأمّا الأشعرية فيلزمهم في قولهم إن كلام الله تعالى غير الله ما ألزمناهم في
العلم والقدرة سواء ، مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين.
وأما قولهم إنه
ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام ، لأن الله عزوجل يقول : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ
مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [سورة الكهف : ١٠٩].
وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما
نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [سورة لقمان : ٢٧].
قال أبو محمد :
ولا ضلال أضلّ ، ولا حياء أعدم ، ولا مجاهرة أطمّ ، ولا تكذيب لله تعالى أعظم ممن
سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه ـ بأن لله تعالى كلمات لا تنفد ، ثم يقول هو من رأيه الخسيس إنه
ليس لله تعالى إلا كلاما واحدا. فإن ادّعوا بأنهم فروا بأن يكثروا مع الله تعالى
أكذبهم قولهم إن هاهنا خمسة عشر شيئا كلها متغايرة ، وكلها غير الله تعالى وخلاف
الله ، وكلها لم تزل مع الله ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال أبو محمد :
وقالت أيضا هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعري إن كلام الله لم ينزل به جبريل عليهالسلام على قلب محمد عليهالسلام وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى ،
وأن الذي نقرأ في المصاحف ونكتب فيها ليس شيء منه كلام الله عزوجل ، وأن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ، ولا يحلّ لأحد
أن يقول : إنّ ما قلنا لله تعالى لا يزايل الباري تعالى ، ولا يقوم بغيره ، ولا
يحل في الأماكن ، ولا ينتقل ولا هو حروف موصولة ، ولا بعضه خيرا من بعض ، ولا أفضل
ولا أعظم من بعض. وقالوا لم يزل الله تعالى قائلا لجهنم هل امتلأت وقائلا للكفار (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [سورة المؤمنون :
١٠٨]. وقائلا للكفار (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ
السَّعِيرِ) [سورة الملك : ١١].
قال أبو محمد :
وهذا كفر مجرد بلا تأويل. وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله عزوجل أم لا؟ فإن قالوا ليس هو كلام الله تعالى كفروا بإجماع
الأمة. وإن قالوا هو كلام الله عزوجل تركوا قولهم الفاسد.
ونسألهم أيضا عن
القرآن الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ، ويحفظ في الصدور أهو كلام الله
تعالى أم لا؟ .. فإن قالوا لا. كفروا أيضا بإجماع الأمة. وإن قالوا هو كلام الله
تعالى تركوا قولهم. وأقروا أنّ كلام الله مكتوب في المصاحف ومسموع من القراء ،
ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد :
وقد قال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون إن الصوت غير
مخلوق ، وأن الخط غير مخلوق.
قال أبو محمد :
وهذا باطل ، وما قال قط مسلم إن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق ، وإن الخط غير
مخلوق.
قال أبو محمد :
والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق : فهو ما قاله الله عزوجل
ونبينا محمد صلىاللهعليهوسلم لا نزيد على ذلك شيئا وهو أن قول القائل القرآن ، وقوله
كلام الله تعالى كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان ، والقرآن هو كلام الله تعالى
على الحقيقة لا على المجاز ، ويكفر من لم يقل بذلك. ونقول إن جبريل عليهالسلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب
محمد صلىاللهعليهوسلم كما قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [سورة الشعراء :
١٩٤].
ثم نقول : إن
قولنا القرآن وقولنا كلام الله تعالى لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت
المسموع الملفوظ به قرآنا ، ونقول إنّه كلام الله تعالى على الحقيقة ، وبرهان ذلك
قول الله عزوجل (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [سورة التوبة : ٦]
(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : ٧٥].
وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ) [سورة المزمل : ٢٠].
وأنكر على الكفار ، وصدّق مؤمني الجن في قولهم : (إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [سورة الجن : ١].
فصحّ أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به : هو القرآن حقيقة ، وهو كلام الله تعالى
حقيقة ، ومن خالف هذا فقد عاند القرآن ، ويسمّى المفهوم من ذلك الصوت قرآنا ،
وكلام الله تعالى على الحقيقة. فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة
والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا : هذا كلام الله وهو القرآن ويسمى القرآن المصحف
كله قرآنا وكلام الله ، وبرهاننا على ذلك قول الله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ
مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الواقعة :
٧٨ ، ٧٩].
وقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو لئلا يناله العدو وقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها
كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [سورة البينة : ١ ـ
٣].
وكتاب الله تعالى
هو القرآن بإجماع الأمة ، وقد سمى رسول الله صلىاللهعليهوسلم المصحف قرآنا والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة ،
فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازا ويسمى المستقر في الصدور قرآنا ونقول إنه
كلام الله تعالى ، برهاننا على ذلك قول
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليهالسلام إنه أشدّ تفصّيا من صدور الرجال من النعم من عقلها . وقال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ
فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [سورة العنكبوت :
٤٩] فالذي في صدور الرجال هو القرآن وهو كلام الله عزوجل حقيقة لا مجازا ، ونقول كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن آية الكرسي أعظم آية في القرآن» و «إنّ أم القرآن
فاتحة الكتاب المنزل في القرآن وليس في التوراة ولا في الإنجيل مثلها» و «إنّ قل هو الله
أحد تعدل ثلث القرآن» . وقال الله عزوجل (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [سورة البقرة :
١٠٦].
فإن قالوا إنما
يتفاضل الأجر على قراءة كل ذلك. قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في
شيء مما فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض
__________________
في الموصوف بها
وأما في الذوات فلا نقول أيضا إن القرآن هو كلام الله تعالى وهو علمه وليس هو شيئا
غير الباري تعالى ، برهان ذلك قول الله عزوجل (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) [سورة يونس : ١٩].
وقال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً
وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [سورة الأنعام :
١١٥].
وباليقين يدري كل
ذي حس سليم أنما عنى سابق علمه الذي سلف فيما ينفذه ويقضيه.
قال أبو محمد :
فهذه خمسة معان يعبّر عن كل معنى منها بأنه قرآن ، وبأنه كلام الله تعالى ، ويخبر
عن كل واحد منها أخبارا صحيحة بأنه قرآن ، وبأنه كلام الله تعالى بنص القرآن
والسنة اللذين أجمع عليهما جميع الأمة ، وأما الصّوت فهو هواء يندفع من الحلق
والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامع. وهو حروف الهجاء ،
والهواء وحروف الهجاء وكل ذلك مخلوق بلا خلاف. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [سورة إبراهيم : ٤].
وقال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [سورة الشعراء :
١٩٥].
ولسان العربي ،
ولسان كل قوم هي لغتهم واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك والمعاني المعبّر عنها
بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة إنما هي الله تعالى والملائكة والمؤمنون وسماوات
وأرضون وما فيهما من الأشياء وصلاة وزكاة ، وذكر أمم خالية ، والجنّة والنار ،
وسائر الطاعات والمعاصي ، كل ذلك مخلوق حاشا الله تعالى وحده لا شريك له ، خالق كل
ما دونه ، وأمّا المصحف ، فإنّما هو ورق من جلود الحيوان ، ومركب منها ومن مداد
مؤلف من صمغ ، وزاج ، وعفص وماء ، وكل ذلك مخلوق بلا شك ، وكذلك حركة اليد في خطه ،
وحركة اللسان في قراءته ، واستقرار كل ذلك في النفوس ، هذه كلها أعراض مخلوقة ،
وكذلك عيسى عليهالسلام كلمة الله ، وهو مخلوق بلا شك ، قال الله تعالى : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة آل عمران :
٤٥].
وأما علم الله
تعالى فلم يزل وهو كلام الله تعالى وهو القرآن وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى
أصلا. ومن قال إن شيئا غير الله تعالى لم يزل مع الله تعالى
__________________
فقد جعل لله تعالى
شريكا ونقول إن لله تعالى كلاما حقيقة وإنه تعالى كلّم موسى ، ومن كلم من الملائكة
والأنبياء عليهمالسلام تكليما حقيقة لا مجازا ، ولا يجوز أن يقال البتة إن الله
تعالى متكلم ، لأنه لم يسم بذلك نفسه ومن قال إن الله تعالى مكلم موسى لم ننكره
لأنه يخبر عن فعله تعالى الذي لم يكن ثم كان. ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا إن
لله تعالى كلاما لنفي الخرس عنه كما ذكرنا قبل من أنه إن كان يعني الخرس المعهود
فإنه لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو حركة اللسان والشفتين. وإن كان إنما
ينفي خرسا غير معهود فهذا لا يعقل أصلا ولا يفهم. وأيضا فيلزمه أن نسميه تعالى
شمّاما لنفي الخشم ومتحركا لنفي الخدر عنه ، وهذا إلحاد في أسمائه تعالى ، لكن لما
قال تعالى إن كلاما ما قلناه وأقررنا به ولو لم يقله تعالى لم نقله ولم يحل لأحد
أن يقوله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعا مستويا صحيحا ، منها أربعة مخلوقة
وواحد غير مخلوق ، لم يجز لأحد البتة أن يقول القرآن مخلوق ، ولا أن يقول إن كلام
الله تعالى مخلوق ، لأن قائل هذا كاذب ، إذا أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه
مما يقع عليه اسم قرآن ، واسم كلام الله عزوجل ، ووجب ضرورة أن يقال إن القرآن لا خالق ولا مخلوق ، وإن
كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق منه ليست خالقه فلا يجوز أن يطلق على القرآن ،
ولا على كلام الله تعالى اسم خالق ، ولأن المعنى الخامس غير مخلوق ، ولا يجوز أن
يطلق صفة البعض على الكل الذي لا تعمّه تلك الصفة ، بل واجب أن يطلق بغير تلك
الصفة التي للبعض عن الكل ، وكذلك لو قال قائل إن الأشياء كلها مخلوقة ، أو قال
الحق مخلوق أو قال كل موجود مخلوق ، لقال الباطل لأن الله عزوجل شيء موجود وحق وليس مخلوقا ، لكنه إذا قال : الله خالق كل
شيء جاز ذلك لأنه قد أخرج بذكره الله تعالى أنه الخالق كلامه عن الإشكال ، ومثل
ذلك فيما بيننا أن ثيابا خمسة ، أربعة منها حمر والخامس غير أحمر لكان من قال هذه
الثياب حمر كاذبا ، ولكان من قال هذه الثياب ليست حمرا صادقا وكذلك من قال :
الإنسان طبيب يعني كل إنسان لكان كاذبا ، ولو قال : ليس الإنسان طبيبا يعني كل
إنسان لكان صادقا ، وكذلك لا يجوز أن يطلق أن الحق مخلوق ، ولا أن العلم مخلوق ،
لأن اسم الحق يقع على الله تعالى ، وعلى كل موجود ، واسم العلم يقع على كل علم
وعلى علم الله تعالى ، وهو غير مخلوق ، لكن يقال : الحق غير مخلوق ، والعلم غير
مخلوق هكذا جملة ، فإذا بيّن فقيل : كل حقّ دون الله تعالى فهو مخلوق ، وكل علم
غير علم الله تعالى فهو مخلوق ، فهو كلام صحيح. وهكذا لا
يجوز أن يقال :
كلام الله تعالى مخلوق ، ولا أن القرآن مخلوق ، لكن يقال علم الله تعالى غير مخلوق
، وكلام الله تعالى غير مخلوق والقرآن غير مخلوق ، ولو أن قائلا قال إن الله غير
مخلوق وهو يعني صوته المسموع الألف واللام واللام والهاء أو الحبر الذي كتب هذه
الكلمة لكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافرا ما لم يبين ، فيقول صوتي أو هذا
المكتوب مخلوق.
قال أبو محمد :
فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعدّ فيه ما قاله الله عزوجل ولا ما قاله رسوله صلىاللهعليهوسلم. وأجمعت الأمة كلها على جملته ، وأوجبته الضرورة والحمد
لله رب العالمين. فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ
المسموع هو غير القرآن وهذا باطل بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه ، وهو كلام الله
عزوجل نفسه ، كما قال الله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) [سورة التوبة : ٦].
وكلام الله تعالى
غير مخلوق لما ذكرنا ، وأمّا من أفرد السؤال عن الصوت ، وحروف الهجاء ، والحبر فكل
ذلك مخلوق بلا شك.
قال أبو محمد :
ونقول إن الله تعالى قد قاله ما أتى أنه قال ، وأنه تعالى لم يقل بعد ما أتى أنه
سيقوله في المستأنف لكنه سيقوله ومن تعدّى هذا فقد أكذب الله تعالى جهارا. وأما من
قال إن الله تعالى لم يزل قائلا «كن» لكل ما كونه أو لما يريد تكوينه ، فإن هذا
قول فاحش موجب أن العالم لم يزل ، لأن الله تعالى أخبرنا أنه إذا أراد شيئا فإنّما
(أَمْرُهُ إِذا أَرادَ
شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢]
فصح أنّ كل مكون فإنه أثر قول الله تعالى له «كن» بلا مهلة ، فلو كان الله تعالى
لم يزل قائلا «كن» لكان كل ما يكون لم يزل ، وهذا قول من قال إن العالم لم يزل ،
وله مدبر خالق لم يزل ، وهذا كفر مجرد نعوذ بالله منه. وقول الله تعالى هو غير
تكليمه ، لأن تكليم الله تعالى من كلّم فضيلة عظيمة.
قال أبو محمد :
قال تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ) [سورة البقرة :
٢٥٣].
وأما قوله فقد
يكون سخطا قال تعالى إنه قال لأهل النار : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [سورة المؤمنون :
١٠٨].
وقال لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما
خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [سورة ص : ٧٥].
ولا يجوز أن يقال
إبليس كليم الله تعالى ، ولا أن أهل النار كلماء الله تعالى ،
وقول الله تعالى
محدث بالنص ، وبرهان ذلك قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران :
٧٧].
ثم قال تعالى إنه
قال لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ).
وقال تعالى :
إنّهم قالوا : (رَبَّنا هؤُلاءِ
أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ
لا تَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف :
٣٨].
فنص الله تعالى
على أنه لا يكلمهم وأنه يقول لهم ، فثبت يقينا أن قول الله تعالى هو غير كلامه
وغير تكليمه ، لكن نقول كلّ كلام وتكليم قول وليس كل قول منه تعالى كلاما ولا
تكليما بنص القرآن. ثم نقول وبالله تعالى التوفيق : إن الله تعالى أخبرنا أنه كلّم
موسى عليهالسلام وكلم الملائكة عليهمالسلام ، وثبت يقينا أنه كلم محمدا عليهالسلام ليلة الإسراء وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [سورة البقرة :
٢٥٣].
فخصّ تعالى
بتكليمه بعضهم دون كما ترى. وقال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [سورة الشورى : ٥١].
ففي هذه الآية
والحمد لله رب العالمين كثيرا نصّ على تصحيح ما قلناه في هذه المسألة وما توفيقنا
الله بالله.
فأتى تعالى في هذه
الآية أنه لا يكلم بشرا إلا بأحد هذه الوجوه الثلاثة فنظرنا فيها فوجدناه تعالى قد
سمى ما تأتينا به الرسل تكليما منه للبشر ، فصحّ أن الذي أتتنا به الرسل عليهمالسلام هو كلام الله تعالى ، وأنه تعالى قد كلمنا بوحيه الذي
أتتنا به رسله عليهمالسلام ، وأننا قد سمعنا كلام الله تعالى الذي هو القرآن الموحى
إلى النبي بلا شك والحمد لله رب العالمين. ووجدناه تعالى قد سمّى وحيه إلى أنبيائه
عليهمالسلام تكليما لهم ، ووجدناه تعالى قد ذكر وجها ثالثا وهو التكليم
الذي يكون من وراء حجاب وهو الذي فضّل به بعض النبيين على بعض ، وهذا التكليم يطلق
عليه تكليم الله عزوجل دون صلة كما كلم موسى عليهالسلام (مِنْ شاطِئِ الْوادِ
الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) [سورة القصص : ٣٠].
وأما القسمان
الأولان فإنما يطلق عليهما تكليم الله تعالى بصلة لا مجرّدا فنقول كلّم الله تعالى
جميع الأنبياء عليهمالسلام بالوحي إليهم ، ونقول في القسم الثاني
كلمنا الله تعالى
به في القرآن على لسان نبيه صلىاللهعليهوسلم بوحيه إليه. ونقول قال لنا (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [سورة المزمل : ٢٠].
ونقول أخبرنا الله
تعالى عن موسى عليهالسلام وعيسى عليهالسلام وعن الجنة والنار في القرآن وفيما أوحى إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم ، ولو قال قائل : حدثنا الله تعالى عن الأمم السالفة وعن
الجنة والنار في القرآن ، وعلى لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم لكان قولا صحيحا لا مدفع له ، لأن الله تعالى يقول : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [سورة النساء : ٨٧].
كذلك نقول : قصّ
الله تعالى علينا أخبار الأمم في القرآن. وقال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [سورة يوسف : ٣]
ونقول سمعنا كلام الله تعالى في القرآن حقيقة لا مجازا ، وفضل علينا الملائكة
والأنبياء عليهمالسلام في هذا بالوجه الثاني الذي هو تكليمهم بالوحي إليهم في
النوم واليقظة دون وسيطة ، وبتوسط الملك أيضا ، وفضل بعض الملائكة وبعض الرسل على
جميعهم عليهمالسلام بالوجه الثالث الذي هو تكليم في اليقظة من وراء حجاب دون
وسيطة ملك لكن بكلام مسموع بالآذان ، ومعلوم بالقلب زائد على الوحي الذي هو معلوم
بالقلب فقط ، أو مسموع من الملك عن الله تعالى ، وهذا هو الوجه الذي خصّ به موسى عليهالسلام من الشجرة ومحمد صلىاللهعليهوسلم ليلة الإسراء من المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام وسائر
من كلمه الله تعالى من النبيين والملائكة عليهمالسلام. وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [سورة البقرة :
٢٥٣].
وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها) [سورة البقرة : ٣٠]
الآية. ولا يجوز أن يكون شيء من هذا بصوت أصلا لأنه كان يكون حينئذ بواسطة ملك
مكلم غير الله تعالى وكان ذلك الصوت حينئذ بمنزلة الرعد الحادث في الجوّ والفزع
الحادث في الأجسام ، والوحي أعلى من هذه منزلة ، والتكليم من وراء الحجاب أعلى من
سائر الوحي بنصّ القرآن لأن الله تعالى سمى ذلك تفضيلا كما تلونا وكل ما ذكرنا وإن
كان يسمى تكليما فإن التكليم المطلق أعلى في الفضيلة من التكليم الموصول كما أن كل
روح فهو روح الله تعالى على الملك ، ولكن إذا قلنا روح الله تعالى على الإطلاق
نعني جبريل وعيسى عليهماالسلام كان ذلك فضيلة عظيمة لهما.
قال أبو محمد :
وكذلك إذا قرأنا في القرآن قلنا كلامنا هذا هو كلام الله تعالى
حقيقة لا مجازا ،
ولا يحلّ حينئذ لأحد أن يقول ليس كلامي هذا كلام الله تعالى. وقد أنكر الله هذا
على من قاله إذ يقول تعالى : (سَأُرْهِقُهُ
صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ
إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ
سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) [سورة المدثر : ١٧
٢٤].
قال أبو محمد :
وكذلك يقول أحدنا : ديني هو دين محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإذا عمل عملا أوجبته سنة ، قال عملي هذا هو عمل رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا يحل لأحد من المسلمين أن يقول : ديني غير دين رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، ولو قال ذلك لوجب قتله بالردة ، وكذلك ليس له أن يقول
إذا عمل عملا جاءت به السنة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هذا غير عمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولو قاله لأدّب ولكان كاذبا وكذلك يقول أحدنا ديني هو
دين الله عزوجل يريد الذي أمر به عزوجل ، ولو قال ديني هو غير دين الله عزوجل لوجب قتله بالرّدة ، وكذلك نقول إذا حدث أحدنا حديثا عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم صحيحا : كلامي هذا هو نفس كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولو قال كلامي
هذا هو غير كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم لكان كاذبا ، وهذه أسماء أوجبتها ملة الله عزوجل وأجمع عليها أهل الإسلام ، ولم يخف علينا ولا على أحد من
المسلمين أن حركة لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم غير حركة ألسنتنا ، وكذلك حركات أجسامنا في العمل ، وكذلك
ما توصف النفوس به من العلم ولكن التسمية في الشريعة ليست إلينا إنما هي لله تعالى
ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، فمن خالف هذا كان كمن قال : فرعون وأبو جهل مؤمنان ،
وموسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلم كافران. فإذا قيل له في ذلك ، قال أو ليس فرعون
وأبو جهل مؤمنين بالكفر وموسى ومحمد كافرين بالطاغوت؟ فهذا وإن كان لكلامه مخرج
صحيح فهو عند أهل الإسلام كافر بتعديه ما أوجبته الشريعة من التسمية ، وقد شهدت
العقول بوجوب الوقوف عند ما أوجبه الله تعالى في دينه ، فمن تعدّى ذلك وزعم أنه
اتبع دليل عقله في خلاف ذلك فليعلم أنه قد فارق قضية العقل الصادقة الموجبة للوقوف
عند حكم الشريعة ، وخالف المؤمنين واتبع غير سبيلهم قال الله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [سورة النساء :
١١٥].
ونعوذ بالله من
ذلك.
قال أبو محمد :
وقال بعضهم فإذا سمعنا كلام الله تعالى وسمعه موسى عليه
السلام ، فأي فرق
بيننا وبينه؟ قلنا : أعظم فرق ، هو أن موسى عليهالسلام والملائكة سمعوا الله تعالى يكلمهم ، ونحن سمعنا كلام الله
تعالى من غيره ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لابن مسعود رضي الله عنه إذ أمره أن يقرأ القرآن فقال ابن
مسعود يا رسول الله أقرؤه عليك وعليك أنزل؟ قال : «إني أحب أن أسمعه من غيري» . فصح يقينا أنه القرآن الذي أنزله الله تعالى نفسه فسمعه
من غيره.
وقالوا : فكلام
الله تعالى إذن يحلّ فينا؟ قلنا هذا تهويل بارد. ونعم إذا سمى الله تعالى كلامنا
إذا قرأنا كلاما له تعالى فنحن نقول بذلك ، ونقول إن كلام الله تعالى في صدورنا
وجار على ألسنتنا ومستقر في مصاحفنا ، ونبرأ ممن أنكر ذلك بعقله الفاسد المخرج له
من الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان.
__________________
الكلام في إعجاز القرآن
قال أبو محمد : قد
ذكرنا قيام البرهان على أن القرآن معجز لا يقدر أحد على مثله قد أعجز الله عن مثل
نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس أن يأتوا بمثله ، وتبكيتهم بذلك في محافلهم ، وهذا
أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر ، وأجمع المسلمون على ذلك. ثم اختلف أهل الكلام
على خمسة أنحاء من هذه الرسالة. فالنحو الأول : قول روي عن الأشعري : وهو أن
المعجز الذي يتحدى الناس بالمجيء بمثله هو الأول الذي لم يزل مع الله تعالى ولم
يفارقه قط ، ولا أنزل إلينا ولا سمعناه. وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان ، إذ
من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل ما لم يعرفه قط ولا سمعه ، فيلزمه ولا بدّ بل
هو نفس قوله إنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلوّ عندنا ليس معجزا
بل مقدورا عليه ، أو على مثله ، وهذا كفر مجرد ولا خلاف فيه ، وأيضا فإنه خلاف
القرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو بعشر سور منه. وكذلك الكلام ليس هو عند
الأشعرية سورا ولا هو كثيرا بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين.
وله قول آخر كقول المسلمين : إن المتلو هو المعجز.
والنحو الثاني :
هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام قيام الحجة به في حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ فقال بعض أهل الكلام إن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن
معارضته ، ولو عورض لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت ، كما أن عصا موسى عليهالسلام إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ، ولا أسقط حجته عودها
عصا كما كانت. وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت. وكذلك سائر
الآيات. وقال جمهور أهل الإسلام إن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة ، والآية
بذلك باقية إلى يوم القيامة كما كانت ، وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه
نص قول الله عزوجل إذ يقول : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء :
٨٨].
__________________
فهذا نص جلي على
أنهم لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقينا أن ذلك على الأبد وفي المستأنف
أبدا. ومن ادّعى بأن المراد بذلك الماضي فقد كذب ، لأنه لا يجوز أن تحال اللغة
فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص آخر جليّ وارد بذلك أو بإجماع متيقن
أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولا سبيل في هذه المسألة إلى أحد هذه الوجوه.
وكذلك قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) عموم كل إنس وجن أبدا ، لا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نص
ولا إجماع.
قال أبو محمد :
ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر ، فلا حجة هاهنا تقوم على الطائفة
المذكورة. فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الثالث :
ما المعجز منه؟ أنظمه؟ أم نصه من الإنذار بالغيوب؟ فقال بعض أهل الكلام : إن نظمه
ليس معجزا وإنما إعجازه ما فيه من الإخبار بالغيوب ، وقال سائر أهل الإسلام : بل
كلا الأمرين ، نظمه وما فيه من الإخبار بالغيوب ، وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو
باطل. برهان ذلك قول الله عزوجل (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) [سورة البقرة : ٢٣]
فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره وأكثر سوره ليس فيها إخبار بغيب
فكان من جعل المعجز فيه الإخبار بالغيوب مخالفا نص الله تعالى على أنه معجز من
القرآن فسقطت هذه الأقاويل الفاسدة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الرابع :
ما وجه إعجازه؟ فقالت طائفة : وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة.
وقالت طائفة :
إنما وجب إعجازه لأن الله تعالى منع الخلق من القدرة على معارضته فقط. فأما
الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى رتب البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك ، بأن
ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) [سورة البقرة :
١٧٩] ونحو هذا ، وموّه بعضهم بأن قال لو كان ما تقولون من أن الله تعالى منع من
معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك
أبلغ.
قال أبو محمد : ما
نعلم شغبا غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه ، أما قولهم لو كان كما لو قلنا لوجب
أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام وكانت الحجة بذلك أبلغ فهذا هو الكلام الغث
حقا لوجوه :
أحدها : أنه قول
بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله نفسه ، فيقال له بل لو كان
إعجازه لكونه في
أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه. لأن هكذا كان يكون كل من كان في أعلى طبقة.
وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم.
وثانيها : أنه لا
يسأل الله تعالى عما يفعل ، ولا يقال له لم عجّزت بهذا النظم دون غيره ، ولم أرسلت
هذا الرسول دون غيره؟ ولم قلبت عصا موسى عليهالسلام حية دون أن تقلبها أسدا؟ وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه
قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط.
وثالثها : أنهم
حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلّا كان هذا الإعجاز
في كلام بجميع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون
إعجاز القرآن إلا بإخبار العرب فقط؟ فبطل هذا الغث الفث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
وأما ذكرهم (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) وما كان وما نحوها من الآيات فلا حجة لهم ، فيها ويقال لهم
إن كان ما تقولون ومعاذ الله تعالى من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات
خاصة ، وأما سائره فلا. وهذا كفر لا يقول به مسلم. فإن قالوا جميع القرآن مثل هذه
الآيات في الإعجاز ، قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذن؟ وهل هذا
منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزا وغير معجز ..؟ ونقول لهم قول الله
تبارك وتعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [سورة النساء :
١٦٣].
أمعجز هو على
شروطكم في كونه في أعلى درجات البلاغة أم ليس معجزا؟ فإن قالوا ليس معجزا كفروا ،
وإن قالوا : هو معجز صدقوا وسئلوا : هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة؟ فإن قالوا
نعم ، كابروا وكفوا مئونتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطهم في البلاغة.
وأيضا فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درجات البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هارون والجاحظ وشعر امرئ القيس ،
__________________
ومعاذ الله من هذا
لأن كل ما سبق في طبقته فما يؤمن أن يأتي من مماثل بمثله ضرورة فلا بد لهم من هذه
الخطة أو من المصير إلى قولنا إن الله تعالى منع من معارضته فقط ، وأيضا فلو كان
إعجازه في أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك للآية ولما هو أقل
من الآية ، وهذا ينقض قولهم إن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل. فإن قالوا فقولوا
أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق
: إن كنتم تريدون أن الله تعالى قد بلغ به ما أراد به ، فنعم هو بهذا المعنى في
الغاية التي لا شيء أبلغ منها. وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج بلاغة المخلوقين
فلا ، لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه ،
وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل في رسالة أو خطة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء
المقطعة لكان خارجا عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك. فصح أنه ليس من نوع بلاغة
الناس أصلا ، وأن الله تعالى تولّى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع
كلام الخلق.
برهان ذلك أن الله
تعالى حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) [سورة المدثر : ٤٣
٤٧].
وحكى تعالى عن
كافر قال : (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [سورة المدثر : ٢٤
ـ ٢٦].
وحكى عن آخرين
أنهم قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ
نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [سورة الإسراء :
٩٠ ـ ٩٣].
وكان هذا كله إذا
قاله غير الله تعالى غير معجز بلا خلاف ، إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام إن كلام
غير الله تعالى معجز ، لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاما له أصاره معجزا ، ومنع
من مماثلته. وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره والحمد لله.
__________________
النحو الخامس : ما
مقدار المعجز منه؟ فقالت الأشعرية ومن وافقهم إن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة
منه وهو (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) [سورة الكوثر : ١]
فصاعدا وأن ما دون ذلك ليس معجزا. واحتجوا لذلك بقول الله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [سورة البقرة : ٢٣].
قالوا ولم يتحدّ تعالى بأقل من ذلك. وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله
قليله وكثيره معجز ، وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قول الله
تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزا ، بل قد قال
تعالى (عَلى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [سورة الإسراء :
٨٨].
ولا يختلف اثنان
في أنّ كل شيء من القرآن معجز ، ثم نعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا.
أخبرونا : ما ذا تعنون بقولكم إن المعجز مقدار سورة؟ أسورة كاملة لا أقل؟ أم مقدار
الكوثر من الآيات ، مقدارها في الكلمات؟ أم مقدارها في الحروف؟ ولا سبيل إلى وجه
خامس. فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل ، لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة
أو كلمة واحدة من آخرها أو من ثلثها أو من نصفها أو من أولها ليست معجزة. وهكذا كل
سورة. وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو
من وسطها أو من آخرها مقدورا على مثلها ، وإن قالوا بل مقدارها في الآيات لزمهم أن
آية الدّين ليست معجزة ، لأنها ليست ثلاث آيات ، وأن آية الكرسي ليست معجزة لأنها
ليست ثلاث آيات ، ولزمهم مع ذلك أن (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ
عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [سورة الفجر : ١ ـ
٣]. معجز كآية الكرسي وآيتان لأنها ثلاث آيات. وهذا غير قولهم ، ومكابرة ظاهرة أن
تكون هذه معجزة حاشا كله غير معجز ، ولزمهم أيضا أن «والضّحى والفجر والعصر» هذه
الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهنّ ثلاث آيات. فإن قالوا هي مفترقات غير متصلات
لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية مفترقة وإمكان المجيء بمثلها. ومن جعل هذا ممكنا
فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن ، وفي هذا كفاية لمن نصح
نفسه ، ولزمهم أيضا أن قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) [سورة البقرة :
١٧٩] ليس معجزا ، وهذا نقض قولهم : إنه في أعلى درج البلاغة. وكذلك كل ثلاث آيات
غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول. وإن قالوا بل في عدد الكلمات ، أو
قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم :
أحدهما إبطال
احتجاجهم بقوله تعالى (بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ) [سورة البقرة : ٢٣]
لأنهم جعلوا معجزا ما ليس بسورة ، ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم.
والثاني : أن سورة
الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفا وقد قال تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [سورة النساء آية
رقم ١٦٣] اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفا وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشر
كلمات ، اثنين وستين حرفا هذا أكثر كلمات وحروفا من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا
معجزا عندكم ويكون : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) غير معجز فإن قالوا إن هذا غير معجز تركوا قولهم في مقدار
إعجاز أقل سورة في القرآن ، في عدد الكلمات وعدد الحروف ، وإن قالوا بل هو معجز
تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضا أننا إن أسقطنا من هذه
الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمة ألّا يكون شيء من ذلك معجزا فظهر سقوط كلامهم
وتخليطه وفساده. وأيضا فإذا كانت الآية والآيتان منه غير معجزة وكان مقدورا على
مثلها فكل آية على انفرادها مقدور على مثلها. وإذا كانت كذلك فكله مقدور على مثله
وهذا كفر. فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها. قيل لهم هذا غير
قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق. والحق
في هذا هو ما قاله الله تعالى (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [سورة الإسراء :
٨٨] وأن كل كلمة قائمة المعنى نعلم أنها إن تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا
يقدر أحد على المجيء بمثلها أبدا ، لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال
إن آية نبوتي أن الله تعالى يطلقني على المشي في هذا الطريق الواضح ثم لا يمشي فيه
أحد غيري أبدا أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وأن الكلمة المذكورة إذا
ذكرت في خبر على أنها ليست قرآنا فهي غير معجزة ، وهذا هو الذي جاء به النص والذي
عجز عنه أهل الأرض منذ أربعمائة عام وأربعين عاما وإلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها ونحن نجد في القرآن الكريم إدخال معنى بين معنيين ليس منهما كقوله تعالى (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) [سورة مريم : ٦٤]
وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب
العالمين. تم الكلام في التوحيد ونحمد الله تعالى.
الكلام في القدر
قال أبو محمد :
اختلف الناس في هذا الباب. فذهبت طائفة إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا
استطاعة أصلا له وهو قول جهم بن صفوان وطائفة من الأزارقة ، وذهبت طائفة أخرى إلى
أن الإنسان ليس مجبرا وأثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله. ثم افترقت
هذه الطائفة على فرقتين فقالت إحداهما : الاستطاعة التي يكون الفعل بها لا يكون
إلا مع الفعل ولا تتقدمه البتة ، وهذا قول طوائف من أهل السنة ومن وافقهم كالنجار والأشعري وأصحابهما ومحمد بن عيسى برغوث الكاتب ، وبشر بن غياث المريسي ، وأبي عبد الرحمن العطوي وجماعة من المرجئة والخوارج ، وهشام بن الحكم وسليمان بن
جرير وأصحابهما. والقول الأول قول جهم
__________________
ابن صفوان وجماعة
من الأزارقة. وقالت الأخرى إن الاستطاعة التي بها يكون الفعل هي قبل الفعل موجودة
في الإنسان وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن شبيب ويونس بن عون وصالح قبة والناشئ وجماعة من الخوارج والشيعة. ثم افترق هؤلاء على فرق فقالت
طائفة : إن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضا للفعل ولتركه وهو قول بشر بن
المعتمر البغدادي ، وضرار بن عمرو الكوفي ، وعبد الله بن غطفان ، ومعمر بن عمرو
العطار البصري ، وغيرهم من المعتزلة ، وقال أبو الهذيل محمد بن الهذيل
العبدي البصري العلاف لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ولا تكون قبله ولا بد
وتفنى مع أول وجود الفعل. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام وعلي الأسواري
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم : ليست الاستطاعة شيئا غير نفس المستطيع ،
وكذلك أيضا قالوا في العجز إنه ليس شيئا غير العاجز ، إلا النظام فإنه قال هو آفة
دخلت على المستطيع.
قال أبو محمد :
فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا لما كان الله تعالى فعّالا ، وكان لا
يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعّالا غيره ، وقالوا أيضا معنى إضافة الفعل
إلى الإنسان إنما كما نقول مات زيد وإنما الله تعالى أماته ، وقام البناء وإنما
أقامه الله تعالى.
قال أبو محمد :
خطأ هذه المقالة ظاهر بالحس وبالنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى وبها
نتفاهم. فأما النص فإن الله عزوجل قال في غير موضع من القرآن (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) [سورة الأحقاف :
١٤] وقال تعالى (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [سورة الصف : ٢]
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة الكهف : ٣٠
، ١٠٧] فنص على أن لنا عملا وفعلا. وأما الحس فإن الحواس وبضرورة العقل وبديهته
علمنا يقينا علما لا يخالج فيه الشك أن بين
__________________
الصحيح الجوارح
وبين من لا صحة لجوارحه فرقا لائحا لجوارحه ، لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام
والقعود وسائر الحركات مختارا لها دون مانع ، وأن الذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك
جهده لم يفعله أصلا ، ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع
منه الفعل بخلاف اختياره وقصده ، فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في
اللغة مجبرا. وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة
وموجب أن لنا حولا وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهبت إليه
الجهمية لكان القول «لا حول ولا قوة إلا بالله» لا معنى له ، وكذل قوله تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [سورة التكوير :
٢٨ ، ٢٩] فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منّا إلا أن يشاء الله
تعالى كونها وهذا نص قولنا والحمد لله.
قال أبو محمد :
ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممكن والممتنع أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح
وغير صحيحها ، لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية ، وأن الفعل
الاختياري من ذي الجوارح المعوقة ممتنع وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن ، وإننا
بالضرورة ندري أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقينا أنه لا يقوم ،
وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعدا أيقوم أم يتكئ أو يتمادى على قعوده ،
وكل ذلك ممكن منه. وأمّا من طريق اللغة فإن الإجبار والإكراه والاضطرار والغلبة
أسماء مترادفة ولكنها واقعة على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا
يختاره ولا يتوهم منه خلافه البتة. وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد
ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار ، لكنه مختار والفعل
منه مراد متعمّد مقصود ونحو هذه العبارات في هذا المعنى في اللغة العربية التي بها
نتفاهم. فإن قال قائل : فلم أبيتم هاهنا من إطلاق لفظة الاضطرار وأطلقتموها في
المعارف فقلتم إنها باضطرار ، وكل ذلك عندكم خلق الله في الإنسان؟ فالجواب أن بين
الأمرين فرقا بيّنا وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله ، وممكن ذلك منه وليس كذلك
الذي عرفه ببرهان ، لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ، ولا يمكنه في ذلك أصلا فصح
أنه مضطر إليها. وأيضا فقد أثنى الله تعالى على قوم دعوه فقالوا (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ
لَنا بِهِ) [سورة البقرة :
٢٨٦] ، وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ
مترادفة كلها واقع على معنى واحد ، وهو صفة ما يمكن منه الفعل باختياره أو تركه
باختياره ، ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيئا من
الطاعات والأعمال ، واجتناب المعاصي ، فلو لا
أن هاهنا أشياء
لهم بها طاقة لكان هذا الدعاء حمقا لأنهم كانوا يصيرون داعين إلى الله تعالى في أن
لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به ، وهم لا طاقة لهم بشيء من الأشياء ، فيصير دعاؤهم في
أن لا يكلفوا ما قد كلفوه وهذا محال من الكلام ، والله تعالى غني عن أن يثني على
المحال فصح بهذا يقينا أن هاهنا طاقة موجودة على الأفعال وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم بأن
الله تعالى لما كان فعالا وجب أن لا يكون فعّال غيره ، فخطأ من القول لوجوه :
أحدها أن النص قد
ورد بأن للإنسان أفعالا وأعمالا قال تعالى (كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة المائدة :
٧٩].
فأثبت تعالى لهم
الفعل وكذلك نقول إن الإنسان يصنع لأن النص قد جاء بذلك ولو لا النص ما أطلقنا
شيئا من هذا وكذلك لما قال الله تعالى (وَفاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ) [سورة الواقعة :
٢٠] علمنا أن للإنسان اختيارا ، لأن أهل الجنة وأهل الدنيا سواء في أنه تعالى خالق
أعمال الجميع ، على أن الله تعالى قال (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [سورة القصص : ٦٨]
، فعلمنا أن الاختيار الذي هو فعل الله تعالى وهو منفيّ عن من سواه هو غير
الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به ، ووجدها هذا أيضا حسّا لأن الاختيار الذي
توحد الله تعالى به ، وهو أن يفعل ما يشاء كيف شاء وإذا شاء وليس هذه صفة شيء من
خلقه. وأما الاختيار الذي أضافه إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى شيء ما
والإيثار له على غيره فقط. وهذا هو غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.
ومنها أن الاشتراك
في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ، ألا ترى أننا نقول الله حيّ والإنسان حيّ
والإنسان حليم عليم كريم حكيم ، والله تعالى حليم عليم كريم حكيم ، فليس هذا يوجب
اشتباها بلا خلاف وإنما يقع الاشتباه بالصّفات الموجودة في الموصوفين والفرق
بينهما لأن الفعل الواقع من الله عزوجل والفعل الواقع منّا هو أن الله تعالى إمّا أنه اخترعه
وجعله جسما أو عرضا أو حركة أو سكونا أو معرفة أو إرادة أو كراهية أو فكرة وجعل
الله تعالى ذلك فينا بغير معاناة منه ، وفعل تعالى لغير علمه ، وإنما نحن فإنما
كان فعلا لنا لأنه عزوجل خلقه فينا ، وخلق اختيارنا له وأظهره عزوجل فينا محمولا لاكتساب منفعة أو لدفع مضرّة ولم نخترعه نحن.
وأما من قال
بالاستطاعة قبل الفعل : فعمدة حجتهم أن قالوا لا يخلو الكافر من
أحد وجهين. إما أن
يكون مأمورا بالإيمان ، أو لا يكون مأمورا به. فإن قلتم إنه غير مأمور بالإيمان
فهذا كفر مجرد ، وخلاف القرآن والإجماع ، وإن قلتم هو مأمور به وهكذا تقولون ، فلا
يخلو من أحد وجهين ، إما أن يكون أمر وهو يستطيع ما أمر به فهذا قولنا لا قولكم ،
أو يكون أمر وهو لا يستطيع ما أمر به ، فقد نسبتم إلى الله تعالى تكليف ما لا
يستطيع ، ويلزمكم تكليف الأعمى أن يرى ، والمقعد أن يجري ، أو يطلع إلى السماء ،
وهذا كله جور وظلم ، والجور والظلم منفيان عن الله عزوجل ، وقالوا : إذ لا يفعل المرء فعلا إلا بالاستطاعة الموهوبة
من الله عزوجل ، فلا تخلو تلك الاستطاعة من أن يكون المرء أعطيها والفعل
موجود ، أو أعطيها والفعل غير موجود ، فإن كان أعطيها والفعل موجود فلا حاجة إليها
، إذ قد وجد الفعل منه الذي يحتاج إلى الاستطاعة ليكون ذلك الفعل بها.
وإن أعطيها والفعل
غير موجود فهذا قولنا ، إن الاستطاعة قبل الفعل ، والله تعالى يقول : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [سورة آل عمران :
٩٧].
قالوا : فلو لم
تتقدم الاستطاعة الفعل لكان الحج لا يلزم أحدا قبل أن يحج.
وقال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) [سورة البقرة :
١٨٤].
وقال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ
سِتِّينَ مِسْكِيناً) [سورة المجادلة :
٤].
فلو كانت
الاستطاعة للصوم لا تتقدم الصوم ما لزمت أحدا الكفارة به.
وقال تعالى : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ
اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة : ٤٢].
فصح أن استطاعة
الخروج موجودة مع عدم الخروج.
وقال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة التغابن :
١٦].
ولهم أيضا في خلق
الأفعال اعتراض نذكره إن شاء الله تعالى.
باب ما الاستطاعة؟
قال أبو محمد : إن
الكلام على حكم لفظ الاستطاعة قبل تحقيق معناها ، ومعرفة ما المراد بها ، وعن أي
شيء يعبر بذكرها ، طمس للوقوف على حقيقتها ، فينبغي أولا أن يوقف على معنى
الاستطاعة ، فإذا تكلمنا عليه وقربناه بحول الله وقوته سهل الإشراف على صواب هذه
الأقوال من خطئها بعون الله وتأييده ، فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إن قول من قال إن
الاستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد ، ولو كان لقائله أقل علم باللغة
العربية ثم بحقائق الأسماء والمسميات ، ثم بماهية الجواهر والأعراض لم يقل هذا
السخف.
أما اللغة : فإن
الاستطاعة فيها إنما هي مصدر استطاع يستطيع والمصدر هو فعل الفاعل وصفته كالضرب هو
فعل الضارب ، والحمرة التي هي صفة الأحمر ، والاحمرار هو صفة المحمر وما أشبه هذا
، والصفة والفعل عرضان بلا شك في الفاعل منا وفي الموصوف ، والمصادر هي أفعال
المسمين فالأسماء بإجماع من أهل كل لسان.
فإذا كانت
الاستطاعة في اللغة التي بها نتكلم نحن وهم ، إنما هي صفة في المستطيع ، فبالضرورة
نعلم أن الصفة غير الموصوف ، لأن الصفات تتعاقب عليه ، فتمضي صفة وتأتي أخرى ، فلو
كانت الصفة هي الموصوف ، لكان الماضي من الصفات هو الموصوف الباقي ، ولا سبيل إلى
غير هذا البتة. فإذ لا شك في أن الماضي هو غير الباقي ، فالصفات هي غير الموصوف
بها ، وما عدا هذه هو عين المحال والتخليط. فإن قالوا : إن الاستطاعة ليست مصدر
استطاع ، ولا صفة المستطيع ، كابروا وأتوا بلغة جديدة غير التي بها نزل القرآن
والتي هي لفظة الاستطاعة التي فيها منازعة ، إنما هي كلمة من تلك اللغة ومن أحال
شيئا من الألفاظ اللغوية عن موضوعها في اللغة بغير نص محتمل لها ولا إجماع من
الشريعة ، فقد فارق حكم أهل العقول والحياء وصار في نصاب من لا يتكلم معه ، ولا
يعجز أحد أن يقول : إن الصلاة ليست ما تعنون بها وإنما هي أمر كذا وكذا ، والماء
هو الخمر ، وفي هذا بطلان
الحقائق كلها ،
وأيضا فإنا نجد المرء مستطيعا ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه ، وبتكتيف أو
ضبط أو إغماء ، وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء ، فصح بالضرورة أن الذي عدم من
الاستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم منه شيء ، هذا أمر يعرف بالمشاهدة
والحس ، وبهذا أيقنا أن الاستطاعة عرض يقبل الأشد والأضعف. فنقول : استطاعة أشد من
استطاعة ، واستطاعة أخف من استطاعة ، وأيضا فإن الاستطاعة لها ضد وهو العجز ،
والأعراض لا تكون إلا أعراضا تقسم طرفي البعد ، كالخضرة والبياض ، والعلم والجهل ،
والذكر والنسيان ، وما أشبه هذا.
وهذا كله أمر يعرف
بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ، ومعاند مكابر الضرورة ، والمستطيع
جوهر ، والجوهر لا ضدّ له ، فصح بالضرورة أن الاستطاعة هي غير المستطيع بلا شك ،
وأيضا فلو كانت الاستطاعة هي غير المستطيع لكان العجز أيضا هو العاجز اليوم وهو
المستطيع بالأمس ، فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع ، فإن لاذوا عن هذا ، لزمهم
أن العجز عن الأمر هو الاستطاعة عليه ، وهذا محال ظاهر ، فإن قالوا إن العجز غير
المستطيع وهو آفة دخلت على المستطيع ، سئلوا : ما الفرق الذي من أجهله قالوا إن
الاستطاعة غير المستطيع ، ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز؟ ولا سبيل إلى وجود فرق
في ذلك ، وبهذا نفسه يبطل قول من قال : إن الاستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء
لأن العرض لا يكون بعضا للجسم وأما من قال إن الاستطاعة هي كل ما يوصل به إلى
الفعل كالإبرة والدلو ، والحبل ، وما أشبه هذا فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد
توجد هذه الآيات وتعدم صحة الجوارح فلا يمكن الفعل.
فإن قالوا : وقد
تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح فلا يمكن الفعل ، قلنا : صدقتم ، وبوجود هذه
الآلات يتم الفعل إلا أن لفظة الاستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في
اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع ، فليس لأحد أن يصرف
هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ، ولو جاز هذا لبطلت
الحقائق ، ولم يصح تفاهم أبدا. وقد علمنا يقينا أن لفظة الاستطاعة لم تقع قط في
اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا مهماز ولا على إبرة.
فإن قالوا : قد صح
عن أئمة اللسان كابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهما أن الاستطاعة زاد وراحلة. قيل : نعم قد صح هذا ولا خلاف من أحد له فهم باللغة
__________________
العربية في أنهما
إنما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة ، وبرهان ذلك أن الزاد والرواحل كثير في
العالم ، وليس كونهما في العالم موجبا عندهما فرض الحج على من لا يجدهما.
فصح ضرورة أنهما
إنما عنيا بذلك قوة على إحضار زاد وراحلة ، والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله
تعالى التوفيق.
وهكذا القول إن
ذكروا قول الله عزوجل : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [سورة الأنفال :
٦٠].
لأن هذا نص قولنا
لأن القوة عرض ، ورباط الخيل عرض ، فسقط هذا القول أيضا. فإذ قد سقطت هذه الأقوال
كلها وصح أن الاستطاعة عرض من الأعراض ، فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض؟ فنظرنا
في ذلك بعون الله وتأييده ، فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع منه باختيار إلا من صحيح
الجوارح التي بها يكون ذلك الفعل ، فصح يقينا أن سلامة الجوارح وارتفاع الموانع
استطاعة ، ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختارا إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة
الفعل ، فعلمنا أن الإرادة أيضا محركة للاستطاعة ولا نقول : إن الإرادة استطاعة ،
لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع ، وقد علمنا ضرورة أن العاجز
عن الفعل فليس فيه استطاعة للفعل لأنهما ضدان ، والضدان لا يجتمعان معا ، ولا يمكن
أيضا أن تكون الإرادة بعض الاستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في العاجز المريد
استطاعة ما ، لأن بعض الاستطاعة استطاعة ، وبعض العجز عجز ، ومحال أن يكون في
العاجز عن الفعل استطاعة له البتة.
والاستطاعة ليست
عجزا فإن من استطاع على شيء وعجز عن أكثر منه ففيه استطاعة على ما يستطيع عليه ،
وفيه عجز أيضا عما لا يستطيع عليه ، هو غير الاستطاعة فيه على ما استطاع عليه ، ثم
نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه
على الفعل أصلا ، فعلمنا أن هاهنا شيئا آخر به تتم الاستطاعة ولا بدّ ، وبه يوجد
الفعل ، فعلمنا ضرورة أن هذا الشيء هو تمام الاستطاعة ولا بد ، فلا تصح الاستطاعة
إلا به. فهو بالضرورة قوة ، إذ الاستطاعة قوة وإذا ذلك الشيء قوة ولا بد ، فقد
علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى ،
__________________
إذ لا يمكن ذلك
لأحد دونه عزوجل ، فصح ضرورة أن الاستطاعة صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع ،
وهذان الوجهان قبل الفعل قوة أخرى من عند الله عزوجل وهذا الوجه مع الفعل باجتماعها يكون الفعل وبالله تعالى
التوفيق.
ومن البرهان على
صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله عزوجل التوفيق والاستعانة والاستعاذة من الخذلان ، فالقوة التي
ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى توفيقا وتأييدا وعصمة ، والقوة
التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الشر تسمى بالإجماع خذلانا ، والقوة
التي ترد من الله تعالى فيفعل بها العبد ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عونا أو قوة
أو حولا ، وتبين من صحة هذا قول المسلمين لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
والقوة لا يكون
لأحد البتة فعل إلا بها ، فصح أنه لا قوة لأحد إلا بالله تعالى ، ذلك يسمى تيسيرا
، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ ميسّر لما خلق له». وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الاستطاعة فعل الله تعالى
وأنه لا يفعل أحد خيرا ولا شرا إلا بقوة أعطاها الله تعالى إياها ، إلا أنهم قالوا
: إنما يصلح بها الخير والشر معا.
قال أبو محمد :
فجملة القول في هذا أن عناصر الأخبار ثلاثة وهي ممتنع ، أو واجب ، أو ممكن بينهما.
هذا أمر يعلم بضرورة العقل والحس والتمييز ، فإذ الأمر كذلك فإن صحة الجوارح ،
وارتفاع الموانع ، استطاعة بها يمكن وجود الفعل ويكون لا واجبا ولا ممتنعا ، وبعده
يكون الفعل ممتنعا ، إذ لا سبيل لعادم صحة الجوارح أو من له مانع إلى الفعل ، وأما
الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون فيه الفعل وقد لا يكون ، فهذه الاستطاعة
الموجودة قبل الفعل ، برهان ذلك قوله تعالى حكاية عن القائلين (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ
يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة : ٤٢].
فأكذبهم الله تعالى في إمكان استطاعة الخروج قبل الخروج ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [سورة آل عمران :
٩٧].
__________________
فلو لم يكن هاهنا
قبل الفعل الذي هو فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا لمن حج فقط ، ولما كان أحد
عاصيا بترك الحج لأنه إن لم يكن مستطيعا الحج حتى يحج فلا حج عليه ، ولا هو مخاطب
بالحج ، وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً) [سورة النساء : ٩٢].
فلو لم يكن على
المظاهر العائد لقوله استطاعة على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطبا بوجوب الصوم
عليه ، إذا لم يجد الرقبة أبدا ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط ، وهذا
باطل.
وقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن تابعه من أصحابه رضي الله عنهم : «فيما استطعتم» ، وأمره صلىاللهعليهوسلم أنه يصلوا قياما فمن لم يستطع فقاعدا ، فمن لم يستطع فعلى
جنب ، في هذا إجماع متفق على صحته لا شك فيه ، فلو لم يكن الناس مستطيعين معذورا إن
صلى قاعدا أو على جنب بكل وجه ، لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعا للقيام وهذا
باطل ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم» فلو لم تكن
هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به قبل أن نفعل لما أمرنا به ولما لزمنا شيء من ذلك ، ولكنا
غير عصاة بالترك ، لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا.
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «أتستطيع
أن تصوم شهرين؟» قال : لا.
__________________
فلو لم يكن أحد
مستطيعا للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه محالا وحاشا له من ذلك.
ومما يبين صحة هذا
وأن المراد بكل ما ذكرنا سلامة الجوارح وارتفاع الموانع قول الله عزوجل : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ
وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [سورة القلم : ٤٢
، ٤٣].
فنص تعالى على أن
في عدم السلامة بطلان الاستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك ، فصح أن سلامة
الجوارح استطاعة ، وإذ قد صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل
وضده ، والعمل وتركه ، والطاعة والمعصية ، لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح.
فإن قال قائل :
فإن سلامة الجوارح عرض ، والعرض لا يبقى وقتين؟ قيل له : هذه دعوى بلا برهان ،
والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة أن هذه الاستطاعة من سلامة صحة
الجوارح وارتفاع الموانع موجودة قبل الفعل ، ثم لو كان ما ذكرنا لما كان فيه دفع
لما قاله الله تعالى من ذلك ، ثم وجدنا الله تعالى قد قال : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [سورة الكهف : ١٠١].
وقال تعالى حاكيا
قول الخضر لموسى عليهماالسلام : (إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [سورة الكهف : ٦٧].
وقال : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [سورة الكهف : ٨٢].
وعلمنا أن كلام
الله عزوجل لا يتعارض ولا يختلف.
قال الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].
فأيقنا أن الاستطاعة
التي نفاها الله عزوجل هي غير الاستطاعة التي أثبتها ، لا يجوز غير ذلك البتة.
__________________
فإذ ذلك كذلك
فالاستطاعة كما قلنا شيئان ، أحدهما قبل الفعل ، وهو سلامة الجوارح ، وارتفاع
الموانع.
والثاني : لا يكون
إلا مع الفعل ، وهو القوة الواردة من الله عزوجل بالعون أو الخذلان وهذا خلق الله تعالى للفعل فيما ظهر منه
، وسمي من أجل ذلك فاعلا ، لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجود معنى غير هذا البتة ،
فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة ، بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع ،
وضرورة الحس ، وبديهة العقل. فعلى هذا التقسيم بيّنا الكلام في هذا الباب ، فإذا
نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل
ويوجد واجبا ولا بد ، وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله ، فإذا أثبتنا الاستطاعة
قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح ، وارتفاع الموانع التي بها يكون الفعل
ممكنا متوهما ، لا واجبا ولا ممتنعا ، وبهذا يكون المرء مخاطبا مكلفا ، مأمورا ،
منهيا ، وبعدمها يسقط عنه الخطاب ، والتكليف ، ويصير الفعل منه ممتنعا ، ويكون
عاجزا عن الفعل.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عزوجل : ما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل
ولا بد.
فنقول وبالله
تعالى التوفيق : إنهم أيضا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان : أهو مأمور بما لا
يستطيع أم بما يستطيع؟
فجوابنا وبالله
تعالى نتأيد أننا قد بينا آنفا أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ، وحامل
هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه ، وغير مستطيع لما لم يفعل الله تعالى
فيه ما به يكون تمام استطاعة ووجود الفعل ، فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه
آخر ، وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضا مشاهد كالبنّاء المجيد ، فهو
مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء ، غير مستطيع بعدم الآلات التي لا يوجد البناء
إلا بها.
وهكذا في جميع
الأعمال ، وأيضا فقد يكون المرء عاصيا لله تعالى في وجه ، مطيعا له في وجه آخر ،
مؤمنا بالله كافرا بالطاغوت.
فإن قالوا : قد
نسبتم إلى الله تعالى تكليف ما لا يستطاع.
قلنا : هذا باطل
بل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحدا إلا ما يستطيع
بسلامة جوارحه ، وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى ، لأن الاستطاعة التي
يكون بها الفعل ليست فيه بعد ، فلا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون
الآخر.
وأما قولهم : هذا
كتكليف المعقد الجري ، والأعمى النظر ، وإدراك الألوان ، والارتفاع إلى السماء.
فإن هذا باطل ، فإن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمي الاستطاعة ، فلا استطاعة لهم أصلا
، وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمي الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ، فلو لا أن
الله عزوجل أمننا بقوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج : ٧٨]
لكان غير منكر أن يكلف الله عزوجل الأعمى إدراك الألوان ، والمقعد الجري والطلوع إلى السماء
، ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ، ولله تعالى أن يعذب من شاء دون أن يكلفه وأن ينعم
من شاء دون أن يكلفه كما رزق من يشاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان ،
وجعل عيسى ابن مريم عليهماالسلام نبيا في المهد عند ولادته ، وشدّ على قلب فرعون فلم يؤمن ،
قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء :
٢٣].
وليس في بداية
العقل حسن ولا قبيح بعينه البتة.
وقالت المعتزلة :
متى أعطي الإنسان الاستطاعة قبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا : فهذا
قولنا ، وإن كان حين وجود الفعل ، فما حاجتنا إليه؟
فجوابنا وبالله
تعالى التوفيق : أن الاستطاعة قسمان كما قلنا.
فأحدهما : قبل
الفعل ، ومع الفعل ، وهو صحة الجوارح وارتفاع الموانع.
والآخر : مع الفعل
، وهو العون والخذلان اللذان بهما يقع الفعل ، ولو لا هما لم يقع والآخر : مع
الفعل ، وهو العون والخذلان اللذان بهما يعق الفعل ، ولو لا هما لم يقع كما قال
الله تعالى ، ولو كانت الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل ولا بد ، ولا تكون مع
الفعل أصلا كما زعم أبو الهذيل لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة ، وفاعلا فعلا لا
استطاعة له على فعله حين فعله ، وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه ، فهو فاعل
عاجز عما يفعل معا ، وهذا تناقض ومحال بين.
قال أبو محمد :
ولهم إلزامات سخيفة هي لازمة لهم ، كما تلزم غيرهم سواء سواء ، منها قولهم : متى
أحرقت النار العود أفي حال سلامته وهو محرق؟ فإن كانت أحرقته في حالة سلامته فهو
إذن محرق غير محرق. وإن كانت أحرقته وهو محروق فما الذي أحرقت فيه؟ وسؤالهم : متى
كسر المرء العود؟ أكسره وهو صحيح فهو إذن مكسور صحيح؟ أو كسره وهو مكسور؟ فما الذي
أحدث فيه؟ وكسؤالهم : متى أعتق المرء عبده في حال رقه فهو حر عبد معا؟ أو في حال
عتقه؟ فأي معنى لعتقه إياه؟
__________________
ومتى طلق المرء
زوجته؟ أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة غير مطلقة معا؟ أم طلقها وهي مطلقة ، فما
الذي أثر فيها طلاقه؟ ومتى مات المرء أفي حياته أم مات وهو ميت؟ ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد :
وهذه كلها سفسطة مجردة ، وسؤالات سخيفة مموهة ، والحق فيها أن تفريق النار أجزاء
العود هو المسمى إحراقا ، وليس الإحراق شيئا غير ذلك ، وقولهم : هل أحرقته وهو
محرق تخليط ، لأن ابتداء الإحراق هو ابتداء زوال ، لأن لا إحراق ولا كسر ثم كذلك
في سائر ما قلنا. وهذه الأسئلة فيها إيهام أن الإحراق غير الإحراق ، وهذه سخافة.
وكذلك كسر العود
إنما هو إخراجه عن حال الصحة ، والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد
من الرق إلى العتق هو عتقه ولا مزيد ، ليست له حال أخرى.
وكذلك خروج المرأة
من الزوجية إلى الطلاق : هو تطليقها نفسه.
وكذلك فراق الروح
الجسد هو الإماتة ، وهو الموت نفسه ولا مزيد ليست هاهنا حالة أخرى وقع فيها ،
وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في أن تمام الاستطاعة لا يكون
إلا مع الفعل لا قبله
قال أبو محمد :
يقال لمن قال : إن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل ، أو أنها قبل الفعل بتمامها
، وتكون أيضا مع الفعل ، أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على
الإيمان قدرة تامة أم لا؟ وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال
تركه لها؟ وعن الزاني هل يقدر عليه في حال زناه على ترك الزنى بأن لا يكون منه
الزنا أصلا أم لا ..؟
وبالجملة فالأوامر
كلها إنما هي أمر بحركة أو أمر بسكون ، أو أمر باعتقاد إثبات شيء ما أو أمر
باعتقاد إبطال شيء ، وهذا كله يجمعه فعل أو ترك ، فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور
بالحركة على الحركة في حال السكون ..؟ وهل يقدر المتحرك المأمور بالسكون على
السكون في حال الحركة ..؟
وهو مأمور
باعتقادات إثباته هل يقدر في حال اعتقاد إثباته على اعتقاد إبطاله أو بالعكس؟ وعن
معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله ، هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على
اعتقاد إبطاله أم لا ..؟
وعن المأمور
بالترك وهو فاعل ما أمر بتركه ، أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلا لشيء
تاركا لذلك الشيء معا أم لا ..؟
فإن قالوا : نعم
هو قادر على ذلك كابروا العيان ، وخالفوا المعقول والحس ، وأجازوا كل طامّة من كون
المرء قائما قاعدا مؤمنا كافرا معا وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع.
وإن قالوا : إنه
لا يقدر على ذلك قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافه ، قالوا الحق
ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله ، وكل هذا
حق ، وكل جواب أجابوا به هاهنا فإنما هو إيهام ، ولواذ ومدافعة بالراح ، لأنه إلزام
ضروري حسي متيقن لا محيد عنه ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قالوا : لسان
نقول إنه يقدر على أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ، ولكنا قلنا إنه قادر على
أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به.
قيل لهم : هذا هو
نفسه الذي أردنا منكم وهو أنه لا يقدر قدرة تامة ، ولا يستطيع استطاعة تامة على
فعل ما دام فاعلا لما يمانعه ، فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به ، فحينئذ تمت
قدرته واستطاعته ، لا بد من ذلك ، وهذا هو نفسه ما موّهوا به في سؤالهم لنا : هل
أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعل ..؟
وهذا لازم لهم ،
لأنهم شنعوه وعظموه فلما ألزموه أنكروه ، ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاما صحيحا
فقبحه عائد عليهم ، وإنما يلزم الشيء لمن صححه ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبيّ البلخي ، أحد رؤساء
المعتزلة القائلين بالأصلح ، بأن قال : إنا لا نختلف بأن الله تعالى قادر على
تسكين المتحرك وتحريك الساكن ، وليس يوصف بالقدرة على أنه يجعله ساكنا متحركا معا.
قال أبو محمد :
وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف به الله تعالى ، بل هو قادر على أن يجعل
الشيء ساكنا متحركا معا في وقت واحد من وجه واحد ، ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن
التزم هذه الكفرة الصلعاء ، من أن الله عزوجل لا يوصف بالقدرة على المحال ، وهذه طائفة معجّزة لله تعالى
، إلا أنها أدغمت قبيح قولها بأن قالت : لا يوصف بالقدرة على المحال.
ويقال لهم : لم لا
يوصف بالقدرة على ذلك ألأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها ، أم لأنه لا قدرة له على
ذلك؟ ولا محيد لهم عن هذا. وهذه طائفة جعلت قدرة ربها تعالى متناهية ، بل قطعوا
بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله ، وهذا كفر مجرد لا خفاء به ، ونعوذ بالله
من الخذلان.
قال أبو محمد :
ويقال للمعتزلة أيضا : أنتم تقرون معنا بأن الله عزوجل لم يزل عليما بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا
كان ولم يزل الله تعالى عليما بأن فلانا سيطأ فلانة في وقت كذا فتحمل منه بولد
يخلقه الله تعالى من منيّهما الخارج منهما عند جماعه إياها ، وأنه يعيش ثمانين سنة
، ويملك ويفعل ويصنع ، فإذا قلتم : إن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك الوطء
الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون ، وأنه يخلق منه ذلك الولد ، فقد قطعتم
بأنه قادر على أن يمنع الله تعالى من خلق ما قد علم أنه سيخلقه ، وأنه قادر قدرة
تامة على إبطال علم الله تعالى وهذا كفر ممن أجازه.
فإن قال قائل
فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم. قلنا : هذا
لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلا ، بل قلنا إنه لا يقدر على
ذلك قدرة تامة البتة ، ومعنى قولنا إنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهّم منه ذلك
لو كان ، ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله تعالى.
فإن قالوا : إن
الله تعالى قادر على كل ذلك ، ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل ، قلنا :
وهذا أيضا مما تكلمنا فيه آنفا بل الله تعالى قادر على كل ذلك ، بخلاف خلقه ، على
ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق.
وقد نص الله تعالى
على ما قلنا بقوله عزوجل : (وَسَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ
يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة : ٤٢].
إلى قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا
لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا
مَعَ الْقاعِدِينَ) [سورة التوبة : ٤٦].
فأكذبهم الله عزوجل في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع
الموانع ، ثم نص تعالى على أنه قادر «اقعدوا مع القاعدين».
ولا يكون هذا إلا
أمر تكوين لا أمرا بالقعود ، لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم ، وقد نص الله تعالى
على أنه (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢].
فقد ثبت يقينا
أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح ، وارتفاع الموانع ، وأن الله تعالى
كوّن فيهم قعودهم فبطل أن تتم استطاعتهم ، بخلاف فعلهم الذي ظهر منهم ، وقال عزوجل : (مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [سورة الكهف : ١٧].
فبين عزوجل بيانا جليا أن من أعطاه الهدى اهتدى ، ومن أضله فلا يهتدي
، فصح يقينا أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به
مهتديا ، وأنّ بوقوع الإضلال من الله تعالى ، وهو الخذلان وخلق ضلال العبد ، يفعل
المرء ما يكون به ضلالا.
فإن قال قائل :
معنى هذا أن من سماه الله تعالى مهتديا ، ومن سماه ضلالا قيل له هذا. قلنا له هذا
باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضلّه الله فلن تجد له وليا مرشدا فلو أراد الله
عزوجل التسمية كما زعمتم ، لكان هذا القول منه عزوجل كذبا ،
لأن كل ضال فله
أولياء على ضلاله يسمونه مهتديا وراشدا ، وحاشا لله من هذا الكذب ، فبطل تأويلهم
الفاسد ، وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
وقال تعالى مخبرا
عن الخضر عليهالسلام الذي آتاه الله عزوجل العلم والحكم والنبوة ، حاكيا عن موسى صلىاللهعليهوسلم وفتاه : (فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً) [سورة الكهف : ٦٥].
وقال تعالى مخبرا
عنه ومصدقا له : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي) [سورة الكهف : ٨٢].
فصحّ أن كل ما قال
الخضر عليهالسلام فمن وحي الله تعالى ، ثم أخبر عزوجل بأن الخضر قال لموسى صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [سورة الكهف : ٦٧ و
٧٢].
فلم ينكر الله عزوجل على كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليهالسلام ولكن أجابه بأن قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) [سورة الكهف : ٦٩].
فلم يقل له موسى عليهالسلام : إني مستطيع للصبر ، بل صدق قوله في ذلك إذ أقره ولم
ينكره ، ورجا أن يحدث الله تعالى له استطاعة على الصبر فيصبر ، فلم ينكر ذلك موسى عليهالسلام ، ولم يوجب موسى عليهالسلام أيضا لنفسه إلا أن يشاء الله ثم كرره الخضر عليهالسلام بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر ، فهذه
شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر صلوات الله عليهم ، وأكبر من شهادتهم شهادة
الله تعالى بتصديقهم في ذلك إذ قصه تعالى غير منكر له ، بل مصدقا لهم وهذا لا يرده
إلا مخذول.
وقال عزوجل : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ
ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [سورة الكهف : ١٠٠
و ١٠١].
فنص تعالى نصا
جليا على أنهم ما كانوا يستطيعون السمع الذي أمروا به ، وأنهم مع ذلك كانت أعينهم
في غطاء عن ذكر الله عزوجل ، ومع ذلك استحقوا عليه جهنم ، وكانوا في ظاهر الأمر
مستطيعين بصحة جوارحهم ، وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه
لنا وتوفيقه إيانا ، لا إله إلا هو إذ يقول تعالى : وقال الظالمون : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً
مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [سورة الفرقان : ٨].
فنفى الله عزوجل عنهم استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده ، وهذا
كفاية لمن عقل.
وقال الله تعالى :
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة يونس : ١٠٠].
فنص الله تعالى
على أن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن ، وأن من أذن له في الإيمان آمن ، وهذا
الإذن هو التوفيق الذي ذكرنا ، فيكون به الإيمان ولا بدّ ، وعدم الإذن هو الخذلان
الذي ذكرنا نعوذ بالله تعالى منه.
وقال تعالى حاكيا
عن يوسف عليهالسلام ومصدقا : (وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ
لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [سورة يوسف : ٣٣ و
٣٤].
فنص على أن رسوله صلىاللهعليهوسلم ، إن لم يعنه بصرف الكيد عنه صبا ، وجهل ، وأنه تعالى صرف
عنه الكيد فسلم ، وهذا نص جليّ على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى.
وقال تعالى حاكيا
عن إبراهيم خليله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ومصدقا له : (لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [سورة الأنعام :
٧٧].
فهذا نص جليّ على
أنّ من أعطاه الله تعالى قوة الإيمان آمن واهتدى ، ومن منعه تلك القوة كان من
الضالّين ، وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [سورة النحل : ١٢٧].
فنص تعالى على أنه
أمره بالصبر ثم أخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله عزوجل ، وإذا أعانه بالصّبر صبر.
وقال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ
اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [سورة النحل : ٣٧].
وهذا نص جلي على
أن من أضلّه الله تعالى بالخذلان فلا يكون مهتديا.
وقال تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [سورة الإسراء : ٤٥
و ٤٦].
فهذا نص جليّ لا
إشكال فيه على أن الله تعالى خذلهم ومنعهم أن يفقهوه.
فإن قال قائل :
إنما قال تعالى إنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ، وكذلك قال تعالى (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [سورة البقرة : ٢٦]
و (كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) [سورة الأعراف :
١٠١].
قيل له وبالله
تعالى التوفيق : لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم التوفيق
وسلّط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم ، فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على
ما تأولت ، ولكن الآيات على ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف ، وهو أن الله
تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم ، وكذلك إنما صاروا
لا يؤمنون حين جعل بينهم وبين نبيهم صلىاللهعليهوسلم حجابا مستورا ، وحين جعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم
الوقر ، لا قبل ذلك ، وإنما صاروا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك ، وقال
تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [سورة الإسراء :
٧٤].
فنص تعالى على أنه
لو لا أن ثبت نبيه صلىاللهعليهوسلم بالتوفيق لركن إليهم ، فإنما ثبت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حين ثبته ربه تعالى لا قبل ذلك ، ولو لم يعطه التثبيت
وخذله لركن إليهم ، وضلّ واستحق العذاب على ذلك ، ضعف الحياة وضعف الممات ، فتبّا
لكل مخذول يظن في نفسه أنه مستغن عن ما افتقر إليه محمد صلىاللهعليهوسلم ، من توفيق الله تعالى وتثبته وأنه قد استوفى من الهدى ما
لا مزيد فيه ، وأنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أكثر ، وقد أمرنا تعالى أن
نقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة :٥ ـ ٧].
فنص على أمرنا
بطلب العون منه ، وهذا نصّ قولنا والحمد لله رب العالمين ، فلو لم يكن هاهنا عون
خاص ، من آتاه الله تعالى اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل ، لما كان لهذا الدعاء
معنى ، لأن الناس كانوا كلهم يكونون معانين منعما عليهم ، مهديين غير معذبين ، وهذا
خلاف النص المذكور ، وقال تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) [سورة البقرة : ٧].
فنص على أنه ختم
على قلوب الكافرين ، وأن على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قبول الحق
، فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم جلّ
وعلا؟ وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ، نعوذ بالله منه ، وهذا نص جلي أنهم لا
يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم على قلوبهم ، والغشاوة على سمعهم وأبصارهم ،
فلو أزالها تعالى لآمنوا إلا أن يعجزوا ربهم تعالى عن إزالة ذلك فهذا خروج عن
الإسلام ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة النساء : ٨٣].
فنص تعالى كما ترى
على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة ، فصح أن التوفيق به يكون
الإيمان ، وأن الخذلان به يكون الكفر والعصيان ، وهو اتّباع الشيطان ، ومعنى قوله
: «إلا قليلا» إنما هو على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم
يتبعوا الشيطان برحمته تعالى عليهم ، أي لاتّبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهمالله تعالى ، فاتبعوا الشيطان ، فلم تتبعون إذ رحمكم الله؟ وهذا
نص ما قلنا ولله الحمد.
وقال تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ
فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [سورة النساء : ٨٨].
وهذا نص ما قلنا :
أن من أضله الله تعالى فلا سبيل له إلى الهدى ، وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله
تعالى للكافر والفاسق.
وقال تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [سورة الأنعام : ٨٨].
فأخبر تعالى أنّ
عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتديا ، وهذا تخصيص ظاهر كما ترى ، وقال
تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام : ١٢٥].
فهذا نص على ما
قلناه وأن الله تعالى قد نص لنا على أن من أراد هداه شرح صدره للإسلام ، فآمن بلا
شك ، وأن من أراد إضلاله ولم يرد هداه ضيّق صدره وأحرجه ، حتى يكون كمريد الصعود
إلى السماء ، فهذا لا يؤمن البتة ، ولا يستطيع الإيمان ، وأنه في حقيقة أمره كمن
كلف الصعود إلى السماء ، فهذا لا يؤمن البتة ، وهو في ظاهر أمره مستطيع بصحة
جوارحه.
قال أبو محمد : إن
الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلا ، ومن شهادة خمسة من
الأنبياء عليهمالسلام : إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم الصلاة والسلام
، بأنهم لا يستطيعون فعلا لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم ، وأنهم إن لم
يوفقهم ضلوا جميعا مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل
، ومن علم تراكيب الأخلاق الحميدة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل
مما خلقه الله عزوجل فيه ، فتجد الحافظ لا يقدر على تأخير الحفظ ، والبليد لا
يقدر على الحفظ ، والفهم لا يقدر على الغباوة ، والغبي لا
يستطيع ذكاء الفهم
، والحسود لا يقدر على ترك الحسد ، والنزيه النفس لا يقدر على الحسد ، والحريص لا
يقدر على ترك الحرص ، والبخيل لا يقدر الى البذل ، والجبان لا يقدر على الشجاعة
والكذّاب لا يقدر على ضبط نفسه من الكذب ، كذلك يوجدون من طفولتهم ، والسيئ الخلق
لا يقدر على الحلم ، والحيي لا يقدر على القحة ، والوقاح لا يقدر على الحياء ،
والعيي لا يقدر على البيان ، والطيوش لا يقدر على الصبر ، والصبور لا يقدر على الطيش ، والحليم
لا يقدر على الغضب ، والغضوب لا يقدر على الحلم ، والعزيز النفس لا يقدر على
المهانة ، والمهين لا يقدر على عزة النفس ، وهكذا في كل شيء ، فصحّ أنه لا يقدر
أحد إلا على ما يقدر ، مما جعل الله تعالى فيه من القوة على فعله ، وإن كان خلاف
ذلك متوهما منهم بصحة البنية وعدم المانع حكمنا على الطبع لا على ما يتطبع.
قال أبو محمد :
والملائكة والحور العين ، والجن والإنس وجميع الحيوان في الاستطاعة سواء كما ذكرنا
، ولا فرق بين شيء من ذلك كله ، فقد خلق الله عزوجل فيهم الاستطاعة الظاهرة لصحة الجوارح فيهم ، ولا يكون منهم
فعل إلا بعون وارد من الله عزوجل ، إذا ورد كان الفعل منه ولا بد ، فقد خلق الله تعالى فيهم
اختيارا وإرادة ، وحركة ، وسكونا ، هي أفعالهم لا غيرها ، فالملائكة وحور العين
معصومون ، لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلا.
وأما الجن فكبني
آدم عليهالسلام في التوفيق والخذلان سواء سواء ، وأما سائر الحيوان فلا
عبادة عليه ، لا طاعة ولا معصية.
وأما الذي يقدر
على كل ما يفعل ولم يزل قادرا على كل ما يخطر على القلب ، فهو واحد لا شريك له وهو
الله عزوجل ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الشورى : ١١].
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) [سورة الإخلاص : ٤].
وبالله تعالى
التوفيق.
__________________
الكلام في الهدى والتوفيق
قال أبو محمد :
وهو متصل بالكلام في الاستطاعة.
احتجت المعتزلة
بقول الله عزوجل : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [سورة فصلت : ١٧].
وبقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) [سورة الإنسان ٢ ـ
٤].
قال أبو محمد :
وهذا حق وقد قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [سورة النحل : ٣٦].
فأخبر تعالى أن
الذي هدى بعض الناس لا كلهم ، وقال تعالى (إِنْ تَحْرِصْ عَلى
هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [سورة النحل : ٣٧].
وهي قراءة مشهورة
عن عاصم بفتح الياء من «يهدي» وكسر الدال. فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده.
وقال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً) [سورة البقرة : ٢٦].
فأخبر تعالى أن
الذي هدى غير الذي أضل فلم يهد. وقال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ) [سورة الأعراف :
١٨٦]. فأخبر تعالى أن الذين أضل لم يهدهم وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام :
١٢٥].
فأخبر تعالى أن
الذين هدى غير الذين أضلّ ، ومثل هذا كثير وكل هذا كلام الله عزوجل وكله حق ، ولا يتعارض ، ولا يبطل بعضه بعضا.
وقال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].
فصح يقينا أن كلّ
ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا يختلف ، فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها
ظاهرة لائحة ، وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا ، وهدى الناس كلّهم
السبيل ثم هم بعد هذا «إما شاكرا وإمّا كفورا».
وأخبر تعالى في
الآيات الأخر أنه هدى قوما فاهتدوا ، ولم يهد آخرين فلم يهتدوا ، فعلمنا ضرورة أن
الهدى الذي أعطاه الله تعالى جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم
يعطهم إياه ، هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته ، فإذ لا شك في ذلك فقد لاح
الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة ، فهي التي يقع الاسم
منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعدا ، فالهدى يكون بمعنى الدلالة ، تقول هديت
فلانا الطريق ، بمعنى أريته إياه ، وأوقفته عليه ، وأعلمته إياه ، سواء سلكه أو
تركه ، وتقول : فلان هاد للطريق ، أي هو دليل فيه ، فهذا هو الهدى الذي هدى الله
تعالى ثمود وجميع الجن والملائكة ، وجميع الإنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم
على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضى.
فهذا معنى ، ويكون
الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير ، والتيسير له ، وخلقه لقبول الخير في
النفوس ، فهذا هو الذي أعطاه الله عزوجل الملائكة كلهم ، والمهتدين من الإنس والجن ، ومنعه الكفار
من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ، ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا
فسقوا ، وبالله تعالى التوفيق.
ومما يبين قوله في
الآيات المذكورة : (إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٣].
فيبين أن الذي
هداهم له هو الطريق فقط ، وكذلك أيضا قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ
عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [سورة البلد : ٨ ـ
١٠].
فهذا نص قولنا
والحمد لله رب العالمين.
وكذلك قوله تعالى
: (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة السجدة : ١٣].
وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدى) [سورة الأنعام :
٣٥].
وهذا بلا شك غير
ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل.
قال أبو محمد :
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) [سورة النساء :
١٦٨].
قال أبو محمد :
وهذا نص جليّ على ما قلنا ، وبيان جليّ أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون إليها
، فهذا هو الهدى لهم إلى تلك الطريق ، ونفى عنهم في الآخرة هدى إلى شيء من الطرق
إلا طريق جهنم نعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
وقال بعض من يتعسف القول بغير علم : إن قول الله عزوجل : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧].
وقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٣].
وقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠].
إنما أراد تعالى
بكلّ ذلك المؤمنين خاصة.
قال أبو محمد :
وهذا باطل لوجهين.
أحدهما : تخصيص
الآيات بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل.
والثاني : أن نص
الآيات يمنع من التخصيص ولا بد ، وهو أن الله تعالى قال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).
فرد تعالى الضمير
في (فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمى عَلَى الْهُدى) إلى المهديين أنفسهم ، فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا ،
وأيضا فإن الله تعالى قال لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة آية
٢٧٢].
وقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ) [سورة الشورى :
آية ٥٢ ، ٥٣].
فصح يقينا أن
الهدى الواجب على النبي صلىاللهعليهوسلم هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه ،
وإنما هو لله تعالى وحده. فإن ذكر ذاكر قوله الله عزوجل : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) [سورة الأنفال :
٢٣].
فليس هذا على ما
ظنه من لا ينعم النظر ، من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك ، بل ظاهر الآية
مبطل لهذا الظن ، لأن الله تعالى قال : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ).
فصح يقينا أن من
علم الله فيهم خيرا أسمعهم ، وثبت أن فيه خيرا ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
فصح يقينا أنه
أراد بلا شك : أنه لو أسمعهم لتولّوا عن الكفر ، وهم معرضون
عنه. لا يجوز غير
هذا أصلا لأنه تعالى قد نص على أن إسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيرا ، ومن
المحال الباطل أن يكون من علم الله فيه خيرا يتولى عن الخير ويعرض عنه ، فبطل ما
حرفوا بظنونهم من كلام الله عزوجل ، وكذلك قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣].
فإنه تعالى قسم من
هدى السبيل قسمين : كفورا وشاكرا.
فصح أن الكفور
أيضا هدي السبيل ، فبطل ما توهموه من الباطل ، ولله تعالى الحمد. وصح ما قلنا.
الكلام في الإضلال
قال أبو محمد : قد
تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي قبله متصلا به نصوصا
كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه ، وجعل صدورهم ضيقة حرجة ، فإن اعترضوا
بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : (وَما أَضَلَّنا
إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [سورة الشعراء :
٩٩].
فلا حجة لهم في
هذا لوجوه :
أحدها : أنه قول
الكفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى أنهم يقولون حينئذ (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام :
٢٣].
وقال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [سورة الأنعام :
٢٤].
فإن أبوا إلا
الاحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس : (رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ) [سورة الحجر : ٣٩].
والوجه الثاني :
أنا لا ننكر ضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ، لكنه إضلال آخر غير إضلال الله عزوجل لهم.
والثالث : أنه لا
عذر لأحد في أن الله تعالى أضلّه ، ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك ، وأما من أضل
آخر ممن دون الله تعالى فملوم ، وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وتفسيره
تعالى ذلك الإضلال أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيّارين كالنظام والعلاف وثمامة
وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشئ ، ومن هنالك من الأحزاب ، ومن تبعهم من الجهال ، فبيّن
تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيّق صدره عن قبول
الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ، ولا يصبر عليه ، ويوعّر
عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يكلف في ذلك الصعود إلى السماء.
__________________
وفسر ذلك أيضا عزوجل في آية أخرى قد تلوناها آنفا بأنه يجعل أكنة على قلوب
الكافرين ، تحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاغة إلى بيانه وهداه ، وأن
يفقهوه ، وأنه تعالى جعل بينهم وبين قول الرسول حجابا مانعا لهم من الهدى ، وفسّره
أيضا بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها ، فامتنعوا بذلك عن وصول الهدى إليها.
وفسر تعالى إضلال
من دونه : أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ، وفسر تعالى أيضا القوة التي أعطاها
المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبت على قبول الحق ، وأنه تعالى شرح صدورهم لفهم
الحق واعتقاده ، والعمل به ، وأنه صارف لكيد الشيطان وفتنته عنهم ، نسأل الله
تعالى أن يمدنا بهذه العطية ، وأن يصرف عنا الإضلال بمنه ، وأن لا يكلنا إلى
أنفسنا ، فقد خاب وخسر من ظنّ في نفسه أنه قد استكمل الهدى حتى استغنى أن يزيده
ربه توفيقا وعصمة ، ولم يحتج إلى خالقه في أن يصرف عنه فتنته ولا كيده ، لا سيما
من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ، ولم يجعل عند خالقه قوة يصرف بها عنه
كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ، ونبرأ إلى الله خالقنا من الحول والقوة
كلها إلا ما آتانا منها متفضلا علينا ، وأن كلّ ما في القرآن من إضلال الشيطان
للناس وإنسائه إياهم ذكر الله تعالى ، وتزيينه لهم ، ووسوسته ، وفعل بعض الناس
ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف ، وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس
، وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب ، وخلق الأفعال لهؤلاء المضلين من الجن
والإنس ، وكذلك قوله تعالى (حَسَداً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ) [سورة البقرة :
١٠٩] لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها ، وهو خلق الله تعالى فيها ، فإن ذكروا
قول الله تعالى (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [سورة التوبة :
١١٥].
فهو كما قال تعالى
، وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوما حتى يبين لهم ما
يتقون وما يلزمهم وصدق عزوجل ، لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما
يفعل أصلا فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالا بعد بلوغ البيان إليه لا قبل
ذلك وبالله تعالى التوفيق.
فصح بهذه الآيات
أنه تعالى يضلهم بعد أن يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع
به الإيمان فقط.
قال أبو محمد :
ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زائد
أعطاه الله تعالى الكفار والعصاة ، وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحرجها والختم
على القلوب ، والطبع عليها ، وإكنانها عن أن يفقهوا
الحق. فإن قالوا :
إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يهدها الله تعالى بالتوفيق. قلنا لهم : فمن خالق هذه
الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق.
فإن قالوا : الله
تعالى هو الذي خلقها كذلك ، أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية ، وركب فيها
هذه القوة المهلكة لها ، فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ إن هذا كله فعل الطبيعة لم
يتخلصوا من سؤالنا ، وقلنا لهم : فمن خلق النفس وخلق لها هذه الطبيعة الموجبة لهذه
الأفاعيل؟ فإن قالوا الله تعالى ، أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة
لها إن لم يهدها بلطف وتوفيق ، وكذلك إن قالوا إن النفس هي التي فعلت الطبيعة
الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول مجلين أيضا محالا
ظاهرا ، لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لعملها ، وإما كارهة مضطرة
فمن خلقها مضطرة إلى فعلها على ما هي عليه ، فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع
طبيعتها مرارا بخلاف ما توجد الآن عليه ، وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرّة إلى هذا
الفعل؟ فلا بد أنه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه
الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين إن النفس
أحدثت طبيعتها مع أنه أيضا قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل.
قال أبو محمد :
وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا : ما ندري ما معنى
الإضلال ، ولا ما معنى الختم على قلوبهم ، ولا الطبع عليها؟ وقال بعضهم معنى ذلك
أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم أنهم ضالون ، وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما
تقول : أضللت بعيري.
قال أبو محمد :
ولم نجد لهم تأويلا أصلا في قول الله عزوجل حكاية عن موسى عليهالسلام أنه قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف :
١٥٥].
قال أبو محمد :
وهذا هو الضلال حقا وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد
من لا خير فيه من أسلافهم ، على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الإضلال والختم
والطبع والأكنة على القلوب ، وقد فسر الله تعالى ذلك تفسيرا جليا ، فإنها ألفاظ
عربية معروفة المعاني في اللغة التي بها نزل القرآن فلا يحلّ لأحد أن يصرف لفظة
معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله
تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي قرآن أو كلام عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك
المعنى إلى غيره ، أو يوجب ذلك ضرورة حسّ أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من
ذلك.
ولم يأت في هذه
الألفاظ التي أضلّهم الله تعالى فيها وحيّرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا
ضرورة بأنها مصروفة عن موضوعها في اللغة بل قد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ
ميسّر لما خلق له» فبين عليهالسلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي
له خلقه ، وأن الخذلان : تيسيره الفاسق للشر الذي له خلقه ، وهذا موافق للغة
والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ، ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين ، حاش من أضله الله تعالى على علم
من أتباع العيارين الخلعاء ، كالنظام والعلاف وثمامة والجاحظ.
قال أبو محمد :
ونبين هذا أيضا بيانا طبيعيا ضروريا لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له
أدنى بصر بالنفس وأخلاقها ، وقدرة الله تعالى في إبداعها وتصويرها فنقول ـ وبالله
تعالى التوفيق : إن الله تعالى خلق نفس الإنسان ميسرة مميزة عاقلة عارفة بالأشياء
على ما هي عليه فهمة بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية ، فعّالة معذبة ملتذة آلمة
حساسة ، وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير ، وهما التمييز والهوى كل
واحدة منهما تريد الغلبة على آفاق النفس.
فالتمييز هو الذي
خصت به نفس الإنسان ، والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف ، والذي ليس
ناطقا.
والهوى هو الذي
يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقا من حب اللذات والغلبة.
قال أبو محمد :
وهذه القوة في كلّ الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع
منها معصية أصلا بوجه من الوجوه ، فإذا عصم الله تعالى العبد غلب التمييز بقوة من
عنده هي له مدد وعون ، فجرت أفعال النفس على ما رتّب الله تعالى فيها تمييزها من
فعل الطاعات ، وهذا هو الذي يسمى العقل ، وإذا خذل الله تعالى النفس أمدّ الهوى
بقوة هي الإضلال ، فجرت أفعال النفس على ما رتب الله تعالى في هواها من الشهوات
وحب الغلبة ، والحرص والبغي والحسد ، وسائر الأخلاق الرذيلة ،
__________________
والمعاصي ، وقد
قامت البراهين على أن النفس مخلوقة ، وكذلك جميع قواها المنتجة عن قوتيها الأوليين
: التمييز والهوى ، وكل ذلك مخلوق مركب في النفس على ما هو عليه فيها ، كل جار على
طبيعته المخلوقة مجرى كيفياته بها على ما هي عليه.
فإذ قد صح أن كلّ
ذلك خلق الله عزوجل فلا مغلب لبعض ذلك على بعض ، إلا خالق الكل وحده لا شريك
له ، وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة ، إلا من رحمها الله تعالى وعصمها.
قال تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [سورة يوسف : ٥٣].
فأخبر عزوجل بنص ما قلنا أن المرحومة المستثناة لا تأمر بسوء وبالله
تعالى التوفيق.
وقال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [سورة النازعات :
٤٠ ، ٤١].
وذم الله تعالى
الهوى في غير موضع من كتابه ، وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الكلام في القضاء والقدر
قال أبو محمد :
ذهب بعض الناس لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى
الإكراه والإجبار ، وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا
الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ، لذلك يقولون
: القاضي : بمعنى الحاكم ، وقضى الله عزوجل بكذا أي حكم به ، ويكون أيضا بمعنى أمر ، قال الله تعالى :
(وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء :
٢٣].
إنما معناه بلا
خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ، ويكون أيضا بمعنى أخبر ، قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ
أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [سورة الحجر : ٦٦].
بمعنى أخبرنا أن
دابرهم مقطوع بالصباح ، وقال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي
إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ
عُلُوًّا كَبِيراً) [سورة الإسراء : ٤].
أي أخبرناهم بذلك
، ويكون أيضا بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم. قال
تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة آل عمران :
٤٧] ومعنى ذلك حكم بكونه فكوّنه.
ومعنى القدر في
اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء ، تقول : قدرت البناء تقديرا :
رتبته وحددته ، وقال تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها
أَقْواتَها) [سورة فصلت : ١٠]
بمعنى رتب أقواتها وحدّدها ، وقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر : ٤٩].
يريد تعالى : برتبة وحدّ ، فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ، ومعنى القضاء والقدر : حكم
الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه ، أو تكوينه أو ترتيبه على صفة كذا إلى وقت كذا.
وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في البدل
قال أبو محمد :
قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذ سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من
الإيمان أم لا يستطيع؟ فأجاب : إن الكافر مستطيع للإيمان على البدل ، بمعنى أنه لا
يتمادى على الكفر ، لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان.
قال أبو محمد :
وهذا الذي يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في
الاستطاعة ، وهو أن نقول : هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه ، وارتفاع
موانعه ، غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافرا أو ما دام لا يؤتيه
الله تعالى العون ، فإذا أتاه وتمت استطاعته فعل ولا بد ، فإن قيل : هو مكلف مأمور؟
قلنا : نعم ، فإن قيل أهو عاجز عن ما هو مأمور به ومكلف أن يفعله ..؟ قلنا وبالله
تعالى التوفيق : هو غير عاجز بظاهر نيته وسلامة جوارحه ، وارتفاع الموانع ، وهو
عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ، ما لم يؤته الله عزوجل العون فيتم ارتفاع العجز عنه ، ويوجد الفعل ولا بد ، ونقول
إن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة من الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس
، والمأمور بالفعل ليس في ظاهر أمره عاجزا إذ لا آفة في جوارحه ، ولا مانع له
ظاهرا ، وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ، وبين الفعل وتركه ، وعن
فعل ما لم يؤته الله عزوجل عونا عليه ، وعن تكذيب علم الله عزوجل الذي لم يزل بأنه لا يفعل إلا ما سبق فيه علمه ، هذا حقيقة
الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين.
فإن قيل : فهو
مختار لما يفعل؟ قلنا : نعم اختيارا صحيحا لا مجازا ، لأنه مريد لكونه منه ، محبّ
له ، مؤثر له على تركه ، وهذا معنى لفظه الاختيار على الحقيقة ، وليس مضطرا ولا
مجبرا ولا مكرها في حالة واحدة ، كإنسان في رجله أكلة لا دواء له ،
إلا بقطعها ،
فيأمر أعوانه مختارا لأمره إياهم بقطعها ، وبحسمها بالنار بعد القطع ، ويأمرهم
بإمساكه وضبطه ، وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم
ويتوعدهم على التقصير في ذلك بالضرب والنكال الشديد ، فيفعلون به ذلك ، فهو مختار
لقطع رجله ، إذ لو كره ذلك كراهية تامة لم يكرهه أحد على ذلك ، وهو بلا شك كاره
لقطعها مضطر إليه ، إذ لو وجد سبيلا بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها لم
يقطعها ، فهو مكره مجبر بالضبط من أعوانه له حتى يتم القطع والحسم ، إذ لو لم
يضبطوه ويقسروه ويكرهوه لم يمكن قطعها البتة ، وإنما آتينا بهذا لئلا ينكر
الجاهلون أن يوجد أحد مختارا من وجه ، ومكرها من وجه آخر ، مستطيعا من وجه ، عاجزا
من آخر ، قادرا من وجه ، ممنوعا من آخر ، وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في خلق الله تعالى لأفعال خلقه
قال أبو محمد :
اختلفوا في خلق الله عزوجل لأفعال عباده ، فذهب أهل السنة كلهم ، وكل من قال
بالاستطاعة مع الفعل ، كالمريسيّ وبرغوث والنجارية والأشعرية والجهمية ، وطوائف من
الخوارج ، والمرجئة والشيعة إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة قد خلقها الله عزوجل في الفاعلين لها ، ووافقهم على هذا من المعتزلة موافقة
صحيحة ضرار بن عمرو وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد .
وذهب سائر
المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من المرجئة والخوارج والشيعة إلى أن جميع أفعال
العباد محدثة ، فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عزوجل ، على تخليط منهم في ماهية أفعال النفس ، إلا بشر بن
المعتمر عطف فقال : إنه ليس شيء من أفعال العباد إلا ولله عزوجل فيه فعل من طريق الاسم والحكم يريد بذلك أنه ليس للناس فعل
إلا ولله تعالى فيه حكم بأنه صواب أو خطأ ، وتسميته بأنه حسن أو قبيح طاعة أو
معصية.
قال أبو محمد :
وقد أدى هذا القول الفاحش الملعون برجل من كبار المعتزلة ، وهو عبّاد بن سلمان تلميذ هشام بن عمرو الفوطيّ إلى أن قال : إن الله تعالى لم
يخلق الكفار لأنهم ناس وكفر معا ، لكن خلق أجساهم دون كفرهم.
__________________
قال أبو محمد :
ويلزمه هذا بعينه في المؤمنين وجميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر ،
والمؤمن إنسان وإيمان ، أو ملك وإيمانه ، أو جنيّ وإيمانه أو كفره.
فعلى قول هذا
البائس السخيف لا يجوز أن يقال : إنّ الله عزوجل خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيدا ، بل يكون القول
بهذا كذبا وحسبك بهذا القول خلافا للقرآن وللمسلمين.
وقال معمّر والجاحظ : إن أفعال العباد كلّها لا فعل لهم فيها وإنما
نسبت إليهم مجازا لظهورها منهم ، وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة فقط ، فإنه لا
فعل للإنسان غيرها البتة.
