مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

من حق العقيدة على الكتّاب وعلى الناس أن تتناولها الأقلام الجادة ، وأن تكثر فيها البحوث القيمة ، وأن تلقى من العناية ما يناسب جلال موضوعها.

وفي عصرنا هذا تصدر مطبوعات فوق الحصر لشغل الأعين والأذهان بالمسائل التافهة من لهو الحياة ولغوها ، وترف الحضارة ومجونها.

وهناك لا ريب كتب ضخمة تعالج حقائق العلم ومشكلات الوجود ، لكنها ـ للأسف ـ قلّما تتعرض بالاهتمام الواجب للإيمان بالله واليوم الآخر ، وما يستتبعه هذا الإيمان من تصحيح نظرتنا للدنيا وتفهّم رسالتنا فيها.

ولو كان الكلام عن الله وما ينبغي له من وقار ، ومن لقائه المنتظر ، وما يتطلبه من استعداد ، وعن رسله الأكرمين وما يجب لهم من اتّباع ... لو كان ذلك من النوافل التي يسوغ للمرء أن يتكاسل عنها ، ويزهد فيها ، لما كان علينا من بأس في غضّ النظر عن «العقيدة» وبحوثها!!

أما والأمر مقامرة خطرة النتيجة ، قد يربح الإنسان فيها حاضره ومستقبله ، وقد يخسرهما جميعا .. فلا بد من التفكير العميق في هذه المسألة وبذل الجهد في الوصول إلى قرار تستريح إليه النفس.

فلننظر إذن إلى الموضوع نظرة الإنسان العاقل إلى كل مشروع فيه هلاكه أو نجاته ، فهو يلتفت إليه بكل ما يملك من قوة وعزم.

وكثيرة هي الكتب التي تدفع بها المطبعة العربية في حقل الدراسات الإسلامية إلى أيدي القراء .. وعظيم ذلك الرواج الذي تلقاه الكتب التي تتصل بمباحث الإسلام بسبب وثيق أو ضعيف!

لكن هذه الظاهرة التي يسعد بها الكثيرون لا تحمل كل الإيجابيات الموضوعية الباعثة على السعادة والسرور؟!

فنحن أمة مستهدفة ، تواجه العديد من التحديات التي يفرضها عليها أعداء كثيرون ... وهذه التحديات منها ما هو ذاتي وموروث .. ومنها : ما هو خارجي ، أعد ليلعب دوره المعوق والمدمر على أرضنا ، وضمن المصادر الفكرية الموجهة لأمتنا ، وأيضا

ليحرس وينمي قيود «التخلف ـ الذاتي ـ الموروث»!.

وإذا كان الإسلام هو الإيديولوجية الطبيعية لأمتنا الإسلامية ، والحصن الذي تحصنت به وهي تواجه التحديات التي فرضها عليها الأعداء منذ عصر الفتوحات ، وحتى توراتها التحررية الحديثة ـ وعبر تحدياتها مع التتار والصليبيين ـ ... فإن الكثير من المسمى إسلاما مما تحمله المطابع إلى القارئ المعاصر لا يمثل «الفكرية القادرة» على أن تكون البديل للتشوه المعرفي ، والمسخ الحضاري ، الذي تمارسه معنا الحضارة الغربية العنصرية الاستعلائية.

والكثير من هذا الذي يسمى «إسلاما» عاجز عن أن يمثل «الحصن» الذي يعين الأمة في موقفها الراهن ، على أن تحرز النصر فيما فرض عليها من مواجهات.

إن أمتنا لن تستطيع مواجهة الحضارة الغربية المادية ، ذات العقلانية المفرطة ، بفكر يغيّب دور العقل .. ويدعي أن هذا هو الإسلام!

ولن تستطيع أن تواجه قوة التقدم العلمي ، الذي يتسلح به الغرب ، بسيل من الكتب يغرق العقل في تفاصيل التفاصيل عن القصص الخرافي ، أو الإسرائيلي الذي يروجه البعض باسم الإسلام!

فإذا كنا جادين حقا في إعداد القوة المستطاعة ، الكافلة لإرهاب أعداء الله ، وأعداء الأمة ، والضامن حقا استخلاص الحقوق السلبية ، فلا بد لنا من الوعي بعوامل التقدم التي صنعت الازدهار الحضاري لأمتنا ، وبعوامل الضعف التي كانت سببا للتراجع والانحطاط.

والوعي كذلك بضرورة التفاعل الحضاري مع الآخرين .. وأهداف هذا التفاعل .. والضوابط والشروط التي تحول بينه وبين التحول إلى التبعية ، أو الارتداد إلى العزلة والانغلاق ...

وإذا كان صراع أمتنا ـ بعد ظهور الإسلام ـ مع التيارات الفكرية ، التي مثلت محاولات الاختراق المعادي ، قد تمخض عن صياغة عقلانيتنا العربية الإسلامية المتميزة ، التي تجسدت في علم الكلام ، فلسفة مؤسسة على الدين ، تفاعل فيها العقل والنقل ، وتآخت فيها الحكمة والشريعة ... فإن هذه العقلانية المتميزة هي التي صنعت حقبة

الازدهار الحضاري التي أضاءت فيها حضارتنا أرجاء الكوكب الذي نعيش عليه.

كذلك كانت النصوصية الجامدة ، التي أخلت بالتوازن وبالوسطية الإسلامية ، عند ما انحازت لحشو النقل ضد العقل!!! وتعبدت بظواهر النصوص والمأثورات ـ هي البداية لحقبة الجمود والتراجع ، وتوقف الخلق والإبداع والاجتهاد.

ومما لا ريب فيه أن للزيدية الدور الأصيل والبارز في تحرير العقل ، من خلال نظريتهم وتصورهم التنزيهي لتوحيد الخالق ـ جل وعلا من الخرافة ، والشعوذة ... ومن العبودية لكل الطواغيت ...

وتحرير إرادة الإنسان من الجبرية والتواكل ، الذي يشل إرادة الأمة لحساب الأعداء الذي يفرضون عليها التحديات ، من خلال نظريتهم وتصورهم للعدل.

وفي تحرير الأمة من أنظمة الجور ، والفسق ، والضعف ، والفساد ، من خلال نظرية الجهاد والثورة ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ الأمر الذي يحيي الأمة إحياء حقيقيا ويضمن لها استجابة الدعاء.

* * *

ترجمة المؤلف

هو أبو محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

أبوه :

إبراهيم طباطبا بن إسماعيل لقّب (طباطبا) لأن أباه أراد أن يقطع له ثوبا وهو طفل فخيره بين قميص وقبا ، فقال : طباطبا. يعني : قباقبا. وقيل : بل السواد لقبوه بذلك. وطباطبا بلسان النبطية : سيد السادات.

أحد العلماء الكبار والفرسان الشجعان ، الذين كانت تخافهم الدولة العباسة ، كان ذا خطر وتقدم ، وهو ممن خرج مع الإمام الحسين الفخي ، وظل في حبس المهدي وموسى وهارون بعده حتى مات في الحبس.

قال الإمام القاسم العياني : كان أبوه إبراهيم بن إسماعيل بواد في شامي ينبع يسمى الغيص (١) يغمر بعض ضياعه ، وكانت قد ظهرت دعوته وشهر استحقاقه للمقام ، فكان الخليفة يخافه لذلك ، فلم يزل يعمل فيه حتى أرسل من أحاط به في ضيعته ، وهو في غفلة من امره فقبض عليه‌السلام ومضوا به حتى أوصلوه الخليفة ، فلما وصلوا جعلوه في السجن ـ والخليفة يومئذ ببغداد ـ في سجن العامة وطولوا سجنه ، وأثخنوه بالحديد.

وكان أخذه وولده القاسم حمل في بطن أمه ، فأقام في السجن سبع عشرة سنة ، ثم عمل فيه رجل من شيعته من أهل المدينة مع بعض الحباسين ، فلما أسعفه واستخرجه في ساعة غفلة من الناس ، وكان شيعيّه هذا حطّابا ، والحطب هنالك يجمع ويحتكر حتى ربما اجتمع عند صاحبه مثل التل ، فعمل وسط ذلك الحطب بيتا من الحطب ، وفيه مصالحه ثم أدخله إياه ، فلما فقد من الحبس طلب وحفظت أقطار الدنيا عليه ، وقلبت

__________________

(١) في المخطوط : الفيض ، وهو (العيص) من أودية المدينة. انظر مطلع البدور ، وفاء الوفاء ٤ / ١٢٧٠.

المدينة كلها خرابها ودهاليزها ومنازلها ، فلم يجدوه مع ستر الله وعونه لوليه.

فأقام في ذلك الحطب سنة ، فلما دار عليه الحول اكترى له صاحبه في الموسم محملا ، وجعل كراءه لامرأة فكان في ذلك المحمل يحجب ويصان كما تصان الامرأة ، حتى وصل مكة ودخل في الناس وتنكر وخرج يتلمس أهله وأولاده ، وكان ولده القاسم لما ولد بعده شبّ ونشأ أديبا لبيبا عالما جوادا فانتقل بأهله إلى جبال الأشعر (١) وتحرز فيها من الظالمين ، فلم يزل أبوه يسير حتى وصل منازل أهله ، فأتى فناء ولده ووجده قاعدا في حلقة في جماعة وهو فيهم منظورا إليه ، مردود مجلس الجماعة عليه ، فتوسّمه فقال : إن كان عاش ولدي فهو هذا ، فسلّم على الجماعة فردّوا أحسن التحية عليه ، وقال من أنت يا غلام؟

فقال : أنا القاسم بن إبراهيم.

قال : فأين أبوك؟

قال : في رحمة الله.

قال : فأنا هو.

قال : غلّطت!!

قال : ليس كما قلت إن له منذ قبض وقتل ما يداني العشرين السنة.

قال : فأنا هو قد حبست وطال ذلك وسلّم الله ، ثم أخلاه من الجماعة ثم سأله : أعاد عمتك فلانة ، وأمك فلانة ، وأختك ، وسأله عن أهله.

فقال له : دع عنك هذا فإنه ربما يأتي بعض مردة بني آدم بمثل هذا ، ولم يقربه إلى معرفة.

قال : امض إلى أهلك فأعلمهم بما ذكرت لك ، فمضى إلى أهله فأخبرهم بخبر أبيه ونكرته له ، فقالت له أمه : على أبيك علم لا ينكر. قالت : في صدره ضربتان بسيف معترضتان ، على ثديه أثرهما لا يغبأ ، فإن كان ذلك فهو أبوك فعاد إليه.

فقال له : في صدرك ضربتان أثرهما باد. فقال : نعم. فأراه ذلك فلما رآه [عرفه]

__________________

(١) الأشعر جبل جهينة ينحدر على ينبع. وفاء الوفاء ٤ / ١١٢٦.

حق معرفته ، وتبادرت عيناه لذلك ، واعتنقه وقدّمه إلى أهله فلم ينكروه حين رأوه (١).

وعن فترة شباب الإمام ، قال الشهيد حميد المحلي : أخبرنا الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين أبو محمد عبد الله بن حمزة بن سليمان سلام الله عليه وعلى آبائه الأكرمين ، قال : روى القاضي العالم ابن عمار ، قال : أخبرني فقيه آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصرنا الحسين بن حمزة ، قال : أخبرني أبي النفس الزكية ، والشيبة المرضية ، حمزة بن أبي هاشم الإمام الرضى ، يرفعه عن آبائه إلى شيخ من شيوخ آل الحسن ، كان يدرس عليه فتيان آل الحسن ، وكانوا إذا جاءوا قام في وجوههم وعظمهم ، وأقسموا عليه لا فعل.

وكان القاسم عليه‌السلام من شباب ذلك العصر ، وكان إذا أتى قام في وجهه وعظمه ، فقالوا له : أيها السيد إنا قد عذرناك وهذا الفتى لك أعذر.

فقال : لو تعلمون من حق هذا ما أعلم ، لاستصغرتم ما أصنع في حقه!!

فقالوا : وما تعلم؟

قال : هذا الفتى قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخرج من ذريتي رجل مسروق الرّباعيتين ، لو كان بعدي نبي لكان هو (٢).

أمه :

هند بنت عبد الملك بن سهل بن مسلم بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهيل بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.

ولادته :

ولد سنة (١٦٩ ه‍ ٧٨٥ م).

__________________

(١) سيرة الإمام القاسم بن علي العياني / ١٤٣. ورواه ابن أبي الرجال في مطلع البدور في ترجمة الإمام إبراهيم بن إسماعيل. نقلا عن الإمام القاسم العياني / ٥١ ـ ٥٢.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ٢.

لم تحدد المصادر التاريخية مكان مولده ، ولعل ولد بالمدينة ، لأن بعض المصادر تقول: إنه نشأ بالمدينة وسكن جبال (قدس) بأطرافها.

صفته :

كان تام الخلق ، أبيض اللون ، كثّ اللحية ، وكانت لحيته كالقطنة لشدة البياض.

ولم يكن يحلق شاربه (١).

عاش في عهد الدولة العباسية وعاصر هارون الرشيد ، والأمين ، والمأمون ، والمعتصم ، والواثق بن المعتصم ، ثم أخاه جعفر المتوكل ، لذي قتل سنة / ٢٤٧ ه‍ ، والإمام القاسم توفي سنة (٢٤٦ ه‍).

أولاده :

ذكر له المؤرخون أحد عشر ولدا من الذكور (٢).

وذكر له السيد مجد الدين المؤيدي اثني عشر ولدا ذكرا ، كما يلي :

١ ـ محمد ٢ ـ الحسن ٣ ـ الحسين ٤ ـ سليمان ٥ ـ عيسى ٦ ـ موسى ٧ ـ علي ٨ ـ إبراهيم ٩ ـ يعقوب ١٠ ـ داود ١١ ـ إسماعيل ١٢ ـ يحيى (٣).

وذكر له ابن عنبة سبعة من الذكور الذين أعقب منهم ، السالفوا الذّكر ، عدا عيسى ، وعلي ، وإبراهيم ، ويعقوب ، وداود (٤).

وذكر له أبو نصر البخاري ستة : الحسن ، وإسماعيل ، وإبراهيم ، ويحيى ، وسليمان ، والحسين (٥).

__________________

(١) الإفادة / ١٢٠.

(٢) هداية الراغبين / ٤٣٥ ، والتحفة العنبرية / ٨٢.

(٣) التحف شرح الزلف / ٤٩.

(٤) عمدة الطالب / ٢٠١.

(٥) سر السلسلة العلوية / ٢٨.

وذكر الإمام أبو طالب أربعة : محمد ، والحسن ، والحسين ، وسليمان (١).

ولم يذكر أي مؤرخ ـ فيما أعلم ـ بنتا من بناته.

وقد عمل على تربيتهم وتعليمهم وتفقيههم ، في تلك المنطقة البعيدة عن العمران ، والحياة الصاحبة ، حتى صاروا من أكمل الناس علما ودينا. حتى قال عنهم السيد الهادي بن إبراهيم الوزير : كل واحد منهم يصلح للإمامة (٢).

وقال ابن عنبة : وله عدة أولاد متقدمون (٣).

ولعل يحيى أكبرهم ومن أحبهم إليه ، توفي يحيى هذا في حياة أبيه. قال الإمام أبو طالب عن الإمام الهادي : ولد بالمدينة سنة خمس وأربعين ومائتين ، وكان بين مولده وبين موت جده القاسم عليه‌السلام سنة واحدة ، وحمل حين ولد إليه ، فوضعه في حجره المبارك ، وعوّذه وبرّك عليه ودعا له ، ثم قال لابنه : بم سميته؟ قال : يحيى. وقد كان للحسين أخ لأبيه وأمه ، يسمى : يحيى ، توفي قبل ذلك ، فبكى القاسم عليه‌السلام حين ذكره ، وقال : هو والله يحيى صاحب اليمن. وإنما قال ذلك لأخبار رويت بذكره وظهوره باليمن ، وقد ذكرها العباسي المصنف لسيرته عليه‌السلام (٤).

قال ابن عنبة : فأعقب من سبعة رجال : يحيى العالم الرئيس ، ... أما يحيى بن الرسي فكان رئيسا.

وقال : وأما الحسن بن الرسي وكان بالمدينة سيدا رئيسا (٥).

وقال : والحسين السيد الجواد ، وقال : وأما أبو عبد الله الحسين بن القاسم وكان سيدا كريما (٦).

__________________

(١) الإفادة / ١١٦.

(٢) هداية الراغبين / ٤٣٥.

(٣) عمدة الطالب / ٢٠١.

(٤) الإفادة / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٥) عمدة الطالب / ٢٠١.

(٦) عمدة الطالب / ٢٠٤.

قال : وأما إسماعيل وكان رئيسا متقدما (١).

وقال الإمام القاسم : صحبت الصوفية أربعين سنة ، ودرت المشرق والمغرب ، ولم أر رجلا أشد ورعا من ابني محمد (٢).

مشايخه

أبوه إبراهيم بن إسماعيل.

أبو بكر بن أبي أويس المدني (٣).

إسماعيل بن أبي أويس (٤).

أبو سهل سعد بن سعيد المقبري (٥).

ولا شك أن مشايخه كثر سيما وقد طاف عواصم العلم والمعرفة في زمنه ، بيد أني ذكرت مشايخه الذين روى عنهم في الأحكام لحفيده الإمام الهادي.

تلامذته

لقد كان الإمام القاسم مرجعا لسائر الديانات السماوية ، والطوائف الإسلامية في عصره ، فلقد كان مجلسه دائما عامرا بالعلماء والباحثين ، من الملاحدة والمسيحيين ، ومن علماء المعتزلة وغيرهم ، في مصر والعراق والحجاز وأينما حل ، يأتيه المسترشدون من العراق وطبرستان ، ومصر والحجاز ، كل هذا أثناء دعوته وجهاده.

ثم صار بعد استقراره في بادية الرس بالمدينة ، وتفرغه للتعليم والتأليف صار مقصدا للباحثين وقبلة للمسترشدين ، قال العلامة أحمد بن موسى الطبري ـ من أصحاب

__________________

(١) عمدة الطالب / ٢٠٢.

(٢) التنبيه والدلائل للإمام القاسم العياني / ٢٨٢ (مخطوط).

(٣) الأحكام ١ / ٣٤٦.

(٤) الأحكام ١ / ٣٥٢.

(٥) الأحكام ٢ / ٥٢٩.

حفيده الهادي ـ : ولحق بالحجاز ولزم جبلا يقال له : الرس ، فأقبل على تعليم الناس ، حتى أظهر دين جده ، ووفد إليه خلق كثير من آفاق الدنيا (١).

حدثنا أبو محمد ، عبد الله (٢) بن أحمد ، قال : أخبرني أبي رحمه‌الله أحمد ، بن محمد ، بن الحسين ، بن سلام قال : أنفذ إلينا أبو محمد ، القاسم بن إبراهيم ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن الحسن ، بن الحسن ، بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أهله الأئمة الأكرمين ، أول ما أنفذ إلينا من كتبه ، كتابا يقال له : سياسة النفس.

قال أبي رحمه‌الله : فلما قرأنا الكتاب وكنا لا نرحل إليه ، ونرحل إلى غيره من أهل البيتعليهم‌السلام ، فأسفنا على ما فاتنا منه ، وقلنا ليس من حق علوي يحسن أن يقول مثل هذا ، إلا أن نكون جواب كتابه. فرحلنا إليه ، فأقمنا عنده في أول رحلتنا إليه سنة ، ثم بعد ذلك كنا نرحل إليه في الأوقات ، ثم سمعنا منه هذا الكتاب وأوله .. (٣).

وممن حفظ لنا التاريخ ذكرهم ممن أخذوا عليه ، أولاده وأهل بيته جميعا.

ومحمد بن منصور المرادي ، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي ، ويحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله العقيقي صاحب (كتاب الأنساب) ، وله إليه مسائل ، وعبد الله بن يحيى القومسي العلوي الذي أكثر الناصر الأطروش الرواية عنه ، ومحمد بن موسى الحواري العابد روى عنه فقها كثيرا ، وعلي بن جهشيار ، وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن الحسن بن سلام الكوفي صاحب فقه كثير ورواية غزيرة ، وجعفر بن محمد النيروسي ، ومحمد بن موسى الخوارزمي ، وعبد الله بن الحسن الإيوازي الكلاري ، وأبو عبد الله الفارسي ، وغيرهم كثير (٤).

__________________

(١) المنير / ١٠٠ (مخطوط).

(٢) أحمد بن محمد ، أحد أعيان الناصر ، ثم الداعي ، وكان عالما ديّنا ورعا ، توفي بعد العشر والثلاث مائة. وأحمد بن محمد بن سلّام الكوفي من ثقاة محدثي الشيعة ، وممن صحب الإمام القاسم وروى عنه ، وعن ابن عيينة ، ومحمد بن راشد ، وعباد بن يعقوب ، والحسن بن عبد الواحد القزويني ، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله ، ومحمد بن منصور ، وعلي بن أبي سليمان ، ومحمد بن بلال.

(٣) المكنون.

(٤) انظر الإفادة / ١١٦ ، ١٢٠ ، ١٢٥. وهداية الراغبين / ٤٣٥.

نشأ نشأة آبائه الأكرمين في أحضان الفضيلة والعلم والزهد والورع والجهاد.

خرج أخوه محمد بن إبراهيم على المأمون العباسي في الكوفة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة (١٩٩ ه‍) ، وبث الدعاة في سائر النواحي ، وأنفذ أخاه القاسم بن إبراهيم إلى مصر للدعاء إليه وأخذ البيعة له ، وكان عمر الإمام القاسم يومئذ (٢٧) أو (٢٦) سنة.

وقاتل الإمام محمد بن إبراهيم العباسيين قتالا شديدا وقتل منهم مقتلة عظيمة في وقعات عدة ، حتى قيل إنه قتل منهم مائتين ألف جندي (٢٠٠ ، ٠٠٠). ثم إنه أصيب بسهم وطعن في بعض وقعاته فاعتل ، ثم مات عليه‌السلام يوم السبت لليلة دخلت من رجب سنة (١٩٩ ه‍) ودفن في الكوفة.

البيعة الأولى سنة (١٩٩ ه‍):

علم الإمام القاسم باستشهاد أخيه محمد بن إبراهيم وهو بمصر ، فدعا إلى نفسه وبث الدعاة وهو على حال الاستتار ، فأجابه عالم من الناس من بلدان مختلفة ، وجاءته بيعة أهل مكة ، والمدينة ، والكوفة ، وأهل الري (طهران حاليا) ، وقزوين ، وطبرستان ، والديلم ، وكاتبه أهل العدل من البصرة ، والأهواز ، وحثوه على الظهور وإظهار الدعوة ، فأقام بمصر نحو عشر سنين.

وذاع صيته هنالك وانتشر خبره ، وكان بيته ملتقى للعلماء والباحثين والمناظرين ، ومناظرة الملحد كانت في مصر ، وتناهى إلى سمع المأمون خبره وخافه خوفا شديدا وضيق عليه ، وتتبع أخباره وبعث الجواسيس عليه وعلى كل من يشك أن له به صلة.

ذكر الطبري : أن رجلا من إخوة المأمون قال له : يا أمير المؤمنين ، إن عبد الله بن طاهر ـ وكان والي مصر يومئذ ـ يميل إلى ولد علي بن أبي طالب ، وكذا كان أبوه من قبله.

قال : فدفع المأمون ذلك وأنكره ، ثم عاد بمثل هذا القول ، فدس إليه رجلا ثم قال له : امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا ، واذكر مناقبه وعلمه وفضائه ، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد

الله بن طاهر ، ثم ائته فادعه ورغّبه في استجابته له ، وابحث عن دفين نيّته بحثا شافيا ، وائتني بما تسمع منه.

قال : ففعل الرجل ما قال له ، وأمره به ، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام ، قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر ، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه ، فلما انصرف قام إليه الرجل ، فأخرج من كمّه رقعة فدفعها إليه ، فأخذها بيده ، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه ، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ، ما بينه وبين الأرض غيره ، وقد مدّ رجليه ، وخفّاه فيهما ، فقال له : قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك ، فهات ما عندك ، قال : ولى أمانك وذمة الله معك؟ قال : لك ذلك.

قال : فأظهر له ما أراد ، ودعاه إلى القاسم ، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده ، فقال له عبد الله : أتنصفني؟ قال : نعم. قال : هل يجب شكر الله على العباد؟ قال : نعم. قال : فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قال : نعم. قال : فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى ، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك ، وفيما بينهما أمري مطاع ، وقولي مقبول ، ثم ما التفتّ يميني ولا شمالي وورائي وقدّامي إلا رأيت نعمة رجل أنعمها عليّ ، ومنة ختم بها رقبتي ، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما ، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان ، وتقول : اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا ، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم ، أكان الله يحب أن أغدر به ، وأكفر إحسانه ومنته ، وأنكث بيعته! فسكت الرجل ، فقال له عبد الله : أما إنه قد بلغني أمرك ، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك ، فارحل عن هذا البلد ، فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك ـ وما آمن ذلك عليك ـ كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.

فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون ، فأخبره الخبر ، فاستبشر وقال : ذلك غرس يدي ، وإلف أدبي ، وترب تلقيحي ، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا ، ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٦١٥ ـ ٦١٦.

وشدد المأمون على الإمام القاسم وواليه في مصر حتى رصدا الجوائز لمن يدل على الإمام القاسم.

قال السيد أبو طالب : عن أبي عبد الله الفارسي ـ خادم القاسم وملازمه في السفر والحضر ـ قال : ضاق بالإمام القاسم عليه‌السلام المسالك واشتد الطلب ، ونحن مختفون معه خلف حانوت إسكاف ـ صانع الأحذية ـ من خلصان الزيدية ، فنودي نداء يبلغنا صوته : برئت الذمة ممن آوى القاسم بن إبراهيم ، وممن لا يدل عليه ، ومن دل عليه فله ألف دينار ، ومن البز كذا وكذا. والإسكافي مطرق يسمع ويعمل ولا يرفع رأسه ، فلما جاءنا قلنا له : أما ارتعت؟! قال : من لي بارتياعي منهم! ولو قرضت بالمقاريض بعد إرضاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله عني في وقايتي لولده بنفسي (١).

«واشتد الطلب له هناك من عبد الله بن طاهر فلم يمكنه المقام ، فعاد إلى بلاد الحجاز وتهامة ، وخرج جماعة من دعاته من بني عمه وغيرهم إلى بلخ ، والطالقان ، والجوزجان ، ومروروذ فبايعه كثير من أهلها ، وسألوه أن ينفذ إليهم بولده ليظهروا الدعوة ، فانتشر خبره قبل المتمكن من ذلك ، فتوجهت الجيوش في طلبه نحو اليمن ـ يعني جهة اليمن ـ فاستنام ـ أي انحاز ـ إلى حي من البدو واستخفى فيهم. وأراد الخروج بالمدينة في وقت من الأوقات ، فأشار عليه أصحابه بأن لا يفعل ذلك ، وقالوا : المدينة والحجاز تسرع إليهما العساكر ، ولا يتمكن فيهما من الميرة.

ولم يزل على هذه الطريقة مثابرا على الدعوة صابرا على التغرب والتردد في النواحي والبلدان ، متحملا للشدة ، مجتهدا في إظهار دين الله.

ولقد حاول المأمون كثيرا في مصافاة الإمام القاسم ليأمن جانبه ، فلم يحصل على طائل.

حكى الإمام الهادي يحيى بن الحسين عن أبيه ، أن المأمون كلف بعض العلوية أن يتوسط بينه وبين القاسم عليه‌السلام ويصل ما بينهما ، على أن يبذل له مالا عظيما ،

__________________

(١) الإفادة / ١٢٥ ـ ١٢٦.

فخاطبه في أن يبدأ بكتاب أو يجيب عن كتابه ، فقال القاسم : لا يراني الله تعالى أفعل ذلك أبدا!!

وحمل الحروي ـ وهو حي من جذام ـ إلى الإمام القاسم سبعة أبغل عليها دنانير فردها ، فلامه أهله على ذلك ، فقال :

تقول التي أنا ردء لها

وقاء الحوادث دون الردى

ألست ترى المال منهلّة

مخارم أفواهها باللهى

فقلت لها وهي لوامة

وفي عيشها لو صحت ما كفى

كفاف امرئ قانع قوته

ومن يرض بالعيش نال الغنى

فإني وما رمت في نيله

وقبلك حب الغنى ما ازدهي

كذي الداء هاجت له شهوة

فخاف عواقبها فاحتمى (١)

ولما اجتمع أمره وقرب خروجه بعد وفاة المأمون وتولي محمد بن هارون الملقب بالمعتصم ، تشدد محمد هذا في طلبه ، وأنفذ الملقب ببغا الكبير وأشناش في عساكر كثيرة كثيفة في تتبع أثره ، وأحوج إلى الانفراد عن أصحابه ، وانتقض أمر ظهوره» (٢).

مآسي أهل البيت

روى السيد أبو العباس الحسني بسنده ... قال : حدثنا محمد بن زكريا العلابي ، قال: صرت إلى أحمد بن عيسى بن زيد وهو متوار بالبصرة ، فسألته أن يحدثني بأحاديث؟ فقال لما طلبنا هارون (٣) خرجت أنا والقاسم بن إبراهيم ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن ، فتفرقنا في البلاد فوقعت في ناحية الري ، ووقع عبد الله بن موسى بالشام ، وخرج القاسم بن إبراهيم إلى اليمن ، فلما توفي هارون اجتمعنا بالموسم

__________________

(١) الإفادة / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) الإفادة / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٣) قال في هامش المخطوط : أراد بهارون هارون الواثق بن المعتصم بن الرشيد ، والله أعلم.

فتشاكينا ما مر علينا ونالنا.

فقال القاسم : أشد ما مر بي أني لما خرجت من مكة أريد اليمن صرت في مفازة لا ماء فيها ، ومعي ابنة عمي وهي زوجتي وبها حمل ، فجاءها المخاض في ذلك الموضع ، فحفرت لها حفرة لتتولى أمر نفسها ، وضربت في الأرض أطلب لها ماء ، فرجعت وقد ولدت غلاما وجهدها العطش ، فألححت في طلب الماء فرجعت إليها وقد ماتت والصبي حي ، فكان بقاء الغلام أشد علي من وفاة أمه ، فصليت ركعتين ودعوت الله أن يقبضه ، فما فرغت من دعائي حتى مات.

وشكا عبد الله بن موسى أنه خرج في بعض قرى الشام وقد حث عليه الطلب وأنه صار إلى بعض المسالح ، وقد تزيا بزي الأكره والملاحين ، فسخّره بعض الجند ، وحمل على ظهره وأنه كان إذا أعيى فوضع ما على ظهره للاستراحة ضربه ضربا مبرحا ، وقال لعنك الله ولعن من أنت منه.

وقال أحمد بن عيسى وكان من غليظ ما نالني أني صرت على ورزنين ومعي ابني محمد فتزوجت إلى بعض الحاكة هناك وتكنيت بأبي جعفر الجصاص ، فكنت أغدو فأقعد مع بعض من آنس به من الشيعة ، ثم أروح إلى منزلي كأني قد عملت يومي ، وأولدت المرأة بنتا ، وتزوج ابني محمد إلى بعض موالى عبد القيس هناك ، وأظهر مثل الذي أظهرته ، فلما صار لابنتي نحو عشر سنين ، طالبني أخوالها بتزويجها من رجل من الحاكة له فيهم قدر ، فضقت ذرعا لما دفعت إليه ، وخفت إظهار نسبي وألحّ القوم علي في تزويجها ، ففزعت إلى الله تعالى وضرعت إليه في أن يختار لها ويقبضها ، ويحسن علي الخلف ، فأصبحت والصبية عليلة ثم ماتت من يومها ، فخرجت مبادرا إلى ابني محمد أسرّه ، فلقيني في الطريق وأعلمني أنه ولد له ولد فسميته عليا ، فهو بناحية ورزنين لا أعرف له خبرا ، للاستتار الذي أنا فيه (١).

والملاحظ على هذه الرواية ذكر هارون الرشيد مع أنه توفي في جمادى الآخرة سنة (١٩٣ ه‍) ، يعني قبل خروج محمد بن إبراهيم بست سنوات ، وأيضا فإن عبد الله بن

__________________

(١) تتمة المصابيح / ٣٢١. ونحوه في أمالي أبي طالب / ٩٩.

طاهر كان واليا على مصر للمأمون وقبله أبوه طاهر بن الحسين ، وهو الذي ضيق على الإمام القاسم كما تقول الرواية السابقة ، وأنه توجه إلى اليمن.

وأيضا فإن هذه الرواية تفيد أنه تم اللقاء بين أحمد بن عيسى بن زيد ، والإمام القاسم بن إبراهيم ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن في الموسم ، يعني الحج.

ومثل هذا اللقاء وقع في الكوفة في بيت محمد بن منصور المرادي عند ما بايعوا الإمام القاسم البيعة الثانية سنة (٢٢٠ ه‍) ، يعني بعد وفاة المأمون بسنتين ، لأنه توفي كما تؤكد المصادر التاريخية سنة (٢١٨ ه‍) ، يعني أنه بويع في زمن المعتصم محمد بن هارون الرشيد.

كل هذا يؤكد أن ذكر هارون الرشيد في الرواية السابقة سهو ، وإنما هو المأمون بن هارون الرشيد.

* * *

اللقاء التاريخي لأهل البيت

البيعة الثانية سنة (٢٢٠ ه‍):

بويع الإمام القاسم البيعة الثانية وعمره (٥١) سنة ، روى السيد أبو العباس الحسني قال : وحدثنا محمد بن منصور بالكوفة سنة تسعين ومائتين ، قال : كنت في منزلي بالكوفة سنة عشرين ومائتين كئيبا حزينا ، لما فيه آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فيه شيعتهم ، حتى استأذن عليّ أبو عبد الله أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين صلوات الله عليه ، فاستقبلته وأدخلته منزلي ، فرحبت به وسرتني سلامته [قادما] من البصرة ، ثم ما شعرت بشيء وأنا في الحديث معه ، والتوجع لما فيه أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى استأذن إليّ أبو محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الرسي عليه‌السلام ، فاستقبلته وأدخلته ورحبت به ، وسررت بسلامته [قادما] من الحجاز ، وجعلنا نتحدث ونذكر ما فيه الناس من الظلم والتعدي ، وما تغلب عليه الجائرون ، حتى استأذن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن عليهم‌السلام ، فغدوت واستقبلته وأدخلته الدار ، وهنأت له بسلامته وقدومه من الشام سالما ، لأنه كان يكون بجبل فكام ، وأقبل عليه أحمد بن عيسى والقاسم بن إبراهيم يسألانه عن حاله وأمره.

قال : وراءهم أبو محمد الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد عليهم‌السلام ، فجاءنا ودق علينا الباب فقمت ففتحت له ، فسلم على القوم ودعا لهم بالسلامة ، وقال : الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في دار ولي من أوليائنا.

قال محمد بن منصور : وهؤلاء هم الذين كان يشار إليهم ، ويفزع السلطان منهم ، وقد امتنعوا من الحضور عندهم وفي مجالسهم وأخذ عطاياهم.

قال محمد بن منصور : فورد عليّ من السرور ما لا أحسن أصفه ، ودهشت وأردت أن أخرج فآخذ ما يأكلون ، فقالوا إلى أين تمضي ، زرناك وتتركنا وتخرج؟!

فقلت : يا سادتي آخذ لكم ما يصلح لكم من المأكول. فقالوا : وما عندك شيء؟

قلت : بلى ، ولكني أستزيد.

فقالوا : وما عندك؟ فقلت : عندي خبز وملح ولبن وتمر. فقالوا : أقسمنا عليك لا

تزيد على هذا شيئا ، وأغلق الباب لنأمن ، فقمت واستوثقت من الباب وأغلقته ، وقدمت إليهم طبقا عليه خبز وملح وخل وتمر ولبن ، فاجتمعوا وسموا الله عزوجل ، وجعلوا يأكلون من غير حشمة حتى استوفوا ، وشربوا من ماء الفرات الذي كان عندي. وقاموا فتوضئوا للصلاة ، فصلوا صلاة الأولى فرادى ووحدانا ، فلما انقلبوا مدوا أرجلهم كل واحد على سجادته ، يتحدثون ويغتمون لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما هم فيه من الجور والظلم. وقعدت على عتبة الصفّة ليراني جماعتهم وبكيت ، وقلت : يا سادة أنتم الأئمة وأنتم أولاد رسول الله ، وأولاد فاطمة وعلي صلوات الله عليهم ، وأنتم المشار إليكم ، وأنتم أهل الحل والعقد ، وأنتم العلماء ، والأئمة من ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وولد الوصي عليه‌السلام ، وقد اجتمعتم وجمع الله بينكم ، ونحن بلا إمام ولا لنا جماعة ، ولا عيد ، فارحموا كبر سني ، واعملوا فيما يقربكم إلى الله عزوجل ، وبايعوا واحدا منكم أعلمكم وأقواكم ، حتى يكون الرضى منكم ، ترضون به الإمام لنا ، إمام نطيعه ونعرفه ، ونموت بإمام للمسلمين ، ولا نموت موتة جاهلية ، ونكون نعرفه.

فقالوا : صدقت أيها الشيخ ما أحسن ما قلت ، وإن لك ملتنا ولحمنا ودمنا ، وأنت منا أهل البيت ، وما نطقت فهو الصواب ، ونحن نفعله بإذن الله إن شاء الله تعالى.

قال : فقلت : فرحوني ولا تبرحوا حتى تبرموا ولا تؤخروا إلى مجلس آخر ، فإنا لا نأمن الحوادث!

فبرز أبو محمد القاسم بن إبراهيم وأقبل على أبي عبد الله أحمد بن عيسى ، وقال : إن شيخنا وولينا قد قال قولا صادقا متفقا ، وقد اخترتك لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت العالم القوي ، تقوى على هذا الأمر ، فقد رضيتك ورضي أصحابنا ، فتول هذا الأمر ، ومدّ يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله فأنت الرضا ، ما تقولون يا أصحابنا؟ قالوا جميعا : رضى رضى.

فقال أحمد بن عيسى : لا والله وأنت يا أبا محمد حاضر ، إذا حضرت فلا يجب لأحد أن يتقدمك ، ويختار عليك ، وأنت أولى بالبيعة مني.

فقال القاسم : اللهم غفرا اللهم غفرا ، أرضاك وأسألك أن تقوم بأمة محمد صلى

الله عليه وآله ، فتحيله علي؟! فقال : لا يكون ذلك وأنت حاضر.

قال : ثم أقبل القاسم على عبد الله بن موسى ، فقال : يا أبا محمد قد سمعت ما جرى ، وقد امتنع أبو عبد الله أن يقبل ما أشرت به ، وأنت لنا رضى ، وقد رضيتك لعلمك وزهدك.

فقال يا أبا محمد : نحن لا نختار عليك أحدا ، وقد أصاب أبو عبد الله فيما قال ، وأنت الرضى لجميعنا.

فقال : اللهم غفرا ، أحلت عليّ أنت أيضا؟! لما تزهدون في النظر لأمة أبيكم محمد وللناس عامة؟!

ثم أقبل على الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد ، فقال : فأنت يا أبا محمد اقبل هذا الأمر ، فإنك أهل له وأنت قوي على النظر فيه ، والبلد بلدك ، وتعرف من أمر الناس ما لا نعرف.

فقال : يا أبا محمد والله لا يتقدم بين يديك أحد إلا وهو مخطئ ، أنت الإمام وأنت الرضى وقد رضينا بك جميعا.

فقال القاسم : اللهم غفرا اللهم غفرا.

قال : ثم إن أحمد بن عيسى أقبل على القوم فقال : إن أبا محمد لنا رضى ، وقد رضيت به ، قال عبد الله بن موسى ، والحسن بن يحيى : صدقت أيها الشيخ.

قال محمد بن منصور : فخفت أن يفوتنا وقت الصلاة للعصر ، ولم يبرموا حتى انتبز أحمد بن عيسى القاسم بن إبراهيم وأخذ يده ، وقال : قد بايعتك على كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت الرضا. فجعل القاسم يقول : اللهم غفرا اللهم غفرا.

ثم بايعه عبد الله بن موسى ، والحسن بن يحيى ورضوا به ، وقال لي : بايع ، فقمت إليه : وبايعت القاسم بن إبراهيم على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال لي القاسم : قم يا أبا عبد الله وأذّن ، وقل فيه : حيى على خير العمل ، فإنه هكذا نزل به جبريل عليه‌السلام ، على جدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقمت وأذنت وركعت وأقمت ، فتقدم القاسم بن إبراهيم فصلى بنا جماعة صلاة العصر ، وباتوا عندي تلك الليلة ، فصلى بنا المغرب والعشاء جماعة ، فلما أصبحوا

تفرقوا ومضى القاسم بن إبراهيم إلى الحجاز ، وأحمد بن عيسى إلى البصرة ، وعبد الله بن موسى إلى الشام ، ورجع الحسن بن يحيى إلى منزله ، فكانوا على بيعة القاسم عليه‌السلام (١).

جهاد الإمام

إن الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والخروج على الحاكم الظالم ، بالثورة المسلحة يعتبر الأصل الخامس من أصول الدين لدى الزيدية ، فإذا كان الجهاد يوازي أو يرقى إلى مستوى توحيد الله وعدله ، فلا عجب إذا إن رويت الأرض من دماء شهداء الفضيلة ـ الزيدية ـ ولا عجب أيضا إن ملأت قبورهم ساحات العراق وإيران واليمن والمغرب والمدينة وسائر البقاع ، فما ذلك إلا ضريبة لازمة للحق الذي آمنوا به ، وثمن مدفوع للشعار الذي رفعوه.

قال الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب : والله لم أخرج أشرا ولا بطرا ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه.

وقال الإمام زيد بن علي : والله لوددت أن يدي معلقة بالثريا ثم أقع حيث أقع على أن يصلح الله بي أمر أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال وقد خفقت الرايات على رأسه : الحمد لله الذي أكمل لي ديني ، والله إني كنت أستحيي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن أرد عليه ولم آمر في أمته بمعروف ولم أنه عن منكر.

وقال : والله لوددت أنها تؤجج لي نار ثم أقذف فيها على أن يصلح الله بي أمر أمة جدي.

وقال الإمام زيد في دعوته ـ البيان والبرنامج السياسي لثورته ـ : أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله ، وإماتة البدع ، وإحياء السنن ، وإعطاء المحرومين ، والدفع

__________________

(١) تتمة المصابيح لأبي العباس الحسني / ٣٢١ ـ ٣٢٥. (مخطوط).

عن المستضعفين ، وقسم الفيء بينكم بالسوية ، ونصر الحق وأهله.

وقال الإمام زيد لولده يحيى وهو يجود بنفسه : ما أنت صانع يا بني؟ قال : أقاتلهم وأجاهدهم. قال : نعم ، يا بني ، جاهدهم فو الله إن قتلاك في الجنة وإن قتلاهم في النار.

فإذا كانت هذه وصية الوالد لولده وهو يجود بنفسه فما ظنك بمرتبة الجهاد عند هؤلاء القوم؟!

وقال الإمام يحيى بن زيد :

يا بن زيد أليس قد قال زيد

من أحب الحياة عاش ذليلا

كن كزيد فأنت مهجة زيد

تتخذ في الجنان ظلا ظليلا

وقال الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية :

منخرق الخفين يشكو الوجى

تنكبه أطراف مرو حداد

شرّده الخوف وأزرى به

كذاك من يكره حر الجلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

إن يحدث الله له دولة

يترك آثار العدى كالرماد

وقال إبراهيم بن عبد الله يرثي أخاه محمدا :

سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا

فإن بها ما يدرك الطالب الوترا

ولست كمن يبكي أخاه بعبرة

يعصرها من جفن مقلته عصرا

ولكنني أشفي فؤادي بغارة

ألهب في قطري كتائبها جمرا

وقال الإمام الحسين بن علي الفخي وهو على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا ابن رسول الله ، على منبر رسول الله ، وفي حرم رسول الله ، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله الله ، وإلى أن أستنقذكم مما تعلمون.

وكان يقول عند البيعة : أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى أن يطاع الله ولا يعصى ، وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد ، وعلى

أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعدل في الرعية ، والقسم بالسوية ، وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدونا ، فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا ، وإن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم.

وقال محمد بن إبراهيم الرسي : وقد رأى امرأة على مزبلة تأخذ دجاجة ميتة! ما تفعلين يا أمة الله؟! فقالت : استرني سترك الله ، فإن لي أيتاما لا أجد قوتهم إلا من هذا.

فبكى بكاء شديدا ، وقال : أنت وأمثالك يضطرونني أن أخرج غدا فأقتل في سبيل الله.

وقال الإمام القاسم بن إبراهيم :

عسى مشرب يصفو فتروى ظمية

أطال صداها المنهل المتكدر

عسى بالجنوب العاريات ستكتسي

وبالمستذل المستضام سينصر

عسى جابر العظم الكسير بلطفه

سيرتاح للعظم الكسير فيجبر

عسى بالأسارى سوف تنفك

وثائق أدناها الحديد. المسمر

عسى صور أمسى لها الجور دافنا

سينعشها عدل فتحيا وتنشر

عسى الله لا تيأس من الله إنه

يسير عليه ما يعز ويكبر

عسى فرج يأتي به الله عاجلا

بدولة مهدي يقوم فيظهر

يقسم أعشار ويشبع ساغب

وينصف مظلوم ويوسع مقتر

ويظهر حكم الله في كل شارق

وينشر معروف ويقمع منكر

هكذا إذا نظرة الزيدية إلى الجهاد والثورة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، ونصرة المظلومين ، والدفع عن المحرومين. وهكذا تشرّب الإمام القاسم حب الجهاد ونشأ عليه منذ نعومة أظفاره ، فآباؤه بين قتيل في ساح الوغى ، أو قتيل في أعماق السجون ، أو مبني عليه وهو حي ، فما فت ذلك في عضده ، ولا زاده إلا تصميما وتشميرا للجهاد.

فإني من القوم الذين يزيدهم

قسوّا وبأسا شدة الحدثان

ظل في مصر يدعو لبيعة أخيه محمد بن إبراهيم فترة من الزمن حتى استشهد أخوه ، ثم دعا إلى نفسه ، وتغرب عن الأوطان ، وتنقل بين البلدان ، رافعا راية الجهاد ، ومبينا حق الله على العباد ، حتى سقط عنه فرض الجهاد بالسيف ، لقلة الأنصار ، فتوجه إلى جهاد آخر جهاد القلم للدفاع عن مفاهيم الدين الحنيف ، ورد شبهات الملحدين ، وتأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين.

وتوجه إلى إعداد جيل من المجاهدين ، من أبنائه وأحفاده ، وأصحابه. ولقد أثمر الشجر الذي غرسه ، وأينع الثمر الذي حرسه ، وما حفيده الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم إلا دوحة من تلك الشجرة الباسقة ، وجذوة من شلال النور الذي ملأ الأفق واستنار.

علم الإمام

مرحلة التلقي :

تربى الإمام القاسم ونشأ في وسط أسرة علمية موصولة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، زقت العلم زقا.

ينهل من معين نبعها الصافي ، ويرشف من سلسبيلها العذب.

تلقى تعليمه على يد أبيه وأعمامه الذين كانوا شامة في جبين الزمن ، يشار إليهم بالبنان علما وزهدا وورعا وجهادا.

وكان شغوفا بالبحث ، والتوفر على دقائق علم الكلام ، يلتقي بعلماء الطوائف باحثا ومناظرا ، حتى استقام عوده ، وقوي زنده ، مع فطنة متوقدة ، ونظر صائب ، وفكر نافذ.

قال الإمام القاسم عن نفسه : والعقول حظوظ متقسمة ، والأخلاق غرائز مستحكمة ، فالحازم مغتبط بما ألهم ، جذل بما قسم ، والمفرّط متأسّ على ما حرم ، يقرع

سنّه من الندم ، فإن قهر نفسه على تعوّض ما فرط ، أورده صغر الهمم في أعظم الورط ، وإن تمادى في التقصير ، دحض دحضة الحسير.

وإني لما زايلت قلة الآثام ، وخضت في أفانين الكلام ، وناسمت كثيرا من علماء الأنام ، أطللت على مكنون من العلم جسيم ، واستدللت على نبأ من ضمائر القلوب عظيم ، لأن صحيح الجهر ، يدل على كثير من مكنون السر.

واطلعت على ذلك بخصال أوتيتها ، وأخر تجنبتها ، فأما اللواتي أوتيت فذكاة الفطنة ، وقلة المشاحة في المحنة ، والاصغاء لأهل الافتنان ، والقبول من ذوي الأسنان ، وكثرة الاقتباس من أولي الحكم والأذهان ، والزهادة في الزائل الفان ، وصحة الناحية ، وتكافئ السريرة والعلانية ، وسلامة القلب ، وحضور اللب ، فافهموا يا بني.

وأما اللواتي اجتنبتها ، فمهازلة الحمقاء ، ومشاحنة الأدباء ، وترك ما تشره إليه النفس من عرض الدنيا ، والمكاثرة والحقد ، والظغن والحسد ، والاسترزاء للحرّ والعبد ، والمماكسة فيما يكسب الحمد.

يا بني فبعض هذه الخصال طبعت عليه بالتركيب ، وبعضها استعنت عليه بقبول تأديب الأديب ، والتمثل بالأريب اللبيب ، مع رغبة حداني عليها طلب الازدياد ، مما أرجو به النجاة في المعاد ، والزلفة يوم التّناد.

علم الإمام بلغة العرب

لقد هضم الإمام علوم الشريعة الإسلامية واستوعبها استيعابا دقيقا ، أصولا وفروعا وآدابا وأخلاقا.

ومما أعانه على ذلك ما ذكر سالفا من ذكاة الفطنة ، والحرص على الاستزادة والاستفادة من كل من له علم أو حكمة ، إضافة إلى معرفته الكاملة للغة العربية وآدابها ، فهو سليقي كما قيل :

ولست بنحوي يلوك لسانه

ولكن سليقي أقول فأعرب

وهذه المعرفة العميقة بدقائق اللغة وأساليبها هو الذي مكنه من التوفر على ذلك العلم ، والوقوف على أسرار القرآن الكريم.

