


بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لعلّ كتاب «الملل
والنحل» للشهرستاني من أهمّ الكتب انتشارا في مجاله ، ويكاد يطغى اسمه على ما عداه
من الكتابات التي تتعرّض لموضوع الأديان والفرق والمذاهب ، وغير ذلك ممّا كان
نتيجة للصراعات السياسية ، لا سيّما مشكلة الحكم التي ظهرت بعد وفاة النبيصلىاللهعليهوسلم بصورة مباشرة ، حيث أدّى الخلاف بشأنها إلى تمزّق وحدة
المسلمين ، وانقسامهم إلى اتجاهات مختلفة ، اتخذت طابعا سياسيا في بادئ الأمر ،
قبل أن تتّسع دائرة الخلاف الديني والإيديولوجي بينها ، ممّا أسهم في ظهور العديد
من الفرق الإسلامية التي تشعّبت بدورها إلى عدة فرق متباينة في مفاهيمها وطروحاتها
الدينية والسياسية والاجتماعية.
ومن هذا المنطلق ،
فإن مسألة الحكم شكّلت أحد أهمّ العوامل التي أدّت إلى انقسام المسلمين إلى فرق
وشيع ومذاهب ، أو ما عبّر عنه الشهرستاني بالملل والنحل ، حيث رياح التمزّق أخذت
تعصف بالجماعة منذ انشقاقها الذي كانت بوادره في السقيفة ، وأخذ اتجاها خطيرا في «الفتنة»
التي طوّحت بالخليفة عثمان ، قبل أن يتجسّد في الصراع الخطير الذي جرى بين علي
ومعاوية وانتهى إلى تكريس هذا الواقع الانقسامي بدوائره المختلفة التي تبلورت بعد
إعلان التحكيم بصورة خاصة. وكانت تلك هي المؤثرات الداخلية لهذه المسألة التي
ارتبطت بالصراع على الحكم منذ وقت مبكّر من تاريخ الدولة الإسلامية.
على أن هذه
المسألة لم تكن معزولة عن المؤثرات الأخرى ، التي أسهمت
في توسيع شقّة
الخلاف بين المسلمين ، الذين استوعبوا أعدادا كبيرة من العناصر غير العربية التي
لم تتخلّ عن تراثها الخاص وشخصيتها التقليدية ، وحتّى عن مزاجها المختلف ، حيث
انعكس ذلك كلّه على هؤلاء المسلمين غير العرب ، الذين لم يعدموا تأثيرا مباشرا أم
غير مباشر على الإسلام بشكل عام ، خصوصا إبّان بدء الحكم العبّاسي الذي أصبح مقرّه
أكثر قربا من التجمع الرئيسي لهؤلاء في المشرق ، وشهدت عهوده الأولى ظهور الفرق
الأساسية وتشعباتها مسبوقة بمناخ فكري خاص ، كانت قد أسهمت في تكوينه حركة الترجمة
والتيارات الثقافية والفلسفية التي رافقتها وانعكست بمجملها على الفكر الديني في
الإسلام وخروجه من بيئته الحضارية الخاصة واشتباكه بتلك الحضارات المجاورة التي
كان لها تأثيرها المتفاوت في العديد من الفرق الإسلامية.
والشهرستاني ـ في
كتابه هذا ـ بعد أن تحدّث عن هذه الفرق جميعها ، وعن النواحي التاريخية لكل فرقة
وشعبة ، وما لها من آراء ومعتقدات ، أخذ في سرد الملل غير الإسلامية ومقالات أهل
العالم من أرباب الديانات والشرائع ، وأهل الأهواء والنحل ، والوقوف على مصادرها
ومواردها وشواردها ، فذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وتحدث عن أشهر فرقهم ،
ثم ذكر من لهم شبهة كتاب فتحدّث عن المجوسية والمانوية والمزدكية وسائر فرقهم ، ثم
عدّد بيوت النيران وبناتها وأماكنها وما ذهب إليه القوم من تعظيمها ، وانتقل بعد
ذلك إلى الكلام على أهل الأهواء والنحل ـ وفي مذهبه أنهم يقابلون أرباب الديانات
والملل تقابل التضاد ـ فأخذ في ذكر الصابئة وشرح تعصّبهم للروحانيات ، وفصّل
آراءهم وأقاويلهم ، وما أجابت به الحنفاء على مزاعمهم. ثم انتقل للحديث على
الحرنانيين وطريقتهم ، وما عبدوه من النجوم ، وما استندوا إليه في التنجيم ،
وتحدّث بعد ذلك على فلاسفة اليونان وما ذهبوا إليه وما أظهروه من الطبيعيات
والإلهيات والرياضيات ، فأخذ يقارن بين هؤلاء الفلاسفة وحكماء العرب وحكماء
البراهمة الهنود ، ورأى أن فلاسفة الإسلام جميعا سلكوا طريقة أرسطو طاليس واحتذوها
في فلسفتهم. ثم أظهر
ما لابن سينا من
إجلال وإكبار في نفسه. وأخيرا ذكر آراء حكماء الهنود ، ومعتقدات البراهمة وما
ذهبوا إليه من قدم العالم.
هذا مختصر ما جاء
في كتاب الشهرستاني الذي قال فيه : «أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تديّن
به المتدينون وانتحله المنتحلون عبرة لمن استبصر ، واستبصارا لمن اعتبر».
فقد تحدّث
الشهرستاني عن كل ذلك دون أن يغفل النواحي التاريخية لكل فرقة وشعبة وفيلسوف وعالم
بعبارات سلسة ولغة رصينة ، فجاء الكتاب فريدا في بابه ، لأنه عمدة في هذا الموضوع
وموسوعة مختصرة للأديان والمذاهب والفرق ، بل للآراء والفلسفة المتعلقة بما وراء
الطبيعة التي عرفت في عصر المؤلّف.
وعلى الرغم من أن
المسلمين قد اهتموا بدراسة الأديان والمذاهب للردّ على أصحابها وألّفوا في ذلك
كتبا ، ككتاب «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري ، وكتاب «الفرق بين الفرق»
لعبد القاهر البغدادي ، وكتاب «الفصل في الملل والنحل» لابن حزم الظاهري ، وكتاب «تحقيق
ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني ، وغيرها من الكتب التي
وضعت في الردّ على النصارى واليهود ،. أو في ردّ بعض الفرق الإسلامية على بعضها
الآخر ، على الرغم من كل ذلك فإن كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني مع صغر حجمه فإنه
يمتاز عنها جميعا بغزارة المادة وشموليتها ويمتاز بالاستقصاء في البحث ، والدّقة
والتحقيق في الموضوعات التي يتناولها ، والاعتدال في الأحكام التي يصدرها ، حيث لا
تأتي عن ميل أو هوى مؤكدا ذلك في قوله : «وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على
وحدته في كتبهم ، من غير تعصّب لهم ، ولا كسر عليهم». ولهذا يقول عنه الإمام
السبكي : «هو عندي خير كتاب صنّف في هذا الباب ، ومصنّف ابن حزم ، وإن كان أبسط
منه ، إلّا أنه مبدّد ليس له نظام ... ثم فيه من الحطّ على أئمة السنّة ونسبة
الأشاعرة إلى ما هم براء منه ما يكثر تعداده. ثم إن ابن حزم نفسه لا يدري علم
الكلام حقّ الدراية على طريقة أهله ...».
هذا وقد لقي كتاب
الشهرستاني عناية كبرى من المشتغلين بالآراء الإسلامية ، وبخاصة ممن يعنون بمقالات
الفرق ، وما طرأ عليها من تطوّرات ، وما انتظمته من آراء وبحوث ، فطبع الكتاب
بالعربية مرات وترجم إلى لغات عدّة ، ولقي صدورا رحبة فتناوله العلماء الغربيون
بالمدح والثناء.
ولا بدّ من
الإشارة هنا إلى أن الشهرستاني في كتابه : «الملل والنحل» فاته ذكر بعض ديانات
القدماء ومنها :
* ديانة قدماء المصريين الذين كانوا يعبدون أكثر من إله (سبك ،
حوريس ، ست ، أزوريس ، رع ، آمون رع ، آتون ...) وقد تلاشت حينما أدخل «بطليموس»
الأوّل إلهه الجديد «سربيس» فصار إلها لجميع المصريين.
* والديانة
الهندوسية أو البرهمية التي دخلت الهند مع الآريين الذين نزحوا إلى
الأقاليم الغربية من تلك البلاد حوالي سنة ١٥٠٠ ق. م. وهي ديانة تجمع بين الوثنية
الساذجة والآراء الفلسفية السامية والزهد الصادق ، وللبراهمة آلهة للمطر والنار
والسماء وما شاكلها ، وهم يؤمنون بفكرة التناسخ و «الكارما» أي العمل الذي لا بدّ
منه في الحياة ، ثم بفكرة «الانطلاق» أي محاولة النفس الإفلات من دورات تجوالها
ونتائج أعمالها. وأهمّ تعاليم الديانة البرهمية :
١ ـ الكائن
الإلهي. ٢ ـ مقابلة الإساءة بالإحسان. ٣ ـ القناعة. ٤ ـ الاستقامة. ٥ ـ الطهارة. ٦
ـ كبح جماح الحواس. ٧ ـ معرفة الفيدا. ٨ ـ الصبر. ٩ ـ الصدق. ١٠ ـ اجتناب الغضب.
والديانة البوذية
المنتشرة بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية ، وهي مذهبان كبيران : المذهب الشمالي
السائد في الصين ، واليابان ، والتبت ، ونيبال ، وجاوه ، وسومطرة ، والمذهب
الجنوبي السائد في بورما ، وسيلان ، وسيام.
__________________
وديانة بوذا لها
أربعة أطوار ، أرقاها الطور الرابع وهو : «النرفانا». وبوذا الذي أنكر الصلاة ،
يعتقد أن قليلين جدا هم الذين يبلغون «النرفانا» في جهادهم الأخلاقي.
* والديانة
الصينية التي تقوم على عبادة السماء باعتبارها الإله الأعظم ، ثم
عبادة الأرض. لأن للأرض إلها. ثم عبادة أرواح الأجداد وعبادة الجبال والأنهار.
وقد استقرّ
الصينيون بعد قرون طويلة على ثلاثة أديان هي : الكنفوشية ، والبوذية ،
والتاوزميّة.
والديانة
اليابانية التي انتشرت بين اليابانيين وتقسم إلى ثلاثة أديان هي :
الشنتوية ، (طريق
الآلهة) ، وعبادة الميكادو (اسم زعيمهم) ، ثم الديانة البوذية اليابانية (زعيمهم
إميدا بوذا).
أمّا الأديان التي
ظهرت بعد الشهرستاني فهي :
* اليزيدية ، أو عبدة الشيطان ، وهم طائفة ينتمي معظمها إلى الجنس
الكردي ويقطن أتباعها في الشمال الشرقي من الموصل ، وفي قضاء سنجار في الشمال
الغربي من العراق على الحدود السورية ، وفي منطقة حلب ، والبلاد الأرمنية الواقعة
على الحدود بين تركيا وروسيا.
وقد اختلف
الباحثون في تعليل تسميتهم ، كما اختلفوا أيضا في أصل دينهم ، ونبيّ هذه الديانة
الشيخ عادي. ومن الشخصيات المقدسة عندهم منصور الحلّاج ، والشيخ عبد القادر
الكيلاني ، والحسن البصري. واليزيدية يؤمنون بالتناسخ ، وبالحلول ، ولهم كتابان
مقدسان هما : «الجلوة» وفيه وعد ووعيد ، وترغيب وترهيب ، ومصحف «رش» وفيه قصة خلق
العالم وعقائد الزيديّة.
__________________
* والديانة
البابية أو البهائية ، ومؤسسها علي بن محمد رضا الشيرازي. وتقوم هذه الديانة على
أساس الاعتقاد بوجود إله واحد أزلي نظير ما يعتقد به المسلمون. إلّا أن «البابية»
يستمدون صفات الخالق من أساس العقيدة الباطنية التي ترى أن لكل شيء ظاهرا وباطنا ،
وأن هذا الوجود مظهر من مظاهر الله. وأن الله هو النقطة الحقيقية. وكل ما في
الوجود مظهر له.
أمّا عبادات
البهائيين ومعاملتهم فقد وردت في كتاب : «البيان» الذي نسخه خليفة الباب وهو علي
حسين الملقّب بالبهاء بكتابه : «الأقدس» ومنها : الصوم ، والصلاة ، والحج ،
والزكاة ، وهناك تعاليم دينية أخرى.
وعلى الإجمال
فيمكن القول أن الفرق الإسلامية التي تحدّث عنها الشهرستاني قد اختفت كلّها من
الوجود ما عدا القليل القليل الذي فقد هو الآخر أهميته.
من هو الشهرستاني؟
اسمه محمد بن عبد
الكريم بن أحمد ، وكنيته أبو الفتح ، وشهرته المعروف بها الشهرستاني ، نسبة إلى
بلدة «شهرستان» مسقط رأسه ومثوى رفاته ، وهي شهرستان خراسان ، بين نيسابور وخوارزم
في آخر حدود خراسان ، وهي التي بناها عبد الله بن طاهر أمير خراسان في خلافة
المأمون ، وقد أخرجت خلقا كثيرا من العلماء.
أمّا مولده ، فقد
اختلف في تاريخه والراجح أنه ولد سنة ٤٧٩ ه. وتوفي في شعبان سنة ٥٤٨ ه. الموافق
١٠٨٦ ـ ١١٥٣ م. وبذلك يكون قد عاش قرابة السبعين سنة.
والشهرستاني من
حيث المذهب شافعي ، ومن حيث الأصول أشعري ، كان إماما مبرّزا فقيها متكلّما ،
واعظا محاضرا. قال عنه الخوارزمي في تاريخ خوارزم : «دخل خوارزم واتخذ بها دارا
وسكنها مدّة ، ثم تحوّل إلى خراسان ، وكان عالما حسنا ، حسن الخطّ ، واللفظ ، لطيف
المحاورة ، خفيف المحاضرة ، طيّب المعاشرة ، تفقّه بنيسابور على أحمد الخوافي وأبي
نصر القشيري ، وقرأ الأصول على أبي القاسم الأنصاري ، وسمع الحديث على أبي الحسن
علي بن أحمد بن محمد المدائني وغيره .. وخرج من خوارزم سنة ٥١٠ ه. وحجّ في هذه
السنة ، ثم أقام ببغداد ثلاث سنين ، وكان له مجلس وعظ في النظاميّة [وهي أعلى
المدارس ببغداد] وظهر له قبول عند العوام ، وكان المدرّس بها يومئذ أسعد الميهني ،
وكان بينهما صحبة سالفة بخوارزم ، فقرّبه أسعد لذلك ... وكان قد صنّف كتبا كثيرة
في
علم الكلام .. ثم
عاد إلى بلدة شهرستان فمات بها في سنة ٥٤٩ ه أو قريبا منها ، ومولده سنة ٤٦٩».
وكان الشهرستاني
مولعا بطلب العلم ، يطوف بالبلاد الإسلامية يتعلّم ويعلّم ، وبلغ من جلال مجالسه
العلمية أنها كانت تدوّن وذلك لعمقها. ومن صفوة الشيوخ الذين كانوا يحضرون هذه
المجالس : أبو الحسن بن حموية ، والبيهقي ، والإمام أبو منصور ، وموفق الدين أحمد
اللّيثي ، وشهاب الدين الواعظ ، وغيرهم من أئمة الفقه والعلم.
نماذج من آراء
العلماء فيه :
قال ابن السبكي : «برع
في الفقه والأصول والكلام ، وكان لعلمه يلقب بالأفضل وبالفيلسوف وبالإمام».
وقال ابن تغري
بردي : «كان إمام عصره في علم الكلام ، عالما بفنون كثيرة من العلوم ، وبه تخرّج
جماعة من العلماء».
وقال ياقوت : «إنه
المتكلّم الفيلسوف صاحب التصانيف».
وقال مصطفى عبد
الرزاق : «إن الشهرستاني من أهل الفلسفة الإسلامية الذين يستشهد بآرائهم ، مثله
مثل ابن سينا».
أمّا العلماء
الغربيون فقد مثّلهم العالم الإنكليزي «الفرد جيوم» بقوله : «الشهرستاني كان رجلا
ديّنا إلى الأعماق ، وإخلاصه للعقيدة لا يمكن أن يشك فيه أيّ إنسان قرأ مؤلّفاته
التي تكفي بنفسها لدحض ادّعاءات المنتقصين من شأنه ... وهو جدير بأن ينظر إليه
باعتباره ذا أصالة فكرية.
ومن قول «كارادي»
الفرنسي : «إن عقلية الشهرستاني لم تكن في جوهرها إلّا عقلية فلسفية».
وقال العالم
الألماني : «هابركر» : «بواسطة الشهرستاني في كتابه الملل والنحل نستطيع أن نسدّ
الثغرة التي في تاريخ الفلسفة بين القديم والحديث».
نماذج من آراء
منتقديه :
على أنّ هذا
التقدير للشهرستاني لم يحل دون انتقاده من بعض معاصريه أو المتأخرين مثل الخوارزمي
الذي أورد في كتابه تاريخ خوارزم : «لو لا تخبطه في الاعتقاد وميله إلى هذا
الإلحاد لكان هو الإمام ... وليس ذلك إلّا لإعراضه عن نور الشريعة واشتغاله بظلمات
الفلسفة ... وقد حضرت عدّة مجالس من وعظه فلم يكن فيها لفظ ، قال الله ، ولا قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ... والله أعلم بحاله».
وابن السمعاني في
قوله : «إنه كان متّهما بالميل إلى أهل القلاع (يعني الإسماعيلية) والدعوة إليهم ،
غال في التشيّع».
وياقوت في وصفه له
بأنّه : «الفيلسوف المتكلّم ، صاحب التصانيف. كان وافر الفضل ، كامل العقل ، لو لا
تخبطه في الاعتقاد ، ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة ، والذبّ عنهم لكان هو
الإمام ...».
ومن الكتاب
المحدّثين ، قول أحمد أمين : «... ورأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني والقفطي
وأمثالهما قد خلطوا حقّا وباطلا».
ودافع عنه ابن
السبكي في طبقاته وقال : «الحقّ أقول أن ما اتّهم به ، هو منه براء فإن تصانيفه
آية على استمساك بالعقيدة واعتصام بالدين ، وإنه يميل إلى أهل السنّة والجماعة ،
إلّا أنه كان يتابع مذهب الفلاسفة ، ويذبّ عن آرائهم وأفكارهم ممّا أدّى لتهمته».
وفي كتاب «الذيل»
للسمعاني ، و «وفيات الأعيان» لابن خلّكان ، أن الشهرستاني ذكر في أوّل كتابه «نهاية
الإقدام» بيتين من الشعر هما :
لقد طفت في تلك
المعاهد كلّها
|
|
وسيّرت طرفي بين
تلك المعالم
|
فلم أر إلّا
واضعا كفّ حائر
|
|
على ذقن أو
قارعا سنّ نادم
|
ولم يذكر صاحب
البيتين ، وقيل : هما لأبي بكر محمد بن باجة ، المعروف بابن الصائغ الأندلسي. [وقيل
: إنهما لأبي علي ابن سينا].
أضاف ابن خلّكان :
«وكان الشهرستاني يروي بالإسناد المتّصل إلى النظّام البلخي العالم ، المشهور ،
واسمه إبراهيم بن سيّار ، أنّه كان يقول : لو كان للفراق صورة لارتاع لها القلوب ،
ولهدّ الجبال ، ولجمر الغضى أقلّ توهّجا من حمله ، ولو عذّب الله أهل النار
بالفراق لاستراحوا إلى ما قبله من العذاب.
وكان يروي للدريدي
أيضا باتصال الإسناد إليه قوله :
ودّعته حين لا
تودّعه
|
|
روحي ولكنها
تسير معه
|
ثم افترقنا وفي
القلوب لنا
|
|
ضيق مكان وفي
الدموع سعه
|
وكان يروي للدريدي
مسندا إليه :
يا راحلين بمهجة
|
|
في الحبّ متلفة
شقيّه
|
الحبّ فيه بليّة
|
|
وبليّتي فوق
البليّة
|
أضاف ابن خلّكان :
«كل ذلك رواه الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في كتاب «الذيل» ثم قال في آخر الترجمة
: وصل إليّ نعيه وأنا ببخارا ، رحمهالله تعالى».
مؤلفات الشهرستاني
:
للشهرستاني مؤلفات
كثيرة منها :
١ ـ الإرشاد إلى
عقائد العباد : ذكره الشهرستاني نفسه في كتابه «نهاية الإقدام».
٢ ـ الأقطار في
الأصول. نسبه إليه الخوارزمي.
٣ ـ تاريخ
الحكماء. نسبه إليه (كيورتن) في مقدمته لطبعته لكتاب «الملل والنحل».
٤ ـ تلخيص الأقسام
لمذاهب الأنام ، نسبه إليه ابن خلّكان ، وأبو الفداء ، وحاجي خليفة.
٥ ـ دقائق
الأوهام. نسبه إليه الخوارزمي.
٦ ـ شرح سورة يوسف
بعبارة فلسفية لطيفة نسبه إليه الخوارزمي.
٧ ـ العيون
والأنهار. نسبه إليه البيهقي.
٨ ـ غاية المرام
في علم الكلام. نسبه إليه الخوارزمي.
٩ ـ قصة موسى
والخضر. نسبه إليه البيهقي.
١٠ ـ المبدأ
والمعاد. نسبه إليه الخوارزمي.
١١ ـ مجالس
مكتوبة. رآها البيهقي. وكانت المجالس لا تكتب إلّا للأئمة نادرا.
١٢ ـ مصارعة
الفلاسفة ، أو المصارعة والمضارعة. نسبه إليه صدر الدين الشيرازي.
١٣ ـ مفاتيح الأسرار
ومصابيح الأبرار في تفسير القرآن. نسبه إليه البيهقي.
١٤ ـ المناهج
والآيات. نسبه إليه البيهقي وابن خلّكان وأبو الفداء.
١٥ ـ شبهات
أرسطاطاليس وابن سينا ونقضها. ذكرها الشهرستاني نفسه.
١٦ ـ نهاية
الأوهام. أشار إليه الشهرستاني في آخر كتابه «نهاية الإقدام».
١٧ ـ نهاية
الإقدام في علم الكلام. مطبوع.
١٨ ـ الملل والنحل
، الكتاب الذي نشرحه الآن.
آملين أن نكون قد
أدّينا خدمة للقارئ ، والله الموفق.
|
أمير علي مهنّا
علي حسن فاعور
بيروت في ١٧ شوّال ١٤٠٨ ه.
الموافق ١ حزيران ١٩٨٨ م.
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد
الشاكرين بجميع محامده كلها ؛ على جميع نعائمه كلها ، حمدا كثيرا طيبا مباركا كما
هو أهله. وصلّى الله على سيدنا محمد المصطفى رسول الرحمة خاتم النبيّين وعلى آله
الطيبين الطاهرين ؛ صلاة دائمة بركتها إلى يوم الدين ، كما صلّى على إبراهيم وعلى
آل إبراهيم إنه حميد مجيد.
وبعد : فلمّا
وفقني الله تعالى لمطالعة مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل ، وأهل الأهواء والنحل ، والوقوف على مصادرها ومواردها ، واقتناص أوانسها وشواردها ، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تديّن به
المتدينون ، وانتحله المنتحلون ؛ عبرة لمن استبصر ، واستبصارا لمن اعتبر.
وقبل الخوض فيما
هو الغرض لا بدّ من أن أقدم خمس مقدمات :
* المقدمة الأولى
: في بيان أقسام أهل العالم جملة مرسلة .
* المقدمة الثانية
: في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية.
* المقدمة الثالثة
: في بيان أوّل شبهة وقعت في الخليقة ، ومن مصدرها ومن مظهرها؟
__________________
* المقدمة الرابعة
: في بيان أوّل شبهة وقعت في الملة الإسلامية ، وكيفية انشعابها ، ومن مصدرها ، ومن مظهرها؟
* المقدمة الخامسة
: في بيان السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب.
المقدمة الأولى
في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة
١ ـ من الناس من
قسم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة. وأعطى أهل كل إقليم حظه من اختلاف الطبائع
والأنفس التي تدلّ عليها الألوان والألسن.
٢ ـ ومنهم من
قسمهم بحسب الأقطار الأربعة التي هي : الشرق ، والغرب ، والجنوب ، والشمال. ووفر
على كل قطر حقه من اختلاف الطبائع ، وتباين الشرائع.
٣ ـ ومنهم من
قسمهم بحسب الأمم ، فقال كبار الأمم أربعة : العرب ، والعجم ، والروم ، والهند ،
ثم زاوج بين أمة وأمة : فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب
واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق ، واستعمال الأمور الروحانية. والروم والعجم
يتقاربان على مذهب واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام
الكيفيات والكميات ، واستعمال الأمور الجسمانية.
٤ ـ ومنهم من
قسمهم بحسب الآراء والمذاهب. وذلك غرضنا في تأليف
__________________
هذا الكتاب. وهم
منقسمون بالقسمة الصحيحة الأولى إلى أهل الديانات والملل ، وأهل الأهواء والنحل.
فأرباب الديانات
مطلقا مثل المجوس ، واليهود ، والنصارى ، والمسلمين.
وأهل الأهواء
والآراء مثل الفلاسفة ، والدّهرية ، والصابئة ، وعبدة الكواكب والأوثان ، والبراهمة .
ويفترق كل منهم
فرقا. فأهل الأهواء ليست تنضبط مقالاتهم في عدد معلوم. وأهل الديانات قد انحصرت
مذاهبهم بحكم الخبر الوارد فيها. فافترقت المجوس على سبعين فرقة. واليهود على إحدى
وسبعين فرقة. والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة. والمسلمون على ثلاث وسبعين فرقة.
والناجية أبدا من الفرق واحدة ، إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في
واحدة ، ولا يجوز أن يكون قضيتان متناقضتان متقابلتان على شرائع التقابل إلّا وأن
تقتسما الصدق والكذب. فيكون الحق في إحداهما دون الأخرى ومن المحال الحكم على
المتخاصمين المتضادين في أصول المعقولات بأنهما محقان صادقان.
وإذا كان الحق في
كل مسألة عقلية واحدا ؛ فالحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة. وإنما
عرفنا هذا بالسمع وعنه أخبر التنزيل في قوله عزّ
__________________
وجلّ : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: «ستفترق أمّتي على ثلاث
وسبعين فرقة ، النّاجية منها واحدة ، والباقون هلكى . قيل : ومن النّاجية؟ قال : أهل السّنّة والجماعة. قيل :
وما السّنّة والجماعة؟ قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
وقال عليه الصلاة
والسلام : «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ إلى يوم القيامة».
وقال عليه الصلاة
والسلام : «لا تجتمع أمّتي على ضلالة».
المقدمة الثانية
في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية
اعلم أن لأصحاب
المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية ، لا على قانون مستند إلى أصل ونص ، ولا
على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنّفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد
الفرق.
ومن المعلوم الذي
لا مراء فيه أن ليس كل من تميّز عن غيره بمقالة ما ؛ في مسألة ما ؛ عدّ صاحب
مقالة. وإلّا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد ويكون من انفرد بمسألة في
أحكام الجواهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات فلا بدّ إذن من ضابط في مسائل
هي أصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة ، ويعدّ صاحبه صاحب مقالة.
وما وجدت لأحد من
أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط ، إلّا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب
الأمة كيف اتفق ، وعلى الوجه الذي وجد ، لا على قانون مستقرّ ، وأصل مستمرّ
فاجتهدت على ما تيسر من التقدير ، وتقدر من التيسير حتى حصرتها في أربع قواعد، هي
الأصول الكبار.
__________________
* القاعدة الأولى
: الصفات والتوحيد فيها. وهي تشتمل على مسائل : الصفات الأزلية ، إثباتا عند جماعة
ونفيا عند جماعة. وبيان صفات الذات ، وصفات الفعل ، وما يجب لله تعالى ، وما يجوز
عليه ، وما يستحيل. وفيها الخلاف بين الأشعرية ، والكراميّة ، والمجسّمة والمعتزلة.
* القاعدة الثانية
: القدر والعدل فيه. وهي تشتمل على مسائل : القضاء ، القدر ، والجبر والكسب ،
وإرادة الخير والشرّ ، والمقدور ، والمعلوم ؛ إثباتا عند جماعة ، ونفيا عند جماعة.
وفيها الخلاف بين : القدريّة ، والنّجّاريّة ، والجبرية ، والأشعرية ، والكرّاميّة.
* القاعدة الثالثة
: الوعد ، والوعيد ، والأسماء ، والأحكام ، وهي تشمل على مسائل : الإيمان ،
والتوبة ، والوعيد ، والإرجاء ، والتفكير ، والتضليل ؛ إثباتا على وجه عند جماعة ،
ونفيا عند جماعة. وفيها الخلاف بين المرجئة ، والوعيدية ، والمعتزلة ، والأشعرية
والكرّاميّة.
* القاعدة الرابعة
: السمع والعقل ، والرسالة ، والإمامة. وهي تشتمل على مسائل : التحسين ، والتقبيح
، والصلاح والأصلح ، واللطف ، والعصمة في النّبوّة. وشرائط الإمامة ، نصا عند
جماعة. وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنّص وكيفية إثباتها على مذهب من قال
بالإجماع. والخلاف فيها بين الشيعة ، والخوارج ، والمعتزلة ، والكرامية ،
والأشعرية.
فإذا وجدنا انفراد
واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد ، عددنا مقالته مذهبا وجماعته فرقة. وإن
وجدنا واحدا انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهبا ، وجماعته فرقة. بل نجعله مندرجا
تحت واحد ممن وافق سواها مقالته ، ورددنا باقي
__________________
مقالاته إلى
الفروع التي لا تعدّ مذهبا مفردا ؛ فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية ، فإذا تعينت
المسائل التي هي قواعد الخلاف ، تبينت أقسام الفرق الإسلامية ، وانحصرت كبارها في
أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض.
كبار الفرق
الإسلامية الأربع :
(١) القدريّة. (٢)
الصفاتيّة (٣) الخوارج. (٤)
الشّيعة. ثم يتركّب بعضها مع بعض ، ويتشعّب عن كلّ فرقة أصناف ، فتصل إلى ثلاث
وسبعين فرقة.
ولأصحاب كتب
المقالات طريقان في الترتيب :
أحدهما : أنهم
وضعوا المسائل أصولا ، ثم أوردوا في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة.
والثاني : أنهم
وضعوا الرجال وأصحاب المقالات أصولا ، ثم أوردوا مذاهبهم ، في مسألة مسألة.
وترتيب هذا
المختصر على الطريقة الأخيرة ، لأني وجدتها أضبط للأقسام ، وأليق بباب الحساب.
وشرطي على نفسي أن
أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم ؛ من غير تعصّب لهم ، ولا كسر عليهم ؛ دون أن أبيّن صحيحه من فاسده ، وأعيّن حقّه من
باطله ، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكيّة في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل ، وبالله
التوفيق.
__________________
المقدمة الثالثة
في بيان أوّل شبهة وقعت في الخليقة ،
ومن مصدرها في الأول ، ومن مظهرها في الآخر
اعلم أنّ أول شبهة
وقعت في الخليقة : شبهة إبليس لعنه الله. ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص.
واختياره الهوى في معارضة الأمر ، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على
مادة آدم عليهالسلام وهي الطين.
وانشعبت من هذه الشبهة سبع شبهات ، وسارت في الخليقة ، وسرت في
أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة ، وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة : : إنجيل لوقا ، ومارقوس ، ويوحنا ، ومتّى ، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرات بينه وبين
الملائكة بعد الأمر بالسجود ، والامتناع منه.
قال كما نقل عنه :
إني سلّمت أنّ الباري تعالى إلهي وإله الخلق ، عالم
__________________
قادر ، ولا يسأل
عن قدرته ومشيئته ، وأنه مهما أراد شيئا قال له كن فيكون ، وهو حكيم، إلّا أنه يتوجه
على مساق حكمته أسئلة. قالت الملائكة : ما هي؟ وكم هي؟ قال لعنه الله: سبع.
الأول منها : أنه
قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني ويحصل مني فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه
إيّاي؟
والثاني : إذ
خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته ؛ فلم كلّفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا
التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة ، ولا يتضرّر بمعصية؟
والثالث : إذ
خلقني وكلّفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت ، فلم كلّفني بطاعة
آدم والسجود له ، وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في
معرفتي وطاعتي إياه؟
والرابع : إذ
خلقني وكلّفني على الإطلاق ، وكلّفني بهذا التكليف على الخصوص ، فإذا لم أسجد لآدم
، فلم لعنني وأخرجني من الجنة؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحا إلّا قولي
: لا أسجد إلّا لك؟
والخامس : إذ
خلقني وكلّفني مطلقا وخصوصا ؛ فلم أطع فلعنني وطردني ، فلم طرّقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيا وغررته بوسوستي ، فأكل من
الشجرة المنهي عنها ، وأخرجه من الجنة معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من
دخول الجنة لاستراح مني آدم ، وبقي خالدا فيها؟
والسادس : إذ
خلقني وكلّفني عموما ، وخصوصا ، ولعنني ، ثم طرقني إلى الجنة ، وكانت الخصومة بيني
وبين آدم ؛ فلم سلّطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني ، وتؤثر فيهم وسوستي
ولا يؤثّر فيّ حولهم وقوّتهم ، وقدرتهم
__________________
واستطاعتهم؟ وما
الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين ، كان أحرى بهم ، وأليق
بالحكمة.
والسابع : سلمت
هذا كلّه : خلقني وكلّفني مطلقا ومقيدا ، وإذ لم أطع لعنني وطردني ، وإذا أردت
دخول الجنة مكّنني وطرّقني ، وإذا عملت عملي أخرجني ثم سلّطني على بني آدم ، فلم
إذا استمهلته أمهلني ، فقلت : (فَأَنْظِرْنِي إِلى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ـ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ . وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم
والخلق مني وما بقي شرّ ما في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من
امتزاجه بالشرّ؟!
قال : فهذه حجتي
على ما ادّعيته في كل مسألة.
قال شارح الإنجيل
: فأوحى الله تعالى إلى الملائكة عليهمالسلام ، قولوا له : إنك في تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق غير
صادق ولا مخلص ، إذ لو صدّقت أنّي إله العالمين ما احتكمت عليّ بلم ، فأنا الله
الذي لا إله إلّا أنا ، لا أسأل عمّا أفعل ، والخلق مسئولون ، وهذا الذي ذكرته
مذكور في التوراة ، ومسطور في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته.
وكنت برهة من
الزمان أتفكّر وأقول : من المعلوم الذي لا مرية فيه أنّ كلّ شبهة وقعت لبني آدم ؛ فإنما وقعت من إضلال
الشيطان الرجيم ووساوسه ونشأت من شبهاته ، وإذا كانت الشبهات محصورة في سبع عادت
كبار البدع والضلالات إلى سبع. ولا يجوز أن تعدو شبهات فرق الزيغ والكفر والضلال
هذه الشبهات وإن اختلفت العبارات ؛ وتباينت الطرق ، فإنها بالنسبة إلى أنواع
الضلالات كالبذور ، وترجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق ، وإلى
الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص.
__________________
هذا. ومن جادل
نوحا ، وهودا ، وصالحا ، وإبراهيم ، ولوطا ، وشعيبا ، وموسى ، وعيسى ، ومحمدا ؛
صلوات الله عليهم أجمعين ، كلّهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته ،
وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم ، وجحد أصحاب الشرائع والتكاليف بأسرهم ،
إذ لا فرق بين قولهم : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) وبين قوله : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِيناً) وعن هذا صار مفصل الخلاف ، ومحزّ الافتراق ما هو في قوله
تعالى: (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً
رَسُولاً) ، فبيّن أن المانع من الإيمان هو هذا المعنى ، كما قال
المتقدّم في الأول : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، وقال المتأخر من ذرّيته كما قال المتقدّم : (أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ
مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) ، وكذلك لو تعقّبنا أقوال المتقدمين منهم وجدناها مطابقة
لأقوال المتأخّرين : (كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ، (فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) .
فاللعين الأول لما
حكم العقل على من لا يحكم عليه العقل ، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق ، أو حكم
الخلق في الخالق ، والأول غلوّ ، والثاني تقصير.
فثار من الشبهة
الأولى مذاهب : الحلولية ، .........................
__________________
والتناسخية ، والمشبهة ، والغلاة من الروافض ، حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى
وصفوه بأوصاف الإله.
وثار من الشبهة
الثانية مذاهب : القدرية ، والجبرية ، والمجسمة ، حيث قصروا في وصفه تعالى حتى
وصفوه بصفات المخلوقين.
فالمعتزلة مشبهة
الأفعال ، والمشبهة حلولية الصفات ، وكل واحد منهم أعور بأي عينيه شاء ، فإن من
قال : إنما يحسن منه ما يحسن منا ، ويقبح منه ما يقبح منا ، فقد شبّه الخالق
بالخلق ؛ ومن قال : يوصف الباري تعالى بما يوصف به الخلق ، أو يوصف الخلق بما يوصف
به الباري تعالى فقد اعتزل عن الحق ، وسنخ القدريّة طلب العلة في كل شيء ، وذاك من سنخ اللعين الأول
؛ إذ طلب العلة في الخلق أولا ، والحكمة في التكليف ثانيا ، والفائدة في تكليف
السجود لآدم عليهالسلام ثالثا ، وعنه نشأ مذهب الخوارج ، إذ لا فرق بين قولهم : لا
حكم إلّا لله ولا نحكم الرجال ، وبين قوله : لا أسجد إلّا لك ، (لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ
صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) . وبالجملة «كلا طرفي قصد الأمور ذميم» ، فالمعتزلة غلوا في
التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات ، والمشبهة : قصروا حتى وصفوا
الخالق بصفات الأجسام ، والروافض : غلوا في النبوة والإمامة حتى وصلوا إلى الحلول
، والخوارج : قصروا حتى نفوا تحكيم الرجال.
وأنت ترى إذا نظرت
أنّ هذه الشبهات كلها ناشئة من شبهات اللعين الأول ، وتلك في الأول مصدرها ، وهذه
في الآخرة مظهرها ، وإليه أشار التنزيل في قوله تعالى (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) .
__________________
وشبّه النبي صلىاللهعليهوسلم كلّ فرقة ضالّة من هذه الأمّة بأمّة ضالّة من الأمم
السالفة ، فقال : «القدريّة مجوس هذه الأمّة» ، وقال : «المشبّهة يهود هذه الأمّة
، والرّوافض نصاراها».
وقال عليه الصّلاة
والسّلام جملة : «لتسلكنّ سبل الأمم قبلكم حذو القذّة بالقذّة ، والنّعل بالنّعل ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه» .
المقدمة الرابعة
في بيان أوّل شبهة وقعت في الملّة الإسلامية ،
وكيفية انشعابها ، ومن مصدرها ، ومن مظهرها
وكما قرّرنا أنّ
الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أوّل الزمان
، كذلك يمكن أن نقرر في زمان كل نبيّ ودور صاحب كلّ ملّة وشريعة : أنّ شبهات أمّته
في آخر زمانه ؛ ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الكفّار والملحدين وأكثرها من
المنافقين ، وإن خفي علينا ذلك في الأمم السالفة لتمادي الزمان ، فلم يخف في هذه
الأمة أنّ شبهاتها نشأت كلّها من شبهات منافقي زمن النبي عليه الصّلاة والسلام ،
إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى
، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه ، والسؤال عنه ، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز
الجدال فيه.
اعتبر حديث ذي
الخويصرة التميمي ، إذ قال : اعدل يا محمّد فإنّك لم تعدل ، حتى قال
عليه الصلاة والسلام : «إن لم أعدل فمن يعدل؟» فعاد اللعين وقال : «هذه قسمة ما
أريد بها وجه الله تعالى» ، وذلك خروج صريح على النبيّ عليه الصلاة والسلام ولو
صار من اعترض على الإمام الحق خارجا ، فمن اعترض
__________________
وحكما بالهوى في
مقابلة النص ، واستكبارا على الأمر بقياس العقل؟ حتى قال عليه الصلاة والسلام : «سيخرج
من ضئضئ هذا الرّجل قوم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة ...» الخبر بتمامه.
واعتبر حال طائفة
أخرى من المنافقين يوم أحد ، إذ قالوا : (هَلْ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) ، وقولهم : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا
ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) ، فهل ذلك إلّا تصريح بالقدر؟ وقول طائفة من المشركين : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقول طائفة : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ
يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) ، فهل هذا إلّا تصريح بالجبر؟
واعتبر حال طائفة
أخرى حيث جادلوا في ذات الله ، تفكرا في جلاله ، وتصرفا في أفعاله حتى منعهم
وخوّفهم بقوله تعالى : (وَيُرْسِلُ
الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ
شَدِيدُ الْمِحالِ) ، فهذا ما كان في زمانه عليه الصلاة والسلام وهو على شوكته
وقوته وصحّة بدنه ، والمنافقون يخادعون فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، وإنما
يظهر نفاقهم بالاعتراض في كل وقت على حركاته وسكناته ، فصارت الاعتراضات كالبذور ،
وظهرت منها الشبهات كالزروع.
وأمّا الاختلافات
الواقعة في حال مرضه عليه الصلاة والسلام وبعد وفاته بين
__________________
الصحابة رضي الله
عنهم ، فهي اختلافات اجتهادية كما قيل ، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع ،
وإدامة مناهج الدين.
* فأول تنازع وقع
في مرضه عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل
البخاري بإسناده عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه ، قال : «لمّا اشتدّ بالنّبيّ صلىاللهعليهوسلم مرضه الّذي مات فيه قال : ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم
كتابا لا تضلّوا بعدي» ، فقال عمر رضي الله عنه : «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله» وكثر اللغط ، فقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «قوموا عنّي لا ينبغي عندي التّنازع» ، قال ابن عبّاس : «الرّزيّة
كلّ الرّزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم».
* * *
* الخلاف الثاني :
في مرضه أنه قال : «جهّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عنه» ، فقال قوم : يجب علينا امتثال
أمره ، وأسامة قد برز من المدينة. وقال قوم : قد اشتدّ مرض النبي عليه الصلاة
والسلام فلا تسع قلوبنا مفارقته ، والحالة هذه ، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من
أمره.
وإنما أوردت هذين
التنازعين ، لأن المخالفين ربما عدوا ذلك من الخلافات المؤثرة في أمر الدين ، وليس
كذلك ، وإنما كان الغرض كله : إقامة مراسم
__________________
الشرع في حال
تزلزل القلوب ، وتسكين نائرة الفتنة المؤثرة عند تقلّب الأمور.
* * *
* الخلاف الثالث :
في موته عليه الصلاة والسلام ، قال عمر بن الخطاب : من قال إن محمدا قد مات قتلته
بسيفي هذا ؛ وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى عليهالسلام. وقال أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه : من كان يعبد
محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد إله محمد فإن إله محمد حيّ لم يمت ولن يموت
وقرأ قول الله سبحانه وتعالى : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) فرجع القوم إلى قوله ، وقال عمر رضي الله عنه : «كأني ما
سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر».
* * *
* الخلاف الرابع :
في موضع دفنه عليه الصلاة والسلام ، أراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى مكة لأنها
مسقط رأسه ، ومأنس نفسه ، وموطئ قدمه ، وموطن أهله ، وموقع رحله. وأراد أهل
المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ، ومدار نصرته ، وأرادت جماعة
نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء ، ومنه معراجه إلى السماء ، ثم اتفقوا
على دفنه بالمدينة لمّا روي عنه عليه الصلاة والسلام : «الأنبياء يدفنون حيث
يموتون».
* * *
* الخلاف الخامس :
في الإمامة ، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة ، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على
قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان. وقد سهل الله تعالى في الصدر
الأوّل ، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها فقالت
__________________
الأنصار منّا أمير
ومنكم أمير واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري ، فاستدركه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما
في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة ، وقال عمر : كنت أزوّر في نفسي كلاما في الطريق ، فلمّا وصلنا إلى السقيفة أردت
أن أتكلّم ، فقال أبو بكر : مه يا عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ما كنت أقدّره في
نفسي كأنه يخبر عن غيب ، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته
وبايعه الناس وسكنت الفتنة ، إلّا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ،
فأيّما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرّة يجب أن يقتلا.
وإنما سكتت
الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي عليه الصلاة والسلام «الأئمّة من قريش»
وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة ، ثم لمّا عاد إلى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة ، سوى جماعة من بني هاشم ،
وأبي سفيان من بني أميّة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان
مشغولا بما أمره النبي صلىاللهعليهوسلم من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة.
* * *
* الخلاف السادس :
في أمر فدك والتوارث عن النبي عليه الصلاة
__________________
والسلام ، ودعوى
فاطمة عليهاالسلام وراثة تارة ، وتمليكا أخرى حتى دفعت عن ذلك بالرواية
المشهورة عن النبي عليه الصلاة والسلام ، «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه
صدقة».
* * *
* الخلاف السابع :
في قتال مانعي الزكاة ، فقال القوم : لا نقاتلهم قتال الكفرة.
وقال قوم بل
نقاتلهم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه : لو منعوني عقالا ممّا أعطوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقاتلتهم عليه ، ومضى بنفسه إلى قتالهم ، ووافقه جماعة
الصحابة بأسرهم ، وقد أدّى اجتهاد عمر رضي الله عنه في أيام خلافته إلى ردّ
السبايا والأموال إليهم ، وإطلاق المحبوسين منهم ، والإفراج عن أسراهم.
* * *
* الخلاف الثامن :
في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة ، فمن الناس من قال : قد وليت علينا
فظا غليظا ، وارتفع الخلاف بقول أبي بكر : لو سألني ربي يوم القيامة ، لقلت : وليت
عليهم خيرهم لهم.
وقد وقع في زمانه
اختلافات كثيرة في مسائل ميراث الجد ، والإخوة ، والكلالة وفي عقل الأصابع ، وديات الأسنان ، وحدود بعض الجرائم التي
__________________
لم يرد فيها نصّ ،
وإنما أهمّ أمورهم : الاشتغال بقتال الروم ، وغزو العجم ، وفتح الله تعالى الفتوح
على المسلمين ، وكثرت السبايا والغنائم ، وكانوا كلّهم يصدرون عن رأي عمر رضي الله
عنه ، وانتشرت الدعوة ، وظهرت الكلمة ، ودانت العرب ، ولانت العجم.
* * *
* الخلاف التاسع :
في أمر الشورى واختلاف الآراء فيها. واتفقوا كلهم على بيعة عثمان رضي الله عنه ،
وانتظم الأمر واستمرت الدعوة في زمانه ، وكثرت الفتوح ، وامتلأ بيت المال ، وعاشر
الخلق على أحسن خلق ، وعاملهم بأبسط يد ، غير أن أقاربه من بني أمية قد ركبوا
نهابر فركبته ، وجاروا فجير عليه ، ووقعت في زمانه اختلافات كثيرة وأخذوا عليه
أحداثا كلها محالة على بني أميّة.
منها : رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان يسمى طريد رسول الله ، وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ، ونفاه عمر من مقامه باليمن
أربعين فرسخا.
ومنها : نفيه أبا
ذر إلى الربذة ، وتزويجه مروان بن الحكم بنته ، وتسليمه خمس غنائم إفريقية له وقد بلغت
مائتي ألف دينار.
__________________
ومنها : إيواؤه
عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان رضيعه بعد أن أهدر النبي عليه
الصلاة والسلام دمه ، وتوليته إياه مصر بأعمالها ، وتوليته عبد الله بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث ، إلى غير ذلك مما
نقموا عليه ، وكان أمراء جنوده : معاوية بن أبي سفيان عامل الشام ، وسعد بن أبي
وقّاص عامل الكوفة ، وبعده الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر
عامل البصرة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل مصر ، وكلّهم خذلوه ورفضوه حتى
أتى قدره عليه ، وقتل مظلوما في داره ، وثارت الفتنة من الظلم الذي جرى عليه ، ولم
تسكن بعد.
* * *
* الخلاف العاشر :
في زمان أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له. فأوله
: خروج طلحة والزبير إلى مكة ، ثم حمل عائشة إلى البصرة ، ثم نصب القتال معه ،
ويعرف ذلك بحرب الجمل ، والحق أنهما رجعا وتابا ، إذ ذكّرهما أمرا فتذكّراه ،
فأمّا الزبير فقتله ابن جرموز بقوس وقت الانصراف ، وهو في النار لقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «بشّر قاتل ابن صفيّة بالنّار» ، وأمّا طلحة فرماه مروان
بن الحكم بسهم وقت الإعراض فخرّ ميتا ، وأمّا عائشة رضي الله عنها فكانت محمولة على
ما فعلت ، ثم تابت بعد ذلك ورجعت ، والخلاف بينه وبين معاوية ، وحرب صفين ،
ومخالفة الخوارج ، وحمله على التحكيم ، ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري ،
وبقاء الخلاف إلى وقت وفاته مشهور ،
__________________
وكذلك الخلاف بينه
وبين الشراة المارقين بالنهروان عقدا وقولا ، ونصب القتال معه فعلا ظاهرا معروف ؛ وبالجملة
كان عليّ رضي الله عنه مع الحق ، والحق معه ، وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل
الأشعث بن قيس ، ومسعود بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصين الطائي وغيرهم ، وكذلك ظهر
في زمانه الغلاة في حقه مثل عبد الله بن سبأ وجماعة معه ، ومن الفريقين ابتدأت
البدعة والضلالة ، وصدق فيه قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «يهلك فيه اثنان : محبّ غال ومبغض قال».
وانقسمت
الاختلافات بعده إلى قسمين : أحدهما الاختلاف في الإمامة ، والثاني : الاختلاف في
الأصول.
* * *
والاختلاف في
الإمامة على وجهين :
أحدهما : القول
بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار.
والثاني : القول
بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين.
فمن قال إن
الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار ، قال بإمامة كل من اتفقت عليه الأمة ، أو جماعة
معتبرة من الأمة : إمّا مطلقا ، وإمّا بشرط أن يكون قرشيا ؛ على مذهب قوم ، وبشرط
أن يكون هاشميا ، على مذهب قوم ، إلى شرائط أخرى كما سيأتي.
ومن قال بالأوّل ،
قال بإمامة معاوية وأولاده ، وبعدهم بخلافة مروان وأولاده.
والخوارج اجتمعوا
في كل زمان على واحد منهم بشرط أن يبقى على مقتضى اعتقادهم ، ويجري على سنن العدل
في معاملاتهم ، وإلّا خذلوه وخلعوه ، وربما قتلوه.
__________________
ومن قالوا إن
الإمامة تثبت بالنص ، اختلفوا بعد عليّ رضي الله عنه ، فمنهم من قال إنه نص على
ابنه محمد بن الحنفيّة ، وهؤلاء هم الكيسانية ، ثم اختلفوا بعده ، فمنهم من قال إنه لم يمت ، ويرجع
فيملأ الأرض عدلا ، ومنهم من قال إنه مات ، وانتقلت الإمامة بعده إلى ابنه أبي
هاشم ، وافترق هؤلاء ، فمنهم من قال الإمامة بقيت في عقبه وصية بعد وصية ، ومنهم
من قال إنها انتقلت إلى غيره ، واختلفوا في ذلك الغير ، فمنهم من قال هو بيان بن سمعان النهدي ، ومنهم من قال هو عليّ بن عبد الله بن
عبّاس ، ومنهم من قال هو عبد الله بن حرب الكندي ، ومنهم من قال هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن
__________________
أبي طالب ، وهؤلاء
كلهم يقولون إن الدين طاعة رجل ، ويتأوّلون أحكام الشرع كلها على شخص معيّن كما
ستأتي مذاهبهم.
وأمّا من لم يقل
بالنص على محمد ابن الحنفيّة ، فقال بالنص على الحسن والحسين رضي الله عنهما ،
وقال : لا إمامة في الأخوين إلّا الحسن والحسين رضي الله عنهما. ثم اختلفوا ،
فمنهم من أجرى الإمامة في أولاد الحسن ، فقال بعده بإمامة ابنه الحسن ، ثم ابنه عبد الله ، ثم ابنه محمد ، ثم أخيه إبراهيم الإمامين ، وقد خرجا في
أيام المنصور فقتلا في أيامه ، ومن هؤلاء من يقول برجعة محمد الإمام ، ومنهم من
أجرى الوصية في أولاد الحسين ، وقال بعده بإمامة ابنه عليّ بن الحسين زين العابدين نصا عليه ، ثم اختلفوا بعده ،
فقالت الزيدية بإمامة ابنه زيد .
ومذهبهم أن كل
فاطمي خرج وهو عالم ، زاهد ، شجاع ، سخي : كان إماما واجب الاتباع ، وجوزوا رجوع
الإمامة إلى أولاد الحسن ، ثم منهم من وقف وقال بالرجعة.
__________________
ومنهم من ساق وقال
بإمامة كل من هذا حاله في كل زمان ، وسيأتي فيما بعد تفصيل مذاهبهم ، وأمّا
الإمامية فقالوا بإمامة محمد بن عليّ الباقر نصّا عليه ، ثم بإمامة جعفر بن محمد الصادق وصية إليه ، ثم اختلفوا بعده في أولاده :
من المنصوص عليه؟ وهم خمسة : محمد ، وإسماعيل ، وعبد الله ، وموسى ، وعليّ.
فمنهم من قال
بإمامة محمد وهم العمارية ، ومنهم من قال بإمامة إسماعيل وأنكر موته في حياة أبيه
وهم المباركية ، ومن هؤلاء من وقف عليه وقال برجعته. ومنهم من ساق الإمامة في
أولاده نصا بعد نص إلى يومنا هذا ، وهم الإسماعيلية. ومنهم من قال بإمامة عبد الله
الأفطح ، وقال برجعته بعد موته لأنه مات ولم يعقب ، ومنهم من قال بإمامة موسى نصا عليه إذ قال والده : سابعكم قائمكم ، ألّا وهو سمي
صاحب التوراة.
ثم هؤلاء اختلفوا
، فمنهم من اقتصر عليه وقال برجعته ؛ إذ قال لم يمت هو ، ومنهم من توقّف في موته
وهم الممطورة ، ومنهم من قطع بموته ، وساق الإمامة إلى ابنه عليّ بن موسى الرضا ،
وهم القطعيّة.
ثم هؤلاء اختلفوا
في كل ولد بعده ، فالاثنا عشرية ساقوا الإمامة من علي الرضا إلى ابنه محمد ، ثم
إلى ابنه عليّ ، ثم إلى ابنه الحسن ، ثم إلى ابنه محمد القائم المنتظر الثاني عشر
، وقالوا : هو حي لم يمت ، ويرجع فيملأ الدنيا عدلا ،
__________________
كما ملئت جورا ،
وغيرهم ساقوا الإمامة إلى الحسن العسكري ، ثم قالوا بإمامة أخيه جعفر ، وقالوا بالتوقف عليه ، أو
قالوا بالشك في حال محمد ولهم خبط طويل في سوق الإمامة ، والتوقف ، والقول بالرجعة
بعد الموت ، والقول بالغيبة ، ثم بالرجعة بعد الغيبة.
فهذه جملة
الاختلاف في الإمامة ، وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر المذاهب.
* * *
وأمّا الاختلافات
في الأصول فحدثت في آخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني ، وغيلان الدمشقي ، ويونس الأسواري في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشرّ إلى
القدر ، ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزّال ، وكان تلميذ الحسن البصري ، ............................
__________________
وتلمذ له عمرو بن عبيد ، وزاد عليه في مسائل القدر. وكان عمرو من دعاة
يزيد الناقص أيام بني أميّة ، ثم والى المنصور وقال بإمامته ، ومدحه المنصور يوما
، فقال : نثرت الحب للناس فلقطوا غير عمرو بن عبيد.
والوعيدية من
الخوارج ، والمرجئة من الجبرية.
والقدرية ابتدءوا
بدعتهم في زمان الحسن ، واعتزل واصل عنهم وعن أستاذه بالقول منه بالمنزلة بين
المنزلتين ، فسمي هو وأصحابه معتزلة ، وقد تلمذ له زيد بن عليّ وأخذ الأصول فلذلك
صارت الزيدية كلّهم معتزلة ، ومن رفض زيد بن عليّ لأنه خالف مذهب آبائه في الأصول
، وفي التبرّي والتّولّي ؛ وهم من أهل الكوفة ؛ وكانوا جماعة سموا رافضة. ثم طالع
بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نشرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام ، وأفردتها فنا من فنون العلم
، وسمّتها باسم الكلام ، إمّا لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها ، هي
مسألة الكلام ، فسمي النوع باسمها. وإمّا لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون
علمهم بالمنطق ، والمنطق والكلام مترادفان.
* * *
وكان أبو الهذيل العلاف شيخهم الأكبر ؛ وافق الفلاسفة في أن الباري تعالى
عالم بعلم ، وعلمه ذاته ، وكذلك قادر بقدرة ، وقدرته ذاته ، وأبدع بدعا في
__________________
الكلام ، والإرادة
، وأفعال العباد ، والقول بالقدر ، والآجال ، والأرزاق ، كما سيأتي في حكاية مذهبه
، وجرت بينه وبين هشام بن الحكم مناظرات في أحكام التشبيه ، وأبو يعقوب الشحّام
والآدمي صاحبا أبي الهذيل وافقاه في ذلك كله.