قال أبو محمد :
ومن تدبّر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال
العباد اضطرارية طبيعية كفعل النار للإحراق بطبعها ، وفعل الثلج التبريد بطبعه
وفعل السقمنيا في إحداثها الصفراء بطبعها ، وهذا صفة الأموات لا صفة
الأحياء المختارين ، وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل إلا الإرادة
فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا على إحالتها ولا على تبديلها
بوجه من الوجوه ، وإنما يظهر من المرء تبديل كل حركاته وسكونه وأما إرادته فلا
حيلة له فيها ، ونحن نجد كل قويّ الآلة من الرجال يحب وطئ كلّ جميلة يسمع بها ، لو
لا التقوى ، ويحب النوم عن الصلوات في الليالي القارة والهواجر الحارّة ، ويحب الأكل في أيام الصوم ، ويحب إمساك
ماله عن الزكاة ، وإنما يأتي خلاف ذلك مغالبة لإرادته وقهرا لها وإما صرفا لها ولا
سبيل إليه فقد تم الإجبار صحيحا على قول هذين الرجلين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________________
قال أبو محمد :
والبرهان على صحة قول من قال : إن الله تعالى خلق أفعال العباد كلها نصوص من
القرآن وبراهين ضرورية منتجة من بديهة العقل والحواس ، لا يغيب عنها إلا جاهل
وبالله تعالى التوفيق.
فمن النّصوص : قول
الله عزوجل : (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) [سورة فاطر : ٣].
قال أبو محمد :
هذا كاف لمن عقل واتقى ربه.
وقال لي بعضهم :
إنما أنكر الله عزوجل أن يكون هاهنا خالق غيره يرزقنا كما في نص الآية.
قال أبو محمد :
وجواب هذا أنه ليس كما ظن هذا القائل بل القضية قد تمت في قول الله تعالى : (غَيْرُ اللهِ) ثم ابتدأ عزوجل بتعديد نعمه علينا ، فأخبرنا أنه يرزقنا من السماء والأرض.
وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة الروم : ٣٠].
وهذا نص جلي على
أن الدين مخلوق لله تعالى.
وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا
يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا
وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [سورة الفرقان : ٣].
قال أبو محمد :
ومنهم من يعبد المسيح ، وقالت الملائكة : كذبوا بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم.
فصحّ أنّ كلّ ما عبدوه وفيهم المسيح والجن لا يخلقون شيئا ، ولا يملكون لأنفسهم
ضرا ولا نفعا ، فثبت يقينا أنهم مصرّفون مدبّرون ، وأن أفعالهم مخلوقة لغيرهم.
وقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ) [سورة النحل : ١٧].
قال أبو محمد :
وهذا نص جلي على إبطال أن يخلق أحد دون الله تعالى شيئا ، لأنه لو كان هاهنا أحد
غيره يخلق لكان من يخلق موجودا جنسا في حيز ، ومن لا يخلق جنسا آخر.
وكان الشبه بين من
يخلق وبين من لا يخلق موجودا ، وكان من يخلق لا يشبه من لا يخلق وهذا إلحاد عظيم.
فصحّ بنص هذه
الآية أن الله تعالى هو يخلق وحده ، وكلّ من عداه لا يخلق شيئا ، وليس أحد مثله
تعالى ، فليس من يخلق وهو الله تعالى كمن لا يخلق وهو كل من سواه.
وقال تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [سورة البقرة : ١٤٨].
وهذا نصّ جلي ، من
كذبه كفر.
وقد علمنا أنه
تعالى لم يأمر بتلك الوجهات كلها بل فيها كفر قد نهى الله تعالى عنه ، فلم يبق إذ
هو مولي كل وجهة إلا أنه خالق كل وجهة لأحد من الناس.
وهذا كاف لمن عقل
ونصح نفسه. ومنها : قول الله عزوجل : (هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [سورة لقمان : ١١].
وهذا إيجاب بأن الله تعالى خلق كل ما في العالم وأن كل من دونه لا يخلق شيئا أصلا
ولو كان هاهنا خالق لشيء من الأشياء غير الله تعالى لكان جواب هؤلاء المغرورين
جوابا قاطعا ، ولقالوا : نعم نريك أفعالنا خلقها من دونك وهاهنا خالقون كثير وهم
نحن لأفعالنا.
وقوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ
خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) [سورة الرعد : ١٦].
وهذا بيان جلي أن
الخلق كله جواهر وأعراض ولا شك في أنه لا يفعل الجواهر أحد إلا الله تعالى وإنما
يفعلها الله تعالى وحده فلم يبق إلّا الأعراض فلو كان الله تعالى خالقا لبعض
الأعراض ، ويكون الناس خالقين لبعضها ، لكانوا له شركاء في الخلق ، ولكانوا قد
خلقوا كخلقه ، خلق أعراضا وخلقوا أعراضا.
وهذا تكذيب لله
تعالى وردّ للقرآن مجرد ، فصح أنه لا يخلق شيئا غير الله تعالى وحده ، والخلق : هو
الاختراع فالله تعالى مخترع لأعراضنا كسائر الأعراض ولا فرق ، فإن نفوا خلق الله
تعالى لجميع الأعراض لزمهم أن يقولوا إنها أفعال لغير فاعل ، أو إنها فعل لمن ظهرت
منه من الأجرام الجمادية وغيرها.
فإن قالوا : هي
أفعال لغير فاعل فهذا قول أهل الدهر ويكلّمون حينئذ بما يكلم به أهل الدهر ، وإن
قالوا إنها أفعال الأجرام كانوا قد جعلوا الجمادات فاعلة مخترعة وهذا باطل وهو
أيضا خلاف قولهم ، والطبيعة لا تفعل شيئا مخترعة له وإنما الفاعل لما ظهر منها
خالق الطبيعة المظهر منها ما ظهر ، وهو خالق الكل ولا بد ولله الحمد.
ومنها قوله تعالى
: (أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات : ٩٥.
٩٦].
__________________
وهذا نص جلي على
أنه تعالى خالق أعمالنا.
وقد فسر بعضهم قول
الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦]
أنه خلقنا وخلق العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان.
قال أبو محمد :
وهذا كلام سخيف دل على جهل قائله وعناده وانقطاعه ، لأنه لا يقول أحد في اللغة
التي بها خوطبنا في القرآن وبها نتفاهم فيما بيننا أن الإنسان يعمل العود والحجر ،
هذا ما لا يجوز في اللّغة أصلا ولا في المعقول ، وإنما يستعمل ذلك موصولا فنقول
عملت هذا العود صنما ، وهذا الحجر وثنا.
فإنما بيّن الله
تعالى أنه خلق الصنمية التي هي شكل الصنم ، فنص على ذلك بقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ
خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ،
٩٦].
فإنما النحت بنص
الآية وضرورة الحس ، هو الذي عملنا ، وهو الذي أخبر تعالى أنه خلقنا.
قال أبو محمد :
وقد ذكر عن كبير منهم وهو محمد بن عبد الله الإسكافي أنه كان يقول إنّ الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير
ولا المزامير.
ولقد يلزم
المعتزلة أن توافقه على هذا ، لأن الخشبة لا تسمى عودا ولا طنبورا ، ولو حلف إنسان
أنه لا يشتري طنبورا فاشترى خشبا لم يحنث ، ولو حلف أن لا يشتري خشبا فاشترى
طنبورا لم يقع عليه حنث لأن الطنبور لا يقع عليه في اللغة اسم خشبة.
وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) [سورة السجدة : ٤]
فهي مخلوقة بنص القرآن.
وقد قال بعضهم :
إنما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام فكانت أعمال العبد مخلوقة في تلك
الستة الأيام.
قال أبو محمد : لم
ينف الله تعالى أن يخلق شيئا بعد الستة الأيام ، بل قال عزوجل : (يَخْلُقُكُمْ فِي
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [سورة الزمر : ٦].
__________________
وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً
آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون :
١٢ ـ ١٤].
وكان هذا كله في غير
تلك الستة الأيام ، فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبدا ،
ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ، ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار
أبدا بلا نهاية ، إلا أن عموم خلقه تعالى السموات والأرض وما بينهما باق على كل
موجود.
وقال بعضهم : لا
نقول إن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض.
قال أبو محمد :
وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك ، وقد قال تعالى : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة :
١٦٤].
فصح أن السحاب
ليست مماسة للسماء ولا للأرض.
فهي إذن على قول
هذا الجاهل غير مخلوقة.
ويلزمه أيضا أن
يقول بقول معمّر والجاحظ ، في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا
الروائح ، ولا الموت ولا الحياة ، لأن كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض.
قال أبو محمد :
فأمّا قول معمر والجاحظ إن كل هذا فعل الطبيعة فغباوة شديدة ، وجهل بالطبيعة ومعنى
لفظ الطبيعة إنما هو قوة في الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه. وبالضرورة
نعلم أن تلك القوة عرض لا تعقل ، وكل ما كان مما لا اختيار له من جسم أو عرض
كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر أنها أفعاله وهي مخترعة لها فهو في
غاية الجهل ، فبالضرورة نعلم أن تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق لها هاهنا
إلا الله تعالى خالق الكل ، وهو الله لا إله إلا هو.
قال أبو محمد :
ومن بلغ هاهنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في
موافقته أهل الدّهر في تكذيبه للقرآن ، إذ يقول الله تعالى : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [سورة الملك : ٢].
وقوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ
بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [سورة الرعد : ٤].
فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عزوجل ، نعوذ بالله مما ابتلاهم به ، وأقحمهم فيه.
وقال معمّر : معنى
قوله تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] إنما
معناه خلق الإماتة والإحياء.
قال أبو محمد :
فما زاد على أنه أبدى تمام جهله بوجهين.
أحدهما : إحالته
النص من كلام ربه عزوجل بلا دليل.
والثاني : أنه لم
يزل عمّا لزمه ، لأن الموت والحياة هما الإحياء والإماتة بلا شك ، لأن الإحياء
والحياة هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي ، والموت والإماتة شيء واحد وهو
التفريق بين الجسد والنفس المذكورة فقط.
وإذا كان جمع
الجسد والنفس وتفريقهما مخلوقين لله عزوجل فقد صح أن الموت والحياة مخلوقان له عزوجل يقينا ، وبطل تمويه هذا المجنون.
قال أبو محمد :
ومن النصوص القاطعة في هذا المعنى قول الله عزوجل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر : ٤٩].
فلجأ بعضهم إلى عدوى الخصوص وذكروا قول الله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [سورة الأحقاف :
٢٥].
وقال تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة النمل : ٢٣].
وقوله : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) [سورة الأنعام : ٤٤].
قال أبو محمد :
وهذا كله لا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) بيان جلي على أنّها إنما دمرت كل شيء أمرها الله عزوجل بتدميره ، لا ما لم يأمرها ، فهو عموم لكل شيء أمرها به
الله عزوجل.
وقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
فمن للتبعيض : فمن
آتاه الله تعالى شيئا من الأشياء فقد آتاه من كل شيء ، لأنه قد آتاه بعض الأشياء ،
وأما قوله تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ
أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) فحق ونحن وهم سواء في أنا لا ندري كيفية ذلك الفتح إلا
أننا ندري أن الله تعالى صدق فيما قال ، وأنه تعالى إنما آتاهم بعض الأشياء التي
فتح عليهم أبوابها ، ثم لو صح برهان في بعض هذا العموم أنه ليس على ظاهره وأنه
أريد به الخصوص لما وجب من ذلك أن يحمل كل عموم على خلاف ظاهره ، بل كل عموم على ظاهره
حتى يقوم برهان بأنه مخصوص أو أنه منسوخ فيوقف عنده ولا يتعدى بالتخصيص أو بالنسخ
إلى ما لم يقم
برهان بأنه منسوخ
أو مخصوص ولو كان غير هذا لما صحت حقيقة في شيء من أخبار الله تعالى ولا صحت شريعة
أبدا.
إذ لا يعجز أحد في
كل أمر من أوامر الله تعالى وفي كل خبر من أخباره عزوجل أن يحمله على غير ظاهره ، وعلى بعض ما يقتضيه عمومه ، وهذا
عين السفسطة والكفر والحماقة ونعوذ بالله من الخذلان.
ولم يقم برهان على
تخصيص قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩].
قال أبو محمد :
ومن ذلك قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما
فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [سورة الحديد : ٢٢
ـ ٢٣].
قال أبو محمد :
فنص على أنه برأ المصائب كلها ، فهو بارئ لها ، والبارئ هو الخالق نفسه بلا شك ،
فصح يقينا أن الله تعالى خالق كل شيء ، إذ هو خلق كل مصيبة في الأرض وفي النفوس ،
ثم زاد تعالى بيانا برفع الإشكال جملة بقوله (لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣].
فبيّن تعالى أن ما
أصاب الأموال والنفوس من المصائب فهو خالقها. وقد تكون تلك المصائب أفعال الظالمين
بإتلاف الأموال وأذى النفوس ، فنص تعالى على أن كل ذلك خلق له عزوجل ، وبه التوفيق.
وأمّا
من طريق النظر .
فإن الحركة
الثقيلة نوع واحد وكل ما يسأل عنه تعالى على جهة النوع فهو منقول على أشخاص ذلك
النوع ولا بدّ ، فإن كان النوع مخلوقا فأشخاصه مخلوقة ، وأيضا فلو كان في العالم
شيء غير مخلوق لله تعالى لكان من قال : العالم مخلوق والأشياء مخلوقة وما دون الله
تعالى مخلوق لله ، كاذبا لأن في كل ذلك عندهم ما ليس بمخلوق ولكان من قال : من
العالم غير مخلوق ولم يخلق الله تعالى العالم ، أو الأشياء كلها صادقا ، ونعوذ
بالله من قول أدّى إلى هذا.
ونسألهم : هل الله
تعالى إله ما في العالم ورب كل شيء أم لا؟ فإن قالوا : نعم ، سئلوا عموما أم خصوصا؟
فإن قالوا : بل عموما صدقوا ، ولزمهم ترك قولهم ، فمحال أن يكون إلها لم يخلق.
__________________
وإن قالوا : بل
خصوصا. قيل لهم : ففي العالم إذن ما ليس الله تعالى إلها له ، وما لا رب له ، فإن
كان هذا فمن قال إن الله تعالى رب العالمين كاذب ، ومن قال : ليس الله تعالى إلها
للعالمين ولا ربا للعالمين صادق.
وهذا خروج عن
الإسلام وتكذيب لله تعالى في قوله : إنه رب العالمين وخالق كل شيء. وقد وافقونا
على أن الله تعالى خالق حركات المختارين ، من سائر الحيوان غير الملائكة والإنس
والجن ، وبالضرورة ندري أن الحركات الاختيارية كلها نوع واحد ، فمن المحال الباطل
أن يكون بعض النوع مخلوقا ، وبعضه غير مخلوق.
قال أبو محمد :
واحتجوا بأشياء من القرآن وهي أنهم قالوا : قال الله عزوجل : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [سورة البقرة : ٧٩].
وقال تعالى : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ
مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة آل عمران :
٧٨]. وقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون :
١٤].
وقوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [سورة العنكبوت :
١٧].
وقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ
شَيْءٍ) [سورة النمل : ٨٨].
وقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [سورة السجدة : ٧].
وقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) [سورة الملك : ٣].
واعترضوا بأشياء
من طريق النظر وهي أن قالوا : إن كان الله عزوجل خلق أفعال العباد فهو إذن يغضب مما خلق ، ويكره ما فعل
ويسخط فعله ، ولا يرضى ما فعل ولا ما دبّر.
وقالوا أيضا : كل
من فعل شيئا فهو مسمّى به ومنسوب إليه لا يعقل غير ذلك ، فلو خلق الله تعالى الخطأ
والكذب والكفر والظلم لنسب كل ذلك إليه ، تعالى الله عن ذلك.
وقالوا أيضا : لا
يعقل فعل واحد من فاعلين ، هذا فعله كله ، وهذا فعله كله.
وقالوا أيضا :
أنتم تقولون : إن الله عزوجل خلق الفعل ، وأن العبد اكتسبه. فأخبرونا هل هذا الاكتساب
الذي انفرد به العبد ، أهو خلق الله تعالى أم هو غيره ..؟ فإن قلتم : إنه خلق الله
تعالى لزمكم أنكم خالقون له ، وأنه تعالى اكتسبه إذ الخلق هو
الكسب ، والكسب هو
الخلق. وإن قلتم : إن الكسب غير الخلق ، وليس خلقا لله تركتم قولكم ، ورجعتم إلى
قولنا.
وقالوا أيضا إذا
كانت أفعالكم مخلوقة لله تعالى ، وأنتم تقولون إنكم مستطيعون على فعلها وعلى تركها
، فقد أوجدتم أنكم مستطيعون على أن لا يخلق الله بعض خلقه.
وقالوا أيضا : إذا
كان فعلكم خلقا لله عزوجل ، وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على ما خلق.
وقالوا أيضا قد
فرض الله علينا الرضى بما خلق فإن كان الظلم والكفر والكذب مما خلق ، ففرض علينا
الرضى بالكفر والظلم والكذب.
قال أبو محمد :
هذه عمدة اعتراضاتهم التي لا يشذ عنها شيء من تفريعاتهم. وكل ما ذكروا لا حجة لهم
فيه على ما نبين إن شاء الله تعالى بعونه وتأييده ولا حول ولا قوة إلّا بالله
العلي العظيم.
فنقول وبالله
تعالى التوفيق : أمّا قول الله تعالى : (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا
مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة البقرة : ٧٩].
فلا حجة لهم في هذا لأن أول الآية في قوم كتبوا كتابا وقالوا هذا من عند الله ،
فأكذبهم الله تعالى في ذلك وأخبر أنه ليس منزلا من عنده ولا مما أمر به تعالى ،
ولم يقل هؤلاء القوم إن هذا الكتاب مخلوق ، فأكذبهم الله عزوجل في ذلك وقال تعالى إن هذا الكتاب ليس مخلوقا لله ، فبطل
تعلّقهم بهذه الآية جملة. ولا شك عند المعتزلة وعندنا أن ذلك الكتاب مخلوق لله عزوجل ، لأنه قرطاس أو أديم ومداد وكل ذلك مخلوق بلا شك.
وأما قوله تعالى :
(فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون :
١٤].
فقد علمنا أنّ
كتاب الله عزوجل لا يتعارض ولا يتدافع.
قال الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].
فإذ لا شك في هذا
فقد وجدناه تعالى أنكر على الكافرين.
فقال تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ
خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [سورة الرعد : ١٦].
فهذه الآية تثبت
فساد ما تعلقت به المعتزلة وذلك أن قوما جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، فجعلوهم
خالقين فأنكر الله تعالى ذلك ، فعلى هذا خرج قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون :
١٤].
كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ
كَيْداً) [سورة الطارق : ١٥
و ١٦] وكما قال : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ) [سورة آل عمران :
٥٤].
ويبين بطلان ظنون
قول المعتزلة في هذه الآية قول الله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) [سورة فصلت : ٤٧].
أفيكون مسلما من أوجب لله تعالى شركاء من أجل قوله للكفار الذين جعلوا لله شركاء
أين شركائي؟ لا شك أن هذا الخطاب إنما خرج جوابا عن إيجابهم له الشركاء ، تعالى
الله عن ذلك.
وكذلك قوله تعالى
: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [سورة الدخان : ٤٩].
إنما هذا على حكم
ذلك المعذّب لنفسه في الدنيا أنه العزيز الكريم وقد علمنا أن كلام الله عزوجل كله على ظاهره ، إلا أن ينقله عن ظاهره نص آخر ، أو إجماع
، أو ضرورة عقل.
وبضرورة العقل
وبالنص علمنا أنه ليس لله تعالى شركاء ، وأنه لا خالق غيره عزوجل ، وأنه خلق كل شيء في العالم من عرض أو جوهر ، وبهذا خرج
قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون :
١٤] مع قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧].
فلو أمكن أن يكون
في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئا لما أنكر ذلك عزوجل إذ هو عزوجل لا ينكر وجود الموجودات ، وإنما ينكر وجود الباطل ، فصحّ
ضرورة لا شك فيها أنه لا خالق غير الله تعالى.
فإذ لا شك في هذا
فليس في قوله عزوجل (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) إثبات بأن في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئا وبالله
تعالى التوفيق.
وأما قوله تعالى :
(وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) [سورة العنكبوت :
١٧].
وقوله تعالى عن
المسيح صلىاللهعليهوسلم (أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً) [سورة آل عمران :
٤٩].
وقول زهير بن أبي
سلمى المزني شعرا :
وأراك تخلق ما
فريت
|
|
وبعض القوم يخلق
ثم لا يفري
|
__________________
فقد قلنا إن كلام
الله عزوجل لا يختلف وقد قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧].
وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا
يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [سورة الفرقان : ٣].
ويتعين على كل ذي
عقل أن من جملة أولئك الآلهة الذين اتخذهم الكفار : الجن والملائكة والمسيح عليهالسلام.
قال الله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة :
١٧].
وقال حاكيا عن
الملائكة أنهم قالوا عن الكفار : (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سورة سبأ : ٤١].
فقد صح يقينا بنص
الآية أن الملائكة والجنّ والمسيح لا يخلقون شيئا أصلا ، ولا يختلف اثنان في أن
جميع الإنس في فعلهم كمن ذكرنا إن كان هؤلاء يخلقون أفعلهم فسائر الناس يخلقون
أفعالهم ، وإن كان هؤلاء لا يخلقون أفعالهم فسائر هؤلاء لا يخلقون شيئا من أفعالهم
فإن ذلك كذلك ، وكلام الله عزوجل لا يختلف فإذ لا شك في هذا فإن الخلق الذي أثبته الله
تعالى للمسيح عليهالسلام في الطير ، وللكفار في الإفك ، هو غير الخلق الّذي نفاه
عنهم وعن جميع الخلق ، لا يجوز البتة غير هذا.
فإذ هذا هو الحق
بيقين فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفسه ونفاه عن غيره هو الاختراع والإبداع
وإحداث الشيء من لا شيء بمعنى من عدم إلى وجود ، وأمّا الخلق الذي أوجبه الله
لغيره فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط ، وانفرادهم به ، والله خالقه فيهم.
وبرهان ذلك أن
العرب تسمّي الكذب اختلاقا ، والقول الكاذب مختلقا.
وذلك القول بلا شك
إنما هو لفظ ومعنى ، واللفظ مركّب من حروف الهجاء ، وقد كان ذلك موجودا لشيء قبل
وجود أشخاص هؤلاء المختلقين وهذا كقوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [سورة الواقعة :
٦٣ ، ٦٤].
وبيقين يدري كل ذي
حس سليم مؤمن بالله تعالى وبالقرآن أن الزرع والرمي والقتل الذي نفاه الله تعالى
عن الناس وعن رسوله صلىاللهعليهوسلم هو غير الزرع والرمي والقتل الذي أضافه إليهم ، لا يمكن
البتة غير ذلك ، لأنه تعالى لا يقول إلا الحق ، فإذ ذلك كذلك فإن الذي نفاه عمن
ذكرنا هو خلق كل ذلك واختراعه ، وإبداعه وتكوينه ،
وإخراجه من عدم
إلى وجود والذي أوجب لهم منه ظهوره فيهم ونسبه كله إليهم فقط. وبالله تعالى
التوفيق.
وقول زهير «ولأنت
تخلق ما فريت» لا يشك من له أقل فهم بالعربية أنه لم يعن الإبداع ، ولا إخراج
الخلق من عدم إلى وجود ، وإنما أراد النفاذ في الأمر فقط ، فقد وضح أن لفظة الخلق
مشتركة تقع على معنيين : أحدهما : لله تعالى لا لأحد دونه ، وهو الإبداع والإخراج
من عدم إلى وجود.
والثاني : الكذب
فيما لم يكن ، أو ظهور فعل لم يتقدم لغيره ، أو نفاذ فيما يحاول ، وهذا كلّه موجود
في الحيوان ، والله خالق كل ذلك وبالله تعالى التوفيق. وبهذا تتالت الأحاديث كلها
وأما قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٨]
فهو عليهم لا لهم ، لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء ، وهذا على عمومه
وظاهره ، فالله تعالى صانع كل شيء ومتقنه ، وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا
جاريين على رتبة واحدة أبدا وهذا عين الإتقان.
وأما قوله تعالى :
(أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ) [سورة السجدة آية
رقم : ٧] فإنهما قراءتان مشهورتان من قراءات المسلمين. إحداهما : «أحسن كل شيء
خلقه» بإسكان اللام فيكون خلقه بدلا من كل شيء ، بدل البيان ، فهذه القراءة عليهم
، لأن معناها أن الله تعالى أحسن خلقه لكل شيء وصدق الله عزوجل ، وهكذا نقول : إن خلق الله لكل شيء حسن ، والله تعالى
محسن في كل شيء والقراءة الأخرى «خلقه» بفتح اللام. وهذه أيضا لا حجة لهم فيها ،
لأنه ليس فيها إيجاب ، لأن هاهنا أشياء لم يخلقها الله عزوجل ، ومن ادّعى أن هذا مقتضى الآية فقد كذب ، وإنما يقتضي لفظ
الآية : أن كل شيء فالله تعالى خلقه كما في سائر الآيات ، والله تعالى أحسن كل شيء
إذ خلقه ، وهذا قولنا ، وكذلك نقول إن الإنسان لا يفعل شيئا إلا الحركة أو السكون
والاعتقاد والإرادة والفكر ، وكل هذه كيفيات وأعراض حسان خلقها الله تعالى فقد
أحسن رتبتها وإيقاعها في النفوس والأجسام ، وإنما قبّح ما قبّح من ذلك من الإنسان
، لأن الله تعالى سمّى وقوع ذلك أو بعضه ممن وقعت منه قبيحا ، وسمّى بعض ذلك حسنا
، كما كانت الصلاة إلى بيت المقدس حركة حسنة إيمانا ، ثم سماها الله تعالى قبيحة
كفرا وهذه تلك الحركة نفسها فصحّ أنه ليس في العالم شيء حسن لعينه ، ولا شيء قبيح
لعينه ، لكن ما سمّى الله حسنا فهو حسن وفاعله محسن.
قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ) [سورة الإسراء : ٧].
وقال تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ) [سورة الرحمن : ٦٠].
وما سماه الله
تعالى قبيحا فهو حركة قبيحة ، وقد سمى الله تعالى خلقه لكل شيء في العالم حسنا ،
فهو كله من الله تعالى حسن ، وسمّى ما وقع من ذلك من عباده كما شاء. فبعض ذلك
قبّحه فهو قبيح ، وبعض ذلك حسّنه فهو حسن ، وبعض ذلك قبّحه ثم حسّنه. فكان قبيحا
ثم حسنا ، وبعض ذلك حسّنه ثم قبّحه فكان حسنا ثم قبح ، كما صارت الصلاة إلى الكعبة
حسنة بعد أن كانت قبيحة ، وكذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله تعالى فيهم
كالوطء قبل النكاح وبعده ، وكسبي من نقض الذمة وكسائر الشريعة كلها.
وقد اتفقت
المعتزلة معنا على أن الله تعالى خلق الخمر والخنازير ، والحجارة المعبودة من دونه
، وأن كل ذلك منه تعالى حسن بلا شك ، وهي مسماة قبائح وأرجاسا وحراما ونجسا وسيئا
وخبيثا وهكذا القول في خلقه للأعراض في عباده ولا فرق ، وكذلك وافقنا أكثرهم على
أنه تعالى خلق فساد الدماغ والجنون المتولد منه والجذام والعمى والصمم والفالج
والحدبة والأدرة وكل هذا من خلق الله تعالى له حسن ، وكله فيما بيننا قبيح
رديء جدّا يستعاذ بالله تعالى منه.
وقد نص الله تعالى
على أنه خلق المصائب كلها ، فقال عزوجل (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [سورة الحديد : ٢٢].
فنص تعالى على أنه
برأ المصائب كلها ، وبرأ : خلق بلا خلاف من أحد ، ولا فرق بين إلزامهم إيانا أن
الله تعالى أحسن الكفر والظلم والجور والكذب والقبائح إذ خلق كل ذلك وبين إقرارهم
معنا أن الله قد أحسن الخمر والخنازير والدم والميتة والعذرة وإبليس وكل من قال :
أنا إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دون الله تعالى والمصائب كلها
والأمراض والعاهات إذ خلق كل ذلك ، فأي شيء قالوه في هذه الأشياء هو قولنا في خلق
الله تعالى للكفر به ولشتمه والظلم والكذب ولا فرق ، وكل ذلك قد أحسن الله تعالى
خلقه ، إذ خلقه حركة أو سكونا أو تمييزا في النفس ، وسمّى ظهوره من العبد قبيحا ،
موصوفا به الإنسان.
وأما قوله تعالى :
(ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك : ٣].
__________________
فلا حجة لهم فيه
أصلا لأن التفاوت المعهود : ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة
المضطربة بأن فيها تفاوتا ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإذ
ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتا ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله
تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ، لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت
لكذب قول الله عزوجل (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك : ٣].
ولا يكذّب الله
تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل
ذلك موجود في خلق الله تعالى ، مرئي مشاهد بالعيان فيه. فبطل احتجاجهم. والحمد لله
رب العالمين.
فإن قال قائل :
فما هذا التفاوت الذي أخبر الله تعالى أنه لا يرى في خلقه ..؟
قيل لهم نعم
وبالله تعالى التوفيق : هو اسم لا يقع على مسمّى موجود في العالم أصلا ، بل هو
معدوم جملة ، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى ،
والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ، ثم نقول وبالله تعالى نتأيد :
إن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى ، أجسامه وأعراضه كلها ،
لا نحاشي شيئا منها ، ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت
القسمة جريا مستويا في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة
بينها على رتبة واحدة ، وهيئة واحدة ، إلى أن يبلغ الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع
لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ، ولا تخالف في شيء منه أصلا ، ومن
وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معا
تحت نوع الشكل والتخطيط ، ثم تحت نوع الكيفية ، ثم تحت اسم العرض ، وقوعا مستويا
لا تفاضل فيه ولا تفاوت البتة.
وكذلك أيضا نعلم
أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ، ثم تحت نوع النفس ، ثم تحت
نوع الكيفية والعرض ، وقوعا مستويا لا تفاوت فيه من هذا الوجه من التقسيم ، وكذلك
أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع الهواء بآلات الكلام ، ثم تحت
نوع الحركة وتحت نوع الكيفية ، وتحت نوع العرض وقوعا مستويا لا تفاوت فيه ولا
اختلاف ، وهكذا القول في الظلم وفي الإنصاف وفي العدل وفي الجور وفي الصدق ، وفي
الكذب وفي الزنا ، وفي الوطء الحلال والوطء الحرام ولا فرق ، وكذلك كل ما في
العالم حتى ترجع جميع الموجودات إلى الرءوس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا
كونها مخلوقة لله عزوجل ، وهي الجوهر
والكم والكيف
والإضافة على ما بينا في كتاب «التقريب» والحمد لله رب العالمين.
فانتفى التفاوت عن
كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ضرورة لا منفك لهم
عنها ، وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتا كما زعموا لكان التفاوت
موجودا في خلق الرحمن وقد كذّب الله عزوجل ذلك ونفى أن يرى في خلقه تفاوت.
وأما اعتراضهم من
طريق النظر بأن قالوا : إنه تعالى إن كان خلق الكفر والمعاصي فهو إذن يغضب مما فعل
، ويغضب مما خلق ، ولا يرضى مما صنع ، ويسخط ما فعل ، ويكره ما يفعل ، وأنه يغضب
ويسخط من تدبيره وتقديره ، فهو تمويه ضعيف ، ونحن لا ننكر ذلك إذ أخبرنا عزوجل به ، وقد أخبرنا تعالى أنه يسخط الكفر والظلم والكذب ولا
يرضاه ، وأن كل ذلك مكروه لديه ولا يرضاه ، فليس إلا التسليم لله عزوجل ، ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم : أليس الله
تعالى هو خالق إبليس وفرعون والخمر والكفار ...؟ فلا بد من نعم. فنقول لهم : أيرضى
عزوجل عن هؤلاء كلهم أم يسخط ..؟ فلا بد من أنه ساخط عليهم ،
كاره لهم غضبان عليهم ، غير راض عنهم.
فنقول لهم : هذا
نفس ما أنكرتم من أنه تعالى يسخط تدبيره ، ويغضب من فعله ، ويكره ما خلق ويلقيه.
فإن قالوا : لم
يكره عين الكفر ولا سخط شخص إبليس ، ولا كره عين الخمر ، لم نسلم لهم ذلك ، لأنه
تعالى قد نص على أنه لعن إبليس والكفار ، وأنهم مسخطون ملعونون مكروهون من الله
تعالى مغضوب عليهم ، وكذلك الخمر والأوثان. وقال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة المائدة آية
رقم : ٩٠]. وقال تعالى : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [سورة الأنعام :
٤٥].
وقد سمى الله
تعالى كل ذلك رجسا ثم أمر تعالى بعد ذلك باجتنابه وأضاف كل ذلك إلى عمل الشيطان ،
ولا خلاف في أنه عزوجل خالق كل ذلك ، فهو خالق الرجس بالنص ، ولا فرق في المعقول
بين خالق الرجس وخالق الكفر والظلم والكذب.
وقال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) [سورة الشمس : ٧ ،
٨].
فأخبر الله تعالى
أنه هو الذي ألهم التقوى والفجور النفوس.
فعلى قول هؤلاء
المخاذيل أنه مما ألهم ويكرهه ، وإلهامه فعله بلا شك ضرورة ، فقد صحّ عليهم ما
شنّعوا به من أنه تعالى يغضب من فعله أيضا.
فيقال لهم : هل
الله تعالى قادر على منع الظالم من ظلم المظلوم ، وعلى منع الذين قتلوا رسل الله
صلّى الله عليهم وسلم على أن يحول بين الكافر وكفره بأن يميته قبل أن يبلغ ، وبين
الزاني وزناه بإضعاف جارحته ، أو بشغل يشغله به ، أو تيسير إنسان يطلّ عليهما؟ أم
هو عاجز عن ذلك كله غير قادر على شيء منه ..؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث.
فإن قالوا : هو
غير قادر على شيء من ذلك عجّزوا ربهم ، وكفروا وبطلت أدلتهم على إحداث العالم ، إذ
أضعفوا قدرة ربهم عن هذا اليسير السهل ، وإن قالوا : بل هو قادر على ذلك كله فقد
أقروا أيضا على أنه رأى المنكر والكفر والزنى والظلم وأقره ولم يغيره ، وأطلق أيدي
الكفار على قتل أنبيائه وضربهم ، ومع إقراره إياهم على ذلك فلم يكتف به ، حتى
قواهم بجوارحهم وآلاتهم ، وكف كل مانع ، وهذا على قولهم أنه رضا منه تعالى بالكفر
على كل ذلك ، وكل ما ذكر بإرادته واختيار منه تعالى لكل ذلك ، وهذا كفر مجرد ،
وإما أنه يغضب ممّا أقر ويسخط مما أعان عليه ، ويكره مما فعل من إقرارهم على كل
ذلك ، وهذا هو الذي شنّعوه به ، ولا بد من أحد الوجهين ضرورة ، وكلاهما خلاف قوله
إلا أن هذا لازم لهم على أصولهم ، ولا يلزمنا نحن شيء منه ، لأننا ما نقبح إلّا ما
قبّح الله تعالى ولا نحسّن إلا ما حسّن الله تعالى.
فإن قالوا : إنما
أقره لينتقم منه ، وإنما كان يكون سفها وعبثا لو أقره أبدا. قيل لهم : أي فرق بين
إقراره عزوجل للكفر والظلم والكذب ساعة وبين إبقائه ذلك ساعة بعد ساعة
وهكذا أبدا بلا نهاية أو نهاية في الحسن والقبح؟ وإلا فعرفونا الأمر الذي يكون إقرارهم
الظلم والكفر والكذب إليه حكمة وحسنا ، وإذا تجازوه صار عبثا وسفها ، فإن تكلفوا
أن يحدّوا في ذلك حدّا أتوا بالجنون والسّخف والكذب ، والدعوى التي لا يعجز عنها
أحد. وإن قالوا : لا ندري وردّوا العلم في ذلك إلى الله عزوجل صدقوا. وهذا هو قولنا : أن كل ما فعله الله تعالى من
تكليفه ما لا يطاق وتعذيبه عليه وخلقه الظلم والكفر في الظالم والكافر وإقراره كل
ذلك ثم تعذيبهما عليه وخلقه وغضبه وسخطه إياه كل ذلك من الله عزوجل حكمة وعدل وحقّ وممن دونه سفه وظلم وباطل ، لا يسأل عما
يفعل تعالى وهم يسألون. وأما قولهم من فعل شيئا وجب أن ينسب إليه وأنه لا يعقل ولا
يوجد غير هذا وإيجابهم هذا الاستدلال إلى أن يسمى الله تعالى ظالما لأنه خلق الظلم
وكذلك من الكفر والكذب فهذا ينتقض عليهم من وجهين :
أحدهما : أنه
تشبيه محض ، لأنهم يريدون أن يحكموا على الباري تعالى بحكم الموجود الجاري على
خلقه.
ويقال لهم : إذا
لم تجدوا في الشاهد فاعلا إلا جسما ولا عالما إلّا بعلم هو غيره ، ولا حيا إلا
بحياة هي عرض فيه ، ولا مخبرا عنه إلا جسما أو عرضا وما لم يكن كذلك فهو معدوم ولا
يتوهم ولا يعقل ، ثم رأيتم الله تعالى بخلاف ذلك كله ولم تحكموا عليه بالحكم فيما
وجدتم ، فقد وجب ضرورة أن لا يحكم عليه تعالى بالحكم عندنا في أن يسمى في أفعاله
ولا في أن ينسب إليه كما ينسب إلينا بخلاف ذلك بالبرهان الضروري. وهو أن الله
تعالى خلق كل ما خلق من ذلك مخترعا له كيفية مركبة في غيره ، فهكذا هو فعل الله
تعالى فيما خلق.
وأما فعل عباده
لما فعلوا فإنما معناه أنه ظهر منهم ذلك الفعل عرضا محمولا في فاعله ، لأن ذلك إما
حركة في متحرك ، وإما سكونا في ساكن ، أو اعتقادا في معتقد ، أو فكرا في متفكر ،
أو إرادة من مريد ، ولا مزيد ، فبين الأمرين فرق بيّن لا خفاء به على من له أقل
فهم.
وأما المدح والذم
واشتقاق اسم الفاعل من فعله فليس كما ظنوا لكن الحق هو أنه لا يستحق أحد مدحا ولا
ذما إلا من مدحه الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم أو ذمه وقد أمرنا الله تعالى بحمده والثناء عليه ، فهو عزوجل محمود على كل ما فعل محبوب لكل ذلك.
وأما من دونه عزوجل فمن حمد الله تعالى فعله فهو ممدوح محمود وأما من ذم عزوجل فعله الذي أظهره فيه فهو مذموم ولا مرية.
وبرهان ذلك إجماع
أهل الإسلام على أنه لا يستحق الحمد والمدح إلا من أطاع الله عزوجل ، ولا يستحق الذم إلا من عصاه ، وقد يكون العبد محمودا
مطيعا اليوم ممدوحا بفعله إن فعله اليوم ، وكافرا مذموما به إن فعله غدا ، كالحج
في أشهر الحج ، وفي غير أشهر الحج ، وكصوم يوم الفطر والأضحى ، وصوم رمضان ،
وكالصلاة في الوقت وقبل الوقت أو بعده وكسائر الشرائع كلها ، وقد وجدنا فاعلا
للكذب قائلا له ، وفاعلا للكفر قائلا له ، وهما غير مذمومين ولا يسمى أحد منهما
كافرا ولا كاذبا ، وهما الحاكي والمكره ، فبطل ما ظنت المعتزلة بأن من فعل الكذب
فهو كاذب ، ومن فعل الكفر فهو كافر ، ومن فعل الظلم فهو ظالم ، فصح أنه لا يكون
كافرا ولا كاذبا إلا من سمّاه الله عزوجل كافرا أو ظالما ، وأنه لا كفر ولا ظلم ، ولا كذب ، إلّا ما
سمّاه الله كفرا ، وكذبا ، وظلما.
فصحّ بالضرورة
التي لا محيد عنها أنه ليس في العالم شيء ممدوح لعينه ولا مذموم لعينه ولا كفر
لعينه ولا ظلم لعينه.
وأما ما لا يقع
عليه اسم طاعة ولا معصية ولا حكمهما ، وهو الله تعالى فلا يجوز أن يوقع عليه مدح
ولا ذم ولا حمد إلا بنص من قبله ، ونحمده كما أمرنا أن نقول : الحمد لله رب
العالمين.
وأما من دونه
تعالى ممن لا طاعة تلزمه ولا معصية كالحيوان من غير الملائكة والحور العين والإنس
والجن ، فكالجمادات فلا تستحق مدحا ولا ذما ، لأن الله تعالى لم يأمرنا بذلك فيها
، فإن وجد له أمر مدح لشيء منها أو ذمه ، وجب الوقوف عند أمره تعالى ، كأمره بمدح
الكعبة ، والمدينة ، والحجر الأسود ، وشهر رمضان ، والصلاة وغير ذلك ، وكأمره
تعالى بذم الخمر ، والخنزير ، والميتة ، والكنيسة والكفر ، والكذب ، وما أشبه ذلك
، وأما ما عدا هذين القسمين فلا مدح ولا ذم. وأما اشتقاق اسم الفاعل من فعله فكذلك
أيضا ولا فرق وليس لأحد أن يسمي شيئا إلا بما أباحه الله تعالى في الشريعة ، أو في
اللغة التي أمرنا بالتخاطب بها. وقد وجدناه تعالى أخبر أن له كيدا ومكرا ، وأنه
يكيد ويمكر ويستهزىء وينسى ما نسيه ، وهذا كله لا تدفعه المعتزلة ولو دفعته لكفرت
لردها نص القرآن وهم مجمعون معنا على أنه لا يسمى باسم مشتق من ذلك.
فلا يقال له ماكر
من أجل أن له مكرا ، ولا أنه كياد من أجل أنه يكيد ، وأن له كيدا ، ولا مستهزئا من
أجل أنه يستهزىء. فقد بطل ما صوروه من أن كل من فعل فعلا فإنه يسمى منه ، وينسب
إليه.
ولا يشغب هاهنا
مشغب مع من لا يحسن المناظرة فيقول : إنما قلنا : إنه يكيد ويستهزىء وإنه يمكر على
معنى المعارضة. فإنا نقول : صدقت ولم نخالفك في هذا لكن ألزمناك أن تسمّيه تعالى
كيّادا ، وماكرا ، ومستهزئا ، وناسيا ، على معنى المعارضة ، كما يقول فقط ، فإن
أبى من ذلك وقال : إن الله عزوجل لم يسمّ بشيء من ذلك نفسه ، فقد رجع إلى الحق ، ووافقنا في
أن الله تعالى لا يسمّى ظالما ، ولا كاذبا ، ولا كافرا ، من أجل خلقه الظلم ،
والكفر ، والكذب ، لأنه تعالى لم يسمّ نفسه بذلك ، فإن أنكر ذلك تناقض ، وظهر بطلان
قوله في مذهبه.
قال أبو محمد :
وقد وافقونا على أنه تعالى خلق الخمر وحبل النّساء ولا يجوز أن يسمّى خمّارا ، ولا
محبلا ، وأنه تعالى خلق أصباغ القماري والهداهد ، والحجل ، وسائر الألوان ، ولا
يجوز أن يسمّى صباغا ، وأنه تعالى بنى السماء ولا يسمى بناء وأنّه تعالى سقانا
الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقيا.
وأنه تعالى خلق
الخمر ، والخنزير ، وإبليس ، ومردة الشياطين ، وكذلك كل سوء وسيّئ ، وخبيث ، ورجس
، ونجس ، وشر ، ولا يسمى من أجل ذلك مسيئا ولا شريرا فأيّ فرق بين هذا كله وبين أن
يخلق الشر والظلم ، والكذب ، والكفر ، ومعاصي عباده ولا يسمى بذلك مسيئا ولا ظالما
، ولا كاذبا ، ولا شريرا ولا فاحشا؟ والحمد لله على ما منّ به من الهدى والتوفيق
وهو المستزاد من فضله لا إله إلا هو.
ويقال لهم أيضا :
أنتم تقولون بأنه خلق القوة التي بها يكون الكفر ، والكذب ، الظلم ، ووهبها لعباده
ولا تسمونه من أجل ذلك مقويا على الكفر ، ولا معينا للكافر في كفره ، ولا مسببا
للظلم ولا واهبا للكفر ، وهذا بعينه هو الذي عبتم وأنكرتم.
ويقال لهم أيضا :
أخبرونا عن تعذيبه أهل جهنم في النار أمحسن هو بذلك إليهم أم مسيء؟ فإن قالوا :
محسن إليهم ، قالوا : الباطل وخالفوا أصلهم ، وسألناهم أن يسألوا لأنفسهم ذلك
الإحسان نفسه وإن قالوا : إنه مسيء إليهم كفروا وإن قالوا مسيئا قلنا لهم فهم في
إساءة أو إحسان؟ فإن قالوا : ليسوا في إساءة كابروا العيان ، وإن قالوا بل هم في
إساءة ، قلنا لهم : هذا ما أنكرتم أن يكون منه تعالى إليهم حال هي غاية الإساءة ،
ولا يسمى بتلك مسيئا.
وأما نحن فنقول :
إنهم في غاية الإساءة والمساءة والسخط عليهم ، وليس السخط إحسانا إلى المسخوط عليه
، وكذلك اللعنة في الملعون ، وأنه تعالى محسن على الإطلاق ، ولا نقول : إنه مسيء
أصلا وبالله تعالى التوفيق.
والأصل في ذلك ما
قلناه من أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى نفسه ولا يخبر عنه إلا بما
أخبر به عن نفسه ولا مزيد.
فإن قالوا : إذا
جوّزتم أن يخلق الله تعالى ما هو ظلم بيننا ولا يكون بذلك ظالما فجوزوا أن يخبرنا
بالشيء على خلاف ما هو عليه ولا يكون بذلك كاذبا ، وأن لا يعلم ما يكون ، ولا يكون
بذلك جاهلا ، وأن لا يقدر على شيء ولا يكون عاجزا.
قيل لهم ـ وبالله
تعالى التوفيق ـ هذا محال من وجهين :
أحدهما : أنه قد
أوضحنا أنه ليس في العالم ظلم لعينه ولا بذاته البتة ، وإنما الظلم بالإضافة ،
فيكون قتل زيد إذا نهى الله تعالى عنه ظلما ، وقتله إذا أمر الله ـ تعالى ـ به
عدلا ، وأمّا الكذب فهو كذب لعينه وبذاته ، فكل من أخبر بخبر بخلاف ما هو عليه فهو
كاذب ، إلا أنه لا يكون بذلك آثما ولا مذموما إلا من حيث أوجب الله ـ تعالى ـ فيه
الإثم والذم فقط ، وكذل القول في الجهل والعجز أنهما جهل لعينه وعجز لعينه ،
وكل من لم يعلم
شيئا فهو جاهل به ولا بدّ ، وكل من لم يقدر على شيء فهو عاجز عنه ولا بد.
والوجه الثاني :
بالضرورة التي علمنا أن نواة التمر لا تخرج زيتونة ، وأن الفهرس لا ينتج جملا ،
عرفنا أن الله تعالى لا يكذب ، ولا يجهل ، ولا يعجز ، لأن هذه صفات المخلوقين ،
وجميع صفات المخلوقين عنه تعالى منتفية إلا ما جاء به نص بأن يطلق اسم من أسمائها
عليه خاصة فنقف عليه. وأيضا فإن أكثر المعتزلة يحقق قدرة الباري تعالى على الظلم
والكذب ، ولا يجيزون وقوعهما منه ـ تعالى ـ وليس وصفهم إياه عزوجل بالقدرة على ذلك ، بموجب إمكان وقوعه منه تعالى ، ولا
ينكرون علينا أن نقول إن الله ـ تعالى ـ فعل أفعالا هي منه ـ تعالى ـ عدل وحكمة ،
وهي منّا ظلم وعبث ، وليس يلزمنا مع ذلك أن نقول إنه يقول الكذب ، ويجهل ، فبطل
هذا الإلزام ، والحمد لله رب العالمين.
وأيضا فإننا لم
نقل إنه ـ تعالى ـ يظلم ولا يكون ظالما ، ولا قلنا إنه يكفر ولا يسمى كافرا ، ولا
قلنا إنه يكذب ولا يسمى كاذبا ، فيلزمنا ما أرادوا إلزامنا إياه ، وإنما قلنا إنه
خلق الظلم والكذب والكفر والشرّ والحركة والطول ، والعرض ، والسكون ، أعراضا في
خلقه ، فوجب أن يسمى لكل ذلك خالقا ، كما خلق الجوع ، والعطش ، والشبع ، والري ،
والهزال ، واللغات ، ولم يجز أن يسمى ظالما ، ولا كاذبا ، ولا كافرا ، ولا شريرا ،
كما لم يجز عندنا وعندهم أن يسمى من أجل خلقه لكل ما ذكرناه : متحركا ، ولا ساكنا
ولا طويلا ، ولا عريضا ، ولا عطشان ، ولا ريان ، ولا جائعا ، ولا شابعا ولا سمينا
، ولا هزيلا ، ولا لغويا ، وهكذا كل ما خلق الله تعالى. ومنه كل ما خلق فإنه يخبر
بأنه خالق له فقط ولا يوصف بشيء مما ذكرنا إلا من خلقه تعالى عرضا فيه.
وأما قولهم : لا
يفعل فعل من فاعلين هذا فعله كله وهذا فعله ، فإن هذا تحكم ونقصان من الحكمة في
القسمة أوقعهم فيها جهلهم وتناقضهم ، وقولهم إنا نستدل بالشاهد على الغائب ، وهذا
قول قد أفسدناه في كتابنا «الإحكام في أصول الأحكام» بحمد الله ـ تعالى ـ ونبين هاهنا فساده بإيجاز.
فنقول وبالله
تعالى التوفيق : إنه ليس عن العقل الذي هو التمييز شيء غائب أصلا وإنما يغيب بعض
الأشياء عن الحواس وكل ما في العالم فهو مشاهد بالعقل المذكور
__________________
لأن العالم كله
جوهر حامل وعرض محمول فيه ، وكلاهما يقتضي خالقا أولا واحدا لا يشبهه شيء من خلقه
في وجه من الوجوه ، فإن كانوا يعنون بالغائب الباري ـ تعالى ـ فقد لزمهم تشبيهه
بخلقه إذ حكموا بتشبيه الغائب بالحاضر ، وفي هذا كفاية. بل ما دل الشاهد كله إلا
بأن الله ـ تعالى ـ بخلاف ما خلق من جميع الوجوه ، وحاشا لله أن يكون ـ عزوجل ـ غائبا عنا ، بل
هو مشاهد بالعقل ، كما نشاهد بالحواس كلّ حاضر ، ولا فرق بين صحة معرفتنا به ـ عزوجل ـ بالمشاهدة
بضرورة العقل ، وبين معرفتنا بسائر ما نشاهده.
ثم نرجع إن شاء
الله ـ تعالى ـ إلى إنكارهم فعلا واحدا من فاعلين ، فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إنما امتنع ذلك فيما بيننا في الأكثر على العموم لما شاهدناه من أنه لا تكون حركة
واحدة في الأغلب لمتحركين ، ولا اعتقاد واحد لمعتقدين ، ولا إرادة واحدة لمريدين ،
ولا فكرة واحدة لمفتكرين ، ولكن لو أخذ اثنان سيفا واحدا أو رمحا واحدا فضربا به
إنسانا أو طعناه لكانت حركة غير منقسمة لمتحركين بها ، وفعلا واحدا غير منقسم
لفاعلين ، هذا أمر مشاهد بالحس والضرورة وهذا أمر منصوص في القرآن من أنكره كفر ،
وهو أن القراءة المشهورة عند المسلمين (إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [سورة مريم : ١٩] و
«ليهب لك».
كلا القراءتين
مشهورة بنقل الكواف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن جبريل صلىاللهعليهوسلم.
فإذا قرئت بالهمز
فهو إخبار جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الروح الأمين أنه الواهب لها عيسى صلىاللهعليهوسلم.
وإذا قرئت بالياء
: فهو من إخبار جبريل عن الله عزوجل بأن الله تعالى هو الواهب لها عيسى عليهالسلام. فهذا فعل من فاعلين ينسب إلى الله عزوجل الهبة لأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق لهذه الهبة ، ونسبت
الهبة أيضا إلى جبريل لأنه منه ظهرت إذ أتى بها ، وكذلك قوله ـ عزوجل ـ (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) [سورة الأنفال :
١٧].
فأخبر تعالى أنه
رمى ، وأن نبيه صلىاللهعليهوسلم رمى.
فأثبت ـ تعالى ـ
لنبيه صلىاللهعليهوسلم الرمي ونفاه عنه معا. وبالضرورة ندري أن كلامه ـ تعالى ـ
لا يتناقض فعلمنا أن الرمي الذي نفاه ـ عزوجل ـ عن نبيه صلىاللهعليهوسلم هو غير الرمي الذي أثبته له لا يظن غيره ، هذا مسلم البتة
، فصحّ ضرورة أن نسبة الرمي إلى الله ـ عزوجل ـ لأنه خلقه وهو ـ
تعالى ـ خالق الحركة التي هو الرمي وممضي الرّمية وخالق سائر الرمي ، وهذا هو
المنفي عن الرامي ، وهو النبي صلىاللهعليهوسلم.
وصح أن الرمي الذي
أثبته لنبيّه عليهالسلام هو ظهور حركة الرمي منه فقط وهذا نصّ قولنا دون تكلف وكذلك
قوله تعالى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) [سورة الأنفال :
١٧] والقول في هذا كالقول في الرمي ولا فرق وكذلك قوله تعالى (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ) [سورة الأنعام :
١٠٨].
وقوله ـ تعالى ـ (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ) [سورة النحل : ٦٣].
فعلمنا ضرورة أن
تزيين الله ـ تعالى ـ لكل أمة عملها إنما هو خلقه لمحبة أعمالهم في أنفسهم وأن
تزيين الشيطان لهم أعمالهم إنما هو ظهور الدعاء إليها بوسوسته ، وقال تعالى حاكيا
عن عيسى ـ عليهالسلام ـ أنه قال : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) [سورة آل عمران :
٤٩].
أفليس هذا فعلا من
الله ـ تعالى ـ ومن المسيح ـ عليهالسلام ـ بنص الآية ..؟؟؟
وهل خالق الطير ، ومبرئ الأكمه والأبرص إلا الله لا إله إلا هو ..؟؟؟ وقد أخبر ـ عليهالسلام ـ أنه يخلق ويبرئ
، فهو فعل من فاعلين بلا شك ، وقد أخبر ـ عزوجل ـ عن نفسه أنه
يحيي ويميت ، وقال عيسى ـ عليهالسلام ـ عن نفسه (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ.)
فبالضرورة نعلم أن
الميت الذي أحياه عيسى ـ عليهالسلام ـ والطير الذي خلق
بنص القرآن ، فإن الله تعالى أحياه وخلقه ، وعيسى عليهالسلام أحياه وخلقه بنص القرآن ، وهذا كله فعل من فاعلين بلا شك ،
وبالله تعالى التوفيق.
وهكذا نقول في
قوله ـ عزوجل ـ (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ
جَهَنَّمَ) [سورة إبراهيم :
٢٨] فقد علمنا يقينا أن الله ـ تعالى ـ هو الذي أحلهم دار البوار بلا شك لكن لما
ظهر منهم السبب الذي حلّوا به دار البوار أضيف ذلك إليهم كما قال تعالى عن إبليس (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ) [سورة الأعراف :
٢٧].
وقد علمنا يقينا
أن الله تعالى هو الذي أخرجهما وأخرج إبليس معهما ، لكن لما ظهر السبب من إبليس في
خروجهما أضيف ذلك إليه وكما قال تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [سورة إبراهيم : ١].
وقال لموسى ـ عليهالسلام ـ (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة إبراهيم : ٥].
وكذلك أيضا نقول
إن محمدا صلىاللهعليهوسلم أخرجنا من الظلمات إلى النور وقد علمنا أن المخرج لنا وله ـ
عليهالسلام ـ هو الله تعالى
لكن لما ظهر السبب منه ـ عليهالسلام ـ
أضيف الفعل إليه
وهذا كله لا يوجب الشركة بينهم وبين الله ـ تعالى ـ كما تموّه المعتزلة وكل هذا
فعل فاعلين ، وكذلك سائر الأفعال الظاهرة من الناس ولا فرق.
وقال تعالى (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً) [سورة آل عمران :
١٧٨].
(وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [سورة القلم : ٤٥].
وقال تعالى (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى
لَهُمْ) [سورة محمد : ٢٥].
فعلمنا ضرورة أن
إملاء الله تعالى إنما هو تركه إياهم دون تعجيل عقاب ، بل بسط لهم في الدنيا ومدّ
لهم من أنعمه ما كان لهم عونا على الكفر والمعاصي ، وعلمنا أن إملاء الشيطان إنما
هو بالوسوسة ، وإنساء العقاب ، والحض على المعاصي ، وقال تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [سورة الواقعة :
٦٣ ، ٦٤].
فهذا فعل من
فاعلين ضرورة نسب إلى الله تعالى لأنه اخترعه وخلقه وأنماه ، ونسب إلينا لأننا
تحركنا في زرعه فظهرت الحركة المخلوقة فينا ، فهذه كلها أفعال خلقها الله تعالى
وأظهرها في عباده فقط ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وتحقيق القول في الأفعال هو أن الله تعالى خلق كل ما خلق قسمين فقط جوهرا حاملا
وعرضا محمولا في ذلك الجوهر فهو خلق الجوهر الكامل قسمين فقط حيا وغير حي ، ثم خلق
الحيّ قسمين ناطق وغير ناطق ، فغير الحي هو الجماد كله ، والناطق هو الملائكة
والحور العين والإنس والجن ، وغير الناطق هو كل ما عدا ما ذكرنا من الحيوان ، ثم
خلق تعالى في الجمادات وفي الحي غير الناطق وفي الحي الناطق حركة وسكونا وتأثيرا ،
وقد ذكرناه آنفا كما تقول : الفلك يتحرك والمطر ينزل والوادي يسيل ، والجبل يسكن ،
والنار تحرق ، والثلج يبرد ، وهكذا في كل شيء ، بهذا جاء القرآن وجميع اللغات ،
قال تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) [سورة المؤمنون :
١٠٤].
وقال تعالى : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) [سورة الرعد : ١٧].
وقال تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا
ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [سورة الرعد : ١٧].
وقال (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) [سورة البقرة :
١٦٤].
ومثل هذا كثير جدا
، وبهذا جاءت اللغات في نسبة الأفعال الظاهرة في الجمادات إليها لظهورها فيها فقط
لا تختلف لغة في ذلك .. وقال تعالى حاكيا عن
إبراهيم عليهالسلام أنه قال (وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ
النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [سورة إبراهيم :
٣٥ ، ٣٦].
فأخبر أن الأصنام
تضل. وقال تعالى (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [سورة الكهف : ٤٥].
وهذا أكثر من أن
يحصى ، والأعراض أيضا تفعل كما ذكرنا ، وقال عزوجل (وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر : ١٠].
وقال تعالى (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ
بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) [سورة فصلت : ٢٣].
فالظن يردي ،
والعمل يرفع ، ولم تختلف أمة في صحة القول «أعجبني عمل فلان» وسرني خلق فلان ومثل
هذا كثير جدا ، وقد وجدنا الحر يحلل ويصعد ، والبرد يجمد ، ومثل هذا كثير جدّا ،
كما بيّنا ، والكل خلق الله ـ تعالى ـ وأما حركة الحي غير الناطق والحي الناطق
وسكونهما وتأثيرهما فظاهر أيضا ، ثم خلق ـ تعالى ـ في الحي غير الناطق قصدا ومشيئة
لم يخلق ذلك في الجمادات كإرادة الحيوان الرعي وتركه ، والمشي وتركه ، والأكل
وتركه ، وما أشبه هذا ، ثم خلق تعالى في الحي الناطق تمييزا لم يخلقه في الحي غير
الناطق ولا في الجماد ، وهو التصرف في العلوم والمعارف.
هذا كله أمر مشاهد
وكل ذلك خلق الله تعالى فيما خلقه فيه ، ونسب الفعل في كل ذلك إلى من أظهره الله
تعالى منه فقط. فخلق الله تعالى كما ذكرنا في الحي الناطق الفعل والاختيار
والتمييز ، وخلق في الحي غير الناطق الفعل والاختيار فقط ، وخلق في الجماد الفعل
فقط ، وهو الحركة والسكون والتأثير كما ذكرنا ، وبالجملة فلا فرق بين من كابر
وجاهر فأنكر فعل المطبوع بطبعه ، وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله ـ تعالى ـ فيه
فقط ، وبين آخر كابر وجاهر فأنكر فعل المختار باختياره ، وقال ليس هو فعله بل هو
فعل الله تعالى ـ فيه فقط ، وكلا الأمرين محسوس بالحس معلوم بأول العقل ضرورة ،
أنه فعل لما ظهر منه ، ومعلوم ذلك كله بالبرهان الضروري أنه خلق الله تعالى في
الطبوع والمختار ، فإن فرّوا إلى القول بأن الله تعالى لم يخلق فعل المختار وأنه
تعالى المختار فقط ، قلنا : قد بينا بطلان هذا قبل ، ولكن نعارضكم هاهنا بأن منكم
من يقول لم يخلق الله تعالى أيضا فعل المطبوع ، وأنه فعل المطبوع فقط ، كمعمّر
وغيره من كبار المعتزلة.
فإن قالوا : أخطأ
من قال هذا وكفر.
قلنا لهم : صدقتم
وكفر من قال إن أفعال المختار لم يخلقها الله عزوجل ولا فرق.
فإن قالوا : إن
الله تعالى هو خالق الطبيعة والمطبوع اللّذين ينسبون الفعل إليهما فهو خالق ذلك
الفعل.
قلنا لهم : والله عزوجل هو خالق المختار ، وخالق اختياره ، وخالق قوته وهم الذين
ينسبون الفعل إليهم فهو الله عزوجل خالق ذلك الفعل ولا فرق.
قال أبو محمد :
وهذا الذي ذكرنا من إضافة التأثير وجميع الأفعال إلى كل من ظهرت منه من جماد أو
عرض أو حي ناطق أو غير ناطق ، فهو الذي به تشهد الشريعة ، وبه يشهد القرآن والسنن
كلها ، وبه تشهد البينة ، لأنه أمر محسوس مشاهد ، وبه تشهد اللغات من جميع أهل
الأرض قاطبة لا نقول لغة العرب فقط ، بل كل لغة لا نحاشي منها شيئا وما كان هكذا
فلا شيء أصح منه.
فإن قيل : فأنتم
إذا تسمّون الجماد والعرض كاسبا؟
قلنا : لا نتعدى
ما جاءت به اللغة ، ومن أحال اللغة التي بها نزل القرآن برأيه فقد دخل في جملة من
قال الله عزوجل : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَواضِعِهِ) [سورة المائدة : ١٣]
ولحق بالسوفسطائية في إبطالهم التفاهم ولو جاءت اللغة بذلك لقلناه كما نقول إن
الله عزوجل فاعل ولا نسميه كاسبا.
فإن قيل : أنتم
تقولون إن الجماد والعرض عوامل؟
قلنا : نعم. لأن
اللغة جاءت بذلك ونقول الحديد يعمل في العود ، والحر يعمل في الأجسام ، وهكذا في
غير ذلك.
فإن قيل : أتقولون
إن للجماد والعرض استطاعة وقوة وطاقة وقدرة؟
قلنا : إنما نتبع
اللغة فقط فنقول : إن للجمادات والأعراض قوى يظهر بها ما خلق الله تعالى فيها من
الأفعال وفيها طاقة لها ولا نقول فيها قدرة ولا نمنع من يقول فيها طاقة ، قال الله
عزوجل (وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [سورة الحديد : ٢٥].
فنقول : الحديد ذو
بأس شديد ، وذو قوة عظيمة وطاقة مفرطة ، وقد قلنا لكم إننا لا نتعدى في تسمية
والعبارة جملة ما جاءت به اللغة ، ولا نتعدى في تسمية الله تعالى والخبر عنه ما
جاء به القرآن ونص عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهذا هو الذي صحّ به البرهان ، وما عداه فباطل وضلال
وبالله تعالى التوفيق.
وأما اعتراضهم بهل
الخلق هو الكسب أو غيره؟ فنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن ، وكل طبعنا وجميع أعمالنا
وأفعالنا ، فكل ذلك خلق الله تعالى خلقه فينا كما ذكرنا ، لأن كل ذلك شيء ، وقال
تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر : ٤٩].
ولكنا لا نتعدى
باسم الكسب حيث أوقعه الله تعالى مخبرا لنا بأننا نجزى بما كسبت أيدينا وبما كسبنا
في غير موضع من كتابه ، ولا يحل أن يقال إنه كسب لله
تعالى ، لأنه لم
يأت بها نص ، ولم يقله تعالى عن نفسه ، ولا أذن في قوله ، ولكن نقول من خلق الله
تعالى كما نص على أنه تعالى خالق كل شيء ، ونقول هي كسب لنا كما قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة :
٢٨٦].
ولا نسميه في
الشريعة ولا فيما يخبر به عن الله تعالى لأن الله خالق الألسنة الناطقة بالأسماء
وخالق الأسماء وخالق المسميات ـ حاشاه ـ تعالى ـ وخالق الهواء ، الذي ينقسم على
حروف الهجاء فتتركب منه الأسماء إلا بما سمى به نفسه تعالى فإذا كانت الأسماء
مخلوقة له عزوجل ، والمسميات دونه تعالى مخلوقة لله عزوجل والمسمون الناطقون بآلاتهم مخلوقين لله عزوجل فليس لأحد إيقاع اسم على مسمى لم يوقعه الله تعالى عليه في
الشريعة أو أباح إيقاعه عليه إباحته الكلام باللغة التي بها نزل القرآن وأمرنا
بالتفاهم بها وبأن نتعلم بها دينه ونعلمه بها ، وقد نص عزوجل على هذا القول وقال منكرا على قوم أوقعوا الأسماء على
مسميات لم يأذن الله عزوجل على إيقاعها عليها (إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [سورة النجم : ٢٣
، ٢٤].
فأخبر ـ تعالى ـ
أن من أوقع اسما على مسمّى لم يأت نصّ بإباحته أو الإذن فيه بالشريعة أو بجملة
اللغة فإنما يتبع الظن ، والظن أكذب الحديث فإنما يتبع هواه ، وقد حرم الله عزوجل اتباع الهوى وأخبر ـ تعالى أن الهدى قد جاء من عنده وقال
تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [سورة القصص : ٦٨].
فليس لأحد أن
يتعدى القرآن والسنة اللذين هما هدى الله تعالى وبالله تعالى التوفيق.
فصح بالضرورة أنه
ليس لأحد أن يقول : إن أفعالنا خلق لنا ولا أنها كسب لله عزوجل لكن الحق الذي لا يجوز خلافه هو أنها خلق لله ـ تعالى ـ
كسب لنا ، كما جاء في هدى الله تعالى الذي هو القرآن ؛ وقد بينا أيضا أن الخلق هو
الإبداع والاختراع وليس هذا لنا أصلا فأفعالنا ليست هي خلقنا ، والكسب إنما هو
استضافة الشيء إلى حامله بمشيئة الله ـ تعالى ـ وليس يوصف الله ـ تعالى ـ بهذا في
أفعالنا فلا يجوز أن يقال هي كسب لله عزوجل وبه نتأيد.
وأيضا فقد وافقونا
كلهم على تسمية الباري ـ تعالى ـ خالق الأجسام وكلهم ـ حاشا معمرا وعمرو بن بحر
الجاحظ ، موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق
الأعراض كلها ،
حاشا أفعال المختارين. وكلهم معمر والجاحظ أيضا موافقون لنا بأنه خالق الإماتة
والإحياء ، وكلهم موافقون لنا على أنه تعالى إنما يسمى خالقا لكل خلق لإبداعه إياه
من ليس ولم يكن قبل ذلك.
فإذا ثبت بالبرهان
اختراه لسائر الأعراض التي خالفونا فيها وجب أن يسمى ذلك خلقا له ـ تعالى ـ ويسمى
هو تعالى خالقها. وأما اعتراضهم بأنه إذا كانت أفعالنا خلقا لله ـ عزوجل ـ وكان متوهما منا
ومستطاعا عليه في ظاهر أمرنا بسلامة جوارحنا ألّا تكون تلك الأفعال فقد ادعينا
أننا مستطيعون في ظاهر الأمر بسلامة الجوارح ، وأنه متوهم منا منع الله ـ تعالى ـ
من أن يخلقها وهذا كفر مجرد ممن أجازه.
قال أبو محمد :
هذا لازم للمعتزلة على الحقيقة لا لنا لأنّهم القائلون إنهم يقدرون ويستطيعون على
الحقيقة على ترك أفعالهم وعلى ترك الوطء الذي قد علم الله ـ عزوجل ـ أنه لا بد أن
يكون ، وأنه يخلق منه الولد ، وعلى ترك الضرب الذي قد علم الله عزوجل أنه لا بد أن يكون منه الموت وانقضاء الأجل المسمى عنده ،
وعلى ترك الحرث والزرع الذي قد علم الله ـ عزوجل ـ أنه لا بد أن
يكون ، وأن يكون منه النبات الذي منه تكون الأقوات والمعاش فلزمهم ولا بد أنهم
قادرون على منع الله عزوجل ـ من خلق أبنائهم
ومن أن يميت من أمات مقتولا.
قال أبو محمد :
ومن بلغ هاهنا فلا بد أن يرجع إما تائبا محسنا إلى نفسه ، وإما خاسئا غاويا مقلّدا
منقطعا ، أو يتمادى على طرد قوله فيكفر ولا بد مع خلافه لضرورة الحس والمشاهدة ،
وضرورة العقل والقرآن ، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
وأما نحن فجوابنا
هاهنا أننا لم نستطع قط على فعل ما لم نعلم أننا سنفعله ولا على ترك ما علم الله
تعالى أننا نفعله ولا على نسخ علم الله عزوجل أصلا ولا على تكذيبه عزوجل في فعل ما أمر الله تعالى به وإن كنا في ظاهر الأمر نطلق
ما أطلق الله عزوجل من الاستطاعة التي لا يكون بها إلا ما علم الله عزوجل أنه يكون ولا مزيد ، وهي استطاعة بإضافة لها استطاعة على
الإطلاق ، ولكن نقول : هو مستطيع بصحة جوارحه ، أي أنه متوهم كون الفعل منه فقط. فإن
قالوا : فأمركم الله تعالى بأن تكذبوا قوله وتبطلوا عمله إذا أمركم بفعل ما علم
أنه لا تفعلونه؟ قلنا : عند تحقيق الأمر ، فإن
__________________
أمره عزوجل ، لمن علم أنه لا يفعل ما أمر به أمر تعجيز كقوله : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) [سورة الإسراء : ٥].
وكقوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ
إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما
يَغِيظُ) [سورة الحج : ١٥].
قال أبو محمد :
وقد تحيرت المعتزلة هنا حتى قال بعضهم : لو لم يقتل زيد لعاش ، وقال أبو الهذيل :
لو لم يقتل زيد لمات ، وشغب القائلون بأنه لو لم يقتل لعاش بقول الله عزوجل (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [سورة فاطر : ١١].
وبقول الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «من سره أن ينسأ
في أجله فليصل رحمه» .
قال أبو محمد :
وكل هذا لا حجة لهم فيه بل هو بظاهره حجة عليهم ، لأن النقص في هذه اللغة التي بها
أنزل القرآن إنما هو من باب الإضافة ، وبالضرورة علمنا أن من عمّر مائة عام وعمّر
آخر ثمانين عاما ، فإن الذي عمر ثمانين عاما نقص من عدد عمر الآخر عشرين عاما فهذا
هو ظاهر الآية ومقتضاها على الحقيقة لا على ما يظنه من لا عقل له من أن الله ـ عزوجل ـ جار تحت أحكام
عباده إن يضربوا زيدا أماته ، وإن لم يضربوه لم يمته ، ومن أنّ علمه غير محقق
فربما أعاش زيدا مائة عام ، وربما أعاشه أقل ، وهذا هو البداء بعينه ومعاذ الله تعالى من هذا القول ، بل الخلق كله مصرّف
تحت أمره عزوجل وعلمه فلا يقدر أحد على تعدي ما علم الله ـ تعالى ـ أنه
سيكون ولا يكون البتة إلّا ما سبق في علمه أنّه يكون والقتل نوع من أنواع الموت
فمن سأل عن المقتول لو لم يقتل أكان يموت أو يعيش؟ فسؤاله سخيف لأنه إنما يسأل لو
لم يمت هذا الميت أكان يموت أم كان لا يموت ، وهذه حماقة لأن القتل علة الموت لمن
قتل ، كما أن الحمى القاتلة أو البطن القاتل ، وسائر الأمراض القاتلة ، علل الموت
الحادث عنها ولا فرق ، وأما قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من سرّه أن ينسأ في أجله فليصل رحمه» فصحيح موافق للقرآن
ولما توجبه المشاهدة وإنما معناه أن الله تعالى لم يزل يعلم أن زيدا سيصل رحمه ،
وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا ، وهكذا كل أجل في الدنيا لأن من علم
الله تعالى أنه سيعمر كذا وكذا من
__________________
الدهر فإن الله
تعالى قد علم وقدّر أنه سيغذى بالطعام والشراب ، ويتنفس بالهواء ، ويسلم من الآفات
القاتلة تلك المدة ، ويكون سببا إلى بلوغه تلك المدة التي لا بد من استيفائها ،
والسبب والمسبب كل ذلك قد سبق في علم الله ـ تعالى ـ كما هو لا يدل قال الله ـ
تعالى ـ (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة ق : ٢٩].
ولو كان على غير
هذا لوجب البداء ضرورة ، ولكان غير عليم بما يكون متشكّكا فيه أيكون أم لا يكون؟
أو جاهلا به جملة ، وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق ـ تعالى ـ وهذا كفر ممن قال
به وهم لا يقولون بهذا.
قال أبو محمد :
ونص القرآن يشهد بصحة ما قلنا قال الله تعالى (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ
فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ) [سورة آل عمران :
١٥٤].
وقال تعالى (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ
فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) [سورة الأحزاب :
١٦].
وقال تعالى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [سورة النساء : ٧٨]
وقال تعالى منكرا على حزب المعتزلة على مذهبهم (الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة آل عمران :
١٦٨].
وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا
لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) [سورة آل عمران :
١٥٦].
وقال تعالى (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [سورة يونس : ١٠٠].
قال أبو محمد :
وهذه نصوص لا يبعد من ردها بعد أن سمعها من الكفر ـ نعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
وموّه بعضهم بأن ذكر قول الله عزوجل (ثُمَّ قَضى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [سورة الأنعام : ٢].
قال أبو محمد :
وهذه الآية حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه قضى أجلا ولم يقل بشيء دون شيء ، لكن
على الجملة ثم قال تعالى (وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ).
فهذا الأجل المسمى
عنده هو الذي قضى بلا شك إذ لو كان غيره لكان
أحدهما ليس أجلا
للآخر إذا أمكن التقصير عنه أو مجاوزته ولكان الباري ـ تعالى ـ مبطلا إذ سماه أجلا
وهذا كفر لا يقوله مسلم ، وأجل الشيء هو ميعاده الذي لا يتعداه أصلا وإلا فليس
يسمى أجلا البتة ، ولم يقل الله ـ عزوجل ـ إن الأجل المسمى
عنده هو غير الأجل الذي قضى فأجل كل شيء مقتضى أمره بالضرورة نعلم ذلك ، ويبين ذلك
قوله تعالى (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة الأعراف :
٣٤].
وقال تعالى (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا
جاءَ أَجَلُها) [سورة المنافقون :
١١].
قد أخبر تعالى
بذلك أيضا فقال : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [سورة آل عمران :
١٤٥].
فتظاهرت الآيات
كلها بالحق الذي هو قولنا وبتكذيب من قال غير ذلك ـ وبالله تعالى التوفيق.
وأما الأرزاق فإن
الله تعالى أخبرنا فقال عزوجل : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [سورة الروم : ٤٠].
وقال تعالى (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [سورة النبأ : ٨].
فكلّ مال حلال
فإنا نقول : إن الله تعالى رزقناه وكل امرأة حلال فإنّا نقول : إن الله تعالى
زوجنا بها أو ملكنا إياها وأما من أخذ مالا بغير حق أو امرأة بغير حق ، فلا يجوز
أن نقول إن الله ـ تعالى ـ رزقنا إياه ولا إن الله ـ تعالى ـ ملكنا إياه ، ولا إن
الله تعالى أعطانا إياه ، ولا إن الله تعالى زوجنا إياها ولا إن الله تعالى ملكنا
إياها ، ولا أنكحنا إياها لأن الله تعالى لم يطلق لنا أن نقول ذلك. وقد قلنا : إن
الله تعالى له التسمية لا لنا ، لكن نقول إن الله ـ تعالى ـ ابتلانا بهذا المال ،
وبهذه المرأة ، وامتحننا بهما ، وأضلنا بهما ، وخلق تملكنا إياهما ، ونكاحنا لهما
، واستعمالنا لهما ، ولا نقول : إنه أطعمنا الحرام ولا أباح لنا الحرام ولا أعطانا
الحرام ، كما ذكرنا من التسمية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وأمّا قولهم أليس إذا كانت أفعالكم لكم ولله تعالى فقد أوجب لكم أنكم شركاؤه فيها؟
فالجواب ـ وبالله
تعالى التوفيق ـ أن هذا من أبرد ما موّهوا به وهو عائد عليهم ، لأنهم يقولون إنهم
يخترعون أفعالهم ويخلقونها ، وهي بعض الأعراض وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض
ويخلقها ويخترعها ، فهذا هو عين الشرك والتشبيه في حقيقة المعنى وهو الاختراع ـ
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأما نحن فلا
يلزمنا إيجاب الشركة لله عزوجل فيما قلنا لأن الاشتراك لا يجب
بين المشتركين
إلّا باتفاقهما فيما اشتراكا فيه ، وبرهان ذلك أن أموالنا ملك لنا وملك لله تعالى
بإجماع منا ومنهم ، وليس ذلك بموجب أن نكون شركاء فيها ، لاختلاف جهات الملك عنا
ولأنا قلنا : إن الله عزوجل إنما هو مالك لها مخلوقة له ، وهو مصرفنا فيها وناقلها كيف
شاء ، وهي ملكنا لأنها كسب لنا ، وملزمون حكمها ومباح لنا التصرف فيها بالوجه الذي
أباحه الله عزوجل لنا ، وأيضا نحن عالمون بأن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عالم بذلك ، وليس ذلك موجبا لأن نكون شركاءه في ذلك العلم
، لاختلاف الأمر في ذلك ، لأن علمنا عرض محمول فينا وهو غيرنا ، وعلم الله تعالى
ليس هو غيره ، ومثل هذا كثير جدا لا يحصى إلا في دهر طويل ، بل لا يحصيه مفصلا إلا
الله تعالى وحده لا شريك له ، فكيف ولم يجب الاشتراك البتة بين الله تعالى وبيننا
عندهم في هذه الوجوه كلها؟ ولا وجب أن يكون شركاؤه في شيء ليس للاشتراك البتة فيه
مدخل ، وهو خلقه تعالى لأفعالنا فهو فاعل لها بمعنى مخترع لها ونحن فاعلون لها
بمعنى أنها ظاهرة منّا محمولة فينا ، وهذا خلاف فعل الله تعالى لها.
وقد قال بعض
أصحابنا بأن الأفعال لله تعالى من جهة الخلق ، وهي لنا من جهة الكسب.
قال أبو محمد :
وقد تذاكرت هذا مع شيخ طرابلسي يكنى أبا الحسن معتزلي فقال لي : وللأفعال جهات ،
وزاد بعضهم فقال أو ليست أعراضا ، والعرض لا يحمل العرض ، والصفة لا تحمل الصفة؟
قال أبو محمد :
وهذا جهل من قائله ، وقضية فاسدة من أهذار المتكلمين ومشاغبهم ، وقول يرده القرآن
والمعقول وإجماع من أهل اللغة والمشاهدة فأمّا القرآن فإن الله تعالى يقول (عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة النحل : ٩٤]
و (عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة الشورى : ٢١].
و (لَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) [سورة السجدة : ٢١].
وقال تعالى (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [سورة الأعراف :
١١٦].
وقال تعالى (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [سورة آل عمران :
٣٧].
وقال تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [سورة النساء : ٧٦].
وقال تعالى (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [سورة نوح : ٢٢].
وقال (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [سورة يوسف : ٢٨].
وقال تعالى (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) [سورة البقرة : ٦٩].
وقال تعالى (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ) [سورة آل عمران :
١١٨].
وقال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر : ١٠].
وقال تعالى (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ
بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) [سورة فصلت : ٢٣].
وقال تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما
أَسْخَطَ اللهَ) [سورة محمد : ٢٨].
وقال تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) [سورة البقرة : ١٧].
وقال تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [سورة المؤمنون :
١٠٤].
وقال تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) [سورة النساء :
١٥٣].
وقال تعالى (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) [سورة البقرة :
٦١. يس ٣٦].
وقال تعالى (لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) [سورة البقرة : ٧٤].
وقال تعالى (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) [سورة البقرة : ٧٤].
وقال تعالى (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) [سورة الرّعد : ١٧]
وقال تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [سورة الرعد : ١٧].
وقال تعالى (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [سورة الرعد : ١٧].
وقال تعالى (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) [سورة البقرة : ١٦٤].
قال أبو محمد : فوصف
الله تعالى العذاب بالعظيم ، وبالإيلام ، وبأن فيه أكبر وأدنى ، ووصف النبات
بالحسن ، وكيد الشيطان بالضعف ، وكيد النساء بالعظيم ، والمكر بالكبر ، والسحر
بالعظيم ، واللّون بالمفقوع ، وذكر أن البغضاء تبدو ، وأن الكلم الطيب يصعد إلى
الله تعالى ، وأن الأعمال الصالحة ترفع الكلم الطيب ، وأن الظن يردي ، وأن العمل
الرديء يسخط الله تعالى ، ومثل هذا في القرآن كثير وسنن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكثر من أن يجمع إلا في جزء ضخم فكيف يساعد أمرا مسلما
لسانه على إنكار شيء من هذا بعد شهادة الله عزوجل بما ذكرنا.
وأما اللغات فكل
لغة لا ينكر أحد القول فيها بصورة حسنة وصورة قبيحة ، وحمرة مسرفة وحمرة مصفرة ،
وحمرة كدرة ، ولا يختلف أحد من أهل الأرض في أن يقول صف لي عمل فلان ، وهذا عمل
موصوف ، وصفة عمل فلان كذا وكذا ، وهذا هو الذي أنكروا بعينه ، وهذا أكثر من أن
يحصى ، وأما الحسّ والعقل والمعقول فبيقين يدري كل ذي فهم أن الكيفيات تقبل الأشدّ
والأضعف ، هذه خاصية الكيفية التي لا توجد في غيرها ، وكل هذا عرض يحمل عرضا ،
وصفة تحمل صفة.
قال أبو محمد :
وقد عارضني بعضهم في هذا : لو كان العرض يحمل العرض
لحمل ذلك العرض
عرضا آخر ، وهكذا أبدا وهذا يوجب وجود أعراض لا نهاية لها وهذا باطل.
قال أبو محمد :
فقلت إن المشاهدات لا تدفع بهذه الدعوة الفاسدة ، وهذا الذي ذكرت لا يلزم لأننا لم
نقل إن كل كل عرض يجب أن يحمل عرضا أبدا لكننا قلنا : إن من الأعراض ما يحمل على
الأعراض كالذي ذكرنا ومنها ما لا يحمل الأعراض وذلك جار على ما رتبه الله تعالى
وعلى ما خلقه ، وكل ذلك له نهاية نقف عندها ولا نزيد ، ونحن إذا وجد فيما بيننا
جسم يزيد على جسم آخر زيادة ما في طوله أو عرضه ، فليس يجب من ذلك أن الزيادة لا
تزال موجودة إلى ما لا نهاية له لكن منتهى الزيادة إلى حيث رتبها الله ـ عزوجل ـ وتقف ، وإنما
العلم كله معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط.
ونقول لهم أيضا : أتخالف
حمرة التفاحة حمرة الخوخة أم لا؟ فلا بد لهم من أن يقروا بأنها قد تخالفها في صفة
ما إلا أن يخالفوا العيان!
فنقول لهم : أتخالف
الصفرة الحمرة أم لا؟ فلا بدّ لهم أيضا من نعم فنسألهم أخلاف الحمرة للحمرة هو
خلاف الصفرة للحمرة أم لا؟ فلا بد من لا. ولو قالوا نعم للزمهم أن الحمرة هي
الصفرة إذ كانت الصفرة لا تخالفها الحمرة إلا بما تخالف فيه تلك الحمرة حمرة أخرى
والخضرة ، فقد صح يقينا أن الصفرة والحمرة صفتان بهما تختلفان غير الصفة التي بها
تخالف الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة ، فقد صح يقينا أن الصفة قد تحمل الصفة ،
والعرض قد يحمل العرض ، بضرورة المشاهدة على حسب ما رتبه الله تعالى ـ وكل ذلك ذو
نهاية ولا بد.
وتحقيق الكلام في
هذه المعاني وتناهيها هو أن العالم كلّه جوهر حامل وعرض ومحمول ولا مزيد ،
والجواهر أجناس وأنواع ، والعرض أجناس وأنواع ، والأجناس محصورة والأنواع محصورة
ببراهين قد ذكرناها في كتاب «التقريب» عمدتها أن الأجناس أقل عددا من الأنواع
المنقسمة تحتها بلا شك ، والأنواع أكثر عددا من الأجناس إذ لا بد أن يكون تحت كل
جنس نوعان أو أكثر من نوعين ، والكثرة والقلة لا يقعان ضرورة إلا في ذي نهاية من
مبدئه ومنتهاه لأن ما لا نهاية له فلا يمكن أن يكون شيء أكثر منه ولا أقل منه ولا
مساويا له لأن كل هذا يوجب النهاية ولا بد ، فالعالم إذن ذو نهاية لأنه ليس شيئا
غير الأجناس والأنواع التي هي الجواهر والأعراض فقط ، والمعاني إنما هي الأشياء
المعبرة عنها فقط ، فإذ هذا كما ذكرنا فإنما تقسيم
الأشياء بصفاتها
التي تقوم منها حدودها ، مثل أن نقول ما الإنسان؟ فنقول : جسم ملوّن ، ذو نفس
متصرفة فيه ، يصدر عنها أنواع العلوم والصناعات تقبل الحياة والموت.
فيقال : فما الجسم؟
وما النفس؟ وما اللون؟ وما الصناعات؟ وما العلوم؟ وما الحياة؟ وما الموت؟ فإذا
فسرت جميع هذه الألفاظ ، ورسمت كل ما تقع عليه وفعلت كذلك في جميع الأجناس
والأنواع فقد انتهت المعاني ، وانقطعت ، ولا سبيل إلى التمادي بلا نهاية أصلا ،
لأن كل ما ينطق أو يعقل فإنه لا يعدو الأجناس والأنواع البتة. والأنواع والأجناس
كما ذكرنا محصورة متناهية وكل ما خرج من الأشخاص إلى حد الفعل فقد حصره العدد ،
لأنه ذو مبدأ ، وكل ما حصره العدد فمتناه ضرورة ، فجميع المعاني من الأعراض وغيرها
محصورة بما ذكرنا من البرهان وإن لم نحصره نحن لضيق اتساعنا في الإحاطة بمعرفة كل
ما في العالم ، ولكنا عارفون بالبرهان الصحيح الذي ذكرنا أن كل ما في العالم مما
خرج إلى الوجود في الدهر مذ كان العالم من جسم أو عرض فهو كله محصور عدده ، متناه
أمده ، ذو غاية في ذاته ، في مبدئه ومنتهاه وعدده. وبالله تعالى التوفيق.
وقد نعجز نحن عن
عدّ شعور أجسامنا ، ونوقن أنها ذات عدد متناه بلا شك ، فليس قصور قوانا عن إحصاء
عدد ما في العالم بمعترض على وجوب وجود النهاية في جميع أشخاص جواهره وأعراضه.
وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وأما قولهم إذا كان فعلنا خلقا لله ـ تعالى ـ ثم عذبنا عليه فإنما عذّبنا على
خلقه.
فالجواب ـ وبالله
تعالى التوفيق ـ أن هذا لا يلزم ، ولو لزمنا للزمهم إذا كان الله ـ تعالى ـ يعذبنا
على إرادتنا وحركتنا الواقعتين منا ، أن يعذبنا على كل حركة لنا ، وعلى كل إرادة
لنا ، بل على كل حركة في العالم وعلى كل إرادة.
فإن قالوا : لا
يعذبنا إلا على حركتنا وإرادتنا الواقعتين منا بخلاف أمره.
قلنا نحن إنه لا
يعذبنا إلا على خلقه فينا الذي هو ظاهر منا ، بخلاف أمره ، وهو منسوب إلينا ومكتسب
لنا ، لإيثارنا إياه المخلوق فينا فقط ، لا على كل ما خلق فينا أو في غيرنا ولا
فرق.
ولو أن الله تعالى
يعذبنا بما خلق في غيرنا لقلنا به وصدقناه كما نقرّ بأنه يعذب أقواما على غير ما
فعلوه قط ، ولا أمروا به ، لكن على ما فعله غيرهم ممن جاء بعدهم بألف عام لأن
أولئك كانوا أول من فعل مثل ذلك الفعل ، قال الله عزوجل (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ
وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [سورة العنكبوت :
١٣].
وقال تعالى حاكيا
عن ابني آدم ـ عليهالسلام ـ أنه قال (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [سورة المائدة :
٢٩].
وقال تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [سورة النحل : ٢٥].
وليس هذا معارضا
لقوله عزوجل (وَما هُمْ
بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) [سورة العنكبوت :
١٢].
بل كلا الآيتين
متفقة مع الأخرى لأن الخطايا التي نفى الله ـ تعالى ـ أن يحملها أحد عن أحد هي
بمعنى أن يحط حمل هذا لها من عذاب العامل لها شيئا ، فهذا لا يكون لأن الله ـ
تعالى ـ نفاه.
وأما الحمل لمثل
عذاب العامل للخطيئة مضاعفا زائدا إلى عقابه غير حاطّ من عقاب الآخر شيئا فهذا
واجب موجود ، وكذلك أخبرنا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنّ «من سنّ في الإسلام
سنّة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها أبدا لا يحط ذلك من أوزار العاملين لها
شيئا» ولو أن الله ـ تعالى ـ أخبرنا أنه يعذبنا على فعل غيرنا
دون أن نسنّه ، وأنه يعذبنا على غير فعل فعلناه ، أو على الطاعة له ، لكان ذلك منه
عين الحق والعدل ، ولوجب التسليم له ولكن الله ـ وله الحمد ـ قد أمّتنا من ذلك
بقوله ـ عزوجل ـ (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ) [سورة المائدة :
١٠٥].
فدل على أننا لا
نجزى إلا بما عملنا إذا كنا بمبتدأين له فأمنّا ذلك ـ ولله الحمد ـ.
وقد أيقنا أيضا
أنه ـ تعالى ـ يأجرنا على خلقه فينا من المرض والمصائب ، وعلى فعل غيرنا الذي لا
أثر لنا فيه كضرب غيرنا لنا ظلما ، وتعذيبهم لنا ، وعلى قتل القاتل لمن قتل ظلما ،
وليس هنا من المقتول صبر ولا عمل أصلا ، فإنما أجر على مجرد فعل غيره إذ أحدثه فيه
، وكذلك من أخذ ماله غيره والمأخوذ ماله لا يعلم بذلك إلى أن مات.
وأي فرق بين أن
يأجرنا على فعل غيرنا وعلى فعله تعالى في إحراق مال من لم يعلم باحتراق ماله ،
وبين أن يعذبنا على ذلك لو شاء عزوجل؟
__________________
وأما قولهم : فرض
الله عزوجل الرضا بما قضى ، وبما خلق ، فإن كان الكفر والزنى والظلم
مما خلق ففرض علينا الرضا بذلك. فجوابنا : أن الله عزوجل لم يلزمنا قط الرضا بما خلق وقضى بكل ما ذكر بل فرض الرضا
بما قضى علينا من مصيبة في نفس أو في مال مظن تمويههم بهذه الشبه.
قال أبو محمد :
فإن احتجوا بقول الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء : ٧٩].
فالجواب أن يقال
لهم وبالله تعالى التوفيق : إن هذه الآية أعظم حجة على أصحاب الأصلح ، وهو جمهور
المعتزلة في ثلاثة أوجه ، وهي حجة على جميع المعتزلة في وجهين ، لأن في هذه الآية
أن ما أصاب الإنسان من حسنة فمن الله ، وما أصابه من سيئة فمن نفسه ، وكلهم لا
يفرقون بين الأمرين ، الحسن والقبيح من أفعال المرء ، كل ذلك عندهم من نفس المرء
لا خلق لله تعالى في شيء من فعله لا حسنه ولا قبيحه ، فهذه الآية مبطلة لقولهم
جميعهم في هذا الباب.
والوجه الثاني :
أنهم كلهم قائلون إنه لا يفعل المرء حسنا ولا قبيحا البتة إلا بقوة موهوبة من الله
ـ عزوجل ـ مكنه بها من فعل
الخير والشر ، والطاعة والمعصية ، تمكينا مستويا ، وهي الاستطاعة على خلافهم فيها
، فهم متفقون على أن الباري تعالى خالقها وواهبها كانت نفس المستطيع أو بعضها أو
عرضا فيه ، وفي الآية فرق كما ترى بين الحسن والسيّئ.
وأما الثالث الذي
خالف فيه القائلون بالأصلح خاصة هذه الآية فإنهم يقولون : إن الله تعالى لم يؤيد
فاعل الحسنة بشيء من عنده ـ تعالى ـ لم يؤيد به فاعل السيئة.
والآية مخبرة
بخلاف ذلك ، فصارت الآية حجة عليهم ظاهرة مبطلة لقولهم.
وأما قولنا نحن
فيها فهو ما قاله عزوجل إذ يقول متصلا بهذه الآية دون فصل (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما
لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ
فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء : ٧٨
، ٧٩].
ثم قال تعالى إثر
ذلك بعد كلام يسير (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].
فصح بما ذكرنا أن
كل هذا الكلام متفق لا يختلف فقدم الله ـ تعالى ـ أن كل شيء من عنده ، فصح بالنص
أنه تعالى خالق الخير والشر ، وخالق كل ما أصاب الإنسان ، ثم أخبر ـ تعالى ـ أن ما
أصابنا من حسنة فمن عنده وهذا هو الحق ، لأنه لا يجب لنا عليه ـ تعالى ـ شيء.
فالحسنات الواقعة
منا فضل مجرد منه لا شيء لنا فيه ، وإحسان منه إلينا لم نستحقه قط عليه.
وأخبرنا عزوجل أن ما أصابنا من سيئة فمن أنفسنا بعد أن قال إن الكل من
عند الله ، فصح أننا مستحقون النكال لظهور السيئة منا ، وأننا عاصون بذلك كما حكم
علينا ـ تعالى ـ وحكمه عزوجل الحقّ والعدل ولا مزيد ـ وبالله التوفيق.
فإن قالوا : فإذا
كان الله عزوجل خالقكم وخالق أفعالكم فأنتم والجمادات سواء.
قلنا : كلا ، لأن
الله تعالى خلق فينا علما نعرف به أنفسنا والأشياء على ما هي عليه ، وخلق فينا
مشيئة لكل ما خلق فينا مما يسمى فعلا لنا ، فخلق فيه استحسان ما نستحسنه ،
واستقباح ما نستقبحه ، وخلق فينا تصرفا في الصناعات والعلوم ، ولم يخلق في
الجمادات شيئا من ذلك فنحن مختارون ، قاصدون ، مريدون ، مستحسنون ، أو كارهون ،
متصرفون علما ، بخلاف الجمادات.
فإن قيل : فأنتم
مالكون لأموركم مفوض إليكم أعمالكم مخترعون لأفعالكم.
قلنا : لا ، لأن
الملك والاختراع ليس هو لأحد غير الله ـ عزوجل ـ إذ كل ما في
العالم مخترع له وملكه ـ عزوجل ـ والتفويض فيه
معنى من الاستغناء بأحد من الله ـ عزوجل ـ وبه نتأيد.
قال أبو محمد :
فإذ قد أبطلنا بحول الله وقوته كل شغب المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله
ـ عزوجل ـ فلنأت ببرهان
ضروري إن شاء الله ـ تعالى ـ على صحة القول على أنها مخلوقة لله ـ تعالى ـ وبه
التوفيق.
فنقول ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم : إن العالم كله ما دون الله ـ تعالى ـ ينقسم قسمين ـ
جوهر ، وعرض لا ثالث لهما ، ثم ينقسم الجوهر إلى أجناس وأنواع ، وينقسم العرض إلى
أجناس وأنواع ، ولكل نوع منها فصل يتميز به مما سواه من الأنواع التي يجمعها وإياه
جنس واحد ، وبالضرورة نعلم أنّ ما لزم الجنس الأعلى لزم كل ما تحته إذ من المحال
أن تكون نار غير حارة ، أو هواء راسب بطبعه ، أو إنسان صهّال بطبعه ، وما أشبه
هذا.
ثم بالضرورة نعلم
أن الإنسان لا يفعل شيئا إلا الحركة والسكون والفكر والإرادة ، وهذه كلها كيفيات
يجمعها مع اللون والطبع والمجسّة والأشكال جنس الكيفية ، فمن المحال الممتنع أن
يكون بعض ما تحت النوع الواحد والجنس الواحد مخلوقا ، وبعضه غير مخلوق ، وهذا أمر
يعلمه باطلا من له أدنى علم بحدود العالم
وأقسامه ، وحركتنا
وسكوننا ، بجميع كل ذلك مع كل حركة في العالم وسكون في العالم نوع الحركة ونوع
السكون ، ثم ينقسم كل ذلك قسمين ولا مزيد حركة اضطرارية وحركة اختيارية ، وسكونا
اختياريا وسكونا اضطراريا ، وكل ذلك حركة تحدّ بحدّ الحركة ، وسكون يحدّ بحدّ
السكون ، ومحال أن بعض الحركات مخلوق لله ـ عزوجل ـ وبعضها غير
مخلوق ، وكذلك السكون أيضا.
فإن لجئوا إلى قول
معمر في أن هذه الأعراض كلها فعل من ظهرت منه بطباع ذلك الشيء ، سهل أمرهم بعون
الله ـ عزوجل ـ وذلك أنهم إذا
أقروا أن الله ـ تعالى ـ خالق المطبوعات ، ومرتب الطبيعة على ما هي عليه ، فهو
تعالى خالق ما ظهر منها ، لأنه تعالى هو رتب كونه فظهوره على ما هو عليه رتبة لا
توجد بخلافها ، وهذا هو الحق بعينه ولكنهم قوم لا يعلمون ، كالمتسكّع في الظلمات
كما قال ـ تعالى ـ (كُلَّما أَضاءَ
لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) [سورة البقرة : ٢٠].