قال في كتاب المسترشد :

كذلك قال في كتابه : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)) [الملك : ١٦]. فأخبر أنه في السماء ، وكذلك قال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤]. وكذلك قال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣].

وفي : لها معان تختلف في اللغة ، ليس شيء في شيء إلا وهو لا يخلو من أحد هذه المعاني التي نحن ذاكروها إن شاء الله.

١ ـ إما أن تكون فيه ، بمعنى قول القائل : الناس في عامهم هذا مخصبون.

٢ ـ أو يكون الشيء في الشيء محويا كاللبن في وعائه.

٣ ـ أو يكون الشيء في الشيء كالحي في حياته.

٤ ـ ويكون الشيء في الشيء كالأبيض في بياضه.

٥ ـ ويكون الشيء في الشيء كالعبد في سلطان مولاه.

٦ ـ ويكون الشيء في الشيء كالمرابط في رباطه ، والغازي في غزاته ، والباني في بنائه.

فاعرف هذه اللغات ، كيف تتصرف في معانيها ، وتتوجه في تصاريفها.

٧ ـ وقد يكون أيضا معنى في : إنما هو مع. وفي القرآن مثل ذلك قول الله سبحانه :

(ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ٣٨]. فمعنى قوله : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي مع أمم. وكذلك قال : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) [الأحقاف : ١٨] ، يعني : مع أمم. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: ١٩]. أي : مع عبادك الصالحين. وقال سبحانه : (فِي تِسْعِ آياتٍ) [النمل : ١٢] أي : مع تسع آيات. وقال : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] بمعنى : معهن.

٨ ـ ومعنى آخر من تأويل في : يكون تفسيره على ما قال الله تبارك : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] يعني : على جذوع النخل. وقال : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف : ٤٢]. يعني : عليها. وقال :

(يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) [السجدة : ٢٦]. يعني : يمرون على قراهم.

٩ ـ ومعنى آخر من معاني في : يكون تفسيره إلى. وذلك قوله عزوجل : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧]. يعني : إليها.

١٠ ـ وقد يتجه تفسير في : إلى معنى آخر ، قال الله سبحانه في كتابه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) [الإسراء : ٧٢]. أي : عن هذه النعمة ، وعن ذكر آياتي ، فهو في الآخرة أعمى.

١١ ـ وقد يتجه على معنى آخر ، في قول الله فيما أخبر عن فرعون ، وقوله لموسى عليه‌السلام : (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١٨] أي : عندنا ، وقال : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) [هود : ٩١]. بمعنى عندنا.

وقال الإمام القاسم في كتاب المسترشد أيضا : اعلموا رحمكم الله أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه كلامه ، لسانا عربيا مبينا ، أوجز البلاغات وأبلغه إيجازا ، وليس للأميين في اللغة أن يتأولوا في الكتاب ما لا يدركه المتأولون من رباني اللغة والكتاب ، وقد علم رباني اللغة أن لها تصاريف المذاهب وفنون الجهات ، وأنها ذات قيم وأمواج وأطناب ولطائف ودقائق في بيان.

وإن فرقة من البدعيّة استعجمت في كتاب الله ، وسارعت في تأويله من غير فصاحة بالتأويل ، ولا فهم في التنزيل ، ولا آلة في العلم باللغات.

قال الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عن الإمام القاسم : ولقد سمعته يقول : قرأت القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ، ما علمي بتأويلها بدون علمي بتنزيلها(١).

وهكذا نجد الإمام عالما بدقائق اللغة ومعانيها ، مكّنه من الاطلاع الكريم على مقاصد القرآن وأسراره.

__________________

(١) تتمة المصابيح / ٣٢٧.

فصاحة الإمام وبلاغته

لقد ولد الإمام القاسم سنة (١٦٩ ه‍) وعاش وتربى في بيت النبوة والرسالة ، يتلقى العلم عن آبائه ، أسرة العلم والحلم والحكمة ، وتربى بعيدا عن تأثير اللغات الدخيلة على العربية الفصحى ، من لغات الداخلين في الإسلام من العجم من فرس وروم وخزر وصقالبة وبربر وسائر لغات الأفارقة ، فبقي عربيا نقيا سليقيا ، وعباراته الجزلة وألفاظه الغربية ، وتراكيبه المتينة ، وسبكه المنظوم ، تدل بما لا يدع مجالا للشك على أصالة لغته ، ونقاء ثقافته.

وفوق هذا كله فالإمام شاعر مطبوع عذب المورد ، مشرق المعنى ، وأديب متضلع في فنون الأدب ، متقن لعلوم اللسان ، عارف بأخبار العرب ، مطلع على لغاتها ، راو لأشعارها وأمثالها ، كاتب بديع الإنشاء ، حسن الترسل ، ناصع البيان ، وهو ناثر لا يدانى من غير تكلف.

فجميع كتبه التي تزيد على الثلاثين ، مصوغة بطريقة الشعر المنثور أو النثر المشعور ، ما عدى سبعة كتب ، هي : المسترشد ، والرد على المجبرة ، والرد على الملحد ، والرد على الرافضة ، والعدل والتوحيد ، والإمامة كتابان.

ولك أن تتخيل أيها القارئ وعورة هذا المسلك ، وصعوبة هذا السبيل ، سيما والمواضيع التي تناولتها تلك الكتب أهم وأخطر المواضيع الكلامية والفلسفية والعرفانية والفقهية ، فترى الإمام القاسم مع هذا يلتزم بالنثر المشعور دون أن تلحظ في لغته أدنى تكلف أو ضعف ، بل يمضي على سليقته العربية التي خصه الله بها. حتى نصوص التوراة والإنجيل والزبور فإنه يصيغها بلغته الشاعرية الرقيقة ، محافظا على المعنى كله دون ما تغيير ، وستلاحظ أيها القارئ النصوص الأصلية للتوراة والإنجيل مقارنة بالنصوص المصوغة بلغته الشاعرية ، فلا تجد أي اختلاف في المعنى. ولن أضرب لك مثلا على ذلك ، لأن كتبه كلها أمثلة على ما ذكرت.

شاعرية الإمام

لم يبق فن من فنون الأدب إلا وخاضه الإمام القاسم بمهارة وبراعة ، وشعره يعد

من قمم الشعر العربي بلاغة وفصاحة ، بلغ مقاما رفيعا في جزالته وعذوبته ، حتى كان أئمة الزيدية الكبار يجلون شعره أيما إجلال.

قال الإمام الناصر الأطروش : لو جاز أن يقرأ شيء من الشعر في الصلاة لكان شعر القاسم عليه‌السلام (١).

ونأسف كثيرا لضياع كثير من شعر الإمام القاسم ، فإن التاريخ لم يحفظ لنا إلا النزر اليسير منه ، والذي قاله في بعض المناسبات.

روى محمد بن منصور المرادي رحمه‌الله قال : سمعت القاسم بن إبراهيم ، ونحن في منزل للحسينيين يقال له : الورينة ، يقول : انتهى إليّ نعي أخي محمد وأنا بالمغرب ـ يقصد بالمغرب مصر ـ فتنحيت فأرقت من عيني سجلا أو سجلين ، ثم رثيته بقصيدة ، على أنه كان يقول بشيء من التشبيه (٢) ، ثم قال : ثم قرأها علي من رقعة ، فكتبتها ، وهي هذه :

يا دار دار غرور لا وفاء لها

حيث الحوادث بالمكروه تستبق

أبرحت أهلك من كد ومن أسف

بمشرع شربه التصدير والرّنق

فإن يكن فيك للآذان مستمع

يصبى ومرأى تسامى نحوه الحدق

فأيّ عيشك إلا وهو منتقل

وأي شملك إلا وهو مفترق

من سرّه أن يرى الدنيا معطلة

بعين من لم يخنه الخدع والملق

فليأت دارا جفاها الأنس موحشة

مأهولة حشوها الأشلاء والخرق

قل للقبور إذا ما جئت زائرها

وهل يزار تراب البلقع الخلق؟

ما ذا تضمّنت يا ذا اللحد من ملك

لم يحمه منك عقيان ولا ورق

بل أيها النازح المرموس يصحبه

وجد ويصحبه الترجيع والحرق

يهدى لدار البلى عن غير مقلية

قد خطّ في عرصة منها له نفق

__________________

(١) الإفادة / ١٢٠.

(٢) يعني : التشبيه البلاغي.

وبات فردا وبطن الأرض مضجعه

ومن ثرا هاله ثوب ومرتفق

نائي المحل بعيد الأنس أسلمه

برّ الشفيق فحبل الوصل منخرق

قد أعقب الوصل منك اليأس

منك القرائن والأسباب والعلق

يا شخص من لو تكون الأرض

ما ضاق منّي بها ذرع ولا خلق

بينا أرجيك تأميلا وأشفق أن

يغبّر منك جبين واضح يقق

أصبحت يحثى عليك الترب في

حتى عليك بما يحثى به طبق

إن فجّعتني بك الأيام مسرعة

فقلّ منّي عليك الحزن والأرق

فأيّما حدث تخشى غوائله

من بعد هلكك يغنيني به الشفق (١)

وقال أبو طالب : أنشدني أبو العباس الحسني رحمه‌الله ، قال : أنشدني عبد الله بن أحمد بن سلام رحمه‌الله ، قال : أنشدني أبي ، قال : أنشدني القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام لنفسه ، في مرثية أخيه محمد بن إبراهيم عليهما‌السلام :

صرم الكرى وصل الجفون

وشحاك فقدان الخدين

مما يهيج لك الأسى

خلجات صرف نوى شطون (٢)

بعثت سواكب عبرة

غرقت لها مقل العيون

وأخ يجير على الحوا

دث أعتريه ويعتريني

ختر الزمان بعهده

وسطت عليه يد المنون

فنعى إليّ مصابه

نفسي وغيّض من شئوني (٣)

علق المنون تصرمي

آنت مفارقة المنون

__________________

(١) مقاتل الطالبيين / ٥٥٣ ـ ٥٥٥.

(٢) النوى : البعد. وشطون : بعيد.

(٣) الشأن : الخطب ، ومجرى الدمع إلى العين ، ولعل المراد : ونقص من مجرى الدمع إلى العين كناية عن كثرة البكاء.

عفت المنى وطويت عن

علق المنى كشحا فبيني

ما فاز بالخفض امرؤ

جعل المنى أدنى قرين

لهفان يتبع نفسه ال

آمال حينا بعد حين

غمر الرجاء فؤاده

ودهته أنجية الظنون

يسموا إلى كذب المنى

ويعوذ بالعهد الخؤن

لم يقض من حاجاته

وطرا ولم يمهد لدين

نصبا لكل مهمّة

حمّال أعباء الحزين (١)

لله درّ عصابة

باعوا التّظنّن باليقين

فسمت بهم همم العلى

عن صفقة الحظ الغبين

فتأثّلوا عزّ التقى

وذخيرة الفضل المبين (٢)

وقال الإمام أبو طالب : أنشدني أبو العباس الحسني رحمه‌الله ، قال : أنشدني عبد الله بن أحمد بن سلام ، قال : أنشدني القاسم بن إبراهيم لنفسه :

ونى التهجير والدّلج

وأقصر في المنى لحج (٣)

وطاف بحالكي وضح

عليه من البلى نهج (٤)

فقلت لنفس مكتئب

علاه من الردى ثبج (٥)

__________________

(١) النصب : العلم المنصوب.

(٢) تأثل : عظم وتأصل. الإفادة / ١١٨ ـ ١١٩.

(٣) التهجير : السير في الهاجرة. والدّلج محركة : السير أول الليل. اللجج : بمعنى الضيق.

(٤) الحالك : شديد السواد ، والمراد به هنا شعر الرأس كناية عن الشباب. ونهج البلا ، قال في تاج العروس ٦ / ٢٥٣ : وأنهج البلى الثوب أخلقه كنهجه ومنعه ينهجه نهجا ونهج الثوب بلي ولم يتشقق ، وقال ابن العربي أنهج فيه البلى : استطار.

(٥) الثبج : العظيم.

قطي ما دمت في مهل

فإن الحبل مندمج (١)

ولا تستوقري شبها

فوجه الحق منبلج

وزور القول ممحق

إذا طافت به الحجج

فهبك رتعت في مهل

أليس وراءك اللجج

وعاذلة تؤرّقني

وجنح الليل معتلج

فقلت رويد عاتبة

لكل مهمة فرج

أسرّك أن أكون رتع

ت حيث المال والبهج (٢)

وأني بتّ يصهرني

لحرّ فراقه وهج

فأسلب ما كلفت به

ويبقى الوزر والحرج

ذريني حلف قاضية

تضايق بي وتنفرج

ولا ترمين بي غرضا

تطاير دونه المهج

إذا أكدى جنى وطن

فلي في الأرض منفرج (٣)

وقال الإمام القاسم لما لامه أهله على رد هدية المأمون :

تقول التي أنا ردء لها

وقاء الحوادث دون الردى

ألست ترى المال منهلّة

مخارم أفواهها باللهى

فقلت لها وهي لوّامة

وفي عيشها لو صحت ما كفى

كفاف امرئ قانع قوته

ومن يرض بالعيش نال الغنى

__________________

(١) قطي : حسبك. وأدمج ، قال في التاج : أدمج الحبل : أجاد فتله.

(٢) البهج : الارتياح والسعادة.

(٣) كدى الأرض : أبطأ نباتها ، وأكدى الزرع ساءت نبتته. والكداء ككساء : المنع. والجنى هو : النبات. والقصيدة في الإفادة / ١١٧ ـ ١١٨.

فإني وما رمت في نيله

وقبلك حب الغنى ما ازدهى

كذي الداء هاجت له شهوة

فخاف عواقبها فاحتمى (١)

وقال ناقدا الوضع السياسي الفاسد ، والجبروت الظالم ، راجيا الفرج في تغيير ذلك الواقع المتردي ، ليتغير حال المستضعفين الجياع العراة ، والسجناء المقيدين ، منتظرا دولة المهدي عليه‌السلام ، الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، وهي قصيدة مشهورة يتناقلها الناس ، روى الإمام الهادي عليه‌السلام منها شطرا (٢) ، وتكملتها في آخر أحد مخطوطات المجموع ، قال فيها :

زمانك هذا أيها المتجبر

وإن قال فيه القائلون فأكثروا

زمان الهوى والحق والحق والهوى

إذا اجتمعا فالحق أعلا وأنور

نسيت أم استوحشت من دار فتنة

رأينا الهوى فيها على الحق يؤثروا

أديل الهوى فيها على الحق دولة

أحارت ذوي الألباب حتى تحيروا

أسى شبهت والناس يجزون بالأسى

فلا ينكرون الظلم والظلم منكر

تظالم أهل الأرض حتى كأنما

به أمروا وهو الذي عنه حذروا

يقولون حكم الله بالجور أمره

وحاشا لحكم الله بل عنه يزجر

فيا مستسيغ الظلم يشجيك غبه

ظلمت وحكم الله بالحق أأمر

عسى مشرب يصفو فتروى ظمية

أطال صداها المنهل المتكدر

عسى بالجنوب العاريات ستكتسى

وبالمستذل المستضام سينصر

عسى جابر العظم الكسير بلطفه

سيرتاح للعظم الكسير فيجبر

عسى بالأسارى سوف تنفك عنهم

وثائق أدناها الحديد المسمر

عسى صور أمسى لها الجور دافنا

سينعشها عدل فتحيا وتنشر

عسى الله لا تيأس من الله إنه

يسير عليه ما يعز ويكبر

عسى فرج يأتي به الله عاجلا

بدولة مهديّ يقوم فيظهر

__________________

(١) الإفادة / ١٢٧.

(٢) انظر درر الأحاديث النبوية / ١٠٩ ـ ١١٠.

تقسم أعشار ويشبع ساغب

وينصف مظلوم ويوسع مقتر

ويظهر حكم الله في كل شارق

وينشر معروف ويقمع منكر

ويجلد سكران ويقطع سارق

وتنفى ظلامات وترجم عهّر

وينعش من قد كان في الجور خاملا

ويستر عدلي ويخمل مجبر

ويحيا كتاب الله بعد مماته

وذاك بمنّ الله والله أكبر

وقال في العظة :

أترقد والمنايا طارقات

ولا تغترّ في طول الحياة

تزوّد من حياتك للممات

كأنك قد أمنت من البيات

أتضحك أيها العاصى وتلهو

ونار الله تسعر للعصات

فيا قلبى فلم تزدد رجوعا

وتعرض عن عظات ذوي العظات

وقال أيضا :

مضى عمري وقد حصلت ذنوب

وعزّ عليّ أني لا أتوب

نطهّر للجمال لنا ثيابا

وقد صدئت لقسوتها القلوب

وأعربنا الكلام فما لحنّا

ونلحن في الفعال فلا نصيب

وقال أيضا :

أعارك ما له لتقوم فيه

بطاعته وتعرف فضل حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن

قويت على معاصيه برزقه

تبارزه بها يوما وليلا

وتستحيي بها من شر خلقه

وقال أيضا :

صنيع مليكنا حسن جميل

فما أرزاقنا عنا تفوت

فيا هذا سترحل عن قريب

إلى قوم كلامهم السكوت

وقال أيضا :

سبحان ذي الملكوت أتت ليلة

محضت بوجه صباح يوم الموقف

لو أن عينا أوهمتها نفسها

أن المعاد مصور لم تطرف

حتم الفناء على البرية كلهم

والناس بين مقدم ومخلف

وقال أيضا :

اخضع لربك في الصلاة ذليلا

واذكر وقوفك في الحساب طويلا

وقال أيضا :

أفنيت عمرك إدبارا وإقبالا

تبغي البنين وتبغي الأهل والمالا

فالموت هول فكن ما عشت

من هوله حيلة إن كنت محتالا

فلست ترتاح من موت ومن نصب

حتى تعاين بعد الموت أهوالا

أملت بالجهل عمرا لست تدركه

والعمر لا بد أن يفنى وإن طالا

كم من ملوك مضى ريب الزمان

قد أصبحوا عبرا فينا وأمثالا

وقال أيضا :

يا من شكا حافظاه خلوته

حين خلاء والعباد ما فطنوا

لم يهتك الستر إذ خلوت به

بر لطيف كفّا له المنن

وقال أيضا :

فلا تجزع إذا أعسرت يوما

فقد أيسرت في الدهر الطويل

ولا تيأس فإن اليأس كفر

لعل الله يغني عن قليل

ولا تظن بربك ظن سوء

فإن الله أولى بالجميل

وقال أيضا :

لقد علمت وما الإشفاق من خلقي

أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى إليه فيعنيني تطلّبه

ولو كففت أتاني لا يعنّيني

لا خير في طمع يدني إلى طبع

ورغفة من قليل العيش تكفيني

وقال أيضا :

أسلفت من عمرك ما قد مضى

منهمكا في غمرات الخطل

حتى إذا القوة زالت وقد

أقعدك العجز وحلال فشل

تبت إلينا في صدار الحيا

مستعجما فيك فنون الخجل

فأنت عندي بمحل الرضى

وقد غفرنا لك كل الزلل

وقال أيضا :

إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا

ولم ترض مخلوقا فما شئت فاصنع

وقال أيضا :

إذا أمسى وسادي من تراب

وبت مجاور الرب الرحيم

فهنأني أصيحابي وقالوا

لك البشرى قدمت على كريم (١)

وقال أيضا :

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله

إذا كنت فارغا مستريحا

وإذا هممت بالزور والبا

طل فاجعل مكانه تسبيحا

وقال أيضا :

اغتنم ركعتين عند فراغ

فعسى أن يكون موتك بغتة

كم صحيح رأيت غير سقيم

ذهبت نفسه الصحيحة فلتة

وقال أيضا :

اخضع لربك في الصلاة ذليلا

واذكر وقوفك في الحساب طويلا

وقال أيضا ناهيا من الكذب :

ما لكريم النصاب والكذب

ذاك فعال اللئام في الحسب

لو أعطي الحرّ أن يفه كذبا

ملك جميع الملوك من عرب

ما رضي الحرّ أن يميل به

لزعمة من زعائم الكذب

والزور أمر قلاه خالقنا

وذمّه في منزل الكتب

والعبد إلف له يقلبه

يميل منه في كل منقلب

__________________

(١) انظر كتاب (العالم والوافد).

يكذب إما لرغبة طمعا

أو رهبة للمجون واللعب

أعيذ نفسي ومن ولدت ومن

أحببت من قول كل مكتذب (١)

وروى الإمام الناصر أحمد بن يحيى بن الحسين عن جده القاسم بن إبراهيم قوله :

دنياي ما زال همي فيك متصلا

وإن جنابك كان المزهر الخضرا

إذا انقضت حاجة لي منك أعقبها

هم بأخرى فما ينفك مفتقرا

متى أراني إلى الرحمن مبتكرا

في ظل رحمي ورزقي قل أم كثرا (٢)

وروى له الإمام الحسين بن القاسم العياني (٣) هذه المقطوعة :

وإني لمعروف بأسوة صاحبي

ودافع ما يؤذيه بالمال والنفس

أحامي عليه إن تغير حاله

وإلا فلست القاسم العالم الرسي

بذلك وصّاني سلالة أحمد

بحفظي لأصحابي على اليسر والتعس

ومن لم يكن يوسي أخاه بنفسه

فذاك من الإملاق أهل الخنا النكس (٤)

وروى له أيضا :

لرزق يبسطه والذنب يغفره

والتوب يقبله والوعد يوفيه

لم يقض جورا ولا ظلما ولا عبثا

ولا يشاء قبيحا من معاصيه (٥)

وروى له أيضا هذا البيت :

ألم يتدبر آية فتدله

على بعض ما يأتي أم القلب مقفل (٦)

وقال ابن مظفر وله قصائد عظيمة في العدل والتوحيد ، ومن قصيدة كبيرة له ، في

__________________

(١) الهجرة والوصية / ١٠٦. (مخطوط).

(٢) الحدائق الوردية ترجمة الإمام الناصر ٢ / ٤٨. (مخطوط).

(٣) انظر كتاب العالم والوافد.

(٤) تفسير الغريب عند تفسير سورة (النجم) ، (مخطوط).

(٥) تفسير الغريب في تفسير سورة (المؤمن).

(٦) تفسير الغريب في تفسير سورة (محمد) عند قوله تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

ذلك قوله صلوات الله عليه :

إني امرؤ مذهبي التوحيد أظهره

والعدل أبديه تارات وأخفيه

ما كلف الله نفسا فوق طاقتها

ولا يعاقب إلا بعد تنبيه

ولا يعذب طفلا ما جنى أبدا

بذنب آبائه في النار يخزيه

وقال صلوات الله عليه :

تدرعت درعا للقنوع حصينة

أصون بها عرضي وأجعلها ذخرا

وأعددت للموت الإله وعفوه

وأعددت للفقر القناعة والصبرا

وقال صلوات الله عليه :

أنست إلى التّوحّد طول عمري

فمالي في البرية من أنيس

وجانبت اللئام فطاب عيشي

وجاننبني لذلك كل بوس

لأن الحر في الدنيا قليل

ونفسي لا تميل إلى خسيس

وأغناني قنوعي عن لئيم

أمد إليه ضري أو رئيس (١)

* * *

__________________

(١) الترجمان / ١٠٥ (مخطوط).

زهد الإمام

انقطع الإمام القاسم رضوان الله عليه ، إلى الله تعالى ... وعاش معه يرتل كتابه ويتدبر آياته. يسير أغواره ناظرا فيه بنور الله ، عارضا عليه سنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، معمقا حصيلته من ذلك بالمخزون الشعوري والوجداني الهائل الذي منحه الله إياه .. المتمثل بحمل هم الآخرة والدنيا ... هم الوقوف بين يدي الله ، وهم المسئولية عن عباده.

لقد سلك الكثيرون صراط التزكية ، العلم ، العمل ، إلا أن الإمام وفقه الله جل وعلا أن يبلغ في كل ذلك الذرى ... لتصبح تجربته خطا وميزانا.

لا التزكية وحدها طريق إلى العلم .. ولا العمل وحده .. بل إنهما معا بمعزل عن العمل ، زوبعة سرعان ما تتلاشى.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)) [البقرة : ٢٨٢].

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

(العلم يزكو على الانفاق) نهج البلاغة ـ الحكم ـ ١٤٧.

ولا انفاق للعلم أفضل من مواجهة سلاطين الجور بكلمة الحق .. ودعوة المستضعفين إلى نصرة دين الله وإعلاء كلمته.

وبمقدار البراءة من الطواغيت تكون ولاية الرحمن (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) [البقرة : ٢٥٦] حتى يدخل الله الولي في درعه الحصينة التي يجعل فيها من يشاء ، فيصبح عينه التي بها يبصر ، وسمعه الذي به يسمع ، ويده التي بها يبطش.

وكما تصبح الرمية رمية الله .. تصبح الكلمة كلمة الله تسديدا من الله لعبده ، ووفاء بوعد الذكر لمن ذكره ، والاستجابة لمن دعاه.

ومعارضة الإمام للسلطة الحاكمة لم تكن طمعا في منصب ، أو حرصا على حطام الدنيا ، بل كانت أداء للأمانة وأمرا بالمعروف ، ونهيا عن المنكر ، تماما كما قال جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام : والله إن خلافتكم هذا لا تساوي عندي عفطة عتر إلا أن أقيم حقا أو أدحض باطلا.

ورع الإمام

كان الإمام القاسم يمثل سيرة جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام في ورعه وخشيته لله ، فكان في رقابة دائمة لله سبحانه وتعالى ، ينحسس مواطن رضاه فيتبعها ، ومواطن غضبه فيجتنبها.

قال الإمام أبو طالب : حدثني أبو العباس الحسني رحمه‌الله قال : سمعت أبا زيد بن محمد العلوي رحمه‌الله يقول : قلت لمحمد بن منصور : الناس يقولون : إنك لم تستكثر من القاسمعليه‌السلام. قال : بلى ، صحبته فيما كنت أقع إليه خمسا وعشرين سنة. فقلنا له : إنك لست تكثر الرواية عنه! قال : كأنكم تظنون أنا كلما أردناه كلمناه! من كان يجسر على ذلك منا؟! ولقد كان له في نفسه شغل ، كنت إذا لقيته كأنما ألبس حزنا لتأسفه على الأمة ، وما أصيب به من الفتنة من علماء السوء وعتاة الظلمة (١).

وروى الإمام أبو طالب عن أبي عبد الله الفارسي ـ وكان خادم الإمام القاسمعليه‌السلام وملازمه في السفر والحضر ـ قال : دخلنا معه عليه‌السلام حين اشتد به الطلب ـ أظنه قال : أوائل بلاد مصر ـ فانتهى إلى خان ـ يعني فندقا ـ فاكترى خمس حجر متلاصقات ، فقلت له : يا بن رسول الله نحن في عوز من النفقة ، وتكفينا حجرة من هذه الحجر. ففرغ حجرتين عن اليمين وحجرتين عن اليسار ، ونزلنا معه الوسطى فيهن. وقال : هو أوقى لنا من مجاورة فاجر ، وسماع منكر (٢).

وروى أبو الفرج الأصبهاني أن الإمام القاسم : أراد الخروج واجتمع له أمره ، فسمع في عسكره صوت طنبور ، فقال : لا يصلح هؤلاء القوم أبدا ، وهرب وتركهم (٣).

وروى الإمام أبو طالب عن أبي عبد الله الفارسي قال : حججنا مع القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، فاستيقضت في بعض الليل وافتقدته ، فخرجت وأتيت المسجد الحرام ، فإذا أنا به وراء المقام لاطئا بالأرض ساجدا ، وقد بل الثرى بدموعه ، وهو

__________________

(١) الإفادة / ١٢٥. تتمة المصابيح / ٣٢٧. الشافي ١ / ٢٦٥.

(٢) الإفادة / ١٢٥.

(٣) مقاتل الطالبين / ٥٥٦.

يقول : إلهي من أنا فتعذبني؟! فو الله ما يشين ملكك معصيتي! ولا يزين ملكك طاعتي(١).

وكان عليه‌السلام ذا صلة قوية بالله ، ويقين عظيم.

قال أبو الفرج الأصبهاني : وأخبرنا أحمد بن سعيد ، عن محمد بن منصور ، قال : سمعت القاسم بن إبراهيم يقول : أعرف رجلا دعا الله في ليلة ، وهو في بيت فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به صاحب سليمان فجاءه السرير. فتهدل البيت عليه رطبا.

قال : وسمعت القاسم يقول : أعرف رجلا دعا الله فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي من دعاك به أجبته. وهو في ظلمة ، فامتلأ البيت نورا.

قال محمد : عنى به نفسه (٢).

كان الإمام القاسم آية في الزهد في الحياة ، لا يسترعي انتباهه مال ولا جاه ، خبر الدنيا كما خبرها جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلم يرفع إليها رأسا ، ولم يسع إليها بقدم.

قال الإمام أبو طالب : وأما زهده عليه‌السلام فمما اتفق عليه الموافق والمخالف ، ومن أحب أن يعرف طريقته فيه ، فلينظر في كتاب (سياسة النفس) ، وكان الناصر الأطروش رضي الله عنه إذا ذكره يقول : زاهد خشن (٣).

ولّد هذا الزهد في مباهج الحياة عند الإمام ، إضافة إلى العلم المستبطن لحقائق الأشياء ولّد لديه عرفانا يلحقه بعرفان جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الذي قال : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا.

روى الإمام أبو طالب عن عبد الله بن أحمد بن سلام رحمه‌الله أنه قال عن نفسه ، أو عن أبيه : لست أجسر على النظر في (كتاب الهجرة) للقاسم عليه‌السلام ، وأومئ

__________________

(١) الإفادة / ١٢٦.

(٢) مقاتل الطالبين / ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٣) الإفادة / ١١٧.

إلى أن ذلك لما فيه من التخشين والتشديد في الزهد وترك الدنيا ، والتباعد من الظالمين (١).

* * *

__________________

(١) الإفادة / ١٢٦.

مرحلة العطاء

تلك مرحلة تلقيه العلم والمعارف ، وهذه مرحلة العطاء ، فما موقعه في سلم العطاء؟ وما عطاؤه؟

ما إن كان يتناهى إلى سمعه شبهة تلقى على الإسلام ، إلا ويهب هبة الأسد الهصور ، ويثب وثبة العالم الخبير ، ليبددها ويجليها ، بحكمة الحكيم المستبصر ، وأناءة العالم المتنوّر.

الفلسفة اليونانية والفلاسفة

فها هو يفند مزاعم فلاسفة اليونان ، ويهدم صروحها ، فلقد أخذت رسالة الدليل الكبير في الرد على الزنادقة والملحدين والفلاسفة طابعا حواريا ، بين الشبهة والدليل ، والسؤال والإجابة ، والملحد والشيخ ، وهو أسلوب فلسفي قديم ، آثره الفلاسفة في كتاباتهم سيما إذا كانوا يجادلون ويناظرون الآخر ، الحجة بالحجة ، والدليل بالدليل ، بقصد الإقناع والوصول إلى الحقيقة.

إذا فضّل القاسم بن إبراهيم الحوار الجدلي الإقناعي على غيره ، فجاء أسلوبه سلسا سهلا ، يتحلى بالوضوح والبرهان ، وكلماته جزلة سهلة معبرة عن دلالاتها ، فلم نجد في أسلوبه ولا كلماته غريبا أو وحشيا من القول أو غامضا من العبارة ، وبالجملة كان أسلوبه فلسفيا خالصا ، لم يلجأ فيه للمناورة أو المداورة أو الأساليب المغالطة والسفسطة ، بل مال للتبسط ، فاعتمد الاستقراء إلى حد كبير ، وكانت النتيجة الكلية هي الإجابة عن مغالطات الفلاسفة ، وتفنيد دعاواهم الساذجة.

إذا ما تعرضنا إلى ثقافة القاسم بن إبراهيم الفلسفية ، نجده على وعي ودراية كاملة بالفلسفية اليونانية القديمة على الرغم من وجوده إبان عصر الترجمة بما يعنى أنه عرفها قبل قيام المأمون بترجمة الفلسفة اليونانية ، وهضمها وصار في طور أرقى وهو نقدها والتعرض لها بالفحص الدقيق ، خصوصا في جانبها الميتافيزيقي أو الغير الإلهي.

كما كان على دراية ومعرفة أيضا بالفلسفات الشرقية وتعرض لها بالنقد ،

والفحص الدقيق في ضوء المنهج الإسلامي القائم على توحيد الخالق.

وقفة مع العمل والعصر :

ويعد عمل الإمام الإمام القاسم بن إبراهيم من الأعمال الفريدة في عصره ، لكثرة الأدباء والمؤرخين واللغويين في عصره ، ولم نجد من أرخ للمعارك الفلسفية والجدلية بين المسلمين وغيرهم ، وهي من أهم ثقافات ذلك العصر الذي عاش فيه ، فمثلا نجد من يؤرخ للفرق الإسلامية والثورات كثورة الزيدية أو الخوارج أو الزنج ، ولا يؤرخ للجدل الذي وقعت بسببه هذه الثورات فلا ندري لم اهتم المؤرخون بتسجيل الحروب والمعارك السياسية ولم يولوا الفكر الباعث على هذه الأحداث قدر هذا الاهتمام؟! وإذا كنا بصدد الحديث عن المناظرات بين الإسلاميين والزنادقة ، فإن الأمر يصدق إلى حد بعيد.

فلا نجد في كتب الفرق الإسلامية متى ظهر لفظ الزندقة على وجه اليقين ، ولكن نجده بكثرة على ألسنة الشعراء ، ويقينا لم يكن اللفظ ولا أصحابه ذا شأن في العصر الأموي عنه في العصر العباسي ، ويرجع ذلك لطبيعة العصر العباسي العلمية ، ودخول الثقافات الأخرى على الثقافة الإسلامية مما دعا لإعادة النظر في كل شيء ، وتأثرت مناهج العلوم الإسلامية بالمناهج الوافدة بما تحمله من شك فلسفي وجدل ، كما أن الثقافة الإسلامية في العصر الأموي كانت ذات طابع نقلي نصي ، فلم يكن هناك جدال حول النص القرآني ، ومع احتكاك المسلمين بغيرهم واختلاطهم بالثقافات الشرقية والغربية ، بدأ علم الجدل والدفاع عن العقائد في مقابل الآخر والذي هو صاحب السيادة في هذا المجال.

أيضا مركزية السلطة واستبداد العرب بالحكم في العصر الأموي ، ساعد على استقرار أو لنقل ركود الثقافة العربية ، ومع استيلاء العباسيين على الحكم ، وظهور حكومات فارسية أخذت تروج لأديانها ولغاتها ، فبدأ المسلمون يدافعون عن دينهم في مواجهة المانوية والزرادشتية والمزدكية ، وكذلك الزنادقة والفلاسفة.

ولم تكن المواجهة مع الآخر فكرية فقط ، ولكن اتخذت طابعا سياسيا ، فكان للمهدي دور بارز في قمع الزنادقة والتنكيل بهم ، واستحدث وظيفة في جهاز الحكم

جديدة ، وهي صاحب الزنادقة يتعقبهم في كل مكان.

ويذكر الطبري أن الأمر في العصر العباسي الأول لم يكن هينا ، فقد ظهرت كتب الإلحاد والزندقة من مانوية وديصانية ومرقونية ، وظهرت أسماء لامعة ومعروفة من أصحاب هذه المؤلفات كحماد عجرد ، ويحيى بن زياد ، وابن المقفع ، ويعزي للمهدي أيضا بأنه أول من أمر المتكلمين بالرد على الملاحدة والزنادقة ، إذا لم يقتصر جهد المهدي على إنشاء إدارة للبحث عن الزنادقة ومحاكمتهم ، بل أضاف إلى ذلك هيئة علمية لمناظرتهم والتأليف والرد عليهم.

وحقيقة الأمر إن طبيعة العصر وانفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم اجتماعيا وثقافيا وكذلك اقتصاديا ، قد أدى لدخول الناس في دين الله أفواجا ، واختلفت مقاصد المسلمين الجدد بين صادق في إيمانه ومدع فيه ، وجاء خطأ الجميع في النظر والفهم ، ليصب تيارا عاتيا من الأفكار التي تأثر بها الإسلام تأثرا شديدا عقيدة وفكرا وتطبيقا ، ولذلك كان من الطبيعي أن يظهر المتكلمون الكبار لمواجهة هذه التيارات العاتية الطارئة على الدين.

وقد شط بشعراء العصر العباسي ، وكثير منهم غير عرب ، الهوى والمجون ، فقد تزندقوا من غير إلحاد ، وتناولوا الدين وفرائضه في شعرهم.

ولكن الحق يملي علينا القول بأن المجون غلب الشعراء ، ولم يقصد أكثرهم الإلحاد والكفر ، وإن كانت تبدأ بالاستخفاف بالدين في ليالي المجون وحول موائد الخمر وتنتهي بخلع رداء الدين والخروج منه!

أما الزندقة بمفهومها الخاص ، فقد ظهر في العصر العباسي مؤمنون في الظاهر كفار في الباطن ، فطرق الزنادقة باب الدين والأدب والعلم والفلسفة لينفثوا سمومهم ، فعملوا بشكل جماعي وفردي ، ولذلك صعب القضاء عليهم تماما ، وتعددت الأغراض من إيمان المجوس والمانوية ، فآمن بعضهم لغرض دنيوي ولتحصيل الغنى ، وآمن آخرون لإفساد العقيدة من الداخل ، كطابور خامس ، بعد عجزهم عن حربها في الميادين العسكرية والمواجهة والقتال.

وبدا واضحا أثر المواجهة الثقافية في مجال الحديث النبوي ، والذي تعرض لهجمات

شرسة من أعداء الإسلام فتناول الزنادقة الحديث بالإفساد والوضع لإفساد العقيدة وزعزعة المسلمين عن دينهم ، لأنه يضرب الأساس الثاني من التشريع فلا يستقر للمسلمين أمر ، وكيف يطمئنون لدين أسسه غير موثوق بها؟!

وإذا قد تجرأ المجوس والملاحدة على حرب الإسلام ليس في مجال الأدب فقط كما فعل صالح بن عبد القدوس وألف كتابا يسمى (الشكوك) ، ولكن تطرق حربهم إلى علوم الدين ، واعتمدوا في أحيان كثيرة أسلوب التقية والمراوغة ، وكذلك اتخذوا من سياسة الدولة شركا للإيقاع بالمسلمين في براثن الزندقة.

وهكذا عني المسلمون في هذا العصر ، بالزندقة والزنادقة ، وكان أغلب الزنادقة والملحدين من غير العرب لتأثرهم بثقافاتهم السابقة على الإسلام ، وبيئاتهم التي نشئوا فيها وتربوا عليها.

ولذلك نقول إن رد المسلمين على الزنادقة والملاحدة أمر طبيعي وقد سجلت كتب الفهارس وغيرها أسماء لامعة في هذا المجال كأمثال واصل بن عطاء (في الرد على المانوية) ، وأبي علي الجبائي في (الرد على أهل النجوم) ، (والمشبهة) ، أما أبو الهذيل العلاف فقد ألّف عشرات الكتب في الرد على المخالفين ، ومحمد بن شجاع الثلجي المعتزلي المتوفي سنة (٢٦٦ ه‍) (في الرد على المشبهة).

كما رد المتكلمون على أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى ، فنجد لأبي على الجبائي كتابا في الرد على اليهود والنصارى.

ومن هنا تتجلى أهمية كتاب الإمام القاسم بن إبراهيم في الرد على الزنادقة والملحدين والفلاسفة ، في ثقافة المواجهة والرد على الآخر ، ومحاورته دفاعا عن الدين ، وإيضاحا لحجج المخالفين ، وتحقيقا لمبدإ الجهاد في سبيل الله علميا ، وهو أحد مهام علم أصول الدين.

وهكذا نجد رسالة الإمام القاسم في الدفاع عن الدين في مواجهة المخالفين ، اعتمد فيها على المنهج الفكري الإسلامي القائم على الكتاب والسنة ، وصريح العقل بعيدا عن المنهج الفلسفي اليوناني ، مع علمه به ، وآمن بأن صحيح المنقول لا يتعارض مع صريح المعقول إن سلمت العقول من التشويش والخلط ، وسلمت النوايا في الاستقبال والفهم.

طريقة الإمام القاسم في تناول قضايا الرسالة :

اعتمد الإمام القاسم على دليل الصنعة والإحكام والإتقان في الخلق في استدلاله على الخالق وجودا وتوحيدا بالأدلة القرآنية والعقلية ، وحقيقة قدم مفهوما جيدا محصلته أن كل عقلي هو نقلي والعكس صحيح ، ولا انفصال عن الدليلين وكلاهما يعاضد الآخر.

ثم نقد المنهج اليوناني في تصوره لإدراك النفس ، وبين أن ذات الخالق مفارقة لغيرها من الذوات ، وأن ما يعقل أو يدرك بالحس أو البرهان العقلي ، كذات ، أو بأحدهما فالله خلافه ، فيقول : (لا بد من النظر لمن أراد يقين المعرفة بالله ، في تصحيح كل ما وصفنا صفة بعد صفة في معرفة الله ، ليأتي المعرفة بالله من بابها ، وليسلم بذلك من شكوك النفس وارتيابها).

فيرى أن المعرفة بالله تحتاج إلى منهج يفضي إلى اليقين ، والإدراك الحسي أو النفسي غير كافيين في هذا الصدد : (ففاسد أن يكون الله سبحانه بواحد منهما مدركا أو معروفا) والنفوس تتباين ، وغير معقول أن يكون الحق إحداها (وكل نفس فذات قوى شتى مختلفة ، كل صفة فيها فسوى غيرها من كل صفة ، واختلاف قوى كل نفس فمعروف غير منكر ، منها التوهم والفكر ، وغيرهما من التذكر والخطر).

فيتعرض للإدراك النفسي ويبين حقيقة وماهيته ، وكما أنه لا يدرك تعالى بهذه الطريقة ، فإنه لا يدرك بالوهم أو بالتشبه بالأجسام أو الظن ، أو بالدلالة على موجود مشاهد ، وكذلك لا يدرك بحال واحدة مما سبق أو بكلها ، كما أنه لا يدرك بكونه خلاف الأشياء كلها ، فالله لا يدرك بما يدرك به خلقه.

وينفي أن يكون خلاف الموجودات هو العدم لكونه : (وإنما قولنا في العدم ، إنه خلاف في الوهم ، لا في حقيقة العدم موجودة ، ولا عين منه قائمة ولا محدودة ، وإنما يطلب خلاف الأشياء كلها في حقائق الأعيان ، بما يدرك في العقل والعلم من الاختلاف ببت الإيقان).

ثم يبين أن الخلاف المتبقي بين ما يحس ويعقل ، والقرآن الكريم قدم الأدلة القائمة

والشهادة القاطعة على وجوده ، في الأنفس والآفاق ، والأرض والسماء وما بينهما ، كل شيء شاهد على العلم به ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)) [فصلت : ٥٣].

واستعرض الإمام القاسم العديد من الشواهد والأدلة القرآنية على وجود الله في الأنفس كدليل الخلق والنطفة ، وكذلك خلق الجماد والنبات ، واختلاف وتباين المخلوقات النباتية ، وخلق الحي من الميت والميت من الحي.

وقدم الإمام القاسم تحليلا رائعا للآيات الدالة على وجود الله وعظمة خلقه للأكوان ، ويصدق ذلك على تفسيره وتناوله لآيات سورة الواقعة ، ولفت الأنظار إلى حجاج القرآن العقلي الجدلي للكفار حين يسألهم : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)) [المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٥] ، مبينا أن الكفار لم يسعهم أمام قدرة وعظمة الخلق إلا أن يثبتوا الخالق.

كما أنه وقف مع القرآن الكريم في تطور خلق الإنسان ، وكذلك تطور أحواله بعد خروجه إلى الحياة حتى موته ، مشيرا إلى أن ذلك كله يدل على الخالق الواهب للحياة وراعيها ، حتى تطرق إلى الأنسجة الحية في نموها وحياتها وموتها.

وآية الله في خلق البحار وما فيها ، وكيف هي آية مبهرة معجزة ، والفلك التي تجري فيها آية أخرى ، وخلق الليل والنهار ، والنجوم في السماء ، والفلك والمجرات العظيمة : (فصدق الله تبارك وتعالى ، ذو الملك والقدرة والأمثال العلى ، إنه لهو الله ربنا ، ومنّا منه كان خلقنا وتركيبنا ، له الملك ومنه عجيب التدبير ...).

ومن أروع ما قدمه تحليله لآيات خلق العالم والكون ، وكيف فتق الله السماوات والأرض ، وهو بصدد استدلاله على الخالق بشواهد خلقه من الإتقان والحكمة .. (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ

وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)) [الأنبياء : ٣٠ ـ ٣٣].

ثم تعرض لدليل خلق الماء والجبال ، وتناول مبحثا فيزيقيا في خلق الأرض ، وهل هي كرة أم لا؟ وفي كونها ، هل هي فضاء أو في ماء أو هواء؟ وتعرض لأدلة المخالفين بالنقد وسخر من التصورات الخرافية والساذجة بما يدل على أن هذا المبحث لو مضى فيه المسلمون لمنتهاه لبلغوا شأوا عظيما.

وبيّن منهج القرآن في جدال الكفار والمشركين من الصابئة وعبدة النجوم والكواكب ، على لسان إبراهيم عليه‌السلام ، وحجاجه لهم في منهج استقرائي رائع على وجود الخالق ووحدانيته ، وكونه الأحق بالعبادة والخضوع والتسليم : (والحمد لله على ما أبان من برهانه وحجته ؛ لإبراهيم صلى الله عليه في محاجته ، وفي ذلك ما يقول سبحانه فيه ، لإبراهيم صلى الله عليه : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)) [الأنعام : ٨٣].

وينتهي الإمام القاسم إلى أن دليل الصنعة والخلق ، والنظر في النفس والأكوان كان منهج الرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، فهكذا كان إبراهيم ونوح ويوسف وموسى ، وينجح في تحريك الأدلة نحو الوحدانية وعبادة الله الواحد ، وأن هذا مما تقبله العقول وترتضيه الفطر السليمة ، فالتأمل والنظر مما ميز الله به الإنسان على الحيوان ، وجميع رسل الله وفوا بهذا الدور في سبيل تدليلهم على وجود الله ووحدانيته. ثم يورد الآيات : (* قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ ...) [إبراهيم : ١٠].

ويعلق على كل هذا الآيات المبهرة فيقول : (فصدق الله لا شريك له ، في أن من لم يعرف هذا كله ، صنعا له وخلقا ، وحقا يقينا صدقا ، فهو في أبين الضلال ، وأخبل صاغر الخبال ، والحمد لله كثيرا رب العالمين ، على ما أبان من حججه على الملحدين ... وكيف يشك ملحد في صنع الله للأشياء كلها ، أو فيما يرى من دق الأشياء أو جلها ، وقد يرى كيف أحكمت فاستحكمت ، وانقادت للصنعة فتقوّمت ...)!

ويتطرق الإمام القاسم بعد ذلك إلى صفات الله تعالى ، فهو غني غير محتاج ، واحد أحد فرد صمد ، وعظيم عليم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وما ليس كمثله شيء فهو خلاف لكل شيء.

وقد عرّفنا الله عليه بالتوفيق منه لنا والهداية واللطف. وبيّن أنه منزه عن كل تجسيم أو تشبيه ، ورد على الحشوية والمشبهة والمجسمة في تصوراتهم للإلهية الساذجة ..

وإذا كان هناك من الفلاسفة من أنكر وجود الله والبعث والنشور ، فإن من المسلمين من تشوش مفهومه للعدل الإلهي ، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بقضية التوحيد ، وكما احتاج الأمر في التوحيد إلى تنزيه الخالق من تصورات وأوهام باطلة لا تليق إلا بما يدرك أو يتصور من الأجسام والأعراض والأكوان ، فإن الإلهية أيضا تحتاج إلى البراءة من مثل هذه الأوهام في العدل ، وقضية العدل عند الإمام القاسم ترتكز على حكمة الله وعدله ، وما يليق بحكمه في خلقه.

فالله عزوجل الذي أنزل الحق والميزان ، ليكون الحكم بين الناس بالعدل والقسط أحق بهذا التصور ، وبكل كمال من خلقه ، وهو يمتدح بكمالات ما يمتدح به خلقه ، ولا يتصور أن يكون خلقه عدولا وهو غير عادل ، كما لا يتصور أن يكون الحق والعدل والواجب والخير بمفهومين مختلفين بين الله وخلقه كما يقول البعض ، أو أن يظلم عباده ولا يكون ظلمه لهم ظلما .. وهذا تصور لا يليق بالله ، مع أن بعض المسلمين أجاز مثل هذا التصور الموهوم المرفوض في كل العقول على الله ، حيث قالوا بأن ما يقبح من الخلق لا يقبح من الله ، وما هو ظلم في حق العباد ليس ظلما في فعل الله وأمره!

وبصدد الأصل الثالث من أصول الزيدية ، بيّن الإمام القاسم أن الله لا يخلف وعدا أو وعيدا : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] ، وأنه تعالى لا يخلف الميعاد. وهذا الأصل جاء في مواجهة تصور آخر غريب على الإسلام يقول بأن الله أن يدخل العصاة والكفار الجنة ، والمؤمنين النار ، أو يخرج الأولين ويدخلهم الجنة ، كل ذلك بلا جناية من المطيعين أو طاعة من المسيئين! .. في كلام باطل ، وتصور قبيح لا يليق بذات المخلوقين ، فضلا عن ذات الخالق!

ثم عاد ثانية فتحدث عن قضية الجبر والاختيار في حق الخلق ، وأثبت أن الإنسان مخير حر في أفعاله ، وهو أصل من أصول التكليف من غيره ، يبطل ويصير الوحي والنبوات والرسالة والأوامر والنواهي ... باطلة لا معنى لها.