ثم إبراهيم بن سيار النظام في أيام المعتصم كان غلا في تقرير مذاهب
الفلاسفة وانفرد عن السلف ببدع في القدر والرفض ، وعن أصحابه بمسائل نذكرها. ومن
أصحابه محمد بن شبيب ، وأبو شمر ، وموسى بن عمران ، والفضل الحدثي ، وأحمد بن
خابط. ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب إليه من البدع ، وكذلك الإسكافية أصحاب أبي
جعفر الإسكافي ، والجعفرية أصحاب الجعفرين جعفر بن مبشر ، وجعفر بن حرب.
ثم ظهرت بدع بشر بن المعتمر ؛ من القول بالتولّد والإفراط فيه والميل إلى
الطبيعيين من الفلاسفة ، والقول بأن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل ، وإذا فعل
ذلك فهو ظالم ، إلى غير ذلك مما تفرّد به عن أصحابه.
وتلمذ له أبو موسى
المردار راهب المعتزلة ، وانفرد عنه بإبطال إعجاز القرآن من جهة الفصاحة والبلاغة
، وفي أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقولهم بقدم القرآن ، وتلمذ له الجعفران
، وأبو زفر ، ومحمد بن سويد صاحبا المردار ، وأبو جعفر الإسكافي ، وعيسى بن الهيثم
صاحبا جعفر بن حرب الأشجّ.
وممن بالغ في
القول بالقدر : هشام بن عمرو الفوطي ، والأصمّ من أصحابه ، وقدحا في إمامة عليّ
رضي الله عنه بقولهما : إن الإمامة لا تنعقد إلّا بإجماع الأمة
__________________
عن بكرة أبيهم
والفوطي والأصمّ اتفقا على أن الله تعالى يستحيل أن يكون عالما بالأشياء قبل كونها
، ومنعا كون المعدوم شيئا.
وأبو الحسين
الخياط ، وأحمد بن عليّ الشطوي صحبا عيسى الصوفي ، ثم لزما أبا مجالد.
وتلمذ الكعبي لأبي الحسين الخياط ، ومذهبه بعينه مذهبه ، وأمّا معمر بن
عبّاد السلمي ، وثمامة بن أشرس النميري ، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فكانوا في
زمان واحد متقاربين في الرأي والاعتقاد ، منفردين عن أصحابهم بمسائل في موضعها
نذكرها.
والمتأخرون منهم
أبو عليّ الجبّائي ، وابنه أبو هاشم ، والقاضي عبد الجبّار ، وأبو الحسين
البصري ؛ قد لخصوا طرق أصحابهم ، وانفردوا عنهم بمسائل ستأتي.
أمّا رونق الكلام
فابتداؤه من الخلفاء العبّاسيين : هارون ، والمأمون ، والمعتصم ، والواثق ، والمتوكل ، وانتهاؤه من الصاحب بن عباد وجماعة من الديالمة.
__________________
وظهرت جماعة من
المعتزلة متوسطين ، مثل ضرّار بن عمرو ، وحفص الفرد ، والحسين النجار ، ومن
المتأخرين خالفوا الشيوخ في مسائل ، ونبغ منهم جهم بن صفوان في أيام نصر بن سيار ، وأظهر بدعته في الجبر
بترمذ ، وقتله سالم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية بمرو .
وكانت بين
المعتزلة وبين السلف في كل زمان اختلافات في الصفات ، وكان السلف يناظرونهم عليها
، لا على قانون كلامي ، بل على قول إقناعي ، ويسمون الصفاتية : فمن مثبت صفات
الباري تعالى معاني قائمة بذاته ، ومن مشبه صفاته بصفات الخلق ، وكلّهم يتعلقون
بظواهر الكتاب والسنّة ، ويناظرون المعتزلة في قدم العالم على قول ظاهر. وكان عبد
الله بن سعيد الكلابي ، وأبو العبّاس القلانسي ، والحارث بن أسد المحاسبي أشبههم
إتقانا ، وأمتنهم كلاما ، وجرت مناظرة بين أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ،
وبين أستاذه أبي عليّ الجبائي في بعض مسائل التحسين والتقبيح ، فألزم الأشعري
أستاذه أمورا لم يخرج عنها بجواب فأعرض عنه وانحاز إلى طائفة السلف ونصر مذهبهم
على قاعدة كلامية ، فصار ذلك مذهبا منفردا ، وقرّر طريقته جماعة من المحققين مثل
القاضي أبي بكر الباقلاني ، والأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني ، والأستاذ أبي بكر بن
فورك ، وليس بينهم كثير اختلاف.
ونبغ رجل متنمس بالزهد من سجستان يقال له أبو عبد الله محمد بن
__________________
كرّام ، قليل
العلم ، قد قمش من كل مذهب ضغثا وأثبته في كتابه ، وروّجه على اغتام غزنة ، وغور ، وسواد بلاد خراسان ، فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهبا ، وقد نصره
محمود بن سبكتكين السلطان ، وصبّ البلاء على أصحاب الحديث والشيعة من جهتهم ، وهو
أقرب مذهب إلى مذهب الخوارج ، وهم مجسّمة ، وحاش غير محمد بن الهيصم فإنه مقارب.
المقدمة الخامسة
في السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب
على طريق الحساب وفيها إشارة إلى مناهج الحساب
لمّا كان مبنى
الحساب على الحصر والاختصار ، وكان غرضي من تأليف هذا الكتاب حصر المذاهب مع
الاختصار : اخترت طريق الاستيفاء ترتيبا ، وقدرت أغراضي على مناهجه تقسيما
وتبويبا. وأردت أن أبيّن كيفية طرق هذا العلم وكمية أقسامه ؛ لئلا يظن بي أني من
حيث أنا فقيه ومتكلّم ، أجنبي النظر في مسالكه ومراسمه ، أعجمي القلم بمداركه
ومعالمه. فآثرت من طرق الحساب أحكمها وأحسنها ، وأقمت عليه من حجج البرهان أوضحها
وأمتنها ، وقدرتها على علم العدد ، وكان الواضع الأوّل منه استمداد المدد.
__________________
فأقول : مراتب
الحساب تبتدئ من واحد ، وتنتهي إلى سبع ، ولا تجاوزها البتة.
* المرتبة الأولى
: صدر الحساب وهو الموضوع الأوّل الذي يرد عليه التقسيم الأوّل. وهو فرد لا زوج له
باعتبار ، وجملة يقبل التقسيم والتفصيل باعتبار ، فمن حيث إنه فرد فهو لا يستدعي
أختا تساويه في الصورة والمدة ، ومن حيث هو جملة فهو قابل للتفصيل حتى ينقسم إلى
قسمين ، وصورة المدة يجب أن تكون من الطرف إلى الطرف ، ويكتب تحتها حشوا ، مجملات
التفاصيل ، ومرسلات التقدير والتقرير ، والنقل والتحويل وكليات وجوه المجموع ،
وحكايات الإلحاق والموضوع ، ويكتب تحتها بارزا من الطرف الأيسر كميات مبالغ
المجموع.
* * *
* المرتبة الثانية
منها : الأصل ، وشكلها محقق ، وهو التقسيم الأوّل الذي ورد على المجموع الأوّل ،
وهو زوج ليس بفرد ، ويجب حصره في قسمين لا يعدوان إلى ثالث ، وصورة المدة يجب أن
تكون أقصر من الصدر بقليل ، إذ الجزء أقلّ من الكلّ ، ويكتب تحتها حشوا ما يخصها
من التوجيه ، والتنويع ، والتفصيل ، ولها أخت تساويها في المدة وإن لم يجب أن
تساويها في المقدار.
* * *
* المرتبة الثالثة
من ذلك : الأصل ، وشكله محقق أيضا ، هو التقسيم الثاني الذي ورد على الموضوع
الأوّل والثاني ، وذلك لا يجوز أن ينقص عن قسمين ، ولا يجوز أن يزيد على أربعة
أقسام ، ومن جاوز من أهل الصنعة فقد أخطأ ، وما علم وضع الحساب ، وسنذكر السبب فيه
، وصورته ومدته أقصر من مدة منها الأصل بقليل ، وكذلك يكتب تحتها ما يليق بها حشوا
وبارزا.
* * *
* المرتبة الرابعة
منها : المطموس ، وشكلها هكذا «ط» وذلك يجوز أن يجاوز الأربعة ، وأحسن الطرق أن
يقتصر على الأقلّ ومدتها أقصر مما مضى.
* * *
* المرتبة الخامسة
من ذلك : الصغير ، وشكله هكذا «ص» وذلك يجوز إلى حيث ينتهي التقسيم والتبويب ،
والمدة أقصر مما مضى.
* * *
* المرتبة السادسة
منها : المعوجّ ، وشكله هكذا «،» وذلك أيضا يجوز إلى حيث ينتهي التفصيل.
* * *
* المرتبة السابعة
، من ذلك : المعقد ، وشكله هكذا «لل» ولكن يمد من الطرف إلى الطرف ، لا على أنه
صدر الحساب ، بل من حيث إنه النهاية التي تشاكل البداية.
فهذه كيفية صور
الحساب نقشا ، وكمية أبوابها جملة ، ولكل قسم من الأبواب أخت تقابله ، وزوج يساويه
في المدة لا يجوز إغفال ذلك بحال. والحساب تاريخ وتوجيه.
والآن نذكر كمية
هذه الصورة ، وانحصار الأقسام في سبع ، ولم صار العدد الأوّل فردا لا زوج له في
الصورة؟ ولم انحصر منها في الأصل في قسمين لا يعدوان إلى ثالث؟ ولم انحصر من ذلك
في الأصل في أربعة أقسام؟ ولم خرجت الأقسام الأخر عن الحصر.
فأقول : إن
العقلاء الذين تكلّموا في علم العدد والحساب اختلفوا في الواحد : أهو من العدد ،
أم هو مبدأ العدد وليس داخلا في العدد؟ وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ
الواحد. فالواحد يطلق ويراد به ما يتركّب منه العدد ، فإن الاثنين لا معنى لها
إلّا واحد مكرر أوّل تكرير ، وكذلك الثلاثة والأربعة. ويطلق ويراد به ما يحصل منه
العدد ، أي هو علّته ولا يدخل في العدد ، أي لا يتركّب منه العدد.
وقد تلازم
الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد تركب منها ، بل كل
موجود فهو في جنسه
أو نوعه ، أو شخصه واحد ، يقال : إنسان واحد ، وشخص واحد. وفي العدد كذلك ، فإن
الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة. فالواحدية بالمعنى الأوّل داخلة في العدد، وبالمعنى
الثاني علّة العدد ، وبالمعنى الثالث ملازمة العدد ، وليس من الأقسام الثلاثة قسم
يطلق على الباري تعالى معناه ، فهو واحد لا كالآحاد : أي هذه الواحدات ، والكثرة
منه وجدت ، ويستحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة.
وأكثر أصحاب العدد
على أن الواحد لا يدخل في العدد ، فالعدد مصدره الأوّل اثنان ، وهو ينقسم إلى زوج
وفرد. فالفرد الأوّل ثلاثة ، والزوج الأوّل أربعة ، وما وراء الأربعة فهو مكرر
كالخمسة فإنها مركبة من عدد وفرد ، وتسمى العدد الدائر والستة مركبة من فردين
وتسمى العدد التام ، والسبعة مركبة من فرد وزوج ، وتسمى العدد الكامل ؛ والثمانية
مركبة من زوجين وهي بداية أخرى وليس ذلك من غرضنا.
فصدر الحساب في
مقابلة الواحد الذي هو علّة العدد ، وليس يدخل فيه. ولذلك هو فرد لا أخت له. ولمّا
كان العدد مصدره من اثنين ، صار منها المحقق محصورا في قسمين. ولمّا كان العدد
منقسما إلى فرد وزوج ، صار من ذلك الأصل محصورا في أربعة. فإن الفرد الأوّل ثلاثة
، والزوج الأوّل أربعة وهي النهاية ، وما عداها مركّب منها. فكان البسائط العامة
الكلية في العدد : واحد ، اثنان ، وثلاثة ، وأربعة وهي الكمال. وما زاد عليها
فمركبات كلها ولا حصر لها ، فلذلك لا تنحصر الأبواب الأخر في عدد معلوم ، بل
تتناهى بما ينتهي به الحساب ، ثم تركيب العدد والمعدود ، وتقدير البسيط على
المركّب فمن علم آخر. وسنذكر ذلك عند ذكرنا مذاهب قدماء الفلاسفة.
فإذا نجزت
المقدمات على أوفى تقرير وأحسن تحرير ، شرعنا في ذكر مقالات أهل العالم من لدن آدم
عليهالسلام إلى يومنا هذا ، لعله لا يشذ من أقسامها مذهب.
ونكتب تحت كل باب
وقسم ما يليق به ذكرا ، حتى يعرف لم وضع ذلك اللفظ لذلك الباب. ونكتب تحت ذكر
الفرقة المذكورة ما يعمّ أصنافها مذهبا واعتقادا ، وتحت كل صنف ما خصه وانفرد به
عن أصحابه.
ونستوفي أقسام
الفرق الإسلامية ثلاثا وسبعين فرقة ، ونقتصر في أقسام الفرق الخارجة عن الملّة
الحنيفيّة على ما هو أجدر بالتأخير.
وشرط الصناعة
الحسابية أن يكتب بإزاء المحدود من الخطوط ما يكتب حشوا. وشرط الصناعة الكتابية أن
تترك الحواشي على الرسم المعهود عفوا. فراعيت شرط الصناعتين ، ومددت الأبواب على
شرط الحساب ، وتركت الحواشي على رسم الكتاب وبالله أستعين ، وعليه أتوكل ، وهو
حسبنا ونعم الوكيل.
مذاهب أهل العالم
من أرباب الديانات والملل وأهل الأهواء والنحل
من الفرق
الإسلامية وغيرهم ممن له كتاب منزل محقق ، مثل : اليهود ، والنصارى ، وممن له شبه
كتاب مثل : المجوس والمانوية . وممن له حدود وأحكام دون كتاب مثل : الفلاسفة الأولى ،
والدهرية ، وعبدة الكواكب والأوثان ، والبراهمة. نذكر أربابها وأصحابها وننقل
مآخذها ومصادرها عن كتب طائفة طائفة ؛ على موجب إصلاحاتها بعد الوقوف على مناهجها
، والفحص الشديد عن مبادئها وعواقبها.
ثم إن التقسيم
الصحيح الدائر بين النفي والإثبات هو قولنا : إن أهل العالم انقسموا من حيث
المذاهب إلى : أهل الديانات ، وإلى أهل الأهواء ، فإن الإنسان إذا اعتقد عقدا أو
قال قولا ، فإما أن يكون فيه مستفيدا من غيره ، أو مستبدا برأيه. فالمستفيد من
غيره مسلم مطيع ، والدين هو الطاعة. والمسلم المطيع فهو المتدين.
__________________
والمستبد برأيه
محدث مبتدع. وفي الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام : «ما شقي امرؤ عن مشورة ،
ولا سعد باستبداد برأي» وربّما يكون المستفيد من غيره مقلدا قد وجد مذهبا اتفاقيا
بأن كان أبواه أو معلمه على اعتقاد باطل فيتقلد منه دون أن يتفكر في حقه وباطله ،
وصواب القول فيه وخطئه ، فحينئذ لا يكون مستفيدا ، لأن ما حصل على فائدة وعلم ،
ولا اتبع الأستاذ على بصيرة ويقين (إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) شرط عظيم فليعتبر.
وربما يكون
المستبد برأيه مستنبطا مما استفاده على شرط أن يعلم موضع الاستنباط وكيفيته ،
فحينئذ لا يكون مستبدا حقيقة ، لأنه حصل العلم بقوّة تلك الفائدة (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) ركن عظيم ، فلا تغفل.
فالمستبدون بالرأي
مطلقا هم المنكرون للنبوات مثل الفلاسفة ، والصابئة ، والبراهمة وهم لا يقولون
بشرائع وأحكام أمرية ، بل يضعون حدودا عقلية حتى يمكنهم التعايش عليها.
والمستفيدون هم
القائلون بالنبوات.
ومن كان قال
بالأحكام الشرعية فقد قال بالحدود العقلية ، ولا ينعكس.
تمهيد
أرباب الديانات والملل
من المسلمين ، وأهل الكتاب ، وممن له شبهة كتاب
نتكلم هاهنا في
معنى الدين ، والملّة ، والشريعة ، والمنهاج والإسلام ، والحنيفيّة ، والسنّة ،
والجماعة. فإنها عبارات وردت في التنزيل ، ولكل واحدة منها معنى يخصها وحقيقة
توافقها لغة واصطلاحا. وقد بينا معنى الدين أنه الطاعة والانقياد. وقد قال الله
تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، وقد يرد بمعنى
__________________
الجزاء ، يقال : «كما
تدين تدان» أي كما تفعل تجازى. وقد يرد بمعنى الحساب يوم المعاد والتناد ، قال
الله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) ، فالمتدين هو المسلم المطيع المقرّ بالجزاء والحساب يوم
التناد والمعاد ، قال الله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً) .
ولمّا كان نوع
الإنسان محتاجا إلى اجتماع مع آخر بني جنسه في إقامة معاشه ، والاستعداد لمعاده ،
؛ وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ بالتمانع
ما هو أهله ، ويحصل بالتعاون ما ليس له ، فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي
الملّة. والطريق الخاص الذي يوصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج ، والشرعة ، والسّنّة.
والاتفاق على تلك السنة هي الجماعة ، قال الله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) .
ولن يتصوّر وضع
الملّة ، وشرع الشرعة إلّا بواضع شارع يكون مخصوصا من عند الله بآيات تدلّ على
صدقه ، وربما تكون الآية مضمنة في نفس الدعوى. وقد تكون ملازمة وربما تكون متأخرة.
ثم علم أن الملّة
الكبرى هي ملة إبراهيم الخليل عليهالسلام ، وهي الحنيفية التي تقابل الصبوة تقابل التضادّ. وسنذكر كيفية ذلك إن شاء الله تعالى ، قال
الله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ) .
والشريعة ابتدأت
من نوح عليهالسلام. قال الله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) ، والحدود والأحكام ابتدأت من آدم ، وشيث ، وإدريس عليهم
__________________
السلام. وختمت
الشرائع والملل والمناهج والسنن بأكملها وأتمها حسنا وجمالا بمحمد عليه الصلاة
والسلام ، قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً) .
وقد قيل : خص آدم
بالأسماء ، وخص نوح بمعاني تلك الأسماء ، وخصّ إبراهيم بالجمع بينهما ، ثم خصّ
موسى بالتنزيل ، وخصّ عيسى بالتأويل ، وخصّ المصطفى ، صلوات الله عليهم أجمعين ،
بالجمع بينهما على ملّة أبيكم إبراهيم.
ثم كيفية التقرير
الأوّل ، والتكميل بالتقرير الثاني بحيث يكون مصدقا كل واحد ما بين يديه من
الشرائع الماضية ، والسنن السالفة ؛ تقديرا للأمر على الخلق ، وتوفيقا للدين على
الفطرة. فمن خاصية النبوّة : لا يشاركهم فيها غيرهم. وقد قيل إن الله عزوجل أسّس دينه على مثال خلقه ليستدل بخلقه على دينه ، وبدينه
على خلقه.
__________________
الباب الأوّل
المسلمون
١ ـ قد ذكرنا معنى
الإسلام ، ونفرق هاهنا بينه وبين الإيمان والإحسان. ونبيّن ما المبدأ ، وما الوسط
، وما الكمال بالخبر المعروف في دعوة جبريل عليهالسلام حيث جاء على صورة أعرابيّ وجلس حتى ألصق ركبته بركبة النبي
صلىاللهعليهوسلم ، وقال : «يا رسول الله ، ما الإسلام؟ فقال : أن تشهد أن
لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، وأن تقيم الصّلاة ، وتؤتي الزّكاة ، وتصوم شهر
رمضان ، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال : صدقت. ثمّ قال : ما الإيمان؟ قال
عليه الصّلاة والسّلام : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، وأن
تؤمن بالقدر خيره وشرّه. قال : صدقت. ثمّ قال : ما الإحسان؟ قال عليه الصّلاة والسّلام
: أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك. قال : صدقت. ثمّ قال :
متى السّاعة؟ قال عليه الصّلاة والسّلام : ما المسئول عنها بأعلم من السّائل ، ثمّ
قام وخرج ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : هذا جبريل جاءكم يعلّمكم أمر دينكم».
ففرّق في التفسير
بين الإسلام والإيمان. والإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا ، ويشترك فيه المؤمن
والمنافق. قال الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ففرق التنزيل بينهما.
فإذا كان الإسلام
بمعنى التسليم والانقياد ظاهرا موضع الاشتراك ، فهو المبدأ. ثم إذا كان الإخلاص
معه بأن يصدّق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويقر عقدا بأن القدر
خيره وشره من الله تعالى ؛ بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،
__________________
وما أخطأه لم يكن
ليصيبه ؛ كان مؤمنا حقا. ثم إذا جمع بين الإسلام والتصديق ، وقرن المجاهدة
بالمشاهدة ، وصار غيبه شهادة ؛ فهو الكمال. فكان الإسلام مبدأ ، والإيمان وسطا.
والإحسان كمالا ، وعلى هذا شمل لفظ المسلمين : الناجي والهالك.
وقد يرد الإسلام
وقرينه الإحسان ، قال الله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) وعليه يحمل قوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً) ، وقوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، وقوله : (إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقوله : (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، وعلى هذا خصّ الإسلام بالفرقة الناجية ، والله أعلم.
٢ ـ أهل الأصول
المختلفون في : التوحيد ، والعدل ، والوعد ، والوعيد ، والسّمع ، والعقل.
نتكلّم هاهنا في
معنى الأصول والفروع ، وسائر الكلمات.
قال بعض المتكلمين
: الأصول : معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته ، ومعرفة الرسل بآياتهم
وبيّناتهم. وبالجملة : كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول :
ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسما إلى معرفة وطاعة ، والمعرفة أصل والطاعة فرع
، فمن تكلّم في المعرفة والتوحيد كان أصوليا ، ومن تكلّم في الطاعة والشريعة كان
فروعيا. فالأصول هو موضوع علم الكلام ، والفروع هو موضوع علم الفقه ، وقال بعض
العقلاء : كل ما هو معقول ، ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال ؛ فهو من الأصول. وكل
ما هو مظنون أو يتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع.
__________________
وأمّا التوحيد فقد
قال أهل السنّة ، وجميع الصفاتية : إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له. وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له ، وواحد في أفعاله
لا شريك له.
وقال أهل العدل :
إن الله تعالى واحد في ذاته ، لا قسمة ولا صفة له ، وواحد في أفعاله لا شريك له.
فلا قديم غير ذاته ، ولا قسيم له في أفعاله. ومحال وجود قديمين ، ومقدور بين
قادرين ، وذلك هو التوحيد.
وأمّا العدل فعلى
مذهب أهل السنّة أن الله تعالى عدل في أفعاله ، بمعنى أنه متصرف في ملكه وملكه ،
بفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالعدل : وضع الشيء موضعه ، وهو التصرّف في الملك على
مقتضى المشيئة والعلم ، والظلم بضده ، فلا يتصوّر منه جور في الحكم وظلم في
التصرّف. وعلى مذهب أهل الاعتزال : العدل ما يقتضيه العقل من الحكمة ؛ وهو إصدار
الفعل على وجه الصواب والمصلحة.
وأمّا الوعد
والوعيد فقد قال أهل السنة : الوعد والوعيد كلامه الأزلي. وعد على ما أمر ، وأوعد
على ما نهى. فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده ، وكل من هلك واستوجب العقاب
فبوعيده ، فلا يجب عليه شيء من قضية العقل.
وقال أهل العدل :
لا كلام في الأزل ، وإنما أمر ونهى ، ووعد وأوعد بكلام محدث ، فمن نجا فبفعله
استحق الثواب ، ومن خسر فبفعله استوجب العقاب ، والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك.
وأمّا السمع
والعقل ، فقد قال أهل السنّة : الواجبات كلها بالسمع ، والمعارف كلها بالعقل.
فالعقل لا يحسن ولا يقبح ، ولا يقتضي ولا يوجب. والسمع لا يعرّف ، أي لا يوجد
المعرفة ، بل يوجب.
__________________
وقال أهل العدل :
المعارف كلها معقولة بالعقل ، واجبة بنظر العقل ، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع
، والحسن والقبح صفتان ذاتيّتان للحسن والقبيح.
فهذه القواعد هي
المسائل التي تكلّم فيها أهل الأصول وسنذكر مذهب كل طائفة مفصلا إن شاء الله
تعالى. ولكل علم موضوع ومسائل نذكرهما بأقصى الإمكان إن شاء الله تعالى.
٣ ـ المعتزلة
وغيرهم من الجبرية ، والصفاتية ، والمختلطة منهم.
الفريقان من
المعتزلة والصفاتية متقابلان تقابل التضادّ ، وكذلك القدرية والجبريّة ، والمرجئة
والوعيدية ، والشيعة والخوارج. وهذا التضادّ بين كل فريق وفريق كان حاصلا في كل
زمان ، ولكل فرقة مقالة على حيالها ، وكتب صنفوها ، ودولة عاونتهم ، وصولة
طاوعتهم.
الفصل الأوّل
المعتزلة
ويسمون أصحاب
العدل والتوحيد ، ويلقّبون بالقدرية ، والعدلية . وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركا ، وقالوا : لفظ القدرية
يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى ، احترازا من وصمة اللقب ، إذ
كان الذم به متفقا عليه لقول النبي عليه الصلاة والسلام : «القدريّة مجوس هذه
الأمّة» ، وكانت الصفاتية تعارضهم بالاتفاق ، على أن الجبرية والقدرية متقابلتان
تقابل التضادّ ؛ فكيف يطلق لفظ الضدّ على الضدّ؟ وقد قال النبي عليه الصلاة
والسلام : «القدريّة خصماء الله في القدر» والخصومة في القدر ، وانقسام الخير
والشر على فعل الله وفعل العبد لن يتصوّر على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل ،
وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم ، والحكم المحكوم والذي يعمّ طائفة المعتزلة
من الاعتقاد.
__________________
القول بأن الله
تعالى قديم ، والقدم أخصّ وصف ذاته. ونفوا الصفات القديمة أصلا ، فقالوا : هو عالم بذاته ، قادر بذاته ، حي بذاته ،
لا بعلم وقدرة وحياة. هي صفات قديمة ، ومعان قائمة به ؛ لأنه لو شاركته الصفات في
القدم الذي هو أخصّ الوصف لشاركته في الإلهية.
واتفقوا على أن
كلامه محدث مخلوق في محلّ. وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه. فإن ما
وجد في المحل عرض قد فني في الحال.
* واتفقوا على أن
الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته ، لكن اختلفوا في وجوه وجودها ،
ومحامل معانيها كما سيأتي.
* واتفقوا على نفي
رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ، ونفي التشبيه عنه من كل وجه : جهة ،
ومكانا ، وصورة ، وجسما ، وتحيزا ، وانتقالا ، وزوالا ، وتغيرا ، وتأثرا. وأوجبوا
تأويل الآيات المتشابهة فيها. وسموا هذا النمط : توحيدا.
* واتفقوا على أن
العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرّها. مستحق على ما يفعله ثوابا وعقابا في الدار
الآخرة. والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شرّ وظلم ، وفعل هو كفر ومعصية ، لأنه لو
خلق الظلم لكان ظالما ، كما لو خلق العدل لكان عادلا.
* واتفقوا على أنّ
الله تعالى لا يفعل إلّا الصلاح والخير ، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد ،
وأمّا الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف. وسمّوا هذا النمط : عدلا.
* واتفقوا على أنّ
المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة ، استحق الثواب والعوض. والتفضل معنى آخر
وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة
__________________
ارتكبها ، استحق
الخلود في النار ، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار. وسمّوا هذا النمط : وعدا
ووعيدا.
* واتفقوا على أنّ
أصول المعرفة ، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السمع. والحسن والقبح يجب معرفتهما
بالعقل. واعتناق الحسن ، واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري
تعالى ، أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهمالسلام امتحانا واختبارا (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ
__________________
بَيِّنَةٍ) .
* واختلفوا في
الإمامة ، والقول فيها نصا ، واختيارا ، كما سيأتي عند مقالة كل طائفة .
والآن نذكر ما
يختص بطائفة من المقالة التي تميّزت بها عن أصحابها.
١ ـ الواصليّة
أصحاب أبي حذيفة
وأصل بن عطاء الغزّال الألثغ . كان تلميذا للحسن البصري يقرأ عليه العلوم والأخبار. وكانا في أيام عبد الملك بن
مروان ، وهشام
__________________
ابن عبد الملك وبالمغرب الآن منهم شرذمة قليلة في بلد إدريس بن عبد الله الحسني الذي خرج بالمغرب. في أيام أبي جعفر
المنصور .
ويقال لهم
الواصلية ، واعتزالهم يدور على أربع قواعد :
* القاعدة الأولى
: القول بنفي صفات الباري تعالى ؛ من العلم والقدرة ، والإرادة ، والحياة ، وكانت
هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر ، وهو
الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين. قال : ومن أثبت معنى صفة قديمة فقد
أثبت إلهين.
وإنما شرعت أصحابه
فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة. وانتهى نظرهم فيها إلى ردّ جميع الصفات إلى كونه :
عالما قادرا. ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان هما : اعتباران للذات القديمة كما قال
الجبّائي أو حالان كما قال أبو هشام .
وميل أبي الحسن
البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة وهي العالمية ، وذلك عين مذهب الفلاسفة ، وسنذكر
تفصيل ذلك.
وكان السلف يخالف
في ذلك إذ وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب والسنّة.
* * *
__________________
* القاعدة الثانية
: القول بالقدر : وإنما سلكوا في ذلك مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي . وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر قاعدة
الصفات. فقال إن البارى تعالى حكيم عارف ، لا يجوز أن يضاف إليه شرّ ولا ظلم. ولا
يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر. ويحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه. فالعبد
هو الفاعل للخير والشرّ ، والإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية. هو المجازى على
فعله والله تعالى أقدره على ذلك كله. وأفعال العباد محصورة في الحركات ، والسكنات
، والاعتمادات والنظر ، والعلم. قال : ويستحيل أن يخاطب العبد بأفعل وهو لا يمكنه
أن يفعل. ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل. ومن أنكره فقد أنكر الضرورة ،
واستدل بآيات على هذه الكلمات.
ورأيت رسالة نسبت
إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر.
فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية واستدلّ فيها بآيات من الكتاب ودلائل من
العقل. ولعلّها لواصل بن عطاء ، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في القدر خيره وشره
من الله تعالى ، فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنه حمل هذا اللفظ
الوارد في الخبر على البلاء والعافية ، والشدّة والرخاء ، والمرض والشفاء ، والموت
والحياة ، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى ، دون الخير والشر ، والحسن والقبيح
الصادرين من اكتساب العباد ، وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن
أصحابهم.
* * *
* القاعدة الثالثة
: القول بالمنزلة بين المنزلتين. والسبب فيه أن دخل واحد على الحسن البصري فقال :
يا إمام الدين ، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر. والكبير عندهم
كفر يخرج به عن الملة ، وهم وعيدية الخوارج.
__________________
وجماعة يرجئون
أصحاب الكبائر. ولا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة
الأمة. فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟
فتفكر الحسن في
ذلك ، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ،
ولا كافر مطلقا ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، : لا مؤمن ولا كافر. ثم قام
واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب
الحسن. فقال الحسن : اعتزل عنا واصل. فسمّي هو وأصحابه معتزلة.
ووجه تقريره أنّه
قال : إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا ما اجتمعت سمي المرء مؤمنا وهو اسم مدح.
والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح ، فلا يسمى مؤمنا وليس هو بكافر
مطلقا أيضا ، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه ، لا وجه لإنكارها ، لكنه
إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير
__________________
توبة ، فهو من أهل
النار خالد فيها ، إذ ليس في الآخرة إلّا فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في
السعير ، لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار.
وتابعه على ذلك
عمرو بن عبيد بعد أن كان موافقا في القدر ، وإنكار الصفات.
* * *
* القاعدة الرابعة
: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل ، وأصحاب صفين إن أحدهما مخطئ لا بعينه. وكذلك قوله في عثمان وقاتليه
وخاذليه ، قال : إن أحد الفريقين فاسق لا محالة ، كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا
محالة ، لكن لا بعينه. وقد عرفت قوله في الفاسق ، وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل
شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين. فلا يجوز قبول شهادة عليّ ، وطلحة ،
والزبير على باقة بقل. وجوّز أن يكون عثمان وعليّ على الخطأ. هذا قوله ، وهو رئيس
المعتزلة ومبدأ الطريقة في أعلام الصحابة ، وأئمة العترة .
ووافقه عمرو بن
عبيد على مذهبه ، وزاد عليه في تفسيق الفريقين لا بعينه بأن قال : لو شهد رجلان من
أحد الفريقين مثل عليّ ورجل من عسكره ، أو طلحة والزبير لم تقبل شهادتهما ، وفيه
تفسيق الفريقين وكونهما من أهل النار. وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث ، معروفا
بالزهد ، وواصل مشهورا بالفضل والأدب عندهم .
__________________
٢ ـ الهذيليّة
أصحاب أبي الهذيل
حمدان بن الهذيل العلاف ، شيخ المعتزلة ، ومقدم الطائفة ، ومقرر الطريقة ،
والمناظر عليها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل ، عن واصل بن عطاء. ويقال
أخذ واصل عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية. ويقال أخذه عن أبي الحسن بن
أبي الحسن البصري. وإنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد :
الأولى : أن
الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه ذاته . قادر بقدرة ، وقدرته ذاته. حيّ بحياة ، وحياته ذاته.
وإنما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه
، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته ، بل هي ذاته ، وترجع إلى
السلوب أو اللوازم كما سيأتي.
والفرق بين قول
القائل : عالم بذاته لا بعلم ، وبين قول القائل : عالم بعلم هو ذاته أن الأول نفى
الصفة ، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة. أو إثبات صفة هي بعينها ذات. وإذا أثبت
أبو الهذيل هذه الصفات وجوها للذات ، فهي بعينها أقانيم النصارى ، أو أحوال أبي هاشم.
__________________
الثانية : أنه
أثبت إرادات لا محل لها ، يكون الباري تعالى مريدا بها. ـ وهو أول من
أحدث هذه المقالة ، وتابعه عليها المتأخرون.
الثالثة : قال في
كلام الباري تعالى إن بعضه لا في محل وهو قوله : (كُنْ) وبعضه في محل الأمر ، والنهي ، والخبر والاستخبار. وكان
أمر التكوين عنده غير أمر التكليف.
الرابعة : قوله في
القدر مثل ما قاله أصحابه ، إلا أنه قدري الأولى جبريّ الآخرة. فإن مذهبه في حركات
أهل الخلدين في الآخرة أنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها. وكلها
مخلوقة للباري تعالى ؛ إذ لو كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها.
الخامسة : قوله إن
حركات أهل الخلدين تنقطع ، وأنهم يسيرون إلى سكون دائم خمودا. وتجتمع اللذات في
ذلك السكون لأهل الجنة ، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار. وهذا قريب من
مذهب جهم ، إذ حكم بفناء الجنة والنار ، وإنما التزم أبو الهذيل هذا المذهب لأنه لما ألزم في
مسألة حدوث العالم ؛ أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها ، إذ كل
واحدة لا تتناهى ؛ قال :
__________________
إني لا أقول
بحركات لا تتناهى آخرا ، كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولا ، بل يصيرون إلى سكون
دائم. وكأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون.
السادسة : قوله في
الاستطاعة إنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة وفرق أفعال القلوب وأفعال
الجوارح. فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة فالاستطاعة معها في حال
الفعل. وجوز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها فيفعل بها في الحال الأولى وإن لم
يوجد الفعل إلا في الحال الثانية ، قال «فحال يفعل» غير «حال فعل» ثم ما تولد من
فعل العبد فهو فعله ، غير اللون والطعم والرائحة وكل ما لا يعرف كيفيته. وقال في
الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه : إن الله تعالى يبدعهما فيه
، وليسا من أفعال العباد.
السابعة : قوله في
المكلف قبل ورود السمع : إنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر ،
وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبدا. ويعلم أيضا حسن الحسن وقبح القبيح ، فيجب
عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل ، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور. وقال
أيضا بطاعات لا يراد بها الله تعالى ، ولا يقصد بها التقرب إليه ؛ كالقصد إلى
النظر الأول ، والنظر الأول فإنه لم يعرف الله بعد ، والفعل عباده. وقال في المكره
: إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ، ويكون وزره موضوعا
عنه.
الثامنة : قوله في
الآجال والأرزاق : إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت ولا يجوز أن يزاد في
العمر أو ينقص والأرزاق على وجهين :
أحدهما : ما خلق
الله تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال : خلقها رزقا للعباد ، فعلى هذا من
قال : إن أحدا أكل أو انتفع بما لم يخلقه الله رزقا فقد أخطأ لما فيه أن في
الأجسام ما لم يخلقه الله تعالى.
والثاني : ما حكم
الله به من هذه الأرزاق للعباد ، فما أحل منها فهو رزقه ، وما حرم فليس رزقا ، أي
ليس مأمورا بتناوله.
التاسعة : حكى
الكعبي عنه أنه قال : إرادة الله غير المراد ، فإرادته لما خلق هي خلقه له ، وخلقه
للشيء عنده غير الشيء ، بل الخلق عنده قول لا في محل. وقال إنه تعالى لم يزل سميعا
بصيرا بمعنى سيسمع وسيبصر. وكذلك لم يزل غفورا ، رحيما ، محسنا ، خالقا ، رازقا ،
مثيبا ، معاقبا ، مواليا ، معاديا ، آمرا ، ناهيا ، بمعنى أن ذلك سيكون منه.
العاشرة : حكى
الكعبي عنه أنه قال : الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين ؛ فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر. ولا تخلو الأرض عن جماعة
هم أولياء الله معصومون ، لا يكذبون ، ولا يرتكبون الكبائر. فهم الحجة لا التواتر.
إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عددا إذا لم يكونوا أولياء الله ، ولم يكن
فيهم واحد معصوم.
وصحب أبا الهذيل :
أبو يعقوب الشحام ، والآدمي وهما على مقالته ، وكان سنه مائة سنة ، توفي في
أول خلافة المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين.
٣ ـ النظّاميّة
أصحاب إبراهيم بن
يسار بن هانئ النظام ، قد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام
المعتزلة ، وانفرد عن أصحابه بمسائل :
الأولى منها : أنه
زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله : إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على
الشرور والمعاصي ؛ وليست هي مقدورة للباري تعالى ، خلافا لأصحابه فإنهم قضوا بأنه
قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة.
ومذهب النظام أن
القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح ، وهو المانع من الإضافة
__________________
إليه فعلا ؛ ففي
تجويز وقوع القبيح منه قبح أيضا ، فيجب أن يكون مانعا. ففاعل العدل لا يوصف
بالقدرة على الظلم . وزاد أيضا على هذا الاختباط فقال : إنما يقدر على فعل ما
يعلم أن فيه صلاحا لعباده. ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس فيه
صلاحهم. هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا.
وأما أمور الآخرة
فقال : لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا ، ولا
على أن ينقص منه شيئا. وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة ولا أن يخرج أحدا من أهل
الجنة وليس ذلك مقدورا له. وقد ألزم عليه أن يكون الباري تعالى مطبوعا مجبورا على
ما يفعله. فإن القادر على الحقيقة من يتخير بين الفعل والترك. فأجاب إن الذي
ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل ، فإن عندكم يستحيل أن يفعله وإن كان مقدورا
؛ فلا فرق ، وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز
أن يدخر شيئا لا يفعله. فما أبدعه وأوجده هو المقدور ؛ ولو كان في علمه تعالى
ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه نظاما وتركيبا وصلاحا لفعله.
الثانية : قوله في
الإرادة : إن الباري تعالى ليس موصوفا بها على الحقيقة .
__________________
فإذا وصف بها شرعا
في أفعاله فالمراد بذلك أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم. وإذا وصف بكونه مريدا
لأفعال العباد فالمعنيّ به أنه آمر بها وناه عنها. وعنه أخذ الكعبي مذهبه في
الإرادة.
الثالثة : قوله إن
أفعال العباد كلها حركات فحسب. والسكون حركة اعتماد. والعلوم والإرادات حركات
النفس. ولم يرد بهذه الحركة حركة النقلة وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما ، كما
قالت الفلاسفة من إثبات حركات في الكيف ، والكم ، والوضع ، والأين والمتى ... إلى
أخواتها.
الرابعة : وافقهم
أيضا في قولهم إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح ، والبدن آلتها وقالبها. غير
أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم أن الروح جسم لطيف مشابك
للبدن مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد ، والدهنية في السمسم ،
والسمنية في اللبن. وقال إن الروح هي التي لها قوة ، واستطاعة وحياة ومشيئة. وهي
مستطيعة بنفسها ، والاستطاعة قبل الفعل.
الخامسة : حكى
الكعبي عنه أنه قال : إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله بإيجاب
الخلقة : أي أن الله تعالى طبع الحجر طبعا ، وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع ، وإذا
بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طيعا. وله في الجواهر وأحكامها خبط
ومذهب يخالف المتكلمين والفلاسفة.
السادسة : وافق
الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ . وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشي نملة على صخرة من طرف
إلى طرف أنها قطعت
__________________
ما لا يتناهى ،
فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ قال : تقطع بعضها بالمشي ، وبعضها بالطفرة . وشبه بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر ، طوله خمسون
ذراعا ، وعليه دلو معلق. وحبل طوله خمسون ذراعا علق عليه معلاق ، فيجر به الحبل المتوسط ، فإن الدلو يصل إلى رأس البئر
وقد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون ذراعا في زمان واحد ، وليس ذلك إلا أن بعض
القطع بالطفرة. ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضا موازية لمسافة. فالإلزام لا
يندفع عنه وإنما الفرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه.
السابعة : قال إن
الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت ، ووافق هشام بن الحكم في قوله إن الألوان والطعوم
والروائح أجسام. فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضا ، وتارة يقضي بكون الأعراض أجساما
لا غير.
الثامنة : من
مذهبه أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن ، ونباتا
، وحيوانا ، وإنسانا. ولم يتقدم خلق آدم عليهالسلام خلق أولاده ؛ غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض.
فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها في مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه
المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة وأكثر ميله أبدا إلى تقرير مذاهب
الطبيعيين منهم دون الإلهيين.
التاسعة : قوله في
إعجاز القرآن إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ، ومن جهة صرف الدواعي
عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به
__________________
جبرا وتعجيزا ،
حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما .
العاشرة : قوله في
الإجماع إنه ليس بحجة في الشرع ، وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون
حجة ، وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم.
الحادية عشرة :
ميله إلى الرفض ، ووقيعته في كبار الصحابة. قال : أولا : لا إمامة إلا بالنص
والتعيين ظاهرا مكشوفا. وقد نص النبي صلىاللهعليهوسلم على عليّ رضي الله عنه في مواضع ، وأظهره إظهارا لم يشتبه
على الجماعة. إلا أن عمر كتم ذلك ، وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة ،
ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: ألسنا
على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال : نعم. قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال
هذا شك وتردد في الدين ، ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم وزاد في الفرية فقال :
إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها. وكان يصيح : احرقوا
دارها بمن فيها ، وما كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين. وقال: تغريبه
نصر بن الحجاج من المدينة إلى البصرة ، وإبداعه التراويح ، ونهيه عن متعة الحج ،
ومصادرته العمال ، كل ذلك أحداث.
ثم وقع في أمير
المؤمنين عثمان وذكر أحداثه من رده الحكم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله
عليه الصلاة والسلام ، ونفيه أبا ذرّ إلى الربذة ، وهو صديق رسول الله. وتقليده
الوليد بن عقبة الكوفة وهو من أفسد الناس ، ومعاوية الشام ، وعبد الله بن عامر
البصرة. وتزويجه مروان بن الحكم ابنته ، وهم أفسدوا عليه أمره. وضربه عبد الله بن
مسعود على إحضار المصحف ، وعلى القول الذي شاقه به كل ذلك أحداثه.
__________________
ثم زاد على خزيه
ذلك بأن عاب عليا وعبد الله بن مسعود لقولهما : أقول فيها برأيي ، وكذب ابن مسعود
في روايته : «السّعيد من سعد في بطن أمّه ، والشّقيّ من شقي في بطن أمّه» وفي
روايته انشقاق القمر ، وفي تشبيهه الجن بالزط. وقد أنكر الجن رأسا إلى غير ذلك
من الوقيعة الفاحشة في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
الثانية عشرة :
قوله في المفكر قبل ورود السمع إنه إذا كان عاقلا متمكنا من النظر يجب عليه تحصيل
معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال. وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما
يتصرف فيه من أفعال. وقال : لا بد من خاطرين ، أحدهما يأمر بالإقدام ، والآخر
بالكف ليصح الاختيار.
الثالثة عشرة : قد
تكلم في مسائل الوعد والوعيد ، وزعم أن من خان في مائة وتسعة وتسعين درهما بالسرقة
أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة وهو مائتا درهم فصاعدا ،
فحينئذ يفسق ، وكذلك في سائر نصب الزكاة. وقال في المعاد إن الفضل على الأطفال
كالفضل على البهائم.
ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب إليه ، وزاد عليه بأن قال إن الله تعالى لا
يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله ، ولا على ما أخبر أنه لا بفعله ، مع أن
الإنسان قادر على ذلك ، لأن قدرة العبد صالحة للضدين. ومن المعلوم أن أحد الضدين
واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني. والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب وإن أخبر الرب
تعالى بأنه سيصلى نارا ذات لهب.
ووافقه أبو جعفر
الإسكافي وأصحابه من المعتزلة ، وزاد عليه بأن قال : إن
__________________
الله تعالى لا
يقدر على ظلم العقلاء ، وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين.
وكذلك الجعفران :
جعفر بن مبشر ، وجعفر بن حرب ، وافقاه وما زاد عليه إلا أن جعفر بن مبشر قال :
في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس. وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب
الخمر كان خطأ ، إذ المعتبر في الحدود : النص والتوقيف . وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع من الإيمان.
وكان محمد بن شبيب
، وأبو شمر ، وموسى بن عمران من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد ، وفي
المنزلة بين المنزلتين ، وقالوا : صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان إلا بمجرد
ارتكاب الكبيرة. وكان ابن مبشر يقول في الوعيد : إن استحقاق العقاب والخلود في
النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع. وسائر أصحابه يقولون : التخليد لا يعرف إلا
بالسمع.
ومن أصحاب النظام
: الفضل الحدثي ، وأحمد بن خابط. قال الراوندي : إنهما كانا يزعمان أن للخلق
خالقين : أحدهما : قديم وهو الباري تعالى. والثاني
__________________
محدث وهو المسيح عليهالسلام لقوله تعالى : (إِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) وكذبه الكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه.
٤ ـ الخابطيّة والحدثيّة
الخابطية : أصحاب
أحمد بن خابط ، وكذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي ، كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة أيضا ، وضما
إلى مذهب النظام ثلاث بدع :
البدعة الأولى :
إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليهالسلام موافقة للنصارى على اعتقادهم أن المسيح هو الذي يحاسب
الخلق في الآخرة ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا) وهو الذي يأتي في ظلل من الغمام ، وهو المعنيّ بقوله تعالى
: (أَوْ يَأْتِيَ
رَبُّكَ) وهو المراد بقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله تعالى خلق آدم على صورة الرّحمن» وبقوله : «يضع
الجبّار قدمه في النّار» وزعم أحمد بن خابط أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة
المتجسدة كما قالت النصارى.
__________________
البدعة الثانية :
القول بالتناسخ زعما أن الله تعالى أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين
في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم وخلق فيهم معرفته والعلم به ، وأسبغ
عليهم نعمه. ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا عاقلا ناظرا معتبرا وابتدأهم
بتكليف شكره. فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به ، وعصاه بعضهم في جميع ذلك. وأطاعه
بعضهم في البعض دون البعض ، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي ابتدأهم
فيها ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار ومن أطاعه في
البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه الأجسام الكثيفة. وابتلاه
بالبأساء والضراء. والشدة والرخاء ، والآلام واللذات على صور مختلفة من صور الناس
وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم. فمن كانت معصيته أقل وطاعته أكثر كانت صورته أحسن
، وآلامه أقل ، ومن كانت ذنوبه أكثر كانت صورته أقبح ، وآلامه أكثر ثم لا يزال
يكون الحيوان في الدنيا كرّة بعد كرّة ، وصورة بعد أخرى ، ما دامت معه ذنوبه
وطاعاته ، وهذا عين القول بالتناسخ.
وكان في زمانهما
شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس ، وهو أيضا من تلامذة النظام. وقال أيضا مثل ما قال أحمد
بن خابط في التناسخ ، وخلق البرية
__________________
دفعة واحدة ، إلا
أنه قال : متى صارت التوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف أيضا ، وصارت التوبتان.
عالم الجزاء.
ومن مذهبهما أن
الديار خمس :
داران للثواب ،
إحداهما فيها أكل وشرب وبعال ، وجنات وأنهار.
والثانية : دار
فوق هذه الدار ليس فيها أكل ولا شرب ولا بعال ، بل ملاذ روحانية وروح وريحان ، غير
جسمانية.
والثالثة : دار
العقاب المحض ، وهي نار جهنم ، ليس فيها ترتيب ، بل هي على نمط التساوي.
والرابعة : دار
الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا ، وهي الجنة الأولى.
والخامسة : دار
الابتلاء ، وهي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى ، وهذا التكوين
والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان : مكيال الخير ، ومكيال الشر.
فإذا امتلأ مكيال الخير صار العمل كله طاعة ، والمطيع خيّرا خالصا ، فينقل إلى
الجنة ، ولم يلبث طرفة عين ، فإن مطل الغنى ظلم. وفي الحديث : «أعطوا الأجير أجره
قبل أن يجفّ عرقه».
وإذا امتلأ مكيال
الشر صار العمل كله معصية ، والعاصي شريرا محضا ، فينقل إلى النار. ولم يلبث طرفة
عين ، وذلك قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) .
البدعة الثالثة :
حملهما كل ما ورد في الخبر من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّكم
سترون ربّكم يوم القيامة ، كما ترون القمر ليلة البدر ،
__________________
لا تضامون في
رؤيته» على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع ، وهو العقل الفعال الذي منه تفيض
الصور على الموجودات. وإياه عنى النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : «أوّل ما خلق
الله تعالى العقل ، فقال له : أقبل ، فأقبل. ثمّ قال له : أدبر ، فأدبر. فقال :
وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ، بك أعزّ ، وبك أذلّ ، وبك أعطي ، وبك أمنع»
فهو الذي يظهر يوم القيامة وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه ، فيرونه
كمثل القمر ليلة البدر. فأما واهب العقل فلا يرى البتة ، ولا يشبّه إلا مبدع
بمبدع.
وقال ابن خابط :
إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) وفي كل أمة رسول من نوعه لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ) .
ولهما طريقة أخرى
في التناسخ ، وكأنهما مزجا كلام التناسخية ، والفلاسفة ، والمعتزلة بعضها ببعض.
__________________
٥ ـ البشرية
أصحاب بشر بن المعتمر. كان من أفضل علماء المعتزلة ، وهو الذي أحدث
القول بالتولد وأفرط فيه. وانفرد عن أصحابه بمسائل ست :
الأولى منها : إنه
زعم أن اللون والطعم والرائحة والإدراكات كلها من السمع ، والرؤية يجوز أن تحصل
متولدة من فعل العبد ، إذا كانت أسبابها من فعله. وإنما أخذ هذا من قول الطبيعيين
، إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد والمباشر بالقدرة. وربما لا يثبتون القدرة على
منهاج المتكلمين. وقوة الفعل وقوة الانفعال غير القدرة التي يثبتها المتكلم.
الثانية : قوله :
إن الاستطاعة هي سلامة البنية ، وصحة الجوارح ، وتخليتها من الآفات ، وقال : لا
أقول : يفعل بها في الحالة الأولى ، ولا في الحالة الثانية ، لكني أقول : الإنسان
يفعل ، والفعل لا يكون إلا في الثانية.
الثالثة : قوله :
إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل ، ولو فعل ذلك كان ظالما إياه. إلا أنه لا
يستحسن أن يقال ذلك في حقه ، بل يقال : لو فعل ذلك كان الطفل بالغا عاقلا ، عاصيا
بمعصية ارتكبها ، مستحقا للعقاب. وهذا كلام متناقض.
الرابعة : حكى
الكعبي عنه أنه قال : إرادة الله تعالى فعل من أفعاله ، وهي على وجهين : صفة
ذات ، وصفة فعل. فأما صفة الذات فهي أن الله تعالى لم يزل مريدا لجميع أفعاله ،
ولجميع الطاعات من عباده فإنه حكيم ولا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحا وخيرا ولا
يريده. وأما صفة الفعل فإن أراد بها فعل نفسه في حال
__________________
إحداثه فهي خلقه
له ، وهي قبل الخلق لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه. وإن أراد بها فعل
عباده فهي الأمر به.
الخامسة : قال :
إن عند الله تعالى لطفا لو أتى به لآمن جميع من في الأرض إيمانا يستحقون عليه
الثواب ، استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه. وليس على الله تعالى أن يفعل
ذلك بعباده ولا يجب عليه رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح ، فما
من أصلح إلا وفوقه أصلح ، وإنما عليه أن يمكن العبد بالقدرة والاستطاعة ويزيح
العلل بالدعوة والرسالة ؛ والمفكر قبل ورود السمع يعلم الباري تعالى بالنظر
والاستدلال ، وإذا كان مختارا في فعله فيستغنى عن الخاطرين لأن الخاطرين لا يكونان
من قبل الله تعالى ، وإنما هما من قبل الشيطان ، والمفكر الأول لم يتقدمه شيطان
يخطر الشك بباله ، ولو تقدم فالكلام في الشيطان كالكلام فيه.
السادسة : قال :
من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى ، فإنه قبل توبته بشرط أن
لا يعود .
٦ ـ المعمّرية
أصحاب معمّر بن عباد السلمي ، وهو من أعظم القدرية فرية في تدقيق
__________________
القول بنفي الصفات
، ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى ، والتكفير والتضليل على ذلك وانفرد عن
أصحابه بمسائل :
منها أنه قال : إن
الله تعالى لم يخلق شيئا غير الأجسام ، فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام ، إما طبعا
كالنار التي تحدث الإحراق ، والشمس التي تحدث الحرارة والقمر الذي يحدث التلوين.
وإما اختيارا كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ومن العجب أن
حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان ، فكيف يقول إنهما من فعل الأجسام؟ وإذا لم يحدث
الباري تعالى عرضا فلم يحدث الجسم وفناءه؟ فإن الحدوث عرض ، فيلزمه أن لا يكون لله
تعالى فعل أصلا ، ثم ألزم أن كلام الباري تعالى إما عرض أو جسم ؛ فإن قال هو عرض
فقد أحدثه الباري ، فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام. أو يلزمه أن لا يكون
لله تعالى كلام هو عرض. وإن قال : هو جسم فقد أبطل قوله إنه أحدثه في محل ، فإن
الجسم لا يقوم بالجسم ، فإذا لم يقل هو بإثبات الصفات الأزلية ، ولا قال بخلق
الأعراض ؛ فلا يكون لله تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه ، وإذا لم يكن له
كلام لم يكن آمرا ناهيا ، وإذا لم يكن أمر ونهى لم تكن شريعة أصلا ، فأدى مذهبه
إلى خزي عظيم.
ومنها أنه قال إن
الأعراض لا تتناهى في كل نوع ، وقال كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى
أوجب القيام ، وذلك يؤدي إلى التسلسل ، وعن هذه
__________________
المسألة سمي هو
وأصحابه ، أصحاب المعاني ، وزاد على ذلك فقال : الحركة إنما خالفت السكون لا
بذاتها ، بل بمعنى أوجب المخالفة ، وكذلك مغايرة المثل المثل ومماثلته ، وتضاد
الضد الضد ، كل ذلك عنده بمعنى.
ومنها ، ما حكى
الكعبي عنه أن الإرادة من الله تعالى للشيء غير الله ، وغير خلقه للشيء ، وغير
الأمر : والإخبار ، والحكم ، فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف ، وقال ليس للإنسان فعل
سوى الإرادة ، مباشرة كانت أو توليدا ، وأفعاله التكليفية من القيام والقعود ،
والحركة ، والسكون في الخير والشر كلها مستندة إلى إرادته ؛ لا على طريق المباشرة
، ولا على طريق التوليد ، وهذا عجب ، غير أنه إنما بناه على مذهبه في حقيقة
الإنسان ، وعنده ، الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد ، وهو عالم ، قادر ، مختار ،
حكيم ليس بمتحرك ، ولا ساكن ، ولا متكون ، ولا متمكن ، ولا يرى ؛ ولا يمس ، ولا
يحس ، ولا يجس ، ولا يحل موضعا دون موضع ، ولا يحويه مكان ، ولا يحصره زمان ، لكنه مدبر للجسد ، وعلاقته مع البدن علاقة التدبير
والتصرف. وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة ، حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمرا
ما ، هو جوهر قائم بنفسه. لا متحيز ولا متمكن ، وأثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية
مثل العقول المفارقة. ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين
أفعال النفس التي سماها إنسانا ، وبين القالب الذي هو جسده ؛ فقال : فعل النفس هو
الإرادة فحسب. والنفس إنسان ، ففعل الإنسان هو الإرادة ؛ وما سوى ذلك من الحركات
والسكنات والاعتمادات فهي من فعل الجسد.