نعوذ بالله ـ تعالى من الخذلان.
وأيضا فإن نوع
الحركات موجود قبل خلق الإنسان فمن المحال البيّن أن يخلق المرء ما كان نوعه
موجودا قبله ، وأيضا فإن عمدتهم في الاحتجاج على القائلين بأن العالم لم يزل ،
إنما هي مقارنة الأعراض للجواهر ، وظهور الحركات ملازمة المتحرك بها ، فإذا كان
ذلك دليلا باهرا على حدوث الجواهر وأن الله تعالى خلقها ، فما المانع أن يكون
دليلا باهرا على حدوث الأعراض وأن الله تعالى خلقها ...؟؟ لو لا ضعف عقول القدرية
وقلة علمهم ـ نعوذ بالله تعالى ـ مما امتحنهم به ونسأله التوفيق لا إله إلا هو.
وأيضا فإن الله
تعالى قال (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ) [سورة المؤمنون : ٩١].
فأثبت ـ تعالى ـ
أن من خلق شيئا هو له إله ، فلزمهم بالضرورة أنهم آلهة لأفعالهم التي خلقوها ،
وهذا كفر مجرد إن طردوه ، وإلا لزمهم الانقطاع وترك قولهم الفاسد ، وأيضا فإن من
خلق شيئا لم يعنه عليه غيره لكن انفرد بخلقه فبالضرورة نعلم أنه يصرف ما خلق كما
شاء ، كما يفعله إذا شاء ، ويتركه إذا شاء ، ويفعله حسنا إذا شاء ، وقبيحا إذا شاء
، فإذ هم خلقوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إلى أبصارنا حتى نراها
أو نلمسها أو ليزيدوا في قدرها أو ليخالفوها عن رتبتها.
فإن قالوا : لا
نقدر على ذلك ، فليعلموا أنهم كاذبون في دعواهم خلقها لأنفسهم.
فإن قالوا : إنما
نفعلها كما قوّانا ـ تعالى ـ على فعلها ، فليعلموا أن الله ـ عزوجل ـ هو المقوي على
فعل الخير والشر ، فإنّ به عزوجل كان الخير والشر ، ولولاه لم يكن خير ولا شر ، فهو كوّنهما
وبه كانا وأعان عليهما ، فأظهرهما واخترع كل ذلك وهذا هو معنى خلقه ـ تعالى ـ لها
وبالله تعالى التوفيق.
ومن البرهان على
أن الباري تعالى خالق أفعال خلقه قوله عزوجل حاكيا عن سحرة فرعون ـ رضي الله عنهم ـ مصدقا لهم ومثبتا
عليهم قولهم (رَبَّنا أَفْرِغْ
عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) [سورة الأعراف :
١٢٦].
فصحّ أنه ـ تعالى ـ
خالق ما يفرغه عليهم من الصبر الذي لو لم يفرغه على الصابر لم يكن له صبر.
وأيضا فإن جنس
الحركات كلها والسكون كله والمعارف كلها جنس واحد ، وكل ما قيل على الكل قيل على
جميع أجزائه ، وعلى كل بعض من أبعاضه ، فنسألهم عن حركات الحيوان غير الناطق
وسكونه ومعرفة ما يعرف من مضاره ومنافعه ، في أكله وشربه وغير ذلك ، أكل ذلك مخلوق
لله عزوجل أم هو غير مخلوق ..؟
فإن قالوا : كلّ
ذلك مخلوق كانوا قد نقضوا هذه المقدمات التي شهد العقل والحسّ بصدقها ، وظهر فساد قولهم
في التفريق بين معرفتنا ومعرفة سائر الحيوان وبين حركاتنا وبين حركات سائر الحيوان
وبين سكوننا وسكونه ، وهذه مكابرة ظاهرة ودعوى بلا برهان.
وإن قالوا : بل كل
ذلك غير مخلوق ألزمناهم مثل ذلك في سائر الأعضاء كلها.
فإن تناقضوا ،
كفونا أنفسهم ، وإن تمادوا لزمهم أن الله ـ تعالى ـ لم يخلق شيئا من الأعراض وهذا
إلحاد ظاهر وإبطال للحق وكفر ، وكفى بهذا إضلالا ونعوذ بالله ـ تعالى ـ من
الخذلان. ويكفي من هذا أن الأفعال تجري على صفات الفاعل ونحن نجد الحكيم لا يقدر
على الطيش والبذاء ، والطياش لا يقدر على الحياء والصبر ، والسيئ الأخلاق لا يقدر
على الحلم ، والحليم لا يقدر على النزق ، والسخيّ لا يقدر على المنع ، والشحيح لا
يقدر على الجود ، قال الله عزوجل (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة الحشر : ٩].
فصح أن من الناس
من وقي شح نفسه كان مفلحا ، وأن من لم يوق شح نفسه لم يفلح ، وكذلك الذكي لا يقدر
على البلادة ، وذو البلادة لا يقدر على الذكاء ، والحافظ لا يقدر على النسيان ،
والناسي لا يقدر على ثبات الحفظ ، والشجاع لا يقدر
على الجبن ،
والجبان لا يقدر على الشجاعة ، هكذا في جميع الأخلاق التي تكون عنها الأفعال ، فصح
أن كل ذلك خلق الله ـ تعالى ـ لا يقدر المرء على إحالة شيء من ذلك أصلا ، حتى أن
مخرج صوت أحدنا وصفة كلامه ، لا يقدر البتة على صرفه عن ما خلق عليه من الجهارة
والخفاء ، أو الطيب أو السماحة ، وكذلك خطه لا يمكنه صرفه عما رتبه الله ـ عزوجل ـ عليه ولو جهد.
وكذا جميع حركات المرء حتى وقع قدميه ومشيه ، فلو كان هو خالق كل ذلك لصرفه كما
شاء. فإذ ليس فيه قوة على صرف شيء من ذلك عن هيئته فقد ثبت ضرورة أنه خلق الله ـ
تعالى ـ فيمن نسب في اللغة إليه أنه فاعله ـ وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وأكثرت المعتزلة في التوليد وتحيّرت فيه حيرة شديدة.
فقالت طائفة : ما
تولّد عن فعل المرء مثل القتل والألم المتولد عن رمي السهم ، وما أشبه ذلك فإنه
فعل الله ـ عزوجل ـ.
وقال بعضهم : هو
فعل الطبيعة.
وقال بعضهم : بل
هو فعل الذي فعل ما عنه تولد.
وقال بعضهم : هو
فعل لا فاعل له ..
وقال جميع أهل
الحق : هو فعل الله عزوجل وهو خلقه.
والبرهان في ذلك
هو البرهان الذي ذكرنا في خلق الأفعال من أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء ـ وبالله
تعالى التوفيق ـ.
الكلام في التعديل والتجوير
قال أبو محمد :
هذا الباب هو أصل ضلالة المعتزلة نعوذ بالله من ذلك ، على أننا رأينا منهم من لا
يرضى عن قولهم فيه.
قال أبو محمد :
وذلك أن جمهورهم قالوا : وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان يسمى جائرا ، ومن فعل
الظلم كان ظالما ، ومن أعان فاعلا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرا عابثا.
قالوا : والعدل من
صفات الله تعالى ، والظلم والجور منفيان عنه ، قال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت : ٤٦].
وقال تعالى : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة البقرة : ٢٧].
وقال تعالى : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) [سورة التوبة : ٧٠].
وقال تعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [سورة غافر : ١٧].
قال أبو محمد :
وقد علم المسلمون أن الله تعالى عدل لا يجور ولا يظلم ، ومن وصفه عزوجل بالظلم والجور فهو كافر ، ولكن ليس هذا على ما ظنه الجهال
من أن عقولهم حاكمة على الله تعالى في أن لا يحسن منه إلا ما حسّنت عقولهم ، وأنه
يقبح منه تعالى ما قبّحت عقولهم ، وهذا هو تشبيه مجرد لله تعالى بخلقه ، إذ حكموا
عليه بأنه تعالى يحسن منه ما حسن منّا ، ويقبح منه ما قبح منا ، ويحكم عليه في
العقل بما يحكم علينا.
وقال أبو محمد :
وهذا مذهب يلزم كل من قال : لما كان الحيّ في الشاهد لا يكون إلا بحياة ، وجب أن
يكون الباري تعالى حيا بحياة ، وليس بين القولين فرق ، وكلاهما لازم لمن التزم
أحدهما ، وكلاهما ضلال وخطأ ، وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله عزوجل أي شيء كان فهو منه عزوجل حق وعدل وحكمة ، وإن كان بعض ذلك منا جورا وسفها ، وكل ما
لم يفعله الله عزوجل فهو الظلم والباطل والعبث والتفاوت.
وأما إجراؤهم
الحكم على البارئ تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض فضلال بيّن وقول سوء له أصل
عند الدّهرية وعند المنّانية وعند البراهمة ، وهو أن الدّهرية قالت : لما وجدنا
الحكيم فيما بيننا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة ، ووجدنا من فعل ما لا
فائدة فيه فهو عابث ، هذا الذي لا يعقل غيره. قالوا : ولما وجدنا في العالم خيرا
وشرا وعبثا وأوزارا ودودا وذبابا ومفسدين انتفى بذلك أن يكون له فاعل حكيم.
وقالت طائفة منهم
مثل هذا سواء بسواء إلّا أنهم زادوا فقالوا : علمنا بذلك أن للعالم فاعلا سفيها
غير البارئ تعالى وهو النفس ، وأن الباري الحكيم خلاها تفعل ذلك ليريها فساد ما
تخيلته ، فإذا استبان ذلك لها أفسده الباري الحكيم تعالى حينئذ وأبطله ، ولم تعد
النفس إلى فعل شيء بعدها.
قال أبو محمد :
وإبطال هذا القول يثبت بما يبطل به قول المعتزلة سواء بسواء ولا فرق.
وقالت المنّانية
بمثل ما قالت به الدهرية سواء بسواء ، إلا أنها قالت : ومن خلق خلقا ثم خلق من
يضلّ ذلك الخلق فهو ظالم عابث ، ومن خلق خلقا ثم سلط بعضهم على بعض ، أو أغرى بين
طبائع خلقه فهو ظالم عابث.
قالوا : فعلمنا أن
خالق الشر وفاعله هو غير خالق الخير وفاعله.
قال أبو محمد :
وهذا نفس قول المعتزلة ، إلا أنها زادت قبحا بأن قالت : إن الله تعالى لم يخلق من
أفعال العباد لا خيرا ولا شرا ، وأن خالق الأفعال الحسنة والقبيحة هو غير الله
تعالى ، لكن كل أحد يخلق فعل نفسه ، ثم زادت تناقضا فقالت : إن خالق عنصر الشر هو
إبليس ومردة الشياطين ، وفعلة كل شر ، وخالق طباعهم على تضادّها هو الله تعالى.
وقالت البراهمة :
إن من العبث وخلاف الحكمة ومن الجور البيّن أن يعرّض الله تعالى عباده لما يعلم
أنهم يعطبون عنده ويستحقون العذاب إن وقعوا فيه ، يريدون بذلك إبطال الرسالة
والنبوات كلها.
قال أبو محمد :
وبالضرورة نعلم أنه لا فرق بين خلق الشر وبين خلق القوة ، التي لا يكون الشر إلا
بها ، ولا بين ذلك وبين خلق من علم الله عزوجل أنه لا يفعل إلا الشر ، وبين خلق إبليس وإنظاره إلى يوم
القيامة ، وتسليطه على إغواء العباد وإضلالهم وتقويته على ذلك وتركه يضلّهم إلا من
عصم الله منهم.
فإن قالوا : إن
خلق الله تعالى إبليس ، وقوى الشر ، وفاعل الشر ، خير وعدل وحسن صدقوا ، وتركوا
أصلهم الفاسد ، ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه تعالى للشر والخير ولجميع أفعال
عباده وتعذيبه من شاء منهم ممن لم يهده وإضلاله من أضل ، وهداه من هدى ، كل ذلك حق
وعدل وحسن ، وأن أحكامنا غير جارية عليه ، لكن أحكامه جارية علينا ، وهذا هو الحقّ
الذي لا يخفى إلّا على من أضلّه الله تعالى ، نعوذ بالله من إضلاله لنا ، ولا فرق
بين شيء مما ذكرنا في العقل البتة. وبرهان ضروري :
قال أبو محمد :
يقال لمن قال لا يجوز أن يفعل الله تعالى إلا ما هو حسن في العقل منّا ، لا أن
يخلق ويفعل ما هو قبيح في العقل فيما بيننا منا : يا هؤلاء إنكم أخذتم الأمر من
عند أنفسكم ثم عكستموه ، فعظم غلطكم ، وإنما الواجب إذ أنتم مقرون بأن الله تعالى
لم يزل واحدا وحده ليس معه خلق أصلا ، ولا شيء موجود ، لا جسم ولا عرض ، ولا عقل
ولا معقول ، ولا سفه ولا غير ذلك ، ثم أقررتم بلا خلاف منكم أنه خلق النفوس
وأحدثها بعد أن لم تكن ، وخلق لها العقول وركبها في النفوس بعد أن لم تكن العقول
البتة ، ألا تحدثوا على الباري تعالى حكما لازما له من قبل بعض خلقه ، فليس في
الجنون أفحش من هذا البتة.
ثم أخبرونا إذ كان
الله وحده لا شيء موجود معه ، ففي أي شيء كانت صورة الحسن حسنة ، وصورة القبح
قبيحة ، وليس هنالك عقل أصلا يكون فيه الحسن حسنا والقبيح قبيحا ، ولا كانت هنالك
نفس عاقلة أو غير عاقلة ، فيقبح عندها القبيح ويحسن الحسن ، فبأي شيء قام تحسين
الحسن وتقبيح القبيح وهما عرضان ...؟؟؟ لا بدّ لهما من حامل ، ولا حامل أصلا ولا
محمول ولا شيء حسن ولا شيء قبيح ، حتى أحدث الله تعالى النفوس وركّب فيها العقول
المخلوقة ، وقبّح فيها على قولكم ما قبّح وحسّن فيها على قولكم ما حسن.
فإذ لا سبيل إلى
أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيء موجود أصلا قبيح ولا حسن ، ولا عقل يقبح فيه
شيء أو يحسن ، فقد وجب يقينا أن لا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيء يحدثه لقبح
فيه ، ووجب أن لا يلزمه تعالى شيء لحسنه إذ لا قبح ولا حسن البتة فيما لم يزل ،
فبالضرورة وجب أن ما هو الآن عندنا قبيح فإنه لم يقبح بلا أوّل ، بل كان لقبحه
أوّل لم يكن موجودا قبله ، فكيف أن يكون قبيحا قبله ...؟؟؟ وكذلك القول في الحسن
ولا فرق.
ومن المحال
الممتنع جملة أن يكون ممكنا أن يفعل الباري تعالى حينئذ شيئا ثم يمتنع منه فعله
بعد ذلك ، لأن هذا يوجب إما تبدل طبيعة ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وإما حدوث حكم
عليه فيكون تعالى متعبدا وهذا هو الكفر السخيف نعوذ بالله منه.
فإن قالوا : لم
يزل القبيح قبيحا في علم الله عزوجل ، ولم يزل الحسن حسنا في علمه تعالى ، قلنا : هبكم أن هذا
كما قلتم ، فعليكم في هذا حكمان مبطلان لقولكم الفاسد ، أحدهما : أنكم جعلتم الحكم
في ذلك لما في المعقول لا لما سبق في علم الله عزوجل ، فلم تجعلون المنع من فعل ما هو قبيح عندكم إلا لأن
العقول قبّحته فأخطأتم في هذا الوجه.
والثاني : أنه
تعالى أيضا لم يزل يعلم أن الذي يموت مؤمنا فإنه لا يكفر ، ولم يزل تعالى يعلم أن
الذي يموت كافرا لا يؤمن ، فلو جوزتم قدرته على إحالة ما علم من ذلك وتبديله ، ولم
تجوزوا قدرته تعالى على إحالة ما علم حسنا إلى القبح وإحالة ما علم قبيحا إلى
الحسن ، ولا فرق بين الأمرين أصلا ...؟؟؟
فإذا ثبت ضرورة
أنه لا قبيح لعينه ، ولا حسن لعينه البتة ، وأنه لا قبيح إلا ما حكم الله تعالى
بأنه قبيح ، ولا حسن إلا ما حكم بأنه حسن ، ولا مزيد.
وأيضا فإن دعواكم
أن القبيح لم يزل قبيحا في علم الله تعالى ما دليلكم على هذا؟ لعله تعالى لم يزل
عليما بأن أمر كذا يكون حسنا برهة من الدهر ثم يقبحه فيصير قبيحا إذا قبّحه لا قبل
ذلك كما فعل تعالى بجميع الملل المنسوخة ، وهذا أصحّ من قولكم لظهور براهين هذا
القول وبالله التوفيق.
ولم يزل سبحانه
وتعالى عليما أن عقد الكفر والقول به قبيح من العبد إذا فعلهما معتقدا لهما لأن
الله قبحهما ، لا لأنهما حركة أو عرض في النفس ، وهذا هو الحق لظهور براهين هذا
أيضا ، لا لأن ذلك قبيح لعينه.
ويقال لهم أيضا :
أخبرونا من حسّن الحسن في العقول ، ومن قبح القبيح في العقول؟ فإن قالوا : الله عزوجل. قلنا لهم : أفكان تعالى قادرا على عكس تلك الرتبة إذ
رتبها على أن يرتبها بخلاف ما رتبها عليه فيحسّن فيها القبيح ، ويقبّح فيها الحسن؟
فإن قالوا نعم أوجبوا أنه لم يقبح شيء إلا بعد أن حكم الله تعالى بقبحه ، ولم يحسن
شيء إلا بعد أن حكم الله تعالى بحسنه ، وأنه كان له تعالى أن يفعل بخلاف ما فعل ،
وله ذلك الآن وأبدا ، وبطل أن يكون تعالى متعبدا لنفسه وموجبا عليه ما يكون ظالما
مذموما إن خالفه.
وإن قالوا : لا
يوصف تعالى بالقدرة على ذلك عجّزوا ربّهم تعالى ، ولزمهم القول بمثل قول عليّ
الأسواري ، من أنه تعالى لا يقدر على غير ما فعل ، فحكم هذا الرديء الدين والعقل
بأنه أقدر من ربه تعالى وأقوى لأنه عند نفسه الخسيسة يقدر على ما فعل وعلى ما لم
يفعل ، وربه تعالى لا يقدر إلا على ما يفعل ، ولو علم المجنون أنه جعل ربّه من
الجمادات المضطرة إلى ما يبدو منها ولا يمكن أن يظهر منها غير ما يظهر لسخنت عينه
ولطال عويله على عظيم مصيبته. نعوذ بالله من الخذلان ، ومن عظيم ما حل بالقدرية
المتنطعين بالجهل والعمى والحمد لله على توفيقه إيانا حمدا كثيرا كما هو أهله.
قال أبو محمد :
ويقال لهم : هبكم شنعتم في القبيح بأنه قبيح فلم نفيتم عن الله عزوجل خلق الخير كله ، وخلق الحسن كله ، فقلتم : لم يخلق الله
تعالى الإيمان ولا الإسلام ، ولا الصلاة والزكاة ولا النيّة الحسنة ، ولا اعتقاد
الخير ، ولا إيتاء الزكاة ولا الصدقة ولا البر؟ ألأن خلق هذا قبح أم كيف الأمر؟
فبان تمويهكم بذكر خلق الشر ، وأنتم قد استوى عندكم الخير والشر ، في أن الله تعالى
لم يخلق شيئا من ذلك كله ، فدعوا التمويه الضعيف.
قال أبو محمد :
وقرأت في مسائل لأبي هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد ابن عبد الوهاب الجبائي رئيس المعتزلة وابن رئيسهم كلاما له يردد فيه كثيرا
__________________
دون حياء ولا رقبة
: يجب على الله أن يفعل كذا ، كأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس.
فليت شعري أما كان
له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول : ليت شعري من أوجب على الله تعالى هذا الذي قضى
بوجوبه عليه؟ ولا بدّ لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة ، وإلا كان يكون فعلا لا فاعل
له ، وهذا كفر ممن أجازه ، فمن هذا الموجب على الله تعالى حكما ما؟ وهذا لا يخلو
ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون أوجبه عليه بعض خلقه إما العقل
وإما العاقل ، فإن كان هذا فقد رفع القلم عنه ، وأنّ لكل عقل يقوم فيه أنه حاكم
على خالقه ومحدثه بعد أن لم يكن ، ومرتبه على ما هو عليه ومصرّفه على ما يشاء.
وإما أن يكون
تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب له على نفسه ، فإن كان قال بهذا
قيل له : فقد كان غير واجب عليه حتى أوجبه ، فإذ هو كذلك فقد كان مباحا له أن يعذب
من لم يقدره على ترك ما عذبه عليه ، وعلى خلاف سائر ما ذكرت أنه أوجبه على نفسه ،
وإذ أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن واجبا عليه فممكن له أن يسقط ذلك الوجوب عن نفسه
، وإما أن يكون تعالى لم يزل موجبا ذلك على نفسه ، فإن قال بهذا لزمته عظيمتان
مخرجتان له عن الإسلام وعن جميع الشرائع وهما : أن الباري لم يزل فاعلا ، ولم يزل
فعله معه لأن الإيجاب فعل ، ومن لم يزل موجبا فلم يزل فاعلا ، وهذا قول أهل الدهر
نفسه.
قال أبو محمد :
ولا يمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون ، من أنه يجب على الله أن يفعل
كذا ويلزمه أن يفعل كذا ، فاعجبوا لهذا الكفر المحض ، وبهذا يلوح بطلان ما
يتأولونه في قول الله تعالى : (وَكانَ حَقًّا
عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الروم : ٤٧].
وقوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ) [سورة الأنعام :
١٢]. وقوله عليهالسلام : «حق
العباد على الله ألّا يعذبهم» يعني إذا قالوا لا إله إلا الله ، و «حق على
__________________
الله
أن يسقيه من طينة الخبال» يعني عن شارب الخمر وأن كلّ كل هذا إنما هو أن الله تعالى قضى بذلك وجعله
حتما واجبا ، وكونه حقا يوجب ذلك منه تعالى لا عليه ، فأبدلت «من» من «على» وحروف
الجر يبدل بعضها من بعض.
ثم نقول لهم : من
خلق إبليس ومردة الشياطين والخمر والخنازير والحجارة المعبودة والميسر والأنصاب
والأزلام وما أهلّ لغير الله به وما ذبح على النّصب؟ فمن قولهم وقول كل مسلم أن
الله تعالى خالق هذا كله ، فنسألهم : أشيء حسن هو كل ذلك أم رجس وقبيح وشر؟ فإن
قالوا : بل رجس وقبيح ونجس وشر وفسق صدقوا ، وأقروا أنه تعالى خلق الأنجاس والرجس
والشر والفسق وما ليس حسنا ، فإن قالوا : بل هي حسان في إضافة خلقها إلى الله
تعالى ، وهي رجس ونجس وشر وفسق بتسمية الله تعالى لها بذلك ، قلنا : صدقتم ، وهكذا
نقول إن الكفر والمعاصي هي في أنها أعراض وحركات خلق لله تعالى حسن من خلق الله
تعالى كل ذلك ، وهي من العصاة بإضافتها إليهم قبائح ورجس وقال عزوجل : (إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [سورة المائدة :
٩٠].
وقال تعالى : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [سورة الأنعام :
١٤٥].
فليخبرونا بأي ذنب
كان من هذه الأشياء وجب أن يسخطها الله تعالى ، وأن يرجسها ويجعل غيرها طيبات
ويرضاها؟ هل هاهنا إلا أنه تعالى فعل ما شاء ، وأيّ فرق بين أن يسخط ما شاء فيلعنه
مما لا يعقل ويرضى عما شاء من ذلك فيعلي قدره ويأمر بتعظيمه كناقة صالح والبيت
الحرام ، وبين أن يفعل ذلك أيضا فيمن يعقل فيقرب بعضا كما شاء ويبعد بعضا كما شاء
وهذا ما لا سبيل إلى وجود الفرق فيه أبدا.
ثم نسألهم : هل
حابى الله تعالى من خلقه في أرض الإسلام بحيث لا يلقى إلا داعيا إلى الدين ومحسّنا
له على من خلقه في أرض الزنج والصين والروم بحيث لا
__________________
يسمع إلا ذاما
لدين المسلمين مبطلا له وصادّا عنه ..؟ وهل رأوا قط أو سمعوا بمن خرج من هذه
البلاد طالبا لصحة البرهان على الدين؟ فمن أنكر هذا كابر العيان والحس ، ومن أذعن
لها ترك قول المعتزلة الفاسد.
قال أبو محمد :
والقول الصحيح هو أن العقل يعرف بصحته ضرورة أن الله تعالى حاكم على كل ما دونه ،
وأنه تعالى غير محكوم عليه ، وأن كلّ ما سواه تعالى مخلوق له عزوجل ، سواء كان جوهرا حاملا ، أو عرضا محمولا ، لا خالق سواه ،
وأنه يعذّب من يشاء أن يعذبه ويرحم من يشاء أن يرحمه ، وأنه لا يلزم أحدا إلا ما
ألزمه الله عزوجل ، ولا قبيح إلا ما قبح الله ، ولا حسن إلا ما حسن الله ،
وأنه لا يلزم لأحد على الله تعالى حق ولا حجة ، ولله تعالى على كل من دونه وما
دونه الحق الواجب والحجة البالغة ، لو عذب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار
مخلدين لكان ذلك له ، ولكان عدلا وحقا منه ، ولو نعّم إبليس والكفار في الجنة
مخلدين كان ذلك له وكان حقا وعدلا منه ، وإن كل ذلك إذ أباه الله تعالى وأخبر أنه
لا يفعله صار باطلا وجورا وظلما ، وأنه لا يهتدي أحد إلا من هداه الله عزوجل ، ولا يضل أحد إلا من أضله الله عزوجل ، ولا يكون في العالم إلا ما أراد الله عزوجل كونه من خير أو شر أو غير ذلك ، وما لم يرد عزوجل كونه فلا يكون البتة ، وبالله تعالى التوفيق.
ونحن نجد الحيوان
لا يسمى عدو بعضها على بعض قبيحا ولا ظلما ولا يلام على ذلك ، ولا يلام على عدوها
من ربّى شيئا منها ، فلو كان هذا النوع قبيحا لعينه وظلما لعينه لقبح متى وجد ،
فلمّا لم يكن كذلك صحّ أنه لا يقبح شيء لعينه البتة ، لكن إذا قبّحه الله عزوجل فقط.
فإذ قد بطل قولهم
بالبرهان الكلي الجامع لأصلهم الفاسد فلنقل بحول الله تعالى وقوته في إبطال
مسائلهم وبالله تعالى التوفيق :
فأول ذلك أن
نسألهم فنقول : عرّفونا ما هذا القبيح في العقل على الإطلاق؟ فقال قائلون من
زعمائهم منهم الحارث بن علي الوراق البغدادي ، وعبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي
البلخي وغيرهما : إن كل شيء حسن بوجه ما. قلت : يمتنع وقوع مثله من الله تعالى ، لأنه
حينئذ يكون حسنا ، إذ ليس قبيحا البتة على كل حال ، وأما ما كان قبيحا على كل حال
لا يحسن البتة فهذا منفي عن الله عزوجل أبدا.
قالوا : ومن
القبيح على كل حال أن تفعل بغيرك ما لا تريد أن يفعل بك ، وتكليف ما لا يطاق ثم
التعذيب عليه.
قال أبو محمد :
وظن هؤلاء المبطلون إذا أتوا بهذه الحماقة أنهم قد أغربوا وقرطسوا ، وهم بالحقيقة
قد هذوا وهذروا ، وهذا عين الخطأ ، وإنما قبح بعض هذا النوع إذ أقبحه الله عزوجل ، وحسن بعضه إذ حسّنه الله عزوجل ، والعجب من مناقشتهم في دعواهم أن المحاباة فيما بيننا
ظلم ، ولا ندري في أي شريعة أم في أيّ عقل وجدوا أن المحاباة ظلم ، وأن الله تعالى
قد أباحها إلا حيث شاء؟ وذلك أن الرجل يحب أن ينكح امرأتين وثلاثا وأربعا من
الزوجات ، وذلك له مباح حسن ، وأن يطأ من إمائه أي عدد أحب ، وذلك له مباح حسن ،
ولا يحب أن ينكح امرأته غيره ولا عبيدها ، وهذا منه حسن.
وبالضرورة ندري أن
في قلوبهن من الغيرة كما في قلوبنا ، وهذا محظور في شريعة غيرنا ، والنفار منه
موجود في بعض الحيوان بالطبع ، والحر المسلم يحب أن يستعبد أخاه المسلم ، ولعله
عند الله تعالى خير من سيده في دينه وأخلاقه وأبوته ، ويبيعه ويهبه ويستخدمه ولا
يحب أن يستعبده هو أحد لا عبده ذلك ولا غيره ، وهذا منه حسن ، وقد أحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم لنفسه المقدسة ما أكرمه الله تعالى به من ألا ينكح أحد من
بعده من نسائه ، أمهاتنا رضوان الله عليهن ، وأحب هو عليهالسلام نكاح من نكح من النساء بعد أزواجهن ، وكلّ ذلك حسن جميل
صواب ، ولو أحب ذلك غيره كان مخطئ الإرادة قبيحا ظالما ، ومثل هذا كثير إن تتبّع
كثير جدا إذ هو فاش في العالم وفي أكثر الشريعة ، فبطل هذا القول الفاسد منهم.
وقد نص الله تعالى
على إباحة غير العدل الذي هو العدل عند المعتزلة ، بل على الإطلاق وعلى المحاباة
حيث شاء ، قال عزوجل : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) [سورة النساء :
١٢٩].
وقال تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [سورة النساء : ٣].
فأباح تعالى لنا
أن لا نعدل بين ما ملكت أيماننا ، وأباح لنا محاباة من شئنا منهن ، فصح أن لا عدل
إلا ما سماه الله عدلا فقط ، وأن كل شيء فعله الله فهو العدل فقط لا عدل سوى ذلك ،
وكذلك وجدنا الله تعالى قد أعطى الابن الذكر من الميراث حظّين ، وإن كان غنيا
مكتسبا ، وأعطى البنت حظّا واحدا وإن كانت صغيرة فقيرة ، فبطل قول المعتزلة ، وصح
أن الله تعالى يحابي من يشاء ويمنع من يشاء ، وأن هذا هو العدل لا ما يظنه
المعتزلة عدلا بجهلها وضعف عقولها.
وأما تكليف ما لا
يطاق والتعذيب عليه فإنما قبح ذلك فيما بيننا لأن الله تعالى
حرّم ذلك علينا
فقط ، وقد علمت المعتزلة كثرة عدد من يخالفهم في أن هذا لا يقبح من الله تعالى
الذي لا أمر فوقه ، ولا يلزمه حكم عقولنا ، وما دعواهم على مخالفيهم في هذه
المسألة أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إلا كدعوى المجسّم عليهم أنهم خالفوا قضية
العقل ببديهته ، إذ أجازوا وجود الفعل ممن ليس جسما ، وإذ أجازوا حيا بلا حياة ،
وعالما لا بعلم.
قال أبو محمد :
وكلتا الدعوتين على العقول كاذبة ، وقد بينا فيما سلف من كتابنا هذا غلط من ادعى
في العقل ما ليس منه ، وبينا أن العقل لا يحكم به على الله الذي خلق العقل ورتبه
على ما هو به ، ولا مزيد ، وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعض المعتزلة
: إن من القبيح بكل حال والمحظور في العقل بكل وجه كفر نعمة المنعم وعقوق الأب.
قال أبو محمد :
وهذا غاية الخطأ ، لأن العاقل المميز بالأمور إذا تدبرها علم يقينا أنه لا منعم
على أحد إلا الله وحده لا شريك له ، الذي أوجده من عدم ثم جعل له الحواس والتمييز
وسخّر له ما في الأرض وكثيرا مما في السماء وخوّله المال ، وأن كل منعم دون الله عزوجل فإن كان منعما بمال فإنما أعطى من مال الله عزوجل ، فالنعمة لله عزوجل دونه ، وإن كان ممرضا ، أو معتقدا أو خائفا من مكروه ،
فإنما صرف في ذلك كل ما وهبه الله عزوجل من الكلام والقوة والحواس والأعضاء ، وإنما تصرّف بكل ذلك
في ملك الله عزوجل وفيما هو تعالى أولى به منه.
فالنعمة لله عزوجل دونه ، فالله تعالى هو ولي كلّ نعمة ، فإذ لا شك في ذلك
فلا منعم إلّا من سماه الله تعالى منعما ، ولا يجب شكر منعم إلا بعد أن يوجب الله
تعالى شكره فحينئذ يجب وإلّا فلا ، ويكون حينئذ من يشكره عاصيا فاسقا أتى كبيرة
لخلافه أمر الله تعالى بذلك فقط ، ولا فرق بين تولّدنا من مني أبوينا وبين تولدنا
من التراب الأرضي ، ولا خلاف في أنه لا يلزمنا برّ التراب ولا له علينا حق ، ليس
ذلك إلا لأن الله تعالى لم يجعل له علينا حقا ، وقد يرضع الصغيرة شاة فلا يجب عليه
حق لأن الله تعالى لم يجعله لها وجعله للأبوين وإن كانا كافرين أو مجنونين أو لم
يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عنا بلذاتهما ، ليس هاهنا إلا أمر الله تعالى فقط.
وبرهان آخر : أن
امرأ لو زنى بامرأة عالما بتحريم ذلك أو غير عالم ، إلا أنه ممن لا يلحق به الولد
المخلوق من نطفته النازلة من ذلك الوطء ، فإن بره لا يلزم ذلك الولد أصلا ويلزمه
برّ أمه ، لأن الله تعالى أمره بذلك لها ، ولم يأمره بذلك في الذي
تولد من نطفته فقط
، ولا فرق في العقل بين الرجل والمرأة في ذلك ، ولا فرق في المعقول وفي الولادة
تولد الجنين من نطفة الواطئ لأمه بين أولاد الزنى وأولاد الرشدة ، لكن لما ألزم
الله تعالى أولاد الرشدة المتولدين عن عقد نكاح أو ملك يمين فاسدين أو صحيحين برّ
آبائهم وشكرهم ، وجعل عقوقهم من الكبائر لزمنا ذلك ، ولما لم يلزم ذلك أولاد
الزانية ، لم يلزمهم.
وقد علمنا نحن وهم
يقينا أن رجلين مسلمين لو خرجا في سفر فأغار أحدهما على قرية من قرى دار الحرب
فقتل كلّ رجل بالغ فيها وأخذ جميع أموالهم ، وسبى ذراريهم ثم خمّس ذلك بحكم الإمام
العدل ووقع في حظه أطفال قد تولى هو قتل آبائهم ، وسبي أمهاتهم ، ووقعن أيضا
بالقسمة الصحيحة في حصته ، فنكحهن وصرف أولادهن في كنس حشوشه ، وخدمة دوابه وحرثه وحصاده ، ولم يكلفهم من ذلك إلا ما
يطيقون وكساهم وأنفق عليهم بالمعروف كما أمر الله تعالى فإن حقه واجب عليهم بلا
خلاف ، ولو أعتقهم فإنه منعم عليهم وشكره فرض عليهم ، وكذلك لو فعل ذلك بمن اشتراه
وهو مسلم بعد.
وأغار الثاني على
قرية للمسلمين فأخذ صبيانا من صبيانهم فاسترقّهم فقط ولم يقتل أحدا ولا سبى لهم
حرمة فربّى الصبيان أحسن تربية ، وكانوا في قرية شقاء وجهد وتعب وشظف عيش وسوء حال
، فرفّه معاشهم وعلمهم العلم والإسلام وخوّلهم المال ثم أعتقهم ، فلا خلاف في أنه
لا حق له عليهم ، وأن ذمّه وعداوته فرض عليهم.
وأنه لو وطئ امرأة
منهن وهو محصن وكان أحدهم قد ولي حكما لزمه شدخ رأسه بالحجارة حتى يموت ، أفلا
يتبين لكل ذي عقل من أهل الإسلام أنه لا محسن ولا منعم إلا الله تعالى وحده لا
شريك له إلا من سماه محسنا أو منعما ، ولا شكر لازما لأحد على أحد إلا من ألزمه
الله تعالى وشكره ، ولا حق لأحد على أحد إلا من جعل الله تعالى حقا؟ فيجب كل ذلك
إذ أوجبه الله تعالى وإلا فلا.
وقد أجمعوا معنا
على أن من أفاض إحسان الدنيا على إنسان إفاضة بوجه حرمه الله تعالى فإنه لا يلزمه
شكره ، وأن من أحسن إلى آخر غاية الإحسان فشكره بأن أعانه في دنياه بما لا يجوز في
الدّين فإنه مسىء إليه ظالم ، فصح يقينا أنه لا يجب شيء
__________________
ولا يحسن شيء ولا
يقبح شيء إلا ما أوجبه الله تعالى في الدين ، أو حسّنه الله في الدين ، أو قبّحه
الله في الدين فقط. وبالله تعالى نتأيد.
وقال بعضهم : الكذب قبيح على كل حال.
قال أبو محمد :
وهذا كالأول ، وقد أجمعوا معنا على بطلان هذا القول ، وعلى تحسين الكذب في مواضع
خمسة إذ حسّنه الله تعالى ، وذلك نحو إنسان مستتر من إمام ظالم يظلمه ويطلبه ،
فسأل ذلك الظالم هذا الذي استتر عنده المطلوب وسأل أيضا كل من عنده خبره وعن ماله
، فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه إن صدقه ودلّه على موضعه وعلى ماله فإنه
عاص لله عزوجل ، فاسق ظالم فاعل فعلا قبيحا ، وأنه لو كذبه وقال له لا
أدري مكانه ولا مكان ماله فإنه مأجور محسن فاعل فعلا حسنا ، وكذلك كذب الرجل
لامرأته فيما يستجرّ به مودتها وحسن صحبتها ، والكذب في حرب المشركين فيما يوجد به
السبيل إلى إهلاكهم ويخلص المسلمين منهم ، فصح أنه إنما قبح الكذب حيث قبحه الله عزوجل ، ولو لا ذلك ما كان قبيحا بالعقل أصلا ، إذ ما وجب بضرورة
العقل فمحال أن يستحيل في هذا العالم البتة عما رتبه الله عزوجل في وجود العقل إياه كذلك ، فصح كذبهم على المعقول.
وقال بعضهم : الظلم قبيح.
قال أبو محمد :
وهذا كالأول ، ونسألهم : ما معنى الظلم؟ فلا يجدون إلا أن يقولوا : إنه قتل الناس
وأخذ أموالهم وأذاهم ، وقتل المرء نفسه أو التشويه بها ، أو إباحة حرمة الناس
ينكحونهن ، وكل هذا فليس شيء منه قبيحا لعينه ، وقد أباح الله عزوجل أخذ أموال قوم بخراسان من أجل أنّ ابن عمهم قتل بالأندلس
رجلا خطأ لم يرد قتله ، لكن رمى صيدا مباحا له ، أو رمى كافرا في الحرب فصادف
المسلم السهم وهو خارج من خلف جبل فمات ، ووجدناه تعالى قد أباح دم من زنى وهو
محصن ولم يطأ امرأة قط إلا زوجة له عجوزا شوهاء سوداء ، وطئها مرة ثم ماتت ، ولا
يجد من أين ينكح ولا من أين يتسرى ، وهو شاب محتاج إلى النساء ، وحرّم دم شيخ زنى
وله مائة جارية كالنجوم حسنا ، إلا أنه لم تكن له قط زوجة.
وأما قتل المرء
نفسه فقد حسّن الله تعالى تعريض المرء نفسه للقتل في سبيل الله عزوجل وصدمة الجموع التي يوقن أنه مقتول في فعله ذلك ، وقد أمر
الله عزوجل من قبلنا بقتل نفسه ، قال تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة : ٥٤].
ولو أمرنا عزوجل بمثل ذلك لكان
حسنا كما كان حسنا
أمره عزوجل بذلك بني إسرائيل ، وأما التشويه بالنفس فإن الختان
والإحرام والركوع والسجود لو لا أمر الله تعالى بذلك وتحسينه إياه لكان لا معنى له
، ولكان على أصولهم تشويها ، ودليل ذلك أن امرأ من الناس لو قام ثم وضع رأسه
بالأرض في غير صلاة بحضرة الناس لكان عابثا بلا شك مقطوعا عليه بالهوس ، وكذلك لو
تجرّد المرء من ثيابه أمام الجموع في غير حج ولا عمرة وكشف رأسه ، ورمى بالحصى
وطاف ببيت مهرولا مستديرا به ، لكان مجنونا بلا شك ، لا سيما إن امتنع من قتل قمله
ومن فلى رأسه ، ومن قص أظفاره وشاربه ، لكن لما أمر الله عزوجل بما أمر به من ذلك كان فرضا واجبا وحسنا ، وكان تركه قبيحا
وإنكاره كفرا.
وأما إباحة المرء
حرمة النكاح فهذا أعجب ما أتوا به ، أما علموا أن الله خلّى بين عبيده وإمائه يفجر
بعضهم ببعض وهو قادر على منعهم من ذلك ، فلم يفعل ، بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم
على ذلك بإقرار المعتزلة ، فهذا من الله حسن ومن عباده قبيح لأن الله قبحه ولا
مزيد ، ولو حسنه تعالى لحسن ، أما شاهدوا نكاح الرجال بناتهم من رجال ، ثم إن طلّق
الرجل منهم المرأة من آخر ثم آخر وهكذا ما أمكنهم ، وكذلك إن مات عنها؟ فأي فرق في
العقول بين إباحة وطئها بلفظ زوجتك أو أنكحتك ، وبين حظر وطئها بالإطلاق عليه أو
بلفظة قم فطأها ، فهل هاهنا قبيح إلا ما قبحه الله عزوجل ، أو حسن إلا ما حسن الله عزوجل ..؟!!.
وقال بعضهم : الكفر قبيح على كل حال.
قال أبو محمد :
وهذا كالأول ، وما قبح الكفر إلا لأن الله قبحه ونهى عنه ولو لا ذلك ما قبح ، وقد
أباح الله عزوجل كلمة الكفر عند التقية ، وأباح بها الدم في غير التقية ،
ولو أن امرأ اعتقد أن الخمر حرام قبل أن ينزل تحريمها لكان كافرا ، ولكان ذلك منه
كفرا إن كان عالما بإباحة الرسول صلىاللهعليهوسلم لها ، ثم صار ذلك الكفر إيمانا وصار الآن من اعتقد تحليلها
كافرا ، وصار اعتقاد تحليلها كفرا ، فصح أن لا كفر إلا ما سماه الله عزوجل كفرا ، ولا إيمان إلا ما سماه إيمانا ، وأن الكفر لا يقبح
إلا بعد أن قبحه الله عزوجل ، ولا حسن الإيمان إلا بعد أن حسنه الله عزوجل ، فبطل كل ما قالوه في الجور والكفر والظلم ، وصح أنه لا
ظلم إلا ما نهى الله عنه ولا جور إلا ما كان كذلك ، ولا عدل إلا ما أمر الله تعالى
به أو أباحه أي شيء كان ، وبالله تعالى التوفيق.
فإذ هذا كما ذكرنا
فقد صح أنه لا ظلم في شيء من فعل الباري تعالى ، ولو أنه تعالى عذّب من لم يقدره
على ما أمر به من طاعته لما كان ذلك ظلما إذ لم يسمه
تعالى ظلما ،
وكذلك ليس ظلما خلقه تعالى للأفعال التي هي من عباده عزوجل كفر وظلم وجور ، ولأنه لا آمر عليه تعالى ولا ناهيا ، بل
الأمر أمره والملك ملكه.
وقالوا : تكليف ما
لا يطاق ثم التعذيب عليه قبيح في العقول جملة ، لا يحسن بوجه من الوجوه فيما بيننا
، فلا يحسن من الباري تعالى أصلا.
قال أبو محمد :
نسي هؤلاء القوم ما لا يجب أن ينسى ، ويقال لهم : أليس قول القائل فيما بيننا :
اعبدوني ، اسجدوا لي ، قبيحا لا يحسن بوجه من الوجوه ولا على حال من الأحوال ..؟
فلا بد من نعم ، فيقال لهم : أو ليس هذا القول من الله تعالى حسنا وحقا ، فلا بد
من نعم ، فإن قالوا : إنما قبح ذلك منّا لأننا لا نستحقه ، قيل لهم : وكذلك إنما
قبح منا تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه لأننا لا نستحق هذه الصفة ، وأي شيء أتوا
به من الفرق فهو راجع عليهم في تكليف ما لا يطاق ، ولا فرق ، وكذلك الممتن بإحسانه
الجبار المتكبر ذو الكبرياء قبيح فيما بيننا على كل حال ، وهو من الله تعالى حسن
وحق ، وقد سمى نفسه الجبار المتكبر وأخبر أن له كبرياء وهو تعالى يمتن بإحسانه.
فإن قالوا : حسن
ذلك منه لأن الكل خلقه. قيل لهم : وكذلك حسن منه تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه لأن
الكل خلقه ، وكذلك فيما بيننا من عذّب حيوانا بالنتف والضرب ثم أحسن علفه ورفهه
فهو قبيح على كل حال وجّه ، وفاعله عابث ، وهم يقولون إن الباري أباح ذلك في
الحيوان من أكلها وذبحها ثم يعوضها على ذلك ، وهذا منه عزوجل حسن ، إلا أن يلجئوا إلى أنه تعالى لا يقدر على تعويض
الحيوان إلا بعد إيلامها وتعذيبها ، فهذا أقبح قول وأبينه كذبا وأوضحه قحة وأتمه
كفرا وأذمّه للباري تعالى ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فإن قالوا : إن
إيلام الحيوان قد يحسن فيما بيننا مثل أن يسقي الإنسان من يحب ماء الأدوية الكريهة
، ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إلى منافع لو لا هذا المكروه لم يكن ليصل إليها.
قال أبو محمد :
وهذا تمويه لم ينفكوا به مما سألهم عنه أصحابنا في هذه المسألة ، ونحن لم نسألهم
عمن لا يقدر على نفعه إلا بعد الأذى الذي هو أقل من النفع الذي يصل إليه بعد ذلك
الأذى ، وإنما سألناهم عمن يقدر على نفعه دون أن يبتدئه بالأذى ثم لا ينفعه إلا
حتى يؤذيه.
قال أبو محمد :
وكذلك تكليف من يدري المرء أنه لا يطيقه وأنه إذا لم يطقه عذبه
قبيح فيما بيننا ،
فقال قائل منهم : إن هذا قد يحسن فيما بيننا ، وذلك أن يكون المرء يريد أن يقرب
عند صديقه معصية عبده له فيأمره وهو يدري أنه لا يطيعه فإن نهيه له حسن.
قال أبو محمد :
وهذا كالأول ولا فرق ، ولم نسألهم عمن لم يقدر على تعريف صديقه معصية غلامه له إلا
بتكليفه أمامه ما لا يطيعه فيه ، ولا عمن لا يقدر على منع العاصي له بأكثر من
النهي ، وإنما نسألهم عمن لا منفعة له في أن يعلم زيد معصية غلامه له ، وعمن يقدر
على أن يعرف زيدا بذلك ويقرره عنده بغير أن يأمر من لا يطيعه ، وعمن يقدر على منعه
من المعصية فلا يفعل ذلك ، إلا أن يعجزوا ربهم كما ذكرنا ، فهذا مع أنه كفر فهو
أيضا كذب ظاهر ، لأنه تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا
عنه ، فتقرر هذا عندنا تقررا لو رأينا ذلك عيانا ما زادنا علما بصحته ، وكذلك قد
شاهدنا قوما آخرين أرادوا ضروبا من المعاصي فحال الله تعالى بينهم وبينها بضروب من
الحوائل ، وأطلق آخرين ولم يحل بينهم وبينها بل قوى الدواعي لها ورفع الموانع عنها
جملة حتى ارتكبوها ، فلاح كذب المعتزلة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تعالى
وشدة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وقوّة جهلهم وتناقضهم. نعوذ بالله من
الخذلان.
ثم بعد هذا كله
فأي منفعة لنا في تعريفنا أن فرعون يعصي ولا يؤمن ، وما الذي ضرّ الأطفال إذا
ماتوا قبل أن يعرفوا سرّ من أطاع ومن عصى.
ونسألهم أيضا عمن
أعطى آخر سيوفا وخناجر وعتلا للنقب ، وكل ذلك يصلح للجهاد ولقطع الطريق والتلصص ، وهو
يدري أنه لا يستعمل شيئا من ذلك في الجهاد إلا في قطع الطريق والتلصص ، وعمن مكن
آخر من خمر وامرأة عاهرة وبغاء ، وأخلى له منزلا مع كل ذلك ، أليس عابثا ظالما بلا
خلاف ..؟!! فلا بد من نعم ، ونحن وهم نعلم أن الله عزوجل وهب لجميع الناس القوى التي بها عصوا وهو يدري أنهم يعصونه
بها ، وخلق الخمر وبثها بين أيديهم ولم يحل بينهم وبينها ، وليس ظالما ولا عابثا ،
فإن عجزوه تعالى عن المنع من ذلك بلغوا الغاية من الكفر وإن من عجز عن منع الخمر
من شاربها وهو يقدر على ذلك لفي غاية الضعف والمهانة ، أو مريد لكون ذلك كما شاء
لا معقب لحكمه ، وهذا قولنا لا قولهم.
__________________
قال أبو محمد : فانقطعوا
عند هذه ولم يكن لهم جواب إلا أن بعضهم قال : إنما قبح ذلك منا لجهلنا بالمصالح
ولعجزنا عن التعويض ، ولأن ذلك وهذا محظور علينا ، ولو أن امرأ له منا عبيد وقد صح
عنده بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام لا يؤمنون أبدا ، فإن كسوتهم وإطعامهم مباح
له.
قال أبو محمد :
وهذا عليهم لا لهم وإقرار منهم بأنه إنما قبح ذلك منا لأنه محرم علينا ، وكذلك
كسوة العبيد الذين يوقن أنهم لا يؤمنون ، وإنما حسن ذلك لأننا مأمورون بالإحسان
إليهم وإن كانوا كفارا ، ولو فعلنا ذلك بأهل دار الحرب لكنا عصاة لأننا نهينا عن
ذلك ، ليس هاهنا شيء يقبح ولا يحسن إلا ما أمر الله تعالى فقط ، وأما قولهم إن ذلك
قبح منا لجهلنا بالمصالح فليقنعوا بهذا ممن أجابهم بهذا بعينه في الفرق بين حسن
تكليف الله تعالى ما لا يطاق ، وتعذيبه عليه منه وقبح ذلك منا ، وأنه إنما قبح منا
لجهلنا بالمصالح.
قال أبو محمد :
وأم نحن فكلا الجوابين عندنا فاسد ولا مصلحة فيما أدى إلى النار والخلود فيها بلا
نهاية ، ولكننا نقول : قبح منا ما نهانا الله عنه وحسن منا ما أمرنا به ، وكل ما
فعله ربنا تعالى الذي لا آمر فوقه فهو عدل وحسن ، وبالله تعالى التوفيق.
وسألهم أصحابنا
فقالوا : إن المعهود بيننا أن الحكيم لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ، ومن
فعل لغير ذلك فهو سفيه ، والباري تعالى يفعل لغير اجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة وهو
حكيم.
فقالت طائفة من
المعتزلة : إن الباري تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم.
وقالت طائفة منهم
: لم يكن الحكيم فيما بيننا حكيما لأنه يفعل لاجتلاب المنافع أو دفع المضار ، لأنه
قد يفعل ذلك كل ملتذ وكل متشفّ وإن لم يكن حكيما ، وإنما سمي الحكيم حكيما لإحكامه
عمله.
قال أبو محمد :
وكل هذا ليس بشيء لأن من الحيوان ما يحكم عمله مثل الخطاف والعنكبوت ، والنحل ودود
والقز ، ولا يسمى شيء من ذلك حكيما ، ولكن إنما سمي الحكيم حكيما على الحقيقة
لالتزامه الفضائل واجتنابه الرذائل فهذا هو العقل والحكمة المسمى فاعله حكيما
عاقلا ، وهكذا هو في الشريعة ، لأن جميع الفضائل إنما هي طاعات لله عزوجل ، والرذائل إنما هي معاصيه ، فلا حكيم إلا من أطاع الله عزوجل واجتنب معاصيه ، وعمل ما أمره ربه عزوجل ، وليس من أجل هذا يسمى الباري
حكيما ، إنما سمي
حكيما لأنه سمى نفسه حكيما فقط ، ولو لم يسمّ نفسه حكيما ما سميناه حكيما ، كما لم
نسمه عاقلا إذ لم يسمّ بذلك ، ثم نقول لهم : وأما قولكم إنما سمي الله حكيما لفعله
الحكمة ، فأنتم مقرون أنه أعطى الحكمة. وأما من قال منهم إنه تعالى يفعل لاجتلاب
المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم فكلام فاسد إذا قيل على عمومه ، لأن كل مستضر
بفعله في دنياه وأخراه لم يصرف الله تعالى عنه تلك المضرة وقد كان قادرا على صرفها
عنه إلا أن يعجّزوه عن ذلك فيكفروا.
وسألهم أصحابنا
فقالوا : إذا كان الله عزوجل لا يفعل إلا ما هو عدل بيننا فلم خلق من يدري أنه يكفر به
وأنه سيخلده بين أطباق النيران أبدا؟ فأجابوا عن هذا بأجوبة ، فمن أظرفها أن كثيرا
منهم قالوا : لو لم يخلق من يكفر به ويخلده في نار جهنم لما استحق العذاب أحد ولا
دخل النار أحد.
قال أبو محمد :
ويكفي من الدلالة على ضعف عقل هذا الجاهل هذا الجواب.
ونقول له : ذلك ما
كنا نبغي ، وهل الخير كله على ما بيننا إلا أن لا يعذّب أحد بالنار ، وهل الحكمة
المعهودة بيننا والعدل الذي لا عدل عندنا سواه إلا نجاة الناس كلهم من الأذى
واجتماعهم في النعيم الدائم؟ ولكن المعتزلة قوم لا يعقلون.
وأجاب بعضهم في
هذا بأن قال : لو كان هذا لسلم الجميع من اللوم ، ولكان لا شيء أوضع ولا أخس من
العقل لأن الذي لا عقل له سالم من العذاب واللوم ، والأمم كلها مجمعة على فضل
العقل.
قال أبو محمد : لو
عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذا السخف ، لأن العقل على الحقيقة إنما هو
استعمال الطاعات واجتناب المعاصي ، وما عدا هذا فليس عقلا ، بل هو سخف وحمق.
قال الله عزوجل حكاية عن الكفار أنهم قالوا : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما
كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [سورة الملك : ١٠].
ثم صدقهم الله عزوجل في هذا فقال :
(فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [سورة الملك : ١١]
فصدق الله تعالى من عصاه أنه لا يعقل.
ثم نقول لهم : نعم
لا منزلة أخسّ ولا أوضع ولا أسقط من منزلة وموهبة أدّت إلى الخلود في النيران ،
عقلا كانت أو غير عقل ، على قولكم في العقل. لكن كان كون الإنسان حشرة أو دودة أو
كلبا أحظى له وأسلم وأفضل عاجلا وآجلا ، وأحب إلى كل ذي عقل صحيح وتمييز غير مدخول
، وإذا كان عند هؤلاء القوم العقل الموهوب
وبالا على صاحبه
وسببا إلى تكليفه أمورا لم يأت بها فاستحق النار ، فلا شك عند كل ذي حس سليم في أن
عدمه خير من وجوده.
فإن قالوا : إن
التكليف لم يوجب عليه دخول النار ، قلنا : نعم ، ولكنه كان سببا إلى ذلك ، ولو لا
التكليف لم يدخل النار أصلا ، وقد شهد الله عزوجل بصحة هذا القول شهادة لا تخفى على مسلم ، وهي قوله تعالى :
(إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً
جَهُولاً) [سورة الأحزاب :
٧٢].
فحمد الله تعالى
إباء الجمادات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع وذم عزوجل اختيار الإنسان لتحملها ، وسمى ذلك منه ظلما وجهلا وجورا ،
وهذا معروف في بنية العقل والتمييز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير
الفردي إلى الهلاك أو إلى النعيم.
وقال بعضهم : خلق الله عزوجل من يكفر ومن يعلم أنه يخلده في النار ليعظ بذلك الملائكة
وحور العين.
قال أبو محمد :
وهذا خبط لا عهد لنا بمثله ، وهذا غاية السخف والعبث والظلم ، فأما العبث فإن في
العقول منّا أن من عذب واحدا ليعظ به آخر فغاية العبث والسخف ، وأما الجور فأيّ
جور أعظم فيما بيننا من أن يخلق قوما قد علم أنه يعذبهم ليعظ بهم آخرين من خلقه
مخلدين في النعيم ، فهلا عذب الملائكة وحور العين ليعظ بهم الجن والإنس؟ وهل هذا
على أصولهم إلا غاية المحاباة والظلم والعبث ..؟!! تعالى الله عن ذلك ، يفعل ما
يشاء لا معقّب لحكمه.
وسألهم أصحابنا عن
إيلام الله عزوجل الصغار والحيوان وإباحته تعالى ذبحها ، فوجموا عند هذه ، وقال بعضهم : لأن الله تعالى يعوضهم على ذلك.
قال أبو محمد :
وهذا غاية العبث فيما بيننا ، ولا شيء أتمّ في العبث والظلم ممن يعذّب صغيرا ليحسن
بعد ذلك إليه ، فقالوا : إن تعويضه بعد العذاب بالجدري والأمراض أتم وألذ من
تنعيمه دون تعذيب.
قال أبو محمد :
وفي هذا عليهم جوابان :
أحدهما : أن نقول
لهم : أكان الله تعالى قادرا على أن يوفّي الأطفال والحيوان ذلك النعيم دون إيلام
أو كان غير قادر على ذلك؟ فإن قالوا كان غير قادر جمعوا مع الكفر الجنون لأن ضرورة
العقل يعلم بها أنه إذا قدر على أن يعطيهم مقدارا ما من
النعيم بعد
الإيلام فلا شك في أنه قادر على ذلك المقدار نفسه دون إيلام يتقدمه ، ليس في العقل
غير هذا أصلا ، إذ ليس هاهنا منزلة زائدة في القدرة ولا فعلان مختلفان ؛ وإنما هو
عطاء واحد لشيء واحد في كلا الوجهين.
وإن قالوا إنه
قادر على ذلك فقد وجب العبث على أصولهم ، أفكان قادرا على أن يعطيهم دون إيلام ما
لم يعطهم إلا بعد غاية الإيلام؟
والجواب الثاني :
أنا نريهم صبيانا وحيوانا أماتهم في خير دون إيلام ، وهذه محاباة وظلم للمؤلم
منهم.
فقالوا : إن
المؤلم يزداد في نعيمه لأجل إيلامه.
فقلنا لهم : فهذه
محاباة بزيادة النعيم للمؤلم ، فهلّا آلم الجميع ليسوي بينهم في النعيم؟ أو هلّا
سوى بينهم في النعيم بأن لا يؤلم منهم أحدا؟ وهذا ما لا انفكاك منه البتة.
وقال بعضهم : فعل ذلك ليعظ بهم غيرهم.
قال أبو محمد :
وهذا غاية الجور بيننا ، ولا عبث أعظم من أن يعذب إنسان لا ذنب له ليوعظ بذلك
آخرون مذنبون وغير مذنبين ، والله تعالى قد أنكر هذا بقوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام :
١٦٤].
فقد انتفى عن الله
عزوجل هذا الظلم حقا ، ولقد كان على أصولهم الفاسدة تعذيبه
الطغاة وإيلامه البغاة بذلك غيرهم أدخل في العدل والحكمة من أن يؤلم طفلا أو
حيوانا لا ذنب لهما ليعظ بذلك آخرين بل لعل هذا الوجه قد صار سببا إلى كفر كثير من
الناس.
وأجاب بعضهم في
ذلك بأن قال : إنما فعل عزوجل ذلك بالأطفال ليأجر آباءهم.
قال أبو محمد :
وهذا كالذي قبله في الجور سواء بسواء أن يؤذي من لا ذنب له ليأجر بذلك مذنبا أو
غير مذنب ، حاشا لله من هذا. إلا أن في هذا مرية من التناقض ، لأن هذا التعليل
ينقض عليهم في أولاد الكفار وأولاد الزنى ممن قد ماتت أمه ، وفي اليتامى فقد فقدوا
آباءهم وأمهاتهم ، وربّ طفل قد قتل الكفار أو الفساق أباه وأمه وترك هو بدار مضيعة
حتى مات هزلا أو أكلته السباع ، فليت شعري من وعظ بهذا ، أو من أجر به؟ مع أن هذا
مما لم يجدوه يحسن بيننا البتة بوجه من الوجوه يعني أن يؤذى إنسان لا ذنب له
لينتفع بذلك آخرون ، وهم يقولون إن الله تعالى فعل هذا فكان حسنا وحكمة. ولجأ
بعضهم إلى أن قال إن لله عزوجل في هذا سرّا من الحكمة والعدل نوقن به وإن كنا لا نعلم لم
هو؟ ولا كيف هو؟
قال أبو محمد :
وإذ قد بلغوا هاهنا فقد قرب أمرهم بعون الله تعالى ، وهو أنه يلزمهم تصديق من يقول
لهم : ولله تعالى في تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه عليه سرّ من الحكمة نوقن به ولا
نعلمه.
قال أبو محمد :
وأما نحن فلا نقول بهذا ، بل نقول إنه لاسرها هنا أصلا ، بل كل ذلك كما هو عدل من
الله عزوجل لا من غيره ، ولله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون.
قال أبو محمد :
ولجأت طائفتان منهم إلى أمرين. إحداهما : قول بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه قال : إن الأطفال لا
يألمون البتة.
قال أبو محمد :
ولا ندري لعله يقول مثل ذلك في الحيوان.
قال أبو محمد :
وهذا انقطاع سمج ولجاج في الباطل قبيح ودفع للعيان والحس ، وكل أحد منا قد كان
صغيرا ونوقن أننا كنا نألم الألم الشديد الذي لا طاقة لنا بالصبر عليه.
والثانية أحمد بن
خابط البصري وفضل الحدثي ، وكلاهما من تلاميذ
__________________
النظام ، فأنهما
قالا : إن أرواح الأطفال وأرواح الحيوان كانت في أجساد قوم عصاة فعوقبت بأن ركبت
في أجساد الأطفال والحيوان لتؤلم عقوبة لها.
قال أبو محمد :
ومن هرب عن الإذعان للحق أو عن الإقرار بالانقطاع إلى الكفر والخروج عن الإسلام
فقد بلغ إلى حالة ما كنّا نريد أن يبلغها ، لكن إذا آثر الكفر فإلى لعنة الله وحرّ
سعيره ، ونعوذ بالله من الخذلان ، وإنما كلامنا هذا مع من يتقي مخالفة أهل الإسلام
، فأما أهل الكفر فقد تمّ و ـ لله الحمد ـ إبطالنا لقولهم ، وقد أبطلنا قول أصحاب
التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله ، فأغنى عن إعادته ، وإذا بلغ خصمنا إلى
مكابرة الحسّ أو إلى مفارقة الإسلام فقد انقطع وظهر باطل قوله ، ولله تعالى الحمد.
قال أبو محمد :
فإن لجئوا إلى قول معمّر والجاحظ ، وقالوا إن آلام الأطفال هي فعل الطبيعية لا فعل
الله تعالى لم يتخلصوا بذلك من الانقطاع ، بل نقول لهم : هل الله عزوجل قادر على معارضة هذه الطبيعة المقطّعة لحم هذا الصبي
بالجدري والأكلة والخنازير المعذّبة له بالحصاة واحتباس البول أو الغائط أو انطلاق
البطن حتى يموت ، والعدوّ القاسي القلب يرحمه وتنقطع له نفسه لعظيم ما يرى به من
التضور والأوجاع ، بقوة من عنده تعالى يفرج بها عن هذا الطفل المسكين المعذب ، أم
هو تعالى غير قادر على ذلك؟
فإن قالوا هو غير
قادر على ذلك ، فما في العالم أعجز ممن تغلبه طبيعة هو خلقها وطبعها ووضعها في من
هي فيه وربما غلبها طبيب ضعيف من خلقه بعقار ضعيف من خلقه ، فهل في الجنون والكفر
أكبر من هذا القول ، أن يكون هو خلق الطبيعة ووضعها في من هي فيه ثم لا يقدر على
كفّ عملها الذي هو وضعها فيه.
وإن قالوا : بل هو
قادر على صرف الطبيعة وكفّها ولم يفعل دخل في نفس ما
__________________
أنكر وأقر ربه على
أصله الفاسد بالظلم والعبث ، وبالضرورة ندري أن من رأى طفلا في نار أو ماء وهو
قادر على استنقاذه بلا مئونة ولم يفعل فهو عابث ظالم ، ولكن الله تعالى يفعل ذلك
وهو الحكيم العدل في حكمه لا العابث ولا الظالم ، وهذا هو الذي أعظموا من أن يكون
قادرا على هدى الكفار ولا يفعل. ولجأ بعضهم إلى أن قال : لو عاش هذا الطفل لكان
طاغيا. قلنا لهم : لم نسألكم بعد عن من مات طفلا ، إنما سألناكم عن إيلامه قبل
بلوغه. ثم نجيبهم عن قولهم فيمن مات من الأطفال أنه لو عاش لكان طاغيا ، فنقول لهم
: هذا أشدّ في الظلم أن يعذبه على ما لم يفعل بعد.
قال أبو محمد :
ووجدنا الله عزوجل قد حرم ذبح بعض الحيوان وأكله ، وأباح ذبح بعضه ، وأوجب
ذبح بعضه إذا نذر الناذر ذبحه قربانا ، فنقول للمعتزلة : أخبرونا ما كان ذنب الذي
أبيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنار وأكله ، أو ما كان ذنب الذي حرم كل ذلك فيه حتى حرم
العوض الذي تدعونه ، أو ما كان بخت الذي حرم إيلامه. ووجدناه عزوجل قد أباح ذبح صغار الحيوان مع ما يحدث لأمهاتها من الحنين
والوله كالإبل والبقر ، فأيّ فرق بين ذبحها لمصالحنا أو لتعوض هي وبين ما حرم من
ذبح أطفالنا وصغار أولاد أعدائنا لمصالحنا أو ليعوضوا ، وإن طردوا دعواهم في المصلحة
لربهم أن كل من له مصلحة في قتل غيره كان له قتله ، فإن قالوا لا يجوز ذلك إلا حيث
أباحه الله عزوجل تركوا قولهم ووفقوا للحق.
قال أبو محمد :
ووجدناه تعالى قد حرم قتل قوم مشركين يجعلون له الصاحبة والولد ويهود ومجوس إذا
أعطونا دينارا أو أربعة دنانير في العام وهم يكفرون بالله تعالى ، وأباح قتل مسلم
فاضل قد تاب وأصلح لزنى سلف منه وهو محصن ، ولم يبح لنا استبقاء مشركي العرب من
عبّاد الأوثان إلا بأن يسلموا ولا بد. فأيّ فرق بين هؤلاء الكفار وبين الكفار
الذين افترض علينا إبقاءهم لذهيبة نأخذها منهم في العام.
قال أبو محمد :
وقالوا لنا هل في أفعال الله تعالى عبث وضلال ونقص ومذموم؟
فجوابنا وبالله
تعالى التوفيق : أمّا أن يكون في أفعاله تعالى عبث يوصف به أو عيب يضاف إليه أو
ضلال يوصف به أو نقص له أو جور منه أو ظلم منه أو مذموم منه ، فلا يكون ذلك أصلا ،
بل كل أفعاله عدل وحكمة وخير وصواب منه ، وكلها حسن منه تعالى ومحمود منه ، ولكن
فيها عيب على من ظهر منه ذلك الفعل وعبث منه وضلال منه وظلم منه ومذموم منه.
ثم نسألهم فنقول
لهم : هل في أفعاله تعالى سخف وجنون وحمق وفضائح
ومصائب وقبح وسخام
وأقذار وأنتان ونجس وسخنة للعين وسواد للوجه؟ فإن قالوا لا. أكذبهم الله عزوجل بقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها) [سورة الحديد : ٢٢].
وموت الأنبياء وفرعون وإبليس وكل ذلك مخلوق.
وإن قالوا إن الله
تعالى خالق كل ذلك ولكن لا يضاف شيء منه إلى الله عزوجل على الوجه المذموم ، لكن على الوجه المحمود. قلنا : هذا
قولنا فيما سألتمونا عنه ولا فرق.
فإن قالوا : أترضون
بأفعال الله عزوجل وقضائه؟ قلنا : نعم ، بمعنى أننا مسلمون لفعله وقضائه ،
ومن الرضى بفعله وقضائه أن نكره ما كرّه إلينا ، قال تعالى : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [سورة الحجرات : ٧].
ثم نسألهم عن هذا
بعينه فنقول لهم أترضون بفعل الله تعالى وقضائه؟ فإن قالوا نعم ، لزمهم الرضى بقتل
من قتل من الأنبياء وبالخمور والأنصاب والأزلام وبإبليس ، ويلزمهم أن يرضى منهم
بالخلود في النّار من خلّد فيها وفي هذا ما فيه ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وسأل بعض أصحابنا بعض المعتزلة فقال : إذا كان عندكم إنما خلق الله تعالى الكفار
وهو يعلم أنهم لا يؤمنون وأنه سيعذبهم بين أطباق النيران أبدا ليعظ بهم الملائكة
وحور العين فقد كان يكفي من ذلك خلق واحد منهم ، فقال له المعتزلي : إن المؤمنين
الذين يدخلون الجنة والملائكة وحور العين وجميع من لا عذاب عليه من الأطفال أكثر
من الكفار بكثير جدا.
قال أبو محمد :
ولم يخرج بهذا الجواب مما ألزمه السائل ، لأن الموعظة كانت تتم بخلق واحد ، هذا لو
كان لخلق من يعذب ليوعظ به آخر وجه في الحكمة بيننا ، وأيضا فلو لا ذكره الملائكة
لكان كاذبا في ظنه أن عدد الداخلين في الجنة من الناس أكثر من الداخلين النار لأن
الأمر خلاف ذلك ، لأن الله عزوجل يقول : (فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [سورة الإسراء :
٨٩].
وقال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ) [سورة يوسف : ١٠٣].
وقال تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [سورة الأنعام :
١٦٦].
وقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [سورة ص : ٢٤].
فليت شعري في أي
حكمة وجدوا فيما بينهم أو بيننا أو في أي عدل خلق من يكون أكثرهم مخلدين في جهنم
على أصول هؤلاء الجهال.
وأما نحن فإنه لو
عذب أهل السماوات كلهم وجميع من عمر الأرض لكان عدلا منه وحقا له وحكمة منه ، ولو
لم يخلق النار وأدخل كل من خلق الجنة لكان حقا منه وعدلا وحكمة منه لا عدل ولا حكم
ولا حق إلا ما فعل وما أمر به.
قال أبو محمد :
ولجأ قوم منهم إلى أن قالوا إن الله تعالى لم يعلم من يكفر ولا من يؤمن وأقروا أنه
لو علم من يموت كافرا لكان خلقه له جورا وظلما.
قال أبو محمد :
وهؤلاء أيضا مع عظيم ما أتوا به من الكفر في تجهيل ربهم تعالى فلم يخلصوا مما
ألزمهم أصحابنا ، لأنه ليس من الحكمة خلق من لا يدري أيموت كافرا فيعذبه أم لا ،
وهذا هو التغرير بمن خلق وتعريضهم للهلكة على جهالة ، وهذا ليس من الحكمة ولا من
العدل فيما بيننا لمن يمكنه أن لا يغرر ، وقد كان الباري تعالى قادرا على أن لا
يخلق كما قد كان تعالى لم يزل لا يخلق ثم خلق إلا أن يلجئوا إلى أنه تعالى لا يقدر
على أن لا يخلق ، فجعلوه مضطرا ذات طبيعة غالبة ، وهذا كفر مجرد محض ، ونعوذ بالله
من الخذلان.
قال أبو محمد :
وإذا أقرت المعتزلة أن أطفال بني آدم كلّهم أولاد المشركين وأولاد المسلمين في
الجنة دون عذاب ولا تقرير تكليف ، فقد نسوا قولهم الفاسد أن العقل أفضل من عدمه ،
بل ما نرى السلامة على قولهم وضمانها والحصول على النعيم الدائم في الآخرة بلا
تقرير إلا في عدم العقل ، فكيف فارقوا هذا الاستدلال؟
وأما نحن فنقول :
إن من أسعده الله تعالى من الملائكة فلم يعرضهم لشيء من الفتن أعلى حالا من كل خلق
غيرهم ، ثم بعدهم الذين عصم الله تعالى من النبيين عليهم الصلاة والسلام وأمنهم من
المعاصي ، ثم من سبقت لهم من الله تعالى الحسنى من مؤمني الجن والإنس الذين لا
يدخلون النار ، والحور العين اللاتي خلقن لأهل الجنة ، على أن لهؤلاء المذكورين
حاشا الحور العين حالة من الخوف طول بقائهم في الدنيا ، ثم يوم الحشر في هول
المطلع وشنعة ذلك الموقف الذي لا يفي به شيء إلا السلامة منه ، ولا يهنأ معه عيش
حتى يخلص منه ، وقد تمنّى كثير من الصالحين العقلاء الفضلاء أن لو كانوا نسيا
منسيا في الدّنيا ولا يعرّضوا لما عرضوا له ، على أنهم قد أمنوا بالضمان التام
الذي لا يبخس ، ولقد أصابوا في ذلك ، إذ السلامة لا يعدلها شيء إلا عند عقول
المعتزلة القائلين إن الثواب والنعيم بعد الضرب بالسياط والضغط بأنواع
العذاب والتعريض
لكل بلية أطيب وألذ وأفضل من النعيم السالم من أن يتقدمه بلاء. ثم الأطفال الذين
يدخلون الجنة دون تكليف ولا عذاب ، ومن بلغ ولا تمييز له ، ثم منزلة من دخل النار
ثم أخرج منها بعد أن دخل فيها على ما فيها من البلاء نعوذ بالله منه ، وأمّا من
يخلّد في النار فكل ذي حس سليم توقن نفسه بيقين ضرورة أن الكلب والدود والقرد
وجميع الحشرات أحسن حالا في الدنيا والآخرة منه ، وأعلى مرتبة وأتم سعدا وأفضل صفة
وأكرم عناية عند الباري تعالى منه.
ويكفي من هذا
إخبار الله تعالى إذ يقول : (وَيَقُولُ الْكافِرُ
يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [سورة النبأ : ٤٠].
فنصّ تعالى على أن حال الجمادية أحسن من حاله ، فاعجبوا للمعتزلة القائلين إن الله
تعالى أعطى من يتمنى يوم القيامة أن يكون ترابا أفضل عطية عنده ولم يترك في قدرته
أصلح مما عمل به ، وأن خلقه له كان خيرا له من ألا يخلقه ، ونحن نعوذ بالله
لأنفسنا من أن يعمل بنا ما عمل بهم.
قال أبو محمد :
ومن عجائبهم قولهم إن الله تعالى لم يخلق شيئا لا يعتبر به أحد من المكلفين.
قال أبو محمد :
فنقول لهم : ما دليلكم على هذا ، وقد علمنا بضرورة الحس أن لله تعالى في قعور
البحار وأعماق الأرض أشياء كثيرة لم يرها إنسان قط ، فلم يبق إلا أن تدعوا غوص
الملائكة والجن في عمق الجبال وقعور البحور ، فهذه دعوى مفتقرة إلى دليل ، وإلا
فهي باطلة ، قال عزوجل : (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة :
١١١]. وأيضا فمما يبطل به دعوى هؤلاء القائلين بغير علم على الله أن الله تعالى إذ
خلق زيدا وله من الطول كذا وكذا فإنه لو خلقه على أقلّ من ذلك الطول بإصبع لكان
الاعتبار بخلقه سواء كما هو الآن ولا مزيد ، وهكذا كل مقدار من المقادير ، فإن
ادّعوا أن الزيادة في العدد زيادة في العبرة لزمهم أن يلزموا ربهم تعالى أن يزيد
في مقدار طول كل ما خلق لأنه كان يكون زيادة في الاعتبار وإلا فقد قصر ، وبالجملة
فهو سهم لا يحصيه إلا الذي خلقهم نعوذ بالله مما ابتلاهم به.
قال أبو محمد :
وهم مقرّون أن العقول معطاة من عند الله عزوجل ، فنسألهم أفاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقول أم لا؟
فإن قالوا لا كابروا الحس ولزمهم مع ذلك أن عقل النبي صلىاللهعليهوسلم وتمييزه وعقل موسى وعيسى وإبراهيم وأيوب وسائر الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام وتمييزهم وعقل مريم بنت عمران وتمييزها بل تمييز جبريل وميكائيل
وسائر الملائكة ، ثم تمييز أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي
طالب وعقولهم
وتمييز أمهات المؤمنين وبنات النبي صلىاللهعليهوسلم ورضوان الله على جميع من ذكرنا وعقولهن ، ثم تمييز سقراط
وأفلاطون وأرسطو وعقولهم ليس شيء من ذلك أفضل من العقل والتمييز المعطيين لهذا
المخنث البغاء الزّفّان ولهذه الزانية الخليعة المتبرجة السحاقة ولهذا الشيخ الذي
يلعب مع الصبيان بالكعاب في الخانات ويعجفهم إذا قدر ، ومن بلغ هذا المبلغ وساوى بين من أعطى الله عزوجل كل من ذكرنا من العقل والتمييز ، فقد كفى خصمه هوسه ، وإن
قالوا : بل الله تعالى فاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقل والتمييز ، قيل لهم
صدقتم ، وهذا هو المحاباة والجور على أصولكم ، ولا محاباة على الحقيقة أكثر من هذه
، وهي عندنا حق وعدل منه تعالى ، لا يسأل عما يفعل ، ولعمري إنّ فيهم لعجبا ، إذ
يقولون : إن الله تعالى لم يعط أحدا من خلقه إلّا ما أعطى سائرهم ، فهلّا إن كانوا
صادقين ساوى جميعهم إبراهيم النظام ، وأبا هذيل العلّاف ، وبشر بن المعتمر ،
والجبائي في دقة نظرهم وقوّتهم على الجدال ، إذ كلهم فيما منحهم الله عزوجل من ذلك سواء ، فإذ لا شك في عجزهم عن بلوغ ذلك فلا شك في
أنّ كل واحد لا يقدر أن يزيد فيما منحه الله تعالى به. وليس يمكنهم أصلا أن يدّعوا
هاهنا أنهم كلهم قادرون على ذكاء الذّهن ، وحدّة النظر ، وقوّة الفطنة ، وجودة
الحفظ ، والبينة لدقيق الحجة ، وإن لم يظهر ، وكما ادّعوا ذلك في الأعمال الصّالحة
، فصحّت المحاباة من الله تعالى يقينا عيانا لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق.
فإن أقرّوا أن
العقول ، والذكاء ، وقبول العلم ، وذكاء الخاطر ، ودقة الفهم غير موهوبة من الله
تعالى عزوجل.
قلنا لهم : فمن
خلقها؟
فإن قالوا : هي
فعل الطبيعة.
قلنا لهم : ومن
خلق الطبيعة التي فعلت العقول وكلّ ذلك بذاتها متفاضلة؟
فمن قولهم : إنّ
الله تعالى خلقها.
فيقال لهم : فهو
موجب المحاباة ، إذ رتّب الطبيعة رتبة المحاباة ، ولا بدّ.
وإن قالوا : لم
تخلق الطبيعة ولا العقول ، لحقوا بالدّهرية وصاروا إلى ما لم يرد لهم المصير لهم.
وهذا لا مخلص لهم منه أصلا. وبالله تعالى التوفيق.
__________________
وبالضرورة ندري
أنّ من كان تمييزه أتم كان اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم ، وهذا هو المحاباة التي
أنكروها ، وسمّوها ظلما وجورا.
قال أبو محمد :
ومهما أمكنهم من الدّفاع والقحة في شيء ما ـ فإنه لا يمكنهم اعتراض أصلا في أن فضل
الله تعالى على المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام ، وعلى يحيى بن زكريا ، إذ
جعل عيسى نبيّا ناطقا عاقلا في المهد رسولا حين سقوطه من بطن أمه ، وإذ أتى يحيى
الحكم صبيا ، أتمّ وأعلى وأكثر من فضله على من ولد في أقاصي بلاد الخزّ والزّنج
حيث لم يسمع قط ذكر محمد صلىاللهعليهوسلم إلّا متبعا أقبح الذكر من التكذيب ، وأنه كان متخيّلا ،
وأكثر من فضله بلا شك على فرعون إذ دعا موسى عليه الصلاة والسلام فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ
سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) [سورة يونس : ٨٨ ،
٨٩].
قال أبو محمد :
إنّ من ضلّ بعد هذا لضالّ ، وإنّ من قال : إنّ فضل الله عزوجل وعطاءه لموسى ، وعيسى ، ويحيى ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، وعصمته لهم كفضلة ، وعطاءه على فرعون وملئه ، وعصمته لهم
، الذين نصّ عزوجل على أنه شدّ على قلوبهم شدّا منعهم الإيمان حتى يروا
العذاب الأليم ، فلا ينفعهم إيمانهم حينئذ لضعيف العقل ، قليل العلم ، مهلهل
اليقين. ولا بيان أبين من هذه الآية في تفضيل الله عزوجل بعض خلقه على بعض ، واختصاص بعضهم بالهدى والرحمة دون بعض
، ومحاباته من شاء منهم ، وإضلاله من ضلّ منهم.
وأيضا : فإنهم لا
يستطيعون أن ينكروا أنّ الله عزوجل فضّل بني آدم على كثير ممن خلق قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٥٣].
وقال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [سورة الإسراء آية
رقم ٥٥].
وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [سورة الإسراء آية
رقم ٧٠].
وهي المحاباة التي
هي عند المعتزلة جور وظلم.
فيقال لهم ، على
أصلكم الفاسد : هلّا رزق الله العقل سائر الحيوان فيعرضهم بذلك للمراتب السنية
التي عرض لها بني آدم؟ وهلّا ساوى بين الحيوان وبيننا في ألّا
يعرّضنا كلنا للمهالك
والفتن؟ فهل هذا إلّا محاباة مجرّدة وفعل لما يشاء؟ لا معقّب لحكمه ، لا يسأل عما
يفعل.
قال أبو محمد :
وقد ذكر بعضهم أن الله تعالى قبّح في عقول بني آدم أكل ما يعطيهم ، وأكل أموال
غيرهم ، ولم يقبح ذلك في عقول الحيوان.
قال أبو محمد :
فأقرّ هذا الجاهل بأنّ الله تعالى هو المقبح والمحسّن ، فإذ ذلك كذلك فلا قبيح
إلّا ما قبّح الله ، ولا محسّن إلا ما حسّن. وهذا قولنا. ولم يقبح الله تعالى قط
خلقه لما خلق ، إنما قبّح منا كون ذلك الذي خلق من المعاصي فينا فقط. وبالله تعالى
التوفيق.
وإنّ الأمر لأبين
من ذلك ، ألم تروا أنّ الله خلق الحيوان فجعل بعضه أفضل من بعض بلا عمل أصلا ،
ففضل ناقة صالح عليهالسلام على سائر النوق نعم وعلى نوق الأنبياء الذين هم أفضل من
صالح. وإنما أتينا بهذا لئلا يقولوا إنه تعالى إنما فضلها تفضيلا لصالح عليهالسلام ، وجعل تعالى الكلب مضروبا به المثل في الخساسة والرذالة ،
وجعل القردة والخنازير معذبا بعض من عصاه بتصويره في صورتها ، فلو لا أن صورتها
عذاب ونكال ما جعل القلب في صورتها أشدّ ما يكون من عذاب الدّنيا ونكالها ، وجعل
بعض الحيوان متقرّبا إلى الله عزوجل بذبحه ، وبعضه محرما ذبحه ، وبعضه مأواه الرياض والأشجار
والخضرة ، وبعضهم مأواه الحشوش والرّداغ والدّبر.
وبعضه قويا ،
وبعضه ضعيفا ، وبعضه منتفعا به في الأدوية ، وبعضه سمّا قاتلا ، وبعضه قويّا على
الخلاص ممن أراد بطيرانه وعدوه ، أو قوته ، وبعضه مهينا ، لا مخلص عنده ، وبعضه
خيلا في نواصيها الخير يجاهد عليها العدو ، وبعضه سباعا ضارية مسلطة على سائر
الحيوان ذا عرّة لها ، قاتلة لها ، آكلة لها ، وجعل سائر الحيوان لا ينقصر
منها ، وبعضها حيات عادية مهلكة وبعضه مأكولا على كل حال. فأي ذنب كان لبعضه حتى
سلّط عليه غيره فأكله وقتله وأبيح ذبحه وقتله وإن لم يؤكل كالقمل والبراغيث والبق
، والوزغ وسائر الهوام ، ونهى عن القتل النحل ، وعن قتل الصيد في الحرمين ،
والإحرام وأباحه في غير الحرمين ، والإحرام؟
__________________
فإن قالوا : إنّ
الله تعالى يعوض ما أباح ذبحه وقتل منها.
قيل له : فهلّا
أباح ذلك فيما حرّم قتله ، ليعوضه أيضا.
وهذه محاباة لا شك
فيها ، مع أنه في المعهود من المعقول عين العبث إلّا أن يقولوا : إنه تعالى لا
يقدر على نعيمها إلا بتقديم الأذى ، فإنهم لا ينفكون بهذا من المحاباة لها على من
لم يبح ذلك فيها من سائر الحيوان ، مع أنه تعجيز الله عزوجل.
ويقال لهم : ما
الذي عجّزه عن ذلك وأقدره على تنعيم من تقدّم له الأذى في الدنيا؟ أطبيعة فيه
جارية على نيتها؟ أم فوقه واهب له تلك القدرة؟ ولا بدّ من أحد هذين القولين ،
وكلاهما كفر مجرّد.
وأيضا : فإن قولهم
يبطل بتنعيم الله عزوجل الأطفال الذين ولدوا أحياء ، وماتوا من وقتهم دون ألم سلف
لهم ولا تعذيب. فهلا فعل بجميع الحيوان الحيوان كذلك على أصولكم؟
وأيضا : فقد كان عزوجل قادرا على أن يجعل غذاءنا في غير الحيوان ، لكن في النبات
والثمار كعيش كثير من الناس في الدنيا ، لا يأكلون لحما ، فما ضرّهم ذلك في عيشهم
شيئا ، فهل هاهنا إلّا أن الله تعالى لا يجوز الحكم على أفعاله بما يحكم به على
أفعالنا لأننا مأمورون منهيون ، وهو تعالى أمرنا لا مأمور ولا منهي ، فكل ما فعل
فهو عدل وحكمة وحق ، وكلّ ما فعلناه فإنه إن وافق أمره عزوجل كان عدلا وحقا ، وإن خالف أمره عزوجل كان جورا وظلما.
قال أبو محمد :
وأمّا الحيوان ، فإنّ قولنا فيه هو نص ما قاله الله عزوجل ورسوله صلىاللهعليهوسلم إذ يقول عزوجل : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [سورة الأنعام آية
رقم ٣٨].
وقال عزوجل : (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) [سورة التكوير آية
رقم ٥].
فنحن موقنون أن
الوحوش كلّها ، وجميع الدواب ، والطير ، تحشر كلها يوم القيامة ، كما شاء الله
تعالى ، ولما شاء عزوجل.
وأما نحن فلا ندري
لما ذا ـ والله أعلم بكل شيء ـ.
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه يقتصّ يومئذ للشاة الجمّاء من الشاة القرناء» .
__________________
فنحن نقرّ بهذا ،
وبأنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء ولا ندري ما يفعل الله بهما بعد
ذلك ، إلّا أنا ندري يقينا أنها لا تعذّب بالنار ، لأن الله تعالى قال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي
كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل آية
رقم ١٥ و ١٦].
وبيقين ندري أن
هذه الصفة ليست إلّا في الجن والإنس خاصة ، ولا علم لنا إلّا ما علمنا الله تعالى.
وقد أيقنا أن سائر الحيوان الذي في هذا العالم ـ ما عدا الملائكة ، والحور ،
والإنس ، والجن ـ فإنه غير متعبد بشريعته.
وأمّا الجنة : فإن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يدخل الجنة إلّا نفس مسلمة» .
والحيوان ـ حاشا
من ذكرنا ـ لا يقع عليهم اسم مسلمين ، لأن المسلم هو المتعبّد بالإسلام ، والحيوان
المذكور غير متعبّد بشرع. فإن قال قائل : إنكم تقولون إن أطفال المسلمين وأطفال
المشركين كلهم في الجنة ، فهل يقع على هؤلاء اسم مسلمين؟ فجوابنا وبالله تعالى
التوفيق أن نقول : نعم ، كلهم مسلمون بلا شك لقول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [سورة الأعراف آية
رقم : ١٧٢].
وقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [سورة الروم آية
رقم : ٣٠].
ولقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ
مولود يولد على الفطرة» وروي على الملّة ـ «فأبواه
يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجّسانه ، أو يشركانه» . ولقوله صلىاللهعليهوسلم عن الله عزّ
__________________
وجلّ : «إني خلقت عبادي حنفاء
كلّهم ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم».
فصح لهم كلهم اسم
الإسلام ـ والحمد لله رب العالمين ـ.
وقد نص عليهالسلام على أنه رأى كلّ من مات طفلا من أولاد المشركين وغيرهم في
روضة مع إبراهيم خليل الله صلىاللهعليهوسلم.
وأما المجانين ،
ومن مات في الفترة ، ولم تبلغه دعوة نبي ، ومن أدركه الإسلام وقد هرم ، أو أصمّ ـ
لا يسمع ، فقد صحّ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنه تبعث لهم يوم القيامة نار موقدة ، ويؤمرون بدخولها
فمن دخلها كانت عليه بردا ، ودخل الجنة .. أو كلاما هذا معناه.
فنحن نؤمن به ،
ونقر به ، ولا علم لنا إلّا ما علّمنا الله تعالى على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد :
وإذ قد بلغ الكلام هاهنا فنصله إن شاء الله تعالى راغبين في الأجر من الله عزوجل على بيان الحق فنقول ـ وبالله تعالى نتأيد ـ :
إن الله تعالى قد
نصّ ـ كما ذكرنا ـ على أنه أخذ من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم ، وهذا نصّ جليّ على
أنه عزوجل خلق أنفسنا كلها من عهد آدم عليهالسلام لأن الأجساد حينئذ ـ بلا شك ـ كانت ترابا وماء.
وأيضا : فإن
المكلّف المخاطب إنما هو النفس لا الجسد ، فصحّ يقينا أن نفوس كل من يكون من بني
آدم إلى يوم القيامة كانت موجودة مخلوقة حين خلق آدم بلا شك ، ولم يقل الله عزوجل : إنه أفنانا بعد ذلك ، ونصّ تعالى على أنه خلق الأرض
والماء حينئذ ، بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء
آية رقم ٣٠].
وقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [سورة يونس آية
رقم ٣]. وأخبر عزوجل : أنه خلقنا من طين ، والطين هو التراب والماء ، وإنما خلق
تعالى من ذلك أجسامنا ، فصحّ أن عنصر أجسامنا مخلوق منذ أوّل
__________________
خلقه تعالى
السماوات وأن أرواحنا وهي أنفسنا مخلوقة منذ أخذ الله تعالى عليها العهد. وهكذا
قال تعالى : (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [سورة الأعراف آية
رقم ١١١]. و «ثمّ» توجب في اللغة التي بها نزل القرآن التعقيب بمهلة ، ثم يصوّر
الله تعالى من الطين أجسامنا من اللحم والدّم والعظام ، بأن يحيل أعراض التراب
والماء وصفاتهما فتصير نباتا وحبّا وثمارا يتغذّى بها ، فتستحيل فينا لحما وعظما
ودما ، وعصبا ، وجلدا ، وغضاريف ، وشعرا ، ودماغا ، ونخاعا ، وعروقا ، وعضلا ، وشحما
، ومنيّا ، ولبنا فقط. وكذلك تعود أجسامنا بعد الموت ترابا ، ولا بدّ ، وتصعد
رطوبتها المائية ، وأما جمع الله تعالى الأنفس إلى الأجساد فهي الحياة الأولى بعد
افتراقها الذي هو الموت الأول ، فتبقى كذلك في عالم الدنيا ، الذي هو عالم
الابتلاء ، ما شاء الله تعالى. ثم ينقلنا بالموت الثاني الذي هو فراق الأنفس
للأجساد ثانية إلى البرزخ الذي تقيم فيه الأنفس إلى يوم القيامة ، وتعود أجسامنا
ترابا ـ كما قلنا ـ ثم يجمع الله عزوجل يوم القيامة بين أنفسنا وأجسادنا التي كانت بعد أن يعيدها
وينشرها من القبور ، وهي المواضع التي استقرّت أجزاؤها فيها ، لا يعلمها غيره ،
ولا يحصيها سواه عزوجل لا إله إلّا هو ، فهذه الحياة الثانية التي لا تبيد أبدا ،
ويخلّد الإنس والجن مؤمنهم في الجنة بلا نهاية ، وكافرهم في النار بلا نهاية.
وأما الملائكة ،
وحور العين ، فكلهم في الجنة فيها خلقوا من النور ، وفيها يبقون أبدا بلا نهاية ،
ولم ينقلوا عنها قط ، ولا ينقلون. هذا كله نص قول الله عزوجل ، إذ يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٨].
وإذ يقول تعالى
مصدّقا للقائلين : (رَبَّنا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [سورة غافر آية
رقم ١١].
فلا يشذ عن هذا
أحد إلا من أبانه الله تعالى بمعجزة ظهرت فيه ، كمن أحياه الله عزوجل آية لنبي كالمسيح عليهالسلام ، وكالذين (خَرَجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ
أَحْياهُمْ) [سورة البقرة
الآية ٢٤٣].
فهؤلاء ، والذي
أماته الله مائة عام ثم أحياه كلهم ماتوا ثلاث موتات وحيوا ثلاث مرات.
وأمّا من ظنّ أن
الصعقة التي تكون يوم القيامة موتا فقد أخطأ بنص القرآن الذي ذكرنا ، لأنها كانت
تكون حينئذ لكل أحد ثلاث موتات وثلاث إحياءات ، وهذا كذب وباطل ، وخلاف للقرآن.
وقد بيّن عزوجل هذا نصّا فقال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
شاءَ اللهُ) [سورة النمل آية
رقم ٨٧].
فبيّن تعالى أن
تلك الصعقة إنما هي فزع لا موت ، وبيّن ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها
وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [سورة الزمر آية
رقم ٦٨] الآية فبيّن تعالى أن تلك الصعقة مستثنى منها من شاء الله عزوجل ، وفسر بها الآية التي ذكرنا قبل ، وبيّنت أنها فزعة لا
موتة ، وكذلك فسّرها النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أول من يقوم فيرى موسى عليهالسلام قائما ، فلا يدري أكان ممن صعق فأفاق أم جوزي بصعقة الطور . فسمّاها إفاقة ، ولو كانت موتة ما سمّاها إفاقة بل إحياء
فكذلك كانت صعقة موسى عليه الصلاة السلام يوم الطور فزعة لا موتا ، قال تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ
قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٤٣].
هذا ما لا خلاف
فيه.
قال أبو محمد :
فصح بما ذكرنا أن الدور سبع ، وهي : عالمون ، كل عالم منها قائم بذاته ، فأولها :
دار الابتداء ، وعالمه ، وهو الذي خلق عزوجل فيه الأنفس جملة واحدة ، وأخذ عليها العهد ، هكذا نصّ
تعالى على أنها الأنفس بقوله عزوجل : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٧٢].
وهي دار واحدة ،
لأنهم كلّهم فيها مسلمون ، وهي دار طويلة على آخر النفوس جدّا ، إلّا على أوّل
المخلوقين فهي قصيرة عليهم جدّا.
وثانيها : هي دار
الابتلاء ، وعالمه : وهي التي نحن فيها ، وهي التي يرسل الله تعالى النفوس إليها
من عالم الابتلاء ، فتقيم فيه في أجسادها متعبدة ما أقامت حتى تفارقه جيلا بعد جيل
، حتى تستوفي جميع الأنفس المخلوقة بسكناها الموفق لها. ثم ينقضي هذا العالم ، وهي
دار قصيرة جدّا على كل نفس في ذاتها ، لأنّ مدة عمر
__________________
الإنسان فيها قليل
، ولو عمّر ألف عام ، فكيف بأعمار جمهور الناس التي هي من ساعة إلى حدود المائة
عام؟! ثم داران اثنتان للبرزخ ، وهما اللتان ترجع إليهما النفوس عند خروجها من هذا
الدار وفراقها أجسادها ، وهما عند سماء الدنيا نصّ على ذلك الرسول صلىاللهعليهوسلم وذكر أنه رأى ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام آدم في
سماء الدنيا ، وعن يمينه أسودة ، وعن يساره أسودة ، فسأل عنها فأخبر أنه نسم بنيه
، وأن الذين عن يمينه أرواح أهل السعادة ، والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء . وقد نصّ الله تعالى على هذا نصّا ، قال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما
أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [سورة الواقعة آية
رقم ٧ ـ ١٤].
وقال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [سورة الواقعة آية
رقم ٨٨ ـ ٩٤].
وقال تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولئِكَ أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) [سورة البلد آية
رقم ١٧ ـ ٢٠].
قال أبو محمد :
هكذا نصّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، على أن أرواح الشهداء في الجنة ، وكذلك الأنبياء بلا شك
، فمن الباطل أن يفوز الشهداء بفضل يحرمه الأنبياء وهم المقربون الذين ذكر الله
تعالى أنهم في الجنة ، إذ يقول تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [الواقعة : ٨٨ ،
٨٩].
فهاتان داران
قائمتان ، لم يدخل أهلهما بعد ، لا جنة ولا نارا بنص القرآن والسنة ، وقال تعالى :
(النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر آية
رقم ٤٦].
وقال تعالى حاكيا
عن الكفّار أنّهم يقولون يوم البعث : (يا وَيْلَنا مَنْ
بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [سورة يس آية رقم
٥٢.]