ثم توجه لولده ، الذي كتب هذه الرسالة إرشادا له ، في مناظرة الملحدين والزنادقة والفلاسفة الدهريين ، ناصحا له بالتمسك بالتقوى والعمل الصالح ، حتى ينال لطف الله وهداياته التي تعينه على قضية الإيمان والعمل بمقتضياتها ، فكما أن الفرق يلحق الليل والنهار ، والظلمات والنور ، والعالم والجاهل ، والمهتدي والكافر المعاند ، كذلك يلحق من علم فعمل بما علم ، ومن علم فعصى واستكبر ، وهو أمر لا يتحقق إلا بالتقوى وموالاة المؤمنين أهل الطاعة والخشية.

ويستدل على صدق المؤمن بفعله ما أمر به ، ويخرج من ذلك لبيان أن القبح والحسن عقليان ، وأن أرباب الحكمة مأمورون شرعا بالإيمان والإقرار بمعرفة الله بعد النظر والاستدلال عقلا ، وبيان حال وهيئة وصفة من جهل الصانع : (أما رأيت العامة لما هي فيه من الجهل بالله الأعلى ، إذ جهلت ما قلنا مما كثر الله على معرفته الأدلاء ، كيف قلّت بحقائق الأمور علومها ، وضلت بعد جهلها بمعرفته حلومها ، فقالت في دينها بكل قول متناقض مذموم ..). فمن جهل الله تعالى تخبط في الأوهام الباطلة ، والتصورات الخرافية المحيرة.

أما معصية إبليس فقد كانت منه ، ولو أطاع وتاب لقبل الله منه توبته وطاعته ، ثم تطرق الإمام القاسم لصفات المؤمن ، وحقيقة الإيمان ، وصفات أهل الجنة وصفات أهل النار.

وعند هذه النقطة الفاصلة تناول الإمام القاسم المرجئة بالنقد ، وتعرض لمفهوم الإيمان عندهم : (وزعم أن الله لا يعذب من أقرّ به وبرسله وكتبه بلسانه ، وإن ارتكب كل كبيرة من كبائر عصيانه) ، وأنه لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة! .. وبين أهمية العمل بالنسبة للإيمان ، وهو ما اتفق عليه جمهور المسلمين.

وتناول مفهوم الحق والباطل ، وأقسامهما والولاء والبراء ، وأثر تصور المجبرة للعدل الإلهي في إلحاق كل نقيصة بخالقهم ، وينتهي إلى أن من كفر وعاند الحقيقة والفطرة والبراهين والاستدلالات العقلية ، خسر نفسه ولم يربحها وعاند نفسه لا غيره ، حتى إن فرعون نفسه لم يكن كافرا بحقيقة الإلهية ، ولم يناد على نفسه بها على وجه الحقيقة ، إذ ليس في مخلوق ، مهما كان شأنه ، جرأة على فعل مثل هذا ، إلا أنه قال لقومه أنه إلههم ، أي سيدهم وحسب .. ولم يتجاسر على ما يعتقده بعض الناس من أنه نادى على نفسه

بالإلهية ، ويذكّر بأدلة الله في كل شيء وآيات صنعه لها ، على حقيقة ذاته تعالى.

الملاحدة

وهذا أحد الملاحدة في مصر ، يلقي بشبهاته على علماء المسلمين في عصره ، فلا يجد من يتصدى لشبهاته بالتفنيد ، ويأخذ بيده إلى مرفأ الأمان ، بالحجة والبرهان. بل ينتقص علماء الإسلام ، ويهزأ بالإسلام ، سيما عند ما يجابه بالطرد والشتائم من العلماء العاجزين عن رد شبهته ، ونزل الإمام القاسم مصر فوجد أهل مصر يحبون آل البيت حبا شديدا ، وفتحوا بيوتهم له ، وأخفوه عن أنظار السلطة ، ومع ذلك لم يكن غائبا عما يحدث في الحياة العامة ولا في مجالس الحكام والعلماء ، وما ينزل ويحل في العامة من حوادث ، وما يجد في الحياة من حوله.

وكأثر من آثار تسامح المسلمين حكاما وشعبا مع غيرهم من أهل الذمة والكفار والملحدين والمجوس والمانوية الثنوية وغيرهم ، بدأ هؤلاء في غزو الحياة الثقافية الإسلامية ، كما أشرنا من قبل ، يناظرون العلماء ويتحرشون بالعامة ، بغية هزيمة الإسلام فكريا بعد أن هزمهم عسكريا واجتماعيا.

وسمع الإمام القاسم بما أنزل أحد الملحدين بجمهور العلماء في مصر من نكبة عرفها العامة والخاصة وسار بذكرها الركبان ، وهو في إحدى دور المصريين متخفيا ، فلم يطق ما حل بالمسلمين ونزل بالعلماء ، واقترح على صاحب الدار أن يرتب له مع هذا الملحد لقاء ومناظرة ، ينازله فيها وينتصف للإسلام وأهله منه. فأتاه به ، فلما دخل عليه قال له : (إنه بلغني أنك تعرضت لنا ، وسألت أهل نحلتنا عن مسائلك ، تريد أن تصيد أغمار بهم بحبائلك ، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله ، والذب عن دينه ، ونطفت على لسان شيطان رجيم ، (لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)) [النساء : ١١٨].

فقال الملحد : أما إذا عبت أولئك وعيّرتهم بالجهل ، فإني سائلك وممتحنك ، فإن أنت أجبت ، وإلا فأنت إذا مثلهم.

فقال الإمام القاسم ـ واضعا قواعد فن الحوار ـ : قل ما بدا لك ، وأحسن

الاستماع ، وعليك بالنصفة ، وإياك والظلم ، ومكابرة العيان ، ودفع الضرورات والمعقولات ، أجبك عنه ، وبالله أستعين وعليه أتوكل ، وهو حسبي ونعم الوكيل).

فيسأله الملحد عن الأدلة التي يعتمد عليها في إثبات الصانع ، فيجيبه الإمام بآيات قرآنية مثيرة لدفائن العقول.

ثم انطلق من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) [الحج : ٥ ـ ٦]. إلى مناقشة كون النطفة جسما ، والجسم مكونا من عرض وجوهر ، وهو محدث ، وكل محدث يحتاج إلى محدث قديم وهو الله ، الذي يخالف الأكوان ولا يشبهها في شيء منها ، وإلا كان مثلها ، ودليل القديم والمحدث مشهور ومعروف عند المتكلمين (١).

وكذلك تطرق إلى دليل الموجود والمعدوم ، أو الممكن والواجب ، وهو دليل فلسفي معروف هو الآخر (٢) ، ويقوم على فكرة أن العالم جائز الوجود ولذلك فهو محدث ، والله عزوجل واجب الوجود ولذلك فهو قديم.

وهذا يدل على تمكن الإمام القاسم من معرفة الفلسفة القديمة وهضمه لها هضما جيدا ، وأن كثيرا من أدلتهم في الميتافيزيقا وإثبات الغيبيات دخلت العالم الإسلام وعرفها وأعاد صياغتها مرة أخرى في إطار المنهج الإسلامي.

ويعترض عليه الملحد بأن فريقا من الفلاسفة لا يرى حدوث الأعراض (الأحوال) في اصطلاح الإمام ، ويتناول الحجاج عليه وينطلق منه إلى الحديث على الشيء ، وكون

__________________

(١) انظر إرشاد الجويني / ٢٨.

(٢) انظر مناهج الأدلة لابن رشد / ١٤٤.

القديم شيئا ، وشيئية المعدوم ، وهي أشياء في صميم الجدل الإسلامي مع الآخر ، والخصم في هذه المحاورة ملحد عنيد ، وغير مسالم بالمرة ، ويتطرق الإمام القاسم إلى نفي الأعراض عن القديم ، وكذلك نفي التصورات السلبية عن القديم ، فهو لا شبيه له وليس من عدد ، ونقد اليونان في تصورهم للصورة والهيولى ، وهو بذلك يسبق كثيرين من مفكري اليونان الذين نقضوا المنطق ، وهو من المفكرين الإسلاميين المجددين ، والذين أنصفوا التراث الإسلامي وأعادوا له الحياة والحركة والفاعلية وامتد تأثيرهم على القرون التي تلتهم.

أريد أن أقول بلا استطراد إنه ينبغي تلمس الفكر الحر والتجديدي المحافظ على أصالته في تراث فريق من الإسلاميين منهم الإمام القاسم بن إبراهيم ، وحفيده الهادي يحيى بن الحسين المتوفي سنة (٢٩٨ ه‍) ، وابنه الناصر أحمد بن يحيى المتوفي سنة (٣٢٥ ه‍).

ثم ناقش الملحد في فكرة الكمون ، وتبعها بنقض مقالة الدهريين القائلين بأن الطبيعة خلقت نفسها بنفسها ، وناقشه في الموجود بالقوة والموجود بالفعل عند ما قال له : (إن النواة هي تمرة بالقوة الهيولية ..) ، وهو كلام ساذج متداعي البناء ، وما كان على الإمام القاسم إلا إثبات أن حكم الأصول في الخلق هو حكم الفروع ، وقد كان ، فاختلط على الملحد.

ثم ذهب الإمام القاسم إلى وضع أسس للمعرفة إذا سار عليها الملحد استطاع الفهم والتمييز : (اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفة ، فمنها ما يعرف بالحس ، ومنها ما يعرف بالنفس ، ومنها ما يعرف بالعقل ، ومنها ما يعرف بالظن والحسبان) ، وهكذا يقدم الإمام القاسم بحثا رائعا في المعرفة ، في أثناء تناوله لقضية الإلهية من حيث الوجود.

ثم يتناول قضية علة الكون والفساد ، وانتهى ببيان كون الله علة الأشياء وفسادها ، أي : كوّنها وأفسدها من غير ما ضرورة ولا اضطرار.

ويقترب الملحد من محطة التسليم ، وتتكون لديه مسلّمات الفهم وبديهياته على يد الإمام القاسم ، ويتزعزع طاغوت الكفر في عقله وقلبه ، ويتوقف عنده الأمر على إثبات وحدانية الله الموجود الخالق ، ويتناول الإمام القاسم الدليل على الوحدانية من خلال المنهج القرآني ، فيستعين بدليل التمانع في استطراد رائع يدل على قدراته الفلسفية

والكلامية في الإقناع البرهاني ، ويتخذ من كلام الملحد عن وجود الخير والشر في العالم دليلا على الوحدانية أيضا.

ويتساءل الملحد عن علة خلق الله للعالم ، فيرده الإمام القاسم إلى كون الله الواحد الأحد القديم ، غنيا قادرا حكيما ، فلا شك أنه خلق العالم لغاية وعلة وسبب ، ولا يسع الإمام القاسم سوى الاستعانة بالنص ، في كونه تعالى خلقنا من أجل الابتلاء والامتحان والاختبار الذي تتعدد مراتبه ودرجاته وأنواعه ، والله في كل ما خلق حكيم قادر ، ولم يخلق العالم لحاجة لأنه الغني ، والقديم لا يحتاج ، ولا يسأل عن علة خلقه للأشياء ، لأن السؤال في حقه ممتنع ومرفوض ، وإلا دعا إلى الدور.

ثم فسر ـ بفكرة الاستحقاق والعوض وإحسان الله لعباده ـ ما يحدث في هذا العالم من الآلام ، فلحكمة رآها البارئ عذّب عباده بالموت ، وأصاب بعضهم بالأمراض والابتلاء في البدن والمال والأولاد ، لداعية الإحسان إليهم بعد ذلك ، ولكن ما الذي يبرر أنها إحسان ، ولم أرغم عباده على ابتلاءات هو أرادها لهم ، وما وجه الإحسان في علمه تعالى بمصائر عباده وجهلهم بها ، ولم جعل بعض عباده أغنياء وبعضهم فقراء ، بعضهم في نعمة وسرور ، وآخرون في شر وغم؟ .. كل هذه تساؤلات وجّه مثلها وقريبا منها الملحد ليتسنى له فهم ما يفعله الله بعباده .. أي ما الذي يعلل أفعاله.

ثم أعقب ذلك بالحديث عن الرسالة والنبوءات ، وهل ما جاء به الأنبياء معقول أم لا ، أو هل تعقل الشرائع وتعلل أم لا؟ .. وما المعجزات وكيف تكون؟ .. لم يهدم الله بنية هو صانعها .. ولما ذا خلق البعث والنشور ، وما الدليل عليه وكيف يكون؟

وقد رد الإمام القاسم على تساؤلات الملحد بالأدلة الشافية الكافية من المنقول والمعقول ، وسار به سيرا حميدا بلا لبس أو غموض ، حتى انتهى به الأمر أن يسلم وينطق بالشهادتين على إثر هذه المناظرة ، ويقول : (تعست أمة ظلت عن مثلك). وأسلم وحسن إسلامه ، وصار من مريدي الإمام ومحبيه ، والآخذين عليه ، مما يعني أن المناظرة حققت أهدافها كاملة ، وتكلل جهد الإمام القاسم بالنجاح ، عند ما توفر عنده المنهج السليم ، والعلم الذي صدق قواعد منهجه ، وسبق كل ذلك نية صالحة في هداية الخلق ، والدفاع عن الشرع والدين ، ونعجب أشد العجب عند ما نعلم أنه كان يجادل عن دينه وينصره ، وهو مطارد غريب شريد بعيد عن الأمن بين الأهل والأوطان!

وصدق الله العظيم ، إذ يقول : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ، ويقول : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ، ويقول : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١].

ويبدو أن حركية الإسلام وسره الفاعل في أتباعه ما زال يسري روحا نابضة حية ، فنجد المجاهد البوسناوي المعروف (علي عزت بيجوفيتش) يؤلف كتابا يسميه (الإسلام) يدافع فيه عن عقائد الإسلام في محاوراته مع الملحدين من أبناء الشيوعية في الغرب ، ونجد (رجاء جارودي) المسلم الفرنسي والمفكر الإسلامي الكبير الذي أغنى المكتبة الإسلامية بكثير من الأفكار ، التي كانت في حاجة إليها في مواجهة القوة العاتية للآخر ، الذي لم ير أمامه سوى الإسلام عدوا يحاربه بكل ما أوتي من قوة مادية ومعنوية ، نجد هذا المهتدي للإسلام يواجه الشيوعية مرة والصهيونية العالمية مرة أخرى ، ثم ينتقل بالمواجهة إلى تحدي النموذج الغربي ، مبشرا ببزوغ فجر الإسلام من جديد ، واندحار هذه الحضارة المادية الغاشمة وآلاتها بكل ما فيها من غطرسة ، وما أريد قوله إن هؤلاء امتداد طبيعي لأمثال الإمام القاسم بن إبراهيم من علماء الأمة الإسلامية.

الزندقة وابن المقفع الزنديق

وهذا ابن المقفع الزنديق ، يلقي بشبهاته على المسلمين ، فلا يجد من يتصدى له ، إلا الإمام القاسم رغم الفارق الزمني بين ابن المقفع وبين الإمام القاسم ، إذ قتل ابن المقفع سنة (١٤٢ ه‍) وولد الإمام القاسم سنة (١٦٩ ه‍) ، فالفارق بينهما (٢٧ سنة) ، والاحتمال الأكبر أن الإمام أجاب عليه وعمره (٣٠ سنة) ، فيكون الفارق الزمني بين كتابيهما (٥٧ سنة).

والعقائد الشرقية تعد من أطول العقائد عمرا ، وأبعدها في التاريخ ، وعلى الرغم من احتدام المعركة بين الإسلام والإلحاد والزندقة ومع العقائد الدينية كاليهودية والنصرانية ، إلا أن شأن الثنوية والعقائد الشرقية بدا وكأنه قد انتهى ، وهو ما لم يعترف به عبدة الأصنام ، والسيخ والبرهمية والهندوس وعبدة النار ، التي لم تطفأ منذ أوقدوها وعبدوها وصارت رمزا لحضارتهم.

وإذا كانت الصدامات الحضارية قد أخذت أعلى منحنى لها في العصر العباسي مع المجوسية والمانوية وغيرها في الشرق ، ثم هدأت تماما ، فلم نجد كتبا ولا مؤلفات بعد ذلك ترد على عقائدهم ، إيمانا من غلبة التوحيد وأنصاره عليهم ، إلا أن أعداء الإسلام لم يؤمنوا أبدا بهذا السلام ، وما حدث ويحدث بين المسلمين والهندوس والسيخ في شبه القارة الهندية يدل على ذلك ، وأحداث كشمير التي تعد بؤرة للصراع الحقيقي بين المسلمين ، وهذه العقائد تمثل أصدق تمثيل حقيقة الصدام الحضاري بين الإسلام كثقافة وحضارة وعقيدة ، وغيره من ثقافات الشرق الأقصى.

وكذلك صدام المسلمين الحضاري مع عبدة بوذا وماني في شبه القارة الصينية ، وعدم قدرتهم على التعبير عن أنفسهم أو المشاركة في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية للصين ، فضلا عن هضم الكثير من حقوقهم ، وتجاهل جماعات حقوق الإنسان في الغرب لوضع المسلمين هناك ، كل ذلك يشهد بأن الصراع لم يمت بين التوحيد والاثنينية ، وبين من يشعلون النار في المعابد تحت أقدام تمثال بوذا وماني وأصحاب العقيدة الخالدة.

لقد ظل الإنسان في التاريخ يعبد الله ويوحده ما دامت هدايات السماء تترى وتتابع عليه ، إلا في زمن الفترات التي انقطع فيها الوحي ، وغابت عنه الرسل ، ضل وعبد الأصنام والأوثان ، واخترع دينا أرضيا يرضاه ويشبع هواه وقناعاته الشخصية.

ولذلك تتمثل إشكالية العقيدة الثنوية وغيرها من العقائد الشرقية في عبادتهم لآلهة أرضية أو حتى سماوية محسوسة ملموسة متعددة ، أما التوحيد والصمدية وتقديس الذات عن مشابهة المخلوقين فقد غاب عنهم ، أو لنقل غابوا عنه.

فإله واحد للخير والشر والنور والظلام ، خلق الإنسان والملائكة والشياطين ، لا يقبل الهدايا والرشا والفساد ، لم يدركوه.

وينقد الإمام القاسم تقسيم الثنوية في عقائدهم الأشياء إلى قسمين ، نور وظلمة ، خير وشر ، أرض وسماء ، ملائكة وشياطين.

وكل مخلوق نتج عن مزاج النور والظلمة وتزاوجهما ، رغم أن كلا منهما يمثل اتجاها وهو في نفسه إله ، ورغم عداوة كل منهما للآخر ، وأنهما متنافران لطبيعة كل

منهما المتغايرة ، ويسخر من هذا التناقض ، إذ أنهما امتزجا ، وهما اللذان ما عرفا هذا الامتزاج من قبل على حد قول الثنوية!

فكيف رضي ممثل الخير ، الذي هو الأصل في وجود الأشياء ، وقبل الشر ممثل دولة الشيطان في ملكوته ، وكيف التقى النور بالظلام ولم؟!

كما ينقد مقالتهم بأن النور خير ، وهو لا يلزم والعقل يشهد بغير ذلك ، وكذلك قولهم بأن الظلام شر خالص ، فلا النور خير خالص ، ولا الظلام شر خالص ، وكلاهما يحمل صفات الخير والشر ، ولا حكم لأحدهما على الآخر ، ولا حكم لهما على المخلوقين ، وهما مخلوقان ككل المخلوقات تنفعل وتتأثر كما ينفعل كل مخلوق ويتأثر ، ومنهما علل للأشياء ومعلولات ، ويحكمهما قانون الحركة وناموس الخالق في إدارة الكون والحياة.

وما يحدث للإنسان من حياة وموت ، وصحة ومرض ، وفرح وحزن ، ليس من شأن النور أو الظلام أبدا ، وهي أفعال للإنسان نفسه خلقها الله فيه خالق كل شيء ، كما أن الله جعل في الشمس الحرارة والضياء ، وفي الماء الحياة والغرق.

وقد ورث ابن المقفع معتقدات ماني ، بحكم البيئة التي ولد فيها ، وآمن بها ودافع عنها ، وورث حقده على الإسلام ودولته التي قهرت بلاده وكسرت شوكة الكهنة وكسرت الأصنام ، ولم يعد لماني وجود إلا في نفوس الحقدة على الإسلام الغالب آن ذاك.

ووضع ابن المقفع كتابا في نصرة العقائد الثنوية ، يدعو فيها المسلمين إلى الإيمان بها ، وزاد على ذلك أن وضع لأتباع ماني خطة في تضليل الضعفة والعامة وأصحاب الأهواء من المسلمين عن عقيدة التوحيد!

وكلام ابن المقفع في جملته عبارة عن هرطقات وطقوس وطلاسم ، تليق بهذيان الكهان في معابدهم تستهوي الجهال وتستميل أصحاب الأهواء ، وترضي نفوس الأتباع في ظل الأبخرة المتصاعدة ، والأضواء المتناثرة من أرجاء المعابد ، وخلف الصور التي يقدسونها.

فالله رحمن رحيم ، وعلى الرغم من ذلك يلومه على خلق الشر في العالم متمثلا في الشيطان ، وهو متعال وفي الوقت نفسه هو في المباول والقذرات والأوحال بحكم

نورانيته المحسوسة في فهمه واعتقاده!

كما أنه يملك الكون ، وفي الوقت نفسه معه آخر يملك ويحكم ، ينقض أحكامه ، بل له أحكام قاهرة عليه ..! وكل ذلك غاية التناقض والفساد.

ثم وصف ابن المقفع إله النور بالعظمة ، وهي تلك التي اضطرت أعداءه لتعظيمه واحترامه ، وفي أثناء ذلك لا يفرق بين العامي والعمي ، مما يجعل الإمام القاسم ينتقصه ويصفه بالجهل وعدم معرفة الفروق اللغوية بين الألفاظ ، إذ دلالة العامي غير العمي!

ويقف الإمام القاسم عند دلالة التسبيح والتقديس عند الثنوية ، والفرق بينهما وبين المقصود منها في الدين الإسلامي ، فعندهم ألفاظ جوفاء ، يقول الإمام القاسم : نقول في الله الملك القدوس ، كما قال ، إذ كان كل شيء فبتقديسه نال من قدس البركة ما نال.

ومسبّح فقد نقولها ، إذ نجدها له ونعقلها ، من كل ما هو سواه مفطورا ، ظلمة كان ذلك أو نورا ..

ويرد زعم ابن المقفع بعد ذلك تمييزه بين الأشياء من حيث كونها محمودة أو مذمومة ، فقال : «وإن منها» ، وهو اقتطاع لا تقبله العقول ، ثم إن التفاضل يقع في محمود الأمور ومذمومها ، مما يجعل الأمور لا تبقى خيّرة بصفة دائمة ، أو شريرة كذلك بصفة دائمة ، وربما انقلب النور شرا ، أو الظلام خيرا ، حسب طبيعة الظروف والأحوال.

ويفضح تناقضه في كون بعض الناس يرجون من الظلمة ـ التي قال فيها أنها شر ـ الخير ، فيقول له : من الذي رجا منها الخير ، أهو النور أم أعوانه ، أم اتباع الظلمة على ما فيهم من شر!

وهو من قبيل الجدل اللازم لقضية ودعوى الخصم. والذي انتهى به إلى القول بأن ابن المقفع تخبط بين إلهين ، ووصفهما بأوصاف مقلوبة ومغلوطة تدل على تشوشه الذهني ، ويعلق مفسرا ذلك بقوله : «وليس علته فيما أحسب من ضلاله ، ولا علة من تبعه عليه من جهاله ، إلا قلّة علمهم بما شرع الله به دينه ونزّل به كتابه من الحكمة ؛ لا عن شبهة دخلت عليه ـ ولا عليهم ـ فيما وصفوا من النور والظلمة».

ويبدو من كلام الإمام القاسم أنه يوجه حديثه إلى ابن المقفع وحركة كبيرة من جمهور الثنوية من المرتدين عن الإسلام ، وجهلة الاتباع والغواة الذين أغراهم ابن المقفع وحركته ، التي عملت كطابور خامس بين صفوف المسلمين تعمل على زعزعته.

العقيدة وهدم الإسلام ومباديه الثابتة

ويقول الإمام القاسم إن عقائد المانوية أهون من أن يرد عليها أمثاله ، غير أن تجاهل العلماء لهم ، وجهل بعضهم بالرد عليهم ، ضخّم دعوتهم وشأنهم عند العامة فانقادوا لهم.

ثم يبين سر التوحيد والوحدانية والتفرد والصمدانية وتنزيه الخالق من الشريك والند والولد ، ويعقب ذلك تفسيره لسبب قذف الله الشياطين زمن نزول الوحي ، وكونه أمرا معقولا ليس لابن المقفع أو غيره عليه مأخذ ، ويبين السبب في نزول الوحي منشورا ، وأن للجن مقاعد للتسمع على أهل السماء ، وما الذي أدى إليه رجم الشياطين وحراسة الوحي.

ثم تلى ذلك الحديث عن علة خلق الله بعض عباده أطهارا بررة ، وبعضهم أرجاسا فجرة ، ولم يسمح الله عزوجل ، بظفر أعدائه بأوليائه ، وأن الله أن ينصر أولياءه بما يشاء.

وغلبة جند الله على حزب الشيطان أمر نافذ وحاصل ، وتفسير قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، وأن الله هو الرامي ، وإثبات قدرة الله وعدله بين خلقه ، وكذلك بيان السبب في قتل أعداء الله لأوليائه ، وأنه أمر يرجع لأصل الطبيعة الإنسانية ، يقول الإمام القاسم : «قاتله الله وقتله ، لو لم يقتلوا لم تجب لهم من الكرامة عنده ما أوجبه ، ولم يدركوا ثواب ما كان القتل فيه سببه ، ولو كان له علينا في قتلهم مطلب لكان في موتهم».

وقد أمهل الله عباده ، ليعرف المطيع من العاصي ، وأن فساد الأبدان بالعلل المهلكة ، والأديان بالعقائد الفاسدة يرجع للإنسان ، يقول الإمام القاسم : «لقد وفّاهم سبحانه طبائعهم مفصلة ، وسلمها إليهم مكملة ، عن هلكات العصيان ، وشين معايب النقصان ، فما دخلها من سقم بدن ، أو فساد متديّن ، فبعد اعتدال تركيبها ، عن كل نقص من معيبها ، وما فسد لهم من دين بعصيان ، فبعد هدى من الله وبيان ، وتخيير في الطاعة وإمكان».

والله لا يضل عباده ولا يعذبهم بغير ذنب ، ولا يجبر أحدا على طاعة أو معصية ، ويصف رحمة الله وعدله بقوله : «كيف وهو من عصاه استرضاه ، ومن استكبر ـ وهو القادر عليه ـ أملاه ، ثم كرر عليه في دعواه الهدى نداه ، ثم من قبل حظه فيه جازاه ، ومن أبى عطيته من الخيرات حرمه ، وهو الذي قبح من كل ظالم ظلمه».

ونعم الله على خلقه كثيرة وعلى وحدانيته شاهدة ، فهو الصانع والخالق والمبدع والحكيم ، تقدس عن كل نقص ، ومدح بكل كمال هو به موصوف.

وشكك ابن المقفع مرة أخرى في الرسالة والرسول ، وعمل في القدح في أمانته وصدقه ، فينكر عليه الإمام القاسم تسائله ، ويرده إلى الجهل ، ويبين أن الإسلام دعوة للمعرفة والبحث والنظر : «أهو ـ ويله ـ يحمل على خلاف ما يعرف؟! وإنما جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو إلى المعارف ، أو يأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكفّ عن الطلب والبحث ، وهو الكاشف عن أسرار الغيوب لكل متبحث ..؟!».

وعمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أمره الله به ، من الدعوة إليه على بصيرة من النظر والتأمل وإعمال الفكر والبحث ، ويأتي الإمام القاسم من النص بما يرد دعوى ابن المقفع ، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي حدث اتباعه بما ركبه الله فيهم من العقل ، وخاطبهم خطاب العاقل إلى العقلاء ، وردهم إلى النظر والتأمل والإقناع بكل سبيل ، ومدح المعرفة بأنواعها ، ومدح العلم والعلماء : «فهل دعا أحد إلى إخلاص الفكر دعاه ، أو حدى أحد من الناس على النظر حداه؟!».

وقد دعا ابن المقفع إلى شقّ الصف المسلم والإغارة على الدولة والحكم ، بدعوته إلى الشعوبية المقيتة التي أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتركها فقال : «دعوها فإنها منتنة» ، فالقبلية دعوة نتنة والشعوبية دعوة أنتن ولا عصبيات في الإسلام ، ومن دعا إليها بغيض عند كل موحد ، وذم ابن المقفع الإسلام وأهله ، بما أوجب قتله فهل أخطأ من قتله؟!

وبيّن الإمام القاسم فضائل الإسلام على الناس أجمعين ، ودعا كل قادح أن يفرق بين الإسلام والمسلمين ، وبين الشرع وحكام الجور والظلم فليسوا هم الإسلام ، وتاريخ الإسلام طفح بأفعال وسيئات هؤلاء الحكام ، كغيرهم من حكام الأرض ، والإسلام يبرأ

من هؤلاء أجمعين.

يقول الإمام القاسم في خطأ المغرض في فهمه : «ولكني آراه ظن ديننا ، وتوهم أحكام ربنا ، أحكام معاوية بن أبي سفيان ، وما سنّ بعد معاوية ملوك بني مروان ، من تناقض أحكامها ، وجورها في أقسامها ، أولئك فأعداء ديننا ، وحكم أولئك فغير حكم ربنا ، وحكم ديننا فالحكم الذي لم يخالطه قط جور ، وأموره من الله فالأمور التي لا يشبهها أمور ، ويحق بذلك أمر وليه أحكم الحاكمين ، وحكم جاء من رب العالمين».

ولم يترك ابن المقفع مجالا لأحد من القضاة المنصفين في الحكم عليه بالردة والكفر ، فسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذمه ، اتهمه بالسحر ، وأشرك من باب المغالطة والتمويه سيدنا موسى عليه‌السلام ، فقدح في إمامين من أئمة الأنبياء ، واتهمهما بالجنون.

فبيّن الإمام القاسم وجه الحكمة في معجزة موسى ومحمد عليهما‌السلام ، وعلق على ذلك بأنها عجمة ابن المقفع في فهم النص فجهل ألفاظه ، وغابت عنه دلالاته ، فوقع في أخطاء شنيعة في فهم النص.

ولا يرى الثنوية لخلق الله للعالم سببا أو علة! .. كما يعيب على ابن المقفع سقوط لغة الخطاب وتجاوز الأدب مع الله فيقول : «تحسّر الله .. اغتاظ» وهو ما لا يليق بمقام الألوهية. والله ليس له شبيه أو مثل ، وما يحدث من انفعالات للخلق لا يحدث مثلها للرب.

أما لم خلق الله العباد؟ .. فلعبادته وطاعته والتسليم له ، ولاختبارهم في هذه الحياة الدنيا وابتلائهم ، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها!

وتساءل ابن المقفع هل أراد من وراء اختبار وابتلاء خلقه الخير أم الشر؟ .. «فالخير أراد بهم جميعا سبحانه معجلا ، وثواب المحسن منهم أراد جل ثناؤه مؤجلا ..» هذا رد الإمام القاسم عليه ، ويعلل سبب تأجيل الثواب والعقاب للآخرة ، ويرجعه لاختلاف طبيعة الدارين ، وكذلك بنية الإنسان ، وحكمة الله في أفعاله.

وانتهى التشبيه بابن المقفع إلى القول بالمكانية والعرش والكرسي ، وهو مما ينفى عن الله عقلا ونقلا : «أما علم إن ما يراد بالاستواء ، إلا جلال الله والإعلاء ، بملكه لما

فوق العلى ، وأن استواءه على ذلك كاستوائه على الأرض السفلى ، وأن «استوى» في هذا كلمة من الكلام ، جائز معناها بين الخواص من العرب والعوام ، تقول العرب إذا ظفرت بأحد ، أو غلب على بلد : لقد صرت إليها ، واستويت عليها ، تريد غلب سلطاني فيها ، فهذا وجه قوله جل ثناؤه : استوى ، لا ما يذهب إليه من العمى».

وكذلك العرش وحمل الملائكة له ، وتصوير حالهم وهم حافون من حوله ، وأوّل الإمام القاسم العرش بالسقف ، وكذلك استتر ابن المقفع خلف بعض صفات الله الفعلية الخبرية كالاستدراج والكيد ، ليقدح في ذات الله ، والحب والرضا والفرح .. وغير ذلك.

ويرجع بنا الإمام القاسم إلى قضية التأويل في القرآن ، وحظ العالم من اللغة ، فلها المرجعية الأولى في فهم النص والحكم على المتشابه :

«وإلا فلم لم يفكر ؛ إن كان ذا فطنة وينظر ، إن كان من أهل النظر فيما استدل به أهل الكتاب والعرب ، من هذه الأحرف على ضمائر كل مغيّب ، فكانت هي الدليل لهم على الكتاب ، والسبب لعلمه دون جميع الأسباب! ..».

ثم أنكر ابن المقفع وجود الصانع الأدلة المؤدية إلى معرفته ، والأدلة كثيرة ومتواترة في النفس والآفاق ، وما أبدع الله في الكون من الإتقان والحكمة وعظيم الصنع ، وقد عرّفنا الله عليه ، والمتأمل واجد ضرورة توحيد الله ، فضلا عن وجوده في قلبه.

والله غيب ، ومعرفة الغيب تكون بالنظر والاستدلال ، ولا معرفة إلا بعد نظر وهو ما يتقاصر عن إدراكه ابن المقفع واتباعه!

ويبين الإمام القاسم أن ورثة العلم هم أهل بيت النبوة ، وهم الذين يعرفون تأويل الكتاب ، ويحكمون بين الخلق بالحق والرشاد.

ثم تحدث الإمام القاسم رادا على ابن المقفع ، فبين أن الله خلق العالم من العدم الذي هو في مقابل الوجود ، وكذلك أثبت قدم البارئ وحدوث العالم بالأدلة الواضحة والبراهين المفحمة للخصوم ، وكل ذلك دعاه للحديث عن دليل الممكن والواجب ودليل الحدوث ، ودليل الحركة والتغير ، وعن الجوهر الفرد ، ورد على تصور اليونان للقديم ووجود العالم وبيّن معنى التناهي وكونه منفيا عن الله تعالى. والحد في المنطق

والمحدود ، والفرق بين الحد المنطقي والحد الذي يعني حد الشيء ونهايته. والوزن والحجم والمثل ، والأعيان والأعراض ، في فهم عميق لدلالات المصطلح ، ووجوه تعلقه.

ثم نقد ابن المقفع في زعمه كثرة النور وكونه لا يحصى ولا يتناهى ، فيرد عليه بأن الليل هو الآخر بظلمته لا يتناهى ولا يحصى!

ثم يحكي ابن المقفع حكاية أقرب للأسطورة والخرافة ، عن مملكة الشيطان وجنوده وأعوانه ، وعرشه ووكلائه وسجونه وحصونه.

ويعقب ذلك نقده لفكرة المزاج بين النور والظلمة ، وكيف تزاوجا ليؤدي إلى وجود العالم بأعيانه وأشيائه.

والنور والظلمة كإلهين للخير والشر والهداية والضلال والله والشيطان ، حسيان جسميان ، فرد عليهم بأن الإله واحد أحد ولا يكون جسما ولا عرضا ، كما رد عليه بأن الأشياء لا تتغير ، أو لا يكون إلا مثل جوهره.

أما من غرائب الثنوية زعمهم بأن النور ، وهو في مملكة العالم العلوي ، ترك مملكته وصار إلى الأرض السفلى ، وكذلك الظلمة صارت إلى علو.

وللثنوية أسماء أشبه بالتعاويذ والطقوس ، تنم ـ على زعمهم ـ عن التعظيم كأبي العظمة ، وأم الحياة المتنسمة ، وحبيب الأنوار ، وحراس الخنادق والأسوار ، والبشير والمنير والإنسان القديم .. إلخ وما الأراكنة ، وعمود الشبح ، إلا من خرافاتهم.

ويحذر الإمام القاسم المسلمين من دعوة المانوية وابن المقفع ، ويختم الرسالة برده عليهم في إنكارهم البعث والنشور ، وكذا في إنكارهم للألوهية.

وهكذا فنّد الإمام مزاعم ابن المقفع الثنوية ، ورد الاعتبار للإسلام ، وانتصر للتوحيد ، في كتاب يعد من أكبر كتبه

* * *

النصرانية والنصارى

وها هم النصارى يحرفون الإنجيل ، ويشركون بالله سبحانه ، ويجعلون معه آلهة من البشر ، فيدعون أن عيسى عليه‌السلام إله ، ويضللهم قساوستهم عن معنى الأب في الإنجيل ، ويحرفون الإنجيل ، وينكرون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي شهد بها الإنجيل ، وحكاها الله في القرآن ، إذ قال على لسان عيسى عليه‌السلام : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦].

فهب الإمام القاسم لقراءة التوراة والإنجيل والزبور ، قراءة مستوعبة فاحصة ، وإني لأقف مشدوها هاهنا!! هل كان الإمام القاسم ملما باللغات التي كتبت بها الكتب السماوية ، لأنه قبل عصر الترجمة؟! أم أنه سعى إلى ترجمتها؟! وكلا الأمرين ليسا بعيدين!

وأخذ الإمام ينقض الخرافة النصرانية في العقيدة ، معتمدا على نصوص الإنجيل نفسه.

ولا أبعد عن الصواب إذا زعمت أن معظم الذين كتبوا في الرد على النصارى ، إنما استفادوا من رد الإمام القاسم ، كابن حزم الأندلسي في القرن الخامس في كتابه (الفصل في الملل والنحل) ، الذي خصص جزأ كبيرا منه في نقد المسيحية ، وكذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي في موسوعته (المغني) الجزء الخامس ، وكذلك الباقلاني المتوفي سنة (٤٠٣ ه‍) تأثر به تأثرا واضحا ، خصوصا عند ما تحدث عن الجوهر والعرض والأقانيم ، والاتحاد والتجسد في كتابه (التمهيد) ، لأن هذه المصطلحات غريبة وجديدة على الفكر الأشعري.

ولتوضيح الصورة عن تحريف اليهود والمسيحيين للكتب السماوية ، ولتوضيح دور الإسلام في تصحيح مسار العقيدة ، ودور علماء الإسلام في المواجهة الفكرية مع هذا التحريف والتنزيف ، ودور الإمام القاسم الرائد في ذلك ، نقول : أساء اليهود استقبال المسيح عليه‌السلام ، كما أساءوا استقبال أنبياء الله من قبل ، ولذلك ظلت العلاقة متواترة وغير سلمية بين اليهود والنصارى طوال تاريخهم ، ويرجع ذلك لعدة أسباب ، أهمها رفض اليهود للمسيح رفضا باتا ، منذ البدء الأول وهم يرفضونه ، على الرغم من

تبشير التوراة بالمسيح ، إلا أن اليهودية تحولت على يد أتباعها إلى دين كهنوتي له طقوسه وطلاسمه وربابنته وعلماؤه ، ولم يكن من السهل الإيمان والتسليم بالمسيح عيسى بن مريم كنبي لليهود ، فأنكروه نسبا ، وأنكروه نبوة ، بل بلغ بهم الأمر أن أنكروه وجودا!

وإذا علمنا أن الأناجيل «الموضوعة» ، قد كتبت بعد وفاة عيسى بمدة من الزمان سمحت بأن يخرج كل كاتب بتصور مختلف للعقيدة في عيسى وشريعته ، ندرك مدى أهمية الإسلام ، ككتاب ورسالة ، في وجود المسيحية كدين ، فما من شاهد على المسيح وأمه وما جاء به من ربه ولا حياته وتاريخه سوى القرآن الكريم ، ذلك المصدر الإلهي المقدس المطهر والموثق ، كان بحفظ الله له حفظا لحقيقة وجود المسيح ورسالته ، وحقيقته هو كنبي لا إله ، كما يدعي أتباعه بتصوراتهم الموهومة.

إذا نحن أمام تصورات ثلاثة في إثبات وجود المسيح ، الأول ينكره تماما ، وهذا يعني محو الوجود والأثر ، والثاني يقدسه حتى إنه اتخذ منه إلها ، والثالث يثبته بشرا رسولا جاء بهدايات السماء إلى الأرض ، ليطرح مادية اليهود جانبا ، ويهدي خراف بني إسرائيل الضالة مرة أخرى إلى حظائر الإيمان ، ويعيد إلى الشريعة الموسوية احترامها عند اتباعها ، الذين حرفوا الكلم عن مواضعه ، وأخفوا كثيرا مما جاءهم ، وعملوا ببعضه ، حسب ما تمليه أهواؤهم عليهم ، وحسب مصالحهم.

وهذه التصورات الثلاثة اثنان منها في جانب الافتراء والاجتراء على الله ، والثالث هو الوحيد الذي يحمل روح الاعتدال والعقل والواقعية التي تليق بوحي السماء ، وترد الاعتبار للنبوة والرسالة.

لقد أشهر اليهود في وجه الأنبياء سلاحين ، سلاح القتل وسلاح التكذيب ، ولم يتسامحوا أبدا مع أي منهم ، ويرجع ذلك لطبيعة فيهم ، تتسم بالقسوة والفظاظة والمادية والجرأة والوقاحة ، وهذه ليست ألفاظا للسب ، ولكن أوصافا للنعت ، ولذلك كما أنكروا رسالة عيسى أنكروا رسالة محمد صلى الله عليهما ، ومن العجب أن ينكر النصارى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي جاء لإثبات وتصديق رسالة عيسى عليه‌السلام!

لقد فرض التحريف على الحقيقة نفسه ، التوحيد في مقابل التثليث ، والصدق التاريخي أمام الوهم ، والعقل أمام الخرافة والتزييف ، والإنسان مقابل الابن الإله ، والإله الابن ، ومسئولية الإنسان عن عمله أمام فكرة الخلاص وإلقاء التبعات على السماء والصليب ، كل هذا وقف ليواجه عقائد هشة مفككة ، لطالما أرّقت أصحابها دهرا طويلا.

جاء الإسلام ليبدد ظلامها ، ويقرر الوحي العيسوي كما نزل به عيسى نفسه ، بلا تحريف أو خرافة إضافتها إليه التصورات الأرضية من الفلسفات القديمات التي تؤمن بالوسائط والتعددية الإلهية ، فهذا إليه للخير وآخر للحب وثالث للجمال ورابع للقوة ... وهكذا ، مما يعني غزو الفلسفة اليونانية للعقيدة المسيحية ، وكذلك الفلسفات الشرقية ، واختلطت نجاسات التصورات الأرضية التي خرجت من المعابد وزوايا الكهوف وبطون الجبال لتلوث طهر وحي السماء وتفرض نفسها عليه.

المسيح إنسان أوحي إليه ، وأمه صديقة ، هذه هي صورة القرآن المنزل للمسيح وأمه ، الله واحد أحد فرد صمد ، والمسيح عبد ، وبدأت المواجهة التي انتهت بالمباهلة في المدينة بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران ، وينهزم الوفد القادم لمعرفته بحقيقة الأمر.

ولم ينته الصراع عند المواجهة الأولى بل تطور وأخذ أشكالا أخرى من الصراع ، كان أوضحها المواجهة العسكرية ، وحسمها المسلمون بكسر شوكة الدولة الرومانية ، راعية المسيحية العالمية بأشكالها المختلفة ـ طواعية وقهرا ـ وأخذت أشكال أخرى في الظهور متمثلة بين المسلمين وفرق النصارى ومدارسهم في العديد من مدن الإسلام وحواضره ، فلم يعد الأمر في إطار الفكر العقائدي فقط ، بل جاء من ورائه صراع حضاري يمثل الوجود وتقبّل الآخر أو نفيه ، وفي حين بدا الإسلام دينا وشعبا متسامحا مع غيره ، لم يكن الأمر كذلك عند الآخرين الذين عدوا الأمر مواجهة لا يحسمها سوى التسليم بقطب واحد فقط لا غير!

جادل الصحابة في الفتوحات الأولى السّريان في الشرق والأحباش في إفريقيا ، ووضعوا صورا للجدل العقلي عند مناقشة هؤلاء لهم ، ثم تطور الجدل وتتابعت صوره في العصرين الأموي والعباسي ، ووضعت المناظرات بين علماء النصارى والمسلمين ،

فنجد أسماء تظهر كيوحنا الدمشقي طبيب خلفاء بني أمية ، فيضع الكتب في جدال المسلمين في شكل فلسفي جدلي ، ويفعل ذلك قساوسة آخرون في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي ، بغرض الحيلولة بين جماهير المسيحيين والإسلام.

وأخذت المواجهة الفكرية طابعا جدليا عقليا ، وإن كان في إطار الحوار والمناظرة ، فنجد العديد من علماء المسلمين يضعون الكتب في مناقشة مذاهب النصارى ، وتحمل كتب الفهارس والفرق أسماء كتب عديدة وضعها علماء المسلمين في عصور مختلفة ، فنجد واصل بن عطاء يضع «رسالة في الرد على النصار» ، وكذلك أبا علي الجبائي ، والجاحظ ، حتى الخليفة المأمون يضع رسالة في الرد على عقائدهم هم واليهود ويسميها (كتاب في الرد على اليهود والنصارى) ، ويأتي بعد ذلك في القرن الرابع الهجري القاضي أبو بكر الباقلاني فيضع كتابه «التمهيد» ، ثم ابن حزم الأندلسي في القرن الخامس يضع كتابه «الفصل في الملل والنحل» ويخصص جزأ كبيرا منه في نقد المسيحية كتابا وعقيدة بطريقة منهجية رائعة ، تعد بعد ذلك نموذجا لكثير من العلماء في الشرق والغرب ، فقد بدأ بنقد النص في الأناجيل وأظهر تناقض واضعيها تناقضا فاحشا مما يدل على تحريفهم لها ، كل بحسب هواه ، ويسجل بعد ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي فصلا كبيرا في نقد النصارى والرد عليهم في موسوعته الكلامية «المغني» (انظر الجزء الخامس ، ويجمع فيه ردود كثير من علماء المعتزلة ، مما يجعله مصدرا أساسيا لهذه الردود التي اختفى أوضاع كثير منها) ، وكذلك ناقش الجويني عقائد النصارى وتبعه بعد ذلك تلميذه الغزالي.

ويرد في العصر الحديث رحمة الله هندي على العديد من كتب النصارى في كتابه «إظهار الحق» والذي حلل فيه الأناجيل ونقدها في دراسة علمية ضافية ، ولا ننسى كتابات الشيخ أحمد ديدات ومناظرته للعديد من قساوسة الغرب ، وكذلك الشيخ محمد الغزالي في كتابيه «قذائف الحق» و «التعصب بين المسيحية والإسلام».

ومن هنا ندرك مدى أهمية رسالة الإمام القاسم في الرد على فرق النصارى في خلافهم حول نزول عيسى واتصاله بأمه ، وكذلك اختلافهم في كيفية صعوده وتوحده بالكلمة ، واختلافهم حول حقيقة التجسد والاتحاد ، وهل هو بالناسوت أو اللاهوت ، أو بهما جميعا؟!

وفي حين أن الملكانية أعلنت التثليث بكل وضوح ، وناقضت العقل والنقل والتاريخ ونفسها أيضا ، نجد النسطورية تخوض محاولة للتوحيد وجعل الثلاثة واحدا في شكل ما ، ولكن يغلب عليها السذاجة وإن حملت طابعا فلسفيا خالصا.

أما اليعقوبية أصحاب القول بأقنوم واحد وطبيعة واحدة ، لم يلاقوا ترحيبا أو قبولا لدى فرق النصارى الأخرى وقد رد القرآن ، كما نرى في الرسالة ، كل هذه التصورات الموهومة.

لقد تمثلت في الرسالة الصياغة الفلسفية الجدلية الواعية إلى جانب النص القرآني في مناقشة الإمام القاسم للنصارى في عقائدها مع قدم النص ، إذ كتب يقينا في أوائل القرن الثالث الهجري ، قدرة المسلمين في الحوار مع الآخر في عقائده ببصيرة مستنيرة وفهم راشد بعيد عن التعصب الأعمى وفي إطار الدولة الواحدة ، والذي لم تستوعبه أوربا بعد ذلك ولا محاكم التفتيش ، وجاء الباقلاني من بعده فتأثر به تأثرا واضحا ، خصوصا عند ما تحدث عن الجوهر والعرض والجوهر والأقانيم ، والاتحاد والتجسد ، وبذلك جمع بين النسق الفلسفي والقرآني في وحدة واحدة أفاد من جاء بعده منها ، وساعدت على التأصيل لعلم الكلام منهجا وموضوعا ونقدا.

* * *

محتوى الرسالة ومنهج المؤلف

بدأ الإمام القاسم رسالته في نفي كون الله عزوجل من والد أو يكون له ولد ، وذلك لأن (الربوبية لا تمكن أبدا إلا لواحد ، ليس بأصل لشيء ولا ولد ولا والد).

فالولد يحمل صفات وسمات أبيه ، وأبوه كذلك يحمل صفات ابنه فهو له شبيه ، ومن كان من والد فآباؤه أولى منه بالعبودية ، وقد نفى النص الإلهية لعيسى ونفى الوالدية ، وتعجب من عبادتهم له دون أمه رغم أنها أصل وهو فرعها ، وما ثبت للفرع فالأصل أحق منه بذلك ، وبنفي الإلهية عنها تنفى النبوة أيضا!

ومن ناحية المعقول فالأنبياء من البشر يأكلون ويشربون وقد أشار النص لذلك ، وشهدوا هم أنفسهم بذلك ، والنصارى تشهد على عيسى بأنه كان يألم ويفرح ويأكل ، بشر ككل البشر ، وهذه آية بينة تبطل دعوى النصارى في إلهيته.

والنصارى عبدت عيسى ، عبادة غيرها للنجوم والكواكب وجعلها وسائط وآلهة بينها وبين الله ، يخلق بهن ويعطي ويمنع ويحيي ويميت بواستطتهن. (وكذلك زعم المشركون من أصحاب النجوم أن الله خلق الحيوان الميت ودبره بالنجوم السبعة ، وأن بهن وبما جعل الله من القوة فيهن كانت من ذلك كل بريته وكل صنعة!).