ومنها : أنه يحكى
عنه أنه كان ينكر القول بأن الله تعالى قديم ؛ لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو قديم
؛ وهو فعل كقولك أخذ منه ما قدم وما حدث. وقال أيضا : هو يشعر بالتقادم الزماني ،
ووجود الباري تعالى ليس بزماني.
__________________
ويحكى عنه أيضا
أنه قال : الخلق غير المخلوق ، والإحداث غير المحدث.
وحكى جعفر بن حرب
عنه أنه قال : إن الله تعالى محال أن يعلم نفسه ؛ لأنه يؤدي إلى ألا يكون العالم
والمعلوم واحدا ، ومحال أن يعلم غيره ، كما يقال محال أن يقدر على الموجود من حيث
هو موجود ، ولعل هذا النقل فيه خلل ؛ فإن عاقلا ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير
معقول.
لعمري لما كان
الرجل يميل إلى الفلاسفة ، ومن مذهبهم : أنه ليس علم الباري تعالى علما انفعاليا ،
أي تابعا للمعلوم ، بل علمه علم فعلي ؛ فهو من حيث هو فاعل عالم ، وعلمه هو الذي
أوجب الفعل ، وإنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة ، ولا يجوز تعلقه بالمعدوم
على استمرار عدمه ، وأنه علم وعقل ، وكونه عقلا ، وعاقلا ، ومعقولا شيء واحد ،
فقال ابن عباد : لا يقال : يعلم نفسه ، لأنه قد يؤدي إلى تمايز بين العالم
والمعلوم. ولا يعلم غيره ؛ لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل ، فإما أن لا يصح
النقل ، وإما أن يحمل على مثل هذا المحمل ، ولسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه
وجها.
٧ ـ المرداريّة
أصحاب عيسى بن
صبيح المكنى بأبي موسى ، الملقب بالمردار . وقد تلمذ لبشر بن المعتمر ، وأخذ العلم منه وتزهد ، ويسمى
راهب المعتزلة. وإنما انفرد عن أصحابه بمسائل :
الأولى منها : قوله
في القدر إن الله تعالى يقدر على أن يكذب ويظلم ، ولو كذب وظلم كان إلها كاذبا
ظالما ، تعالى الله عن قوله .
__________________
والثانية : قوله
في التولد مثل قول أستاذه ، وزاد عليه بأن جوّز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل
التولد .
الثالثة : قوله في
القرآن إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ، ونظما ، وبلاغة ، وهو الذي بالغ
في القول بخلق القرآن ، وكفر من قال بقدمه بأنه قد أثبت قديمين ، وكفر أيضا من لا
بس السلطان ، وزعم أنه لا يرث ولا يورث ، وكفر أيضا من قال إن أعمال العباد مخلوقة
لله تعالى ، ومن قال إنه يرى بالأبصار وغلا في التكفير حتى قال هم كافرون في قولهم
: لا إله إلا الله ، وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعا فكفرهم ، فأقبل عليه إبراهيم وقال
: الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك؟ فخزي ولم يحر
جوابا.
وقد تلمذ له أيضا
الجعفران ، وأبو زفر ، ومحمد بن سويد ، وصحب أبو جعفر محمد بن عبد
الله الإسكافي ، وعيسى بن الهيثم ، وجعفر بن حرب الأشج ، وحكى الكعبي عن الجعفرين
أنهما قالا : إن الله تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ ، ولا يجوز أن ينقل إذ
يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة ، وما نقرأه فهو حكاية عن المكتوب
الأول في اللوح المحفوظ ، وذلك فعلنا وخلقنا.
__________________
قال : وهو الذي
اختاره من الأقوال المختلفة في القرآن.
وقال في تحسين
العقل وتقبيحه : إن العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود
الشرع ، وعليه يعلم أنه إن قصر ولم يعرفه ولم يشكره عاقبه عقوبة دائمة ، فأثبتنا
التخليد واجبا بالعقل.
٨ ـ الثّمامية
أصحاب ثمامة بن
أشرس النميري ، كان جامعا بين سخافة الدين وخلاعة النفس ، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على
فسقه من غير توبة ، وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين ، وانفرد عن أصحابه
بمسائل :
منها قوله : إن
الأفعال المتولّدة لا فاعل لها ؛ إذ لم يمكنه إضافتها إلى فاعل أسبابها حتى يلزمه
أن يضيف الفعل إلى ميت ، مثل ما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده ولم يمكنه
إضافتها إلى الله تعالى ، لأنه يؤدي إلى فعل القبيح ، وذلك محال ، فتحير فيه وقال
المتولدات أفعال لا فاعل لها.
ومنها قوله في
الكفار والمشركين والمجوس ، واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية : إنهم يصيرون في
القيامة ترابا ، وكذلك قوله في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين.
__________________
ومنها قوله :
الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات ، وهي قبل الفعل.
ومنها قوله : إن
المعرفة متولدة من النظر ، وهو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات.
ومنها قوله : في
تحسين العقل وتقبيحه ، وإيجاب المعرفة قبل ورود السمع مثل قول أصحابه غير أنه زاد
عليهم فقال : من الكفار من لا يعلم خالقه وهو معذور ، وقال : إن المعارف كلها
ضرورية ، وإن من لم يضطر إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فليس هو مأمورا بها ، وإنما
خلق للعبرة والسخرة كسائر الحيوان.
ومنها قوله : لا
فعل للإنسان إلا الإرادة ، وما عداها فهو حدث لا محدث له ، وحكى ابن الراوندي عنه
أنه قال : العالم فعل الله تعالى بطباعه ، ولعله أراد بذلك ما تريده الفلاسفة من
الإيجاب بالذات دون الإيجاد على مقتضى الإرادة ، لكن يلزمه على اعتقاده ذلك ما لزم
الفلاسفة من القول بقدم العالم ؛ إذ الموجب لا ينفك عن الموجب.
وكان ثمامة في
أيام المأمون ، وكان عنده بمكان.
٩ ـ الهشاميّة
أصحاب هشام بن عمرو الفوطي ، ومبالغته في القدر أشد وأكثر من مبالغة
أصحابه ، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل.
منها قوله : إن
الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين ، بل هم المؤتلفون باختيارهم وقد ورد في التنزيل :
(ما أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) .
__________________
ومنها قوله : إن
الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ، ولا يزينه في قلوبهم ، وقد قال تعالى: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ
فِي قُلُوبِكُمْ) ومبالغته في نفي إضافات الطبع والختم والسد وأمثالها أشد
وأصعب. وقد ورد بجميعها التنزيل ، قال الله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) وقال : (بَلْ طَبَعَ اللهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) وقال : (وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وليت شعري! ما يعتقده الرجل؟ إنكار ألفاظ التنزيل وكونها
وحيا من الله تعالى؟ فيكون تصريحا بالكفر. أو إنكار ظواهرها من نسبتها إلى الباري
تعالى ووجوب تأويلها؟ وذلك عين مذهب أصحابه.
ومن بدعه في
الدلالة على الباري تعالى قوله إن الأعراض لا تدل على كونه خالقا ، ولا تصلح
الأعراض دلالات ؛ بل الأجسام تدل على كونه خالقا ، وهذا أيضا عجب.
ومن بدعه في
الإمامة قوله إنها لا تنعقد في أيام الفتنة واختلاف الناس ، وإنما يجوز عقدها في
حال الاتفاق والسلامة ، وكذلك أبو بكر الأصم من أصحابه كان يقول الإمامة لا تنعقد
إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم ، وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة عليّ رضي الله
عنه إذا كانت البيعة في أيام الفتنة من غير اتفاق من جميع الصحابة ، إذ بقي في كل
طرف طائفة على خلافه.
ومن بدعه أن الجنة
والنار ليستا مخلوقتين الآن ، إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعا خاليتان ممن
ينتفع ويتضرر بهما ، وبقيت هذه المسألة منه اعتقادا للمعتزلة ، وكان يقول
بالموافاة ، وأن الإيمان هو الذي يوافي الموت ، وقال : من أطاع الله
__________________
جميع عمره ، وقد
علم الله أنه يأتي بما يحبط أعماله ولو بكبيرة لم يكن مستحقا للوعد ، وكذلك على
العكس ، وصاحبه عباد من المعتزلة ، وكان يمتنع من إطلاق القول بأن الله تعالى
خلق الكافر ، لأن الكافر كفر ، وإنسان ، والله تعالى لا يخلق الكفر ، وقال النبوة
جزاء على عمل ، وإنها باقية ما بقيت الدنيا.
وحكى الأشعري عن عباد أنه زعم أنه لا يقال إن الله تعالى لم يزل قائلا
ولا غير قائل ، ووافقه الإسكافي على ذلك ، قال ولا يسمى متكلما.
وكان الفوطي يقول
إن الأشياء قبل كونها معدومة ؛ ليست أشياء ، وهي بعد أن تعدم عن وجود تسمى أشياء.
ولهذا المعنى كان يمنع القول بأن الله تعالى قد كان لم يزل عالما بالأشياء قبل
كونها ، فإنها لا تسمى أشياء. قال : وكان يجوز القتل والغيلة على المخالفين لمذهبه
، وأخذ أموالهم غصبا وسرقة لاعتقاده كفرهم ، واستباحة دمائهم وأموالهم .
١٠ ـ الجاحظية
أصحاب عمرو بن بحر
أبي عثمان الجاحظ ، كان من فضلاء المعتزلة
__________________
والمصنفين لهم.
وقد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة ، وخلط وروّج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة
، وحسن براعته اللطيفة. وكان في أيام المعتصم والمتوكل ، وانفرد عن أصحابه بمسائل
:
منها قوله : إن المعارف
كلها ضرورية طباع ، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد. وليس للعبد كسب سوى الإرادة
، وتحصل أفعاله منه طباعا كما قال ثمامة ، ونقل عنه أيضا أنه أنكر أصل الإرادة
وكونها جنسا من الأعراض فقال : إذا انتفى السهو عن الفاعل ، وكان عالما بما يفعله
فهو المريد على التحقيق ، وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو ميل النفس إليه ،
وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها
أفعالا مخصوصة بها ، وقال باستحالة عدم الجواهر ؛ فالأعراض تتبدل ، والجواهر لا
يجوز أن تفنى.
ومنها قوله : في
أهل النار إنهم لا يخلدون فيها عذابا ، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول
النار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها ، ومذهبه مذهب الفلاسفة في
نفي الصفات ، وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد مذهب المعتزلة. وحكى الكعبي عنه
أنه قال : يوصف الباري تعالى بأنه مريد بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ،
ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر.
وقال إن الخلق
كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم ، وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي
، وهم محجوجون بمعرفتهم ، ثم هم صنفان : عالم بالتوحيد ، وجاهل به فالجاهل معذور ،
والعالم محجوج. ومن انتحل دين الإسلام ، فإن اعتقد أن الله تعالى ليس بجسم ولا
صورة ، ولا يرى بالأبصار ، وهو عدل لا يجوز ، ولا يريد المعاصي ، وبعد الاعتقاد
واليقين أقر بذلك كله ، فهو مسلم حقا ،
__________________
وإن عرف ذلك كله
ثم جحده وأنكره ، وقال بالتشبيه والجبر ، فهو مشرك كافر حقا ، وإن لم ينظر في شيء
من ذلك كله ، وأعتقد أن الله تعالى ربه ، وأن محمدا رسول الله ، فهو مؤمن لا لوم
عليه ، ولا تكليف عليه غير ذلك.
وحكى ابن الراوندي
عنه أنه قال : إن للقرآن جسدا يجوز أن يقلب مرة رجلا ، ومرة حيوانا. وهذا مثل ما
يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم أن القرآن جسم مخلوق. وأنكر الأعراض أصلا. وأنكر
صفات الباري تعالى ، (ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة ، إلا أن الميل منه ومن
أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر منه إلى الإلهيين).
١١ ـ الخيّاطيّة
والكعبيّة
أصحاب أبي الحسين
بن أبي عمرو الخياط ، أستاذ أبي القاسم بن محمد الكعبي . وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد ، إلا أن الخياط غالى
في إثبات المعدوم شيئا وقال : الشيء ما يعلم ويخبر عنه ، والجوهر جوهر في العدم ،
والعرض عرض في العدم ، وكذلك أطلق جميع الأجناس والأصناف حتى قال : السواد سواد في
العدم ، فلم يبق إلا صفة الوجود أو الصفات التي تلزم الوجود والحدوث ، وأطلق على
المعدوم لفظ الثبوت ، وقال في نفي الصفات عن الباري
__________________
مثل ما قاله
أصحابه. وكذا القول في القدر والسمع ، والعقل ، وانفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل :
منها قوله : إن
إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته ، ولا هو مريد لذاته ، ولا إرادته حادثة
في محل أو لا في محل ، بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه عالم ، قادر ، غير
مكره في فعله ، ولا كاره ، ثم إذا قيل هو مريد لأفعاله ، فالمراد به أنه خالق لها
على وفق علمه ، وإذا قيل هو مريد لأفعال عباده ، فالمراد به أنه آمر بها راض عنها
، وقوله في كونه سميعا بصيرا راجع إلى ذلك أيضا ، فهو سميع بمعنى أنه عالم
بالمسموعات ، وبصير بمعنى أنه عالم بالمبصرات.
وقوله في الرؤية
كقول أصحابه نفيا وإحالة . غير أن أصحابه قالوا : يرى الباري تعالى ذاته ، ويرى
المرئيات ، وكونه مدركا لذلك زائد على كونه عالما وقد أنكر الكعبي ذلك ؛ قال :
معنى قولنا : يرى ذاته ويرى المرئيات : أنه عالم بها فقط.
١٢ ـ الجبّائية
والبهشميّة
أصحاب أبي عليّ
محمد بن عبد الوهاب الجبّائي ، وابنه أبي هاشم عبد السلام ، وهما من معتزلة البصرة ؛ انفردا عن أصحابهما بمسائل ،
وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل ، أما المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما. :
__________________
فمنها ، أنهما
أثبتا إرادات حادثة لا في محل ، يكون الباري تعالى بها موصوفا مريدا. وتعظيما لا
في محل إذا أراد أن يعظم ذاته ، وفناء لا في محل إذا أراد أن يفنى العالم ، وأخص
أوصاف هذه الصفات يرجع إليه من حيث إنه تعالى أيضا لا في محل ، وإثبات موجودات هي
أعراض ، أو في حكم الأعراض لا محل لها كإثبات موجودات هي جواهر ، أو في حكم
الجواهر لا مكان لها ، وذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلا هو جوهر لا في
محل ولا في مكان ، وكذلك النفس الكلية ، والعقول المفارقة .
ومنها : أنهما
حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل ، وحقيقة الكلام عندهما أصوات مقطعة ،
وحروف منظومة ، والمتكلم من فعل الكلام ، لا من قام به الكلام ، إلا أن الجبائي
خالف أصحابه خصوصا بقوله : يحدث الله تعالى عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل
القراءة ، وذلك حين ألزم أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام الله. والمسموع منه ليس
من كلام الله ، فالتزم هذا المحال من إثبات أمر غير معقول ولا مسموع ، وهو إثبات
كلامين في محل واحد.
واتفقا على نفي
رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ، وعلى القول بإثبات الفعل للعبد خلقا
وإبداعا ، وإضافة الخير والشر ، والطاعة والمعصية إليه استقلالا واستبدادا ، وأن
الاستطاعة قبل الفعل ، وهي قدرة زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح ، وأثبتا
البنية شرطا في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة.
واتفقا على أن
المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية ، وأثبتا شريعة عقلية وردّا
الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي
__________________
لا يتطرق إليها
عقل ، ولا يهتدي إليها فكر ، وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع
وعقاب العاصي ، إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع.
والإيمان عندهما
اسم مدح ، وهو عبارة عن خصال الخير التي إذا اجتمعت في شخص سمي بها مؤمنا ، ومن
ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقا ، لا مؤمنا ، ولا كافرا ، وإن لم يتب ومات
عليها فهو مخلد في النار.
واتفقا على أن
الله تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتوبة
من الصلاح والأصلح واللطف ، لأنه قادر ، عالم جواد ، حكيم لا يضره الإعطاء ، ولا ينقص
من خزائنه المنح ، ولا يزيد في ملكه الادخار ، وليس الأصلح هو الألذ ، بل هو
الأعود في العاقبة ، والأصوب في العاجلة وإن كان ذلك مؤلما مكروها ، وذلك كالحجامة
والفصد ، وشرب الأدوية ، ولا يقال إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعله بعبده
، والتكاليف كلها ألطاف ، وبعثة الأنبياء ، وشرع الشرائع ، وتمهيد الأحكام
والتنبيه على الطريق الأصوب ، كلها ألطاف.
ومما تخالفا فيه :
أما في صفات الباري تعالى فقال الجبّائي : الباري تعالى عالم لذاته. قادر حي لذاته
، ومعنى قوله : لذاته أي لا يقتضي كونه عالما صفة هي علم ، أو حال توجب كونه عالما
:
وعند أبي هاشم :
هو عالم لذاته ، بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا ، وإنما
تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها ، فأثبت أحوالا هي صفات لا موجودة ولا معدومة ،
ولا معلومة ولا مجهولة ، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات قال : والعقل
يدرك فرقا ضروريا بين معرفة الشيء مطلقا ، وبين معرفته على صفة ، فليس من عرف
الذات عرف كونه عالما. ولا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلا للعرض ، ولا شك أن
الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية ، وافتراقها في قضية ، وبالضرورة يعلم أن
ما اشتركت فيه غير ما افترقت به.
وهذه القضايا
العقلية لا ينكرها عاقل ، وهي لا ترجع إلى الذات ، ولا إلى أعراض وراء الذات ،
فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض فتعين بالضرورة أنها أحوال ، فكون العالم عالما
حال هي صفة وراء كونه ذاتا ، أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات ، وكذلك كونه
قادرا ، حيا ، ثم أثبت الباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال ، وخالفه والده
وسائر منكري الأحوال في ذلك ، وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء
الأجناس ، وقالوا : أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالا وتفترق في خصائص؟ كذلك
نقول في الصفات. وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال ، ويفضي إلى التسلسل ، بل هي
راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير ، لا أن
مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء ويشترك فيها الكثير ، فإن
ذلك مستحيل أو يرجع ذلك إلى وجوه واعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك
والافتراق.
وتلك الوجوه :
كالنّسب والإضافات ، والقرب والبعد وغير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق. وهذا هو
اختيار أبي الحسين البصري ، وأبي الحسن الأشعري ورتبوا على هذه المسألة :
مسألة أن المعدوم شيء ، فمن يثبت كونه شيئا كما نقلنا عن جماعة من المعتزلة ، فلا
يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجودا ، فعلى ذلك لا يثبت للقدرة في إيجادها أثرا
ما سوى الوجود ، والوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى اللفظ المجرد ،
وعلى مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود ولا بالعدم وهذا كما ترى من
التناقض والاستحالة.
ومن نفاة الأحوال
من يثبته شيئا ولا يسميه بصفات الأجناس. وعند الجبائي أخص وصف الباري تعالى هو
القدم ، والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في
__________________
الأعم ، وليت شعري!
كيف يمكنه إثبات الاشتراك والافتراق ، والعموم والخصوص حقيقة وهو من نفاة الأحوال؟
فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد ، غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته رجع إلى
نفي الأولية ، والنفي يستحيل أن يكون أخص وصف الباري.
واختلفا في كونه
سميعا بصيرا ، فقال الجبائي : معنى كونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به.
وخالفه ابنه وسائر
أصحابه ، أما ابنه فصار إلى أن كونه سميعا حالة ، وكونه بصيرا حالة ، وكونه بصيرا
حالة سوى كونه عالما ؛ لاختلاف القضيتين والمفهومين ، والمتعلقين ، والأثرين.
وقال غيره من
أصحابه : معناه كونه مدركا للمبصرات ، مدركا للمسموعات.
واختلفا أيضا في
بعض مسائل اللطف ، فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن مع
اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته ، ولو آمن بلا لطف لكان ثوابه أكثر لكثرة مشقته :
إنه لا يحسن منه أن يكلفه مع اللطف ، ويسوى بينه وبين من المعلوم من حاله أنه لا
يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف ، ويقول : إذ لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن
يكون مستفسدا حاله ، غير مزيح لعلته.
ويخالفه أبو هاشم
في بعض المواضع في هذه المسألة ، قال : يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على أشق
الوجهين بلا لطف.
واختلفا في فعل
الألم للعوض ، فقال الجبائي : يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض ، وعليه بني آلام
الأطفال ، وقال ابنه : إنما يحسن ذلك بشرط العوض والاعتبار جميعا.
وتفصيل مذهب
الجبائي في الأعواض على وجهين :
أحدهما أنه يقول :
يجوز التفضل بمثل الأعواض غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم متقدم.
والوجه الثاني أنه
إنما يحسن ذلك لأن العوض مستحق ، والتفضل غير مستحق والثواب عندهم ينفصل عن التفضل
بأمرين :
أحدهما : تعظيم
وإجلال للمثاب يقترن بالنعيم.
والثاني : قدر
زائد على التفضل بزيادة مقدار ولا بزيادة صفة.
وقال ابنه : يحسن
الابتداء بمثل العوض تفضلا ، والعوض منقطع غير دائم.
وقال الجبائي :
يجوز أن يقع الانتصاف من الله تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها عليه إذا
لم يكن للظالم على الله عوض لشيء ضره به.
وزعم أبو هاشم أن
التفضل لا يقع به انتصاف ، لأن التفضل ليس يجب عليه فعله.
وقال الجبائي
وابنه : لا يجب على الله شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلا وشرعا. فأما إذا
كلفهم فعل الواجب في عقولهم ، واجتناب القبائح ، وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور
من الحسن ، وركب فيهم الأخلاق الذميمة ؛ فإنه يجب عليه عند هذا التكليف إكمال
العقل ، ونصب الأدلة ، والقدرة ، والاستطاعة ، وتهيئة الآلة ؛ بحيث يكون مزيحا
لعللهم فيما أمرهم ، ويجب عليه أن يفعل بهم ادعى الأمور إلى فعل ما كلفهم به ،
وأزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه. ولهم في مسائل هذا الباب خبط
طويل.
* * *
وأما كلام جميع
المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة فيخالف كلام
__________________
البصريين. فإن من
شيوخهم من يميل إلى الروافض ، ومنهم من يميل إلى الخوارج.
والجبائي وأبو
هاشم قد وافقا أهل السنّة في الإمامة ، وأنها بالاختيار ، وأن الصحابة مترتبون في
الفضل ترتبهم في الإمامة ، غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء من الصحابة
وغيرهم . ويبالغون في عصمة الأنبياء عليهمالسلام عن الذنوب كبائرها وصغائرها ، حتى منع الجبائي القصد إلى
الذنب إلا على تأويل. والمتأخرون من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار وغيره انتهجوا طريقة أبي هاشم. وخالفه في ذلك أبو الحسين
البصري وتصفح أدلة الشيوخ واعترض على ذلك بالتزييف والإبطال ، وانفرد عنهم بمسائل
: منها نفي الحال ، ومنها نفي المعدوم شيئا. ومنها نفي الألوان أعراضا. ومنها قوله
: إن الموجودات تتمايز بأعيانها ، وذلك من توابع نفي الحال. ومنها رده الصفات كلها
إلى كون الباري تعالى عالما ، قادرا ، مدركا. وله ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في
أن الأشياء لا تعلم قبل كونها. والرجل فلسفي المذهب. إلا أنه روّج كلامه على
المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب.
__________________
الفصل الثاني
الجبرية
الجبر هو نفي
الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى. والجبرية أصناف. فالجبرية الخالصة :
هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا. والجبرية المتوسطة : هي التي
تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا. فأما من أثبت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل ،
وسمى ذلك كسبا فليس بجبريّ.
والمعتزلة يسمون
من لم يثبت للقدرة الحادثة أثرا في الإبداع والإحداث استقلالا جبريا. ويلزمهم أن
يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها جبريا. إذ لم يثبتوا
للقدرة الحادثة فيها أثرا. والمصنفون في المقالات عدوا النّجّارية والضّرارية من
الجبرية. وكذلك جماعة الكلابية من الصفاتية. والأشعرية سموهم تارة حشويّة ، وتارة
جبرية. ونحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النّجّارية والضّرارية فعددناهم من
الجبرية. ولم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من الصفاتية.
١ ـ الجهميّة
أصحاب جهم بن صفوان ، وهو من الجبرية الخالصة. ظهرت بدعته بترمذ ، وقتله سلم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية. وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية
، وزاد عليهم بأشياء.
منها قوله : لا
يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأن
__________________
ذلك يقضي تشبيها.
فنفي كونه حيا عالما. وأثبت كونه : قادرا ، فاعلا ، خالقا ؛ لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة ، والفعل ، والخلق.
ومنها إثباته
علوما حادثة للباري تعالى لا في محل. قال : لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه ؛ لأنه
لو علم ثم خلق ، أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق؟ فإن بقي فهو جهل ، فإن العلم
بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد. وإن لم يبق فقد تغير ، والمتغير مخلوق ليس بقديم.
ووافق في هذا المذهب هشام بن الحكم كما تقرر. قال : وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو
: إما أن يحدث في ذاته تعالى ، وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته ، وأن يكون محلا
للحوادث ، وإما أن يحدث في محل فيكون المحل موصوفا به ، لا الباري تعالى ، فتعين
أنه لا محل له. فأثبت علوما حادثة بعدد الموجودات المعلومة.
ومنها قوله في
القدرة الحادثة : إن الإنسان لا يقدر على شيء ، ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنما هو
مجبور في أفعاله ؛ لا قدرة له ، ولا إرادة ، ولا اختيار. وإنما يخلق الله تعالى
الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما
تنسب إلى الجمادات ، كما يقال : أثمرت الشجرة ، وجرى الماء ، وتحرك الحجر ، وطلعت
الشمس وغربت ، وتغيمت السماء وأمطرت ، واهتزت الأرض وأنبتت ، إلى غير ذلك . والثواب والعقاب جبر ، كما أن الأفعال كلها جبر. قال :
وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا.
__________________
ومنها قوله : إن
حركات أهل الخلدين تنقطع. والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما وتلذذ أهل
الجنة بنعيمها ، وتألم أهل النار بجحيمها ؛ إذ لا تتصور حركات لا تناهي آخرا ، كما
لا تتصور حركات لا تتناهى أولا. وحمل قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة في التخليد ، كما يقال
خلد الله ملك فلان. واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) . فالآية اشتملت على شريطة واستثناء ، والخلود والتأييد لا
شرط فيه ولا استثناء .
ومنها قوله : من
أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده ، لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد
، فهو مؤمن ، قال : والإيمان لا يتبعض أي لا ينقسم إلى : عقد ، وقول وعمل. قال :
ولا يتفاضل أهله فيه ، فإيمان الأنبياء ، وإيمان الأمة على نمط واحد ، إذ المعارف
لا تتفاضل. وكان السلف كلهم من أشد الرادّين عليه ، ونسبته إلى التعطيل المحض. وهو
أيضا موافق للمعتزلة في نفي الرؤية ، وإثبات خلق الكلام ، وإيجاب المعارف بالعقل
قبل ورود السمع.
__________________
٢ ـ النّجّارية
أصحاب الحسين بن محمد النّجار ، وأكثر معتزلة الري وما حواليها على
مذهبه. وهم وإن اختلفوا أصنافا إلا أنهم لم يختلفوا في المسائل التي عددناها
أصولا. وهم : برغوثية وزعفرانية ومستدركة . ووافقوا المعتزلة في نفي الصفات من العلم ، والقدرة ،
والإرادة ، والحياة ، والسمع ، والبصر. ووافقوا الصفاتية في خلق الأعمال.
قال النجار :
الباري تعالى مريد لنفسه كما هو عالم لنفسه ، فألزم عموم التعلق ، فالتزم وقال :
هو مريد الخير والشر ، والنفع والضر ، وقال أيضا : معنى كونه مريدا أنه غير مستكره
ولا مغلوب. وقال : هو خالق أعمال العباد ، خيرها وشرها ، حسنها وقبيحها ، والعبد
مكتسب لها. وأثبت تأثيرا للقدرة الحادثة ، وسمى ذلك كسبا على حسب ما يثبته
الأشعري. ووافقه أيضا في أن الاستطاعة مع الفعل. وأما في مسألة الرؤية فأنكر رؤية
الله تعالى بالأبصار وأحالها ؛ غير أنه قال : يجوز أن يحوّل الله تعالى القوة التي
في القلب من المعرفة إلى العين ، فيعرف الله تعالى بها فيكون ذلك رؤية ، وقال
بحدوث الكلام لكنه انفرد عن المعتزلة بأشياء منها :
__________________
قوله : إن كلام
الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض ، وإذا كتب فهو جسم. ومن العجب أن الزعفرانية قالت كلام الله غيره ، وكل ما هو غيره فهو مخلوق ، ومع ذلك
قالت : كل من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر. ولعلهم أرادوا بذلك الاختلاف ، وإلا فالتناقض
ظاهر. والمستدركة منهم زعموا أن كلامه غيره ، وهو مخلوق لكن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «كلام الله غير مخلوق» والسلف عن آخرهم أجمعوا على
هذه العبارة ، فوافقناهم ، وحملنا قولهم غير مخلوق ، أي على هذا الترتيب والنظم من
الحروف والأصوات ، بل هو مخلوق على غير هذه الحروف بعينها ، وهذه حكاية عنها. وحكى
الكعبي عن النجار أنه قال : الباري تعالى بكل مكان ذاتا ، ووجودا لا معنى العلم
والقدرة ، وألزمه محالات على ذلك.
وقال في المفكر
قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة إنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر
والاستدلال.
وقال في الإيمان
إنه عبارة عن التصديق. ومن ارتكب كبيرة ومات عليها من غير توبة عوقب على ذلك ،
ويجب أن يخرج من النار ، فليس من العدل التسوية بينه وبين الكفار في الخلود.
ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث ، وبشر بن غياث المريسي ،
__________________
والحسين النجار
متقاربون في المذهب ، وكلهم أثبتوا كونه تعالى مريدا لم يزل لكل ما علم أنه سيحدث
من خير وشر وإيمان وكفر ، وطاعة ومعصية ، وعامة المعتزلة يأبون ذلك.
٣ ـ الضّرارية
أصحاب ضرار بن
عمرو ، وحفص الفرد ، واتفقا في التعطيل ، وعلى أنهما قالا : الباري تعالى
عالم قادر ، على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز ، وأثبتا لله سبحانه ماهية لا يعلمها
إلا هو ، وقالا : إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة رحمهالله وجماعة من أصحابه. وأرادا بذلك أنه يعلم نفسه شهادة ، لا
بدليل ولا خبر. ونحن نعلمه بدليل وخبر. وأثبتا حاسة سادسة للإنسان يرى بها الباري
تعالى يوم الثواب في الجنة . وقالا : أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة ،
__________________
والعبد مكتسبها
حقيقة. وجواز حصول فعل بين فاعلين ، وقالا يجوز أن يقلب الله تعالى الأعراض أجساما
، والاستطاعة والعجز بعض الجسم وهو جسم ولا محالة بنفي زمانين. وقالا : الحجة بعد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الإجماع فقط ، فما ينقل عنه في أحكام الدين من طريق
أخبار الآحاد فغير مقبول .
ويحكى عن ضرار أنه
كان ينكر حرف عبد الله بن مسعود ، وحرف أبي بن كعب ، ويقطع بأن الله تعالى لم ينزله .
__________________
وقال في المفكر
قبل ورود السمع إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول فيأمره وينهاه ، ولا
يجب على الله تعالى شيء بحكم العقل. وزعم ضرار أيضا أن الإمامة تصلح في غير قريش ،
حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي ، إذ هو أقل عددا ، وأضعف وسيلة فيمكننا
خلعه إذا خالف الشريعة.
والمعتزلة وإن
جوزوا الإمامة غي غير قريش ، إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي.
الفصل الثالث
الصفاتية
اعلم أن جماعة
كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم ، والقدرة ، والحياة ،
والإرادة والسمع ، والكلام ، والجلال ، والإكرام ، والجود ، والإنعام ، والعزة ،
والعظمة. ولا يفرقون بين صفات الذات ، وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحدا.
وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين ، والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون :
هذه الصفات قد وردت في الشرع ، فنسميها صفات خبرية. ولما كانت المعتزلة ينفون
الصفات والسلف يثبتون ، سمي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة.
فبالغ السلف في إثبات
الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات. واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها
وما ورد به الخبر ؛ فافترقوا فرقتين :
فمنهم من أوّله
على وجه يحتمل اللفظ ذلك.
ومنهم من توقف في
التأويل ، وقال : عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء ، فلا يشبه شيئا
من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها ، وقطعنا بذلك ، إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ
الوارد فيه ، مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ
اسْتَوى) ومثل قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ومثل قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) إلى غير ذلك. ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات
وتأويلها ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له ، وليس كمثله شيء ، وذلك
قد أثبتناه يقينا.
ثم إن جماعة من
المتأخرين زادوا على ما قاله السلف ؛ فقالوا : لا بد من إجرائها على ظاهرها ،
فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما اعتقده السلف. ولقد كان التشبيه صرفا
خالصا في اليهود ، لا في كلهم بل في القرائين منهم ، إذ وجدوا في التوراة ألفاظا كثيرة تدل على ذلك.
ثم الشيعة في هذه
الشريعة وقعوا في غلو وتقصير. أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس.
وأما التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق. ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من
السلف رجعت بعض الروافض عن الغلوّ والتقصير ، ووقعت في الاعتزال وتخطت جماعة من
السلف إلى التفسير الظاهر فوقعت في التشبيه.
وأما السلف الذين
لم يتعرضوا للتأويل ، ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم : مالك بن أنس رضي الله عنهما ، إذ
قال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.
ومثل أحمد بن حنبل رحمهالله ، وسفيان الثوري ، وداود بن عليّ الأصفهاني ، ومن تابعهم.
حتى انتهى الزمان
إلى عبد الله بن سعيد الكلابي ، وأبي العباس القلانسي ،
__________________
والحارث بن أسد
المحاسبي ، وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام ، وأيدوا عقائد
السلف بحجج كلامية ، وبراهين أصولية. وصنف بعضهم ودرس بعض حتى جرى بين أبي الحسن
الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما. وانحاز
الأشعري إلى هذه الطائفة ، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية ، وصار ذلك مذهبا لأهل
السنّة والجماعة ، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية. ولما كانت المشبهة
والكرامية من مثبتي الصفات عددناهم فرقتين من جملة الصفاتية.
١ ـ الأشعرية
أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري
رضي الله عنهما. وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان
يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه. وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص
وبينه ، فقال عمرو : أين أجد أحدا أحاكم إليه ربي؟ فقال أبو موسى : أنا ذلك
المتحاكم إليه. فقال عمرو : أو يقدّر عليّ شيئا ثم يعذبني عليه؟ قال : نعم. قال
عمرو : ولم؟ قال : لأنه لا يظلمك. فسكت عمرو ، ولم يحر جوابا.
قال الأشعري :
الإنسان إذا فكر في خلقته ، من أي شيء ابتدأ ، وكيف دار في أطوار الخلقة طورا بعد
طور حتى وصل إلى كمال الخلقة ، وعرف يقينا أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته ، وينقله
من درجة إلى درجة ، ويرقيه من نقص إلى كمال ، علم بالضرورة أن له صانعا قادرا ،
عالما ، مريدا ، إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار
في الفطرة ، وتبين آثار الإحكام والإتقان في
__________________
الخلقة. فله صفات
دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها. وكما دلت الأفعال على كونه عالما ، مريدا ، دلت
على العلم والقدرة والإرادة ، لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهدا وغائبا. وأيضا لا
معنى للعالم حقيقة إلا أنه ذو علم ، ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة ، ولا للمريد إلا
أنه ذو إرادة ، فيحصل بالعلم الإحكام والاتقان. ويحصل بالقدرة الوقوع والحدوث.
ويحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت ، وقدر دون قدر ، وشكل دون شكل. وهذه الصفات
لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا وأن يكون الذات حيا بحياة للدليل الذي ذكرناه.
وألزم منكري
الصفات إلزاما لا محيص لهم عنه ، وهو أنكم وافقتمونا بقيام الدليل على كونه عالما
قادرا فلا يخلو إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحدا أو زائدا ، فإن كان واحدا
فيجب أن يعلم بقادريته ، ويقدر بعالميته. ويكون من علم الذات مطلقا علم كونه عالما
قادرا ، وليس الأمر كذلك ، فعلم أن الاعتبارين مختلفان. فلا يخلو إما أن يرجع
الاختلاف إلى مجرد اللفظ أو إلى الحال ، أو إلى الصفة. وبطل رجوعه إلى اللفظ
المجرد ، فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين. ولو قدر عدم الألفاظ رأسا ما
ارتاب العقل فيما تصوره وبطل رجوعه إلى الحال ، فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود ولا
بالعدم إثبات واسطة بين الوجود والعدم ، والإثبات والنفي ، وذلك محال. فتعين
الرجوع إلى صفة قائمة بالذات وذلك مذهبه.
* * *
على أن القاضي
الباقلاني من أصحاب الأشعري قد ردد قوله في إثبات الحال ونفيها وتقرر
رأيه على الإثبات ، ومع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به
__________________
لا أحوالا. وقال :
الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة خصوصا إذا أثبت حالة أوجبت تلك
الصفات.
قال أبو الحسن :
الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حي بحياة ، مريد بإرادة ، متكلم بكلام ،
سميع يسمع ، بصير يبصر. وله في البقاء اختلاف رأي.
قال : وهذه الصفات
أزلية قائمة بذاته تعالى. لا يقال : هي هو ، ولا هي غيره ، ولا : لا هو ، ولا : لا
غيره. والدليل على أنه متكلم بكلام قديم ، ومريد بإرادة قديمة أنه قد قام الدليل
على أنه تعالى ملك ، والملك من له الأمر والنهي فهو آمر ، ناه. فلا يخلو إما أن
يكون آمرا بأمر قديم ، أو بأمر محدث. وإن كان محدثا فلا يخلو : إما أن يحدثه في
ذاته ، أو في محل أو لا في محل. ويستحيل أن يحدثه في ذاته ، لأنه يؤدي إلى أن يكون
محلا للحوادث ، وذلك محال. ويستحيل أن يحدثه في محل ، لأنه يوجب أن يكون المحل به
موصوفا. ويستحيل أن يحدثه لا في محل ، لأن ذلك غير معقول. فتعين أنه قديم ، قائم
به صفة له ، وكذلك التقسيم في الإرادة والسمع والبصر.
قال : وعلمه واحد
يتعلق بجميع المعلومات : المستحيل ، والجائز ، والواجب ، والموجود ، والمعدوم.
وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات. وإرادته واحدة تتعلق بجميع
ما يقبل الاختصاص. وكلامه واحد هو : أمر ونهي ، وخبر ، واستخبار ، ووعد ، ووعيد.
وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه ، لا إلى عدد في نفس الكلام. والعبارات
والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهمالسلام دلالات على الكلام الأزلي ، والدلالة مخلوقة محدثة ،
والمدلول قديم أزلي. والفرق بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو كالفرق بين
الذّكر والمذكور فالذّكر ، محدث والمذكور قديم .
__________________
وخالف الأشعري
بهذا التدقيق جماعة من الحشوية ؛ إذ أنهم قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة.
والكلام عند الأشعري معنى قائم بالنفس سوى العبارة. والعبارة دلالة عليه من
الإنسان. فالمتكلم عنده من قام به الكلام. وعند المعتزلة من فعل الكلام غير أن
العبارة تسمى كلاما : إما بالمجاز ، وإما باشتراك اللفظ.
قال : وإرادته
واحدة قديمة ، أزلية ، متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده ، من
حيث أنها مخلوقة له ، لا من حيث إنها مكتسبة لهم. فمن هذا قال : أراد الجميع :
خيرها ، وشرها ، ونفعها ، وضرها. وكما أراد وعلم ، أراد من العباد ما علم. وأمر
القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ ، فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا
يتبدل. وخلاف المعلوم : مقدور الجنس ، محال الوقوع.
وتكليف ما لا يطاق
جائز على مذهبه للعلة التي ذكرناها. ولأن الاستطاعة عنده عرض ، والعرض لا يبقى
زمانين. ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادرا ، لأن المكلف من يقدر على إحداث
ما أمر به. فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلا على الفعل فمحال ، وإن وجد
ذلك منصوصا عليه في كتابه.
قال : والعبد قادر
على أفعاله إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة ، وبين
حركات الاختيار والإرادة. والتفرقة راجعة إلى أن
__________________
الحركات
الاختيارية حاصلة تحت القدرة ، متوقفة على اختيار القادر. فعن هذا قال : المكتسب
هو المقدور بالقدرة الحاصلة ، والحاصل تحت القدرة الحادثة.
ثم على أصل أبي
الحسين : لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث ، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا
تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض. فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث
حتى تصلح لإحداث الألوان ، والطعوم ، والروائح. وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام ،
فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة غير أن الله تعالى أجرى
سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة ، أو تحتها ، أو معها : الفعل الحاصل إذا أراده
العبد وتجرد له ، ويسمى هذا الفعل كسبا ، فيكون خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا
، وكسبا من العبد : حصولا تحت قدرته.
والقاضي أبو بكر
الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا ، فقال : الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة
لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث
فقط ، بل هاهنا وجوه أخر ، هن وراء الحدوث من كون الجوهر جوهرا متحيزا ، قابلا
للعرض. ومن كون العرض عرضا ، ولونا ، وسوادا وغير ذلك. وهذه أحوال عند مثبتي
الأحوال. قال : فجهة كون الفعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة ، ويسمى
ذلك كسبا ، وذلك هو أثر القدرة الحادثة.
قال : وإذا جاز
على أصل المعتزلة أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال هو الحدوث
والوجود ، أو في وجه من وجوه الفعل ، فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في
حال : هو صفة للحادث ، أو في وجه من وجوه الفعل ؛ وهو كون الحركة مثلا على هيئة
مخصوصة؟ وذلك أن المفهوم من الحركة مطلقا ومن العرض مطلقا غير المفهوم من القيام
والقعود ، وهما حالتان متمايزتان ، فإن كل قيام حركة ، وليس كل حركة قياما.
ومن المعلوم أن
الإنسان يفرق فرقا ضروريا بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلى ، وصام ، وقعد ،
وقام ، وكما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا
يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.
فأثبت القاضي
تأثيرا للقدرة الحادثة وأثرها : هي الحالة الخاصة ، وهي جهة من جهات الفعل حصلت من
تعلق القدرة الحادثة بالفعل. وتلك الجهة هي المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب
والعقاب. فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصا على أصل
المعتزلة ، فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء. والحسن والقبح صفتان
ذاتيتان وراء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح.
قال : فإذا جاز
لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة. ومن قال
: هي حالة مجهولة ، فبينا بقدر الإمكان جهتها وعرفناها إيش هي ، ومثلناها كيف هي.
* * *
ثم إن إمام
الحرمين أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلا. قال : أما
نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحسن. وأما إثبات قدرة لا أثر لها
بوجه فهو كنفي القدرة أصلا. وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير
خصوصا والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم. فلا بد إذن من
__________________
نسبة فعل العبد
إلى قدرته حقيقة ، لا على وجه الإحداث والخلق ، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من
العدم ، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار ، يحس من نفسه أيضا عدم الاستقلال ،
فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة
القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة. وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى
ينتهي إلى مسبب الأسباب. فهو الخالق للأسباب ومسبباتها ، المستغني على الإطلاق ،
فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق ،
الذي لا حاجة له ولا فقر.
وهذا الرأي إنما
أخذه من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام. وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب
على أصله بالفعل والقدرة ، بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه. وحينئذ يلزم القول
بالطبع ، وتأثير الأجسام في الأجسام إيجادا ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثا ،
وليس ذلك مذهب الإسلاميين. كيف ورأي المحققين من الحكماء أن الجسم لا يؤثر في
إيجاد الجسم ، قالوا : الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم ، ولا عن قوة ما في جسم ، فإن
الجسم مركب من مادة وصورة ، فلو أثر لأثر بجهتيه ، أعني بمادته وصورته والمادة لها
طبيعة عدمية ، فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم ، والتالي محال ، فالمقدم إذن محال
فنقيضه حق ؛ وهو أن الجسم وقوة ما في الجسم لا يجوز أن يؤثر في جسم.
وتخطى من هو أشد
تحققا وأغوص تفكرا عن الجسم وقوة ما في جسم ، إلى كل ما هو جائز بذاته ، فقال : كل
ما هو جائز بذاته لا يجوز أن يحدث شيئا ما ، فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز ،
والجواز له طبيعة عدمية. فلو خلى الجائز وذاته كان عدما. فلو أثر الجواز بمشاركة
العدم ، لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود ، وذلك محال ؛ فإذن لا موجد على الحقيقة
إلا واجب الوجود لذاته وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود ، لا محدثات لحقيقة
الوجود ، ولهذا شرح سنذكره.
ومن العجب أن مأخذ
كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة ، فكيف يمكن إضافة الفعل إلى
الأسباب حقيقة؟.
هذا ونعود إلى
كلام صاحب المقالة. قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري : إذا كان الخالق على
الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره ، فأخص وصفه تعالى هو : القدرة
على الاختراع. قال : وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله.
وقال الأستاذ أبو
إسحاق الأسفرايني : أخص وصفه هو : كون يوجب تمييزه عن الأكوان كلها.
وقال بعضهم : نعلم
يقينا أن ما من موجود إلا ويتميز عن غيره بأمر ما ، وإلا فيقتضي أن تكون الموجودات
كلها مشتركة متساوية ، والباري تعالى موجود ، فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات
بأخص وصف ، إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة والباري تعالى موجود ، فيجب أن يتميز
عن سائر الموجودات بأخص وصف ، إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص ، ولم
يرد به سمع ، فنتوقف.
ثم هل يجوز أن يدركه
العقل؟ ففيه خلاف أيضا ، وهذا قريب من مذهب ضرار ، غير أن ضرارا أطلق لفظ الماهية
عليه تعالى ، وهو من حيث العبارة منكر.
ومن مذهب الأشعري
: أن كل موجود يصح أن يرى ، فإن المصحح للرؤية إنما هو الوجود. والباري تعالى
موجود فيصح أن يرى. وقد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة ، وقال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها
__________________
ناظِرَةٌ) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. قال : ولا يجوز أن تتعلق
به الرؤية على جهة ، ومكان ، وصورة ومقابلة ، واتصال شعاع أو على سبيل انطباع ،
فإن كل ذلك مستحيل.
وله قولان في
ماهية الرؤية :
أحدهما : أنه علم
مخصوص ، ويعني بالخصوص أنه يتعلق بالوجود دون العدم.
والثاني : إنه
إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيرا في المدرك ، ولا تأثرا عنه.
وأثبت أن السمع
والبصر للباري تعالى صفتان أزليتان ؛ هما إدراكان وراء العلم يتعلقان بالمدركات
الخاصة بكل واحد بشرط الوجود. وأثبت اليدين ، والوجه صفات خبرية. فيقول : ورد بذلك
السمع فيجب الإقرار به كما ورد ، وصغوه إلى طريقة السلف من ترك التعرض للتأويل ، وله قول أيضا في
جواز التأويل.
ومذهبه في الوعد
والوعيد ، والأسماء ، والأحكام ، والسمع ، والعقل مخالف للمعتزلة من كل وجه.
قال : الإيمان هو
التصديق بالجنان. وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه. فمن صدق بالقلب أي
أقر بوحدانية الله تعالى ، واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاءوا به من عند الله
تعالى بالقلب صح إيمانه ، حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمنا ناجيا ، ولا يخرج من
الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك.
__________________
وصاحب الكبيرة إذا
خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى الله تعالى ، إما أن يغفر له برحمته ،
وإما أن يشفع فيه النبي صلىاللهعليهوسلم إذ قال : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» وإما أن يعذبه بمقدار
جرمه ، ثم يدخله الجنة برحمته. ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار ، لما ورد به
السمع بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. قال : ولو تاب فلا
أقول بأنه يجب على الله تعالى قبول توبته بحكم العقل ، إذ هو الموجب ، فلا يجب
عليه شيء ، بلى ورد السمع بقبول توبة التائبين ، وإجابة دعوة المضطرين ، وهو
المالك في خلقه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة لم
يكن حيفا. ولو أدخلهم لم يكن جورا ، إذ الظلم هو التصرف فيما لا يملكه المتصرف. أو
وضع الشيء في غير موضعه ، وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم ، ولا ينسب إليه
جور.
قال : والواجبات
كلها سمعية ، والعقل لا يوجب شيئا ، ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا ، فمعرفة الله
بالعقل تحصل ، وبالسمع تجب ، قال الله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وكذلك شكر المنعم ، وإثابة المطيع ، وعقاب العاصي يجب
بالسمع دون العقل ، ولا يجب على الله تعالى شيء ما بالعقل ، لا الصلاح ، ولا
الأصلح ، ولا اللطف ، وكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة ، فيقتضي نقيضه
من وجه آخر.
وأصل التكليف لم
يكن واجبا على الله إذ لم يرجع إليه نفع ، ولا اندفع به عنه ضر ، وهو قادر على
مجازاة العبيد ثوابا وعقابا ، وقادر على الإفضال عليهم ابتداء تكرما وتفضلا.
والثواب ، والنعيم ، واللطف كله منه فضل ، والعقاب والعذاب كله عدل (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ) .
وانبعاث الرسل من
القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة ، ولكن بعد
__________________
الانبعاث تأييدهم
بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات ، إذ لا بد من طريق للمستمع
يسلكه ليعرف به صدق المدعي ، ولا بد من إزاحة العلل ؛ فلا يقع في التكليف تناقض.
والمعجزة : فعل
خارق للعادة ، مقترن بالتّحدي ، سليم عن المعارضة ، يتنزل منزلة التصديق بالقول من
حيث القرينة. وهو منقسم إلى خرق المعتاد ، وإلى إثبات غير المعتاد. والكرامات
للأولياء حق ، وهي من وجه تصديق للأنبياء ، وتأكيد للمعجزات.
والإيمان والطاعة
بتوفيق الله. والكفر والمعصية بخذلانه. والتوفيق عنده : خلق القدرة على الطاعة ،
والخذلان عنده : خلق القدرة على المعصية. وعند بعض أصحابه : تيسير أسباب الخير هو
التوفيق ، وبضده الخذلان. وما ورد به السمع من الإخبار عن الأمور الغائبة مثل :
القلم ، واللوح ، والعرش ، والكرسي ، والجنة ، والنار ؛ فيجب إجراؤها على ظاهرها
والإيمان بهما كما جاءت ، إذ لا استحالة في إثباتها. وما ورد من الأخبار عن الأمور
المستقبلة في الآخرة مثل : سؤال القبر ، والثواب والعقاب فيه ، ومثل : الميزان ،
والحساب ، والصراط ، وانقسام الفريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، حق يجب
الاعتراف بها وإجراؤها على ظاهرها ، إذ لا استحالة في وجودها.
والقرآن عنده
معجزة من حيث : البلاغة والنظم ، والفصاحة ، إذ خيّر العرب بين السيف وبين
المعارضة. فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة. ومن
__________________
أصحابه من اعتقد
أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي وهو المنع من المعارضة ، ومن جهة الإخبار عن
الغيب.
وقال : الإمامة
تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص والتعيين ؛ إذ لو كان ثمّ
__________________
نص لما خفي ،
والدواعي تتوفر على نقله واتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي الله عنه. ثم
اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي الله عنه. واتفقوا بعد الشورى على عثمان رضي
الله عنه. واتفقوا بعده على عليّ رضي الله عنه. وهم مترتبون في الفضل ترتبهم في
الإمامة.
وقال : لا نقول في
عائشة وطلحة والزبير إلا أنهم رجعوا عن الخطأ. وطلحة والزبير من العشرة المبشرين
بالجنة. ولا نقول في حق معاوية وعمرو بن العاص : إلا أنهما بغيا على الإمام الحق
فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي. وأما أهل النهروان فهم الشراة المارقون عن الدين بخبر النبي صلىاللهعليهوسلم. ولقد كان عليّ رضي الله عنه على الحق في جميع أحواله ،
يدور الحق معه حيث دار.
٢ ـ المشبّهة
اعلم أن السلف من
أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنّة التي عهدوها من
الأئمة الراشدين ونصرهم جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر ، وجماعة من
خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن ، تحيروا في تقرير مذهب أهل
السنّة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم ، وأخبار النبي الأمينصلىاللهعليهوسلم.
فأما أحمد بن حنبل وداود بن عليّ الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف
__________________
فجروا على منهاج
السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث : مثل مالك بن أنس ، ومقاتل بن سليمان. وسلكوا طريق السلامة فقالوا : نؤمن بما ورد به
الكتاب والسنّة ، ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعا أن الله عزوجل لا يشبه شيئا من المخلوقات ، وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه
خالقه ومقدّره. وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا من حرك يده عند قراءة قوله تعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أو أشار بإصبعيه عند روايته «قلب المؤمن بين إصبعين من
أصابع الرّحمن» وجب قطع يده وقلع إصبعيه. وقالوا : إنما توقفنا في تفسير الآيات
وتأويلها لأمرين :
أحدهما : المنع
الوارد في التنزيل في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) فنحن نحترز عن الزيغ.
__________________
والثاني : أن
التأويل أمر مظنون بالاتفاق ، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز ، فربما أولنا
الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ ، بل نقول كما قال الراسخون في
العلم : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا) آمنا بظاهره ، وصدقنا بباطنه ، ووكلنا علمه إلى الله تعالى
ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك ، إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه. واحتاط بعضهم
أكثر احتياط حتى لم يقرأ اليد بالفارسية ، ولا الوجه ، ولا الاستواء ، ولا ما ورد
من جنس ذلك ، بل إن احتاج في ذكره إلى عبارة عبر عنها بما ورد لفظا بلفظ. فهذا هو
طريق السلامة ، وليس هو من التشبيه في شيء.
غير أن جماعة من
الشيعة الغالية ، وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل : الهشاميين من الشيعة ، ومثل مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجيمي وغيرهم من الحشوية. قالوا : معبودهم على صورة ذات
أعضاء وأبعاض ، إما روحانية ، وإما جسمانية ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود
والاستقرار والتمكن.
فأما مشبهة الشيعة
فستأتي مقالاتهم في باب الغلاة.
وأما مشبهة
الحشوية ؛ فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجيمي :
أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة. وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في
الدنيا والآخرة إذ بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض.
وحكى الكعبي عن
بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا ، وأن يزوره ويزورهم وحكى عن داود
الجواربي أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني
__________________
عما وراء ذلك :
وقال : إن معبوده جسم ، ولحم ، ودم. وله جوارح وأعضاء من يد ، ورجل ، ورأس ، ولسان
، وعينين ، وأذنين. ومع ذلك جسم لا كالأجسام ، ولحم لا كاللحوم ، ودم لا كالدماء ،
وكذلك سائر الصفات ، وهو لا يشبه شيئا من المخلوقات ، ولا يشبه شيء. وحكى عنه أنه
قال : هو أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما سوى ذلك. وأن له وفرة سوداء ، وله شعر
قطط .
وأما ما ورد في
التنزيل من الاستواء ، والوجه ، واليدين ، والجنب ، والمجيء ، والإتيان والفوقية
وغير ذلك فأجروها على ظاهرها ، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام. وكذلك ما
ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : «خلق آدم على صورة
الرّحمن» وقوله : «حتّى يضع الجبّار قدمه في النّار» وقوله : «قلب المؤمن بين
إصبعين من أصابع الرّحمن» وقوله : «خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحا» وقوله : «وضع
يده أو كفّه على كتفي» وقوله : «حتّى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك ؛
أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.
وزادوا في الأخبار
أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وأكثرها مقتبسة من اليهود
، فإن التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة ، وبكى على
طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وإن العرش لتئطّ من تحته كأطيط الرّحل الحديد ، وأنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع.
وروى المشبهة عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لقيني ربّي فصافحني وكافحني ، ووضع يده بين
كتفيّ حتّى وجدت برد أنامله».