__________________
فصحّ أنهم لم
يعذّبوا في النّار بعد ، وهكذا جاءت الأخبار كلها بأن الجميع يوم القيامة يصيرون
إلى الجنة وإلى النّار ، لا قبل ذلك ـ حاشا الأنبياء والشهداء فقط ـ ولا ينكر
خروجهم من الجنة لحضور الحساب ، فقد دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الجنة ثم خرج عنها ، قال تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [سورة النجم آية
رقم ١٣ ـ ١٥].
وهما داران
طويلتان على أول النفوس جدّا ـ حاشا آخر المخلوقين ، فهي قصيرة عليهم جدّا ، وإنما
استقصرها الكفّار كما قال عزوجل في القرآن لأنهم انتقلوا عنها إلى عذاب النار ، نعوذ بالله
منها ، فاستقلوا تلك المدة ، وإن كانت طويلة حتّى ظنها بعضهم لشدة ما صاروا إليه
يوما أو بعض يوم. وقال بعضهم : (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا عَشْراً) [سورة طه آية رقم
١٠٣].
ثم الدار الخامسة
: هي عالم البعث ، وهو يوم القيامة ، وهو عالم الحساب مقداره خمسون ألف سنة قال
تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) [سورة المعارج : ٤
ـ ١١].
فصحّ أنه يوم
القيامة ، وبهذا أيضا جاءت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وأمّا الأيام التي
قال الله تعالى فيها : إنّ اليوم منها ألف سنة فهي آخر ، قال تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ
إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [سورة السجدة آية
رقم ٥].
وقال تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [سورة الحج آية
رقم ٤٧] فهي أيام أخر بنص القرآن. ولا يحل إحالة نصّ عن ظاهره بغير نصّ آخر أو
إجماع بيقين أو ضرورة حسّ.
ثم الدار السادسة
والسابعة : داران للجزاء ، وهما الجنة والنار وهما داران لا آخر لهما ، ولا فناء
لهما ولا لمن فيهما. نعوذ بالله من سخطه الموجب للنار ، ونسأله الرّضا منه الموجب
للجنة ـ وما توفيقنا إلا بالله الرحيم الكريم.
وأمّا من قال : إن
قوله تعالى في يوم القيامة : إنما هي مقدار خمسين ألف سنة لو تولّى ذلك الحساب
غيره فهو مكذّب لربه تعالى ، مخالف للقرآن ، ولقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في طول ذلك اليوم ، وبضرورة العقل ندري أنه لو كلف جميع
أهل الأرض محاسبة
أهل حضر واحد فيما
أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذلك ما قاموا به في ألف ألف عام ، فبطل هذا القول الكاذب
بيقين لا شك فيه. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وإذ قد بينا بطلان قول المعتزلة في تحكمهم على ربهم ، وإيجابهم عليه ما أوجبوا
بآرائهم السخيفة ، وتشبيههم إياه أنفسهم فيما يحسن منهم ويقبح ، وتجويزهم إياه
فيما فعل وقضى وقدر. فلنبين بحول الله وقوته أنهم المجورون له على الحقيقة لا نحن
، ثم نذكر ما نصّ الله تعالى عليه مصدّقا لقولنا ، ومكذبا لقولهم وبالله تعالى
التوفيق.
فنقول ـ وبالله عزوجل نتأيّد ـ إنّ من المحال البين أن يقول المعتزلة إننا نجوّر
الله تعالى. ونحن نقول : لا يجوز البتة ولا جار قط ، وأن كل ما فعل أن يفعل أيّ
شيء كان فهو العدل والحق والحكمة على الحقيقة لا شك في ذلك ، وأنه لا جور إلّا ما
سمّاه الله عزوجل جورا ، وهو ما ظهر في عصاة عباده من الجن والإنس ممن خالف
أمره تعالى ، وهو خالقه فيهم كما شاء فكيف يكن مجور الله عزوجل من هذه هي مقالته! إنما المجوّر لربه تعالى من يقول فيما
أخبر الله عزوجل : إن خلقه هذا جور وظلم ، فإن قائل هذا القول لا يخلو ضرورة
من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أنه مكذّب
لربّه عزوجل في إخباره في القرآن أنه برأ المصائب كلها وخلقها ، وأنه
تعالى خلقنا وما نعمل ، وأنه خلق كل شيء بقدر ، محرّف لكلام ربه تعالى الذي هو
غاية البيان عن مواضعه ، مبدّل له بعد ما سمعه ، وقد نصّ الله تعالى فيمن يحرف
الكلم عن مواضعه ، ويبدّله بعد ما سمعه ما نصّ . فهذه خطة كفران التزمها.
والثانية : وهي
تصديق الله عزوجل في إخباره بذلك ، وتجويره في فعله ، لا بدّ له من ذلك ،
وهذه أيضا خطة كفران التزمها ، أو الانقطاع والتناقض ، والثبات على اعتقاد الباطل
بلا حجة تقليدا للعيارين الشطار الفسّاق كالنظام ، والعلاف ، وبشر نخاس الرقيق ،
ومعمّر المتهم عندهم في دينه ، وثمانية الخليع المشهور بالقبائح والجاحظ ، وهو من
عرف هزلا وعيارة وانهمالا. وهذه أسلم الوجوه لهم. ونعوذ بالله من مثلها.
ثم هم بعد هذا
صنفان : أصحاب الأصلح ، وأصحاب اللطف. فأما أصحاب اللطف ، فإن أصحاب الأصلح
يصفونهم بأنهم مجوّرون لله ، مجهّلون له. وأصحاب
__________________
الأصلح : يصفهم
أصحاب اللطف بأنهم معجزون لله تعالى ، مشبّهون له بخلقه ، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَلاوَمُونَ) [سورة القلم آية
رقم ٣٠]. وقد نص تعالى على أنه يفعل ما يشاء بخلاف ما قالت المعتزلة ، فقال عزوجل : (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة المدثر آية
رقم ٣١].
وأمرنا عزوجل أن ندعوه فنقول : (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا
طاقَةَ لَنا بِهِ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٨٦].
قال أبو محمد :
وهذا غاية البيان في أنه عزوجل له أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وأنه لو شاء ذلك لكان من
حقه ، ولو لم يكن له ذلك لما أمرنا بالدّعاء في ألّا يحملنا ذلك ، ولكان الدعاء
بذلك كالدعاء في أن يكون إلها خالقا على أصوله. ونصّ تعالى ـ كما تلونا ـ على أنه
قد حمّل من كان قبلنا الإصر ـ وهو الثقل الذي لا يطاق. وأمرنا أن ندعوه بألّا يحمل
ذلك علينا.
وأيضا : فقد أمرنا
تعالى في هذه الآية أن ندعوه بأن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، وهذا هو تكليف
ما لا يطاق نفسه ، لأن النسيان لا يقدر أحد على الخلاص منه ، ولا يتوهم التحفظ منه
، ولا يمكن أحد دفعه عن نفسه ، فلو لا أن له تعالى أن يؤاخذ بالنسيان من شاء من
عباده ـ لما أمرنا بالدّعاء في النجاة منه. وقد وجدنا الأنبياء ـ عليهم الصلاة
والسلام ـ مؤاخذين بالنسيان. منهم : أبونا آدم صلىاللهعليهوسلم ـ قال الله تعالى
: (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [سورة طه آية رقم
١١٥].
يريد نسيانه عداوة
إبليس له الذي حذّره الله تعالى منه ، ثم أخذه على ذلك ، وأخرجه من الجنة ، ثم تاب
عليه. وهذا كلّه على أصول المعتزلة جور وظلم ، تعالى الله عن ذلك. وقال عزوجل : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكُوا) [سورة الأنعام آية
رقم ١٠٧]. و «لو» في اللغة التي بها نزل القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع
غيره فصحّ يقينا أن ترك الشرك من المشركين ممتنع لامتناع مشيئة الله تعالى لتركه.
وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة يونس آية
رقم ١٠٠].
ومشيئة الله هي
تفسير إذن الله ـ وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا
عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [سورة الأنعام آية
رقم ١١١].
فهذا نصّ جليّ على
أنه لا يمكن أحد أن يؤمن إلا بإذن الله عزوجل له في
الإيمان ـ فصحّ
يقينا أن كلّ من آمن فلم يؤمن إلا بإذن الله عزوجل ، وأنه تعالى شاء أن يؤمن ، وأنّ كل من لم يؤمن فلم يأذن
الله تعالى له في الإيمان ، ولا شاء أن يكون منه الإيمان.
هذا نصّ هاتين
الآيتين اللتين لا يحتملان تأويلا غيره أصلا ، وليس لأحد أن يقول : إنه تعالى عنى
الإكراه على الإيمان ، لأن نصّ الآيتين مانع من هذا التأويل الفاسد ، لأنه تعالى
أخبر أن كل من آمن فإنما آمن بإذن الله عزوجل ، وأنّ من لم يؤمن فإنّ الله تعالى لم يشأ أن يؤمن ،
فيلزمهم على هذا : أن كلّ مؤمن في العالم فمكره على الإيمان. وهذا شر من قول
الجهمية ، وأشد. فإن قالوا : إنّ إذن الله تعالى هاهنا إنما هو أمره ـ لزمهم ضرورة
أحد وجهين ، لا بدّ منهما :
إما أن يقولوا :
إن الله تعالى لم يأمر الكفار بالإيمان لأن النص قد جاء بأنه تعالى لو أذن لهم
لآمنوا.
وإمّا أن يقولوا :
إن كل من في العالم فهم مؤمنون لأنهم عندهم مأذون لهم في الإيمان ، إذا كان الإذن
هو الأمر. وكلا القولين كفر مجرد ، ومكابرة للعيان. ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد :
الإذن هاهنا ومشيئته تعالى هو خلق الله تعالى للإيمان فيمن آمن ، وقوله لإيمانه (كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس آية رقم
٨٢].
وعدم إذنه تعالى ،
وعدم مشيئته للإيمان هو ألّا يخلق في المرء الإيمان فلا يؤمن ، لا يجوز غير هذا
البتة ، إذ قد صحّ أن الإذن هاهنا ليس هو الأمر. وقال عزوجل : (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [سورة النحل آية
رقم ٣٦].
فأخبر تعالى أنه
هدى بعضهم دون بعض. وهذا عند المعتزلة جور. وقال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٧٩].
فنص على أنه خلقهم
ليدخلهم النار ، نعوذ بالله من ذلك.
وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة النحل آية
رقم ٩٣].
وأمر تعالى أن ندعوه
فنقول : (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [سورة آل عمران
آية رقم ٨].
فنص تعالى على أنه
يزيغ قلوب من لم يهدهم من الذين زاغوا إذ أزاغ الله
قلوبهم. وقال
تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة يونس آية
رقم ٣٣].
فقطع تعالى على أن
كلماته قد حقت على الفاسقين أنهم لا يؤمنون ، فمن الذي حقق عليهم ألّا يؤمنوا إلّا
هو عزوجل؟ وهذا جور عند المعتزلة.
قال أبو محمد :
وكل آية ذكرناها في باب الاستطاعة منهن حجة عليهم في هذا الباب وكل آية نتلوها إن شاء الله عزوجل في باب إثبات أن الله عزوجل أراد كون الكفر والفسق بعد هذا الباب منهن أيضا حجة عليهم في هذا الباب. وكذلك كل آية نتلوها إن شاء
الله عزوجل في إبطال قول من قال : ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما
أعطاه الله أبا جهل ، وفرعون ، وأبا لهب ، مما يستدعي الإيمان ـ فإنها حجة عليهم
في هذا الباب. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
واحتجت المعتزلة بقول الله تعالى : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا
بِالْحَقِ) [سورة الدخان آية
رقم ٣٨ ، ٣٩].
وبقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت آية
رقم ٤٦].
وبقوله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة النحل آية
رقم ١١٨].
وبقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات
آية رقم ٥٦].
وبقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت : ٤٦].
وبقوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ
الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [سورة الأنفال آية
رقم ٢٢ ـ ٢٣].
قال أبو محمد :
وهذه حجة لنا عليهم لأنه تعالى أخبر أنه قادر على أن يسمعهم والإسماع هاهنا :
الهدى بلا شك ، لأن آذانهم كانت صحاحا. ومعنى قوله تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ) إنما معناه بلا شك : لتولّوا عن الكفر ، وهم معرضون عنه ،
لا يجوز غير هذا ، لأنه محال أن يهديهم الله ، وقد علم من قلوبهم خيرا فلا يهتدوا
، هذا تناقض قد تنزّه كلامه عزوجل عنه ، فصحّ أنه كما ذكرنا يقينا.
قال أبو محمد :
وسائرها لا حجة لهم في شيء منه ، بل هو حجة لنا عليهم ،
__________________
وهو نصّ قولنا :
أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ، وأفعال العباد بين السماء والأرض بلا
شك ، فالله تعالى خلقها بالحق الذي هو اختراعه لها ، وكلّ ما فعل تعالى حق ، وإضلاله
من أضلّ حقّ له ومنه تعالى ، وهداه من هدى حق منه تعالى ، ومحاباته من حابى
بالنبوّة وبالطّاعة حق منه. ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال : إن الله
تعالى خلق شيئا بغير الحق ، أو أنه تعالى خلق شيئا لاعبا ، أو أنه تعالى ظلم أحدا
، بل فعله عدل وصلاح ، ولقد ظهر لكل ذي فهم أننا قائلون بهذه الآيات على نصّها
وظاهرها فأيّ حجة لهم علينا في هذه النصوص لو عقلوا؟! وأمّا المعتزلة فيقولون :
إنه تعالى لم يخلق كثيرا مما بين السماوات والأرض ، لا سيما عبّاد بن سلمان منهم
تلميذ هشام بن عمرو الفوطي القائل : إن الله تعالى لم يخلق الجدب ، ولا الجوع ،
ولا الأمراض ، ولا الكفار ، ولا الفسّاق. ومحمد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جعفر
بن حرب القائل : إن الله تعالى لم يخلق العيدان ، ولا المزامير ، ولا الطنابير ،
وكل ذلك ليس بخلق من خلق الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
وهم يقولون : إن
الله عزوجل لو حابى أحدا لكان ظالما لغيره ، وقد صحّ أن الله تعالى
حابى موسى وإبراهيم ويحيى ومحمدا صلوات الله عليهم دون غيرهم ودون أبي لهب ، وأبي
جهل ، وفرعون ، والذي حاجّ إبراهيم في ربّه ، فعلى قول المعتزلة : يجب أن الله
تعالى ظلم هؤلاء الذين حابى غيرهم عليهم ، وهذا ما لا مخلص لهم منه إلا بترك قولهم
الفاسد.
وأمّا قوله تعالى
: (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات
آية رقم ٥٦].
فهكذا نقول : ما
خلقهم الله تعالى إلا ليكونوا له عبادا مصرّفين بحكمه فيهم منقادين لتدبيره إيّاهم
، وهذه حقيقة العبادة ، والطّاعة أيضا عبادة.
وقال تعالى حاكيا
عن القائلين : (أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [سورة المؤمنون
آية رقم ٤٧] وقد علم كل أحد أن قوم موسى عليهالسلام لم يعبدوا قط فرعون عبادة تديّن لكن عبدوه عبادة تذلّل ،
فكانوا له عبيدا ، فهم له عابدون. وكذلك قول الملائكة عليهمالسلام (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سورة سبأ : ٤١].
وقد علم كل أحد
أنهم لم يعبدوا الجن عبادة تدين ، لكن عبدوهم عبادة تصرف لأمرهم ، وإغوائهم ،
فكانوا لهم بذلك عبيدا. فصحّ القول بأنهم يعبدونهم ، وهذا بيّن.
وقال بعض أصحابنا
معنى هذه الآية : أنه تعالى خلقهم ليأمرهم بعبادته ، ولسنا نقول بهذا ، لأن فيهم
من لم يأمره الله تعالى قط بعبادته ، كالأطفال والمجانين ، فصار تخصيصا للآية بلا
برهان ، والذي قلناه هو الحق لا شك فيه ، لأنه المشاهد المتيقّن العامّ لكل واحد
منهم.
وأمّا ظن المعتزلة
في هذه الآية فباطل يكذبه إجماعهم معنا أن الله تعالى لم يزل يعلم أن كثيرا منهم
لا يعبدونه ، فكيف يجوز أن يخبر أنه خلقهم لأمر قد علم أنه لا يكون منهم ، إلّا أن
يصيروا إلى قول من يقول : إنه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون ، فيتم كفر من لجأ إلى
هذا ، ولا يخلصون مع ذلك من نسبة العبث إلى الخالق تعالى إذ غرّر من خلق فيما لا
يدري أيعطبون فيه أم يفوزون؟ وتحيّرت المعتزلة القائلون بالأصلح وبإبطال المحاباة
في وجه العدل في ستة عشر بابا وهي : العدل في إدامة العذاب ، العدل في إيلام
الحيوان ، العدل في تبليغ من في المعلوم أنه يكفر ، العدل في المخلوق ، العدل في
إعطاء الاستطاعة ، العدل في الإرادة ، العدل في البدل ، العدل في الأمر ، العدل في
عذاب الأطفال ، العدل في استحقاق العذاب ، العدل في المعرفة ، العدل في إخلاف
أحوال المخلوقين ، العدل في اللطف ، العدل في الأصلح ، العدل في نسخ الشرائع ،
العدل في النبوة.
الكلام في هل شاء الله عزوجل كون الكفر والفسق
وأراده تعالى من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك
ولا أراد كونه
قال أبو محمد :
قالت المعتزلة : إن الله تعالى لم يشأ أن يكفر الكافر ، ولا أن يفسق الفاسق ، ولا
أن يشتم تعالى ، ولا أن يقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، واحتجوا بقول الله عزوجل : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [سورة الزمر آية
رقم ٧] وبقوله تعالى : (اتَّبَعُوا ما
أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [سورة محمد آية
رقم ٢٨]. وقالوا : من فعل ما أراد الله فهو مأجور محسن ، فإن كان الله تعالى أراد
أن يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق فقد فعلا جميعا ما أراد الله تعالى منهما ، فهما
محسنان مأجوران.
وذهب أهل السنة :
أن لفظة «شاء» و «أراد» لفظة مشتركة تقع على معنيين : أحدهما الرضى والاستحسان ،
فهذا منهيّ عن الله تعالى أنه أراده أو شاءه في كل ما نهى عنه. والثاني : أن يقال
: أراد وشاء بمعنى أراد كونه وشاء وجوده ، فهذا هو الذي نخبر به عن الله عزوجل في كل موجود في العالم من خير أو شرّ.
فسلكت المعتزلة
سبيل السفسطة في التعلق بالألفاظ المشتركة الواقعة على معنيين فصاعدا والتمويه
الذي يضمحل إذا فتش ويفتضح إذا بحث عنه ، وهذه سبيل الجهّال الذين لا حيلة بأيديهم
إلا المخرقة.
وقال أهل السنة :
ليس من فعل ما أراد الله تعالى وما شاء الله ، كان محسنا ، إنما المحسن من فعل بما
أمره الله تعالى به ، ورضيه منه.
قال أبو محمد :
ونسألهم فنقول لهم : أخبرونا ، كان الله تعالى قادرا على منع الكافر من الكفر ،
والفاسق من الفسق ، وعلى منع من شتمه من النطق به ، ومن إمراره
__________________
على خاطره وعلى
المنع من قتل من قتل من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أم كان عاجزا عن المنع من
ذلك؟
فإن قالوا : لم
يكن قادرا على المنع من شيء من ذلك ، فقد أثبتوا له معنى العجز ضرورة ، وهذا كفر
مجرد ، وإبطال لألوهيته تعالى ، وقطع عليه بالضعف والنقص وتناهي القوة ، وانقطاع
القدرة ، مع التناقض الفاحش ، لأنهم مقرون أنه تعالى هو أعطاهم القوة التي بها كان
الكفر والفسق ، وشتمه تعالى ، وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فمن المحال
المحض أن يكون تعالى لا يقدر على ألّا يعطيهم الذي أعطاهم وهذه صفة المضطر المجبر.
وإن قالوا : بل هو
قادر على منعهم من كل ذلك أقروا ضرورة أنه مريد لبقائهم على الكفر ، وأنه المبقي
للكافر وللكفر ، وخالق الزمان الذي امتدّ فيه الكافر على كفره ، والفاسق على فسقه
، وهذا نفسه هو قولنا : إنه أراد كون الكفر والفسق والشتم له وقتل الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ، ولم يرض عن شيء من ذلك ، بل سخطه تعالى وغضب على فاعله.
وقالت المعتزلة :
إن كان الله تعالى أراد كون كل ذلك فهو إذا يغضب مما أراد.
قال أبو محمد :
ونحن نقرأ أنه تعالى يغضب على فاعل ما أراد كونه منه ، ثم نعكس عليهم هذا السؤال
بعينه فنقول لهم :
فإذ هذا عندكم
منكر ، وأنتم مقرّون بأنه قادر على المنع منه فهو عندكم يغضب مما أقرّ ، ويسخط ما
يقرّه ولا يغيّره ، ويثبت ما لا يرضى ، وهذا هو الذي شنّعوا فيه ، ولا يقدرون على
دفعه ، والشناعة عليهم راجعة لأنهم أنكروا ما لزمهم وبالضرورة ندري أن من قدر على
المنع من شيء فلم يفعل ولا منع منه فقد أراد وجود كونه ، ولو لم يرد كونه لغيره ،
ولمنع منه ، ولما تركه يفعل.
فإن قالوا : إنه
حكيم ، وخلّاهم دون منع لسرّ من الحكمة له في ذلك.
قيل لهم : فاقنعوا
بمثل هذا الجواب ممن قال لكم : إنه أراد كونه لأنه حكيم كريم عزيز ، وله في ذلك
سرّ من الحكمة.
قال أبو محمد :
وأمّا نحن فنقول : إنه تعالى أراد كون كلّ ذلك ، ولا سرّ هاهنا ، وأن كل ما فعل
فهو حكمة وحق ، وأن قولهم هذا هادم لمقدّمتهم الفاسدة أنه يقبح من الباري تعالى ما
يقبح منّا ، وفيما بيننا ، وما علم قط ذو عقل أن من خلّى منا عدوّه منطلق اليد على
وليّه وأحبّ الناس إليه يقتله ويعذّبه ويلطمه ويهينه ، ويتركه ينطلق على
عبيده وإمائه يفجر
بهم وبهنّ طوعا وكرها والسيّد حاضر يرى ويسمع ، وهو قادر على المنع من ذلك فلا
يفعل بل لا يقنع بتركهم حتّى يعطي عدوّه القوة على كل ذلك ، والآلات المعينة له ،
ويمده بالقوى شيئا بعد شيء فليس حكيما ، ولا حليما ، ولكنه عابث ظالم جائر ،
فيلزمهم على أصلهم الفاسد أن يحكموا على الله تعالى بكل هذا لأنهم معترفون بأنه
تعالى فعل كل هذا وهذا لا يلزمنا لأننا نقول : إن الله تعالى يفعل ما يشاء ، وأن
كلّ ما فعل مما ذكرنا وغيره فهو كله منه تعالى حكمة ، وحق ، وعدل «لا يسأل عما
يفعل وهم يسألون».
فبطل بضرورة
المشاهدة قولهم : إن الله تعالى لم يرد كون الكفر ، أو كون الفسق ، أو كون شتمه
تعالى ، وقتل أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، ولو لم يرد كونه لمنع من ذلك كما منع
من كون كل ما لم يرد أن يكون.
قال أبو محمد :
ويكفي من هذا كله اجتماع الأمة على قول «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن». فهذا
على عمومه موجب أن كل ما في العالم كان أو يكون ـ أيّ شيء كان فقد شاءه الله تعالى
، وكل ما لم يكن ولا يكون فلم يشأه الله تعالى.
وقد نص الله تعالى
نصّا لا يحتمل تأويلا على أنه تعالى أراد كون كل ذلك ، فمن ذلك قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [سورة التكوير آية
رقم ٢٨ ، ٢٩].
فنصّ تعالى نصّا
جليا على أنه لا يشاء أحد استقامة على طاعته تعالى إلّا إن شاء الله تعالى أن
يستقيم ، فلو صحّ قول المعتزلة : أنّ الله تعالى شاء أن يستقيم كل مكلف لكان بنص
القرآن كل مكلف مستقيما ، لأن الله تعالى عندهم قد شاء ذلك ، وهذا تكذيب مجرّد لله
تعالى ، نعوذ بالله من مثله. فصح يقينا لا مدخل للشك في صحته أنه تعالى شاء خلاف
الاستقامة منهم ، ولم يشأ أن يستقيموا بنص القرآن ، وقال تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا
مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا
مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة المدثر آية
رقم ٣١].
قال أبو محمد :
وهذه الآية غاية في البيان في أنّ الله تعالى جعل عدة ملائكة النار فتنة للذين
كفروا ، وليقولوا : ما ذا أراد الله بهذا مثلا ، فأخبر تعالى : أنه أراد أن يفتن
الذين كفروا ، وأن يضلهم فيضلوا ، وأنه تعالى قصد إضلالهم وحكم بذلك كما قصد
هدى المؤمنين
وأراده ، وكذلك قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [سورة فصلت : آية
رقم ٤٤].
قال أبو محمد :
فنص تعالى على أنه نزل القرآن هدى للمؤمنين ، وعمى للكفار ، وبيقين ندري أنه تعالى
إذ أنزل القرآن أراد أن يكون كما قال تعالى : عمى للكفار ، وهدى للمؤمنين وقال
تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [سورة يونس آية
رقم ٩٩ ، ١٠٠].
هكذا هي الآية
كلها موصولة بعضها ببعض فنص تعالى على أنه لو شاء لآمن الناس والجن ، وهم أهل
الأرض كلهم ، و «لو» في لغة العرب التي بها خاطبنا الله عزوجل ليفهمنا حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره ، فصحّ
يقينا أن الله تعالى لم يشأ أن يؤمن كل من في الأرض ، وإذ لا شك في ذلك فباليقين
ندري أنه شاء منهم خلاف الإيمان وهو الكفر والفسق لا بدّ ، ولو كان الله تعالى أذن
للكافرين بالإيمان على قول المعتزلة لكان كل من في الأرض قد آمن ، لأنه تعالى قد
نص على أنه لا يؤمن أحد إلا بإذنه ، وهذا أمر من المعتزلة يكذبه العيان ، فصح أن
المعتزلة كذبت ، وأن الله تعالى صدق ، وأنه لم يأذن قط لمن مات كافرا بالإيمان ،
وأن من عمي عن هذه لأعمى القلب وكيف لا يكون أعمى القلب ، من أعمى الله قلبه عن
الهدى؟ وبالضرورة ندري أن قول الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) حق ، وأنّ من لم يأذن الله تعالى له في الإيمان فإنه تعالى
لم يشأ أن يؤمن ، وإذ لم يشأ أن يؤمن فبلا شك أنه تعالى شاء أن يكفر ، هذا ما لا
انفكاك منه. وقال تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [سورة الأنعام آية
رقم ١١١].
فبين تعالى أتمّ
بيان على أنّ الآيات لا تغني شيئا ولا النذر ، وهم الرسل ، وأنه لا يؤمن شيء من
ذلك إلا من شاء الله عزوجل أن يؤمن ـ فصح يقينا أنه لا يؤمن إلّا من شاء الله إيمانه
، ولا يكفر إلّا من شاء الله كفره ، فقال تعالى حاكيا عن يوسف عليهالسلام أنه قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ
لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) [سورة يوسف آية
رقم ٣٣].
فبالضرورة نعلم :
أن من صبا وجهل فإنّ الله تعالى لم يصرف عنه الكيد الذي
صرفه برحمته عن من
لم يصب ولم يجهل ، وإذ صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض فقد أراد تعالى إضلال
من صبا وجهل. قال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [سورة الأنعام آية
رقم ٢٥].
فليت شعري إذ قال
تعالى : إنه جعل قلوب الكافرين في أكنة أن يفقهوا القرآن ، وجعل الوقر في آذانهم ،
أتراه أراد أن يفقهوه ، أو أراد ألا يفقهوه؟ وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى
أنه فعل عزوجل شيئا لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه ، ولا شاء إيجاده؟
وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل ـ فصحّ يقينا أن الله تعالى أراد
كون الوقر في آذانهم ، وكون الأكنة على قلوبهم.
وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة النحل آية
رقم ٩٣].
فنصّ تعالى على
أنه لم يرد أن يجعلنا أمة واحدة ، ولكن شاء أن يضل قوما ويهدي قوما ، فصحّ يقينا
أنه تعالى شاء إضلال من ضل ، وقال تعالى مثنيا على قوم ، ومصدقا لهم في قولهم : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً
إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ
لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [سورة الأعراف آية
رقم ٨٩].
فقال النبيون
عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم قول الحق الذي شهد الله عزوجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم
منه ، ولم ينج الكافرين منه ، وأن الله تعالى إن شاء أن يعودوا في الكفر عادوا فيه
ـ فصح يقينا أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر.
وقد قالت المعتزلة
في هذه الآية : معنى هذا إلّا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم
الحجر الأسود والكعبة.
قال أبو محمد :
وهذا في غاية الفساد ، لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عودا في ملة الكفر بل
كان يكون ثباتا على الإيمان وتزايدا فيه. قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ
اللهُ مَرَضاً) [سورة البقرة آية
رقم ١٠].
فليت شعري إذ
زادهم الله مرضا أتراه لم يشأ ، ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم ، وهو
الشك والكفر؟ وكيف يفعل الله ما لا يريد أن يفعل؟ وهل هذا إلّا إلحاد مجرد ممن
قاله؟ وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ
وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ
اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٥٣].
فنصّ تعالى على
أنه لو شاء لم يقتتلوا ، فوجب ضرورة أنه شاء وأراد أن يقتتلوا وفي اقتتال
المقتتلين ضلال بلا شك ، فقد شاء الله تعالى كون الضلال ووجوده بنص كلامه تعالى ،
وقال عزوجل : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ
فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [سورة المائدة آية
رقم ٤١].
فنص تعالى على أنه
أراد فتنة المفتتنين ، وهم الكفار وكفرهم الذين لم يملك لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الله شيئا ، فهذا نص على أن الله تعالى أراد كون الكفر
من الكفار. وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة المائدة آية
رقم ٤١].
قال أبو محمد :
وهذا غاية البيان في أنه تعالى لم يرد أن يطهر قلوبهم وبالضرورة ندري أن من لم يرد
الله أن يطهر قلبه فقد أراد فساد دينه الذي هو ضد طهارة القلب ، وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدى) [سورة الأنعام آية
رقم ٣٥].
وهذا غاية البيان
في أنّ الله تعالى لم يرد هدى الجميع ، وإذ لم يرد هداهم فقد أراد كون كفرهم الذي
هو ضدّ الهدى ، وقال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة السجدة آية
رقم ١٣].
قال أبو محمد :
هذا غاية البيان في أنه تعالى لم يشأ هدى الكفار لكن حق قوله بأنّهم لا بدّ من أن
يكفروا فيكونوا من أهل جهنم. وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ
يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة الأنعام آية
رقم ٣٩].
فأخبر تعالى أنه
شاء أن يضل من أضله ، وشاء أن يهدي من جعله على صراط مستقيم ، وهم بلا شك غير
الذين لم يجعلهم على صراط مستقيم ، وأراد فتنتهم وألّا يطهر قلوبهم ، وأن يكونوا
من أصحاب النار ، نعوذ بالله من ذلك. وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه الصلاة
والسلام أنه قال : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [سورة الأنعام آية
رقم ٧٧].
فشهد الخليل عليهالسلام أن من لم يهده الله تعالى ضلّ. وصحّ أن من ضلّ لم يهده
الله عزوجل ، ومن لم يهده الله وهو قادر على هداه فقد أراد ضلاله
وإضلاله ، ولم يرد هداه.
وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) [سورة الأنعام آية
رقم ١٠٧].
فصح يقينا لا
إشكال فيه أن الله تعالى شاء أن يشركوا إذ نص على أنه لو شاء ألا يشركوا ما
أشركوا. وقال تعالى : (يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [سورة الأنعام آية
رقم ١١٢].
وهذا نصّ على أنه
تعالى شاء أن يفعلوه ، إذ أخبر أنه لو شاء ألّا يفعلوه ما فعلوه وقال تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا
عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) [سورة الأنعام آية
رقم ١٣٧].
فنص تعالى على أنه
لو لم يشأ أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ما أوحوه ولو شاء ألا يلبس
بعضهم دين بعض ، وألا يقتلوا أولادهم ما لبس عليهم دينهم ، ولا قتلوا أولادهم ،
فصحّ ضرورة أنه تعالى شاء أن يلبس دين من التبس دينه وأراد كون قتلهم أولادهم ،
وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ) [سورة النساء آية
رقم ٩٠].
فصحّ يقينا أنه
تعالى سلّط أيدي الكفار على من قتلوه من الأنبياء والصالحين وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام آية
رقم ١٢٥].
فنص على أنه يريد
هدى قوم فيهديهم ويشرح صدورهم للإيمان ، ويريد ضلال آخرين فيضلهم بأن يضيق صدورهم
ويحرجها فكأنهم كلّفوا الصعود إلى السماء فيكفروا. وقال تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [سورة النحل آية
رقم ١٢٧].
فنص تعالى على أن
من صبر فصبره ليس إلّا بالله ـ فصحّ أن من صبر فإن الله آتاه الصبر ، ومن لم يصبر
فإن الله عزوجل لم يؤته الصبر. وقال تعالى : (وَلا تَنازَعُوا) [سورة الأنفال :
٤٦] فنهانا عن الاختلاف. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [سورة هود آية رقم
١١٩].
فنص تعالى أنه
خلقهم للاختلاف إلّا من رحم الله منهم ، ولو شاء لم يختلفوا فصحّ يقينا أن الله
خلقهم لما نهاهم عنه من الاختلاف وأراد كون الاختلاف منهم. وقال عزوجل : (تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ
مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة آل عمران
آية رقم ٣٦].
وقال تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) [سورة الإسراء :
آية رقم ٥] إلى قوله تعالى : (وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [سورة الإسراء آية
رقم ٧].
فنص تعالى على أنه
أغرى الكفار وسلب المؤمنين في الملك ، وأنه بعث أولئك الذين دخلوا المسجد ، ودخلوه
مسخطين لله تعالى بلا شك. فصح يقينا أنه تعالى خلق
كل ذلك وأراد كونه
، وقال عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٥٨].
فهذا نصّ على أن
الله آتى الملك ذلك الكافر ، فصح يقينا أن الله تعالى فعل تمليكه وملكه على أهل
الإيمان ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك يسخط الله عزوجل ، ويغضبه ولا يرضاه ، وهو نفس الذي أنكرته المعتزلة ،
وشنعت به.
قال أبو محمد :
ونسألهم عما مضت الدنيا عليه منذ كانت من أولها إلى يومنا هذا من النصر النازل على
ملوك أهل الشرك ، والملوك الجورة ، والظلمة ، والغلبة المعطاة لهم على من ناوأهم
من أهل الإسلام ، وأهل الفضل ، واخترام من أرادهم بالموت أو باضطراب الكلمة ، ويأتي النصر لهم
بوجوه الظفر الذي لا شك في أن الله تعالى فاعله من إماتة أعدائهم من أهل الفضل ،
وتأييدهم عليهم. وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى أراد كونه وقال عزوجل : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ
انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [سورة التوبة آية
رقم ٤٦].
فنص تعالى نصّا
جليا لا يحتمل تأويلا على أنه كره أن يخرجوا في الجهاد الذي افترض عليهم الخروج
فيه مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقد كره تعالى كون ما أراد ونصّ على أنه ثبطهم عن الخروج
في الجهاد ثم عذّبهم على التثبيط الذي أخبر تعالى أنه فعله. ونصّ تعالى على أنه
قال (اقْعُدُوا مَعَ
الْقاعِدِينَ). وهذا يقين ليس بأمر إلزام لأنّ الله تعالى لم يأمرهم
بالقعود عن الجهاد مع رسوله صلىاللهعليهوسلم بل لعنهم وسخط عليهم إذ قعدوا ؛ فإذ لا شك في هذا فهو
ضرورة أمر تكوين ، فصح أن الله تعالى خلق قعودهم المغضب له الموجب لسخطه ، وإذا
نصّ تعالى على أمر فلا اعتراض لأحد عليه. وقال عزوجل : (فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [سورة التوبة آية
رقم ٥٥].
وهذا نصّ جليّ على
أنه عزوجل أراد أن يموتوا وهم كافرون ، وأنه تعالى أراد كفرهم ،
والقاف من (تَزْهَقَ) مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء ، معطوفة على ما أراد
الله عزوجل من أن يعذبهم بها في الدنيا ، «والواو» تدخل المعطوف في
حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى.
قال أبو محمد :
فإن قال قائل : فإن الله عزوجل قال في الّذين قعدوا عن
__________________
الخروج مع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : (لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ
الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) [سورة التوبة آية
رقم ٤٧].
فلهذا ثبطهم.
قلنا : لا عليكم ،
أكانوا مأمورين بالخروج معه عليهالسلام متوعدين بالنار إن قعدوا بغير عذر ، أم كانوا غير مأمورين
بذلك؟ فإذ لا شك في أنهم كانوا مأمورين فقد ثبطهم الله عزوجل عما أمرهم به ، وعذّبهم على ذلك ، وخلق قعودهم عمّا أمرهم
به.
ثم نقول لهم : أكان
تعالى قادرا على أن يكف عن أهل الإسلام خبالهم وفتنتهم لو خرجوا معهم أولا؟
فإن قالوا : لم
يكن قادرا على ذلك عجّزوا ربّهم تعالى ، وإن قالوا إنه تعالى كان قادرا على ذلك
رجعوا إلى الحق وأقروا أن الله تعالى ثبّطهم ، وكره كون ما افترض عليهم ، وخلق قعودهم
الذي عذّبهم عليه ، ولا مهم عليه كما شاء لا معقّب لحكمه ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
فإذ جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلا بأنه عزوجل أراد ضلال من ضل وشاء ، وكفر من كفر ـ فقد علمنا ضرورة أن
كلام الله تعالى لا يتعارض ، فلما أخبر عزوجل أنه لا يرضى لعباده الكفر فبالضرورة علمنا أن الذي نفى عزوجل هو غير الذي أثبت. فإذ لا شك في ذلك ، فالذي نفى تعالى هو
الرضا بالكفر ، والذي أثبت هو الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده ، وهما معنيان
متغايران بنص القرآن وحكم اللغة.
فإن أبت المعتزلة
من قبول قول كلام ربهم ، وكلام نبيهم صلىاللهعليهوسلم ، وكلام إبراهيم ويوسف وشعيب ، وسائر الأنبياء صلّى الله
عليهم وسلم ، وأبت أيضا من قبول اللغة ، وما أوجبته البراهين الضرورية ممّا شهدت
به الحواسّ والعقول من أنّ الله تعالى لو لم يرد كون ما هو موجود كائن لمنع منه ،
وقد قال تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) [سورة الأعراف :
آية رقم ٩٢].
فشهد الله تعالى
بتكذيبهم ، واستعاضته من ذلك بأصول المنّانية أن الحكيم لا يريد كون الظلم ، ولا
يخلقه ، (وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة آية
رقم ١٠٢].
ولقد لجأ بعضهم
إلى أن قال : إن لله تعالى في هذه الآيات معنى ومرادا لا نعلمه.
قال أبو محمد :
وهذا تجاهل ظاهر ، وراجع لنا عليهم سواء بسواء في خلق الله تعالى أفعال عباده ثم
يعذبهم عليها ، ولا فرق. فكيف وهذا كله لا معنى له بل الآيات كلها حق على ظاهرها ،
لا يحل صرفها عنه لأن الله تعالى قال : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [سورة محمد : ٢٤].
وقال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) [سورة يوسف : ٢].
وقال تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٩]
وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [سورة العنكبوت :
٥١].
وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [سورة إبراهيم : ٤].
فأخبر تعالى أن
القرآن تبيان لكل شيء.
فقالت المعتزلة :
إنه لا يفهمه أحد وأنه ليس تبيانا نعوذ بالله من مخالفة الله عزوجل ومخالفة رسوله صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد :
ولا فرق بين ما تلونا من الآيات في أن الله تعالى شاء كون الكفر والضلال وبين قوله
تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [سورة آل عمران :
٢٦].
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [سورة الحج : ١٨].
وقوله تعالى : (يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة آل عمران :
١٧٩].
وقوله : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة :
٢١٢].
وقوله تعالى : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة :
١٠٥].
وقوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [سورة هود : ١٠٧ ،
البروج : ١٦].
فهذا العموم جامع
لمعاني هذه الآيات ونص القرآن وإجماع الأمة على أن الله عزوجل حكم بأن من حلف فقال : إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله
على أي شيء حلف فإنه إن فعل ما حلف عليه لا يفعله فلا حنث عليه ولا كفارة تلزمه
لأن الله تعالى لو شاء لأنفذه.
وقال عزوجل : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [سورة الكهف : ٢٣].
قال أبو محمد :
فإن اعترضوا بقول الله عزوجل : (وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) [سورة الزخرف : ٢٠].
فلا حجة لهم في
هذه الآيات لأن الله عزوجل لا يتناقض كلامه بل يصدق بعضهم بعضا وإذ قد أخبر تعالى أنه
لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وأنه لو لم يشأ أن يشركوا ما أشركوا وأنه شاء إضلالهم
وأنه لا يريد أن يطهّر قلوبهم فمن المحال الممتنع أن يكذّب الله عزوجل قوله الذي أخبر به وصدقه فإذ لا شك في هذا فإنّ في الآية
التي ذكروا بيان نقض اعتراضهم بها بأوضح برهان وهو أنه لم يقل تعالى إنهم كذبوا في
قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم فكان يكون لهم حينئذ في الآية متعلق وإنما أخبر
تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم عندهم لكن تخرصا ليس في هذه الآية معنى غير هذا
أصلا وهذا حق وهو قولنا إن الله تعالى لم ينكر قط فيها ولا في غيرها معنى قولهم لو
شاء الرحمن ما عبدناهم بل صدّقه في الآيات الأخرى وإنما أنكر عزوجل أن قالوا ذلك بغير علم لكن بالتخرص وقد أكذب بالله عزوجل من قال الحق الذي لا حق أحق منه إذ قاله غير معتقد له.
قال عزوجل : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [سورة المنافقون :
١].
قال أبو محمد :
فلما قالوا أصدق الكلام وهو الشهادة لمحمد صلىاللهعليهوسلم بأنه رسول غير معتقدين لذلك سمّاهم الله تعالى كاذبين
وهكذا فصل عزوجل في قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ،
لما قالوا هذا الكلام الذي هو الحق غير عالمين بصحته أنكر تعالى عليهم أن يقولوه
متخرصين وبرهان هذا قوله قول الله تعالى إثر هذه الآية نفسها : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ
فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [سورة الزخرف : ٢١
، ٢٢].
فبين تعالى أنهم
قالوا ذلك بغير علم من كتاب أتاهم وأن الذين قالوا معتقدين له إنما هو أنهم اهتدوا
باتباع آثار آبائهم ، فهذا هو الذي عقدوا عليه وهذا أنكره تعالى عليهم لا قولهم لو
شاء الرحمن ما عبدناهم فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا والحمد لله رب
العالمين. فإن اعترضوا بقول الله عزوجل (وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [سورة النحل : ٣٥].
قال أبو محمد :
فإن سكتوا هاهنا لم يهمهم التمويه. وقلنا لهم : صلوا القراءة وأتموا معنى الآية
فإن بعد قوله تعالى : (فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) متصلا به :
(وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [سورة النحل : ٣٦].
قال أبو محمد :
فآخر هذه الآية تبين أوّلها وذلك أن الله تعالى أيضا لم يكذبهم فيما قالوه من ذلك
بل حكى عزوجل أنهم قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما
عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٣٥]
ولم يكذبهم في ذلك أصلا بل حكى هذا القول عنهم كما حكى تعالى أيضا قولهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة لقمان : ٢٥]
ولو أنكر عزوجل قولهم ذلك لأكذبهم فإذ لم يكذبهم فلقد صدقهم في ذلك والحمد
لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
فإن اعترضوا بقول الله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [سورة الأنعام :
١٤٨ ـ ١٥١].
قال أبو محمد :
إنما تلونا جميع الآيات على نسقها في القرآن واتصالها خوف أن يعترضوا بالآية
ويسكتوا عند قوله «تخرصون» فكثيرا ما احتجنا إلى بيان مثل هذا من الاقتصار على بعض
الآية دون بعضها من تمويه من لا يتقي الله عزوجل.
قال أبو محمد :
فهذه الآية من أعظم حجة الله على القدرية لأنه تعالى لم ينكر عليهم قولهم ولو شاء
الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ولو أنكره لكذبهم فيه وإنما أنكر
تعالى قولهم ذلك بغير علم وإن وافقوا الصدق والحق كما قدمنا آنفا وقد بين تعالى
أنه إنما أنكر عليهم ذلك بقوله عزوجل في الآية نفسها (إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).
ثم لم يدعنا تعالى
في لبس من ذلك بل وأتبع ذلك نسقا واحدا ، بأن قال : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).
فصدقهم عزوجل في قولهم أنه لو شاء ما أشركوا ولا آباؤهم ولا حرموا ما
حرموا ، وأخبر تعالى أنه لو شاء لهداهم فاهتدوا وبين تعالى أن له الحجة عليهم في
ذلك ولا حجة لأحد عليه تعالى ، وأنكر عزوجل أن أخرجوا ذلك مخرج العذر
لأنفسهم أو مخرج
الاحتجاج على الرسل عليهمالسلام كما تفعل المعتزلة ثم بين تعالى أنه إنما أنكر أيضا
تكذيبهم رسله بقوله تعالى : (كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة الأنعام :
١٤٨] بالذّال المشددة بلا خلاف من القرّاء ، ودعواهم أن الله تعالى حرّم ما ادعوا
تحريمه وهم كاذبون ، بقوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) [سورة الأنعام آية
رقم ١٥٠].
فوضح بكل ما ذكرنا
بطلان قول المعتزلة والجهال وبان صحة قولنا أن الله تعالى شاء كل ما في العالم من
إيمان وشرك وهدى وضلال وأن الله تعالى أراد كون ذلك كله وكيف يمكن أن ينكر تعالى
قولهم لو شاء الله ما أشركنا وقد أخبرنا عزوجل هذا نصا في قوله في السورة نفسها : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شاءَ اللهُ
ما أَشْرَكُوا) [سورة الأنعام ١٠٥
، ١٠٦] فلاح يقينا صدق ما قلنا من أنه تعالى لم يكذبهم في قولهم لو شاء الله ما
أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وهذا مثل ما ذكر الله تعالى من قولهم (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ
أَطْعَمَهُ) [سورة يس : ٤٧]
فلم يورد الله عزوجل قولهم هذا تكذيبا له بل صدقوا في ذلك بلا شك ولو شاء الله
لأطعم الفقراء والمجاويع.
وما نرى المعتزلة
تنكر هذا وإنما أورد الله تعالى قولهم هذا لاحتجاجهم به في الامتناع من الصدقة
وإطعام الجائع وبهذا نفسه احتجت المعتزلة على ربها ، إذ قالت يكلفنا ما لا يقدرنا
عليه ، ثم يعذبنا بعد ذلك على ما أراد كونه منا ؛ فسلكوا مسلك القائلين لم كلفنا
الله عزوجل إطعام هذا الجائع ولو أراد إطعامه لأطعمه ...؟
قال أبو محمد :
تبا لمن عارض أمر ربه تعالى واحتج عليه بل لله الحجة البالغة ولو شاء لأطعم من
ألزمنا إطعامه ، ولو شاء لهدى الكافرين فآمنوا ، ولكنه تعالى لم يرد ذلك بل أراد
أن يعذب من لا يطعم المسكين ومن أضله من الكافرين لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ،
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقالت المعتزلة :
معنى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [سورة الأنعام :
٣٥] وسائر الآيات التي تلوتم إنما هو لو شاء عزوجل لاضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين فكانوا لا يستحقون
الجزاء بالجنة.
قال أبو محمد :
وهذا تأويل جمعوا فيه بلايا جمّة أولها : أنه قول بلا برهان ودعوى بل دليل وما كان
هكذا فهو تناقض ويقال لهم : ما صفة الإيمان الضروري الذي لا يستحق عليه الثواب
عندكم وما صفة الإيمان غير الضروري الذي يستحق به الثواب عندكم؟ فإنهم لا يقدرون
على فرق أصلا إلا أن يقولوا بمثل ما قال الله عز
وجل إذ يقول تعالى
: (يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [سورة الأنعام :
١٥٨].
ومثل قوله تعالى :
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [سورة السجدة : ٢٨
، ٢٩].
ومثل حالة المحتضر
عند المعاينة التي لا يقبل فيها إيمانه. وكما قيل لفرعون : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) [سورة يونس : ٩١].
قال أبو محمد :
فيقال لهم هذه الآيات حق وقد شاهدت الملائكة تلك الآيات وتلك الأحوال ولم يبطل
بذلك قبول إيمانهم إيمان فهلّا على أصولكم صار إيمانهم إيمان اضطرار لا يستحقون
عليه جزاء في الجنة أم صار جزاؤهم عليه أفضل من جزاء كل مؤمن دونهم وهذا لا مخلص
لهم منه أصلا. ثم نقول لهم : أخبرونا عن إيمان التوفيق إذ صح عندهم صدق النبي
بمشاهدة المعجزات من شقّ القمر ، وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير ، ونبعان
الماء الغزير من بين الأصابع ، وشق البحر ، وإحياء الموتى ، وأوضح كل ذلك بنقل
التواتر الذي به صح ما كان قبلنا من الوقائع والملوك وغير ذلك ما يصير فيه من بلغه
كمن شاهده ولا فرق في صحة اليقين لكونه هل إيمانهم إلا إيمان يقين قد صح عندهم
وأنه حمق ولم يتجلى لهم فيه شك بل علمهم به كعلمهم أن ثلاثة أكثر من اثنين وكعلمهم
ما شاهدوه بحواسهم في أنه كله حق وعلموه ضرورة أم إيمانهم ذلك ليس يقينا مقطوعا
بصحة ما آمنوا به عنده كقطعهم على صحة ما علموه بحواسهم ولا سبيل إلى قسم ثالث ...؟
فإن قالوا : بل هو الآن يقين قد صح علمهم بأنه حق لا مدخل للشك فيه عندهم كيقينهم
صحة ما علموه بمشاهدة حواسهم.
قلنا لهم : نعم
هذا هو الإيمان الاضطراري بعينه ولا تفرقوا ، وهذا الذي موهتم بأنه لا يستحق عليه
من الجزاء كالذي يستحقه على غيره ، وبطل تمويهكم بحمد الله تعالى إذ قلتم : إن
معنى قوله تعالى : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدى) [سورة الأنعام آية
رقم ٣٥] (لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ) [سورة يونس آية
رقم ٩٩] أنه كان يضطرهم إلى الإيمان.
فإن قيل : بل ليس
إيمان المؤمنين هكذا ولا علمهم بصحة التوحيد والنبوة على يقين وضرورة.
قيل لهم : قد
أوجبتم أن المؤمنين على شك في إيمانهم وعلى عدم يقين في اعتقادهم وليس هذا إيمانا
بل كفر مجرد ممن كان دينه هكذا فإن كان هذا صفة إيمان المعتزلة فهم أعلم بأنفسهم
وأما نحن فإيماننا ولله الحمد إيمان ضروري لا مدخل للشك فيه كعلمنا أن ثلاثة أكثر
من اثنين وأن كلّ بناء فمبني وكل من أتى
معجزة فمحقّ في
نبوته ولا نبالي أكان ابتداء علمنا استدلالا أم مدركا بالحواس إذ كانت نتيجة كل
ذلك سواء في نفي صحة الشيء المعتقد وبالله تعالى التوفيق.
ثم نسألهم عن
الذين يجحدون بعض آيات ربنا يوم لا ينفع نفسا إيمانها :
أكان الله تعالى
قادرا على أن ينفعهم بذلك الإيمان ويجزيهم عليه جزاءه لسائر المؤمنين أم هو تعالى
غير قادر على ذلك؟ فإن قالوا بل قادر على ذلك رجعوا إلى الحق والتسليم لله عزوجل وأنه تعالى منع من شاء وأعطى من شاء وأنه تعالى أبطل إيمان
بعض من آمن عند رؤية آية من آياته ولم يبطل إيمان من آمن عند رؤية آية أخرى وكلها
سواء في باب الإعجاز وهذا هو المحاباة المحضة والجور البين عند المعتزلة فإن
عجّزوا ربهم تعالى عن ذلك أحالوا وكفروا وجعلوه تعالى مضطرا مطبوعا محكوما عليه ،
تعالى الله عن ذلك.
قال أبو محمد :
وقد قال عزوجل : (فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ) [سورة يونس : ٩٨].
فهؤلاء قوم يونس
لما رأوا العذاب آمنوا فقبل الله عزوجل منهم إيمانهم وآمن فرعون وسائر الأمم المعذبة إذ رأوا
العذاب فلم يقبل الله عزوجل منهم ففعل الله تعالى ما شاء لا معقب لحكمه فظهر فساد
قولهم في أن الإيمان الاضطراري لا يستحق عليه جزاء جملة وصح أن الله تعالى يقبل
إيمان من شاء ولا يقبل إيمان من شاء ولا مزيد. ثم يقال لهم وبالله تعالى التوفيق :
هبكم لو صح لكم هذا الباطل الغث الذي هذيتم به من أن معنى قوله تعالى : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [سورة الأنعام :
٣٥] إنما هو لاضطرّهم إلى الإيمان فأخبرونا لو كان ذلك فأيّ ضرر كان يكون في ذلك
على الناس والجن بل كان يكون في ذلك الخير كله وما ذا ضر الأطفال إذا لم يكن لهم إيمان
اختياري كما تزعمون وقد حصلوا على أفضل المواهب من السلامة من النار بالجملة ومن
هول المطلع وصعوبة الحساب وفظاعة تلك المواقف كلها ودخل الجنة جميعهم بسلام آمنين
منعمين لم يروا فزعا رآه غيرهم وأيضا فإن دعواهم هذه التي كذبوا فيها على الله عزوجل إذ وصفوا عن مراد الله تعالى ما لم يقله تعالى فقد خالفوا
فيها القرآن واللغة لأن اسم الهدى والإيمان لا يقعان البتة على معنى غير المعنى
المعهود في القرآن واللغة وهما طاعات الله عزوجل والعمل بها والتصديق بجميعها الموجب كل ذلك ـ بنص القرآن ـ
رضي الله عزوجل وجنته ، ولا يسمى الجماد والحيوان غير الناطق ولا المجنون
ولا الطفل مؤمنا ولا مهتديا إلا على معنى جري أحكام الإيمان على المجنون
والطفل خاصة.
وبرهان ما قلنا قول الله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة السجدة : ١٣]
فصح أن الهدى الذي لو أراد الله تعالى جمع الناس عليه هو المنقذ من النار والذي لا
يملأ جهنم من أهله وكذلك قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة يونس : ١٠٠].
فصح أن الإيمان
جملة شيء واحد وهو المنقذ من النار الموجب للجنة. وأيضا فإن الله عزوجل يقول : (مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [سورة الكهف : ١٧]
ويقول : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة القصص : ٥٦].
ويقول تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ
اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة : ٢٧٢].
فهذه الآيات مبينة
أن الهدى المذكور هو الاختياري عند المعتزلة لأنه تعالى يقول لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [سورة يونس : ٩٩].
وقال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [سورة البقرة :
٢٥٦].
فصح يقينا أن الله
تعالى لم يرد قط بقوله : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدى) و (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) إيمانا فيه إكراه فبطل هذرهم والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا لنا :
فإذا أراد الله تعالى كون الكفر والضلال فأريدوا ما أراد الله تعالى من ذلك. قلنا
لهم وبالله التوفيق : ليس لنا من أن نفعله ما لم نؤمر به ولا يحل لنا أن نريد ما
لم يأمرنا الله تعالى بإرادته وإنما علينا ما أمرنا به فنكره ما أمرنا بكراهيته
ونحب ما أمرنا بمحبته ونريد ما أمرنا بإرادته ثم نسألهم هل أراد الله تعالى إمراض
النبي صلىاللهعليهوسلم إذ أمرضه ، وموته صلىاللهعليهوسلم إذ أماته ، وموت إبراهيم ابنه إذ أماته أو لم يرد الله
تعالى شيئا من ذلك؟ فلا بد أن الله تعالى أراد كون كل ذلك فيلزمهم أن يريدوا موت
النبي صلىاللهعليهوسلم ومرضه وموت ابنه إبراهيم لأن الله تعالى أراد كون كل ذلك.
فإن أجابوا إلى ذلك ألحدوا بلا خلاف وعصوا الله ورسوله وإن أبوا من ذلك بطل ما أرادوا
إلزامنا إياه. إلا أنه لازم لهم على أصولهم الفاسدة لا لنا لأنهم صححوا هذه
المسألة ونحن لم نصححها ، ومن صحح شيئا لزمه. ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق.
لسنا ننكر في حال
ما يباح لنا فيه إرادة الكفر من بعض الناس فقد أثنى الله عز
وجل على ابن آدم
في قوله لأخيه : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ) [سورة المائدة :
٢٩] فهذا ابن آدم الفاضل قد أراد أن يكون أخوه من أصحاب النار وأن يبوء بإثمه مع
إثم نفسه. وقد صوب الله عزوجل قول موسى وهارون عليهماالسلام : (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) [سورة يونس : ٨٨].
فهذا موسى وهارون عليهماالسلام قد أراد وأحبّا أن لا يؤمن فرعون وأن يموت كافرا إلى
النار. وقد جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه دعا على عتبة بن أبي وقاص أن يموت كافرا إلى النار
فكان كذلك.
قال أبو محمد :
وأصدق الله عزوجل أنا عن نفس التي هو أعلم بما فيها مني أن الله تعالى يعلم
أني لأسر بموت عقبة بن أبي معيط كافرا وكذلك أمر أبي لهب لأذاهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولتتم كلمة العذاب عليهما وأن المرء ليسرّ بموت من استبلغ
في أذاه ظلما بأن يموت على أقبح طرائقه ، وقد روينا هذا عن بعض الصالحين في بعض
الظلمة ولا حرج فيمن استن بمحمد وبموسى وبأفضل ابني آدم صلى الله عليهم وسلم. وليت
شعري أي فرق بين لعن الكافر والظالم والدعاء عليه بالعذاب في النار وبين الدعاء
عليه بأن يموت غير متوب عليه والمسرة بكلا الأمرين؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال عزوجل : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) [سورة النساء : ٩٠].
وقال تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللهِ) [سورة آل عمران :
١٢٦].
وقال تعالى : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [سورة المائدة :
١١].
وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) [سورة الفتح : ٢٤].
فصح يقينا أن الله
تعالى يسلط الكفار على من سلطهم عليهم من الأنبياء ، وعلى أهل بئر معونة ويوم أحد
، ونصرهم إملاء لهم وابتلاء للمؤمنين وإلّا فيقال لمن أنكر هذا : أتراه تعالى كان
عاجزا عن منعهم؟ فإن قالوا نعم. كفروا ونافقوا لأن الله تعالى قد نص على أنه كف
أيدي الكفار عن المؤمنين إذ شاء وسلط أيديهم على المؤمنين ولم يكفها إذ شاء.
قال أبو محمد :
وقال بعض شيوخ المعتزلة : إن إسلام الله تعالى من أسلم من الأنبياء إلى أعدائه
فقتلوهم وجرحوهم وإسلام من أسلم من الصبيان إلى أعدائه
يحضونهم ويغلبونهم
على أنفسهم بركوب الفاحشة إذا كان ليعوضهم أفضل الثواب فليس خذلانا. فقلنا : دعونا
من لفظة الخذلان فلسنا نجيزها لأن الله تعالى لم يذكرها في هذا الباب لكنا نقول
لكم إذا كان قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم ما يكون من الكفر والظلم وكان
الله عزوجل بقولكم قد أسلم أنبياءه صلوات الله عليهم إلى أعدائه
ليعوضهم أجلّ عوض فقد أقررتم بزعمكم أن الله تعالى أراد إسلامهم إلى أعدائهم وإذا
أراد الله عزوجل ذلك فقد أراد بإقراركم كون أعظم ما يكون من الكفر وشاء
وقوع أعظم الضلال ورضي ذلك لأنبيائه عليهمالسلام على الوجه الذي تقولون كائنا ما كان وهذا ما لا مخلص لهم
منه.
وأيضا فنقول لهذا
القائل : إذا كان إسلام الأنبياء إلى أعداء الله عزوجل يقتلونهم ليس ظلما وعبثا على توجيهكم المناقض لأصولكم في
أنه أدى إلى أجزل الجزاء فليس خذلانا ، وكذلك إسلام المسلم إلى عدوه يحضه ويرتكب
فيه الفاحشة فهو على أصولكم خير وعدل فيلزمكم أن تمنوا بذلك وأن تسروا بما نيل من
الأنبياء عليهمالسلام في ذلك وأن تدعوا فيه إلى الله تعالى وهذا خلاف قولكم
وخلاف إجماع أهل الإسلام وهذا ما لا مخلص لهم منه ولا يلزمنا نحن ذلك لأننا لا نسر
إلا بما أمرنا الله تعالى بالسرور به ولا نتمنى إلا ما قد أباح لنا تعالى أن ندعوه
فيه وكل فعله عزوجل وإن كان عدلا منه وخيرا فقد افترض تعالى علينا أن ننكر من
ذلك ما سماه من غيره ظلما وأن نبرأ منه ولا نتمناه لمسلم فإنما نتبع ما جاءت به
النصوص فقط وبالله تعالى التوفيق.
وقال قائل من
المعتزلة : إذا حملتم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [سورة فصلت : ٤٤]
فما يدريكم لعله عليكم عمى.
قال أبو محمد :
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى قد نصّ على أنه لا يكون عمى إلا على
الذين لا يؤمنون ونحن مؤمنون ولله تعالى الحمد فقد أمنا ذلك وقد ذمّ الله تعالى
قوما حملوا القرآن على غير ظاهره ، فقال تعالى : (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [سورة النساء : ٤٦
، المائدة : ١٣].
فهذه صفتكم على
الحقيقة الموجودة فيكم حسا فمن حمل القرآن على ما خوطب به من اللغة العربية واتبع
بيان الرسول صلىاللهعليهوسلم فالقرآن له هدى وشفاء ومن بدل كلمه عن مواضعه وادّعى فيه
دعاوى برأيه وكهانات بظنه وأسرارا غمض وأعرض عن بيان الرسول صلىاللهعليهوسلم ، المبين عن الله تعالى بأمره ، ومال إلى قول المنانية ؛
فهو الذي عليه القرآن عمى وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
ومن نوادر المعتزلة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أنهم قالوا بأن الشهادة التي
غبط الله تعالى بها الشهداء وأوجب لهم بها أفضل الجزاء وتمنّاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه وفضلاء المسلمين ليس هي قتل الكافر للمؤمن ولا قتل
الظالم للمسلم البريء.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وجنون المعتزلة وجهلهم وأهذارهم ووساوسهم لا قياس عليها ، وحقّ لمن
استغنى عن الله عزوجل وقال إنه يقدر على ما لا يقدر عليه ربه تعالى وقال إن عقله
كعقول الأنبياء عليهمالسلام سواء بسواء أن يخذله الله عزوجل مثل هذا الخذلان نعوذ بالله من خذلانه ونسأله العصمة فلا
عاصم سواه أما سمعوا قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا) [سورة التوبة :
١١١].
وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [سورة البقرة :
١٥٤].
ثم إنهم فسروا
الشهادة بعقولهم فقالوا : إنما الشهادة الصبر على الجراح المؤدية إلى القتل والعزم
على التقدم إلى الحرب.
قال أبو محمد :
وفي هذا الكلام من الجنون ثلاثة أضرب. أحدها : أنه كلام مبتدع لم يقله أحد من
متأخريهم المنسلخين من الخير جملة.
والثاني : أنه لو
صح ما ذكروا لكانت الشهادة في الحياة لا بالموت لأن الصبر على الجراح والعزم على
التقدم لا يكونان إلا في الحياة والشهادة في سبيل الله لا تكون بنص القرآن وصحيح
الأخبار وإجماع الأمة إلا بالقتل.
والثالث : أن الذي
منه هربوا فيه وقعوا بعينه وهو أن الشهادة التي يتمنى المسلمون بها إن كانت العزم
على التقدم إلى الحرب والصبر على الجراح المؤدية إلى القتل فقد حصل تمنّي قتل
الكفار للمسلمين ، وتمني أن يجرحوا المسلمين جراحا تؤدى إلى القتل وتمني ثبات
الكفار على الكفر حتى يجرحوا أهل الإسلام جراحا قاتلة وحرب الكفار للمسلمين
وثباتهم لهم وجراحهم إياهم معاص وكفر بلا شك ، فقد حصلوا على تمن للمعاص وهو الذي
به شنعوا وبالله تعالى التوفيق. فبطل كل ما شغبت به المعتزلة والحمد لله رب
العالمين كثيرا.
الكلام في اللطف والأصلح
قال أبو محمد :
وضل جمهور المعتزلة في فصل من القدر ضلالا بعيدا فقالوا بأجمعهم حاشى ضرار بن عمرو
، وحفصا الفرد ، وبشر بن المعتمر ، ويسيرا ممن اتبعهم أنه ليس عند الله تعالى شيء
أصلح مما أعطاه جميع الناس كافرهم ومؤمنهم ولا عنده هدى أهدى ممّا قد هدى به
الكافر والمؤمن هدى مستويا ، وأنه ليس يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بالكفار
والمؤمنين.
ثم اختلف هؤلاء ،
فقال جمهورهم : إنه تعالى قادر على أمثال ما فعل من الصلاح بلا نهاية وقال الأقل
منهم وهم عباد ومن وافقه : هذا باطل لأنه لا يجوز أن يترك الله تعالى شيئا يقدر
عليه من الصلاح من أجل فعله لصلاح ما. وحجّتهم في هذا الكفر الذي أتوا به أنه لو
كان عنده أصلح أو أفضل مما فعل بالناس ومنعهم إياه لكان بخيلا ظالما لهم ولو أعطى
شيئا من فضله بعض الناس دون بعض لكان محابيا ظالما والمحاباة جور ولو كان عنده ما
يؤمن به الكفار إذا أعطاهم إياه ثم منعهم إياه لكان ظالما لهم غاية الظلم ، قالوا
: وقد علمنا أن إنسانا لو ملك أموالا عظيمة تفضل عنه ولا يحتاج إليها فقصده جار
فقير له تحلّ له الصدقة فسأله درهما يحيي به نفسه وهو يعلم فقره إليه ويعلم أنه
يتدارك به رمقه فمنعه لا لمعنى فإنه بخيل ، قالوا : فلو علم أنه إذا أعطاه الدرهم
سهلت عليه أفعال كلفه إياها فمنعه مع ذلك لكان بخيلا ظالما فلو علم أنه لا يصل إلى
ما كلفه إلا بذلك الدرهم فمنعه لكان بخيلا ظالما سفيها. فهذا كل ما احتجوا به لا
حجة لهم غير هذه البتة.
وذهب ضرار بن عمرو
وحفص الفرد وبشر بن المعتمر ومن وافقهم وهم قليل منهم إلى أن عند الله عزوجل ألطافا كثيرة لا نهاية لها لو أعطاها الكفار لآمنوا إيمانا
اختياريا يستحقون به الثواب بالجنة وقد أشار إلى نحو هذا ولم يحققه أبو علي
الجبائي وابنه أبو هاشم وكان بشر بن المعتمر يكفر من قال بالأصلح والمعتزلة اليوم
تدعي أن بشرا تاب عن القول باللطف ورجع إلى القول بالأصلح.
قال أبو محمد :
وحجة هؤلاء ، أنه تعالى قد فعل بهم ما يؤمنون عنده لو شاءوا
فليس لهم عليه غير
ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك فعارضهم أصحاب الأصلح بأن قالوا إن الاختيار هو ما يمكن
فعله ويمكن تركه ، فلو كان الكفار عند إتيان الله تعالى لتلك الألطاف يختارون
الإيمان لأمكن أن يفعلوه وأن لا يفعلوه أيضا ، فعادت الحال إلى ما هي عليه إلا أن
يقولوا إنهم كانوا يؤمنون ولا بدّ فهذا اضطرار من الله تعالى لهم إلى الإيمان لا
اختيار.
وقالوا : نحن لا
ننكر هذا بل الله تعالى قادر على أن يضطرهم إلى الإيمان كما قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا
يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [سورة الأنعام :
١٥٨].
قالوا : فالذي فعل
تعالى بهم أفضل وأصلح.
قال أبو محمد :
وهذا لازم لمن لم يقل إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لزوما لا ينفكون عنه. وأما
نحن فلا يلزمنا ، وإنما سألناهم هل الله تعالى قادر على أن يأتي الكفار بألطاف
يكون منهم الإيمان عندها باختيار ولا بدّ ويثيبهم على ذلك أتم ثواب يثيبه عبدا من
عباده أم لا؟
فقالوا : لا.
قال أبو محمد :
كأن أصحاب الأصلح عمي عن العالم أو كأنهم إذا حضروا فيه سلبت عقولهم وطمست حواسهم
وصدق الله فقد نبه على مثل هذا ، يقول تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِها) [سورة الأعراف :
١٧٩].
أترى هؤلاء القوم
ما شاهدوا أن الله عزوجل منع الأموال قوما وأعطاها آخرين ونبأ قوم وأرسلهم إلى
عباده ، وخلق آخرين في أقاصي أرض الزنج يعبدون الأوثان وأمات قوما من أوليائه ومن
أعدائه عطشا وعنده مجاديح السموات وسقى آخرين الماء العذب أما هذه محاباة ظاهرة فإن
قالوا إن كلّ ما فعل من ذلك فهو أصلح بمن فعله به سألناهم عن إماتته تعالى الكفار
وهم يصيرون إلى النار وإعطائه تعالى قوما مالا ورئاسة فبطروا وهلكوا وكانوا مع
القلة والخمول صالحين وأفقر أقواما ما فسرقوا وقتلوا
__________________
وكانوا في حال
الغنى صالحين وأصحّ أقواما وجمّل صورهم فكان ذلك سببا لكون المعاصي منهم وتركوها
إذ أسنّوا وأمرض أقواما فتركوا الصلاة عمدا وضجروا وتبرموا فتكلموا بما هو الكفر
أو قريب منه وكانوا في صحتهم شاكرين لله يصلون ويصومون أهذا الذي فعل الله بهم كان
أصلح لهم؟
فإن قالوا نعم
كابروا الحواس. وإن قالوا لو عاشوا لزادوا كفرا. قلنا لهم فإنما كان أصلح لهم أن
يخترمهم الله عزوجل قبل البلوغ أو أن يطيل أعمارهم ويملكهم الجيوش فيهلكوا بها
أرض الإسلام ويقوي أجسادهم وأذهانهم فيضل بهم جماعة كما فعل بجيش الفيومي اليهودي
وأبي ريطة اليعقوبي النصراني والمحققين بالكلام من اليهود والنصارى والمجوس
والمنانية والدهرية أما كان أصلح لهم ولمن ضل منهم أن يميتهم صغارا؟! قال أبو محمد
: فانقطعوا فلجأ بعضهم إلى أن قال لعله قد سبق في علم الله تعالى أنه لو أماتهم
صغارا لكفر خلق من المؤمنين.
قال أبو محمد :
وفي هذا الجواب من السخافة وجوه جمة.
أولها : أنه دعوى
بلا دليل.
والثاني : أنهم لم
ينفكوا به مما ألزمناهم. ونقول لهم : أكان الله عزوجل قادرا على أن يميتهم ولا يوجب موتهم كفر أحد؟ فإن قالوا : لا
، عجّزوا ربهم تعالى.
وإن قالوا : بل
كان قادرا على ذلك ألزموه الجور والظلم على أصولهم ولا بدّ من أحد الأمرين.
والثالث : ما سمع
في العالم بأسخف من قول من قال إن إنسانا مؤمنا يكفر من أجل صغير مات فهذا أمر ما
شوهد قط في العالم ولا توهم ولا يدخل في الإمكان ولا في العقل وكم طفل يموت كل يوم
مذ خلق الله تعالى الدنيا إلى يوم القيامة فهل كفر أحد قط من أجل موت ذلك الطفل؟
وإنما عهدنا الناس يكفرون عند ما يقع لهم من الغضب الذي يخلقه الله عزوجل في طبائعهم وبالغضبة التي آتاهم الله عزوجل أسبابها ، وبذلك الذي آتاهم الله إياه إذا عرضهم فيه عارض.
والرابع : أنه ليس
في الجور ولا في العبث ولا في الظلم ولا في المحاباة أعظم من أن يبقي طفلا يكفر
فيستحق الخلود في النار ولا يميته طفلا فينجو من النار من أجل صلاح قوم لو لا كفر
هذا المنحوس لكفر أولئك وما في الظلم والمحاباة أقبح من هذا. هل هذا إلا كمن وقف
إنسانا للقتل فأخذ هو آخر من عرض الطريق فقتله مكانه؟ فظهر فساد هذا القول السخيف
الملعون.
قال أبو محمد :
وقال بعضهم : قد يخرج من صلبه مؤمنون.
قال أبو محمد :
وقد يموت الكافر عن غير عقب وقد يلد الكافر كفارا أضرّ على الإسلام منه ومع هذا
فكل ما ذكرنا يلزم في هذا الجواب السخيف وأيضا فقد يخرج من صلب المؤمن كافر طاغ
وظالم باغ يفسد الحرث والنسل ، ويثير الظلم ، ويميت الحق ، ويؤسس الضلالات
والمنكرات حتى يضل بها خلق كثير حتى يظنوا أنها حق وسنّة فأيّ وجه لخلق هؤلاء على
أصول المعتزلة الضّلّال؟ نعم وأيّ معنى وأي صلاح في خلق إبليس ومردة الشياطين
وإعطائهم القوة على إضلال الناس في الحكمة المعهودة بيننا؟ وبالضرورة نعلم أن من
نصب المصايد للناس في الطرقات وطرح الشّوك في ممشاهم فإنه عابث سفيه فيما بيننا
والله تعالى خلق كل ما ذكرنا بإقرارهم وهو الحكيم العليم ، ثم وجدناه تعالى قد شهد
للذين بايعوا تحت الشجرة بأنه علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ، ثم أمات من
ولي منهم أمور المسلمين سريعا ، ووهّن قوى بعضهم ، وملك عليهم زيادا والحجاج وبغاة
الخوارج. فأيّ مصلحة في هذا للحجاج ، ولقطريّ أو لسائر المسلمين لو عقلت المعتزلة؟ ولكن الحق هو قولنا
وهو أن كل ذلك عدل من الله وحق وحكمة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج المسلط ، ولقطري
ونظائرهما أراد الله تعالى بذلك هلاكهم في الآخرة ونعوذ بالله من الخذلان. ثم
نسألهم : ما ذا تقولون إذ أمر عزوجل بجلد الحرة في الزنا مائة وجلد الأمة نصف ذلك أليس هذا
محاباة للأمة؟ وإذ خوّل الله عزوجل قوما أموالا جمة فماتوا فيها وحرم آخرين أما هذا عين
المحاباة والجور على أصلهم الفاسد في من منع جاره الفقير؟ إلا أن يطردوا قولهم
فيصيروا إلى قول من ذكره أن الواجب تساوي الناس في الأموال والنشأة على السواء
وبالجملة فإن القوم يدعون نفي التشبيه ويكفرون من شبه الله بخلقه ، ثم لا نعلم
أحدا أشد تشبيها لله تعالى بخلقه منهم فيلزمونه الحكم ويحرمون عليه الأمر والنهي
ويشبهونه بخلقه تعالى فيما يحسن منه ويقبح ثم نقضوا أصولهم إذ من قولهم أن ما صلح
بيننا بوجه من الوجوه فلسنا نبعده عن الباري تعالى ونحن نجد
__________________
فيما بيننا من
يحابي أحد عبيده على الآخر فيجعل أحدهم مشرفا على ماله وعياله وحاضنا لولده فيريضه
لذلك من صغره بأن يعلمه الكتاب والحساب ويجعل الآخر رائضا لدابته وجامعا للزبل
لبستانه ومنقيا لحشّه ويريضه لذلك من صغره وكذلك الإماء فيجعل إحداهن محلّ إزاره
ومطلبا لولده ، ويجعل الثانية خادما لهذه في الطبخ والغسل وهذا عدل بإجماع
المسلمين كلهم فلم أنكروا أن يحابي الباري عزوجل من شاء من عباده بما أحب من التفضيل؟ ووجودا في الشاهد من
يعطي المجاويع من ماله فيعطي أحدهم ما يغنيه ويخرجه عن الفقر وذلك نحو ألف دينار ،
ثم يعطي آخر مثله ألف دينار ويزيده ألف دينار فإنه وإن حابى فمحسن غير ملوم فلم
منعوا ربهم من ذلك وجوروه إذا فعله؟ وهو تعالى بلا شك أتم ملكا لكل ما في العالم
من أحدنا لما خوّله عزوجل من الأملاك ونقضوا أصلهم في أن ما حسن في الشاهد بوجه من
الوجوه لم يمنعوا وقوعه من الباري عزوجل ووجدوا في الشاهد من يدخر أموالا عظيمة فيؤوي جميع الحقوق
اللازمة له حتى لا يبقى بحضرته محتاج ثم يمنع سائر ذلك فلا يسمى بخيلا. فلأي شيء
منعوا ربهم جل وعز من مثل ذلك وجوّروه وبخّلوه إذا لم يعط أفضل ما عنده؟ وهذا كله
بيّن لا إشكال فيه.
قال أبو محمد :
ونسألهم عن قول لهم عجيب وهو أنهم أجازوا أن يخلق الله عزوجل أضعف الأشياء ثم لا يكون قادرا على أضعف منه فهكذا هو قادر
فاعل أصلح الأشياء ثم لا يكون قادرا على أصلح منه ، وعلى أصغر الأشياء وهو الجزء
الذي لا يتجزأ ولا يقدر على أصغر منه.
قال أبو محمد :
هذا إيجاب منهم لتناهي قدرة الله عزوجل وتعجيز له تعالى وإيجاب بحدوثه وإبطال إلهيته ، إذ التناهي
في القوة صفة المحدث المخلوق ، لا صفة الخالق الذي لم يزل ؛ وهذا خلاف القرآن
وإجماع المسلمين وتشبيه الله تعالى بخلقه في تناهي قدرتهم.
قال أبو محمد :
ولكنه لازم لكل من قال بالجزء الذي لا يتجزأ وبالقياس لزوما صحيحا لا انفكاك لهم
منه ونعوذ بالله من هذه المقالات المهلكة بل نقول : إن الله تعالى خلق كل ما خلق
شيئا صغيرا أو ضعيفا أو كبيرا أو قويا أو مصلحة فإنه أبدا بلا نهاية قادر على خلق أصغر
منه وأضعف وأقوى وأصلح.
__________________
قال أبو محمد :
ونسألهم أيقدر الله تعالى على ما لو فعله لكفر الناس كلهم ..؟ فإن قالوا لا. لحقوا
بعليّ الأسواري وهم لا يقولون بهذا ولو قالوه لأكذبهم الله تعالى إذ يقول : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [سورة الشورى : ٢٧].
وبقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً
مِنْ فِضَّةٍ) [سورة الزخرف : ٣٣]
وإن قالوا : نعم
هو قادر على ذلك قلنا لهم فقد قطعتم بأنه تعالى يقدر على الشر ولا يقدر على الخير
هذه مصيبة على أصولهم ولزمهم أيضا فساد أصلهم في قولهم إن من قدر على شيء قدر على
ضده ولأنهم يقولون إن الله تعالى يقدر على ما يكفر الناس كلهم عنده ولا يقدر على
ما يؤمن جميعهم عنده.
قال أبو محمد :
ونسأل من قال منهم إنه تعالى يقدر على مثل ما فعل من الصلاح بلا نهاية لا على أكثر
من ذلك فنقول لهم : إن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الباري جر وعز لأن بضرورة
الحس ندري أنه إذا استضافت المصالح بعضها إلى بعض كانت أصلح من انفراد كل مصلحة عن
الأخرى فإن هو قادر عندكم على ذلك ولم يفعله بعباده فقد لزمه ما ألزمتموه لو كان
قادرا على أصلح مما فعل ولم يفعله. فقالوا : هذا كالدواء والطعام والشراب لكل ذلك
مقدار فقد يصلح به من أعطيه فإذا استضافت إليه أمثاله كان ضررا.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ولم يقل قط ذو عقل ومعرفة بحقائق الأمور إن دواء كذا مصلحة جملة وعلى
كل حال ، ولا أن الأكل مصلحة أبدا وعلى الجملة ، ولا أن الشراب مصلحة بكل وجه أبدا
وإنما الحق أن مقدارا من الدواء مصلحة لعله كذا فقط فإن زاد أو نقص أو تعدى تلك
العلة كان ضررا وكذلك الطعام والشراب هما مصلحة في حال ما وبقدر ما فما زاد أو
تعدّى به وقته كان ضررا ، وما نقص عن الكفاية كان ضررا ؛ وليس إطلاق اسم الصلاح في
شيء من ذلك أولى من إطلاق اسم الضرر لأن كلا الأمرين موجود في كل ذلك كما ذكرنا
وليس الصلاح من الله عزوجل للعبد والهدى له والخير من فعله عزوجل كذلك بل على الإطلاق والجملة وعلى كل حال بل كلما زاد
الصلاح وكثر وزاد الهدى وكثر وزاد الخير وكثر فهو أفضل. فإن قالوا : نجد الصلاة
والصيام إثما في وقت ما وأجرا في الآخرة.
قلنا : ما كان من هذا
منهيا عنه فليس صلاحا البتة ولا هو هدى ولا خير بل هو إثم وخذلان وضلال وليس في
هذا كلمناكم لكن فيما هو صلاح حقيقة وهدى حقيقة وخير حقيقة ، وهذا ما لا مخلص لهم
منه.
قال أبو محمد :
وقال أصحاب الأصلح منهم إن من علم الله تعالى أنه يؤمن من الأطفال إن عاش أو يسلم
من الكفار إن عاش أو يتوب من الفساق إن عاش ، فإنه لا يجوز البتة أن يميته الله
قبل ذلك قالوا وكذلك من علم الله تعالى أنه إن عاش فعل خيرا فلا يجوز البتة أن
يميته الله قبل فعله.
قالوا : ولا يميت
الله تعالى أحدا إلّا وهو يدري أنه إن أبقاه طرفة عين فما زاد فإنه لا يفعل شيئا
من الخير أصلا بل يكفر أو يفسق ، ولا بدّ.
قال أبو محمد :
وهذا من طوامهم التي جمعت الكفر والسخف ولم ينفكوا بها مما فرّوا عنه من تجوير
الباري عزوجل بزعمهم ، وأما الكفر فإنه يلزمهم بقولهم إن إبراهيم ابن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لو بلغ لكفر أو فسق ، وليت شعري إذ هذا عندهم كما زعموا
فلم أمات بعضهم إثر ولادته ثم آخر بعد ساعة ثم يوم ثم يومين وهكذا شهرا بعد شهر
وعاما بعد عام إلى أن أمات بعضهم قبل بلوغه بيسير؟ وكلهم عندهم سواء في أنهم لو
عاشوا لكفروا أو فسقوا كلهم وإذ عني بهم هذه العناية فلم أبقى من الأطفال من درى
أنه يكفر ويفسق؟ نعم ويؤتيهم القوى والتدقيق في الفهم كالفيومي سعيد بن يوسف
والمعمس داود بن قزوان وإبراهيم البغدادي وأبي كثير الطبراني من متكلمي اليهود ،
وأبي ريطة اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النصارى ، ومرزان بخت المناني. حتى
أضلوا كثيرا بشبههم وتمويهاتهم ومخارقهم ولا سبيل إلى وجود فرق أصلا ، وهذه محاباة
وجور على أصولهم. ثم نجده تعالى قد عذّب بعض هؤلاء الأطفال باليتم والقمل والعري
والبرد والجوع وسوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حتى يموتوا كذلك وبعضهم مرفّه
مخدوم منعم حتى يموت كذلك ولعلهما لأب وأم وكذلك يلزمهم أن أبا بكر وعمر وعثمان
وعليا وسائر الصحابة رضي الله عنهم نعم ومحمدا صلىاللهعليهوسلم وموسى وعيسى وإبراهيم وسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام أن
كل واحد منهم لو عاش طرفة عين فجاء الوقت الذي مات فيه لكفر أو فسق ولزمهم مثل هذا
في جبريل وميكائيل وحملة العرش عليهمالسلام ، إن كانوا يقولون بأنهم يموتون ؛ فإن تمادوا على هذا
كفروا وقد صرح بعضهم بذلك جهارا ، وإن أبوا تناقضوا ولزمهم أن الله تعالى يميت من
يدري أنه يزداد خيرا ، ويبقي من يدري أنه يكفر وهذا عنده على أصولهم عين الظلم
والعبث.
قال أبو محمد :
وأجاب بعضهم في بدء السؤال بأن قال إنّ النبي صلىاللهعليهوسلم امتحنه الله عزوجل قبل موته بما بلغ ثوابه على طاعته فيه مبلغ ثوابه على كل
طاعة تكون منه لو عاش إلى يوم القيامة.
قال أبو محمد :
وهذا جور ناهيك به لوجوه :
أوله : أنه محاباة
مجردة له عليه الصلاة والسلام على غيره وهلّا فعل ذلك بغيره وعجّل راحتهم من
الدنيا ..؟
وثانيها : أن هذا
قول كذب بحت وذلك أن المحن في العالم معروفة وهي إما في الجسم بالعلل وإما في
المال بالإتلاف وإما في النفوس بالخوف والهوان ، والهمّ بالأهل والأجنّة والقطع
دون الأمل لا محنة في العالم تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدّين فقط نعوذ
بالله من ذلك فأما المحنة في الجسم فكذبوا وما مات عليهالسلام إلا سليم الأعضاء سويها معافى من مثل محنة أيوب عليهالسلام وسائر أهل البلاء نعوذ بالله منه وأمّا في المال فما شغله
الله عزوجل منه بما يقتضي محنة في فضوله ولا أحوجه إلى أحد بل أقامه
على حدّ الغنى بالوقوف ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقربه من ربه عزوجل وأما النفس فأيّ محنة لمن قال الله عزوجل له (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) [سورة المائدة :
٦٧] ولمن رفع له ذكره وضمن له إظهار دينه على الدين كله ولو كره أعداؤه وجعل شانيه
الأبتر ، وأعزه بالنّصر على كل عدوّ فأي خوف وأيّ هوان يتوقعه عليهالسلام؟ وأما أهله وأحبته فاخترم بعضا فآجره فيهم كإبراهيم ابنه
وخديجة وحمزة وجعفر وزينب وأم كلثوم ورقية بناته رضي الله عنهم وأقر عينه ببقاء
بعضهم وصلاحه كعائشة وسائر أمهات المؤمنين وفاطمة ابنته وعلي والعباس والحسن
والحسين وأولاد العباس وعبد الله بن جعفر وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عن جميعهم
فأيّ محنة هاهنا؟ أليس قد أعاذه الله تعالى من مثل محنة خبيب بن عدي وسمية أم
عمّار رضي الله عنه .. أليس من قتل من الأنبياء عليهمالسلام ومن نشر بالمنشار وأحرق بالنيران أعظم محنة؟! ومن خالفه
قومه فلم يتبعه منهم إلا اليسير وعذب الجمهور كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم أعظم
محنة؟ وهل هذه إلا مكابرة وحماقة وقحة؟ وأي محنة تكون لمن أوجب الله عزوجل على الجن والإنس طاعته وأكرمه برسالته وأمّنه من كل الناس
وأكبّ عدوه لوجهه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهل هذه إلا نعم وخصائص وفضائل
وكرامات ومحاباة مجردة له على جميع الإنس والجن؟ وهل استحق عليهالسلام هذا قط على ربه تعالى حتى ابتدأه بهذه النعمة الجليلة وقد
تحنّث قبله زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى العدوي ، وقس بن ساعدة الإيادي
وغيرهما؟ فما أكرموا بشيء من هذا ولكن نوك المعتزلة ليس عليه قياس.
__________________
قال أبو محمد :
ومما سئلوا عنه أنه قيل لهم أليس قد علم تعالى أن فرعون والكفار إن أعاشهم كفروا؟
فمن قولهم نعم. فيقال لهم : فلم أبقاهم حتى كفروا واخترم على قولكم من علم أنه إن
عاش كفر؟ وهذا تخليط لا يعقل. ونقول لهم أيضا : أيّما كان أصلح للجميع لا سيما
لأهل النار خاصة أن يخلقنا الله تعالى كلنا في الجنة كما فعل بالملائكة وحور العين
أم ما فعل بنا من خلقنا في الدنيا والتعريض للبلاء فيها وللخلود في النار.
قال أبو محمد :
ولجوا عند هذه فقال بعضهم لم يخلق الجنة بعد. فقلنا لهم هبكم أن الأمر كما قلتم
فإنما كان أصلح للجميع أن يعجّل الله عزوجل خلقها ثم يخلقنا فيها أو يؤخر خلقنا حتى يخلقها ثم يجعلنا
فيها أم خلقه لنا حيث خلقنا؟ فإن عجّزوا ربهم جعلوه ذا طبيعة متناهي القدرة ومشبها
لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه مخيرا ضعيفا وهذا كفر مجرد ، وبقي السؤال أيضا مع
ذلك بحسبه في أن يجعلنا كالملائكة وأن يجعلنا كلنا أنبياء كما فعل بعيسى ويحيى عليهماالسلام وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟
وقال بعضهم : ليس
جهلنا بوجه المصلحة في ذلك ممّا يخرج هذا الأمر عن الحكمة. فقلنا لهم : فاقنعوا
بمثل هذا بعينه فيمن قال لكم ليس جهلنا بوجه المصلحة والحكمة في خلق الله تعالى
لأفعال عباده وفي تكليفه الكافر والفاسق ما لا يطيق ثم تعذيبهما على ذلك مما يخرجه
عن الحكمة وهذا لا مخلص لهم منه.
قال أبو محمد :
وأما نحن فلا نرضى بهذا بل ما جهلنا ذلك لكن نقطع على أن كل ما فعله الله تعالى
فهو عين الحكمة والعدل وأن من أراد إجراء أفعاله تعالى على الحكمة المعهودة بيننا
والعدل المعهود بيننا فقد ألحد وأخطأ وضلّ وشبّه الله عزوجل بخلقه لأن الحكمة والعدل بيننا إنما هي طاعة الله عزوجل فقط ولا حكمة ولا عدل غير ذلك إلا ما أمرنا به أي شيء كان
فقط وأما الله تعالى فلا طاعة لأحد عليه فبطل أن تكون أفعاله جارية على أحكام
العبيد المأمورين المربوبين المسئولين عما يفعلون لكن أفعاله تعالى جارية على
العزة والقدرة والجبروت والكبرياء والتسليم له وألا يسأل عما يفعل ولا مزيد كما
قال تعالى ، وقد خاب من خالف ما قاله الله عزوجل ومع هذا كله فلم يتخلّصوا من رجوع وجوب التجوير والعبث على
أصولهم على ربهم تعالى عن ذلك.
وقال متكلموهم :
لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك وكنا
أيضا نكون غير
مستحقين لذلك النعيم بعمل عملناه وإدخالنا الجنة بعد استحقاقنا لها أتم في النعمة
وأبلغ في اللذة. وأيضا فلو خلقنا في الجنة لم يكن بدّ من التوعد على ما حظر علينا
وليست الجنة دار توعد وأيضا فإن الله تعالى قد علم أن بعضهم كان يكفر فيجب عليه
الخروج من الجنة.
قال الإمام أبو
محمد رضي الله عنه : هذا كل ما قدروا عليه من السخف وهذا كله عائد عليهم بحول الله
تعالى وقوته وعونه لنا فنقول وبالله تعالى التوفيق : وأما قولهم لو خلقنا في الجنة
لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك فإننا نقول وبالله تعالى نتأيد أكان الله تعالى
قادرا على أن يخلقنا فيها ويخلق فينا قوة وطبيعة نعلم بها قدر النعمة علينا في ذلك
أكثر من علمنا بذلك بعد دخولنا فيها يوم القيامة أو يعلمنا ذلك أم كان غير قادر
على ذلك ...؟
فإن قالوا : كان غير
قادر على ذلك عجّزوا ربهم تعالى وجعلوا قوته متناهية يقدر على أمر ما ولا يقدر على
غيره وهذا لا يكون إلا لعرض داخل أو لبنية متناهية القوة وهذا كفر مجرد.
وإن قالوا : كان
الله قادرا على ذلك أقروا بأنه عزوجل لم يفعل بهم أصلح ما عنده وأن عنده أصلح ممّا فعل بهم.
وأيضا فإن كانوا
أرادوا بذلك أن اللّذة التي تعقب البلاء والتعب أشد سرورا وأبلغ ، لزمهم أن يبطلوا
نعم الجنة جملة لأنه ليس نعيمها البتة مشوبا بألم ولا بتعب وكل ألم بعد العهد به
فإنه ينسى كما قال القائل :
كأنّ الفتى لم
يغز يوما إذا اكتسى
|
|
ولم يفتقر يوما إذا
ما تموّلا
|
فلزم على هذا
الأصل أن يجدّد الله عزوجل لأهل الجنة آلاما فيها ليتجدد لهم بذلك وجود اللذة وهذا
خروج عن الإسلام ويلزمهم أيضا أن يدخل النبيين والصالحين النار ثم يخرجهم منها إلى
الجنة فتضاعف لهم اللذة والسرور أضعافا بذلك.
ويقال أيضا كما
نكون كالملائكة وحور العين ، فإن كانوا عالمين مقدار ما هم فيه من نعيم ولذّة فكنا
نحن كذلك وإن كانوا غير عالمين بمقدار ما هم فيه من اللذة والنعيم فهلا أعطاهم هذه
المصلحة ولأي شيء منعهم من الفضيلة التي أعطاها لنا وهم أهل طاعته التي لم تشب
بمعصية ..؟
فإن قالوا : إن الملائكة
وحور العين قد شاهدوا عذاب الكفار في النار فقام لهم مقام الترهيب.
قلنا لهم : وهل
المحاباة والجور إلا أن يعرّض قوم للمعاطب ويبقيهم حتى يكفروا فيخلدوا في النار
ليوعظ بهم قوم آخرون خلقوا في الجنة والرفاهية سرمدا أبدا لا بد ..؟ وهل عين الظلم
إلا هذا فيما بيننا على أصول المعتزلة؟ وكمن يقول من الطغاة قتل الثلث في صلاح
الثلثين صلاح وهل في الشاهد عبث وسفه أعظم من عبث من يقول لآخر : هات أضربك
بالسياط وأرديك من جبل وأصفع في قفاك وأنتف سبالك وأمشي بك في طريق ذات شوك دون راحة في ذلك ولا منفعة لكن
لأعطيك بعد ذلك ملكا عظيما ...؟ ولعلك في خلال ضربي إياك أن تتقزز فتقع في بئر
منتنة لا تخرج منها أبدا؟ فأي مصلحة عند ذوي عقل في هذه الحال لا سيما وهو قادر
على أن يعطيه ذلك الملك دون أن يعرضه لشيء من هذا البلاء فهذه صفة الله عزوجل عند المعتزلة لا يستحيون من أن يصفوا أنفسهم بأن يصفوا
الله تعالى بالعدل والحكمة.
قال أبو محمد :
وأما نحن فنقول : لو أن الله تعالى أخبرنا أنه يفعل هذا كله بعينه ما أنكرناه
ولعلمنا أنه منه تعالى حق وعدل وحكمة.
قال أبو محمد :
ومن العجب أن يكون الله تعالى يخلقنا يوم القيامة خلقا لا نجوع فيه أبدا ولا نعطش
ولا نبول ولا نمرض ولا نموت وينزع ما في صدورنا من غلّ ثم لا يقدر على أن يخلقنا
فيها ولا على أن يخلقنا خلقا نلتذّ معه بابتدائنا فيها كالتذاذنا بدخولها بعد طول
النكد فهل يفرق بين شيء من هذا إلا من لا عقل له أو مستخف بالباري تعالى وبالدين.؟
وأما قولهم : لو
خلقنا الله تعالى في الجنة لكنا غير مستحقين لذلك النعيم ، فإنا نقول لهم :
أخبرونا عن الأعمال التي استحققتم بها الجنة عند أنفسكم؟ أفبضرورة العقل علمتم أن
من عملها فقد استحق الجنة دينا واجبا على ربه تعالى أم لم تعلموا ذلك ولا وجب ذلك
إلا حتى أعلمنا الله عزوجل أنه يفعل وجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال ...؟
فإن قالوا :
بالعقل عرفنا استحقاق الجنة على هذه الأعمال كابروا وكذبوا على العقل وكفروا لأنهم
بهذا القول يوجبون الاستغناء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام. ولزمهم أن الله تعالى
لم يجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال لكن وجب ذلك عليه حتما لا باختياره ولا بأنه
لو شاء غير ذلك لكان له ، وهذا كفر مجرد. وأيضا فإن
__________________
شريعة موسى عليهالسلام في السبت وتحريم الشحوم وغير ذلك فقد كانت الجنة جزاء على
العمل بها ، ثم صارت الآن جهنم جزاء على العمل بها ، فهل هاهنا إلا أن الله تعالى
أراد ذلك فقط؟ ولو لم يرد ذلك لم يجب من ذلك شيء. فإن قالوا : بل ما علمنا استحقاق
الجنة بذلك إلا بخبر الله تعالى أنه حكم بذلك فقط.
قيل لهم : فقد كان
الله تعالى قادرا على أن يخبرنا أنه جعل الجنة حقا لنا ويخترعنا فيها كما فعل
بالملائكة وحور العين. وأيضا فقد كذبوا في دعواهم استحقاق الجنة بأعمالهم فإن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من أحد ينجيه عمله أو يدخله الجنّة عمله» قيل :
ولا أنت يا رسول الله؟ قالك «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه». أو كلاما هذا معناه وأيضا فبضرورة العقل ندري أن ما زاد
على المماثلة في الجزاء فيما بيننا فإنه تفضل مجرد في الإحسان وجور في الإساءة هذا
حكم المعهود في العقل فعلى أصول المعتزلة يلزمهم أن بقاء أحدنا في الجنة أو في
النار مثل زمن إحسانه أو إساءته جزاء على ما سلف منه فضل مجرد وعقاب زائد على
مقدار الجرم وقد فعله الله عزوجل بلا شك وهو عدل منه وحكمة وحق.