وفي ولادة عيسى وتماثله واشتباهه مع غيره من البشر دليل على بشريته وإبطال لدعوى الإلهية المزعومة له ، ومن صفات الخالق الواحدية والصمدية ، ونفي الشبيه والمثل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، فالله عزوجل : «ليس له شبيه ولا كفيّ ، ولا مثيل ولا بديّ».

والإمام القاسم في إبطاله لدعوى الإلهية يجمع بين النقل والعقل ، في أسلوب واضح سلس ، بعيد عن الغموض واللبس ، وفي أدلة برهانية إقناعية ، تلزم الناظر فيها بالتسليم.

ويتنزه الله عزوجل أن يكون كصنعته في شيء ، وكل خلقه كان بلا علاج ، ولا أعياه خلق شيء منها ، وإنما أمره بين الكاف والنون ، وكل الدلائل تشهد أن الخالق واحد لم يلد ولم يولد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٣ ـ ٤] ، وقد أنكر عزوجل عليهم أن يكون له ولد أو كان هو من والد ، إذ أن

ذلك دليل على النقص والحاجة وهو منزه عنهما ، (فمن أين يكون مع هذا القول منهما ولد ووالد ، وأمرهما جميعا في القدم والأزلية واحد؟!).

فدعوى الشريك والولد تناقض معنى الأزلية والقدم ، وليس المحدث كالقديم بمثيل أو شبيه ، وقد أنكرت جميع مخلوقات الله ، فحش هذه المقالة ، وإن كان عيسى ابنا لله فهو مثل لجميع الأبناء في الخلق والجبلة : «ومتى جعلوا المسيح ابنا وولدا ، كان مثل الأبناء لله عبدا مخلوقا متعبدا».

بعد أن يستعرض الإمام القاسم الأدلة العقلية والقرآنية في نفي الشريك والمثل والشبيه والولد ، ويثبت لله الفردانية والوحدانية والصمدية ، والتنزيه عما تقول وتدعي النصارى يضع منهجا في مجادلتهم.

* * *

منهج في مجادلة الخصوم

يقول الإمام القاسم : (.. فلا بد لمن أنصف خصما في منازعته له ومجادلته ، من ذكر ما يرى الخصم أن له فيه حجة من مذهبه ومقالته ، فإذا ذكر ذلك كله ، بان ما فيه عليه وله ، فكان ذلك لباطله أقطع ، وفي الجواب له أبلغ وأجمع). إذا فهو يؤسس لقواعد ثابتة في النظر والجدل على أساس علمي سليم.

فبدأ بعرض مذهب النصارى بفرقها المختلفة في عيسى ، ومجادلتهم بعد ذلك ، واشترط على نفسه الإحسان والدعوة إلى الله بالحكمة والبينة ، وقد جاء من كتب في علم الأديان المقارن من المسلمين ، فاستفاد من أسلوب ومنهج الإمام القاسم في مجادلة أهل الكتاب والرد عليهم كالباقلاني في «التمهيد» ، أو ابن حزم في «الفصل».

واختلفت النصارى في كون الأب والابن والروح القدس ثلاثة متفرقات أو مجتمعات ، واحتاروا بين التوحيد والتثليث وإلى يومنا هذا يمثل التوحيد مشكلة حقيقية عند النصارى ، سيما عند عرض عقائدهم والإقناع بها ، يأتي بعد ذلك اختلافهم حول حقيقة الاتحاد بين هذه الأقانيم الثلاثة ، وكل فرقة لها رأي في هذا الأمر فخالفت اليعقوبية النسطورية ، والملكانية خالفت الفرقتين السابقتين ، فمن الذي نزل الأب أم الابن ، ومن الذي حل في مريم؟ اختلفوا ولهم في ذلك مذاهب مضحكة .. لو حاولت العقول فهمها.

والإمام القاسم تعرض لجميع هذه الآراء وتناولها بالمناقشة والرد ، فبدأ بدعوى الأبوة والبنوة ، فأبطلها من وجوه كلها صحيحة ومقنعة ، ودعاهم للإنصاف فقال : (ولا بد لنا ولكم من الإنصاف ، فيما وقع بيننا وبينكم من الاختلاف ، فإن نحن تناصفنا ائتلفنا ، وإن فارقنا التناصف اختلفنا).

فمعاندة الحقيقة يؤدي إلى مناصرة الباطل ونبذ الحق ودفع العدل ، ويعود ليؤكد لهم أن الإنصاف فيه خلاصهم من اللبس ، والتأويل يدفع بالتأويل ، ولا خير فيه عند الاختلاف ، ولا يصلح إلا عند الاتفاق ، وقد اتفق الجميع على (أن أصدق الشهادات كلها وأعدلها ، خمس شهادات يلزمنا وإياكم أن نقبلها :

١ ـ فأولها : زعمنا وزعمتهم ، شهادة الله.

٢ ـ والثانية : فشهادة ملائكة الله.

٣ ـ والثالثة : فقول المسيح وشهادته.

٤ ـ والرابعة : فما شهدت به أمه ووالدته.

٥ ـ والخامسة : فشهادة الحواريين ، وما كانوا يقولون.

وهكذا نجد الإمام القاسم يضع منهجا في ترتيب الأدلة وتنظيمها ، لا يعترض عليه الخصوم ، فالإنجيل يشهد بأن عيسى بن داود ، والمسيح يقول لحوارييه إنهم أبناء الرب جميعا ، ويدعوهم في موقف آخر أنهم إخوته ، وأمه تشهد بأنه ابن يوسف.

ويحيى يؤوّل معنى البنوة بالمحبة والولاية ، والملائكة تشهد بنسبه إلى أمه ، والملك ينسبه إلى يوسف.

وهكذا نجد ما ذكره الإمام القاسم من أدلة تتضافر في نسبته إلى غير الله تعالى ، ولم يجرؤ أحد في نسبته إلى الله ، حتى الشواهد اللغوية جاء فيها ما يدل على أن نسبته إلى الله على وجه من التأويل يعني : المحبة والولاء والرأفة.

والمسيح نفسه يقول : (جئتكم من عند أبي ، وما سمعت عنده فهو ما كلمكم به ، وأنتم لو كنتم منه ، لقبلتم ما جئتكم به من أمره ، ولكنكم من الشيطان وأنتم بنوه ..) ،

وهكذا نسبهم إلى الشيطان مرة ، وهم ليسوا أبناء له على وجه الحقيقة ، مما يعني أن الأبوة والبنوة في الإنجيل متأولة.

وينقل الإمام القاسم بأمانة نصوصا مطولة من الإنجيل منها موعظة الجبل ، وهي في الشريعة والأخلاق ، وتحتاج لمقارنتها بنصوص القرآن ، لبيان أن الأخلاق في الشرائع السماوية واحدة ، وكذلك الأحكام إلى حد كبير ، وهي موعظة جامعة مانعة شاملة ، يمكن أن يطلق عليها لقب دستور أو منهج أخلاقي ، من سار عليه اهتدى إلى خيري الدنيا والآخرة ، وقد أتى به الإمام القاسم ليدلل على نبوة عيسى عليه‌السلام ، كما ذكر الأمثال في الإنجيل ، وختم بنصح أحد حوارييه بحسن اتباعه والاقتداء به.

النصارى واليهود أيضا

وهذا نصراني من أقباط مصر يسمى (سلمون) كان يغشى الإمام ويسأله في قضايا التوحيد ويورد عليه إشكالاته ومسائله.

بل إنه كان يورد مسائله وشبهاته في مجلس الإمام الذي كان يجمع المتكلمين من سائر الطوائف فلا يجد لديهم جوابا شافيا ، أو ردا كافيا ، حتى يتدخل الإمام ، ويكشف له الحقيقة بالبرهان ، فلا يملك إلا التسليم والإذعان.

قال الإمام في كتاب مسألة الطبريين وهو في سياق الحديث عن (سلمون) القبطي المسيحي : فسأل يوما ـ وهو عندي ـ جماعة من الموحّدين ، وفيهم حفص الفرد البصري وكان من المتكلمين ، فقال : يا هؤلاء أخبروني فقد زعمتم أنكم تنصفون ، وأنكم لا تقولون إلا بما تعرفون ، من أين زعمتم أن من أنكر محمدا أو جحده ، ولم يقر بما كان من النبوءة عنده ، منكر لله جاحد؟ والله فغير محمد معبود ومحمد عابد؟ وإنكار واحد ليس بإنكار اثنين ، لأن الشيء الواحد ليس بشيئين! فقد سألت منكم كثيرا عن هذه المسألة ، فأجابوا فيها بجوابات مختلفة غير مقنعة ، وكيف أكون لك منكرا بإنكاري لغيرك؟ وهل تراه يصح في فكرك؟ أن أكون بإنكاري لمحمد لله منكرا وأنا به مقر ، وله موحّد مجلّ معظّم مكبّر؟

فأجابوه فلم يقنع بجوابهم ، ولم يستمع لمقالهم.

وكان مما أجبته به في مسألته ، وما كان فيها من مقالته ، أن قلت : أخبرني يا هذا إذ أنكرت محمدا وما جاء به من رسالاته ، أليس قد زعمت أن ما كان معه من آيات الله ودلالاته ، وما كان يرى الناس من الأعاجيب ، وينبئهم به من السر والغيب ، ليس كله من الله ، ولا شيء منه بصنع الله ، وأضفت ذلك كله إلى غير الله؟!

فقال : بلى. لا شك ولا امتراء.

فقلت : أفلا ترى أنك لو أنكرت أن تكون السماء والأرض من الله ولله خلقا صنعا ، مفتطرا بدعا ، كنت بإنكار ذلك لله منكرا ، وإن كنت بالله عند نفسك مقرا!! فكان في هذا الجواب ـ بحمد الله ـ ما حجّه وقطعه ، وكفاه في الاحتجاج عليه وكفه عن التشنيع ومنعه ، ولم يتكلم بعده ـ علمت ـ في مسألته بكلمة واحدة ، وأمسك في

مسألته عن الاكثار والشّغب والملادة.

وكما التقى بالنصارى التقى أيضا باليهود.

ففي المسائل : وسألته عن قول اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]؟

ف [قال] : قد يكون عنى بذلك ماضيهم ، وأن يكون أيضا اليوم من يقول من باقيهم ، وليس كلهم لقيت ، وإنما لقيت منهم من شاهدت ورأيت.

قال : وسألته : عن الذبيح أهو إسماعيل أو إسحاق؟

فقال : قد صح أنه إسماعيل ، على ما في كتاب الله من التنزيل ، لأن الذبح والقربان بمنى ، وفي ذلك دليل على أنه إسماعيل ، لأنه كان بمنى وإسحاق يومئذ بالشام ، إلا أن اليهود تأبى وتزعم أن الذبيح إسحاق ، وليس قولهم في ذلك محمودا.

المشبهة

وها هم المشبهة والمجسمة يثيرون البلبلة الفكرية في أوساط العامة ، ويشوهون نقاء العقيدة الإسلامية بخرافاتهم وأحاديثهم المستقاة من خرافات أهل الكتاب وأقاصيصهم المفتراة ، ذات الصلة الوثيقة بالتصور الوثني الساذج للإله. فلقد نهى عمر بن الخطاب عن جمع الحديث وروايته بلا تحفظ ، خوفا من اختلاطه بكتاب الله من ناحية ، وخوفا من الافتراء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أخرى ؛ بأقوال لم يقلها ، فيتم تحريف الدين عن مقاصده وأهدافه التي نزل القرآن بها ، وانقسم الصحابة بين متحفظ في الرواية ، وهؤلاء قلّ ما نقل عنهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن كان هناك من الصحابة من توسع في الرواية من أمثال عبد الله بن عمر وأبي هريرة.

ولكن لم يبق الأمر على ما وضعه عمر ، فقد جاء من بعده فبدءوا في الرواية والتدوين بشكل ما ، حتى جاء الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، فأمر بتدوين السنة ، وانتشر المحدثون في بقاع العالم الإسلامي يجمعون السنة من الحفاظ ومن المدونات والصحائف ، وقد كان لبعض الصحابة صحائف خاصة جمعوا فيها قدرا من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهكذا نجد السنة قد مضى عهد طويل بين زمن

التلقي وزمن الأداء ، حدثت أحداث وجدت أمور على المسلمين اختلف فيها حال التابعين وتابعي التابعين عن حال الصحابة وعصرهم ، وزالت دولة الخلافة الراشدة ، بمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وأذنت دولة بني أمية بالزوال ، والمسلمون على أبواب خلافة جديدة وهي خلافة بني العباس ، وتفرق المسلمون إلى فرق وأحزاب بدأ كل فريق في تكوين مذهبه السياسي والفكري وينصر آراءه بكم هائل من الأحاديث الصحيحة والباطلة ، ولا يرى غضاضة في رواية الحديث طالما ينتصر له على خصمه.

ظهرت على يد غلاة الشيعة الكثير من المرويات التي تناولت الذات المقدسة بالتشبيه والتجسيم ، ومثل هذا أيضا ظهر في جمهور أهل السنة وعامتهم. يؤيد ذلك ما ذكره الشهرستاني فيقول : (إن جماعة من الشيعة الغالية ، وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل الهشامين ـ يقصد هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي ـ من الشيعة ، ومثل مضر وكهمس وأحمد الهجيمي ، وغيرهم من غير الشيعة ، قالوا : معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض ، إما روحانية وإما جسمانية ، يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن) (١).

وإذن فقد ظهر الحشو عند الفريقين من غلاة الشيعة وأهل السنة ، وكذلك فرق أخرى كالمرجئة الذين قال بعضهم إن الله جسم لا كالأجسام ، فمن وراء هذا التيار العاتي في العالم الإسلامي آنئذ؟! .. لقد تسرّب التشبيه والتجسيم وكذلك مئات المرويات من الاسرائيليات في التفسير على يد المسلمين الجدد ، بقصد أو بدون قصد ، وانتشر القصاص بهذه الإسرائيليات يروجونها ، وكان اليهود وراء هذه الظاهرة.

وقد أرجع العلامة محمد بن زاهد الكوثري نشأة الحشو إلى أن (عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس ، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ثم أخذوا بعد ذلك في بث ما عندهم من الأساطير بين من تروج عليهم ، ممن لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم ، فتلقفوها منهم ورووها لآخرين بسلامة باطن ، معتقدين ما في أخبارهم في جانب الله من التجسيم والتشبيه ، مستأنسين بما كانوا عليه

__________________

(١) انظر كتاب الملل والنحل للشهرستاني ١ / ١٤٨.

من الاعتقاد في جاهليتهم ، وقد يرفعونها ـ افتراء ـ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خطأ ، فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتقد الطوائف ويشيع شيوع الفاحشة) (١).

ولم يهتم بنو أمية بالإسلام ولا برعاية شعوبهم دينيا ، بل كان لهم دور في فساد العقائد ، خاصة في مسألة الجبر التي تدعم سلطانهم ، فتسرب التشبيه والتجسيم لعقائد المسلمين. ودخل إلى الدين كمّ هائل من الأحاديث على يد مشبهة الرواة ، أجازوا فيها على الله التبعيض والجسمية ، والرؤية ، والمشي والنزول والمجيء ، واليدين والقدم والنفس والفوقية ، وصار دينهم جزأ أو شبيها بجزء كبير بدين اليهود (خلق آدم على صورة الرحمن) ، و (يضع الجبار قدمه في النار) ، و (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) ، وانظر في ذلك بحثا لي بعنوان (الصلة بين عقائد الوهابية والتوراة اليهودية) ، وكتاب (قراءة في كتب العقائد) للباحث السعودي حسن فرحان المالكي.

ويعلق الشهرستاني على هذه الظاهرة بقوله : إنهم أجروا لفظ هذه الأحاديث : (على ما يتعارف من صفات الأجسام ، وزادوا في الأحاديث أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذهب الشهرستاني أن مصدر هذه الأحاديث هم اليهود فإن التشبيه فيهم طباع ، وأن التوراة مليئة بهذه التشبيهات الغليظة ، ويرد إلى التوراة حديث أطيط العرش : (إن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد ، وأنه ليفضل من كل جانب أربعة أصابع) (٢). ومن العجيب أن محدثا مشهورا كجبر بن مطعم يروي هذا الحديث ، ويرد عليه البيهقي (٣) في (الأسماء والصفات) بأن هذا الكلام ، إذا كان جرى على ظاهره فإن فيه نوعا من الكيفية ، والكيفية عن الله تعالى وعن صفاته منفية.

وأفحش الحشوية في مقالتهم فقالوا بقدم القرآن حروفه وأصواته ورقومه المكتوبة ، وأنها كلها قديمة أزلية ، وكان دليلهم على هذا بأنه لا يعقل كلام ليس بحرف ولا كلمة ولا كتابة له ، ورتبوا على ذلك نتيجة مشبوهة ، ظنوا أنها منطقية ، هو ما دام

__________________

(١) انظر مقدمة تبيين كذب المفتري للكوثري / ١٠ ـ ١١.

(٢) انظر الشهرستاني ١ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٣) انظر البيهقي : الأسماء والصفات / ٤١٧٣.

الكلام قديما أزليان فلا بد أن حروفه وكلماته وكتابته أزلية.

وضلع فريق من المفسرين في تفسير القرآن الكريم في ضوء الاسرائيليات والتي حملت ظلالا كثيفة من التشبيه ، ومن هؤلاء (مقاتل بن سليمان المتوفي سنة ١٥٠ ه‍) والذي أجمع مؤرخو المقالات على أنه كان من المشبهة والمجسمة (١) ، وكان يكذب ويأخذ من اليهود والنصارى ، وربما كانت حركة التأويل العقلي في الإسلام رد فعل لحركة مقاتل بن سليمان ، وهكذا أدى تطرف المشبهة إلى ظهور تطرف النفاة من أمثال جهم بن صفوان (٢) ، وما حديث أطيط العرش ، وغيره إلا من مرويات مقاتل بن سليمان (٣) ، وكذلك حديث المقام المحمود ، وشحن تفسيره بالحشو والتشبيه والأحاديث الواهية والموضوعة (٤) ، ولذلك ليس مستغربا أن نجد أبا حنيفة المتوفي سنة ١٥٠ ه‍ (٥) يلعن مقاتل بن سليمان ، والغريب أن نجد مفسرا من التابعين له دور كبير في نشر حديث المقام المحمود ، هو مجاهد بن جبر المتوفي ١٠٤ ه‍ (٦).

وجمع مقاتل بين مذاهب رديئة ومتطرفة منها الإرجاء الذي أجمع عليه الأشعري والشهرستاني ، بل زاد الأمر إلى القول بأن الإيمان قول فقط (٧) ، وتأتي بعد ذلك فتأخذ الكرامية بقوله (٨).

ويبدو أن مقاتلا جمع بين الإرجاء والتشبيه والتجسيم ، يقول المقدسي : إن مقاتل زعم أن الله جسم من الأجسام ـ لحم ودم ـ وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه .. ويقول أيضا : إنه على صورة لحم ودم (٩) ، وحكى الأشعري مثل ذلك (١) ، وتبعه داود

__________________

(١) انظر الشهرستاني في الملل ١ / ١٥٤ ـ ١٥٨.

(٢) انظر المقريزي في الخطط ٢ / ٣٤٩ ، ٣٥١.

(٣) انظر الملطي في التنبيه والرد / ٥٥.

(٤) حققه وطبعه د / عبد الله شحاته ، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب.

(٥) انظر ابن خلكان في وفيات الأعيان ٢ / ١٦٣.

(٦) انظر الذهبي في ميزان الاعتدال ٣ / ٩ ، وأبا نعيم في حلية الأولياء ٣ / ٢٧٩.

(٧) مقاتل بن سليمان في تفسيره ١ / ١٣ ، ١٥٠.

(٨) انظر الأشعري في المقالات ١ / ٢٠٥.

(٩) المقدسي في البدء والتاريخ ٥ / ١٤١.

الجواربي الشيعي وأصحابه في مقالته : (إن الله أجوف من فيه إلى صدره ، ومصمت ما سوى ذلك له) (٢) ، وهذا يدل على أن التشبيه تشارك فيه مشبهة الحشوية والشيعة الحشوية المجسمة.

ويقول الأشعري : إن داود الجواربي ومقاتل بن سليمان يذهبان إلى أن الله جسم وأنه جثة على صورة الإنسان .. لحم ودم وشعر وعظم ، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين) (٣).

وهكذا نجد أن الإمام القاسم الرسي كان يصارع تيارا عاتيا من التشبيه تمكن من العامة وبعض الخاصة في العالم الإسلامي ، والمهم أنه يعتبر المقاتلية أسلافا للكرامية ، ويعتبر مشبهة الحشوية كمضر وكهمس والهجيمي هم سلف الكرامية.

وموجز القول في مقاتل بن سليمان أنه كان مشبها ومجسما ، وقد احتفظ لنا التاريخ بتفسيره الذي يثبت تمام الإثبات تشبيهه وتجسيمه ، وقد سبقه مضر وكهمس وأحمد الهجيمي بلا شك أو عاصروه في التشبيه.

لقد تطرفت أفكار مقاتل حول الإلهية غاية التطرف ، فحولته إلى (صنم) وقابل ذلك تطرف جهم الذي كاد أن يعبد من شدة التنزيه عدما ، وهذا بعينه ما جعل التيارات المعتدلة يبغضون الفريقين جميعا ، وفي رسالتنا هذه نجد الإمام القاسم يرد على جهم في الشيء ، كما يرد على مقاتل في الرؤية والنفس وغيرهما ..

نبغ في مدسة التشبيه ولمع اسم محدث مشهور عند رواة الحديث وهو خشيش بن أصرم أبو عاصم (٤) (إن خشيشا ممن سطع نجمه بعد رفع المحنة في فتنة القول بخلق القرآن عن تقريب المتوكل العباسي النقلة) (٥).

ووصفه الكوثري بقوله : (كان يفوه بما ينبذه البرهان ، غير ساكت عما لا

__________________

(١) الأشعري في المقالات ١ / ١٥٣.

(٢) الشهرستاني في الملل ١ / ٢١٩.

(٣) الأشعري في المقالات ١ / ٢٠٩.

(٤) انظر الزركلي في الأعلام ٢ / ٣٠٦.

(٥) الذهبي في تذكرة الحفاظ ٢ / ١١٩.

يعنيه) (١) ، فتورط أمثال هؤلاء في الحشو والتشبيه والتجسيم.

وجاء الملطي (٢) المتوفي سنة ٣٧٧ ه‍ ، وسقط في الحشو والتشبيه والتجسيم في كتابه (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) (٣) شاهد على ذلك ، فيروي عن خشيش صاحب كتاب (الاستقامة) والذي سبق الإشارة إليه ، ومحمد بن عكاشة (٤) وهو أحد القصاص ورواه الحشوية ، وإن كان للملطي فضل فهو في حفظ وثائق هذا الاتجاه إلهام في التراث الفلسفي الإسلامي.

وفي القرن الرابع الهجري ظهرت حركة كبيرة للحشو والتشبيه على يد المحدث المشهور بحر بن محمد بن الحسن بن كوثر بن علي البربهاري ، ولذلك نسبت إليها فقيل لها : البربهارية ، وهو ممن خلط في سماعه وأدائه فوجد في مروياته الحسن ، والرديء وانتهى للتشبيه ، يقول المقدسي : (أما البربهارية فإنهم يجهرون بالتشبيه والمكان ، ويرون الحكم بالخاطر ويكفرون من خالفهم ويتمسكون بحديث المقام المحمود) (٥).

ومهدت بيئة التشبيه والتجسيم إلى ظهور فكرة الحلول ، بل هي تنسب صراحة إلى مضر وكهمس وأحمد الهجيمي ، ويحكى الشهرستاني أنهم انتهوا إلى حد الاتحاد ، (من المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية ، وقال يجوز أن يظهر الله تعالى بصورة شخص) (٦).

وفي مجال البيئة الصوفية ظهرت فكرة الحلول والاتحاد وفرضت نفسها على يد صوفية كبار كأبي حلمان الدمشقي (٧) ، والحسين بن منصور الحلاج (٨) المتوفي سنة

__________________

(١) الكوثري في مقدمة التنبيه والرد / ٥ ، ٦.

(٢) أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي المتوفي سنة ٣٧٧ ه‍ ، وانظر السبكي في طبقات الشافعية ٢ / ١١٢.

(٣) حققه الشيخ محمد زاهد الكوثري وطبعته المكتبة الأزهرية عدة طبعات.

(٤) يقول عنه الذهبي وضاع وضع آلاف الأحاديث ، انظر لسان الميزان ٥ / ٢٨٦.

(٥) المقدسي في البدء والتاريخ ٥ / ١٥٠.

(٦) انظر الشهرستاني في الملل ١ / ٢٠٣.

(٧) الطوسي في اللمع / ٣٦٢.

(٨) الذهبي في لسان الميزان ٢ / ٣١٤.

٣٠٩ ه‍ ، وأبي عبد الله محمد بن سالم البصري.

فأما أبو حلمان الدمشقي فكان يعيش في دمشق ، وأظهر دعوته فيها ونادى بحلول الله في الأشخاص الحسنة ، وكان هو وأصحابه إذا رأوا صورة حسنة ، سجدوا لها ، متوهمين أن الله حل فيها ، وكانوا يستدلون على جواز حلول الله في الأجساد ، بقول الله تعالى للملائكة في آدم : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(٢٩) [الحجر : ٢٩]. وأن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم ، لأنه حل فيه ، ولذلك كان في أحسن تقويم ، والله يقول : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) [التين : ٤].

ولم يكن حظ العراق من الحلولية بأقل حظا من الشام ، فقد ذكر ابن الجوزي أنهم انتشروا في العراق ، فيقول (حكى قوم من المشبهة بأنهم يجيزون رؤية الله بالأبصار في الدنيا ، وأنهم لا ينكرون أن يكون بعض من يلقاهم في السكك ، وأن قوما يجيزون مع ذلك مصافحته وملازمته وملامسته ، أو يدعون أنهم يزورونه ويزورهم ، وهم يسمون بالعراق أصحاب الباطن وأصحاب الوساوس وأصحاب الخطرات) (١).

أما الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل سنة ٣٠٩ ه‍ ، فقد اختلف في تكفيره الفقهاء والصوفية ، بسبب آرائه في الحلول وقوله على الله ، أما المتكلمون فقد أجمعوا على تكفيره (٢) ، أما الحشوية من المنايلة والسالمية فقد احتفلوا بآرائه وقبلوها (٣) ، يقول البغدادي (وقبله قوم من متكلمي السالمية بالبصرة ونسبوه إلى حقائق معاني الصوفية) (٤).

__________________

(١) ابن الجوزي في تلبيس إبليس / ١٧٣.

(٢) انظر الأسفرايني في التبصير / ١٣٠ ـ ١٣٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) البغدادي في أصول الدين / ٣٢٢.

الكرامية

ثم ظهرت الكرامية على يد محمد بن كرام المتوفي سنة ٢٥٥ ه‍ (١) في بلاد ما وراء النهر ، ووجدت لها ناصرا في الدولة الغزنوية ومحمود بن سبكتكين سلطانها (٢) ، وصار لها أشياع وأتباع بالآلاف في عصر مؤسسها ، وظل المذهب موجودا ، وله أتباع الآن بالملايين ، فلما ذا؟ ..

لما عاش المذهب وناصره العامة ، ودافع عنه في عصره وبعده الحنابلة ، يبدوا أن ما يحمله من عقائد تشبيهية وتجسيمية أقرب إلى قلوب العامة من غيره.

يقول الشهرستاني : (شبع رجل متنمس بالزهد من سجستان ، يقال له أبو عبد الله بن كرام ، قليل العلم ، قد قمش من كل ضغثا ، وأثبته في كتابه ، وروجه على اغتام غزنة وغور وسواد بلاد خراسان ، فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهبا ، وقد نصره سبكتكين السلطان ، وصب البلاء على أصحاب الحديث والشيعة من جهتهم وهو أقرب مذهب إلى مذهب الخوارج ، وهم مجسمة ، حاشا محمد ابن الهيصم ، فإنه مقارب) (٣).

إذا نحن أمام مذهب تكوّن من فضلات أفكار كونت ثوبا مرقعا من التشبيه والتجسيم في التوحيد اقتربوا به من الخوارج وورثوا بها مدرسة مقاتل بن سليمان ، وداود الجواربي من المجسمة.

وتتلخص آراء الكرامية في العقيدة في أن الله جسم لا كالأجسام والغلو في إثبات الصفات الخبرية والعقلية ، فقالوا بالعرشية والجسمية والتحيز والنزول والمجيء .. إلخ (٤).

ويقول الشهرستاني عنه : (إن الله أحدي الذات ، أحدي الجوهر) ، والله عزوجل بذلك جسم لا كالأجسام ، وله وجود وبقاء وذات لا كغيره ، ويتناهى من جميع

__________________

(١) انظر الشهرستاني في الملل ١ / ٢١ ، ١٠٦ ، ١٢٤ ، ١٢٩.

(٢) انظر ابن كثير في البداية والنهاية ٢ / ٢٧ وما بعدها.

(٣) الشهرستاني السابق ١ / ١٠٦.

(٤) انظر الأشعري في المقالات ١ / ٢٠٥ وما بعدها.

جوانبه ، وله مكان هو العرش ، ويرى في جهة فوق (١)! .. إلى آخر ما ذكره أصحاب الفرق (٢).

وانتهى التشبيه والتجسيم بمدرسة تقي الدين ابن تيمية المتوفي ٧٢٨ ه‍ الحنبلي ، وقد نشأ في بيئة يحيط بها التشبيه من جوانبها ، ليؤدي هذا الفكر حتى هذا العصر ، والذي يؤمن بمذهبه ملايين المسلمين!

هذا هو الفكر الذي كتب الإمام القاسم بن إبراهيم ليرد عليه في كتابه المسترشد ، ليعلم مدى أهمية هذه الرسالة في الدفاع عن العقائد الإسلامية صافية خالصة ، بعيدة عن التأثيرات الفلسفية الوافدة ، أو الأفكار التراثية الساذجة ، وحتى لا ينتهي أمر العقيدة إلى بقايا أديان مختلفة لا علاقة للإسلام بها.

وهذا هو الفرق بين منهج ومنهج ، وفكر وفكر ، من هو الأصيل منهما ، ومن هو الدخيل ..؟ لقد أصل الإمام القاسم لمنهج إسلامي خالص في الفكر الكلامي.

* * *

__________________

(١) الشهرستاني مصدر سابق ١ / ١٢٤.

(٢) الأشعري مصدر سابق ١ / ٢١٥.

منهج الإمام القاسم في الرد على المشبهة

١ ـ يرد الإمام القاسم في هذه الرسالة على المشبهة والمجسمة ، وقد زعموا أن الله في السماء واستدلوا على ذلك بالنص القرآني ، فرد عليهم بأن هذه النصوص هناك نصوص مثلها تدل على أنه ليس في السماء ، فأيهما أولى بالتصديق وأيهما أولى بالرد ، فللصعود معان في اللغة ، وللفاء معان أيضا تحتملها لغة العرب الذي نزل بها القرآن ، على غير ما قصد المشبهة من المكانية ، والتي هي ممتنعة على الله ، وعقب على ذلك بقوله : (فالمعنى في ذلك كله المشاهدة والتدبير ، لا على أنه في شيء يحويه ، ولا على أنه مع شيء ملازق له ، ولا على أنه على شيء ، كما الإنسان على السرير وعلى السطح ، قد خلا منه ما هو أسفل من ذلك!).

٢ ـ وكذلك نفى كونه تعالى على العرش ، لأن العرش ليس بأحق من غيره من الأماكن ليوجد فيه الله ، وهو ما يعلن بالتحيز والجهة ، وكل ذلك منفي عن الله عقلا ونقلا ، وكيف يمكن الجمع بين كونه تعالى في السماء ، والعرش نفسه فوق السماوات على حد قولهم؟ ..

وهناك من المشبهة من قال بأن الله تعالى نفس كنفس الإنسان ، فرد عليهم ، وبيّن لهم أن للنفس معان مختلفة في اللغة العربية يليق بعضها بذات البارئ. فلم حمل المشبهة معنى النفس في القرآن على أنها نفس كنفوس بني آدم؟!

يرجع الإمام القاسم ذلك إلى جهلهم بالخطاب الإلهي وعدم معرفتهم بحقيقة التوحيد ، وجهلهم بلغة العرب الذي نزل القرآن بها.

٣ ـ المسألة الثالثة كانت في رده على من زعم أن الله نور كالأنوار المخلوقة ، وهو عين مذهب المجوس والثنوية ومذهب المانوية في كونه تعالى نورا ، والشيطان هو الظلمة ، أو أن العالم ما هو إلا النور والظلمة وقد حدث من امتزاجهما ، إلى آخر ما قالوا وردّ عليهم بتفصيل أكبر في رسالته التي رد فيها على ابن المقفع.

فبيّن الإمام القاسم أن النور المقصود في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) [النور : ٣٥] ليس ذلك ، ولا يمكن أن يكون هو بحال من الأحوال. والله

(استنار لنا بتدبيره من غير مشاهدة منّا له ، ولا إحاطة به ، ولا إدراك من حواسنا له).

فمن عرف الله وتعرّف عليه وأدركه ، كان ذلك (بتدبيره ونوره وعلاماته ، لا بمجاهرة منهم له ولا بالمشاهدة والملاقاة). وللنور تأويلات أخرى مختلفة بحسب معانيها في اللغة العربية ، منها ما يليق بذات البارئ تعالى ، أما ما قصده الملاحدة فلا ، وكذلك معنى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [النور : ٣٥] لا ينبغي صرفها إلى ظاهرها الذي يعني التشبيه والتجسيم ، وإنما اللائق بذات الله هو أن يكون مثل نور النبي الذي جاء به مثلا ، أو قلب المؤمن في نور إيمانه ، أو ما شاء الله من المعاني المصروفة إلى غير معنى التشبيه ، ويصدق ذلك أيضا على قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥] ، وغيرها من المعاني الشريفة.

٤ ـ وكذلك صيّر المشبهة مفهوم الشيء فمالوا إلى التجسيم ، أما الجهمية فقد مالوا إلى أقصى التنزيه فأنكروا الشيئية في حق الله عزوجل ، وهكذا مال قوم إلى التشبيه فأفرطوا ، وآخرون إلى التنزيه ففرطوا ، وكلاهما حاد عن سواء القصد فهو ذميم! ..

فالله تعالى ، وسم المعاني بأن قال : هي شيء ، لإخراجه لها من العدم إلى الوجود ، وهذا يعني أن الشيء هو الموجود في مقابل العدم ، (والله شيء لا يشبه الأشياء) ، وهو خالق الأشياء ومشيئها ، ولا يشبه شيئا من خلقه ، وفي غير ما مثلية ، فالتشبيه لا يجوز إلا على ضد ومثل.

ف (الله شيء واحد كريم ، والله شيء عزيز ، والله شيء ليس كالأشياء ، فيكون ذلك مدحة ، ولا يذكر العبد التقي ربه إلا وهو فيما ذكر من أسمائه مادح).

٥ ـ أما المسألة الخامسة فكانت في الرد على من أنكر أن يكون الله واحدا ليس بذي أبعاض ، لقد نقض الإسلام التصور الأرضي للإله ، ذي القدرات الخاصة (السّوبر) وأكد على قيوميته تعالى وفردانيته ووحدانيته ، فلا ثاني معه ، ولا مثل له في صفة ولا في ذات ولا في قول ولا فعل ولا معنى من المعاني ... والواحد له معان كثيرة في اللغة منها الأول الفرد ، وهو العدد الحسابي ، أو بمعنى أنه أول الأشياء ، والله واحد لا من عدد وليس له في وحدانيته شبيه ولا نظير في ألوهيته ولا في ربوبيته.

ورفض الإمام القاسم التبعيض على الله ، فالله ليس بجسم ، والأعضاء من خصوصيات الأجسام ، فلا يد له كأيدينا ولا رجل له كأرجلنا ، ولا على مثالنا ، الكون لا يقوم إلا بمكوّن ، والطول لا يقوم إلا بمطوّل ، والأبعاض لا تكون ولا تقوم إلا باتصال بعضها ببعض ، والله على غير هذا ، ولا تقوم إلا باتصال بعضها ببعض ، والله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير (ليس يشبه معاني البشر ، ولا الحساب ، وهو إسقاط الثاني ، وليس ثان مع الله ولا واحد غيره في معناه ، كهو وإثباته واحدا تعطيل الثاني ، وفي تعطيل الثاني توحيد الأول ، والواحد الباقي الذي ما سواه ثان).

٦ ـ المسألة السادسة كانت رده على من زعم أن لله وجها كوجه الإنسان ، وإذا كان الله أنزل القرآن بلغة العرب وهي لغة الإيجاز والبلاغة ، فقد جعل الله بيان القرآن في هذه اللغة وفي تصاريفها ، وهو مما يعلمه ويدركه العلماء الراسخون ، والمشكلة فيمن نحّى اللغة جانبا ، وبدأ فهم النص من عندياته ، فهلك وأهلك وضل وأضل ، وقد ذكر الله الوجه في أكثر من موضع ، فهل يعني هذا أنه ذكر بعضه على وجه التحقيق؟!

هذا ما نفاه كل بصير ، وجاء الإمام القاسم ليرد بشدة على هذا الزعم ، وقد ذكر لذلك تأويلا وتفسيرا مقبولا على معاني ما جاء في اللغة العربية ، لا يحمل معنى التبعيض أو التشبيه والمثلية وكذلك يليق بذات الله تعالى ، وقد يكون وجه الله هو العمل الصالح والقول الحسن والثواب ..

٧ ـ أما المسألة السابعة فكانت في نفي الرؤية ، والرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين ، تعالى عن ذلك ، بما تعنيه من إحاطة وجهة وتحيز ، وقدم الإمام القاسم معان كثيرة للرؤية سوى ما يفهم من الجهة والإحاطة وغيرها.

ثم قدم تفسيرا لمعنى الرؤية عن رسولين كريمين هما إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، فيقول الإمام القاسم : (إبراهيم وموسى في سؤالهما وقولهما لم يسألا ربهما أن يرياه جهرة ، بمعنى ما يرى البشر البشر ، لأن ذلك شرك ..).

فلم يحدث الله في الجبل رؤية ، ولا كان للجبل عين ولا عقل يدرك الرؤية ، أما معاني التجلي الإلهي على الجبل فقد أفاض فيها الإمام القاسم.

وقدم الإمام القاسم مفهوما للرؤية في الآخرة ، غير مفهوم المشبهة ، فقال : (يراه

أولياؤه وينظرون إليه نظر مخلوقين إلى خالق ، ينتظرون ثوابه ويرون تدبيره ، لا كنظر مخلوقين إلى مخلوق ؛ لأنه ليس كالمخلوقين ، ويجوز أن يقال : نظر إلى من ليس كالمخلوق كما ينظر إلى المخلوق ..! وفي الخلق ما لا يرى وهو الروح والعقل وما أشبههما ، فلا يقال : إن شيئا من ذلك يرى كما ترى الأشخاص!).

وكذلك ينظر أولياؤه إليه لا بمعنى جهرة وإحاطة منهم به ، ولكن ينظرون إليه على خلاف التحديد والإحاطة.

وكلما كان من ثواب الله في الجنة فلا يعلم كيف هو إلا الله ، إلا أنا نعلم أن معنى الدرك له في الجنة ليس بتحديد ولا إحاطة ، فاعرف معاني الدرك واعرف فضل الدرك الذي يكون في الآخرة ، على فضل الدرك الذي يكون في الدنيا ، ولو أمدّ الله عزوجل الأبصار بالمعونة ، حتى تدرك أقل قليل نقطة من القطر في مدلهم ليل عاتم تحت الأرض السفلى ، من أبعد غايات السماوات العلى ، ما أدركت الأبصار الله ، وكذلك لو أمدّت الحواس كلها بالمعونات حتى تدرك كل محسوس ما هجم منها شيء على الله سبحانه ، تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

إذا الخلاف بينه وبين من يثبت الرؤية في الآخرة خلاف جوهري ، فهو يصرفها عن معنى الرؤية التي يفهمها بشر من بشر ، وهم يثبتون هذه الرؤية الحسية ، وقد أفاض الإمام القاسم في نفي الرؤية على معنى ما ذكر قوم موسى عليه‌السلام ، ونفى أيضا اتهام موسى بأنه طلب الرؤية الحسية ؛ يقول الإمام القاسم : (لو كانت مسألة موسى على ما يتوهم المشبهون ، لنزلت به من العقوبة مثل ما نزل بغيره ، ولغلّظ الله عليهم تغليظا يعلم العباد أنه أكبر من الصغائر ، وفي تكفير الله عزوجل الذين قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، إخراج مسألة موسى عليه‌السلام من معنى رؤية الجهرة ، وإخراجه من جهل القوم بالله).

كما رفض الإمام القاسم روايات المشبهة في الرؤية ، لأنها تتعارض مع روايات أخرى تنفيها ، مع ما تحمله هذه الروايات من إثبات ما لا يليق بمقام الألوهية ، من التحيز والجهة والتبعيض والجسمية ، والعرض كاللون والهيئة.

وأوّل الإمام القاسم معنى (لقاء الله) ، وكذلك (حجاب الكفار) عنه يوم القيامة،

وفسّر النظر بمعنى الدعاء ، ونفى أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى ربه في الإسراء والمعراج ، وإنما رأى جبريل عليه‌السلام على حقيقته وهيئته التي خلقه الله عليها ، أما الإدراك فهو بمعنى المشاهدة والملاقاة جهرة ، أو ما يرد على القلب ، وهو يتفاوت بتفاضل المؤمنين بعضهم عن بعض.

وفي آخر هذا الرد يقدم مفهوما لإدراك الله في الدنيا ، يرد على قلوب العارفين الصالحين من عباد الله ، تبدو به سمات شخصيته الروحية والصوفية العارفة ، ومعايشته للإيمان تجربة ومنهاجا.

الرافضة

يرد الإمام القاسم بن إبراهيم على الروافض في زعمهم أنه لم يخل قرن من القرون إلا وفيه له وصي نبي أو وصي من وصي ، يقيمه الله تعالى حجة على عباده ، له علم خاص وحال خاصة ومن جهله ضل ، وطاعته مفروضة ، ومعرفته مفروضة على جميع أهل زمانه.

وبدأ الإمام القاسم في نقض هذه المقالة من وجوه عديدة ، منها : أين كان هذا الوصي الحجة في الفترات التي خلت من الرسل ، وإن كان موجودا لم لم يعرّف بنفسه أو يدع قومه إلى الإيمان به وتوحيد الله تعالى ، وما الحاجة للرسل إذا كان هؤلاء الأوصياء موجودين في كل زمان؟!

ويرد على الروافض دعواهم بأنها تكذيب للرسل وإلحاد بالكتب ، ولا يفوه بمثل هذه الدعوى إلا كافر عنيد وخصم ألد ، فلا الله تعالى بث في عباده حججا هي أوصياء على خلقه ، ولا الأنبياء غابوا عن عباده برسالته الهادية إلى توحيده وتفريده.

والآيات المحكمات من نص كتاب الله دالة على بعث الله للرسل والكتب ، وأنهم سرج هداية للبشر ، ولم يقم لغيرهم حجة على خلقه.

ويدعي الروافض أن النبي عليه أن يتعرف على وصي زمانه ويأخذ الإذن منه! ..

وأن الوصي خير من النبي .. وغير ذلك من ترهات كفرية أحصاها عليهم الإمام القاسم.

فليس بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة أو حجج على خلقه غيره صلى لله عليه وآله ، وغير القرآن المنزل من قبل رب العالمين ، وكل رسول هو لله حجة ، وكلهم شهداء لله على خلقه وعباده ، وأمناؤه في أرضه وبلاده ، وتهدد الله وتوعد من ينكر رسالة رسله أو يحاربهم ، أو يسعى في الأرض فسادا ، هاجرا شرعه وتاركا لتوحيده.

أما لفظ الإمام في القرآن فكان لأتباع الأنبياء وخلفائهم في خلقه ، يهدون بهداهم ويدعون بدعوتهم ويحكمون بشريعتهم ، ليس لهم علم ظاهر ولا باطن يخالف ما جاءوا به أو يفوق ما جاءوا به.

ويسخر من الروافض إغراقهم في التشبيه والتجسيم وسيرهم وراء زعماء السوء من أمثال هشام بن الحكم بن سالم الجواليقي ، وداود الجواربي ، وغيرهم ، ثم ادعاؤهم على الله واختلاقهم شخصية الولي الوصي ، أو الوصي الولي والحجة على خلقه في كل زمان!

فشبهوا الله بصورة آدم وقالوا منكرا عظيما ، يدل على جهلهم بصفة ربهم وخالقهم ، فهو جسم ، وطوله ستون ذراعا ، وهو نور ، وهو على العرش ، وهو لحم ودم ، تعالى الله عن مقالتهم علوا كبيرا.

ويعذرهم الإمام القاسم في جهلهم في صفة ربهم لعدم قصد أكثرهم التجسيم ، ولكنهم تبعوا زعيما لهم فأضلهم ، إلا مقالة الولي الوصي فشدد عليهم النكير لكون مقالتهم معاندة لحقائق وبديهات العقول ، وإنكارا للرسالة وما فيها ، وتهوين شأن الرسل ووحي السماء.

ويرجع كلام الروافض لتأثرهم بالبرهمية الهندية في إنكارهم للرسل ، وقولهم نكتفي برسالة آدم وهو كذب وزور وضلال ، لإنكارهم رسالة الرسل ونبوة الأنبياء ، وردهم الكتب ووحي السماء. والغريب أنهم قالوا بوصية آدم لشيث ابنه!

ولو وجد هذا الوصي ما كانت هناك فترات ولا رسل ولا جاهلية أبدا ، ورسالة الله منة ورحمة ولطف بعباده ، وما زالت الرسل تترى والوحي يتتابع حتى ختمت بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأرجع الإمام القاسم أمر الهدى والضلال والكفر والإيمان لله وحده ، فمن آمن واهتدى خرج من الكفر والضلال وسكن إلى سكينة ربه وطمأنينته ، وليس المرجع لإمام وصي معصوم من علمه اهتدى ، ومن جهله ضل كما يزعمون : «والله سبحانه يخبر أنهم كانوا كلهم في ضلال وعمى ، وقد كانوا جميعا جهلة بدينه لا علماء ، والرافضة تزعم أنه قد كانت فيهم يومئذ الأوصياء ، وأنها قد كانت تعلم من الدين حينئذ ما كانت تعلمه الأنبياء ..».

وما تزعمه الروافض هو من القول المتناقض المستحيل (إذ وصفوا بعضهم بالهدى مع وصفهم بالتضليل!).

ثم ذهب إلى الاحتجاج عليهم من باب الإلزام ، ليسألهم عن الوصي الذي كان مع سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه «معلوم عند كل أحد من الأمم غير مجهول ، أنه لم يكن في العرب بعد عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رسول ولا مدع يومئذ».

وإن كان هناك وصي فلم لم يعرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم يا ترى تعرف الروافض ما لا يعرفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل ضل النبي بجهله إمام زمانه ووصي عصره؟! ..

وهذا الوصي أين كان لما قال إبراهيم عليه‌السلام : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٣] ، وكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومسألة وجوب علم الوصي ومعرفته بعينه في كل زمان وفي زمن الإمام القاسم المتوفي سنة (٢٤٦ ه‍) ، والدعاوي التي أطلقها الروافض في أوجها .. وعليه أن يعرف وصي زمانه ويؤمن به ليهديه ويرشده! .. مما رد عليه الإمام القاسم في رسالته.

ويقارن بين النبوة ودعوى الوصاية فيبطلها ويكذبها من وجوه عديدة عقلية ونقلية ، ويذهب إلى أبعد المدى فيكفر الروافض بمقالتهم هذه ، ولذلك أرجو أن ينتفع المسلمون بهذه الرسالة ، وتسد حاجة في مكتبة العقيدة ، وتساعد الدارسين على فهم حقيقة موقف الزيدية من الروافض.

المعتزلة

وها هم أئمة المعتزلة في عصره ، يفدون عليه في مجلسه ، محاورين ومستفهمين ، فهذا (حفص الفرد) ـ وهو علم من أعلام المعتزلة في عصره ـ يحضر مجلسه كما سبق.

وهذا (جعفر بن حرب) ـ علم من أعلام المعتزلة ـ يفد عليه مستفهما ومحاورا.

قال الإمام أبو طالب : حدثني أبو العباس الحسني رحمه‌الله ، قال : سمعت أبا بكر محمد بن إبراهيم المقانعي ، يذكر عن أبي القاسم [البلخي] عبد الله بن أحمد بن محمود ، عن مشايخه ، أن جعفر بن حرب ـ بغدادي من أئمة المعتزلة توفي سنة (٣٣٦ ه‍) ـ دخل على الإمام القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، فجاراه في دقائق الكلام ، فلما خرج من عنده قال لأصحابه : أين كنا عن هذا الرجل فو الله ما رأيت مثله (١)؟!

* * *

__________________

(١) الإفادة / ١١٥.

الإمامة

يعد مبحث الإمامة نموذجا صالحا لمعرفة كيف تعامل المتكلمون مع واحدة من أهم مسائل الإسلام السياسي ، وإمكان اتخاذ هذه الآراء كقاعدة لتأسيس منهج جديد لعلم الكلام في تعامله مع القضايا المطروحة الآن في الساحة السياسية ، كالإسلام والديمقراطية ، والإسلام والثورة ، والإسلام والتعددية الحزبية ، والإسلام والآخر كأهل الذمة والغرب ، والإسلام والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان كالعدل والمساواة والإخاء والحرية ، والإسلام وحقوق المرأة ، والإسلام والإبداع ، والإسلام والمعارضة السياسية ، والإسلام والنظم العالمية ، إلى آخر هذه القضايا الساخنة في الساحة الفكرية المحلية والعالمية ، والتي تمثل تحديا لتاريخنا الفكري وواقعنا الحضاري في البقاء أو التنحي ، والتي تبدأ بجدية التناول والطرح وعمق الأفكار والنظريات التي يقدمها المسلمون لإنسان القرن القادم ، وعصر الكونية والعولمة والفضاء وما بعد الفضاء! ..