وزادوا على التشبيه
قولهم في القرآن : إن الحروف والأصوات والرقوم
__________________
المكتوبة قديمة
أزلية. وقالوا : لا يعقل كلام ليس بحروف ولا كلم. واستدلوا بأخبار ، منها ما رووا
عن النبي عليه الصلاة والسلام : «ينادي الله تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه
الأوّلون والآخرون» ورووا أن موسى عليهالسلام كان يسمع كلام الله كجر السلاسل ، قالوا : وأجمعت السلف
على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله ، ولا نعرف
من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرؤه ونكتبه.
والمخالفون في ذلك
:
أما المعتزلة
فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام الله ، وخالفونا في القدم. وهم محجوجون
بإجماع الأمة.
وأما الأشعرية
فوافقونا على أن القرآن قديم ، وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام الله وهم
محجوجون أيضا بإجماع الأمة : أن المشار إليه هو كلام الله ، فأما إثبات كلام هو
صفة قائمة بذات الباري تعالى لا نبصرها ؛ ولا نكتبها ولا نقرؤها ، ولا نسمعها :
فهو مخالفة الإجماع من كل وجه.
فنحن نعتقد أن ما
بين الدفتين كلام الله ، أنزله على لسان جبريل عليهالسلام ، فهو المكتوب في المصاحف ، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ
، وهو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من الباري تعالى بغير حجاب ولا واسطة ، وذلك
معنى قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) وهو قوله تعالى لموسى عليهالسلام : (يا مُوسى إِنِّي
أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ومناجاته من غير واسطة حتى قال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) وقال : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) وروى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إنّ
__________________
الله تعالى كتب
التّوراة بيده ، وخلق جنّة عدن بيده ، وخلق آدم بيده» وفي التنزيل : (وَكَتَبْنا
لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) .
قالوا : فنحن لا
نزيد من أنفسنا شيئا ، ولا نتدارك بعقولنا أمرا لم يتعرض له السلف قالوا : ما بين
الدفتين كلام الله ، قلنا : هو كذلك ، واستشهدوا عليه بقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ومن المعلوم أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه. وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ
مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) وقال : (فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ) وقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقال : (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إلى غير ذلك من الآيات.
ومن المشبهة من
مال إلى مذهب الحلولية ، وقال : يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص ، كما كان
جبريل عليهالسلام ينزل في صورة أعرابي وقد تمثل لمريم بشرا سويا وعليه حمل
قول النبي عليه الصلاة والسلام : «رأيت ربّي في أحسن صورة». وفي التوراة عن موسىعليهالسلام : شافهت الله تعالى فقال لي كذا.
والغلاة من الشيعة
مذهبهم الحلول.
ثم الحلول قد يكون
بجزء ، وقد يكون بكل ؛ على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء الله تعالى.
__________________
٣ ـ الكرّاميّة
أصحاب أبي عبد
الله محمد بن كرام . وإنما عددناه من الصفاتية لأنه كان ممن يثبت الصفات إلا
أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبيه. وقد ذكرنا كيفية خروجه وانتسابه إلى أهل
السنّة فيما قدمنا ذكره.
وهم طوائف بلغ
عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة. وأصولها ستة : العابدية ، والتونية ، والزرينية ،
والإسحاقية ، والواحدية ، وأقربهم الهيصمية ، ولكل واحدة منهم رأي إلا أنه لما لم يصدر ذلك عن علماء
معتبرين ، بل عن سفهاء اغتام جاهلين لم نفردها مذهبا وأوردنا مذهب صاحب المقالة ،
وأشرنا إلى ما يتفرع منه.
نص أبو عبد الله
على أن معبوده على العرش استقرارا ، وعلى أنه بجهة فوق ذاتا ، وأطلق عليه اسم
الجوهر ، فقال في كتابه المسمى عذاب القبر إنه أحديّ الذات ، أحديّ الجوهر ، وإنه
مماس للعرش من الصفحة العليا ، وجوز الانتقال ، والتحول ، والنزول ، ومنهم من قال
إنه على بعض أجزاء العرش ، وقال بعضهم : امتلأ العرش به ، وصار المتأخرون منهم إلى
أنه تعالى بجهة فوق ، وأنه محاذ للعرش.
ثم اختلفوا فقالت
العابدية : إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدر مشغولا بالجواهر
لاتصلت به ، وقال محمد بن الهيصم : إن بينه وبين العرش بعدا
__________________
لا يتناهى ، وإنه
مباين للعالم بينونة أزلية ، ونفى التحيز والمحاذاة ، وأثبت الفوقية والمباينة.
وأطلق أكثرهم لفظ
الجسم عليه ، والمقاربون منهم قالوا : نعني بكونه جسما أنه قائم بذاته ، وهذا هو
حد الجسم عندهم ، وبنوا على هذا أن من حكم القائمين بأنفسهما أن يكونا متجاورين أو
متباينين ، فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش. وحكم بعضهم بالتباين ، وربما قالوا : كل
موجودين ، فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع الجوهر ، وإما أن يكون بجهة
منه ، والباري تعالى ليس بعرض إذ هو قائم بنفسه ، فيجب أن يكون بجهة من العالم ،
ثم أعلى الجهات وأشرفها جهة فوق ، فقلنا هو بجهة فوق بالذات حتى إذا رؤي رؤي من
تلك الجهة .
ثم لهم اختلافات
في النهاية. فمن المجسمة من أثبت النهاية له من ست جهات ، ومنهم من أثبت النهاية
له من جهة تحت ، ومنهم من أنكر النهاية له ، فقال : هو عظيم.
ولهم في معنى
العظمة خلاف ، فقال بعضهم : معنى عظمته أنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش ،
والعرش تحته ، وهو فوق كله على الوجه هو فوق جزء منه ، وقال بعضهم : معنى عظمته
أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد ، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش ، وهو
العلي العظيم.
ومن مذهبهم جميعا
: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى ، ومن أصلهم أن ما يحدث في ذاته
فإنما يحدث بقدرته ، وما يحدث مباينا لذاته فإنما يحدث بواسطة الإحداث. ويعنون
بالإحداث : الإيجاد والإعدام الواقعين في ذاته
__________________
بقدرته من الأقوال
والإرادات. ويعنون بالمحدث : ما بين ذاته من الجواهر والأعراض.
ويفرقون بين الخلق
والمخلوق ، والإيجاد والموجود والموجد ، وكذلك بين الإعدام والمعدوم. فالمخلوق
إنما يقع بالخلق ، والخلق إنما يقع في ذاته بالقدرة ، والمعدوم إنما يصير معدوما
بالإعدام الواقع في ذاته بالقدرة.
وزعموا أن في ذاته
سبحانه حوادث كثيرة مثل الإخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على
الرسل عليهمالسلام ، والقصص والوعد والوعيد والأحكام ، ومن ذلك المسمعات
والمبصرات فيما يجوز أن يسمع ويبصر ، والإيجاد والإعدام هو القول والإرادة وذلك
قوله : (كُنْ) للشيء الذي يريد كونه ، وإرادته لوجود ذلك الشيء ، وقوله
للشيء كن : صورتان.
وفسر محمد بن
الهيصم الإيجاد والإعدام : بالإرادة والإيثار. قال : وذلك مشروط بالقول شرعا ، إذ
ورد في التنزيل : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
وعلى قول الأكثرين
منهم : الخلق عبارة عن القول والإرادة. ثم اختلفوا في التفصيل ، فقال
بعضهم : لكل موجود إيجاد ، ولكل معدوم إعدام ، وقال بعضهم : إيجاد واحد يصلح
لموجودين إذا كانا من جنس واحد. وإذا اختلف الجنس تعدد الإيجاد ، وألزم بعضهم : لو
افتقر كل موجود أو كل جنس إلى إيجاد ، فليفتقر كل إيجاد إلى قدرة ، فالتزم تعدد
القدرة بتعدد الإيجاد.
__________________
وقال بعضهم أيضا :
تتعدد القدرة بعدد أجناس المحدثات. وأكثرهم على أنها تتعدد بعدد أجناس الحوادث
التي تحدث في ذاته من الكاف والنون ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، وهي خمسة
أجناس.
ومنهم من فسر
السمع والبصر بالقدرة على التسمع والتبصر ، ومنهم من أثبت لله تعالى السمع والبصر
أزلا ، والتسمعات والتبصرات هي إضافة المدركات إليهما.
وقد أثبتوا لله
تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات وبالحوادث التي تحدث في ذاته ، وأثبتوا
إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل المحدثات.
وأجمعوا على أن
الحوادث لا توجب لله تعالى وصفا ، ولا هي صفات له فتحدث في ذاته هذه الحوادث من
الأقوال ، والإرادات ، والتسمعات ، والتبصرات ، ولا يصير بها قائلا ، ولا مريدا ،
ولا سميعا ، ولا بصيرا ، ولا يصير بخلق هذه الحوادث محدثا ولا خالقا ، إنما هو
قائل بقائليته ، وخالق بخالقيته ، ومريد بمريديته ، وذلك قدرته على هذه الأشياء.
ومن أصلهم أن الحوادث
التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء حتى يستحيل عدمها ؛ إذ لو جاز عليها العدم
لتعاقبت على ذاته الحوادث ، ولشارك الجوهر في هذه القضية ، وأيضا فلو قدّر عدمها
فلا يخلو : إما أن يقدر عدمها بالقدرة ، أو بإعدام يخلقه في ذاته ، ولا يجوز أن
يكون عدمها بالقدرة ، لأنه يؤدي إلى ثبوت المعدوم
__________________
في ذاته ، وشرط
الموجود والمعدوم أن يكونا مباينين لذاته ، ولو جاز وقوع معدوم في ذاته بالقدرة من
غير واسطة إعدام لجاز حصول سائر المعدومات بالقدرة ، ثم يجب طرد ذلك في الموجد ،
حتى تقدير عدم ذلك الإعدام ، فيسلسل ، فارتكبوا لهذا التحكم استحالة عدم ما يحدث
في ذاته.
ومن أصلهم أن
المحدث إنما يحدث في ثاني حال ثبوت الإحداث بلا فصل ، ولا أثر للإحداث في حال
بقائه.
ومن أصلهم : أن ما
يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى :
١ ـ أمر التكوين ،
وهو فعل يقع تحته المفعول.
٢ ـ وإلى ما ليس
أمر التكوين : وذلك إما خبر ، وإما أمر التكليف ، ونهي التكليف. وهي أفعال من حيث
دلت على القدرة ، ولا تقع تحتها مفعولات. هذا هو تفصيل مذاهبهم محل الحوادث.
وقد اجتهد ابن
الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد الله في كل مسألة حتى ردها من المحال الفاحش إلى
نوع يفهم فيما بين العقلاء مثل التجسيم فإنه قال : أراد بالجسم : القائم بالذات ،
ومثل الفوقية فإنه حملها على العلو. وأثبت البينونة غير المتناهية ، وذلك الخلاء
الذي أثبته بعض الفلاسفة ، ومثل الاستواء ، فإنه نفي المجاورة والمماسة ، والتمكن
بالذات غير مسألة محل الحوادث فإنها لم تقبل المرمة ، فالتزمها كما ذكرنا. وهي من
أشنع المحالات عقلا.
وعند القوم أن
الحوادث تزيد على عدد المحدثات بكثير. فيكون في ذاته أكثر من عدد المحدثات عالم من
الحوادث ، وذلك محال وشنيع.
ومما أجمعوا عليه
من إثبات الصفات قولهم : الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حي بحياة ، شاء
بمشيئته ، وجميع هذه الصفات صفات قديمة أزليّة قائمة بذاته. وربما زادوا السمع
والبصر كما أثبته الأشعري ، وربما زادوا اليدين ،
والوجه : صفات ،
قديمة ، قائمة بذاته ، وقالوا : له يد لا كالأيدي ، ووجه لا كالوجوه ، وأثبتوا جواز رؤيته من جهة فوق دون سائر الجهات.
وزعم ابن الهيصم
أن الذي أطلقه المشبهة على الله عزوجل من : الهيئة ، والصورة ، والجوف ، والاستدارة ، والوفرة ،
والمصافحة ، والمعانقة ، ونحو ذلك لا يشبه سائر ما أطلقه الكرامية من : أنه خلق
آدم بيده ، وأنه استوى على عرشه ، وأنه يجيء يوم القيامة لمحاسبة الخلق ، وذلك أنا
لا نعتقد من ذلك شيئا على معنى فاسد : من جارحتين وعضوين ؛ تفسيرا لليدين ، ولا
مطابقة للمكان واستقلال العرش بالرحمن تفسيرا للاستواء ، ولا ترددا في الأماكن
التي تحيط به تفسيرا للمجيء ، وإنما ذهبنا في ذلك إلى إطلاق ما أطلقه القرآن فقط
من غير تكييف وتشبيه ، وما لم يرد به القرآن والخبر فلا نطلقه كما أطلقه سائر
المشبهة والمجسمة.
وقال الباري تعالى
عالم في الأزل بما سيكون على الوجه الذي يكون ، وشاء لتنفيذ علمه في معلوماته فلا
ينقلب علمه جهلا. ومريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة. وقائل لكل ما
يحدث بقوله كن حتى يحدث ، وهو الفرق بين الإحداث والمحدث والخلق والمخلوق . وقال : نحن نثبت القدر خيره وشره من
__________________
الله تعالى ، وأنه
أراد الكائنات كلها خيرها وشرها ، وخلق الموجودات كلها حسنها وقبيحها ، ونثبت
للعبد فعلا بالقدرة الحادثة ويسمى ذلك : كسبا : والقدرة الحادثة مؤثرة في إثبات
فائدة زائدة على كونه مفعولا مخلوقا للباري تعالى ، تلك الفائدة هي مورد التكليف ،
والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب.
* * *
واتفقوا على أن العقل
يحسن ويقبح قبل الشرع ، وتجب معرفة الله تعالى بالعقل كما قالت المعتزلة ، إلا
أنهم لم يثبتوا رعاية الصلاح والأصلح واللطف عقلا كما قالت المعتزلة وقالوا :
الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ، ودون سائر الأعمال ، وفرقوا
بين تسمية المؤمن مؤمنا فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف ، وفيما يرجع إلى
أحكام الآخرة والجزاء ، فالمنافق عندهم : مؤمن في الدنيا على الحقيقة ، مستحق
للعقاب الأبدي في الآخرة.
وقالوا في الإمامة
إنها تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين كما قال أهل السنّة. إلا أنهم جوزوا عقد
البيعة لإمامين في قطرين ، وغرضهم إثبات إمامة معاوية في الشام باتفاق جماعة من
أصحابه. وإثبات أمير المؤمنين عليّ بالمدينة والعراقين باتفاق جماعة من الصحابة. ورأوا تصويب معاوية فيما استبد
به من
__________________
الأحكام الشرعية
قتالا على طلب عثمان رضي الله عنه ، واستقلالا ببيت المال.
ومذهبهم الأصلي
اتهام عليّ رضي الله عنه في الصبر على ما جرى مع عثمان رضي عنه والسكوت عنه ، وذلك
عرق نزع .
الفصل الرابع
الخوارج
الخوارج ، والمرجئة ، والوعيدية.
__________________
كل من خرج على
الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا ، سواء كان الخروج في أيام
الصحابة على الأئمة الراشدين ؛ أو كان بعدهم على التابعين بإحسان ، والأئمة في كل
زمان.
والمرجئة صنف آخر
تكلموا في الإيمان والعمل ، إلا أنهم وافقوا الخوارج في بعض المسائل التي تتعلق
بالإمامة.
والوعيدية داخلة
في الخوارج ، وهم القائلون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار ، فذكرنا مذاهبهم
في أثناء مذاهب الخوارج.
* * *
اعلم أن أول من
خرج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه جماعة ممن كان معه في حرب صفين ، وأشدهم
خروجا عليه ، ومروقا من الدين : الأشعث بن قيس الكندي ، ومسعر بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصين الطائي حين قالوا : القوم
يدعوننا إلى كتاب الله ، وأنت تدعونا إلى السيف! حتى قال : أنا أعلم بما في كتاب
الله! انفروا إلى بقية الأحزاب! انفروا إلى من يقول : كذب الله ورسوله ، وأنتم
تقولون : صدق الله ورسوله. قالوا : لترجعنّ الأشتر عن قتال المسلمين ، وإلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان.
فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع ، وولوا مدبرين وما بقي منهم إلا شرذمة
قليلة فيهم حشاشة قوة. فامتثل الأشتر أمره.
وكان من أمر
الحكمين : أن الخوارج حملوه على التحكيم أولا. وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس رضي الله عنه فما رضي الخوارج بذلك ، وقالوا
__________________
هو منك. وحملوه
على بعث أبي موسى الأشعري على أن يحكم بكتاب الله تعالى. فجرى الأمر على خلاف ما رضي
به. فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا : لم حكمت الرجال؟ لا حكم إلا لله
، وهم المارقة الذين اجتمعوا بالنهروان .
وكبار الفرق منهم
: المحكمة. والأزارقة ، والنجدات ، والبيهسية ، والعجاردة ، والثعالبة ، والإباضية
، والصفرية. والباقون فروعهم.
ويجمعهم القول
بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ، ويقدمون ذلك على كل طاعة ، ولا يصححون
المناكحات إلا على ذلك. ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف
السنّة : حقا واجبا.
١ ـ المحكّمة الأولى
هم الذين خرجوا
على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر المحكمين. واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة ، ورأسهم عبد الله بن الكواء ، وعتاب بن الأعور ، وعبد الله بن وهب الراسبي ، وعروة بن جرير ،
__________________
ويزيد بن أبي عاصم المحاربي ، وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي
الثدية وكانوا يومئذ في اثني عشر ألف رجل أهل صلاة وصيام ، أعني
يوم النهروان.
وفيهم قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم وصوم أحدكم في جنب
صيامهم ، لكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم».
فهم المارقة الذين
قال فيهم : «سيخرج من ضئضئ هذا الرّجل قوم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من
الرّميّة».
وهم الذين أولهم
ذو الخويصرة ، وآخرهم ذو الثدية. وإنما خروجهم في الزمن الأول على
أمرين :
أحدهما : بدعتهم
في الإمامة. إذ جوّزوا أن تكون الإمامة في غير قريش ، وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من
العدل واجتناب الجور كان إماما. ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه. وإن غير السيرة
وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله. وهم أشد الناس قولا بالقياس. وجوزوا أن لا يكون في
العالم إمام أصلا. وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدا أو حرا ، أو نبطيا أو قرشيا.
__________________
والبدعة الثانية :
أنهم قالوا : أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال ولا حكم إلا لله. وقد كذبوا على
عليّ رضي الله عنه من وجهين :
(أ) أحدهما : في
التحكيم ، إنه حكم الرجال ، وليس ذلك صدقا ، لأنهم هم الذين حملوه على التحكيم.
(ب) والثاني : أن
تحكيم الرجال جائز ؛ فإن القوم هم الحاكمون في هذه المسألة ، وهم رجال. ولهذا قال
عليّ رضي الله عنه : «كلمة حق أريد بها باطل» وتخطوا عن هذه التخطئة إلى التكفير. ولعنوا عليا رضي الله
عنه فيما قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. فقاتل الناكثين واغتنم أموالهم ، وما سبى
ذراريهم ونساءهم. وقتل مقاتلة من القاسطين ، وما اغتنم ، ولا سبى ، ثم رضي
بالتحكيم ، وقاتل مقاتلة المارقين واغتنم أموالهم ، وسبى ذراريهم.
وطعنوا في عثمان
رضي الله عنه للأحداث التي عدوها عليه. وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين.
فقاتلهم عليّ رضي
الله عنه بالنهروان مقاتلة شديدة ، فما انفلت منهم إلا أقل من عشرة. وما قتل من
المسلمين إلا أقل من عشرة. فانهزم اثنان منهم إلى عمان ، واثنان إلى كرمان ، واثنان إلى سجستان ، واثنان إلى الجزيرة ،
__________________
وواحد إلى تل موزن
باليمن. وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم وبقيت إلى اليوم.
وأول من بويع من
الخوارج بالإمامة : عبد الله بن وهب الراسبي في منزل زيد بن حصين. بايعه عبد الله
بن الكواء ، وعروة بن جرير ، ويزيد بن عاصم المحاربي ، وجماعة منهم ، وكان يمتنع
عليهم تحرجا ، ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزا ، فلم يقنعوا إلا به ، وكان يوصف
برأي ونجدة. فتبرأ من الحكمين ، وممن رضي بقولهما وصوب أمرهما. وأكفروا أمير
المؤمنين عليا رضي الله عنه ، وقالوا : إنه ترك حكم الله ، وحكم الرجال. وقيل إن
أول من تلفظ بهذا رجل من بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم ، يقال له الحجاج بن عبيد الله ، يلقب بالبرك ، وهو الذي ضرب معاوية على
أليته ، لما سمع به. فسمعها رجل فقال : طعن والله فأنفذ! فسموا المحكمة بذلك. ولما
سمع أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه هذه الكلمة قال : «كلمة عدل أريد بها جور ،
إنما يقولون لا إمارة ولا بد من إمارة برّ أو فاجر».
ويقال إن أول سيف
سل من سيوف الخوارج سيف عروة بن حدير ، وذلك أن أقبل على الأشعث بن قيس فقال : ما
هذه الدنية يا أشعث؟ وما هذا التحكيم؟ أشرط أحدكم أوثق من شرط الله تعالى؟ ثم شهر
السيف والأشعث مولى فضرب به عجز البغلة ، فشبت البغلة فنفرت اليمانية. فلما رأى
ذلك الأحنف مشى هو وأصحابه إلى الأشعث فسألوه الصفح ؛ ففعل.
__________________
وعروة بن حدير نجا
بعد ذلك من حرب النهروان وبقي إلى أيام معاوية. ثم أتى إلى زياد بن أبيه ومعه مولى له ؛ فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما فقال فيهما خيرا. وسأله عن عثمان ، فقال : كنت أوالي عثمان على أحواله
في خلافته ست سنين. ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها ، وشهد عليه بالكفر.
وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، فقال : كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين
، ثم تبرأت منه بعد ذلك ، وشهد عليه بالكفر. وسأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا. ثم
سأله عن نفسه فقال : أوّلك لزنية ، وآخرك لدعوة ، وأنت فيما بينهما بعد عاص ربك.
فأمر زياد بضرب عنقه. ثم دعا مولاه فقال له : صف لي أمره وأصدق. فقال : أأطنب أم
أختصر؟ فقال : بل اختصر. قال : ما أتيته بطعام في نهار قط ، ولا فرشت له فراشا
بليل قط. هذه معاملته واجتهاده ، وذلك خبثه واعتقاده.
٢ ـ الأزارقة
أصحاب أبي راشد
نافع بن الأزرق الذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز ، فغلبوا عليها
وعلى كورها ، وما وراءها من بلدان فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير ،
وقتلوا عماله بهذه النواحي.
وكان مع نافع من
أمراء الخوارج : عطية بن الأسود الحنفي ،
__________________
وعبد الله بن الماحوز وأخواه عثمان والزبير ، وعمرو بن عمير العنبري ، وقطريّ بن الفجاءة المازني ، وعبيدة بن هلال اليشكري ، وأخوه محرز بن هلال ، وصخر بن حبيب التميمي ، وصالح بن مخراق العبدي ، وعبد ربه الكبير ، وعبد ربه الصغير ، في زهاء ثلاثين ألف فارس ممن يرى رأيهم ، وينخرط
في سلكهم.
__________________
فأنفذ إليهم عبد
الله بن الحارث بن نوفل النوفلي بصاحب جيشه مسلم بن عبيس بن كريز بن حبيب ، فقتله الخوارج وهزموا أصحابه.
فأخرج إليهم أيضا عثمان بن عبيد الله بن معمر التميمي فهزموه. فأخرج إليهم حارثة بن بدر الغداني في جيش كثيف فهزموه. وخشي أهل البصرة على
أنفسهم وبلدهم من الخوارج. فأخرج إليهم المهلب بن أبي صفرة فبقي في حرب الأزارقة تسع عشرة سنة إلى أن فرغ
من أمرهم في أيام الحجاج. ومات نافع قبل وقائع المهلب مع الأزارقة ، وبايعوا بعده
قطري بن الفجاءة المازني وسموه أمير المؤمنين.
وبدع الأزارقة
ثمانية :
إحداها : أنه أكفر
عليا رضي الله عنه ، وقال : إن الله أنزل في شأنه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا* وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ
__________________
الْخِصامِ) وصوب عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله ، وقال : إن الله تعالى أنزل في شأنه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) .
وقال عمران بن حطان ، وهو مفتي الخوارج وزاهدها وشاعرها الأكبر ، في
ضربة ابن ملجم لعنه الله لعلي رضي الله عنه :
يا ضربة من منيب
ما أراد بها
|
|
إلّا ليبلغ من
ذي العرش رضوانا
|
إنّي لأذكره
يوما فأحسبه
|
|
أوفى البريّة
عند الله ميزانا
|
وعلى هذه البدعة
مضت الأزارقة ، وزادوا عليه تكفير عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعائشة ، وعبد الله
بن عباس رضي الله عنهم ، وسائر المسلمين معهم ، وتخليدهم في النار جميعا.
والثانية : أنه
أكفر القعدة ، وهو أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال وإن كان
موافقا له على دينه ، وأكفر من لم يهاجر إليه.
والثالثة : إباحته
قتل أطفال المخالفين والنسوان معهم.
والرابعة : إسقاط
الرجم عن الزاني ، إذ ليس في القرآن ذكره. وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من
الرجال ، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.
__________________
والخامسة : حكمه
بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم.
والسادسة : أن
التقية غير جائزة في قول ولا عمل.
والسابعة : تجويزه
أن يبعث الله تعالى نبيا يعلم أنه يكفر بعد نبوته ، أو كان كافرا قبل البعثة.
والكبائر والصغائر إذا كانت بمثابة عنده وهي كفر ، وفي الأمة من جوز الكبائر
والصغائر على الأنبياء عليهمالسلام ، فهي كفر.
والثامنة : اجتمعت
الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة ، خرج به عن الإسلام جملة
، ويكون مخلدا في النار مع سائر الكفار. واستدلوا بكفر إبليس ، وقالوا : ما ارتكب
إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم عليهالسلام فامتنع ، وإلا فهو عارف بوحدانية الله تعالى.
٣ ـ النّجدات
العاذريّة
أصحاب نجدة بن عامر
الحنفي ، وقيل عاصم. وكان من شأنه أنه خرج من اليمامة مع عسكره
يريد اللحوق بالأزارقة. فاستقبله أبو فديك ، وعطية بن الأسود الحنفي في الطائفة الذين خالفوا نافع بن
الأزرق ، فأخبروه بما أحدثه نافع من الخلاف ، بتكفير القعدة عنه ، وسائر الأحداث
والبدع ، وبايعوا نجدة وسموه أمير المؤمنين ، ثم اختلفوا على نجدة
فأكفره قوم منهم لأمور نقموها عليه.
منها أنه بعث ابنه
مع جيش إلى أهل القطيف فقتلوا رجالهم ، وسبوا
__________________
نساءهم وقوّموها
على أنفسهم وقالوا : إن صارت قيمتهن في حصصنا فذاك ، وإلّا رددنا الفضل ، ونكحوهن
قبل القسمة. وأكلوا من الغنيمة قبل القسمة ، فلما رجعوا إلى نجدة وأخبروه بذلك قال
: لم يسعكم ما فعلتم؟ قالوا : لم نعلم أن ذلك لا يسعنا ، فعذرهم بجهالتهم.
واختلف أصحابه
بذلك. فمنهم من وافقه ، وعذر بالجهالات في الحكم الاجتهادي. وقالوا : الدين أمران :
أحدهما : معرفة
الله تعالى ، ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام ؛ وتحريم دماء المسلمين ، يعنون
موافقيهم. والإقرار بما جاء من عند الله جملة ، فهذا واجب على الجميع ، والجهل به
لا يعذر فيه.
والثاني : ما سوى
ذلك ، فالناس معذورون فيه إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام. قالوا : ومن
جوز العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام قبل قيام الحجة عليه فهو كافر.
واستحل نجدة بن
عامر دماء أهل العهد والذمة وأموالهم في حال التقية ، وحكم بالبراءة ممن حرمها قال
: وأصحاب الحدود من موافقيه. لعل الله تعالى يعفو عنهم. وإن عذبهم ففي غير النار ،
ثم يدخلهم الجنة ، فلا تجوز البراءة عنهم.
قال : ومن نظر
نظرة ، أو كذب كذبة صغيرة أو كبيرة وأصر عليها فهو مشرك ،
__________________
ومن زنى ، وشرب ،
وسرق غير مصرّ عليه فهو غير مشرك ، وغلظ على الناس في حد الخمر تغليظا شديدا.
ولما كاتب عبد
الملك بن مروان وأعطاه الرضى ، نقم عليه أصحابه فيه. فاستتابوه فأظهر التوبة فتركوا النقمة عليه والتعرض له ،
وندمت طائفة على هذه الاستتابة وقالوا : أخطأنا وما كان لنا أن نستتيب الإمام ،
وما كان له أن يتوب باستتابتنا إياه. فتابوا من ذلك، وأظهروا الخطأ. وقالوا له :
تب من توبتك ، وإلا نابذناك ، فتاب من توبته.
وفارقه أبو فديك
وعطية. ووثب عليه أبو فديك فقتله ثم برئ أبو فديك من عطية ، وعطية من أبي فديك
وأنفذ عبد الملك بن مروان : عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي مع جيش إلى حرب أبي
فديك فحاربه أياما فقتله ، ولحق عطية بأرض سجستان ، ويقال لأصحابه العطوية. ومن
أصحابه : عبد الكريم بن عجرد زعيم العجاردة.
وربما قيل للنجدات
: العاذرية ، لأنهم عذروا بالجهالات في أحكام الفروع. وحكى الكعبي عن النجدات : أن التقية جائزة في القول والعمل
كله وإن كان في قتل النفوس قال : وأجمعت النّجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام
قط. وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم. فإن هم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام
يحملهم عليه فأقاموه جاز.
ثم افترقوا بعد
نجدة إلى : عطوية ، وفديكية ، وبرئ كل واحد منهما عن صاحبه بعد قتل نجده! وصارت الدار
لأبي فديك إلا من تولى نجدة ، وأهل سجستان وخراسان وكرمان وقهستان من الخوارج على مذهب
عطية.
__________________
وقيل : كان نجدة
بن عامر. ونافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكة مع الخوارج على ابن الزبير ثم تفرقا عنه.
واختلف نافع ونجدة ، فصار نافع إلى البصرة ، ونجدة إلى اليمامة.
وكان سبب
اختلافهما أن نافعا قال : التقية لا تحل ، والقعود عن القتال كفر. واحتج بقول الله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) وبقوله تعالى : (يُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) .
وخالفه نجدة وقال
: التقية جائزة ، واحتج بقول الله تعالى : (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وبقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) وقال : القعود جائز ، والجهاد إذا أمكنه أفضل ، قال الله
تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) .
وقال نافع : هذا
في أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم حين كانوا مقهورين ، وأما في غيرهم مع الإمكان فالقعود كفر
، لقول الله تعالى : (وَقَعَدَ الَّذِينَ
كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) .
٤ ـ البيهسية
أصحاب أبي بيهس
الهيصم بن جابر ، وهو أحد بني سعد بن ضبيعة ، وقد
__________________
كان الحجاج طلبه
أيام الوليد فهرب إلى المدينة ، فطلبه بها عثمان بن حيان المرّي فظفر به وحبسه. وكان يسامره إلى أن ورد
كتاب الوليد بأن يقطع يديه ورجليه ثم يقتله ، ففعل به ذلك.
وكفر أبو بيهس :
إبراهيم ، وميمون في اختلافهما في بيع الأمة ، وكذلك كفر الواقفية . وزعم أنه لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة الله تعالى ومعرفة
رسله ومعرفة ما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم. والولاية لأولياء الله تعالى ، والبراءة من أعداء الله.
فمن جملة ما ورد به الشرع وحكم به ما حرم الله وجاء به الوعيد ، فلا يسعه إلا
معرفته بعينه ، وتفسيره والاحتراز عنه. ومنه ما ينبغي أن يعرف باسمه ، ولا يضره
ألا يعرفه بتفسيره حتى يبتلى به. وعليه أن يقف عند ما لا يعلم ولا يأتي بشيء إلا
بعلم. وبرئ أبو بيهس عن الواقفية لقولهم : إنا نقف فيمن واقع الحرام وهو لا يعلم أحلالا
واقع أم حراما؟ قال : كان من حقه أن يعلم ذلك.
والإيمان : هو أن
يعلم كل حق وباطل ؛ وأن الإيمان هو العلم بالقلب دون
__________________
القول والعمل ،
ويحكى عنه أنه قال : الإيمان هو الإقرار والعلم. وليس هو أحد الأمرين دون الآخر.
وعامة البيهسية
على أن العلم والإقرار والعمل كله إيمان. وذهب قوم منهم إلى أنه لا يحرم سوى ما
ورد في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية. وما سوى ذلك فكله حلال.
ومن البيهسية قوم
يقال لهم العونية ، وهم فرقتان :
١ ـ فرقة تقول :
من رجع من دار الهجرة إلى القعود برئنا منه.
٢ ـ وفرقة تقول :
بل نتولاهم ، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالا لهم.
والفرقتان اجتمعتا
على أن الإمام إذا كفر كفرت الرعية : الغائب منهم ، والشاهد.
ومن البيهسية صنف
يقال لهم أصحاب التفسير ، زعموا أن من شهد من المسلمين شهادة أخذ بتفسيرها
وكيفيتها.
وصنف يقال لهم
أصحاب السؤال ، قالوا : إن الرجل يكون مسلما إذا شهد الشهادتين ، وتبرأ ، وتولى ،
وآمن بما جاء من عند الله جملة ، وإن لم يعلم فيسأل ما افترض الله عليه ، ولا يضره
أن لا يعلم حتى يبتلى به فيسأل. وإن واقع حراما لم يعلم تحريمه فقد كفر. وقالوا في
الأطفال بقول الثعلبية : إن أطفال المؤمنين
__________________
مؤمنون ، وأطفال
الكافرين كافرون ، ووافقوا القدرية في القدر ، وقالوا : إن الله تعالى فوض إلى
العباد ، فليس لله في أعمال العباد مشيئة ، فبرئت منهم عامة البيهسية.
وقال بعض البيهسية
: إن واقع الرجل حراما لم يحكم بكفره حتى يرفع أمره إلى الإمام الوالي ويحده ، وكل
ما ليس فيه حد فهو مغفور.
وقال بعضهم : إن
السكر إذا كان من شراب حلال فلا يؤاخذ صاحبه بما قال فيه وفعل.
وقالت العونية :
السكر كفر ، ولا يشهدون أنه كفر ما لم ينضم إليه كبيرة أخرى من ترك الصلاة ، أو
قذف المحصن.
* * *
ومن الخوارج :
أصحاب صالح بن مسرح ، ولم يبلغنا عنه أنه أحدث قولا تميز به عن أصحابه
، فخرج على بشر بن مروان ، فبعث إليه بشر ، الحارث بن عمير ، أو الأشعث بن عميرة الهمداني ، أنفذه الحجاج
لقتاله ، فأصابت صالحا جراحة في قصر جلولاء ، فاستخلف مكانه شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني
__________________
المكنى بأبي
الصحاري ؛ وهو الذي غلب على الكوفة ، وقتل من جيش الحجاج أربعة وعشرين أميرا ،
كلهم أمراء الجيوش ، ثم انهزم إلى الأهواز ؛ وغرق في نهر الأهواز وهو يقول : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .
وذكر اليمان أن الشبيبية يسمون مرجئة الخوارج ؛ لما ذهبوا إليه من
الوقف في أمر صالح. ويحكى عنه أنه برئ منه وفارقه ، ثم خرج يدعي الإمامة لنفسه ،
ومذهب شبيب ما ذكرناه من مذاهب البيهسية ، إلا أن شوكته وقوته ومقاماته مع
المخالفين مما لم يكن لخارج من الخوارج ، وقصته مذكورة في التواريخ.
٥ ـ العجاردة
أصحاب عبد الكريم بن عجرد ، وافق النجدات في بدعهم ، وقيل : إنه كان من
أصحاب أبي بيهس ، ثم خالفه وتفرد بقوله : تجب البراءة عن الطفل حتى يدعى إلى
الإسلام ، ويجب دعاؤه إذا بلغ ، وأطفال المشركين في النار مع آبائهم ، ولا يرى
المال فيئا حتى يقتل صاحبه ، وهم يتولون القعدة إذا عرفوهم بالديانة ، ويرون
الهجرة فضيلة لا فريضة ، ويكفرون بالكبائر ، ويحكى عنهم أنهم ينكرون كون سورة يوسف
من القرآن ، ويزعمون أنها قصة من القصص ، قالوا : ولا يجوز أن تكون قصة العشق من
القرآن.
__________________
ثم إن العجاردة
افترقوا أصنافا ، ولكل صنف مذهب على حياله ، إلا أنهم لما كانوا من جملة العجاردة
أو رددناهم على حكم التفصيل بالجدول والضلع وهم :
(أ) الصلتية : أصحاب عثمان بن أبي الصلت ، أو الصلت بن أبي الصلت. تفرد
عن العجاردة بأن الرجل إذا أسلم توليناه وتبرأنا من أطفاله حتى يدركوا فيقبلوا
الإسلام.
ويحكى عن جماعة
منهم أنهم قالوا : ليس لأطفال المشركين والمسلمين ولاية ولا عداوة حتى يبلغوا
فيدعوا إلى الإسلام فيقروا ، أو ينكروا.
(ب) الميمونية :
أصحاب ميمون بن خالد. كان من جملة العجاردة إلا أنه تفرد عنهم بإثبات القدر خيره
وشره من العبد. وإثبات الفعل للعبد خلقا وإبداعا ، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل ،
والقول بأن الله تعالى يريد الخير دون الشر ، وليس له مشيئة في معاصي العباد. وذكر
الحسين الكرابيسي في كتابه الذي حكى فيه مقالات الخوارج : أن الميمونية
يجيزون نكاح بنات البنات ، وبنات أولاد الإخوة والأخوات ، وقالوا : إن الله تعالى
حرم نكاح البنات ، وبنات الإخوة والأخوات ، ولم يحرم نكاح البنات ، وبنات الإخوة
والأخوات ، ولم يحرم نكاح أولاد هؤلاء.
وحكى الكعبي
والأشعري عن الميمونية إنكارها كون سورة يوسف من القرآن ، وقالوا بوجوب قتال
السلطان ، وحدّه ، ومن رضي بحكمه ، فأما من أنكره فلا يجوز قتاله إلا إذا أعان
عليه ، أو طعن في دين الخوارج ، أو صار دليلا للسلطان ، وأطفال المشركين عندهم في
الجنة.
__________________
(ج) الحمزيّة : أصحاب حمزة بن أدرك . وافقوا الميمونية في القدر وفي سائر بدعها ، إلا في أطفال
مخالفيهم والمشركين فإنهم قالوا : هؤلاء كلهم في النار.
وكان حمزة من
أصحاب الحسين بن الرقاد الذي خرج بسجستان من أهل أوق ، وخالفه خلف الخارجي في
القول بالقدر ، واستحقاق الرئاسة ، فبرئ كل واحد منهما عن صاحبه ، وجوز حمزة
إمامين في عصر واحد ، ما لم تجتمع الكلمة ، ولم تقهر الأعداء.
(د) الخلفيّة :
أصحاب خلف الخارجي ؛ وهم من خوارج كرمان ومكران ، خالفوا الحمزية في القول بالقدر ، وأضافوا القدر خيره
وشره إلى الله تعالى ، وسلكوا في ذلك مسلك أهل السنّة ، وقالوا : الحمزية ناقضوا
حيث قالوا : لو عذب الله العباد على أفعال قدّرها عليهم ، أو على ما لم يفعلوه كان
ظالما ، وقضوا بأن أطفال المشركين في النار ، ولا عمل لهم ، ولا ترك ، وهذا من
أعجب ما يعتقد من التناقض.
(ه) الأطرافية : فرقة على مذهب حمزة في القول بالقدر ، إلا أنهم عذروا
__________________
أصحاب الأطراف في
ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من طريق العقل ، وأثبتوا
واجبات عقلية كما قالت القدرية. ورئيسهم غالب بن شاذك من سجستان ، وخالفهم عبد
الله السديوري وتبرأ منهم.
ومنهم المحمدية
أصحاب محمد بن رزق ، وكان من أصحاب الحسين بن الرقاد ، ثم برئ منه.
(و) الشّعيبيّة : أصحاب شعيب بن محمد ، وكان مع ميمون من جملة العجاردة ،
إلا أنّه برئ منه حين أظهر القول بالقدر.
قال شعيب : إن
الله تعالى خالق أعمال العباد ، والعبد مكتسب لها قدرة وإرادة ، مسئول عنها خيرا
وشرا ، مجازي عليها ثوابا وعقابا ، ولا يكون شيء في الوجود إلا بمشيئة الله تعالى
، وهو على بدع الخوارج في الإمامة والوعيد ، وعلى بدع العجاردة في حكم الأطفال ،
وحكم القعدة والتولي والتبرّي.
(ز) الحازمية : أصحاب حازم بن عليّ ، أخذوا بقول شعيب في أن الله تعالى
خالق أعمال العباد ، ولا يكون في سلطانه إلا ما يشاء ، وقالوا بالموافاة ، وأن
الله تعالى إنما يتولى العباد على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من
__________________
الإيمان ، ويتبرأ
منهم على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر ، وأنه سبحانه لم يزل
محبا لأوليائه مبغضا لأعدائه.
ويحكى عنهم أنهم
يتوقفون في أمر عليّ رضي الله عنه ، ولا يصرحون بالبراءة عنه ، ويصرحون بالبراءة في حق غيره.
٦ ـ الثعالبة
أصحاب ثعلبة بن عامر ، كان مع عبد الكريم بن عجرد يدا واحدة إلى أن
اختلفا في أمر الأطفال فقال ثعلبة : إنا على ولايتهم صغارا وكبارا حتى نرى منهم
إنكارا للحق ورضا بالجواز ، فتبرأت العجاردة من ثعلبة ، ونقل عنه أيضا أنه قال : ليس
له حكم في حال الطفولة من ولاية وعداوة ، حتى يدركوا ويدعوا. فإن قبلوا فذاك ، وإن
أنكروا كفروا. وكان يرى أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا ، وإعطاءهم منها إذا
افتقروا.
__________________
(أ) الأخنسية : أصحاب أخنس بن قيس ، من جملة الثعالبة ، وانفرد عنهم بأن قال : أتوقف
في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة ؛ إلا من عرف منه إيمان فأتولاه عليه
، أو كفر فأتبرأ منه ، وحرموا الاغتيال والقتل ، والسرقة في السر ، ولا يبدأ أحد
من أهل القبلة بالقتال حتى يدعى إلى الدين ، فإن امتنع قوتل ؛ سوى من عرفوه بعينه
على خلاف قولهم ، وقيل إنهم جوزوا تزويج المسلمات من مشركي قومهم أصحاب الكبائر ،
وهم على أصول الخوارج في سائر المسائل.
(ب) المعبديّة : أصحاب معبد بن عبد الرحمن ، كان من جملة الثعالبة خالف
الأخنس في الخطأ الذي وقع له في تزويج المسلمات من مشرك ، وخالف ثعلبة فيما حكم من
أخذ الزكاة من عبيدهم ، وقال : إني لأبرأ منه بذلك ، ولا أدع اجتهادي في خلافه ،
وجوزوا أن تصير سهام الصدقة سهما واحدا في حال التقية.
(ج) الرّشيديّة : أصحاب رشيد الطوسي ، ويقال لهم العشرية ، وأصلهم أن
الثعالبة كانوا يوجبون فيما سقى بالأنهار والقنى نصف العشر ، فأخبرهم زياد بن عبد الرحمن أن فيه العشر ، ولا تجوز البراءة ممن قال
فيه نصف العشر
__________________
قبل هذا ، فقال
رشيد : إن لم تجز البراءة منهم فإنا نعمل بما عملوا ، فافترقوا في ذلك فرقتين.
(د) الشيبانية : أصحاب شيبان بن سلمة ، الخارج في أيام مسلم ، وهو المعين له ولعلي بن الكرماني على نصر بن سيار ، وكان من الثعالبة ، فلما أعانهما برئت منه
الخوارج ، فلما قتل شيبان ذكر قوم توبته ، فقالت الثعالبة : لا تصح توبته لأنه قتل
الموافقين لنا في المذهب ، وأخذ أموالهم ، ولا يقبل توبة من قتل مسلما وأخذ ماله
إلا بأن يقتص من نفسه ، ويرد الأموال ، أو يوهب له ذلك.
ومن مذهب شيبان
أنه قال بالجبر ، ووافق جهم بن صفوان في مذهبه إلى الجبر ، ونفى القدرة الحادثة.
وينقل عن زياد بن عبد الرحمن الشيباني أبي خالد أنه قال : إن الله تعالى لم يعلم
حتى خلق لنفسه علما ، وأن الأشياء إنما تصير معلومة له
__________________
عند حدوثها ووجودها
، ونقل عنه أنه تبرأ من شيبان ، وأكفره حين نصر الرجلين ، فوقعت عامة الشيبانية
بجرجان ، ونسا ، وأرمينية ، والذي تولى شيبان وقال بتوبته : عطية الجرجاني وأصحابه.
(ه) المكرميّة : أصحاب مكرم بن عبد الله العجلي ، كان من جملة الثعالبة
وتفرد عنهم بأن قال تارك الصلاة كافر ، لا من أجل ترك الصلاة ولكن من أجل جهله
بالله تعالى. وطرد هذا في كل كبيرة يرتكبها الإنسان. وقال : إنما يكفر لجهله بالله
تعالى ، وذلك أن العارف بوحدانية الله تعالى ، وأنه المطلع على سره وعلانيته ،
المجازي على طاعته ومعصيته ، أن يتصور منه الإقدام على المعصية ، والاجتراء على
المخالفة ما لم يغفل عن هذه المعرفة ، ولا يبالي بالتكليف منه وعن هذا قال النبي
عليه الصلاة والسلام : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السّارق حين
يسرق وهو مؤمن» الخبر.
وخالفوا الثعالبة
في هذا القول وقالوا : بإيمان الموافاة ، والحكم بأن الله تعالى إنما يتولى عباده
ويعاديهم على ما هم صائرون إليه من موافاة الموت ، لا على أعمالهم التي هم فيها ؛
فإن ذلك ليس بموثوق به إصرارا عليه ما لم يصل المرء إلى آخر عمره ، ونهاية أجله. فحينئذ
إن بقي على ما يعتقده فذلك هو الإيمان فنواليه ، وإن لم يبق فنعاديه. وكذلك في حق
الله تعالى : حكم الموالاة والمعاداة على ما علم منه حال الموافاة ، وكلهم على هذا
القول.
(و) المعلوميّة
والمجهوليّة : كانوا في الأصل حازمية ، إلا أن المعلومية قالت : من لم
يعرف الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته فهو جاهل به ، حتى يصير
__________________
عالما بجميع ذلك ،
فيكون مؤمنا . وقالت : الاستطاعة مع الفعل ، والفعل مخلوق للعبد، فبرئت
منهم الحازمية .
وأما المجهولية
فإنهم قالوا : من علم بعض أسماء الله تعالى وصفاته وجهل بعضها ، فقد عرفه تعالى . وقالت : إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
(ز) البدعيّة :
أصحاب يحيى بن أصدم. أبدعوا القول بأن نقطع على أنفسنا بأن من اعتقد اعتقادنا فهو
من أهل الجنة ، ولا نقول : إن شاء الله ، فإن ذلك شك في الاعتقاد. ومن قال : أنا
مؤمن إن شاء الله ، فهو شاك. فنحن من أهل الجنة قطعا ، من غير شك.
٧ ـ الإباضيّة
أصحاب عبد الله بن إباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد ، فوجه إليه عبد الله بن محمد بن عطية ، فقاتله
بتبالة وقيل إن عبد الله بن يحيى الإباضي كان رفيقا له في جميع أحواله وأقواله. قال
: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين ، ومناكحتهم جائزة ، وموارثتهم حلال.
وغنيمة أموالهم من السلاح
__________________
والكراع عند الحرب
حلال ، وما سواه حرام. وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة ، إلا بعد نصب
القتال ، وإقامة الحجة.
وقالوا : إن دار
مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد ، إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي. وأجازوا شهادة
مخالفيهم على أوليائهم ، وقالوا في مرتكبي الكبائر : إنهم موحدون لا مؤمنون.
وحكى الكعبي عنهم
: أن الاستطاعة عرض من الأعراض ، وهي قبل الفعل ، بها يحصل الفعل ، وأفعال العباد
مخلوقة لله تعالى : إحداثا وإبداعا ، ومكتسبة للعبد حقيقة ، لا مجازا ، ولا يسمون
إمامهم أمير المؤمنين ، ولا أنفسهم مهاجرين ، وقالوا : العالم يفنى كله إذا فني
أهل التكليف. قال : وأجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر ، كفر النعمة ،
لا كفر الملة ، وتوقفوا في أطفال المشركين ، وجوّزوا تعذيبهم على سبيل الانتقام
وأجازوا أن يدخلوا الجنة تفضلا وحكى الكعبي عنهم أنهم قالوا بطاعة لا يراد بها
الله تعالى ، كما قال أبو الهذيل.
ثم اختلفوا في
النفاق : أيسمى شركا أم لا! قالوا : إن المنافقين في عهد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كانوا موحدين ، إلا أنهم ارتكبوا الكبائر ، فكفروا
بالكبيرة لا بالشرك وقالوا : كل شيء أمر الله تعالى به فهو عام ليس بخاص. وقد أمر
به المؤمن والكافر ، وليس في القرآن خصوص. وقالوا : لا يخلق الله تعالى شيئا إلا
دليلا على وحدانيته ، ولا بد أن يدل به واحدا. وقال قوم منهم : يجوز أن يخلق الله
تعالى رسولا بلا دليل ويكلف العباد بما أوحي إليه. ولا يجب عليه إظهار المعجزة ،
ولا يجب على الله تعالى ذلك إلى أن يخلق دليلا ، ويظهر معجزة وهم جماعة متفرقون في
مذاهبهم تفرق الثعالبة والعجاردة.
__________________
(أ) الحفصيّة : هم أصحاب حفص بن أبي المقدام ، تميز عنهم بأن قال إن بين الشرك والإيمان
خصلة واحدة ، وهي معرفة الله تعالى وحده. فمن عرفه ثم كفر بما سواه من رسول أو
كتاب أو قيامة أو جنة أو نار ، أو ارتكب الكبائر من الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر
، فهو كافر لكنه بريء من الشرك.
(ب) الحارثيّة : أصحاب الحارث الإباضي. خالف الإباضية في قوله بالقدر على مذهب المعتزلة
، وفي الاستطاعة قبل الفعل ، وفي إثبات طاعة لا يراد بها الله تعالى .
(ج) اليزيديّة : أصحاب يزيد بن أنيسة قال بتولي المحكمة الأولى قبل الأزارقة ، وتبرأ
من بعدهم إلا الإباضية فإنه يتولاهم. وزعم أن الله تعالى سيبعث رسولا من العجم ،
وينزل عليه كتابا قد كتب في السماء ، وينزل عليه جملة واحدة.
ويترك شريعة
المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام ، ويكون على ملة الصابئة
__________________
المذكورة في
القرآن. وليست هي الصابئة الموجودة بحران ، وواسط .
وتولى يزيد من شهد
لمحمد المصطفى عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب بالنبوة وإن لم يدخل في دينه
وقال إن أصحاب الحدود من موافقيه وغيرهم كفار مشركون. وكل ذنب صغير أو كبير ، فهو
شرك.
٨ ـ الصّفريّة
الزّياديّة
أصحاب زياد بن
الأصفر. خالفوا الأزارقة ، والنجدات ، والإباضية في أمور منها : إنهم لم يكفروا
القعدة عن القتال ، إذا كانوا موافقين في الدين والاعتقاد. ولم يسقطوا الرجم ، ولم
يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم وتخليدهم في النار. وقالوا : التقية جائزة في
القول دون العمل. وقالوا : ما كان من الأعمال عليه حدّ واقع فلا يتعدى بأهله الاسم
الذي لزمه به الحد كالزنا ، والسرقة ، والقذف. فيسمى زانيا ، سارقا ، قاذفا ، لا
كافرا مشركا.
وما كان من
الكبائر مما ليس فيه حد لعظم قدره مثل ترك الصلاة ، والفرار من الزحف ، فإنه يكفر
بذلك. ونقل عن الضحاك منهم أنه جوز تزويج المسلمات من كفار قومهم في دار التقية
دون دار العلانية. ورأى زياد بن الأصفر جميع الصدقات سهما واحدا في حال التقية.
ويحكى عنه أنه قال : نحن مؤمنون عند أنفسنا ، ولا ندري لعلنا خرجنا من الإيمان عند
الله. وقال : الشرك شركان : شرك هو طاعة الشيطان ، وشرك هو عبادة الأوثان. والكفر
كفران : كفر بإنكار النعمة ، وكفر
__________________
بإنكار الربوبية.
والبراءة براءتان : براءة من أهل الحدود سنّة ، وبراءة من أهل الجحود فريضة.
* * *
ولنختتم المذاهب
بذكر تتمة رجال الخوارج :
من المتقدمين :
عكرمة ، وأبو هارون العبدي ، وأبو الشعثاء ، وإسماعيل بن سميع.
ومن المتأخرين :
اليمان بن رباب : ثعلبي ، ثم بيهسي. وعبد الله بن يزيد ، ومحمد بن حرب ، ويحيى بن
كامل : إباضية.
ومن شعرائهم :
عمران بن حطان ، وحبيب بن مرة صاحب الضحاك بن قيس. ومنهم أيضا : جهم بن صفوان ،
وأبو مروان غيلان بن مسلم ، ومحمد بن عيسى برغوث ، وأبو الحسين كلثوم بن حبيب
المهلبي. وأبو بكر محمد بن عبد الله بن شبيب البصري ، وعلي بن حرملة ، وصالح بن
قبة بن صبيح بن عمرو ، ومويس بن عمران البصري ، وأبو عبد الله بن مسلمة ، وأبو عبد
الرحمن بن مسلمة ، والفضل بن عيسى الرقاشي ، وأبو زكريا يحيى بن أصفح ، وأبو
الحسين محمد بن مسلم الصالحي ، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن الخالدي ،
ومحمد بن صدقة ، وأبو الحسين علي بن زيد الإباضي ، وأبو عبد الله محمد بن كرام ،
وكلثوم بن حبيب المرادي البصري.
__________________
والذين اعتزلوا
إلى جانب فلم يكونوا مع علي رضي الله عنه في حروبه ، ولا مع خصومه ، وقالوا : لا
ندخل في غمار الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم : عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة الأنصاري ، وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي ، مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقال قيس بن أبي حازم : كنت مع علي رضي الله عنه في جميع أحواله
وحروبه حتى قال في يوم صفين : «انفروا إلى بقية الأحزاب ، انفروا إلى من يقول : كذب
الله ورسوله ، وأنتم تقولون : صدق الله ورسوله» فعرفت أي شيء كان يعتقد في الجماعة
، فاعتزلت عنه.
الفصل الخامس
المرجئة
الإرجاء على
معنيين :
أحدهما : بمعنى
التأخير كما في قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ) ، أي أمهله وأخره.
والثاني : إعطاء
الرجاء.
__________________
أما إطلاق اسم المرجئة
على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح. لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد.
وأما بالمعنى
الثاني فظاهر ، فإنهم كانوا يقولون : لا تضر مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع
الكفر طاعة.
وقيل الإرجاء
تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة. فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا ، من
كونه من أهل الجنة ، أو من أهل النار . فعلى هذا : المرجئة ، والوعيدية فرقتان متقابلتان.
وقيل الإرجاء :
تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة. فعلى هذا المرجئة والشيعة
فرقتان متقابلتان :
والمرجئة أربعة
أصناف : مرجئة الخوارج ، ومرجئة القدرية ، ومرجئة الجبرية ، والمرجئة الخالصة.
ومحمد بن شبيب ، والصالحي ، والخالدي من مرجئة القدرية. وكذلك الغيلانية أصحاب
غيلان الدمشقي ، أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء ، ونحن إنما نعد مقالات
المرجئة الخالصة منهم.
١ ـ اليونسيّة
أصحاب يونس بن عون النميري ، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله ،
__________________
والخضوع له ، وترك
الاستكبار عليه ، والمحبة بالقلب. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وما سوى ذلك
من الطاعة فليس من الإيمان ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ، ولا يعذب على ذلك إلا
إذا كان الإيمان خالصا ، واليقين صادقا.
وزعم أن إبليس كان
عارفا بالله وحده ، غير أنه كفر باستكباره عليه ، (أَبى وَاسْتَكْبَرَ
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قال : ومن تمكن في قلبه الخضوع لله ، والمحبة له على خلوص
ويقين لم يخالفه في معصية ، وإن صدرت منه معصية فلا تضره بيقينه وإخلاصه. والمؤمن
إنما يدخل الجنة بإخلاصه ومحبته ، لا بعمله وطاعته.