قال أبو محمد :
وأمّا قولهم إنّ دخول الجنة على وجه الجزاء على العمل أعلى درجة وأسنى رتبة من
دخولها بالتفضل المجرد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق : هذا خطأ محض لأننا قد
علمنا أنّ هذا الحكم إنما يقع من الأكفاء والمتماثلين وأما الله تعالى فليس له
كفوا أحد ، ومن كان عبد لآخر فإن إقبال السيّد عليه بالتفضل عليه المجرد والاختصاص
والمحاباة أسنى له وأعلى وأشرف لرتبته وأرفع لدرجته من أن لا يعطيه شيئا إلا
بمقدار ما استحقه لخدمته وتسخيره إياه وهذا ما لا ينكره إلا معاند فكيف وليس لأحد
على الله حق مبتدأ وكل ما وهبه الله تعالى لأحد من أنبيائه وملائكته عليهمالسلام وكل ما أخبر تعالى أنه أوجبه وكتبه على نفسه وجعله حقا
لعباده فكل ذلك تفضل مجرد من الله عزوجل واختصاص مبتدأ لو لم ينعم به عزوجل لم يجب عليه شيء منه لا يقول غير هذا إلا مدخول الدين فاسد
العقل.
__________________
قال أبو محمد :
وهم يقولون إن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم جميعهم السلام وصدقوا في هذا ثم
نقضوا هذا الأصل بأصلهم هذا السخيف من قولهم إن من دخل الجنة بعد التعريض للبلاء
فهو أفضل من ابتداء النعمة والقرب فنحن على قولهم أفضل من الملائكة على جميعهم
السلام.
وقد قالوا : إن الملائكة
أفضل من الأنبياء فعلى هذا التقرير يجب أن نكون أفضل من الملائكة وأفضل من النبيين
بدرجتين وهذا كفر مجرد وتناقض ظاهر.
وأما قولهم إننا
لو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد والتحذير.
فإنا نقول لهم
وبالله تعالى التوفيق : حتى لو كان ما يقولون لما منع من ذلك أن يخلقوا في الجنة
ثم يطلعوا منها فيروا النار ويعاينوا وحشتها وهولها وفيحها ، ونفار النفوس عنها
كالذي يعرض لنا عند الاطلاع على النيران العميقة المظلمة وإن كنا قط لم نقع فيها
ولا شاهدنا من وقع فيها بل ذلك كان يكون أبلغ في التحذير من وصفها دون رؤية لكن كما
فعل بالملائكة وحور العين وكون ذلك ادعى لهم إلى الشكر والحمد والاغتباط بمكانهم
واجتناب ما نهوا عنه خوف مفارقة ما قد حصلوا عليه.
ثم نقول لهم أيضا
: قولوا هذا فيهم بعد دخولهم الجنة : أمباح لهم الكفر والشتم والضرب فيما بينهم أم
محظور عليهم؟ لزمهم بهذا التوعد والتحذير هنالك قلنا نكون لو اخترعنا فيها على
الحال التي تكون فيها يوم القيامة ولا فرق وكان يكون أصلح لجميعنا بلا شك.
فإن قالوا : قد
سبقت الطاعة في الدنيا.
قيل لهم : وكذلك
كانت تسبق منهم في الجنة كالملائكة سواء بسواء. وهم لا يقولون إن المعاصي ،
والتضارب ، والتلاطم ، والتراكض ، والتشاتم ، مباح لهم في الجنة ، ولا يقول هذا
أحد ، فيحتاج إلى كسر هذا القول ، فإن لجئوا إلى قول أبي الهذيل : إن أهل الجنة
مضطرّون لا مختارون ، قيل لهم : وكنا نكون فيها كذلك أيضا ، كما نكون يوم القيامة
فيها ، فهذا كان أصلح للجميع بلا شك ، وهذا ما لا انفكاك لهم منه.
قال أبو محمد :
وأما قولهم إن الله علم أن بعضهم يكفر ولا بد ، فيجب عليه الخروج من الجنة.
قلنا لهم : أيقدر
الله على خلاف ما علم أم لا؟
فإن قالوا : نعم
يقدر ولكن لا يفعل ، أقرّوا أنه فعله من ترك ابتدائنا في الجنة إمضاء لما سبق في
علمه غير ما كان أصلح لنا بلا شك ، ورجعوا إلى الحق الذي هو
قولنا أنه تعالى
فعل ما سبق في علمه من تكليف ما لا يطاق ، ومن خلقه تعالى الكفر ، والظلم ،
وإنعامه على من يشاء وحده لا شريك له ، وتركوا قولهم في الأصلح.
وإن قالوا : لا
يقدر على غير ما علم أنه يفعله ، جعلوه مجبرا مضطرا عاجزا متناهي القوة ، ضعيف
القدرة ، محدثا في أسوأ حالة منهم ، وهذا كفر وخلاف للقرآن ولإجماع المسلمين ،
نعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
ونسألهم أيّ مصلحة للحشرات ، والكلاب ، والبق ، والدود ، في خلقها حشرات ، ولم
يخلقها ناسا مكلفين معرضين لدخول الجنة؟
فإن قالوا : لو
جعلها ناسا لكفروا.
قيل لهم : فقد جعل
الكفار ناسا فكفروا ، فهلّا نظر لهم كما نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لئلا
يكفروا؟ فكان أصلح لهم على قولكم ، وهذا ما لا مخلص منه.
قال أبو محمد :
ونسألهم فنقول لهم : إذا قلتم إن الله ـ تعالى ـ لا يقدر على لطف لو أتى به الكفار
لآمنوا إيمانا يستحقون معه الجنة ، لكنه قادر على أن لا يضطرهم إلى الإيمان!
أخبرونا عن
إيمانكم الذي تستحقون به الثواب ، هل يشوبه عندكم شك؟ أم يمكن بوجه من الوجوه أن
يكون عندكم باطلا؟
فإن قالوا : نعم
يشوبه شك ويمكن أن يكون باطلا.
أقرّوا على أنفسهم
بالكفر وكفونا مئونتهم.
وإن قالوا : لا
يشوبه شك ، ولا يمكن البتة أن يكون باطلا.
قلنا لهم : هذا هو
الاضطرار بعينه ، ليست الضرورة في العلم شيئا غير هذا ، إنما هو معرفة لا يشوبها
شك ، ولا يمكن اختلاف ما عرف بها ، فهذا هو علم الضرورة نفسه ، وما عدا هذا فهو ظن
وشكّ.
فإن قالوا : إن
الاضطرار ما علم بالحواس أو بأول العقل ، وما عداه فهو ما عرف بالاستدلال.
قلنا : هذه دعوى
فاسدة لأنها بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل وتقسيمنا هو الحق الذي يعرف ضرورة
وبالله ـ تعالى ـ التوفيق.
قال أبو محمد :
ونسألهم أيما كان أصلح للعالم أن يكون بريّا من السباع والأفاعي والدوابّ العادية
، أو أن يكون فيه كما هي مسلطة على الناس ، وعلى سائر الحيوان وعلى الأطفال؟
فإن قالوا : خلق
الله الأفاعي والسباع كخلق الحصى والحرث ، مزجرة للكفار.
قال أبو محمد :
وهذا من ظريف الجنون ، ولقد ضل بخلقتها جموع من المخذولين ممن جرى مجرى المعتزلة
في أن يتعقبوا على الله ـ عزوجل ـ فعله كالمنانية
والمجوس الذين جعلوا إلها خالقا غير الحكيم العدل.
ثم نقول للمعتزلة
: إن كان كما تقولون مصلحة فكان الاستكثار من المصلحة أصلح وأبلغ في الزجر والتخويف
، فكلّ هذه الدعاوى منهم حماقات ومكابرات بلا برهان ، ليست أجوبتهم فيها بأصح من
أجوبة المنّانية ، والمجوس ، وأصحاب التناسخ ، بل كلها جارية في ميدان واحد من
أنها كلها دعوى فاسدة بلا برهان ، بل البرهان ينقضها وكلها راجعة إلى أصل واحد ،
وهو تعليل أفعال الله ـ عزوجل ـ التي لا علة لها
أصلا والحكم عليه بمثل الحكم على خلقه فيما يحسن منه ويقبح ، تعالى الله عن ذلك.
قال أبو محمد :
ويقال لأصحاب الأصلح خاصة : ما معنى دعائكم في العصمة وأنتم تقولون إن الله ـ
تعالى ـ قد عصم الكفار كما عصم المؤمنين فلم يعتصموا؟ وما معنى دعائكم في الإعادة
من الخذلان ، وفي الرغبة في التوفيق ، وأنتم تقولون إنه ليس عنده أفضل مما قد
أعطاكموه ، ولا في قدرته زيادة على ما قد فعله بكم؟
وأيّ معنى لدعائكم
في التوبة وأنتم تقطعون على أنه لا يقدر على أن يعينكم في ذلك بمقدار شعرة زائدة
على ما قد أعطاكموه؟
فهل دعاؤكم في ذلك
إلّا ضلال ، وهزل ، وهزء كمن دعا إلى الله أن يجعله من بني آدم ، أو أن يجعل النبي
نبيا ، والحجر حجرا؟
وهل بين الأمرين
فرق؟
فإن قالوا : إن
الدعاء عمل أمرنا الله ـ تعالى ـ به.
قيل لهم : إن
أوامره ـ تعالى ـ من جملة أفعاله بلا شك ، وأفعاله عندكم تجري على ما يحسن في
العقل ويقبح فيه في المعهود وفيما بيننا وعلى الحكمة عندكم وقد علمنا أنه لا يحسن
في العقل ويقبح فيه في المعهود وفيما بيننا وعلى الحكمة عندكم وقد علمنا أنه لا
يحسن في الشاهد بوجه من الوجوه أن يأمر أحدا يرغب إليه فيما ليس بيده ، ولا فيما
قد أعطاه إياه ، وكلا هذين الوجهين عبث وسفه ، وهم مقرون بأجمعهم أن الله ـ تعالى ـ
حكم بهذا وفعله وهو أمره لهم بالدعاء إليه إما فيما لا يوصف عندهم بالقدرة عليه
وإما فيما قد أعطاهم إياه ، وهو عندهم عدل وحكمة ، فنقضوا أصلهم الفاسد بلا شك.
وأمّا نحن فإننا نقول : إن الدعاء عمل أمرنا الله ـ عزوجل ـ به فيما
نقدر عليه ثم إن
شاء أعطانا ما سألناه وإن شاء منعنا إيّاه لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.
قال أبو محمد :
وإن في ابتداء كتاب الله ـ عزوجل ـ المنزل إلينا
بقوله ـ تعالى ـ آمرا لنا أن نقوله راضيا منّا أن نقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ) [سورة الفاتحة : ٦
، ٧]. ثم ختم ـ تعالى ـ كتابه آمرا لنا أن نقوله راضيا بقوله : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ
النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [سورة الناس].
لأبين بيان في
تكذيب القائلين بأنه ليس عند الله ـ تعالى ـ أصلح مما فعل وأنه غير قادر على كف
وسوسة الشيطان ، ولا على هدى الكفار هدى يستحقون به الثواب كما وعد المهتدين ،
لأنه ـ عزوجل ـ نصّ على أنه هو
المطلوب منه العون لنا والهدى إلى صراط من خصّه بالنعمة عليه ، لا إلى صراط من غضب
عليه ـ تعالى ـ وضلّ فلو لا أنه ـ تعالى ـ قادر على الهدى المذكور ، وأن عنده عونا
على ذلك لا يؤتيه إلا من شاء دون من لم يشأ ، وأنه ـ تعالى ـ أنعم على قوم بالهدى
ولم ينعم به على آخرين لما أمرنا أن نسأله من ذلك ما ليس يقدر عليه أو ما قد
أعطانا إياه ونص ـ تعالى ـ على أنه قادر على صرف وسوسة الشيطان ، فلو لا أنه ـ
تعالى يصرفها عمن يشاء لما أمرنا ـ عزوجل ـ أن نستعيذ مما
لا يقدر على الإعاذة منه ، أو ممّا قد أعاذنا بعد منه.
قال أبو محمد :
ولا مخلص لهم من هذا أصلا ثم نسألهم أيّ مصلحة للعصاة في أن جعل بعض حركاتهم
وسكونهم كبائر يستحقون عليها النار ، وجعل بعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة ،
ولقد كان أصلح أن يجعلها كلها صغائر مغفورة؟
فإن قالوا : هذا
أزجر عن المعاصي وأصلح.
قيل لهم : فهلّا
إذ هو كما تقولون جعلها جميعها كبائر زاجرة ، فهو أبلغ في الزجر! قال أبو محمد :
وقد نص الله ـ تعالى ـ في القرآن في آيات كثيرة لا تحتمل تأويلا بتكذيب المعجّزين
لربهم ـ تعالى ـ وليس يمكنهم وجود آية ولا سنة يتعلقون بها أصلا ، فمنها قوله ـ
تعالى ـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف :
١٥٥].
أفلم يكن عنه أصلح
من فتنة يضل بها بعض خلقه حاشا لله من هذا الكفر والتعجيز.
وقال ـ تعالى ـ
حاكيا عن الذين أثنى عليهم من مؤمني الجن ، أنهم قالوا : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [سورة الجن : ١٠].
قال أبو محمد :
وصدقهم الله ـ عزوجل ـ في ذلك إذ لو
أنكره لما أورده مثنيا عليهم في ذلك ، وهذا في غاية البيان الذي قد هلك من خالفه ،
وبطل به قول الضّلّال الملحدين القائلين : إن الله ـ تعالى ـ أراد رشد فرعون
وإبليس ، وأنه ليس عنده أصلح مما فعل بهما ولا يقدر لهما على هدى أصلا.
وقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [سورة الأعراف : ١٧٩].
فليت شعري أيّ
مصلحة لهم في أن يذرأهم لجهنم؟ نعوذ بالله من هذه المصلحة. وقال تعالى : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) [سورة غافر : ٩].
فصح أنه ـ تعالى ـ
هو الذي يقي السيئات ، وأن الذي رحمه هو الذي وقاه السيئات ، لأنّ من لم يقه
السيئات فلم يرحمه ، وبلا شك أن من وقاه السيئات فقد فعل به أصلح مما فعل بمن لم
يقه إياها ، هذا مع قوله ـ تعالى : ـ (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [سورة السجدة : ١٣]
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [سورة يونس : ٩٩].
ولا يشك من لدماغه
أقل سلامة ، أو في وجهه من برد الحياء شيء ، في أن هذا كان أصلح بالكفار من
إدخالهم النار ، بأن لا يؤتيهم ذلك الهدى ، وإن كانوا كما يقولون من دخولهم الجنة
بغير استحقاق.
وقال ـ تعالى ـ : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ
وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة الحجرات : ٧].
فليت شعري أين
فعله ـ تعالى ـ بهؤلاء ـ نسأل الله أن يجعلنا منهم ـ من فعله بالذين قال فيهم :
إنّه ختم على قلوبهم وزيّن لهم سوء أعمالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجا.
إنّ من ساوى بين
الأمرين وقال : إن الله ـ تعالى ـ لم يعط هؤلاء إلا ما أعطى هؤلاء ، ولا أعطى من
الهدى والاختصاص محمدا وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى والملائكة ـ عليهمالسلام ـ إلّا ما أعطى
إبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب والذي حاجّ إبراهيم في ربّه واليهود والنصارى
والمجوس والثقلين والشرط والبغّائين ، والعواهر ،
(وَثَمُودَ الَّذِينَ
جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي
الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) [سورة الفجر : ٩ ـ
١٢] ، بل سوىّ في التوفيق بين جميعهم ، ولم يقدر لهم على مزيد من الصلاح ، لقليل الحياء عديم الدين ، وما جوابه إلا قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [سورة الفجر : ١٤]
وقال ـ عزوجل ـ : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً
فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [سورة البقرة :
٢١٣].
قال أبو محمد :
فأيما كان أصلح للكفار المخلدين في النار أن يكونوا مع المؤمنين أمة واحدة ، لا
عذاب عليهم ، أم بعثه الرسل إليهم وهو ـ عزوجل ـ يدري أنهم لا
يؤمنون فيكون ذلك سببا إلى تخليدهم في جهنم؟
وقال تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [سورة الأعراف :
١٨٣].
وقال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [سورة آل عمران :
١٧٨].
وقال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [سورة المؤمنون :
٥٥ ، ٥٦].
وقال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف :
١٨٢ ، سورة القلم : ٤٤].
قال أبو محمد :
وهذا غاية البيان في أن الله عزوجل أراد بهم وفعل بهم ما فيه فساد أديانهم وهلاكهم ، الذي هو
ضد الصلاح ، وإلّا فأيّ مصلحة لهم في أن يستدرجوا إلى الهلاك من حيث لا يعلمون ،
وفي الإملاء لهم ليزدادوا إثما؟ ونص تعالى أن كل ذلك الذي فعله ليس مسارعة لهم في
الخير فبطل قول هؤلاء الهلكى جملة والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً) [سورة الإسراء :
١٦].
فهل بعد هذا بيان
في أن الله عزوجل أراد هلاكهم ودمارهم ولم يرد صلاحهم فأمر مترفيها بأوامر
خالفوها ففسقوا فدمروا تدميرا؟
فأيما كان أصلح
لهم أن لا يؤمروا فيسلموا ، أو أن يؤمروا وهو ـ تعالى ـ يدري أنهم لا يأتمرون ،
فيدخلون النار؟
__________________
فإن قالوا :
فاحملوا قوله تعالى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) [سورة الإسراء :
١٦] على ظاهره ، قلنا : نعم هكذا نقول ولم يقل تعالى : إنه أمرهم بالفسق وإنما قال
تعالى : «أمرناهم». فقط. وقد نص ـ تعالى ـ على أنه لا يأمر بالفحشاء فصح قولنا
أيضا. وقال عزوجل : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [سورة محمد : ٣٨].
فنص ـ تعالى ـ على أن أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم لو تولّوا لأبدل قوما غيرهم ، لا يكونون أمثالهم.
وبالضرورة نعلم
أنه عزوجل إنما أراد خيرا منهم ، فقد صحّ أنه عزوجل قادر على أن يخلق أصلح منهم.
وقال تعالى : (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
خَيْراً مِنْهُمْ) [سورة المعارج :
٤٠ ، ٤١].
وفي هذا كفاية.
وقال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [سورة التحريم : ٥].
فهل في البيان في أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يفعل أصلح مما فعل ، وأن عنده ـ
تعالى ـ أصلح مما أعطى خلقه أبين أو أوضح أو أصح من إخباره ـ تعالى ـ أنه قادر على
أن يبدل نبيه صلىاللهعليهوسلم الذي هو أحب الناس إليه خيرا من الأزواج اللّواتي أعطاه
واللواتي هن خير الناس بعد الأنبياء عليهمالسلام؟
قال أبو محمد :
فبطل قول البقر الشاذة أصحاب الأصلح في أنه ـ تعالى ـ لا يقدر على أصلح مما فعل.
قال أبو محمد :
نسأل الله العافية مما ابتلاهم به ، ونسأله الهدى الذي حرمهم إياه ، وكان قادرا
على أن يتفضل عليهم به ، فلم يرد ، وما توفيقنا إلا بالله عزوجل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال أبو محمد :
كلّ من منع قدرة الله عزوجل عن شيء مما ذكرنا فلا شكّ في كفره ، لأنه عجّز ربه ـ تعالى
ـ وخالف جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد :
وقالوا : إذا كان عنده أصلح مما فعل بنا ولم يؤتنا إياه وليس بخيلا وخلق أفعال
عباده وعذّبهم عليها ولم يكن ظالما فلا تنكروا على من قال إنه جسم ولا يشبه خلقه
وأنه يقول غير الحق ولا يكون كاذبا.
قال أبو محمد :
فجوابنا وبالله ـ تعالى ـ التوفيق أنه ـ تعالى ـ لم يقل إنه جسم ولو قاله لقلناه
ولم يكن ذلك تشبيها له بخلقه ، ولم يقل تعالى إنه يقول غير الحق ، بل قد أبطل ذلك
وقطع بأن قوله الحق ، فمن قال على الله ما لم يقله فهو ملحد كاذب على الله
عزوجل وقد قال ـ تعالى ـ إنه خلق كل شيء وخلقنا وما نعمل ، وأنه
لو شاء لهدى كل كافر ، وأنه غير ظالم ولا بخيل ولا ممسك ، فقلنا ما قال من كل ذلك
، ولم نقل ما لم يقل ، وقلنا ما قام به البرهان العقلي ، من أنه ـ تعالى ـ خالق
كلّ موجود دونه ، وأنه تعالى قادر على كل ما يسأل عنه وأنه لا يوصف بشيء من صفات
العباد ، لا ظلم ولا بخل ، ولا غير ذلك ، ولم نقل ما قد قام به البرهان العقلي على
أنه باطل من أنه جسم ، أو أنه يقول غير الحق.
وقال بعض أصحاب
الأصلح وهو ابن بدد الغزال تلميذ محمد بن شبيب تلميذ النظام : بلى إن عند الله ألطافا لو أتى بها الكفار
لآمنوا إيمانا يستحقون معه الثواب ، إلا أن الثواب الذي يستحقونه على ما فعل بهم
أعظم وأجل ، فلهذا منعهم تلك الألطاف.
قال أبو محمد :
وهذا تمويه ضعيف لأننا إنما سألناهم هل يقدر الله ـ تعالى ـ على ألطاف إذا أتى بها
أهل الكفر آمنوا إيمانا يستحقون به مثل هذا الثواب الذي يؤتيهم على الإيمان اليوم
أو أكثر من ذلك الثواب؟ فلا بد له من ترك قوله أو تعجيز ربه تعالى.
قال أبو محمد :
ونسأل جميع أصحاب الأصلح ، فنقول لهم وبالله ـ تعالى ـ التوفيق : أخبرونا عن كل من
شاهد براهين الأنبياء عليهمالسلام ممن لم يؤمن به ، وصحت عنده بنقل التواتر ، هل صحّ عندهم
صحة لا مجال للشك فيها أنها شواهد موجبة صدق نبوتهم ، أو لم يصح ذلك عندهم إلا
بغالب الظن ، وبصفة أنها مما يمكن أن يكون تخييلا أو سحرا أو نقلا مدخولا؟ ولا بد
من أحد الوجهين.
فإن قالوا : بل
صحّ ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها ، وثبت ذلك في عقولهم بلا شك.
قلنا لهم : هذا هو
الاضطرار نفسه الذي لا اضطرار في العالم غيره ، وهذه صفة كل من ثبت عنده شيء ثباتا
متيقنا كمن يتيقن بالخبر الموجب للعلم ، موت فلان ،
__________________
وكون صفين ،
والجمل ، وكسائر ما لم يشاهد المرء بحواسه ، فالكل على هذا مضطرون إلى الإيمان لا
مختارون له.
وإن قالوا : لم
يصح عندهم شيء من ذلك ، هذه الصحة.
قلنا لهم : فما
قامت عليهم حجة النبوة قط ، ولا صحت لله تعالى عليهم حجة ، ومن كان هكذا فاختياره
للإيمان إنما هو استحباب وتقليد واتباع لما مالت إليه نفسه وغلب في ظنه فقط ، وفي
هذا بطلان جميع الشرائع وسقوط حجة الله تعالى ، وهذا كفر مجرد.
هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا؟
قال أبو محمد :
اختلف المتكلمون في هذه المسألة.
فقالت المعتزلة :
إن نعم الله تعالى على الكفار في الدين والدنيا كنعمه على المؤمنين ولا فرق.
وهذا قول فاسد قد
نقضناه آنفا ولله الحمد.
وقالت طائفة أخرى
: إن الله تعالى لا نعمة له على كافر أصلا ، لا في دين ولا دنيا.
وقالت طائفة : له
تعالى عليهم نعم في الدنيا ، فأما في الدين فلا نعمة له عليهم فيه أصلا.
قال أبو محمد :
قال الله عزوجل : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة النساء : ٥٩].
قال أبو محمد :
فوجدنا الله عزوجل يقول : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) [سورة غافر : ٦١].
وقال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [سورة غافر : ٦٤].
قال أبو محمد :
فهذا عموم بالخطاب بإنعام الله تعالى على كل من خلق الله تعالى وعموم لمن يشكر من
الناس ، والكفار من جملة ما خلق الله تعالى بلا شك.
وأما أهل الإسلام
فكلهم شاكر لله تعالى بالإقرار به ، ثم يتفاضلون في الشكر ، وليس أحد من الخلق
يبلغ كلّ ما عليه من شكر الله تعالى فصح أن نعم الله تعالى في الدنيا على الكفار
كهي على المؤمنين ، وربما أكثر في بعضهم في بعض الأوقات ، قال
تعالى : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [سورة إبراهيم :
٢٨ ، ٢٩].
وهذا نص جليّ على
نعم الله تعالى على الكفار ، وأنهم بدّلوها كفرا فلا يحل لأحد أن يعارض كلام ربه
تعالى برأيه الفاسد.
وأما نعمة الله في
الدّين ، فإن الله تعالى أرسل إليهم الرسل هادين لهم إلى ما يرضي الله تعالى وهذه
نعمة عامّة بلا شك ، فلما كفروا وجحدوا نعم الله تعالى في ذلك أعقبهم البلاء وزوال
النعمة كما قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا
يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [سورة الرّعد : ١١].
وبالله تعالى
نتأيد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كتاب الإيمان والكفر والطاعات
والمعاصي والوعد والوعيد
قال أبو محمد :
اختلف الناس في ماهية الإيمان.
فذهب قوم إلى أن
الإيمان إنما هو : معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهودية والنصرانية
وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل
الجنّة ، وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري البصري وأصحابهما.
وذهب قوم إلى أن
الإيمان هو : إقرار باللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه ، فإذا فعل ذلك فهو
مؤمن من أهل الجنة ، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه.
وذهب قوم إلى أن
الإيمان هو : المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معا ، فإذا عرف المرء الدين بقلبه ،
وأقرّ به بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام وأن الأعمال لا تسمى إيمانا
ولكنها شرائع الإيمان ، وهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من
الفقهاء.
وذهب سائر الفقهاء
وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو : المعرفة
بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح ، وأن كل طاعة وعمل خير فرضا
كان أو نافلة فهي إيمان ، وكلما ازداد الإنسان خيرا ازداد إيمانه ، وكلما عصى نقص
إيمانه ، وقال محمد بن زياد الحريري الكوفي : من آمن بالله عزوجل وكذب برسول الله صلىاللهعليهوسلم فليس مؤمنا على الإطلاق ولا كافرا على الإطلاق ، ولكنه
مؤمن كافر معا ، لأنه آمن بالله تعالى فهو مؤمن ، وكافر بالرسول صلىاللهعليهوسلم فهو كافر.
قال أبو محمد :
فحجة الجهمية ، والكرامية ، والأشعرية ، ومن ذهب مذهب أبي حنيفة حجة واحدة وهي
أنهم قالوا : إنما نزل القرآن بلسانه عربي مبين ، وبلغة العرب خاطبنا الله تعالى
ورسول الله صلىاللهعليهوسلم والإيمان في اللغة هو : التصديق ، فقط ، والعمل بالجوارح
لا يسمى في اللغة تصديقا فليس إيمانا ، قالوا : والإيمان هو التوحيد ، والأعمال
لا تسمى توحيدا
فليست إيمانا ، قالوا ولو كانت الأعمال توحيدا وإيمانا لكان من ضيع شيئا منها قد
ضيع الإيمان ، وفارق الإيمان ، فوجب أن لا يكون مؤمنا. قالوا : وهذه الحجة إنما
تلزم أصحاب الحديث خاصة ، لا تلزم الخوارج ولا المعتزلة ، لأنهم يقولون بذهاب
الإيمان جملة بإضاعة الأعمال.
قال أبو محمد : ما
لهم حجة غير ما ذكرنا ، وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلا لما نذكره إن شاء عزوجل.
قال أبو محمد : إن
الإيمان هو التصديق في اللغة ، فهذا حجة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة
لأقوالهم إبطالا تاما كافيا لا يحتاج معه إلى غيره ، وذلك قولهم : إن الإيمان في
اللغة التي نزل بها القرآن هو التصديق فليس كما قالوا على الإطلاق ، وما سمي قط
التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيمانا في لغة العرب ، وما قال قط عربي : إن
من صدّق شيئا بقلبه فأعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنه يسمى مصدقا به أصلا ولا
مؤمنا به البتة ، وكذلك ما سمي قط التصديق باللّسان دون التصديق بالقلب إيمانا في
لغة العرب أصلا على الإطلاق ، ولا يسمى تصديقا في لغة العرب ولا إيمانا مطلقا إلا
من صدّق بالشيء بقلبه ولسانه معا ، فبطل تعلق الجهمية والأشعرية باللغة جملة ، ثم
نقول لمن ذهب مذهب أبي حنيفة في أن الإيمان إنما هو التصديق باللسان والقلب معا ،
وتعلق في ذلك باللغة : إن تعلقكم باللغة لا حجة لكم فيه أصلا ، لأن اللغة يجب فيها
ضرورة أن كل من صدّق بشيء فإنه مؤمن به وأنتم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكم
توقعون اسم الإيمان ، ولا تطلقونه على كل من صدّق بشيء ما ، ولا تطلقونه إلا على
صفة محدودة دون سائر الصفات ، وهي من صدق الله عزوجل وبرسوله صلىاللهعليهوسلم وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة
والزكاة وغير ذلك مما قد أجمعت الأمة على أنه لا يكون مؤمنا من لم يصدق به ، وهذا
خلاف اللغة مجرد.
فإن قالوا : إن
الشريعة أوجبت علينا هذا.
قلنا : صدقتم ،
فلا تتعلقوا باللغة حيث جاءت الشريعة بنقل اسم منها عن موضوعه في اللغة كما فعلتم
آنفا سواء بسواء ولا فرق.
قال أبو محمد :
ولو كان ما قالوه صحيحا لوجب أن يطلق اسم الإيمان على كل من صدّق بشيء ما ، ولكان
من صدّق بإلهية الحلّاج ، وبإلهية المسيح ، وبإلهية الأوثان ، مؤمنين ، لأنهم
مصدقون بما صدقوا به وهذا لا يقوله أحد ممن ينتمي إلى
الإسلام ، بل
قائله كافر عند جميعهم ، ونص القرآن يكفر من قال بهذا قال الله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
حَقًّا) [سورة النساء :
١٥٠ ، ١٥١].
فهذا الله عزوجل شهد بأن قوما يؤمنون ببعض الرسل وبالله تعالى ويكفرون ببعض
فلم يجز مع ذلك أن يطلق عليهم اسم الإيمان أصلا ، بل أوجب لهم اسم الكفر بنص
القرآن.
قال أبو محمد :
وقول محمد بن زياد الحريري لازم لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة
وموجبها وهو قول لم يختلف مسلمان في أنه كفر مجرد ، وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا.
قال أبو محمد :
فبطل تعلق هذه الطوائف باللغة جملة.
وأما قولهم : إنه
لو كان العمل يسمى إيمانا لكان من ضيّع منه شيئا فقد أضاع الإيمان ووجب أن لا يكون
مؤمنا.
فإني قلت لبعضهم
وقد ألزمني هذا الإلزام كلام تفسيره وبسطه أننا لا نسمي في الشريعة اسما إلا بأن
يأمرنا الله تعالى أن نسميه أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه ، لأننا لا ندري مراد
الله عزوجل منا إلا بوحي وارد من عنده علينا ومع هذا فإن الله عزوجل يقول منكرا لمن سمى في الشريعة شيئا بغير إذنه عزوجل (إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [سورة النجم : ٢٣
، ٢٤].
وقال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [سورة البقرة : ٣١
، ٣٢].
فصح أنه لا تسمية
مباحة لملك ولا لنبي دون الله تعالى ومن خالف هذا فقد افترى على الله عزوجل الكذب وخالف القرآن فنحن لا نسمي مؤمنا إلا من سماه الله عزوجل مؤمنا ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلا عمن أسقطه الله عزوجل ووجدنا بعض الأعمال التي سمّاها الله عزوجل إيمانا لم يسقط الله عزوجل اسم الإيمان عن تاركها فلم يجز لنا أن نسقط عنه لذلك ، لكن
نقول : إنه ضيّع بعض الإيمان ولم يضيّعه كله كما جاء النص على ما نبين إن شاء الله
تعالى.
قال أبو محمد :
فإذا سقط كل ما موّهت به هذه الطوائف كلها ولم يبق لهم
حجة أصلا فلنقل
بعون الله عزوجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل
الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان عقد وقول وعمل ،
وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : أصل الإيمان كما قلنا في اللغة : التصديق بالقلب وباللسان معا بأي شيء
صدّق المصدق لا شيء دون شيء البتة إلا أن الله عزوجل على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة
معروفة لا على العقد لكل شيء ، وأوقعها أيضا تعالى على الإقرار باللّسان بتلك
الأشياء خاصة لا بما سواها وأوقعها أيضا على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له
تعالى فقط ، فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به وهو تعالى خالق
اللغة وأهلها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء. ولا عجب أعجب ممن أن
وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطّرمّاح أو للشماخ أو لأعرابي
أسدي ، أو سلمي أو تميمي ، أو من سائر أبناء العرب بوّال على عقبيه لفظا في شعر أو
نثر جعله في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها
كلاما لم يلتفت إليه ولا جعله حجة ، وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل
في حالته عما أوقعه الله عليه ، وإذا وجد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كلاما فعل به مثل ذلك.
وتالله لقد كان محمد
بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة وأيام كونه
فتى بمكة بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل أعلم بلغة قومه وأفصح فيها وأولى بأن يكون
ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفي ، وقيسي ، وربيعي ، وإيادي وتيمي ، وقضاعي ، وحميري ، فكيف بعد أن اختصه
الله تعالى للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه ، وأجرى على لسانه كلامه وضمن
حفظه وحفظ ما يأتي به؟ فأيّ ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن
كلاب يقول :
__________________
فعلت فروع
الأيهقان وأطفلت
|
|
بالجلهتين
ظباؤها ونعامها
|
فجعله حجة وأبو
زياد الكلابي يقول : «ما عرفت العرب قط الأيهقان وإنما هو اللهق بيت
معروف».
ويسمع قول ابن
أحمر «كما تفلّق عن مأموسة الحجر». وعلماء اللغة يقولون إنه لم يعرف قط لأحد من
العرب أنه سمى النار «مأموسة» إلا ابن أحمر فيجعله حجة ويجيز قول من قال من
الأعراب : «هذا جحر ضبّ خرب» وسائر الشواذ عن معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره
ويحتجّ بكل ذلك ثم يمتنع من إيقاع اسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى
ورسوله صلىاللهعليهوسلم محمد بن عبد الله القرشي المسترضع في بني سعد ابن بكر
ويكابر في ذلك بكل باطل ، وبكل حماقة ، وبكل دفع للمشاهدة ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
فمن الآيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ) [سورة الفتح : ٤].
قال أبو محمد :
والتصديق بالشيء أيّ شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص ، وكذلك
التصديق بالتّوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص ، لأنه لا
يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقرّ أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة
أوجه لا رابع لها :
إما أن يصدق بما
اعتقد وأقر.
وإما أن يكذّب بما
اعتقد.
وإما منزلة بينهما
: وهي الشك.
__________________
فمن المحال أن
يكون إنسان مكذبا بما يصدق به.
ومن المحال أن يشك
أحد فيما يصدق به.
فلم يبق إلا أنه
مصدّق بما اعتقد بلا شك ، ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر لأن حد
التصديق إذا دخلت داخله فبالضرورة يدري كلّ ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا
بدّ ، وحصل في الشك ، لأن معنى التصديق إنما هو أن يقطع ويوقن وجود ما صدّق به ،
ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصّفة ، فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شكّ فيه
فليس مصدقا به وإذا لم يكن مصدقا به فليس مؤمنا به.
فصحّ أن الزيادة
التي ذكر الله عزوجل في الإيمان ليست في التّصديق أصلا ولا في الاعتقاد البتة
فهي ضرورة في غير التصديق وليس هاهنا إلا الأعمال فقط.
فصح يقينا أن
أعمال البر إيمان بنصّ القرآن وكذلك قول الله عزوجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [سورة التوبة :
١٢٤].
وقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) [سورة آل عمران :
١٧٣].
فإن قال قائل :
معنى زيادة الإيمان هاهنا إنما هو لمّا نزلت تلك الآية صدقوا بها فزادهم بنزولها
إيمانا وتصديقا بشيء وارد لم يكن عندهم.
قيل لهم وبالله
تعالى التوفيق : هذا محال ، لأنه قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون
بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف فلم يزدهم نزول الآية
تصديقا لم يكونوا اعتقدوه.
فصحّ أن الإيمان
الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدّقوا
به قط ، ولا كان جائزا لهم أن يعتقدوه ويعملوا به ، بل كان فرضا عليهم تركه
والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه ، ولا عدد
للاعتقاد ولا كمية ، وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال قط.
فإن قالوا : إن
تلاوتهم لها زيادة إيمان.
قلنا : صدقتم. وهذا
هو قولنا ، والتلاوة عمل بجارحة اللسان ليس إقرارا بالمعتقد ، ولكنه من نوع الذكر
بالتسبيح والتهليل. وقال تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة :
١٤٣].
ولم يزل أهل
الإسلام قبل الجهمية والأشعرية والكرّامية وسائر المرجئة مجمعين على أنّه تعالى
إنما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة وقال عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً) [سورة المائدة : ٣].
وقال عزوجل : (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [سورة البينة : ٥].
فنص تعالى على أن
عبادة الله تعالى في حال إخلاص الدين له تعالى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
الواردتين في الشريعة كله دين القيمة وقال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران :
١٩].
وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [سورة آل عمران :
٨٥].
فنص تعالى أن
الدين هو الإسلام ، ونصّ قبل على أن العبادات كلها والصلاة والزكاة هي الدين فأنتج
ذلك يقينا أن العبادات هي الدين ، والدين هو الإسلام ، فالعبادات هي الإسلام وقال عزوجل : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة الحجرات :
١٧].
وقال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الذاريات :
٣٥ ، ٣٦].
فهذا نصّ جليّ على
أن الإسلام هو الإيمان ، وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البرّ كلها هي الإسلام ،
والإسلام هو الإيمان ، فأعمال البرّ كلها إيمان وهذا برهان ضروري لا محيد عنه
وبالله تعالى التوفيق.
وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء : ٦٥].
فنص ـ تعالى ـ
وأقسم بنفسه أنه لا يكون مؤمنا إلا بتحكيم النبي صلىاللهعليهوسلم في كل ما عنّ ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى.
فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب ، وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم
يأت به.
فصح يقينا أن
الإيمان اسم واقع على الأعمال في كل ما في الشريعة وقال تعالى : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [سورة النساء :
١٥٠ ، ١٥١].
فصحّ أن لا يكون
التصديق مطلقا إيمانا إلا حتّى يستضيف إليه ما نصّ الله تعالى عليه.
ومما يتبين أن
الكفر يكون بالكلام قول الله عزوجل : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما
أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) إلى قوله : (يا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) [سورة الكهف : ٣٥ ـ
٤٢].
فأثبت الله الشرك
والكفر مع إقراره بربه تعالى إذ شك في البعث وقال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [سورة البقرة : ٨٥].
فصح أنّ من آمن
ببعض الدين وكفر بشيء منه فهو كافر مع صحة تصديقه لما صدق من ذلك.
قال أبو محمد :
وأكثر الأسماء الشرعية فإنها موضوعة من عند الله تعالى على مسمّيات لم يعرفها
العرب قط ، هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممّن يدري اللغة العربية ويدري
الأسماء الشرعية كالصلاة فإنه موضوع هذه اللفظة في لغة العرب : الدّعاء فقط.
فأوقعها الله
تعالى عزوجل على حركات محدودة معدودة من قيام موصوف إلى جهة موصوفة لا
تتعدى ، وركوع كذلك وسجود كذلك وقعود كذلك وقراءة كذلك وذكر كذلك في أوقات محدودة
وبطهارة محدودة وبلباس محدود ، متى لم تكن على ذلك بطلت ولم تكن صلاة ، وما عرفت
العرب قط شيئا من هذا كله فضلا عن أن تسميه حتى أتانا بهذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد قال بعضهم : إن في الصلاة دعاء فلم يخرج الاسم بذلك
عن موضوعه في اللغة.
قال أبو محمد :
وهذا باطل لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من أتى بعدد الركعات وقرأ أم القرآن
وقرآنا معها في كل ركعة وأتى بعدد الركوع والسجود والجلوس والقيام والتشهد وصلّى
على النبي صلىاللهعليهوسلم وسلم بتسليمتين فقد صلّى كما أمر وإن لم يدع بشيء أصلا.
وفي الفقهاء من
يقول : إن من صلى خلف الإمام فلم يقرأ أصلا ولا تشهد ولا دعا أصلا فقد صلى كما أمر.
وأيضا فإن ذلك
الدعاء في الصلاة لا يختلف أحد من الأمة في أنه ليس شيئا ولا يسمى صلاة أصلا عند
أحد من أهل الإسلام.
فعلى كل قد أوقع
الله عزوجل اسم الصلاة على أعمال غير الدعاء ولا بد ، وعلى دعاء محدود
لم تعرفه العرب قط ، ولا عرفت إيقاع الصلاة على دعاء بعينه دون سائر الدعاء.
ومنها الزكاة ،
وهي موضوعة في اللغة للنماء والزيادة فأوقعها الله تعالى على إعطاء مال محدود
معدود من جملة أموال ما موصوفة معدودة معينة دون سائر الأموال لقوم محدودين في
أوقات محدودة فإن هو تعدّى شيئا من ذلك لم يقع على فعله ذلك اسم زكاة ولم تعرف
العرب قط هذه الصفات.
والصيام في لغة
العرب : الوقوف.
نقول : صام النهار
إذا طال حتى صار كأنه واقف لطوله.
قال امرؤ القيس :
إذا صام النّهار
وهجّرا
وقال آخر وهو
النابغة الذبياني :
خيل صيام وخيل
غير صائمة
|
|
تحت العجاج وخيل
تعلك اللّجما
|
فأوقع الله تعالى
اسم الصيام على الامتناع من الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء من وقت محدود بتبين
الفجر الثاني إلى غروب الشمس في أوقات من السنة محدودة فإن تعدّى لم يسمّ صياما
وهذا أمر لم تعرفه العرب قط.
فظهر فساد قول من
قال : إن الأسماء لا تنقل في الشريعة عن موضوعها في اللغة. وصح أن قولهم هذا
مجاهرة سمجة قبيحة.
قال أبو محمد :
فإذ قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال إنه
__________________
التصديق ،
فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بدّ لأن معنى الزيادة إنما هي
عدد مضاف إلى عدد ، وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم
الزيادة فيه وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء : «ما رأيت من ناقصات
عقل ودين أسلب للبّ الرّجل الحازم منكنّ» قلن : يا رسول الله وما نقصان ديننا؟ قال عليهالسلام : «أليس
تقيم المرأة العدد من الأيّام واللّيالي لا تصوم ولا تصلّي فهذا نقصان دينها» .
قال أبو محمد :
ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقا ، لأن التصديق لا يتبعض أصلا ،
ولصار شكا ـ وبالله تعالى التوفيق ـ وهم مقرّون بأن امرأ لو لم يصدق بآية من
القرآن أو بسورة منه وصدق بسائره لبطل إيمانه.
فصحّ أن التصديق
لا يتبعض أصلا.
قال أبو محمد :
وقد نص الله عزوجل على أن اليهود يعرفون النبي صلىاللهعليهوسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة والإنجيل وقال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [سورة الأنعام :
٣٣].
وأخبر تعالى عن
الكفار فقال : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة الزخرف : ٨٧].
فأخبر تعالى أنهم
يعرفون صدقه ولا يكذبونه وهم اليهود والنصارى وهم كفار بلا خلاف من أحد من الأمة
ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه عن الإسلام.
ونصّ تعالى عن
إبليس أنه عارف بالله تعالى وبملائكته وبرسله وبالبعث ، وأنه قال : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) [سورة الحجر : ٣٦].
وقال : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ
خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [سورة الحجر : ٣٣].
وقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ) [سورة الأعراف :
١٢].
وكيف لا يكون
مصدقا بكل ذلك وهو قد شاهد ابتداء خلق الله تعالى لآدم ،
__________________
وخاطبه تعالى
خطابا كثيرا ، وسأله (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ) [سورة ص : ٧٥] ،
وأمره بالخروج من الجنة ، وأخبره أنه منظر إلى يوم الدّين وأنه ممنوع من إغواء من
سبقت له الهداية؟
وهو مع ذلك كله
كافر بلا خلاف. إما بقوله عن آدم : أنا خير منه ، وإما بامتناعه للسجود ؛ لا يشك
أحد في ذلك. ولو كان الإيمان هو بالتصديق والإقرار فقط لكان جميع المخلدين في
النار من اليهود والنصارى وسائر الكفار مؤمنين حينئذ ، لأنهم كلهم مصدقون بكل ما
كذّبوا به في الدنيا مقرون بكل ذلك ، ولكان إبليس واليهود والنصارى في الدنيا
مؤمنين ضرورة وهذا كفر مجرد ممن أجازه ، وإنما كفر أهل النار بمنعهم من الأعمال.
قال تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ
إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [سورة القلم : ٤٢].
قال أبو محمد :
فلجأ هؤلاء المخاذيل إلى أن قالوا : إن اليهود والنصارى لم يعرفوا قط أن محمدا
رسول الله ، ومعنى قول الله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [سورة البقرة :
١٤٦ ، الأنعام : ٢٠]. أي أنهم يميّزون صورته ويعرفون أن هذا الرجل هو محمد بن عبد
الله بن عبد المطلب الهاشمي فقط.
وأن معنى قوله
تعالى : (يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [سورة الأعراف :
١٥٧].
إنما هو أنهم
يجدون سوادا في بياض لا يدرون ما هو ولا يفهمون معناه ، وأن إبليس لم يقل شيئا مما
ذكر الله عزوجل عنه أنه قاله مجدّا ، بل قاله هازلا.
وقال هؤلاء أيضا :
إنّه ليس على ظهر الأرض ولا كان قط كافر يدري أن الله حق ، وأن فرعون قط لم يتبين
له أن موسى نبي بالآيات التي عمل.
قال أبو محمد :
وقالوا : إذا كان الكافر يصدّق أن الله حق ، والتصديق إيمان في اللغة فهو مؤمن إذا
أوجد فيه إيمان ليس به مؤمنا وكلا القولين محال.
قال أبو محمد :
هذه نصوص أقوالهم التي رأيناها في كتبهم وسمعناها منهم وكان ممّا احتجوا به لهذا
الكفر المجرد أن قالوا : إن الله عزوجل سمّى كل من ذكرنا كفارا ومشركين فدلّ ذلك على أنه علم أن
في قولهم كفرا وشركا وجحدا.
وقال هؤلاء : إن
شتم الله عزوجل وشتم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليس كفرا لكنه دليل على أن في قلبه كفرا.
قال أبو محمد :
أما قولهم في إخبار الله تعالى عن اليهود : أنهم يعرفون رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما يعرفون أبناءهم ، وعن اليهود والنّصارى أنهم يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
فباطل بحت ومجاهرة
لا حياء معها ، لأنه لو كان كما ذكروا لما كان في ذلك حجة لله تعالى عليهم ، وأيّ
معنى أو أي فائدة في أن يجيزوا صورته ويعرفوا أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب
فقط؟ أو في أن يجدوا كتابا لا يفقهون معناه؟
فكيف ونص الآية
نفسها مكذبة لهم؟ لأنه تعالى يقول : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة :
١٤٦].
فنصّ تعالى أنهم
يعلمون الحق في نبوته.
وقال في الآية
الأخرى : (يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ
الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [سورة الأعراف :
١٥٧].
وإنما أورد تعالى
معرفتهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم محتجا عليهم بذلك لا أنه أتى من ذلك بكلام لا فائدة فيه.
وأما قولهم في
إبليس فكلام داخل في الاستخفاف بالله عزوجل وبالقرآن لا وجه له غير هذا ، إذ من المحال الممتنع في
العقل وفي الإمكان غاية الامتناع أن يكون إبليس يوافق في هزله عين الحقيقة في أن
الله تعالى كرّم آدم عليهالسلام ، عليه ، وأنه تعالى أمره بالسجود فامتنع.
وفي أن الله تعالى
خلق آدم من طين وخلقه من نار.
وفي إخباره آدم أن
الله تعالى نهاه عن الشجرة وفي دخوله الجنة وخروجه عنها إذ أخرجه الله تعالى.
وفي سؤاله الله
تعالى النظر.
وفي ذكره يوم يبعث
العباد.
وفي إخباره أن
الله تعالى أغواه.
وفي تهديده ذرية
آدم قبل أن يكونوا.
وقد شاهد الملائكة
والجنة وابتداء خلق آدم ، ولا سبيل إلى موافقة هازل بمعان صحيحة لا يعلمها ، فكيف
بهذه الأمور العظيمة؟
وأخرى أن الله
تعالى حاشا له من أن يجيب هازلا بما يقتضيه معنى هزله فإنه تعالى أمره بالسجود ثم
سأله عما منعه من السجود ثم أجابه إلى النظرة التي سأل ثم أخرجه من الجنة وأخبره
أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه
القرآن ، وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ، ولحق بالمجانين الوقحاء.
وأما قولهم إن
إخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليل على أن في قلوبهم كفرا وأن شتم الله
تعالى ليس كفرا ولكنه دليل على أن في القلب كفرا وإن كان كافرا لم يعرف الله تعالى
قط.
فهذه منهم دعاوى
كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا
من حجة عقل أصلا ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم
بن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب
العالمين.
فكيف والبرهان
قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة
الضرورية؟
فأمّا القرآن فإن
الله عزوجل يقول : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة العنكبوت :
٦١].
وقال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة يوسف : ١٠٦].
وقال تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [سورة البقرة : ٤٤].
قال أبو محمد :
هذه شهادة من الله مكذبة لقول هؤلاء الضّلال لا يردها مسلم أصلا.
قال أبو محمد :
وبلغنا عن بعضهم أنه قال في قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) [سورة الأنعام :
٢٠].
أن هذا إنكار من
الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال : وذلك لأن
الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظنّ منهم.
قال أبو محمد :
وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ، ويرد ما يثبت منه.
قال أبو محمد :
فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال والنساء
من الذين أوتوا
الكتاب لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء فيكون من فعل مفتريا على الله تعالى
وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال.
والخطاب بلفظ
الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال. وقد علمنا أن النساء
يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين.
والوجه الثاني :
هو أن الله تعالى لم يقل كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم فكان يسوغ لهذا الرجل
حينئذ هذا التمويه البارد باستكراه أيضا وإنما قال تعالى : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ).
فأضاف تعالى
النبوة إليهم فمن لم يقل إنّهم أبناؤهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذّب الله
تعالى وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة الرجل يكون ابنه ، فولد الزنا مخلوق من
نطفة إنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلا ، وإنّما أبناؤنا من جعلهم الله
أبناءنا فقط.
كما أن الله تعالى
جعل أزواج رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمهات المؤمنين فهنّ أمهاتنا وإن لم يلدننا ونحن أبناؤهنّ
وإن لم نخرج من بطونهم فمن أنكر هذا فنحن نصدّقه ، لأنه حينئذ ليس مؤمنا ، فلسن
أمهاته ولا هو ابن لهن.
والوجه الثالث :
هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكّتا للذين أوتوا الكتاب لا معتذرا عنهم لكن
مخبرا بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم بآياته وبما وجدوا في التوراة والإنجيل معرفة قاطعة لا شكّ
فيها كما يعرفون أبناءهم.
ثم أتبع ذلك تعالى
بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، فبطل هذر هذا الجاهل المخذول والحمد لله رب
العالمين.
وقال عزوجل : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [سورة البقرة : ٢٥٦].
فنص تعالى على أن
الرشد قد تبين من الغيّ عموما.
وقال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى) [سورة النساء :
١١٥].
وقال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى
لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) [سورة محمد : ٣٢].
وهذا نص جلي من
خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة وقد تبين له
الحق فبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه مصدق بلا شك بقلبه.
وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً
قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ
ظُلْماً وَعُلُوًّا) [سورة النمل : ١٣
، ١٤].
قال أبو محمد :
وهذا أيضا نص جلي لا يحتمل تأويلا على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى
بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق ولم يجحدوا قط أنها
كانت وإنما جحدوا أنها من عند الله.
فصح أنّ الذي
استيقنوا منها هو الذي جحدوا وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة أنهم إنما
استيقنوا كونها وهي عندهم حيل لا حقائق إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من الله
تعالى كذبا تعالى الله عن ذلك لأنهم لم يجحدوا كونها وإنما جحدوا أنها من عند الله
، وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية.
وقال تعالى حاكيا
عن موسى عليهالسلام أنه قال لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [سورة الإسراء :
١٠٢].
فمن قال : إنّ
فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى فقد
كذّب ربه تعالى وهذا كفر مجرد.
وقد شغب بعضهم بأن
هذه الآية قرئت «ولقد علمت» بضم التاء.
قال أبو محمد :
وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء.
فنعم موسى عليهالسلام علم ذلك ، وفرعون علم ذلك فهذه نصوص القرآن وأمّا من طريق
المعقول والمشاهدة والنظر فإنّا نقول لهم :
هل قامت حجة الله
تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبين براهينه عزوجل لهم ، أم لم تقم حجة الله تعالى عليهم قط إذ لم يتبين الحق
قط لكافر؟
فإن قالوا : إن
حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار ، كفروا بلا خلاف من
أحد وعذروا الكفار وخالفوا الإجماع. وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على
الكفّار بأن الحق تبين لهم صدقوا ورجعوا إلى الحقّ وإلى قول أهل الإسلام.
وبرهان آخر : أن
كلّ أحد منا مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين بالله
تعالى وبنبوّة موسى عليهالسلام وأن الله تعالى حرّم على اليهود العمل في السبت والشحوم.
فمن الباطل أن
يتواطئوا كلهم في شرق الأرض وغربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى
ذلك.
وبرهان آخر : وهو
أننا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم أسلموا وحسن إسلامهم ،
وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله
تعالى حق ، وأن نبوة موسى وهارون حق ، كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا
فرق.
ومن أنكر هذا فقد
كابر عقله وحسّه ولحق بمن لا يستحق أن يكلّم.
وبرهان آخر : وهو
أنهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري فوجب من هذين الحكمين أن
اليهود والنّصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليهالسلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة
نبوته من أجلها وهذا لا محيد لهم عنه ـ وبالله تعالى التوفيق ـ.
وأما قولهم : إن
شتم الله تعالى ليس كفرا وكذلك شتم رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فهو دعوى لأن الله
تعالى قال : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [سورة التوبة : ٧٤].
فنص تعالى على أن
من الكلام ما هو كفر.
وقال تعالى : (إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ
بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [سورة النساء :
١٤٠].
فنصّ تعالى أن من
الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع.
وقال تعالى : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ
نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) [سورة التوبة : ٦٥
، ٦٦].
فنص تعالى على أن
الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان ولم يقل
تعالى في ذلك إني علمت أن في قلوبكم كفرا ، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء.
ومن ادّعى غير هذا
فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى.
وقال عزوجل : (إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) [سورة التوبة : ٣٧].
قال أبو محمد :
وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من
غيره.
فصح أن النسيء كفر
وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى.
فمن أحلّ ما حرّم
الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرّمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه.
وكل من حرّم ما
أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عزوجل لأن الله تعالى حرّم على الناس أن يحرّموا ما أحل الله.
وأما خلال الإجماع
فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى أو جحد رسوله صلىاللهعليهوسلم فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعا ، إما القتل ، وإما أخذ
الجزية ، وسائر أحكام الكفر ؛ وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا؟
ولا فكّروا في هذا لا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا أحد من أصحابه ولا أحد ممن بعدهم.
وأما قولهم : إن
الكفار إذا كانوا مصدّقين بالله تعالى وبنبيه صلىاللهعليهوسلم بقلوبهم والتصديق في اللغة التي بها نزل القرآن هو الإيمان
ففيهم بلا شك إيمان ، فالواجب أن يكونوا بإيمانهم ذلك مؤمنين ، أو أن يكون فيهم
إيمان ليسوا بكونه فيهم مؤمنين ولا بدّ من أحد الأمرين.
قال أبو محمد :
وهذا تمويه فاسد لأن التسمية كما قدمنا لله تعالى لا لأحد دونه وقد أوضحنا
البراهين على أن الله تعالى نقل اسم الإيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى
معنى آخر وحرّم في الديانة إيقاع اسم الإيمان على التصديق المطلق ولو لا نقل الله
تعالى للفظة الإيمان كما ذكرنا لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمنا ، وأن
يخبر عنهم بأن فيهم إيمانا لأنهم مؤمنون ولا بدّ بأشياء كثيرة مما في العالم
يصدقون بها. هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل.
فلمّا صحّ إجماعنا
وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على أنهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا
يحلّ لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق ولا أن يقول إن لهم إيمانا مطلقا أصلا لم
يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حقّ والمصدق بقلبه
أن محمدا رسول الله أنه مؤمن ، ولا أن فيه إيمانا أصلا إلا حتى يأتي بما نقل الله
تعالى إليه اسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه وبأن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله ، وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دينه ثم يتمادى بإقراره
على ما لا يتم إيمان إلّا بالإقرار به حتى يموت لكنا نقول : إن في الكافر تصديقا
بالله تعالى هو به مصدّق بالله تعالى وليس بذلك مؤمنا ولا فيه إيمان كما أمرنا
الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري.
قال أبو محمد :
فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله.
وقد نصّ على
تكفيرهم أبو عبيد القاسم في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره ، ولنا كتاب كبير
نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس ،
من أهل قيروان إفريقية ـ وبالله تعالى التوفيق ـ.
قال أبو محمد :
وأما من قال إن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان فإنهم احتجوا بأن النبي صلىاللهعليهوسلم وجميع أصحابه رضي الله عنهم وكل من بعدهم قد صحّ إجماعهم
على أن من أعلن بلسانه بشهادة الإسلام فإنه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام
وبقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في السوداء : «أعتقها فإنها مؤمنة».
وبقوله صلىاللهعليهوسلم لعمه أبي طالب : «قل كلمة أحاجّ لك بها عند الله عزوجل».
قال أبو محمد :
وكل هذا لا حجة لهم فيه.
__________________
أما الإجماع
المذكور فصحيح وإنما حكمنا لهم بحكم الإيمان في الظاهر ولم نقطع على أنه عند الله
تعالى مؤمن ، وهكذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أمرت
أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما أرسلت به ، فإذا فعلوا
ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .
وقال عليهالسلام : «من
قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه» . وأما قوله عليهالسلام في السوداء «إنها مؤمنة».
فظاهر الأمر كما
قال عليهالسلام إذ قال له خالد بن الوليد : «ربّ مصلّ يقول بلسانه ما ليس
في قلبه» فقال عليهالسلام : «إنّي
لم أبعث لأشقّ عن قلوب الناس».
وأما قوله لعمّه :
«أحاجّ
لك بها عند الله».
فنعم يحاجّ بها
على ظاهر الأمر وحسابه على الله تعالى فبطل كل ما موهوا به.
ثم نبيّن بطلان
قولهم إن شاء الله تعالى ، فنقول وبالله تعالى نتأيد : إنه يبين بطلان قول هؤلاء
قول الله عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما
يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [سورة البقرة :
١٠٨].
__________________
وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا
آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [سورة المائدة :
٤١].
وقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ) [سورة الحجرات :
١٤].
وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ
إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [سورة الأنفال : ٢
ـ ٤].
قال أبو محمد :
فإن قالوا إنما هذه الآية بمعنى أن هذه الأفعال تدل على أن في القلب إيمانا.
قلنا لهم : لو كان
ما قلتم لوجب ولا بد أن يكون ترك من ترك شيئا من هذه الأفعال دليلا على أنه ليس في
قلبه إيمان وأنتم لا تقولون هذا أصلا مع أن هذا صرف للآية عن وجهها وهذا لا يجوز
إلا ببرهان. وقولهم هذا دعوى بلا برهان.
وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [سورة الحجرات :
١٥].
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا
ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [سورة الأنفال :
٧٢].
فأثبت عزوجل لهم الإيمان الذي هو التصديق ثم أسقط عنا ولايتهم إذا لم
يهاجروا فأبطل بذلك إيمانهم المطلق ، ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [سورة الأنفال :
٧٤].
فصح يقينا أن هذه
الأعمال إيمان حق وعدمها ليس إيمانا وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.
وقال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ
يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [سورة المنافقون :
١].
فنصّ عزوجل في هذه الآية على أنّ من آمن بلسانه ولم يعتقد الإيمان
بقلبه فإنه كافر.
ثم أخبرنا تعالى
المؤمنون من هم؟ وأنهم الذين آمنوا وأيقنوا بألسنتهم وقلوبهم معا وجاهدوا في سبيل
الله بأموالهم وأنفسهم.
وأخبر تعالى أن
هؤلاء هم الصّادقون.
قال أبو حمد :
ويلزمهم أن المنافقين مؤمنين لإقرارهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام
وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [سورة النساء :
١٤٠].
وقال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ
يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة المنافقون :
١ ـ ٣].
فقطع الله تعالى
عليهم بالكفر كما ترى لأنهم أبطنوا الكفر.
قال أبو محمد :
وبرهان آخر وهو أن الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عزوجل لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكيا وقارئا له في القرآن فلا يكون
بذلك كافرا حتّى يقرّ أنه عقده.
قال أبو محمد :
فإن احتج بهذا أهل المقالة الأولى وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفرا.
قلنا له وبالله
تعالى التوفيق : قد قلنا إنّ التسمية ليست لنا وإنما هي لله تعالى فلما أمرنا
تعالى بتلاوة القرآن وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى
لعباده الكفر خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عزوجل.
والإيمان بحكايته
ما نصّ الله تعالى بأداء الشهادة بالحق فقال تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف : ٨٦].
خرج الشاهد المخبر
عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافرا إلى رضى الله عزوجل والإيمان ولما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [سورة النحل : ١٠٦].
خرج من ثبت إكراهه
عن أن يكون بإظهار الكفر كافرا إلى رخصة الله تعالى والثبات على الإيمان وبقي من
أظهر الكفر لا قارئا ولا شاهدا ولا حاكيا ولا مكرها على وجوب الكفر له بإجماع
الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ، وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر وليس
قول الله عزوجل : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً) على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط ، بل كلّ من نطق بالكلام
الذي يحكم لقائله عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارئا ولا شاهدا
ولا حاكيا ولا
مكرها فقد شرح بالكفر صدرا بمعنى أنه شرح صدره لقبول الكفر المحرم على أهل الإسلام
وعلى أهل الكفر أن يقولوه وسواء اعتقدوه أو لم يعتقدوه ، لأن هذا العمل من إعلان
الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به فبطل تمويههم بهذه الآية
وبالله تعالى التوفيق.
وبرهان آخر وهو
قول الله عزوجل : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ) [سورة الحجرات :
١٥].
فنصّ الله تعالى
على الإيمان أنه شيء قبل نفي الارتياب ، ونفي الارتياب لا يكون ضرورة إلا بالقلب
وحده.
فصح أن الإيمان إذ
هو قبل نفي الارتياب شيء آخر غير نفي الارتياب ، والذي قبل نفي الارتياب هو القول
باللّسان ثم التصديق بالقلب والجهاد مع ذلك بالبدن والنفس والمال فلا يتم الإيمان
بنص كلام الله ـ عزوجل ـ إلا بهذه
الأقسام كلها.
فبطل بهذا النص
قول من زعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو القول باللّسان وحده ، أو كلاهما
فقط دون العمل بالبدن.
وبرهان آخر : وهو
أن نقول لهم أخبرونا عن أهل النار المخلدين فيها الذين ماتوا على الكفر.
أهم حين كونهم في
النار عارفون بقلوبهم صحة التوحيد والنبوة الذي بجحدهم لكل ذلك أدخلوا النار؟
وهل هم حينئذ
مقرّون بذلك بألسنتهم أم لا؟
ولا بدّ من أحدهما!
فإن قالوا هم عارفون بكل ذلك مقرّون به بألسنتهم وقلوبهم.
قلنا : إنهم
مؤمنون أو غير مؤمنين؟
فإن قالوا : هم
غير مؤمنين.
قلنا : قد تركتم
قولكم إن الإيمان هو المعرفة بالقلب أو بالإقرار باللسان فقط أو كلاهما فقط.
فإن قالوا : هذا
حكم الآخرة.
قلنا لهم : فإذ
جوّزتم نقل الأسماء عن موضوعها في اللغة في الآخرة فمن أين منعتم من ذلك في الدنيا
ولم تجوزوه لله عزوجل فيها؟
وليس في الحماقة
أكثر من هذا.
وإن قالوا : بل هم
مؤمنون.
قلنا لهم : فالنار
إذن أعدّت للمؤمنين لا للكافرين ، وهي دار المؤمنين ؛ وهذا خلاف القرآن والسنن
وإجماع أهل الإسلام المتيقن.
وإن قالوا : بل هم
غير عارفين بالتوحيد ولا بصحة النبوة في حال كونهم في النار. أكذبهم نصوص القرآن
وكذّبوا ربهم عزوجل في إخباره أنهم عارفون بكل ذلك هاتفون به بألسنتهم راغبون
في الرجعة والإقالة ، نادمون على ما سلف منهم ، وكذّبوا نصوص المعقول وجاهروا
بالمحال إذ جعلوا من شاهد القيامة والحساب والجزاء غير عارف بصحة ذلك فصحّ بهذا
أنه لا إيمان ولا كفر ولا شرك إلا ما سمّاه الله تعالى إيمانا وكفرا وشركا فقط ،
ولا مؤمن ولا كافر ولا مشرك إلا من سمّاه الله تعالى بشيء من ذلك إمّا في القرآن
وإمّا على لسان النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد :
وأما من قال إن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللّسان دون العمل بالجوارح فلا
نكفر من قال بهذه المقالة وإن كانت خطأ وبدعة.
واحتجوا بأن قالوا
: أخبرونا عمن قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله وبرئ من كل دين حاشا الإسلام
وصدّق بكل ما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم واعتقد ذلك بقلبه ومات إثر ذلك أمؤمن هو أم لا؟
فإنّ جوابنا أنه
مؤمن بلا شك عند الله عزوجل وعندنا.
قالوا : فأخبرونا أناقص
الإيمان هو أم كامل الإيمان ...؟
قالوا : فإن قلتم
إنه كامل الإيمان فهذا قولنا.
وإن قلتم : إنه
ناقص الإيمان سألناكم ما ذا نقصه من الإيمان؟ وما ذا معه من الإيمان؟
قال أبو محمد :
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان
زائد بأعمال لم يعملها هذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل
أعمالا منه حتى يبلغ الأمر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي لا أحد أتم إيمانا منه بمعنى أحسن أعمالا منه.
وأما قولهم : ما
الذي نقصه من الإيمان؟ فإنه نقصه الأعمال التي عملها غيره ، والتي ربنا عزوجل أعلم بمقاديرها.
قال أبو محمد :
ومما يبين أن اسم الإيمان في الشريعة منقول عن موضوعه في
اللغة وأن الكفر
أيضا كذلك ؛ فإن الكفر في اللّغة : التغطية. وسمّي الزرّاع كافرا لتغطيته الحب
وسمي الليل كافرا لتغطيته كل شيء.
قال الله عزوجل : (فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) [سورة الفتح : ٢٩].
وقال تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ) [سورة الحديد : ٢٠].
يعني الزراع.
وقال لبيد بن
ربيعة :
ألقت ذكاء يمينها
في كافر
يعني الليل.
ثم نقل الله تعالى
اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحّت نبوته في
القرآن. أو جحد شيء مما أتى به رسول الله صلىاللهعليهوسلم مما صحّ عند جاحده بنقل الكافة. أو عمل شيء قام البرهان
بأن العمل به كفر ، مما قد بيناه في كتاب الإيصال والحمد لله رب العالمين.
فلو أن إنسان قال
: إن محمدا عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت وهو يريد كافرون
بالطّاغوت كما قال تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا
انْفِصامَ لَها) [سورة البقرة :
٢٥٦].
لما اختلف أحد من
أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر.
__________________
وكذلك لو قال إن
إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم
له بالكفر وهو يريد مؤمنون بدين الكفر فصحّ عند كل ذي مسكة من تمييز أن اسم
الإيمان والكفر منقولان في الشريعة عن موضوعهما في اللغة بيقين لا شك فيه ، وأنه
لا يجوز إيقاع اسم الإيمان المطلق على معنى التصديق بأي شيء صدق به المرء.
ولا يجوز إيقاع
اسم الكفر على معنى التغطية لأي شيء غطاه المرء لكن على ما أوقع الله تعالى عليه
اسم الإيمان واسم الكفر ولا مزيد.
وثبت يقينا أن ما
عدا هذا ضلال مخالف للقرآن وللسنن ولإجماع أهل الإسلام أوّلهم عن آخرهم وبالله
تعالى التوفيق.
وبقي حكم التصديق
على حالة في اللّغة لا يختلف في ذلك إنسي ولا جني ولا كافر ولا مؤمن فكلّ من صدق
بشيء فهو مصدّق به.
فمن صدّق بالله
تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوسلم ولم يصدق بما لا يتم الإيمان إلا به فهو مصدق بالله تعالى
أو برسوله صلىاللهعليهوسلم وليس مؤمنا ولا مسلما لكنه كافر مشرك لما ذكرنا وبالله
تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين.
اعتراضات للمرجئة والطبقات الثلاث المذكورة
قال أبو محمد : إن
قال قائل : أليس الكفر ضدّ الإيمان؟
قلنا وبالله تعالى
التوفيق : إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان اسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا.
فمن تلك المعاني
شيء يكون الكفر ضدا له.
ومنها ما يكون
الفسق ضدا له لا الكفر.
ومنها ما يكون
الترك ضدا له لا الكفر ولا الفسق.
فأما الإيمان الذي
يكون الكفر ضدا له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضدّ لهذا الإيمان.
وأما الإيمان الذي
يكون الفسق ضدا له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضا فإن تركه ضدّ للعمل وهو
فسق لا كفر.
وأما الإيمان الذي
يكون الترك له ضدا فهو كل ما كان من الأعمال تطوعا فإن تركه ضدّ العمل به وليس
فسقا ولا كفرا.
برهان ذلك ما
ذكرناه من ورود النصوص بتسمية الله عزوجل أعمال البر كلها إيمانا وتسميته تعالى ما سمي كفرا وما سمي
فسقا وما سمي معصية وما سمي إباحة لا معصية ولا كفرا ولا إيمانا.
وقد قلنا إن
التسمية لله عزوجل لا لأحد غيره.
فإن قال قائل منهم
: أليس جحد الله عزوجل بالقلب فقط لا باللسان كفرا؟ فلا بدّ من نعم.
قال : فيجب على
هذا أن يكون التصديق وحده إيمانا.
فجوابنا وبالله
تعالى التوفيق : أنّ هذا كان يصح لكم لو كان التصديق بالقلب وحده ، أو باللسان
وحده إيمانا ، وقد أوضحنا آنفا أنه ليس شيء من ذلك على انفراده إيمانا ، وأنه ليس
الإيمان إلا ما سمّاه الله عزوجل إيمانا وليس الكفر إلا ما سمّاه الله عزوجل كفرا فقط.
فإن قال قائل من
أهل الطائفة الثالثة : أليس جحد الله تعالى بالقلب وباللسان هو الكفر كله؟ فكذلك
يجب أن يكون الإقرار بالله تعالى باللسان والقلب هو الإيمان كله.
قلنا وبالله تعالى
نتأيد : ليس شيء مما قلتم بل الجحد لشيء مما صحّ البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه
كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفر كفر ، والعمل بشيء مما قام
البرهان بأنه كفر كفر ، فالكفر يزيد وكلما زاد فيه فهو كفر ، والكفر ينقص وكله مع
ذلك ما بقي منه وما نقص فكله كفر ، وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض ، وكله كفر.
وقد أخبر الله
تعالى عن بعض الكفر أنه (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [سورة مريم : ٩٠]
وقال عزوجل : (هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النمل : ٩٠].
ثم قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [سورة النساء :
١٤٥].
وقال تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذابِ) [سورة غافر : ٤٦].
فأخبر تعالى أن
قوما يضاعف لهم العذاب فإذ كل هذا قول الله عزوجل وقوله الحق فالجزاء على قدر الكفر بالنّص وبعض الجزاء أشدّ
من بعض بالنصوص ضرورة.
والإيمان أيضا
يتفاضل بنصوص صحاح وردت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم والجزاء عليه في الجنة يتفاضل بلا خلاف.
فإن قال [قائل] من الطبقتين الأوليين : أليس من قولكم من عرف الله عزوجل والنبي صلىاللهعليهوسلم وأقرّ بهما بقلبه فقط إلا أنه منكر بلسانه لكل ذلك أو
لبعضه فإنه كافر؟
وكذلك من قولكم أن
من أقر بالله عزوجل وبرسوله صلىاللهعليهوسلم بلسانه فقط إلا أنه منكر بقلبه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر؟
قال أبو محمد :
فجوابنا نعم هكذا نقول.
قالوا : فقد وجب
من قولكم إذا كان بما ذكرنا كافرا أن يكون فعله ذلك كفرا ولا بدّ إذ لا يكون كافرا
إلا بكفره فيجب على قولكم أن الإقرار بالله تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوسلم بالقلب كفر ولا بدّ ويكون الإقرار بالله تعالى أيضا
وبرسوله صلىاللهعليهوسلم باللسان أيضا كفر ولا بدّ.
__________________
وأنتم تقولون
إنهما إيمان ، فقد وجب على قولكم أن يكونا كفرا إيمانا معا وفاعلهما كافرا مؤمنا
معا وهذا كما ترون .
قال أبو محمد :
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن هذا شغب ضعيف وإلزام كاذب مموه ، لأننا لم نقل قط
إن من اعتقد وصدق بقلبه فقط بالله تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوسلم وأنكر بلسانه أو بعضه فإن اعتقاده لتصديق ذلك كفر ولا أنه
كان بذلك كافرا ، وإننا قلنا إنه كفر بترك إقراره بذلك بلسانه فهذا هو الكفر وبه
صار كافرا وبه أباح الله تعالى دمه ، أو أخذ الجزية منه بإجماعكم معنا ، وإجماع
جميع أهل الإسلام. وكان تصديقه بقلبه فقط بكل ذلك لغوا محبطا كأنه لم يكن ليس
إيمانا ولا كفرا ، ولا طاعة ولا معصية ؛ قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر آية
٦٥].
وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات : ٢].
وبالضرورة يدري كل
مسلم أن من حبط عمله وبطل فقد سقط حكمه وتأثيره ، ولم يبق له رسم ، وكذلك لم نقل
قط إنّ من أقر بلسانه وحده بالله تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوسلم ، وجحد بقلبه أن إقراره بذلك بلسانه كفر ، ولا أنه كان به
كافرا لكنه كان كافرا بجحده بقلبه لما جحد من ذلك ، وجحده لذلك هو الكفر ، وكان
إقراره بكل ذلك بلسانه لغوا محبطا كما ذكرنا ، لا إيمانا ولا طاعة ولا معصية
وبالله تعالى التوفيق ، فقطّ هذا الإبهام الفاسد.
فإن قال قائل منهم
: أليس بعض الإيمان إيمانا ، وبعض الكفر كفرا ، وأراد أن يلزمنا من هذا أن العقد
بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح إذا كان ذلك إيمانا فأبعاضه إذا
انفردت إيمان. أو أن نقول إنّ أبعاض الإيمان ليست إيمانا فيموّه بهذا.
قال أبو محمد :
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا نقول ونصرّح أنه ليس بعض الإيمان إيمانا أصلا ،
بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيمانا كالبلق ليس السواد وحده بلقا ،
ولا البياض وحده بلقا ، فإذا اجتمعا صارا بلقا. وكالباب ليس الخشب وحده بابا ، ولا
المسامير وحدها بابا ، فإذا اجتمعا على شكل سمي حينئذ بابا
__________________
وكالصلاة فإن
القيام وحده ليس صلاة ، ولا الركوع وحده صلاة ، ولا الجلوس وحده صلاة ، ولا
القراءة وحدها صلاة ، ولا الذكر وحده صلاة ، ولا استقبال القبلة وحده صلاة أصلا ،
فإن اجتمع كل ذلك سمي المجتمع حينئذ صلاة ، وكذلك الصيام المفترض والمندوب إليه ،
ليس صياما كلّ ساعة من النهار على انفرادها صياما ، فإذا اجتمع صيامها كلها تسمّى
صياما ، وقد يقع في اليوم الأكل والجماع والشراب سهوا فلا يمنع ذلك من أن يكون
صيامه صحيحا ، والتسمية لله عزوجل كما قدمنا ، لا لأحد دونه بل من الإيمان شيء إذا انفرد كان
كفرا ، كمن قال مصدقا بقلبه : لا إله إلا الله محمد رسول الله فهذا إيمان فلو أفرد
لا إله وسكت سكوت قطع كان كفرا بلا خلاف من أحد ، ثم نسألهم فنقول لهم : فإذا
انفرد صيامه أو صلاته دون إيمان أهي طاعة؟
فمن قولهم لا ،
فقد صاروا فيما أرادوا أن يموهوا به علينا من أنّ أبعاض الطاعات إذا انفردت لم تكن
طاعة بل كانت معصية ، وإذا اجتمعت كانت طاعة.
قال أبو محمد :
فإن قالوا : إذا كان النطق باللسان عندكم إيمانا فيجب إذا عدم المنطق بأن يسكت
الإنسان بعد إقراره أن يكون سكوته كفرا ، فيكون بسكوته كافرا.
قلنا : إن هذا
يلزمنا عندكم فما تقولون إن سألكم أصحاب محمد بن كرّام فقالوا لكم : إذا كان
الاعتقاد بالقلب هو الإيمان عندكم فيجب إذا سها عن الاعتقاد وإحضاره ذكره إما في
حالة حديثه مع من يتحدث أو في حال فكره أو نومه أن يكون كافرا ، وأن يكون ذلك
السهو كفرا ، فجوابهم أنه محمول على ما صحّ منه من الإقرار باللسان.
قال أبو محمد :
ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم : إن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلىاللهعليهوسلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفرا لكنه دليل على أنه
في القلب كفرا. أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به وتثبتونه يقينا ولا
تشكون في أن في قلبه جحدا للربوبية وللنبوة أم هو دليل مدخول ويدخله الشك ، ويمكن
ألا يكون في قلبه كفر؟
ولا بدّ من أحدهما.
فإن قالوا : إنه
دليل لا نقطع به قطعا ، ولا نثبته يقينا.
قلنا لهم : فما
بالكم تحتجون بالظن ، الذي قال تعالى فيه : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [سورة النجم آية
رقم ٢٨].
وأعجب من هذا أنكم
تشنعون على خصومكم في هذا المكان بما ينعكس عليكم إذ تقولون : إنكم إنما قلتم إن
إعلان الكفر دليل على أن في القلب كفرا ، لأن
الله تعالى سماهم
كفارا ، فلم يمكنا ردّ شهادة الله تعالى ، فعاد هذا البلاء عليكم لأنكم قطعتم أنها
شهادة الله عزوجل ، ثم لم تصدقوا شهادته ولا قطعتم بها بل شككتم فيها. وهذا
تكذيب لله لا خفاء فيه. وأما نحن فمعاذ الله من أن نقول أو نعتقد أن الله تعالى
شهد بهذا قط بل من ادّعى أن الله شهد بأن من أعلن الكفر فإنه جاحد بقلبه ، فقد كذب
على الله عزوجل ، وافترى عليه ، بل هذه شهادة الشيطان التي أضلّ بها أولياءه
، وما شهد الله تعالى إلّا بضد هذا ، وبأنهم يعرفون الحق ويكتمونه ، ويعرفون أن
الله تعالى حق ، وأن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حق ، ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك ، وما سماهم الله عزوجل قط كفارا إلّا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم كما فعل
إبليس وأهل الكتاب وغيرهم.
وإن قالوا : بل
نثبت بهذا الدليل ونقطع به ، ونوقن أن كل من أعلن بما يوجب إطلاق اسم الكفر عليه
في الشريعة فإنه جاحد بقلبه.
قلنا لهم وبالله
تعالى التوفيق : هذا باطل من وجوه.
أولها : أنه دعوى
بلا برهان.
وثانيها : أنه علم
غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل والذي يضمره. وقد قال الرسول صلىاللهعليهوسلم : «إنّي
لم أبعث لأشق عن قلوب الناس».
فمدّعي هذا مدّع
علم غيب ، ومدّعي علم الغيب كاذب.
وثالثها : أن
القرآن والسنن كما ذكرنا ، قد جاءت النصوص فيهما بخلاف هذا كما تلونا قبل.
ورابعها : إن كان
الأمر كما تقولون فمن أين اقتصرتم بالإيمان على عقد القلب فقط ، ولم تراعوا إقرار
اللسان ..؟ وكلاهما عندكم مرتبط بالآخر لا يمكن انفرادهما وهذا يبطل قولكم أنه إذا
اعتقد الإيمان بقلبه لم يكن كافرا بإعلانه الكفر فجوزتم أن يعلن الكفر من يبطن
الإيمان فظهر تناقض مذهبهم وعظيم فساده.
وخامسها : أنه كان
يلزمهم إذا كان إعلان الكفر باللسان دليلا على الجحد بالقلب ، والكفر به ولا بد ،
فإن إعلان الإيمان باللسان يجب أيضا أن يكون دليلا قاطعا باتا ولا بد على أن في
القلب إيمانا وتصديقا لا شك فيه لأن الله تعالى سمى هؤلاء مؤمنين كما سمى أولئك
كفارا ، ولا فرق بين الشهادتين.
فإن قالوا : إن
الله تعالى قد أخبر عن المنافقين المعلنين بالإيمان المبطنين للكفر
والجحد. قيل لهم :
وكذلك أعلمنا الله تعالى وأخبرنا أن إبليس وأهل الكتاب والكفار بالنبوة أنهم
يعلنون الكفر ويبطنون التصديق ويؤمنون بأن الله تعالى حق وأن رسوله حق ، يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم ولا فرق ، وكل ما موهتم به من الباطل والكذب في هؤلاء أمكن
الكرامية مثل سواء بسواء في المنافقين وقالوا لم يكفروا قط بإبطانهم الكفر لكن مما
سماهم الله بأنهم آمنوا ثم كفروا علمنا بأنهم نطقوا بعد ذلك بالكفر ولا بد بشهادة الله
تعالى بذلك كما ادعيتم أنتم شهادته تعالى على ما في نفوس الكفار ولا فرق.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وكلتا الشهادتين من هاتين الطائفتين كذب على الله عزوجل ، وما شهد الله عزوجل قط على إبليس وأولي الكتاب بالكفر إلا بما أعلنوه من
الاستخفاف بالنبوة ، وبآدم وبالنبي صلىاللهعليهوسلم فقط ، ولا شهد تعالى قط على المنافقين بالكفر إلا بما
أبطنوه من الكفر فقط ، وأما هنا فتحريف للكلم عن مواضعه ، وإفك مفترى ونعوذ بالله
من الخذلان.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ونظروا قولهم : قالوا : مثل هذا أن يقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يدخل هذه الدار اليوم إلا كافر ، أو يقول : كل من دخل
هذه الدار اليوم فهو كافر ، قالوا : فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر ،
لا أن دخول الدار كفر.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد
وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقا بالله تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوسلم إلا أن تصديقه ذلك قد حبط بدخوله الدار ، برهان ذلك أنه لا
يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار في ذلك اليوم لا يحل البتة
لعائشة ، ولا لأبي بكر ، ولا لعلي ، ولا لأحد من أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم كما أن الله تعالى قد نص
على أنه علم ما في قلوبهم ، وأنزل السكينة عليهم ، وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن
هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفارا بلا شك بنفس دخولهم فيها ،
ولحبط إيمانهم ، فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا وكانوا هم قد كفروا لأنهم
بهذا القول قاطعون بأن كلامه صلىاللهعليهوسلم كذب في قوله : لا يدخلها إلا كافر ، واحتج بعضهم في هذا
المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول :
إن الكلام لفي
الفؤاد وإنما
|
|
جعل اللسان على
الفؤاد دليلا
|
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول : ملعون ملعون قائل هذا البيت ،
وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله
عزوجل ، وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي ، وإن كان
كافرا ، وإنما هي قضية عقلية فالعقل والحس يكذبان هذا البيت ، وقضية شرعية فالله عزوجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عزوجل : (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [سورة آل عمران
آية ١٦٧].
فقد أخبر عزوجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول
الأخطل لعنه الله إن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد ، فأما نحن فنصدق
الله عزوجل ونكذب الأخطل ، ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه ،
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فإن قالوا : إن
الله عزوجل قال : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [سورة محمد آية ٣٠].
قلنا : لو لا أن الله عزوجل عرفه بهم ودله عليهم بلحن القول ما كان لحن قولهم دليلا
عليهم ولم يطلق الله تعالى هذا على كل أحد بل على أولئك خاصة ، بل قد نص تعالى على
آخرين بخلاف ذلك إذ يقول : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [سورة التوبة آية
١٠١].
فهؤلاء من أهل
المدينة منافقون مردوا على النفاق لم يعلمهم قط رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلحن قولهم ، ولو أن الناس لم يضربوا قط كلام ربهم تعالى
بعضه ببعض وأخذوه كله على مقتضاه لاهتدوا لكن من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل
فلن تجد له وليا مرشدا.
وقد قال عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ
إِسْرارَهُمْ فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا
رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [سورة محمد آية
رقم ٢٥ إلى ٢٨].
فجعلهم تعالى
مرتدّين كفارا بعد علمهم الحق ، وبعد أن تبين لهم الهدى بقوله للكفار ما قالوا فقط
، وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم ، ولم يقل تعالى إنها جحد أو تصديق ، بل قد صح
أن في سرهم التصديق ، لأن الهدى قد تبين لهم ، ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن
يجحده بقلبه أصلا ، وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه
وكراهيتهم رضوانه ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات آية
رقم ٢].
فهذا نص جلي وخطاب
للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلىاللهعليهوسلم دون جحد كان منهم أصلا ولو كان منهم جحد لشعروا به ، والله
تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفرا
مبطلا لإيمان فاعله جملة ، ومنه ما لا يكون كفرا لكن على ما حكم الله تعالى به في
كل ذلك ولا مزيد.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فإن قال قائل من أين قلتم إن التصديق لا يتفاضل ونحن نجد خضرة أشد من
خضرة ، وشجاعة أشد من شجاعة ، لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيتان من صفات النفس
معا؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن كل ما قيل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما
يقبلهما بمزاج يداخله من كيفية أخرى ، ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده منها
وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين أو فيما جاز امتزاج الضدين فيه ، كما نجد بين
الخضرة والبياض وسائط من حمرة وصفرة تمازجهما فتولد حينئذ بالممازجة الشدة والضعف
وكالصحة التي هي اعتدال مزاج العضو ، فإذا مازج ذلك الاعتدال فضل ما كان مرضه بحسب
ما مازجه في الشدة والضعف ، والشجاعة إنما هي استسهال النفس للثبات والإقدام عند
المعارضة في اللقاء ، فإذا ثبت الاثنان فإثباتا واحدا ، وإقدامهما إقداما مستويا
فهما في الشجاعة سواء ، وإذا ثبت أحدهما أو أقدم فوق ثبات الآخر وإقدامه كان أشجع
منه ، وكان الآخر قد مازج ثباته أو إقدامه جبن ، وأما ما كان من الكيفيات لا يقبل
المزاج أصلا فلا سبيل إلى وجود التفاضل فيه ، وكل ذلك على حسب ما خلقه الله عزوجل من كل ذلك ولا مزيد ، كاللّون فإنه لا سبيل إلى أن يكون
لون أشد دخولا في أنه من لون آخر إذ لو مازج الصدق غيره لصار كذبا في الوقت ، ولو
مازج التصديق شيء غيره لصار شكّا في الوقت ، وبطل التصديق جملة ، وبالله تعالى
التوفيق. والإيمان قد قلنا إنه ليس هو التصديق وحده بل أشياء مع التصديق كثيرة
فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها ، وفي كيفية إيرادها وبالله تعالى
التوفيق ، وهكذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنه
يخرج من النار من في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، ثم من في قلبه مثقال برة من
إيمان ، ثم من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، إلى أدنى أدنى من ذلك» . إنما أراد عليه
__________________
السلام من قصد إلى
عمل شيء من الخير أو همّ به ولم يعمله بعد أن يكون مصدقا بقلبه بالإسلام مقرا
بلسانه كما في الحديث المذكور «من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال كذا».
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ومن النصوص على أن الأعمال إيمان قول الله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء آية
رقم ٦٥].
فنص تعالى نصا
جليا لا يحتمل تأويلا وأقسم تعالى بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكّم رسوله صلىاللهعليهوسلم فيما شجر بينه وبين غيره ، ثم يسلم لما حكم به عليهالسلام ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى ، وهذه كلها أعمال باللسان
وبالجوارح غير التصديق بلا شك وتسليم أيضا بالقلب غير التصديق وفي هذا كفاية لمن
عقل.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ومن العجب قولهم إن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيمانا لكنها شرائع
الإيمان.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : هذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله صلىاللهعليهوسلم ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم بل الإسلام هو الإيمان
وهو الشرائع ، والشرائع هي الإيمان والإسلام ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : واختلف الناس في الكفر والشرك فقالت طائفة : هما اسمان واقعان على
معنيين وأن كل شرك كفر ، وليس كل كفر شركا ؛ وقال هؤلاء : لا شرك إلا قول من جعل
لله شريكا. قال هؤلاء : واليهود والنصارى كفار لا مشركون ، وسائر الملل كفار
مشركون ، وهو قول أبي حنيفة وغيره. وقال آخرون : الكفر والشرك سواء ، وكل كافر فهو
مشرك ، وكل مشرك فهو كافر ، وهو قول الشافعي وغيره.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : واحتجت الطائفة الأولى بقول الله عزوجل : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) [سورة البينة : ١].
قالوا : ففرق الله
تعالى بين الكفار والمشركين وقالوا لفظة الشرك مأخوذة من الشريك فمن لم يجعل لله
تعالى شريكا فليس مشركا.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : هذه عمدة حجتهم ما نعلم لهم حجة غير هاتين.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : أما احتجاجهم بقول الله عزوجل : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ).
فلو لم يأت في هذا
المعنى غير هذه الآية لكانت حجتهم ظاهرة لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) [سورة التوبة آية
رقم ٣١].
وقال تعالى : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ
قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة :
١١٦]. وقال تعالى عنهم أنهم قالوا : إنّ الله ثالث ثلاثة ، وهذا كله تشريك ظاهر لا
خفاء فيه ، فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى فقد صح أنهم
مشركون ، وأن الشرك والكفر اسمان لمعنى واحد ، وقد قلنا إن التسمية لله عزوجل لا لنا ، فإذ ذلك كذلك فقد صح أن قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [سورة البينة : ١].
كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [سورة النساء :
١٤٠].
ولا خلاف بين أحد
من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار ، وكقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ
لِلْكافِرِينَ) [سورة البقرة : ٩٨]
ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة وكقوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [سورة الرحمن : ٦٨]
والرمان : من الفاكهة ، والقرآن نزل بلغة العرب ، والعرب تعيد الشيء باسمه ، وإن
كانت قد أجملت ذكره تأكيدا لأمره ، فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين
الكفار والمشركين في اللفظ وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم بأن
لفظ الشرك مأخوذ من الشريك ، فقد قلنا إن التسمية لله عزوجل لا لأحد دونه ، وله تعالى أن يوقع أي اسم شاء على أي مسمى
شاء. برهان ذلك أن من أشرك بين عبدين له في عمل ما ، أو بين اثنين في هبة وهبها
لهما ، فإنه لا يطلق عليه اسم مشرك ولا يحل أن يقال إن فلانا أشرك ، ولا أن عمله
شرك ، فصح أنها لفظة منقولة أيضا عن موضوعها في اللغة كما أن الكفر لفظة منقوله أيضا
عن موضوعها في اللغة إلى ما أوقعها الله تعالى عليه ، والتعجب من أهل هذه المقالة
وقولهم إن النصارى ليسوا مشركين وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد ، لأنهم يقولون
كلهم بعبادة الأب ، والابن ، وروح القدس ، وأن المسيح إله حق ، ثم يجعلون البراهمة
مشركين ، وهم لا يقرون إلا بالله وحده ، ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا
يجعلوا كافرا إلا من جحد الله تعالى فقط.
__________________
فإن قال قائل :
كيف اتخذ اليهود والنصارى أربابا من دون الله وهم ينكرون هذا؟ قلنا وبالله تعالى
التوفيق : إن التسمية لله عزوجل ، فلما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم
ورهبانهم ، ويحلون ما أحلوا كانت هذه ربوبية صحيحة ، وعبادة صحيحة ، قد دانوا بها
، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة ، وهذا هو الشرك بلا
خلاف كما سمى كفرهم بأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نبي ناسخ لما هم عليه كفر بالله عزوجل ، وإن كانوا مصدقين به تعالى ، لكن لما أحبط الله تعالى
تصديقهم سقط حكمه جملة.
فإن قالوا : كيف
تقولون إن الكفار مصدقون بالله تعالى ، والله تعالى يقول : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي
كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل : ١٥ ـ
١٦].
ويقول تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [سورة الواقعة :
٩٢ ـ ٩٤].
قلنا وبالله تعالى
نتأيد : إن كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه ، فلا بدّ له من أن يكون مكذبا
بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به ، أو ردّ أمرا من أمور الله عزوجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو
كذب به ، ولم يقل الله تعالى الذي كذب بالله عزوجل لكن قال : «كذب وتولّى». ولا قال تعالى وأما إن كان من
المكذبين بالله ، وإنما قال تعالى من المكذبين الضالين فقط. فمن كذب بأمر من أمور
الله عزوجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب على الإطلاق كما سماه الله
تعالى رضي الله عنه وإن كان مصدقا بالله تعالى ، وبما صدق به.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فإن قالوا كيف تقولون : إن اليهود عارفون بالله والنصارى والله تعالى
يقول : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) [سورة التوبة : ٢٩].
قلنا وبالله تعالى
التوفيق : قد قلنا إن التسمية إلى الله عزوجل لا لأحد دونه وقلنا إن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في
اللغة عن التصديق المجرد إلى معنى آخر زائد على التصديق فلما لم يستوفوا تلك
المعاني بطل تصديقهم جملة ، واستحقوا ببطلانه أن يسموا غير مؤمنين بالله ولا
باليوم الآخر ، فإن قيل فهل هم مصدقون بالله وباليوم الآخر ..؟ قلنا : نعم ، فإن
قيل ففيهم موحدون لله تعالى ..؟ قلنا : نعم ، فإن قيل فهم مؤمنون بالله وبالرسول
وباليوم الآخر ...؟ قلنا : لا لأن الله تعالى نص على كل ما قلنا ، فأخبر تعالى
أنهم يعرفونه ، ويقرون به ، ويعرفون نبيه صلىاللهعليهوسلم وأنه نبي فأقررنا بذلك وأسقط
تعالى عنهم اسم
الإيمان ، فأسقطناه عنهم ، ومن تعدى هذه الطريقة فقد كذب ربه تعالى ، وخالف القرآن
، وعاند الرسول ، وخرق إجماع أهل الإسلام ، وكابر حسه وعقله مع ذلك وبالله تعالى
التوفيق.
وهكذا نقول فيمن
كان مسلما ثم أطلق لو اعتقد ما يوجب الخروج عن الإسلام كالقول بنبوة إنسان بعد
النبي صلىاللهعليهوسلم أو بتحليل الخمر أو غير ذلك فإنه مصدق بالله عزوجل وبرسوله صلىاللهعليهوسلم موحد عالم بكل ذلك ، وليس مؤمنا مطلقا ولا مؤمنا بالله
تعالى ولا بالرسول صلىاللهعليهوسلم ولا باليوم الآخر كما ذكرنا آنفا ، ولا فرق لإجماع الأمة
كلها على استحقاق اسم الكفر على من ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد
وعلى آله وسلم تسليما ، والحمد لله رب العالمين.
الكلام في تسمية المؤمن بالمسلم ، والمسلم بالمؤمن ،
وهل الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد
ومعنى واحد أو لمسميين ومعنيين ..؟
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ذهب قوم إلى أن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنيين ، وأنه قد
يكون مسلم غير مؤمن واحتجوا بقول الله عزوجل : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [سورة الحجرات :
١٤]. وبالحديث المأثور عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ قال له سعد : هل لك يا رسول الله في فلان فإنه مؤمن ..؟
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أو مسلم».
وبالحديث المأثور
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ أتاه جبريل صلىاللهعليهوسلم في صورة فتى غير معروف العين فسأله عن الإسلام فأجابه
بأشياء في جملتها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأعمال أخرى مذكورة في ذلك الحديث
وسأله عن الإيمان فأجابه بأشياء من جملتها أن تؤمن بالله وملائكته . وبحديث لا يصح من أن المرء يخرج عن الإيمان إلى الإسلام.
وذهب آخرون إلى أن الإيمان والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد واحتجوا بقول
الله عزوجل (فَأَخْرَجْنا مَنْ
كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) [سورة الذاريات ٣٥
ـ ٣٦]. وبقوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة الحجرات :
١٧].
__________________
قال أبو محمد رضي
الله عنه : والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الإيمان أصله في اللغة :
التصديق على الصفة التي ذكرنا قبل ثم أوقعه الله عزوجل في الشريعة على جميع الطاعات ، واجتناب المعاصي ، إذا قصد
بكل ذلك من عمل أو ترك وجه الله عزوجل وأن الإسلام أصله في اللغة : التبرؤ ، تقول أسلمت أمر كذا
إلى فلان إذا تبرأت منه إليه ، فسمى المسلم مسلما لأنه تبرأ من كل شيء إلى الله عزوجل ثم نقل الله تعالى اسم الإسلام أيضا إلى جميع الطاعات ،
وأيضا فإن التبرؤ إلى الله من كل شيء هو معنى التصديق ، لأنه لا يبرأ إلى الله
تعالى من كل شيء حتى يصدق به ، فإذا أريد بالإسلام المعنى الذي هو خلاف الكفر ،
وخلاف الفسق ، فهو والإيمان شيء واحد كما قال تعالى : (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ
اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [سورة الحجرات :
١٧].