ولا يعقل أن نتنكر لها لتبقى القضايا السياسية أو المتعلقة بالإسلام وأصول الحكم ، كما هي دون تغيير من حيث النظرية أو التطبيق. فما موقف الإسلام من الإرهاب ، وما الحلول التي يقدمها من أجل حماية الشعوب من إرهاب الدولة وإرهاب الجماعات المسلحة على حد سواء؟! وما موقف الإسلام من الاقتصاد المحلي والعالمي ، وما الذي سيقدمه للعرب في ظل نظريات الجات وانفتاح السوق ، وما الإسهام الذي سيقدمه العلماء والباحثون من أجل الوحدة العربية والإسلامية في مقابل أوربا موحدة ، وغرب موحد ، كما أن الصراع الحضاري يفرض نفسه ، فمن نظرية صمويل هانتجتون الأستاذ بجامعة هارمز الأمريكية في كتابه «صدام الحضارات» ، والذي يصور لنا مستقبلا يحل فيه صراع الحضارات محل الحرب الباردة والمعارك الإيديولوجية ، ومحل الفاشية والشيوعية والديمقراطية ، التي سيطرت على معظم هذا القرن ، ويتوقع أن يميل الناس إلى تعريف أنفسهم وفقا لانتماءاتهم الحضارية : الغربية ، الإسلامية ، الصينية ، الأمريكية ، اللاتينية ، الأرثوذكسية ... إلخ. وأن هذا الصراع سيظهر عند نقاط التقاطع!

أما الصراع الإسلامي الغربي فهو أكثر نقاط الصراع استمرارية وسخونة ، أما

الصراعات الأخرى فربما كانت أقل قابلية للتفاقم ، وأكثر قابلية للحلول الوسط. أي أنه لا هدنة ولا سلام مع المسلمين والإسلام.

فالحركات الإسلامية صارت مبعث قلق للغرب بدورها المتصاعد ، لا سيما البعيدة عن التطبيق السياسي ، والتي يصور بعض قادتها الإسلام في مقابل الديمقراطية ، والغرب قلق بطبعه لعدم معرفته بالاتجاهات التنويرية في الفكر الإسلامي ، والتي تنطلق من تاريخية أصيلة وتراث متفوق في الممارسات والنظريات ، وكذلك قلق لإيمانه بأن العلمانية الكاملة هي شرط التحول الديمقراطي.

يأتي بعد ذلك مفكرون غربيون ليقفوا من نظرية صمويل هانتجتون على النقيض ، ليقرروا أن العلمانية المتطرفة ، كانت هي العامل الأساسي وراء ظهور الأصولية كرد فعل. كذلك عدم وجود رد فعل حقيقي فكري وشعبي للتعريف بالإسلام السياسي ، جعل تقارير العملاء وأنصاف العملاء من الصحفيين الأمريكان وغيرهم ينفخون في نظريات جديدة ليس لها ظل من الواقع «كالمؤامرة الإسلامية» والتي تقوم على الخلط بين الاتجاهات والأحداث.

أما تعبير «الأصولية الإسلامية» والذي لا يساوي بحال البيئة الحقيقية التي نقل منها هذا اللفظ البروتستانتية الأمريكية ، لوصف الوضع الإسلامي الداخلي فهو تعبير غير لائق ولا ملائم ، ويضلل الغرب ، الذي لا يعرف حقائق الإسلام السياسي ، تجاه فكرية خرجت ـ بقصد ـ من أدراج البنتاجون والمخابرات الأمريكية.

وعموما الغرب يرد على الغرب فقد كتب جون اسبوزيتو كتابا عن «التهديد الإسلامي : أسطورة أم حقيقة؟» ، ورد فيه مزاعم التصور الغربي للإسلام السياسي والجماعات العاملة على الساحة الإسلامية.

أما مقالة «تحدي الإسلام الجهادي» لجودفري جانس ، فقد بينت عدم جدوى المواجهة مع الجماعات الإسلامية ، في ظل الفساد وعدم الكفاءة. ومقاومة التأييد المتنامي للإسلام السياسي يدعو الغرب إلى حملة جهاد غربية ضد ما يسمى بخطر الأصولية الإسلامية.

وإذا كان لنا تعليق على الوضعية الفكرية في الغرب للإسلام وأهله ، فإنا نناشدهم

التعامل مع الإسلام بمنظور جديد ، وكذلك نناشد الحكومات الإسلامية إلى تطبيق الفكر الإسلامي السياسي بمعاييره الواضحة والديمقراطية لقطع خط الرجعة على الجماعات المسلحة، وكذلك قطع خط الرجعة على التعصب والعصبية الغربية في مواجهة الإسلام. ويؤكد خطورة الموقف في العالم الإسلامي ما ذكره غسان سلامة من : «أن المعايير المزدوجة للغرب وسياسة التدخل العسكري الانتقائية ، والتركيز على الجانب الأمني في التوجه الغربي ، نحو العالم الإسلامي ، قد يدفع بدون شك في سبيل وصول الإسلاميين للسلطة» (١) ولعل دعوة السيد محمد خاتمي رئيس جمهورية إيران الإسلامية إلى (حوار الحضارات) تعد نموذجا رائعا من الحلول التي يقدمها الإسلام والمسلمون في سبيل التعايش السلمي بين الشعوب والاعتراف بالآخر.

ربما نكون قد أوضحنا مدى خطورة الموقف السياسي في العالم الإسلامي ، إن لم نقدم على إصلاح حقيقي كالذي حدث في الغرب ، فالشورى ضرورة ملحة ، والديمقراطية ضرورة ملحة ، وتطبيق الدستور ، والتخلي عن الأحكام العرفية ضرورة ملحة.

وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان ضرورة ملحة ، وإلا جعلنا للجمعيات المراقبة في الداخل والخارج ، بتقاريرها المشبوهة في الغالب ، يدا طولى على مؤسساتنا السياسية بما تفعله في الغرب ، وما تعطيه له من مسوغات للتدخل في شئوننا الداخلية. وما حدث أخيرا ينذر بتحفز الغرب ضد الشرق الإسلامي.

وكثيرا ما يعتريني الخوف من الخلط المقصود الذي صوره د / مظهر في كتابه «الإسلام لا الشيوعية» عن تصور الغرب لنا إذ يقول : «سمعت بعضهم يقول : لقد شبعنا من الإسلام ، فلا نعود إلى حكم الإسلام ، ذلك بأنهم لم يعرفوا الإسلام ، ولم يتفقهوا في ما ينبغي أن تكون عليه دولة الإسلام.

فكل الحكومات التي قامت على الاستبداد والجور والفسق واللصوصية في ديار الإسلام ، ثم انحلت وماتت ، هي عندهم وليدة الإسلام لا وليدة المسلمين ، مسكين هذا

__________________

(١) انظر تقرير د / ألفت حسن آغا في : الأصولية الإسلامية بالإعلام الغربي العدد ٢٥ ـ يناير ١٩٩٥ ـ الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

الإسلام ، باسمه تؤخذ الدنيا وباسمه تزول ، ومن وراء الأخذ والزوال لصوص بعيدون عن الإسلام ، يلتمس هم بعض المغفلين الأعذار ؛ بأنهم لو لا الإسلام ، لما أصبحوا لصوصا!! .. ولو لا الإسلام لما انقلبوا جهلة مارقين ، ولو لا الإسلام لما زالت دولة اللصوصية من أيديهم ، فهل وراء ذلك من جهل!» (١).

لقد تعرض التاريخ الإسلامي السياسي منه والثقافي والديني ، لتفسيرات واجتهادات مختلفة ، ومع تباين البيئات وتفاوتها في كل عصر استطاع المفكرون الإسلاميون أن يضعوا اجتهادات ثاقبة وفريدة ، وعالجوا مشكلات عديدة ذات مستوى راق ، يشهد لذلك هيجل في مؤلفه «محاضرات من تاريخ الفلسفة» يصف التاريخ السياسي للعالم الإسلامي بقوله إنه «مجرد معرض للتغيرات الدائمة» (٢).

فهل لنا أن نواصل مسيرة الإصلاح السياسي في ظل هامش الديمقراطية المتاح دون التفات للخلف أو انتكاس للوراء؟! .. مع توعية الشعب المسلم بخطورة الجماعات الإسلامية التي تعتمد العنف والإرهاب في مقرراتها ، فهي إن لم تكن عميلة للغرب وخرجت من أدراج مخابراتها ، فهي على الأقل تعمل لتزكية مصالحه في بلادنا.

والبديل من ذلك ، زيادة الوعي الشعبي بحقيقة الإسلام السياسي من خلال القنوات الشرعية والمؤسسات الثقافية ، لأن إهمال هذا الجانب يؤدي إلى عواقب وخيمة.

* * *

__________________

(١) الإسلام لا الشيوعية / ٥١ وما بعدها.

(٢) روز نتال في : مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي / ١٣ ترجمة د / انيس فريحة ، دار الثقافة ١٩٦١ بيروت.

التوحيد

إن وجود الله تعالى وتوحيده من البداهات التي يدركها الإنسان بفطرته ، ويهتدي إليها بطبيعته. وليس من مسائل العلوم المعقدة ، ولا من حقائق التفكير العويصة.

ولو لا أن شدة الظهور قد تلد الخفاء ، واقتراب المسافة جدا قد يعطل الرؤية ، ما اختلفت على ذلك مؤمن ولا ملحد.

(أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠].

وقد جاءت الرسل لتصحيح فكرة الناس عن الألوهية. فإنهم وإن عرفوا الله بطبيعتهم إلا أنهم أخطئوا في الإشراك به ، والفهم عنه. (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [إبراهيم : ٥٢]. (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩].

والبيئة الفاسدة خطر شديد على الفطرة ، فهي تمسخها وتشرّد بها ، وتخلّف فيها من العلل ما يجعلها تعاف العذب وتسيغ الفجّ.

وذاك سر انصراف فريق من الناس عن الإيمان والصلاح ، وقبولهم للكفر والشرك! مع منافاة ذلك لمنطق العقل وضرورات الفكر وأصل الخلقة.

(إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فأتتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم ..) (١).

وقد اقترنت حضارة الغرب ـ التي تسود العالم اليوم ـ بنزوع حاد إلى المماراة في وجود الله ، والنظر إلى الأديان ـ جملة ـ نظرة تنقّص ، أو قبولها كمسكنات اجتماعية لأنصارها والعاطفين عليها.

ولا شك أن المحنة التي يعانيها العالم الآن أزمة روحية ، منشؤها كفره بالمثل العليا التي جاء بها الدين ، من الحق ، والإنصاف ، والتسامح ، والإخاء.

فلا نجاة له مما يرتكس فيه إلا بالعودة إلى هذه المثل ، يهتدي إليها بفطرته ، كما

__________________

(١) أخرجه مسلم ٤ / ٢١٩٧ (٢٨٦٥) ، وأحمد ٤ / ١٦٢ (١٧٥١٩) ، وابن حبان ٢ / ٤٢٢ (٦٥٣).

يهتدي سبيله الجنين في ولادته ، والفرخ من بيضته.

ومتى هدي العالم إلى الفطرة ، هدي إلى الإسلام ، فإن الإسلام هو دين الفطرة.

ومعرفة الله سبحانه وتعالى مركوزة في كل طبع. واسمه الكريم معروف في كل لغة ، واختلاف الأجناس والألسنة لم يصرف الأفئدة والأفكار عن هذه الحقيقة الواحدة.

بيد أن هذه المعرفة المتصلة برب العالمين لم تأخذ امتدادها الكامل وسماتها الراشدة ، ولم تبرأ من الأوهام وتبعد عن الأهواء ، إلا عند ما تلقّاها الناس مصفّاة من ينابيع الوحي ، وسمعوا آياتها تتلى من أفواه الأنبياء.

ولكن ذلك لم يمنع الكثير ممن لم يدخلوا في نطاق الرسالات الأولى ، أو لم تبلغهم ـ على وجه صحيح ـ هدايات القرآن الكريم ، أن يفكروا في الله من تلقاء أنفسهم ، وأن يطلقوا لعقولهم عنان البحث.

والفلسفة الإلهية حافلة بالكثير من هذه الأفكار ، كما أن علماء الكون في العصر الأخير قد تكلموا عن الله في حدود ما هداهم إليه البحث المجرد في آفاق الطبيعة وأسرارها وقوانينها.

والفلاسفة القدامى أسموا الله : الصانع ، والعقل الأول ، وواجب الوجود ، وسبب الأسباب ، وغير ذلك من الأسماء التي اصطلحوا عليها.

كما أن للعلماء المحدثين تصورات في الألوهية التبس فيها الحق بالباطل كما سترى. وعلة هذا اللبس ، أن هداية السماء لم تصحب العقل في سيره. ومن ثمّ أقر العقل بالمبدإ الواجب ، وأخطأ في التفاصيل المتعلقة به.

المهم أن العقل الذكيّ ، والبحث النزيه ، والفكرة المبرّأة عن الغرض ، المستقيمة على النهج ، تتأدى بأصحابها ـ حتما ـ إلى الله ، وتقفهم خاشعين أمام الشعور الغامر بعظمته وجلاله.

ليس كمثله شيء

إن مخالفة الذات الإلهية لغيرها من المحدثات ظاهرة ، والبداهة تقضي بأن بين

المخلوق والخالق أمدا بعيدا ، وأن الخالق لا يشبه شيئا من خلقه ، لا في ذاته ، ولا في صفاته.

وقد وصف الله عزوجل نفسه بصفات كثيرة ، من الصعب إدراك حقيقتها على النحو الذي ندرك به أمورنا المعتادة ، بل هذا مستحيل!

من أين للتّافه أن يعرف كنه العظيم؟

إن النملة لا تعرف حقيقة الإنسان ، فحدود عالمها الذي تعيش فيه تقفها دون ذلك.

والطفل ـ في المرحلة الأولى من عمره ـ لا يعرف ما هي الرجولة ، ولا ما يصحبها من سعة عقل ، واستحكام إدراك.

بل إن الإنسان عاجز عن إدراك حقيقة الوجود المادي الذي يعيش فيه ، فكيف يعرف ما وراءه من غيوب؟

إذا قيل : إن الله يسمع ، فليس ذاك بأذن كآذاننا. أو يرى ، فليس ذلك بعين كأعيننا. وإذا قيل : إنه بنى السماء ، فليس على النحو المألوف من تكليف بناة واستحضار أدوات. وإذا قيل : يده فوق أيدينا ، فليس الوصف لجارحة كأعضائنا.

والذي نوقن به ابتداء ، أن صفات المحدثين واحوالهم لا يجوز أن تنسب إلى الله ، فهو ـ سبحانه وتعالى ـ غير مخلوقاته.

وشأن الألوهية أسمى مما تتصور الأذهان الكليلة والعقول القاصرة.

وقد وردت في الوحي الكريم كلمات عن الوجه ، واليدين ، والأعين والاستواء على العرش ، والنزول إلى السماء ، والقرب من العباد ... إلخ ، حاول كثير من المسلمين استكناه دلالتها واستكشاف حقيقتها ، فلم يرجعوا إلا بالحيرة. حتى قال قائلهم :

نهاية إقدام العقول عقال

وآخر سعي العالمين ضلال!

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا!

وكم من جبال قد علا شرفاتها

رجال فبادوا والجبال جبال!

ولا غرو ، فإن البحث عبث فيما لا يملك المرء وسائل الخوض فيه.

إن الكيميائي قد يعرف خواص سائل أو غاز يقلبه تحت يده ويجري عليه ما شاء من تجارب ، فكيف يجوز للعباد أن يتدخلوا بالبحث النظري في شأن الألوهية لينكروا أو ليثبتوا؟ وشأن الألوهية بالنسبة إليهم عزيز المنال.

إن اللغات من وضع الناس على مر الزمان.

فنحن العرب وضعنا كلمة أذن مثلا لهذا التجويف أيمن الوجه أو أيسره الذي نسمع عن طريقه الأصوات ونتبين الكلمات ...

وقد وضع غيرنا من أبناء اللغات الأخرى كلمات تدل على هذه الحاسة غير الكلمة المتداولة بيننا ، والمهم أن هذه الألفاظ الموضوعة استحدثها الناس لمفاهيم مادية أو معنوية مارسوها وألفوها ، ومن هنا فالمجيء بهذه الكلمات للدلالة على أمور مغيبة ليس إلا من قبيل التقريب للذهن ، ولا يمكن أن تكون هذه العبارات ـ التي صنعناها نحن بيانا للمحسوسات أو المعقولات المأنوسة لنا في عالمنا ـ وصفا حقيقيا لعالم ما وراء المادة.

على ضوء هذا الملحظ نفهم حديث أي لغة عن الله جل شأنه وعن صفاته العليا ، إن الأمر لا يعدو تقريب الحقائق المطلقة لو عينا المحدود.

والله أكبر من أن تحيط بعظمته عقولنا. أو تستوعب كمالاته أقدارنا.

وقال ابن أبي الحديد :

والله لا موسى ولا عي

سى المسيح ولا محمد

علموا ولا جبريل وهو

إلى محل القدس يصعد

كلا ولا النفس البسيطة

لا ولا العقل المجرد

من كنه ذاتك غير أنك

أوحديّ الذات سرمد

وجدوا إضافات وسلبا

والحقيقة ليس توجد

ورأوا وجودا واجبا

يفنى الزمان وليس ينفد

فلتخسأ الحكماء عن

حرم له الأفلاك سجّد

من أنت يا رسطو ومن

أفلاط قبلك يا مبلّد

ومن ابن سينا حين قرّ

ر ما بنيت له وشيّد

هل أنتم إلا الفرا

ش رأى الشهاب وقد توقّد

فدنا فأحرق نفسه

ولو اهتدى رشدا لأبعد

وقال :

فيك يا أعجوبة الكون

غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي اللب

وبلبلت العقولا

كلما قدّم فكري فيك

شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في عميا

لا يهدى السبيلا

وقال :

فيك يا أغلوطة الفكر

تاه عقلي وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما

ربحت إلا أذى السفر

رجعت حسرى وما وقفت

لا على عين ولا أثر

فلحى الله الأولى زعموا

أنك المعلوم بالنظر

كذبوا إن الذي طلبوا

خارج عن قوة البشر (١)

وقد تناول الإمام القاسم مسألة التوحيد والعدل في جل كتبه ، إن لم أقل كلها بشكل موضوعي متميز ، وهي لديه القضية المركزية ، والمحور الأساس لقضايا العقيدة ، والشريعة بكل أصولها وفروعها.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٥٠ ـ ٥١.

العدل

العدل الإلهي ـ عند المؤمنين بالله تعالى ـ قضية بديهية لا يرقى إليها شك ، ولا يعتريها ريب ، ولا تحوم حولها شبهة.

وكل الأديان السماوية ، وكل معطيات العقل السليم والمنطق العلمي مقرّان بذلك أتم اقرار ، ومذعنان له أكمل اذعان.

ولهذا لم يكن العدل الإلهي ـ بمعناه البحت المجرد ـ معضلة من المعضلات الفكرية المعقدة التي تحتاج إلى تجريد بحث خاص ، يعنى بتسجيل براهينها وايراد أدلتها ومناقشة ما قيل ويقال بشأنها من شبهات وشكوك. بل ربما يعتبر البحث فيها تافها إلى حد بعيد ، لأنه من قبيل الحديث عن توضيح الواضحات والاستدلال على المسلّمات.

ولكن المسائل الفكرية البديهية قد تحوطها ملابسات هامشية معينة ، وتضاف إليها تفريعات جانبية معقدة ، وتلقى عليها ظلال قائمة من التفاسير والشروح والتأويلات ، فيتكدر صفاؤها وينطمس إشراقها وينقلب وضوحها إلى لغز وجلاؤها إلى غموض ، ويصبح استكشاف الواقع ـ في هذه الحال ـ محتاجا إلى كثير من البحث والمناقشة والأخذ والرد ، لتظهر الحقيقة الضائعة جلية ناصعة ، لا يحجبها ضباب الحواشي والتفريعات ، ولا تطمس معالمها تلك الأكداس الهائلة من المجادلات العقيمة المطولة.

المجبرة القدرية

الإيمان بالقضاء والقدر عقيدة من العقائد التي أسسها الإسلام على الإيمان بالله عزوجل ، وبناها على المعرفة الصحيحة لذاته العليا ، وأسمائه الحسنى ، وصفاته العظمى.

ولا ريب أن الإسلام قد أوجب لله نعوت الكمال ، وصفات الجلال والجمال ، ودواعي الحمد والتمجيد.

ووافق العقل النقل في ذلك كله ، ثم فصلت هذه الكمالات الواجبة لرب الوجود : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى : ٢ ـ ٣].

فكان في عداد ما ينبغي الإيمان به والاطمئنان إليه ، أن لله وحده صفات العلم

الواسع ، والإرادة الشاملة ، والقدرة الكاملة ، وأنه ـ سبحانه ـ فعال لما يريد ، عالم بما يفعل.

وعلى هذه الصفات قامت عقيدة القضاء والقدر. فكان الإيمان بها ـ لا ريب ـ جزءا متمما للإيمان بالله ، وعنصرا من حقيقته الواضحة المشرقة.

نعم إن الله وسع كل شيء علما ، وأحاط بكل شيء خبرا.

سواء في هيمنته : دبيب النمل في جحورها ، أو وثبات الأفلاك في مداراتها.

وشمول علمه يستغرق الأمكنة على تعدادها ، والأزمنة على تطاولها. فما تغيب عنه بقعة في المشرق أو في المغرب ، وما يغيب عنه يوم في الأزل أو الأبد.

وأحداث الحياة ـ وما أكثر ما يلوح في آفاق الحياة من خير وشر ، وبأس ورجاء ، وحزن وفرح ـ ذلك كله استوعبه العلم الإلهي عدا وإحصاء : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١].

وفي صفحات هذا الكتاب خطّت سطور القضاء والقدر ، وعرفت مصاير الأمور ، ووضّحت نهاياتها ، من شقاوة وسعادة. ولكن أنّى لنا علم بذلك؟

إنما الغيب كتاب صانه

عن عيون الخلق رب العالمين

ليس يبدو منه للناس سوى

صفحة الحاضر حينا بعد حين

ويتعلق القضاء والقدر بوقائع الحياة وأحداثها وأعمال الناس وتصرفاتهم على نحوين واضحين متميزين! لكل نحو منهما حكمه الخاص وآثاره التي تترتب عليه.

وبين كلا القسمين فواصل قائمة ، تجاهلها يوقع في الدين الغموض والاضطراب ، ولذلك سنوضح حدود كل قسم ومعالمه.

نحن مجبورون في هذا

هناك أمور تحدث وتتم بمحض القدرة العليا ، وعلى وفق المشيئة الإلهية وحدها ، وهي تنفذ في الناس طوعا أو كرها ، سواء شعر بها الناس أو لم يشعروا. فالعقول

ومقدار ما يودع فيها من ذكاء أو غباء ، والأمزجة وما يلابسها من هدوء أو عنف ، والأجسام وما تكون عليه من طول أو قصر ، وجمال أو قبح ، والشخصيات وما تطبع عليه من امتداد أو انكماش ، والزمان الذي تولد فيه والمكان الذي تحيى به ، والبيئة التي تنشأ في ظلها ، والوالدان اللذان ينحدر منهما ، وما تتركه الوراثة في دمك من غرائز وميول. والحياة والموت ، والصحة والمرض ، والسعة والضيق ، ذلك ومثله ، لا يد للإنسان به.

فأصابع القدر وحدها هي التي تتحرك ظاهرة وباطنة ، لتوجه الحياة كما يريد صاحب الحياة.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)) [آل عمران : ٥ ـ ٦].

وغنيّ عن البيان ، أن شيئا من هذا ليس محل مؤاخذة ولا موضع حساب ، وإنما لفتنا النظر إليه لتعرف أن الجنسية التي تنتمي إليها ، واللغة التي تنطق بها ، بل نوع التكوين الذي يوجد الإنسان عليه ، ذكرا كان أو أنثى.

هذا شيء من الخصائص التي لا قبل لنا بها ، ولا سبيل لنا إليها ، وفي مثلها يساق قول القرآن الحكيم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)) [القصص : ٦٨ ـ ٧٠].

والإيمان بهذا الضرب من القدر واجب ، والأدلة عليه متظاهرة من العقل والنقل.

وعلى المؤمن أن يوقن ـ من أعماق قلبه ـ أن هذه أمور مفروغ منها ، مفرقة على ذويها ، من قديم جفت الأقلام بها فلا راد لها.

هذه أمور علمها الحق وأرادها ، ونفذها استقلالا ، ولسنا منها في قليل ولا كثير.

وقد أحسن سلفنا الصالح الإيمان بها فكان أثرها في مسلكهم رائعا.

وإذا علم الواحد منهم أن أجله مكتوب لا ينقصه الإقدام ولا يزيده الإحجام ،

أدى واجبه على وجهه الأكمل ، وفي أذنيه دويّ التوجيه الإلهي.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)) [التوبة : ٥١].

ومواضع الرجوع إلى القضاء والتسليم لله فيما أراد ، كثيرة متنوعة ، وهي تعطي المسلم صلابة وقوة واندفاعا ، وتملؤه عزيمة وتحملا وجلادة.

هنا إرادتنا حرة

أما القسم الثاني من متعلقات القضاء والقدر ، فهو يتصل بأعمال على عكس الأولى.

ونحن نشعر حين أدائها بيقظة عقولنا ، وحركة ميولنا ، ورقابة ضمائرنا.

فما مدى صلتنا بها؟ وما معنى نسبة القدر إليها؟

الخطب سهل جدا ، وسنجيب على هذا التساؤل بما يذر شبه المشوشين هباء إن شاء الله.

إننا نحسّ باستقلال إرادتنا وقدرتنا فيما نباشر من أعمال تقع في دائرتهما ، وكان يكفي هذا الإحساس دليلا على حريتهما لو لا أن هناك من يزعم أن الإحساس يكذب أحيانا.

ولكننا نطمئن إلى صدق هذا الإحساس ونكذب ما يغض من قيمته بعد أن نرجع إلى القرآن الكريم نستفتيه في ذلك.

ونحن نجد القرآن يؤكد هذا الإحسان البديهي ، وينوه بحرية الإرادة الإنسانية.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩]. ولا يخليها من المسئولية الواضحة على ما يصدر منها : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)) [يونس : ١٠٨].

بل إن طبيعة الدين ـ وهي التكليف والابتلاء ، لا تتحقق البتة مع استعباد الإرادة وتقييدها ..

وإيقاع الجزاء كذلك لا يتوجه ويقر إلا في هذا الجو الطلق الفسيح.

وليس هنا موضع سرد الآيات الشاهدة لذلك. فالقرآن كله شواهد بينات ودلائل واضحات.

فما موقف العلم الإلهي من هذا النوع من الأعمال؟ هو الإحاطة التامة والشمول الكامل : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢].

ولكن كيف يتفق القول بحرية الإرادة والقول بأن أعمالنا لن تخرج عن دائرة العلم الإلهي المحيط الشامل؟

والجواب سهل : قف أمام مرآة مجلوة صافية وأنت عابس الوجه مقطب الجبين فما ذا ترى؟ سترى صورتك كما هي عابسة مقطبة.

أيّ ذنب للمرآة في ذلك؟ إن مهمتها أن تصف وأن تكشف وهي قد صدقت فيما أثبتت لك ، ولو كنت ضاحك الوجه لأثبتت لك على صفحتها خيالا ضاحكا لا شك فيه.

كذلك صفحات العلم الإلهي ومرائيه لا تتصل بالأعمال اتصال تصريف وتحريك ، ولكنه اتصال انكشاف ووضوح ، فهي تتبع العمل ولا يتبعها العمل.

غاية ما يمتاز به العلم ، أنه لا يكشف الحاضر فقط ، ولكنه يكشف ـ كذلك ـ الماضي والمستقبل.

فيرى الأشياء على ما كانت عليه ، وعلى ما ستكون عليه ، كما يراها وهي كائنة ، سواء بسواء؟

بقي بعد ذلك تفسير ما قررناه من شمول الإرادة العلياء ، ومن هيمنة القدرة العلياء على الخلائق كافة ، فما معنى ذلك وكيف يتفق مع حرية الإرادة الإنسانية؟

معنى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)

الخطب في ذلك سهل كذلك ، ولن نذهب في بيانه إلى أبعد من كتاب الله لمن شاء أن يفهم. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)) [القمر : ١٧].

ونحن نجد أن إطلاق المشيئة في آية ، تقيّده آية أخرى يذكر فيها الاختيار الإنساني صريحا.

أي أن إضلال الله لشخص ، معناه : أن هذا الشخص آثر الغيّ على الرشاد ، فأقره الله على مراده ، وتمم له ما يبغي لنفسه ..

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [الصف : ٥].

وانظر إلى قيمة التنويه بالاتجاه البشري المعتاد.

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء : ١١٥].

فهل بقي غموض في إطلاق المشيئة؟ لا.

إن معنى قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [الرعد : ٢٧ ، النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨] لا يعدو قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) [البقرة : ٢٦ ـ ٢٧].

وكذلك الحال في (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

انظر إلى قيمة الإرادة الإنسانية في قول الحق وهو يتكلم عن إرادته : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)) [الرعد : ٢٧ ـ ٢٨].

فهو يهدي إليه من أناب (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المنافقون : ٦].

اجعل أيها القارئ هذا المصباح بين يديك ، وسر في نوره بين شتى السور ، فلن تجد في دين الله قلقا أو اضطرابا.

وإنما القلق والاضطراب في عقول الحمقى ، وقلوب الغافلين.

وهنا قد يسأل البعض عن حدود الإرادة الدنيا والعليا في الأعمال. ومع أن هذا السؤال لا مبرر له ، فنحن نتبرع بالإجابة عنه حتى يظهر السر في نسبة الهداية والإضلال ، تارة لله ، وتارة للإنسان.

هل تعرف ما يفعله الفلاح في حقله؟ إنه يلقي البذر ، ويتعهده بالسّقي وعلى الله

الإنبات والإثمار.

تستطيع أن تسمي الفلاح زارعا ـ وأنت صادق ـ لقيامه بالسبب.

وتستطيع أن تسمي الحق سبحانه زارعا لقيامه بالعمل.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة : ٦٣ ـ ٦٥].

فما للإنسان في سعيه مثل ما للفلاح في زرعه.

فازرع عمرك ـ إن شئت ـ خيرا ، فإن يد القدرة سوف تنميه لك وردا يانعا.

أو ازرعه ـ إن شئت ـ شرا ، فإن يد القدرة تنميه شوكا رائعا.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٥].

إن الصورة التي يرسمها الجبريون للعالم لا ترمز إلا إلى الفوضى المطلقة والخلط الشائن.

ولما كان البشر ـ في نظرهم ـ يقومون بأدوار لا خيرة لهم فيها ، فيهم لا يفرقون بين بر وفاجر.

وإنك لتسمع في كلام بعض الناس ممن يدينون بهذا المذهب الباطل ، تسوية بين آدم وإبليس ، وبين موسى وفرعون ، إذ الكل ـ في نظرهم ـ مدفوع إلى عمل ما قدّر عليها أزلا.

وليست الحياة إلا رواية يقوم أفرادها بما فرض عليهم من مواقف ، وينطقون بما لقّنوا من كلمات.

هذي الحياة رواية لممثل

الليل ستر والنهار الملعب

وإنك لو نقبت لرأيت هذه الصورة مرتسمة في أذهان الكثيرين ، بعضهم يعلنها مصارحا ، وبعضهم يطويها مستحييا وإن كان يدين بها.

وانهيار الدولة الإسلامية راجع إلى فشوّ هذه الضلالة بين الناس فشوّا جعل المنكر ينتشر بلا نكير ، وجعل الواجبات تهمل بلا نصيح.

وأساس الإصلاح يعتمد أول ما يعتمد على تصحيح الفهم في عقيدة القضاء

والقدر ، حتى تعود كما كانت.

الدافع الأعظم على التضحية والفداء ، والوازع الأول على ترك الشر وفعل الخير ، قياما بواجب الإنسان نحو نفسه ، وتنفيذا لأوامر الله جل شأنه.

أما الآيات والأحاديث التي وردت توهم بظاهرها أن الإرادة الإنسانية غير حرة ، فليست كما يظن الواهمون.

إن هذا الفهم العجيب نضحت به العقول المعوجة ، ولم توح به نصوص الدين.

إذ قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)) [البقرة : ٦].

فليس إنذارهم وعدمه سواء ، لأن نفوسهم صيغت بحيث لا تقبل الحق من تلقاء ذاتها!! فهي أوعية للكفر برغم أنوفها. كلا!!

وإنما القصد صرف همة الرسول عن قوم طالما دعاهم وبذل جهوده لإنقاذهم من غوايتهم. فأصرّوا على تنكّب الصراط المستقيم بمحض اختيارهم.

المرجئة

اعتبرت كلمة «الإسلام» علما على الدين الذي جاء به صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعارفت الأجيال هذه الحقيقة.

فإذا ذكر الإسلام ، عرف من هذا العنوان أنه الدين الذي يقوم على اتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ويدخل فيه من شاء من بابه الرئيسي المعروف «كلمة التوحيد» ثم يؤدي بعد ذلك ما يفرض عليه من تكاليف شتى.

على حين توسع العرف العالمي في كلمة «الإيمان».

فهناك إيمان مسيحي ، وآخر يهودي ، وآخر وثني ، وآخر شيوعي ... إلخ ، وهذا العرف العام لا يغض من قيمة الحقيقة الشرعية التي ذكرناها آنفا.

فمتعلقات الإيمان ، والدائرة التي يتسع لها في ديننا ، تجعله لا يصح في نظرنا ، إلا إذا

كان مرادفا للإسلام ، أو ملازما له.

ولكن هذا العرف الشائع يؤكد أن الإسلام يرفض رفضا حاسما أي مسلك ينطوي على الاستهتار بالأعمال المطلوبة ، والتمرد على شارعها جل شأنه.

ولذلك نعد رفض الخضوع لله خروجا على الإسلام ، ومروقا عن الدين ، وهدما للإيمان ، مهما زعم هذا الرافض من معرفة ويقين.

لقد كان إبليس يعلم أن الله واحد لا شريك له ، وكان يعلم أن مصيره إليه يوم يبعثون.

بيد أنه لما صدر إليه الأمر : أن اسجد ، فقال ـ مستكبرا جاحدا ـ : لا .. عدّ كافرا ولم تشفع له معرفته بوحدانية الله ، لأن المعرفة المجردة عن مبدأ الخضوع المطلق لرب العالمين لا وزن لها.

والمعصية التي يقارنها هذا التمرد تخلع صاحبها من الإيمان خلعا.

والمعروف في دراستنا النظرية أن الدين عقائد وعبادات وأخلاق ، وأن الصلة بالله هي القائد الأول لبقية الشرائع ، وأن صحة هذه الصلة ضمان للنجاة ، وإن قلّت حظوظ المرء من بقية التكاليف الشرعية ...

ونريد أن نتوقف قليلا لنناقش هذا التفكير ، فلا نجوّز على أصل الإيمان ، ولا نجوز على مجموعة الأعمال المرتبطة به والناشئة عنه.

من حق علمائنا الأقدمين أن يهدروا كل خير يصنعه الكافر ، وأن ينوّهوا بثقل كلمة التوحيد في ميزان الصالحات.

إن وجهة نظرهم واضحة فإن الذي يرتكب في عصرنا جريمة الخيانة العظمى ، تعصف جريمته بكل خير فعله من قبل.

ويوم يقال : فلان خان وطنه وباعه للأعداء ، فلن ترى إلا الازدراء والمقت والإجماع على استحقاق أقسى العقاب.

ولو قيل : إن هذا الشقي كان برا بأمه ، أو كريما مع خدمه ، أو لطيفا مع أصدقائه ، فإن هذه الخصال جميعا تطوى في صمت ، وتزم دونها الشفاه! ولا تغني عن حكم

الموت المادي والأدبي الذي يستحقه هذا الخائن.

والواقع أن سلفنا نظروا إلى الكافر بالله نظرة العصر الحاضر إلى الخائن لأمته ، ورفضوا الاعتراف بأي خير يفعله ، أو الإقرار بأي ميزة له.

والكافر ـ في نظرنا ـ أهل لهذا الهوان.

والجاحد لوجود الله ، الخائن لنعمته ، المنكر للقائه ، يرتكب بهذه الخلال أشنع جرائم الخيانة العظمى ، وليس له ما يدفع عنه ، مهما صنع : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج : ١٦].

إلا أن هذه الحقيقة تولّد عنها خطأ شائع ، ألحق بالإيمان وأهله ضررا بليغا.

فقد فهم العامة أن حسن الصلة بالله ـ وهو فضيلة بيقين ـ قد يجبر النقص في بقية الواجبات المفروضة.

ثم تدرّج هذا الفهم إلى أن هذه الواجبات يمكن أن تتلاشى ويغني الإيمان المجرد عنها.

وانضم إلى هذا الوضع أن الذين انحرفوا عن الإيمان ، ونسوا الله ، أتقنوا طائفة من الأعمال الإنسانية ، والفنون الحيوية ، وسبقوا بها سبقا بعيدا.

وعند ما قام في العالم هذا التناقض ، اهتزت قضايا الدين ، وتخاذلت صفوف المؤمنين ، ونجمت في أرجاء الدنيا فتن عاصفة.

إن المعنيين بالتربية الدينية قد يسيئون إلى الإيمان ، حين يتصورونه منديلا يمسح فيه الخطّاءون عيوبهم ، فهم يعثرون والإيمان يغفر ، ويكسرون والإيمان يجبر.

وكثير من أتباع الأديان السماوية ظنوا التمسك بأصل الدين كافيا في النجاة مهما صنعوا.

وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ...) [البقرة : ١١١].

وقد فنّد القرآن الكريم هذه المزاعم ، ورسم طريق النجاة الحقيقي ، وهو مزيج من الإيمان الحي ، والإحسان في العمل والإخلاص لله (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)) [البقرة : ١١١ ـ ١١٢].

وبعض الوعاظ القصار النظر قد يقعون على آثار دينية محدودة المعنى والمجال ، فيسيئون فهمها وتطبيقها ، ويتجاهلون بها ـ جملة ـ الكتاب والسنة ، بل طبيعة الإيمان نفسه.

تلك الطبيعة التي تخلق من الموات حياة ومن الفوضى نظاما.

خذ مثلا حديث البطاقة عن عبد الله بن عمرو من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (إن الله تعالى سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يا رب.

فيقول تعالى : بلى : إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فقال : فإنك لا تظلم.

فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل مع اسم الله شيء) (١) ...

هذا حديث مثير الدلالة ، ويضع عن الناس شتى التكاليف الإلهية ، ويبطل قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)) [يونس : ٨١ ـ ٨٢].

إن إطلاق هذا الحديث وأشباهه بين العوام أو بين الناشئة هدم للدين كله ، وهو الأساس لتكوين طوائف من المتدينين ، تحط من قدر الإيمان وأثره.

* * *

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٥ / ٢٤ (٢٦٣٩) ، وابن ماجة ٢ / ١٤٣٧ (٤٣٠٠) ، وأحمد ٢ / ٢١٣ (٦٩٩٤) ، وابن حبان ١ / ٤٦١ (٢٢٥) ، والحاكم ١ / ٤٦ (١٩).

الإيمان والعمل

صلة الإيمان بالعمل كصلة الخلق بالسلوك.

فإذا آمن الإنسان بالله العظيم ، وأيقن باليوم الآخر ، وصدّق بما جاء به المرسلون ، دفعه ذلك ـ لا محالة ـ إلى استرضاء ربه ، والاستعداد للقائه ، والاستقامة على صراطه.

كما أن الشجاع في ميادين الخطر يقدم ، والكريم في مواطن البذل ينفق ، والصادق في أداء الحديث يتحرى الحق .. إلخ.

بيد أن أعداء الإسلام ـ وقد عجزوا عن هزيمته في ساحات القتال ـ لم تعيهم الحيل لسحقه في عقر داره.

فدسوا على المسلمين من يصور لهم الإسلام كلمة لا تكاليف لها ، وأماني لا عمل معها.

وفي ظل هذا الفهم المعوج ترى المسلم واليهودي والمسيحي يتعاشرون سنين عددا ، فلا تستطيع أن تميز أحدهم من الآخر في شيء.

الكل لا يدخل مسجدا ، ولا يقيم فريضة ، ولا يحترم لله شعيرة.

والكل يشرب الخمر ، ويأكل الربا ، ويفجر بالأعراض.

وغاية ما بينهم من فوارق ، أن اليهودي يقدس يوم السبت ، وقد يذهب المسيحي إلى كنيسته خلسة.

أما ذلك المسلم المزعوم فليس يربطه بالإسلام إلا اسم سجّل في شهادة الميلاد فحسب.

والمؤسف أن أقواما ـ من أهل العلم الديني ـ لا يكترثون بذلك.

فالمرء إذا غمغم بين شفتيه بكلمة التوحيد ، تحصّن وراءها ، فأصبح يسيرا عليه ، ألا يقوم إلى واجب ، وألا ينتهي عن محرم.

وقد زعم هؤلاء المغفلون : أن الدين ينص على ذلك! ألا ساء ما يصنعون.

ولو فرضنا أن حزبا ما ، تقدم إلى الناس وقد أضاف إلى جملة المواد التي تبين للجماهير منهاجه وتوضح أغراضه ، مادة أخرى تصرّح أو تلمّح ، بأن لكل منتم للحزب ألا يعمل بمبادئه وألا يتقيد بتعاليمه ، لقال الناس أجمعون : هذا هو العبث والمجون!

فكيف نتهم الإسلام بأنه يحمل في ثناياه ما يهدمه؟

وكيف ننطلق إلى نصوصه نبحث بينها عن (المادة) التي تبيح الخروج عليه واللعب به؟

وكيف ندعي أن الأعمال أمر كماليّ بحت ، لا يضير نقصانه؟

أولئك هم الحمقى : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأعراف : ٥١].

وعلى رءوسهم يقع التفريط الهائل في إقامة حدود الله وأداء فرائضه.

وما أصاب المسلمين من كوارث ونكبات عند ما فهموا دينهم على ذلك النحو الأبتر.

أمة تعتبر العمل من (الكماليات) الخفيفة ، كيف يقوم لها دين؟ أو تقوم بها دنيا؟

إن الله ـ عزوجل ـ جعل العمل رسالة الوجود ووظيفة الأحياء ، وجعل السباق في إحسانه سر الخليقة ودعامة الحساب.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (٢) [الملك : ٢].

وما من آية في كتاب الله ذكرت الإيمان مجردا ، بل عطفت عليه عمل الصالحات ، أو تقوى الله ، أو الإسلام له ، بحيث أصبحت صلة العمل بالإيمان آصرة لا يعروها وهن.

فإذا عقدت مقارنة بين الهدى والضلال ، جعل الإيمان والعمل جميعا في كفة ، وجعل الكفر في الكفة الأخرى.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) [غافر : ٥٨].

وكثيرا ما يشار إلى الإسلام وحقيقته الشاملة بمظاهر عملية واضحة محدودة.

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(١٦) [البلد : ١١ ـ ١٦].

بل إن العلامة التي ينصبها القرآن دليلا على فراغ النفس من العقيدة وخراب القلب من الإيمان ، هي في النكوص عن القيام ببعض الأعمال الصالحة.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)(٣) [الماعون : ١ ـ ٣].

وقد ينظر إلى الإيمان على أنه وصف يلحق الأعمال ويطرأ على السلوك الإنساني المعتاد ، فيصلحه ويصله بالله ، فيذكر العمل أولا كما هي مرتبة وجوده ، ثم يذكر الإيمان ثانيا ، على أنه شرط صحته وقبوله.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) (٩٤) [الأنبياء : ٩٤].

ثم ما الذي يوزن في الدار الآخرة؟ أليست الأعمال التي تميل بالإنسان إلى النعيم أو الجحيم ، أو الدعاوى والمزاعم؟

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)) [الأعراف : ٨ ـ ٩].

إننا نعرف تاريخ أمم هلكت بسوء عملها. ونعرف أن الله نقم على قوم لوط ـ مثلا ـ لارتكابهم الفاحشة ، وعلى قوم شعيب ـ مثلا ـ لبخسهم المكيال والميزان ، وقد عرفنا مصاير أولئك الفاسقين.

فهل أمتنا ـ وحدها ـ هي التي تريد أن ترتكب السيئات ، دون حذر أو وجل؟

ليس الإسلام بدعا من الشرائع السابقة ، فيوجب الإيمان دون العمل.

بل إن القرآن الكريم ليقص علينا عبر السابقين لنتّعظ منها ، ثم لنسمع قول الله بعد

ذلك : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)) [يونس : ١٣ ـ ١٤].

هكذا نمتحن وتراقب تصرفاتنا ، ويكلفنا الله بالإيمان والعمل جميعا ثم ينظر وفاءنا بما حملنا من أعباء!

* * *

الشفاعة

يغلط عوام المسلمين بأحاديث واردة في شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض العصاة.

وتعلّق أولئك العوام بأحاديث الشفاعة يخيل إليك أن قوانين الجزاء بطلت. وأن نيران الجحيم توشك أن تتحول بردا وسلاما على عصاة المؤمنين.

وكثيرا ما يفرط هؤلاء الجهال في الفروض ، ويقعون في أوخم الذنوب ثم يقولون : أمة محمد بخير!

وهذا مسلك ساقط.

ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من يستنكره ويحارب أصحابه ، وينذرهم بأنهم أصحاب الجحيم.

فأما أن الجزاء حق ، وأنه يتناول الذرة من الخير والشر. وأنه يعم الناس أجمعين ، فذلك صريح القرآن.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة: [٧ ـ ٨].

والقول بأن قوانين الجزاء توقفت بالنسبة لأتباع نبيّ ما سخف فارغ ، وقد كذّب القرآن الكريم في مواضع شتى مزاعم الأولين والآخرين لمّا جمحت بهم أمانيهم إلى هذا الوهم الباطل.

فليس للشفاعة هذا النطاق الواسع الذي يبرر به الخطاءون إصرارهم ، وما تفيدهم أمانيّهم فيها شيئا.

وقد بيّن الله سبحانه أن الشفاعة لا تجدي على كافر ، ولا على فاسق مثقل بالخطايا.

قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)) [البقرة : ٤٨].

وقال كذلك : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا

يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨].

والنفس المثقلة بالخطايا ـ ولو كانت لرجل من المصلّين ـ لا يفوتها جزاؤها كما رأيت في حديث الرسول. وهو يصف أمته عند اجتيازها الصراط.

والظاهر أن الشفاعة التي يرجوها النبي الكريم إنما تدرك صنفا من الناس تأرجحت موازين الحق والباطل في أعماله فهو بين السقوط والنجاح.

ونحن في حياتنا ننظر إلى التلامذة الذين يقتربون من النهاية الصغرى للنجاح نظرة رأفة. ونميل إلى منحهم درجة أو درجتين جبرا لنقصهم.

أما الذين يبتعدون عن المستوى الأدنى للنجاح مسافة بعيدة فإننا نحكم بسقوطهم فورا.

فلعل الشفاعة المنسوبة للرسول الكريم تنقذ أمثال هؤلاء المقاربين للنجاة وبهذا التفسير يتم الجمع بين النصوص.

وقد يكون المقصود من هذه الشفاعة التنويه بمكانة النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله والإشادة بمنزلته الكبرى عند الله ..

ومثال ذلك في مجتمعنا أنه في مناسبات خاصة ـ كعيد ميلاد الملك أو عيد الفطر المبارك ـ يفرج عن طوائف المسجونين الذين قضوا أغلب المدد المحكوم عليهم بها ، ويراد إشعارهم بفضل المناسبة التي ستسوق لهم العفو والحرية.

وهذه الحرية الممنوحة بالعفو العام ، لا تخدش أصل العقوبة المقررة.

ولا يفهم منها أنه لا ضرورة لسن القوانين وبناء المحاكم وتعيين القضاة. كما يريد أن يفهم ذلك عوام المسلمين من أحاديث الشفاعة المنسوبة لنبيهم ، والتي تشير إلى أن الله قد يجيب دعاء نبيه وهو جاث بين يدي ربه يسأل الصفح عن الأمم الغفيرة من الأولين والآخرين ، التي أدركها خر الموقف المعنت ، وألهب عصاتها شواظ من النار المستعرة ، فهي تضرع إلى الله أن يرفع غضبه وتتردد على أنبيائه جميعا كيما يشاركوهم الرجاء والدعاء.

على أنه مهما بلغت منزلته عند الله فلن يتجاوز في الله حد الزلفى لمولاه ، وما كان لنبي أن يفرض رأيا أو يقرر حكما : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ

حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)) [سبأ : ٢٣].

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨)) [النبأ : ٣٨].

فلا كلام إلا بإذن ، ولا كلام إلا بصواب ، ومردّ الأمر لله وحده.

فإذا كان من الناس من يقترف الموبقات المهلكة اعتمادا على شفاعة موهومة ، فليذكر قول الحق في أهل النار : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) [المدثر : ٤٢ ـ ٤٨].

إن أتباع الدين يجب أن يعرفوا أن الحساب الإلهي لا يغفل الذرة من الخير أو الشر. وأن هذه الدقة تنفي كل تصرف ينطوي على الفوضى ، وكيل الجزاء جزافا.

وقد ندد القرآن الكريم باليهود ، لما سرت بينهم هذه الآراء الغريبة ، حتى ظن عامتهم أن الجنة حكر لهم ولذرياتهم ـ لأمر ما ـ فأقبلوا على ملذات العيش الأدنى ينتهبونها ويقولون ـ في يقين ـ سيغفر لنا!!

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٦٩) [الأعراف : ١٦٩].