٢ ـ العبيديّة
أصحاب عبيد
المكتئب . حكى عنه أنه قال : ما دون الشرك مغفور لا محالة ، وإن
العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات. وحكى
اليمان عن عبيد المكتئب وأصحابه أنهم قالوا : إن علم الله تعالى لم يزل شيئا غيره.
وإن كلامه لم يزل شيئا غيره. وكذلك دين الله لم يزل شيئا غيره. وزعم أن الله ـ تعالى
عن قولهم ـ على صورة إنسان ، وحل عليه قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله خلق آدم على صورة الرّحمن».
٣ ـ الغسّانيّة
أصحاب غسان الكوفي. زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسوله ،
__________________
والإقرار بما أنزل
الله ، وبما جاء به الرسول في الجملة دون التفصيل. والإيمان لا يزيد ولا ينقص.
وزعم أن قائلا لو قال : أعلم أن الله تعالى قد حرم أكل الخنزير ، ولا أدري هل
الخنزير الذي حرمه : هذه الشاة أم غيرها؟ كان مؤمنا. ولو قال : أعلم أن الله تعالى
فرض الحج إلى الكعبة ، غير أني لا أدري أين الكعبة؟ ولعلها بالهند ؛ كان مؤمنا.
ومقصوده أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان ، لا أنه كان شاكا في هذه
الأمور ، فإن عاقلا لا يستجيز من عقله أن يشك في أن الكعبة : إلى أي جهة هي؟ وأن
الفرق بين الخنزير والشاة ظاهر.
ومن العجيب أن
غسان كان يحكي عن أبي حنيفة رحمهالله مثل مذهبه ، ويعده من المرجئة ، ولعله كذب كذلك عليه.
لعمري! كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه مرجئة السنّة ، وعده كثير من أصحاب المقالات
من جملة المرجئة ، ولعل السبب فيه أنه لما كان يقول : الإيمان هو التصديق بالقلب ،
وهو لا يزيد ولا ينقص ، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان. والرجل مع تخريجه في
العمل كيف يفتي بترك العمل! وله سبب آخر ، وهو أنه كان يخالف القدرية ، والمعتزلة
الذين ظهروا في الصدر الأول. والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئا ،
وكذلك الوعيدية من الخوارج. فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريقي المعتزلة
والخوارج ، والله أعلم.
٤ ـ الثوبانيّة
أصحاب أبي ثوبان
المرجئ ، الذين زعموا أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى ، وبرسله عليهم
الصلاة والسلام ، وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله ، وما جاز في العقل تركه فليس
من الإيمان ، وأخر العمل كله عن الإيمان .
__________________
ومن القائلين
بمقالة أبي ثوبان هذا : أبو مروان غيلان بن مروان الدمشقي ، وأبو شمر ، ومويس بن عمران ، والفضل الرقاشي ، ومحمد بن شبيب ، والعتابي ، وصالح قبة .
وكان غيلان يقدر
بالقدر خيره وشره من العبد ، وفي الإمامة أنها تصلح في غير قريش، وكل من كان قائما
بالكتاب والسنة كان مستحقا لها ، أو أنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. والعجب أن
الأمة أجمعت على أنها لا تصلح لغير قريش. وبهذا دفعت الأنصار عن قولهم : منا أمير
ومنكم أمير. فقد جمع غيلان خصالا ثلاثا : القدر ، والإرجاء ، والخروج.
والجماعة التي
عددناهم اتفقوا على أن الله تعالى لو عفا عن عاص في القيامة ، عفا عن كل مؤمن عاص
هو في مثل حاله. وإن أخرج من النار واحدا ، أخرج من هو في مثل حاله. ومن العجب
أنهم لم يجزموا القول بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون من النار لا محالة.
ويحكى عن مقاتل بن
سليمان : أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان. وأنه لا يدخل النار مؤمن.
والصحيح من النقل عنه : أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على
متن جهنم ، يصيبه لفح النار وحرها
__________________
ولهيبها. فيتألم
بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة ، ومثّل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة
بالنار.
ونقل عن بشر بن
غياث المريسي أنه قال : إذا دخل أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون عنها
بعد أن يعذبوا بذنوبهم. وأما التخليد فيها فمحال ، وليس بعدل.
وقيل إن أول من
قال بالإرجاء : الحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب ، وكان يكتب فيه الكتب إلى
الأمصار. إلا أنه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية ، والعبيديّة
، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان
حتى يزول الإيمان بزوالها.
٥ ـ التّومنيّة
أصحاب أبي معاذ التومني ، زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر ،
وهو اسم لخصال إذا تركها كفر ، وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر ، ولا يقال
للخصلة الواحدة منها إيمان ، ولا بعض إيمان ، وكل معصية كبيرة أو صغيرة لم يجمع
عليها المسلمون بأنها كفر لا يقال لصاحبها فاسق ، ولكن يقال فسق وعصى ، قال : وتلك
الخصال هي المعرفة والتصديق والمحبة ، والإخلاص ، والإقرار بما جاء به الرسول ،
قال : ومن ترك الصلاة والصيام مستحلا كفر ، ومن
__________________
تركهما على نية
القضاء لم يكفر ، ومن قتل نبيا أو لطمه كفر ، لا من أجل القتل واللطم ، ولكن من
أجل الاستخفاف والعداوة والبغض.
وإلى هذا المذهب
ميل ابن الراوندي ، وبشر المريسي ، قالا : الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان
جميعا ، والكفر هو الجحود والإنكار ، والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في
نفسه ولكنه علامة الكفر.
٦ ـ الصالحية
أصحاب صالح بن عمر الصالحي ، والصالحي ، ومحمد بن شبيب ، وأبو شكر ،
وغيلان ؛ كلهم جمعوا بين القدر والإرجاء ، ونحن وإن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة
الخالصة إلا أنه بدا لنا في هؤلاء ، لانفرادهم عن المرجئة بأشياء.
فأما الصالحي فقال
: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق ، وهو أن للعالم صانعا فقط ، والكفر
هو الجهل به على الإطلاق ، قال : وقول القائل : ثالث ثلاثة ، ليس بكفر لكنه لا
يظهر إلا من كافر ، وزعم أن معرفة الله تعالى هي المحبة والخضوع له. ويصح ذلك مع
حجة الرسول ، ويصح في العقل أن يؤمن بالله ، ولا يؤمن برسوله ، غير أن الرسول عليه
الصلاة والسلام قد قال : «من لا يؤمن بي فليس بمؤمن بالله تعالى» وزعم أن الصلاة
ليست بعبادة الله تعالى ، وأنه لا عبادة له إلا الإيمان به ، وهو معرفته ؛ وهو
خصلة واحدة لا يزيد ولا ينقص ، وكذلك الكفر خصلة واحدة لا يزيد ولا ينقص.
وأما أبو شمر
المرجئ القدري ، فإنه زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله عزوجل ، والمحبة والخضوع له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس
كمثله شيء ، ما لم تقم عليه حجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإذا قامت الحجة
فالإقرار بهم وتصديقهم من الإيمان والمعرفة ، والإقرار بما جاءوا به من عند الله
غير داخل في
__________________
الإيمان الأصلي ،
وليست كل خصلة من خصال الإيمان إيمانا ولا بعض إيمان ، فإذا اجتمعت كانت كلها
إيمانا ، وشرط في خصال الإيمان معرفة العدل ، يريد به القدر خيره وشره من العبد من
غير أن يضاف إلى الباري تعالى منه شيء.
* * *
وأما غيلان بن
مروان من القدرية المرجئة ، فإنه زعم أن الإيمان هو المعرفة الثانية بالله تعالى ،
والمحبة والخضوع له ، والإقرار بما جاء به الرسول ، وبما جاء من عند الله ،
والمعرفة الأولى فطرية ضرورية. فالمعرفة على أصله نوعان : فطرية ، وهي علمه بأن
للعالم صانعا ، ولنفسه خالقا ، وهذه المعرفة لا تسمى إيمانا ، إنما الإيمان هو
المعرفة الثانية المكتسبة.
تتمة رجال المرجئة
كما نقل :
الحسن بن محمد بن
عليّ بن أبي طالب ، وسعيد بن جبير ، وطلق بن حبيب ، وعمرو بن مرة ، ومحارب بن زياد ، ومقاتل بن سليمان ، وذر ،
__________________
وعمرو بن ذر ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وقديد بن جعفر.
وهؤلاء كلهم أئمة
الحديث ، لم يكفروا أصحاب الكبائر بالكبيرة ولم يحكموا بتخليدهم في النار خلافا
للخوارج والقدرية.
الفصل السادس
الشيعة
الشيعة الذين
شايعوا عليا رضي الله عنه على الخصوص. وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصية ، إما
جليا ، وإما خفيا ، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده ، وإن خرجت فبظلم يكون
من غيره ، أو بتقية من عنده. وقالوا : ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار
العامة وينتصب الإمام بنصبهم ، بل هي قضية أصولية ، وهي ركن الدين ، لا يجوز للرسل
عليهم الصلاة والسلام إغفاله وإهماله ، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله.
يجمعهم القول
بوجوب التعيين والتنصيص ، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر.
والقول بالتولي والتبري قولا ، وفعلا ، وعقدا ، إلا في حال التقية ويخالفهم بعض
الزيدية في ذلك ، ولهم في تعدية الإمام كلام وخلاف كثير ، وعند كل تعدية وتوقف :
مقالة ، ومذهب ، وخبط.
__________________
وهم خمس فرق :
كيسانية ، وزيدية ، وإمامية ، وغلاة ، وإسماعيلية ، وبعضهم يميل في الأصول إلى
الاعتزال ، وبعضهم إلى السنّة ، وبعضهم إلى التشبيه.
١ ـ الكيسانيّة
أصحاب كيسان ، مولى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ،
وقيل تلمذ للسيد محمد بن الحنفية رضي الله عنه ، يعتقدون فيه اعتقادا فوق حده
ودرجته ، من إحاطته بالعلوم كلها ، واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم
التأويل والباطن ، وعلم الآفاق ، والأنفس.
ويجمعهم القول بأن
الدين طاعة رجل ، حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام
والزكاة والحج ، وغير ذلك على رجال ، فحمل بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد
الوصول إلى طاعة الرجل ، وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة ، وحمل بعضهم على
القول بالتناسخ والحلول ، والرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد معتقد أنه لا
يموت ، ولا يجوز أن يموت حتى يرجع ، ومن معتقد حقيقة الإمامة إلى غيره ، ثم متحسر
عليه ، متحير فيه ، ومن مدّع حكم الإمامة وليس من الشجرة.
وكلهم حيارى
متقطعون ، ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له فلا دين له نعوذ بالله من
الحيرة والحور بعد الكور ، رب اهدنا السبيل.
__________________
(أ) المختارية :
أصحاب المختار بن أبي عبيد الثقفي ، كان خارجيا ، ثم صار زبيريا ، ثم صار
شيعيا وكيسانيا. قال بإمامة محمد بن الحنفية بعد أمير المؤمنين عليّ رضي الله
عنهما. وقيل لا ، بل بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وكان يدعو الناس إليه ،
وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته ، ويذكر علوما مزخرفة بترهاته ينوطها به.
ولما وقف محمد بن
الحنفية على ذلك تبرأ منه ، وأظهر لأصحابه أنه إنما نمس على الخلق ذلك ليتمشى أمره ، ويجتمع الناس عليه.
وإنما انتظم له ما
انتظم بأمرين : أحدهما انتسابه إلى محمد بن الحنفية علما ودعوة. والثاني : قيامه
بثأر الحسين بن عليّ رضي الله عنهما ، واشتغاله ليلا ونهارا بقتال الظلمة الذين
اجتمعوا على قتل الحسين.
فمن مذهب المختار
: أنه يجوز البداء على الله تعالى ، والبداء له معاني : البداء في العلم وهو
أنه يظهر له خلاف ما علم ، ولا أظن عاقلا يعتقد هذا الاعتقاد.
__________________
والبداء في
الإرادة ، وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم.
والبداء في الأمر
، وهو أن يأمر بشيء ، ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك ؛ ومن لم يجوّز النسخ ظن أن
الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة.
وإنما صار المختار
إلى اختيار القول بالبداء ، لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال إما بوحي يوحى
إليه ، وإما برسالة من قبل الإمام. فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة ،
فإن وافق كونه قوله ، جعله دليلا على صدق دعواه ، وإن لم يوافق قال : قد بدا
لربكم.
وكان لا يفرق بين
النسخ والبداء ، قال : إذا جاز النسخ في الأحكام ، جاز البداء في الأخبار.
وقد قيل : إن
السيد محمد بن الحنفية تبرأ من المختار حين وصل إليه أنه قد لبس على الناس أنه من
دعاته ورجاله ، وتبرأ من الضلالات التي ابتدعها المختار من التأويلات الفاسدة ،
والمخاريق المموّهة.
فمن مخاريقه : أنه
كان عنده كرسي قديم قد غشاه بالديباج ، وزينه بأنواع الزينة وقال : هذا
من ذخائر أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه ، وهو عندنا بمنزلة
__________________
التابوت لبني
إسرائيل ، وكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول : قاتلوا ولكم الظفر
والنصرة ، وهذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل ، وفيه السكينة
والبقية، والملائكة من فوقكم ينزلون مددا لكم ، وحديث الحمامات البيض التي ظهرت في
الهواء ، وقد أخبرهم قبل ذلك بأن الملائكة تنزل على صورة الحمامات البيض ، معروف.
والإسجاع التي ألفها أبرد تأليف مشهورة.
وإنما حمله على
الانتساب إلى محمد بن الحنفية حسن اعتقاد الناس فيه ، وامتلاء القلوب بمحبته ،
والسيد محمد بن الحنفية ، كان كثير العلم غزير المعرفة ، وقّاد الفكر ، مصيب
الخاطر في العواقب ، قد أخبره أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه عن أحوال الملاحم
وأطلعه على مدارج المعالم ، وقد اختار العزلة ، فآثر الخمول على الشهرة ، وقد قيل
إنه كان مستودعا علم الإمامة حتى سلم الأمانة إلى أهلها ، وما فارق الدنيا إلا وقد
أقرها في مستقرها.
وكان السيد الحميريّ ، وكثيّر عزة الشاعر من شيعته. قال كثير فيه :
__________________
ألا إنّ الأئمّة
من قريش
|
|
ولاة الحقّ
أربعة سواء
|
عليّ والثّلاثة من بنيه
|
|
هم الأسباط ليس
بهم خفاء
|
فسبط سبط إيمان وبرّ
|
|
وسبط غيّبته كربلاء
|
وسبط لا يذوق الموت حتّى
|
|
يقود الخيل
يقدمه اللّواء
|
تغيّب لا يرى
فيهم زمانا
|
|
برضوى عنده عسل وماء
|
وكان السيد
الحميري أيضا يعتقد فيه أنه لم يمت ، وأنه في جبل رضوى بين أسد ونمر يحفظانه ،
وعنده عينان نضّاختان تجريان بماء وعسل ، وأنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا
كما ملئت جورا ، وهذا هو أول حكم بالغيبة ، والعودة بعد الغيبة حكم به الشيعة.
ثم اختلفت
الكيسانية بعد انتقال محمد بن الحنفية في سوق الإمامة ، وصار كل اختلاف مذهبا.
* * *
(ب) الهاشمية :
أتباع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية ، قالوا بانتقال محمد بن الحنفية إلى
رحمة الله ورضوانه ، وانتقال الإمامة منه إلى ابنه أبي هاشم ، قالوا : فإنه أفضى
إليه أسرار العلوم ، وأطلعه على مناهج تطبيق الآفاق على الأنفس ، وتقدير التنزيل
على التأويل ، وتصوير الظاهر على الباطن. قالوا : إن لكل ظاهر باطنا ، ولكل شخص
روحا ، ولكل تنزيل تأويلا. ولكل مثال في هذا العالم
__________________
حقيقة في ذلك
العالم. والمنتشر في الآفاق من الحكم والأسرار يجتمع في الشخص الإنساني ، وهو
العلم الذي استأثر عليّ رضي الله عنه به ابنه محمد بن الحنفية ، وهو أفضى ذلك السر
إلى ابنه أبي هاشم ، وكل من اجتمع فيه هذا العلم فهو الإمام حقا.
واختلف بعد أبي
هاشم شيعته خمس فرق :
١ ـ فرقة قالت :
إن أبا هاشم مات منصرفا من الشام بأرض الشراة ، وأوصى إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس ، وانجرت في
أولاده الوصية حتى صارت الخلافة إلى بني العباس ، قالوا : ولهم في الخلافة حق
لاتصال النسب ، وقد توفي رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وعمه العباس أولى بالوراثة.
٢ ـ وفرقة قالت :
إن الإمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه الحسن بن عليّ بن محمد بن الحنفية.
٣ ـ وفرقة قالت :
لا ، بل إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه عليّ بن محمد ، وعليّ أوصى إلى ابنه الحسن ،
فالإمامة عندهم في بني الحنفية لا تخرج إلى غيرهم.
٤ ـ وفرقة قالت :
إن أبا هاشم أوصى إلى عبد الله بن عمرو بن الكندي ، وإن الإمامة خرجت من أبي هاشم
إلى عبد الله ، وتحوّلت روح أبي هاشم إليه. والرجل ما كان يرجع إلى علم وديانة ،
فاطلع بعض القوم على خيانته وكذبه ، فأعرضوا عنه ، وقالوا : بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وكان من مذهب عبد
الله : أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص ، وأن
__________________
الثواب والعقاب في
هذه الأشخاص ، إما أشخاص بني آدم ، وإما أشخاص الحيوانات قال : وروح الله تناسخت
حتى وصلت إليه وحلت فيه ، وادعى الإلهية والنبوة معا ، وأنه يعلم الغيب ، فعبده
الحمقى ، وكفروا بالقيامة لاعتقادهم أن التناسخ يكون في الدنيا والثواب والعقاب في
هذه الأشخاص ، وتأول قول الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا
اتَّقَوْا) الآية. على أن من وصل إلى الإمام وعرفه ارتفع عنه الحرج في
جميع ما يطعم ، ووصل إلى الكمال والبلاغ.
وعنه نشأت :
الخرّميّة ، والمزدكية بالعراق. وهلك عبد الله بخراسان ، وافترقت أصحابه. فمنهم من
قال إنه حي لم يمت ويرجع.
ومنهم من قال بل
مات وتحولت روحه إلى إسحاق بن زيد الحارث الأنصاري ، وهم الحارثية الذين يبيحون
المحرمات ، ويعيشون عيش من لا تكليف عليه.
وبين أصحاب عبد
الله بن معاوية ، وبين أصحاب محمد بن علي خلاف شديد في الإمامة. فإن كل واحد منهما
يدعي الوصية من أبي هاشم إليه ، ولم يثبت الوصية على قاعدة تعتمد.
(ج) البيانيّة : أتباع بيان بن سمعان التميمي. قالوا بانتقال الإمامة من أبي هاشم
إليه. وهو من الغلاة القائلين بإلهية أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. قال : حل في
عليّ جزء إلهي ، واتحد بجسده ، فيه كان يعلم الغيب ، إذ أخبر عن الملاحم وصح
الخبر. وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر. وبه قلع باب
__________________
خيبر. وعن هذا قال
: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ، ولا بحركة غذائية ، ولكن قلعته بقوة
رحمانية ملكوتية ، بنور ربها مضيئة. فالقوة الملكوتية في نفسه كالمصباح في المشكاة
، والنور الإلهي كالنور في المصباح. قال : وربما يظهر عليّ في بعض الأزمان. وقال
في تفسير قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) أراد به عليا فهو الذي يأتي في الظل ، والرعد صوته ،
والبرق تبسمه.
ثم ادعى بيان أنه
قد انتقل إليه الجزء الإلهي بنوع من التناسخ ، ولذلك استحق أن يكون إماما وخليفة ،
وذلك الجزء هو الذي استحق به آدم عليهالسلام سجود الملائكة.
وزعم أن معبوده
على صورة إنسان عضوا فعضوا ، وجزءا فجزءا. وقال : يهلك كله إلا وجهه لقوله تعالى :
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) .
ومع هذا الخزي
الفاحش كتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي الله عنهم ودعاه إلى نفسه. وفي
كتابه «أسلم تسلم ، ويرتقي من سلم. فإنك لا تدري حيث يجعل الله النبوة» فأمر الباقر أن يأكل الرسول قرطاسه الذي جاء به ، فأكله ،
فمات في الحال وكان اسم ذلك الرسول عمر بن أبي عفيف.
وقد اجتمعت طائفة
على بيان بن سمعان ، ودانوا به وبمذهبه ، فقتله خالد بن عبد الله القسري على ذلك وقيل أحرقه والكوفي المعروف
بالمعروف بن سعيد بالنار معا.
__________________
(د) الرّزامية : أتباع رزام بن رزم. ساقوا الإمامة من علي إلى ابنه محمد.
ثم إلى ابنه هاشم. ثم منه إلى علي بن عبد الله بن عباس بالوصية ، ثم ساقوها إلى
محمد بن علي وأوصى محمد إلى ابنه : إبراهيم الإمام وهو صاحب أبي مسلم الذي دعا
إليه وقال بإمامته. وهؤلاء ظهروا بخراسان في أيام أبي مسلم حتى قيل إن أبا مسلم
كان على هذا المذهب ، لأنهم ساقوا الإمامة إلى أبي مسلم ، فقالوا : له حظ في
الإمامة وادعوا حلول روح الإله فيه. ولهذا أيده على بني أمية حتى قتلهم عن بكرة
أبيهم واصطلمهم . وقالوا بتناسخ الأرواح.
والمقنّع الذي ادّعى الإلهية لنفسه على مخاريق أخرجها كان في الأول
على
__________________
هذا المذهب وتابعه
مبيّضة ما وراء النهر. وهؤلاء صنف من الخزاميّة دانوا بترك الفرائض وقالوا الدين معرفة الإمام فقط. ومنهم
من قال : الدين أمران : معرفة الإمام ، وأداء الأمانة. ومن حصل له الأمران فقد وصل
إلى الكمال ، وارتفع عنه التكليف. ومن هؤلاء من ساق الإمامة إلى محمد بن علي بن
عبد الله بن عباس من أبي هاشم محمد بن الحنفية وصية إليه ، لا من طريق آخر.
وكان أبو مسلم
صاحب الدولة على مذهب الكيسانية في الأول. واقتبس من دعاتهم العلوم التي اختصوا
بها ، وأحسن منهم أن هذه العلوم مستودعة فيهم ، فكان يطلب المستقر فيه ، فبعث إلى
الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنهما : إني قد أظهرت الكلمة ، ودعوت الناس عن
موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت ، فإن رغبت فيه ، فلا مزيد عليك.
فكتب إليه الصادق
رضي الله عنه : ما أنت من رجالي ، ولا الزمان زماني.
فحاد أبو مسلم إلى
أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح ، وقلده أمر الخلافة.
٢ ـ الزيدية
أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. ساقوا
الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها ، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم ، إلا
أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة ، أن يكون
__________________
إماما واجب الطاعة
: سواء كان من أولاد الحسن ، أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما. وعن هذا جوّز قوم
منهم إمامة محمد وإبراهيم الإمامين ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن اللذين خرجا
في أيام المنصور وقتلا على ذلك. وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال
، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة.
وزيد بن علي ، لما
كان مذهبه هذا المذهب ، أراد أن يحصل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم ، فتلمذ في
الأصول لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم ، مع اعتقاد واصل أن جده
علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأهل الشام
ما كان على يقين من الصواب. وأن أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لا بعينه.
فاقتبس منه الاعتزال ، وصارت أصحابه كلهم معتزلة وكان من مذهبه جواز إمامة المفضول
مع قيام الأفضل. فقال : كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة ، إلا أن
الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها ، وقاعدة دينية راعوها ، من تسكين نائرة الفتنة ، وتطييب قلوب العامة. فإن عهد الحروب التي جرت في
أيام النبوة كان قريبا ، وسيف أمير المؤمنين عليّ عن دماء المشركين من قريش وغيرهم
لم يجفّ بعد ، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي. فما كانت القلوب تميل
إليه كل الميل ، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد.
فكانت المصلحة أن
يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين ، والتؤدة ، والتقدم بالسن ، والسبق في
الإسلام ، والقرب من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ألا ترى أنه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر
عمر بن الخطاب زعق الناس وقالوا : لقد وليت علينا فظا غليظا. فما كانوا يرضون
بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لشدته وصلابته. وغلظه في الدين ، وفظاظته على
الأعداء حتى سكنهم أبو بكر بقوله : «لو سألني
__________________
ربي لقلت : وليت
عليهم خيرهم لهم» وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماما والأفضل قائم فيرجع إليه
في الأحكام ، ويحكم بحكمه في القضايا.
ولما سمعت شيعة
الكوفة هذه المقالة منه ، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين رفضوه حتى أتى قدره عليه
، فسميت رافضة.
وجرت بينه وبين
أخيه الباقر محمد بن علي مناظرات لا من هذا الوجه ، بل من حيث كان يتلمذ لواصل بن
عطاء ، ويقتبس العلم ممن يجوز الخطأ على جده في قتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين. ومن حيث يتكلم في القدر على غير ما ذهب إليه
أهل البيت : ومن حيث أنه كان يشترط الخروج شرطا في كون الإمام إماما ، حتى قال له
يوما : على مقتضى مذهبك ووالدك ليس بإمام ، فإنه لم يخرج قط ، ولا تعرض للخروج.
ولما قتل زيد بن
علي وصلب قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد ، ومضى إلى خراسان ، واجتمعت عليه جماعة كثيرة. وقد
وصل إليه الخبر من الصادق
__________________
جعفر بن محمد بأنه
يقتل كما قتل أبوه ، ويصلب كما صلب أبوه ، فجرى عليه الأمر كما أخبر.
وقد فوض الأمر
بعده إلى محمد وإبراهيم الإمامين ، وخرجا بالمدينة ، ومضى إبراهيم إلى البصرة ،
واجتمع عليهما ، وقتلا أيضا. وأخبرهم الصادق بجميع ما تم عليهم ، وعرفهم أن آباءه
رضي الله عنهم أخبروه بذلك كله ، وأن بني أمية يتطاولون على الناس ، حتى لو
طاولتهم الجبال لطالوا عليها وهم يستشعرون بغض أهل البيت ولا يجوز أن يخرج واحد من
أهل البيت حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم. وكان يشير إلى أبي العباس ، وإلى أبي جعفر ابني محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وقال : إنا لا نخوض في الأمر حتى يتلاعب به هذا وأولاده ، وأشار إلى المنصور.
فزيد بن علي قتل
بكناسة الكوفة ، قتله هشام بن عبد الملك. ويحيى بن زيد قتل بجوزجان خراسان ، قتله أميرها. ومحمد الإمام قتل بالمدينة ، قتله
عيسى بن ماهان وإبراهيم الإمام قتل بالبصرة ، أمر بقتلهما
__________________
المنصور .
ولم ينتظم أمر
الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان صاحبهم ناصر الأطروش فطلب مكانه ليقتل فاختفى واعتزل الأمر ، وصار إلى بلاد
الديلم والجبل ولم يتحلوا بدين الإسلام بعد. فدعا الناس دعوة إلى الإسلام على مذهب
زيد بن علي ، فدانوا بذلك ونشئوا عليه وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين.
وكان يخرج واحد
بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم. وخالفوا بني أعمامهم من الموسوية في مسائل الأصول.
ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول ، وطعنت في الصحابة طعن
الإمامية. وهم أصناف ثلاثة : جاروديّة ، وسليمانية ، وبترية ، والصالحية منهم
والبترية على مذهب واحد.
(أ) الجارودية : أصحاب أبي الجارود زياد بن أبي زياد. زعموا أن
__________________
النبي صلىاللهعليهوسلم نص على عليّ رضي الله عنه بالوصف دون التسمية ، وهو الإمام
بعده. والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف ، ولم يطلبوا الموصوف ، وإنما نصبوا أبا بكر
باختيارهم فكفروا بذلك. وقد خالف أبو الجارود في هذه المقالة إمامة زيد بن علي ،
فإنه لم يعتقد هذا الاعتقاد.
واختلفت الجارودية
في التوقف والسوق.
فساق بعضهم
الإمامة من عليّ إلى الحسن ، ثم إلى الحسين ، ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين ،
ثم إلى ابنه زيد بن علي ، ثم منه إلى الإمام محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن
بن علي بن أبي طالب ، وقالوا بإمامته.
وكان أبو حنيفة رحمهالله على بيعته ، ومن جملة شيعته حتى رفع الأمر إلى المنصور ،
فحبسه حبس الأبد حتى مات في الحبس . وقيل إنه إنما بايع محمد بن عبد الله الإمام في أيام
المنصور. ولما قتل محمد بالمدينة بقي الإمام أبو حنيفة على تلك البيعة ، يعتقد
موالاة أهل البيت ، فرفع حاله إلى المنصور ، فتم عليه ما تم.
والذين قالوا
بإمامة محمد بن عبد الله الإمام اختلفوا. فمنهم من قال إنه لم يقتل وهو بعد حي ،
وسيخرج فيملأ الأرض عدلا. ومنهم من أقر بموته ، وساق الإمامة إلى محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي
__________________
صاحب الطالقان . وقد أسر في أيام المعتصم وحمل إليه فحبسه في داره حتى
مات. ومنهم من قال بإمامة يحيى بن عمر صاحب الكوفة ، فخرج ودعا الناس واجتمع عليه خلق
كثير ، وقتل في أيام المستعين ، وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ، حتى قال فيه بعض العلوية :
قتلت أعزّ من
ركب المطايا
|
|
وجئتك أستلينك
في الكلام
|
وعزّ عليّ أن
ألقاك إلّا
|
|
وفيما بيننا حدّ
الحسام
|
وهو يحيى بن عمر
بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي.
* * *
وأما الجارود فكان
يسمى سرحوب ، سماه بذلك أبو جعفر محمد بن علي الباقر. وسرحوب : شيطان أعمى يسكن
البحر ، قاله الباقر تفسيرا.
ومن أصحاب أبي
الجارود : فضل الرسان ، وأبو خالد الواسطي. وهم مختلفون في الأحكام والسير. فبعضهم
يزعم أن علم ولد الحسن والحسين رضي الله عنهما كعلم النبيصلىاللهعليهوسلم ، فيحصل لهم العلم قبل التعلم فطرة وضرورة. وبعضهم يزعم أن
العلم مشترك فيهم وفي غيرهم. وجائز أن يؤخذ عنهم ، وعن غيرهم من العامة.
__________________
(ب) السّليمانيّة : أصحاب سليمان بن جرير ، وكان يقول إن الإمامة شورى فيما بين الخلق. ويصح
أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين ، وإنها تصح في المفضول ، مع وجود الأفضل.
وأثبت إمامة أبي
بكر وعمر رضي الله عنهما حقا باختيار الأمة حقا اجتهاديا. وربما كان يقول : إن
الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي رضي الله عنه خطأ لا يبلغ درجة الفسق.
وذلك الخطأ خطأ اجتهادي. غير أنه طعن في عثمان رضي الله عنه للأحداث التي أحدثها ،
وأكفره بذلك ، وأكفر عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي
الله عنه ، ثم إنه طعن في الرافضة ، فقال : إن أئمة الرافضة قد وضعوا مقالتين
لشيعتهم ، لا يظهر أحد قط عليهم.
إحداهما : القول
بالبداء ، فإذا أظهروا قولا : أنه سيكون لهم قوة وشوكة وظهور. ثم لا يكون الأمر
على ما أظهروه. قالوا : بدا الله تعالى في ذلك.
والثانية :
التقية. فكل ما أرادوا تكلموا به. فإذا قيل لهم في ذلك إنه ليس بحق ، وظهر لهم
البطلان قالوا : إنما قلناه تقية ، وفعلناه تقية.
وتابعه على القول
بجواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل قوم من المعتزلة منهم : جعفر بن مبشر ، وجعفر
بن حرب ، وكثير النوى وهو من أصحاب الحديث. قالوا : الإمامة من مصالح
الدين ، ليس يحتاج إليها لمعرفة الله تعالى وتوحيده. فإن ذلك حاصل بالعقل ، لكنها
يحتاج إليها لإقامة الحدود ، والقضاء بين المتحاكمين وولاية اليتامى والأيامى ،
وحفظ البيضة ، وإعلاء الكلمة ، ونصب القتال
__________________
مع أعداء الدين ،
وحتى يكون للمسلمين جماعة ، ولا يكون الأمر فوضى بين العامة. فلا يشترط فيها أن
يكون الإمام أفضل الأمة علما ، وأقدمهم عهدا ، وأسدهم رأيا وحكمة ، إذ الحاجة تنسد
بقيام المفضول مع وجود الفاضل والأفضل .
ومالت جماعة من
أهل السنّة إلى ذلك حتى جوزوا أن يكون الإمام غير مجتهد ، ولا خبير بمواقع
الاجتهاد ، ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيراجعه
في الأحكام ، ويستفتي منه في الحلال والحرام. ويجب أن يكون في الجملة ذا رأي متين
، وبصر في الحوادث نافذ.
* * *
(ج) الصالحية
والبترية : الصالحية أصحاب الحسن بن صالح بن حي ، والبترية : أصحاب كثير النوى الأبتر ، وهما متفقان في المذهب ، وقولهم في الإمامة
كقول السليمانية ، إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان : أهو مؤمن أم كافر؟ قالوا :
__________________
إذا سمعنا الأخبار
الواردة في حقه ، وكونه من العشرة المبشرين بالجنة ، قلنا يجب أن نحكم بصحة إسلامه وإيمانه
وكونه من أهل الجنة. وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها من استهتاره بتربية بني أمية
وبني مروان ، واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة ، قلنا يجب أن نحكم بكفره.
فتحيرنا في أمره وتوقفنا في حاله ، ووكلناه إلى أحكم الحاكمين.
وأما عليّ فهو
أفضل الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأولاهم بالإمامة ، لكنه سلم الأمر لهم راضيا ، وفوض الأمر
إليهم طائعا وترك حقه راغبا ، فنحن راضون بما رضي ، مسلمون لما سلم ، لا يحل لنا
غير ذلك.
ولو لم يرض عليّ
بذلك لكان أبو بكر هالكا. وهم الذين جوزوا إمامة المفضول وتأخير الفاضل والأفضل
إذا كان الفاضل راضيا بذلك.
وقالوا : من شهر
سيفه من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وكان عالما ، زاهدا شجاعا ، فهو
الإمام. وشرط بعضهم صباحة الوجه ، ولهم خبط عظيم في إمامين وجدت فيهما هذه الشرائط ، وشهرا سيفيهما ، ينظر إلى الأفضل
والأزهد ، وإن تساويا ينظر إلى الأمتن رأيا والأحزم أمرا ، وإن تساويا تقابلا
فينقلب الأمر عليهم كلا ويعود الطلب جذعا ، والإمام مأموما ، والأمير مأمورا ، ولو كانا في
__________________
قطرين : انفرد كل
واحد منهما بقطره ويكون واجب الطاعة في قومه ، ولو أفتى أحدهما بخلاف ما يفتي
الآخر كان كل واحد منهما مصيبا ، وإن أفتى باستحلال دم الإمام الآخر.
وأكثرهم في زماننا
مقلدون لا يرجعون إلى رأي واجتهاد. أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذّة
بالقذّة . ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت
وأما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعيرحمهالله والشيعة.
(د) رجال الزيدية
: أبو الجارود زياد بن المنذر العبدي ، لعنه جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه ، والحسن بن صالح بن حي ،
ومقاتل بن سليمان ، والداعي ناصر الحق الحسن بن علي بن الحسن بن زيد بن عمر بن الحسين بن علي ، والداعي
الآخر صاحب طبرستان : الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن
علي ، ومحمد بن نصر .
٣ ـ الإماميّة
هم القائلون
بإمامة عليّ رضي الله عنه بعد النبي عليه الصلاة والسلام ، نصا ظاهرا ، وتعيينا
صادقا ، من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعين. قالوا : وما كان في الدين
والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام ، حتى تكون مفارقته الدنيا
__________________
على فراغ قلب من
أمر الأمة ، فإنه إنما بعث لرفع الخلاف ، وتقرير الوفاق ، فلا يجوز أن يفارق الأمة
ويتركهم هملا يرى كل واحد منهم رأيا ، ويسلك كل واحد منهم طريقا لا
يوافقه في ذلك غيره ، بل يجب أن يعين شخصا هو الرجوع إليه ، وينص على واحد هو
الموثوق به والمعول عليه. وقد عين عليا رضي الله عنه في مواضع تعريضا ، وفي مواضع
تصريحا.
أما تعريضاته فمثل
أن بعث أبا بكر ليقرأ سورة براءة على الناس في المشهد ، وبعث بعده عليا ليكون هو
القارئ عليهم ، والمبلغ عنه إليهم ، وقال : نزل عليّ جبريل عليهالسلام فقال يبلّغه رجل منك ، أو قال من قومك ، وهو يدل على
تقديمه عليا عليه ومثل أن كان يؤمّر على أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في
البعوث ، وقد أمر عليهما عمرو بن العاص في بعث ، وأسامة بن زيد في بعث ، وما أمر على عليّ أحدا قط.
وأما تصريحاته
فمثل ما جرى في نأنأة الإسلام حين قال : من الذي يبايعني على ماله؟ فبايعته
جماعة. ثمّ قال : من الّذي يبايعني على روحه وهو وصي ووليّ هذا الأمر من بعدي؟ فلم
يبايعه أحد حتّى مدّ أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه يده إليه فبايعه على روحه
ووفّى بذلك ، حتى كانت قريش تعير أبا طالب أنه أمرّ عليك ابنك. ومثل ما جرى في
كمال الإسلام وانتظام الحال حين نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فلما وصل غدير خم أمر بالدوحات فقممن ، ونادوا : الصلاة جامعة ، ثم قال عليه
__________________
الصلاة والسلام
وهو على الرحال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه
، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا هل بلّغت؟ ثلاثا»
فادعت الإمامية أن هذا نص صريح.
فإننا ننظر من كان
النبي صلىاللهعليهوسلم مولى له؟ وبأيّ معنى؟ فنطرد ذلك في حق علي رضي الله عنه ،
وقد فهمت الصحابة من التولية ما فهمناه ، حتى قال عمر حين استقبل عليا : طوبى لك
يا علي! أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
قالوا : وقول
النبي عليه الصلاة والسلام : «أقضاكم عليّ» نص في الإمامة ، فإن الإمامة لا معنى
لها إلا أن يكون أقضى القضاة في كل حادثة ، والحاكم على المتخاصمين في كل واقعة ،
وهو معنى قول الله سبحانه وتعالى : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قالوا : فأولو الأمر ، من إليه القضاء والحكم. حتى وفي
مسألة الخلافة لما تخاصمت المهاجرون والأنصار ، كان القاضي في ذلك هو أمير
المؤمنين علي دون غيره ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم كما حكم لكل واحد من الصحابة بأخص وصف له فقال : «أقرضكم
زيد ، وأقرؤكم أبيّ ، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ » وكذلك حكم لعلي بأخص وصف له ، وهو قوله «أقضاكم عليّ»
والقضاء يستدعي كل علم ، وليس كل علم يستدعي القضاء.
ثم إن الإمامية
تخطت عن هذه الدرجة إلى الوقيعة في كبار الصحابة طعنا
__________________
وتكفيرا ، وأقله
ظلما وعدوانا ، وقد شهدت نصوص القرآن على عدالتهم والرضا عن جملتهم. قال الله
تعالى : (لَقَدْ) رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ وكانوا إذ ذاك ألفا وأربعمائة. وقال الله ثناء على
المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وقال : (لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ) وقال تعالى : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفي ذلك دليل على عظمة قدرهم عند الله تعالى ، وكرامتهم
ودرجتهم عند الرسول صلىاللهعليهوسلم.
فليت شعري : كيف
يستجيز ذو دين الطعن فيهم ، ونسبة الكفر إليهم! وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام
: «عشرة من أصحابي في الجنّة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزّبير
، وسعد بن أبي وقّاص ، وسعيد بن زيد ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن
الجرّاح» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في حق كل واحد منهم على الانفراد. وإن
نقلت هنات من بعضهم ، فليتدبر النقل ، فإن أكاذيب الروافض كثيرة ، وأحداث المحدثين
كثيرة.
ثم إن الإمامية لم
يثبتوا في تعيين الأئمة بعد : الحسن والحسين ، وعلي بن
__________________
الحسين رضي الله
عنهم على رأي واحد ، بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها ، حتى قال بعضهم
إن نيّفا وسبعين فرقة من الفرق المذكورة في الخبر هو في الشيعة خاصة ، ومن عداهم
فهم خارجون عن الأمة. وهم متفقون في الإمامة وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه. ومختلفون في المنصوص عليه
بعده من أولاده ، إذ كانت له خمسة أولاد ، وقيل ستة : محمد ، وإسحاق ، وعبد الله ،
وموسى ، وإسماعيل ، وعليّ ، ومن ادعى منهم النص والتعيين : محمد ، وعبد الله ،
وموسى ، وإسماعيل. ثم منهم من مات ولم يعقب. ومنهم من مات وأعقب. ومنهم من قال
بالتوقف ، والانتظار ، والرجعة. ومنهم من قال بالسوق والتعدية كما سيأتي
اختلافاتهم عند ذكر طائفة طائفة.
وكانوا في الأول
على مذهب أئمتهم في الأصول ، ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم ، وتمادى الزمان :
اختارت كل فرقة منهم طريقة. فصارت الإمامية بعضها معتزلة : إما وعيدية ، وإما
تفضيلية. وبعضها إخبارية : إما مشبهة وإما سلفية. ومن ضل الطريق وتاه لم يبال الله
به في أيّ واد هلك.
(أ) الباقريّة والجعفريّة الواقفة : أتباع : محمد بن الباقر بن علي زين العابدين ، وابنه جعفر الصادق. قالوا
بإمامتهما وإمامة والدهما زين العابدين. إلا أن منهم من توقف على واحد منهما ، وما
ساق الإمامة إلى أولادهما. ومنهم من ساق. وإنما ميزنا هذه فرقة دون الأصناف
المتشيعة التي نذكرها ، لأن من الشيعة من توقف على الباقر وقال برجعته ، كما توقف القائلون بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد
__________________
الصادق ، وهو ذو
علم غزير في الدين ، وأدب كامل في الحكمة ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تام عن
الشهوات.
وقد أقام بالمدينة
مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه ، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم. ثم دخل
العراق وأقام بها مدة. ما تعرض للإمامة قط ، ولا نازع أحدا في الخلافة قط. ومن غرق
في بحر المعرفة لم يطمع في شطّ ، ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط. وقيل :
من أنس بالله توحش عن الناس ، ومن استأنس بغير الله نهبه الوسواس.
وهو من جانب الأب
ينتسب إلى شجرة النبوة ، ومن جانب الأم ينتسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد تبرأ عما كان ينسب إليه بعض
الغلاة وبرئ منهم ولعنهم. وبرئ من خصائص مذاهب الرافضة وحماقاتهم من القول بالغيبة
والرجعة ، والبداء ، والتناسخ ، والحلول والتشبيه. لكن الشيعة بعده افترقوا وانتحل
كل واحد منهم مذهبا ، وأراد أن يروّجه على أصحابه فنسبه إليه وربطه به ، والسيد
برئ من ذلك ومن الاعتزال ، والقدر أيضا.
هذا قوله في
الإرادة «إن الله تعالى أراد بنا شيئا وأراد منا شيئا. فما أراده بنا طواه عنا ،
وما أراده منا أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟».
__________________
وهذا قوله في
القدر : هو أمر بين أمرين : لا جبر ولا تفويض.
وكان يقول في
الدعاء : اللهم لك الحمد إن أطعتك ، ولك الحجة إن عصيتك. لا صنع لي ولا لغيري في
إحسان ، ولا حجة لي ولا لغيري في إساءة.
فنذكر الأصناف
الذين اختلفوا فيه ونعدهم ، لا على أنهم من تفاصيل أشياعه ، بل على أنهم منتسبون
إلى أصل شجرته ، وفروع أولاده ، ليعلم ذلك.
(ب) النّاووسيّة : أتباع رجل يقال له : ناووس ، وقيل نسبوا إلى قرية ناووسا ، قالت إن الصادق حي بعد ، ولن يموت حتى يظهر فيظهر أمره. وهو
القائم المهدي. ورووا عنه أنه قال : لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدقوا ، فإني صاحبكم صاحب السيف.
وحكى أبو حامد
الزّوزني أن الناووسية زعمت أن عليا باق وستنشق الأرض عنه يوم القيامة فيملأ الأرض
عدلا.
(ج) الأفصحيّة : قالوا : بانتقال الإمامة من الصادق إلى ابنه عبد الله
__________________
الأفطح ، وهو أخو إسماعيل من أبيه وأمه ، وأمهما فاطمة بنت الحسين
بن الحسين بن الحسن بن علي ، وكان أسنّ أولاد الصادق.
زعموا أنه قال :
الإمامة في أكبر أولاد الإمام. وقال : الإمام من يجلس مجلسي. وهو الذي جلس مجلسه ،
والإمام لا يغسله ولا يصلي عليه ولا يأخذ خاتمه ولا يواريه إلا الإمام. وهو الذي
تولّى ذلك كله. ودفع الصادق وديعة إلى بعض أصحابه وأمره أن يدفعها إلى من يطلبها
منه وأن يتخذه إماما. وما طلبها منه أحد إلا عبد الله ومع ذلك ما عاش بعد أبيه إلا
سبعين يوما ومات ولم يعقب ولدا ذكرا.
(د) الشّميطية : أتباع يحيى بن أبي شميط ، قالوا إن جعفرا قال : إن صاحبكم اسمه اسم نبيكم ، وقد
قال له والده رضوان الله عليهما : إن ولد لك ولد فسميته باسمي فهو الإمام ،
فالإمام بعده ابنه محمد .
(ه) الإسماعيلية
الواقفة : قالوا إن الإمام بعد جعفر إسماعيل نصا عليه باتفاق من
أولاده ، إلا أنهم اختلفوا في موته في حال حياة أبيه. فمنهم من قال لم يمت ، إلا أنه أظهر موته تقية من خلفاء بني العباس ، وأنه عقد
محضرا وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة.
__________________
ومنهم من قال موته
صحيح ، والنص لا يرجع قهقرى ، والفائدة في النص بقاء الإمامة في أولاد المنصوص
عليه دون غيرهم. فالإمام بعد إسماعيل : محمد بن إسماعيل ، وهؤلاء يقال لهم
المباركية . ثم منهم من وقف على محمد بن إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته.
ومنهم من ساق
الإمامة في المستورين منهم ، ثم في الظاهرين القائمين من بعدهم ، وهم الباطنية ،
وسنذكر مذاهبهم على الانفراد ، وإنما مذهب هذه الفرقة الوقف على إسماعيل بن جعفر ،
أو محمد بن إسماعيل. والإسماعيلية المشهورة في الفرق منهم هم الباطنية التعليميّة
الذين لهم مقالة مفردة.
(و) الموسويّة ، والمفضّليّة : فرقة واحدة قالت بإمامة موسى بن جعفر نصا عليه بالاسم ، حيث قال الصادق رضي الله عنه :
سابعكم قائمكم ، وقيل صاحبكم قائمكم ، ألا وهو سمي صاحب التوراة.
ولما رأت الشيعة
أن أولاد الصادق على تفرق ، فمن ميت في حال حياة أبيه
__________________
ولم يعقب ، ومن
مختلف في موته ، ومن قائم بعد موته مدة يسيرة ، ومن ميت غير معقب ، وكان موسى هو
الذي تولى الأمر وقام به بعد موت أبيه ، رجعوا إليه واجتمعوا عليه مثل المفضل بن
عمر ، وزرارة بن أعين ، وعمار الساباطي.
وروت الموسوية عن
الصادق رضي الله عنه أنه قال لبعض أصحابه : عدّ الأيام فعدّها من الأحد حتى بلغ
السبت ، فقال له : كم عددت؟ فقال : سبعة ، فقال : جعفر سبت السبوت ، وشمس الدهور ،
ونور الشهور. من لا يلهو ولا يلعب ، وهو سابعكم قائمكم هذا. وأشار إلى ولده موسى
الكاظم. وقال فيه أيضا : إنه شبيه بعيسى عليهالسلام.
ثم إن موسى لما
خرج وأظهر الإمامة حمله هارون الرشيد من المدينة فحبسه عند عيسى بن جعفر ، ثم أشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك ، وقيل إن يحيى بن خالد بن برمك سمّه في رطب فقتله وهو في
الحبس ، ثم أخرج ودفن في مقابر قريش ببغداد واختلفت الشيعة بعده.
فمنهم من توقف في
موته وقال : لا ندري أمات أم لم يمت! ويقال لهم الممطورة ، سماهم بذلك عليّ بن
إسماعيل ، فقال : ما أنتم إلا كلاب ممطورة ، ومنهم من قطع بموته ويقال لهم القطعية ، ومنهم من توقف
عليه ، وقال إنه لم يمت ، وسيخرج بعد الغيبة ، ويقال لهم الواقفة.
(ز) الاثنا عشريّة
: إن الذين قطعوا بموت موسى الكاظم بن جعفر
__________________
الصادق وسموا
قطعية ، ساقوا الإمامة بعده في أولاده ، فقالوا : الإمام بعد موسى الكاظم : ولده
علي الرضا ، ومشهده بطوس ، ثم بعده : محمد
التقي ، لجواد أيضا ، وهو في مقابر قريش ببغداد ، ثم بعده : عليّ بن محمد التقي ،
ومشهده بقمّ ، وبعده : الحسن العسكري الزكي ، وبعده : ابنه محمد القائم المنتظر
الذي هو بسرّ من رأى ، وهو الثاني عشر ، هذا هو طريق الاثنا عشرية في زماننا.
إلا أن الاختلافات
التي وقعت في حال كل واحد من هؤلاء الاثنا عشر ، والمنازعات التي جرت بينهم وبين
إخوتهم وبني أعمامهم وجب ذكرها لئلا يشذ عنا مذهب لم نذكره ومقالة لم نوردها.
فاعلم أن من
الشيعة من قال بإمامة : أحمد بن موسى بن جعفر دون أخيه عليّ الرضا ، ومن قال بعلي : شك أولا في محمد بن عليّ ، إذ مات
أبوه وهو صغير غير مستحق للإمامة ولا علم عنده بمناهجها ، وثبت قوم على إمامته واختلفوا بعد
موته أيضا ، فقال قوم بإمامة موسى بن محمد ، وقال قوم آخرون بإمامة عليّ بن محمد ،
ويقولون هو العسكري ، واختلفوا بعد موته أيضا ، فقال قوم بإمامة جعفر بن علي ،
وقال قوم بإمامة محمد بن عليّ ، وقال قوم بإمامة الحسن بن علي ، وكان لهم رئيس
يقال له علي بن فلان الطاحن ، وكان من أهل الكلام ، قوّى أسباب جعفر بن علي ، وأمال
الناس إليه ، وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه ؛
__________________
وذلك أن عليا قد
مات ، وخلف الحسن العسكري ، قالوا : امتحنا الحسن فلم نجد عنده علما ، ولقبوا من
قال بإمامة الحسن الحمارية ، وقووا أمر جعفر بعد موت الحسن واحتجوا بأن الحسن مات
بلا خلف فبطلت إمامته ، ولأنه لم يعقب ، والإمام لا يموت إلا ويكون له خلف وعقب.
وحاز جعفر ميراث
الحسن بعد دعاوى ادعاها عليه أنه فعل ذلك من حبل في جواريه وغيرهم ، وانكشف أمره
عند السلطان والرعية وخواص الناس وعوامهم ، وتشتت كلمة من قال بإمامة الحسن
وتفرقوا أصنافا كثيرة ، فثبتت هذه الفرقة على إمامة جعفر ، ورجع إليهم كثير ممن
قال بإمامة الحسن ، منهم : الحسن بن علي بن فضال ، وهو من أجلّ أصحابهم وفقهائهم ، كثير
الفقه والحديث ، ثم قالوا بعد جعفر بعلي بن جعفر وفاطمة بنت علي أخت جعفر ، وقال
قوم بإمامة علي بن جعفر دون فاطمة السيدة ثم اختلفوا بعد موت علي وفاطمة اختلافا
كثيرا ، وغلا بعضهم في الإمامة غلوا كأبي الخطاب الأسدي .
وأما الذين قالوا
بإمامة الحسن فافترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة وليست لهم ألقاب مشهورة ، ولكننا
نذكر أقاويلهم.
الفرقة الأولى :
قالت إن الحسن لم يمت ، وهو القائم ، ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهرا ، لأن
الأرض لا تخلو من إمام ؛ وقد ثبت عندنا أن القائم له غيبتان ، وهذه إحدى الغيبتين
، وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى.
الثانية : قالت إن
الحسن مات ولكنه يحيا وهو القائم ، لأن رأينا أن معنى القائم هو القيام بعد الموت
، فنقطع بموت الحسن ولا نشك فيه ، ولا ولد له ، فيجب أن يحيا بعد الموت.
__________________
الثالثة : قالت إن
الحسن قد مات ، وأوصى إلى جعفر أخيه ، ورجعت الإمامة إلى جعفر.
الرابعة : قالت إن
الحسن قد مات ، والإمام جعفر ، وإنا كنّا مخطئين في الائتمام به ؛ إذ لم يكن إماما
، فلما مات ولا عقب له تبينا أن جعفر كان محقا في دعواه ، والحسن مبطلا.
الخامسة : قالت إن
الحسن قد مات ، وكنا مخطئين في القول به ، وإن الإمام كان محمد بن علي أخا الحسن
وجعفر ؛ ولما ظهر لنا فسق جعفر وإعلانه به ؛ وعلمنا أن الحسن كان على مثل حاله إلا
أنه كان يتستر ، عرفنا أنهما لم يكونا إمامين ، فرجعنا إلى محمد ، ووجدنا له عقبا
، وعرفنا أنه كان هو الإمام دون أخويه.
السادسة : قالت إن
الحسن كان له ابن ، وليس الأمر على ما ذكروا أنه مات ولم يعقب ، بل ولد له ولد قبل
وفاة أبيه بسنتين فاستتر خوفا من جعفر وغيره من الأعداء ، واسمه محمد وهو الإمام ، القائم ، الحجة ، المنتظر.
السابعة : قالت إن
له ابنا ، ولكنه ولد بعد موته بثمانية أشهر ، وقول من ادعى أنه مات وله ابن باطل ،
لأن ذلك لو كان لم يخف ، ولا يجوز مكابرة العيان.
الثامنة : قالت
صحت وفاة الحسن ، وصح أن لا ولد له ، وبطل ما ادعى من الحيل في سرية له ، فثبت أن
الإمام بعد الحسن غير موجود ، وهو جائز في المعقولات أن يرفع الله الحجة عن أهل
الأرض لمعاصيهم ، وهي فترة وزمان لا إمام فيه ، والأرض اليوم بلا حجة كما كانت
الفترة قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم.
__________________
التاسعة : قالت إن
الحسن قد مات ، وصح موته ، وقد اختلف الناس هذه الاختلافات ولا ندري كيف هو؟ ولا
نشك أنه قد ولد له ابن ، ولا ندري قبل موته أو بعد موته؟ إلا أن نعلم يقينا أن
الأرض لا تخلو من حجة ، وهو الخلف الغائب ، فنحن نتولاه ونتمسك به باسمه حتى يظهر
بصورته.
العاشرة : قالت نعلم
أن الحسن قد مات ، ولا بد للناس من إمام ، فلا تخلو الأرض من حجة ، ولا ندري : من
ولده؟ أم من ولد غيره؟.
الحادية عشرة :
فرقة توقفت في هذا التخابط وقالت : لا ندري على القطع حقيقة الحال ، لكنا نقطع في
الرضا ونقول بإمامته ، وفي كل موضع اختلفت الشيعة فيه ، فنحن من الواقفة في ذلك
إلى أن يظهر الله الحجة ، ويظهر بصورته ، فلا يشك في إمامته من أبصره ، ولا يحتاج
إلى معجزة وكرامة وبينة ، بل معجزته اتباع الناس بأسرهم إياه من غير منازعة ولا
مدافعة.
فهذه جملة الفرق
الإحدى عشرة قطعوا على كل واحد واحدا ، ثم قطعوا على الكل بأسرهم.
ومن العجب أنهم
قالوا : الغيبة قد امتدت مائتين ونيفا وخمسين سنة ، وصاحبنا قال: إن خرج القائم
وقد طعن في الأربعين فليس بصاحبكم ، ولسنا ندري كيف تنقضي مائتان ونيف وخمسون سنة
في أربعين سنة؟ وإذا سئل القوم عن مدة الغيبة كيف تتصور؟ قالوا : أليس الخضر وإلياس
عليهماالسلام يعيشان في الدنيا من آلاف سنين ، لا يحتاجان إلى طعام
وشراب؟ فلم لا يجوز ذلك في واحد من آل البيت؟ قيل لهم : ومع اختلافكم هذا كيف يصح
لكم دعوى الغيبة؟ ثم الخضر عليهالسلام ليس مكلفا بضمان جماعة ، والإمام عندكم ضامن ، مكلف
بالهداية والعدل ، والجماعة مكلفون بالاقتداء به والاستنان بسنته ، ومن لا يرى كيف
يقتدى به؟.