وقد يكون الإسلام
أيضا بمعنى الاستسلام أي أنه استسلم للملة خوف القتل ، وهو غير معتقد لها ، فإذا
أريد بالإسلام هذا المعنى فهو غير الإيمان ، وهو الذي أراد الله تعالى بقوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [سورة الحجرات :
١٤].
وبهذا تتآلف
النصوص المذكورة من القرآن والسنن ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [سورة آل عمران :
٨٥].
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا
يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» فهذا هو الإسلام الذي هو الإيمان فصح أن الإسلام لفظة مشتركة كما ذكرنا ومن
البرهان على أنها لفظة منقولة عن موضوعها في اللغة أن الإسلام في اللغة : هو
التبرؤ فأي شيء تبرأ منه المرء فقد أسلم من ذلك الشيء وهو مسلم له كما أن من صدق
بشيء فقد آمن به وهو مؤمن به ، وبيقين لا شك فيه يدري كل أحد أن كل كافر على وجه
الأرض فإنه مصدق بأشياء كثيرة من أمور دنياه ومتبرئ من أشياء كثيرة ، ولا يختلف
اثنان من أهل الإسلام في أنه لا يحل لأحد أن يطلق على الكافر من أجل ذلك أنه مؤمن ،
ولا أنه مسلم ، فصح يقينا أن لفظة الإسلام والإيمان منقولة عن موضوعها في اللغة
إلى
__________________
معان محدودة
معروفة لم تعرفها العرب قط ، حتى أنزل الله عزوجل بها الوحي على رسوله صلىاللهعليهوسلم أنه من أتى بها استحق اسم الإيمان والإسلام وسمي مؤمنا
مسلما ، ومن لم يأت بها لم يسم مؤمنا ولا مسلما ، وأن صدق بكل شيء غيرها ، أو تبرأ
من كل شيء حاشى أما أوجبت الشريعة التبرؤ منه. وكذلك الكفر والشرك لفظتان منقولتان
عن موضوعهما في اللغة لأن الكفر في اللغة : التغطية والشرك أن تشرك شيئا مع آخر في
أي معنى جمع بينهما ، ولا خلاف بين أحد من هل التمييز في أن كل مؤمن في الأرض في
أنه يغطي أشياء ، ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز أن يطلق عليه من
أجل ذلك الكفر ، ولا الشرك ، ولا أن يسمى كافرا ولا مشركا ، وصح يقينا أن الله
تعالى نقل اسم الكفر والشرك إلى إنكار أشياء لم تعرفها العرب ، وإلى أعمال لم
تعرفها العرب قط ، كمن جحد الصلاة أو صوم رمضان ، أو غير ذلك من الشرائع التي لم
تعرفها العرب قط ، حتى أنزل الله تعالى بها وصيه ، أو كمن عبد وثنا فمن أتى بشيء
من تلك الأشياء سمي كافرا أو مشركا ، ومن لم يأت بشيء من تلك الأشياء لم يسم كافرا
ولا مشركا ، ومن خالف هذا فقد كابر الحس ، وجحد العيان ، وخالف الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم والقرآن والسنن وإجماع المسلمين ، وبالله تعالى التوفيق.
فصل
قال أبو محمد رضي
الله عنه : واختلف الناس في قول المسلم : أنا مؤمن فروينا عن ابن مسعود ، وجماعة
من أصحابه الأفاضل ، ومن بعده من الفقهاء أنه كره ذلك وكان يقول : أنا مؤمن إن شاء
الله ، وقال بعضهم آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وكانوا يقولون : من قال :
أنا مؤمن فليقل إنه من أهل الجنة.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فهذا ابن مسعود وأصحابه حجج في اللغة فأين جهال المرجئة المموهون
باللغة في نصر بدعتهم.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : والقول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإنه
كان يدري أنه مصدق بالله عزوجل ، وبمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وبكل ما أتى به عليهالسلام ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك فواجب عليه أن يعترف بذلك كما
أمر تعالى إذ قال تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [سورة الضحى : ١١].
ولا نعمة أوكد ،
ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم
قطعا عند الله تعالى في وقتي هذا ولا فرق بين قوله أنا مؤمن
مسلم ، وبين قوله
: أنا أسود ، أو أنا أبيض ، وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها ، وليس هذا من باب
الامتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد ، قال تعالى :
(قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) [سورة البقرة :
١٣٦].
وقول ابن مسعود
عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة إلى جميع
البر والطاعات ، فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن ، على معنى أنه
مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح ، ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع
رضي الله عنه من أن يقول المرء : إني مؤمن بمعنى مصدق ، كيف وهو يقول : قل آمنت
بالله ورسله : أي صدقت.
وأما من قال : فقل
إنك في الجنة ، فالجواب أننا نقول : إن متنا على ما نحن عليه الآن فلا بد لنا من
الجنة بلا شك ، وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع أنّ من آمن
بالله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنّه في الجنة ،
إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ولا إضلاله ولا
كيد الشيطان ، ولا ندري ما ذا نكسب غدا ، ونعوذ بالله من الخذلان.
اختلاف الناس في تسمية المذنب
قال أبو محمد رضي
الله عنه : اختلف الناس في تسمية المذنب من أهل ملتنا. فقالت المرجئة : هو مؤمن
كامل الإيمان ، وإن لم يعمل خيرا قط ، ولا كف عن شر قط وقال بكر ابن أخت عبد
الواحد بن زيد : هو كافر مشرك كعابد الوثن ، بأي ذنب كان منه صغيرا كان الذنب أو
كبيرا ، ولو فعله على سبيل المزاح.
وقالت الصفارية : إن كان الذنب كبيرا فهو مشرك كعابد الوثن ، وإن كان الذنب
صغيرا فليس كافرا.
وقالت الإباضية :
إن كان الذنب من الكبائر فهو كافر نعمة تحل موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته ، وليس
مؤمنا ولا كافرا على الإطلاق.
وروي عن الحسن
البصري وقتادة رضي الله عنهما أن صاحب الكبيرة منافق ، وقالت المعتزلة : إن كان
الذنب من الكبائر فهو فاسق ليس مؤمنا ولا كافرا ولا منافقا وأجازوا مناكحته
وموارثته وأكل ذبيحته ، قالوا : وإن كان من الصغائر فهو مؤمن ولا شيء عليه.
وذهب أهل السنة من
أصحاب الحديث والفقهاء إلى أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان وقالوا : الإيمان اسم معتقده
وإقراره وعمله الصالح ، والفسق اسم عمله السيّئ إلا أن بين السلف منهم والخلف
اختلافا في تارك الصلاة عمدا حتى يخرج وقتها ، وتارك الصوم لو مضى كذلك ، وتارك
الزكاة ، وتارك الحج كذلك ، وفي قاتل المسلم عمدا ، وفي شارب الخمر ، وفيمن سب
نبيا من الأنبياء عليهمالسلام وفيمن ردّ حديثا قد صح عنده عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
فروينا عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه ، ومعاذ بن جبل ، وابن مسعود ، وجماعة من الصحابة رضي الله
عنهم ، وعن ابن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ،
__________________
رحمة الله عليهم ،
وعن تمام سبعة عشر رجلا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، أن من ترك صلاة فرض
عامدا ذاكرا حتى يخرج وقتها فإنه كافر مرتد ، وبهذا يقول عبد الله بن الماجشون ،
صاحب مالك ، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي ، وغيره. وروينا عن عمرو رضي
الله عنه مثل ذلك في تارك الحج وعن ابن عباس وغيره مثل ذلك في تارك الزكاة والصيام
، وفي قاتل المسلم عمدا ، وعن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص في
شارب الخمر ، وعن إسحاق بن راهويه ، أن من رد حديثا صحيحا عنده عن النبي صلىاللهعليهوسلم فقد كفر.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : واحتج من كفّر المذنبين بقول الله عزوجل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [سورة المائدة :
٤٤] وبقوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل : ١٤ ـ
١٦].
فهؤلاء كلهم ممن
كذب وتولى ، والمكذب المتولي كافر فهؤلاء كفار.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : والعجب أن المرجئة المسقطة للوعيد جملة عن المسلمين قد احتجوا بهذه
الآية نفسها فقالوا قد أخبرنا الله عزوجل أن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى فصح أن من
لم يكذب ولا يتولى لا يصلاها. قالوا : ووجدنا هؤلاء كلهم لم يكذبوا ولا تولوا ، بل
هم مصدقون معترفون بالإيمان ، فصح أنهم لا يصلونها ، وأن المراد بالوعيد المذكور
في الآيات المنصوصة إنما هو فعل من تلك الأفاعيل من الكفار خاصة.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : واحتج أيضا من كفّر من ذكرنا بأحاديث كثيرة منها «سباب المسلم فسوق
وقتاله كفر» و «لا يزني الزاني حين
يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها
وهو مؤمن ، ولا ينهب نهبة ذات شر حين ينهبها وهو مؤمن» و «ترك الصلاة
__________________
شرك» و «إنّ كفرا بكم أن
ترغبوا عن آبائكم» ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وما نعلم لمن قال هو منافق حجة أصلا ولا لمن قال : إنه كافر نعمة ، إلا
أنهم نزعوا بقول الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ
الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [سورة إبراهيم :
٢٨].
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن كفر النعمة عمل يقع من المؤمن والكافر ،
وليس هو ملة ولا اسم دين ، فمن ادعى اسم دين وملة غير الإيمان المطلق ، والكفر
المطلق ، فقد أتى بما لا دليل عليه.
وأما من قال هو
فاسق ، لا مؤمن ولا كافر ، فما لهم حجة أصلا إلا أنهم قالوا : قد صح الإجماع على
أنه فاسق ، لأن الخوارج قالوا : هو كافر فاسق ، وقال غيرهم : هو مؤمن فاسق ،
فاتفقوا على الفسق فوجب القول بذلك ، ولم يتفقوا على إيمانه ولا على كفره فلم يجز
القول بذلك.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا خلاف لإجماع من ذكر لأنه ليس منهم أحد جعل الفسق اسم دينه ، وإنما
سموا بذلك عمله والإجماع والنصوص قد صح كل ذلك على أنه لا دين إلا الإسلام أو
الكفر من خرج من أحدهما دخل في الآخر ولا بد ، إذ ليس بينهما وسيطة ، وكذلك قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا
يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم» .
وهذا حديث قد أطبق
جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام على صحته وعلى القول به ، فلم يجعل عليهالسلام دينا غير الكفر والإسلام ، ولم يجعل هاهنا دينا ثالثا
أصلا.
__________________
قال أبو محمد رضي
الله عنه : واحتجت المعتزلة أيضا بأن قالت : قال الله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ
فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [سورة السجدة : ١٨].
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى قال : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [سورة القلم : ٣٥].
فصح أن هؤلاء الذين سماهم الله تعالى مجرمين وفساقا ، وأخرجهم عن المؤمنين نصا ،
فإنهم ليسوا على دين الإسلام لم يكونوا على دين الإسلام فهم كفّار بلا شكّ ، إذ لا
دين هاهنا غيرهما أصلا ، برهان هذا قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل : ١٤ ـ
١٦].
وقد علمنا ضرورة
أنه لا دار إلا الجنة أو النار ، وأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المسلمون فقط ،
ونص الله تعالى على أن النار لا يدخلها إلا المكذب المتولي ، والمتولي المكذب كافر
بلا خلاف ، فلا يخلد في النار إلا كافر ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، فصح أنه لا
دين إلا الإيمان والكفر فقط ، وإذ ذلك كذلك فهؤلاء الذين سماهم الله عزوجل مجرمين وفاسقين ، وأخرجهم عن المؤمنين ، فهم كفار مشركون ،
لا يجوز غير ذلك. وقالوا : المؤمن ، محمود ، محسن ولي لله عزوجل ، والمذنب مذموم ، مسيء عدو لله. قالوا : ومن المحال أن
يكون إنسان واحد محمودا مذموما محسنا مسيئا عدوا لله وليّا له معا.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا الذي أنكروه ، لا نكرة فيه ، بل هو أمر موجود مشاهد ، فمن أحسن من
وجه ، وأساء من وجه آخر ، كمن صلى ثم زنى فهو محسن محمود ، ولي لله فيما أحسن فيه
من صلاة ، وهو مسيء مذموم عدو لله فيما أساء فيه من الزنا ، قال عزوجل : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [سورة التوبة :
١٠٢].
فبالضرورة ندري أن
العمل الذي شهد الله عزوجل له أنه عمل صالح فإن عامله فيه محمود محسن مطيع لله تعالى
وأن العمل الذي شهد الله عزوجل أنه سيّئ ، فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى ، ثم
يقال لهم : ما تقولون إن عارضتكم المرجئة بكلامكم نفسه فقالوا : من المحال أن يكون
إنسان واحد محمودا مذموما محسنا مسيئا عدوا لله وليا له معا ثم أرادوا تغليب الحمد
والإحسان والولاية وإسقاط الذم والإساءة والعداوة كما أردتم أنتم بهذه القضية
نفسها تغليب الذم والإساءة والعداوة وإسقاط الحمد والإحسان والولاية ، بما ينفصلون
عنهم؟ فإن قالت المعتزلة : إن الشرط في
حمده وإحسانه
وولايته أن يجتنب الكبائر قلنا لهم : فإن عارضتك المرجئة فقالت : إن الشرط في ذمه
وإساءته ولعنه ، وعداوته ، ترك شهادة التوحيد.
فإن قالت المعتزلة
: إن الله قد ذم المعاصي ، وتوعد عليها ، قيل لهم : فإن المرجئة تقول لكم : إن
الله تعالى قد حمد الحسنات ووعد عليها وأرادوا بذلك تغليب الحمد كما أردتم تغليب
الذم ، فإن ذكرتم آيات الوعيد ذكروا آيات الرحمة.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا ما لا مخلص للمعتزلة منه ، ولا للمرجئة أيضا ، فوضح بهذا أن كلا الطائفتين
مخطئة ، وأن الحق هو جمع كل ما تعلقت به كلتا الطائفتين من النصوص التي في القرآن
والسنن ، ويكفي من هذا كله قول الله عزوجل : (أَنِّي لا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [سورة آل عمران :
١٩٥] وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة غافر : ١٧].
وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة : ٧
، ٨]. وقال تعالى : (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام :
١٦٠]. وقال تعالى : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء :
٤٧].
فصح بهذا كله أنه
لا يخرجه عن اسم الإيمان إلا الكفر ، ولا يخرجه عن اسم الكفر إلا الإيمان ، وأن
الأعمال حسنها حسن إيمان ، وقبيحها قبيح ليس إيمانا والموازنة تقضي على كل ذلك ،
ولا يحبط الأعمال إلا الشرك قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر : ٦٥].
وقالوا : إذا أقررتم أن أعمال البر كلها إيمان وأن المعاصي ليست إيمانا فهو عندكم
مؤمن غير مؤمن. قلنا : نعم ، ولا نكرة في ذلك ، وهو مؤمن بالعمل الصالح ، غير مؤمن
بالعمل السيّئ ، كما نقول محسن بما أحسن فيه مسيء غير محسن معا بما أساء فيه ، وليس
الإيمان عندنا التصديق وحده فيلزمنا التناقض وهذا هو معنى قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» أي ليس مطيعا في زناه ذلك ، وهو مؤمن بسائر حسناته ،
واحتجوا بقول الله تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة يونس : ٣٣].
ففرق تعالى بين الفسق والإيمان.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : نعم وقد أوضحنا أن الإيمان هو كل عمل صالح
__________________
فبيقين ندري أن
الفسق ليس إيمانا ، فمن فسق فلم يؤمن بذلك العمل الذي هو الفسق ولم يقل عزوجل إنه لا يؤمن في شيء من سائر أعماله ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ) [سورة الحجرات :
١٥].
فهؤلاء قد شهد
الله تعالى لهم بالإيمان فإذا وقع منهم فسق ليس إيمانا فمن المحال أن يبطل فسقه
إيمانه في سائر أعماله ، وأن يبطل إيمانه في سائر الأعمال فسقه ، بل شهادة الله
تعالى له بالإيمان في جهاده حق ، وبأنه لم يؤمن في فسقه حق. وأيضا فإن الله عزوجل قال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [سورة المائدة : ٤٤]
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [سورة المائدة :
٤٧] (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة المائدة :
٤٥].
فيلزم المعتزلة أن
يصرحوا بكفر كل عاص وظالم وفاسق ، لأن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وأما نحن فنقول إن كل من كفر فهو فاسق ظالم عاصي ، وليس كل فاسق ظالم
عاص كافرا بل قد يكون مؤمنا وبالله تعالى التوفيق ، وقد قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [سورة الرعد : ٦]
فبعض الظلم مغفور بنص القرآن.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وقالوا قد وجب لعن الفساق والظالمين ، وقال تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ) [سورة هود : ١٨].
والمؤمن يجب ولايته والدعاء له بالرحمة ، وقد لعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم السارق ومن لعن أباه ومن غيّر منار الأرض ، فيلزمكم أن تدعو على المرء الواحد باللعنة والرحمة
والمغفرة معا.
__________________
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فنقول : إن المؤمن الفاسق يتولى دينه وملته وعقده وإقراره ، ويتبرأ من
عمله الذي هو الفسق والبراءة ، والولاية ليست من عين الإنسان مجردة فقط ، وإنما هي
له أو منه بعمله الصالح أو الفاسد ، فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن المحسن في بعض
أفعاله من المؤمنين نتولاه من أجل ما أحسن فيه ، ونبرأ من عمله السيّئ فقط ، وأما
الله تعالى فإنه يتولى عمله الصالح عنده ، ويعادي عمله الفاسد ، وأما الدعاء
باللعنة والرحمة معا فلسنا ننكره بل هو معنى صحيح ، وما جاء عن الله تعالى قط ،
ولا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهي أن يلعن العاصي على معصيته ، ويترحم عليه لإحسانه ،
ولو أن امرأ زنى أو سرق ، وحال الحول على ماله وجاهد لوجب أن يحد للزنا والسرقة ،
ولو لعن لأحسن لا عنه ، ويعطي نصيبه من المغنم ، ونقبض زكاة ما له ونصلي عليه عند
ذلك لقول الله تعالى : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [سورة التوبة :
١٠٣].
وبيقين ندري أن قد
كان في أولئك الذين كان عليهالسلام يقبض صدقاتهم ويصلي عليهم مذنبون عصاة ، لا يمكن البتة أن
تخلو جميع جزيرة العرب من عاص ، وكذلك كل من مات في عصره عليهالسلام ، وصلى عليه هو عليهالسلام والمسلمون معه وبعده ، فبيقين ندري أنه قد كان فيهم مذنب
بلا شك وإذا صلى عليه دعا له بالرحمة وإن ذكر عمله القبيح لعن وذم.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ونعكس عليهم هذا السؤال نفسه في أصحاب الصغائر الذين يوقع عليهم
المعتزلة اسم الإيمان فهذه السؤالات كلها لازمة لهم إذ الصغائر ذنوب ومعاصي بلا شك
إلا أننا لا نوقع عليها اسم فسق ولا ظلم إذا انفردت عن الكبائر لأن الله تعالى ضمن
غفرانها لمن اجتنب الكبائر ، ومن غفر له ذنبه فمن المحال أن يوقع عليه اسم فاسق ،
أو اسم ظالم ، لأن هذين اسمان يسقطان قبول الشهادة ، ومجتنب الكبائر وإن تستر
بالصغائر فشهادته مقبولة ، لأنه لا ذنب له وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ولنا على المعتزلة إلزامات أيضا تعمهم ، والخوارج المكفرة ننبه عليها عند نقضنا أقوال المكفرة إن شاء الله تعالى ،
وبه نتأيد.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ويقال لمن قال إن صاحب الكبيرة كافر : قال الله
__________________
عزوجل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة البقرة : ١٧٨].
فابتدأ الله عزوجل بخطاب أهل الإيمان ، من كان فيهم من قاتل أو مقتول ، ونص
تعالى على أن القاتل عمدا مؤمن بنص القرآن وحكم له بأخوة الإيمان ولا يكون الكافر
مع المؤمن بتلك الأخوة ، وقال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما
عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ
فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) [سورة الحجرات : ٩
ـ ١٠] فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى إن الطائفة الباغية على الطائفة
الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالها حتى تفيء إلى أمر الله تعالى
إخوة للمؤمنين المقاتلين ، وهذا أمر لا يضل عنه إلا ضال. وهاتان الآيتان حجة قاطعة
أيضا على المعتزلة المسقطة اسم الإيمان عن القاتل ، وعلى كل من أسقط عن صاحب
الكبائر اسم الإيمان ، وليس لأحد أن يقول : إنه تعالى إنما جعلهم إخواننا إذا
تابوا لأن نص الآية أنهم إخوان في حالة البغي وقبل الفيئة إلى الحق.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وقال بعضهم إن هذا الاقتتال إنما هو التضارب.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أنه دعوى بلا برهان ، وتخصيص الآية بلا
دليل ، وما كان هكذا فهو باطل بلا شك.
والثاني : أن ضرب
المسلم للمسلم ظلما وبغيا فسق ومعصية. ووجه ثالث وهو أن الله تعالى لو لم يرد
القتال المعهود لما أمرنا بقتال من لا يزيد على الملاطمة وقد عم تعالى فيها باسم
البغي فكل بغي فهو داخل تحت هذا الحكم.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وقد ذكروا قول الله عزوجل : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [سورة سورة النساء
آية ٩٢].
قال أبو محمد :
رضي الله عنه : فهذه الآية بظاهرها دون تأويل حجة لنا عليهم لأنه ليس فيها أن
القاتل العامد ليس مؤمنا ، وإنما فيها نهى المؤمن عن قتل المؤمن عمدا فقط لأنه
تعالى قال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) وهكذا نقول ليس للمؤمن قتل المؤمن عمدا ثم قال تعالى : (إِلَّا خَطَأً). فاستثنى عزوجل الخطأ في القتل من جملة ما حرم من قتل المؤمن للمؤمن لأنه
لا يجوز النهي عما لا يمكن
الانتهاء عنه ولا
يقدر عليه ، لأن الله تعالى أمننا من أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وكل فعل خطأ فلم
ننه عنه بل قد قال تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة الأحزاب آية
رقم ٥] فبطل تعقلهم بهذه الآية ، وكذلك قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» . فهو أيضا على ظاهره ، وإنما في هذا اللفظ النهي عن أن
يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط ، وليس في هذا اللفظ أن القاتل كافر
ولا فيه أيضا نهي عن الزنا ولا عن السرقة ، وليس في كل حديث حكم كل شريعة ، فبطل
تعلقهم بهذا الخبر. وكذلك قوله عليهالسلام : «سباب
المؤمن فسوق وقتاله كفر». فهو أيضا على عمومه لأن قوله عليهالسلام : المسلم هاهنا عموم للجنس ، ولا خلاف في أن من نابذ جميع
المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر ، برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في
أن القاتل عمدا والمقاتل مؤمنان وكلامه عليهالسلام لا يتعارض ولا يختلف ، وكذلك قوله عليهالسلام : «لا
ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر لكم أن ترغبوا عن آبائكم» فإنه عليهالسلام لم يقل كفر منكم ، ولم يقل إنه كفر بالله تعالى ، نعم نحن
نقرأ أن من رغب عن أبيه فقد كفر بأبيه وجحده ، ويقال لمن قال إن صاحب الكبيرة ليس
مؤمنا ، ولكنه كافر أو فاسق : ألم يقل الله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٢١].
وقال تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَ) [سورة الممتحنة
آية رقم ١٠].
وقال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [سورة الممتحنة
آية رقم ١٠].
__________________
وقال تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) [سورة المائدة آية
رقم ٥] وفي سورة النساء : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ
مُسافِحاتٍ) فهذه آيات في غاية البيان في أنه ليس في الأرض إلا مؤمن أو
كافر ، أو مؤمنة أو كافرة ، ولا يوجد دين ثالث ، وأن المؤمنة حلال نكاحها للمؤمن ،
وحرام نكاحها على الكافر ، وأن الكتابية حلال للمؤمن بالزواج وللكافر ، فخبرونا
إذا زنت المرأة ، وهي غير محصنة أو وهي محصنة ، أو إذا سرقت أو شربت الخمر أو قذفت
أو أكلت مال يتيم أو تعمدت ترك الغسل حتى خرج وقت الصلاة وهي عالمة بذلك ، أو لم
تخرج زكاة مالها فكانت عندكم بذلك كافرة ، أو بريئة من الإسلام ، خارجة عن الإيمان
وخارجة عن جملة المؤمنين ، أيحل للمؤمن الفاضل ابتداء نكاحها ، أو البقاء معها على
الزوجية إن كان قد تزوجها قبل ذلك ..؟ أو يحرم على أبيها الفاضل أو أخيها البر أن
يكون لها وليين في تزويجها؟ وأخبرونا إذا زنى الرجل أو سرق أو قذف ، أو أكل مال
يتيم ، أو فرّ من الزحف أو سحر ، أو ترك صلاة عمدا حتى خرج وقتها ، أو لم يخرج
زكاة ماله ، فصار بذلك عندكم كافرا ، أو برئ من الإسلام ، وخرج عن الإيمان وعن
جملة المؤمنين ، أيحرم عليه ابتداء نكاح امرأة مؤمنة أو وطؤها بملك اليمين ، أو
تحرم عليه امرأته المؤمنة التي في عصمته ، فينفسخ نكاحها منه أو يحرم عليه أن يكون
وليا لابنته المؤمنة ، أو أخته المؤمنة في تزويجها؟ وهل يحرم على التي ذكرنا
والرجل الذي ذكرنا ميراث وليهما المؤمن ، أو يحرم على وليهما المؤمن ميراثهما ، أو
يحرم أكل ذبيحته ، لأنه قد فارق الإسلام في زعمكم وخرج عن جملة المؤمنين؟ فإنهم
كلهم لا يقولون بشيء من هذا ، فمن الخلاف المجرد منهم لله تعالى أن يحرم الله
تعالى المؤمنة على من ليس بمؤمن فيحلّونها هم ، ويحرم الله تعالى التي ليست مؤمنة
على المؤمن إلا أن تكون كتابية فيحلونها هم ، ويقطع الله تعالى الولاية بين المؤمن
ومن ليس مؤمنا فيبقونها هم في النكاح ، ويحرم تعالى ذبائح من ليس مؤمنا إلا أن
يكون كتابيا فيحلونها هم ، ويقطع عزوجل الموارثة بين المؤمن ومن ليس مؤمنا فيثبتونها هم ومن خالف
القرآن وثبت على ذلك بعد قيام الحجة عليه فنحن نبرأ إلى الله تعالى منه.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وأكثر هذه الأمور التي ذكرنا فإنه لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيها
، ولا بين فرقة من الفرق المنتمية إلى الإسلام ، وفي بعضها
خلاف نشير إليه
لئلا يظن ظان أننا أغفلناه فمن ذلك الخلاف في الزاني والزانية ، فإن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه يفسخ النكاح قبل الدخول بوقوعه من أحدهما ، والحسن البصري وغيره
من السلف لا يجيزون للزاني ابتداء نكاح مع مسلمة البتة ولا للزانية أيضا إلا أن
يتوبا ، وبهذا نقول نحن ليس لأنهما مسلمين بل هما مسلمان ولكنها شريعة من الله
تعالى واردة في القرآن في ذلك كما يحرم على المحرم النكاح ما دام محرما وبالله
تعالى التوفيق ، وذلك قوله تعالى : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النور آية
رقم ٢].
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وفي هذه الآية أيضا نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين ، لأن
الله تعالى فرق بينهما فرقا لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد بل على أنهما
صفتان مختلفتان ، وإذا لم يكونا مشركين فهما ضرورة مسلمان لما قد بينا قبل من أن
كل كافر فهو مشرك ، وكل مشرك فهو كافر ، وكل من لم يكن كافرا مشركا فهو مؤمن إذ لا
سبيل إلى دين ثالث وبالله تعالى التوفيق.
ومن الخلاف في بعض
ما ذكرنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وإبراهيم النخعي أن المسلم إذا ارتد
والمسلمة إذا لم يسلم زوجها فهي امرأته كما كانت إلا أنه لا يطؤها ، وروي عن عمر
أيضا أنها تخير في البقاء معه أو فراقه ، وكل هذا لا حجة فيه ولا حجة إلا في نص
قرآن أو سنة واردة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وأيضا فإن الله عزوجل قد أمر بقتل المشركين جملة ، ولم يستثن منهم أحدا إلا
كتابيا يغرم الجزية مع الصغار ، أو رسولا حتى يؤدى رسالته ، ويرجع إلى مأمنه ، أو
مستجيرا ليسمع كلام الله تعالى ، ثم يبلغ إلى مأمنه ، وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقتل من بدل دينه. فنسأل كل من قال بأن صاحب الكبيرة قد
خرج من الإيمان وبطل إسلامه ، وصار في دين آخر إما الكفر وإما الفسق ، إذا كان
الزاني ، والقاتل ، والسارق والشارب للخمر ، والقاذف ، والفار من الزحف ، وآكل مال
اليتيم ، قد خرج عن الإسلام ، وترك دينه أيقتلونه كما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الله أم لا يقتلونه فيخالفون الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ...؟ ومن قولهم كلهم خوارجهم ، ومعتزليهم ، أنهم لا
يقتلونه ، وأما في بعض ذلك حدود معروفة ، من قطع يد أو جلد مائة ، أو ثمانين ، وفي
بعض ذلك أدب فقط وأنه لا يحل الدم بشيء من ذلك ، وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم
لا خفاء به.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وبعض شاذة الخوارج جسر فقال : تقام الحدود عليهم ثم يستتابون فيقتلون.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا خلاف الإجماع المتيقن ، وخلاف للقرآن مجرد لأن الله تعالى يقول : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا) [سورة النور آية
رقم ٣ ، ٤].
فقد حرم الله
تعالى قتلهم وافترض استبقاءهم مع إصرارهم ، ولم يجعل فيهم إلا رد شهادتهم فقط ،
ولو جاز قتلهم فكيف كانوا يؤدون شهادة لا تقبل بعد قتلهم ..؟
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وقال الله عزوجل : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ
لَها) [سورة البقرة آية
رقم ٢٥٦].
قال أبو محمد رضي
الله عنه : لا خلاف بيننا وبينهم ، ولا بين أحد من الأمة في أن من كفر بالطاغوت ،
وآمن بالله ، واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فإنه مؤمن مسلم ، فلو كان
الفاسق غير مؤمن ، لكان كافرا ولا بدّ ، ولو كان كافرا لكان مرتدا يجب قتله ،
وبالله تعالى التوفيق ، قال الله عزوجل : (ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة التوبة آية
رقم ١٧]. وقال تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ) [سورة التوبة آية
رقم ١٨] فوجب يقينا بأمر الله عزوجل أن لا يترك من يعمر مساجد الله بالصلاة فيها إلا المؤمنون.
وكلهم متفق معنا
على أن الفاسق صاحب الكبائر مدعو ملزم عمارة المساجد بالصلاة ، مجبر على ذلك ، وفي
إجماع الأمة كلها على ذلك ولو تركهم يصلون معنا ، وإلزامهم أداء الزكاة وأخذها
منهم ، وإلزامهم صيام رمضان ، وحج البيت برهان واضح لا إشكال فيه ، على أنه لم
يخرج عن دين المؤمنين ، وأنه مسلم مؤمن ، وقال عزوجل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا
الْهَدْيَ) إلى قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [سورة المائدة آية
رقم ٢ ـ ٣].
فخاطب تعالى
المؤمنين بإياس الكافرين عن دينهم ، ولا سبيل إلى قسم ثالث. وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [سورة آل عمران
آية رقم ٨٥].
فصح أن لا دين إلا
دين الإسلام ، وما عداه شيء غير مقبول ، وصاحبه يوم القيامة خاسر ، وبالله تعالى
التوفيق. وقال عزوجل : (الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ) [سورة التوبة آية
رقم ٧١]. وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [سورة الأنفال آية
رقم ٧٣]. وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [سورة المائدة آية
رقم ٥١]. وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ) [سورة التغابن آية
رقم ٢] فصح يقينا أنه ليس في الناس ولا في الجن إلا مؤمن أو كافر ، فمن خرج عن
أحدهما دخل في الآخر ، فنسألهم عن رجل من المسلمين فسق وجاهر بالكبائر وله أختان
إحداهما نصرانية والثانية مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هذا الفاسق وليا في النكاح
ووارثا؟ وعن امرأة سرقت وزنت ولها ابنا عم أحدهما يهودي والآخر مسلم فاضل أيهما
يحل له نكاحها؟ وهذا ما لا خلاف فيه ولا خفاء فيه فصح أن صاحب الكبائر مؤمن.
وقال الله تعالى :
(إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [سورة النساء آية
رقم ١٠٣].
وقال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة آية
رقم ٢٧].
فأخبرونا أتأمرون
الزاني والسارق والقاذف والقاتل بالصلاة وتؤدبوه إن لم يصل أم لا؟ فمن قولهم نعم
ولو قالوا لا لخالفوا الإجماع المتيقن. فنقول لهم : أفتأمرونه بما هو عليه أو بما
ليس عليه وبما يمكن أن يقبله الله تعالى أم بما يوقن أنه لا يقبله ..؟
فإن قالوا نأمره
بما ليس عليه ظهر تناقضهم إذ لا يجوز أن يلزم أحد بما لا يلزمه.
وإن قالوا بل ما
عليه قطعوا بأنه مؤمن لأن الله تعالى أخبر أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا. وإن قالوا نأمره بما لا يمكن أن يقبل منه أحالوا ، إذ من المحال أن يؤمر
أحد بعمل هو على يقين من أنه لا يقبل منه. وإن قالوا : بل نأمره بما نرجو أن يقبل
منه قلنا : صدقتم ، وقد صح بهذا أن الفاسق من المتّقين فيما عمل من عمل صالح فقط
ومن الفاسقين فيما عمل من المعاصي. ونسألهم أتأمرون صاحب الكبيرة بتمتيع المطلّقة
إن طلقها أم لا؟ فإن قالوا : نأمره بذلك لزمهم أنه من المحسنين المتّقين ، لأن
الله تعالى يقول في المتعة : (حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٣٦] و (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة ١٨٠
، ٢٤١].
فصح أن الفاسق
محسن فيما عمل من صالح ومسيء فيما عمل من سيّيء. فإن قالوا : إن الصلاة عليه كما
هي عندكم على الكفّار أجمعين قلنا ، لا سواء لأنها وإن كان الكافر وغير المتوضّئ
والجنب مأمورين بالصلاة معذبين على تركها فإنا لا نتركهم يقيمونها أصلا بل نمنعهم
منها حتى يسلم الكافر ويتوضأ المحدث ويغتسل الجنب ويتوضأ أو يتيمم وليس كذلك
الفاسق بل مجبر على إقامتها.
قال أبو محمد :
وهذا لا خلاف فيه من أحد إلّا أن الجبائي المعتزلي ومحمد بن الطيب الباقلاني ذهبا
من بين جميع الأمة إلى أن من كانت له ذنوب فإنه لا تقبل له توبة من شيء منها حتى
يتوب من الجميع واتبعهما على ذلك قوم وقد ناظرنا بعضهم في ذلك وألزمناه أن يوجبوا
على كل من أذنب ذنبا واحدا إن ترك الصلاة الفرض ، والزكاة ، وصوم رمضان والجمعة
والحج ، والجهاد ، لأن إقامة كل ذلك توبة إلى الله من تركها فإن كانت توبته لا
تقبل من شيء حتى يتوب من كل ذنب له فإنه لا تقبل له توبة من ترك صلاة ولا من ترك
صوم ولا من ترك زكاة إلا حتى يتوب من كل ذنب له وهذا خلاف لجميع الأمة إن قالوه أو
تناقض إن لم يقولوه مع أنه قول لا دليل لهم على تصحيحه أصلا وما كان هكذا فهو باطل
قال الله تعالى : (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة آية
رقم ١١١].
وقال تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [سورة الطلاق آية
رقم ٢].
وقال تعالى : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة التحريم آية
رقم ٤].
فصح يقينا بهذا
اللفظ أن فينا غير عدل وغير صالح ، وهما منا ونحن المؤمنين فهو مؤمن بلا شك. وقال
تعالى : (فَإِنْ تابُوا) يعني من الشرك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [سورة التوبة آية
رقم ١١].
وهذا نص جلي على
أن من صلى من أهل شهادة الإسلام وزكى فهو أخونا في الدين ولم يقل تعالى ما لم يأت
بكبيرة فصح أنه منا وإن أتى بالكبائر.
قال أبو محمد :
فإن ذكروا قول الله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [سورة النساء آية
رقم ١٤٣].
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) [سورة المجادلة
آية رقم ١٤].
وراموا بذلك إثبات
أنه لا مؤمن ولا كافر فهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما وصف بذلك المنافقين
المبطنين للكفر المظهرين للإسلام فهم لا مع الكفار ولا منهم ولا إليهم لأن هؤلاء
يظهرون الإسلام وأولئك لا يظهرونه ، ولا هم مع المسلمين ولا منهم ولا إليهم
لإبطانهم الكفر وليس في هاتين الآيتين أنهم ليسوا كفارا وقد قال عزوجل : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [سورة المائدة آية
رقم ٥١]. فصح يقينا أنهم كفار لا مؤمنون أصلا وبالله تعالى التوفيق.
ويقال لمن قال إن
صاحب الكبيرة منافق : ما معنى هذه الكلمة؟ فجوابهم الذي
لا جواب لأحد في
هذه المسألة غيره هو أن المنافق من كان النفاق صفته ، ومعنى النفاق في الشريعة هو
إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، فيقال له وبالله تعالى التوفيق : لا يعلم ما في
النفس إلّا الله تعالى ثم تلك النفس التي ذلك الشيء فيها فقط ، ولا يجوز أن يقطع
على اعتقاد أحد الكفر إلّا بإقراره بلسانه بالكفر أو بوحي من عند الله تعالى ومن
تعاطى علم ما في النفوس فقد تعاطى علم الغيب ، وهذا خطأ متيقن يعلم ضرورة وحسبك من
القول سقوطا أن يؤدي إلى المحال المتيقن وقد قيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : ربّ مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال عليهالسلام : «إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس» وقد ذكر الله تعالى المنافقين فقال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [سورة التوبة آية
رقم ١٠١]. فإذا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يعرف المنافقين وهم معه وهو يراهم ويشاهد أفعالهم فمن
بعده أحرى أن لا يعلمهم. وقد كان الزناة على عهده صلىاللهعليهوسلم والسّرقة وشرّاب الخمر ومضيّعو فرض الصلاة في الجماعة
والقليلون عهدا والقذفة فما سمى عليهالسلام قط أحدا منهم منافقين بل أقام الحدود فى ذلك وتوعد بحرق
المنازل وأمر بالدية والعفو وأبقاهم في جملة المؤمنين وأبقى عليهم حكم المؤمنين
واسمه ، وقد قلنا إن التسمية في الشريعة لله عزوجل لا لأحد دونه ولم يأت قط عن الله عزوجل تسمية صاحب الكبيرة منافقا. فإن قالوا قد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال وقد ذكر خصالا : «من كنّ فيه كان منافقا خالصا وإن
صام وصلّى وقال إني مسلم» وذكر عليهالسلام تلك الخصال فمنها : «إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن
خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» . وذكر عليهالسلام أن من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى
يدعها.
قلنا له وبالله
تعالى التوفيق : صدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد أخبرناك أن المنافق هو من أظهر شيئا وأبطن خلافه مأخوذ
في أصل اللغة من نافقاء اليربوع وهو باب في جانب جحره مفتوح قد غطاه بشيء من تراب
وهذه الخلال كلها التي ذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم
__________________
كلها باطن صاحبها
خلاف ما يظهر فهو منافق هذا النوع من النفاق وليس هو النفاق الذي يبطن صاحبه الكفر
بالله ، برهان ذلك ما ذكرناه آنفا من إجماع الأمة على أخذ زكاة مال كل من وصفه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالنفاق وعلى إنكاحه ونكاحها إن كانت امرأة وموارثته وأكل ذبيحته
وتركه يصلي مع المسلمين وعلى تحريم دمه وماله ولو تيقنا أنه مبطن للكفر لوجب قتله
وحرم إنكاحه ونكاحها وموارثته وأكل ذبيحته ولم نتركه يصلي مع المسلمين ولكن تسمية
النبي صلىاللهعليهوسلم من ذكرنا منافقا كتسمية الله عزوجل الزارع كفارا إذ يقول تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ) [سورة الحديد آية
رقم ٢٠]. لأن أصل الكفر في اللغة التغطية فمن ستر شيئا فهو كافر له وأصل النفاق في
اللغة ستر شيء وإظهار خلافه فمن ستر شيئا وأظهر خلافه فهو منافق فيه وليس هذان من
الكفر الدياني ولا من النفاق الشريعي في شيء وبهذا تتآلف الآيات والأحاديث كلها
وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لمن قال
بهذا القول : هل أتيت بكبيرة قط ..؟ فإن قال لا قيل له هذا القول كبيرة لأنه تزكية
وقد نهى الله عزوجل عن ذلك فقال : (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ) [سورة النجم آية
رقم ٣٢].
وقد علمنا أنه لا
يعرى أحد من ذنب إلّا الملائكة والنبيين صلى الله عليهم وسلم وأما من دونهم فغير
معصوم ، بل قد اختلف الناس في عصمة الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام وإن
كنا قاطعين على خطأ من جوّز على أحد من الملائكة ذنبا صغيرا أو كبيرا بعمد أو خطأ
وعلى خطأ من جوّز على أحد من النبيين ذنبا بعمد صغيرا أو كبيرا ، لكنا أعلمنا أنه
لم يتفق على ذلك فقط. وإن قال بلى قد كانت لي كبيرة قيل له هل كنت في حال موافقتك
الكبيرة شاكا في الله عزوجل أو في رسوله صلىاللهعليهوسلم أو كافرا بهما أم كنت موقنا بالله تعالى وبالرسول صلىاللهعليهوسلم وبما أتى به موقنا بأنك مسيء مخطئ في ذنبك؟ فإن قال : كنت
كافرا أو شاكا فهو أعلم بنفسه ويلزمه أن يفارق امرأته وأمته المسلمتين ولا يرث من
مات له من المسلمين ثم بعد ذلك فلا يجوز له أن يقطع على غيره من المذنبين بمثل
اعتقاده في الجحد ونحن نعلم بالضرورة كذب دعواه وندري أننا في حيز ما كان منا من
ذنب مؤمنون بالله تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوسلم. وإن قال بل كنت مؤمنا بالله تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوسلم في حال ذنبي قيل له هذا إبطال منك للقول بالنفاق والقطع به
على المذنبين.
قال أبو محمد :
ففي إجماع الأمة كلها دون مختلف من أحد منهم على أن
صاحب الكبيرة
مأمور بالصلاة مع المسلمين وبصوم شهر رمضان والحج وبأخذ زكاة ماله وإباحة مناكحته
وموارثته وأكل ذبيحته وبتركه يتزوج المرأة المسلمة الفاضلة ويبتاع الأمة المسلمة
الفاضلة ويطأها وتحريم دمه وماله وأن لا تؤخذ منه جزية ولا يصغر برهان صحيح على
أنه مسلم مؤمن وفي إجماع الأمة كلها دون مخالف على تحريم قبول شهادته وخبره برهان
على أنه فاسق فصح يقينا أنه مؤمن فاسق ناقص للإيمان عن المؤمن الذي ليس بفاسق قال
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [سورة الحجرات آية
رقم ٦].
فأمّا من قال إنه
كافر نعمة فما لهم حجة أصلا إلّا أن بعضهم فزع بقول الله تعالى : (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ
كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ
الْقَرارُ) [سورة إبراهيم آية
رقم ٢٨].
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه لأن نص الآية مبطل لقولهم لأنّ الله تعالى يقول متصلا وبئس
القرار : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة إبراهيم آية
رقم ٢٩].
فصح أن الآية في
المشركين بلا شك. وأيضا فقد يكفر المرء بنعمة الله ولا يكون كافرا بل مؤمنا بالله
تعالى كافرا لأنعمه بمعاصيه لا كافرا على الإطلاق وبالله تعالى التوفيق.
الكلام فيمن يكفر ولا يكفر
قال أبو محمد :
اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد
أو في شيء من مسائل الفتيا فهو كافر ، وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك فاسق
غير كافر في بعضه على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم ، وذهبت طائفة إلى أن من
خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر وأن من خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس
كافرا ولا فاسقا ولكنه مجتهد معذور إن أخطأ مأجور بنيته ، وقالت طائفة بمثل هذا
فيمن خالفهم في مسائل العبادات وقالوا فيمن خالفهم في مسائل الاعتقادات إن كان
الخلاف في صفات الله عزوجل فهو كافر ، وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق ، وذهبت طائفة
إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وأن كل من اجتهد في
شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال إن أصاب الحقّ فأجران وإن
أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن
علي رضي الله عن جميعهم وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة
رضي الله عنهم ما نعلم منهم في ذلك خلافا أصلا إلّا ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير
من ترك صلاة متعمدا حتى خرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك صيام
رمضان أو شرب الخمر. واحتج من كفّر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء
الله عزوجل.
قال أبو محمد :
ذكروا حديثا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أن القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة . وحديثا آخر «تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة
كلها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة» .
__________________
قال أبو محمد :
هذا حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر
الواحد فكيف من لا يقول به. واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من
قال لأخيه يا كافر فقد باء بالكفر أحدهما» .
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه لأن لفظه يقتضي أنه يأثم برميه بالكفر ولم يقل عليهالسلام إنه بذلك كافر.
قال أبو محمد :
والجمهور من المحتجين بهذا الخبر لا يكفرون من قال لمسلم يا كافر في مشاتمة تجري
بينهما فبهذا خالفوا الخبر الذي احتجوا به.
قال أبو محمد :
والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلّا بنفي أو إجماع وأما
بالدعوى والافتراء فلا. فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلّا بأن يخالف ما قد صح
عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قاله فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة
والسلام وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا وسواء كان ما صح من ذلك
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم منقولا نقل إجماع تواترا أو نقل آحاد إلّا أن من خالف
الإجماع المتيقن المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته ووجوب تكفيره لاتفاق
الجميع على معرفة الإجماع وعلى تكفير مخالفته ، برهان صحة قولنا قول الله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [سورة النساء آية
رقم ١١٥].
قال أبو محمد :
هذه الآية نص بتكفير من فعل ذلك. فإن قال قائل : إن من اتبع غير سبيل المؤمنين
فليس من المؤمنين. قلنا له وبالله تعالى التوفيق : ليس كل من اتبع غير سبيل
المؤمنين كافرا لأن الزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل ليست من سبيل
المؤمنين وقد علمنا أن من اتبعها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وليس مع ذلك كافرا
ولكن البرهان في هذا قول الله عزوجل : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء آية
رقم ٦٥].
__________________
قال أبو محمد :
فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلا ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا ولا جاء برهان
بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
قال أبو محمد :
وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان فلا يكون كافرا إلا أن يأتي
نص بتكفيره فيوقف عنده كمن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم فقط فتمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر. فإن قال قائل : فما
تقولون فيمن قال أنا أشهد أن محمدا رسول الله ولا أدري أهو قرشي أم تميمي أم فارسي
ولا هل كان بالحجاز أو بالخراسان ولا أدري أحي هو أم ميت ولا أدري لعله هذا الرجل
الحاضر أم غيره ..؟ قيل له : إن كان جاهلا لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم
يضره ذلك شيئا ووجب تعليمه فإذا علم وصح عنده الحق فإن عاند فهو كافر حلال دمه
وماله ، محكوم عليه بحكم المرتد ، وقد علمنا أن كثيرا ممن يتعاطى الفتيا في دين
الله عزوجل نعم وكثيرا من الصالحين لا يدري كم لموت النبي صلىاللهعليهوسلم ولا أين كان ولا في أي بلد كان ويكفيه من كل ذلك إقراره
بقلبه ولسانه أن رجلا اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين.
قال أبو محمد :
وكذلك من قال : إن ربه جسم من الأجسام فإنه إن كان جاهلا أو متأولا فهو معذور لا
شيء عليه ويجب تعليمه ، فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن فخالف ما فيها
عنادا فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد وأما من قال إن الله عزوجل هو فلان لإنسان بعينه أو أن الله تعالى يحل في جسم من
أجسام خلقه أو أن بعد محمد صلىاللهعليهوسلم نبيا غير عيسى ابن مريم فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره
لصحة قيام الحجّة بكل هذا على كل أحد ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط
خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم عليه الحجة.
قال أبو محمد :
وأما من كفّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما
لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ
قد فر من الكفر. وأيضا فإنه ليس للناس قول إلا ومخالف ذلك القول ملزم خصمه الكفر
في فساد قوله وطرقه ، فالمعتزلة تنسب إلينا تجوير الله عزوجل وتشبيهه بخلقه ونحن ننسب إليهم مثل ذلك سواء بسواء ، ويلزمهم
أيضا تعجيز الله عزوجل وأنهم يزعمون أنهم يخلقون كخلقه وأن له شركاء في الخلق
وأنهم يستغنون عن الله عزوجل ومن أثبت الصفات يسمي من نفاها باقية لأنهم قالوا تعبدون
غير الله تعالى لأن الله تعالى له صفات وأنتم تعبدون من لا صفة له ومن نفى
الصفات يقول لمن
أثبتها أنتم تجعلون مع الله عزوجل أشياء لم تزل وتشركون به غيره وتعبدون غير الله لأن الله
تعالى لا أحد معه ولا شيء معه في الأزل وأنتم تعبدون شيئا من جملة أشياء لم تزل
وهكذا في كل ما اختلف فيه حتى في الكون والجزء وحتى في مسائل الأحكام والعبادات
فأصحاب القياس يدعون علينا خلاف الإجماع وأصحابنا يثبتون عليهم خلاف الإجماع
وإحداث شرائع لم يأذن الله عزوجل بها وكل فرقة فهي تنتفي بما تسميها به الأخرى وتكفر من قال
شيئا من ذلك فصح أنه لا يكفر أحد إلّا بنفس قوله ونص معتقده ولا ينفع أحد أن يعبر
عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه لكن المحكوم هو مقتضى قوله فقط وأما الأحاديث الواردة
في أن ترك الصلاة شرك فلا تصحّ من طريق الإسناد وأما الأخبار التي فيها من قال لا
إله إلّا الله دخل الجنة فقد فات أحاديث أخر بزيادة على هذا الخبر لا يجوز ترك تلك
الزيادة وهي قوله عليهالسلام : «أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به» فهذا هو الذي لا إيمان لأحد بدونه.
قال أبو محمد :
واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة رضي الله عنهم بقول الله عزوجل : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) إلى قوله : (لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ) [سورة الفتح آية
رقم ٢٩].
قال : فكل من
أغاظه أحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو كافر.
قال أبو محمد :
وقد أخطأ من حمل الآية على هذا لأن الله عزوجل لم يقل قط إن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر وإنما أخبر
تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط ونعم هذا حق لا ينكره مسلم وكل مسلم فهو يغيظ
الكفار وأيضا فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن عليّا قد غاظ معاوية وأن معاوية
وعمرو بن العاص غاظا عليا وأن عمارا قد أغاظ أبا الغادية وكلهم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقد غاظ بعضهم
__________________
بعضا فيلزم على
هذا تكفير من ذكرنا وحاشا لله من هذا.
قال أبو محمد :
ونقول لمن كفّر إنسانا بنفس مقاله دون أن تقوم عليه الحجة فيعاند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويجد في نفسه الحرج مما أتى به : أخبرنا هل ترك رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به إلّا وقد بينه
ودعا إليه الناس كافة؟ فلا بد من نعم ومن أنكر هذا فهو كافر بلا خلاف فإذا أقر
بذلك سئل : هل جاء قط عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لم يقبل إيمان أهل قرية أو أهل حلة أو إنسان أتاه من
حر أو عبد أو امرأة إلا حتى يقرّ أنّ الاستطاعة قبل الفعل أو مع الفعل أو أن
القرآن مخلوق أو غير مخلوق أو أن الله تعالى يرى أو لا يرى أو أن له سمعا وبصرا
وحياة أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان منهم ليوقع بينهم العداوة
والبغضاء؟ فإن ادعى أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يدع أحدا يسلم حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب
بإجماع المسلمين من أهل الأرض وقال ما ندري أنه فيه كاذب فادعى أن جميع الصحابة
رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليهالسلام وهذا محال ممتنع في الطبيعة ثم فيه نسبة الكفر إليهم إذ
كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلّا به. وإن قالوا : إنه صلىاللهعليهوسلم لم يدع قط أحدا إلى شيء من هذا ولكنه مودع في القرآن وفي
كلامه صلىاللهعليهوسلم. قيل له : صدقت وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله
كفرا لما ضيع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيان ذلك للحر والعبد والحرة والأمة ومن جوّز هذا فقد قال
إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يبلّغ كما أمر وهذا كفر مجرد ممن أجازه فصح ضرورة أن
الجهل بكل ذلك لا يضر شيئا وإنما يلزم الكلام فيها إذا خاض فيها الناس فيلزم حينئذ
بيان الحق من القرآن والسنة لقول الله عزوجل : (كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [سورة المائدة : ٨]
ولقول الله عزوجل : (لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [سورة آل عمران : ١٨٧].
فمن عند حينئذ بعد
بيان الحق فهو كافر لأنه لم يحكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا سلم لما قضى به وقد صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن رجلا لم يعمل خيرا قطّ فلما حضره الموت قال لأهله إذا
مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح نصفه في البحر ونصفه في البر فو الله لئن
قدر الله عليّ ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من خلقه
__________________
وإن الله عزوجل جمع رماده فأحياه وسأله ما حملك على ذلك قال خوفك يا رب
وإن الله تعالى غفر له لهذا القول .
قال أبو محمد :
فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عزوجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه
وجهله وقد قال بعض من حرف الكلم عن مواضعه إن معنى لئن قدر الله عليّ إنما هو لئن
ضيق الله عليّ كما قال تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا
ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [سورة الفجر : ١٦].
قال أبو محمد :
وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيّق الله عليّ ليضيقن
عليّ وأيضا فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذرّ رماده معنى ولا شك في أنه
إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى.
قال أبو محمد :
وأبين شيء في هذا قول الله تعالى : (إِذْ قالَ
الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ
يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) إلى قوله : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ
صَدَقْتَنا) [سورة المائدة :
١١٢ ، ١١٣].
فهؤلاء الحواريون
الذين أثنى الله عزوجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليهالسلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ولم يبطل
بذلك إيمانهم وهذا لا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة
وتبينهم لها.
قال أبو محمد :
وبرهان ضروري لا خلاف فيه وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل
من بدل آية من القرآن عامدا وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك أو أسقط كلمة عمدا
كذلك أو زاد فيها كلمة عامدا فإنه كافر بإجماع الأمة كلها ثم إن المرء يخطئ في
التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ويبدل كلامه جاهلا مقدرا أنه مصيب ويكابر في ذلك
ويناظر قبل أن يتبين له الحق ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا ولا فاسقا ولا
آثما فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإن تمادى
على خطئه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة وهذا هو الحكم الجاري في جميع
الديانة.
__________________
قال أبو محمد :
واحتج بعضهم بأن قال : قال الله تعالى : (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [سورة الكهف : ١٠٤].
قال أبو محمد :
آخر هذه الآية مبطل لتأويلهم لأن الله عزوجل وصل قوله : (يُحْسِنُونَ صُنْعاً) بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) [سورة الكهف : ١٠٥
، ١٠٦].
فهذا يبين أن أول
الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة ثم نقول لهم لو نزلت هذه الآية في
المتأولين من جملة أهل الإسلام كما تزعمون لدخل في جملتها كل متأول مخطئ في تأويل
في فتيا لزمه تكفير جميع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم قد اختلفوا وبيقين ندري أن كل
امرئ منهم فقد يصيب ويخطئ ، بل يلزمه تكفير جميع الأمة لأنهم كلهم لا بد من أن
يصيب كل امرئ منهم ويخطئ بل يلزمه تكفير نفسه لأنه لا بد لكل من تكلم في شيء من
الديانة من أن يرجع عن قول قاله إلى قول آخر تبين له أنه أصح إلّا أن يكون مقلدا
فهذه أسوأ لأن التقليد خطأ كله لا يصح ومن بلغ هاهنا فقد لاح غوامر قوله وبالله
تعالى التوفيق.
وقد أقر عمر بن
الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه لم يفهم آية الكلالة فما كفره بذلك ولا فسّقه ولا
أخبره أنه آثم بذلك لكن أغلظ له في كثرة تكراره السؤال عنها فقط وكذلك أخطأ جماعة
من الصحابة رضي الله عنهم في حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الفتيا فبلغه عليهالسلام فما كفّر بذلك أحدا منهم ولا فسّقه ولا جعله آثما لأنه لم
يعانده عليهالسلام أحد منهم وهذا كفتيا أبي السنابل بن بعكك في آخر الأجلين والذين أفتوا أنّ على الزاني غير المحصن
الرجم وقد نقضنا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب : «الإحكام لأصول الأحكام» وأيضا فإن
الآية المذكورة لا تخرج على قول أحد ممن خالفنا إلّا بحذف وذلك أنهم يقولون إن
الذين في قوله تعالى : (الَّذِينَ
__________________
ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هو خبر مبتدأ مضمر ولا يكون ذلك إلا بحذف الابتداء كأنه
قال هم الذين ولا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذف إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك أو
إجماع على ذلك أو ضرورة حس فبطل قولهم وصار دعوى بلا دليل.
وأما نحن فإن لفظة
الذين عندنا على موضوعها دون حذف وهو نعت للآخرين ويكون خبر الابتداء وقوله تعالى
: (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) وكذلك قوله تعالى : (وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [سورة المجادلة :
١٨].
فنعم هذه صفة
القوم الذين وصفهم الله تعالى بهذا في أول الآية ورد الضمير إليهم وهم الكفار بنص
أول الآية.
وقال قائلهم أيضا
: فإذا عذرتم المجتهدين إذا أخطئوا فاعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل
فإنهم أيضا مجتهدون قاصدون الخير.
فجوابنا وبالله
تعالى التوفيق أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا ولا كفرنا من كفرنا بظننا وهوانا
وهذه خطة لم يؤتها الله عزوجل أحدا دونه ولا يدخل الجنة والنار أحد أحدا بل الله تعالى
يدخلها من يشاء فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به كل ذلك على لسان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا يختلف اثنان من أهل الأرض لا نقول من المسلمين بل من
كل ملة في أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذين تبرأ أهله من
كل ملة حاشا التي آتاهم بها عليهالسلام فقط فوقفنا عند ذلك فقط ، ولا يختلف أيضا اثنان في أنه عليهالسلام قطع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدّق بكل ما جاء به
وتبرأ من كل دين سوى ذلك فوقنا أيضا عند ذلك ولا مزيد. فمن جاء نصّ في إخراجه عن
الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه سواء أجمع على خروجه منه أو لم يجمع
، وكذلك من أجمع أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فوجب اتباع الإجماع في ذلك.
وأما من نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام ولا إجماع في خروجه أيضا عنه فلا
يجوز إخراجه عن ما قد صح يقينا حصوله فيه وقد نص الله تعالى على ما قلنا فقال : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [سورة آل عمران ٨٥].
وقال تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
حَقًّا) [سورة النساء :
١٥٠].
وقال تعالى : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [سورة التوبة : ٦٥
، ٦٦].
فهؤلاء كلهم كفار
بالنص وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئا صح عنده بالإجماع أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتى به فقد كفر وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو
بملك من الملائكة أو بنبي من الأنبياء عليهمالسلام ، أو بآية من القرآن ، أو بفريضة من فرائض الدين ، فهي
كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر ، ومن قال بنبيّ بعد النبي
عليه الصلاة والسلام ، أو جحد شيئا صح عنده أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قاله فهو كافر لأنه لم يحكم النبي صلىاللهعليهوسلم فيما شجر بينه وبين خصمه.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وقد شقق أصحاب الكلام فقالوا : ما تقولون فيمن قال له النبي صلىاللهعليهوسلم قم صل فقال : لا أفعل ، أو قال له النبي صلىاللهعليهوسلم : ناولني ذلك السيف أدفع به عن نفسي ، فقال : لا أفعل.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا أمر قد كفوا وقوعه ، ولا فضول أعظم من فضول من اشتغل بشيء قد أيقن
أنه لا يكون أبدا ، ولكن الذي كان وقع فإننا نتكلم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : قد أمر النبي صلىاللهعليهوسلم أفضل أهل الأرض وهم أهل الحديبية بأن يحلقوا ، وينحروا ،
فتوقّفوا حتى أمرهم ثلاثا ، وغضب عليهالسلام ، وشكا ذلك إلى أم سلمة فما كفروا بذلك ولكن كانت معصية
تداركهم الله بالتوبة منها ، وما قال مسلم قط إنهم كفروا بذلك لأنهم لم يعاندوه ،
ولا كذبوه ، وقد قال سعد بن عبادة والله يا رسول الله لئن وجدت لكاعا يتفخذها رجل
أدعهما حتى آتي بأربعة شهداء ..؟ قال : نعم قال : إذن والله يقضي إربه ، والله
لأتجلّلهما بالسيف . فلم يكن بذلك كافرا ، إذ لم يكن معاندا ولا مكذبا ، بل
أقر أنه يدري أن الله تعالى أمر بخلاف ذلك وسألوا أيضا عمن قال : أنا أدري أن الحج
إلى مكة فرض ، ولكن لا أدري أهي بالحجاز ..؟ أم بخراسان ..؟ أم بالأندلس ..؟ وأنا
أدري أن الخنزير حرام لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به ..؟
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وجوابنا هو أن من قال هذا ، فإن كان جاهلا علّم ، ولا شيء عليه ، فإن
المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا ، وإن كان عالما فهو عابث مستهزئ
بآيات الله تعالى ، فهو كافر مرتد حلال الدم والمال ، ومن قذف عائشة رضي الله عنها
فهو كافر لتكذيبه القرآن وقد قذفها مسطح وحمنة ولم
__________________
يكفرا لأنهما لم
يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى ، ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفرا ، وأما من سب
أحدا من الصحابة رضي الله عنهم ، فإن كان جاهلا فمعذور وإن قامت عليه الحجة فتمادى
غير معاند فهو فاسق ، كمن زنى وسرق ، وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله صلىاللهعليهوسلم فهو كافر ، وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلىاللهعليهوسلم عن حاطب ـ وحاطب مهاجر بدري ـ دعني أضرب عنق هذا المنافق
فما كان عمر بتكفيره حاطبا كافرا بل كان مخطئا متأولا ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «آية
المنافق بغض الأنصار».
وقال لعلي : «لا يبغضك إلا منافق» .
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلىاللهعليهوسلم فهو كافر لأنه وجد الحرج في نفسه مما قضى الله تعالى
ورسوله صلىاللهعليهوسلم من إظهار الإيمان بأيديهم ، ومن عادى عليّا لمثل ذلك فهو
أيضا كافر ، وكذلك من عادى من ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك ، وقد
فرق بعضهم بين الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد بأن قال : قد اختلف أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الفتيا فلم يكفر بعضهم بعضا ولا فسق بعضهم بعضا.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا ليس بشيء فقد حدث إنكار القدر في أيامهم فما كفرهم أكثر الصحابة
رضي الله عنهم وقد اختلفوا في الفتيا واقتتلوا على ذلك وسفكت الدماء كاختلافهم في
تقديم بيعة عليّ على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنه وقد قال ابن عباس رضي الله
عنه : من شاء باهلته عند الحجر الأسود ، أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة
واحدة نصفا ، ونصفا وثلثا.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهنا أقوال غريبة جدا فاسدة ، منها أن أقواما من الخوارج قالوا : كل
معصية فيها حد فليست كفرا ، وكل معصية لا حد فيها فهي كفر.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا تحكم بلا برهان ودعوى بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل قال تعالى
: (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١].
فصح أن من لا برهان له على قوله فليس صادقا فيه.
__________________
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فصح بما قلنا أن كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو
كافر ، ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة ، ولا تبين له
الحق فهو معذور مأجور أجرا واحدا لطلبه الحق وقصده إليه ، مغفور له خطؤه إذ لم
يتعمّده لقول الله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة الأحزاب : ٥].
وإن كان مصيبا فله
أجران ، أجر لإصابته ، وأجر آخر لطلبه إياه ، وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له
الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله صلىاللهعليهوسلم فهو فاسق لجرأته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام
، فإن عند عن الحق معارضا لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين
الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان
على ما بينا قبل.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : ونحن نختصر هاهنا إن شاء الله تعالى ونوضح كل ما أطلنا فيه ، قال تعالى
: (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء :
١٥] وقال تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ) [سورة الأنعام :
١٩] وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء : ٦٥].
فهذه الآيات فيها بيان جمع هذا الباب فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلىاللهعليهوسلم فمن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر ، فإن آمن به ثم اعتقد ما
شاء الله تعالى أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون
أن يبلغه في ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم حكم بخلاف ما اعتقد أو ما قال أو عمل ، فلا شيء عليه أصلا
حتى يبلغه ، فإن بلغه وصح عنده فإن خالفه مجتهدا فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك
فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة كما قال عليهالسلام : «إذا
اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر» . وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء وإن
خالفه بعمله معاندا للحق معتقدا بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق ، وإن خالفه معاندا
بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردناها
وهو قول إسحاق بن راهويه وغيره ، وبه نقول وبالله تعالى التوفيق.
__________________
الكلام في تعبد الملائكة ، وتعبد الحور العين
والخلق المستأنف وهل يعصي ملك أم لا
قال أبو محمد رضي
الله عنه : قد نص الله عزوجل على أن الملائكة متعبدون قال تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [سورة النحل : ٥٠].
ونص تعالى على أنه أمرهم بالسجود لآدم ، وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ
بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) إلى قوله : (وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ) [سورة الأنبياء :
٢٦ ـ ٢٩]. وقال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) [سورة النحل : ٤٩ و
٥٠].
قال أبو محمد رضي
الله عنه : نص الله تعالى على أنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرمون ، موعودون
بإيصال الكرامة أبدا مصرفون في كتاب الأعمال وقبض الأرواح وأداء الرسالة إلى
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتوكل بما في العالم الأعلى والأدنى ، وغير ذلك
مما خالقهم عزوجل به عليم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [سورة التكوير :
١٩ ـ ٢١]. فأخبر عزوجل أن جبريل عليهالسلام مطاع في السموات أمين هنالك فصح أن هنالك أوامر وتدبير
وأمانات وطاعة ومراتب ، ونص تعالى على أنهم كلّهم معصومون بقوله عزوجل : (عِبادٌ مُكْرَمُونَ
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٦ و
٢٧]. وبقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [سورة الأنبياء :
٢٠]. وبقوله : (فَالَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [سورة فصلت : ٣٨].
فنص تعال على أنهم كلهم لا يسأمون من العبادة ولا يفترون من التسبيح والطاعة لا
ساعة ولا وقتا ، ولا يستحسرون من ذلك ، وهذا خبر على التأبيد لا يستحيل أبدا ،
ووجب أنهم متنعمون بذلك مكرمون به مفضلون بتلك الحال وبالتذاذهم بذلك ونص تعالى
على أنهم كلهم معصومون قد حقت لهم ولاية ربهم عزوجل أبد الأبد بلا نهاية فقال تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [سورة البقرة : ٩٨].
فكفر تعالى من عادى أحدا منهم ، فإن قال قائل كيف لا يعصون والله تعالى يقول : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ
مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [سورة الأنبياء :
٢٩].
قلنا : نعم ، هم
متوعدون على المعاصي كما توعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ يقول له ربه : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [سورة الزمر : ٦٥].
وقد علم عزوجل أنه عليهالسلام لا يشرك أبدا وأن الملائكة لا يقول أحد منهم أبدا إنّي إله
من دون الله ، وكذلك قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ) [سورة الأحزاب :
٣٠]. وهو تعالى قد برأهن ، وعلم أنه لا يأتي أحد منهنّ بفاحشة أبدا بقوله تعالى : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) [سورة النور : ٢٦]
لكن الله تعالى يقرر ما يشاء ويشرع ما يشاء ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا يسأل
عما يفعل وهم يسألون ، فأخبر عزوجل بحكم هذه الأمور لو كانت ، وقد علم أنها لا تكون كما قال
تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [سورة الأنبياء :
١٧]. وكما قال : (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [سورة الزمر : ٤].
وكما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [سورة الأنعام :
٢٨]. وكما قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي
الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [سورة الإسراء :
٩٥] وكل هذا قد علم الله تعالى أنه لا يكون أبدا وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل : إن
الملائكة مأمورون لا منهيون ، قلنا : هذا باطل لأن كل مأمور بشيء فهو منهي عن تركه
وقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ) يدل على أنهم منهيون عن أشياء يخافون من فعلها ، وقال عزوجل : (ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [سورة الحجر : ٨].
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وهذا مبطل ظن من ظن أن هاروت وماروت كانا ملكين فعصيا بشرب الخمر
والزنا والقتل ، وقد أعاذ الله عزوجل الملائكة من مثل هذه الصفة بما ذكرنا آنفا أنهم لا يعصون
الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وبإخباره تعالى أنهم لا يسأمون ، ولا يفترون ،
ولا يستحسرون عن طاعته عزوجل ، فوجب يقينا أنه ليس في الملائكة البتة عاص لا بعمد ولا
بخطإ ولا بنسيان وقال عزوجل : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [سورة فاطر : ١].
فكل الملائكة رسل الله عزوجل بنص القرآن ، والرسل معصومون فصح أن هاروت وماروت المذكورين
في
القرآن لا يخلو
أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكونا جنّيين من أحياء الجن ، كما
روينا عن خالد بن أبي عمران وغيره ، وموضعهما حينئذ في النحو بدل من الشياطين كأنه
قال : ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت ويكون قوله : ما أنزل على الملكين نعتا بمعنى
لم ينزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا.
وإما أن يكونا
ملكين أنزل الله عزوجل عليهما شريعة حق ثم نسخها فصارت كفرا كما فعل بشريعة موسى
وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمهما وهي بعد كفر ، كأنه قال
تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ، والذي أنزل على الملكين ببابل
هاروت وماروت. ثم ذكر عزوجل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [سورة البقرة :
١٠٢].
قال أبو محمد رضي
الله عنه : فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قول صحيح ونهي عن المنكر ، وأما
الفتنة ، فقد تكون ضلالا وتكون هدى ، قال الله عزوجل حاكيا عن موسى عليهالسلام أنه قال لربه : (أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف :
١٥٥]. فصدق الله عزوجل في قوله ، وصح أنه يهدي بالفتنة من يشاء ويضل بها من يشاء.
وقال تعالى : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة الأنفال :
٢٨].
وليس كل أحد يضل
بماله وولده ، فقد كان للنبي صلىاللهعليهوسلم أولاد ومال ، وكذلك لكثير من الرسل عليهمالسلام ، وقال تعالى : (وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [سورة المدثر : ٣١].
وقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ) [سورة الجن : ١٧].
فهذه سقيا الماء التي هي جزاء على الاستقامة قد سماها الله تعالى فتنة ، فصح أن من
الفتنة خيرا وهدى ، ومنها ضلالا وكفرا ، والملكان المذكوران كذلك كانا فتنة يهتدي
من اتبع أمرهما في أن لا يكفر ، ويضل من عصاهما في ذلك ، وقوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) حق لأن أتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفته يؤمن
الزوج فيفرق إيمانه بينه وبين امرأته التي لم تؤمن ، وتؤمن هي فيفرق إيمانها بينها
وبين زوجها الذي
لم يؤمن في الدنيا
والآخرة وفي الولاية. ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عزوجل : (وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة البقرة :
١٠٢] وهذا حق ، لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عزوجل وأبطله ضارون من أذن الله تعالى باستضراره به ، وهكذا إلى
آخر الآية. وما قال عزوجل قطّ إنّ هاروت وماروت علما سحرا ولا كفرا ولا أنهما عصيا ،
وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة ، لا تصح عن طريق الإسناد أصلا ، ولا هي أيضا مع
ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإنما هي موقوفة على من دونه عليهالسلام فسقط التعلق بها وصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين.
وهذا التفسير
الأخير هو نص الآية دون تكلف تأويل ، ولا تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة في الآية
ولا نقص منها ، بل هو ظاهرها والحق المقطوع به عند الله تعالى يقينا وبالله تعالى
التوفيق.
فإن قيل : كيف تصح
هذه الترجمة أو الأخرى وأنتم تقولون : إن الملائكة لا يمكن أن يراهم إلا نبي ،
وكذلك الشياطين ولا فرق ، فكيف تعلم الملائكة الناس ..؟ أو كيف تعلم الجن الناس
..؟.
قلنا وبالله تعالى
التوفيق : أما الملائكة فيعلمون من أرسلوا إليه من الأنبياء خاصة وينهونهم عن
الكفر ، كما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الكفر في نص القرآن.
وأما الشياطين :
فتعلم الناس بالوسوسة في الصدور وتزيين الباطل أو يتمثل في صورة إنسان كما تمثل
يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم قال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) [سورة الأنفال :
٤٨].
وأما الحور العين
فنسوان مكرمات مخلوقات في الجنة لأولياء الله عزوجل ، عاقلات مميزات مطيعات لله تعالى في النعيم خلقن فيه
ويخلدن بلا نهاية لا يعصين البتة.
__________________
والجنة إذا دخلها
أهلها المخلدون فليست دار معصية ، وكذلك أهل الجنة لا يعصون فيها أصلا ، بل هم في
نعيم وحمد لله تعالى ، وذكر له والتذاذ بأكل وشرب ولباس ووطء لا يختلف في ذلك من
أهل الإسلام اثنان وبذلك جاء القرآن والحمد لله رب العالمين.
وأما الولدان
المخلدون فهم أولاد الناس الذين ماتوا قبل البلوغ كما جاء عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقد صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن الله تعالى يخلق خلقا يملأ الجنة بهم فنحن نقر بهذا ولا
ندري أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون في الجنة ، والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما
كان لهم الخيرة. وأما الجن فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إليهم بدين الإسلام هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من
الأمة فكافرهم في النار مع كافرنا ، وأما مؤمنهم فقد اختلف الناس فيهم فقال أبو
حنيفة لا ثواب لهم ، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وجمهور الناس إنهم في الجنة
وبهذا نقول لقول الله عزوجل : (أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران :
١٣٣]. ولقوله تعالى حاكيا عنهم ومصدقا لمن قال ذلك منهم : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى
آمَنَّا بِهِ) [سورة الجن : ١٣].
وقوله تعالى حاكيا عنهم : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [سورة الجن : ١].
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [سورة البينة : ٧
، ٨]. إلى آخر السورة ، وهذه صفة تعم الجن والإنس عموما لا يجوز البتة أن يخص منها
أحد النوعين فيكون فاعل ذلك قائلا على الله ما لا يعلم ، وهذا حرام ، ومن المحال
الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام ، وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به
ثم لا يبين ذلك لنا ، هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله عزوجل لنا فكيف وقد نص عزوجل على أنهم آمنوا فوجب أنهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون
الجنة ولا بد.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : وإذا الجن متعبدون فقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضلت
على الأنبياء بست» . فذكر فيها أنه عليهالسلام بعث إلى الأحمر والأسود وكان من قبله من الأنبياء إنما
يبعث إلى قومه خاصة ، وقد نص عليهالسلام على أنه بعث إلى الجن ، وقال عزوجل : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا
__________________
سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) إلى قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا
رَشَداً وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [سورة الجن : ١٤ ،
١٥]. وإذ الأمر كما ذكرنا فلم يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد صلىاللهعليهوسلم لأنه ليس الجن من قوم إنس وباليقين ندري أنهم قد أنذروا
فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [سورة الأنعام :
١٣٠].
وبالله تعالى
التوفيق.
هل تعصي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قال أبو محمد :
اختلف الناس في هل تعصي الأنبياء عليهمالسلام أم لا ..؟ فذهبت طائفة إلى أن رسل الله صلّى الله عليهم
وسلم يعصون الله عزوجل في جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشا الكذب في التبليغ فقط
، وهذا قول الكرامية من المرجئة ، وقول ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه
، وهو قول اليهود والنصارى ، وسمعت من يحكي عن بعض الكرامية أنهم يجوزون على الرسل
عليهمالسلام الكذب في التبليغ أيضا. وأما هذا الباقلاني فإنا رأينا في
كتاب صاحبه أبي جعفر السمناني قاضي الموصل أنه كان يقول : إن كل ذنب دق أو جل ، فإنه
جائز على الرسل حاشا الكذب في التبليغ فقط ، قال : وجائز عليهم أن يكفروا ، قال :
وإذا نهى النبي عليهالسلام عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلا على أن ذلك النهي قد نسخ ،
لأنه قد يفعله عاصيا لله عزوجل ، قال : وليس لأصحابه أن ينكروا ذلك عليه. وجوز أن يكون في
أمة محمد عليهالسلام من هو أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام مذ بعثه الله إلى
أن مات.
قال أبو محمد :
وهذا كله كفر مجرد ، وشرك محض ، وردة عن الإسلام ، قاطعة للولاية ، مبيحة دم من
دان بها وماله ، موجبة للبراءة منه في الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد.
وذهبت طائفة إلى
أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا ، وجوزوا
عليهم الصغائر بالعمد وهو قول ابن فورك الأشعري وذهب
__________________
جميع أهل الإسلام
من أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي
أصلا معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة ، وهو قول ابن مجاهد الأشعري شيخ ابن فورك والباقلاني المذكورين.
قال أبو محمد :
وهذا قولنا الذي ندين الله تعالى به ، ولا يحل لأحد أن يدين بسواه ، ونقول : إنه
يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله
تعالى ، والتقرب به منه ، فيوافق خلاف مراد الله تعالى إلا أنه تعالى لا يقر على
شيء من هذين الوجهين أصلا ، بل ينبّههم على ذلك ولا بدّ إثر وقوعه منهم ، ويظهر عزوجل ذلك لعباده ، ويبين لهم كما فعل نبيه صلىاللهعليهوسلم في سلامه من اثنتين وقيامه من اثنتين وربما عاتبهم على ذلك بالكلام كما فعل
نبيه عليهالسلام في أمر زينب أم المؤمنين وطلاق زيد لها رضي الله عنهما ، وفي قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه ، وربما يبغض المكروه في الدنيا كالذي أصاب آدم ويونس
عليهما
__________________
الصلاة والسلام ،
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بخلافنا في هذا فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه
، ولا بما قصدنا به وجه الله عزوجل فلم يصادف مراده تعالى ، بل نحن مأجورون على هذا الوجه
أجرا واحدا.
وقد أخبر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أن الله تعالى قرن بكل أحد شيطانا ، وأن الله تعالى أعانه
على شيطانه فأسلم ، فلا يأمره إلا بخير ، وأما الملائكة فبراء من كل هذا ، لأنهم
خلقوا من نور محض لا شوب فيه ، والنور خير كله لا كدر فيه.
حدثنا عبد الله بن
يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد
بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجّاج ، عن عبد بن حميد ، عن عبد الرّزّاق ، عن معمر ،
عن الزّهريّ ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلقت
الملائكة من نور وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم ممّا وصف لكم». .
قال أبو محمد :
واحتجت الطائفة الأولى بآيات من القرآن ، وأخبار وردت ، ونحن إن شاء الله عزوجل نذكرها ، ونبين غلطهم فيها ، بالبراهين الواضحة الضرورية ،
وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في آدم عليهالسلام
قال أبو محمد :
فمما احتجوا به قول الله عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى) [سورة طه آية رقم
١٢١].
وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة آية
رقم ٣٥]. قالوا : فقربها آدم فكان من الظالمين. وقد عصى وغوى.
وقال تعالى : (فَتابَ عَلَيْهِ).
والمتاب لا يكون
إلا من ذنب.
__________________
وقال تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) [سورة البقرة آية
رقم ٣٥]. واستزلال الشيطان معصية ، وذكروا قول الله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [سورة الأعراف آية
رقم ١٩٠].
هذا كل ما ذكروا
في آدم عليهالسلام.
قال أبو محمد :
وهذا كله بخلاف ما ظنوا.
أما قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [سورة طه : ١٢١].
فقد علمنا أن كل خلاف لأمر آمر فصورته صورة المعصية ، فيسمى معصية لذلك وغواية ،
إلا أنه منه ما يكون عن عمد وذكر ، فهذه معصية على الحقيقة ، لأن فاعلها قاصد إلى
المعصية ، وهو يدري أنها معصية ، وهذا هو الذي نزهنا عنه الأنبياء عليهمالسلام ، ومنه ما يكون عن قصد إلى خلاف ما أمر به وهو يتأول في
ذلك الخير ، ولا يدري أنه عاص بذلك بل يظن أنه مطيع لله تعالى أو أن ذلك مباح له
لأنه يتأول أن الأمر الوارد عنه ليس على معنى الإيجاب ولا على التحريم لكن إما على
الندب إن كان بلفظ الأمر ، أو الكراهية إن كان بلفظ النهي ، وهذا شيء يقع فيه
العلماء ، والفقهاء ، والأفاضل كثيرا ، وهذا هو الذي قد يقع من الأنبياء عليهمالسلام ويؤاخذون به إذا وقع منهم ، وعلى هذه السبيل أكل آدم من
الشجرة ، ومعنى قوله تعالى : (فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة آية
رقم ٣٥] أي ظالمين لأنفسكما ، والظلم في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه فمن وضع
الأمر ، أو النهي ، في موضع الندب ، أو الكراهة ، فقد وضع الشيء في غير موضعه ،
وهذا الظلم من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد ، وليس معصية ، لا الظلم الذي
هو القصد إلى المعصية ، وهو يدري أنها معصية ، وبرهان هذا ما قد نصه الله تعالى من
أن آدم عليهالسلام لم يأكل من الشجرة إلا بعد أن أقسم له إبليس أن نهي الله عزوجل لهما عن أكل الشجرة ليس على التحريم ، وأنهما لا يستحقان
بذلك عقوبة أصلا ، بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن ، وفوز الأبد ، قال تعالى حاكيا
عن إبليس أنه قال لهما : (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا
مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُما
بِغُرُورٍ) [سورة الأعراف آية
رقم ٢١].
وقال عزوجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [سورة طه آية رقم
١١٥].
قال أبو محمد :
فلما نسي آدم عليهالسلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له أحسن الظن بيمينه.
قال أبو محمد :
ولا سلامة ولا براءة من القصد إلى المعصية ولا أبعد من الجراءة على الذنوب أعظم من
حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا ، وهكذا فعل آدم عليهالسلام فإنه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا ، بنص
القرآن ، ومتأولا وقاصدا إلى الخير ، لأنه قدّر أنه يزداد حظوة عند الله تعالى
فيكون ملكا مقربا ، أو خالدا فيما هو فيه أبدا ، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عزوجل به ، وكان الواجب أن يحمل أمر ربّه عزوجل على ظاهره لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ، ولو فعل هذا
عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا ، ولكن آدم عليهالسلام لما فعله وأوخذ به بإخراجه عن الجنة على نكد الدنيا ، كان
بذلك ظالما لنفسه.
وقد سمى الله قاتل
الخطأ قاتلا ، كما سمى العامد ، والمخطئ لم يتعمد معصية ، وجعل في الخطأ في ذلك
كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، لمن عجز عن الرقبة ، وهو لم يتعمد ذنبا
، وأما قوله عزوجل : (لَئِنْ آتَيْتَنا
صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [سورة الأعراف آية
رقم ٨٩ ، ٩٠].
فهذا تكفير لآدم عليهالسلام ومن نسب لآدم عليهالسلام الشرك والكفر ـ كفر مجرد بلا خلاف من أحد من الأمة ونحن
ننكر على من كفّر المسلمين العصاة العشارين القتالين ، والشّرط الفاسقين ، فكيف من كفّر الأنبياء عليهمالسلام ..؟ وهذا الذي نسبوه إلى آدم عليهالسلام من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة ، مكذوبة ، من
توليد من لا دين له ، ولا حياء ، لم يصح سندها قط ، وإنما نزلت في المشركين على
ظاهرها ، وحتى لو صح أن الآية نزلت في آدم ، وهذا لا يصح أصلا ، لما كانت فيه
للمخالف حجة ، لأنه كان يكون الشرك أو الشركاء المذكورون في الآية حينئذ على غير
الشكر الذي هو الكفر ، لكن بمعنى أنهما جعلا مع توكلهما شركة من حفظه ومعناه كما
قال يعقوب عليهالسلام : (يا بَنِيَّ لا
تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما
أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ
حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما
عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة يوسف آية
رقم ٦٧ ، ٦٨].
فأخبرنا عزوجل أن يعقوب عليهالسلام أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة
__________________
إشفاقا عليهم إما
من إصابة العين ، وإما من تعرض عدو مستريب بإجماعهم ، أو ببعض ما يخوفه عليهم ،
وهو عليهالسلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا
يغني عنهم من الله شيئا يريده عزوجل بهم ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليهالسلام ، وفي سائر الأنبياء عليهمالسلام ، كما قال تعالى حاكيا عن الرسل أنهم قالوا : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [سورة إبراهيم آية
رقم ١١] حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لجارحه النفس ، ونزاعها ، وتوقفها إلى
سلامة من تحب ، وإن كان ذلك لا يغني شيئا كما كان عليهالسلام يحب الفأل الحسن ، فكان يكون على هذا معنى الشرك والشركاء
أن يكون عوذة ، أو تميمة ، أو نحو هذا فكيف ولم تنزل الآية قط إلا في الكفار ، لا
في آدم عليهالسلام؟؟؟.
الكلام في نوح عليهالسلام
قال أبو محمد :
ذكروا قول الله عزوجل لنوح عليهالسلام ... (فَلا تَسْئَلْنِ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [سورة هود آية ٤٦].
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه لأن نوحا عليهالسلام تأول وعد الله تعالى أن يخلصه وأهله فظن أن ابنه من أهله
على ظاهر القرابة ، وهذا لو فعله أحد لكان مأجورا ولم يسأل نوح عليهالسلام تخليص من أيقن أنه ليس من أهله فتفرع على ذلك ونهي عن أن
يكون من الجاهلين ، فتندم عليهالسلام من ذلك ونزع ، وليس هاهنا عمد للمعصية البتة.
وبالله تعالى
التوفيق.
الكلام في إبراهيم عليهالسلام
قال أبو محمد :
ذكروا ما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أن إبراهيم عليهالسلام كذب ثلاث كذبات ، وأنه قال إذ نظر في النجوم (إِنِّي سَقِيمٌ) [سورة الصافّات
آية رقم ٨٩].
وبقوله في الكواكب
والشمس والقمر (هذا رَبِّي) [سورة الأنعام آية
رقم ٧٦ ، ٧٧ ، ٧٨].
وبقوله في سارة :
هذه أختي.
وبقوله في الأصنام
إذ كسرها (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) [سورة الأنبياء
آية رقم]
٦٣] وبطلبه إذ طلب
رؤية إحياء الموتى (قالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة آية
رقم ٢٦٠].
قال أبو محمد :
وهذا كله ليس على ما ظنوه بل هو حجة لنا والحمد لله رب العالمين.
أما الحديث : أنه عليهالسلام كذب ثلاث كذبات ، فليس كل كذب يكون معصية ، بل منه ما يكون طاعة لله عزوجل وفرضا واجبا يعصي من تركه ، صح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ليس
الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا» .
فقد أباح عليهالسلام كذب الرجل لامرأته فيما يستجلب به مودتها ، وكذلك الكذب في
الحرب ، فقد أجمع أهل الإسلام على أن إنسانا لو سمع مظلوما قد ظلمه سلطان وطلبه
ليقتله بغير حق ويأخذ ماله غصبا فاستتر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصدا بذلك
السلطان فسأل السلطان ذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر
أن يكون سمعه ، أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله ، فإنه محسن مأجور مطيع لله عزوجل ، وأنه إن صدقه فأخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله
كان فاسقا عاصيا لله عزوجل ، فاعل كبيرة مذموما تماما.
وقد أبيح الكذب في
إظهار الكفر في التقية ، وكل ما روي عن إبراهيم عليهالسلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة ، لا في الكذب
الذي نهي عنه ، وأما قوله عن سارة هي أختي فصدق هي أخته من وجهين :
قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [سورة الحجرات آية
رقم ١٠].
وقال عليهالسلام : «لا
يخطب أحدكم على خطبة أخيه».
__________________
والوجه الثاني :
القرابة وأنها من قومه ومن مستجيبيه قال عزوجل : (وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً) [سورة الأعراف آية
رقم ٨٥].
فمن عد هذا كذبا
مذموما من إبراهيم عليهالسلام فليعده كذلك من ربه عزوجل وهذا كفر مجرد فصح أنه عليهالسلام صادق في قوله في سارة إنها أختي. وأما قوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [سورة الصافّات
آية ٨٩] فليس هذا كذبا ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما
يحدث في العالم كدلالة البرق على تغول البحر ، وكدلالة الرعد على تولد الكمأة ،
وكتولد المد والجزر على طلوع القمر وغروبه ، وانحداره وارتفاعه ، وامتلائه ونقصه ،
وإنما المنكر قول من قال : إن الكواكب هي الفاعلة المدبرة لذلك ، دون الله تعالى ،
أو مشتركة معه ، فهذا كفر من قائله ، وأما قوله عليهالسلام : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) [سورة الأنبياء
آية رقم ٦٣] فإنما هو تقريع لهم ، وتوبيخ ، كما قال تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ) [سورة الدخان آية
٤٩] وهو في الحقيقة مهان ذليل ، مهين معذب في النار ، فكلا القولين توبيخ لمن قيلا
له على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر ، وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه
عزيز كريم.
ولم يقل إبراهيم عليهالسلام هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله ، إذ الكذب إنما هو
الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصدا إلى تحقيق ذلك.
وأما قوله عليهالسلام إذ رأى الكوكب والشمس والقمر : هذا ربي. فقال قوم إن
إبراهيم عليهالسلام قال ذلك محققا أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة
مكذوبة ظاهرة الافتعال ، ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والكلام بمثل
هذا ، وهو لم ير قط شمسا ولا قمرا ولا كوكبا ، وقد أكذب الله عزوجل هذا الظن الكاذب بقوله الصادق (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ
مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) [سورة الأنبياء
آية رقم ٥١].
فمحال أن يكون من
آتاه الله رشده من قبل يدخل في عقله أن الكوكب ربه ، أو أن الشمس ربه ، من أجل أنها
أكبر قرصا من القمر ، هذا ما لا يظنه إلا مخبول العقل.
__________________
والصحيح من ذلك
أنه عليهالسلام إنما قال ذلك موبخا لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير
من الأصنام ولا فرق ، لأنهم كانوا على دين الصابئين ، يعبدون الكواكب ، ويصورون
الأصنام على صورها ، وأسمائها ، في هياكلهم ، ويعدون لها الأعياد ، ويذبحون لها
الذبائح ، ويقربون لها القرب والقرابين والدخن ، ويقولون : إنها تعقل وتدبر ، وتضر وتنفع ، ويقيمون لكل
كوكب منها شريعة محدودة ، فوبخهم الخليل عليهالسلام على ذلك ، وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها ، كما
قال تعالى : (فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [سورة المطففين
آية رقم ٣٤] فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخرة الجمادية وبين لهم
أنهم مخطئون ، وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ، ومعاذ الله أن يكون الخليل عليهالسلام أشرك قط بربه ، أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق ،
وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك ، بل
صدقه تعالى بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [سورة الأنعام آية
رقم ٨٣].
فصح أن هذا بخلاف
ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد الله عزوجل بما قال من ذلك وبما فعل.
وأما قوله عليهالسلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة آية
رقم ٢٦٠].
فلم يقرره ربنا عزوجل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليهالسلام تعالى الله عن ذلك ، ولكن تقريرا للإيمان في قلبه ، وإن لم
ير كيفية إحياء الموتى ، فأخبر عليهالسلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط
ويعتبر بذلك ، وما شك إبراهيم عليهالسلام في أن الله تعالى يحيي الموتى ، وإنما أراد أن يرى الهيئة
، كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل ، والتمساح ، والكسوف ، وزيادة النهر ،
والخليفة ، ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك ، ولا يشك في أنه حق لكن
ليرى العجب الذي يتمثله في نفسه ولم تقع عليه حاسة بصره قطّ ، وأما ما روي عن
النبي صلىاللهعليهوسلم من قوله : «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم».
__________________
فمن ظن أن النبي صلىاللهعليهوسلم شك قط في قدرة ربه عزوجل على إحياء الموتى فقد كفر ، وهذا الحديث حجة لنا ، ونفي
للشك عن إبراهيم ـ أي لو كان هذا الكلام من إبراهيم عليهالسلام شكا لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليهالسلام أحق بالشك ، فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد
إبراهيم غير شاك ، فإبراهيم عليهالسلام أبعد من الشك.
قال أبو محمد :
ومن نسب هاهنا إلى الخليل عليهالسلام الشك فقد نسب إليه الكفر ، ومن كفّر نبيا فقد كفر ، وأيضا
فإن كان ذلك شكا من إبراهيم عليهالسلام وكنا نحن أحق بالشك منه فنحن إذا شكاك جاحدون كفار ، وهذا
كلام نعلم والحمد لله بطلانه من أنفسنا ، بل نحن ولله الحمد مؤمنون مصدقون بالله
تعالى ، وقدرته على كل شيء يسأل عنه السائل.
وذكروا قول
إبراهيم عليهالسلام لأبيه واستغفاره له ، وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن نهي
عن ذلك ، قال تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [سورة التوبة آية
رقم ١١٤]. فأثنى الله تعالى عليه بذلك ، فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان
مدة حياته راجيا إيمانه فلما مات كافرا تبرأ منه ولم يستغفر له بعدها.
تم الكلام في
إبراهيم عليهالسلام.
الكلام في لوط عليهالسلام
قال أبو محمد :
وذكروا قول الله تعالى في لوط عليهالسلام أنه قال : (لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [سورة هود : ٨٠]
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد».
فظنوا أن هذا
القول منه عليهالسلام إنكار على لوط عليهالسلام وذكروا قول لوط أيضا : (هؤُلاءِ بَناتِي
هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [سورة هود : ٧٨].
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه ، أما قوله عليهالسلام : (لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فليس مخالفا لقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يرحم
الله لوطا
__________________
لقد
كان يأوي إلى ركن شديد». بل كلا القولين منهما عليهماالسلام حق متفق عليه لأن لوطا عليهالسلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من
الفواحش من قرابة ، أو عشيرة ، أو أتباع مؤمنين.
وما جهل قط لوط عليهالسلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة ، وأشد ركن ، فلا جناح
على لوط عليهالسلام في طلب قوة من الناس فقد قال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [سورة البقرة :
٢٥١] فهذا هو الذي طلب لوط عليهالسلام.
وقد طلب رسول الله
صلىاللهعليهوسلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى ،
فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله عليهالسلام؟ تالله ما أنكر ذلك رسول الله.
وإنما أخبر عليهالسلام أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ، يعني من نصر الله له
بالملائكة ، ولم يكن لوط عليهالسلام علم بذلك.
ومن ظن أن لوطا عليهالسلام اعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر ، إذ نسب إلى
نبي من الأنبياء هذا الكفر ، وهذا أيضا ظن سخيف ، إذ من الممتنع أن يظن برب أراه
المعجزات وهو دائبا يدعو إليه هذا الظن.
وأما قوله عليهالسلام : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَ) [سورة هود : ٧٨].
فإنما أراد
التزويج والوطء في المكان المباح ، فصح ما قلنا إذ من المحال أن يدعوهم إلى منكر
وهو ينهاهم عن المنكر. انقضى الكلام في لوط عليهالسلام.
الكلام في إخوة يوسف عليهالسلام
قال أبو محمد :
واحتجوا بفعل إخوة يوسف وبيعهم أخاهم ، وكذبهم لأبيهم ، وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن
إخوة يوسف عليهالسلام لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قط في أنهم أنبياء نص لا من
قرآن ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع ولا من قول أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم.
وأما يوسف عليهالسلام فرسول الله بنص القرآن ، قال عزوجل : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) إلى قوله : (مِنْ بَعْدِهِ
رَسُولاً) [سورة غافر : ٣٤].
وأما إخوته
فأفعالهم تشهد أنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم ، فكيف أن يكونوا أنبياء؟ ولكن
الرسولين أباهم ، وأخاهم ، قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم ، وبرهان
ما ذكرنا من كذب
من يزعم أنهم كانوا أنبياء ، قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم عليهالسلام أنه قال لهم : (أَنْتُمْ شَرٌّ
مَكاناً) [سورة يوسف : ٧٧].
ولا يجوز البتة أن
يقوله لنبي من الأنبياء : نعم ، ولا لقوم صالحين ، إذ توقير الأنبياء فرض على جميع
الناس ، ولأن الصالحين ليسوا شرا مكانا ، وقد عقّ ابن نوح أباه بأكثر مما عق به
إخوة يوسف أباهم ، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا ، ولا يحل لمسلم أن يدخل في
الأنبياء من لم يأت نص ، ولا إجماع ، أو نقل كافة بصحة نبوته ، ولا فرق بين
التصديق بنبوة من ليس نبيا ، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم. فإن ذكروا في
ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم : «إنما مات إبراهيم ابن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأنه لا نبي بعد رسول الله محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأولاد الأنبياء أنبياء» فهذه غفلة شديدة ، وزلة عالم من
وجوه.
أولها : أنه دعوى
لا دليل على صحتها ، وثانيها : أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد
، كما نبىء عيسى عليهالسلام ، وكما أوتي يحيى الحكم صبيا ، فعلى هذا القول لعل إبراهيم
كان نبيا وقد عاش عامين غير شهرين وحاشا لله من هذا.
وثالثها : أن ولد
نوح عليهالسلام كان كافرا بنص القرآن ، عمل عملا غير صالح ، فلو كان أولاد
الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبيا وحاشا لله من هذا.