والمؤسف أن هذا القطع بين العمل والجزاء رسب في أوهام العامة ، فأساءوا به إلى أنفسهم وإلى دينهم ، ثم إن عوج سلوك المنسوبين إلى الدين وقلة فقههم ، وسوء ذوقهم ، مكّن للإلحاد في الأرض ، ورفع الثقة من الأديان وممثليها جملة.

والعجب للمسلمين ، يصابون بهذه اللوثة وهم يقرءون قول الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣].

حكم وآداب وأخلاق

إن الإسلام جاء لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب ، وإنه اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته ، كما أنه عدّ الإخلال بهذه الوسائل خروجا عليه وابتعادا عنه.

فليست الأخلاق من مواد الترف ، التي يمكن الاستغناء عنها ، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين ، ويحترم ذويها ..

وقد أحصى الإسلام بعدئذ الفضائل ، وحث أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة.

ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة في التحلي بالأخلاق الزاكية لخرجنا بسفر لا يعرف مثله ، لعظيم من أئمة الإصلاح.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء ، وإن أحسن الناس إسلاما ، أحسنهم خلقا) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أكمل المؤمنين إيمانا ، أحسنهم خلقا) (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا أخبركم بأحبكم إلي ، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟ ـ فأعادها مرتين أو ثلاثا ـ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : أحسنكم خلقا) (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، إن الله يكره الفاحش البذيء ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) (٤).

هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقي فحسب لما

__________________

(١) أخرجه أحمد ٥ / ٨٩ (٢٠٨٦٣).

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ٢٢٠ (٤٦٨٢).

(٣) أخرجه أحمد ٢ / ١٨٥ (٦٧٣٥).

(٤) أخرجه الترمذي ٤ / ٣٦٣ (٢٠٠٣).

كان مستغربا منه ، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير ، والأديان ـ عادة ـ ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبد المحض.

ونبي الإسلام دعا إلى عبادات شتى ، وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين ، فإذا كان ـ مع سعة دينه ، وتشعب نواحي العمل أمام أتباعه ـ يخبرهم بأن أرجح ما في موازينهم يوم الحساب ، الخلق الحسن. فإن دلالة ذلك على منزل الخلق في الإسلام لا تخفى ...

والحق أن الدين إن كان خلقا حسنا بين إنسان وإنسان ، فهو في طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه ، وكلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة.

إن هناك أديانا تبشر بأن اعتناق عقيدة ما ، يمحو الذنوب ، وأن أداء طاعة معينة يمسح الخطايا.

لكن الإسلام لا يقول هذا ، إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محورا لعمل الخير ، وأداء الواجب ، وأن تكون الطاعة المقترحة غسلا من السوء ، وإعدادا للكمال المنشود. أي أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التي يضطلع بها الإنسان ، ويرقى صعدا ، إلى مستوى أفضل.

وقد حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على توكيد هذه المبادي العادلة ، حتى تتبينها أمته جيدا ، فلا تهون لديها قيمة الخلق ، وترتفع قيمة الطقوس.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة ، وأشرف المنازل ، وإنه لضعيف العبادة ، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم) (١).

وحسن الخلق لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة ، أو الأوامر والنواهي المجردة ، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره : افعل كذا ، أو لا تفعل كذا. فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة ، ويتطلب تعهدا مستمرا.

ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة ، فالرجل السيئ لا يترك في

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير ١ / ٢٦٠ (٧٥٤).

نفوس من حوله أثرا طيبا.

وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه ، فيروعها أدبه ، ويسبيها نبله ، وتقتبس ـ بالإعجاب المحض ـ من خلاله ، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره.

بل لا بد ـ ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل ـ أن يكون في متبوعه قدر أكبر ، وقسط أجل ...

والإسلام ـ كسائر رسالات السماء ـ يعتمد في إصلاحه العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء ، فهو يكرس جهودا ضخمة للتغلغل في أعماقها ، وغرس تعاليمه في جوهرها حتى تستحيل جزءا منها.

وما خلدت رسالات النبيين وكونت حولها جماهير المؤمنين إلا لأن (النفس الإنسانية) كانت موضوع عملها ومحور نشاطها ، فلم تكن تعاليمهم قشورا ملصقة فتسقط في مضطرب الحياة المتحركة ، ولا ألوانا مفتعلة تبهت على مر الأيام .. لا .. لقد خلطوا مبادئهم بطوايا النفس ، فأصبحت هذه المبادئ قوة تهيمن على وساوس الطبيعة البشرية ، وتتحكم في اتجاهاتها.

وربما تحدثت رسالات السماء عن المجتمع وأوضاعه ، والحكم وأنواعه ، وقدمت أدوية لما يعرو هذه النواحي من علل.

ومع ذلك فالأديان لن تخرج عن طبيعتها في اعتبار النفس الصالحة هي البرنامج المفضل لكل إصلاح ، والخلق القوي هو الضمان الخالد لكل حضارة.

وليس في هذا تهوين ولا غض من عمل الساعين لبناء المجتمع والدولة ، بل هو تنويه بقيمة الإصلاح النفسي في صيانة الحياة وإسعاد الأحياء.

فالنفس المختلة ، تثير الفوضى في أحكم النظم ، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة ، والنفس الكريمة ، ترقع الفتوق في الأحوال المختلة ويشرق نبلها من داخلها ، فتحسن التصرف والمسير ، وسط الأنواء والأعاصير.

إن القاضي النزيه ، يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به ، أما القاضي الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة. وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما في الدنيا من تيارات وأفكار ، ورغبات ومصالح.

ومن هنا كان الإصلاح النفسي ، الدعامة الأولى لتغليب الخير في هذه الحياة.

فإذا لم تصلح النفوس أظلمت الآفاق ، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم.

لهذا وضع الإمام القاسم عليه‌السلام دستورا في الأخلاق والحكم والآداب وعلم النفس ، عالج فيه كل الاختلالات التي تحدث جراء التفلت من وثاق الأخلاق ، وقدّم رؤى متقدمة في علم النفس من منظور إسلامي قلّ أن تجد لها نظيرا في ما كتب في هذا السبيل ، في كتابين يعدان قطعة أدبية متميزة ، هما كتاب (المكنون) ، وكتاب (سياسة النفس) ، والكتابان من عنوانيهما لهما دلالة عميقة ، فهما لا يهتمان بالأخلاق الظاهرة والإصلاح القشري للإنسان ، ولكنهما يتجهان إلى أعماق النفس البشرية ليلامسا فيها نوازع الخير فينميانها ، ونوازع الشر فيقتلعانها ، بحكمة الحكيم المفكر ، وأناءة الحليم المستبصر.

وكنت قد أزمعت على نقل فقرات من الكتابين لضرب الأمثلة ، إلا أني عدلت عن هذا خشية إثقال المقدمة بالنصوص.

* * *

رؤى علمية

للإمام رؤى ونظريات علمية ثاقبة سبق بها عصره بحوالي ألف سنة.

كروية الأرض وحركتها وجاذبيتها

قال متحدثا عن استقرار الأرض وتثبيتها بالجبال ، وعن الجاذبية الأرضية التي تحفظ توازن الأرض ، والبحار والأنهار أن تتفجر ، ناقدا النظريات الساذجة والتصورات الخاطئة عن الأرض والأفلاك والنجوم ، مبينا الصواب في ذلك بنظره الثاقب وعلمه بالكون والطبيعة وأسرار الفضاء : وما جعل الله سبحانه في الأرض من رواسي الجبال ، وغيرها مما ثقّلها به من الأثقال ، كيلا تميد بمن عليها من الانسان ، وغيره من أنواع الحيوان ، الذي لا بقاء له ولا قوام مع الميدان ، فموجود بأيقن الايقان ، إذ توجد بالعيان الأفلاك تمر من تحت الأرض دائرة ، وتخفى بممرها تحتها وتظهر عليها سائرة ، ولا يمكن أن يكون مسيرها ، تحتها ومقبلها ومدبرها ، إلا في خلاء أو عراء ، أو هواء أو ماء ..

وقال حشو هذه الأمة المختلف ، الذي لا يفقه ولا يتصرف ، قرار الأرض زعموا على ظهر حوت ، ونعتوا حوتها في ذلك بألوان من النعوت ، وأشبه هذه الأقوال عندنا بالحق ، وأقرب ما قيل به فيها من الصدق ، أن يكون ما تحت الأرض خلاء منفهقا ، وهواء من الأهوية منخفقا ، ليس فيهما لسالكهما رد يرده ، ولا للمقبل والمدبر فيهما صد يصده ، لقول الله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)) [الأنبياء : ٣٣].

المطر من نجار البحار

قال مبينا نظرية تبخر الماء من البحار والأنهار ، وانتزاع السحاب له ، ثم تحويله مرة أخرى إلى ماء ورجوعه إلى الأرض على شكل مطر. وهي من الحقائق العلمية التي لم تكتشف إلا في عصرنا الحديث ، قال : قال الله سبحانه : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(٥) [النازعات : ١ ـ ٥].

النازعات فيما أرى ـ والله أعلم ـ : فهن السحائب المنتزعات لماء الأمطار من البحار والأنهار ، ومما في الأرض من الندوة والبخار ، وكذلك صح في الروايات والأخبار. وهذه الرؤية تصدقها الآية الكريمة : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١)) [الطارق : ١١].

عناصر الأشياء

قال متحدثا عن أصول العناصر الأربعة ، التراب والماء والنار والهواء : والدليل البتّ اليقين ، الشاهد العدل المبين ، على أن آدم عليه‌السلام بدئ من التراب وخلق ، مصير نسله ترابا إذا بلي وفرّق ، وكل مركّب انتقض من الأشياء ، فعاد إلى شيء عند تنقضه بالفرقة والبلى ، فمنه ركّب وخلق غير شك ولا امتراء ، كالثلج والجليد ، والبرد الشديد ، الذي يعود كل واحد منهما إذا انتقض وفرّق ، إلى ما ركّب منه من المياه وخلق ، وكمركّب الأشجار والحبوب وغيرهما من ضروب الأغذية ، التي تعود عند بلائها إلى ما ركّبت منه من الأرضين والمياه والنيران والأهوية.

العقل

للعقل عنده مكانة عالية ودور متميز ، وهو أعظم نعمة منّ بها الله على خلقه ، ولذلك تراه يقدسه أيما تقديس ، ويدعو إلى استعماله والنظر به.

قال في تعريف العقل : والعقل روحاني لا يرى بالعيون ، لأنه ليس بشبح ولا لون ولا جسم.

وقال : وسألته : عن العقل في الإنسان أطبع هو أم مستفاد؟

فقال : هو الحفظ والفكر ، وأصل العقل فطرة وخلقة.

وقال أيضا : فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج ، احتج بها المعبود على العباد ، وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الآخرتين ، لا

نهما عرفا به ولم يعرف بهما.

وقال أيضا : والعقل آمن أمين ، وأفضل قرين ، فاستأمنه على أحوالك ، وجميع خلالك ، واعرف ما عرفك ...

وقال ناعيا على الذين لا يفكرون ، ولا يؤمنون إلا ما لمسوه أو رأوه بأعينهم ، مشبها لهم بالبهائم : وإنما يدرك ما غاب من الأمور بالفكر واليقين ، ويدرك ما حضر منها بالحواس من العين أو غير العين ، وذلك فإنما هو درك البهائم الخرس ، التي لا تدرك شيئا إلا بحاسة من الحواس الخمس ، ولا توقن أبدا بغائب غاب عنها ، ولا تدرك إلا ما كان شاهدا قريبا منها ، فأما أهل الألباب والعقول ، فيستدلون موقنين على الجاعل بالمجعول ، وعلى الغائب المتواري الخفي ، بالحاضر الظاهر الجلي.

وقال أيضا : فأخبر سبحانه أن بيانه إنما هو للذين يعقلون ، ويوقنون من الغيب بما لا يرون ولا يبصرون ، فأما أشباه البهائم الذين لا يعلمون ، إلا ما يرون ويبصرون ، فإن الله سبحانه انتفى من البيان لهم ، وتبرأ من ذلك إليهم.

التفكير شرط لفهم الدين

قال مؤكدا على أهمية التفكير في الإسلام : وقد زعم بعض أهل الحيرة والنقص ، ومن لا يعرف عين النجاة والتخلص ، أن الإلطاف في النظر ، يدعو صاحبه إلى الخيلاء والبطر ، وإنما يكون ذلك كذلك عند من يريده للترؤس ، لا لما فيه وما جعله الله عليه من حياة الأنفس ، فانفوا مثل هذا عن ضمائركم ، وسدوا ثلمة عيبه في سرائركم.

واعلموا أن البحر لا يجاز يقينا بتّا إلا بمعبر ، وأنه يحتاج الشجاع المحارب السلاح في الحرب فكيف بالعيّ المغتر ، فلا يتعاط أحد سبيل التقوى ، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى ، إلا وقد تحصّن بالعلم والبصر والنظر ، الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر ، فلا تدعوا رحمكم الله حسن النظر في الأمور ، والاستضاءة في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور.

الإسلام

قال عن الإسلام : وأيّ دين أحسن نظاما ، وأعدل أحكاما ، وأقل تناقضا ، وأرضى رضى ، من دين قامت دعائمه ، واعتدلت قوائمه ، على الأمر فيه بالعدل والاحسان ، ونهت نواهيه عن كل فحشاء وعدوان ، فلم يترك لمحسن ثوابا ، ولم يضع عن مسيء فيه عقابا ، بمقادير من قسط عادلة ، وموازين من عدل غير مائلة ، لولاه لفسدت الأرض خرابا ، وعدمت الصالحات ذهابا.

تشويه الحكام للإسلام

قال : ولكني أراه ظن ديننا ، وتوهم أحكام ربنا ، أحكام معاوية بن أبي سفيان ، وما سن بعد معاوية ملوك بني مروان ، من تناقض أحكامها ، وجورها في أقسامها ، وأولئك فأعداء ديننا ، وحكم أولئك فغير حكم ربنا ، وحكم ديننا فالحكم الذي لم يخالطه قط جور ، وأموره من الله فالأمور التي لا يشبهها أمور ، ويحق بذلك أمر وليه أحكم الحاكمين ، وحكم جاء من رب العالمين.

الملوك وراء نشأة المذاهب

قال : وليس لقلة ذلك ولا عسره ، ولا لملتبس لبس من أمره ، ضل القوم عنه ولا تاهوا ، ولكن لما سنّ فيهم ملوك بني أمية وشبهوا ، ولقهر بني أمية لهم وغلبة سلطانهم ، قوي عليهم فيه سلطان شيطانهم ، فألفوه حتى أنسوا به لطول الصحبة ، وعز فراقه في أنفسهم لما كان يكون في خلافه من الأنكال المعطبة ، ولمّا كان من جهله يومئذ لديهم منكلا محروما ، عاد مجهوله يومئذ فيهم بعد جهله معلوما ، ثمّ خلفت من بعدهم أخلاف السوّ ، التي أتت عداوتها للاسلام من وراء عداوة كل عدو ، فكانت أكلف بما سنّ لها أسلافها كلفا ، وأسرف في الاحتجاج للباطل سرفا.

الجهاد والثورة

فهم الإمام القاسم القرآن فهما جهاديا ثوريا ، يرفض الذلة الخنوع ، والانكفاء

على الذات ، فقال : وقال سبحانه فيما أذن به من قتل المعتدين باعتدائهم ، وبسط أيدي المؤمنين للعدوان من سفك دمائهم ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥) [البقرة : ١٩٤ ـ ١٩٥]. فأمرهم سبحانه للعدوان لا لغيره بقتالهم ، ونهاهم عن أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باستسلامهم لهم ، وأمرهم بالإنفاق في جهادهم سبحانه والإحسان ، وأخبرهم أنهم إن لم يفعلوا فقد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة لأهل العدوان. وصدق الله العزيز الحكيم الأعلى ، الذي لا يرضى لأوليائه أن يكونوا أذلاء ، والذي لم يزل سبحانه يحوط العز لهم حوط العليم الخبير ، وينصرهم عند القيام بأمره نصر العزيز القدير ، وأي تهلكة أهلك لهم؟! من استسلامهم لمن يريد قتلهم!!

وسئل : عن التهلكة؟

فقال : إن ذلك هو الاستسلام للعدو الظالم ، الذي لا يخاف الله في ارتكاب المظالم.

الصلاة

قال عن الصلاة : الصلاة صلة بين العبد والرب ، وستر للعيب وكفارة للذنب ، الصلاة صلة بلا مسافة ، وطهارة كل خطيئة وآفة ، الصلاة مواصلة ومصافاة ، ومداناة ومناجاة ، المصلي يقرع باب الله ويطمع في ثوابه ، وهو على بساط الله عزوجل.

الصلاة شرح الصدور ، وفرج من جميع الأمور ، الصلاة نور في الفؤاد ، وسرور يوم المعاد ، الصلاة للقلوب منهاج ، وللأرواح معراج ، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ...

وقال أيضا : واعلموا أن الصلوات ، ليست بطرب الأصوات ، ولكنها بالباطن الظاهر ، والفكر المنير الزاهر ، والنية الصادقة ، والضمائر المحققة ، فاستعملوا ضمائركم بصحيح الاستعمال ، ولا تميلوا إلى ظاهر المراءاة باللسان ، تكن أعمالكم مطيبة زاكية ، وضمائركم لله خالصة نقية.

وله نظريات عميقة في العرفان والتزكية تمزج بين بصيرة العقل وعاطفة القلب في

حرارة دافقة وعقلانية متجردة.

مثل العالم والمتعلم

قال : ومثل العالم والمتعلم مثل نور الشمس ونور العينين.

افهم لو أن رجلا بصير العينين بقي في بيت مظلم قد سدّ عليه بابه ، وهو لا يهتدي إلى شيء فيه مخرجه ، أليس يكون متحيرا لا ينتفع ببصر عينيه ما دام البيت مظلما ، حتى إذا فتح عليه الباب ، وخرج ورأى ضوء الشمس ، انتفع ببصر عينيه عند ضوء الشمس. كذلك المتعلم يكون في بيت الجهل موثقا عليه بابه ، لا يهتدي إلى الخروج حتى يفتح عليه العالم العارف ، لأن المتعلم يستضيء بنور العالم.

مثل علماء السوء

قال : والعلم شفاء وزين ، لا يدخل معه داء ولا شين ، وليس العلم علم اللسان ، المعلق على ظاهر الإنسان ، الخالي عن القلب ، وإنما مثله كمثل شبكة الصياد التي ينثر عليها الحب للطير ، وليس يريد بذلك منفعة الطير ، ولكنه يريد أن يصطادها بذلك الحب المنثور على الشبكة.

كذلك عالم السوء لا يريد بعلمه رضي الله ، ولكن يريد رضي نفسه ومنفعتها ، وقد جعل هذا علمه شبكة ، ليصطاد حطام الدنيا.

* * *

نظرة إلى القرآن

القرآن عند الإمام هو ما بقي من وحي في هذه الدنيا ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو محفوظ بحفظ الله ، وهو العزاء الوحيد عن ضياع مواريث النبوات الأولى ، ففيه الهداية والنور.

قال : فمن اعتصم بنور كتاب الله وبرهانه ، واتبع ما فيه من أموره وتبيانه ، أدخله الله كما قال سبحانه مدخلا كريما ، وهداه به كما وعد صراطا مستقيما ، ومن أبصر به واهتدى ، لم يعم بعده أبدا ، ومن عمي عنه فلم ير هداه ، وتورط من غيّه ورداه ، في بحور ذات لجّ من الجهالات ، وتخبط في غور لجج من الضلالات ، لا يخرج من تورط فيها من ضيق غورها ، ولا ينجو غريق بحورها ، من نار تبوبها ، وحيرات سهوبها ، فلا صريخ له فيها ينقذه من تبّ ، ولا هاد يهديه منها في سهب ، فهو في لج بحورها في تبوب ، ومن ضلالات غورها في سهوب ...

القرآن كتاب حياة

وقال الإمام القاسم عن القرآن : نور أعين القلوب المبصرة ، وحياة ألباب النفوس المطهرة ، إلف فكر كل حكيم ، وسكن نفس كل كريم ، وقصص الأنباء الصادقة ، ونبأ الأمثال المتحققة ، ويقين شكوك حيرة أولي الألباب ، وخير ما صحب من الأصحاب ، سر أسرار الحكمة ، ومفتاح كل نجاة ورحمة ، قول أرحم الراحمين ، وتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فأيّ منزّل سبحانه ونازل وتنزيل ، لقد جل سبحانه وتنزيله عن كل تمثيل ، وطهر وتقدس ـ إذ وليه بنفسه ، ونزل به روح قدسه ، ـ عن قذف الشياطين وأكاذيبها ، وافتراء مردة الآدميين وألاعيبها ، فأحكم عن خطل الوهن والتداحض ، وأكرم عن زلل الاختلاف والتناقض ، فجعل بآياته مترافدا ، وبضياء بيناته متشاهدا ، غير متكاذب الأخبار ، ولا متضايق الأنوار ، بل ضحيان النور ، فيحان الأمور ، سيحان الأنهار بالحياة المنجية ، واسع الأعطان والأفنية ، ساطع النور والبرهان ، جامع الفصل والبيان ، فأنواره بضيائه زاهرة ، وأسراره لأوليائه ظاهرة ، فما إن يواري عن أهله الذين استودعوا علمه من سرائر سريرة ، ولا يدع ما وضح من نوره في

قلوبهم من مشكلة حيرة ، بعزائم حكماته المنزلة ، ودلائل آياته المفصّلة.

ويرى في الحروف المقطعة في أوائل السور علوما وأسرارا مكنونة ، قال : كيف بما في حواميمه؟! من غرائب حكمه ، وما في طواسينه ، من عجائب مكنونه ، وما في (ق) ، و (طه) ، و (يس) ، من علم جمّ للمتعلمين ، وفي كهيعص وألم والذاريات ، من أسرار العلوم الخفيات ، وما في المرسلات والنازعات ، من جزم أنباء جامعات ، لا يحيط بعلمها المكنون ، إلا كل مخصوص به مأمون ، فسر ما نزل الله سبحانه من الكتاب ، فخفيّ على كل مستهزئ لعّاب.

وأسراره برحمة الله لأوليائه فعلانية ، وأموره لهم فظاهرة بادية ، فهو الظاهر الجلي المجهور ، والباطن الخفي المستور ، وهو بمنّ الله المصون المبذول ، والجزم الذي لا يدخل شيئا منه هذر ولا فضول ، بل قرنت فيه لأهله مجامع كلمه ، وسهّلت به لهم مسامع حكمه ، فقرعت من قلوبهم مقارع ، ووقعت من أسماعهم مواقع ، لا يقعها من غيرها عندهم واقع ، ولا يسمع مثل تفسيرها أبدا منهم سامع ...

سماويّ أحله الله برحمته أرضه ، وأحكم به في العباد فرضه ، فلا يوصل إلى الخيرات أبدا إلا به ، ولا تكشف الظلمات إلا بثواقب شهبه ، من صحبه صحب سماويا لا يجهل ، وهاديا إلى كل خير لا يضل ، ومؤنسا لقرنائه لا يملّ ، وسليما لمن صحبه لا يغلّ ، ونصيحا لمن ناصحه لا يغشّ ، وأنيسا لمن آنسه لا يوحش ، وحبيبا لمن حابّه لا يبغض ، ومقبلا على من أقبل عليه لا يعرض ، يأمر بالبر والتقوى ، وينهى عن المنكر والأسواء ، لا يكذب أبدا حديثا ، ولا يخذل من أوليائه مستغيثا ، إن وعد وعدا أنجزه ، أو تعزّز به أحد أعزه.

لا تهن لأوليائه معه حجة ، ولا تبلى له ما بقي أبدا بهجه ، ولا يخلقه كرّ ولا ترداد ، ولا يلمّ به وهن ولا فساد ، ولا يعي به وإن لكن لسان ، ولا يشبه فرقانه فرقان ، ومن قبل ما صحب الروح الأمين ، والملائكة المقربين ، فكان لهم هاديا ومبينا ، وازدادوا به من الله يقينا.

فاتخذوه هاديا ودليلا ، واجعلوا سبيله لكم إلى الله سبيلا ، حافظوا عليه ولا ترفضوه ، واتخذوه حبيبا ولا تبغضوه ، فإنه لا يحب أبدا له مبغضا ، ولا يقبل على من

كان عنه معرضا ، ولا يهدى إليه من عاداه ، ومن تعامى عنه أعماه ، ولا يبصر ضياءه إلا من تأمّله ، ولا يعطي هداه إلا أهله ، من ضل عنه أضله ، يقلّد جهله من جهله ، إن أدبر عنه أدبر ، أو أقبل عليه بصّر ، جعله الله يتلوّن في ذلك بألوان ، ويتفنن فيه على أفنان ، فهو الهادي المضل ، وهو المدبر المقبل ، وهو المسمع المصم ، وهو المهين المكرم ، وهو المعطي المانع ، وهو القريب الشاسع ، وهو السر المكتوم ، وهو العلانية المعلوم ، فمرّة يهدي إليه من اصطفاه ، ومرّة يضل من أبى قبول هداه ، ومرّة يقبل على من أقبل إليه ، ومرة يدبر عن من التوى في الهدى عليه ، ومرّة يسمع من استمع منه ، ومرّة يصم من أعرض عنه ، ومرّة يهين الأعداء ، ومرّة يكرم الأولياء ، يعطي من قبل عطاه ، ويمنع من أبى قبول هداه ، يقرب لمن ارتضاه ، ويشسع عمن سخط قضاه ، يعلن لأوليائه ويظهر ، ويكتتم عن أعدائه ويستر ، نور هدى على نور ، وفرقان بين البرّ والفجور ، أرشد زاجر وآمر ، وأعدل مقسط ومعذّر ، يوقظ بزجره النّوماء ، ويعظ بأمره الحكماء ، ويحيي بروحه الموتى ، ولا يزيد من مات عنه إلا موتا ، يعدل أبدا ولا يجور ، وكل أمره فقدر مقدور ، ظاهره ضياء وبهجة ، وباطنه غور ولجّة ، لا يملك حسن أنواره ، ولا يدرك باطن أغواره ، فمن ظهر لظاهر مناظره ، رأى أعاجيبه في موارده ومصادره ، ومن بطن لمستبطنه ، رأى مكنون محاسنه ، من غرائب علمه ، وأطائب حكمه ، لباب كل لباب ، وفصل كل خطاب ، وحكمه من حكم رب الأرباب ، اكتفى به منه في هداه لأوليائه ، واصطفى به من خصّه الله سبحانه باصطفائه ، فمصابيح الهدى به ، تزهر واهجة ، وسبل التقوى به إلى الله تلوح ناهجة ، يحتاج إليه ولا يحتاج ، سراجه أبدا بنوره وهّاج ، يعلّم ولا يعلّم ، ويقوّم ولا يقوّم ، فهو المهيمن الأمين ، والفاصل المبين ، والكتاب الكريم ، والذكر الحكيم ، والرضى المقنع ، والمنادي المسمع ، والضياء الأضوى ، والحبل الأقوى ، والطود الأعلى ، الذي يعلو فلا يعلى ، ولا يؤتى لسورة من سوره أبدا بمثل ولا نظير ، ولا يوجد فيه اختلاف في خبر ولا حكم ولا تقدير ، فصل كل خطاب ، وأصل كل صواب.

وآثرت نقل هذا النص رغم طوله لبلاغته وجزالة ألفاظه ، وللتعريف بمكانة القرآن عن الإمام القاسم خاصة والزيدية عامة.

تحريف الطغاة للقرآن

ولقد كان ينعى على الطغاة وعلماء السلاطين التحريف في تأويله ، لتطويعه لتضليل الأمة وإبقائها خانعة للعسف والجور ، باسم القرآن والإسلام ، بل يصل بهم الأمر إلى وضع الأحاديث التي تمجد الحاكم الظالم ، وتدعو الأمة إلى الصبر والخنوع ، وتحريم الثورة والجهاد المسلح ، لاستعادة الحقوق ، والحكم بالمنهج الإلهي ، قال :

على ما بلي به قديما من تلبيس ملوك الجبابرة ، وأتباعها من علماء العوّام المتحيّرة ، في توجيهها له على أهوائها وتصريفه ، وتأويلها له بخطئها على تحريفه ، حتى عطّل فيهم قضاؤه ، وبدّلت لديهم أسماؤه ، فسمّيت الإساءة فيه إحسانا ، والكفر بالله إيمانا ، والهدى فيه عندهم ضلالا ، وعلماء أهله به جهالا ، ونور حكمه ظلما ، وبصر ضيائه عمى ، بل حتى كادت أن تجعل فاؤه ألفا ، وألفه للجهل بالله فاءا ، تلبيسا على الطالب المرتاد ، وضلالة من العامة عن الرشاد ، فنعوذ بالله من عماية العمين ، والحمد لله رب العالمين.

فلو لا ما أبدى الله سبحانه من كتابه وحججه ، وأذكى سبحانه من تنوير سرجه ، لأباد حججه ـ بتظاهرهم ـ المبطلون ، ولأطفأ سرجه الظلمة الذين لا يعقلون ، ولكن الله سبحانه أبى له أن له أن يطفى ، وجعله سراجا لأوليائه أبدا لا يخفى ، ولذلك ما يقول سبحانه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)) [التوبة : ٣٢].

مصحف علي عليه‌السلام

وقال متحدثا عن عدم اختلافه كما روى الهادي عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن جده ، أنه قال : قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عند عجوز مسنة ، من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فوجدته مكتوبا أجزاء ، بخطوط مختلفة ، من أسفل جزء فيها مكتوب : وكتب علي بن أبي طالب ، وفي أسفل آخر : وكتب عمار بن ياسر ، وفي أسفل آخر : وكتب المقداد ، وفي آخر : وكتب سلمان الفارسي ، وفي آخر : وكتب أبو ذر الغفاري ، كأنهم تعاونوا على كتابته. قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه : فقرأته فإذا هو هذا القرآن

الذي في أيدي الناس حرفا حرفا ، لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، غير أن مكان : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] اقتلوا الّذين يلونكم من الكفّار ، وقرأت فيه المعوذتين (١).

أقول : لعل هذه الشريفة هي نفيسة بنت الحسين المذكور ، وهي مشهورة بالفضل والعبادة والزهد والكرامات المشهورة ، ومشهدها بمصر مشهور مزور. ولدت سنة ١٤٥ ه‍ ، وتوفيت سنة ٢٠٨ ه‍. أو لعلها عمتها نفيسة بنت زيد بن الحسن. وكانت بمصر وتوفيت قبل وفاة السيدة نفيسة.

* * *

__________________

(١) المجموعة الفاخرة / ٥٤٩.

نظرته إلى السنة

قال الإمام القاسم بعد أن جعل الحجج ثلاث حجج ، حجة العقل ، والكتاب ، والرسول : وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما وقع عليه الإجماع بين أهل القبلة ، والفرع ما اختلفوا فيه عن الرسول. فكل ما وقع فيه الاختلاف من أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو مردود إلى أصل الكتاب والعقل والإجماع (١).

وقال : وإن سنة رسول الله صلى الله عليه ما كان لها ذكر في القرآن ومعنى (٢).

قيل لهم : فمن أين قلتم ذلك وما بينتكم عليه؟! ولن تجدوا سبيلا إلى إثبات اللون إلا من وجه الرواية ، فيعارضون بأضداد رواياتهم ، فإن جعلوا الرواية حجة لم يصح لهم دعوى ولا لنا ، لأنهم رووا خلاف ما روينا وروينا خلاف ما رووا ، ولا بد أن يكون أحدنا محقا والآخر مبطلا ، وفي إبطال قول أحدنا إبطال أحد الأثرين ، وفي إبطال أحد الأثرين إخراج الأثر الشاذ من الحجة ، لأن الشاذ من الأثر لا يكون مثل كتاب الله ولا سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

نظرته إلى أهل البيت

وقال متحدثا عن أهل البيت ونعمة انتسابهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن فضلهم وعلمهم ، وعن من يأخذ الناس منهم إذا اختلفوا :

والحمد لله الذي جعلنا لخاتم المرسلين ، وبقية من مضى من رسله الأولين ، عترة وبقية ، وآلا وذرية ، ابتداء لنا في ذلك بعظيم فضله ، ومنّا علينا فيه بولادة خاتم رسله ...

وقال أيضا : فأيّ ضياء أضوى ، أو حجة لمحتج أقوى؟ في إثبات الصفوة والفضل ، لأبناء المنتجبين من الرسل.

__________________

(١) أصول العدل والتوحيد.

(٢) الأصول الخمسة.

(٣) انظر المسترشد.

وقال أيضا : فليسأل عنها ، وليطلب ما خفي فيه منها ، عند ورثة الكتاب ، الذين جعلهم الله معدن علم ما خفي فيه من الأسباب ، فإنه يقول سبحانه : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)) [فاطر : ٣٢]. ولتكن مسألته منهم للسابقين بالخيرات ، فإن أولئك أمناء الله على سرائر الخفيات ، من منزل وحي كتابه ، وما فيه من خفي عجائبه ، فقد سمعت قول الله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل / ٤٣ ، الأنبياء / ٧] (١).

ولم يلقوا ـ فيما اشتبه منه ، ـ من جعلهم الله معدنه ، فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره ، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره ، الذين جعلهم الله الأمناء عليها ، ومنّ عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها.

وقال محمد بن القاسم : وسألته : عن الاختلاف الذي بين أهل البيت؟

فقال : يؤخذ من ذلك بما أجمعوا عليه ولم يختلفوا فيه ، وأما ما اختلفوا فيه فما وافق الكتاب والسنة المعروفة فقول من قال به فهو المقبول المعقول.

نظرته إلى الحجة

الحجج الأصلية عند الإمام ثلاث حجج ، العقل ، والكتاب ، والسنة ، وفي كل حجة منها أصل وفرع ، ويجب رد الفروع إلى الأصول.

قال : ثلاث عبادات من ثلاث حجج ، احتج بها المعبود على العباد ، وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة

__________________

(١) المراد بأهل الذكر آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، روى فرات الكوفي عن أبي جعفر عليهما‌السلام في الآية قال : نحن أهل الذكر ، وفي رواية : هم آل محمد. وعن زيد بن علي عليهما‌السلام قال في الآية : إن الله سمى رسوله في كتابه ذكرا فقال : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) [الطلاق / ١٠] ، وقال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). وكلاهما مصحفتان ، تفسير فرات ٢ / ٢٣٥ ، وأخرج الرواية الأولى محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٣٠ (٧١) ، والثعلبي في تفسيره والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٣٣٥ (٤٦٠).

التعبد ، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الآخرتين ، لانهما عرفا به ولم يعرف بهما ، فافهم ذلك.

ثم الإجماع من بعد ذلك حجة رابعة مشتملة على جميع الحجج الثلاث ، وعائدة إليها.

ثم اعلم أن لكل حجة من هذه الحجج أصلا وفرعا ، والفرع مردود إلى أصله ، لأن الأصول محكّمة على الفروع ، فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء ولم يختلفوا فيه ، والفرع ما اختلفوا فيه ولم يجمعوا عليه. وإنما وقع الاختلاف في ذلك لاختلاف النظر ، والتمييز فيما يوجب النظر ، والاستدلال بالدليل الحاضر المعلوم ، على المدلول عليه الغائب المجهول. فعلى قدر نظر الناظر واستدلاله يكون دركه لحقيقة المنظور فيه ، والمستدلّ عليه ، فكان الإجماع من العقلاء على ما أجمعوا عليه أصلا وحجة محكّمة على الفرع الذي وقع الاختلاف فيه.

وأصل الكتاب فهو المحكم الذي لا اختلاف فيه ، الذي لا يخرج تأويله مخالفا لتنزيله. وفرعه المتشابه من ذلك فمردود إلى أصله ، الذي لا اختلاف فيه بين أهل التأويل.

وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما وقع عليه الإجماع بين أهل القبلة ، والفرع ما اختلفوا فيه عن الرسول. فكل ما وقع فيه الاختلاف من أخبار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مردود إلى أصل الكتاب والعقل والإجماع.

نهاية المطاف

ولما لم يجد الإمام القاسم الأنصار على الجهاد ولم تواته الفرصة للصمود أمام جبروت الدولة العباسية ، انتقل إلى الرس في آخر أيامه ـ وهي أرض اشتراها وراء جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة بالمدينة المنورة قريبة من أبيار علي ـ من حيث يحرم للحج الخارجون من المدينة ، وإلى جبل الرس نسب الإمام. وبنى هناك لنفسه ولولده ، وتفرغ للعلم والتأليف ، وتوفي بها ، وقد حصل له ثواب المجاهدين من الأئمة السابقين سنة (٢٤٦ ه‍ ٨٦٠ م) ، وله سبع وسبعون سنة ، ودفن فيها. وقد حاولنا

أكثر من مرة زيارته والوصول إلى قبره فلم نتمكن من ذلك.

قال ولده الإمام محمد بن القاسم : فأقرب من به في ذلك تقتدون ، وبفعله في الهجرة عن القرى والمدن تأنسون ، جدكم الأقرب أبي وأبوكم القاسم بن إبراهيم رضي الله عنه ورحمه ، وقبل عزلته وهجرته منه ، وقد كان رحمه‌الله زمانا طويلا من عمره بالمدن مدن الحجاز ومدينة مصر ساكنا داعيا إلى طاعة الله ، فلما لم ير في أهل القرى والمدن إلى طاعة الله ربه وحقه ومرضاته مستجيبا ، ولم ير فيها إلا غرقا في الجهل والمعاصي لا تائبا إلى ربه ولا منيبا ، ورأى القرى والمدن أصل كل منكر وضلال ، وتجمع الفجار والفساق والأرذال الدناة والأفسال ، تبرأ إلى الله منهم ، وهاجر إلى البادية والجبال عنهم ، فوفقه الله للصواب في ذلك وأرشده ، وأراه له الخيرة في دنياه وأسعده ، فخلا بنفسه وأهله وولده ، وجرى حكمه عليهم وعلى من تحت يده ، فصار ـ نظرا واختيارا ، بعد أن أحاط بالمدن والقرى وأهلها اختبارا ـ إلى بادية المدينة وجبالها ، وتنحى عن المدينة وأهلها ، وحل في جبل من باديتها يسمى قدسا (١) ، فكان به حينا وكنا به معه أطفالا صغارا ، لا يعاين فسقا ولا فجورا ولا منكرا ، ثم انتقل إلى (وادي الرس) وجباله ، فكان خاليا فيه بولده وعياله ، ما أمرنا فيه من أمر أطعناه ، وما عرفنا في الدين من حق أو قول في الهدى والصواب قبلناه.

ثم انتقل إلى فرع آخر من جبل يسمى (الأشعر) من جبال جهينة ، بعد أن أقام عمرا طويلا وسنين كثيرة في (وادي مزينة) فكان منه بجبل وفرع يدعا (فرع السور) حتى توفي فيه رحمة الله عليه وقبض ، وكان قد عاهد الله وأعطاه من نفسه أن لا يسكن هو ولا أحد يطيعه من ولده ما بقي حيا مجامع الناس بين المدن والقرى (٢).

* * *

__________________

(١) في وفاء الوفاء للسمهودي في أخبار دار المصطفى (قدس) بالضم وسكون الدال المهملة.

قال الهجري جبال قدس غربي ضاف من البقيع ، (وقدس) جبال متصلة عظيمة كثير الخير تنبت العرعر والخزم وبهاتين وفواكه وفراع ، وفيها بستان ومنازل كثيرة من مزينة. ٤ / ١٢٨٧.

(٢) الهجرة والوصية / ٦٢ ـ ٦٣. (مخطوط).

قالوا في الإمام القاسم :

قال الإمام أحمد بن عيسى بن زيد : وقد عرض عليه الإمام القاسم البيعة لا والله ، وأنت يا أبا محمد حاضر ، إذا حضرت فلا يجب لأحد أن يتقدمك ويختار عليك ، وأنت أولى بالبيعة مني (١).

وقال عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب للإمام القاسم عند ما عرض عليه البيعة أيضا : يا أبا محمد نحن لا نختار عليك أحدا ، وقد أصاب أبو عبد الله فيما قال ، وأنت الرضى لجميعنا (٢).

وقال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي ، وقد عرض عليه الإمام القاسم البيعة أيضا : يا أبا محمد والله لا يتقدم بين يديك أحد إلا وهو مخطئ ، أنت الإمام وأنت الرضى ، وقد رضيناك جميعا (٣).

حدثنا أبو العباس الحسني باسناده عن عبد العزيز بن الوليد ، قال : سألت الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم‌السلام عن أبي محمد القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام؟

فقال : سيدنا وكبيرنا والمنظور إليه من أهلنا ، وما في زماننا هذا أعلم منه ، ولقد سمعته يقول : قرأت القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ، ما علمي بتأويلها بدون علمي بتنزيلها. ثم قال : لو سألت أهل الأرض من علماء أهل البيت؟ لقالوا فيه مثل قولي. قيل له : فأحمد بن عيسى؟! فقال : أحمد بن عيسى من أفضلنا ، والقاسم إمام (٤).

وقال محمد بن منصور المرادي وقد سئل لم لم يكثر الرواية عنه؟! فقال : كأنكم تظنون أنا كلما أردنا كلمناه ، من كان يجسر على ذلك منا؟! ولقد كان له في نفسه

__________________

(١) تتمة المصابيح / ٣٢٣. (مخطوط).

(٢) تتمة المصابيح / ٣٢٤. (مخطوط).

(٣) تتمة المصابيح / ٣٢٤. (مخطوط).

(٤) تتمة المصابيح / ٣٢٧. (مخطوط).

شغل ، كنت إذا لقيته كأنما ألبس حزنا (١).

وقال عبد الله بن أحمد بن سلام : لست أجسر على النظر في (كتاب الهجرة) للقاسم عليه‌السلام ، وأومئ إلى أن ذلك لما فيه من التخشين والتشديد والزهد وترك الدنيا والتباعد من الظالمين (٢).

وقال جعفر بن حرب المعتزلي : أين كنا عن هذا الرجل ، فو الله ما رأيت مثله (٣).

وقال أبو القاسم البلخي في طبقات المعتزلة : وأئمتهم أي : الزيدية المشهورون كزيد بن علي ، ويحيى بن زيد ، وأولاد عبد الله بن الحسن ، إبراهيم ، ويحيى ، ومحمد ، (كالقاسم) ، والناصر ، والهادي ، وغيرهم ، مذكورون في كتب التاريخ بالفضل الشهير ، علما وعملا وحسن السيرة في الأمة (٤).

حدثنا أبو العباس الحسني رضي الله عنه باسناده ، عن يحيى بن الحسن العلوي ، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إبراهيم ، قال : استوفى عمي غلته خمسين دينارا ، فلقيه رجل يمدحه وأنشده قصيدة يقول فيها :

ولو أنه نادى المنادي بمكة

ببطن منى فيمن تضم المواسم

من السيد السباق في كل غاية

لقال جميع الناس لا شك قاسم

إمام من ابناء الأئمة قدمت

له الشرف المعروف والمجد هاشم

أبوه على ذو الفضائل والنهى

وآباؤه والأمهات الفواطم

بنات رسول الله أكرم نسوة

على الأرض والآباء شم خضارم

قال : فأمر له بالخمسين دينارا (٥).

وقال الإمام الناصر الأطروش :

محمد وعلي والبتول ومن

قد كان يأتيهم بالوحي جبريل

__________________

(١) تتمة المصابيح / ٣٢٥ ـ ٣٢٦ ، والإفادة / ١٢٥.

(٢) الإفادة / ١٢٦.

(٣) الإفادة / ١١٥.

(٤) المنية والأمل للمرتضى / ٩٩.

(٥) تتمة المصابيح / ٣٢٥ ، ومآثر الأبرار / ١١٨.

وعترة المصطفى بالرس عنصرنا

الطاهرين المقاديس البهاليل

هم السفينة لا إفك أقول به

فمن تأخر عنها فهو معزول (١)

وقال الإمام الناصر الأطروش أيضا : زاهد خشن (٢).

وقال الإمام الهادي ـ حفيده ـ : القاسم بن إبراهيم الفاضل العالم الكريم ، المجرد سيفه ، المصمم الباذل نفسه ، المباين للظالمين ، الداعي إلى الحق المبين ... (٣).

وقال الإمام أبو طالب الهاروني : كان نجم آل الرسول صلى الله عليه وعلى آله ، المبرز في أصناف العلوم وبثها ونشرها وإذاعتها ، تصنيفا وإجابة عن المسائل الواردة عليه ، والمتقدم في الزهد والخشونة ولزوم العبادة (٤).

وقال أبو نصر البخاري من أعلام القرن الرابع : الإمام القاسم بن إبراهيم صاحب المصنفات والورع والدعاء إلى الله سبحانه ومنابذة الظالمين (٥).

وقال ابن أبي الحديد في معرض الرد على فخر بني أمية على بني هاشم : ومن رجالنا القاسم بن إبراهيم طباطبا ، صاحب المصنفات والورع والدعاء إلى الله وإلى التوحيد والعدل ، ومنابذة الظالمين ، ومن أولاده أمراء اليمن (٦).

وقال الحاكم الجشمي أيضا : نجم آل الرسول وفقيههم وعالم المبرز في أصناف العلم ، ومن يضرب به المثل في الزهد والعلم (٧).

وقال الحاكم المحسن بن كرامة الجشمي في كتابه تنزيه الأنبياء والأئمة : فأما القاسم عليه السلام فلا شبهة في فضله وعلمه ، وله الكتب المعروفة والأصحاب ، فأما

__________________

(١) مقدمة البساط / ١٧ (بتحقيقنا).

(٢) الإفادة / ١١٧.

(٣) الأحكام ١ / ٤٣.

(٤) الإفادة / ١١٤.

(٥) سر السلسلة العلوية / ٢٨.

(٦) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٨٩.

(٧) البحر الزخار ١ / ٢٢٨.

الزهد فأشهر من الشمس (١).

وقال الإمام عبد الله بن حمزة : يلقب ترجمان الدين ، ويقال له : القاسم العالم.

وكان يقال له : نجم آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو المبرز في أصناف العلوم وبثها ونشرها وإذاعتها ، تصنيفا وإجابة عن المسائل الواردة عليه ، والمتقدم في الزهد والخشونة ، إلى غاية لم يبلغها أحد من أهل عصره ، ولزوم وظائف العبادة (٢).

وقال الشهيد حميد : كان من أقمار العترة الرضية ، ويواقيتها المشرقة المضية ، انتهت إليه الرئاسة في عصره ، وتميز بالفضل على أبناء دهره.

وله عليه‌السلام العلم العجيب ، والتصانيف الرائقة في علم الكلام وغيره من الفنون (٣).

وقال أيضا : وله في الفقه التصانيف العجيبة ، التي تشهد بتدقيقه ، وحسن تحقيقه ، ومعرفته بالاختلاف بين الفقهاء ، وجودة غوصه على استنباط الغرائب.

وقال أيضا : وكذلك كلامه ـ عليه‌السلام ـ في علوم القرآن ، فإنه إذا أخذ يتكلم فيه فكأنه فنه الذي نشأ عليه.

وقال أيضا : وله عليه‌السلام كتاب (سياسة النفس) الذي من شاهده علم أنه خرج من قلب خاشع.

وقال أيضا : فأما زهده ـ عليه‌السلام ـ وورعه فمما لا يتمارى فيه اثنان ، ولا يترادد فيه رجلان (٤).

وقال الهادي بن إبراهيم الوزير : وأما الإمام الطاهر الأورع العالم الزاهد ، القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، فإنه جامع الفضائل ، وصاحب الدلائل ، والإمام الكامل ، إن

__________________

(١) هداية الراغبين / ٤٣٣.

(٢) الشافي ١ / ٢٦٢.

(٣) الحدائق الوردية ٢ / ٢.

(٤) الحدائق الوردية ٢ / ٣.

قيل من الإمام الكامل؟ فاض علما وزهدا وفضلا ومجدا وشرفا وجودا ، وبرز في العلم على علماء الطوائف ، واعترف بفضله وعلمه المؤالف منهم والمخالف ، ورسخت في العلوم أطنابه ، وأشرقت في ذروة الحلوم قبابه ، وظهرت على ما كان عليه من الخوف والتستر مصنفاته ، وبهرت على ما كان عليه من التزهد والتقشف صفاته ، وشخصت أبصار العلماء في زمانه إلى لقاء غرته ، وامتدت أعناق الفضلاء في أوانه إلى ورود حضرته ، واشتاقت نفوس الأولياء والزهاد إلى مراجعته ، وتطلعت قلوب الأصفياء والعباد إلى أنوار طلعته ، وكان عيانه أبلغ من سماعه ، واختباره أفضل من أخباره ، وما يشاهد فيه من الفضل أعظم مما يحكى عنه ، وما يعاين فيه من الزهد أجل مما يخبر به منه ، وما يعلم منه من العلم أوسع مما يوصف فيه ، وما يتحقق منه من الورع أكمل مما يضاف إليه ، ولو ادعيت العصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم‌السلام لادّعيت للقاسم بن إبراهيم ، وقد ورد هذا في الحديث فيما رواه أئمتنا وأهلنا وعلماؤناعليهم‌السلام : مسلوب الربا عينين من أهل بيتي لو كان بعدي نبي لكان هو.

ولو كان الاتباع في الدنيا على قدر العلم والفضل والزهد ، لكان من في الدنيا كلها من فرق الإسلام على مذهب القاسم بن إبراهيم.

بل لو وقف التقليد في الفروع على الاتقان في الرواية ، ومجرد الصدق والعدالة ، وصحة التقى والطهارة ، لكان القاسم عليه‌السلام أحق الأئمة كافة بتقليده ، وأولاهم بالرجوع إلى قوله واجتهاده.

ومن أنصف وبحث وطالع السّير والأخبار ، ونقّب عن الأحوال والآثار ، تعرّف صحة ما قلناه ، وتحقّق صدق ما ذكرناه. ومن جعل القاسم بن إبراهيم بينه وبين الله تعالى فقد نجا (١).

وقال الهادي بن إبراهيم الوزير : ففضائله عليه‌السلام لا تحصى ، ومحامده النبوية لا تستقصى (٢).