فلهذا صارت
الإمامية متمسكين بالعدلية في الأصول ، وبالمشبهة في الصفات ، متحيرين تائهين.
وبين الإخبارية
منهم والكلامية سيف وتكفير ، وكذلك بين التفضيلية والوعيدية قتال وتضليل ، أعاذنا
الله من الحيرة.
ومن العجب أن
القائلين بإمامة المنتظر مع هذا الاختلاف العظيم الذي بينت لا يستحيون فيدعون فيه
أحكام الإلهية ، ويتأولون قوله تعالى عليه : (وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) .
قالوا : هو الإمام
المنتظر الذي يردّ إليه علم الساعة ، ويدّعون فيه أنه لا يغيب عنا ، وسيخبرنا
بأحوالنا ، حين يحاسب الخلق ، إلى تحكمات باردة ، وكلمات عن العقول شاردة.
لقد طفت في تلك
المعاهد كلّها
|
|
وسيّرت طرفي بين
تلك المعالم
|
فلم أر إلّا
واضعا كفّ حائر
|
|
على ذقن أو
قارعا سنّ نادم
|
أسامي الأئمة
الاثني عشر عند الإمامية :
المرتضى ،
والمجتبى ، والشهيد ، والسّجّاد ، والباقر ، والصّادق ، والكاظم ، والرضي ، والتقي
، والنقي ، والزكي ، والحجة القائم المنتظر.
٤ ـ الغالية
هؤلاء هم الذين
غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية ، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية ،
فربما شبهوا واحدا من الأئمة بالإله ، وربما شبهوا الإله بالخلق ، وهم على طرفي
الغلو والتقصير ، وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية ، ومذاهب التناسخية ، ومذاهب اليهود والنصارى ، إذ اليهود شبهت
__________________
الخالق بالخلق ،
والنصارى شبهت الخلق بالخالق فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة ، حتى حكمت
بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة. وكان التشبيه بالأصل والوضع في الشيعة ، وإنما
عادت إلى بعض أهل السنّة بعد ذلك وتمكن الاعتزال فيهم لما رأوا أن ذلك أقرب إلى
المعقول ، وأبعد من التشبيه والحلول.
وبدع الغلاة
محصورة في أربع : التشبيه ، والبداء ، والرجعة ، والتناسخ ، ولهم ألقاب ، وبكل بلد
لقب ، فيقال لهم بأصبهان : الخرّميّة ، والكوذكيّة ، وبالري : المزدكية والسنباذية
، وبأذربيجان الدقولية ، وبموضع المحمرة ، وبما وراء النهر : المبيضة.
وهم أحد عشر صنفا
:
(أ) السّبائية : أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي كرم الله وجهه : أنت ، أنت ، يعني
أنت الإله ، فنفاه إلى المدائن ، زعموا أنه كان يهوديا فأسلم ، وكان في اليهودية
يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهماالسلام مثل ما قال في عليّ رضي الله عنه ، وهو أول من أظهر القول
بالنص بإمامة عليّ رضي الله عنه ومنه انشعبت أصناف الغلاة.
زعم أن عليا حي لم
يمت ، ففيه الجزء الإلهي ، ولا يجوز أن يستولى عليه ، وهو الذي يجيء في السحاب ،
والرعد صوته ، والبرق تبسمه ، وأنه سينزل إلى الأرض بعد ذلك فيملأ الأرض عدلا كما
ملئت جورا.
__________________
وإنما أظهر ابن
سبأ هذه المقالة بعد انتقال عليّ رضي الله عنه واجتمعت عليه جماعة ، وهم أول فرقة
قالت بالتوقف ، والغيبة ، والرجعة ، وقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد عليّ
رضي الله عنه ، قال : وهذا المعنى مما كان يعرفه الصحابة وإن كانوا على خلاف مراده
، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول فيه حين فقأ عين واحد بالحد في الحرم
ورفعت القصة إليه : ما ذا أقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله؟ فأطلق عمر اسم
الإلهية عليه لما عرف منه ذلك.
(ب) الكاملية : أصحاب أبي كامل ، أكفر جميع الصحابة بتركها بيعة علي رضي الله عنه ، وطعن
في علي أيضا بتركه طلب حقه ، ولم يعذره في القعود ، قال : وكان عليه أن يخرج ويظهر
الحق ، على أنه غلا في حقه وكان يقول : الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص ، وذلك
النور في شخص يكون نبوة ، وفي شخص يكون إمامة ، وربما تتناسخ الإمامة فتصير نبوة ،
وقال بتناسخ الأرواح وقت الموت.
والغلاة على
أصنافها كلهم متفقون على التناسخ والحلول ، ولقد كان
__________________
التناسخ مقالة
لفرقة في كل ملة تلقوها من المجوس المزدكية ، والهند البرهمية ، ومن الفلاسفة
والصابئة ، ومذهبهم أن الله تعالى قائم بكل مكان ، ناطق بكل لسان ، ظاهر في كل شخص
من أشخاص البشر ، وذلك بمعنى الحلول.
وقد يكون الحلول
بجزء ، وقد يكون بكل ، أما الحلول بجزء ، فهو كإشراق الشمس في كوة ، أو كإشراقها
على البلّور.
أما الحلول بكل
فهو كظهور ملك بشخص ، أو شيطان بحيوان.
ومراتب التناسخ
أربع : النسخ ، والمسخ ، والفسخ ، والرسخ ، وسيأتي شرح ذلك عند ذكر فرقهم من المجوس على التفصيل ، وأعلى المراتب مرتبة الملكيّة أو النبوة ، وأسفل المراتب
الشيطانية أو الجنية.
وهذا أبو كامل كان
يقول بالتناسخ ظاهرا من غير تفصيل مذهبه.
(ج) العلبائية : أصحاب العلباء بن ذراع الدوسي ، وقال قوم : هو الأسدي ،
وكان يفضل عليا على النبي صلىاللهعليهوسلم ، وزعم أنه بعث محمدا ، يعني عليا ، وسماه إلها ، وكان
يقول بذم محمد صلىاللهعليهوسلم ، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه ، ويسمون هذه
الفرقة الذميمة.
__________________
ومنهم من قال
بإلهيتها جميعا ، ويقدمون عليا في أحكام الإلهية ، ويسمونهم العينية.
ومنهم من قال
بإلهيتهما جميعا ، ويفضلون محمدا في الإلهية ويسمونهم الميمية.
ومنهم من قال
بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء : محمد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وقالوا
خمستهم شيء واحد. والروح حالة فيهم بالسّويّة ، لا فضل لواحد منهم على الآخر ،
وكرهوا أن يقولوا فاطمة بالتأنيث ، بل قالوا فاطم ، بلا هاء ، وفي ذلك يقول بعض
شعرائهم :
تولّيت بعد الله
في الدّين خمسة
|
|
نبيّا ، وسبطيه
، وشيخا ، وفاطما
|
(د) المغيريّة : أصحاب المغيرة بن سعيد ، العجلي ، ادعى أن الإمامة بعد محمد بن عليّ بن الحسين في
: محمد النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، الخارج بالمدينة ، وزعم أنه
حي لم يمت.
وكان المغيرة مولى
لخالد بن عبد الله القسري ، وادعى الإمامة لنفسه بعد
__________________
الإمام محمد ،
وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه ، واستحل المحارم ، وغلا في حق عليّ رضي الله عنه غلوا
لا يعتقده عاقل ، وزاد على ذلك قوله بالتشبيه فقال : إن الله تعالى صورة وجسم ذو
أعضاء على مثال حروف الهجاء ، وصورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من نور ، وله قلب
تنبع منه الحكمة ، وزعم أن الله تعالى لما أراد خلق العالم تكلم بالاسم الأعظم ،
فطار فوقع على رأسه تاجا. قال : وذلك قوله : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) .
ثم اطلع على أعمال
العباد وقد كتبها على كفه ، فغضب من المعاصي فعرق ، فاجتمع من عرقه بحران : أحدهما
مالح ، والآخر عذب ، والمالح مظلم ، والعذب نير ، ثم اطلع في البحر النير فأبصر
ظله ، فانتزع عين ظله فخلق منها الشمس والقمر ، وأفنى باقي ظله وقال : لا ينبغي أن
يكون معي إله غيري. قال : ثم خلق الخلق كله من البحرين فخلق المؤمنون من البحر
النير ، وخلق الكفار من البحر المظلم ، وخلق ظلال الناس أول ما خلق ، وأول ما خلق
هو ظل محمد عليه الصلاة والسلام وظل عليّ قبل خلق ظلال الكل ، ثم عرض على السموات
والأرض والجبال أن يحملن الأمانة ، وهي أن يمنعن عليّ بن أبي طالب من الإمامة ، فأبين ذلك.
ثم عرض ذلك على
الناس ، فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك ، وضمن له أن يعينه على
الغدر به شرط أن يجعل الخلافة له من بعده ، فقبل منه وأقدما على المنع متظاهرين ،
فذلك قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا
الْإِنْسانُ إِنَّهُ
__________________
كانَ
ظَلُوماً جَهُولاً) وزعم أنه نزل في حق عمر قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ
لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ* فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) .
ولما أن قتل
المغيرة اختلف أصحابه ، فمنهم من قال بانتظاره ورجعته ، ومنهم من قال بانتظار
إمامة محمد ، كما كان يقول هو بانتظاره ، وقد قال المغيرة بإمامة أبي جعفر محمد بن
عليّ رضي الله عنهما ، ثم غلا فيه وقال بإلهيته فتبرأ منه الباقر ولعنه ، وقد قال
المغيرة لأصحابه : انتظروه ، فإنه يرجع ، وجبريل وميكائيل يبايعانه بين الركن
والمقام وزعم أنه يحيي الموتى.
(ه) المنصوريّة : أصحاب أبي منصور العجلي ، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي جعفر محمد بن علي
الباقر في الأول ، فلما تبرأ منه الباقر وطرده زعم أنه هو الإمام ، ودعا الناس إلى
نفسه ، ولما توفي الباقر قال : انتقلت الإمامة إليّ وتظاهر بذلك وخرجت جماعة منهم
بالكوفة في بني كندة حتى وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد
الملك على قصته وخبث دعوته ، فأخذه وصلبه.
زعم أبو منصور
العجلي أن عليا رضي الله عنه هو الكسف الساقط من السماء. وربما قال : الكسف الساقط
من السماء هو الله تعالى. وزعم حين ادعى
__________________
الإمامة لنفسه أنه
عرج به إلى السماء ، ورأى معبوده فمسح بيده رأسه ، وقال : يا بني ، انزل فبلّغ
عني. ثم أهبطه إلى الأرض. فهو الكسف الساقط من السماء.
وزعم أيضا أن
الرسل لا تنقطع أبدا ، والرسالة لا تنقطع. وزعم أن الجنة رجل أمرنا بموالاته ، وهو
إمام الوقت. وأن النار رجل أمرنا بمعاداته ، وهو خصم الإمام. وتأول المحرمات كلها
على أسماء رجال أمرنا الله تعالى بمعاداتهم. وتأول الفرائض على أسماء رجال أمرنا
بموالاتهم. واستحل أصحابه قتل مخالفيهم وأخذ أموالهم ، واستحلال نسائهم. وهم صنف
من الخرّمية. وإنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال : هو أن من
ظفر بذلك الرجل وعرفه فقد سقط عنه التكليف ، وارتفع الخطاب إذ قد وصل إلى الجنة
وبلغ الكمال.
ومما أبدعه العجلي
أنه قال : إن أول ما خلق الله تعالى هو عيسى ابن مريم عليهالسلام ، ثم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
(و) الخطّابيّة : أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد ، وهو الذي عزا
نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه. فلما وقف الصادق على
غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه ، وأمر أصحابه بالبراءة منه. وشدد القول في ذلك
، وبالغ في التبري منه واللعن عليه ، فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه.
زعم أبو الخطاب أن
الأئمة أنبياء ثم آلهة. وقال بإلهية جعفر بن محمد ، وإلهية آبائه رضي الله عنهم.
وهم أبناء الله وأحباؤه. والإلهية نور في النبوة ، والنبوة نور في الإمامة. ولا
يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار. وزعم أن جعفرا هو الإله
__________________
في زمانه ، وليس
هو المحسوس الذي يرونه. ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس
فيها.
ولما وقف عيسى بن
موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة. وافترقت الخطابية بعده فرقا.
فزعمت فرقة أن
الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له معمر ، ودانوا به كما دانوا بأبي الخطاب. وزعموا أن الدنيا لا
تفنى ، وأن الجنة هي التي تصيب الناس من خير ونعمة وعافية. وأن النار هي التي تصيب
الناس من شر ومشقة وبلية. واستحلّوا الخمر والزنا ، وسائر المحرمات. ودانوا بترك
الصلاة والفرائض. وتسمى هذه الفرقة المعمرية.
وزعمت طائفة أن
الإمام بعد أبي الخطاب : بزيغ ، وكان يزعم أن جعفرا هو الإله ؛ أي ظهر الإله بصورته
للخلق. وزعم أن كل مؤمن يوحى إليه من الله ، وتأول قول الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي يوحى إليه من الله. وكذلك قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وزعم أن من أصحابه من هو أفضل من جبريل وميكائيل. وزعم أن
الإنسان إذا بلغ الكمال لا يقال له إنه قد مات ، ولكن الواحد منهم إذا بلغ النهاية
قيل رجع إلى الملكوت. وادعوا كلهم معاينة أمواتهم ، وزعموا أنهم يرونهم بكرة
وعشية. وتسمى هذه الطائفة البزيغية.
__________________
وزعمت طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب : عمير بن بيان العجلي ، وقالوا كما قالت الطائفة الأولى ، إلا
أنهم اعترفوا بأنهم يموتون ، وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة الكوفة يجتمعون فيها على
عبادة الصادق رضي الله عنه. فرفع خبرهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة ، فأخذ عميرا فصلبه في كناسة الكوفة.
وتسمى هذه الطائفة العجلية والعميرية أيضا.
وزعمت طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب مفضل الصيرفي. وكانوا يقولون بربوبية جعفر دون نبوته ورسالته.
وتسمى هذه الفرقة المفضلية.
وتبرأ من هؤلاء
كلهم جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه وطردهم ولعنهم ، فإن القوم كلهم حيارى ،
ضالون ، جاهلون بحال الأئمة تائهون.
(ز) الكيّاليّة :
أتباع أحمد بن الكيال ، وكان من دعاة واحد من أهل البيت بعد جعفر بن
محمد الصادق ، وأظنه من الأئمة المستورين.
ولعله سمع كلمات
علمية فخلطها برأيه القائل ، وفكره العاطل ، وأبدع مقالة في كل باب علمي على قاعدة
غير مسموعة ، ولا معقولة ، وربما عاند الحسن في بعض المواضع.
__________________
ولما وقفوا على
بدعته تبرءوا منه ولعنوه وأمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته. ولما عرف الكيال
ذلك منهم صرف الدعوة إلى نفسه ، وادعى الإمامة أولا ، ثم ادعى أنه القائم ثانيا.
وكان من مذهبه أن
كل من قدر الآفاق على الأنفس ، وأمكنه أن يبين مناهج العالمين ؛ أعني عالم الآفاق
وهو العالم العلوي ، وعالم الأنفس ؛ وهو العالم السفلي ، كان هو الإمام ، وأن كل
من قرر الكل في ذاته ، وأمكنه أن يبين كل كلي في شخصه المعين الجزئي ، كان هو
القائم ، قال : ولم يوجد في زمن من الأزمان أحد يقرر هذا التقرير إلا أحمد الكيال
، فكان هو القائم.
وإنما قتله من
انتمى إليه أولا على بدعته ذلك أنه هو الإمام ، ثم القائم ، وبقيت من مقالته في
العالم تصانيف عربية وعجمية ، كلها مزخرفة مردودة شرعا وعقلا.
قال الكيال :
العوالم ثلاثة : العالم الأعلى ، والعالم الأدنى ، والعالم الإنساني.
وأثبت في العالم
الأعلى خمسة أماكن : الأول : مكان الأماكن وهو مكان فارغ لا يسكنه موجود ، ولا
يدبره روحاني ، وهو محيط بالكل. قال : والعرش الوارد في الشرع عبارة عنه ، ودونه :
مكان النفس الأعلى ، ودونه : مكان النفس الناطقة ، ودونه : مكان النفس الإنسانية.
قال : وأرادت
النفس الإنسانية الصعود إلى عالم النفس الأعلى ، فصعدت وخرقت المكانين : أعني
الحيوانية ، والناطقة. فلما قربت من الوصول إلى عالم النفس الأعلى : كلّت وانحسرت
، وتحيرت وتعفنت ، واستحالت أجزاؤها فأهبطت إلى العالم السفلي. ومضت عليها أكوار وأدوار ، وهي في تلك الحالة من
__________________
العفونة
والاستحالة ، ثم ساحت عليها النفس الأعلى ، وأفاضت عليها من أنوارها جزءا ، فحدثت
التراكيب في هذا العالم ، وحدثت السماوات والأرض ، والمركبات من المعادن والنبات
والحيوان ، والإنسان ووقعت في بلايا هذه التراكيب تارة سرورا ، وتارة غما ، وتارة
فرحا ، وتارة ترحا ، وطورا سلامة وعافية ، وطورا بلية ومحنة حتى يظهر القائم ،
ويردها إلى حال الكمال ، وتنحل التراكيب ، وتبطل المتضادات ، ويظهر الروحاني على
الجسماني ، وما ذلك القائم إلا أحمد الكيال.
ثم دل على تعيين
ذاته بأضعف ما يتصور ، وأوهى ما يقدر ، وهو أن اسم أحمد مطابق للعوالم الأربعة ،
فالألف من اسمه في مقابلة النفس الأعلى ، والحاء في مقابلة النفس الناطقة ، والميم
في مقابلة النفس الحيوانية ، والدال في مقابلة النفس الإنسانية ، قال : والعوالم
الأربعة هي المبادئ والبسائط ، وأما مكان الأماكن فلا وجود فيه البتة.
ثم أثبت في مقابلة
العوالم العلوية : العالم السفلي الجسماني ، قال : فالسماء خالية ، وهي في مقابلة
مكان الأماكن ، ودونها الهواء ، ودونه الأرض ، ودونها الماء ، وهذه الأربعة في
مقابلة العوالم الأربعة.
ثم قال : الإنسان
في مقابلة النار ، والطائر في مقابلة الهواء ، والحيوان في مقابلة الأرض ، والحوت
في مقابلة الماء وكذلك ما في معناه ، فجعل مركز الماء أسفل المراكز ، والحوت أخس
المركبات.
ثم قابل العالم
الإنساني الذي هو أحد الثلاثة ، وهو عالم الأنفس ، مع آفاق العالمين الأولين : الروحاني
والجسماني ، قال : الحواس المركبة فيه خمس :
فالسمع في مقابلة
مكان الأماكن ، إذ هو فارغ ، وفي مقابلة السماء.
والبصر في مقابلة
النفس الأعلى من الروحاني ، وفي مقابلة النار من الجسماني ، وفيه إنسان العين لأن
الإنسان مختص بالنار.
والشم في مقابلة
الناطق من الروحاني ، والهواء من الجسماني. والحيوان مختص بالأرض ، والطعم
بالحيوان.
واللمس في مقابلة
الإنساني من الروحاني ، والماء من الجسماني ، والحوت مختص بالماء واللمس بالحوت ،
وربما عبر عن اللمس بالكتابة.
ثم قال : أحمد ،
هو ألف ، وحاء ، وميم ، ودال. وهو في مقابلة العالمين.
أما في مقابلة
العالم العلوي الروحاني فقد ذكرناه.
وأما في مقابلة
العالم السفلي الجسماني ؛ فالألف تدل على الإنسان ، والحاء تدل على الحيوان ،
والميم على الطائر ، والدال على الحوت ، فالألف من حيث استقامة القامة كالإنسان ،
والحاء كالحيوان لأنه معوج منكوس ، ولأن الحيوان من ابتداء اسم الحيوان ، والميم
تشبه رأس الطائر ، والدال تشبه ذنب الحوت.
ثم قال : إن
الباري تعالى إنما خلق الإنسان على شكل اسم أحمد ، فالقامة : مثل الألف ، واليدان
مثل الحاء ، والبطن مثل الميم ، والرجلان مثل الدال.
ثم من العجب أنه
قال : إن الأنبياء هم قادة أهل التقليد ، وأهل التقليد عميان ، والقائم قائد أهل
البصيرة ، وأهل البصيرة أولو الألباب ، وإنما يحصلون البصائر بمقابلة الآفاق
والأنفس.
والمقابلة كما
سمعتها من أخس المقالات ، وأوهى المقابلات ، بحيث لا يستجيز عاقل أن يسمعها فكيف
يرضى أن يعتقدها؟!.
وأعجب من هذا كله
تأويلاته الفاسدة ، ومقابلاته بين الفرائض الشرعية والأحكام الدينية. وبين موجودات
عالمي الآفاق والأنفس وادعاؤه أنه متفرد بها ، وكيف يصح له ذلك؟ وقد سبقه كثير من
أهل العلم بتقرير ذلك ، لا على الوجه المزيف الذي قرره الكيال ، وحمله الميزان على
العالمين ، والصراط على نفسه ، والجنة على الوصول إلى علمه من البصائر ، والنار
على الوصول إلى ما يضاده؟!.
ولما كانت أصول
علمه ما ذكرناه ، فانظر كيف يكون حال الفروع؟!.
(ح) الهشاميّة : أصحاب الهشامين : هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه ، وهشام بن سالم الجواليقي الذي نسج على منواله في التشبيه.
وكان هشام بن
الحكم من متكلمي الشيعة ، وجرت بينه وبين أبي الهذيل مناظرات في علم الكلام ، منها
في التشبيه ، ومنها في تعلق علم الباري تعالى.
حكى ابن الراوندي
عن هشام أنه قال : إن بين معبوده وبين الأجسام تشابها ما ، بوجه من الوجوه ، ولو
لا ذلك لما دلت عليه.
وحكى الكعبي عنه
أنه قال : هو جسم ذو أبعاض ، له قدر من الأقدار ولكن لا يشبه شيئا من المخلوقات
ولا يشبهه شيء.
ونقل عنه أنه قال
: هو سبعة أشبار بشبر نفسه ، وأنه في مكان مخصوص ، وجهة مخصوصة ، وأنه يتحرك ،
وحركته فعله ، وليست من مكان إلى مكان.
وقال : هو متناه
بالذات ، غير متناه بالقدر. وحكى عنه أبو عيسى الوراق أنه قال : إن الله تعالى مماس لعرشه ، لا يفضل منه شيء عن
العرش ، ولا يفضل من العرش شيء عنه.
__________________
ومن مذهب هشام أنه
قال : لم يزل الباري تعالى عالما بنفسه ، ويعلم الأشياء بعد كونها بعلم ، لا يقال
فيه إنه محدث ، أو قديم ، لأنه صفة ، والصفة لا توصف. ولا يقال فيه : هو هو ، أو
غيره أو بعضه.
وليس قوله في
القدرة والحياة كقوله في العلم ، إلا أنه لا يقول بحدوثهما. قال : ويريد الأشياء ،
وإرادته حركة ليست هي عين الله ، ولا هي غيره.
وقال في كلام
الباري تعالى : إنه صفة للباري تعالى ولا يجوز أن يقال هو مخلوق أو غير مخلوق.
وقال : الأعراض لا
تصلح أن تكون دلالة على الله تعالى ، لأن منها ما يثبت استدلالا ، وما يستدل به
على الباري تعالى يجب أن يكون ضروري الوجود لا استدلالا ، وقال : الاستطاعة كل ما
لا يكون الفعل إلا به كالآلات ، والجوارح ، والوقت ، والمكان.
وقال هشام بن سالم
إنه تعالى على صورة إنسان ، أعلاه مجوف ، وأسفله مصمت. وهو نور ساطع يتلألأ ، وله
حواس خمس ، ويد ، ورجل ، وأنف ، وأذن ، وفم ، وله وفرة سوداء ، هي نور أسود ، لكنه ليس بلحم ولا دم. وقال هشام بن
سالم : الاستطاعة بعض المستطيع ، وقد نقل عنه أنه أجاز المعصية على الأنبياء مع
قوله بعصمة الأئمة ، ويفرق بينهما بأن النبي يوحى إليه فينبه على وجه
الخطأ فيتوب عنه. والإمام لا يوحى إليه فتجب عصمته.
وغلا هشام بن
الحكم في حق علي رضي الله عنه حتى قال : إنه إله واجب الطاعة ، وهذا هشام بن الحكم
صاحب غور في الأصول ، لا يجوز أن يغفل عن
__________________
إلزاماته على
المعتزلة ، فإن الرجل وراء ما يلزم به على الخصم ، ودون ما يظهره من التشبيه ،
وذلك أنه ألزم العلاف فقال : إنك تقول : الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه ذاته ،
فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم ، ويباينها في أن علمه ذاته ، فيكون عالما لا
كالعالمين ، فلم لا تقول : إنه جسم لا كالأجسام ، وصورة لا كالصور ، وله قدر لا
كالأقدار ، إلى غير ذلك؟
ووافقه زرارة بن أعين في حدوث علم الله تعالى ، وزاد عليه بحدوث قدرته ،
وحياته ، وسائر صفاته ، وأنه لم يكن قبل حدوث هذه الصفات : عالما ، ولا قادرا ،
ولا حيا ، ولا سميعا ، ولا بصيرا ، ولا مريدا ، ولا متكلما.
وكان يقول بإمامة
عبد الله بن جعفر ، فلما فاوضه في مسائل ، ولم يجده بها مليا رجع إلى موسى بن جعفر
، وقيل أيضا إنه لم يقل بإمامته إلا أنه أشار إلى المصحف وقال : هذا إمامي ، وإنه
كان قد التوى على عبد الله بن جعفر بعض الالتواء.
وحكى عن الزرارية أن المعرفة ضرورية. وأنه لا يسع جهل الأئمة. فإن معارفهم
كلها فطرية ضرورية. وكل ما يعرفه غيرهم بالنظر فهو عندهم أوّليّ ضروري وفطرياتهم
لا يدركها غيرهم.
(ط) النّعمانية أو الشيطانيّة : أصحاب محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول ، الملقب بشيطان الطاق. وهم
الشيطانية أيضا.
__________________
والشيعة تقول : هو
مؤمن الطاق.
وهو تلميذ الباقر
محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم. وأفضى إليه أسرارا من أحواله وعلومه ، وما
يحكى عنه من التشبيه فهو غير صحيح.
قيل : وافق هشام
بن الحكم في أن الله تعالى لا يعلم شيئا حتى يكون.
[قال شيطان الطاق
وكثير من الروافض إن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا
قدرها وأرادها ، فأما من قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها. لا لأنه ليس
بعالم ، ولكن الشيء لا يكون شيئا حتى يقدره وينشئه بالتقدير] والتقدير عند الإرادة ، والإرادة فعله تعالى.
وقال إن الله
تعالى نور على صورة إنسان رباني ، ونفى أن يكون جسما لكنه قال : قد ورد في الخبر «إنّ
الله خلق آدم على صورته» و «على صورة الرّحمن» ، فلا بد من تصديق الخبر. ويحكى عن
مقاتل بن سليمان مثل مقالته في الصورة ، وكذلك يحكى عن داود الجواربي ، ونعيم بن
حماد المصري وغيرهما من أصحاب الحديث أنه تعالى ذو صورة وأعضاء.
ويحكى عن داود أنه
قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك ؛ فإن في الأخبار ما يثبت
ذلك.
وقد صنف ابن
النعمان كتبا جمة للشيعة منها : لم فعلت؟ ومنها : افعل ، لا تفعل ؛ ويذكر فيها أن كبار الفرق أربعة : الفرقة الأولى عنده :
القدرية ، الفرقة الثانية عنده : الخوارج. الفرقة الثالثة عنده : العامة. الفرقة
الرابعة عنده : الشيعة.
ثم عين الشيعة
بالنجاة في الآخرة من هذه الفرق.
__________________
وذكر عن هشام بن
سالم ، ومحمد بن النعمان أنهما أمسكا عن الكلام في الله ، ورويا عمن يوجبان تصديقه
أنه سئل عن قول الله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى) قال : إذا بلغ الكلام إلى الله تعالى فأمسكوا ، فأمسكا عن
القول في الله ، والتفكر فيه حتى ماتا ، هذا نقل الوراق.
ومن جملة الشيعة :
(ي) اليونسيّة : أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمّي مولى آل يقطين. زعم أن الملائكة تحمل
العرش ، والعرش يحمل الرب تعالى ، إذ قد ورد في الخبر : أن الملائكة تئط أحيانا من
وطأة عظمة الله تعالى على العرش.
وهو من مشبهة
الشيعة ، وقد صنف لهم كتبا في ذلك.
(ك) النّصيريّة ، والإسحاقيّة : من جملة غلاة الشيعة. ولهم جماعة
__________________
ينصرون مذهبهم ،
ويذبون عن أصحاب مقالاتهم وبينهم خلاف في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من
أهل البيت ، قالوا : ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل ، أما في
جانب الخير فكظهور جبريل عليهالسلام ببعض الأشخاص ، والتصور بصورة أعرابي ، والتمثل بصورة
البشر ، وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشر بصورته ،
وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه ، فكذلك نقول : إن الله تعالى ظهر بصورة
أشخاص.
ولما لم يكن بعد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم شخص أفضل من علي رضي الله عنه وبعده أولاده المخصوصون ،
وهم خير البرية ، فظهر الحق بصورتهم ، ونطق بلسانهم ، وأخذ بأيديهم ، فعن هذا
أطلقنا اسم الإلهية عليهم ، وإنما أثبتنا هذا الاختصاص لعلي رضي الله عنه دون غيره
، لأنه كان مخصوصا بتأييد إلهي من عند الله تعالى فيما يتعلق بباطن الأسرار ، قال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنا أحكم بالظّاهر والله يتولّى السّرائر» وعن هذا كان
قتال المشركين إلى النبيصلىاللهعليهوسلم ، وقتال المنافقين إلى عليّ رضي الله عنه ، وعن هذا شبهه
بعيسى ابن مريم عليهالسلام. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لو لا أن يقول النّاس فيك ما قالوا في عيسى ابن مريم عليهالسلام لقلت فيك مقالا».
وربما أثبتوا له
شركة في الرسالة ، إذ قال النبي عليه الصلاة والسلام : «فيكم من يقاتل على تأويله
كما قاتلت على تنزيله ، ألا وهو خاصف النّعل» فعلم التأويل ، وقتال المنافقين
ومكالمة الجن ، وقلع باب خيبر لا بقوة جسدانية من أول الدليل على أن فيه جزءا
إلهيا ، وقوة ربانية. ويكون هو الذي ظهر الإله بصورته ، وخلق بيديه ، وأمر بلسانه
، وعن هذا قالوا : كان موجودا قبل خلق السموات والأرض.
قال : كنا أظلة عن
يمين العرش فسبحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا ، فتلك الظلال ، وتلك الصور التي تنبئ
عن الظلال : هي حقيقته ، وهي مشرفة بنور الرب تعالى إشراقا لا ينفصل عنها ، سواء
كانت في هذا العالم ، أو في ذلك العالم ، وعن هذا قال علي رضي الله عنه : أنا من
أحمد كالضوء من الضوء ، يعني لا فرق بين النورين
إلا أن أحدهما
سابق ، والثاني لاحق به ، تال له. قالوا : وهذا يدل على نوع من الشركة.
فالنصيرية أميل
إلى تقرير الجزء الإلهي.
والإسحاقية أميل
إلى تقرير الشركة في النبوة.
ولهم اختلافات
كثيرة أخرى لا نذكرها.
* * *
وقد نجزت الفرق
الإسلامية ، وما بقيت إلا فرقة الباطنية ؛ وقد أوردهم أصحاب التصانيف في كتب
المقالات ، إما خارجة عن الفرق ، وإما داخلة فيها ، وبالجملة هم قوم يخالفون
الاثنتين والسبعين فرقة.
* * *
رجال الشيعة
ومصنّفو كتبهم من المحدثين :
فمن الزيدية أبو
خالد الواسطي ، ومنصور بن الأسود ، وهارون بن سعد العجلي ، جارودية.
ووكيع بن الجراح ، ويحيى بن آدم ، وعبيد الله بن موسى ،
__________________
وعليّ بن صالح ، والفضل بن دكين ، وأبو حنيفة ، بتريّة.
وخرج محمد بن عجلان مع محمد الإمام.
وخرج إبراهيم بن
سعيد ، وعباد بن عوام ، ويزيد بن هارون ، والعلاء بن راشد ، وهشيم بن بشير ، والعوام بن حوشب ، ومستلم بن سعيد مع إبراهيم الإمام.
ومن الإمامية
وسائر أصناف الشيعة ، سالم بن أبي الجعد ، وسالم بن
__________________
أبي حفصة ، وسلمة بن كهيل ، وثوير بن أبي فاختة ، وحبيب بن أبي ثابت ، وأبو المقدام ، وشعبة والأعمش ، وجابر الجعفي ، وأبو عبد الله الجدلي ، وأبو إسحاق السبيعي ، والمغيرة ، وطاوس والشعبي ، ...
__________________
وعلقمة ، وهبيرة بن بريم ، وحبة العرني ، والحارث الأعور.
ومن مؤلفي كتبهم :
هشام بن الحكم ، وعلي بن منصور ، ويونس بن عبد الرحمن ، والشكال ، والفضل بن شاذان ، والحسين بن إشكاب ، ومحمد بن عبد الرحمن بن قبة ، وأبو سهل النوبختي ، وأحمد بن يحيى ...
__________________
الراوندي . ومن المتأخرين : أبو جعفر الطوسي .
٥ ـ الإسماعيلية
قد ذكرنا أن
الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثني عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر
، وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر.
قالوا : ولم يتزوج
الصادق رضي الله عنه على أمة بواحدة من النساء ، ولا تسرّى بجارية كسنّة رسول الله
صلىاللهعليهوسلم في حق خديجة رضي الله عنها ، وكسنّة عليّ رضي الله عنه في
حق فاطمة رضي الله عنها.
وقد ذكرنا
اختلافاتهم في موته في حال حياة أبيه :
فمنهم من قال إنه
مات ، وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى على
هارون عليهماالسلام ثم مات هارون في حال حياة أخيه ، وإنما فائدة النص انتقال
الإمامة منه إلى أولاده. فإن النص لا يرجع قهقرى ، والقول بالبداء محال. ولا ينص
الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه. والتعيين لا يجوز على الإبهام
والجهالة.
ومنهم من قال :
إنه لم يمت ، ولكنه أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل ، ولهذا القول دلالات
: منها أن محمدا كان صغيرا ، وهو أخوه لأمه ؛ مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل
نائما عليه ورفع الملاءة فأبصره وقد فتح عينيه فعاد إلى أبيه مفزعا وقال : عاش أخي
، عاش أخي. قال والده : إن أولاد الرسول عليه الصلاة والسلام كذا تكون حالهم في
الآخرة. قالوا : ومنها السبب في الإشهاد على
__________________
موته وكتب المحضر
عنه ولم نعهد ميتا سجل على موته. وعن هذا لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر
رؤي بالبصرة وقد مرّ على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله تعالى ، بعث المنصور إلى
الصادق أن إسماعيل بن جعفر في الأحياء ، وأنه رؤي بالبصرة ، أنفذ السجل إليه ،
وعليه شهادة عامله بالمدينة.
قالوا : وبعد
إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام ، وإنما تم دور السبعة به. ثم ابتدئ منه
بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد سرا ، ويظهرون الدعاة جهرا.
قالوا : ولن تخلو
الأرض قط من إمام حي قائم ، إما ظاهر مكشوف ، وإما باطن مستور ، فإذا كان الإمام
ظاهرا جاز أن يكون حجته مستورا. وإذا كان الإمام مستورا فلا بد أن يكون حجته
ودعاته ظاهرين.
وقالوا : إن الأئمة
تدور أحكامهم على سبعة سبعة كأيام الأسبوع ، والسموات السبع ، والكواكب السبعة.
والنقباء تدور أحكامهم على اثني عشر .
__________________
قالوا : وعن هذا
وقعت الشبهة للإمامية القطعية حيث قرروا عدد النقباء للأئمة.
ثم بعد الأئمة
المستورين كان ظهور المهدي بالله ، والقائم بأمر الله وأولادهم نصا بعد نص ، على
إمام بعد إمام.
ومن مذهبهم أن من
مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة
إمام مات ميتة جاهلية.
ولهم دعوة في كل
زمان ، ومقالة ، جديدة بكل لسان ، فنذكر مقالاتهم القديمة ونذكر بعدها دعوة صاحب
الدعوة الجديدة. وأشهر ألقابهم الباطنية.
٦ ـ الباطنية
وإنما لزمهم هذا
اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا ، ولكل تنزيل تأويلا.
ولهم ألقاب كثيرة
سوى هذه على لسان قوم قوم :
__________________
فبالعراق يسمون :
الباطنيّة والقرامطة ، والمزدكية.
وبخراسان :
التعليمية ، والملحدة.
وهم يقولون نحن
الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم ، وهذا الشخص.
ثم إن الباطنيّة
القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة ، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج ،
فقالوا في الباري تعالى : إنا لا نقول : هو موجود ، ولا لا موجود ، ولا عالم ولا
جاهل ، ولا قادر ولا عاجز.
وكذلك في جميع
الصفات ، فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي
أطلقنا عليه ، وذلك تشبيه ، فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق ، بل هو
إله المتقابلين وخالق المتخاصمين ، والحاكم بين المتضادين. ونقلوا في هذا نصّا عن
محمد بن علي الباقر أنه قال : «لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم ، ولما وهب
القدرة للقادرين قيل هو قادر ، فهو عالم قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة ؛ لا
بمعنى أنه قام به العلم والقدرة ، أو وصف بالعلم والقدرة».
فقيل فيهم إنهم
نفاة الصفات حقيقة ، معطلة الذات عن جميع الصفات.
قالوا : وكذلك
نقول في القدم : إنه ليس بقديم ولا محدث ، بل القديم : أمره ، وكلمته ، والمحدث :
خلقه وفطرته.
أبدع بالأمر العقل
الأول الذي هو تام بالفعل ، ثم بتوسطه أبدع النفس التالي الذي هو غير تام. ونسبة
النفس إلى العقل إما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة ، والبيض إلى الطير وإما نسبة
الولد إلى الوالد ، والنتيجة إلى المنتج ، وإما نسبة الأنثى إلى الذكر ، والزوج
إلى الزوج. قالوا : ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص
إلى الكمال ، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة ، فحدثت الأفلاك السماوية وتحركت حركة
دورية بتدبير النفس ، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها ،
وتحركت حركة
استقامة بتدبير النفس أيضا ، فتركبت المركبات من المعادن ، والنبات ، والحيوان ،
والإنسان ، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان ، وكان نوع الإنسان متميزا عن سائر
الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار ، وكان عالمه في مقابلة العالم كله.
وفي العالم العلوي
عقل ، ونفس كلي ، فوجب أن يكون في هذا المقام عقل مشخص هو كل. وحكمه حكم الشخص
الكامل البالغ ، ويسمونه الناطق ، وهو النبي ، ونفس مشخصة ، وهو كل أيضا ؛ وحكمه
حكم الطفل الناقص المتوجه إلى الكمال ، أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام ، أو
حكم الأنثى المزدوجة بالذكر ، ويسمونه الأساس ، وهو الوصي.
قالوا : وكما
تحركت الأفلاك والطبائع بتحريك النفس والعقل ، كذلك تحركت النفوس والأشخاص
بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائرا على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور
الأخير ، ويدخل زمان القيامة ، وترتفع التكاليف ، وتضمحل السنن والشرائع.
وإنما هذه الحركات
الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها ، وكمالها بلوغها إلى درجة
العقل واتحادها به ، ووصولها إلى مرتبته فعلا ؛ وذلك هو القيامة الكبرى فتنحل
تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات ، وتنشق السماء وتتناثر الكواكب ، وتبدل الأرض
غير الأرض وتطوى السماء كطيّ السجل للكتاب المرقوم ، وفيه يحاسب الخلق ويتميز
الخير من الشر ، والمطيع عن العاصي ، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي وجزئيات
الباطل بالشيطان المضل المبطل. فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ ومن وقت
السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال.
ثم قالوا : ما من
فريضة وسنّة وحكم من الأحكام الشرعية : من بيع وإجارة وهبة ونكاح وطلاق وجراح
وقصاص ودية إلا وله وزان من العالم : عددا في مقابلة عدد ، وحكما في مطابقة حكم ،
فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية. والعوالم شرائع جسمانية
خلقية وكذلك
التركيبات في الحروف والكلمات على وزان التركيبات في الصور والأجسام ، والحروف
المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط المجردة إلى المركبات من
الأجسام. ولكل حرف وزان في العالم ، وطبيعة يخصها ، وتأثير من حيث تلك الخاصية في
النفوس.
فعن هذا صارت
العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس ، كما صارت الأغذية المستفادة
من الطبائع الخلقية غذاء للأبدان. وقد قدر الله تعالى أن يكون غذاء كل موجود مما
خلق منه. فعلى هذا الوزان وصاروا إلى ذكر أعداد الكلمات والآيات ، وأن التسمية
مركبة من سبعة واثني عشر. وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين ،
وثلاث كلمات في الشهادة الثانية. وسبع قطع في الأولى ، وست في الثانية ، واثني عشر
حرفا في الأولى ، واثني عشر حرفا في الثانية. وكذلك في آية أمكنهم استخراج ذلك مما
لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجم عن ذلك خوفا من مقابلته بضده. وهذه المقابلات
كانت طريقة أسلافهم ؛ قد صنفوا فيها كتبا ، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف
موازنات هذه العلوم ، ويهتدي إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.
ثم إن أصحاب
الدعوة الجديدة تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن محمد بن الصباح دعوته ، وقصر على الإلزامات كلمته ،
واستظهر بالرجال ، وتحصن بالقلاع.
وكان بدء صعوده
على قلعة الموت في شهر شعبان سنة ثلاث وثمانين
__________________
وأربعمائة ؛ وذلك
بعد أن هاجر إلى بلاد إمامه. وتلقى منه كيفية الدعوى لأبناء زمانه ، فعاد ودعا
الناس أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان ، وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة وهي : أن لهم إماما ، وليس
لغيرهم إمام. وإنما تعود خلاصة كلامه بعد ترديد القول فيه عودا على بدء بالعربية
والعجمية إلى هذا الحرف.
ونحن ننقل ما كتبه
بالعجمية إلى العربية ، ولا معاب على الناقل ، والموقف من اتبع الحق ، واجتنب
الباطل ، والله الموفق والمعين.
فنبدأ بالفصول
الأربعة التي ابتدأ بها دعوته ، وكتبها عجمية فعربتها :
الأول : قال :
للمفتي في معرفة الله تعالى أحد قولين : إما أن يقول أعرف الباري تعالى بمجرد
العقل والنظر من احتياج إلى تعليم معلم. وإما أن يقول : لا طريق إلى المعرفة مع
العقل والنظر إلا بتعليم معلم. قال : ومن أفتى بالأول فليس له الإنكار على عقل
غيره ونظره. فإنه متى أنكر فقد علم ، والإنكار تعليم ، ودليل على أن المنكر عليه
محتاج إلى غيره. قال : والقسمان ضروريان ؛ لأن الإنسان إذا أفتى بفتوى ، أو قال
قولا ، فإما أن يعتقده من نفسه ، أو من غيره.
هذا هو الفصل
الأول ، وهو كسر على أصحاب الرأي والعقل.
__________________
وذكر في الفصل
الثاني : أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم ، أفيصلح كل معلم على الإطلاق ، أم لا بد
من معلم صادق؟ قال : ومن قال إنه يصلح كل معلم ما ساغ له الإنكار على معلم خصمه.
وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم صادق معتمد.
قيل : وهذا كسر
على أصحاب الحديث.
وذكر في الفصل الثالث
: أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق ، أفلا بد من معرفة المعلم أولا والظفر به ،
ثم التعلم منه؟ أم جاز التعلم من كل معلم من غير تعيين شخصه ، وتبيين صدقه؟
والثاني رجوع إلى الأول. ومن لم يمكنه سلوك الطريق إلا بمقدم ورفيق ، فالرفيق ثم
الطريق ، وهو كسر على الشيعة.
وذكر في الفصل
الرابع : أن الناس فرقتان ؛ فرقة قالت نحن نحتاج في معرفة الباري تعالى إلى معلم
صادق ، ويجب تعيينه وتشخيصه أولا ، ثم التعلم منه ، وفرقة أخذت في كل علم من معلم
وغير معلم ، وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع الفرقة الأولى فرئيسهم يجب أن
يكون رئيس المحقين ، وإذ تبين أن الباطل مع الفرقة الثانية فرؤساؤهم يجب أن يكونوا
رؤساء المبطلين.
قال : وهذه
الطريقة هي التي عرفنا بها المحق بالحق معرفة مجملة. ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق
معرفة مفصلة حتى لا يلزم دوران المسائل ، وإنما عني بالحق هاهنا : الاحتياج ،
وبالمحق : المحتاج إليه ، وقال : بالاحتياج عرفنا الإمام ، وبالإمام عرفنا مقادير
الاحتياج ، كما بالجواز عرفنا الوجوب ، أي واجب الوجود ، وبه عرفنا مقادير الجواز
في الجائزات.
قال : والطريق إلى
التوحيد كذلك ، حذو القذة بالقذة .
ثم ذكر فصولا في
تقرير مذهبه إما تمهيدا ، وإما كسرا على المذاهب ، وأكثرها كسر وإلزام واستدلال
بالاختلاف على البطلان ، وبالاتفاق على الحق.
__________________
منها فصل «الحق
والباطل» الصغير ، والكبير. يذكر أن في العالم حقا وباطلا. ثم يذكر أن علامة الحق
هي الوحدة ، وعلامة الباطل هي الكثرة ، وأن الوحدة مع التعليم ، والكثرة مع الرأي
، والتعليم مع الجماعة ، والجماعة مع الإمام ، والرأي مع الفرق المختلفة ، وهي مع
رؤسائهم.
وجعل الحق والباطل
، والتشابه بينهما من وجه ، والتمايز بينهما من وجه ، والتضاد في الطرفين ،
والترتب في أحد الطرفين ، ميزانا يزن به جميع ما يتكلم فيه ، قال : وإنما. أنشأت
هذا الميزان من كلمة الشهادة ، وتركيبها من النفي والإثبات ، أو النفي والاستثناء.
قال : فما هو مستحق النفي باطل ، وما هو مستحق الإثبات حق ، ووزن بذلك الخير والشر
، والصدق والكذب ، وسائر المتضادات ، ونكتته أن يرجع في كل مقالة وكلمة إلى إثبات
المعلم ، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معا ، حتى يكون توحيدا ، وأن النبوة هي
النبوة والإمامة معا حتى تكون نبوة ، وهذا هو منتهى كلامه.
وقد منع العوام عن
الخوض في العلوم ، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال
في كل كتاب ، ودرجة الرجال في كل علم.
ولم يتعد بأصحابه
في الإلهيات عن قوله : إن إلهنا إله محمد. وأنتم تقولون : إلهنا إله العقول ، أي :
ما هدى إليه عقل كل عاقل ، فإن قيل لواحد منهم : ما تقول في الباري تعالى؟ وأنه هل
هو واحد أم كثير؟ عالم أو لا؟ قادر أم لا؟ لم يجب إلا بهذا القدر : إن إلهي إله
محمد و (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) .
والرسول هو الهادي
إليه.
وكم قد ناظرت القوم
على المقدمات المذكورة فلم يتخطوا عن قولهم : أفنحتاج إليك؟ أو نسمع هذا منك؟ أو
نتعلم عنك؟.
__________________
وكم قد ساهلت
القوم في الاحتياج ، وقلت : أين المحتاج إليه؟ وأي شيء يقرره لي في الإلهيات؟ وما
ذا يرسم لي في المعقولات؟ إذ المعلم لا يعني لعينه ، وإنما يعني ليعلم. وقد سددتم
باب العلم ، وفتحتم باب التسليم والتقليد ، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهبا على
غير بصيرة ، وأن يسلك طريقا من غير بينة.
وإن كانت مبادئ
الكلام تحكيمات ، وعواقبها تسليمات (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ* ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
الفصل السابع
أهل الفروع
المختلفون في
الأحكام الشرعية ، والمسائل الاجتهادية .
(أ) اعلم أن أصول
الاجتهاد وأركانه أربعة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والقياس. وربما تعود إلى
اثنين.
وإنما تلقوا صحة
هذه الأركان وانحصارها من إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وتلقوا أصل الاجتهاد
والقياس وجوازه منهم أيضا ؛ فإن العلم قد حصل بالتواتر أنهم إذا وقعت لهم حادثة
شرعية ، من حلال أو حرام ، فزعوا إلى الاجتهاد ، وابتدءوا بكتاب الله
__________________
تعالى. فإن وجدوا
فيه نصا أو ظاهرا تمسكوا به ، وأجروا حكم الحادثة على مقتضاه. وإن لم يجدوا فيه
نصا أو ظاهرا فزعوا إلى السنّة. فإن روى لهم في ذلك خبر أخذوا به ، ونزلوا على
حكمه. وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد. فكانت أركان الاجتهاد عندهم اثنين
أو ثلاثة. ولنا بعدهم : أربعة ؛ إذ وجب علينا الأخذ بمقتضى إجماعهم واتفاقهم ،
والجري على مناهج اجتهادهم.
وربما كان إجماعهم
على حادثة إجماعا اجتهاديا ، وربما كان إجماعا مطلقا لم يصرح فيه باجتهاد ، وعلى
الوجهين جميعا ، فالإجماع حجة شرعية لإجماعهم على التمسك بالإجماع. ونحن نعلم أن
الصحابة رضي الله عنهم الذين هم الأئمة الراشدون لا يجتمعون على ضلال. وقد قال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا تجتمع أمّتي على ضلالة».
ولكن الإجماع لا
يخلو عن نص خفي أو جلي قد اختصه ، لأنا على القطع نعلم أن الصدر الأول لا يجمعون
على أمر إلا عن تثبت وتوقيف ، فإما أن يكون ذلك النص في نفس الحادثة التي اتفقوا
على حكمها من غير بيان ما يستند إليه حكمها ، وإما أن يكون النص في الإجماع حجة ،
ومخالفة الإجماع بدعة.
وبالجملة مستند
الإجماع نص خفيّ أو جليّ لا محالة ، وإلا فيؤدي إلى إثبات الأحكام المرسلة ،
ومستند الاجتهاد والقياس هو : الإجماع وهو أيضا مستند إلى نص مخصوص في جواز
الاجتهاد ، فرجعت الأصول الأربعة في الحقيقة إلى اثنين ، وربما ترجع إلى واحد ،
وهو قول الله تعالى.
وبالجملة نعلم
قطعا ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد.
ونعلم قطعا أيضا أنه لم يرد في كل حادثة نص ، ولا يتصور ذلك أيضا. والنصوص إذا
كانت متناهية ، والوقائع غير متناهية ، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى ، علم
قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد.
ثم لا يجوز أن
يكون الاجتهاد مرسلا خارجا عن ضبط الشرع ؛ فإن القياس المرسل شرع آخر وإثبات حكم
من غير مستند وضع آخر. والشارع هو الواضع للأحكام ؛ فيجب على المجتهد أن لا يعدل
في اجتهاده عن هذه الأركان.
(ب) وشرائط
الاجتهاد خمسة : معرفة قدر صالح من اللغة بحيث يمكنه فهم لغات العرب ، والتمييز
بين الألفاظ الوضعية والاستعارية ، والنص ، والظاهر ، والعام والخاص ، والمطلق
والمقيد ، والمجمل والمفصل ، وفحوى الخطاب ، ومفهوم الكلام. وما يدل على مفهومه
بالمطابقة ، وما يدل بالتضمن ، وما يدل بالاستتباع ، فإن هذه المعرفة كالآلة التي
بها يحصل الشيء ، ومن لم يحكم الآلة والأداة لم يصل إلى تمام الصنعة.
ثم معرفة تفسير
القرآن ؛ خصوصا ما يتعلق بالأحكام ، وما ورد من الأخبار في معاني الآيات ، وما رؤي
من الصحابة المعتبرين : كيف سلكوا مناهجها؟ وأي معنى فهموا من مدارجها؟ ولو جهل
تفسير سائر الآيات التي تتعلق بالمواعظ والقصص ؛ قيل لم يضره ذلك في الاجتهاد ،
فإن من الصحابة من كان لا يدري تلك المواعظ ، ولم يتعلم بعد جميع القرآن ، وكان من
أهل الاجتهاد.
ثم معرفة الأخبار
بمتونها وأسانيدها ، والإحاطة بأحوال النقلة والرواة : عدولها وثقاتها ، ومطعونها
ومردودها ، والإحاطة بالوقائع الخاصة فيها ، وما هو عام ورد في حادثة خاصة ، وما
هو خاص عمّم في الكل حكمه ، ثم الفرق بين الواجب ، والندب ، والإباحة ، والحظر ،
والكراهة ، حتى لا يشذ عنه وجه من هذه الوجوه ، ولا يختلط عليه باب بباب.
ثم معرفة مواقع
إجماع الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين من السلف الصالحين ، حتى لا يقع
اجتهاده في مخالفة الإجماع.
ثم التهدي إلى
مواضع الأقيسة ، وكيفية النظر والتردد فيها ، من طلب أصل أولا ، ثم طلب معنى مخيل
يستنبط منه ، فيعلق الحكم عليه ، أو شبه يغلب على الظن فيلحق الحكم به.
فهذه خمسة شرائط
لا بد من مراعاتها حتى يكون المجتهد مجتهدا واجب الاتباع والتقليد في حق العامي ،
وإلا فكل حكم لم يستند إلى قياس واجتهاد مثل ما ذكرنا فهو مرسل مهمل.
قالوا : فإذا حصّل
المجتهد هذه المعارف ساغ له الاجتهاد. ويكون الحكم الذي أدى إليه اجتهاده سائغا في
الشرع ، ووجب على العامي تقليده ، والأخذ بفتواه ، وقد استفاض الخبر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لما بعث معاذا إلى اليمن قال : «يا معاذ ، بم تحكم؟ قال
: بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : فبسنّة رسول الله ، قال : فإن لم تجد؟
قال : أجتهد برأيي. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه» .
وقد روي عن أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : «لما بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم قاضيا إلى اليمن قلت : يا رسول الله! كيف أقضي بين الناس
وأنا حديث السن ، فضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده على صدري وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه ، فما
شككت بعد ذلك في قضاء بين اثنين» .
١ ـ أحكام المجتهدين في الأصول والفروع
ثم اختلف أهل
الأصول في تصويف المجتهدين في الأصول والفروع.
فعامة أهل الأصول
على أن الناظر في المسائل الأصولية والأحكام العقلية اليقينيّة القطعية يجب أن
يكون متعين الإصابة ، فالمصيب فيها واحد بعينه ، ولا يجوز أن يختلف المختلفان في
حكم عقلي حقيقة الاختلاف بالنفي والإثبات على شرط التقابل المذكور ، بحيث نفي أحدهما
ما يثبته الآخر بعينه من الوجه الذي يثبته ، في الوقت
__________________
الذي يثبته إلا
وأن يقتسما الصدق والكذب. والحق والباطل ، سواء كان الاختلاف بين أهل الأصول في
الإسلام ، أو بين أهل الإسلام وبين أهل الملل والنحل الخارجة عن الإسلام فإن
المختلف فيه لا يحتمل توارد الصدق والكذب ، والصواب والخطأ عليه في حالة واحدة ،
وهو مثل قول أحد المخبّرين : زيد في هذه الدار في هذه الساعة ، وقول الثاني : ليس
زيد في هذه الدار في هذه الساعة ، فإنا نعلم قطعا أن أحد المخبّرين صادق ، والآخر
كاذب ، لأن المخبر عنه لا يحتمل اجتماع الحالتين فيه معا ، فيكون زيد في الدار ،
ولا يكون في الدار.
لعمري! قد يختلف
المختلفان في حكم عقلي في مسألة ، ويكون محل الاختلاف مشتركا وشرط تقابل القضيتين
نافذا ، فحينئذ يمكن أن يصوب المتنازعان ، ويرتفع النزاع بينهما برفع الاشتراك أو
يعود النزاع إلى أحد الطرفين.
مثال ذلك :
المختلفان في مسألة الكلام ليسا يتواردان على معنى واحد بالنفي والإثبات فإن الذي
قال : هو مخلوق ، أراد به أن الكلام هو الحروف والأصوات في اللسان ، والرقوم
والكلمات في الكتابة ، قال : وهذا مخلوق ، والذي قال : ليس بمخلوق ، لم يرد به
الحروف والرقوم ، وإنما أراد به معنى آخر ؛ فلم يتواردا بالتنازع في الخلق على
معنى واحد.
وكذلك في مسألة
الرؤية ، فإن النافي قال : الرؤية إنما هي اتصال شعاع بالمرئي ، وهو لا يجوز في حق
الباري تعالى ، والمثبت قال : الرؤية إدراك أو علم مخصوص ، ويجوز تعلقه بالباري
تعالى ، فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد إلا إذا رجع الكلام إلى إثبات
حقيقة الرؤية فيتفقان أولا على أنها ما هي؟ ثم يتكلمان نفيا وإثباتا.