ورابعها : أنه لو
كان ذلك لوجب ولا بد أن يكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم بل جميع أهل الأرض
أنبياء لأن الكل من ولد آدم ، وآدم نبي ، فإذا وجب أن يكون أولاد آدم لصلبه أنبياء
لأن أباهم نبي فأولاد أولاده أنبياء أيضا ، لأن آباءهم أنبياء ، وهم أولاد أنبياء
، وهكذا أبدا حتى يبلغ الأمر إلينا.
وفي هذا من الكفر
لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
ولعل من جهل مرتين يقول عنا : هذا ينكر نبوة إخوة يوسف ، ويثبت نبوة بني المجوس ،
ونبوة أم موسى ، وأم عيسى وأم إسحاق ، عليهمالسلام ، فنحن نقول وبالله تعالى التوفيق وبه نعتصم : لسنا نقر
بنبوة من لم يخبر الله عزوجل
بنبوته ، ولم ينص
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على نبوته ، ولا نقلت الكواف عن أمثالها نقلا متصلا منه
إلينا معجزات النبوة عنه ممن كان قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم ، بل ندفع نبوة من قام البرهان على بطلان نبوته ، لأن
تصديق نبوة من هذه صفته افتراء على الله تعالى ، لا يقدم عليه مسلم ، ولا ندفع
نبوة من جاء القرآن بأن الله تعالى نبأه.
فأما أم موسى ،
وأم عيسى ، وأم إسحاق ، فالقرآن قد جاء بمخاطبة الملائكة لبعضهن بالوحي ، وإلى
منهنّ عن الله عزوجل بالإنباء بما يكون قبل أن يكون ، وهذه النبوة نفسها التي
لا نبوة غيرها فصحت نبوتهن بنص القرآن.
وأما بنو المجوس
فقد صح أنهم أهل كتاب بأخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم الجزية منهم ، ولم يبح الله تعالى له أخذ الجزية إلا من
أهل الكتاب فقط. فمن نسب إلى محمد صلىاللهعليهوسلم أنه أخذ الجزية من غير أهل الكتاب فقد نسب إليه أنه خالف
ربه تعالى ، وأقدم على عظيمة تقشعر منها جلود المؤمنين. فإذ نحن على يقين من أنهم
أهل كتاب ، فلا سبيل البتة إلى نزول كتاب من عند الله تعالى على غير نبي مرسل
بتبليغ ذلك الكتاب ، فقد صح بالبرهان الضروري أنهم قد كان لهم نبي مرسل يقينا بلا
شك. ومع هذا فقد نقلت عنه كواف عظيمة معجزات الأنبياء عليهمالسلام وكل ما نقلته كافة على شرط عدم التواطؤ ، فواجب قبوله. ولا
فرق بين ما نقلته كافة كافرة أو مؤمنة ، أو كواف المسلمين فيما شاهدته حواسهم. ومن
قال لا أصدق إلا ما نقلته كواف المسلمين فإنا نسأله بأي شيء صح عنده موت ملوك
الروم ولم يحضرهم مسلم أصلا ، وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى؟ ومثل هذا كثير.
فإن كذّب هذا غالط نفسه وعقله وكابر حسه ، وأيضا فإن المسلمين إنما علمنا أنهم
محقون لتحقيق نقل الكافة لصحة ما بأيديهم فبنقل الكافة علمنا هدى المسلمين ، ولا
نعلم بالإسلام صحة نقل الكافة بل هو معلوم بالبينة وضرورة العقل ، وقد أخبر تعالى
أن للأولين زبرا وقال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء :
١٦٤].
وفي هذا كفاية
وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في يوسف عليهالسلام
وذكروا أيضا أخذ
يوسف عليهالسلام أخاه وإيحاشه أباه عليهالسلام منه وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرّف أباه خبره ، وهو
يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه ، فلم يفعل وليس بينه وبينه إلا عشر ليال ،
وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ، ولم يعلم بذلك سائر إخوته ، ثم أمر من هتف (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسارِقُونَ) [سورة يوسف : ٧٠]
وهم لم يسرقوا شيئا.
وبقول الله تعالى
: (وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [سورة يوسف : ٢٤]
وبخدمته لفرعون ، وبقوله للذي كان معه في السجن : (اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ) [سورة يوسف : ٤٢].
قال أبو محمد :
وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله
تعالى نتأيد :
أما أخذه أخاه
وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه ، وليعود إخوته إليه ، ولعلهم لو
مضوا بأخيه لم يعودوا إليه ، وهم في مملكة أخرى ، وحيث لا طاعة ليوسف عليهالسلام ، ولا لملك مصر هنالك ، وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل
جميعهم ، ولا سبيل إلى أن يظن برسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه ، وليس
مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا ، ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه ، فكيف
برسول الله صلىاللهعليهوسلم؟؟؟ وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره
، ولم يفعل ، فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في
قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة امرئ ودين آخر وأمة أخرى كالذي بيننا اليوم
وبين من يصافينا من بلاد النصارى كغالث وغيرها أو كصحراء البربر فلم يكن عند يوسف عليهالسلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ، ولا حي هو أو ميت ، أكثر من
وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ، ولا وجد أحدا يثق به فيرسل إليه للاختلاف
الذي ذكرنا ، وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد ، وملة
واحدة ، ولسانا واحدا وأمة واحدة ، والطريق سابل ، والتجار ذاهبون وراجعون ،
والرفاق سائرة ومقبلة ، والبرد ناهضة وراجعة ، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ
كذلك ولكن كما قدمنا.
ودليل ذلك أنه حين
أمكنه لم يؤخره ، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه ، وانقيادهم له
للجوع الذي كان عم الأرض وامتيارهم من عنده ، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين
ألقوه في الجب فأتوه صاغرين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه ، ورب
رئيس جليل شاهدنا من أبناء البشاكين والإفرنج لو قدر على أن يستجلب أبويه لكان أشد
الناس بدارا إلى ذلك ولكن الأمر تعذر عليهم تعذرا أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع
فهذا كان أمر يوسف عليهالسلام.
وأما قول يوسف
لإخوته : (إِنَّكُمْ
لَسارِقُونَ) [سورة يوسف : ٧٠]
وهم لم يسرقوا الصواع ، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم ، فقد صدق عليهالسلام
__________________
لأنهم سرقوه من
أبيه وباعوه ، ولم يقل عليهالسلام إنكم سرقتم الصواع ، وإنما قال : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) [سورة يوسف : ٧٢]
وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقدا له بلا شك.
وأما خدمته عليهالسلام لفرعون فإنما خدمة تقية وفي حق لاستنقاذ الله تعالى أهل الأرض
بحسن تدبيره ، ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أنّ خدمته له على كل حال
حسنة وفعل خير ، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل ، وإلى حياة النفوس ، إذ لم
يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ، ولا مرية في أن ذلك كان مباحا في شريعة
يوسف عليهالسلام بخلاف شريعتنا ، قال الله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) [سورة المائدة :
٤٨] وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظورا في شريعتهما ، بل كان فعلا حسنا ، وتحقيق
رؤياه الصادق من الله تعالى ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه
الصلاة والسلام. إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان
سجود كرامة فقط بلا شك.
وأما قوله عليهالسلام للذي كان معه في السجن (اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ) [سورة يوسف : ٤٢]
فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد ، وليس في قوله ذلك دليل
على أنه أغفل الدعاء إلى الله عزوجل لكنه رغّب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه
عليه وهذا فرض من وجهين : أحدهما : وجوب السعي في كف الظلم عنه ، والثاني : دعاؤه
إلى الخير والحسنات.
وأما قوله تعالى :
(فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [سورة يوسف : ٤٢].
فالضمير الذي في أنساه وهو (الهاء) راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن ، أي أن
الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليهالسلام.
ويحتمل أيضا أن
يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عزوجل لذكر حاجة يوسف عليهالسلام.
وبرهان ذلك قول
الله عزوجل : (وَادَّكَرَ بَعْدَ
أُمَّةٍ) [سورة يوسف : ٤٥]
فصح يقينا أن المدكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر ، وحتى لو صحّ أن
الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليهالسلام لما كان في ذلك نقص ، ولا ذنب ، إذ ما كان بالنسيان فلا
يبعد عن الأنبياء. وأما قوله : (هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ
بِها لَوْ لا أَنْ
__________________
رَأى
بُرْهانَ رَبِّهِ) [سورة يوسف : ٢٤]
فليس كما ظن من لم ينعم النظر حتى قال من المتأخرين من قال إنه قعد منها مقعد
الرجل من المرأة ، ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم ،
فكيف برسول الله صلىاللهعليهوسلم ...؟؟؟
فإن قيل : إن هذا
قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد ، قلنا : نعم ، ولا حجة في
قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقط ، والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شكّ عمن دون ابن
عباس ، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ، ولا شك في
أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به ، لكن معنى الآية
لا يعدو أحد وجهين : إما أنه همّ بالإيقاع بها وضربها ، كما قال تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ
لِيَأْخُذُوهُ) [سورة غافر : ٥].
وكما يقول القائل : لقد همت بك.
لكنه عليهالسلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها ،
وعلم أن الفرار أجدى عليه ، وأظهر لبراءته ، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد
بأمر قدّ القميص. والوجه الثاني : أن الكلام تم عند قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى
بُرْهانَ رَبِّهِ) أي أنه كان يهم بها لو لا أن رأى برهان ربه وهذا هو ظاهر
الآية بلا تكلف تأويل ، وبهذا نقول.
حدثنا أحمد بن
محمد بن عبد الله الطلمنكي حدثنا ابن عون الله ، أنبأنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ،
حدثنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري ، أنا إسحاق بن راهويه ، أنا المؤمل بن
إسماعيل الحميري ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي
الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [سورة يوسف : ٥٢]
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لما قالها يوسف عليهالسلام قال له جبريل : يا يوسف اذكر همّك ، فقال يوسف : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [سورة يوسف : ٥٣].
فليس في هذا
الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ، ولكنه فيه أنه همّ بأمر ما ،
وهذا حق كما قلنا فسقط هذا الاعتراض ، وصح الوجه الأول ، والثاني معا ، إلا أن
الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال ، وصح أن ذلك الهم هو ضرب سيدته ، وهي خيانة
لسيده إذ هم بضرب امرأته.
وبرهان ربه هاهنا
هو النبوة ، فلو لا النبوة وعصمة الله عزوجل إياه ، ولو لا البرهان ،
لكان بهم بالفاحشة
، وهذا لا شك فيه ، ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسه الرذلة عن
مثل ذلك المقام فيهلك ، وقد خشي النبي صلىاللهعليهوسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن ، إذ قال للأنصاريين حين
لقيهما : «هذه صفيّة».
قال أبو محمد :
ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليهالسلام همّ بالزنا ، وهو يسمع قول الله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشاءَ) [سورة يوسف : ٢٤].
فنسأل من خالفنا
عن الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء ..؟ فلا بد أنه سوء ، ولو قال إنه ليس بسوء
لعاند الإجماع فإذا هو سوء ، وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهمّ بيقين ، وأيضا
فإنها قالت : (ما جَزاءُ مَنْ
أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) [سورة يوسف : ٢٥]
وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق : إن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين
فصح أنها كذبت وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءا فما هم بالزنا قط ، ولو
أراد بها الزنا لكانت من الصادقين ، وهذا بين جدا.
وكذلك قوله تعالى
عنه أنه قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [سورة يوسف : ٣٣] (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ
عَنْهُ كَيْدَهُنَ) [سورة يوسف : ٣٤]
فصح عنه أنه قطّ لم يصب إليها.
وبالله تعالى
التوفيق.
تم الكلام في يوسف
عليهالسلام.
الكلام في موسى عليهالسلام وأمه
قال أبو محمد :
ذكروا قول الله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها) [سورة القصص : ١٠]
فمعناه فارغا من الهم
__________________
بموسى جملة ، لأن
الله عزوجل قد وعدها برده إليها ، إذ قال لها تعالى : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [سورة القصص : ٧].
فمن الباطل المحض
أن يكون الله تعالى ضمن لها رده إليها ثم يصبح قلبها مشغولا بالهم بأمره. هذا ما
لا يظن بذي عقل أصلا. وإنما معنى قوله تعالى إن كادت لتبدي به ، أي سرورا بما آتاه
الله عزوجل من الفضل وقولها لأخته «قصيه» إنما هو لترى أخته كيفية
قدرة الله تعالى في تخليصه من يدي فرعون عدوه بعد وقوعه فيهما وليتم بها ما وعدها
الله تعالى من رده إليها فبعثت أخته لترده بالوحي.
وذكروا قول الله
تعالى عن موسى عليهالسلام : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ
أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) [سورة الأعراف :
١٥٠] (قالَ يَا بْنَ أُمَّ
لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [سورة طه : ٩٤].
قالوا : وهذه
معصية أن يأخذ بلحية أخيه وشعره ، وهو نبي مثله ، وأسن منه ولا ذنب له.
قال أبو محمد :
وهذا ليس كما ظنوا وهو خارج على وجهين.
أحدهما : أنه أخذ
برأس أخيه ليقبل بوجهه عليه ويسمع عتابه له إذ تأخر عن اتباعه إذ رآهم ضلوا ، ولم
يأخذ بشعر أخيه قط إذ ليس ذلك في الآية أصلا ، ومن زاد ذلك فيها فقد كذب على الله
تعالى ، لكن هارون عليهالسلام خشي بادرة من موسى عليهالسلام وسطوة ، أو رآه قد اشتد غضبه فأراد توقيفه بهذا الكلام عما
تخوفه منه.
وليس في هذه الآية
ما يوجب غير ما قلناه ، ولا أنه مد يده إلى أخيه أصلا ، وبالله تعالى التوفيق.
والثاني : أن
هارون عليهالسلام قد يكون استحق في نظر موسى عليهالسلام النكير لتأخره عن لحاقه إذ رآهم ضلوا ، فأخذه برأسه منكرا
عليه ، ولو كان هذا لكان إنما فعله موسى عليهالسلام غضبا لربه عزوجل ، وقاصدا بذلك رضاء الله تعالى ، ولسنا نبعد ذلك من
الأنبياء عليهمالسلام ، وإنما نبعد القصد إلى المعصية وهم يعلمون أنها معصية ،
وهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى عن إبراهيم خليله صلىاللهعليهوسلم إذ قال : (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [سورة الشعراء :
٨٢] وقول الله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الفتح : ٢].
إنما الخطيئة المذكورة والذنوب المغفورة ما وقع بنسيان أو بقصد إلى الله تعالى
إرادة الخير فلم يوافق رضي الله عزوجل بذلك فقط. وذكروا قول موسى عليهالسلام للخضر عليهالسلام : (أَقَتَلْتَ نَفْساً
زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) [سورة الكهف : ٧٤].
فأنكر موسى عليه
السلام الشيء وهو
لا يعلمه ، وقد كان أخذ عليه العهد أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا فهذا
أيضا لا حجة لهم فيه ، لأن ذلك كان على سبيل النسيان وقد بين موسى عليهالسلام ذلك بقوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما
نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) [سورة الكهف : ٧٣]
فرغب إليه ألّا يؤاخذه بنسيانه ، ومؤاخذة الخضر له بالنسيان دليل على صحة ما قلنا
من أنهم عليهمالسلام مؤاخذون بالنسيان وبما قصدوا به الله عزوجل فلم يصادفوا بذلك مراد الله عزوجل. وتكلم موسى عليهالسلام على ظاهر الأمر ، وقدر أن الغلام زكي إذ لم يعلم له ذنبا ،
وكان عند الخضر العلم الجلي بكفر ذلك الغلام واستحقاقه القتل ، فقصد موسى عليهالسلام بكلامه في ذلك وجه الله تعالى والرحمة ، وإنكار ما لم يعلم
وجهه.
وذكروا قول موسى عليهالسلام : (فَعَلْتُها إِذاً
وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [سورة الشعراء : ٢٠]
فقول صحيح وهو حاله قبل النّبوة ، فإنه كان ضالّا عما اهتدى له بعد النبوة ، ضلال
الغيب عن العلم ، كما تقول : أضللت بعيري ، لا ضلال القصد إلى الإثم.
وهكذا قول الله
تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى) [سورة الضحى : ١٧].
أي ضالّا عن
المعرفة وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا قول الله عزوجل عن بني إسرائيل : (فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [سورة النساء :
١٥٣].
قالوا : وموسى قد
سأل ربه مثل ذلك فقال : (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) [سورة الأعراف :
١٤٣].
قالوا : فقد سأل
موسى عليهالسلام أمرا عوقب سائلوه قبله.
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه خارج على وجهين :
أحدهما أن موسى عليهالسلام سأل ذلك قبل سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى ، وقبل أن
يعلم أنّ سؤال ذلك لا يجوز فهذا لا مكروه فيه ، لأنه سأل فضيلة عظيمة أراد بها علو
المنزلة عند ربه تعالى.
والثاني : أن بني
إسرائيل سألوا ذلك متعنتين وشكاكا في الله عزوجل ، وموسى سأل ذلك على الوجه الحسن الذي ذكرنا آنفا.
الكلام في يونس عليهالسلام
قال أبو محمد :
وذكروا أمر يونس عليهالسلام وقول الله تعالى عنه : (وَذَا النُّونِ
إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ
أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة الأنبياء :
٨٧].
وقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة الصافات :
١٤٣ ، ١٤٤].
وقوله لنبيه عليهالسلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْ لا أَنْ
تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [سورة القلم : ٤٨
، ٤٩].
وقوله تعالى : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [سورة الصافات :
١٤٢].
قالوا : ولا ذنب
أعظم من المغاضبة لله عزوجل ومن أكبر ذنبا ممن ظن أن الله لا يقدر عليه؟
وقد أخبر الله
تعالى أنه استحق الذم لو لا أن تداركه نعمة الله عزوجل ، وأنه استحق الملامة وأنه أقر على نفسه أنه كان من
الظالمين ، ونهى الله تعالى نبيه أن يكون مثله.
قال أبو محمد :
وهذا كله لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا على صحة قولنا والحمد لله رب العالمين.
أما إخبار الله
تعالى أن يونس ذهب مغاضبا فلم يغضب ربه قط ، ولا قال الله تعالى أنه غاضب ربه فمن
زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب وزائدا في القرآن ما ليس فيه ، هذا لا
يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل
ذلك نبي من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عزوجل فعوقب بذلك ، وإن كان يونس عليهالسلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزوجل.
وأما قوله تعالى :
(فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [سورة الأنبياء :
٨٧].
فليس على ما ظنوه
من الظن السخيف ، الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء ، أو بضعيف من الرجال ،
إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل ، فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم ..؟ ومن
المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه ،
وهو يرى أن آدميا مثله يقدر عليه ، ولا شك في أن من نسب هذا إلى النبي الفاضل صلىاللهعليهوسلم فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه ، أو إلى ابنه ، فكيف إلى
يونس عليهالسلام الذي يقول فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا
تفضّلوني
على يونس بن متّى» ؟؟؟
فقد بطل ظنهم بلا
شك وصح أن معنى قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [سورة الأنبياء :
٨٧] أي ألا نضيق عليه ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [سورة الفجر : ١٦].
أي ضيق عليه ، فظن
يونس عليهالسلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه إذ ظنّ أنه
محسن في فعله ذلك ، وأما نهي الله عزوجل لمحمد صلىاللهعليهوسلم عن أن يكون كصاحب الحوت. فنعم نهاه الله عزوجل من مغاضبته قومه ،
وأمره بالصبر على أذاهم ، وبالمطاولة لهم.
وأما قول الله
تعالى إنه استحق الذم ، والملامة ، وأنه لو لا النعمة التي تداركه بها للبث معاقبا
في بطن الحوت.
فهذا نفس ما قلناه
من أن الأنبياء عليهمالسلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيرا وقربة إلى
الله عزوجل ، إذا لم يوافق مراد ربهم ، وعلى هذا الوجه أقر على نفسه
بأنه كان من الظالمين ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبي صلىاللهعليهوسلم المغاضبة في غير موضعها ، اعترف في ذلك بالظلم ، لا على
أنه قصده وهو يدري أنه ظلم.
انقضى الكلام في
يونس عليهالسلام وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في داود عليهالسلام
وذكروا أيضا قول
الله تعالى حاكيا عن داود عليهالسلام (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) إلى قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ
ذلِكَ) [سورة ص : ٢١ ـ ٢٥].
__________________
قال أبو محمد :
وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزءون ، الكاذبون ، المتعلقون
بخرافات ولّدها اليهود ، وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم ولا شك ، مختصمين في
نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم ، بغى أحدهما على الآخر بنص الآية.
ومن قال إنهم
كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عزوجل ، وقوّله ما لم يقل ، وزاد في القرآن ما ليس فيه ، وكذب
الله عزوجل ، وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة ، لأن الله
تعالى يقول : (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ) [سورة ص : ٢١].
فقال هو : لم
يكونوا قط خصما ، وهذا تكذيب مجرد لله تعالى ، وهذا كفر محض. وأقر على نفسه أنهم
كانوا ملائكة وأنهم قالوا : خصمان فقال هو لم يكونوا قط خصمين ولا بغى بعضهم على
بعض ، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ، ولا كان للآخر نعجة واحدة ، ولا قال
له أكفلنيها ، فاعجبوا لما يقحم فيه أهل الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان.
ثم كل ذلك بلا
دليل ، بل الدعوى المجردة ، وتالله إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن
يتعشق امرأة جاره ، ثم يعرض زوجها للقتل عمدا ليتزوجها ، وعن أن يترك صلاته لطائر
يراه ، هذه أفعال السفهاء ، المهتوكين ، الفساق ، المتمردين ، لا فعل أهل البر
والتقوى فكيف برسول الله داود صلىاللهعليهوسلم الذي أوحى إليه كتابه ، وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزهه
الله عزوجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله ، فكيف أن يستضيف إلى
أفعاله؟ وأما استغفاره عليهالسلام وخروره ساجدا ومغفرة الله تعالى له ، فالأنبياء عليهمالسلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة ، والاستغفار : فعل خير
لا ينكر من ملك ولا من نبي ولا من مذنب ، ولا من غير مذنب ، فالنبي يستغفر الله
لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [سورة غافر : ٧].
وأما قوله تعالى
عن داود عليهالسلام (وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ) [سورة ص : ٢٤].
وقوله تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) [سورة ص : ٢٥].
فقد ظن داود عليهالسلام أن يكون ما آتاه الله عزوجل من سعة الملك العظيم فتنة.
فقد كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه ، فاستغفر الله تعالى
من هذا الظن ، فغفر الله له هذا الظن ، إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة.
الكلام في سليمان عليهالسلام
وذكروا قول الله عزوجل عن سليمان عليهالسلام (وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) [سورة ص آية رقم
٣٤].
قال أبو محمد :
ولا حجة لهم في هذا إذ معنى قوله تعالى : (فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته كما قال تعالى
مصدقا لموسى عليهالسلام (إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٥٥]. فصح أن من الفتنة ما هدى الله تعالى بها من يشاء. وقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكاذِبِينَ) [سورة العنكبوت
آية رقم ١ ، ٢ ، ٣].
فهذه الفتنة هي
الاختبار ، حتى يظهر المهتدي من الضال ، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي
اختباره حتى ظهر فضله فقط ، وما عدا هذا فخرافات ولدها زنادقة اليهود ، وأشباههم.
وأما الجسد الملقى
على كرسيه ، فقد أصاب الله تعالى به ما أراد ، ونقول صدق الله عزوجل كلّ من عند الله ربنا ، ولو جاء نص صحيح في القرآن وعن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتفسير هذا الجسد ما هو لقلنا به ، فإذ لم يأت بتفسيره ما
هو نص ، ولا خبر صحيح ، فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك ،
فيكون كاذبا على الله عزوجل. إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال إنه كان جنيا
تصور بصورته ، بل نقطع على أنه كذب ، والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلىاللهعليهوسلم هذا الهتك ، وكذلك نبعد قول من قال إنه كان ولدا له أرسله
إلى السحاب لتربيه ، فسليمان عليهالسلام كان أعلم من أن يربي ابنه لغير ما طبع الله عزوجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام ، وهذه كلها خرافات
موضوعة مكذوبة لم يصح إسنادها قط. وذكروا أيضا قول الله عزوجل عن سليمان عليهالسلام (إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [سورة ص آية رقم
٢٢ ، ٢٣]. وتأولوا ذلك على ما قد نزه الله عنه من له أدنى مسكة من عقل من أهل
زماننا وغيره ، فكيف بنبي معصوم مفضل من أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة.
قال أبو محمد :
وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت أفانين من
النّوك والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك ، لأن فيها معاقبة
خيل لا ذنب لها والتمثيل بها ، وإتلاف مال منتفع به بلا معنى ، ونسبة تضييع الصلاة
إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها ، وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن
سبع سنين فكيف نبي مرسل ...؟؟؟
ومعنى هذه الآية
ظاهر بيّن ، وهو أنه عليهالسلام أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب
، أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابها ، ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها
وأعناقها بيده ، برا بها وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره ،
وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ولدوه من قتل الخيل ، وتعطيل الصلاة ، وكل هذا قد
قاله ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ وذكروا أيضا الحديث الثابت من قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن سليمان عليهالسلام قال : «لأطوفنّ اللّيلة على كذا وكذا امرأة كلّ امرأة منهن
تلد فارسا يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله».
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن من قصد تكثير المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عزوجل فقد أحسن ، ولا يجوز أن يظن به أنه يجهل أن ذلك لا يكون
إلا أن يشاء الله عزوجل ، وقد جاء في نص الحديث المذكور أنه إنما ترك إن شاء الله
نسيانا فأوخذ بالنسيان في ذلك ، وقد قصد الخير وهذا نص قولنا ، والحمد لله رب
العالمين.
تم الكلام في
سليمان عليه الصلاة والسلام.
فصل
وذكروا قول الله
تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٧٥].
__________________
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه لأنه ليس في نص الآية ولا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن هذا المذكور كان نبيا ، وقد يكون إنباء الله تعالى لهذا
المذكور آياته أنه أرسل إليه رسولا بآياته كما فعل بفرعون وغيره فانسلخ منها بالتكذيب
، فكان من الغاوين. وإذا صح أن نبيا لا يعصي الله عزوجل تعمدا فمن المحال أن يعاقبه الله تعالى على ما لا يفعل ،
ولا عقوبة أعظم من الحط عن النبوة ، ولا يجوز أن يعاقب بذلك نبي البتة ، لأنه لا
يكون منه ما يستحق به هذا العقاب. وبالله تعالى التوفيق. فصح يقينا أن هذا المنسلخ
لم يكن قط نبيا.
وذكروا قول رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أن ما من أحد إلا من ألمّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا ،
كلاما هذا معناه.
قال أبو محمد :
وهذا صحيح وليس خلافا لقولنا إذ قد بينا أن الأنبياء عليهمالسلام يقع منهم النسيان ، وقصد الشيء يظنونه قربة إلى الله تعالى
، فأخبر عليهالسلام أنه لم ينج من هذا أحد إلا يحيى بن زكريا عليهماالسلام ، فيقوم من هذا أن يحيى لم ينس شيئا واجبا عليه قط ، ولا
فعل إلا ما وافق فيه مراد ربه عزوجل.
الكلام في محمّد صلىاللهعليهوآله سلم
قال أبو محمد :
وذكروا قول الله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة الأنفال آية
رقم ٦٨].
وقوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ
الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [سورة عبس الآيات
١ إلى ١٠].
وبالحديث الكاذب
الذي لم يصح قطّ في قراءته عليهالسلام في (وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى) [سورة النجم آية
رقم ١].
وذكروا تلك
الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم : وإنها لهي الغرانيق العلى وإن
شفاعتهن لترتجى وذكروا قول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
__________________
وَلا
نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ
اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) [سورة الحج آية
رقم ٥٢].
وبقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ
ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [سورة الكهف آية
رقم ٢٣ ، ٢٤].
وأن الوحي امتسك
عنه عليهالسلام لتركه الاستثناء إذ سأله اليهود عن الروح ، وعن ذي القرنين
، وأصحاب الكهف ، وبقوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [سورة الأحزاب آية
رقم ٣٧].
وبما روي من قوله عليهالسلام : «لقد
عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» إذ قبل الفداء وترك قتل الأسرى ببدر. وبما روي من قوله عليهالسلام : «لو
نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر».
لأن عمر أشار
بقتلهم.
وذكروا أنه عليهالسلام مال إلى رأي بكر في الفداء والاستبقاء.
وبقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الفتح : ٢].
قالوا : فإن لم
يكن له ذنب فما ذا غفر له؟ وبأي شيء امتن الله عليه في ذلك ..؟
وبقوله صلىاللهعليهوسلم : «ولو
دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت».
فإنما هذا إذ دعي
إلى الخروج من السجن فلم يجب إلى الخروج حتى قال للرسول : ارجع إلى ربك فاسأله ما
بال النسوة اللاتي قطعن أيديهم إن ربي بكيدهن عليم.
فأمسك عن الخروج
من السجن وقد دعي إلى الخروج عنه حتى اعترف النسوة بذنبهم وبراءته وتيقن بذلك من
كان شك فيه فأخبر محمد صلىاللهعليهوسلم أنه لو دعي إلى الخروج من السجن لأجاب ، وهذا التفسير
منصوص في الحديث نفسه ، كما ذكرنا من كلامه عليهالسلام :
__________________
«ولو لبثت في السّجن
ما لبث يوسف عليهالسلام ثمّ دعيت لأجبت الدّاعي».
أو كلاما هذا
معناه.
وأما قول الله عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الأنفال آية
رقم ٦٨].
فقد بينا أن ذنوب
الأنبياء عليهمالسلام ليست إلّا ما وقع بنسيان ، أو بقصد إلى ما يظنونه خيرا مما
لا يوافقون مراد الله تعالى منهم ، فهذان الوجهان هما اللذان غفر الله عزوجل له.
وأما قوله تعالى :
(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة الأنفال آية
رقم ٦٨].
فإنما الخطاب في
ذلك للمسلمين ، لا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم. وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم
المذنبين المنشقين عليه.
يبين ذلك قوله
تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا
ذاتَ بَيْنِكُمْ) [سورة الأنفال آية
رقم ١].
وقوله تعالى في
هذه السورة نفسها النازلة في هذا المعنى (يُجادِلُونَكَ فِي
الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ) [سورة الأنفال آية
رقم ٦].
وقوله تعالى قبل
ذكره الوعيد الذي احتج به من خالفنا : (تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [سورة الأنفال :
٦٧].
فهذا نص القرآن.
وقد رد الله عزوجل الأمر في الأنفال المأخوذة يومئذ إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وأما الخبر
المذكور الذي فيه «لقد
عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» و «لو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر».
فهذا خبر لا يصح ،
لأن المنفرد بروايته عكرمة بن عمار اليمامي وهو ممن
__________________
قد صحّ عليه وضع
الحديث أو سوء الحفظ أو الخطأ الذي لا يجوز معهما الرواية عنه ، ثم لو صح لكان
القول فيه كما قلنا من أنه قصد الخير بذلك.
وأما قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) الآيات فإنه كان عليهالسلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ورجا إسلامه ، وعلم عليهالسلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير ، ولظهر الدين ، وعلم
أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه فاشتغل
عنه عليهالسلام بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته وهذا غاية
النظر للدين ، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ، ونهاية التقرب إلى الله
الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر فعاتبه الله عزوجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك
الأعمى الفاضل ، البر التقى ، وهذا هو نفس ما قلناه ، وكما سها عليهالسلام من اثنتين ومن ثلاث ، وقام من اثنتين ، ولا سبيل إلى أن
يفعل من ذلك شيئا بعمد أصلا ، نعم ولا يفعل ذلك بعمد إنسان منا فيه خير.
وأما الحديث الذي
فيه : «وإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى» فكذب بحت موضوع لأنه لم يصح قط
من طريق النقل ، فلا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد.
وأما قوله تعالى :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) [سورة الحج آية
رقم ٥٢] الآية.
فلا حجة لهم فيها
لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها ، وقد تمنى النبي صلىاللهعليهوسلم إسلام عمه أبي طالب ، ولم يرد الله عزوجل أن يسلم ، وتمنى غلبة العدو يوم أحد ولم يرد الله عزوجل كون ذلك ، فهذه هي الأماني التي ذكرها الله عزوجل لا سواها ، وحاشا لله من أن يتمنى نبي معصية الله تعالى
وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون تزيد ولا تكلف ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر
آخر ، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قوله تعالى :
(وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) [سورة الكهف آية
رقم ٢٣ ، ٢٤].
__________________
فقد كفى الله عزوجل الكلام في ذلك ببيانه في آخر الآية أن ذلك كان نسيانا
فعوقب عليهالسلام في ذلك.
وأما قوله تعالى :
(وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [سورة الأحزاب آية
رقم ٣٧].
فقد أنفنا أن ذلك لم يكن معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى
به إنما كان إرادة زواج مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ، ومباح له
إظهاره ، وإنما خشي النبي صلىاللهعليهوسلم الناس في ذلك ، خوف أن يقولوا قولا ويظنوا ظنا ، فيهلكوا
كما قال عليهالسلام للأنصاريين «إنها صفية» فاستعظما ذلك فأخبرهما النبي صلىاللهعليهوسلم أنه إنما خشي أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا. وهذا الذي
خشيه عليهالسلام على الناس من هلاك أديانهم لظن يظنونه به عليهالسلام هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب
من نسبتهم إلى النبي صلىاللهعليهوسلم تعمد المعاصي ، فهلكت أديانهم ، وضلوا ، ونعوذ بالله من
الخذلان. وكان مراد الله عزوجل أن يبدي ما في نفسه لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا
زينب رضي الله عنها.
قال أبو محمد :
فإن قال قائل : إنكم تحتجون كثيرا بقول الله عزوجل (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم آية
رقم ٣ ، ٤].
وبقوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء آية
رقم ٦٥].
وبقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللهَ كَثِيراً) [سورة الأحزاب آية
رقم ٢١] وبقوله عليهالسلام «إني
لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وأذر» وتقولون من أجل هذه النصوص إن كل قول
__________________
قاله عليهالسلام فبوحي من الله قاله ، وكل عمل عمله فبإذن من الله تعالى
ورضى منه عمله ، فأخبرونا عن سلامه صلىاللهعليهوسلم من ركعتين ، ومن ثلاث ، وقيامه من اثنتين ، وصلاته الظهر
خمسا ، وإخباره بأنه يحكم بالحق في الظاهر لمن لا يحل له أخذه ممن يعلم أنه في
باطن الأمر بخلاف ما حكم له به من ذلك؟ أبوحي من الله تعالى وبرضاء فعل كل ذلك؟ أم
كيف تقولون؟ وهل يلزم المحكوم عليه والمحكوم له الرضا بحكمه ذلك وهما يعلمان أن
الأمر بخلاف ذلك ، أم لا ..؟
قال أبو محمد :
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن كل ما ذكرنا هاهنا فبوحي من الله تعالى فعله.
وكل من قدر ولم
يشك في أنه أتم صلاته فالله تعالى أمره بأن يسلم ، فإذا علم بعد ذلك أنه يسهو فقد
لزمه الإتمام وسجود السهو. برهان ذلك أنه لو تمادى ولم يسلم قاصدا إلى الزيادة في
صلاته على تقديره أنه قد أتمها لبطلت صلاته كلها بلا شك باطنا وظاهرا ، ولاستحق
اسم الفسق والمعصية ، وكذلك من قدر أنه لم يصلّ إلا ركعة واحدة أو أنه لم يتم
صلاته ، فالله تعالى أمره بالزيادة في صلاته يقينا حتى لا يشك في الإتمام وبأن
يقوم إلى ثانية عنده ، فمتى علم بأن الأمر كان بخلاف ذلك فصلاته تامة ولزمته حينئذ
شريعة سجود السهو. وبرهان ذلك أنه لو قعد من واحدة عنده متعمدا مستهزئا أو سلم من
ثلاث عنده متعمدا ، لبطلت صلاته جملة ولاستحق اسم الفسق والمعصية ، لأنه فعل خلاف
ما أمره الله تعالى به.
وكذلك أمره الله ،
وأمرنا ، بالحكم بالبينة العدالة عندنا وباليمين من المنكر وبإقرار المقر ، وإن
كانت البينة عامدة لكذب في غير علمنا وكانت اليمين والإقرار كاذبين في الباطن ،
وافترض الله علينا بذلك سفك الدماء التي لو علمنا الباطن لحرمت علينا ، وهكذا في
الفروج والأموال.
برهان ذلك : أن
حاكما لو شهدت بينة عدلة عنده فلم يقض بها وقضى باليمين على المنكر الذي لا بينة
عليه فحلف ثم قضى عليه لكان القاضي فاسقا بلا خلاف عاصيا لله عزوجل لخلافه ما أمره الله سبحانه وتعالى به ، وإن وافق حقا لم
يكن علم به وفرض على المحكوم عليه والمحكوم له أن يرضيا بالحكم بالبينة واليمين ،
وأن يصيرا في أنفسهما إلى حقيقة علمهما في أخذ الحق وإعطائه ، وبالله تعالى
التوفيق.
قال أبو محمد :
وذكروا قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [سورة يوسف آية
رقم ١١٠] بتخفيف
الذال وليس هذا على ما ظنه الجهال وإنما معناه أن الرسل عليهمالسلام ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم فيما وعدوهم من
نصرهم ، ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب فكيف
بصفوة الله تعالى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بالله عزوجل؟ ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر ، ومن أجاز على
نبي الكفر فهو الكافر المرتد بلا شك.
والذي قلنا هو
ظاهر الآية ، وليس فيها أنهم ظنوا أن الله تعالى كذبهم حاشا لله من هذا.
وذكروا أيضا قول
الله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [سورة يونس آية
رقم ٩٤].
قال أبو محمد :
إنما عهدنا هذا الاعتراض من الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، وأما من يدعي أنه مسلم
فلا ، ولا يمكن البتة أن يكون مسلم يظن أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كانا شاكا في صحة الوحي إليه.
ولنا في هذه الآية
رسالة مشهورة. وجملة حل هذا الشك أنّ : (إن) في هذه الآية المذكورة بمعنى (ما)
التي للجحد بمعنى «وما كنت في شك مما أنزلنا إليك» ثم أمره أن يسأل أهل الكتاب
تقريرا لهم على أنهم يعلمون أنه نبي مرسل مذكور عندهم في التوراة ، والإنجيل ،
وبالله التوفيق.
قال أبو محمد :
هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه وبيناه وأرينا أنه موافق لقولنا ولا يشهد شيء منه
لقول مخالفنا ، وبالله التوفيق. ونحن الآن نأخذ بحول الله وبقوته في الإتيان
بالبراهين الضرورية الواضحة على صحة قولنا وبطلان قول مخالفنا.
قال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران
آية رقم ١٦١]. وقال تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة آل عمران
آية رقم ٧٩].
فوجدنا الله تعالى
وهو أصدق القائلين قد نفى عن الأنبياء عليهمالسلام الغلول والكفر والتجبر ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن
حكم الغلول كحكم سائر الذنوب ، وقد صح الإجماع بذلك ، وأن من جوز على الأنبياء عليهمالسلام شيئا من تعمد الذنوب جوز عليهم الغلول ، ومن نفى الغلول
نفى عنهم سائر الذنوب ، وقد صح
__________________
نفي الغلول عنهم
بكلام الله تعالى فوجب انتفاء تعمد الذنوب عنهم بصحة الإجماع على أنها سواء
والغلول. وقال عزوجل : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الجاثية آية
رقم ٢١].
قال أبو محمد :
فلا يخلو مخالفنا الذي يجيز أن يكون الأنبياء عليهمالسلام قد اجترحوا السيئات من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إما أن يقول : إن
في سائر الناس من لم يعص قط ولا اجترح سيئة. قيل له : فمن هؤلاء الذين نفى الله عزوجل عنهم أن يكون الذين اجترحوا السيئات مثلهم؟ إذ كانوا غير
موجودين في العالم ، فلا بد من أن يجعل كلام الله عزوجل هذا فارغا لا معنى له ، وهذا كذب من قائله. أو يقول هم
الملائكة فإن قال ذلك رد قوله هذا قول الله تعالى في الآية نفسها (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما
يَحْكُمُونَ).
ولا نص ولا إجماع
على أن الملائكة تموت ولو جاء بذلك نص لقلنا به ، بل البرهان موجب أن لا يموتوا
لأن الجنة دار لا موت فيها ، والملائكة سكان الجنات فيها خلقوا وفيها يخلدون أبدا
، وكذلك الحور العين. وأيضا فإن الموت إنما هو فراق النفس للجسد المركب ، وقد نص
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أن الملائكة خلقوا من نور فليس فيها شيء يفارق شيئا
فيسمى موتا ، فإن اعترض معترض بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [سورة آل عمران
آية رقم ١٨٥] لزمه إن حمل هذه الآية على عمومها أن الحور العين يمتن فيجعل الجنة
دار الموت ، وقد أبعد الله تعالى ذلك قال الله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت
آية رقم ٦٤].
فعلمنا بهذا النص
أن قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) إنما عنى به من كان في غير الجنة من الجن والإنس وسائر الحيوان
المركب الذي يفارق روحه جسده. وبالله تعالى التوفيق.
ويرد أيضا قوله إن
قال بهذا قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما
من أحد إلا وقد ألمّ أو كاد إلا يحيى بن زكريا» أو يقول إن في الناس من لم يجترح سيئة قط وإن من اجترح
السيئات لا يساويهم كما قال عزوجل ، فإن قال ذلك فإن الأنبياء عليهمالسلام عنده يجترحون السيئات وفي سائر الناس من لا يجترحها ، فوجب
أن يكون في الناس
__________________
من هو أفضل من
الأنبياء عليهمالسلام وهذا كفر مجرد وما قدرنا أن أحدا ممن ينتمي إلى الإسلام
ولا إلى أهل الكتاب ينطق لسانه بهذا حتى رأينا للمعروف بابن الباقلاني فيما ذكر
عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي صلىاللهعليهوسلم من هو أفضل من النبي صلىاللهعليهوسلم من حين يبعث إلى حين يموت ، فاستعظمنا ذلك ، وهذا شرك مجرد
، وقدح في النبوة لا خفاء به ، وقد كنا نسمع عن قوم من الصوفية أنهم يقولون : إن
الولي أفضل من النبي ، وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام إلى أن وجدنا
هذا الكلام كما أوردنا فنعوذ بالله من الارتداد بعد الإيمان.
قال أبو محمد :
ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة أفضل ، ويدري فضيلة النبوة ، لما انطلق
لسانه بهذا الكفر وهذا تكذيب للنبي صلىاللهعليهوسلم إذ يقول : «إني لأتقاكم لله» و «إني لست كهيئتكم وإني
لست مثلكم».
فإذا قد صح بالنص
أن في الناس من لم يجترح سيئة ، وأن من اجترح السيئات لا يساويهم عند الله عزوجل ، فالأنبياء عليهمالسلام أحق بهذه الدرجة وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل
الإسلام.
يقول الله عزوجل : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [سورة الحج آية
رقم ٧٥] فأخبر تعالى أن الرسل صفوته من خلقه.
وقد اعترض علينا
بعض المخالفين بأن قال : فما تقول فيمن بلغ فآمن ، وذكر الله مرات ومات إثر ذلك ،
أو في كافر أسلم وقاتل مجاهدا فقتل ..؟ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن نقول :
أما من كان كافرا ثم أسلم فقد اجترح من السيئات بكفره ما هو أعظم من السموات
والأرض ، وإن كان قد غفر له بإيمانه ، ولكن قد حصل بلا شك
__________________
من جملة من قد
اجترح السيئات ، وأما من بلغ فآمن ، وذكر الله تعالى ثم مات ، فقد كان هذا ممكنا
في طبيعة العالم وفي بنيته لو لا قول الله عزوجل : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الجاثية رقم
٢١].
فإن الله تعالى
قطع قطعا لا يرده إلا كافر بأنه لا يجعل من اجترح السيئات كمن لم يجترحها ونحن
نوقن أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهمالسلام ، ليس منهم أحد إلا وقد اجترح سيئة فكان يلزم على هذا أن
يكون من أسلم إثر بلوغه ومات أفضل من الصحابة رضي الله عنهم وهذا خلاف قول النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم
ولا نصيفه.
فإذ هذا كما قلنا
فقول الله عزوجل وقول رسوله صلىاللهعليهوسلم أحق بالتصديق لا سيما مع قوله عليهالسلام : «ما
من أحد إلا ألمّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا» فنحن نقطع قطعا بما ذكرنا أنه لا سبيل إلى أن يبلغ أحد حد
التكليف إلا ولا بد له من أن يجترح سيئات الله أعلم بها وبالله التوفيق.
قال أبو محمد :
ومن البرهان على أنه لا يمكن البتة أن يعصي نبي بعمد قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين» لما قال له الأنصاري هلا أومأت إليّ في قصة عبد الله بن
سعد بن أبي سرح فنفى عليهالسلام عن جميع الأنبياء عليهمالسلام أن تكون لهم خائنة الأعين ، وهو أخف ما يكون من الذنوب ،
ومن خلاف الباطن للظاهر ، فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها.
قال أبو محمد :
وأيضا فإننا مندوبون إلى الاقتداء بالأنبياء عليهمالسلام وإلى الائتساء بهم في أفعالهم كلها قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [سورة الأحزاب :
آية رقم ٢١].
وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [سورة الأنعام آية
رقم ٩٠].
__________________
فصح يقينا أنه لو
جاز أن يقع من أحد من الأنبياء عليهمالسلام ذنب بعمد صغير أو كبير ، لكان الله عزوجل قد حضنا على المعاصي وندبنا إلى الذنوب ، وهذا كفر مجرد
ممن أجازه ، وقد صح يقينا أن جميع أفعال الأنبياء التي يقصدونها خير وحق.
قال أبو محمد :
وأيضا فقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم عظيم إنكاره على ذي الخويصرة لعنه الله ولعن أمثاله ، إذ
قال الكافر : اعدل يا محمد ، إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. فقال له رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ويحك
من يعدل إذا أنا لم أعدل أيأمنني الله ولا تأمنوني» ..؟
وقوله عليهالسلام لأم سلمة أم المؤمنين إذ سألته عن الذي قبل امرأته في
رمضان : «ألا
أخبرتها أني فعلت ذلك» ..؟ وغضب عليهالسلام إذ قال له : لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخر .
فأنكر عليهالسلام إذ جعل له ذنبا بعمد وإن صغر. وقال له عليهالسلام : إني والله لأعلمكم بالله وأتقاكم لله أو كلاما هذا
معناه.
فإن قال قائل :
فهلا نفيتم عنهم عليهمالسلام السهو بدليل الندب إلى الائتساء بهم عليهمالسلام. قلنا وبالله تعالى التوفيق :
إنكار ما ثبت
كإجازة ما لم يثبت ، سواء بسواء ولا فرق ، والسهو منهم قد ثبت بيقين. وأيضا فإن
ندب الله تعالى لنا إلى الائتساء بهم عليهمالسلام لا يمنع من وقوع السهو منهم ، لأن الائتساء بالسهو لا يمكن
إلا بسهو منا ، ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف السهو ، لأننا لو قصدنا إليه
لم يكن حينئذ سهوا ، ولا يجوز أيضا أن
__________________
ننهى عن السهو لأن
الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا ، وقد قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) [سورة البقرة آية
رقم ٢٨٦].
ونقول أيضا : إننا
مأمورون إذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ سها.
وأيضا فإن الله
تعالى لا يقر الأنبياء عليهمالسلام على السهو بل ينبّههم في الوقت ، ولو لم يفعل ذلك تعالى
لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين. وهذا تكذيب لله عزوجل إذ يقول تعالى (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) [سورة النحل آية
رقم ٨٩].
وإذ يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [سورة المائدة آية
رقم ٣]
وقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام آية
رقم ١١٩].
قال أبو محمد :
فسقط قول من نسب إلى الأنبياء عليهمالسلام شيئا من الذنوب
بالعمد ، صغيرها وكبيرها ، إذ لم يبق لهم شبهة يموهون بها أصلا ، وإذ قد قامت
البراهين على بطلانها ولحقوا بذي الخويصرة.
قال أبو محمد :
ولو جاز من الأنبياء عليهمالسلام شيء من المعاصي فقد ندبنا إلى الائتساء بهم وبأفعالهم ،
لكنا قد أبيحت لنا المعاصي وكنا لا ندري لعل جميع ديننا ضلال وكفر ، ولعل كل ما
عمله عليهالسلام معاص ، ولقد قلت يوما لبعضهم ممن كان يجيز عليهم الصغائر
بالعمد : أليس من الصغائر تقبيل المرأة الأجنبية وقرصها؟ فقال : نعم. فقلت له :
تجوز أنه يظن بالنبي صلىاللهعليهوسلم أن يقبل امرأة غيره متعمدا؟ فقال : معاذ الله من هذا ورجع
إلى الحق من حينه والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
قال الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [سورة الفتح آية
رقم ١ ، ٢].
قال أبو محمد :
ومن الباطل المحال أن تتم نعمة الله على عبد ويعصي الله بما كبر أو ما صغر ، إذ لو
كان ذلك لما كانت نعمة الله تعالى عليه تامة ، بل ناقصة إذ خذله فيما عصى فيه.
وقال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ) [سورة الفتح آية
رقم ٨ ، ٩].
وقال الله تعالى :
(قُلْ أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [سورة التوبة آية
رقم ٦٦].
قال أبو محمد :
وما أقر برسول الله صلىاللهعليهوسلم ولقد بلغ الغاية القصوى في الاستهزاء برسل الله صلّى الله
عليهم وسلم من جوز أن يكونوا سراقا أو زناة ، ولاطة ، وبغائين ، وو الله ما نعلم
كفرا أعظم من هذا ولا استهزاء بالله تعالى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هذه
المقالة.
وليت شعري ما الذي
أمنهم من كذبهم في التبليغ لأنا لا ندري لعلهم بلّغوا إلينا الكذب عن الله تعالى.
قال أبو محمد :
فنقول لهم : ولعل أفعاله التي نأتسي بها تبديل للدين ومعاصي لله عزوجل ولا فرق.
قال أبو محمد :
وما نعلم أهل قرية أشد سعيا في إفساد الإسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه المقالة ،
فإن كلتا الطائفتين الملعونتين أجازتا تبديل الدين وتحريفه ، وصرحت هذه الفئة مع
ما أطلقت على الأنبياء من المعاصي بأن الله تعالى إنما تعبدنا في دينه بغالب
ظنوننا ، وأنه لا حكم لله إلا ما غلب عليه ظن المرء منا ، وإن كان مختلفا متناقضا
، وما نمتري في أنهم ساعون في إفساد أغمار المسلمين المحسنين بهم الظن ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد :
فإن قال قائل إنكم تقولون إن الأنبياء عليهمالسلام مؤاخذون بما أتوا على سبيل السهو والقصد إلى الخير ، إذا
لم يوافق مراد الله عزوجل فيها وأوخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بسهوه في الصلاة؟
قلنا له وبالله
تعالى التوفيق : قد غفر الله له لما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذه فضيلة مما فضل به
على جميع النبيين عليهمالسلام ، وهكذا نص عليهالسلام في حديث الشفاعة يوم القيامة ومصير الناس من نبي إلى نبي ،
فكلّ ذكر خطيئة أو سكت ، فلما ذكروا النبي صلىاللهعليهوسلم قال قائلهم : عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فبطل
أن يؤاخذ بما غفره الله ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
فإن قال قائل : أيجوز أن يكون نبي من الأنبياء عليهمالسلام
__________________
يأتي معصية قبل أن
يتنبأ؟ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أن كل نبي فإنه قبل أن ينبأ لا يخلو من أحد
وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون متعبدا بشريعة نبي أتى قبله كما كان عيسى عليهالسلام وأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه
الصلاة والسلام. وإما أن يكون قد نشأ في قوم قد درست شريعتهم ، ودثرت ونسيت كما في
بعث محمد صلىاللهعليهوسلم في قوم قد نسوا شريعة إسماعيل ، وإبراهيم ، عليهماالسلام.
قال تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [سورة الضحى آية
رقم ٧].
وقال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ) [سورة يس آية رقم
٦] فإن كان النبي متعبدا بشريعة ما ، فقد أبطلنا آنفا أن يكون نبي يعصي ربه أصلا.
وإن كان نشأ في
قوم دثرت شريعتهم فهو غير متعبد ، ولا مأمور بما لم يأته أمر الله تعالى به بعد
فليس عاصيا لله تعالى في شيء يفعله أو يتركه ، إلا أننا ندري أن الله عزوجل قد طهر أنبياءه وصانعهم من كل ما يعابون به ، لأن العيب
أذى ، وقد حرم الله عزوجل أن يؤذى رسوله.
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ
عَذاباً مُهِيناً) [سورة الأحزاب آية
رقم ٥٧].
قال أبو محمد :
فبيقين ندري أن الله تعالى صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغية أو من ولادة بغي ، أو
من بغايا ، بل بعثهم تعالى في حسب قومهم ، فإذ لا شك في هذا فبيقين ندري أن الله
تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة ، فدخل في ذلك السرقة ،
والعدوان ، والقسوة ، والزنا ، واللياطة ، والبغي ، وأذى الناس في حريمهم وأموالهم
وأنفسهم ، وكل ما يعاب به المرء ويتشكى منه ويؤذى بذكره.
وقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم في هذا ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي ، أنا ابن فرج ،
أنا إبراهيم بن محمد بن فراس ، أنبأنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري ، أنا
إسحاق بن راهويه ، أنا وهب بن جرير بن حازم ، أنا أبي ، أنبأنا محمد بن إسحاق ،
حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ، عن
أبيه هو ابن الحنفية ، عن أبيه هو علي بن أبي طالب ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول :
«ما هممت بقبيح مما
كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمني الله منهما. قلت
ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلها ترعى أبصر لي غنمي حتى أسمر
هذه الليلة بمكة كما يسمر
الفتيان
، قال : نعم ، فلما خرجت فجئت أدنى دار من دور مكة ، سمعت غناء وصوت دفوف وزمير ،
فقلت ما هذا؟ قالوا : فلان تزوج فلانة لرجل من قريش فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت
حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت ،
فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل
لي فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال
لي ما فعلت قلت ما فعلت شيئا فو الله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية
حتى أكرمني الله بنبوته» .
قال أبو محمد :
فصح أنه عليهالسلام لم يعص قط بكبيرة ولا بصغيرة قبل النبوة ، ولا بعدها ، ولا
هم قط بمعصية صغرت أو كبرت لا قبل النبوة ، ولا بعدها ، إلا مرتين بالسمر. حيث
ربما كان بعض ما لم يكن نهي عنه بعد ، والهم حينئذ بالسمر ليس همّا بزنا ، ولكنه
بما يحذو إليه طبع البشرية من استحسان منظر حسن فقط ، وبالله تعالى التوفيق. تم الكلام
في الأنبياء عليهمالسلام.
__________________
الكلام في الملائكة عليهمالسلام
قال أبو محمد : قد
ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت ونزيدها هاهنا بيانا في ذلك ، وبالله تعالى التوفيق ،
أنّ قوما نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به ، وإنما هو كذب
مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت ، وأنهما عصيا الله
تعالى وشربا الخمر ، وحكما بالزور وقتلا النفس المحرمة ، وزنيا وعلما زانية اسم
الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة ، وأنهما عذبا في غار
ببابل ، وأنهما يعلمان الناس السحر .. وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من
طريق عمير بن سعيد وهو مجهول مرة يقال له النخعي ومرة يقال له الحنفي ، ما نعلم له
رواية إلا هذه الكذبة ، وليست أيضا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكنه أوقفها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكذبة أخرى في أن
حد الخمر لم يسنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإنما هو شيء فعلوه ، وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا.
قال أبو محمد :
ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [سورة الحجر : ٨]
فقطع الله عزوجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق ، وليس شرب الخمر ولا الزنا
ولا قتل النفس المحرمة ، ولا تعليم العواهر أسماءه عزوجل ، التي يرتفع بها إلى السماء ، ولا السحر من الحق ، بل كل
ذلك من الباطل ، ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل ،
وإذ لم تنزل به فقد بطل أن تفعله ، لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به ، وهذا باطل
، وشهد عزوجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما أنظرنا ، فصح أنه لم ينزل
قط ملك ظاهر إلا لنبي بالوحي فقط ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وكذلك قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [سورة الأنعام : ٩].
فأبطل عزوجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ
الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) [سورة الأنعام : ٨].
فكذّب الله عزوجل كل من قال : إن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى
الأنبياء بالحق ، من عند الله عزوجل فقط. وقال عزوجل : (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ
يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) الآية [سورة الفرقان : ٢١ ، ٢٢].
فرفع الله تعالى
الإشكال بهذا النص في هذه المسألة ، وقرن عزوجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عزوجل فيهما ، فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء
ممتنع البتة لا يجوز ، وأن من قال ذلك فقد قال حجرا محجورا أي ممتنعا وظهر بها كذب
من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر ، وقد استعظم الله عزوجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس ، وسمى هذا
الفعل استكبارا وعتوّا ، وأخبر عزوجل أننا لا نرى الملائكة أبدا إلّا يوم القيامة فقط ، وأنه لا
بشرى يومئذ للمجرمين.
فإذ لا شك في هذا
كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قل : إما أن
هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن «ما» في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) [سورة البقرة :
١٠٢] نفي لأن ينزل عليهما ، ويكون هاروت وماروت حينئذ بدلا من الشياطين كأنه قال
ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ، ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الجن
كانتا تعلمان الناس السحر.
وقد روينا هذا
القول عن خالد بن أبي عمران وغيره ، وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على
الملكين بكسر اللام. وكان يقول : إن هاروت وماروت علجان من أهل بابل. إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما
لم يكونا ملكين. وقد اعترض هاهنا بعض الجهال فقال لي : أبلغ من رفق الشياطين أن
يقولوا للذي يتعلم السحر لا تكفر؟ فقلت له : هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات :
أحدها أن نقول لك : وما المانع من أن يقول الشياطين ذلك ، إما سخريا وإما لما شاء
الله تعالى؟ فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا.
والثاني : أنه قد
نص الله عزوجل على أن الشيطان قال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) فقال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) إلى قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ
وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [سورة الأنفال :]
__________________
[٤٨]. وقال تعالى
: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ
إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [سورة الحشر : ١٦].
فقد أمر الشيطان الإنسان بالكفر ثم تبرأ منه وأخبره أنه يخاف الله وغر الكفار ثم
تبرأ منهم وقال : إني أخاف الله.
فأي فرق بين أن
يقول الشيطان للإنسان اكفر ويغرّه ثم يتبرأ منه ، ويقول إني أخاف الله ، وبين أن
يعلمه السحر ويقول له لا تكفر؟
والثالث : أن معلم
السحر بنص الآية قد قال للذي يتعلم منه لا تكفر فسواء كان ملكا أو شيطانا قد علمه
على قولك ما لا يحل وقال له : لا تكفر ، فلم تنكر هذا من الشيطان ولا تنكره بزعمك
من الملك؟ وأنت تنسب إليه أنه يعلم السحر الذي هو عندك ضلال وكفر.
وإمّا أن يكون
هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق وبعلم ما ، على أنبياء ، فعلماهم الدين ، وقالا
لهم لا تكفروا نهيا عن الكفر بحق وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما
أتيا به ، من كفر به ، ويهدي بما من آمن بما أتيا به قال تعالى عن موسى أنه قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ
بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف :
١٥٥].
وكما قال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [سورة العنكبوت :
١].
ثم نسخ ذلك الذي
أنزل على الملكين فصار كفرا بعد أن كان إيمانا ، كما نسخ تعالى شرائع التوراة
والإنجيل فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ. وبالجملة فما في الآية نص ولا دليل
على أن الملكين علما السحر ، وإنما هو إقحام أقحم في الآية بالكذب والإفك ، بل
فيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى : (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبابِلَ) [سورة البقرة :
١٠٢] فصح أن السحر شيء غير الذي أنزل على الملكين.
ولا يجوز أن يجعل
المعطوف والمعطوف عليه شيئا واحدا إلا ببرهان من نص أو إجماع أو ضرورة ، وإلا فلا
أصلا.
وأيضا فإن بابل هي
الكوفة وهي بلد معروف بقربها ، محدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة
موضوعة إذ لو كان ذلك ما خفي مكانها على أهل الكوفة ، فبطل التعلق بهاروت وماروت ،
والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
وقد ادعى قوم أن إبليس كان ملكا فعصى وحاشا لله من هذا ،
لأن الله تعالى قد
أكذب هذا القول بقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ
كانَ مِنَ الْجِنِ) [سورة الكهف : ٥٠].
وبقوله : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [سورة الكهف : ٥٠]
ولا ذرية للملائكة ، وبقوله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [سورة الأعراف :
٢٧]. وبإخباره أنه خلق إبليس من نار السموم ، وصح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «خلقت الملائكة من نور» . والنور غير النار بلا شك ، فصح أن الجن غير الملائكة ،
والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن ، والجن كالإنس فيهما مذموم ومحمود. فإن
قال قائل إن الله عزوجل ذكر أنهم قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ) [سورة البقرة : ٣٠].
هذه تزكية لأنفسهم ، وقد قال تعالى .. (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ) [سورة النجم : ٣٢].
قلنا وبالله تعالى
التوفيق :
مدح المرء لنفسه
ينقسم قسمين أحدهما : ما قصد به المرء الافتخار بغيا وانتقاصا لغيره فهذه هي
التزكية وهو مذموم جدا ، والآخر : ما خرج مخرج الإخبار بالحق كقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» و «فضلت على
الأنبياء بست» وكقول يوسف عليهالسلام : (اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [سورة يوسف : ٥٥].
ولا يسمّى هذا
تزكية.
ومن هذا الباب قول
الملائكة هاهنا ، برهان هذا أنه لو كان قولهم مذموما لأنكره الله عزوجل عليهم ، فإذ لهم ينكره الله تعالى فهو صدق.
ومن هذا الباب
قولنا : نحن المسلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس وكقول الحواريين : نحن أنصار الله.
فكل هذا إذا قصد
به الحض على الخير لا الفخر ، فهو خير.
فإن قال قائل : إن
الله تعالى قال لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : ٣٠].
قلنا : نعم وما شك
الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون ، وليس هذا إنكارا.
__________________
وأما الجن فقد
قلنا : إنهم متعبدون بملة الإسلام.
وقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم «إنّ
الروث والعظام طعام إخواننا من الجن».
وهذا بخلاف حكمنا
، فقد يخصهم الله عزوجل بأوامر خلاف أوامرنا ، كما للنساء شرائع ليست للرجال من
الحيض وقطع الصلاة وغير ذلك ، وكما لقريش الإمامة وليست لغيرهم ، وكل ذلك دين
الإسلام وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال
أم لا يكون مؤمنا مسلما إلّا من استدل ..؟
قال أبو محمد :
ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلما إلا
من استدل ، وإلا فليس مسلما.
وقال الطبري : من
بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء ، أو بلغ المحيض من النساء ، ولم يعرف
الله عزوجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر ، حلال
الدم والمال ، وقال : إنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما
وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك. وقالت الأشعرية : لا يلزمهما الاستدلال على
ذلك إلا بعد البلوغ.
قال أبو محمد :
وقال سائر أهل الإسلام : كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه ، وقال بلسانه لا
إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق ، وبرئ من كل دين سوى دين
محمد صلىاللهعليهوسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك.
قال أبو محمد :
فاحتجت الطائفة الأولى بأن قالت : قد اتفق الجميع على أن التقليد مذموم وما لم يكن
يعرف باستدلال فإنما هو تقليد لا واسطة بينهما ، وذكروا قول الله عزوجل : (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [سورة الزخرف : ٢٣].
وقال تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى
مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) [سورة الزخرف : ٢٤].
__________________
وقال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [سورة البقرة :
١٧٠].
وقال تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [سورة الأحزاب :
٦٧].
وقالوا : فذم الله
تعالى اتباع الآباء والرؤساء. قالوا : وبيقين ندري أنه لا يعلم أحد أي الأمرين
أهدى ولا هل يعلم الآباء شيئا أو لا يعلمون إلا بالدليل. وقالوا : كل ما لم يكن
يصح بدليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما ، لكن بالدليل قال
الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١].
قالوا : فمن لا
برهان له فليس صادقا في قوله ، وقالوا : ما لم يكن علما فهو شك وظن.
قالوا : والعلم هو
اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة واستدلال.
قالوا : والديانات
لا يعرف صحة الصحيح منها من بطلان الباطل منها بالحواس أصلا ، فصح أنه لا يعلم ذلك
إلا من طريق الاستدلال ، فإذا لم يكن الاستدلال فليس المرء عالما بما لم يستدل
عليه ، وإذا لم يكن عالما فهو شاك ظان. وذكروا قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مساءلة الملك في القبر ما تقول في هذا الرّجل ..؟ فأمّا
المؤمن أو الموقن فإنه يقول هو محمّد رسول الله قال : وأمّا المنافق أو المرتاب
فإنه يقول : لا أدري سمعت النّاس يقولون شيئا فقلته . قالوا : وقد ذكر الله عزوجل الاستدلال على الربوبية والنبوة في غير موضع من كتابه وأمر
به ، وأوجب العلم به ، والعلم لا يكون إلا عن دليل كما قلنا.
قال أبو محمد :
هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه لهم غاية التقصي ، وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه
على ما نبين بحول الله وقوته إن شاء الله تعالى لا إله إلا هو ، بعد أن نقول قولا
تصححه المشاهدة ، أن جمهور هذه الفرقة أبعد من كل من ينتمي إلى البحث والاستدلال
عن المعرفة بصحة الدلائل ، فاعجبوا لهذا! وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
قال أبو محمد :
أما قولهم قد أجمع الجميع على أن التقليد مذموم وأن ما لا
__________________
يعرف باستدلال
فإنما هو أخذ تقليدا إذ لا وساطة بينهما ، فإنهم شغبوا في هذا المكان ووثبوا
فتركوا التقسيم الصحيح ، ونعم : إن التقليد لا يحل البتة وإنما التقليد أخذ المرء
قول من دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم ممن لم يأمرنا الله عزوجل باتباعه قط ، ولا بأخذ قوله ، بل حرم علينا ذلك ونهانا
عنه.
وأما أخذ المرء
قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتباعه وتصديقه وحذرنا عن
مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد ، فليس تقليدا ، وما سماه أحد قط من أهل
الحق تقليدا بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة لله عزوجل وأداء للمفترض ، فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق
الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل ، وبرهان ما ذكرنا أن امرأ لو اتبع
أحدا دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قول قاله لأن فلانا قاله فقط ، واعتقد أنه لو لم يقل
ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضا ، فإن فاعل هذا القول مقلد مخطئ عاص لله
تعالى ولرسوله ، ظالم آثم. سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذي قاله الله ورسوله
أو خالفه ، وإنما فسق لأنه اتبع من لم يؤمر باتباعه ، وفعل غير ما أمره الله عزوجل أن يفعله ، ولو أن امرأ اتبع قول الله عزوجل وقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم لكان مطيعا محسنا مأجورا غير مقلد ، وسواء وافق الحق أو
وهم فأخطأ ، وإنما ذكرنا هذا لنبيين أن الذي أمرنا به وافترض علينا هو اتباع ما
جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقط ، وأن الذي حرم علينا هو اتباع من دونه أو اختراع قول
لم يأذن به الله تعالى قطّ ، وقد صح أن التقليد باطل لا يحل ، فمن الباطل الممتنع
أن يكون الحق باطلا معا ، والمحسن مسيئا من وجه واحد معا ، فإذ ذلك كذلك فممتنع من
أمر الله تعالى باتباعه ، ليس مقلدا ولا فعله تقليدا ، وإنما المقلد من اتبع من لم
يأمره الله تعالى باتباعه ، فسقط تمويههم بذم التقليد ، وصح أنهم وضعوه في غير
موضعه ، وأوقعوا اسم التقليد على ما ليس تقليدا ، وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم بذم
الله تعالى اتباع الآباء والكبراء ، فهو مما قلنا آنفا سواء بسواء ، لأن اتباع
الآباء والكبراء وكل من دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو من التقليد المحرم ، المذموم فاعله ، فقد قال الله عزوجل : (اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [سورة الأعراف : ٣]
فهذا نص ما قلنا ولله الحمد.
قال أبو محمد :
وأما احتجاجهم أنه لا يعرف أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيئا أم لا إلّا
بالدليل ، وأن كل ما لم يصح بدليل فهو دعوى ، ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس
قولهما ، وذكرهم قول الله تعالى : (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة :
١١١] فإن هذا ينقسم قسمين :
فمن كان من الناس
تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى يسمع الدلائل فهذا فرض عليه طلب الدلائل ، إلا أنه إن
مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافرا ، وهو مخلد
في النار بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى رأى المعجزات ، فهذا أيضا لو مات قبل أن يرى المعجزة
لمات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام ، وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب
البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر.
قال الله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [سورة التحريم : ٦].
فقد افترض الله عزوجل على كل أحد أن يقي نفسه النار.
فهؤلاء قسم وهم
الأقل من الناس ، والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسكن قلبه إلى الإيمان ، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل
توفيقا من الله عزوجل له وتيسيرا لما خلق له من الخير والحسنى ، فهؤلاء لا
يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكلّف استدلال ، وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة ،
والنساء ، والتجار ، والصناع ، والأكرة والعباد ، وأصحاب الأئمة الذين يذمون الكلام والجدل
والمراء في الدين.
قال أبو محمد : هم
الذين قال الله فيهم : (وَلكِنَّ اللهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ
اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة الحجرات : ٧
، ٨].
وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام :
١٢٥].
قال أبو محمد :
وقد سمى الله عزوجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم ،
وكره إليهم الكفر والمعاصي فضلا منه ونعمة ، وهذا هو خلق الله تعالى للإيمان في
قلوبهم ابتداء ، وعلى ألسنتهم ، ولم يذكر الله تعالى في ذلك استدلالا أصلا ،
وبالله تعالى التوفيق.
وليس هؤلاء مقلدين
لآبائهم ولا لكبرائهم ، لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن آباءهم
ورؤساءهم لو كفروا لم يكفروا هم بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ،
__________________
ورؤسائهم والبراءة
منهم ، ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ،
ويرون أن حرقهم بالنار أخفّ عليهم من مخالفة الإسلام.
وهذا أمر قد
عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا ، فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف
الاستدلال ولا وجوهه ، ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام ، وكل ما جاء به
محمد صلىاللهعليهوسلم نجد أنفسنا في غاية السكون إليه ، وفي غاية النفار عن كل
ما يتعرض فيه بشك ، ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها
الشيطان ، فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعا لها ، كما خبر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ سئل عن ذلك فقالوا له : «إنّ أحدنا ليحدث نفسه بالشيء
ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحبّ إليه من أن يتكلّم به» فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان ، وأمر صلىاللهعليهوسلم في ذلك بما أمر به من التعوذ ، والقراءة ، والتفل عن
اليسار. ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ، ولله تعالى الحمد ، فما زادنا يقينا
على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق ، وصرنا كمن عرف وقد أيقن بكون الفيل
موجودا سماعا ولم يره ثم رآه ، فلم يزدد يقينا بصحة إنّيّته أصلا ، لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة ،
التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس ، وعلمنا أنّا كنا مقتدين بالخطإ في
ذلك ولله تعالى الحمد.
وإن المخالفين لنا
ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل
استدلالهم ولا بد ، فصح بما قلنا أن كل من أمحض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه
فهم مؤمنون محققون ، وليسوا مقلدين أصلا ، وإنما كانوا يكونوا مقلدين لو أنهم
قالوا واعتقدوا أننا نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ، ولو أن آباءنا وكبراءنا
تركوا دين محمد صلىاللهعليهوسلم لتركناه ، فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير
مؤمنين ، لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم ، ولم يتبعوا
النبي صلىاللهعليهوسلم الذي أمروا باتباعه وبالله تعالى التوفيق.
وإنما كلف الله
تعالى الإتيان بالبرهان إن كانوا صادقين ـ يعني الكفار ـ المخالفين لما جاء به
محمد صلىاللهعليهوسلم هذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبراهين ،
وإلا سقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان.
__________________
والفرق بين
الأمرين واضح ، وهو أن كل من خالف النبي صلىاللهعليهوسلم فلا برهان له أصلا ، فكلف المجيء بالبرهان تبكيتا وتعجيزا
إن كانوا صادقين وليسوا صادقين فلا برهان لهم ، وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته هنا ودان بالصدق
الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه ، فسواء علم هو بذلك البرهان أو لم يعلم حسبه أنه
على الحق الذي صح بالبرهان ، ولا برهان على ما سواه فهو محق مصيب والحمد لله رب
العالمين ..
وأما قولهم : ما
لم يكن علما فهو شك وظن ، والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو
استدلال.
قالوا : والديانات
لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل ، فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال
فإن لم يستدل المرء فليس عالما ، وإذا لم يكن عالما فهو جاهل شاك ، أو ظان ، وإذا
كان لا يعلم الدين فهو كافر.
قال أبو محمد :
فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال ، وهو
إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة واستدلال ، فهذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها
، ولا جاء بصحتها قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا لغة ، ولا طبيعة ، ولا قول
صاحب.
وحد العلم على
الحقيقة : أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط ، فكل من اعتقد شيئا ما على ما هو به
ولم يخالجه شك فيه فهو عالم به ، وسواء كان عن ضرورة حس ، أو عن بديهة عقل ، أو عن
برهان استدلال ، أو عن تيسير الله عزوجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ، ولا مزيد.
ولا يجوز البتة أن
يكون محققا في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به ، وهذا تناقض وفساد
وتعارض وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم في
حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مساءلة الملك فلا حجة لهم فيه ، بل هو حجة عليهم كما هو
، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنما قال فيه : «فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول
الله».
ولم يقل عليه
الصلاة والسلام فأما المستدل ، فحسبنا فوز المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه.
وقال عليه الصلاة
والسلام : «أما
المنافق أو المرتاب» ولم يقل غير المستدل «فيقول
: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» فنعم هذا قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا
موقنين ، ولا
مؤمنين ، وهذه صفة مقلد للناس لا محقق ، فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم كافية وبالله
تعالى التوفيق.
وأما قولهم : إن
الله عزوجل قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به ، وأوجب
العلم به ، والعلم لا يكون إلا عن استدلال ، فهذه أيضا زيادة أقحموها وهي قولهم :
«وأمر به» فهذا لا يجدونه أبدا ، ولكن الله تعالى ذكر الاستدلال وحضّ عليه ، ونحن
لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه ، محضوض عليه كل من أطاقه ، لأنه تزود
من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق نعوذ بالله عزوجل من البلاء وإنما ننكر كونه فرضا على كل أحد لا يصح إسلام
أحد دونه هذا هو الباطل المحض.
وأما قولهم : إن
الله تعالى أوجب العلم به فنعم.
وأما قولهم :
والعلم لا يكون إلا عن استدلال ، فهذه هي الدعوة الكاذبة التي أبطلناها آنفا وأول
بطلانها أنها دعوى بلا برهان وبالله تعالى العزيز الحكيم نتأيد.
قال أبو محمد :
هذا كل ما شغبوا به قد نقضناه ، والحمد لله رب العالمين.
فسقط قولهم إذ
تعرى من البرهان ، وكان دعوى منهم مفتراة لم يأتي بها نص قط ، ولا إجماع ، وبالله
التوفيق.
قال أبو محمد :
ونحن الآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده البراهين على بطلان قولهم ، ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظم.
قال أبو محمد :
يقال لمن قال لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الاستدلال أقبل
البلوغ أم بعده؟. ولا بدّ من أحد الأمرين ، فأما الطبري فإنه أجاب بأن ذلك واجب
قبل البلوغ.
قال أبو محمد :
وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفا ولا مخاطبا ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رفع
القلم عن ثلاثة» فذكر «الصغير
حتّى يحتلم» فبطل جواب الطبري رحمهالله.
وأما الأشعرية :
فإنهم أتوا بما يملأ الفم ، وتقشعر منها جلود أهل الإسلام ،
__________________
وتصطك منها
المسامع ، ويقطع ما بين قائلها وما بين الله عزوجل ، وهي أنهم قالوا : لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ،
ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المئونة ، وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا
غير مساترين : لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق ..
قال أبو محمد : ما
سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم ، أنه لا يكون
أحدا مسلما حتى يشك في الله عزوجل ، وفي صحة النبوة ، وفي هل رسول الله صلىاللهعليهوسلم صادق أم كاذب؟ ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة ،
والاستخفاف بالحقائق ، بأقبح من قول هؤلاء أنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ، ولا
يصح التصديق إلا بالجحد ، ولا يوصل إلى رضاء الله عزوجل إلا بالشك فيه ، وأن من اعتقد موقنا بقلبه وبلسانه أن الله
تعالى ربه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا
دين غيره فإنه كافر مشرك. اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان. فو الله لو لا خذلان الله
تعالى الذي هو غالب على أمره ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة ، وهذا يكفي من
تكلف النقض لهذه المقالة الملعونة ، ومن بلغ هذا المبلغ حسن السكوت عنه ونعوذ
بالله من الضلال.
ثم نقول لهم :
أخبرونا عن هذا الذي أوجبتم عليه الشك في الله فرضا والشك في صحة النبوة والرسالة
، كم تكون هذه المدة التي أوجبتم عليه في البقاء شاكا مستدلّا طالبا للدلائل؟ وكيف
إن لم يجد في قريته أو مدينته ولا في إقليمه محسنا للدلائل ، فرحل طالبا للدلائل
فاعترضته أهوال ومخاوف ، وتعذر بحر أو برد أو مرض ، فاتصل له ذلك ساعات وأياما
وجمعا وشهورا وسنين ، ما قولكم في ذلك؟
فإن حدّوا في
المدة يوما أو يومين أو ثلاثة ، أو أكثر من ذلك ، كانوا متحكمين بلا دليل ،
وقائلين بلا هدى من الله تعالى. ولم يعجز أحد عن أن يقول في تحديد تلك المدة
بزيادة ، أو نقصان ، ومن بلغ هاهنا فقد ظهر فساد قوله.
وإن قالوا : لا
نجد في ذلك حدا قلنا لهم : فإن امتد كذلك حتى يموت ، أو مات في مدة استدلاله التي
حددتم له ، وهو شاك في الله تعالى ، وفي النبوة ، أيموت مؤمنا وتجب له الجنة أم
يموت كافرا وتجب له النار ..؟
فإن قالوا : بل
يموت مؤمنا تجب له الجنة ، أتوا بأعظم الطوام ، وجعلوا الشكاك
__________________
في الله الذين هم
عندهم شكاك مؤمنين من أهل الجنة ، وهذا كفر محض ، وتناقض لا خفاء به ، وكانوا مع
ذلك قد سمحوا في أن يبقى المرء دهره كله شاكا في الله عزوجل ، وفي النبوة والرسالة.
وإن قالوا : بل
يموت كافرا تجب له النار.
قلنا لهم : لقد
أمرتموه بما فيه هلالكه ، وأوجبتم عليه ما فيه دماره ، وما يفعل الشيطان إلا هذا
في أمره بما يؤدي إلى الخلود في النار.
وإن قالوا : بل هو
في حكم أهل الفترة.
قلنا لهم : هذا
باطل ، لأن أهل الفترة لم تأتهم النذارة ولا بلغ إليهم خبر النبوة ، والنص إنما
جاء في أهل الفترة ، ومن زاد في الخبر ما ليس فيه فقد كذب على الله عزوجل. ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق :
ما حد الاستدلال
الموجب لاسم الإيمان عندكم؟ وقد يسمع دليلا عليه اعتراض أيجزيه ذلك الدليل أم لا؟
فإن قالوا يجزيه.
قلنا لهم : ومن أين وجب أن يجزيه وهو دليل معترض فيه؟ وليس هذه الصفة من الدلائل
مخرجة عن الجهل إلى العلم بل هي مؤدية إلى الشك الذي كان عليه قبل الاستدلال.
وإن قالوا : بل لا
يجزيه إلا حتى يوقن أنه قد وقع على دليل لا يمكن الاعتراض فيه ، كلفوا الناس ما
ليس في وسع أكثرهم ، وما لا يبلغه إلا قليل من الناس في طويل من الدهر وكثير من
البحث.
ولقد درى الله
تعالى أنهم أصفار من العلم بذلك ، يعني أهل هذه المقالة الملعونة الخبيثة.
قال أبو محمد :
ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من
السير من المسلمين واليهود ، والنصارى والمجوس ، والمنانية والدهرية ، في أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجماء الغفير إلى الإيمان بالله
تعالى وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من قاتله ممن عنده ويستحل سفك دمائهم ،
وسبي نسائهم وأولادهم ، وأخذ أموالهم ، متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية
وإصغاره ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ، ويحكم له بحكم الإسلام ،
وفيهم المرأة البدوية ، والراعي ، والراعية ، والغلام الصحراوي الوحشي ،
والزنجي المسبي ،
والزنجية المجلوبة ، والرومي ، والرومية ، والأغثر الجاهل ، والضعيف في فهمه ، فما منهم أحد ، ولا من غيرهم
قال له عليهالسلام : إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على
صحة ما أدعوك إليه.
قال أبو محمد :
لسنا نقول : إنه لم يبلغنا أنه عليهالسلام قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض ، قطعا كقطعنا
على ما شاهدناه أنه عليهالسلام لم يقل قط هذا لأحد ، ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ، ثم جرى
على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم ، أولهم عن آخرهم ، ولا يختلف أحد في
هذا الأمر ، ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ، ومن المحال الممتنع عند أهل
الإسلام أن يكون عليهالسلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ، ثم
تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتنبه له هؤلاء الأشقياء.
ومن ظن أنه وقع من
الدين على ما لم يقع عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو كافر بلا خلاف.
فصح أن هذه
المقالة خرق للإجماع ، وخلاف لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم وجميع أهل الإسلام قاطبة.
فإن قالوا : فما
كانت حاجة الناس إلى الآيات المعجزات ، وإلى احتجاج الله عزوجل عليهم بالقرآن ، وإعجازه به ، وبدعاء اليهود إلى تمني
الموت ، ودعاء النصارى إلى المباهلة ، وشق القمر؟
قلنا وبالله تعالى
التوفيق : قد قلنا إن الناس قسمان : قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ، ولا دخلها
التصديق ، فطلبوا منه عليهالسلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت ،
وطائفة عندت وجاهرت فكفرت ، وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الأدلة فرضا
ولا بد كما قدمنا.
وقسم آخر : وفقهم
الله تعالى لتصديقه عليهالسلام وخلق عزوجل في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة الحجرات :
١٧] فهؤلاء آمنوا له عليهالسلام بلا تكليف آية ، وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون
للإسلام حقا بلا معرفة باستدلال.
قال أبو محمد : ويلزم
أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل ، وقد قال بعضهم إنهم مستدلون.
__________________
قال أبو محمد :
وهذه مجاهرة هو يدري أنها فيها كاذب ، وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر
العامة من حاضرة وبادية لا يدري معنى الاستدلال فكيف أن يستعمله ...؟
قال أبو محمد :
ويلزم من قال بهذه المقالة أن لا يأكل من اللحم إلا ما ذبحه هو أو من يدري أنه
مستدل ، وأن لا يطأ إلا زوجة يدري أنها مستدلة. ويلزمه أن يشهد على نفسه بالكفر
ضرورة قبل استدلاله ومدة استدلاله ، وأن يفارق امرأته التي تزوج في تلك المدة ،
وأن لا يرث أخاه ولا أباه ولا أمه ، إلا أن يكونوا مستدلين ، وأن يعمل عمل الخوارج
الذين يقتلون غيلة ، وعمل المغيرية والمنصورية في خنق كل من أمكنهم وقتله ، وأن
يستحلوا أموال أهل الأرض ، بل لا يحل لهم الكف عن شيء من هذا كله لأن جهاد الكفار
فرض وهذا كله إن التزموه طردوا أصولهم ، وكفونا أنفسهم ، وإن لم يقولوا بذلك
تناقضوا.
فصح أن كل من
اعتقد الإسلام بقلبه ، ونطق به بلسانه ، فهو مؤمن عند الله عزوجل ، ومن أهل الجنة ، سواء كان ذلك عن قبول ، أو نشأة ، أو عن
استدلال ، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فنقول لهم :
هل استدل من مخالفيكم في أقوالكم التي تدينون بها أحد أم لم يستدل قط أحد غيركم؟
فلا بد من إقرارهم بأن مخالفيهم أيضا قد استدلوا وهم عندكم مخطئون كمن لم يستدل
ولا فرق وأنتم عندهم أيضا مخطئون.
فإن قالوا : إن
الأدلة أمنتنا من أن نكون مخطئين.
قلنا لهم : وهذا
نفسه هو قول خصومكم فإنهم يدعون أن أدلتهم دلتهم على صواب قولهم ، وخطأ قولكم ،
ولا فرق. ما زالوا على هذه الدعوى مذ كانوا إلى يومنا هذا ، فما نراكم حصلتم من
استدلالكم إلا على ما حصل عليه من لم يستدل سواء بسواء ولا فرق.
فإن قالوا لنا :
فعلى قولكم هذا يبطل الاستدلال جملة وتبطل الدلائل كافة.
قلنا : معاذ الله
من هذا.
لكن أريناك أنه قد
يستدل من يخطئ ، وقد يستدل من يصيب ، بتوفيق الله تعالى فقط.
وقد لا يستدل من
يخطئ ، وقد لا يستدل من يصيب ، بتوفيق الله تعالى ، وكل ميسر لما خلق له.
والبرهان والدلائل
الصحاح غير المموهة ، فمن وفق للحق الذي قامت عند غيره البراهين الصحاح بصحته فهو
مصيب ، محق ، مؤمن ، استدل أو لم يستدل.
ومن يسر للباطل ،
الذي قام البرهان عند غيره ببطلانه ، فهو مبطل مخطئ أو كافر ، سواء استدل أو لم
يستدل ، وهذا هو الذي قامت البراهين بصحته.
والحمد لله رب
العالمين. وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الوعد والوعيد
قال أبو محمد :
اختلف الناس في الوعد والوعيد ، فذهبت كل طائفة لقول ، منهم من قال : إن صاحب
الكبيرة ليس مؤمنا ولكنه كافر أو فاسق أو كافر نعمة أي أن كل من مات مصرّا على
كبيرة من الكبائر فلم يمت مسلما ، وإذا لم يمت مسلما فهو مخلد في النار أبدا.
وأن من مات ولا
كبيرة له ، أو تاب عن كبائره قبل موته فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلا.
ومنهم من قال بأن
كل ذنب صغير أو كبير فهو مخرج عن الإيمان والإسلام فإن مات عليه فهو غير مسلم ،
وغير المسلم فهو مخلد في النار. وهذه مقالات الخوارج والمعتزلة.
إلا أن بكر ابن
أخت عبد الواحد بن زيد قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما إنهما كافران من أهل
الجنة لأنهما من أهل بدر ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن
الله تعالى قال لأهل بدر : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
قال : فأهل بدر إن
كفروا فمغفور لهم ، لأنهم بخلاف غيرهم. وقال بعض المرجئة : لا تضر مع الإسلام سيئة
، كما لا ينفع مع الكفر حسنة قالوا : فكل مسلم ولو بلغ كل معصية فهو من أهل الجنة
، لا يرى نارا ، وإنما النار للكفار. وكلا هاتين الطائفتين لا تقر بأن أحدا يدخل
النار ثم يخرج عنها ، بل من دخل النار فهو مخلد فيها أبدا ، ومن كان من أهل الجنة
فهو لا يدخل النار.
وقال أهل السنة
والحسين النجار وأصحابه وبشر بن غياث المريسي ، وأبو بكر بن
__________________
عبد الرحمن بن
كيسان الأصم البصري ، وغيلان بن مروان الدمشقي القدري ، ومحمد ابن شبيب ، ويونس بن
عمران ، وأبو العباس الناشئ ، والأشعري ، وأصحابه ، ومحمد بن كرام وأصحابه ، أن
الكفار مخلدون في النار ، وأن المؤمنين كلهم في الجنة ، وإن كانوا أصحاب كبائر
ماتوا مصرين عليها.
وأنهم طائفتان ،
طائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها أي من النار إلى الجنة ، وطائفة لا تدخل النار
، إلا أن كل من ذكرنا قالوا لله عزوجل أن يعذب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر بالنار ثم
يدخلون الجنة ، وله أن يغفر لهم ويدخلهم الجنة بدون أن يعذبهم ، ثم افترقوا فقالت
طائفة منهم وهو محمد بن شبيب ، ويونس ، والناشئ : إن عذب الله تعالى واحدا من
أصحاب الكبائر عذب جميعهم ولا بد ، ثم أدخلهم الجنة ، وإن غفر لواحد منهم غفر
لجميعهم ولا بد.
وقالت طائفة : بل
يعذب من يشاء ، ويغفر لمن يشاء ، وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية. وقد يغفر لمن هو أعظم
جرما ، ويعذب من هو أقل جرما.
وقال ابن عباس
وابن عمر رضي الله عنهم : يغفر لمن يشاء من أصحاب الكبائر ، ويعذب من يشاء منهم ،
إلا القاتل عمدا فإنه مخلد في النار أبدا.
وقالت طائفة منهم
: من لقي الله عزوجل مسلما تائبا من كل كبيرة أو لم يكن عمل كبيرة قط فسيئاته
كلها مغفورة ، وهو من أهل الجنة ، لا يدخل النار ، ولو بلغت سيئاته ما شاء الله أن
تبلغ ، ومن لقي الله عزوجل وله كبيرة لم يتب منها فأكثر ، فالحكم في ذلك الموازنة ،
فمن رجحت حسناته على كبائره وسيئاته ، فإن كبائره وسيئاته كلها تسقط وهو من أهل
الجنة لا يدخل النار ، ومن استوت حسناته مع كبائره وسيئاته فهؤلاء أهل الأعراف ،
ولهم وقفة ولا يدخلون النار ، ثم يدخلون الجنة. ومن رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ،
فهؤلاء مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب ، فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة
في النار ، ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبرحمة الله تعالى.
وكل من ذكرنا
يجازون في الجنة بقدر ما فضل لهم من الحسنات ، وأما من لم يفضل له حسنة من أهل
الأعراف فمن دونهم ، وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله تعالى فهم كلهم
سواء في الجنة ، ولكل امرئ منهم مثل الدنيا عشر مرات وهم أقل حظا في الجنة ممن
رجحت له حسنة فصاعدا.
قال أبو محمد :
فأما من قال بأن صاحب الكبيرة يخلد وصاحب الذنب
كذلك ، فإن حجتهم
قول الله تعالى : (أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة يونس ٦٢].
وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [سورة النمل آية
رقم ٩٠].
وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ
جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة يونس : ٢٧].
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [سورة النساء آية
رقم ١٤].
وبقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [سورة النساء آية
رقم ٩٣].
وقوله (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) [سورة الفرقان آية
رقم ٦٨].
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) [سورة النساء آية
رقم ١٠].
وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [سورة النور آية
رقم ٢٣] الآية.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة الأنفال آية
رقم ١٦].
وقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا) إلى قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة المائدة آية
رقم ٣٣].
وقوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) [سورة البقرة آية
رقم ٢٧٥] الآية.
وذكروا أحاديث صحت
عن النبي صلىاللهعليهوسلم في وعيد شارب الخمر وقاتل الهرة ، ومن قتل نفسه بسم أو
حديدة أو تردى من جبل ، فإنه يفعل ذلك به في جهنم خالدا ، ومن قتل نفسه حرم الله
عليه الجنة ، وأوجب له النار.
وذكروا أن الكبيرة
تزيل اسم الإيمان ، فبعضهم قال إلى شرك ، وبعضهم قال إلى
كفر نعمة ، وبعضهم
قال إلى نفاق ، وبعضهم قال إلى فسق ، قالوا : فإذ ليس مؤمنا فلا يدخل الجنة ، لأنه
لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ، هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة أصلا غير ما
ذكرنا ، وأما من خص القاتل بالتخليد فإنهم احتجوا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [سورة النساء آية
رقم ٩٣] فقط وأما من قطع بإسقاط الوعيد عن كل مسلم فإنهم احتجوا بقول الله تعالى (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي
كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل آية
رقم ١٥ و ١٦].
قالوا : وهذه
الآية مثبتة أن كل من توعده الله عزوجل على قتل أو زنا أو ربا أو غير ذلك فإنما هم الكفار خاصة لا
غيرهم. واحتجوا بقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من
قال لا إله إلا الله حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة». و «من قال لا إله إلا
الله مخلصا من قلبه دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر ، على رغم أنف أبي ذر» .
وقول الله عزوجل : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة الأعراف آية
رقم ٥٦].
قالوا : ومن قال
لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد أحسن فهو محسن فرحمة الله قريب منه ، ومن رحمهالله فلا يعذب. وقالوا : كما أن الكفر محبط لكل حسنة ، فإن
الإيمان يكفر كل سيئة والرحمة والعفو أولى بالله عزوجل.
قال أبو محمد :
هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا أو يدخل فيما ذكرنا ولا يخرج
عنه. وبالله تعالى التوفيق.
وأما من قال : إن
الله تعالى يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء ، وقد يعذب من هو أقل ذنوبا ممن يغفر
لهم فإنهم احتجوا بقول الله عزوجل (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية
رقم ٤٨] وبقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خمس
صلوات كتبهن الله على العبد من جاء بهنّ لم ينقص من حدودهن شيئا كان له عند الله
عهد أن يدخله الجنّة ، ومن لم يأت بهنّ لم يكن له عند الله عهد ، إن شاء عذّبه وإن
شاء غفر له» وجعلوا الآيتين اللتين ذكرنا قاضيتين
__________________
على جميع الآيات
التي تعلقت بها سائر الطوائف ، وقالوا : لله الأمر كله لا معقب لحكمه فهو يفعل ما
يشاء ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا.
قال أبو محمد :
وأما من قال بمثل هذا إلا أنه قال الله تعالى إن عذب واحدا منهم عذب الجميع ، وإن
غفر لواحد منهم غفر للجميع ، فإنهم قدرية ، جنحوا بهذا القول نحو العدل ، ورأوا أن
المغفرة لواحد وتعذيب من له مثل ذنوبه جور ومحاباة ، ولا يوصف الله عزوجل بذلك.
وأما من قال
بالموازنة فإنهم احتجوا فقالوا : إن آيات الوعيد ، وأخبار الوعيد ، التي احتج بها
من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج ، فإنها لا يجوز أن تخص بالتعليق بها دون آيات
العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط الوعيد ، وكذلك الآيات التي احتج بها
من أسقط الوعيد ، لا يجوز التعلق بها دون الآيات التي احتج بها من أثبت الوعيد بل
الواجب جمع جميع تلك الآيات ، وتلك الأخبار ، وكلها حق وكلها من عند الله ، وكلها
مجمل يفسرها آيات الموازنة ، وأحاديث الشفاعة ، التي هي بيان لعموم تلك الآيات ،
وتلك الأخبار ، وكلها من عند الله ، قالوا : ووجدنا الله عزوجل قد قال : (يا وَيْلَتَنا ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [سورة الكهف آية
رقم ٤٩].
وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ) [سورة الأنبياء
آية رقم ٤٧] الآية.
وقال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة آية
رقم ٧ ، ٨].
وقال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ١٤٣].
وقال تعالى : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [سورة يس آية رقم
٥٣ ، ٥٤] الآية.
وقال تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [سورة إبراهيم آية
رقم ٥١].
وقال تعالى : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٨١].
__________________
وقال تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [سورة طه آية رقم
١٥].
وقال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) إلى قوله : (الْجَزاءَ الْأَوْفى) [سورة النجم آية
رقم ٣٩ إلى ٤١].
وقال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً
دُونَ ذلِكَ) [سورة الطور آية
رقم ٤٧].
وقال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما
عَمِلُوا) [سورة النجم آية
رقم ٣١]. الآية.
وقال تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما
أَسْلَفَتْ) [سورة يونس آية
رقم ٣٠].
وقال تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [سورة هود آية رقم
١١١].
وقال تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ) الآية [سورة النساء آية رقم ١٢٣].
وقال تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ) [سورة آل عمران
آية رقم ١١٥].
وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [سورة آل عمران
آية رقم ١٩٥].
وقال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ
وَشَهِيدٌ) إلى قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) إلى قوله تعالى : (وَما أَنَا
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة ق آية رقم
٢٢ إلى ٢٩].
وقال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [سورة القارعة آية
رقم ٦ إلى ١١] إلى آخر السورة.
وقال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ) [سورة هود آية رقم
١١٤].
وقال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢١٧].
وقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام آية
رقم ١٦٠].
وقال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [سورة غافر آية
رقم ١٧].
هذا نص كلامه يوم
القيامة ، وهو القاضي على كل مجمل. قالوا : فنص الله عز
وجل أنه يضع
الموازين القسط ، وأنه لا يظلم أحدا شيئا ، ولا مثقال حبة خردل ، ولا مثقال ذرة من
خير ، أو من شر ، فصح أن السيئة لا تحبط الحسنة ، وأن الإيمان لا يسقط الكبائر.
ونص الله تعالى
أنه تجزى كل نفس بما كسبت وما عملت وما سعت وأنه ليس لأحد إلا ما سعى وأنه سيجزى
بذلك من أساء بما عمل ومن أحسن بالحسنى ، وأنه تعالى يوفي الناس أعمالهم ، فدخل في
ذلك الخير والشر.
وأنه تعالى يجازي
بكل خير عمل وبكل سوء عمل ، وهذا كله يبطل قول من قال بالتخليد ضرورة ، وقول من
قال بإسقاط الوعيد جملة ، لأن المعتزلة تقول : إن الإيمان يضيع ويحبط. وهذا خلاف
قول الله تعالى أنه لا يضيع إيماننا ولا عمل عامل منا.
وقالوا هم : إن
الخير ساقط بسيئة واحدة.
وقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ) [سورة هود آية رقم
١١٤].
فقالوا لهم : إن
السيئات يذهبن الحسنات.
وقد نص تعالى أن
الأعمال لا يحبطها إلا الشرك والموت عليه.
وقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام آية
رقم ١٦٠].