__________________

(١) هداية الراغبين / ٤٢٨ ـ ٤٣٠. (مخطوط).

(٢) نهاية التنوية / ٢١٧.

وقال أيضا : وله عليه‌السلام العلم العزيز ، والتصانيف الفائقة في علم الكلام ، وغيره من الفنون (١).

وقال أيضا عن الإمام القاسم : إنه البحر الزخار ، والقمر النوار ، والغمام المدرار ، وتصانيفه ـ عليه‌السلام ـ في الفقه أكثر من أن تذكر (٢).

وقال أيضا :

وهم جهّلوا الرسي وهو مقدس

عن الجهل بحر الحكمة المتلاطم

وهم أنكروا إسناد يحيى وقاسم

وما لهما في العالمين مقاسم

إذا القاسم الرسي ضل بزعمكم

فمن يهتدي إن ضل في الناس

وقال أيضا : وإن كان ناسب الجهل إلى القاسم عليه‌السلام جاهلا بحاله ، ومحاسن خلاله ، غير عارف بفضائله الوسام ، ومكارمه العظام ، وعلومه المتلاطمة الأمواج ، وآياته المتسعة الفجاج ، ومحامده الوضية الديباج ، ومحاسنه الوهاجة السراج ... (٣).

وقال السيد محمد بن إبراهيم الوزير لما قال له قاضي القضاة محمد بن عبد الله بن ظهيرة الشافعي : ما أحسن يا مولانا لو انتسبت إلى الإمام الشافعي : فأجاب عليه السيد محمد الوزير فقال : سبحان الله أيها القاضي إنه لو كان يجوز لي التقليد ، لم أعدل عن تقليد الإمام القاسم بن إبراهيم أو حفيده الهادي (٤).

وقال الأمير الحسين بن بدر الدين : كان عليه‌السلام معروفا بالفضل ، أجمع على فضله المخالف والمؤالف ، ولم ينكره عالم عارف ، وبلغ في الزهد مبلغا عظيما ، وكان بجميع العلم عليما (٥).

__________________

(١) نهاية التنوية / ٢١٩.

(٢) نهاية التنوية / ٢٢٠.

(٣) نهاية التنوية / ٢٢٣.

(٤) مقدمة العواصم / ٣١ ، البدر الطالع ٢ / ٩٠.

(٥) ينابيع النصيحة / ٤١٧.

وقال الحسن بن بدر الدين :

أين لهم كالقاسم الرسي

الترجمان العالم التقي

أكرم شيخ من بني النبي

خيرة آل المرتضى علي

شيخ الرسوس وإمام الحق

ومعدن العلم ورب السبق

وعصمة الآل وشمس الخلق

مقال حق ومقال صدق

ثم قال : يلقب ترجمان الدين ، ويقال له : القاسم العالم ... وكان الغاية القصوى في العلم والفضل ، وكان يقال له : نجم آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال : وله عليه‌السلام التصانيف الجمة في أنواع العلم ، والأنظار الحسنة ، والحجج الواضحة ، وله الهجرة إلى الله والزهد في الدنيا والانقطاع إلى الله ، وله من الفضل ما يطول شرحه (١).

وقال العلامة يحيى بن أبي بكر العامري الشافعي : الإمام القاسم بن إبراهيم ، وكان له فضل مشهور ، وعمّر كثيرا حتى تولى في زمنه كثير من خلفاء العباسيين ، وكان يستتر عنهم في مملكتهم فيظهر مرة بالحجاز وأخرى بغيره حتى مات ، ولم يقع في أيديهم (٢).

وقال أحمد بن علي الحسني (ابن عنبة النسابة) : كان عفيفا زاهدا له تصانيف ، ودعا إلى الرضا من آل محمد (٣).

وقال صارم الدين الوزير في البسامة :

وترجمان الهدى والدين قاسمنا

أجل معتصم بالحق مشتهر

خليفة بركات فيه ظاهرة

كأنها بركات الياس والخضر

لما دعاها إلى التقوى وما نظرت

من العيون إلى عبس لها نظر (٤)

__________________

(١) أنوار اليقين ٢ / ١٣٠ (مخطوط).

(٢) الرياض المستطابة / ٢٩٤.

(٣) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب / ٢٠١.

(٤) مآثر الأبرار / ١١٨. (مخطوط).

وقال صارم الدين الوزير أيضا : القاسم بن إبراهيم عالم آل محمد (١).

وقال : القاسم والهادي وأمثالهما من أكابر سادات الأئمة ، وقادات الأمة (٢).

وقال : الإمام العالم نجم آل الرسول (٣).

وقال محمد بن الحسن الديلمي (صاحب قواعد عقائد آل محمد) في الإمام القاسم:

نور من الملكوت مثّل صورة

بشرية ضلت عليه دليلا

لو لم يكن ختم الرسالة جده

خلناه في هدي الرسول رسولا

هذا الذي بهر العقول جلاله

وتجاوز التشبيه والتمثيلا

إن كنت تجهل قدره فاسأل به

القرآن والتوراة والإنجيلا (٤)

وقال السيد محمد بن يحيى القاسمي :

كذلك القاسم الرسي قال كما

قالوا وفجر ينبوع الهدى الحالي

مناظرا لفلسفي حتى أقر له

وتاب من دنس تغليل وإيغال

وقال الشارح :

يريد عليه‌السلام : القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، وهو أليم الزاخر ، وأبو الأئمة الأطهار ، فقد وردت فيه آثار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المختار ، منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : منك هاديها ومهديها ومستلب الرباعيتين. يعني : القاسم عليه‌السلام. وفي رواية أنه قال : يا فاطمة منك هاديها ومهديها ومستلب الرباعيتين ، ولو كان بعدي نبي لكان هو (٥).

__________________

(١) الفلك الدوار / ٦٠.

(٢) الفلك الدوار / ٧٥.

(٣) طبقات الزيدية ٢ / ٢٠٨ (مخطوط).

(٤) نهاية الثنوية / ٢١٨.

(٥) اللآلئ الدرية / ٤٣.

وقال العلامة أحمد بن محمد الشرفي : كان أبيض اللون ، حسن الوجه ، تام الخلق ، قد غلب البياض على شعره ، لا يكاد يكلمه أحد لهيبته ... وعلمه وزهده وورعه وفضله ، أشهر من نار على علم ... ويسمى : نجم آل الرسول (١).

وقال المرزباني في معجم الشعراء : حجازي مدني يسكن جبال قدس من أعراض المدينة ، حسن الشعر جيده ، وذكر له بعض قصيدة :

ونى التهجير والدلج ...

وبعض قصيدة :

عسى مشرب يصفو ...

وقال : وله :

دعيني هديت أنال الغنى

بيأس الضمير وهجر المنى

كفاف امرئ ... (٢)

وقال ابن النديم بعد حديثه عن الزيدية : وأكثر المحدثين على هذا المذهب ، مثل : سفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ، وصالح بن حي وولده وغيرهم ، وقال : قال محمد بن إسحاق : أكثر علماء المحدثين زيدية ، وكذلك قوم من الفقهاء المحدثين ، مثل سفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ، وجلة المحدثين (٣).

وقال محمد بن علي الزحيف : القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل فرع دوحة بسقت في أرض الفخار ، ونور زيتونة تتوقد لذوي الأبصار ، ما في آبائه إلا من فاق وراق ، وانتشر فضله في الآفاق ، وله العلم الغزير ، والتصانيف المفيدة في كل فن من العلوم (٤).

وقال العلامة أحمد بن يحيى حابس : القاسم بن إبراهيم ، وهو نجم آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفقيههم وعالمهم المبرز في أصناف العلوم ، ومن يضرب به المثل

__________________

(١) اللآلئ المضية ١ / ٥٤٨ (مخطوط).

(٢) أحيان الشيعة ٨ / ٤٣٤.

(٣) الفهرست / ٢٢١ ـ ٢٢٢).

(٤) مآثر الأبرار / ١١٨. (مخطوط).

في الزهد والعلم (١).

وقال محمد بن الإمام عبد الله بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن ، صاحب كتاب التحفة العنبرية :

ونجم آل الرسول القاسم العلم

الرسي قدوتنا في القول والعمل (٢)

وقال محمد بن أحمد بن مظفر الحميري : له العلم الغزير ، والتصانيف المفيدة ، وهو أول من أكثر التصانيف في كل من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحاله فيما اتسم به من محاسن الخلال وجمع أوصاف الكمال ، أشهر من الإفصاح به إلا على جهة الإجمال (٣).

وقال إبراهيم بن القاسم صاحب طبقات الزيدية : الإمام العالم نجم آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال : كان ـ عليه‌السلام ـ مبرزا في أصناف العلوم.

وقال الجنداري : ترجمان الدين ، ونجم آل الرسول ، والمبرز على أقرانه في الفروع والأصول ، والمسموع والمعقول (٤).

وقال الجنداري أيضا : وكان عليه‌السلام بحرا لا تقطعه الألواح (٥).

وقال الجنداري أيضا : الإمام الحجة مجدد القرن الثاني ، نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي (٦).

وقال شيخ الأزهر الشيخ محمد أبو زهرة : القاسم بن إبراهيم الرسي : هو كبير طائفة تسمى القاسمية ، قد نشأت ببلاد الحجاز ... وله فقه ممتاز جيد ... وكان على

__________________

(١) المقصد الحسن / ٣٠٢ (مخطوط).

(٢) التحفة العنبرية / ٨٠ (مخطوط).

(٣) الترجمان المفتتح لثمرات كمائم البستان / ١٠٤ (مخطوط).

(٤) تراجم رجال شرح الأزهار / حرف القاف.

(٥) سمط الجمان / ٢٨٣ بتحقيقنا.

(٦) الجامع الوجيز / ٥٣ (مخطوط).

علم دقيق بالمذهب الحنفي مع فقه الحجاز. وكان ذلك الإمام منقطع النظير في تلك الديار ، بل كان من علماء الإسلام ذوي الشأن ... ومهما يكن فآراء القاسم مدونة في كتب الفروع الزيدية ، وهي جزء من هذه الحديقة الغنّاء.

وإن مذهب القاسم وتخريجاته واختياراته كان لها شأن باليمن (١).

وقال خير الدين الزركلي : فقيه ، شاعر ، من أئمة الزيدية ، له (٢٣) رسالة ـ خ. في الإمامة والرد على ابن المقفع ـ ط. مع ترجمة إلى الإيطالية ... ذكره المرزباني في الشعراء(٢).

وقال الباحث فؤاد سزكين : هو أبو محمد القاسم بن إبراهيم ... تولى قيادة أتباعه. أسس اتجاها زيديا ينسب إليه هو (القاسمية) وما يزال هذا الاتجاه موجودا إلى اليوم ... ثم عدّد كتبه وآثاره (٣).

وقال كارل بروكلمان : ترجمان الدين الإمام القاسم بن إبراهيم الحسني طباطبا الرسي ، المتوفي سنة ٢٤٦ ه‍ / ٨٦٠ م ، كان معنيا بالرد على الجبرية والمجسمة ، كما أسس مذهب القاسمية في الفقه. ثم عدد كتبه وأماكن وجودها في المكتبات والمتاحف العالمية (٤).

وقال عمر رضا كحالة : ففيه شاعر مشارك في أصناف العلوم (٥).

وكتب الدكتور نصر حامد أبو زيد الباحث المصري عن الإمام القاسم قائلا :

... وبذلك نقلوا الخلافات العقلية الاستدلالية إلى القرآن على أساس وجود المحكم والمتشابه فيه ...

وأدل محاولة تكشف عن هذا الربط بين الأصول العقلية للمعتزلة وبين قضية

__________________

(١) الإمام زيد حياته وعصره / ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

(٢) الأعلام ٥ / ١٧١.

(٣) تاريخ التراث العربي المجلد الأول الجزء الثالث ـ الفقه ، ترجمة د / محمود حجازي.

(٤) تاريخ الأدب العربي ٣ / ٣٢٥ ، ترجمة د / عبد الحليم النجار.

(٥) معجم المؤلفين ٨ / ٩١.

المحكم والمتشابه ، هي رسالة القاسم الرسي (ت ٢٤٦ ه‍) «كتاب أصول العدل والتوحيد» ... (١).

وقال السيد العلامة مجد الدين بن محمد المؤيدي :

وصفوة إبراهيم جلى محمد

ومن بعده الرسي نعم المبايع

الإمام أبو محمد القاسم ، نجم آل الرسول ، وإمام المعقول والمنقول (٢).

وقال سيف الدين الكاتب مجاز من جامعة الأزهر : القاسم بن إبراهيم فقيه شاعر ، مشارك في أصناف العلوم .. (٣).

وقال الدكتور محمد عمارة : متكلم ، وفقيه ، وشاعر ، ومن أئمة الزيدية الثوار (٤).

وقال الدكتور أحمد محمود صبحي : والقاسم الرسي ـ كسائر متكلمي الزيدية ـ تقترب آراؤه الكلامية من الفقه ، بأكثر مما تقترب من الفلاسفة ، وهذا ما يميز الزيدية بعامة عن المعتزلة ، ومن ثم لن تجد مصدرا يونانيا أو غير يوناني في آراء القاسم الرسي الكلامية ، وإنما هي إسلامية خالصة (٥).

وقال الأستاذ إمام حنفي عبد الله ـ أحد الباحثين المصريين ـ : القاسم ، بن إبراهيم ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن الحسن ، بن الحسن ، بن علي بن أبي طالب ، العلوي ، الشهير بالرسي ، متكلم ، وفقيه ، وشاعر ، وإمام ثائر من أئمة الزيدية .. (٦).

وقال الأستاذ عبد الفتاح شائف نعمان : أبو محمد القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا ، ... ويعتبر زعيم الطائفة الزيدية ، وجامع شتات المذهب الزيدي ، وقد نقلت آراؤه إلى اليمن بواسطة حفيده الإمام الهادي ، وقد خلف لنا الكثير من الآثار العلمية ،

__________________

(١) الاتجاه العقلي في التفسير / ١٦٤.

(٢) التحف شرح الزلف / ٤٨ ـ ٤٩.

(٣) مقدمة رسائل العدل والتوحيد (مطبوع سنة / ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٨٠ م).

(٤) مقدمة رسائل العدل والتوحيد / ٢١.

(٥) الزيدية للدكتور صبحي / ١٣٨.

(٦) مقدمة الرد على ابن المقفع / ٨٣. ومقدمة المسترشد / ٢٣.

في التفسير والفقه وعلم العقائد ، التي كانت وما تزل من أهم المراجع لدى الطائفة الزيدية(١).

مشايخ الإمام القاسم

الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، وموسى بن جعفر ، وغيرهم (٢).

* * *

__________________

(١) الإمام الهادي واليا وفقيها ومجاهدا / ٧٠.

(٢) الطبقات ٢ / ٢٠٨.

الكتاب

إثبات نسبة الكتب إلى الإمام القاسم

أولا : الأسانيد

كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم من أشهر الكتب في أوساط الزيدية ، سواء زيدية العراق أو زيدية الجيل والديلم ، أو زيدية اليمن ، فهي ليست بحاجة إلى توثيق ، ومع هذا فأنا أرويها بعشر طرق عن مشايخي بطريق الإجازة.

الأولى : عن السيد العلامة مفتي الجمهورية أحمد بن محمد زبارة ، عن العلامة علي بن أحمد السدمي (١٢٧١ ـ ١٣٦٤ ه‍) ، عن العلامة عبد الكريم عبد الله أبو طالب (١٢٢٤ ـ ١٣٠٩ ه‍) ، عن العلامة إسماعيل بن أحمد الكبسي (١١٥٠ ـ ١٢٣٣ ه‍) ، عن القاضي محمد بن أحمد مشحم المتوفي سنة (١١٨١ ه‍) ، عن السيد صارم الدين إبراهيم بن القاسم بن محمد بن القاسم المتوفي سنة (١١٥١ ه‍) ، عن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري (١٠٠٧ ـ ١٠٧٩ ه‍) ، عن الإمام القاسم بن محمد.

ويروي الإمام القاسم بن محمد ، عن أمير الدين بن عبد الله بن نهشل ، عن أحمد بن عبد الله الوزير ، عن الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين ، عن الإمام محمد بن علي السراجي ، عن الإمام عز الدين بن الحسن ، عن الإمام المطهر بن محمد الحمزي ، عن الإمام أحمد بن يحيى المرتضى ، عن أخيه السيد الهادي بن يحيى ، عن القاسم بن أحمد بن حميد الشهيد ، عن أبيه ، عن جده الشهيد حميد بن أحمد المحلي ، عن الإمام عبد الله بن حمزة ، عن العلامة الحسن بن محمد الرصاص ، عن القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام ، عن أحمد بن الحسن الكني.

ويروي الإمام المتوكل على الله شرف الدين عن السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير ، عن العلامة عبد الله بن يحيى أبي العطايا ، عن أبيه يحيى بن

المهدي ، عن العلامة المطهر بن محمد بن المطهر بن يحيى ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن أحمد بن أبي الرجال ، عن الإمام أحمد بن الحسين ، عن الشيخ العالم أحمد بن محمد الأكوع المعروف بشعلة ، عن الشيخ محي الدين بن محمد بن أحمد القرشي ، عن القاضي جعفر بن أحمد ، عن الشريف علي بن الحارث ، وأبي الهيثم يوسف بن أبي العشيرة ، عن الحسن بن أحمد الضهري إمام مسجد الهادي ، عن محمد بن أبي الفتوح ، عن الإمام المرتضى محمد بن يحيى ، عن أبيه الإمام الهادي يحيى بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن القاسم ، عن الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي.

ويروي أيضا القاضي جعفر بن أحمد ، عن القاضي أحمد بن أبي الحسن الكني ، عن أبي الفوارس توران شاه ، عن أبي علي بن آموج ، عن القاضي زيد محمد ، عن علي خليل ، عن القاضي يوسف الخطيب ، عن الإمام المؤيد بالله ، والإمام أبي طالب ، عن السيد أبي العباس الحسني ، عن السيد الإمام علي بن العباس الحسين ، عن الإمام الهادي ، عن أبيه ، عن جده.

ويروي الإمام المؤيد بالله ، وأبو طالب ، وأبو العباس الحسين ، عن السيد الإمام يحيى الهادي بن المرتضى محمد بن يحيى ، عن عمه الإمام الناصر أحمد بن يحيى ، عن الإمام الهادي ، عن أبيه ، عن جده.

الثانية : عن السيد العلامة مفتي اليمن أحمد بن محمد بن زبارة ، عن حسين بن علي العمري ، عن محمد بن محمد الضفري ، عن محمد بن علي الشوكاني ، عن عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر ، عن أحمد بن عبد الرحمن الشامي ، عن حسين بن أحمد زبارة ، عن أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، عن المؤيد بالله محمد بن القاسم ، عن الإمام القاسم بن محمد به.

الثالثة : عن السيد العلامة مجد الدين بن محمد المؤيدي علم الزيدية الأكبر ، عن أبيه محمد بن منصور المؤيدي ، عن الإمام محمد بن القاسم الحوثي ، عن الإمام محمد بن عبد الله الوزير ، عن أحمد بن يوسف زبارة ، عن الحسين بن يوسف زبارة ، عن يوسف بن الحسين زبارة ، عن الحسين بن أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، عن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، عن الإمام القاسم بن محمد به.

الرابعة : عن السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد ، عن الشيخ عبد الواسع الواسعي ، عن القاضي محمد بن عبد الله الغالبي ، عن أبيه عبد الله بن علي الغالبي ، عن محمد بن عبد الرب بن محمد ، عن عمه إسماعيل بن محمد بن زيد ، عن أبيه محمد بن زيد المتوكل ، عن أبيه زيد المتوكل ، عن أبيه المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، عن الإمام القاسم بن محمد به.

الخامسة : عن السيد حمود بن عباس المؤيد ، عن محمد بن علي الشرفي ، عن الإمام محمد ابن القاسم الحوثي ، عن الإمام محمد بن عبد الله الوزير ، عن أحمد بن يوسف زبارة ، عن الحسين بن يوسف زبارة ، عن يوسف بن الحسين زبارة ، عن الحسين بن أحمد زبارة ، عن أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، عن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، عن الإمام القاسم بن محمد.

السادسة : عن السيد العلامة محمد بن الحسن العجري ، عن السيد العلامة علي بن محمد العجري ، عن السيد العلامة عبد الله بن يحيى العجري ، عن الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي ، به.

السابعة : عن السيد العلامة محمد بن الحسن العجري ، عن الوالد العلامة علي بن محمد العجري ، والوالد العلامة الحسن بن عبد الله القاسمي ، عن العلامة يحيى بن صلاح ستين ، والعلامة عبد الله بن الحسن القاسمي ، عن القاضي محمد بن علي الغالبي ، عن أبيه ، به.

الثامنة : عن السيد العلامة بدر الدين بن أمير الدين الحوثي ، عن العلامة أحمد بن محمد القاسمي ، عن الإمام الحسن بن يحيى القاسمي ، عن العلامة عبد الله بن أحمد المؤيدي ، عن القاضي عبد الله بن علي الغالبي ، بإسناده المتقدم إلى الإمام القاسم بن محمد ، به.

التاسعة : عن السيد العلامة محمد بن محمد المنصور ، عن القاضي عبد الله بن عبد الكريم الجرافي ، عن حسين العمري ، عن أحمد بن محمد الكبسي ، عن القاضي عبد الله بن علي الغالبي به.

العاشرة : عن السيد العلامة محمد بن يحيى بن المطهر ، عن الشيخ عبد الواسع

الواسعي ، عن القاضي العلامة حسين بن محمس المغربي ، عن السيد العلامة عبد الكريم بن عبد الله أبي طالب ، عن العلامة أحمد بن عبد الله بن الإمام المعروف بصاحب دار سنان ، عن شيخه العلامة أحمد بن يوسف زبارة ، عن أخيه العلامة الحسين بن يوسف زبارة ، عن أبيه يوسف بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن أحمد زبارة ، عن شيخه العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، عن شيخه الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد ، وأخيه الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بن محمد ، به.

تداول الأفكار والمصطلحات في عصره

إن الأفكار والمصطلحات التي كان يطرحها الإمام القاسم ويستخدمها كانت متداولة في عصره ، ولقد كان المعتزلة يغشون مجالسه ، فهذا جعفر بن حرب يفد عليه ، ويسأله ويحاوره ، فيرجع مبهورا ، قائلا : أين كنا عن هذا الرجل؟! فو الله ما رأيت مثله (١).

وقال الإمام القاسم : ... وقد سأل عن هذا بعينه ، وما قلت به من تبيينه ، نصراني ، كان يغشاني ، من قبط أهل مصر يقال له : سلمون ، وكان ربما اجتمع عندي هو والمتكلمون ... فسأل يوما ـ وهو عندي ـ جماعة من الموحدين ، وفيهم (حفص الفرد البصري) وكان من المتكلمين ...

وكذلك فإن تلك المصطلحات كانت سائدة ومتداولة قبل عصره ، فهذا غيلان الدمشقي المعتزلي توفي بعد سنة / ١٠٥ ه‍.

وكذلك واصل بن عطاء رأس المعتزلة ، توفي سنة / ١٣١ ه‍.

وكذلك عمرو بن عبيد من رءوس المعتزلة ، توفي سنة / ١٤٤ ه‍.

وكذلك عثمان بن خالد الطويل ، مبعوث واصل بن عطاء إلى أرمينية.

وكذلك محمد بن الهذيل أبو الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة ، توفي سنة / ٢٣٥ ه‍.

وكذلك بشر بن المعتمر من مناظري المعتزلة ، توفي سنة / ٢١٠ ه‍.

__________________

(١) الإفادة / ١١٥.

وكذلك ثمامة بن الأشرس من كبار المعتزلة ، توفي سنة / ٢١٣ ه‍.

وكذلك عبد الرحمن بن كيسان الأصم ، من فقهاء المعتزلة ، توفي سنة / ٢٢٥ ه‍.

وكذلك جعفر بن مبشر ، من كبار المعتزلة ، توفي سنة / ٢٣٤ ه‍.

وكذلك عمرو بن بحر الجاحظ ، من رؤساء المعتزلة ومتكلميهم ، ولد سنة / ١٦٣ ه‍ ، وتوفي سنة / ٢٥٥ ه‍.

هؤلاء جماعة من أئمة المعتزلة ومتكلميها ، سبقوا عصر الإمام القاسم ، وكانوا بلا شك يتداولون تلك المصطلحات التي تداولها الإمام القاسم.

النقل من كتبه

معظم أئمة وعلماء الزيدية في عصره وما بعده إلى يومنا هذا يرجعون إلى كتبه ، وينقلون منها مقتطفات وفقرات ، انظر جميع كتب العقيدة لدى الزيدية.

كالإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم ، وانظر في ذلك جميع كتبه ، والإمام المرتضى محمد بن يحيى ، والناصر أحمد بن يحيى ، والإمام القاسم بن علي العياني ، والإمام أحمد بن سليمان ، والقاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام ، والإمام عبد الله بن حمزة ، والشهيد حميد المحلي ، والسيد حميدان ، والإمام يحيى بن حمزة ، والإمام القاسم بن محمد ، وغيرهم كثير كثير ، انظر كتبهم.

ذكر العلماء لكتب الإمام

قال الإمام أبو طالب : ومن أراد أن يعرف تقدمه في علم الكلام ، فلينظر في (كتاب الدليل) ، الذي ينصر فيه التوحيد ، ويحكي مذاهب الفلاسفة ، ويتكلم عليهم ، ويتكلم في التراكيب والهيئة.

وفي (كتاب الرد على ابن المقفع) ، ونقضه كلامه في الانتصار لما فيه من التثنية ، وفي الكتاب الذي حكى فيه (مناظرته للملحد بأرض مصر). وفي (كتاب الرد على المجبرة) ، وفي (كتاب تأويل العرش والكرسي) على المشبهة ، وفي (كتاب الناسخ والمنسوخ) ، وفي كلامه في (فصول الإمامة) والرد على مخالفي الزيدية ، وفي (كتاب

الرد على النصارى).

ومن أحب أن يعلم براعته في الفقه ، ودقة نظره في طرق الاجتهاد ، وحسن غوصه في انتزاع الفروع ، وترتيب الأخبار ، ومعرفته باختلاف العلماء ، فلينظر في أجوبته عن المسائل التي سئل عنها ، نحو : (مسائل جعفر بن محمد النيروسي ، وعبد الله بن الحسن الكلاري) التي رواها الناصر للحق الحسن بن علي رضي الله عنه ، وكان سمعها منهما ، وفي (كتاب الطهارة) ، وفي (كتاب صلاة اليوم والليلة) ، وفي (مسائل علي بن جهشيار) وهو جامع (الأجزاء المجموعة في تفسير قوارع القرآن) عنه عليه‌السلام.

وفي (كتاب الفرائض والسنن) الذي يرويه ابنه محمد عنه ، وليتأمل عقود المسائل التي عقدها فيه ، وفي (كتاب المناسك).

ومن أحب أن يعرف طريقته فيه ـ الزهد ـ فلينظر في (كتابه في سياسة النفس)(١).

وقال أيضا : وذكر القاسم عليه‌السلام في (الفرائض والسنن) (٢).

وقال أيضا : وقد ذكره القاسم في (كتاب الطهارة) (٣).

وقال أيضا : قال القاسم عليه‌السلام في (المسائل) (٤).

وقال أيضا : قال الإمام القاسم عليه‌السلام في (مسائل ابن جهشيار) (٥).

وقال أيضا : وقد قال عليه‌السلام في (مسائل النيروسي) (٦).

وقال أيضا : قال القاسم عليه‌السلام في (مسائل القومسي) (٧).

__________________

(١) الإفادة / ١١٤ ـ ١١٧.

(٢) التحرير ١ / ٨٦.

(٣) التحرير ١ / ٤٧.

(٤) التحرير ١ / ٧٠.

(٥) التحرير ١ / ١٠١.

(٦) التحرير ١ / ٥٧.

(٧) التحرير ١ / ١٢٠.

وقال أيضا : قال القاسم عليه‌السلام في (مسائل يحيى بن حسين العقيقي) (١).

وقال أيضا : قال القاسم عليه‌السلام في (مناسكه) (٢).

وذكر نحو هذا الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي (٣).

وذكر نحو هذا أيضا الشهيد حميد المحلي في الحدائق الوردية (٤).

وذكر نحو هذا أيضا السيد محمد بن الإمام عبد الله بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين في التحفة العنبرية (٥).

وذكر نحو هذا أيضا السيد الهادي بن إبراهيم الوزير في هداية الراغبين (٦).

وللإمام القاسم كتاب لم يشتهر ، ولكني على يقين من صحة نسبته إليه ، وهو كتاب (العالم والوافد).

وهذا الكتاب قد طبع سنة ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م باسم (مصباح الأنظار) ضمن كتاب أخلاقي حكمي يسمى (الحقائق في محاسن الأخلاق للفيض الكاشاني الإمامي المتوفي سنة ١٠٩١ ه‍).

تحقيق وتعليق السيد إبراهيم الميانجي. وهو ناقص نحو النصف وملئ بالأخطاء والتصحيفات. ولم ينسبه المحقق إلى الإمام ولا إلى غيره.

والدلائل على صحة نسبته إلى الإمام القاسم كثيرة منها :

١ ـ أسلوب الإمام ونفسه ولغته المتميزة في هذا الكتاب ، فلا يكاد القارئ يقرأ هذا الكتاب ، وقد عرف أسلوب الإمام في الكتاب إلا ويجزم بأنه من تأليفه.

٢ ـ جل من ترجم للإمام يصفه بالعالم حتى صار لقبا له.

__________________

(١) التحرير ١ / ٢٢٥.

(٢) التحرير ١ / ١٩٧.

(٣) الشافي ١ / ٢٦٢.

(٤) الحدائق الوردية ٢ / ٢.

(٥) التحفة العنبرية / ٨١.

(٦) هداية الراغبين / ٤٣١.

قال الإمام الحسين بن القاسم العياني عن الإمام القاسم : قال إبراهيم بن إسماعيل أبو القاسم العالم عليه‌السلام :

قد موتت قلبي الهموم وطولت

ليلي مهانا في الصفاد وثاقا

وقال : قال العالم صلوات الله عليه (١). ولا يذكره إلا ويقول : قال العالم.

وقال الإمام عبد الله بن حمزة في ترجمته : القاسم العالم (٢).

وكذلك قال في صفوة الاختيار في مسئلة إذا ورد الأمر مطلقا ، للإمام عبد الله بن حمزة (مخطوط). ووصفه كاتب الكامل المنير بالإمام العالم.

وقال صارم الدين الوزير : القاسم بن إبراهيم عالم آل محمد (٣).

وكذلك وصفه الشر في في المصابيح (٤).

قال السيد يحيى بن المهدي بن القاسم : والصحيح أن الوافد محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وأبوه العالم القاسم المجيب على ولده ، نعم والله الوالد والولد ، هاجر إلى جبال الرس ، وتفرغ لعبادة الله ونشر العلوم ... (٥).

وقال السيد العلامة مجد الدين المؤيدي : قلت : المشهور أن الوافد قاموس آل محمد ، محمد بن القاسم ، والعالم والده نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم ، وهو كتاب من جوامع العلم ، وسواطع الحكم كله سؤال من الوافد وجواب من العالم ، وقصدهما صلوات الله عليهما إلقاء الحكمة (٦).

وينسب إليه كتاب الكامل المنير في الرد على الخوارج ، ولدي منه ثلاث نسخ مختلفة ، إلا أن نسختين منهما مكتوب عليهما أن المؤلف إبراهيم بن خيران ، وأكد

__________________

(١) تفسير الغريب في تفسيره سورة (محمد).

(٢) الشافي ١ / ٢٦٢.

(٣) الفلك الدوار / ٦٠.

(٤) المصابيح ١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ـ ٢٧٠.

(٥) الوسائل العظمى / ٢٧١ (مخطوط).

(٦) لوامع الأنوار ٢ / ١٨٩ ـ ١٩٠.

ذلك الإمام الحسن بن بدر الدين في أنوار اليقين ، والإمام عبد الله بن حمزة في فتاويه.

أما الإمام القاسم بن محمد فإنه أكد أنه من تأليف الإمام القاسم بن إبراهيم ، وضح ذلك تلميذه الذي قرأه عليه الحسين بن علي بن صلاح القاسمي ، وهذا موجود على نسخة مكتوب عليه أن المؤلف الإمام القاسم بن إبراهيم وكلام الحسين بن علي القاسمي مزبور عليها بخط يده. والكتاب كله بخط يده.

وقال ابن أبي الرجال في ترجمته : وهو [الذي] ينسب إليه بعض العلماء الكامل المنير ، وبعضهم ينسبه إلى نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم ، وناهيك بهذا الشيخ الذي التبس ما صنفه بما صنفه هذا الإمام الجليل رحمهم‌الله جميعا ، ومن اطلع على هذا الكتاب علم محل الفقيه المذكور من العلم (١).

وأيضا فإن أسلوب ولغة الكامل المنير يختلف تماما عن أسلوب الإمام القاسم ، ولا يلمس هذا إلا من خبر أسلوب القاسم ، وأنا بحمد الله قرأت كتبه وحققتها حرفا حرفا ، حتى طبع أسلوب الإمام في فكري ، بحيث أنني أستطيع أن أميز كلام الإمام من غيره بأدنى تأمل ، لكثرة ما دققت في كتبه وتأملتها.

والإمام يعتمد أساسا العقل ثم القرآن الكريم في مناظرته ومحاججته ، والكامل المنير يعتمد السنة والأخبار ، ويذكر رجال الأسانيد كثيرا ، وهذا غير معهود في كتب الإمام القاسم.

ولهذا فأكاد أجزم بأن الكامل المنير ليس من تأليفه ، والله أعلم.

المسائل المنثورة

جمعت فيه كل ما وجدت من أسئلة وجّهت للإمام القاسم ، وجواباته على تلك الأسئلة ، ولهذا سميتها المسائل المنثورة ، لتناثرها ، ولاختلاف مواضيعها.

* * *

__________________

(١) مطلع البدور ١ / ٥٥ (مخطوط).

الكتب والرسائل الموجودة والمفقودة

الموجود منها :

١ ـ الدليل الكبير (في الرد على الفلاسفة الملحدين).

٢ ـ الدليل الصغير (في الرد على الفلاسفة الملحدين).

٣ ـ مناظر الملحد (في الرد على الملاحدة).

٤ ـ الرد على ابن المقفع (في الرد على الثنوية).

٥ ـ الرد على النصارى.

٦ ـ المسترشد (في الرد على المشبهة).

٧ ـ الرد على المجبرة.

٨ ـ الرد على الرافضة.

٩ ـ الرد على غلاة الروافض.

١٠ ـ العدل والتوحيد.

١١ ـ أصول العدل والتوحيد.

١٢ ـ مسألة الطبريين (في التوحيد والعدل).

١٣ ـ فصول في التوحيد.

١٤ ـ تفسير العرش والكرسي (في التوحيد).

١٥ ـ مديح القرآن الكبير.

١٦ ـ مديح القرآن الصغير.

١٧ ـ تفسير سور القرآن.

١٨ ـ الناسخ والمنسوخ.

١٩ ـ تثبيت الإمامة.

٢٠ ـ الإمامة.

٢١ ـ الإمامة.

٢٢ ـ القتل والقتال.

٢٣ ـ الهجرة للظالمين.

٢٤ ـ المكنون (في الحكم والآداب والأخلاق).

٢٥ ـ سياسة النفس (عظة وعلم نفس).

٢٦ ـ العالم والوافد (عرفان).

٢٧ ـ مواعظ.

٢٨ ـ مفاهيم إسلامية.

٢٩ ـ الطهارة.

٣٠ ـ صلاة اليوم والليلة.

٣١ ـ المسائل المنثورة.

المفقود :

١ ـ الفرائض والسنن.

٢ ـ مسائل ابن جهشيار.

٣ ـ مسائل النيروسي.

٤ ـ مسائل القومسي.

٥ ـ مسائل يحيى بن الحسين العقيقي.

٦ ـ مسائل عبد الله بن الحسن الكلاري.

٧ ـ مناسك الحج.

وله فقه كثير ، يوجد منه شيء كثير في كتاب حفيده الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الأحكام ، وأمالي أحمد بن عيسى لمحمد بن منصور المرادي ، والجامع الكافي لأبي عبد الله العلوي ، وشرح التجريد للمؤيد بالله في أدلة فتاوى القاسم والهادي ، والتحرير

لأبي طالب الهاروني. ولدي مشروع لجمع فقه الإمام القاسم في كتاب مفرد ، أسأل الله العون والتيسير.

وقد تناول كثير من العلماء والباحثين من الإسلاميين والمستشرقين كتب وحياة الإمام القاسم بالدراسة والتحقيق والترجمة.

فممن تناول فكره بالدراسة والترجمة المستشرق الإيطالي (ميكل أنجلو جويدي) ، والذي حقق كتاب (الرد على ابن المقفع) لأول مرة في بداية القرن ، ثم أعاد طبعه عام ١٩٢٧ م. وترجمه إلى الإيطالية. وقد أشار إلى ما ذكرت الباحث السورى الكبير خير الدين الزركلي في موسوعته (الأعلام) عند ترجمته للإمام القاسم.

ومنهم المستشرق الألماني الشهير (Madelung Wilterd) (ويلفرد ماديلونغ) ، فقد كتب عنه وعن المعتزلة كتابا حافلا باللغة الألمانية ، أخبرني بذلك صديقي الباحث الأمريكي (موريس بومرانتس) وهو أحد تلامذته ، وهو يعد دراسة عن اللقاء بين الزيدية والمعتزلة في القرن الثالث والرابع ، لنيل درجة الدكتوراة بجامعة أمريكية في مدينة شيكاغو.

وقد تكرم بترجمة عناوين الكتاب الآنف الذكر المسمى (القاسم بن إبراهيم والمذهب الزيدي).

وهذا المستشرق الألماني له اهتمام كبير بفكر الزيدية وتاريخهم ، وقد جمع كتابا تحت عنوان (أخبار أئمة الزيدية في طبرستان وديلمان وجيلان) ترجم إلى العربية وطبع عام ١٩٨٧ م.

وهذا مستشرق ألماني آخر اسمه (BINAMIN ABRAHAMOV) (بنيامين إبراهاموف) حقق كتاب (الدليل الكبير) وكتاب (الرد على النصارى) وترجمها إلى الانجليزية وطبعا بالعربية والانجليزية ، ولدي منهما نسخة أهداها لي صديقي السيد حسن أنصاري ، باحث إيراني متخصص في البحث عن الزيدية ، يعمل في دائرة المعارف الإسلامية بطهران.

وللمستشرق الألماني (إبراهاموف) كتاب حافل عن الإمام القاسم ، ما زال باللغة الألمانية ، أرجو أن تتيسر ترجمته إلى العربية ، قال فيه عن الإمام القاسم : إنه أفلاطون

المسلمين ، كأفلاطون في اليونان.

وحقق الباحث المصري سيف الدين الكاتب بعض رسائله ضمن مجموعة رسائل تحت عنوان (رسائل العدل والتوحيد).

كما حقق الباحث الكبير الدكتور محمد عمارة مجموعة من رسائله تحت عنوان (رسائل العدل والتوحيد).

وحقق له أخيرا الباحث إمام حنفي عبد الله عدة كتب منها : الدليل الكبير ، والرد على ابن المقفع ، والرد على الرافضة ... وقد أفدت من مقدماتها في جزء من دراستي عن الإمام القاسم.

وحقق أيضا الأستاذ / صالح الورداني كتاب (تثبيت الإمامة).

وإن كانت كل الكتب المحققة والمطبوعة مليئة بالأخطاء والأوهام والسقط على تفاوت بين المحققين ، بيد أنها جهود مشكورة للتعريف بالإمام القاسم وفكره.

* * *

أسلوب التأليف

كيفية إيصال الفكرة :

إن الإمام القاسم يعد مدرسة متميزة في طرق الإقناع ، والسيطرة على العقول والقلوب ، بما منحه الله تعالى من علم وفهم وأناءة وخلق وسعة صدر.

له أسلوب فريد في الحوار والمناظرة ، لا يملك معه الخصم إلا التسليم عن قناعة وطيب خاطر ، لا يظهر عليه أي علامات الانتصار والفلج ، مما قد يضطر خصمه للعناد والمكابرة ، بل يتلطف ويتواضع ، منطلقا في ذلك من قيم الدين ، والشعور بالمسئولية في هداية الخلق ، ولأنه ينتسب إلى بيت الرحمة والخلق الكريم. فجده علي بن أبي طالب منتهى الكمال البشري في العلم والخلق والدين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومناظرته للملحد خير دليل على ذلك ، فإنه اتخذ في محاورته أسلوبا اضطر الملحد للتسليم والدخول في الإسلام.

قال الإمام للملحد واضعا الأسس للحوار : سل عما بدا لك ، وأحسن الاستماع ، وعليك بالنصفة ، وإياك والظلم ، ومكابرة العيان ، ودفع الضرورات والمعقولات.

وهذا أحد النصارى المناظرين من أقباط مصر ، يلقي شبهاته على علماء الإسلام في مصر ، ويثير البلبلة الفكرية في أوساطهم ، ولا يجد عندهم ما يغني ، حتى يلتقي بالإمام فيزيل شبهته ويرجع مبهورا مقتنعا.

وانظر كذلك في كتابه (تثبيت الإمامة) وكتاب الإمامة تجد ما يدهش. بل إن أسلوب الإمام في جميع كتبه منهج لا يختلف.

* * *

فكرة التأليف

لم يكن التأليف عند الإمام ترفا فكريا ، أو افتراض شبه فكرية لا وجود لها ، ومن ثمّ يتطوع لتفنيدها والرد عليها ، بل كانت فكرة التأليف لديه تنطلق من موضع الحاجة ، وبأدنى تأمل في كتبه يتضح صدق ما ندعي ، فجميع كتبه ورسائله تجيب على كثير من التساؤلات المثارة في الساحة الإسلامية آنذاك.

أهمية الكتب والرسائل

تأتي أهمية الكتب والرسائل من نواح عدة :

الأولى : نقاء الفكرة!

وأعني بهذا أنه لم يتأثر بالفلسفة اليونانية ، ولا بالفكر الاعتزالي المعتمد على العقل التجريدي ، ولم يعرج على تلك الأفكار والمصطلحات المعقدة التي تشوش ذهن المسلم وتبلبله ، ولم يدنس أفكاره بالنظرة الوثنية إلى الإله ، التي تشبهه بخلقه وتماثل بينه وبينه في الصفات ، كالوجه والعين واليد والرجل ... إلخ المفاهيم الوثنية ، وتنزه عن خرافات الجبرية القدرية ، ومقالات المرجئة ، وطلاسم وهرطقات الباطنية ، وترهات ومغالات الرافضة ، وإسفاف الصوفية ، وسذاجة وتخرصات الخوارج ، بل اتخذ الوسطية من بين كل هذا الركام الهائل من الافراط والتفريط والتناقض والسطحية في التفكير ، وعمد في الاحتجاج إلى العقل ثم القرآن ثم السنة.

قال الإمام الهادي حفيد الإمام القاسم مبينا عقيدته ووجهته وتميزها عن مقالة الفرق عامة ، والتي تمثل عقيدة ووجهة جده : لست بزنديق ولا دهري ، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي ، ولا مجبر قدريّ ، ولا حشوي ، ولا خارجي ، وإلى الله أبرأ من كل رافضي غوي ، ومن كل حروري ناصبي ، ومن كل معتزلي غال ، ومن جميع الفرق الشاذة ، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية ، ولا بد من فرقة ناجية عالية ، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة. والحمد لله.

وأنا متمسك بأهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومهبط الوحي ، ومعدن العلم ،

وأهل الذكر ، الذين بهم وحّد الرحمن ، وفي بيتهم نزل القرآن ، ولديهم التأويل والبيان ، وبمفاتيح منطقهم نطق كل لسان. وبذلك حث عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله : (إني تارك فيكم الثقلين ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، مثلهم فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى).

فقد أصبحوا عندي بحمد الله مفاتيح الهدى ، ومصابيح الدجا ، لو طلبنا شرق الأرض وغربها لم نجد في الشرق مثلهم ، فأنا أقفو آثارهم ، وأتمثل مثالهم ، وأقول بقولهم ، وأدين بدينهم ، وأحتذي بفعلهم (١).

الثانية : تناول مواضيع ساخنة :

كما أسلفنا لم يكن التأليف عند الإمامة حالة ترف فكري ، وتأليف من أجل التأليف ، أو أنه كان يتناول مواضيع مألوفة وأفكارا مكرورة ، بل إن المواضيع التي طرحها والأفكار التي نقدها وفندها ، كانت مواضيع ساخنة وتساؤلات مشروعة ، ورؤي معروضة بشكل مستفز ، وكانت أكثر المواضيع حساسية في ذلك العصر ، ولا زالت إلى عصرنا هذا.

الثالثة : أصالة الحجة :

لم يعتمد الإمام القاسم في استدلالاته على حجج غير ناهضة بالمقصود ، ولا على حجج دخيلة على الفكر الإسلامي ، وإنما اعتمد الحجج الأصيلة من صريح المعقول وصحيح المنقول.

* * *

__________________

(١) الجواب لأهل صنعاء ، المجموعة الفاخرة / ١٤٤ ـ ١٤٥.

التحقيق

كيف كانت البداية

قبل أكثر من (١٤) سنة يعني سنة ١٤٠٥ ه‍ تقريبا كانت بداية معرفتي بفكر الإمام القاسم ، حين أخذت في دراسة مجموع كتبه ورسائله على يدي شيخنا العلامة يحيى بن حسين الحشحوش ، فأخذت كتب الإمام القاسم بمجامع قلبي لدقة أنظاره ، وجزالة لفظه ، وبراعة استدلاله ، وبلاغة لغته ، بيد أنه كانت تواجهنا مشكلة التصحيف والسقط في المخطوطة الوحيدة التي لم أجد غيرها في صعدة كلها رغم بحثي المستمر عنها ، وضل يراودني الأمل في الوقوف على نسخة أخرى ، حتى يسّر الله ـ وله الفضل والمنة ـ الحصول على أكثر من مخطوطة من صنعاء وحجة سنة ١٤١٢ ه‍ ، وكانت ـ بحمد الله ـ أدق وأصح وأوسع من المخطوطة التي بجوزتي. وكثيرا ما كنت أسمع كل من يتحدث عن الإمام القاسم وكتبه من الآباء العلماء وغيرهم ، يتحدثون عن تعقيد لغة الإمام ووعورة تراكبيه ، واستعصائها على الفهم ، وبعد تصحيح الكتاب وضبطه والتأمل الدقيق فيه تبين خطأ ما كان يظن فيه من التعقيد والاستعصاء على الفهم ، ومرد ذلك إلى الأخطاء والتصحيفات الكثيرة ، وسيلمس القارئ الكريم صحة ما أقول.

مراحل الإعداد :

لقد كانت أولى مراحل الإعداد تجميع المخطوطات ، ولقد أخذ مني ذلك كل مأخذ، فثاني نسخة حصلت عليها كانت من مكتبة السيد محمد بن زيد ، وهي موروثة من جدهم السيد العلامة محمد بن الحسن بن القاسم بن محمد ، والثانية من مكتبة الجامع الكبير بصنعاء ، ولم أتمكن من الحصول عليها إلا بعد وساطات عالية المستوى ، كالسيد العلامة محمد بن محمد المنصور حفظه الله كبير علماء صنعاء ووزير أوقاف سابق وناظر الوصايا اليمنية ، والسيد العلامة عبد الله بن يحيى الصعدي رحمه‌الله

وزير أشغال سابق ، والسيد العلامة يحيى الوشلي رحمه‌الله.

مراحل التحقيق

أول عمل قمت به أن نسخت المخطوط ثم قابلت المخطوطتين ثم دفعته إلى الكمبيوتر وظل أكثر من سنتين حتى تناثر وضاع أكثر ما نسخته ، فداخلني الملل والكلل ، ثم حصلت على نسختين أخريين فقوي العزم على معاودة تحقيقه من جديد ، وأعدت المقابلة وضبط النص ، ودفعته إلى الكمبيوتر ثانية إلى أن أنجزنا منه الكثير ، ثم حصل عطل في الكمبيوتر فأرجأنا العمل مرة أخرى ، وهكذا كلما تقدمت خطوة في العمل تأخرت أخرى ، ثم صممت على إنجازه مهما اعترضتني من عقبات ، وعملت حتى شارفت على التمام فأصاب الكمبيوتر فيروس فأفسد كثيرا من عملي ومسح كتبا عدة لم تكن حفظت ، وواصلت العمل حتى وفق الله وأعان على إتمامه. ولقد تجرعت الغصص حتى انتهيت من العمل فيه ، وقضيت السنوات ذوات العدد ـ أكثر من سبع سنوات ـ بل وحققت وطبعت أثناء العمل فيه أكثر من كتاب.

منهج التحقيق

تصحيح النص

يبدو لي أن أهم عمل ينبغي أن يوليه المحقق الاهتمام الكبير هو تصحيح النص وتقويمه ، حتى يكون أقرب ما يكون من نص المؤلف كما كتبه ، خاصة كتب القرون الأولى.

ولقد واجهت في تصحيح نص كتب الإمام عقبات وعقبات ، لغرابة ألفاظها ولخلوها من الإعجام ، فغالب الخطوط القديمة تأتي مهملة. وأذكر أني وقفت على كلمة (نحيرة) مهملة ، فافترضتها (تحبرة ، أو تخبرة ، أو تجبرة ، أو بحيرة ، أو بخيرة ، أو بجيرة ، أو تجيرة ، أو نحيزة) وقلبتها على وجوه عدة فلم أهتد لمعناها ، أو أقف في معاجم اللغة على معنى أطمئن إليه أنه المقصود للإمام ، وهكذا تركتها سنة تقريبا ، وبينما أنا

أتصفح كتابا لغويا إذ مرت بي كلمة (نحيرة) فتأملتها باهتمام كبير ثم عمدت إلى معجم (لسان العرب) فبحثت عنها ، وإذا به يفسرها بأنها تعني الطبيعة ، فعدت إلى أوراقي وملفاتي القديمة الخاصة بمجموع الإمام القاسم فتأملتها وتأملت السياق الواردة فيه ، فإذا هي هي فكدت أطير فرحا لوقوفي عليها وحمدت الله على ذلك.