وكذلك في مسألة
الكلام يرجعان إلى إثبات ماهية الكلام ، ثم يتكلمان نفيا وإثباتا ، وإلا فيمكن أن
تصدق القضيتان.
وقد صار أبو الحسن
العنبري إلى أن كل مجتهد ناظر في الأصول مصيب ، لأنه أدى ما كلف به
من المبالغة في تسديد النظر في المنظور فيه ، وإن كان متعينا نفيا وإثباتا ؛ إلا
أنه أصاب من وجه ، وإنما ذكر هذا في الإسلاميين من الفرق ، وأما الخارجون عن الملة
فقد تقررت النصوص والإجماع على كفرهم وخطئهم ، وكان سياق مذهبه يقتضي تصويب كل
مجتهد على الإطلاق ، إلا أن النصوص والإجماع صدته عن تصويب كل ناظر ، وتصديق كل
قائل.
وللأصوليين خلاف
في تكفير أهل الأهواء مع قطعهم بأن المصيب واحد بعينه ، لأن التكفير حكم شرعي ،
والتصويب حكم عقلي ، فمن مبالغ متعصب لمذهبه. كفر وضلل مخالفه ، ومن متساهل متألف
لم يكفر.
ومن كفر قرن كل
مذهب ومقالة بمقالة واحد من أهل الأهواء والملل ، كتقرين القدرية بالمجوس ، وتقرين
المشبهة باليهود ، وتقرين الرافضة بالنصارى ، وأجرى حكم هؤلاء فيهم من المناكحة ،
وأكل الذبيحة.
ومن تساهل ولم
يكفر قضى بالتضليل ، وحكم بأنهم هلكى في الآخرة.
واختلفوا في اللعن
على حسب اختلافهم في التكفير والتضليل.
وكذلك من خرج على
الإمام الحق بغيا وعدوانا ، فإن كان صدر خروجه عن تأول واجتهاد سمي باغيا مخطئا ثم
البغي : هل يوجب اللعن.
فعند أهل السنّة :
إذا لم يخرج بالبغي عن الإيمان لم يستوجب اللعن.
وعند المعتزلة :
يستحق اللعن بحكم فسقه ، والفاسق خارج عن الإيمان ، وإن كان صدر خروجه عن البغي
والحسد والمروق عن الدين فإجماع المسلمين : استحق اللعن باللسان والقتل بالسيف
والسنان.
* * *
__________________
وأما المجتهدون في
الفروع فاختلفوا في الأحكام الشرعية من الحلال والحرام ، ومواقع الاختلاف مظانّ
غلبات الظنون ، بحيث تصويب كل مجتهد فيها ، وإنما يبتني ذلك على أصل ، وهو أنا
نبحث : هل لله تعالى حكم في كل حادثة أم لا؟.
فمن الأصوليين من
صار إلى أن لا حكم لله تعالى في الوقائع المجتهد فيها حكما بعينه قبل الاجتهاد ،
من جواز وحظر ، وحلال وحرام. وإنما حكمه تعالى ما أدى إليه اجتهاد المجتهد وأن هذا
الحكم منوط بهذا السبب. فما لم يوجد السبب لم يثبت الحكم ؛ خصوصا على مذهب من قال
: إن الجواز والحظر لا يرجعان إلى صفات في الذات ، وإنما هي راجعة إلى أقوال
الشارع : افعل ، لا تفعل. وعلى هذا المذهب كل مجتهد مصيب في الحكم.
ومن الأصوليين من
صار إلى أن الله تعالى في كل حادثة حكما بعينه ، قبل الاجتهاد من جواز وحظر ، بل
وفي كل حركة يتحرك بها الإنسان حكم تكليف من تحليل وتحريم ، وإنما يرتاده المجتهد
بالطلب والاجتهاد ، إذ الطلب لا بد له من مطلوب. والاجتهاد يجب أن يكون من شيء إلى
شيء ، فالطلب المرسل لا يعقل ولهذا يتردد المجتهد بين النصوص والظواهر والعمومات ،
وبين المسائل المجمع عليها ، فيطلب الرابطة المعنوية ، أو التقريب من حيث الأحكام
والصور ، حتى يثبت في المجتهد فيه مثل ما يلفيه في المتفق عليه ، ولو لم يكن له
مطلوب معين : كيف يصح منه الطلب على هذا الوجه؟ فعلى هذا المذهب : المصيب واحد من
المجتهدين في الحكم المطلوب ، وإن كان الثاني معذورا نوع عذر إذ لم يقصر في
الاجتهاد.
ثم : هل يتعين
المصيب ، أم لا؟ فأكثرهم على أنه لا يتعين ، فالمصيب واحد لا بعينه. ومن الأصوليين
من فصل الأمر فيه فقال : ينظر في المجتهد فيه ، فإن كانت مخالفة النص ظاهرة في
واحد من المجتهدين ، فهو المخطئ بعينه خطأ لا يبلغ تضليلا. والمتمسك بالخبر الصحيح
والنص الظاهر مصيب بعينه ، وإن لم تكن مخالفة النص ظاهرة فلم يكن مخطئا بعينه ، بل
كل واحد منهما مصيب في اجتهاده ، وأحدهما مصيب في الحكم لا بعينه.
هذه جملة كافية في
أحكام المجتهدين في نوعي : الأصول والفروع. والمسألة مشكلة والقضية معضلة.
٢ ـ حكم الاجتهاد والتقليد ، والمجتهد والمقلد
ثم الاجتهاد من
فروض الكفايات ، لا من فروض الأعيان ، إذا اشتغل بتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع
، وإن قصر فيه أهل عصر عصوا بتركه ، وأشرفوا على خطر عظيم. فإن الأحكام الشرعية
الاجتهادية إذا كانت مترتبة على الاجتهاد ، ترتب المسبب على السبب ، ولم يوجد
السبب : كانت الأحكام عاطلة ، والآراء كلها قائلة ، فلا بد إذن من مجتهد.
وإذا اجتهد
المجتهدان ، وأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر ، فلا
يجوز لأحدهما تقليد الآخر ، وكذلك إذا اجتهد مجتهد واحد في حادثة ، وأدى اجتهاده
إلى جواز أو حظر ، ثم حدثت تلك الحادثة بعينه في وقت آخر ، فلا يجوز له أن يأخذ
باجتهاده الأول ، إذ يجوز أن يبدو له في الاجتهاد الثاني ما أغفله في الاجتهاد
الأول.
وأما العامي فيجب
عليه تقليد المجتهد ، وإنما مذهبه فيما يسأله : مذهب من يسأله عنه ، هذا هو الأصل.
إلا أن علماء الفريقين لم يجوزوا أن يأخذ العامي الحنفي إلا بمذهب أبي حنيفة
والعامي الشافعي إلا بمذهب الشافعي ، لأن الحكم بأن لا مذهب للعامي ، وأن مذهبه
مذهب المفتي ، يؤدي إلى خلط وخبط ، فلهذا لم يجوزوا ذلك.
وإذا كان مجتهدان
في بلد : اجتهد العامي فيهما حتى يختار الأفضل والأورع ويأخذ بفتواه. وإذا أفتى
المفتي على مذهبه ، وحكم به قاض من القضاة على مقتضى فتواه ، ثبت الحكم على
المذاهب كلها. وكان القضاء إذا اتصل بالفتوى ألزم الحكم كالقبض مثلا إذا اتصل
بالعقد. ثم العامي بأي شيء يعرف أن المجتهد قد وصل إلى حد الاجتهاد؟ وكذلك المجتهد
نفسه متى يعرف أنه قد استكمل شرائط الاجتهاد؟ ففيه نظر.
* * *
ومن أصحاب الظاهر
مثل داود الأصفهاني وغيره من لم يجوّز القياس والاجتهاد في الأحكام. وقال : الأصول
هي : الكتاب والسنّة والإجماع فقط ، ومنع أن يكون القياس أصلا من الأصول. وقال :
إن أول من قاس إبليس ، وظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنّة. ولم يدر
أنه طلب حكم الشرع من مناهج الشرع ، ولم تنضبط قط شريعة من الشرائع إلا باقتران
الاجتهاد بها ؛ لأن من ضرورة الانتشار في العالم الحكم بأن الاجتهاد معتبر. وقد
رأينا الصحابة رضي الله عنهم : كيف اجتهدوا وكم قاسوا خصوصا في مسائل المواريث من
توريث الإخوة مع الجد وكيفية توريث الكلالة ؛ وذلك مما لا يخفى على المتدبر لأحوالهم.
٣ ـ أصناف المجتهدين
ثم المجتهدون من
أئمة الأمة محصورون في صنفين ، لا يعدوان إلى ثالث.
أصحاب الحديث ،
وأصحاب الرأي :
* أصحاب الحديث :
وهم أهل الحجاز ، هم أصحاب مالك بن أنس ، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي ، وأصحاب سفيان الثوري ، وأصحاب أحمد بن
حنبل ، وأصحاب داود بن علي بن محمد الأصفهاني ، وإنما سموا أصحاب الحديث لأن
عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ، ولا يرجعون إلى
القياس الجليّ والخفيّ ما وجدوا خبرا أو أثرا.
__________________
قال الشافعي : إذا
وقد وجدتم لي مذهبا ، ووجدتم خبرا على خلاف مذهبي ، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر.
ومن أصحابه : أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني ، والربيع بن سليمان الجيزي ، وحرملة بن يحيى النجيبي ، والربيع بن سليمان المرادي ، وأبو عقوب البويطي ، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، وأبو ثور
__________________
إبراهيم بن خالد
الكلبي. وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهادا ، بل يتصرفون فيما نقل عنه ، توجيها ،
واستنباطا ، ويصدرون عن رأيه جملة ، فلا يخالفونه البتة.
* أصحاب الرأي : وهم
أهل العراق ؛ هم أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت. ومن أصحابه : محمد بن الحسن ، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي ، وزفر بن الهذيل ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وابن سماعة ، وعافية القاضي ، وأبو مطيع البلخي ، وبشر المريسي.
__________________
وإنما سموا أصحاب
الرأي ، لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس ، والمعنى المستنبط من الأحكام ،
وبناء الحوادث عليها ، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. وقد قال أبو
حنيفة : علمنا هذا رأي أحسن ما قدرنا عليه ، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ،
ولنا ما رأينا.
وهؤلاء ربما
يزيدون على اجتهاده اجتهادا ، ويخالفونه في الحكم الاجتهادي والمسائل التي خالفوه
فيها معروفة.
تفرقة وتذكرة :
اعلم أن بين
الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع ، ولهم فيها تصانيف ، وعليها مناظرات ، وقد
بلغت النهاية في مناهج الظنون ، حتى كأنهم قد أشرفوا على القطع واليقين ، وليس
يلزم من ذلك تكفير ، ولا تضليل ، بل كل مجتهد مصيب كما ذكرنا قبل هذا.
الباب الثاني
أهل الكتاب
الخارجون عن الملة
الحنيفيّة والشريعة الإسلامية ممن يقول بشريعة وأحكام ، وحدود وأعلام. وهم قد
انقسموا :
إلى من له كتاب
محقق مثل التوراة والإنجيل ، وعن هذا يخاطبهم التنزيل بأهل الكتاب.
وإلى من له شبهة
كتاب مثل المجوس والمانوية . فإن الصحف التي أنزلت على إبراهيم عليهالسلام قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثها المجوس ، ولهذا يجوز عقد
العهد والذمام معهم ، وينحى بهم نحو اليهود والنصارى ، إذ هم من أهل الكتاب ، ولكن
لا يجوز مناكحتهم ، ولا أكل ذبائحهم ، فإن الكتاب قد رفع عنهم.
فنحن نقدم ذكر أهل
الكتاب ، لتقدمهم بالكتاب ، ونؤخر ذكر من له شبهة كتاب.
أهل الكتاب
والأمّيّون :
الفرقتان
المتقابلتان قبل المبعث هم أهل الكتاب والأميون ، والأمي من لا يعرف الكتابة.
وكانت اليهود والنصارى بالمدينة ، والأميون بمكة.
وأهل الكتاب كانوا
ينصرون دين الأسباط ، ويذهبون مذهب بني إسرائيل ،
__________________
والأميون كانوا
ينصرون دين القبائل ، ويذهبون مذهب بني إسماعيل ، ولما انشعب النور الوارد من آدم عليهالسلام إلى إبراهيم عليهالسلام ، ثم الصادر عنه إلى شعبتين : شعبة في بني إسرائيل ، وشعبة في بني إسماعيل ، وكان النور المنحدر منه إلى بني
إسرائيل ظاهرا ، والنور المنحدر منه إلى بني إسماعيل مخفيا ؛ كان يستدل على النور
الظاهر بظهور الأشخاص وإظهار النبوة في شخص شخص. ويستدل على النور المخفي بإبانة
المناسك والعلامات ، وستر الحال في الأشخاص.
وقبلة الفرقة
الأولى : بيت المقدس. وقبلة الفرقة الثانية : بيت الله الحرام الذي وضع للناس ببكة
مباركا وهدى للعالمين. وشريعة الأولى : ظواهر الأحكام. وشريعة الثانية :
رعاية المشاعر الحرام. وخصماء الفريق الأول : الكافرون مثل فرعون وهامان. وخصماء
الفريق الثاني : المشركون مثل عبدة الأصنام والأوثان. فتقابل الفريقان وضح التقسيم
بهذه التقابلين.
اليهود والنصارى
وهاتان الأمتان من
كبار أمم أهل الكتاب ، والأمة اليهودية أكبر لأن الشريعة كانت لموسى عليهالسلام ، وجميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بذلك ، مكلفين بالتزام
أحكام التوراة.
__________________
والإنجيل النازل
على المسيح عليهالسلام لا يتضمن أحكاما ، ولا يستبطن حلالا ولا حراما ، ولكنه
رموز وأمثال ، ومواعظ ومزاجر ، وما سواها من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة
كما سنبين. فكانت اليهود لهذه القضية لم ينقادوا لعيسى ابن مريم عليهالسلام ، وادعوا عليه أنه كان مأمورا بمتابعة موسى عليهالسلام ، وموافقة التوراة ، فغير وبدل. وعدّوا عليه تلك التغييرات
، منها : تغيير السبت إلى الأحد. ومنها تغيير أكل لحم الخنزير ، وكان حراما في
التوراة. ومنها : الختان والغسل ، وغير ذلك.
والمسلمون قد
بينوا أن الأمتين قد أبدلوا وحرفوا ، وإلا فعيسى عليهالسلام كان مقررا لما جاء به موسى عليهالسلام ، وكلاهما مبشران بمقدم نبينا محمد نبي الرحمة صلوات الله عليهم أجمعين. وقد
أمرهم أئمتهم وأنبياؤهم وكتابهم بذلك. وإنما بنى أسلافهم الحصون والقلاع بقرب
المدينة لنصرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم نبي آخر الزمان. فأمروهم بمهاجرة أوطانهم بالشام إلى تلك
القلاع والبقاع ، حتى إذا ظهر وأعلن الحق بفاران ، وهاجر إلى دار هجرته يثرب هجروه وتركوا نصره . وذلك قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا* فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ
__________________
فَلَعْنَةُ
اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) .
وإنما الخلاف بين
اليهود والنصارى ما كان يرتفع إلا بحكمه ، إذ كانت اليهود تقول : (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) وكانت النصارى تقول : (لَيْسَتِ الْيَهُودُ
عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يقول لهم : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) وما كان يمكنهم إقامتها إلا بإقامة القرآن الحكيم ، وبحكم
نبي الرحمة رسول آخر الزمان. فلما أبوا ذلك وكفروا بآيات الله (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الآية.
الفصل الأول
اليهود خاصّة
هاد الرجل : أي
رجع وتاب. وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى عليهالسلام : ـ إنا هدنا إليك ـ أي رجعنا وتضرعنا.
وهم أمة موسى عليهالسلام ، وكتابهم التوراة ؛ وهو أول كتاب نزل من السماء ؛ أعنى أن
ما كان ينزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهمالسلام ما كان يسمى كتابا ؛ بل صحفا. وقد ورد الخبر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّ الله تعالى خلق آدم بيده ، وخلق جنّة عدن
بيده ، وكتب التوراة بيده» فأثبت لها اختصاصا آخر سوى سائر الكتب.
__________________
وقد اشتمل ذلك على
أسفار. فيذكر مبتدأ الخلق في السفر الأول. ثم يذكر الأحكام والحدود ، والأحوال
والقصص ، والمواعظ والأذكار في سفر سفر.
وأنزل عليه أيضا
الألواح على شبه مختصر ما في التوراة ؛ تشتمل على الأقسام العلمية والعملية. قال
الله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) إشارة إلى تمام القسم العلمي (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ
شَيْءٍ) إشارة إلى تمام القسم العملي.
قالوا : وكان موسى
عليهالسلام قد أفضى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون وصيه
وفتاه القائم بالأمر من بعده ليفضي بها إلى أولاد هارون ، لأن الأمر كان مشتركا
بينه وبين أخيه هارون عليهماالسلام. إذ قال تعالى حكاية عن موسى عليهالسلام في دعائه حين أوحى إليه أولا : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) وكان هو الوصي. فلما مات هارون في حال حياة موسى انتقلت
الوصية إلى يوشع بن نون وديعة ليوصلها إلى شبير وشبر ابني هارون قرارا. وذلك أن الوصية والإمامة بعضها مستقر ،
وبعضها مستودع.
واليهود تدعي أن
الشريعة لا تكون إلا واحدة. وهي ابتدأت بموسى عليهالسلام وتمت به. فلم تكن قبله شريعة إلا حدود عقلية ، وأحكام مصلحية.
ولم يجيزوا النسخ
أصلا. قالوا : فلا يكون بعده شريعة أصلا ؛ لأن النسخ في الأوامر بداء ، ولا يجوز
البداء على الله تعالى.
__________________
ومسائلهم تدور على
جواز النسخ ومنعه. وعلى التشبيه ونفيه ، والقول بالقدر ، والجبر وتجويز الرجعة ،
واستحالتها.
أما النسخ فكما
ذكرنا.
وأما التشبيه
فلأنهم وجدوا التوراة ملئت من المتشابهات مثل الصورة ، والمشافهة ؛ والتكليم جهرا
، والنزول على طور سينا انتقالا ، والاستواء على العرش استقرارا ، وجواز الرؤية
فوقا وغير ذلك.
وأما القول بالقدر
فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام. فالربانيون منهم كالمعتزلة فينا ، والقراءون كالمجبرة والمشبهة.
وأما جواز الرجعة
فإنما وقع لهم من أمرين : أحدهما : حديث عزير عليهالسلام إذ أماته الله مائة عام ثم بعثه. والثاني : حديث هارون عليهالسلام ، إذ مات في التيه. وقد نسبوا موسى إلى قتله بألواحه ، قالوا : حسده ، لأن اليهود كانوا أميل إليه منهم
__________________
إلى موسى.
واختلفوا في حال موته ، فمنهم من قال إنه مات وسيرجع ، ومنهم من قال : غاب وسيرجع.
واعلم أن التوراة
قد اشتملت بأسرها على دلالات وآيات تدل على كون شريعة نبينا المصطفى عليه الصلاة
والسلام حقا ، وكون صاحب الشريعة صادقا ، بل ما حرفوه وغيروه وبدلوه. إما تحريفا
من حيث الكتابة والصورة. وإما تحريفا من حيث التفسير والتأويل.
وأظهرها ذكر
إبراهيم عليهالسلام وابنه إسماعيل ودعاؤه في حقه ، وفي حق ذريته. وإجابة الرب
تعالى إياه ، إني باركت على إسماعيل وأولاده ، وجعلت فيهم الخير كله ، وسأظهرهم
على الأمم كلها ، وسأبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتي.
واليهود معترفون
بهذه القضية ، إلا أنهم يقولون : أجابه بالملك دون النبوة والرسالة.
وقد ألزمتهم أن
الملك الذي سلمتم أهو ملك بعدل وحق أم لا؟ فإن لم يكن بعدل وحق ، فكيف يمنّ على
إبراهيم عليهالسلام بملك في أولاده وهو جور وظلم؟ وإن سلمتم العدل والصدق من
حيث الملك ، فالملك يجب أن يكون صادقا على الله تعالى فيما يدعيه ويقوله ، وكيف
يكون الكاذب على الله تعالى صاحب عدل وحق؟ إذ لا ظلم أشد من الكذب على الله تعالى.
ففي تكذيبه تجويره ، وفي التجوير رفع المنّة بالنعمة ، وذلك خلف.
ومن العجب أن في
التوراة : أن الأسباط من بني إسرائيل كانوا يراجعون القبائل من بني إسماعيل ،
ويعلمون أن في ذلك الشعب علما لدنيا لم تشتمل التوراة عليه. وورد في التواريخ أن
أولاد إسماعيل عليهالسلام كانوا يسمون آل الله ، وأهل الله ، وأولاد إسرائيل : آل
يعقوب ، وآل موسى ، وآل هارون. وذلك كسر عظيم.
__________________
وقد ورد في
التوراة أن الله تعالى جاء من طور سيناء ، وظهر بساعير ، وعلن بفاران . وساعير جبال بيت المقدس التي كانت مظهر عيسى عليهالسلام. وفاران : جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلىاللهعليهوسلم.
ولما كانت الأسرار
الإلهية ، والأنوار الربانية في الوحي والتنزيل والمناجاة ، والتأويل على مراتب
ثلاث : مبدأ ، ووسط ، وكمال. والمجيء أشبه بالمبدإ ، والظهور أشبه بالوسط ، والإعلان
أشبه بالكمال ، عبرت التوراة عن طلوع صبح الشريعة والتنزيل : بالمجيء من طور
سيناء. وعن طلوع الشمس بالظهور على ساعير. وعن البلوغ إلى درجة الكمال بالاستواء
والإعلان على فاران ، وفي هذه الكلمات : إثبات نبوة المسيح عليهالسلام ، والمصطفى محمدصلىاللهعليهوسلم.
وقد قال المسيح في
الإنجيل : ما جئت لأبطل التوراة ، بل جئت لأكملها. قال صاحب التوراة : النفس
بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح
قصاص. وأنا أقول : «إذا لطمك أخوك على خدك الأيمن فضع له خدك الأيسر».
والشريعة الأخيرة
وردت بالأمرين جميعا. أما القصاص ففي قوله تعالى : (كُتِبَ) عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وأما العفو ففي قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى).
__________________
ففي أحكام التوراة
: أحكام السياسة الظاهرة العامة. وفي الإنجيل : أحكام السياسة الباطنة الخاصة. وفي
القرآن أحكام السياستين جميعا (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) إشارة إلى تحقيق السياسة الظاهرة. وقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، وقوله : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) إشارة إلى تحقيق السياسة الباطنة ، وقد قال عليه الصلاة
والسلام : «هو أن تعفو عمّن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك».
ومن العجب أن من
رأى غيره بصدق ما عنده ويكمله ويرقيه من درجة إلى درجة ، كيف يسوغ له تكذيبه؟.
النسخ في الحقيقة
ليس إبطالا ، بل هو تكميل :
وفي التوراة أحكام
عامة ، وأحكام خاصة ، إما بأشخاص ، وإما بأزمان وإذا انتهى الزمان لم يبق ذلك لا
محالة ، ولا يقال إنه إبطال أو بداء. كذلك هاهنا.
وأما السبت فلو أن
اليهود عرفوا ، لم ورد التكليف بملازمة السبت ، وهو يوم أي شخص من الأشخاص؟ وفي
مقابلة أية حالة من الأحوال؟ وجزئي أي زمان؟ عرفوا أن الشريعة الأخيرة حق ، وأنها
جاءت لتقرير السبت ، لا لإبطاله ، وهم الذين عدوا في السبت حتى مسخوا قردة خاسئين . وهم يعترفون بذلك ، وبأن موسى عليهالسلام بنى بيتا وصور فيه صورا وأشخاصا ، وبين مراتب الصور ،
وأشار إلى تلك الرموز ولكن
__________________
لما فقدوا الباب ،
باب حطة ؛ ولم يمكنهم التسور على سنن اللصوص ، تحيروا تائهين ،
وتاهوا متحرين ، فاختلفوا على إحدى وسبعين فرقة.
ونحن نذكر منها
أشهرها وأظهرها عندهم ، ونترك الباقي هملا ، والله الموفق.
١ ـ العنانية
نسبوا إلى رجل
يقال له عنان بن داود ، رأس الجالوت يخالفون سائر اليهود في السبت
والأعياد ، وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد ، ويذبحون الحيوان على
القفا ، ويصدقون عيسى عليهالسلام في مواعظه وإشاراته. ويقولون إنه لم يخالف التوراة البتة ،
بل قررها ، ودعا الناس إليها. وهو من بني إسرائيل المتعبدين بالتوراة ومن
المستجيبين لموسىعليهالسلام ، إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته.
ومن هؤلاء من يقول
: إن عيسى عليهالسلام لم يدع أنه نبي مرسل ، وليس من بني إسرائيل ، وليس هو صاحب
شريعة ناسخة لشريعة موسى عليهالسلام ، بل هو من أولياء الله المخلصين العارفين بأحكام التوراة.
وليس الإنجيل كتابا أنزل عليه وحيا من الله تعالى ، بل هو جمع أحواله من مبدئه إلى
كماله. وإنما جمعه أربعة من أصحابه الحواريين فكيف يكون كتابا منزلا؟.
__________________
قالوا : واليهود
ظلموه حيث كذبوه أولا ، ولم يعرفوا بعد دعواه ، قتلوه آخرا ، ولم يعلموا بعد محله
ومغزاه. وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة ، وذلك هو المسيح ؛ ولكن
لم ترد له النبوة ، ولا الشريعة الناسخة. وورد فارقليط وهو الرجل العالم ؛ وكذلك ورد ذكره في الإنجيل ، فوجب حمله
على ما وجد. وعلى من ادعى غير ذلك تحقيقه وحده.
٢ ـ العيسويّة
نسبوا إلى أبي
عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني. وقيل : إن اسمه عوفيد ألوهيم أي عابد الله. كان في
زمن المنصور ، وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية : مروان بن محمد الحمار ، فاتّبعه بشر كثير من اليهود ، وادّعوا له آيات ومعجزات ،
وزعموا أنه لما حورب خط على أصحابه خطا بعود آس ، وقال : أقيموا في هذا الخط ،
فليس ينالكم عدو بسلاح. فكان العدو يحملون عليهم حتى إذا بلغوا الخط رجعوا عنهم
خوفا من طلسم أو عزيمة ربما وضعها. ثم إن أبا عيسى خرج من الخط وحده على فرسه
فقاتل وقتل من المسلمين كثيرا. وذهب إلى أصحاب موسى بن عمران الذين هم وراء النهر
المرمل ليسمعهم كلام الله. وقيل : إنه لما حارب أصحاب المنصور بالري قتل وقتل
أصحابه.
زعم أبو عيسى أنه
نبي ، وأنه رسول المسيح المنتظر. وزعم أن للمسيح
__________________
خمسة من الرسل
يأتون قبله واحدا بعد واحد. وزعم أن الله تعالى كلمه ، وكلفه أن يخلص بني إسرائيل
من أيدي الأمم العاصين ، والملوك الظالمين. وزعم أن المسيح أفضل ولد آدم ؛ وأنه
أعلى منزلة من الأنبياء الماضين ، وإذ هو رسوله فهو أفضل الكل أيضا. وكان يوجب
تصديق المسيح ؛ ويعظم دعوة الداعي ، ويزعم أيضا أن الداعي هو المسيح.
وحرم في كتابه
الذبائح كلها ، ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق طيرا كان أو بهيمة. وأوجب عشر
صلوات ، وأمر أصحابه بإقامتها وذكر أوقاتها ، وخالف اليهود في كثير من أحكام
الشريعة الكثيرة المذكورة في التوراة.
وتوراة الناس هي
التي جمعها ثلاثون حبرا لبعض ملوك الروم حتى لا يتصرف فيها كل جاهل بمواضع أحكامها
، والله الموفق.
٣ ـ المقاربة
واليوذعانيّة
نسبوا إلى يوذعان
من همدان : وقيل : كان اسمه يهوذا. كان يحث على الزهد ، وتكثير الصلاة ، وينهى عن اللحوم والأنبذة. وفيما نقل عنه تعظيم أمر الداعي. وكان
يزعم أن للتوراة ظاهرا وباطنا ، وتنزيلا وتأويلا. وخالف بتأويلاته عامة اليهود ،
وخالفهم في التشبيه ومال إلى القدر وأثبت الفعل حقيقة للعبد ، وقدر الثواب والعقاب
عليه ، وشدد في ذلك.
٤ ـ الموشكانية
وهم أصحاب موشكان.
كان على مذهب يوذعان غير أنه كان يوجب الخروج على مخالفيه ، ونصب القتال معهم.
فخرج في تسعة عشر رجلا فقتل بناحية قم. وذكر
__________________
عن جماعة من
الموشكانية أنهم أثبتوا نبوة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام إلى العرب وسائر
الناس سوى اليهود ، لأنهم أهل ملة وكتاب.
وزعمت فرقة من
المقاربة أن الله تعالى خاطف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة ملك اختاره ،
وقدمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم. وقالوا : كل ما في التوراة وسائر الكتب من
وصف الله تعالى ، فهو خبر عن ذلك الملك. وإلا فلا يجوز أن يوصف الله تعالى بوصف.
قالوا : وإن الذي
كلم موسى عليهالسلام تكليما هو ذلك الملك والشجرة المذكورة في التوراة هو ذلك
الملك. ويتعالى الرب تعالى عن أن يكلم بشرا تكليما. وحمل جميع ما ورد في التوراة
من طلب الرؤية : وشافهت الله ، وجاء الله ، وطلع الله في السحاب ، وكتب التوراة
بيده ، واستوى على العرش استقرارا ، وله صورة آدم ، وشعر قطط ، ووفرة سوداء ، وأنه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ،
وأنه ضحك الجبار حتى بدت نواجذه ، إلى غير ذلك ، على ذلك الملك. قال : ويجوز في
العادة أن يبعث ملكا روحانيا من جملة خواصه ، ويلقي عليه اسمه ، ويقول : هذا هو
رسولي ، ومكانه فيكم مكاني ، وقوله قولي ، وأمره أمري ، وظهوره عليكم ظهوري كذلك
يكون حال ذلك الملك.
وقيل : إن أرنوس
حيث قال في المسيح إنه هو الله ، وإنه صفوة العالم ، أخذ قوله من هؤلاء. وكانوا
قبل أرنوس بأربعمائة سنة ، وهم أصحاب زهد وتقشف.
وقيل صاحب هذه
المقالة هو : بنيامين النهاوندي ، قرر لهم هذا المذهب وأعلمهم أن الآيات
المتشابهات في التوراة كلها مؤولة. وأنه تعالى لا يوصف بأوصاف البشر ، ولا يشبه
شيئا من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء منها ، وأن المراد بهذه الكلمات الواردة في
التوراة ذلك الملك المعظم.
__________________
وهذا كما يحمل في
القرآن المجيء ، والإتيان على إتيان ملك من الملائكة ، وهو كما قال تعالى في حق
مريم عليهاالسلام : (فَنَفَخْنا) فِيها مِنْ رُوحِنا . وفي موضع آخر : (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) وإنما النافخ جبريل عليهالسلام ، حين تمثل لها بشرا سويّا ليهب لها غلاما زكيّا .
٥ ـ السامرة
هؤلاء قوم يسكنون
جبال بيت المقدس وقرايا من أعمال مصر ، ويتقشفون في
__________________
الطهارة أكثر من
تقشف سائر اليهود ، أثبتوا نبوة موسى وهارون ويوشع بن نون عليهمالسلام وأنكروا نبوة من بعدهم من الأنبياء ، إلا نبيا واحدا ،
وقالوا : التوراة ما بشرت إلا بنبي واحد يأتي من بعد موسى ، يصدق ما بين يديه من
التوراة ، ويحكم بحكمها ، ولا يخالفها البتة.
وظهر في السامرة
رجل يقال له الألفان ، ادعى النبوة وزعم أنه هو الذي بشر به موسى عليهالسلام ، وأنه هو الكوكب الدريّ الذي ورد في التوراة أنه يضيء ضوء
القمر ، وكان ظهوره قبل المسيح عليهالسلام ، بقريب من مائة سنة.
وافترقت السامرة
إلى دوستانية وهم الألفانية ، وإلى كوستانية . والدوستانية معناها : الفرقة المتفرقة الكاذبة.
والكوستانية معناها : الجماعة الصادقة. وهم يقرون بالآخرة ، والثواب والعقاب فيها
، والدوستانية تزعم أن الثواب والعقاب في الدنيا. وبين الفريقين اختلاف في الأحكام
والشرائع.
وقبلة السامرة جبل
يقال له كزيريم بين بيت المقدس ونابلس ، قالوا : إن الله تعالى أمر داود
أن يبني بيت المقدس بجبل نابلس وهو الطور الذي كلم الله عليه موسى عليهالسلام. فتحول داود إلى إيلياء وبنى البيت ثمة ، وخالف الأمر فظلم. والسامرة توجهوا إلى
تلك القبلة دون سائر اليهود ، ولغتهم غير لغة اليهود ، وزعموا أن التوراة كانت بلسانهم وهي
قريبة من العبرانية إلى السريانية.
فهذه أربع فرق هم الكبار.
وانشعبت منهم الفرق إلى إحدى وسبعين فرقة.
وهم بأسرهم أجمعوا
على أن التوراة بشارة بواحد بعد موسى. وإنما افتراقهم إما
__________________
في تعيين ذلك
الواحد ، أو في الزيادة على ذلك الواحد. وذكر المشيحا وآثاره ظاهر في الأسفار ،
وخروج واحد في آخر الزمان هو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره أيضا متفق عليه
، واليهود على انتظاره. والسبت يوم ذلك الرجل ، وهو يوم الاستواء بعد الخلق.
وقد اجتمعت اليهود
عن آخرهم على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض استوى على عرشه مستلقيا
على قفاه ، واضعا إحدى رجليه على الأخرى.
وقالت فرقة منهم
إن ستة الأيام التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض هي ستة آلاف سنة. فإن يوما
عند الله كألف سنة مما تعدون ، بالسير القمري. وذلك هو ما مضى من لدن آدم عليهالسلام إلى يومنا هذا ، وبه يتم الخلق. ثم إذا بلغ الخلق إلى
النهاية ابتداء الأمر. ومن ابتداء الأمر يكون الاستواء على العرش. والفراغ من
الخلق. وليس ذلك أمرا كان ومضى ، بل هو في المستقبل إذا عددنا الأيام بالألوف.
الفصل الثاني
النصارى
النصارى أمة المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته عليهالسلام. وهو المبعوث حقا بعد موسى عليهالسلام ، المبشر به في التوراة. وكانت له آيات ظاهرة. وبينات
زاهرة ، ودلائل باهرة ، مثل إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ونفس وجوده وفطرته آية كاملة على صدقه. وذلك حصوله من
غير نطفة
__________________
سابقة. ونطقه
البين من غير تعليم سالف. وجميع الأنبياء بلاغ وحيهم أربعون سنة. وقد أوحى الله
تعالى إليه إنطاقا في المهد ، وأوحى إليه إبلاغا عند الثلاثين. وكانت مدة دعوته
ثلاث سنين ، وثلاثة أشهر ، وثلاثة أيام.
فلما رفع إلى
السماء اختلف الحواريون وغيرهم فيه. وإنما اختلافاتهم تعود إلى أمرين :
أحدهما : كيفية
نزوله واتصاله بأمه ، وتجسد الكلمة.
والثاني : كيفية
صعوده ، واتصاله بالملائكة وتوحد الكلمة.
أما الأول فإنهم
قضوا بتجسد الكلمة ، ولهم في كيفية الاتحاد والجسد كلام : فمنهم من قال : أشرق على
الجسد إشراق النور على الجسم المشف. ومنهم من قال : انطبع فيه انطباع النقش في
الشمع ومنهم من قال : ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني. ومنهم من قال : تدرّع اللاهوت بالناسوت. ومنهم من قال : ما زجت الكلمة جسد
المسيح ممازجة اللبن الماء ، والماء اللبن ، وأثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة. قالوا
: الباري تعالى جوهر واحد ، يعنون به القائم بالنفس ، لا التحيز والحجمية. فهو
واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالأقنومية ، ويعنون بالأقانيم الصفات كالوجود والحياة
والعلم وسموها : الأب والابن ، وروح القدس ، وإنما العلم تدرّع وتجسد دون سائر
الأقانيم.
وقالوا في الصعود
إنه قتل وصلب ، قتله اليهود حسدا وبغيا ، وإنكارا لنبوته ودرجته. ولكن القتل ما
ورد على الجزء اللاهوتي. وإنما ورد على الجزء الناسوتي. قالوا : وكمال الشخص
الإنساني في ثلاثة أشياء : نبوة ، وإمامة ، وملكة. وغيره من الأنبياء كانوا
موصوفين بهذه الصفات الثلاث أو ببعضها. والمسيح عليهالسلام درجته فوق ذلك لأنه الابن الوحيد فلا نظير له ، ولا قياس
له إلى غيره من الأنبياء ، وهو الذي به غفرت زلة آدم عليهالسلام ، وهو الذي يحاسب الخلق.
__________________
ولهم في النزول
اختلاف. فمنهم من يقول : ينزل قبل يوم القيامة كما قال أهل الإسلام. ومنهم من يقول
: لا نزول له إلا يوم الحساب ، وهو بعد أن قتل وصلب نزل ورأى شخصه شمعون الصفا ، وكلمه وأوصى إليه ، ثم فارق الدنيا وصعد إلى السماء.
فكان وصيه شمعون الصفا وهو أفضل الحواريين علما وزهدا وأدبا ، غير أن فولوس شوّش
أمره ، وصير نفسه شريكا له ، وغير أوضاع كلامه ، وخلطه بكلام الفلاسفة ووساوس
خاطره.
ورأيت رسالة فولوس
التي كتبها إلى اليونانيين ؛ إنكم تظنون أن مكان عيسى عليهالسلام كمكان سائر الأنبياء وليس كذلك. بل إنما مثله مثل «ملكيز
داق» وهو ملك السلام الذي كان إبراهيم عليهالسلام يعطي إليه العشور. وكان يبارك على إبراهيم ويمسح رأسه. ومن
العجب أنه نقل في الأناجيل أن الرب تعالى قال : إنك أنت الابن الوحيد ، ومن كان
وحيدا كيف يمثل بواحد من البشر؟.
ثم إن أربعة من
الحواريين اجتمعوا وجمع كل واحد منهم جمعا سماه الإنجيل . وهم : متى ، ....................
__________________
ولوقا ، ومرقس ، ويوحنا . وخاتمة إنجيل متى أنه قال : إني أرسلكم إلى الأمم كما
أرسلني أبي إليكم. فاذهبوا ودعوا الأمم باسم الأب. والابن ، وروح القدس.
وفاتحة إنجيل
يوحنا : على القديم الأزلي قد كانت الكلمة ، وهو ذا الكلمة كانت عند الله ، والله
هو كان الكلمة ، وكل كان بيده.
ثم افترقت النصارى
اثنتين وسبعين فرقة ، وكبار فرقهم ثلاثة : الملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ،
وانشعبت منها : الإليانية ، والبليارسية ، والمقدانوسية ،
__________________
والسبالية والبوطينوسية والبولية ، إلى سائر الفرق.
١ ـ الملكانية
أصحاب ملكا الذي
ظهر بأرض الروم واستولى عليها. ومعظم الروم ملكانية. قالوا : إن الكلمة اتحدت بجسد
المسيح ، وتدرعت بناسوته. ويعنون بالكلمة : أقنوم العلم. ويعنون بروح القدس :
أقنوم الحياة. ولا يسمون العلم قبل تدرعه ابنا ، بل المسيح مع ما تدرع به ابن.
فقال بعضهم : إن الكلمة مازجت جسد المسيح كما يمازج الخمر أو الماء اللبن.
وصرحت الملكانية
بأن الجوهر غير الأقانيم ، وذلك كالموصوف والصفة وعن هذا صرحوا بإثبات التثليث ،
وأخبر عنهم القرآن : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وقالت الملكانية : إن المسيح ناسوت كلي لا جزئيّ ، وهو
قديم أزلي ، من قديم أزلي. وقد ولدت مريم عليهاالسلام إلها أزليا. والقتل والصلب وقع على
__________________
الناسوت واللاهوت
معا ، وأطلقوا لفظ الأبوة والنبوة على الله عزوجل وعلى المسيح لما وجدوا في الإنجيل حيث قال : إنك أنت الابن
الوحيد ، وحيث قال له شمعون الصفا : إنك ابن الله حقا.
ولعل ذلك من مجاز
اللغة ، كما يقال لطلاب الدنيا أبناء الدنيا ، ولطلاب الآخرة أبناء الآخرة. وقد
قال المسيح عليهالسلام للحواريين : «أنا أقول لكم ، أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم ،
وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء
، الذي تشرق شمسه على الصالحين والفجرة ، وينزل قطره على الأبرار والأئمة ،
وتكونوا تامين كما أن أباكم الذي في السماء تام» وقال : «انظروا صدقاتكم فلا
تعطوها قدام الناس لتراءوهم فلا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء» وقال حين
كان يصلب «أذهب إلى أبي وأبيكم».
ولما قال أريوس : القديم هو الله ، والمسيح هو مخلوق ، اجتمعت البطارقة
والمطارنة والأساقفة في بلد قسطنطينية بمحضر من ملكهم ، وكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا ،
واتفقوا على هذه الكلمة اعتقادا ودعوة ، وذلك قولهم :
«نؤمن بالله
الواحد الأب مالك كل شيء ، وصانع ما يرى وما لا يرى ، وبالابن الواحد يسوع المسيح
، ابن الله الواحد ، بكر الخلائق كلها ، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها ، وليس
بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم ، وخلق كل شيء
من أجلنا ، ومن أجل معشر الناس ، ومن أجل خلاصنا ، نزل من السماء وتجسد من روح
القدس وصار إنسانا ، وحبل به ، وولد من مريم البتول ،
__________________
وقتل وصلب أيام
فيلاطوس ودفن ، ثم قام في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه. وهو
مستعد للمجيء تارة أخرى بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق
الذي يخرج من أبيه. وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا. وبجماعة واحدة قدسية مسيحية
جاثليقية ، وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة أبد الآبدين».
هذا هو الاتفاق
الأول على هذه الكلمات ، وفيه إشارة إلى حشر الأبدان.
وفي النصارى من
قال بحشر الأرواح دون الأبدان ، وقال إن عاقبة الأشرار في القيامة غم وحزن الجهل.
وعاقبة الأخيار : سرور وفرح العلم. وأنكروا أن يكون في الجنة نكاح وأكل وشرب.
وقال مار إسحاق منهم : إن الله تعالى وعد المطيعين وتوعد العاصين. ولا
يجوز أن يخلف الوعد لأنه لا يليق بالكريم ، ولكن يخلف الوعيد ، فلا يعذب العصاة ،
ويرجع الخلق إلى سرور وسعادة ونعيم. وعمم هذا الكل ؛ إذ العقاب الأبدي لا يليق
بالجواد الحق تعالى.
٢ ـ النّسطوريّة
أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون ، وتصرف في الأناجيل بحكم
رأيه. وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة. قال : إن الله تعالى واحد ،
ذو أقانيم ثلاثة : الوجود ، والعلم ، والحياة. وهذه الأقانيم ليست زائدة على
__________________
الذات ، ولا هي
هو. واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليهالسلام ، لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية ، ولا على طريق
الظهور به كما قالت اليعقوبية ، ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة ، وكظهور
النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم :
وأشبه المذاهب
بمذهب نسطور في أحوال أبي هاشم من المعتزلة ، فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء واحد ، ويعني
بقوله واحد ، يعني الإله. قال هو واحد بالجوهر ، أي ليس هو مركبا من جنسين بل هو
بسيط وواحد. ويعني بالحياة والعلم أقنومين جوهرين ، أي أصلين مبدأين للعالم. ثم
فسر العلم بالنطق ، والكلمة ، ويرجع منتهى كلامه إلى إثبات كونه تعالى موجودا ، حيا
، ناطقا كما تقول الفلاسفة في حد الإنسان ، إلا أن هذه المعاني تتغاير في الإنسان
لكونه جوهرا مركبا ، وهو جوهر بسيط غير مركب.
وبعضهم يثبت لله
تعالى صفات أخر بمنزلة القدرة والإرادة ونحوهما. ولم يجعلوها أقانيم كما جعلوا
الحياة والعلم أقنومين.
ومنهم من أطلق القول
بأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة : حي ، ناطق ، إله ، وزعم الباقون أن اسم الإله
لا يطلق على كل واحد من الأقانيم.
وزعموا أن الابن
لم يزل متولدا من الأب ، وإنما تجسد واتحد بجسد المسيح حين ولد. والحدوث راجع إلى
الجسد والناسوت ، فهو إله وإنسان اتحدا ، وهما جوهران ، أقنومان ، طبيعتان : جوهر
قديم ، وجوهر محدث ، إله تام وإنسان تام. ولم يبطل الاتحاد قدم القديم ، ولا حدوث
المحدث ، لكنهما صارا مسيحا واحدا ، طبيعة واحدة. وربما بدلوا العبارة فوضع مكان
الجوهر : الطبيعة ، ومكان الأقنوم : الشخص.
وأما قولهم في
القتل والصلب فيخالف قول الملكانية واليعقوبية. قالوا إن القتل وقع على المسيح من
جهة ناسوته لا من جهة لا هوته ، لأن الإله لا تحله الآلام.
__________________
وبوطينوس ، وبولس
الشمشاطي يقولان : إن الإله واحد. وإن المسيح ابتدأ من مريمعليهاالسلام ، وإنه عبد صالح مخلوق ؛ إلا أن الله تعالى شرفه وكرمه
لطاعته وسماه ابنا على التبني ، لا على الولادة والاتحاد.
ومن النسطورية قوم
يقال لهم المصلين ، قالوا في المسيح مثل ما قال نسطور ، إلا أنهم قالوا : إذا
اجتهد الرجل في العبادة ، وترك التغذي باللحم ، والدسم ، ورفض الشهوات الحيوانية ،
والنفسانية ، تصفى جوهره حتى يبلغ ملكوت السماوات ويرى الله تعالى جهرة ، وينكشف
له ما في الغيب فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
ومن النسطورية من
ينفي التشبيه ؛ ويثبت القول بالقدر ، خيره وشره من العبد كما قالت القدرية.
٣ ـ اليعقوبية
أصحاب يعقوب.
قالوا بالأقانيم الثلاثة كما ذكرنا ، إلا أنهم قالوا : انقلبت الكلمة لحما ودما ،
فصار الإله هو المسيح. وهو الظاهر بجسده ، بل هو هو. وعنهم أخبرنا القرآن الكريم :
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) .
فمنهم من قال : إن
المسيح هو الله تعالى.
ومنهم من قال :
ظهر اللاهوت بالناسوت ، فصار ناسوت المسيح مظهر الجوهر ، لا على طريق حلول جزء فيه
، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة ، بل صار هو هو. وهذا كما يقال
: ظهر الملك بصورة إنسان ، أو ظهر الشيطان بصورة حيوان. وكما أخبر التنزيل عن
جبريل عليهالسلام (فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) .
__________________
وزعم أكثر
اليعقوبية أن المسيح جوهر واحد ، أقنوم واحد ؛ إلا أنه من جوهرين. وربما قالوا
طبيعة واحدة من طبيعتين. فجوهر الإله القديم ؛ وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركيبا
كما تركبت النفس والبدن فصارا جوهرا واحدا ، أقنوما واحدا ، وهو إنسان كله وإله
كله. فيقال : الإنسان صار إلها ، ولا ينعكس فلا يقال : الإله صار إنسانا. كالفحمة
تطرح في النار فيقال : صارت الفحمة نارا ، ولا يقال صارت النار فحمة ، وهي في
الحقيقة لا نار مطلقة ، ولا فحمة مطلقة ، بل هي جمرة. وزعموا أن الكلمة اتحدت
بالإنسان الجزئي لا الكلي. وربما عبروا عن الاتحاد بالامتزاج والادراع ، والحلول كحلول صورة الإنسان في المرآة المجلوة.
* * *
وأجمع أصحاب
التثليث كلهم على أن القديم لا يجوز أن يتحد بالمحدث ، إلا أن الأقنوم الثاني الذي
هو الكلمة اتحدت دون سائر الأقانيم.
وأجمعوا كلهم على
أن المسيح عليهالسلام ولد من مريم عليهاالسلام ، وقتل وصلب.
ثم اختلفوا في
كيفية ذلك. فقالت الملكانية واليعقوبية : إن الذي ولد من مريم هو الإله.
فالملكانية لما اعتقدت أن المسيح ناسوت كلي أزلي ، قالوا : إن مريم إنسان جزئي.
والجزئيّ لا يلد الكلي ، وإنما ولده الأقنوم القديم. واليعقوبية لما اعتقدت أن
المسيح هو جوهر من جوهرين ، وهو إله ، وهو المولود ، قالوا : إن مريم ولدت إلها ،
تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وكذلك قالوا في
القتل والصلب : إنه وقع على الجوهر الذي هو من جوهرين ، قالوا : ولو وقع على
أحدهما لبطل الاتحاد.
وزعم بعضهم أنا
نثبت وجهين للجوهر القديم : فالمسيح قديم من وجه ، محدث من وجه.
__________________
وزعم قوم من
اليعقوبية أن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا ، ولكنها مرت بها كالماء بالميزاب ، وما
ظهر بها من شخص المسيح في الأعين فهو كالخيال والصورة في المرآة وإلا فما كان جسما
متجسّما كثيفا في الحقيقة. وكذلك القتل والصلب إنما وقع على الخيال والحسبان ،
وهؤلاء يقال لهم الإليانية ، وهم قوم بالشام ، واليمن ، وأرمينية ، قالوا : وإنما
صلب الإله من أجلنا حتى يخلصنا. وزعم بعضهم أن الكلمة كانت تداخل جسم المسيح عليهالسلام أحيانا ، فتصدر عنه الآيات ، من إحياء الموتى ، وإبراء
الأكمه والأبرص. وتفارقه في بعض الأوقات فترد عليه الآلام والأوجاع.
ومنهم بليارس
وأصحابه ، حكى عنه أنه كان يقول : إذا صار الناس إلى الملكوت الأعلى أكلوا ألف سنة
، وشربوا ، وناكحوا ، ثم صاروا إلى النعم التي وعدهم آريوس ، وكلها لذة ، وراحة ،
وسرور وحبور ، لا أكل فيها ولا شرب ولا نكاح.
وزعم مقدانيوس أن الجوهر القديم أقنومان فحسب : آب ، وابن ، والروح
مخلوق.
وزعم سباليوس أن
القديم جوهر واحد ، أقنوم واحد ، له ثلاث خواص ، واتحد بكليته بجسد عيسى ابن مريم عليهماالسلام.
وزعم آريوس أن
الله واحد ، سماه أبا ، وأن المسيح كلمة الله وابنه على طريق الاصطفاء ، وهو مخلوق
قبل خلق العالم ، وهو خالق الأشياء. وزعم أن لله تعالى روحا مخلوقة أكبر من سائر
الأرواح وأنها واسطة الأب والابن ، تؤدي إليه الوحي. وزعم أن المسيح ابتدأ جوهرا ،
لطيفا ، روحانيا ، خالصا ، غير مركب ، ولا ممزوج بشيء من الطبائع الأربع ، وإنما
تدرع بالطبائع الأربع عند الاتحاد بالجسم المأخوذ من مريم.
وهذا آريوس قبل
الفرق الثلاث ، فتبرءوا منه لمخالفتهم إياه في المذهب.
__________________
الباب الثالث
من له شبهة كتاب
قد بينا كيفية
تحقيق الكتاب ، وميزنا بين حقيقة الكتاب وشبهة الكتاب ، وأن الصحف التي كانت
لإبراهيم عليهالسلام كانت شبهة كتاب. وفيها مناهج علمية ، ومسالك عملية.
أما العمليات
فتقرير كيفية الخلق والإبداع ، وتسوية المخلوقات على سنّة نظام وقوام تحصل منها
حكمته الأزلية ، وتنفذ فيها مشيئته السرمدية . ثم تقرير التقدير والهداية عليها ، ليتقدر كل نوع وصنف
بقدره المحكوم المحتوم ، ويقبل هدايته السارية في العالم بقدر استعداده المعلوم ،
والعلم كل العلم لا يعدو هذين النوعين ، وذلك قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى*
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) وقال عزوجل خبرا عن إبراهيم عليهالسلام : (الَّذِي خَلَقَنِي
فَهُوَ يَهْدِينِ) وخبرا عن موسى عليهالسلام. (الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) .
وأما العمليات ،
فتزكية النفوس عن درن الشبهات ، وذكر الله تعالى بإقامة العبادات ، ورفض الشهوات
الدنيوية ، وإيثار السعادات الأخروية ، ولن يحصل البلوغ
__________________
إلى كمال المعاد
إلا بإقامة هذين الركنين ، أعني الطهارة ، والشهادة والعمل كل العمل لا يعدو هذين
النوعين ، وذلك قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) .
ثم قال عز من قائل
: (إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) فبين أن الذي اشتملت عليه الصحف هو الذي اشتملت عليه هذه
السورة. وبالحقيقة هذا هو الإعجاز الحقيقي.
المجوس
وأصحاب الاثنين ،
والمانوية ، وسائر فرقهم
المجوسية : يقال
لها الدين الأكبر ، والملة العظمى ، إذ كانت دعوة الأنبياء عليهمالسلام بعد إبراهيم الخليل عليهالسلام لم تكن في العموم كالدعوة الخليلية ، ولم يثبت لها من
القوة والشوكة ، والملك ، والسيف ، مثل الملة الحنيفية ، إذ كانت ملوك العجم كلها
على ملة إبراهيم عليهالسلام ، وجميع من كان في زمان كل واحد منهم من الرعايا في البلاد
على أديان ملوكهم ، وكان لملوكهم مرجع هو : «موبذ موبذان» يعني أعلم العلماء ، وأقدم الحكماء ، يصدرون عن أمره ولا
يخالفونه ، ولا يرجعون إلا إلى رأيه ، ويعظمونه تعظيم السلاطين لخلفاء الوقت.
وكانت دعوة بني
إسرائيل أكثرها في بلاد الشام وما وراءها من المغرب. وقل ما سرى ذلك إلى بلاد
العجم.
وكانت الفرق في
زمان إبراهيم الخليل عليهالسلام راجعة إلى صنفين اثنين.
__________________
أحدهما : الصابئة ، والثاني : الحنفاء .
* فالصابئة : كانت
تقول ، إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ، ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط ،
لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا ، وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها
، وقربها من رب الأرباب. والجسماني بشر مثلنا : يأكل مما نأكل ، ويشرب مما نشرب ،
يماثلنا في المادة والصورة. قالوا : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ
بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) .
* والحنفاء : كانت
تقول : إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته في
الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات ، يماثلنا من حيث البشرية ،
ويمايزنا من حيث الروحانية ، فيتلقى الوحي بطرف الروحانية ، ويلقي إلى نوع الإنسان
بطرف البشرية ، وذلك قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وقال عز ذكره : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي
هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) .
* * *
ثم لما لم يتطرق
للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة ، والتقرب إليها بأعيانها ، والتلقي عنها
بذواتها ، فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السيارات السبع ،
__________________
وبعض الثوابت . فصابئة النبط والفرس والروم : مفزعها السيارات ، وصابئة
الهند : مفزعها الثوابت.
وسنذكر مذاهبهم
على التفصيل ، على قدر الإمكان ، بتوفيق الله تعالى ، وربما نزلوا عن الهياكل إلى
الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغني عنهم شيئا. والفرقة الأولى هم عبدة
الكواكب ، والثانية هم عبدة الأصنام.
ولما كان الخليل عليهالسلام مكلفا بكسر المذهبين على الفرقتين ، وتقرير الحنيفية
السمحة السهلة ، احتج على عبدة الأصنام قولا وفعلا ، كسرا من حيث القول ، وكسرا من
حيث الفعل. فقال لأبيه آزر : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ
ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) الآيات حتى بلغ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً
إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) وذلك إلزام من حيث الفعل ، وإفحام من حيث الكسر. ففرغ من
ذلك كما قال الله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ) .
وابتدأ بإبطال
مذاهب عبدة الكواكب على صيغة الموافقة كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كما آتيناه الحجة كذلك
__________________
نريه المحجة ،
فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ ، والمخالفة في النهاية ،
ليكون الإلزام أبلغ ، والإفحام أقوى. وإلا فإبراهيم الخليل عليهالسلام لم يكن في قوله : (هذا رَبِّي) مشركا ، كما لم يكن في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) كاذبا. وسوق الكلام من جهة الإلزام غير سوقه على جهة
الالتزام ، فلما أظهر الحجة ، وبين المحجة ، وقرر الحنيفية التي هي الملة الكبرى ،
والشريعة العظمى ، وذلك هو الدين القيم.