فلو كانت كل سيئة
، أو كل كبيرة ، توجب الخلود في جهنم ، وتحبط الأعمال الحسنة ، لكانت كل سيئة ، أو
كل كبيرة كفرا ، ولتساوت السيئات كلها ، وهذا خلاف النصوص ، وعلمنا بما ذكرنا أن
الذين قال الله تعالى فيهم : (وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة آية
رقم ٦٢] هم الذين رجحت حسناتهم على سيئاتهم ، فسقط كل سيئة قدموها وصح أن قوله
تعالى : (وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [سورة النمل آية
رقم ٩٠] هم من رجحت كبائرهم وحسناتهم ، وأن السيئة الموجبة للخلود هي الكفر ، لأن
النصوص جاءت بتقسيم السيئات ، فقال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة النساء آية
رقم ٣١] فهذه سيئات مغفورة باجتناب الكبائر.
وقال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى آية
رقم ٤٠].
وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة آية
رقم ٨].
فأخبر تعالى أن من
السيئات المجازى بها ما هو مقدار ذرة ، ومنها ما هو أكبر ،
ولا شك في أن
الكفر أكبر السيئات ، فلو كانت كل كبيرة جزاؤها الخلود ، لكانت كلها كفرا ولكانت
كلها سواء ، وليست كذلك بالنص.
وأما وعيد الله
بالخلود في القاتل وغيره ، فلو لم يأت إلا هذه النصوص لوجب الوقوف عندها ، لكنه قد
قال تعالى (لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل آية
رقم ١٥ و ١٦] وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض ، وقد صح أن القاتل ليس كافرا ،
وأن الزاني ليس كافرا ، وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفارا بما ذكرنا
قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات ، وأنهم مأمورون بالصلوات ، وأن زكاة أموالهم
مقبوضة ، وأنهم لا يقتلون ، وأنه إن عفي عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل به ، وأنه
يرث ويورث ، وتؤكل ذبيحته ، فإذ ليس كافرا فبيقين ندري أن خلوده إنما هو مقام مدة
ما ، وأن الصّليّ الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلّى
الخلود ، ولا يجوز البتة غير هذا.
وبهذا تتآلف
النصوص وتتفق. ومن المعهود في المخاطبة أن من وفد من بلد إلى بلد فحبس فيه مدة ما
لأمر أوجب احتباسه فيه مدة ما ، فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذي حبس فيه ، فمن دخل
في النار ثم أخرج منها فقد انقضى عنه صلّاها ، فليس من أهلها ، وإنما أهلها وأهل
صلّاها على الاطلاق ، والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبدا ، فهكذا جاء في الحديث
الصحيح فقد ذكر عليهالسلام فيه من يدخل النار بذنوبه ، ثم يخرج منها ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم : «وأما أهل النار الذين هم أهلها» يعني الكفار المخلدين فيها.
وقد قال عزوجل (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [سورة مريم آية
رقم ٧١]. فقد بين عليهالسلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح : «ثم يضرب الصراط بين ظهراني
جهنم» فبالقرآن
__________________
وكلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم صح أن ممر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط
جهنم ، وينجي الله تعالى أولياءه من حرها وهم الذين لا كبائر لهم أو لهم كبائر
تابوا عنها ، ورجحت حسناتهم بكبائرهم ، أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم ، وأنه
تعالى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ، ثم يخرجهم عنها إلى الجنة بإيمانهم ،
ويمحق الكفار بتخليدهم في النار ، كما قال تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [سورة آل عمران
آية رقم ١٤١] وأيضا فإن كل آية وعيد ، وخبر وعيد ، تعلق به من قال بتخليد المذنبين
فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها ، لأنهم يقولون إن من أتى بتلك الكبائر
ثم تاب سقط عنه الوعيد ، فقد تركوا ظاهر تلك النصوص. فإن قالوا : إنما قلنا ذلك
بنصوص أخر أوجبت ذلك. قيل لهم : نعم. وكذلك فعلنا نحن بنصوص أخر ، وهي آيات
الموازنة ، وأنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق. ويقال لمن أسقط
آيات الوعيد جملة ، وقال إنها كلها إنما جاءت في الكفار : إن هذا باطل لأن نص
القرآن بالوعيد على الفار من الزحف ، ليس إلا على المؤمن بيقين ، وبنص الآية في
قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [سورة الأنفال آية
رقم ١٦].
ولا يمكن أن يكون
هذا في كافر أصلا ، فسقط قول من قال بالتخليد ، وقول من قال بإسقاط الوعيد ، ولم
يبق إلا قول من أجمل جواز المغفرة ، وجواز العقاب.
قال أبو محمد :
فوجدنا هذا القول مجملا قد فسرته آيات الموازنة ، وقوله تعالى الذي تعلقوا به (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية
رقم ٤٨ و ١١٦] حق على ظاهرها ، وعلى عمومها ، وقد فسرتها بإقرارهم آيات أخر ، لأنه
لا يختلف في أن الله تعالى يغفر أن يشرك به لمن تاب من الشرك بلا شك.
وكذلك قوله تعالى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ).
فهذا كله حق إلا
أنه قد بين من هم الذين شاء أن يغفر لهم ، فإن صرتم إلى بيان الله تعالى فهو الحق
، وإن أبيتم إلا الثبات على الإجمال فأخبرونا عن قول الله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً) [سورة الزمر آية
رقم ٥٣].
وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [سورة المائدة آية
رقم ١٨].
أترون أن هذا
العموم تقولون به فتجيزون أن يغفر الكفر لأنه ذنب من الذنوب أم
لا؟ وأخبرونا عن
قول الله عزوجل حاكيا عن عيسى عليهالسلام ، أنه يقول له تعالى يوم القيامة : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ
قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ
سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِكَ) إلى قوله : (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) إلى قوله (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [سورة المائدة
الآيات : ١١٦ ـ ١١٨] أيدخل النصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه إلهين من دون الله
تعالى في جواز المغفرة لهم وقد صدقه الله تعالى في هذا القول من التخيير بين
المغفرة لهم أو يعذبهم؟ وأخبرونا عن قوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ
بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٥٦].
فمن قولهم : إن
المغفرة لا تكون البتة لمن كفر ومات كافرا ، وأنهم خارجون من هذا العموم ومن هذه
الجملة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية
رقم ٤٨].
قيل لهم : ولم
خصصتم هذه الجملة بهذا النص ولم تخصصوا قوله تعالى :
(وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) بقوله : (فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [سورة القارعة آية
رقم ٦ ، ٧].
وبقوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) [سورة النمل آية
رقم ٩٠].
وبقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ) [سورة غافر آية
رقم ١٧].
وهذا خبر لا نسخ
فيه. فإن قالوا : نعم إلا أن يشاء أن يغفر لهم. قيل لهم : قد أخبر تعالى أنه لا يشاء
ذلك بإخباره تعالى أنه في ذلك اليوم يجزي كل نفس ما كسبت ولا فرق.
قال أبو محمد :
وقد أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنّ الرّجل يأتي يوم القيامة وله صدقة ، وصيام ، وصلاة
، فيوجد قد سفك دم هذا ، وشتم هذا ، فتؤخذ حسناته كلّها ، فيقتصّ لهم منها ، فإذا
لم يبق له حسنة قذف من سيّئاتهم عليه ورمي في النّار» .
__________________
وهكذا أخبر عليهالسلام في قوم يخرجون من النار حتى إذا نقوا وهذبوا أدخلوا الجنة.
وقد بين عليهالسلام ذلك بأنه يخرج من النّار من في قلبه مثقال حبّة شعير من
خير ثمّ من في قلبه مثقال برّة من خير ، ثمّ من في قلبه مثقال حبّة من خردل ، ثمّ
من في قلبه مثقال ذرّة .. إلى أدنى أدنى من ذلك. ثمّ من لا يعمل خيرا قط إلّا
شهادة الإسلام.
فوجب الوقوف عند
هذه النصوص كلها المفسرة للنص المجمل. ثم يقال لهم : أخبرونا عمن لم يعمل شرا قط
إلا اللمم ، ومن همّ بالشر فلم يفعله ..؟ فمن قول أهل الحق : إنه مغفور له جملة ،
بقوله تعالى : (إِلَّا اللَّمَمَ) [سورة النجم : ٣٢]
وبقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تخرجه بقول أو عمل».
قال أبو محمد :
وهذا ينقسم أقساما أحدها : من هم بسيئة أي شيء كانت من السيئات ، ثم تركها مختارا
لله تعالى ، فهذا تكتب له حسنة ، فإن تركها مغلوبا لا مختارا
__________________
لم تكتب له حسنة
ولا سيئة تفضلا من الله عزوجل ، ولو عملها كتبت له سيئة واحدة ، ولو هم بحسنة ولم يعملها
، كتبت له حسنة واحدة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها. وهذا كله نص كلام رسول
الله صلىاللهعليهوسلم . وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا فذهب إلى أن الهم بالسيئة
إصرار عليها ، فقلت له : هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء
بعد تماد على نية أن يفعله ، وأما من همّ بما لم يفعل بعد فليس إصرارا. قال الله
تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة آل عمران
آية رقم ١٣٥].
ثم نسألهم عمن عمل
السيئات ، حاشا الكبائر عددا عظيما ولم يأت كبيرة قط ومات على ذلك ، أيجوّزون أن
يعذبه الله تعالى على ما عمل من السيئات أم تقولون إنها مغفورة له ولا بدّ ...؟
فإن قالوا : إنها
مغفورة له ولا بد صدقوا ، وكانوا قد خصوا قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) [سورة النساء آية
رقم ٤٨].
وتركوا حمل هذه
الآية على عمومها فلا ينكروا ذلك على من خصها أيضا بنص آخر.
وإن قالوا : بل
جائز أن يعذبهم الله تعالى على ذلك ، أكذبهم الله تعالى بقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً) [سورة النساء آية
رقم ٣١].
ونعوذ بالله من
تكذيب الله عزوجل.
ثم نسألهم عمن عمل
من الكبائر ومات عليها ، وعمل حسنات رجحت بكبائره عند الموازنة ، أيجوز أن يعذبه
الله تعالى بما عمل من تلك الكبائر ، أم هي مغفورة له ساقطة عنه ...؟
فإن قالوا : بل هي
مغفورة له وساقطة عنه صدقوا ، وكانوا قد خصوا عموم قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) وجعلوا هؤلاء ممن شاء ، ولا بد أن يغفر لهم ، وإن قالوا :
بل جائز أن يعذبهم ، أكذبهم الله تعالى بقوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [سورة القارعة ٦ ،
٧]. وبقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود آية رقم
١١٤].
__________________
قال أبو محمد :
وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلا.
فقد صح يقينا أن
هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك ، فبقي الذين لم
يشإ الله تعالى أن يغفر لهم ، ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في
الموازنة على حسناته ، فهم الذين يجازون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة
، وبرحمة الله عزوجل. فقالوا : من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ، ومنهم من
يعذبه ، قلنا لهم : أعندكم بهذا البيان نص؟ وهم لا يجدونه أبدا فظهر تحكمهم بلا
برهان ، وخلافهم لجميع الآيات والأخبار والآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على
أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة ، لأن الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية
رقم ٤٨].
ولا خلاف في أنه
تعالى يغفر الشرك لمن آمن ، فصح أنها مجملة يفسرها سائر الآيات والأخبار ، وكذلك
حديث عبادة : «خمس
صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئا كان له عند
الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن
شاء عذبه».
فإنهم متفقون على
أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئا إلا أنه قتل ، وزنا ، وسرق ، فإنه قد يعذب
، ويقولون إن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأبيد ، بل يعذب ثم يخرج عن النار.
قال أبو محمد :
هذا ترك منهم أيضا لظاهر هذا الخبر.
قال أبو محمد :
ولا فرق بين قول الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وبين قوله : (وَأَمَّا مَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [سورة القارعة آية
رقم ٦]. كلاهما خبر ، إن جاز إبطال أحدهما جاز إبطال الآخر ، ومعاذ الله من هذا
القول. وكذلك قد منع الله تعالى من هذا القول ، بقوله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة ق آية رقم
٢٨ و ٢٩].
ونحن نقول إن الله
تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وأنّ كل
أحد فهو في مشيئة الله تعالى ، إلا أننا نقول : إنه تعالى
__________________
قد بين من يغفر
لهم ، ومن يعذب ، وأن الموازين حق ، والموازنة حق ، والشفاعة حق ، وبالله تعالى
التوفيق.
حدثنا محمد بن
سعيد بن بيان ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن
عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا وكيع بن الجراح ، حدثنا سفيان
الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ
غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [سورة هود آية رقم
١٠٩] قال : «ما وعدوا فيه من خير وشر» وهذا هو نص قولنا.
وقد ادعى قوم أن
إخلاف الوعيد حسن عند العرب ، وأنشدوا :
وإنّي وإن
أوعدته أو وعدته
|
|
لمخلف إيعادي
ومنجز وعدي
|
قال أبو محمد :
وهذا لا شيء ، ما جعل الله فخر صبي أحمق كافر حجة على الله تعالى قال الراجز :
أحيا أباه هاشم
بن حرملة
|
|
يرى الملوك حوله
مغربله
|
يقتل ذا الذنب ،
ومن لا ذنب له وقد جعلت العرب مخلف الوعد كاذبا. قال الشاعر أنشده أبو
عبيدة معمر بن المثنى :
أتوعدني وراء
بني رباح
|
|
كذبت لتقصرن
يداك دوني
|
__________________
فإن قالوا : خصوا
وعيد الشرك بالموازنة. قلنا : لا يجوز ، لأن الله تعالى منع من ذلك ، قال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢١٧].
فمن حبط عمله فلا
خير له.
قال أبو محمد :
وأهل النار متفاضلون في عذاب النار فأقلهم عذابا أبو طالب فإنه توضع جمرتان من
النار في أخمصيه إلى أن يبلغ الأمر إلى قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذابِ) [سورة غافر آية
رقم ٤٦].
وقال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [سورة النساء آية
رقم ١٤٥] ولا يكون الأشد إلا إلى جنب الأدون.
وقال تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ
الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) [سورة السجدة آية
رقم ٢١].
قال أبو محمد :
والكفار معذبون على المعاصي التي عملوا من غير الكفر. برهان ذلك قول الله سبحانه
وتعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى
أَتانَا الْيَقِينُ) [سورة المدثر آية
رقم ٤٠ إلى ٤٧].
فنص تعالى على أن
الكفار يعذبون على ترك الصلاة وعلى ترك الطعام للمسكين.
قال أبو محمد :
وأما من عمل منهم العتق ، والصدقة ، أو نحو ذلك من أعمال البر فحابط كل ذلك ، لأن
الله عزوجل قال : إنه من مات كافرا حبط عمله. لكن لا يعذب الله أحدا
إلا على ما عمل ، لا على ما لم يعمل.
قال الله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) [سورة النمل آية
رقم ٩٠].
__________________
فلما كان من لا
يطعم المسكين من الكفار يعذب على ذلك عذابا زائدا لأنه لم يطعم المسكين فالذي أطعم
المسكين مع كفره لا يعذب ذلك العذاب الزائد ، فهو أقل عندنا عذابا لأنه لم يعمل من
الشر ما عمل من هو أشد عذابا منه لا لأنه عمل خيرا.
قال أبو محمد :
وكل كافر عمل خيرا وشرا ثم أسلم فإن كان ما عمل من خير يكون له مجازى به في الجنة
، وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه ، وإن تمادى عليه أخذ
بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه.
برهان ذلك : حديث
حكيم بن حزام عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : يا رسول الله أشياء كنت أتحنّث بها في الجاهليّة
من عتق وصدقة وصلة رحم؟ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أسلمت
على ما سلف لك من خير» فأخبر أنه خير وأنه له إذ أسلم.
وقالت له عائشة
رضي الله عنها : يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه يصل الرّحم ، ويقري الضّيف ، أينفعه
ذلك؟ قال : «لا.
لأنّه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين» . فأخبر عليهالسلام أنه لم ينتفع بذلك لأنه لم يسلم.
فاتفقت الأخبار
كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك.
وأما مؤاخذته بما
عمل فحديث ابن مسعود رضي الله عنه بنص ما قلنا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما قلناه.
فإن اعترض معترض
بقوله الله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر آية
رقم ٦٥].
قلنا : إنما هذا
لمن مات مشركا فقط.
برهان ذلك أن الله
تعالى قال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وبيقين ندري أن من أسلم فليس من الخاسرين فقد بين ذلك
بقوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢١٧] وإن اعترضوا فيما قلنا من المؤاخذة بما عمل في الكفر لقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [سورة الأنفال آية
رقم ٣٨].
__________________
قلنا لهم : هذا
حجة لنا لأن من انتهى عن الكفر غفر له ، وإن انتهى عن الزنا غفر له ، وإن لم ينته
عن الزنا لم يغفر له ، فإنما يغفر له ما انتهى عنه ، ولم يغفر له ما لم ينته عنه.
ولم يقل تعالى :
إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم سائر ذنوبهم.
والزيادة في الآية
كذب على الله تعالى وهي أعمال متغايرة كما ترى ليست التوبة عن بعضها توبة عن
سائرها. فلكل واحد منهما حكمه ، فإن ذكروا حديث عمرو بن العاص عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «الإسلام يجبّ ما قبله».
فقد قلنا : إن
الإسلام اسم لجميع الطاعات ، فمن أصر على المعصية فليس فعله في المعصية التي
يتمادى عليها إسلاما ، ولا إيمانا ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا
يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن».
فصح أن الإسلام ،
والإيمان هو جميع الطاعات ، فإذا أسلم من الكفر وتاب من جميع معاصيه فهو الإسلام
الذي يجبّ ما قبله.
وإذا لم يتب من
معاصيه فلم يحسن في الإسلام ، فهو مأخوذ بالأول والآخر ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبهذا تتفق الأحاديث وكذلك قوله عليهالسلام : «والهجرة
تجبّ ما قبلها».
فقد صح عنه عليهالسلام أنّ «المهاجر
من هجر ما نهاه الله عنه» فمن تاب من جميع المعاصي التي سلفت منه فقد هجر ما نهاه الله عنه فهذه هي
الهجرة التي تجبّ ما قبلها.
وأما قوله عليهالسلام : «والحجّ
يجبّ ما قبله» فقد جاء «أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما
، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنة» . فهذا على
__________________
الموازنة التي
ربنا عزوجل عالم بمراتبها ، ومقاديرها ، وإنما نقف حيث وقفنا الله
تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
واستدركنا قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قاتل نفسه : «حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» ، مع قوله : «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه
حرّم الله عليه النّار وأوجب له الجنّة».
قال أبو محمد :
قال الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم آية
رقم ٣ و ٤] فصح أن كلامه صلىاللهعليهوسلم كله وحي من عند الله وقال عزوجل (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء آية
رقم ٨٣] فصح أن كل ما قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم فمن عند الله تعالى ، وأنه لا اختلاف في شيء منه وأنه كله
متفق عليه ، فإذ ذلك كذلك فواجب ضم هذه الأخبار بعضها إلى بعض فيلوح الحق حينئذ
بحول الله وقوته ، فمعنى قوله صلىاللهعليهوسلم في القاتل : «حرم الله عليه الجنة ، وأوجب له النار» ، مبني على الموازنة فإن رجحت كبيرة قتله نفسه على حسناته
حرم الله عليه الجنة ، حتى يقتص منه بالنار ، التي أوجبها الله تعالى جزاء على
فعله ، وبرهان هذا الحديث الذي أسلم وهاجر مع عمرو بن حممة الدوسي ثم قتل نفسه
لجراح جرح به فتألم منه فقطع عروق يده فنزف حتى مات فرآه بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم في حال حسنة إلا يده وذكر أنه قيل له لن يصلح منك ما أفسدت
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم
وليديه فاغفر» ... ومعنى قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من
قال لا
__________________
إله
إلا الله مخلصا من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة» فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهره منفردا لكن
يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام ، ومعناه حينئذ أن
الله عزوجل أوجب له الجنة ولا بد ، إما بعد الاقتصاص ، وإما دون
الاقتصاص على ما توجبه الموازنة ، وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها
القاطنين فيها على ما بينا قبل من قوله تعالى : (لا أُضِيعُ عَمَلَ
عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [سورة آل عمران
آية رقم ١٥٣] (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) [سورة النساء آية
رقم ١٢٣].
(وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ١٤٣].
(ما يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [سورة آل عمران
آية رقم ١١٥].
وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ
النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [سورة المائدة آية
رقم ١٣٧] فنص الآية أنها في الكفار هكذا في نص الآية.
قال أبو محمد :
وأما الكبائر فإن الله تعالى قال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً) [سورة النساء آية
رقم ٣١].
قال أبو محمد :
فمن المحال أن يحرم الله تعالى علينا أمرا ويفرق بين أحكامه ويجعل بعضه مغفورا
باجتناب بعض ومؤاخذا به إن لم يجتنب البعض الآخر ، ثم لا يبين لنا المهلكات من
غيرها فنظرنا في ذلك فوجدنا قوما يقولون إن كل ذنب فهو كبيرة.
قال أبو محمد :
وهذا خطأ لأن نص القرآن مفرق كما قلنا بين الكبائر وغيرها وبالضرورة ندري أنه لا
تكون كبيرة إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها ، والكبائر أيضا تتفاضل فالشرك أكبر
مما دونه ، والقتل أكبر من غيره.
وقد قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «إنهما
ليعذّبان وما يعذّبان في كبير (وإنه لكبير) أمّا أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله
وأمّا الآخر فكان يمشي بالنّميمة» فأخبر عليه
__________________
السلام أنهما كبير
، وما هما بكبير ، وهذا بين لأنهما كبيران بالإضافة إلى الصغائر المغفورة باجتناب
الكبائر ، وليسا بكبيرين بالإضافة إلى الكفر والقتل.
قال أبو محمد :
فبطل القول المذكور ، فنظرنا في ذلك فوجدنا معرفة الكبير من الذنوب مما ليس بكبير
منها لا يعلم البتة إلا بنص وارد فيها ، إذ هذا من أحكام الله تعالى التي لا يعرف
إلا من عنده تعالى فبحثنا عن ذلك فوجدنا الله تعالى قد نص بالوعيد على ذنوب في
القرآن وعلى لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم وقد وجدنا ذنوبا أخر لم ينص عليها بوعيد ، فعلمنا يقينا أن
كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار أو توعد عليه رسوله صلىاللهعليهوسلم بالنار فهو كبير وكل ما نص عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم باستعظامه فهو كبير ، كقوله عليهالسلام :
«اتّقوا السّبع
الموبقات ... الشّرك والسّحر والقتل والزّنا» وذكر الحديث.
وكقوله عليهالسلام : «عقوق
الوالدين من الكبائر» .
وكل ما لم يأت نص
باستعظامه ، ولا جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير ، ولا يمكن أن يكون الوعيد بالنار
على الصغائر على انفرادها لأنها مغفورة باجتناب الكبائر فصح ما قلناه.
وبالله تعالى
التوفيق.
__________________
الموافاة
قال أبو محمد :
اختلف المتكلّمون في معنى عبروا عنه بلفظ الموافاة وهم أنهم قالوا في إنسان مؤمن
صالح مجتهد في العبادة ثم مات مرتدا كافرا وآخر كافر متمرد ، أو فاسق ، ثم مات
مسلما تائبا : كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله
تعالى.؟
فذهب هشام بن عمرو
الفوطي وجميع الأشعرية ، إلى أن الله عزوجل لم يزل راضيا عن الذي مات مسلما تائبا ، ولم يزل ساخطا على
الذي مات كافرا أو فاسقا.
واحتجوا في ذلك
بأن الله عزوجل لا يتغير علمه ، ولا يرضى ما سخط ، ولا يسخط ما رضي.
وقالت الأشعرية :
الرضا من الله عزوجل والسخط منه تعالى من صفات الذات لم يزالا ولا يتغيران ،
وذهب سائر المسلمين إلى أن الله عزوجل كان ساخطا على الكافر والفاسق ، ثم رضي الله عنهما إذ أسلم
الكافر ، وتاب الفاسق. وأنه تعالى كان راضيا عن المسلم وعن الصالح ثم سخط عليهما
إذ كفر المسلم وفسق الصالح.
قال أبو محمد :
احتجاج الأشعرية هاهنا هو احتجاج اليهود في إبطال النسخ ولا فرق ، ونحن نبين بطلان
احتجاجهم ، وبطلان قولهم ، وبالله تعالى التوفيق ، فنقول وبالله عزوجل نتأيد :
أما قولهم : إن
علم الله عزوجل لا يتغير فصحيح ، ولكن معلوماته تتغير ، ولم نقل إن علمه
يتغير ، ومعاذ الله من هذا ، ولم يزل علمه تعالى واحدا يعلم كل شيء على تصرفه في
جميع حالاته.
فلم يزل يعلم أن
زيدا سيكون صغيرا ، ثم شابا ثم كهلا ، ثم شيخا ، ثم ميتا ، ثم مبعوثا ، ثم في
الجنة ، أو في النار ، ولم يزل يعلم أنه سيؤمن ثم يكفر ، أو أنه يكفر ثم يؤمن ، أو
أنه يكفر ولا يؤمن ، أو أنه يؤمن ولا يكفر.
وكذلك القول في
الفسق والصلاح ، ومعلوماته تعالى في كل ذلك متغيرة مختلفة ومن كابر هذا فقد كابر
العيان والمشاهدات.
وأما قولهم : إن
الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى
اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ، ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه ثم نسخ كل ذلك
وأبطله فرضي منهم أكل الشحوم والعمل في السبت وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر
، ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ، ورضي لنا شرب الخمر وأكل
رمضان ، والبقاء بلا صلاة ، وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كما قال تعالى
: (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [سورة طه آية رقم
١١٤]. ثم فرض علينا الصلاة والصوم ، وحرم علينا الخمر ، فسخط لنا ترك الصلاة وأكل
رمضان ، وشرب الخمر ، ورضي لنا خلاف ذلك ، وهذا لا ينكره مسلم. ولم يزل الله تعالى
عليما أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ، ثم إنه سيحرمه ويسخطه
وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم إنه يحله ويرضاه كما علم عزوجل أنه سيحيي من أحياه مدة كذا ثم يميته ، وأنه يعز من أعزه
مدة ثم يذله ، وهكذا جميع ما في العالم من آثار صنعه عزوجل لا يخفى ذلك على من له أدنى حس ، وهكذا المؤمن يموت مرتدا
، والكافر يموت مسلما ، فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخط فعل الكافر ما دام
كافرا ، ثم إنه يرضى عنه إذا أسلم ، وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال
المسلم ، وأفعال البر ، ثم إنه يسخط أفعاله إذا ارتد ، أو فسق ، ونص القرآن يشهد
بذلك قال تعالى : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [سورة الزمر آية
رقم ٧].
فصح يقينا أن الله
تعالى يرضى الشكر ، ممن شكره إذا شكره فيما شكره ، ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر
متى كفر ، كيف كان انتقال هذه الأحوال من الإنسان الواحد ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢١٧] فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير
حابط ، ومن المحال أن يحبط عمل لم يكن محسوبا قط ، فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم
مات كافرا أنه كان محسوبا ثم حبط إذ ارتد وكذلك قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [سورة الرعد آية
رقم ٣٩].
فصح أنه لا يمحو
إلا ما كان قد كتبه ومن المحال أن يمحي ما لم يكن مكتوبا وهذا بطلان قولهم يقينا
ولله الحمد ، وكذلك نص قوله تعالى (فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [سورة الفرقان آية
رقم ٧٠].
فهذا نص قولنا ،
وبطلان قولهم ، لأن الله تعالى سمى أفعالهم الماضية سيئات والسيئات مذمومة عنده
تعالى بلا شك ، ثم أخبر تعالى أنه أحالها وبدلها حسنات مرضية ، فمن أنكر هذا فهو
مكذب لله تعالى والله تعالى مكذب له ، وكذلك قال الله تعالى أنه سخط أكل آدم من
الشجرة ، وذهاب يونس مغاضبا ، ثم أخبر عزوجل أنه تاب عليهما ، واجتبى يونس بعد أن لامه ، ولا يشك كل ذي
عقل أن اللائمة غير الاجتباء.
قال أبو محمد : ثم
نقول لهم : أفي الكافر كفر إذا كان كافرا قبل أن يؤمن ، وفي الفاسق فسق قبل أن
يتوب ، وفي المؤمن إيمان قبل أن يرتد أم لا ..؟ فإن قالوا : لا كابروا وأحالوا ،
وإن قالوا : نعم. قلنا لهم : فهل يسخط الله الكفر والفسق أو يرضى عنهما؟ فإن قالوا
بل يسخطهما تركوا قولهم. وإن قالوا : بل يرضى عن الكفر والفسق ، كفروا. ونسألهم عن
قتل وحشي حمزة رضي الله عنه أرضا كان لله تعالى؟ فإن قالوا : نعم كفروا ، وإن
قالوا : بل ما كان إلا سخطا ، سألناهم أيؤاخذه الله تعالى به إذا أسلم؟ فمن قولهم
: لا. وهكذا في كل حسنة ، وسيئة ، فظهر فساد قولهم ، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله على
محمد وآله وصحبه وسلم.
الكلام في من لم تبلغه الدعوة ومن تاب عن ذنبه
أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه
قال أبو محمد :
قال الله عزوجل : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ) [سورة الأنعام آية
رقم ١٩].
وقال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء آية
رقم ١٥].
فنص تعالى على أن
النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه ، وأنه تعالى لا يعذب أحدا حتى يأتيه
رسول من عند الله عزوجل.
فصح بذلك أنّ من
لم يبلغه الإسلام أصلا فإنه لا عذاب عليه.
وهكذا جاء النص عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنه
يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف ، والأصلح الأصم ، ومن كان في الفترة والمجنون ،
فيقول المجنون : يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ، ويقول الخرف الأصم والذي في
الفترة أشياء ذكرها ، فيوقد لهم نار ، ويقال لهم ادخلوها ، فمن دخلها وجدها بردا
وسلاما» وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا
ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول
الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع ، فلا يبلغ إلى جعفر
وأصحابه أصلا ، لانقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة ، وبقوا كذلك ست
سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئا إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض.
قال أبو محمد :
ورأيت قوما يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلا بها ولا من لم تبلغه.
قال أبو محمد :
وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إلى الإنس كلهم ، وإلى الجن كلهم ، وإلى كل من لم يولد
إذا بلغ بعد الولادة.
__________________
قال أبو محمد :
قال الله تعالى آمرا له أن يقول : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [سورة الأعراف آية
رقم ١٥٨]. وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحد.
وقال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدىً) [سورة القيامة آية
رقم ٣٦].
فأبطل سبحانه أنه
يكون أحد سدى ، والسدى : هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى ، فأبطل عزوجل هذا الأمر ، ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط ،
وأما من بلغه ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه ، فإذا
بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به ، واتباعه ، وطلب الدين اللازم له ، والخروج عن
وطنه لذلك ، وإلا فقد استحق الكفر ، والخلود في النار ، والعذاب بنص القرآن ، وكل
ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أنه في حين بعث النبي صلىاللهعليهوسلم يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ، ومعرفة شرائعه ، فإن
ماتوا في تلك الحال ماتوا كفارا إلى النار ، ويبطل هذا قول الله عزوجل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٨٦] وليس في وسع أحد علم الغيب.
فإن قالوا : فهذه
حجة الطائفة القائلة إنه لا يلزم أحدا شيء من الشرائع حتى تبلغه ، قلنا : لا حجة
لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم ، واحتمال بنيتهم ، إلا أنهم معذورون
بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفا يعذبون به إن لم يفعلوه ، وإنما كلفوه تكليف
من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن له أمرا من الحكم مجملا أو لم يبلغه نصه ، ففرض عليه
إجهاد نفسه في طلب ذلك الأمر ، وإلا فهو عاص لله عزوجل.
قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة الأنبياء
آية رقم ٧].
وبقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [سورة التوبة آية
رقم ١٢٢].
وأما من تاب عن
ذنب أو كفر ، ثم رجع إلى ما تاب عنه ، فإنه إن كانت توبته تلك وهو معتقد للعودة
فهو عابث ، مستهزئ ، مخادع لله تعالى ، قال الله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إلى قوله : (عَذابٌ أَلِيمٌ بِما
كانُوا يَكْذِبُونَ) [سورة البقرة آية
رقم ٩ ، ١٠].
وأما من كانت
توبته نصوحا ، ثابت العزيمة في أن لا يعود ، فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة
لكل ما تاب عنه بالنص.
قال عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [سورة طه آية رقم
٨٢] فإن عاد بعد
ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد غفره الله له أبدا ، فإن ارتد
ومات كافرا فقد سقط عمله والتوبة عمل فقد حبطت ، فهذا يعود عليه كل ما عمل خاصة.
وأما من راجع
الإسلام ومات عليه فقد سقط عنه الكفر وغيره.
قال أبو محمد :
ولا تكون التوبة إلا بالندم ، والاستغفار ، وترك المعاودة ، والعزيمة على ذلك ،
والخروج من مظلمة إن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ، ورأيت لأبي بكر أحمد بن
علي بن بيغجور المعروف بابن الإخشيد وهو أحد أركان المعتزلة ، وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة
من الأتراك وولي أبوه الثغور ، وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي ، فرأيت له في
بعض كتبه يقول : إن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك
الكبيرة.
قال أبو محمد :
هذا أشنع ما يكون من قول المرجئة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على
كل ذنب يعمله عالما بأنه مسيء فيه مستغفر منه ، ومن كان بخلاف هذه الصفة لكان
مستحسنا لما فعل غير نادم عليه فليس مسلما ، فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن
الإخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها ، وهذا خلاف الوعيد.
فإن قال قائل :
فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن ، أفتقطعون على قبول توبة التائب ، وعمل
العامل للخير ، إن كان ذلك مقبولا؟
وهل تقطعون على
المكثر من السيئات أنه في النار ..؟
قلنا وبالله تعالى
التوفيق :
إن الأعمال لها
شروط من توفية النية حقها وتوفية صفة العمل حقه ، فلو أيقنا أن العمل وقع كاملا
كما أمر الله تعالى لقطعنا على قبول الله عزوجل له ، وأما التوبة فإذا وقعت نصوحا فنحن نقطع بقبولها ،
وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة ، وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار
، فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في النفوس ولعل
__________________
المظهر الخير مبطن
للكفر أو مبطن على كبائر لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء ، وكذلك
المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن
فاستحق الجنة ، أو لعلّ له حسنات في باطن حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي
الله عنهم بأنهم في الجنة ، وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ،
وأهل بدر وأهل السوابق ، فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك
على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وحاشا من مات معلنا للكفر ، فإنا نقطع عليه بالنار ،
ونقف فيمن عدا هؤلاء. إلا أننا نقطع على الصفات فنقول : من مات معلنا للكفر ، أو
مبطنا له فهو في النار خالدا فيها ، ومن أتى الله تعالى راجح الحسنات على السيئات
والكبائر أو متساويهما فهو في الجنة ، لا يعذب بالنار.
ومن لقي الله
تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ، ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله
تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال ، وهو أن من كان مظهرا لشيء من
الديانات ، متحملا للأذى فيه غير مستجلب بما يلقى من ذلك حالا ، فإنه مقطوع على
باطنه وظاهره قطعا لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري
وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو معهم أو بعدهم ، فإن هؤلاء رضي الله عنهم
رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئا ، واحتملوا من المضنى ما
لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح ذلك فيهم عند أحد ، فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله
عزوجل ، وعلى خيرهم وفضلهم ، وكذلك نقطع على أن عمرو بن عبيد كان
يدين بإبطال القدر بلا شك في باطن أمره ، وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما
كانا في باطن أمرهما يدينان لله تعالى بالقياس ، وأن داود بن علي كان في باطن
الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك ، وأن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان
يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك ، وبأن القرآن غير مخلوق بلا
شك ، وهكذا كل أمر تناصرت أحواله ، وظهر جده ، في معتقد ما ، وترك المسامحة فيه ،
واحتمل الأذى والمضض من أجله.
قال أبو محمد :
وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة
لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها ، وبالله تعالى التوفيق.
ولا بد لكل ذي عقد
من أن يبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه ، أو صبر عليه.
وأما من كان بغير
هذه الصفة فلا نقطع على عقده ، وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الشفاعة والميزان والحوض والصراط
وعذاب القبر والفتنة
قال أبو محمد :
اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم ، وهم المعتزلة ، والخوارج ، وكل من منع أن
يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها ، وذهب أهل السنة ، والأشعرية ، والكرامية ،
وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة ، واحتج المانعون منها بقول الله عزوجل : (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [سورة المدثر آية
رقم ٤٨].
وبقوله عزوجل : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [سورة الانفطار
آية رقم ١٩].
وبقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا
وَلا رَشَداً) [سورة الجن آية
رقم ٢١].
وبقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [سورة البقرة آية
رقم ٤٨].
وبقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٥٤].
وبقوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ) [سورة الشعراء آية
رقم ١٠٠].
وبقوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا
تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [سورة البقرة آية
رقم ١٢٣].
قال أبو محمد : من
يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ، ولا على بعض السنن
دون بعض ، ولا على القرآن دون بيان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، الذي قال له ربه عزوجل (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [سورة النحل آية
رقم ٤٤].
وقد نص الله تعالى
على صحة الشفاعة في القرآن.
فقال تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ
اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [سورة مريم آية
رقم ٨٧].
فأوجب عزوجل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهدا بالشفاعة ونفاها عن سواه
فقد اتخذ محمد صلىاللهعليهوسلم عند الله عهدا بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة
المتناصرة ، بنقل الكواف لها.
وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [سورة طه آية رقم
١٠٩].
وقال تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سورة سبأ آية رقم
٢٣].
فنص تعالى على أن
الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عزوجل ، ممن أذن له فيها ، ورضي قوله ، ولا أحد من الناس أولى
بذلك من محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأنه أفضل ولد آدم عليهالسلام.
وقال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) [سورة البقرة آية
رقم ٥٥].
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [سورة النجم آية
رقم ٢٦].
وقال تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف آية
رقم ٨٦].
وقال تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [سورة يونس آية
رقم ٣].
فقد صحت الشفاعة
بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقينا أن الشفاعة
التي أبطلها الله عزوجل ، هي غير الشفاعة التي أثبتها عزوجل ، وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطل عزوجل هي الشفاعة للكفار ، الذين هم مخلدون في النار.
قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [سورة فاطر آية
رقم ٣٦]. نعوذ بالله منها ، فإذ لا شك فيه ، فقد صح يقينا أن الشفاعة التي أوجب
الله عزوجل لمن أذن له ، واتخذ عنده عهدا ، ورضي قوله ، فإنما هي لمذنبي
أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت .
قال أبو محمد :
وهما شفاعتان إحداهما عامة لكل محسن ومسيء في تعجيل
__________________
الحساب يوم
القيامة ، وإراحة الناس مما هم فيه من هول الموقف وشنعة الحال وهو المقام المحمود
، الذي جاء النص في القرآن به ، في قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [سورة الإسراء آية
رقم ٧٩] وهكذا جاء الخبر الثابت نصا.
والشفاعة الثانية
: في إخراج أهل الكبائر من النار ، طبقة طبقة ، على ما صح في ذلك الخبر.
وأما قول الله
تعالى : (قُلْ إِنِّي لا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) [سورة الجن آية
رقم ٢١] (يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [سورة الانفطار
آية رقم ١٩].
فما خالفناهم في
هذا أصلا ، وليس هذا من الشفاعة في شيء ، فنعم لا يملك أحد لأحد نفعا ، ولا ضرا ،
ولا رشدا ، ولا هدى ، وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى ، وضراعة ، ودعاء.
وقال بعض منكري الشفاعة : إن الشفاعة ليست إلا في المحسنين فقط.
واحتجوا بقوله
تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [سورة الأنبياء
آية رقم ٢٨].
قال أبو محمد :
وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن من أذن الله في إخراجه من النار وإدخاله الجنة ، وأذن
للشافع في الشفاعة له في ذلك ، فقد ارتضاه ، وهذا حق وفضل الله تعالى على من قد
غفر له ذنوبه ، بأن رجحت حسناته على كبائره ، أو بأن لم تكن له كبيرة ، أو بأن تاب
عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع ، فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر
به إلى الجنة ففي ما ذا يشفع له؟ وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره على
حسناته ، فأدخل النار ، ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة ، وكذلك الخلق
في كونهم في الموقف هم أيضا في مقام شنيع فهم أيضا محتاجون إلى الشفاعة وبالله
تعالى التوفيق ، وبما صحت به الأخبار من ذلك. نقول : وأما الميزان فقد أنكره قوم
فخالفوا كلام الله تعالى جرأة ، وإقداما ، وتنطع آخرون ، فقالوا : هو ميزان بكفتين
من ذهب ، وهذا إقدام آخر لا يحل ، قال الله عزوجل : (وَتَقُولُونَ
بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ
عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [سورة النور آية
رقم ١٥].
قال أبو محمد :
وأمور الآخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن الكريم ، أو بما جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولم يأت عنه عليهالسلام شيء يصح في صفة الميزان ، ولو صح عنه عليهالسلام في ذلك شيء لقلنا به ، فإذ لا يصح عنه عليهالسلام في ذلك شيء فلا يحل لأحد أن يقول على الله عزوجل ما لم يخبرنا به ، لكن نقول كما قال الله عزوجل : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إلى قوله : (وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء
آية رقم ٤٧].
وقال تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) [سورة الأعراف آية
رقم ٨].
وقال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ
هاوِيَةٌ) [سورة القارعة آية
رقم ٦ إلى ٩].
فنقطع على أن
الموازين توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد.
قال تعالى عن
الكفار : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [سورة الكهف آية
رقم ١٠٥].
وليس هذا على أن
لا توزن أعمالهم ، بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف ، قد نص الله تعالى
على ذلك إذ يقول : (وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) إلى قوله : (فَكُنْتُمْ بِها
تُكَذِّبُونَ) [سورة المؤمنون
آية رقم ١٠٣].
فأخبر عزوجل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم ، والمكذبون بآيات
الله عزوجل كفار بلا شك ، ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عزوجل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر ، من مقدار الذرة
التي لا يحس وزنها في موازيننا أصلا ، فما زاد ، ولا ندري كيف تلك الموازين ، إلا
أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا ، وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثقل من
ميزان من تصدق بدابة وليس هكذا وزن الدنيا وندري أن إثم القاتل أعظم من إثم اللاطم
، وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي مثلها من التطوع ، بل بعض الفرائض
أعظم أجرا من بعض ، فقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنّ
من صلى الصّبح في جماعة كمن قام ليلة ، ومن صلّى العتمة في جماعة فكأنّما قام نصف
ليلة» وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال ، فإنما يوزن عمل العبد
خيره مع شره ، ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل ، وأما من قال بما
لا يدري من أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قاله قياسا على موازين الدنيا وقد أخطأ
في قياسه ، إذ في موازين الدنيا ما لا كفة له كالقرسطون ، وأما نحن فإنما اتبعنا
النصوص الواردة في ذلك فقط ، ولا نقول إلا بما جاء به قرآن ، أو سنة
__________________
صحيحة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ، ولا تكذيب إلا بما فيهما
إبطاله وبالله تعالى التوفيق.
«وأما الحوض»
فقد صحت الآثار
فيه وهو كرامة للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ولمن ورد عليه من أمته. ولا ندري لمن أنكره متعلقا إلا
الجهل بالآثار ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق.
«وأما الصراط»
فقد ذكرناه في
الباب الأول الذي قبل هذا ، وأنه كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يوضع
الصّراط بين ظهراني جهنّم ويمرّ عليه النّاس فمخدوج وناج ومكدوس في
نار جهنّم» وأن الناس يجيزون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون
ذلك إلى من يقع في النار ، وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى
السماء ، وهو معنى قول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [سورة مريم آية
رقم ٧١ ، ٧٢].
وأما كتاب
الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً
__________________
كاتِبِينَ) [سورة الانفطار
آية رقم ١٠ ، ١١].
وقال تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) [سورة الجاثية آية
رقم ٢٩].
وقال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً
اقْرَأْ كِتابَكَ) [سورة الإسراء آية
رقم ١٣ ، ١٤].
وقال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [سورة ق آية رقم
١٧ ، ١٨].
قال أبو محمد :
وكل هذا لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام ، إلا أنه لا يعلم أحد من
الناس كيفية ذلك الكتاب.
عذاب القبر
قال أبو محمد :
ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر.
وهو قول من لقينا
من الخوارج.
وذهب أهل السنة
وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به.
وبه نقول لصحة
الآثار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد :
وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [سورة غافر آية
رقم ١١].
وبقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ
أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٨] الآية.
قال أبو محمد :
وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط
بعد فراقه للجسد إثر ذلك ، قبر أو لم يقبر.
برهان ذلك قول
الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ) الآية [سورة الأنعام الآية : ٩٣].
وهذا قبل القيامة
بلا شك وإثر الموت وهذا هو عذاب القبر.
وقال تعالى : (إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران
آية رقم ١٨٥].
وقال تعالى في آل
عمران (النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر آية
رقم ٤٦].
فهذا العرض
المذكور هو عذاب القبر ، وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في
أكثر الموتى أنهم يقبرون.
وقد علمنا أن فيهم
أكيل السبع ، والغريق تأكله دواب البحر ، والمحرق ،
__________________
والمصلوب ،
والمعلق ، فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان
لهؤلاء فتنة ، ولا عذاب قبر ، ولا مساءلة ، ونعوذ بالله من هذا ، بل كل ميت فلا بد
له من فتنة ، وسؤال ، وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم
وينقلبون إلى الجنة أو النار.
وأيضا فإن جسد كل
إنسان فلا بد له من العود إلى التراب يوما ما ، كما قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ
وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [سورة طه آية رقم
٥٥].
فكل من ذكرنا من
مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رمادا أو رجيعا ، أو يتقطع
فيعود إلى الأرض ، ولا بدّ ، وكل مكان استقرت فيه النفس إثر خروجها من الجسد فهو
قبر لها إلى يوم القيامة ، وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي
ذكرنا تمنع من ذلك ، ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا وأحيانا ثلاثا ، وهذا
باطل ، وخلاف القرآن ، إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء. (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٤٢]. (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ
بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٥٩].
وكذلك قوله تعالى
: (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) إلى قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الزمر آية
رقم ٤٢].
فصح بنص القرآن أن
روح من مات لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى ، وهو يوم القيامة ، وكذلك أخبر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا عن يمين آدم
عليهالسلام أرواح أهل السعادة ، وعن شماله أرواح أهل الشقاء ، وأخبر عليهالسلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقا
قبل أن يكون لهم قبور ، فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيّفوا فقال عليهالسلام «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» فلم ينكر عليهالسلام على المسلمين قولهم إنهم قد جيّفوا وأعلمهم أنهم سامعون
فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك ، وأما الجسد فلا حس له.
قال أبو محمد :
ولم يأت قط عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في خبر يصح أن أرواح
__________________
الموتى ترد إلى
أجسادهم عند المساءلة ، ولو صحّ ذلك عنه عليهالسلام لقلنا به ، فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقوله ، وإنما
انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده ، وليس بالقوي ، تركه شعبة
وغيره ، وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك ، وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن
الصحابة رضي الله عنهم ، لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد
بن بيان حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا عيسى بن حبيب ، حدثنا عبد الله بن عبد
الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله ، عن سفيان بن
عيينة : عن منصور ابن صفية ، عن أمه صفية بنت شيبة ، قالت : دخل ابن عمر المسجد
فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب ، فقيل له : هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق ،
فمال إليها فعزاها ، وقال : إن هذه الجثث ليست بشيء ، وإن الأرواح عند الله ،
فقالت أسماء : وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني
إسرائيل. وحدثنا محمد بن بيان ، حدثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن أصبغ ،
حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى الزمن ، حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري ، عن ابن إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص
، عن ابن مسعود ، في قول الله عزوجل : (رَبَّنا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [سورة غافر آية
رقم ١١].
قال ابن مسعود :
هي التي في البقرة (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٨].
فهذا ابن مسعود ،
وأسماء بنت أبي بكر الصديق ، وابن عمر رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم من الصحابة
رضي الله عنهم ، تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله ، وأن الجثث
ليست بشيء ، ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان ، والوفاة كذلك ، وهذا قولنا ،
وبالله التوفيق.
قال أبو محمد :
وقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه رأى موسى عليهالسلام قائما في قبره يصلي ليلة الإسراء ، وأخبر أنه رآه في
السماء السادسة ، أو السابعة ، وبلا شك إنما رأى روحه ، وأما جسده فموارى بالتراب
بلا شك.
فعلى هذا أن موضع
كل روح يسمى قبرا له فتعذب الأرواح حينئذ ، وتسأل حيث كانت ، وبالله تعالى
التوفيق.
مستقر الأرواح
قال أبو محمد :
اختلف الناس في مستقر الأرواح ، وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا
هذا والحمد لله رب العالمين.
فذهب قوم من
الروافض إلى أن أرواح الكفار ببرهوت ، وهو بئر بحضرموت ، وأن أرواح المؤمنين بموضع
آخر أظنه الجابية . وهذا قول فاسد ، لأنه لا دليل عليه أصلا ، وما لا دليل
عليه فهو ساقط ، ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكانا آخر غير ما ادعاه هؤلاء ،
وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول ، وبالله تعالى التوفيق.
وذهب عوامّ أصحاب
الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها ، وهذا قول لا حجة له أصلا تصححه إلا خبر
ضعيف لا يحتج بمثله ، لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث ، وما
كان هكذا فهو ساقط أيضا. وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض
تفنى ولا تبقى وقتين ، فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلا.
ومن عجائب أصحاب
هذه المقالة الفاسدة ، قولهم : إن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك ، وأنه لا
ينفك تحدث له روح ثم تفنى ، ثم روح ثم تفنى ، وهكذا أبدا ، وأن الإنسان يبدل ألف
ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية ، وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام.
وزاد بعضهم فقال إن صحّت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا
يتجزأ من الجسم فهو يعذب ، وهذا أيضا حمق آخر ، ودعاوى في غاية الفساد. وبلغني عن
بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذّب أو ينعم ، وتعلق بالحديث
الثابت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ ابن آدم يأكله التّراب ، إلّا عجب الذّنب ، منه خلق
وفيه يركّب» .
__________________
قال أبو محمد :
وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ، ولا أنه
يركب فيه حياة ، ولا أنه يعذب ولا ينعم وهذا كله مقحم في كلام النبي صلىاللهعليهوسلم.
وإنما في الحديث
أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب ، فلا يحول ترابا وأنه منه ابتداء خلق المرء ،
ومنه يبتدأ إنشاؤه ثانية فقط ، وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره ، وأن عجب الذنب
خاصة تتبدد أجزاؤه ، وهي عظام تحسها لا تحول ترابا ، وأن الله تعالى يبتدئ الإنشاء
الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه ، وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان
، ثم ركب عليه سائره.
وإذ هذا ممكن لو
لم يأت به نص فخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أحق بالتصديق من كل خبر ، لأنه عن الله عزوجل.
قال تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [سورة النجم آية
رقم ٣٢].
وقال تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف آية
رقم ٥١].
وقال أبو بكر بن
كيسان الأصم : لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد.
قال أبو محمد :
وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين المقالتين في باب الكلام في الروح والنفس من
كتابنا هذا بحول الله وقوته.
والذي نقول به في
مستقر الأرواح ، هو ما قاله الله تعالى ، ونبيه صلىاللهعليهوسلم ، لا نتعداه فهو البرهان الواضح ، وهو أن الله تعالى قال :
(وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٧٢].
وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) [سورة الأعراف آية
رقم ١١].
فصح أن الله عزوجل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس.
__________________
وكذلك أخبر عليهالسلام : «أن
الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» .
قال أبو محمد :
وهي العاقلة الحساسة ، وأخذ عزوجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة ، قبل أن يأمر
الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام ، وقبل أن يدخلها في الأجساد ، والأجساد
يومئذ تراب وماء ، ثم أقرها تعالى حيث شاء ، لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة «ثم»
التي توجب التعقيب والمهلة ، ثم أقرها عزوجل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت ، لا تزال
يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنيّ المنحدر من
أصلاب الرجال ، وأرحام النساء ، كما قال تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [سورة القيامة آية
رقم ٣٧].
وقال عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) [سورة المؤمنون
آية رقم ١٣].
وكذلك أخبر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أنه
يجمع خلق ابن آدم في بطن أمّه أربعين يوما ، ثمّ يكون علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون
مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح».
وهذا نص قولنا
والحمد لله ، فيبلوهم الله عزوجل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها
فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا ، أرواح أهل السعادة عن يمين
آدم عليه الصلاة والسلام ، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليهالسلام ، وذلك عند منقطع العناصر ، وتعجّل أرواح الأنبياء عليهمالسلام وأرواح الشهداء إلى الجنة.
وقد ذكر محمد بن
نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه وقال : على هذا
أجمع أهل العلم.
__________________
قال أبو محمد :
وهذا قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا ، وهذا هو قول الله عزوجل : (فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [سورة الواقعة آية
رقم ٩].
وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ
الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ
هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [سورة الواقعة آية
رقم ٩٣].
ولا تزال الأرواح
هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ، ثم برجوعها إلى البرزخ
المذكور فتقوم الساعة ، ويعيد الله عزوجل الأرواح ثانية إلى الأجساد ، وهي الحياة الثانية ، ويحاسب
الخلق ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، مخلدين أبدا.
قال أبو محمد :
وقال الأشعرية : معنى قول النبي صلىاللهعليهوسلم في العهد المأخوذ في قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [سورة الأعراف آية
رقم ١٧٢] أن «إذ» هاهنا بمعنى إذا ، فقول في غاية السقوط ، لوجوه خمسة أولها : أنه
دعوى بلا دليل ، والثانية : أن «إذ» بمعنى إذا لا يعرف في اللغة ، وثالثها : أنه
لو صح له تأويله هذا الفاسد وهذا لا يصح لكان كلاما لا يعقل ولا يفهم ، وإنما
أورده عزوجل حجة ، ولا يحتج الله عزوجل إلا بما نفهم لا بما لا نفهم ، لأن الله تعالى قد تفضل
علينا بإسقاط الإصر عنا ، ولا إصر أعظم من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ،
ورابعها : أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن.
والعيان يبطل هذا
لأننا نشاهد كثيرا من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولد عليه
إلى أن مات ، وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين.
وخامسها : أن الله
عزوجل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا بذلك على أن الذكر
يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه ، لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام
علينا الحجة بذلك الإشهاد دليلا ، كراهية أن نقول يوم القيامة : إنا كنا عن هذا
غافلين ، أي عن ذلك الإشهاد المذكور ، فصح أن ذلك الإشهاد كان قبل هذه الدار التي
نحن فيها التي أخبرنا الله عزوجل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضا ، فبطل بذلك قول
بعض الأشعرية وغيرها ، وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى ،
وكلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليها ، وهذا هو الباطل الذي لا يحل ، ونحن ولله الحمد
إنما أتينا إلى ما قاله الله عزوجل وما صح عن رسوله صلىاللهعليهوسلم فقلنا به ، ولم نحكم في ذلك بطرا ولا هوى ، ولا رددناهما
إلى قول أحد ، بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن.
والحمد لله رب
العالمين كثيرا ، وهذا هو الحق الذي لا يحل تعدّيه.
قال أبو محمد :
وأما أرواح الأنبياء عليهمالسلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم ،
وأنهم غير أصحاب اليمين ، وكذلك أخبر عليهالسلام أنه رآهم في السموات ليلة أسري به في سماء سماء ، وكذلك
الشهداء أيضا هم في الجنة لقول الله عزوجل : (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [سورة البقرة آية
رقم ١٥٤] وقال : (عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران
آية رقم ١٦٩].
وهذا الرزق
للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة.
وقد بين رسول الله
صلىاللهعليهوسلم بالحديث الذي روي «نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنّة
ثمّ تأوي إلى قناديل تحت العرش» وروينا هذا الحديث مبينا من طريق ابن مسعود رضي الله عنه
وأنهم الشهداء وبهذا تتآلف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين.
فإن قال قائل :
كيف تخرج الأنبياء عليهمالسلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة.؟
قيل له وبالله
التوفيق : لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة ، والخروج عنها ،
قبل يوم القيامة ، فقد خلق الله عزوجل فيها آدم عليهالسلام ، وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا. والملائكة في الجنة ،
ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا ، وكل ما جاء به
نص قرآن أو سنة فلا ينكره إلا جاهل ، أو مغفل ، أو رديء الدين ، وأما الذي ينكر
ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار ، فالمنع من هذا إجماع
من جميع الأمة ، متيقن مقطوع به ، وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء أو تفضلا من
الله عزوجل ، فلا سبيل إلى خروجه منها أبدا بالنص ، وبالله تعالى
التوفيق.
__________________
الكلام على من مات من أطفال
المسلمين والمشركين قبل البلوغ
قال أبو محمد :
اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم.
فقالت الأزارقة من
الخوارج : أما أطفال المشركين ففي النار. وذهبت طائفة إلى أنه يوقد لهم يوم
القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ، ومن لم يدخلها منهم
أدخل النار.
وذهب آخرون إلى
الوقوف فيهم.
وذهب جمهور الناس
إلى أنهم في الجنة وبه نقول.
قال أبو محمد :
فأما الأزارقة فاحتجوا بقول الله تعالى حاكيا عن نوح عليهالسلام أنه قال : (رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [سورة نوح آية رقم
٢٧].
ويقول : روي عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : يا رسول الله
أين أطفالي منك؟ قال : «في
الجنّة» قالت : فأطفالي
من غيرك؟ قال «في
النّار» فأعادت عليه
فقال لها : «إن
شئت أسمعتك تضاغيهم».
وبحديث آخر في : «الوائدة والموءودة في
النّار».
وقالوا : إن كانوا
عندكم في الجنة فهم مؤمنون ، لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، فإن كانوا مؤمنين
فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين ، وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين
أبيه فتكون ردة وخروجا عن الإسلام إلى الكفر ، وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من
أقاربه من المسلمين.
__________________
قال أبو محمد :
هذا كل ما احتجوا به ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلا ، وكله لا حجة لهم فيه البتة.
أما قول نوح عليهالسلام ، فلم يقل ذلك على كل كافر ، بل قال ذلك على كفار قومه
خاصة ، لأن الله تعالى قال له : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ
مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [سورة هود آية رقم
٣٦].
فأيقن نوح عليهالسلام بهذا الوحي أنه لا يحدث فيهم مؤمن أبدا وأن كل من ولدوه إن
ولدوه لم يكن إلا كافرا ولا بد.
وهذا هو نص الآية
لأنه تعالى حكى عنه أنه قال :
(رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [سورة نوح آية رقم
٢٦].
وإنما أراد كفار
وقته الذين كانوا على الأرض حينئذ فقط ، ولو كان للأزارقة أدنى علم لعلموا أن هذا
من كلام نوح عليهالسلام ليس على كل كافر ، لكن على قوم نوح خاصة ، لأن إبراهيم
ومحمدا صلى الله عليهما وسلم كانا أبواهما كافرين مشركين ، وقد ولدا خير الإنس
والجن من المؤمنين ، وأكمل الناس إيمانا ، ولكن الأزارقة كانوا أعرابا جهالا
كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا.
وهكذا صح عن النبي
صلىاللهعليهوسلم من طريق الأسود بن سريع التميمي أنه عليهالسلام قال : «أو
ليس خياركم أولاد المشركين».
قال أبو محمد :
وهل كان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم الذين يتولاهم الأزارقة كابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وخديجة أم المؤمنين وغيرهم رضي الله عنهم
إلا أولاد الكفار فهل ولد آباؤهم كفارا؟ وهل ولدوا إلا أهل الإيمان الصريح؟ ثم
آباء الأزارقة أنفسهم كوالد نافع بن الأزرق وغيرهم من شيوخهم هل كانوا إلا أولاد
المشركين؟ ولكن من يضلل الله فلا هادي له.
__________________
وأما حديث خديجة
رضي الله عنها فساقط مطّرح لم يروه قط من فيه خير ، وأما حديث الوائدة فإنه جاء
كما نذكره.
حدثنا يوسف بن عبد
البر ، أنا عبد الوارث بن سفيان أنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد
عن المعتمر بن سليمان التميمي قال :
سمعت داود بن أبي
هند يحدث عن عامر الشعبي ، عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : أتيت أنا
وأخي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلنا له : إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف ،
وتصل الرحم ، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟ قال : «لا» قلنا : فإن أمنا وأدت أختا
لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الموءودة
والوائدة في النّار إلّا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم».
قال أبو محمد :
وهذه اللفظة يعني لم تبلغ الحنث ليست بلا شك من كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه فلما أخبر عليهالسلام بأن تلك الموءودة في النار كان ذلك إنكارا وإبطالا لقولهما
إنها لم تبلغ الحنث وتصحيحا لأنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظنهما ، لا يجوز إلا
هذا القول ، لأن كلامه عليهالسلام لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه عزوجل ، بل كلامه عليهالسلام يصدق بعضه بعضا وموافق لما أخبر به ربه عزوجل ، ومعاذ الله من غير ذلك ، وقد صح إخبار النبي صلىاللهعليهوسلم : بأن «أطفال
المشركين في الجنّة».
قال الله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [سورة التكوير آية
رقم ٧ ، ٨].
فنص تعالى على أنه
لا ذنب للموءودة فكان هذا مبينا لأن إخبار النبي صلىاللهعليهوسلم بأن تلك الموءودة في النار إخبار عن أنها قد كانت بلغت
الحنث بخلاف ظن أخويها.
وقد روى هذا
الحديث عن داود بن أبي هند ، محمد بن أبي عدي ، وليس هو دون المعتمر ، ولم يذكر
فيه لم تبلغ الحنث ورواه أيضا عن داود بن أبي هند عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه
اللفظة التي ذكرها المعتمر.
فأما حديث عبيدة
فحدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال : أنا وهب بن ميسرة ،
__________________
قال : حدثنا محمد
بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبيدة بن حميد ، عن داود بن أبي هند
، عن الشعبي ، عن علقمة بن قيس ، عن سلمة بن يزيد قال : أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم أنا وأخي ، فقلت : يا رسول الله إن أمنا كانت تقري الضيف ،
وتصل الرحم في الجاهلية ، فهل ينفعها ذلك شيئا ..؟ قال : «لا». قال : فإنها وأدت
أختا لنا في الجاهلية ، فهل ينفع ذلك أختنا شيئا؟ قال : «لا ، الوائدة
والموءودة في النّار إلّا أن تدرك الإسلام فيعفو الله عنها» وأما حديث ابن أبي عديّ ، فحدثناه أحمد بن عمر بن أنس
العذري ، حدثنا أبو بدر عبد بن أحمد الهروي الأنصاري ، حدثنا أبو سعيد الخليل بن
أحمد السجستاني ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، حدثنا أحمد بن محمد بن
حنبل ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن
سلمة بن يزيد الجعفي ، قال : انطلقت أنا وأخي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقلنا : يا رسول الله إن مليكة كانت تصل الرحم ، وتقري
الضيف ، وتفعل ، وتفعل ، هلكت في الجاهلية ، فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال : «لا ، الوائدة
والموءودة في النّار ، إلّا أن تدرك الإسلام فيعفو الله عنها».
قال أبو محمد :
هكذا رويناه لها بالهاء على أنها أخت الوائدة.
قال أبو محمد :
وهذا حديث قد رويناه مختصرا ، كما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي ، حدثنا عمر بن
عبد الملك الخولاني ، حدثنا محمد بن بكر الوراق البصري ، حدثنا أبو داود السجستاني
، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، حدثني أبي عن عامر
الشعبي ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الوائدة
والموءودة في النار» قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، قال أبي فحدثني أبو إسحاق أن عامرا حدثه
بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد :
وهذا مختصر وهو على ما ذكرنا من أنه عليهالسلام إنما عنى بذلك التي بلغت لا يجوز غير هذا لما ذكرنا وبالله
تعالى التوفيق.
وأما احتجاجهم
بقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هم
من آبائهم».
فإنما قاله عليهالسلام في الحكم في الدين ، ولله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده
ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ، وأيضا فلا متعلق لهم بهذا اللفظ أصلا ، لأنه إنما
فيه أنهم من آبائهم ، وهذا لا شك فيه أنهم توالدوا من آبائهم ، ولم يقل عليهالسلام إنهم على دين آبائهم.
__________________
وأما قولهم :
ينبغي أن تصلوا على أطفال المشركين ، وتورثوهم وترثوهم ، وأن لا تتركوهم يلتزمون
دين آبائهم إذا بلغوا فإنها ردة. فليس لهم أن يعترضوا على الله تعالى ، فليس تركنا
للصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين ، فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلى
عليهم ، وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين
، فإن العبد مؤمن فاضل لا يرث ولا يورث ، وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات
، وكثير من الفقهاء يورثون الكافر مال العبد من عبيده يسلم ثم يموت قبل أن يباع
عليه ، وكثير من الفقهاء يورثون المسلمين مال المرتد إذا مات كافرا مرتدا أو قتل
على الردة ، وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسروق بن الأجدع وغيرهم من
الأئمة رضي الله عنهم يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا ، ولله تعالى
أن يفرق بين أحكام من شاء من عباده ، وإنما نقف حيث أوقفنا النص ولا مزيد ، وكذلك
دفنهم في مقابر آبائهم أيضا ، وكذلك تركهم يخرجون إلى أديان آبائهم إذا بلغوا ،
فإن الله تعالى أوجب علينا أن نتركهم وذلك ، ولا نعترض على أحكام الله عزوجل و (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [سورة الأنبياء
آية رقم ٢٣].
وقد قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «كل
مولود يولد على الملّة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ويشرّكانه».
قال أبو محمد :
فبطل أن يكون لهم في شيء مما ذكرنا متعلق ، وإنما هو تشغيب موهوا به ، لأن كل ما
ذكرنا فإنما هي أحكام مجردة فقط ، وليس في شيء من هذه الاستدلالات نص على أن أطفال
المشركين كفار ولا على أنهم غير كفار ، وهتان النكتتان هما اللتان قصدنا بالكلام
فقط ، وبالله تعالى التوفيق. وأما من قال فيهم بالوقف فإنهم احتجوا بقول رسول الله
صلىاللهعليهوسلم إذ سئل عن الأطفال يموتون فقال عليهالسلام : «الله
أعلم بما كانوا عاملين».
وبقوله صلىاللهعليهوسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ مات صبي من أبناء
الأنصار فقالت : عصفور من عصافير الجنّة. فقال لها عليهالسلام : «وما
يدريك يا عائشة ..؟ إنّ
__________________
الله
خلق خلقا للنّار وهم في أصلاب آبائهم» .
قال أبو محمد :
وهذان الخبران لا حجة لهم في شيء منهما إلا أنهما إنما قالهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل أن يوحي إليه أنهم في الجنة ، وقد قال تعالى آمرا
لرسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقول : (وَما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [سورة الأحقاف آية
رقم ٩]. قبل أن يخبره الله عزوجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وكما قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه «والله ما أدري وأنا رسول
الله ما يفعل بي» وكان هذا قبل أن يخبره الله عزوجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدرا أو هو عليهالسلام لا يقول إلا ما جاء به الوحي ، كما أمر الله عزوجل أن يقول : (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [سورة الأنعام آية
رقم ٥٠].
فحكم كل شيء من
الدين لم يأت به الوحي أن يتوقف فيه المرء ، فإذا جاء البيان فلا يحل التوقف عن
القول بما جاء به النص ، وقد صح الإجماع على أن ما يعمله الأطفال قبل بلوغهم من
قتل أو وطء أجنبية أو شرب خمر ، أو قذف ، أو تعطيل صلاة ، أو صوم ، فإنهم غير
مؤاخذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا ، وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخذ الله
عزوجل أحدا بما لم يفعله ، بل قد صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن «من
همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه» فمن المحال المنفي أن يكون الله عزوجل يؤاخذ الأطفال بما لم يعملوا ، مما لو عاشوا بعده لعملوه ،
وهو لا يؤاخذهم بما يعملونه. ولا يختلف اثنان في أن إنسانا بالغا مات ولو عاش لزنا
أنه لا يؤاخذ بالزنا الذي لا يعمله ، وقد أكذب الله عزوجل من ظن هذا بقوله الصادق (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة غافر آية
رقم ١٧]. وبقوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النمل آية
رقم ٩٠].
فصح أنه لا يجزى
أحد بما لم يعمل ولا مما لم يسن.
فصح أن قول رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «الله
أعلم بما كانوا عاملين» ليس فيه أنهم كفار ، ولا أنهم في النار ، ولا أنهم مؤاخذون بما لو عاشوا
لكانوا عاملين به مما لم
__________________
يعملوه بعد ، وفي هذا
اختلفنا لا فيما عداه ، وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو
كان كيف كان يكون فقط ، ونعم هذا حق لا يشك فيه مسلم فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة
في شيء من هذين الخبرين إذ صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في هذه المسألة بيان.
وأما من قال إنهم
يعذبون بعذاب آبائهم فباطل ، لأن الله تعالى يقول : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام آية
رقم ١٦٤].
وأما من قال إنه
توقد لهم نار فباطل ، لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين وفي من لم
يبلغه ذكر الإسلام من البالغين على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد :
فلما بطلت هذه الأقاويل كلها وجب النظر فيما صح من النصوص من حكم هذه المسألة ،
ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة الروم آية
رقم ٣٠].
وقال عزوجل : (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) إلى قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) إلى قوله : (صِبْغَةَ اللهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) [سورة البقرة آية
رقم ١٣٦ ـ ١٣٨].
فنص عزوجل على أنه فطر الناس على الإيمان وأن الإيمان هو صبغة الله
تعالى ، وقال عزوجل : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [سورة الأعراف آية
رقم ١٧٢].
فصح يقينا أن كل
نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم عقلا مميزون ،
فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم ، حاشا من بدل هذا العهد ، وهذه
الفطرة ، وهذه الصبغة ، وخرج عنها إلى غيرها ومات على التبديل ، وبيقين ندري أن
الأطفال لم يغيروا شيئا من ذلك فهم من أهل الجنة ، وصح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «كلّ مولود يولد على الفطرة» وروي عنه عليهالسلام أنه قال : «على الملّة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه
ويمجّسانه ويشرّكانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل يجدون فيها من جدعاء؟ حتّى
تكونوا أنتم الّذين تجدعونها» .
__________________
وهذا تفسير الآيات
المذكورات.
حدثنا عبد الله بن
ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق بن السكن ، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي ، حدثنا أبو
داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال :
سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث كل مولود يولد على الفطرة ، فقال : هذا عندنا حيث أخذ
الله العهد عليهم في أصلاب آبائهم ، حيث قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى.
وقد صح أيضا عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم من طريق عياض بن حمار المجاشعي قال عن الله تعالى أنه قال
: «خلقت
عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين
عن دينهم» .
فصح يقينا أنه كل
من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفا ، وهذا حديث تدخل فيه
الملائكة والجن والإنس بقوله خلقت عبادي حنفاء كلهم لأن الملائكة والجن والإنس
عباد له عزوجل مخلوقون.
وأيضا فإن الله عزوجل أخبر بقول إبليس له تعالى أنه يغوي الناس فقال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [سورة الحجر آية
رقم ٤٢].
فصح يقينا أن
الغواية داخلة على الإيمان ، وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان وكل مؤمن ففي الجنة
، وأيضا فإن الله تعالى قال : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [سورة الليل آية
رقم ١٤ و ١٥ و ١٦] وليست هذه صفة الصبيان. فصح أنهم لا يدخلون النار ، ولا دار إلا
الجنة أو النار ، فإذا لم يدخلوا النار فهم بلا شك في الجنة.
وقد صح عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في الرؤيا الكبيرة التي رآها أنه رأى إبراهيم عليهالسلام في روضة خضراء مفتحة فيها من كل نور نعيم ، وحواليه من
أحسن صبيان وأكثرهم ، فسأل عليهالسلام عنهم فأخبر أنهم من مات من أولاد الناس قبل أن يبلغوا ،
__________________
فقيل له يا رسول
الله وأولاد المشركين ..؟ قال : «وأولاد المشركين» . فارتفع الإشكال وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من
لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة ، ولا يحل لأحد تعدي ما صح بالقرآن
والسنة. وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل :
إذا قلتم : إن النار دار جزاء فالجنة كذلك ، ولا جزاء للصبيان. قلنا وبالله تعالى
التوفيق : إنما نقف عند ما جاءت به النصوص في الشريعة ، وقد جاء النص بأن النار دار
جزاء فقط ، وأن الجنة دار جزاء وتفضل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم ،
ولمن لا عمل له دار تفضل من الله تعالى مجرد ، وقد قال قوم : إن الصبيان هم خدم
أهل الجنة ، وقد ذكر الله تعالى الولدان المخلدين في غير موضع من كتابه ، وأنهم خدم أهل الجنة فلعلهم هؤلاء والله أعلم.
قال أبو محمد :
وأما المجانين الذين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حنفاء
، مؤمنين ، ولم يغيروا ، ولا بدلوا ، فماتوا مؤمنين فهم في الجنة.
حدثنا أحمد بن
محمد الطلمنكي بالثغر قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن المفرح القاضي ، حدثنا
محمد بن أيوب السموط البرقي ، أنبأنا محمد بن عمر بن عبد الخالق البزاز ، حدثنا
محمد بن المثنى أبو موسى الزمن ، حدثنا معاذ بن هشام الدستوائي ، حدثنا أبي عن
قتادة عن الأسود بن سريع التميمي ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يعرض
على الله تعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا ، والأحمق ، والهرم ، ورجل مات في الفترة
، فيقول الأصم : رب جاء الإسلام ، وما أسمع شيئا ، ويقول الأحمق : جاء الإسلام ،
وما أعقل شيئا ، ويقول الذي مات في الفترة : ما أتانا لك من رسول» قال البزاز :
وذهب عني ما قال الرابع قال : «فيأخذ مواثيقهم ليطيعوه فيرسل الله إليهم ادخلوا
النار ، فو الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما».
__________________
الكلام في القيامة وبعث الأجساد
قال أبو محمد :
اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيامة وعلى تكفير من
أنكر ذلك ، ومعنى هذا القول أن لمكث الناس وتناسلهم في دار الابتلاء التي هي
الدنيا أمدا يعلمه الله تعالى ، فإذا انتهى ذلك الأمد مات كل من في الأرض ثم يحيي
الله عزوجل كل من مات مذ خلق الله عزوجل الحيوان إلى انقضاء الأمد المذكور ، ورد أرواحهم التي كانت
بأعيانها إلى أجسادها وجمعهم في موقف واحد وحاسبهم عن جميع أعمالهم ووفاهم جزاءهم
ففريق من الجن والإنس في الجنة ، وفريق في السعير ، وبهذا جاء القرآن والسنن ، قال
تعالى : (مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [سورة يس آية رقم
٧٨].
وقال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) [سورة الحج آية
رقم ٧].
وقال تعالى عن
إبراهيم عليهالسلام أنه قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) إلى آخر الآية [سورة البقرة آية رقم ٢٦٠].
وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا
ثُمَّ أَحْياهُمْ) [سورة البقرة آية
رقم ٢٤٣].
وقال تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ
بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) إلى قوله : (وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً ...) الآية [سورة البقرة آية رقم ٢٥٩].
وقال تعالى عن
المسيح عليهالسلام : (وَأُحْيِ الْمَوْتى
بِإِذْنِ اللهِ) [سورة آل عمران
آية رقم ٤٩] ولا يمكن البتة أن يكون الإحياء المذكور في جميع هذه الآيات إلا رد
الروح إلى الجسد ، ورجوع الحس والحركة الإرادية التي بعد عدمها منه لم يكن غير هذا
البتة ، إلا أن أبا العاص الحكم بن منذر بن سعيد القاضي أخبرني عن إسماعيل بن عبد
الله الرعيني ، أنه كان ينكر بعث الأجساد ويقول إن النفس حال فراقها الجسد تصير
إلى معادها في الجنة أو النار ، ووقفت على هذا القول بعض العارفين بإسماعيل فذكر
لي ثقتان منهم أنهما سمعاه يقول إن الله تعالى يأخذ من الأجساد جزء الحياة منها.
قال أبو محمد :
وهذا تلبيس من القول لم يخرج به عما حكى لي عنه حكم بن المنذر لأنه ليس في الأجساد
جزء الحياة إلا النفس وحدها.
قال أبو محمد :
ولم ألق إسماعيل الرعيني قط على أني قد أدركته وكان ساكنا معي في مدينة من مدائن
الأندلس تسمى بجاية مدة ولكنه كان مختفيا وكان له اجتهاد عظيم ونسك وعبادة وصلاة
وصيام والله أعلم.
وحكم بن المنذر
ثقة في قوله بعيد نقله عن الكذب وتبرأ منه حكم بن المنذر وكانا قبل ذلك يجمعهما
مذهب ابن مسرة في القدر وتبرأ منه أيضا إبراهيم بن سهل الأريواني ، وكان من رءوس
المرية وتبرأ منه أيضا صهره أحمد الطبيب ، وجماعة من المرية ؛ وتولته جماعة منهم
وبلغني عنه أنه كان يحتج لقوله هذا بقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ وقف على ميت فقال : «أما هذا فقد قامت قيامته».
وبأنه عليهالسلام كانت الأعراب تسأله عن الساعة فينظر إلى أصغرهم فيخبرهم
أنه إن استوفى عمره لم يمت حتى تقوم قيامتهم أو ساعتهم.
قال أبو محمد :
وإنما عنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بهذا قيام الموت فقط بعد ذلك إلى يوم البعث كما قال عزوجل : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [سورة المؤمنون
آية رقم ١٦ ، ١٧].
فنص تعالى على أن البعث
يوم القيامة بعد الموت بلفظة ثم التي هي للمهلة ، وهكذا أخبر عزوجل عن قولهم يوم القيامة :
(يا وَيْلَنا مَنْ
بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا) [سورة يس آية رقم
٥٢].
وأنه يوم مقداره
خمسون ألف سنة ، وأنه يحيي العظام ويبعث من في القبور في مواضع كثيرة من القرآن ،
وبرهان ضروري وهو أن الجنة والنار موضعان ومكانان وكل موضع فذو مساحة متناهية
محدودة بالبرهان الذي قدمنا على وجوب تناهي الأجسام ، وتناهي كل من له عدد ، وبقول
الله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة آل عمران
آية رقم ١٣٣].
فلو لم يكن لتولد
الخلق نهاية لكانوا أبدا يحدثون بلا آخر ، وقد علمنا أن مصيرهم إلى الجنة والنار ،
ومحال ممتنع غير ممكن أن يسع ما لا نهاية له فيما له نهاية من الأماكن فوجب ضرورة
أن للخلق نهاية ، فإذ ذلك واجب فقد وجب تناهي عالم الذر والتناسل ضرورة ، وإنما
كلامنا هذا مع من يؤمن بالقرآن ، وبنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وادعى الإسلام ، وأما من أنكر الإسلام فكلامنا معه على
ما رتّبناه في ديواننا هذا من النقض على أهل الإلحاد حتى تثبت نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وصحّة ما جاء به فنرجع إليه عند التنازع وبالله تعالى
التوفيق.
وقد نص الله تعالى
على أن العظام يعيدها ويحييها كما كانت أول مرة ، وأما اللحم فإنما هو كسوة كما
قال :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ) إلى قوله : (فَكَسَوْنَا
الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون
آية رقم ١٣ ـ ١٤].
فأخبر عزوجل أن عنصر الإنسان إنما هو العظام التي انتقلت عن سلالة
الطين إلى النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام وأن اللحم كسوة العظام ، وهذا
أمر نشاهده لأن اللحم يذهب بالمرض حتى لا يبقى منه ما لا قدر له ، ثم يكثر عليه
لحم آخر إذا خصب الجسم. وكذلك أخبرنا عزوجل أنه يبدل الجلود في الآخرة فقال : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [سورة النساء آية
رقم ٥٦].
وفي الآثار
الثابتة «أنّ جلد الكفّار يغلظ حتى تكون نيّفا وسبعين ذراعا وأنّ ضرسه في النّار
كأحد» وكذلك نجد اللحم الذي في جسد الإنسان يتغذى به حيوان آخر فيستحيل لحما لذلك
الحيوان ، أو ينقلب دودا ، فصح بنص القرآن أن العظام هي التي تحيى يوم القيامة ،
ومن أنكر ما جاء به القرآن فلا حظّ له في الإسلام.
ونعوذ بالله من
الخذلان.
__________________
الكلام في خلق الجنة والنار
قال أبو محمد :
ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد. وذهب جمهور
المسلمين إلى أنهما قد خلقتا ، وما نعلم لمن قال إنهما لم يخلقا بعد حجة أصلا أكثر
من أن بعضهم قال : قد صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر «من عملها غرست له في
الجنة كذا وكذا شجرة» وبقول الله تعالى حاكيا عن امرأة فرعون أنها قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي
الْجَنَّةِ) [سورة التحريم آية
رقم ١١].
قالوا : ولو كانت
مخلوقة لم يكن في الدعاء لاستئناف البناء والغرس معنى.
قال أبو محمد :
وإنما قلنا إنهما مخلوقتان على الجملة كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى
فيها ما يشاء من نبات.
قال أبو محمد :
والبرهان على أنهما مخلوقتان بعد إخبار النبي صلىاللهعليهوسلم أنه رأى الجنة ليلة الإسراء ، وأخبر عليهالسلام أنه رأى سدرة المنتهى في السماء السادسة ، وقال تعالى (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها
جَنَّةُ الْمَأْوى) [سورة النجم آية
رقم ١٤ و ١٥].
فصح أن جنة المأوى
هي السماء السادسة ، وقد أخبر الله عزوجل أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة ، فقال تعالى
: (فَلَهُمْ جَنَّاتُ
الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة السجدة آية
رقم ١٩] فليس لأحد بعد هذا أن يقول إنها جنة غير جنة الخلد.
وأخبر عليهالسلام أنه رأى الأنبياء عليهمالسلام في السموات سماء سماء ، ولا شك في أن أرواح الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام في الجنة.
فصح أن الجنات هي
السموات.
وكذلك أخبر عليهالسلام أن الفردوس الأعلى من الجنة التي أمرنا الله تعالى أن
نسأله إياها فوقها عرش الرحمن ، والعرش مخلوق بعد الجنة فالجنة مخلوقة ، وكذلك
__________________
أخبر عليهالسلام أن النار اشتكت إلى ربّها فأذن لها بنفسين وأنّ ذلك أشدّ
ما نجده من الحرّ والبرد .
وكان القاضي منذر
بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول : إنها ليست التي كان
فيها آدم عليهالسلام وامرأته واحتج في ذلك بأشياء منها أنها لو كانت جنة الخلد
لما أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين ، واحتج أيضا بأن جنة الخلد لا كذب
فيها ، وقد كذب فيها إبليس ، وقال من دخل الجنة لم يخرج منها ، وآدم وامرأته عليهماالسلام قد خرجا منها.
قال أبو محمد : كل
هذا لا دليل له فيه. أما قوله : إن آدم عليهالسلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين فقد علمنا أن أكله
من الشجرة لم يكن ظنه فيه صوابا ، ولا أكله لها صوابا ، وإنما كان ظنا ولا حجة
فيما كان هذه صفته ، والله عزوجل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة ، بل قد كان في علم الله
تعالى أنه سيخرجه منها ، فأكل عليهالسلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن له ، ولا تيقن به
لنفسه.
وأما قوله : إن
الجنة لا كذب فها وأن من دخلها لم يخرج منها وقد كذب فيها إبليس ، وقد خرج منها
آدم وامرأته ، فهذا لا حجة له فيه وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عزوجل عنها حيث يقول : (لا تَسْمَعُ فِيها
لاغِيَةً) [سورة الغاشية آية
رقم ٢١].
فإنما هذا على
المستأنف لا على ما سلف ، ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع واحتج أيضا بقول الله عزوجل لآدم عليهالسلام (أَلَّا تَجُوعَ فِيها
وَلا تَعْرى) [سورة طه آية رقم
١١٨].
قال : وقد عري
فيها آدم عليهالسلام.
قال أبو محمد : وهذا
لا حجة له فيه ، بل هو حجة عليه لأن الله عزوجل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم عليهالسلام بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى ، ولا يظمأ فيها ولا يضحى ،
وهذه صفة الجنة بلا شك ، وليس في شيء مما دون السماء مكان هذه صفته بلا شك ، بل
كلّ موضع دون السماء فإنه لا بد وأن يجاع فيه ويعرى ،
__________________
ويظمأ ويضحى ، ولا
بد من ذلك ضرورة ، فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته ، وليس هو غير الجنة
البتة ، وإنما عري آدم حين أكل من الشجرة ، فأهبط عقوبة له.
وقال أيضا : قال
الله عزوجل : (لا يَرَوْنَ فِيها
شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [سورة الإنسان آية
رقم ١٣] وأخبر آدم أنه لا يضحى.
قال أبو محمد :
وهذا أعظم حجة عليه لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لأضحى فيه ولا بد ، فصح
أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها ، فهي جنة الخلد بلا شك ، وأيضا فإن
قوله عزوجل : (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [سورة البقرة : ٣٥
، والأعراف ١٩] إشارة بالألف واللام ، ولا يكون ذلك إلى على معهود ولا تطلق الجنة
هكذا إلا على جنة الخلد ، ولا يطلق هذا الاسم على غيرها إلا بالإضافة. وأيضا فلو
أسكن آدم عليهالسلام جنة في الأرض لما كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض
عقوبة ، بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [سورة البقرة آية
رقم ٣٨] فصح يقينا بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض ، فصح أنها لم تكن في
الأرض البتة ، وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في بقاء الجنة والنار أبدا
قال أبو محمد :
اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ، ولا لنعيمها ، ولا للنار ، ولا
لعذابها ، إلا جهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوما من الروافض ، فأما جهم فقال
: إن الجنة والنار يفنيان ويفني أهلهما ، وقال أبو الهذيل : إن الجنة والنار لا
يفنيان ولا يفنى أهلهما ، إلا أن حركاتهم تفنى ، ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون
وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون.
وقالت تلك الطائفة
من الروافض : إن أهل الجنة يخرجون من الجنة ، وكذلك أهل النار من النار إلى حيث
شاء الله.
قال أبو محمد :
أما هذه المقالة ففي غاية الغثاثة ، والتعري من شيء يشغب به ، فكيف من إقناع أو
برهان ، وما كان هكذا فهو ساقط.
وأما قول أبي
الهذيل فإنه لا حجة له إلا أنه قال : كلّ ما أحصاه العدد فهو ذو نهاية لا بد ،
فالحركات ذات عدد فهي متناهية.
قال أبو محمد :
فظن أبو الهذيل لجهله بحدود الكلام وطبائع الموجودات أن ما لم يخرج إلى الفعل فإنه
يقع عليه العدد ، وهذا خطأ فاحش ما لم يخرج إلى الفعل فليس شيئا ، ولا يجوز أن يقع
العدد إلا على شيء ، وإنما يقع العدد على ما خرج إلى الفعل من حركات أهل النار
والجنة متى ما خرج فهو محدود متناه وهكذا أبدا.
وقد أحكمنا هذا
المعنى في أول هذا الكتاب في باب إيجاب حدوث العالم ، وتناهي الموجودت ، فأغنى عن
إعادته وبالله تعالى التوفيق.
فبطل ما موه به
أبو الهذيل ولله الحمد.
ثم نقول إن قوله
هذا خلاف للاجماع المتيقن.
وأيضا فإنّ الذي
فر منه في الحركات فإنه لازم له في مدد سكونهم وتنعمهم وتألمهم ، لأنه مقر بأنهم
يبقون ساكنين متنعمين أو متألمين بالعذاب ، وبالضرورة ندري أن للسكون والنعيم
والعذاب مددا يعد كل ذلك كما تعد الحركة ومددها ولا فرق.
وأيضا فلو كان ما
قاله أبو الهذيل صحيحا لصار أهل الجنة في عذاب واصب وفي صفة المخدور والمفلوج ومن
أخذه الكابوس ومن سقي البنج وهذا غاية النكد والشقاء ، ونعوذ بالله من هذه الحال.
وأما جهم بن صفوان
فإنه احتج بقول الله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ
شَيْءٍ عَدَداً) [سورة الجن آية
رقم ٢٨] وبقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) [سورة القصص آية
رقم ٨٨].
وقال : كما لا
يجوز أن يوجد شيء لم يزل غير الله تعالى ، فكذلك لا يجوز أن يوجد شيء لا يزال غير
الله تعالى.
قال أبو محمد : ما
نعلم له حجة غير هذا أصلا ، وكل هذا لا حجة له فيه.
أما قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فإنما عنى تعالى الاستحالة من شيء إلى شيء ومن حال إلى حال
وهذا عام لجميع المخلوقات دون الله تعالى ، وكذلك مدد النعيم في الجنة ، والعذاب
في النار ، كلما فنيت مدة أحدث الله عزوجل أخرى ، وهكذا أبدا بلا نهاية ولا آخر ، يدل على هذا ما
نذكره بعد إن شاء الله تعالى من الدلائل على خلود الجنة والنار وأهلهما.
وأما قوله تعالى (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [سورة الجن آية
رقم ٢٨] فإن اسم الشيء لا يقع إلا على موجود ، والإحصاء لا يقع على ما ذكرنا ، إلا
على ما خرج إلى الفعل ، ووجد بعد ، وإذا لم يخرج من الفعل فهو لا شيء بعد ، ولا
يجوز أن يعد لا شيء.
وكل ما خرج إلى
الفعل من مدة بقاء الجنة والنار وأهلهما فمحصي بلا شك ، ثم يحدث الله تعالى لهم
مددا أخر وهكذا أبدا بلا نهاية ولا آخر.
وقالوا : هل أحاط
الله تعالى علما بجميع مدة الجنة والنار أم لا؟
فإن قلتم : لا.
جهلتم الله ، وإن قلتم : نعم. جعلتم مدتها محاطا بها وهذا هو التناهي نفسه.
قال أبو محمد : إن
الله تعالى إنما يعلم بالأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علم
الشيء على خلاف ما هو عليه فهو جاهل به مخطئ في اعتقاده ظان للباطل ، وليس علما
ولا حقّا ولا هو عالم به ، وهذا ما لا شك فيه. وعلم الله عزوجل هو الحق اليقين على ما هي معلوماته عليه فكل ما كان ذا
نهاية فهو في علم الله تعالى ذو نهاية ، وما كان غير ذي نهاية فهو في علم الله
تعالى غير
ذي نهاية ، ولا
سبيل إلى غير هذا البتة ، وليس للجنة والنار مدد غير متناهية محاط بها وإنما لهما
مدد كل ما خرج منها إلى الفعل فهو محصي محاط بعدده ، وما لم يخرج إلى الفعل فليس
بمحصي لكن علم الله تعالى أحاط بأنه لا نهاية لهما ، وأما قوله كما لا يجوز أن
يوجد شيء غير الله تعالى لا نهاية له ولم يزل فلذلك لا يجوز أن يوجد شيء غير الله
تعالى لا نهاية له ولا يزال فإن هذه قضية فاسدة وقياس فاسد لا يصح والفرق بينهما
أن أشياء ذوات عدد لا أول لها ولم تزل لا يمكن أن تتوهّم البتة ولا تشكّل بل هي
محال في الوجود كما ذكرنا في الرد على من قال بأن العالم لم يزل ، فأغنى عن
إعادته. وليس كذلك قولنا لا يزال لأن إحداث الله تعالى شيئا بعد شيء أبدا بلا غاية
متوهم ممكن لا حوالة فيه ، فقياس الممكن المتوهم على الممتنع المستحيل الذي لا
يتوهم باطل عند القائلين بالقياس ، فكيف عند من لا يقوله به ..؟
فإن قال قائل : إن
كل ما له أو فله آخر.
قلنا له : هذه
قضية فاسدة ودعوى مجردة وما وجب هذا قط ، لا بقضية عقل ولا بخبر ، لأن كون أوائل
الموجودات معلوم بالضرورة لأن ما وجد بعد فقد حصره عدد زمان وجوده ، وكل ما حصره
عدد فلذلك العدد أول ضرورة ، وهو قولنا واحد ثم يتمادى العدد أبدا فيمكن الزيادة
بلا نهاية وتمادي الموجود بخلاف المبدأ لأنه إذا بقي وقتا جاز أن يبقى وقتين ،
وهكذا أبدا بلا نهاية وكل ما خرج من مدد البقاء إلى حد الفعل فذو نهاية بلا شك ،
وكذلك من العدد أيضا.
ولم نقل إن بقاء
الناس في هذه الدنيا له نهاية إلا من طريق النص ، ولو أخبر الله تعالى بذلك لأمكن
وجاز أن تبقى الدنيا أبدا بلا نهاية ولكان الله تعالى قادرا على ذلك ولكن النص لا
يحل خلافه. وكذلك لو لا إخبار الله تعالى بأن الآخرة لا فناء لها لأمكن فناؤها
ولكن أخبار الله تعالى لا يحل اعتراضها.
وبالله تعالى
التوفيق.
قال أبو محمد :
والبرهان على بقاء الجنة والنار بلا نهاية قول الله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [سورة هود : ١٠٨].
وقوله تعالى في
غير موضع من القرآن (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً).
__________________
وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى) [سورة الدخان : ٥٦].
مع صحة الإجماع بذلك ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص : «لو أقام أهل النار في النار ما شاء الله
أن يبقوا لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيها منها».
قال أبو محمد :
وهذا إنما هو في أهل الإسلام الداخلين في النار بكبائرهم ثم يخرجون منها بالشفاعة
ويبقى ذلك المكان خاليا ولا يحل لأحد أن يظن بالصالحين الفاضلين خلاف القرآن حاشا
لهم من ذلك وبالله تعالى التوفيق.
تم كتاب الإيمان
والوعيد وتوابعه بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه ، وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم.
تم الجزء الثاني ، ويليه إن شاء الله تعالى
الجزء الثالث والأخير ، وأوله :
الكلام في الإمامة والمفاضلة
الفهرس
الكلام في الوجه ، واليد والعين ،
والقدم ، والتنزل ، والعزة ، والرحمة ، والامر ، والنفس ، والذات ، والقوة ، والقدرة
، والأصابع............................................................................. ٣
الكلام في الماهية............................................................. ١٣
الكلام في السخط ، والرضا ، والعدل ،
والصدق ، والملك ، والخلق ، والجود ، والارادة ، والسخاء ، والكرم ، وما يخبر عنه
تعالى بالقدرة عليه ، وكيف يصح السؤال في ذلك كله.................................. ١٥
الكلام في الرؤية............................................................. ٣٤
الكلام في القرآن وهو القول في كلام
الله تعالى................................... ٣٦
الكلام في اعجاز القرآن...................................................... ٤٨
الكلام في القدر............................................................. ٥٤
باب ما الاستطاعة............................................................. ٥٩
الكلام في أن تمام الاستطاعة لا يكون
إلا مع الفعل لا قبله........................ ٦٨
الكلام في الهدى والتوفيق..................................................... ٧٦
الكلام في الاضلال.......................................................... ٨٠
الكلام في القضاء والقدر...................................................... ٨٤
الكلام في البدل............................................................. ٨٥
الكلام في خلق الله تعالى لافعال خلقه.......................................... ٨٦
الكلام في التعديل والتجوير.................................................. ١٢٧
الكلام في هل شاء الله عزّ وجلّ كون
الكفر والفسق وأراده تعالى من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه ١٦٨
الكلام في اللطف والأصلح.................................................. ١٨٧
هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا؟......................................... ٢٠٧
كتاب الايمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد..................... ٢٠٩
اعتراضات للمرجئة والطبقات الثلاث
المذكورة.................................. ٢٣٤
الكلام في تسمية المؤمن بالمسلم ،
والمسلم بالمؤمن ، وهل الايمان والاسلام اسمان لمسمى واحد ومعنى واحد أو لمسمين
ومعنيين؟......................................................................... ٢٤٦
فصل..................................................................... ٢٤٨
اختلاف الناس في تسمية المذنب............................................. ٢٥٠
الكلام فيمن يكفر ولا يكفر................................................. ٢٦٧
الكلام في تعبد الملائكة ، وتعبد الحور العين والخلق
المستأنف وهل يعصي ملك أم لا؟ ٢٧٨
هل تعصي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام...................................... ٢٨٤
الكلام في آدم عليه السلام.................................................. ٢٨٦
الكلام في نوح عليه السلام.................................................. ٢٨٩
الكلام في ابراهيم عليه السلام............................................... ٢٨٩
الكلام في لوط عليه السلام................................................. ٢٩٣
الكلام في إخوة يوسف عليه السلام.......................................... ٢٩٤
الكلام في يوسف عليه السلام............................................... ٢٩٦
الكلام في موسى عليه السلام وأمه........................................... ٣٠٠
الكلام في يونس عليه السلام................................................ ٣٠٢
الكلام في داود عليه السلام................................................. ٣٠٤
الكلام في سليمان عليه السلام............................................... ٣٠٦
الكلام في محمد صلى الله عليه وآله........................................... ٣٠٨
الكلام في الملائكة عليهم السلام............................................. ٣٢٣
هل يكون مؤمناً من اعتقد الاسلام دون
استدلال أم لا يكون مؤمناً مسلماً إلّا من استدل؟ ٣٢٧
الكلام في الوعد والوعيد.................................................... ٣٣٩
الموافاة.................................................................... ٣٥٩
الكلام في من لم تبلغه الدعوة ومن تاب
عن ذنبه أو كف ثم رجع فيما تاب عنه..... ٣٦٢
الكلام في الشفاعة والميزان والحوض
والصراط وعذاب القبر والفتنة................. ٣٦٦
عذاب القبر............................................................... ٣٧٢
مستقر الارواح............................................................. ٣٧٥
الكلام على من مات من اطفال المسلمين
والمشركين قبل البلوغ................... ٣٨٠
الكلام في القيامة وبعث الاجساد............................................ ٣٨٩
الكلام في خلق الجنة والنار.................................................. ٣٩٢
الكلام في بقاء الجنة والنار أبداً............................................... ٣٩٥
|