وكان الأنبياء من
أولاده كلهم يقررون الحنيفيّة ، وبالخصوص صاحب شرعنا محمد صلوات الله عليه ، كان
في تقريرها قد بلغ النهاية القصوى ، وأصاب المرمى وأصمى . ومن العجب أن التوحيد من أخص أركان الحنيفية ، ولهذا
يقترن نفي الشرك بكل موضع ذكر الحنيفية : (حَنِيفاً مُسْلِماً
وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (حُنَفاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ).
ثم إن التثنية
اختصت بالمجوس حتى أثبتوا أصلين اثنين ، مدبّرين قديمين ، يقتسمان الخير والشر ،
والنفع والضر ، والصلاح والفساد ، يسمون أحدهما : النور والآخر الظلمة. وبالفارسية
: يزدان ، وأهرمن ، ولهم في ذلك تفصيل مذهب.
ومسائل المجوس
كلها تدور على قاعدتين اثنتين :
إحداهما : بيان
سبب امتزاج النور بالظلمة.
والثانية : بيان
سبب خلاص النور من الظلمة ، وجعلوا الامتزاج مبدأ ، والخلاص معادا.
__________________
الفصل الأول
المجوس
أثبتوا أصلين كما
ذكرنا ، إلا أن المجوس الأصلية زعموا أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين ،
بل النور أزليّ ، والظلمة محدثة. ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها ، أمن النور حدثت؟
والنور لا يحدث شرا جزئيا ، فكيف يحدث أصل الشر؟ أم من شيء آخر؟ ولا شيء يشرك
النور في الإحداث والقدم؟ وبهذا يظهر خبط المجوس ..
وهؤلاء يقولون :
المبدأ الأول من الأشخاص : كيومرث ، وربما يقولون زروان الكبير ، والنبي الثاني : زردشت.
والكيومرثية يقولون : كيومرث هو آدم عليهالسلام وتفسير كيومرث هو : الحي الناطق. وقد ورد في تواريخ الهند
والعجم أن كيومرث هو آدم عليهالسلام ، ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ.
١ ـ الكيومرثيّة
أصحاب المقدم
الأول كيومرث. أثبتوا أصلين : يزدان ، وأهرمن. وقالوا : يزدان أزلي قديم ، وأهرمن
محدث مخلوق. وقالوا : إن سبب خلق أهرمن أن يزدان فكر في نفسه أنه لو كان لي منازع
كيف يكون؟ وهذه الفكرة كانت رديئة غير مناسبة لطبيعة النور فحدث الظلام من هذه
الفكرة. وسمي : أهرمن. وكان مطبوعا على الشر ، والفتنة والفساد ، والفسق والضرر
والإضرار. فخرج على النور ، وخالفه طبيعة وفعلا. وجرت محاربة بين عسكر النور ،
وعسكر الظلمة. ثم إن الملائكة توسطوا فصالحوا على أن يكون العالم السفلي خالصا
لأهرمن سبعة آلاف سنة. ثم يخلى العالم ويسلمه إلى
__________________
النور. والذين
كانوا في الدنيا قبل الصلح أبادهم وأهلكهم. ثم بدأ برجل يقال له كيومرث ، وحيوان
يقال له ثور فقتلهما. فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس ، وخرج من أصل ريباس رجل يسمى
: ميشة ، وامرأة تسمى : ميشانة ؛ وهما أبوا البشر ، ونبت من مسقط الثور : الأنعام
، وسائر الحيوانات.
وزعموا أن النور
خيّر الناس ، وهم أرواح بلا أجساد ، بين أن يرفعهم عن مواضع أهرمن ، وبين أن
يلبسهم الأجساد فيحاربون أهرمن. فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهرمن ، على أن تكون
لهم النصرة من عند النور. والظفر بجنود أهرمن ، وحسن العاقبة. وعند الظفر به
وإهلاك جنوده تكون القيامة.
فذاك سبب الامتزاج
وهذا سبب الخلاص.
٢ ـ الزّروانية
قالوا : إن النور
أبدع أشخاصا من نور كلها روحانية ؛ نورانية ، ربانية ، ولكن الشخص الأعظم الذي
اسمه زروان شك في شيء من الأشياء ، فحدث أهرمن الشيطان ، يعني إبليس من ذلك الشك.
وقال بعضهم لا ،
بل إن زروان الكبير قام فزمزم تسعة آلاف وتسعمائة وتسعا وتسعين سنة ليكون له ابن فلم
يكن. ثم حدث نفسه وفكر ، وقال : لعل هذا العلم ليس بشيء ، فحدث أهرمن من ذلك الهم
الواحد. وحدث هرمز من ذلك العلم ، فكانا جميعا في بطن واحد. وكان هرمز أقرب من باب
الخروج ، فاحتال أهرمن الشيطان حتى شق بطن أمه فخرج قبله وأخذ الدنيا.
__________________
وقيل : إنه لما
مثل بين يدي زروان فأبصره ورأى ما فيه من الخبث والشرارة والفساد، أبغضه ولعنه وطرده ، فمضى واستولى على الدنيا.
وأما هرمز فبقي زمانا لا يدله عليه ، وهو الذي اتخذه قوم ربا وعبدوه لما وجدوا فيه
من الخير والطهارة والصلاح ، وحسن الأخلاق.
وزعم بعض
الزروانية أنه لم يزل كان مع الله شيء رديء ، إما فكرة رديئة ، وإما عفونة رديئة ،
وذلك هو مصدر الشيطان ، وزعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن ،
وكان أهلها في خير محض ، ونعيم خالص ، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن
والمحن. وكان بمعزل عن السماء فاحتال حتى خرق السماء وصعد.
وقال بعضهم : كان
هو في السماء والأرض خالية عنه ، فاحتال حتى خرق السماء ونزل إلى الأرض بجنوده
كلها فهرب النور بملائكته وأتبعه الشيطان حتى حاصره في جنته ، وحاربه ثلاثة آلاف
سنة ، لا يصل الشيطان إلى الرب تعالى. ثم توسط الملائكة وتصالحا على أن يكون إبليس
وجنوده في قرار الأرض تسعة آلاف سنة ، بالثلاثة آلاف التي قاتله فيها ، ثم يخرج
إلى موضعه. ورأى الرب تعالى عن قولهم ، الصلاح في احتمال المكروه من إبليس وجنوده
، وأن لا ينقض الشرط حتى تنقضي المدة المضروبة للصلح. فالناس في البلايا والفتن
والخزايا والمحن إلى انقضاء المدة ، ثم يعودون إلى النعيم الأول ، وشرط إبليس عليه
أن يمكنه من أشياء يفعلها ويطلقه في أفعال رديئة يباشرها. فلما فرغا من الشرط أشهد
عليهما عدلين ، ورفعا سيفيهما إليهما وقالا لهما : من نكث فاقتلاه بهذا السيف.
ولست أظن عاقلا
يعتقد هذا الرأي القائل ، ويرى هذا الاعتقاد المضمحل الباطل. ولعله كان رمزا إلى
ما يتصوره في العقل. ومن عرف الله سبحانه وتعالى بجلاله وكبريائه ، لم يسمح بهذه
الترهات عقله ولم يسمع مثل هذه الترهات سمعه.
__________________
وأقرب من هذا ما
حكاه أبو حامد الزوزني أن المجوس زعمت أن إبليس كان لم يزل في الظلمة والجو خلاء
بمعزل عن سلطان الله ، ثم لم يزل يزحف ويقرب بحيله حتى رأى النور فوثب وثبة فصار
في سلطان الله في النور ، وأدخل معه هذه الآفات والشرور ، فخلق الله تعالى هذا
العالم شبكة فوقع فيها ، وصار متعلقا بها لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه ، فهو محبوس
في هذا العالم ، مضطرب في الجسم ، يرمى بالآفات والمحن والفتن إلى خلق الله تعالى.
فمن أحياه الله رماه بالموت ، ومن أصحه رماه بالسقم ، ومن سره رماه بالحزن ، فلا
يزال كذلك إلى يوم القيامة. وفي كل يوم ينقص سلطانه حتى لا يبقى له قوة. فإذا كانت
القيامة ذهب سلطانه وخمدت نيرانه ، وزالت قوته ، واضمحلت قدرته فيطرحه في الجو ،
والجو ظلمة ليس لها حد ولا منتهى. ثم يجمع الله تعالى أهل الأديان فيحاسبهم
ويجازيهم على طاعة الشيطان وعصيانه.
وأما المسخية
فقالت إن النور كان وحده نورا محضا ، ثم انمسخ بعضه فصار ظلمة. وكذلك الخرمدينية ، قالوا بأصلين ، ولهم ميل إلى التناسخ والحلول ، وهم لا
يقولون بأحكام وحلال وحرام.
ولقد كان في كل
أمة من الأمم قوم مثل الإباحية ، والمزدكية ، والزنادقة ، والقرامطة ، كان تشويش
ذلك الدين منهم ، وفتنة الناس مقصورة عليهم.
٣ ـ الزّردشتيّة
أولئك أصحاب زردشت
بن يورشب الذي ظهر في زمان كشتاسب بن لهراسب الملك. وأبوه كان من أذربيجان ، وأمه من الري واسمها :
دغدوية.
__________________
زعموا أن لهم
أنبياء وملوكا ، أولهم كيومرث. وكان أول من ملك الأرض ، وكان مقامه باصطخر . وبعده أوشهنك بن فراوك ، ونزل أرض الهند ، وكانت له دعوة ثمة ، وبعده
طمهورث ، وظهرت الصابئة في أول سنة من ملكه. وبعده أخوه جم الملك ، ثم بعده أنبياء وملوك منهم منوجهر ، ونزل بابل وأقام بها. وزعموا أن موسى عليهالسلام ظهر في زمانه ، حتى انتهى الملك إلى كشتاسب بن لهراسب ،
وظهر في زمانه زردشت الحكيم.
وزعموا أن الله عزوجل خلق من وقت ما في الصحف الأولى ، والكتاب الأعلى من ملكوته
خلقا روحانيا. فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على
تركيب صورة الإنسان ، وأحفّ به سبعين من الملائكة المكرمين ، وخلق الشمس والقمر
والكواكب والأرض ، وبني آدم غير متحركة ثلاثة آلاف سنة ثم جعل روح زردشت في شجرة
أنشأها في أعلى عليين. وأحف بها سبعين من الملائكة المكرمين ، وغرسها في قلة جبل
من جبال أذربيجان يعرف باسمو يذخر.
ثم مازج شبح زردشت
بلبن بقرة فشربه أبو زردشت فصار نطفة ثم مضغة في رحم أمه ، فقصدها الشيطان وعيرها
، فسمعت أمه نداء من السماء فيه دلالة على برئها فبرئت ، ثم لما ولد ضحك ضحكة
تبينها من حضر. فاحتالوا على زردشت حتى وضعوه بين مدرجة البقر ، ومدرجة الخيل ،
ومدرجة الذئب ، فكان ينهض كل واحد
__________________
منهم لحمايته من
جنسه ، ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة فبعثه الله تعالى نبيا ورسولا إلى
الخلق ، فدعا كشتاسب الملك ، فأجابه إلى دينه ، وكان دينه : عبادة الله ، والكفر
بالشيطان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجتناب الخبائث.
وقال : النور
والظلمة أصلان متضادان ، وكذلك يزدان وأهرمن ، وهما مبدأ موجودات العالم ، وحصلت
التراكيب من امتزاجهما ، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة ، والباري تعالى خالق
النور والظلمة ومبدعهما ، وهو واحد لا شريك له ولا ضد ، ولا ند ، ولا يجوز أن ينسب
إليه وجود الظلمة ، كما قالت الزروانية. لكن الخير والشر والصلاح والفساد ،
والطهارة ، والخبث ، إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة ، ولو لم يمتزجا لما كان
وجود العالم ، وهما يتقاومان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر ، ثم
يتخلص الخير إلى عالمه ، والشر ينحط إلى عالمه ، وذلك هو سبب الخلاص ، والباري
تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها في التراكيب ، وربما جعل النور أصلا ،
وقال : وجوده وجود حقيقي ، وأما الظلمة فتبع كالظل بالنسبة إلى الشخص ، فإنه يرى
أنه موجود ، وليس بموجود حقيقة ، فأبدع النور وحصل الظلام تبعا ، لأن من ضرورة
الوجود التضاد ، فوجوده ضروري واقع في الخلق لا بالقصد الأول ، كما ذكرنا في الشخص
والظل.
وله كتاب قد صنفه
، وقيل إن ذلك أنزل عليه وهو «زند أوستا» يقسم العالم قسمين : مينة ، وكيتي ، يعني
الروحاني والجسماني ، أو الروح والشخص ، وكما قسم الخلق إلى عالمين ، يقول إن ما
في العالم ينقسم قسمين : بخشش وكنش ، يريد به : التقدير والفعل وكل واحد مقدر على
الثاني ، ثم يتكلم في موارد التكليف وهي حركات الإنسان ، فيقسمها ثلاثة أقسام :
منش ، وكويش ، وكنش ، يعني بذلك : الاعتقاد والقول والعمل ، وبالثلاثة يتم التكليف
، فإذا قصر الإنسان فيها خرج عن الدين والطاعة ، وإذا جرى في هذه الحركات على
مقتضى الأمر والشريعة فاز الفوز الأكبر.
وتدعى الزردشتية
له معجزات كثيرة ، منها : دخول قوائم فرس كشتاسب في بطنه وكان زردشت في الحبس ،
فأطلقه فانطلقت قوائم الفرس ، ومنها أنه مرّ على أعمى
بالدينور ، فقال :
خذوا حشيشة ، وصفها لهم واعصروا ماءها في عينه فإنه يبصر ، ففعلوا فأبصر الأعمى.
وهذا من جملة
معرفته بخاصية الحشيش ، وليس من المعجزات في شيء.
ومن المجوس
الزردشتية صنف يقال لهم السيسانية ، والبه آفريدية ، رئيسهم رجل يقال له سيسان من رستاق نيسابور ، من ناحية يقال لها خواف ، خرج في أيام أبي مسلم
صاحب الدولة ، وكان زمزميا في الأصل يعبد النيران ، ثم ترك ذلك ودعا المجوس إلى ترك
الزمزمة ورفض عبادة النيران. ووضع لهم كتابا ، وأمرهم فيه بإرسال الشعور ، وحرم
عليهم الأمهات والبنات والأخوات ، وحرم عليهم الخمر ، وأمرهم باستقبال الشمس عند
السجود على ركبة واحدة ، وهم يتخذون الرباطات ، ويتبادلون الأموال ، ولا يأكلون
الميتة ، ولا يذبحون الحيوان حتى يهرم ، وهم أعدى خلق الله للمجوس الزمازمة. ثم إن
موبذ المجوس رفعه إلى أبي مسلم فقتله على باب الجامع بنيسابور. وقال أصحابه : إنه
صعد إلى السماء على برذون أصفر ، وإنه سينزل على البرذون فينتقم من أعدائه. وهؤلاء
قد أقروا بنبوة زردشت ، وعظموا الملوك الذين يعظمهم زردشت.
ومما أخبر به
زردشت في كتاب زند أوستا أنه قال : سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه «أشيزريكا»
ومعناه : الرجل العالم ، يزين العالم بالدين والعدل ، ثم يظهر في زمانه «بتياره»
فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة ، ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا
__________________
على أهل العالم ،
ويحيي العدل ، ويميت الجور ، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأول ، وتنقاد له
الملوك ، وتتيسر له الأمور ، وينصر الدين والحق ، ويحصل في زمانه الأمن والدعة
وسكون الفتن وزوال المحن.
مقالة زردشت في المبادئ
وقد أورد الجيهاني
إحدى مقالات زردشت في المبادئ ، وهي :
إن دين زردشت هو
الدعوة إلى دين مارسيان. وأن معبوده أورمزد. والملائكة المتوسطون في رسالاته إليه
: بهمن ، وأرديبهشت ، وشهريور ، وإسفندارمز ، وخرداد ، ومرداد. وقد رآهم زردشت
واستفاد منهم العلوم ، وجرت مساءلات بينه وبين أورمزد من غير توسط.
أولها : قال زردشت
: ما الشيء الذي كان ويكون ، وهو الآن موجود؟.
قال أورمزد : أنا
والدين والكلام. أما الدين فعمل أورمزد وكلامه وإيمانه. وأما الكلام فكلامه.
والدين أفضل من الكلام ؛ إذ العمل أفضل من القول. وأول من أبدع من الملائكة بهمن ،
وعلمه الدين ، وخصه بموضع النور مكانا ، وأقنعه بذاته ذاتا. فالمبادئ على هذا
الرأي ثلاثة :
السؤال الثاني :
قال : لم لم تخلق الأشياء كلها في زمان غير متناه؟ إذ قد جعلت الزمان نصفين : نصفه
متناه ، ونصفه غير متناه ، فلو خلقتها في زمان غير متناه : كان لا يستحيل شيء
منها.
قال أورمزد : فإن
كان لا يمكن أن تفنى ثمّ آفات الأثيم إبليس.
السؤال الثالث :
قال : مما ذا خلقت هذا العالم؟.
قال أورمزد : خلقت
جميع هذا العالم من نفسي. أما أنفس الأبرار فمن شعر
__________________
رأسي. وأما السماء
فمن أم رأسي. والظفر والمعاضد فمن جبهتي ، والشمس فمن عيني ، والقمر فمن أنفي ،
والكواكب فمن لساني ، وسروس وسائر الملائكة فمن أذني ، والأرض فمن عصب رجلي. وأريت
هذا الدين أولا كيومرث فشعر به وحفظه من غير تعلم ولا مدارسة.
قال زردشت : فلما
ذا أريت هذا الدين كيومرث بالوهم؟ وألقيته إليّ بالقول؟.
قال أورمزد : لأنك
تحتاج أن تتعلم هذا الدين وتعلمه غيرك. وكيومرث لم يجد من يقبله ، فأمسك عن التكلم
، وهذا خير لك ، لأني أقول وأنت تسمع ، وأنت تقول والناس يسمعون ويقبلون.
فقال زردشت
لأورمزد : هل أريت هذا الدين أحدا قبلي غير كيومرث؟.
قال : بلى! رأيت
هذا الدين «جم» خمسين نجما مخمسا ؛ من أجل إنكاره الضحاك.
قال : إذا كنت
عالما أنه لا يقبله ، فلما ذا أريته؟ قال : لو لم أره لما صار إليك وقد أريته أيضا
أفريدون ، وكيكاوس ، وكيقباد ، وكشتاسب.
قال زردشت : خلقك
العالم ، وترويجك الدين لأي شيء؟.
قال : لأن فناء
العفريت الأثيم لا يمكن إلا بخلق العالم وترويج الدين ، ولو لم يتروج أمر الدين
لما أمكن أن تتروج أمور العالم.
فلما أخذ زردشت
الدين من أورمزد الوهاب واستحكمه وعمل به ، وزمزم في بيت أبيه عليه ، غاظ ذلك كون
الأثيم وأقلقه ؛ إذ كان شريرا ممتلئا موتا وظلمة وبلاء ومحنة ، فدعا بشياطينه ،
وأسماؤهم : بري ديوانياخ ، ودويهمان زوش ، ونومر بفنارديو ، وأمرهم جميعا بالمسير
إلى زردشت وقتله. فعلم زردشت بذلك ، فقرأ وزمزم ، وأراق الماء على يدي مارسيان ،
فانهزموا عنه مقهورين. وجرت محاربات أخرى فهزمهم زردشت بإحدى وعشرين آية من كتابه
أوستا ، وتوارت الشياطين عن الناس.
ولما بلغ زردشت
مبلغ الكمال بأربعين سنة ، وتمت له المخاطبات في سبع عودات إلى أورمزد ، أكمل فيها
معرفة شرائع دين الله وفرائضه وسننه ، أمره الله بالمسير إلى كشتاسب الملك ،
وإظهار ذكر الله واسمه. فنفذ لأمر الله ودعا ملكين كانا بذلك الصقع يقال لهما :
فوربماراي ، وبيويدست ، فدعاهما إلى دين الله والكفر بالشيطان ، وفعل الخير ،
واجتناب الشر ، فلم يقبلا قوله ، وأخذتهما العزة بالإثم. فجاءتهما ريح فحملتهما من
الأرض ، ووقفت بهما في الهواء ، واجتمع الناس ينظرون إليهما ، فغشيهما الطير من كل
ناحية ، وأتوا على لحومهما ، وسقطت عظامهما على الأرض.
ولما بلغ كشتاسب
لقي منه كل ما أنبأه به أورمزد من الحبس والبلاء ، حتى حدث أمر الفرس الذي دخلت
قوائمه في باطن بدنه ، حتى لم ير أثرها في جسده ، واستبهم حاله على الناس وخيروا.
وأخرجه كشتاسب من الحبس وسأله الحال ، فقال : تلك آية من آيات صدقي الذي أخبرني به
إلهي وخالقي ، وشارطهم على الإيمان به إن هو دعا وأخرج قوائم الفرس وشرطوا ، ودعا
باسم الله ، فخرجت قوائم الفرس كما كانت. فآمن به كشتاسب. وأمر بجمع علماء أهل
زمانه من بابل ، وإيران شهر ، وأمرهم بمحاورة زردشت فناظروه فاعترفوا له بالفضيلة.
قال : ومما جاء به
زردشت المصطفى من دين مارسيان أن إلهه أورمزد لم يزل ولم يزل معه شيء سماه : أسنى
أسنه ، وهو شيء مضيء حوله وهو فوق. وأن إبليس لم يزل معه شيء سماه : أستا أستاه ،
وهو مظلم حوله ، وهو أسفل.
وأول ما خلق الله
من الملائكة بهمن ، ثم أرديبهشت ، ثم شهريور ، ثم إسفندارمز ، ثم خرداد ، ثم
مرداد. وخلق بعضهم من بعض كما يؤخذ السراج من السراج من غير أن ينقص من الأول شيء
، وقال لهم : من ربكم وخالقكم؟ فقالوا : أنت ربنا وخالقنا. وعلم أورمزد أن إبليس
سيتحرك من ظلمته ، فأعلم بذلك الملائكة ، وبدأ بإعداد ما يورطه ، ويدفع شره وأذاه
عن عالمه ، ويبطل إرادته. فخلق السماء في خمسة وأربعين يوما ، وسمي كاهينازى شورم.
ومعناه : ظهور ضمائر أهل الدنيا ، إلى سائر الكاهينازات المذكورات عندهم ، وخلق
الأرض في خمسة وأربعين يوما.
وأول من ابتعثه
أورمزد إلى الأرض : كيومرث ، وقد كان يستنشق النسيم ثلاثة آلاف سنة ، ثم أخرجه في
قامة ثلاثة رجال. ولما أن جاء وقت تحريك إبليس في ظلمته ، ارتفع ورأى النور ، وطمع
في الاستيلاء على «أسنى أورمزد» وتصييره مظلما. ودخل السماء يكيد ثمّ لكيومرث
ثلاثين سنة ، وصارت نطفته ثلاثة أقسام : قسم أمر الله الأرض أن تحفظه. وقسم أمر
سروس الملك أن يحفظه. وثلث اختطفته الشياطين.
وأمر أورمزد بسد
الثقوب التي صعد منها إبليس ، فبقي داخل السماء منقطعا عن أصله وقوته ، فانتصب
لمنابذة أورمزد ، ورام الصعود إلى الجنان ، فدفعه عن ذلك قدر ثلاثة آلاف سنة ، ثم
أعلمه أنه يسعى في الباطل والخسار ، ويروم ما لا يقدر عليه. واتفق الأمر بينهما
على أن يبقى إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة ، ويروى سبعة آلاف سنة ، ثم
يبطل ، ويحتمل خلقه الأذى في هذه السنين ، ويصبرون عليه وعلى ما ينالهم من الفقر ،
والبلاء والموت وسائر الآفات ، ليعوضهم منها الحياة الدائمة في الجنان.
واشترط إبليس
لنفسه وشياطينه ثمانية عشر شرطا :
الأول منها : أن
تصير معيشة خلقه من خلق الله. والثاني : أن يكون ممن خلقه على خلق الله. والثالث :
أن يسلط خلقه على خلق الله. والرابع : أن يخلط جوهر خلقه بجوهر خلق الله. والخامس
: أن يصير له السبيل إلى أن يأخذ الطين الذي في خلق الله.
والسادس : أن يصير
له من النور الذي في خلق الله ما يريد. والسابع : أن يصير له من الرياح التي في
خلق الله حاجته. والثامن : أن يصير له من الرطوبة التي في خلق الله. والتاسع : أن
يصير له من النار التي في خلق الله. والعاشر : أن يصير له من المودة والمصاهرة
التي في خلق الله ليخلط الأشرار بالأخيار. والحادي عشر : أن يصير له من العقل
والبصر الذي في خلق الله ليعرف خلقه مسالك المنافع والمضار ، والثاني عشر : أن
يصير له من العدل الذي في خلق الله ليجعل للأشرار فيه نصيبا ، والثالث
عشر : أن تخفى على
الناس معرفة عمل الصالحين والأشرار إلى يوم القيامة والحساب ، والرابع عشر : أن
يصير له السبيل إلى أن يبلغ بأهل بيت الشرارة والخبث غاية الغنى والدرجات ،
ويصيرهم عند الناس صالحين. والخامس عشر : أن يصير له السبيل إلى أن يجعل كذب
الأشرار مقبولا على الأخيار. والسادس عشر : أن يصير له السبيل إلى أن يعمر من أهل
الدنيا من أراد من خلقه ألف سنة ، أو ثلاثة آلاف سنة ، ويصيرهم أغنياء أقوياء قادرين
على ما يريدون ، وأن يلهم الناس حتى يكونوا بإعطاء الأشرار أسخى منهم بإعطاء
الأخيار وأطيب نفسا. والسابع عشر : أن يصير له السبيل إلى إفناء أهل بيت الصالحين
، حتى لا يعرف منهم أحد بعد ثلاثمائة وخمسين سنة ، والثامن عشر : أن يملك أمر من
يحيي الأموات ، ويبقي الأخيار ، وينفي الأشرار إلى يوم القيامة.
فتمت البيعة
وأقاما عليها ، ودفعا سيفيهما إلى عدلين ، على أن يقتلا من رجع عن شرطه. وأمر الله
تعالى الشمس والقمر والكواكب أن تجري لمعرفة الأيام والشهور والأعوام التي جعلها
عدة الإنظار والإمهال.
ومما نص عليه
زردشت أن للعالم قوة إلهية ؛ وهي المدبرة لجميع ما في العالم ، المنتيهة مبادئها
إلى كمالاتها ، وهذه القوة تسمى مشاسبند ، وهي على لسان الصابئة : المدبر الأقرب ،
وعلى لسان الفلاسفة : العقل الفعالي. ومنه الفيض الإلهي ، والعناية الربانية. وعلى
لسان المانوية : الأرواح الطيبة ، وعلى لسان العرب : الملائكة ، وعلى لسان الشرع
والكتاب الإلهي : الروح (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) .
وأثبت غيره :
منشأه ، ومنشئية ، ويعني بهما آدم وحواء في العالم الجسماني ، والعقل والنفس في
العالم الروحاني.
__________________
الفصل الثاني
الثنوية
هؤلاء هم أصحاب
الاثنين الأزليين : يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس ، فإنهم
قالوا بحدوث الظلام ، وذكروا سبب حدوثه.
وهؤلاء قالوا
بتساويهما في القدم ، واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز ، والمكان والأجناس
والأبدان والأرواح.
١ ـ المانوية
أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير ، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور ، وذلك بعد عيسى ابن مريم عليهالسلام. أحدث دينا بين المجوسية والنصرانية ، وكان يقول بنبوة
المسيح عليهالسلام ولا يقول بنبوة موسى عليهالسلام.
حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق ، وكان في الأصل مجوسيا
عارفا بمذاهب القوم : أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين.
أحدهما نور ، والآخر ظلمة ، وأنهما أزليان لم يزالا ، ولن يزالا ، وأنكر وجود شيء
إلا من أصل قديم ، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين ، دراكين سميعين بصيرين ،
وهما مع ذلك في النفس ، والصورة ، والفعل ، والتدبير ، متضادان ، وفي الحيز
متحاذيان تحاذي الشخص والظل.
وإنما تتبين
جواهرهما وأفعالهما في هذا الجدول :
__________________
|
النور
|
الظلمة
|
الجوهر
|
جوهره : حسن ،
فاضل ، كريم ، صاف ، تقي ، طيب الريح ، حسن المنظر.
|
جوهرها : قبيح ،
ناقص لئيم ، كدر ، خبيث ، متن الريح ، قبيح المنظر.
|
النفس
|
نفسه : خيرة ،
كريمة ، حكيمة ، نافعة ، عالمة.
|
نفسها : شريرة ،
لئيمة ، سفيهة ضارة ، جاهلة.
|
الفعل
|
فعله : الخير ،
والصلاح ، والنفع ، والسرور ، والاتفاق.
|
فعلها : الشر ،
والفساد ، والضرر ، والغم ، والتشويش ، والتغير والاختلاف.
|
الحيّز
|
جهته : جهة فوق.
وأكثرهم على أنه مرتفع من ناحية الشمال ، وزعم بعضهم أنه بجنب الظلمة.
|
جهتها : جهة
تحت. وأكثرهم على أنها منحطة من ناحية الجنوب ، وزعم بعضهم أنها بجنب النور.
|
الأجناس
|
أجناسه خمسة :
أربعة منها أبدان والخامس روحه. فالأبدان هي : النار ، والنور ، والريح والماء ،
وروحها : النسيم ، وهي تتحرك في هذه الأبدان.
|
أجناسها خمسة :
أربعة منها أبدان والخامس روحها. فالأبدان هي : الحريق ، والظلمة ، والسموم ،
والضباب وروحها الدخان وتدعى الهامة ، وهي تتحرك في هذه الأبدان.
|
الصفات
|
حية ، خيرة ،
طاهرة ، زكية. وقال بعضهم : كون النور لم يزل على مثال هذا العالم: له أرض وجو.
فأرض النور لم تزل لطيفة على غير صورة هذه الأرض ، بل هي على صورة جرم الشمس ،
وشعاعها كشعاع الشمس. ورائحتها أطيب رائحة ، وألوانها ألوان قوس قزح.
|
ميتة ، شريرة ،
نجسة ، دنسة. وقال بعضهم : كون الظلمة لم تزل على مثال هذا العالم : لها أرض
وجو. فأرض الظلمة لم تزل كثيفة على غير صورة هذه الأرض ، بل هي أكثف وأصلب
ورائحتها كريهة ، أنتن الروائح ، وألوانها ألوان السواد.
|
|
*
* *
|
|
وقال بعضهم : لا
شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع : أرض النور وهي خمسة. وهناك جسم آخر
ألطف منه وهو الجو ، وهو نفس النور ، وجسم آخر وهو ألطف منه وهو النسيم ، وهو
روح النور.
|
وقال بعضهم : لا
شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع : أرض الظلمة. وجسم آخر أظلم منه وهو
الجو. وجسم آخر أظلم منه وهو السموم.
|
|
|
|
|
|
النور
|
الظلمة
|
|
قال : ولم يزل
يولد النور ملائكة وآلهة ، وأولياء ، لا على سبيل المناكحة ، بل كما تتولد
الحكمة من الحكيم ، والمنطق الطيب من الناطق.
قال : وملك ذلك
العالم هو روحه ويجمع عالمه :
الخير ، والحمد
، والنور.
|
قال : ولم تزل
تولد الظلمة شياطين وأراكنة ، وعفاريت ، لا على سبيل المناكحة ، بل كما تتولد
الحشرات من العفونات القذرة.
قال : وملك ذلك
العالم هو روحه ويجمع عالمه :
الشر ، والذميمة
، والظلمة.
|
ثم اختلفت
المانوية في المزاج وسببه ، والخلاص وسببه. قال بعضهم : إن النور والظلام امتزجا
بالخبط والاتفاق ، لا بالقصد والاختيار. وقال أكثرهم : إن سبب المزاج أن أبدان
الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل ، فنظرت الروح فرأت النور ، فبعثت الأبدان على
ممازجة النور ، فأجابتها لإسراعها إلى الشر ، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها
ملكا من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة ، فاختلطت الخمسة النورية
بالخمسة الظلامية ، فخالط الدخان النسيم ، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من
النسيم. والهلاك والآفات من الدخان ، وخالط الحريق النار ، والنور الظلمة ،
والسموم الريح ، والضباب الماء. فما في العالم من منفعة وخير وبركة ، فمن أجناس
النور ، وما فيه من مضرة وشر وفساد ، فمن أجناس الظلمة.
فلما رأى ملك
النور هذا الامتزاج أمر ملكا من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة لتخلص
أجناس النور من أجناس الظلمة وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب
لاستصفاء أجزاء النور من أجزاء الظلمة فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين
الحر ، والقمر يستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد. والنسيم الذي في الأرض لا
يزال يرتفع لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها. وكذلك جميع أجزاء النور أبدا في
الصعود والارتفاع. وأجزاء الظلمة أبدا في النزول والتسفل حتى
__________________
تتخلص الأجزاء من
الأجزاء ، ويبطل الامتزاج ، وتنحل التراكيب ، ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو
القيامة والمعاد.
قال : ومما يعين
في التخليص والتمييز ، ورفع أجزاء النور : التسبيح ، والتقديس ، والكلام الطيب ،
وأعمال البر ، فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح إلى فلك القمر ، ولا
يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه فيمتلئ فيصير بدرا. ثم يؤدي إلى الشمس
إلى آخر الشهر ، وتدفع الشمس إلى نور فوقها ، فيسري ذلك في العالم إلى أن يصل إلى
النور الأعلى الخالص. ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا
العالم إلا قدر يسير منعقد ، لا تقدر الشمس والقمر على استصفائه ، فعند ذلك يرتفع
الملك الذي يحمل الأرض ، ويدع الملك الذي يجذب السماوات ، فيسقط الأعلى على
الأسفل. ثم توقد نار حتى يضطرم الأعلى والأسفل ، ولا تزال تضطرم حتى يتحلل ما فيها
من النور ، وتكون مدة الاضطرام ألفا وأربعمائة وثمانيا وستين سنة.
وذكر الحكيم ماني
في باب الألف من الجبلة الأولى ؛ وفي أول الشابرقان : أن ملك عالم النور في كل
أرضه لا يخلو منه شيء ، وأنه ظاهر باطن ، وأنه لا نهاية له إلا من حيث تنهى أرضه
إلى أرض عدوه. وقال أيضا : إن ملك عالم النور في سرة أرضه. وذكر أن المزاج القديم
هو امتزاج الحرارة ، والبرودة والرطوبة ، واليبوسة. والمزاج المحدث هو : الخير ،
والشر.
وقد فرض ماني على أصحابه العشر في الأموال كلها ، والصلوات الأربع في اليوم والليلة. والدعاء إلى الحق ، وترك الكذب ،
والقتل ، والسرقة ، والزنا والبخل ، والسحر ، وعبادة الأوثان ، وأن يأتي على ذي
روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله.
واعتقاده في
الشرائع والأنبياء : أن أول من بعث الله تعالى بالعلم والحكمة : آدم
__________________
أبو البشر. ثم بعث
شيئا بعده ، ثم نوحا بعده ، ثم إبراهيم بعده عليهم الصلاة والسلام ، ثم بعث
بالبددة إلى أرض الهند ، وزردشت إلى أرض فارس ، والمسيح كلمة الله
وروحه إلى أرض الروم والمغرب. وبولس بعد المسيح إليهم. ثم يأتي خاتم النبيين إلى
أرض العرب.
* * *
وزعم أبو سعيد
المانوي ؛ رئيس من رؤسائهم ، أن الذي مضى من المزاج إلى الوقت الذي
هو فيه ، وهو سنة إحدى وسبعين ومائتين من الهجرة : أحد عشر ألفا وسبعمائة سنة ،
وأن الذي بقي إلى وقت الخلاص : ثلاثمائة سنة.
وعلى مذهبه مدة
المزاج اثنا عشر ألف سنة ، فيكون قد بقي من المدة خمسون سنة في زماننا هذا ، وهو
إحدى وعشرون وخمسمائة هجرية.
فنحن في آخر
المزاج وبدء الخلاص. فإلى الخلاص الكلي ، وانحلال التراكيب خمسون سنة!.
٢ ـ المزدكيّة
أصحاب مزدك . ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان ،
ودعا قباذ إلى مذهبه فأجابه. واطلع أنوشروان على خزيه وافترائه فطلبه فوجده فقتله.
__________________
حكى الوراق أن قول
المزدكية كقول كثير من المانوية في الكونين ، والأصلين. إلا أن مزدك كان يقول : إن
النور يفعل بالقصد والاختيار. والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق. والنور عالم حساس
، والظلام جاهل أعمى. وأن المزاج كان على الاتفاق والخبط ، لا بالقصد والاختيار ،
وكذلك الخلاص إنّما يقع بالاتفاق دون الاختيار.
وكان مزدك ينهى
الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال. ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء
والأموال ، أحل النساء وأباح الأموال ، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء
والنار والكلأ ، وحكى عنه أنه أمر بقتل الأنفس ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة.
ومذهبه في الأصول
والأركان أنها ثلاثة : الماء والأرض والنار. ولما اختلطت حدث عنها مدبر الخير ،
ومدبر الشر ، فما كان من صفوها فهو مدبر الخير ، وما كان من كدرها فهو مدبر الشر.
وروى عنه : أن
معبوده قاعد على كرسيه في العالم الأعلى ، على هيئة قعوده خسرو في العالم الأسفل ، وبين يديه أربع قوى : قوة التمييز ،
والفهم ، والحفظ ، والسرور ، كما بين يدي خسرو أربعة أشخاص : موبذ موبذان ، والهربذ الأكبر ، والأصبهبذ ، والرامشكر . وتلك الأربع يدبرون أمر العالم بسبعة من ورائهم : سالار ،
وبيشكار ، وبالون ، وبراون ، وكازران ، ودستور ، وكوذك. وهذه السبعة تدور في اثني
عشر روحانيين : خواننده ، ودهنده ، وستاننده ، وبرنده خورنده ، ودونده ، وخيزنده ،
وكشنده ، وزننده ، وكننده ، وآينده ، وشونده ، وباينده.
وكل إنسان اجتمعت
له هذه القوى الأربع ، والسبع ، والاثنا عشر : صار ربانيا
__________________
في العالم السفلي
، وارتفع عنه التكليف. قال : وإن خسرو العالم الأعلى إنما يدبر بالحروف التي
مجموعها الاسم الأعظم. ومن تصور من تلك الحروف شيئا انفتح له السر الأكبر. ومن حرم
ذلك بقي في عمى الجهل والنسيان والبلادة ، والغم في مقابلة القوى الأربع
الروحانية.
* * *
وهم فرق :
الكوذكيّة ، وأبو مسلمية ، والماهانية ، والأسبيد خامكية ، والكوذكيّة بنواحي الأهواز ، وفارس ، وشهرزور . والأخر بنواحي سعد سمرقند ، والشاش ، وإيلاق .
٣ ـ الدّيصانيّة
أصحاب ديصان.
أثبتوا أصلين : نورا ، وظلاما. فالنور يفعل الخير قصدا واختيارا. والظلام يفعل
الشر طبعا واضطرارا.
فما كان من خير
ونفع ، وطيب ، وحسن ؛ فمن النور. وما كان من شر وضرر ، ونتن ، وقبح ؛ فمن الظلام.
وزعموا أن النور : حي ، عالم ، قادر ، حساس ، دراك ،
__________________
ومنه تكون الحركة
والحياة. والظلام : ميت ، جاهل ، عاجز ، جماد ، موات ، لا فعل له ولا تمييز وزعموا
أن الشر يقع منه طباعا وخرقا. وزعموا أن النور جنس واحد ، وكذلك الظلام جنس واحد ،
وأن إدراك النور إدراك متفق ، فإن سمعه وبصره وسائر حواسه شيء واحد. فسمعه هو بصره
، وبصره هو حواسه. وإنما قيل سميع بصير لاختلاف التركيب ؛ لا لأنهما في نفسهما
شيئان مختلفان. وزعموا أن اللون هو الطعم ، وهو الرائحة ، وهو المحسة ، وإنما
وجدوه لونا لأن الظلمة خالطته ضربا من المخالطة ، ووجده طعما لأنها خالطته بخلاف
ذلك الضرب ، وكذلك القول في لون الظلمة وطعمها ورائحتها ومحستها. وزعموا أن النور
بياض كله ، وأن الظلام سواد كله ، وزعموا أن النور لم يزل يلقي الظلمة بأسفل صفحة
منه ، وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة منها.
واختلفوا في
المزاج والخلاص ، فزعم بعضهم أن النور داخل الظلمة ، والظلمة تلقاه بخشونة وغلظ ،
فتأذى بها ، وأحب أن يرققها ويلينها ، ثم يتخلص منها ، وليس ذلك لاختلاف جنسهما ،
ولكن كما أن المنشار جنسه حديد ، وصفحته لينة ، وأسنانه خشنة ؛ فاللين في النور ،
والخشونة في الظلمة ، وهما جنس واحد ، فتلطف النور بلينه حتى يدخل تلك الفرج ، فما
أمكنه إلا بتلك الخشونة ، فلا يتصور الوصول إلى كمال وجود إلا بلين وخشونة.
وقال بعضهم : بل
الظلام لما احتال حتى تشبث بالنور من أسفل صفحته ، فاجتهد النور حتى يتخلص منه
ويدفعه عن نفسه ، فاعتمد عليه فلجج فيه ، وذلك بمنزلة الإنسان الذي يريد الخروج من
وحل وقع فيه ، فيعتمد على رجله ليخرج فيزداد لجوجا فيه ، فاحتاج النور إلى زمان
ليعالج التخلص منه والتفرد بعالمه.
وقال بعضهم : إن
النور إنما دخل أجزاء الظلام اختيارا ليصلحها ويستخرج منها أجزاء صالحة لعالمه.
فلما دخل تشبثت به زمانا فصار يفعل الجور والقبيح اضطرارا لا اختيارا ، ولو انفرد
في عالمه ما كان يحصل منه إلا الخير المحض ، والحسن البحت. وفرق بين الفعل
الاضطراري ، وبين الفعل الاختياري.
٤ ـ المرقيونية
أصحاب مرقيون :
أثبتوا أصلين قديمين متضادين : أحدهما : النور ، والثاني : الظلمة. وأثبتوا أصلا
ثالثا هو المعدل الجامع ، وهو سبب المزاج. فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان
إلا بجامع. وقالوا : إن الجامع دون النور في المرتبة ، وفوق الظلمة ، وحصل من
الاجتماع والامتزاج هذا العالم.
ومنهم من يقول :
الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدّل ، إذ هو أقرب منها. فامتزجت به لتطيب به ،
وتلتذ بملاذه ، فبعث النور إلى العالم الممتزج روحا مسيحية ، وهو روح الله وابنه ،
تحننا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم ، حتى يخلصه من
حبائل الشياطين ، فمن اتبعه فلم يلامس النساء ، ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا. ومن خالفه خسر وهلك.
قالوا : وإنما
أثبتنا المعدل ، لأن النور الذي هو الله تعالى لا يجوز عليه مخالطة الشياطين ،
وأيضا فإن الضدين يتنافران طبعا ، ويتمانعان ذاتا ونفسا ، فكيف يجوز اجتماعهما
وامتزاجهما؟ فلا بد من معدل يكون بمنزلة دون النور وفوق الظلام فيقع الامتزاج منه
، وهذا على خلاف ما قالته المانوية ، وإن كان ديصان أقدم. وإنما أخذ ماني منه
مذهبه ، وخالفه في المعدل ، وهو أيضا خلاف ما قال زردشت. فإنه يثبت التضاد بين
النور والظلمة ، ويثبت المعدل كالحاكم على الخصمين ، الجامع بين المتضادين : لا
يجوز أن يكون طبعه وجوهره من أحد الضدين ، وهو الله عزوجل الذي لا ضد له ولا ند.
وحكى محمد بن شبيل
عن الديصانية أنهم زعموا أن المعدل هو الإنسان الحساس الدراك ، إذ هو ليس بنور محض
، ولا ظلام محض ، وحكى عنهم : أنهم
__________________
يرون المناكحة وكل
ما فيه منفعة لبدنه وروحه حراما. ويحترزون عن ذبح الحيوان لما فيه من الألم.
وحكى عن قوم من
الثنوية أن النور والظلمة لم يزالا حيين ، إلا أن النور حساس عالم ، والظلام جاهل
أعمى ، والنور يتحرك حركة مستوية مستقيمة ، والظلام يتحرك حركة عجرفية خرقاء
معوجة. فبيناهما كذلك إذ هجم بعض هامات الظلام على حاشية من حواشي النور ، فابتلع
النور منه قطعة على الجهل لا على القصد والعلم ، وذلك كالطفل الذي لا يفصل بين
الجمرة والتمرة ، وكان ذلك سبب المزاج. ثم إن النور الأعظم دبر في الخلاص ، فبنى
هذا العالم ليستخلص ما امتزج به من النور ، ولم يمكنه استخلاصه إلا بهذا التدبير.
٥ ـ الكينويّة والصّياميّة والتّناسخيّة منهم
حكى جماعة من
المتكلمين أن الكينوية زعموا أن الأصول ثلاثة : النار ، والأرض والماء. وإنما حدثت
الموجودات من هذه الأصول دون الأصلين اللذين أثبتهما الثنوية. قالوا : والنار
بطبعها خيرة ، نورانية. والماء ضدها في الطبع ، فما كان من خير في هذا العالم فمن
النار ، وما كان من شر فمن الماء ، والأرض متوسطة. وهؤلاء يتعصبون للنار شديدا من
حيث إنها علوية ، نورانية ، لطيفة ، لا وجود إلا بها. ولا بقاء إلا بإمدادها ،
والماء يخالفها في الطبع فيخالفها في الفعل ، والأرض متوسطة بينهما. فتركيب العالم
من هذه الأصول.
والصيامية منهم
أمسكوا عن طيبات الرزق ، وتجردوا لعبادة الله ، وتوجهوا في عباداتهم إلى النيران
تعظيما لها وأمسكوا أيضا عن النكاح والذبائح.
والتناسخية منهم :
قالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد ، والانتقال من شخص إلى شخص . وما يلقي الإنسان من الراحة ، والتعب ، والدعة ، والنصب
فمرتب على ما أسلفه من قبل ، وهو في بدن آخر جزاء على ذلك. والإنسان أبدا في أحد
أمرين :
__________________
إما في فعل ، وإما
في جزاء ، وما هو فيه : فإما مكافأة على عمل قدمه ، وإما عمل ينتظر المكافأة عليه.
والجنة والنار في هذه الأبدان ، وأعلى عليين. درجة النبوة ، وأسفل السافلين : دركة
الحية. فلا وجود أعلى من درجة الرسالة ، ولا وجود أسفل من دركة الحية. ومنهم من
يقول : الدرجة الأعلى درجة الملائكة ، والأسفل دركة الشياطين.
ويخالفون بهذا
المذهب سائر الثنوية ، فإنهم يعنون بأيام الخلاص. رجوع أجزاء النور إلى عالمه
الشريف الحميد ، وبقاء أجزاء الظلام في عالمه الخسيس الذميم.
* * *
وأما بيوت النيران
للمجوس :
فأول بيت بناه
أفريدون : بيت نار بطوس ، وآخر بمدينة بخارى ، هو بردسون ، واتخذ بهمن بيتا بسجستان يدعى كركو . ولهم بيت نار آخر في نواحي بخارى ، يدعى قباذان ، وبيت
نار يسمى كويسه ، بين فارس وأصبهان ، بناه كيخسرو . وآخر بقومس يسمى جرير . وبيت نار يسمى كنكدر ؛ بناه
__________________
سياوش في مشرق
الصين ، وآخر بأرجان من فارس اتخذه أرجان جد كشتاسب ؛ وهذه البيوت كانت قبل
زردشت.
ثم جدد زردشت بيت
نار بنيسابور ، وآخر بنسا . وأمر كشتاسب أن يطلب نارا كان يعظمها جم ، فوجدها بمدينة
خوارزم فنقلها إلى دار بجرد ، وتسمى آذرخره ، والمجوس يعظمونها أكثر من غيرها ،
وكيخسرو لما خرج إلى غزو أفراسياب عظمها وسجد لها. ويقال إن أنوشروان هو الذي نقلها إلى
كارمان فتركوا بعضها ، وحملوا بعضها إلى نسا.
وفي بلاد الروم
على أبواب قسطنطينية بيت نار اتخذه سابور بن أردشير ، فلم يزل كذلك إلى أيام
المهدي ، وبيت نار بإستينيا ، على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى.
وكذلك بالهند
والصين بيوت نيران.
وأما اليونانيون
فكان لهم ثلاثة أبيات ليست فيها نار ، وقد ذكرناها.
__________________
والمجوس إنما
يعظمون النار لمعان فيها ، منها أنها جوهر شريف علوي ، ومنها أنها ما أحرقت الخليل
إبراهيم عليهالسلام ، ومنها ظنهم أن التعظيم لها ينجيهم في المعاد من عذاب
النار.
وبالجملة هي قبلة
لهم ، ووسيلة وإشارة ، والله أعلم.
تم الجزء الأول ،
ويليه الجزء الثاني
وأوله : الباب
الأول
أهل الأهواء
والنحل
فهرس الجزء الأول
من كتاب الملل والنحل للشهرستاني
مقدمة.......................................................................... ٥
تعريف بالشهرستاني............................................................. ١١
نماذج من آراء العلماء فيه........................................................ ١٢
نماذج من آراء منتقديه........................................................... ١٣
مؤلفات الشهرستاني............................................................. ١٤
مقدمات الشهرستاني............................................................ ١٧
المقدمة الأولى : في بيان تقسيم أهل
العالم جملة مرسلة............................... ١٨
المقدمة الثانية : في تعيين قانون يبنى
عليه تعديد الفرق الإسلامية...................... ٢٠
المقدمة الثالثة : في بيان أول شبهة
وقعت في الخليفة وانشعابها......................... ٢٣
المقدمة الرابعة : في بيان أول شبهة
وقعت في الملة الإسلامية وانشعابها.................. ٢٨
المقدمة الخامسة : في السبب الذي أوجب
ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب...... ٤٥
مذاهب أهل العالم : من أرباب الديانات
والملل وأهل الأهواء والنحل.................. ٤٩
تمهيد : أرباب الديانات والملل من
المسلمين وأهل الكتاب وممن له شبهة كتاب.......... ٥٠
الباب الأول : المسلمون......................................................... ٥٣
الفصل
الأول : المعتزلة.......................................................... ٥٦
١ ـ الواصلية................................................................... ٥٩
٢ ـ الهذيلية.................................................................... ٦٤
٣ ـ النظّامية.................................................................... ٦٧
٤ ـ الخابطية
والحدثية............................................................ ٧٤
٥ ـ البشرية.................................................................... ٧٨
٦ ـ المعمّرية.................................................................... ٧٩
٧ ـ المردارية.................................................................... ٨٢
٨ ـ الثمامية.................................................................... ٨٤
٩ ـ الهشامية................................................................... ٨٥
١٠ ـ الجاحظية................................................................. ٨٧
١١ ـ الخياطية
والكعبية.......................................................... ٨٩
١٢ ـ الجبائية
والبهشمية......................................................... ٩٠
الفصل الثاني :
الجبرية........................................................... ٩٧
١ ـ الجهمية.................................................................... ٩٧
٢ ـ النجارية.................................................................. ١٠٠
٣ ـ الضرارية.................................................................. ١٠٢
الفصل الثالث :
الصفاتية...................................................... ١٠٤
١ ـ الأشعرية................................................................. ١٠٦
٢ ـ المشبهة................................................................... ١١٨
٣ ـ الكرامية.................................................................. ١٢٤
الفصل الرابع :
الخوارج......................................................... ١٣١
١ ـ المحكمة
الأولى............................................................. ١٣٣
٢ ـ الأزارقة................................................................... ١٣٧
٣ ـ النجدات
العاذرية.......................................................... ١٤١
٤ ـ البهنسية................................................................. ١٤٤
٥ ـ العجاردة................................................................. ١٤٨
(أ)
الصلتية............................................................. ١٤٩
(ب) الميمونية........................................................... ١٤٩
(ج) الحمزية............................................................ ١٥٠
(د) الخلفية............................................................. ١٥٠
(ه) الأطرفية........................................................... ١٥٠
(و) الشعيبية............................................................ ١٥١
(ز) الحازمية............................................................. ١٥١
٦ ـ الثعالبة................................................................... ١٥٢
(أ) الأخنسية........................................................... ١٥٣
(ب) المعبدية............................................................ ١٥٣
(ج) الرشيدية........................................................... ١٥٣
(د) الشيبانية........................................................... ١٥٤
(ه) المكرمية............................................................ ١٥٥
(و) المعلومية والمجهولية.................................................... ١٥٥
(ز) البدعية............................................................. ١٥٦
٧ ـ الإباضية................................................................. ١٥٦
(أ) الحفصية............................................................ ١٥٨
(ب) الحارثية............................................................ ١٥٨
(ج) اليزيدية............................................................ ١٥٨
٨ ـ الصفرية
الزيادية........................................................... ١٥٩
الفصل الخامس :
المرجئة....................................................... ١٦١
١ ـ اليونسية.................................................................. ١٦٢
٢ ـ العبيدية.................................................................. ١٦٣
٣ ـ الغسانية.................................................................. ١٦٣
٤ ـ الثوبانية.................................................................. ١٦٤
٥ ـ التومنية.................................................................. ١٦٦
٦ ـ الصالحية................................................................. ١٦٧
الفصل السادس :
الشيعة...................................................... ١٦٩
١ ـ الكيسانية................................................................ ١٧٠
(أ) المختارية............................................................ ١٧١
(ب) الهاشمية............................................................ ١٧٤
(ج) البيانية............................................................. ١٧٦
(د) الرزامية............................................................. ١٧٨
٢ ـ الزيدية................................................................... ١٧٩
(أ) الجارودية............................................................ ١٨٣
(ب) السليمانية......................................................... ١٨٦
(ج) الصالحية والبترية.................................................... ١٨٧
٣ ـ الإمامية.................................................................. ١٨٩
(أ) الباقرية والجعفرية الواقفة............................................... ١٩٣
(ب) الناووسية.......................................................... ١٩٥
(ج) الأفصحية......................................................... ١٩٥
(د) الشميطية........................................................... ١٩٦
(ه) الإسماعيلية الواقفة................................................... ١٩٦
(و) الموسوية والمفضلية.................................................... ١٩٧
(ز) الاثنا عشرية........................................................ ١٩٨
٤ ـ الغالية................................................................... ٢٠٣
(أ) السبائية............................................................. ٢٠٤
(ب) الكاملية........................................................... ٢٠٥
(ج) العلبائية............................................................ ٢٠٦
(د) المغيرية............................................................. ٢٠٧
(ه) المنصورية........................................................... ٢٠٩
(و) الخطّابية............................................................ ٢١٠
(ز) الكيالية............................................................ ٢١٢
(ح) الهشامية........................................................... ٢١٦
(ط) النعمانية أو الشيطانية............................................... ٢١٨
(ي) اليونسية........................................................... ٢٢٠
(ك) النصيرية والإسحاقية................................................. ٢٢٠
رجال الشيعة ومصنفو كتبهم من المحدثين.................................... ٢٢٢
٥ ـ الإسماعيلية................................................................ ٢٢٦
٦ ـ الباطنية.................................................................. ٢٢٨
الفصل السابع :
أهل الفروع................................................... ٢٣٥
١ ـ أحكام
المجتهدين في الأصول والفروع......................................... ٢٣٨
٢ ـ حكم الاجتهاد
والتقليد والمجتهد والمقلد....................................... ٢٤٢
٣ ـ أصناف
المجتهدين.......................................................... ٢٤٣
أصحاب الحديث........................................................ ٢٤٣
أصحاب الرأي.......................................................... ٢٤٥
الباب الثاني :
أهل الكتاب..................................................... ٢٤٧
اليهود والنصارى.............................................................. ٢٤٨
الفصل الأول :
اليهود خاصة................................................... ٢٥٠
١ ـ العنانية................................................................... ٢٥٦
٢ ـ العيسوية................................................................. ٢٥٧
٣ ـ المقاربة
واليوذعانية......................................................... ٢٥٨
٤ ـ الموشكانية................................................................ ٢٥٨
٥ ـ السامرة.................................................................. ٢٦٠
الفصل الثاني :
النصارى....................................................... ٢٦٢
١ ـ الملكانية.................................................................. ٢٦٦
٢ ـ النسطورية................................................................ ٢٦٨
٣ ـ اليعقوبية................................................................. ٢٧٠
الباب الثالث : من
له شبهة كتاب.............................................. ٢٧٣
المجوس ـ وأصحاب
الاثنين والمانوية وسائر فرقهم................................... ٢٧٤
الفصل الأول :
المجوس......................................................... ٢٧٨
١ ـ الكيومرثية................................................................ ٢٧٨
٢ ـ الزروانية.................................................................. ٢٧٩
٣ ـ الزردشتية................................................................. ٢٨١
مقالة زردشت في
المبادئ....................................................... ٢٨٥
الفصل الثاني :
الثنوية......................................................... ٢٩٠
١ ـ المانوية................................................................... ٢٩٠
٢ ـ المزدكية................................................................... ٢٩٤
٣ ـ الديصانية................................................................ ٢٩٦
٤ ـ المرقيونية.................................................................. ٢٩٨
٥ ـ الكينوية ـ والصيامية
، والتناسخية............................................ ٢٩٩
|