ولقد بذلت جهدا مضنيا لتصحيح النص وتقويمه ، ولكثرة تأملي في كتب الإمام ، وتحقيقها حرفا حرفا ، فقد تشرّبت أسلوب الإمام وخبرت طريقته ، حتى كنت إذا قرأت نصا من كلامه وفيه تصحيف أو خطأ ينكشف لي ذلك قبل أي تأمل ، وقبل الرجوع إلى المخطوطات للتأكد والمقابلة. وكثيرا ما كنت أجتهد رأيي في تصحيح النص وتقويمه ، وإن خالفت جميع المخطوطات ، بيد أني أثبت ما ارتئيت في الأصل ، وأثبت ما في المخطوطات في الهامش ، فلعل قارئا متأملا يتبين له خطأ ما أثبت فلا أحرمه فرصة الوقوف على ما في المخطوطات ، وتلك أمانة علمية ينبغي أداؤها.

ضبط النص

لأن الكتاب يتناول أهم مواضيع العقيدة وأكثرها سخونة ، ولأنه من أقدم ما ألف في هذا الصدد ، ولأن كثيرا من كتبه ورسائله كتب في نهاية القرن الثاني ، ولأنه كتب بطريقة فريدة ـ النثر المشعور أو الشعر المنثور ـ وبتراكيب لغوية متينة ، ومفردات جزلة غريبة ، كان لا بد من ضبط النص ، لتسهل قراءته وتتضح معانيه.

توزيع النص

قطعت النص إلى فقرات ، والفقرة إلى جمل ، مستخدما علامات الترقيم المتعارف عليها. ولأن الكتاب شعر منثور أو نثر مشعور فكنت قد أزمعت على الفصل بين كل سجعة وأخرى بنجمة مميزة ، ثم أضربت عنها واستخدمت الفصلة. ولذلك فالفصلات ليست عشوائية ، وإنما وضعتها حسبما أراد الإمام أن يقرأ كتابه.

ترتيب الكتب

مجموعة كتب ورسائل وجوابات الإمام القاسم مختلفة ومتعددة فهي أكثر من (٣٠) كتابا ورسالة ، في مختلف المعارف الإسلامية ، لذلك فإنها لم تأت مرتبة ، بل إن بعض الكتب لا يوجد منه إلا نسخة أو نسختان ، والبعض الآخر ربما وجد منه أكثر من سبع نسخ.

لذلك عمدت إلى ترتيبه ترتيبا مبتكرا ، فبدأت بالكتب التي ناقش فيها الإمام الطوائف غير الدينية ، كالفلاسفة ، والملاحدة ، والزنادقة ، ثم الديانات السماوية (النصارى)، ثم الفرق الإسلامية ، المشبهة المجسمة ، والقدرية المجبرة ، والرافضة ، وغلاة الروافض.

ثم رتبت الباقي حسب ترتيب الأصول الخمسة لدى الزيدية : فبدأت بالتوحيد ، ثم العدل ، ثم النبوة ، وما يتبعها من القرآن والإمامة ، ثم الجهاد ومهاجرة الظالمين ، ثم الحكم والآداب والزهد والعظات ، ثم الطهارة والصلاة ، ثم المسائل العامة.

التعليقات

الآيات

خرجت جميع الآيات المذكورة في الكتاب.

الحديث

خرجت جميع الأحاديث المذكورة في الكتاب من كتب الحديث عند الزيدية ، والجعفرية ، والسنة ، والأباضية.

الغريب

شرحت الغريب من الألفاظ ، والتراكيب ، معتمدا على معاجم اللغة وكتب العقائد.

تعليقات

علقت على كل ما يحتاج إلى تعليق ، بالتوضيح أو الاستشهاد بما يؤكد مراد المؤلف.

مقدمة

وضعت مقدمة للتعريف بالمؤلف ، ودراسة موثقة للكتاب.

الفهارس

وضعت فهرسا للكتب والمواضيع ، وفهرسا للأحاديث ، وفهرسا للأعلام ، ولم أضع فهرسا للآيات لكثرتها.

المخطوطات المعتمدة

اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على خمس نسخ منه :

الأولى : نسخة خطية بخط واضح حسن ، أغلبها مهملة من الإعجام. كتب في آخرها : تم الكتاب وربنا المحمود وله الكبرياء والجود ، وصلى الله على رسوله ، سيدنا محمد وأهله ، وسلم تسليما ، في سادس شهر جمادى الأولى من سنة خمس وستين وألف.

بخط الفقير إلى مولاه : سليمان بن محمد بن عبد الله المهلا ، عفا الله عنه ، وغفر ذنوبه ، وستر عيوبه ، آمين.

وكتب على غلافه : مما استكتبه لنفسه مولانا الأكرم ، العلم العلامة الأعظم ، عز الإسلام والمسلمين ، وسيد أولاد الأنزع البطين ، محمد بن الحسن بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.

كتب في شهر رجب الأصب من سنة خمس وستين وألف سنة. وصلى الله على سيدنا محمد الأمين ، وعلى آله الطيبين وسلم.

وهي تقع في (٤٧٤) صفحة ، في كل صفحة (٢٥) سطرا ، في كل سطر (١٢)

كلمة. وقد رمزت لها ب (أ).

وقد حصلت عليها من مكتبة محمد محمد بن زيد من أحفاد محمد بن الحسن بن القاسم بن محمد.

الثانية : نسخة مصورة بخط واضح غير أنها مليئة بالأخطاء والتصحيفات والسقط ، وإهمال الإعجام ، كتب في آخرها : كان الفراغ من هذه النسخة ثاني شهر رجب الخير ، سنة أربعة وستين وألف سنة. والحمد لله على كل حال من الأحوال.

وهي النسخة الوحيدة الموجودة في صعدة.

وهي تقع في (٥٢٦) صفحة ، في كل صفحة (٢٠) سطرا ، في كل سطر (١١) كلمة ، وقد رمزت لها ب (ب).

الثالثة : نسخة مصورة بخط قديم واضح يغلب عليها الصحة ، ويغلب عليها أيضا إهمال الإعجام. لم يبين تاريخ كتابتها ولا اسم كاتبها ، إلا أنه واضح عليها أنها من خطوط القرن السادس أو السابع.

وهي تقع في (٣٢٨) صفحة ، في كل صفحة (٢٦) سطرا ، في كل سطر (١٩) كلمة. وقد رمزت لها ب (ج).

وحصلت عليها من مكتبة الجامع الكبير بصنعاء.

الرابعة : نسخة خطية بخط واضح ، غير أنها شبيهة بنسخة (ب) بل غالبا ما تتفقان. ويبدو أنها من القرن العاشر الهجري ، لم أعد أذكر التفاصيل عنها ، لأن صاحبها أخذها قبل أن أسجل المعلومات عنها. ورمزت لها ب (د).

حصلت عليها من مكتبة السيد العلامة محمد بن قاسم الشرفي. من المحابشة / حجة.

الخامسة : نسخة مصورة بخط واضح غير أنها قليلة الكتب كثيرة السقط. رمزت لها ب (ه).

إضافة إلى كتب ورسائل عدة بعضها لا يوجد منها إلا نسخة واحدة مفردة عن المجاميع السالفة الذكر.

مثل كتاب العالم والوافد فلدي منه ثلاث نسخ ، وكتاب الناسخ والمنسوخ لدي

منه نسختان ضمن نسخة (أ) و (ج). وكتاب صلاة يوم وليلة لدي منه نسختان نسخة ضمن نسخة (أ) ، والأخرى مفردة. وكتاب المسائل المنثورة يوجد لدي منه نسخة واحدة ضمن مجموع تفسير الأئمة ، بخط قديم مكتوب عليه : كتبه إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل بن الهادي إلى الحق عليهم‌السلام ، وكان ذلك بصنعاء اليمن ، برجب من سنة ست وستين وثماني مائة.

ورسائل أخرى موجودة لدي.

* * *

كلمة أخيرة :

لا يسعني إلا أن أرفع أيادي الحمد والشكر والاعتراف بالفضل لله سبحانه على توفيقه لإخراج هذه المجموعة الذهبية من تراث الزيدية المطمور.

ولا أدعي أنني قد جئت بما لم تستطعه الأوائل ، ولكن حسبي أني قد بذلت وسعي ، واستفرغت جهدي وطاقتي ، فإن أوفق فذلك من فضل الله علي ، وإن يكن غير ذلك فكما قال الأول :

ولكن عذري واضح وهو أنني

من الخلق أخطي تارة وأصيب

والحمد لله رب العالمين.

داعيا أبناء الزيدية إلى العمل الجاد لإخراج هذه الكنوز لترى النور ، ففيها الخلاص والانعتاق من القيود الفكرية التي كبلت العقول. والعالم الحر ينتظرها بفارغ الصبر ، ويتلقاها بالحفاوة والتقدير.

والله أسأل أن يغفر لي ولسائر المؤمنين ، وصلى الله وسلم على محمد وآله الطاهرين.

عبد الكريم أحمد جدبان

اليمن ـ صعدة ذي الحجة / ١٤٢١ ه‍

الموافق ١٤ / ٢ / ٢٠٠١ م

* * *

مجموع الإمام القاسم عليه‌السلام

الدليل الكبير

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله وبه نستعين ، وصلواته على خير خلقه أجمعين ، سيدنا محمد (١) وأهل بيته الطاهرين ، وسلم تسليما.

قال الحسين بن القاسم بن إبراهيم : سألت أبي يوما رحمة الله عليه ، عن ما يقال للزنادقة والملحدين ، فيما يسألون عنه من الدليل على الله رب العالمين ، تقدست أسماؤه ، وجل ثناؤه؟!

فقال : سألت يا بنيّ عن أكرم مسائل السائلين ، وعن ما بجهله هلك أكثر قدماء الأولين ، فتخبط فيه منهم ـ عماية ـ من تخبط ، وأفرط بجهله فيه منهم من أفرط ، بغير ما حجة ولا برهان لمنكرهم في إنكاره ، ولا عدم دليل مبين فيما هلك به من احتياره (٢) ، إلا ما اتبعوا من مضل أهواء الأنفس ، وضلوا به لتقليد أسلافهم من غواة الجن والإنس.

وحجج الله عليهم تبارك وتعالى في العلم به قائمة ظاهرة ، وشواهد معرفته سبحانه لكل من خالفها بإنكار أو احتيار (٣) غالبة قاهرة. فالحمد لله ذي الغلبة والسلطان القاهر ، ولمعرفته والعلم به الحجة والبرهان الزاهر.

__________________

(١) في (أ) سيدنا النبي وأهل.

(٢) احتياره : من الحيرة.

(٣) في (ب) : احتيار.

[دليل الحكمة والإتقان] (١)

فدليل العلم بالله يا بني وأعصم (٢) أسبابه ، وأقرب ما جعل للعلم به من مداخل أبوابه ، ما أظهر في الأشياء سبحانه من آثار الحكمة المتقنة ، التي لا تكون إلا من مؤثر متقن ، وأبان في الأشياء من شواهد التدبير الحسنة المحكمة ، التي لا تكون إلا من حكيم محسن ، كما قال سبحانه : (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩) [السجدة : ٦ ـ ٩]. فكل ما ذكره سبحانه

__________________

(١) دليل الخلق والإبداع والإتقان ، أو التأمل في آثار الصنعة والخلق ، هو دليل قرآني ، أصّل له المتكلمون المسلمون في أصول الدين ، وصار أصلا من أصول النظر والاستدلال في إثبات الخالق ووحدانيته ، وفي الرد على المنكرين للإلهية من الفلاسفة القدماء ، والذين يطلق عليهم بالفلاسفة الدهريين والفلاسفة الطبيعيين ، وقد استفاد المتكلمون من الإمام القاسم الرسي في الاستدلال على الخالق ، لسبقه لهم في هذا الطريق ، وجاء من بعده الجاحظ المتوفي سنة (٢٥٥ ه‍) والذي عاصره فكتب رسالة في (الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير)) وهي رسالة طبعت أكثر من مرة وحققت ، وكذلك الأشعري المتوفي سنة (٣٢٤ ه‍) في كتابه ((اللمع)) عند ما استدل بدليل النطفة / ١١ ـ ١٩ ، وأبو بكر الباقلاني المتوفي سنة (٤٠٣ ه‍) في كتابه ((التمهيد)) وهو كتاب في الرد على فرق الملحدين وغيرهم ، حيث استخدم دليل الخلق والإبداع في الاحتجاج على أهل الطباع ، وكذلك الحافظ أبو بكر البيهقي المتوفي سنة (٤٥٨ ه‍) في كتابه ((الاعتقاد)). عند ما استدل بالأدلة القرآنية في خلق السماوات والأرض وما فيهما من الدلائل على وجود الخالق ووحدانيه / ٣٠ ـ ٤٣ ، وجاء الغزالي المتوفي سنة (٥٠٥ ه‍) ليكتب في هذا المجال بإفاضة ، ويؤلف فيه رسالة على نسق ما كتب الإمام القاسم والجاحظ من قبل ويسميها ((الحكمة في مخلوقات الله)) وهي رسالة مطبوعة ومحققة ضمن مجموعة. والقصد مما سبق أن هذا الدليل إسلامي أصيل ، ونجح المسلمون في استخدامه بطريقة بارعة ، ويرجع الفضل للأوائل منهم في هذا الطريق وعلى رأسهم صاحب هذه الرسالة الذي وظفه في الرد على الزنادقة والملحدين والمعاندين.

(٢) في (أ) : وعصم. وفي (د) : وعظم. والعصم والعصام من الدلو والقربة : حبل يشد به ، ومن الوعاء : عروة يعلق بها ، جمعه : أعصمة وعصم ، واعتصم به امتنع ، والعصمة مأخوذة من هذا ، والمراد به هنا القوة والمنع. والسبب في اللغة : الحبل ، وأسباب السماء : مراقيها أو أبوابها.

فجعائل لا بد لها من جاعل ، وفعائل لا تقوم أبدا إلا بفاعل ، ولن يوجد جاعلها وفاعلها إلا الله سبحانه ذو الأسماء الحسنى ، البريء من مشابهة الجعائل والفعائل في كل معنى.

ومن أسباب العلم به ودلائله ، بعد الذي أبان من أثر التدبير في جعائله ، أوثق وثائق(١) الأسباب ، مما فطر عليه بنية الألباب ، من العلم البتّ (٢) ، واليقين المثبت ، الذي لا يعتري فيه ـ بحقيقة ـ شكّ ولا مرية ، ولا تعترض فيما جعل من بصائره شبهة معشية (٣) ، من أن لكل ما أحسّ أو عقل ، مما أثّر سبحانه وجعل ، خلاقا (٤) متيقن معلوم ، لا تدركه الحواس ولا الوهوم. يعقل ويعرف بخلاف ما عقلت به الأشياء وعرفت ، فتخالفه ويخالفها بغير ما به في نفسها اختلفت. فهذان أصلان (٥) مجملان ، لمعرفة الله عزوجل ثابتان ، وشاهدان عدلان ، على العلم بالله باتّان.

[وسائل المعرفة]

ولن يخلو العلم بالله ، والوصول إلى المعرفة بالله (٦) ، من أن يكون مدركا :

ـ بمباشرة حس فيكون كمحسوس ،

ـ أو يدرك بمباشرة (٧) نفس فيكون كبعض ما يدرك من النفوس.

__________________

(١) الوثائق : أقوى العرى التي يتمسك بها.

(٢) البت : القطع ، أي : من العلم القطعي.

(٣) معشية : ملبسة.

(٤) في (ب) و (ج) : خلاف متيقن معلوم. وفي (د) : خلاق متيقن معلوم. وفي (أ) : خلاقا متيقنا معلوما. وقد لفقت النص من الجميع ليستقيم أسلوب الإمام في السجع ، ولهذا التلفيق وجه في اللغة ، مع احتمال أن تكون العبارة هكذا (من أنه لكل ... إلخ).

(٥) الأصلان اللذان ذكرهما الإمام هما :

١ ـ وجود المخلوقات المحكمة المتقنة التي لا بد لها من خالق.

٢ ـ أن خالقها يجب أن يختلف عنها وأن يعرف بخلاف ما به عرفت.

(٦) في (أ) و (ب) و (ج) : لله.

(٧) في (ب) : أو يكون مدركا بمباشرة ، وفي (ج) : أو يدرك من مباشرة.

وليعلم من وصل إليه كتابنا هذا في ذكر درك النفس أن فلاسفة الروم ، يزعمون : أن للنفس دركا ليس بدرك الحواس ولا درك الوهوم. ولا سيما عندهم إذا كانت النفس معرّاة من الأجسام ، ومبرّأة مما هي عليه من أوعية الأجرام (١).

ـ أو يدرك من وهم جائل (٢) ، فيكون كمتوهّم بالمخايل (٣).

ـ أو يكون دركه سبحانه بظن ، فيكون دركه كالمتظنّن (٤) ، الذي يصيب فيه الظن مرة ويخطي ، ويسرع المتظنن بظنه فيه ويبطئ.

ـ أو يدرك من دليل مبين ، فيكون مدلولا عليه ببتّ يقين.

ـ أو يكون مدركا سبحانه بحال واحدة دون أحوال ، أو بما (٥) يمكن اجتماعه من كل ما وصفنا من الخلال.

ـ أو مدركا بجميع ما قلنا وحددنا ، ووصفنا من الأمور كلها وعددنا.

__________________

(١) الأجرام : جمع جرم ، وهو الجسم.

(٢) وهم جائل : أي خيال طائف.

والإمام القاسم هنا ينقد الفلاسفة اليونان في تعريفهم للنفس حيث ذهب بعضهم إلى ((أنها ليست بجسم ، وإنما هي جوهر بسيط محرك للبدن)) ، وهو أفلاطون ، وطالما أنها ليست جسما فهي لا تدرك ، كما أن أدوات الإدراك الحسي والعقلي ليست مما تدرك به النفس الأشياء ، وإذا هي تدرك بشيء خارج عن ذلك ، وهو ما يرفضه الإمام القاسم ، فالإدراك إما حسي أو عقلي ، أو حسي عقلي معا ، وليست هناك طريق أخرى للإدراك سوى ذلك ، أما الإدراك الباطني الإلهامي الحدسي الذي يطبع في النفس الإنسانية فهو ظني وغير قطعي ، وهو طريق لا يستقل بذاته عند المعرفة ، ولا يصلح أن يكون طريقا لمعرفة الله. يبقى هنا الإشارة بنقد الإمام القاسم للفلاسفة اليونان ، وهو دليل قاطع على معرفته ، وهضمه للفلسفة القديمة ، ونقده لها في مقابل ما يملكه من معرفة إسلامية راسخة ، لها قواعدها ومفاهيمها آن ذاك ، والتي في ضوءها رفض كون النفس جوهرا ليس بجسم ، لأن الأشياء إما أجسام أو غير أجسام ، والأجسام هي العالم والكون بما فيه ، وكلّ محدث ، وغير الجسم هو الله ، والأجسام لا تدرك إلا عن طريق أدوات معرفية محددة ومقننة ، أثبتها الله في النفس الإنسانية هي المدارك الحسية والعقلية ، وليس غير ذلك.

(٣) المخايل : جمع مخيلة كمدينة مدائن ، والخيال ما تشبّه لك في اليقظة والحلم من صورة.

(٤) في (ب) : بالمتظنن.

(٥) في (ب) و (د) و (ه) : أو بكل ما.

ـ أو مدركا سبحانه بخلافه لكل محسوس الأشياء ومعقولها ، في جميع ما يدرك (١) من فروع الأشياء وأصولها.

وهذا الباب من خلافه سبحانه لأجزاء الأشياء كلها ، فيما يدرك (٢) من فروع الأشياء جميعا وأصلها (٣) ، فما لا يوجد أبدا إلا بين الأشياء وبينه ، ولا يوصف بها أبدا غيره سبحانه. وهي الصفة (٤) التي لا يشاركه عزوجل فيها مشارك ، ولا يملكها عليه تعالى مالك.

ولا يعم جميع (٥) الأشياء ما يقع من الاختلاف ، فلن يوجد واقعا إلا بين ذوات الأوصاف. وكل واحد منها وإن خالف غيره في صفة فقد يوافقه في صفة أخرى ، كان مما يعقل أو كان مما يلمس أو يرى. فإن اختلف محسوسان في لون أو طعم ، اتفقا فيما لهما من حدود الجسم ، وإن اختلف معقولان في فعال أو همّة ، اتفقا فيما يعقل من أصولهما المتوهّمة. كالملائكة والإنس والشياطين التي أصولها في النفسانية واحدة متفقة ، وهممها وأفعالها مختلفة مفترقة.

فهمم الملائكة الاحسان والتسبيح ، وهمم الشياطين العصيان والقبيح ، وهمم أنفس الانس فمختلفة كاختلافها ، في قصدها وإسرافها ، فتحسن مرة وتبرّ ، وتسيء تارة وتشرّ(٦).

وكل خلق من الملائكة والانس والشياطين فقد جعل الله له صفة متممة ذاتية ، بها

__________________

(١) في (ب) : ما يورد.

(٢) في (ب) : يوجد.

(٣) في (ب) و (ج) : وأصولها.

(٤) وهي ما تسمى : الصفة الأخص ، عند المعتزلة. ومن هنا أخذ من نقل عن الإمام القول بالصفة الأخص.

(٥) أي : أن جميع الأشياء لا تختلف في صفاتها من كل وجه ، وإن كانت مختلفة في أصولها كالحيوان والنبات والجماد ، فقد تختلف في صفة وتتفق في أخرى ، بخلاف الله سبحانه ، فإن جميع الأشياء لا تتفق معه في صفة من صفاته سواء ، وإن اتفقت معه في صفة كالوجود مثلا ، فالفرق شاسع وواضح بين وجودها ووجوده.

(٦) أي : تفعل الشر.

بان بعضهم من بعض وكانت لكل من جعلها الله له خاصة صنفية ، فهي لهم وبينهم ولهم اختلاف ، وكلهم بها وبما جعل الله منها أصناف ، بعضهم غير بعض ، كما السماء غير الأرض.

وليس من وراء ما قلنا في الدرك لمعرفة الله والوصول إلى العلم بالله قول ، ولا بعد الذي عددنا وحددنا في أصول المعارف بالله أصل معقول.

ولا بد من النظر لمن أراد يقين المعرفة بالله ، في تصحيح كل ما وصفنا صفة بعد صفة في معرفة الله ، ليأتي المعرفة بالله من بابها ، وليسلم بذلك من شكوك النفس وارتيابها ، فإنه لن تزكو نفس ولن تطيب ، ولن يهتدي امرؤ ولن يصيب ، اعتلج في صدره بالله ريب مريب ، ولا كان فيه لشك في الله نصيب.

فنستعين بالله على معرفته ويقينها ، ونرغب إليه في يقين أوليائه ودينها ، فان ذلك ما لا يثبت لمن ادعاه بدعوى غير ذات بيّنة ولا أصل ، فضلا عن من كذّب دعواه في ذلك من العامة سوء الفعل ، فقال : أعرف الله بلسانه ، وكذّب ما ادعى من المعرفة له بكبير عصيانه(١).

فإذا قيل له : بم عرفت ما تزعم ، ومن أين علمت ما تقول إنك تعلم؟!

قال : يا سبحان (٢) الله! ومن يجهل الله؟! وهل يسأل أحد عن معرفة الله؟!

وليس عنده من وجوه المعارف التي عددنا كلها وجه! ولا له في الجهل بالله لفاحش عصيانه مثل ولا شبه ، يقول أبدا فيكذب ، ويخوض أبدا ويلعب ، فقوله خوض وزور ، وفعاله فساد وبور ، ولا يصدّق قوله بفعال ، ولا يقوّم دعواه إلّا بمحال ، لا يفهمه عنه لبيب ، ولا يصوّب مذهبه فيه مصيب ، كالبهيمة المهملة الراتعة ، التي لا همة لها إلا في مأكل أو متعة ، كما قال الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [محمد : ١٢]. وقال سبحانه : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ

__________________

(١) في (ب) و (ج) : بكثير. ومن هذا يؤخذ للإمام أن مرتكب الكبيرة كافر ، لأن من لم يعرف الله فهو كافر.

(٢) في (أ) : قال : سبحان.

الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩]. وقال سبحانه : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)) [الحجر : ٣].

فنعوذ بالله يا بني من مثل حالهم ، ونرغب إليه في السلامة من سوء فعالهم ، وحسبنا الله في معرفته دليلا وداعيا ، وموفقا سبحانه للعلم به وهاديا.

[تفصيل طرق المعرفة]

فأول باب : وصفناه من دركه سبحانه بمباشرة الحس ، والباب الثاني : من دركه سبحانه بمباشرة النفس ، ففاسد أن يكون الله سبحانه بواحد منهما مدركا أو معروفا ، لأنّه إن عرف أو أدرك بما أدركا به أو عرفا كان بصفتهما موصوفا ، يجري عليه ما يجري عليهما ، ويضاف إليه تعالى ما يضاف إليهما ، من تجزئة الكل والأبعاض ، وألمّ به ما يلم بهما من الآلام والأعراض.

لأن ما يدرك من كل محسوس ، وإن كان خلافا لما يعقل من النفوس ، فلن يخلو من أن يكون خليطين خلطا فامتزجا فتوحدا ، أو أخلاطا كثيرة عدن مزاجا واحدا ، فتبدلن عن حالهن الأولى ، وصرن كونا من الأكوان التي تبلى ، وما كان كونا لزمه ما يلزم الأكوان ، ولم يتقدم الحركة ولا الأزمان ، وكان فيهما محظورا ، وبما حصرهما (١) من الحدث محصورا.

وحدث الحركة والزمان (٢) ، وقرائنهما من الجسم والصورة والمكان ، فما لا ينكره ـ إلا بمكابرة لعقله ، أو فاحش مستنكر من جهله ـ من سلمت من الخبل نفسه ، ونجت من نقص الآفات حواسه.

وكل نفس فذات قوى شتى مختلفة ، كل صفة منها فسوى غيرها من كل صفة ،

__________________

(١) في (أ) و (ه) : حظرهما.

(٢) في (أ) : والأزمان.

واختلاف قوى كلّ نفس فمعروف غير منكر ، منها التوهم (١) والفكر ، وغيرهما من التذكر والخطر (٢).

وقوى كل نفس فمتممة لها ، لا يمكن أن تزايلها ، لأنها (٣) إن زايلتها قوة من قواها المتممة لكونها ، وما وصفناه من محدود كمال شئونها ، كان في ذلك من زواله زوالها ، وزال عن النفس بزواله عنها كمالها ، وفنيت النفس بفنائه ، ولم تبق النفس بعد بلائه.

ألا ترى أن قوى النفس المتممة لكونها ، ومحدود كمال شئونها ، كحرّ الشمس ونورها ، وغيرهما مما لا قوام للشمس دونه من أمورها ، وكذلك قوى النار في إحراقها وحرها ، كقوى النفس في توهمها وذكرها ، فإن فني حر الشمس أو نورها فنيت ، وإن بلي إسخان النار أو إحراقها بليت ، وكذلك النفس إن زايلها ، ما جعله الله من القوى لها ، فزال فكرها عنها ، أو فني توهمها منها ، فنيت بفنائه ، وبليت مع بلائه.

وفي ذلك ، إذا كان كذلك ، دليل مبين ، وعلم ثابت صحيح يقين ، أن (٤) النفس كثيرة عددا ، وأنها ليست شيئا واحدا ، فكل نفس فغير واحدة ، ولكنها كثيرة ذات عدّة (٥) ، والله تبارك وتعالى فواحد فرد ، وقوته فمفردة ليس لها حد ، ومن لم يكن واحدا فردا ، ونهاية في الدرك صمدا ، كان متحادا معدودا ، وأشتاتا متناهيا محدودا.

والباب الثالث : من دركه سبحانه بمخائل الأوهام ، ففاسد لتشبيهه فيه (٦) بمتوهّم مخايل الأجسام.

والباب الرابع : من دركه سبحانه بالظن فقد يمكن ويكون ، إذ كانت قد تخطئ وتصيب الظنون.

__________________

(١) في (أ) : للتوهم.

(٢) الخطر : ما يخطر في النفس.

(٣) سقط من (ج) : لأنها إن زايلتها. ومن (ب) : لأنها.

(٤) في (أ) : فإن. وفي (ج) و (ه) : بأن.

(٥) في (ب) : وكل نفس فذات قوى شتى مختلفة ، كل صفة منها فسوى غيرها فغير واحدة ، ولكنها كثيرة ذات عدد.

(٦) في (ج) : بتشبيهه.

فصواب الظن في أنه قد (١) يصيب فيه سبحانه ، وخطأ الظن فيه فمنحّى (٢) عنه مقطوعة الأسباب فيما بينها وبينه.

والباب الخامس : من دركه سبحانه بالدلالة فموجود لا يعنف ، وصحيح ثابت في الألباب (٣) لا يختلف.

والباب السادس : من دركه سبحانه بحال واحدة مما عددنا ، ففاسد فيه تبارك وتعالى بما أفسدنا.

والباب السابع : من دركه سبحانه بكل ما عددنا وحددنا من الخلال ، فأحول ما يتوهم من وجوه المحال ، لما يجمع مما لا يجتمع في حس ولا عقل ولا وهم ، وفي ذلك أن يكون كذلك أعدم العدم!!

والباب الثامن : معرفته سبحانه بخلاف الأشياء كلها فلباب كل لباب ، وأصح ما يدركه به ـ سبحانه ـ من خلقه أولو الألباب ، لأنه إذا صح أنه غير مدرك سبحانه بدرك هذه الأشياء وأوصافها ، وكان لا بد لمن أدرك هذه الأشياء دركا صحيحا من أن يكون مدركا بصحة لخلافها ، بيقين ـ من دركه لها ـ مبتوت ، كدرك الحياة وخلافها من الموت ، ودرك الصحة وخلافها من السّقم ، ودرك الشباب وخلافه من الهرم ، وغير ذلك من اختلاف الأشياء كلها ، وما يوجد لها من الاختلاف في فرعها وأصلها ، وإذا كان ذلك كذلك ، وصح ما ذكرنا في النفوس من ذلك ، كان واجبا وجوب اضطرار ، وثابتا من النفوس في أثبت قرار ، دركه سبحانه ووجده عند دركها ووجودها ، إذ هو خلاف سبحانه لكل ما يوجد من موجودها.

فإن قال قائل : فلم لا تجعل خلاف الأشياء كلها العدم؟! فقد يحيط بخلافه للأشياء كلها الوهم؟!.

__________________

(١) في (أ) : فقد.

(٢) في (أ) : فتمنحى.

(٣) سقط من (ب) و (ج) و (د) : في الألباب.

قلنا : إن العدم ليس بمعنى موجود ، وليس مما له إنيّة (١) ولا حدود ، وإنما مطلبنا فيما قلنا ، للخلاف بين ما قد عقلنا ، من ذوات الإنّيّة الموجودة الثابتة بالحس ، أو الشهادة الباتّة من درك النفس ، أو ما يدرك خلافا لهما جميعا ، فيوجد أثر تدبيره بيّنا (٢) فيهما معا.

فأما ما ليس بذي أيس ، (٣) ـ ولا يدرك درك محسوس ، ولا يعرف بفرع ولا سوس(٤) ، ولا يبين عن نفسه بأثر من تدبير ، ولا يستدل على وجوده بدليل منير ـ فليس فيه لنا مطلب ، ولا لنا إليه بحمد الله مذهب ، وإنما قولنا في العدم ، إنه خلاف في الوهم ، لا في حقيقة للعدم موجودة ، ولا عين منه قائمة ولا محدودة ، وإنما (٥) يطلب خلاف الأشياء كلها في حقائق الأعيان ، بما يدرك في العقل والعلم من الاختلاف ببتّ الايقان ، وكذلك وجدنا الاختلاف الصّحيح اليقين يكون ، بين ما يحس أو يعقل من الأشياء التي لها كون ، فأما العدم الذي هو ليس (٦) ، والذي لم يتوهم له قط أيس ، فليس في بعده من أن يقال : مختلف بحقيقة أو مؤتلف وهم ، وليس لأحد علينا والحمد لله في اختلاف منه ولا ائتلاف متكلّم ، هو غير ذي شك عدم الأعدام ، ولا (٧) يرتفع عنه إلا بعبارة المنطق (٨) نطق الكلام.

__________________

(١) إنية الشيء : ذاته.

(٢) سقط من (ب) و (ج) : بيّنا.

(٣) أي : بذي وجود ، قال الخليل وإنما معناها كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوجد. لسان العرب مادة أيس.

(٤) أي : أصل. لسان العرب مادة سوس.

(٥) في (أ) : فإنما.

(٦) أي : نفي معدوم.

(٧) في (أ) و (ه) : وما.

(٨) أي : لا يتبين إلا بالاسم ، وإلا فهو ليس بشيء موجود.

[دلالة الآيات الكونية على وجود الله]

والحمد لله على ما جعل لنا من السبيل بما قلنا وغيره إلى معرفته ، ودلنا عليه في محكم القرآن منّا وإحسانا من صفته ، فقال سبحانه فيما عرفنا ، منه وثبّت لنا ، من أنه يعرف بالأعلام القائمة الدالة ، والشهادات القاطعة العادلة ، التي لم تبرح في الأنفس والآفاق شاهدة مشهودة ، ولم تزل في السماوات والأرض وما بينهما من (١) سالف الأحقاب قائمة موجودة ، تشير إلى معرفته بكف وبنان ، وتومئ إلى العلم بالله لكل من (٢) له قلب وعينان ، كما قال الله سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)(١٠٥) [يوسف : ١٠٥]. وقال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢٣) [الذاريات : ٢٠ ـ ٢٣]. وقال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) [فصلت : ٥٣]. فمن شهادته سبحانه لها أنه (٣) لما كان منها مدبّر مريد ، ثمّ قرر لنا سبحانه شهادة دلائله ، بما أظهر في السماوات والأرض والأنفس من أثر جعائله ، بتوقيف منبّه لكل بصير حي ، وتعريف لا يجهل بعده إلا كل ضلّيل عميّ ، فقال سبحانه في توقيفه ، وما نبه من تعريفه : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ

__________________

(١) في (أ) و (ه) : في.

(٢) في (أ) : من كان له.

(٣) سقط من (أ) : أنّه.

خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٩٩) [الأنعام : ٩٥ ـ ٩٩]. ففلق (١) الحب ـ يا بني ـ والنوى والاصباح ، وإخراج (٢) الحي من الميت والميت من الحي بأوضح الايضاح ، وما جعل من الليل سكنا ، ولباسا مكنّا (٣) ، ومن الشمس والقمر حسبانا معدودا ، وما جعل في النجوم للسارين من الهدى ، وإنشاء البشر من نفس واحدة ، فما لا تنكره فرقة ملحدة ولا غير ملحدة. وما استودع منهم في الأرحام والأصلاب ، وما استقر ـ منهم في قرار الأرض وعلى متن التراب ، وما أنزل من الماء ، من جو السماء ، وما أخرج به من خضر الألوان المختلفة ، وأصناف الحبوب المتراكبة المتصنفة ، وما أخرج به من النخل وطلعها ، وقنوانها الدانية عند ينعها ، وما أخرج به من جنات الأعناب ذوات الألوان ، وما تشابه أو لم يتشابه من الزيتون والرمان ـ فمعاين كله بما قال الله فيه مشهود ، بيّن فيه كله أثر صنع الله موجود ، لا يقدر أحد له بحجة على إنكار ، ولا يمتنع حكيم على الله فيه من إقرار.

ومن توقيفه سبحانه المكرّم ، وتعليمه تبارك وتعالى المحكم ، قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)) [يونس : ٣١ ـ ٣٢].

وكل ما ذكر الله سبحانه من هذا كله (٤) فقد علمنا بيقين ، وأدركنا بقلب وعين ، أنه مرزوق غير رازق ، ومخلوق ليس لنفسه بخالق ، ومملوك غير مالك من نفسه بشيء ، ومخرج ومحيا غير مخرج لنفسه ولا محيي ، وكل أمر السماء والأرض فقد يعاين

__________________

(١) في (ب) و (ح) : ففلق.

(٢) في (ب) و (ح) : وأخرج.

(٣) أي : ساترا.

(٤) سقط من (أ) : كله.

مدبّرا غير مدبّر ، ويرى أثرا ـ بأبين شواهد التأثير ـ من مؤثّر ، فلا بد ببت اليقين من رازق ما يرى من الأرزاق ، ومدبّر ما يعاين من أثر التدبير في السماوات والآفاق ، ومالك ما يرى مملوكا غير مالك من السمع والأبصار ، ومخرج الحي من الميت والميت من الحي بمواقيت وأقدار ، ولا بد من مدبّر الأمر الأعم الكلي ، ولن يوجد ذلك (١) إلا الله الأعلى فوق كل عليّ.

ومن ذلك أيضا فقوله تبارك وتعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)) [الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩]. فالله سبحانه هو الخالق ونحن الممنون ، ليس لنا في ذلك غير إمناء المني من صنع ، ولا نقدر بعده لما قدّر بيننا من الموت على منع ، فتقدير صنعنا كله وتدبيره ، وتبديل خلقنا إن شاء خالقنا وتغييره ، إلى من تولاه دوننا ، وكان منه لا منا ، كما قال سبحانه : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢)) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦٢]. فقرر سبحانه بمعلوم غير مجهول ، وذكّر بما لا ينكره سليم العقول ، من نشأة الصنع الأولى ، فتبارك الله العلي الأعلى.

ثمّ قال سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤) [الواقعة : ٦٣ ـ ٦٤]. فالله هو الزارع ونحن الحارثون. ليس لنا في الزرع سوى حرثه من حيلة موجودة ولا معدومة ، ولا نقدر بعد الحرث له على إنشاء منه لسنبلة محمودة ولا مذمومة ، وقدرتنا فإنما هي على الحرث والاعتمال ، وعلى خلافهما من الترك والاغفال ، وكذلك فلله من القدرة بعد على إبطال الزرع وبلائه ، مثل الذي كان له من القدرة قبل على تثميره وإنمائه ، ولا يقدر على أمر إلا من يقدر على خلافه ، وعلى فعل كل ما كان من نوعه وأصنافه ، فمن لم يكن كذلك ، وتصح صفته بذلك ، كان بريا من القدرة عليه ، وكان العجز في ذلك منسوبا إليه ، كما قال سبحانه ، في الزرع بعد إكماله : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)(٦٧) [الواقعة : ٦٥ ـ ٦٧]. وكذلك إعذاب الماء ، وما

__________________

(١) سقط من (أ) : ذلك.

يعاين من تنزيله من جو السماء ، فلا يقدر على إعذاب الماء وإنزاله ، إلا من يقد على إيجاجه (١) وإقلاله ، كما قال الله سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)(٧٠) [الواقعة : ٦٨ ـ ٧٠]. وكل فعل فرع لا يتم إلّا بأصله ، ففاعل الأصل أولى بفعل فرع أصله ، كشجرة (٢) النار ، وأصول الأشجار ، التي هي من الأرض والماء ، والجو والسماء.

فصنع هذه الفروع لمن كان له صنع الأصول ، لا ينكر ذلك منكر ولا يدفعه إلا بمكابرة فطر (٣) العقول ، كما قال الله سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ)(٧٣) [الواقعة: ٧١ ـ ٧٣]. فكل ما نبه به (٤) من هذا ودل عليه ، فداع من معرفته سبحانه إلى ما دعا إليه.

ومن ذلك أيضا ، فقوله تبارك وتعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) [الحديد : ١٧]. فإذا كانت حياة الأرض بعد موتها موجودة ، وميتتها التي كانت تعلم قبل حياتها مفقودة ، فلا بد اضطرارا ثابتا ، ويقينا لا تدفعه النفوس باتّا ، من إثبات مميتها ومحييها ، إذ بان أثر تدبيره فيها ، بأكثر مما (٥) يعقل من الآثار ، وأكبر مما (٦) تعرفه النفوس من الأقدار ، مما لم ير له في (٧) الحياة قط مؤثّر ، ولم يوجد له (٨) من المدبرين قط مدبّر ، إلا من يزعم أنه من الله لا منه ، ومن يقر أنه منه يقر أنه من الله دونه ، مثل المسيح بن مريم ، وغيره ممن أعطيه من ولد آدم.

__________________

(١) أي : إملاحه.

(٢) في (أ) و (ب) : كشجر.

(٣) جمع فطرة.

(٤) في (أ) : له.

(٥) في (ب) و (ج) : ما.

(٦) في (ب) و (ج) : ما.

(٧) في (أ) و (ب) و (ج) : من.

(٨) في (ب) و (ج) : في.

ومن تعريفه القريب ، وتوقيفه العجيب ، قوله سبحانه : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٨٥) [المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٥]. فلما كانت الأرض مملوكة ومن فيها ، بما تبيّن من أثر الملك عليها ، ثبت مالكها عند معاينتها غير مدفوع ، ووجد صانعها باضطرار غير مصنوع.

ومن توقيفه ، أيضا وتعريفه ، قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦)) [المؤمنون : ٨٦]. فلما وجد ـ ما وقّف الله سبحانه عليه من ذلك ـ مربوبا غير متمنع ، بما تبيّن فيه من شواهد كل مربوب متخشّع ، وجد ربها كلها بيقين مبتوت عند وجودها ، وشهد له بالربوبية ما شهد بالصنع عليها من شهودها.

ثمّ قال سبحانه لتوقيفه وتعريفه مردّدا ، وعليهم بما لا تدفعه النفوس من الشهود (١) مستشهدا : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٨٨) [المؤمنون : ٨٨]. فلما كان كل شيء يحس بحس ، أو يعقل إن لم يكن محسوسا بنفس ، في قبضة محيطة به من قدرة وملكوت ، بما لا يدفعه (٢) عن نفسه من بلاء أو موت ، كان مليك الملكوت للأشياء كلها معلوما باضطرار ، من يجير ولا يجار عليه إذ الملكوت كلها له غير ممتنعة منه (٣) بجار.

ومما يقظ به سبحانه لمعرفته ، ودلّ منه بأوضح دليل على ربوبيته ، وما تفرد به من صنع البدائع ، وتوحّد بابتداعه من بدع الصنائع ، قوله سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(١١) [فاطر : ١١].

فلما أن كان خلق أبينا ، الذي هو أول إنشائنا ، وهو آدم ، الأب المقدم ، مما ذكر الله تبارك وتعالى أنه ابتدأه منه من التراب ، كنا مخلوقين مما خلق منه وإن نحن جرينا بعده نطفا في الأصلاب.

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : من الشهود.

(٢) في (أ) : يدفع.

(٣) في (ه) : عنه.

والدليل البتّ اليقين ، الشاهد العدل المبين ، على أن آدم عليه‌السلام بدئ من التراب وخلق ، مصير نسله ترابا إذا بلي وفرّق ، وكل مركّب انتقض من الأشياء ، فعاد إلى شيء عند (١) تنقضه بالفرقة والبلى ، فمنه ركّب وخلق غير شك ولا امتراء ، كالثلج والجليد ، والبرد الشديد ، الذي يعود كل واحد منهما إذا انتقض وفرّق ، إلى ما ركّب منه من المياه وخلق ، وكمركّب الأشجار والحبوب وغيرهما من ضروب الأغذية ، التي تعود عند بلائها إلى ما ركّبت منه من الأرضين والمياه والنيران والأهوية.

وآدم عليه‌السلام في أنه من تراب ـ وإن كان كمالا وأبا ـ كأولاده ، يجري عليه في أنه من تراب ما يجري على أجزائه وآحاده (٢) ، وما يعاين من معاد أنساله ، التي هي أجزاؤه من كماله ، إلى الرفات الجامد ، والتراب الهامد ، يلحق به مثله ، إذ هم جزؤه ونسله ، وما لحق بالأجزاء ، من الموت والبلاء ، فلا حقّ لا محالة بالكمال ، والكمال (٣) والأجزاء فجارية منه على مثال ، إذ كانت أشباها متماثلة ، وأمثالا لا يجهل تماثلها متعادلة! وأما يقين خلقه إيانا سبحانه من نطفة ، وما جعل منا أزواجا مختلفة ، في الخلقة غير مؤتلفة ، فمعاين فينا معلوم ، لا تدفعه العيان ولا الحلوم. ألا ترى أن النطفة لو لم تكن لما كنت ، ولو عدمت إذن لعدمت. وما كان إذا عدم عدمت ، فمنه غير شك خلقت وقوّمت. ألا ترى أن كون المرعى والأشجار ، مما ينزل الله لها من المياه والأمطار ، فإذا عدم الماء والمطر ، هلك المرعى والشجر ، أولا ترى أن كل ثمرة فمن شجراتها ، فإذا عدمت الشجرات عدمت ثمراتها.

وما عجّب الله به سبحانه من صنعه في تكثيره منه للقليل المفرد ، ونشره تبارك وتعالى للكثير من واحد العدد ، فأعجب عجاب ، عجب له من خلقه أولو الألباب ، بينا نحن تراب ميت إذ أحيانا ، ونطفة واحدة إذ كثرنا فأثرانا ، فجعل سبحانه منا بنطفة تمنى ، ذكرا يعاين وأنثى ، حكمة منه سبحانه لا عبثا ، كما قال تبارك وتعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً

__________________

(١) في (أ) : بعد.

(٢) في (ج) و (ه) : وأوحاده.

(٣) سقط من (ب) و (ج) : الكمال.

فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].

فصرّفنا بعد خلق خلقا ، ترابا ثمّ نطفة ثمّ تارة علقا ، تصاريف لا يدّعي على الله فيها مدع دعوى ، فيعلن بدعواه فيها ولا يسر (١) بها نجوى ، تبريا إلى الله الخالق منها ، وتضاؤلا في جميع الأشياء عنها.

وكل هذه التصاريف فلا بد لها من مصرّف ، وما عدّد من شتيت الأصناف فلا بد لها من مصنّف ، لا تدفع الألباب وجوده ، ولا يكذّب إلا كاذب شهوده.

وما ذكر سبحانه من حمل كل أنثى ووضعها بعلمه ، فما لا ينكره أحد وهبه الله حكمة من حكمه ، وما لا يأباه منقوص بعد التقرير إلا بمكابرة منه لعقله ، مع الاقرار منه لنا صاغرا راغما بمثله ، وإذا كان بمثله مقرا ، كان بإنكاره له مكابرا ، بل يعطى فيأبى (٢) ، إلا مجانة وألعابا ، إنما هو أصغر صغرا ، وأيسر أضعافا قدرا ، من حمل الأنثى ووضعها ، وتأليف أعضاء الولدان وجمعها ، وما فيها من حسن التصوير ، وداخل معها في (٣) لطيف التدبير ، لا يقوم معتدلا ، ولا يبقى متصلا ، طرف (٤) عين ، بأيقن يقين ، إلا بعلم من عليم ، وتدبير متقن من حكيم ، لا تلمّ به سنة ولا نوم ، ولا تنازعه الأشغال ولا الهموم.

وكذلك تعمير المعمّر ، وما ينقص له من عمر ، فلا يكون أبدا إلا في كتاب ، إذ كانت الأيام والليالي بحساب ، ولا يكون نقص العمر وزيادته ، إلا لمن به قوامه ومادته ، ممن (٥) يدبر الأيام والليالي ، ولن يوجد ذلك إلا عن الله الكبير المتعالي ، ولا (٦) يكون كتاب ذلك الذي ـ هو علمه ـ على من وسع الأشياء كلها تدبيرا ، إلا خفيفا ـ لا

__________________

(١) في (أ) : يسير.

(٢) في جميع المخطوطات : فلا يأبى. والكلام غير مستقيم وأشار في (أ) إلى نسخة بأن (فلا) محذوف ، ولعل ما أثبت هو الصواب والله أعلم.

(٣) في (أ) و (ه) : من.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : طرفة.

(٥) في (أ) : فمن.

(٦) في (أ) : ولن.

يؤده ـ حفظه ـ عليه تبارك وتعالى كما قال : يسيرا ، ثمّ أخبر سبحانه صدقا ، ونبّأ في كتابه حقا ، بقدرته على أن يخلق من الأشتات المختلفة ، واحدا غير مختلف في الصفة ، لأنه من قدر على خلق الأشتات من المؤتلف الذي لا يختلف ، قدر على خلق الواحد المشتبه من الأشتات التي لا تأتلف ، كخلقه سبحانه لأحدان (١) ، ما خلق من الدر واللحمان ، من مختلف البحار وأشتاتها ، بأبين اختلاف من أجاجها وفراتها. فجعل سبحانه منها ، مع خلافه بينها ، لحما واحدا مشتبها طريا ، ولباسا واحدا من الدر حسنا بهيا ، وحمل سبحانه على ظهورها ، مع خلافه بينها في أمورها ، الفلك المشحون السائر ، وردها بعد التفريغ فيه مواخر (٢) ، ليعلم ـ من عجيب تدبير أمرها ، واختلاف (٣) الحال في مسيرها ، إذ تسير شاحنة مالية ، كما تسير ماخرة خالية ، وإذ تسير بحاليها جميعا في أجاج البحار ، كما تسير بهما في فرات الأنهار ـ أن لها لمسيّرا لا تختلف في قوته الأشياء ، ومدبرا قويا لا تساويه الأقوياء ، وأن تسييرها مقبلة ومدبرة ، وشاحنة في البحرين وماخرة ، إلى من يدبر ما سارت به من مختلف الرياح المسيّرات ، ومن يملك ما جرت فيه من الماء الأجاج والفرات ، ومن له ملك ما لو لا هو لم تكن الرياح الجاريات ، ولم يوجد الملح (٤) من المياه ولا الفرات.

ومن إيلاجه سبحانه الليل في النهار ، وما قدر بهما من المواقيت والأقدار ، وتسخيره سبحانه للشمس والقمر ، اللذين بهما دبّر مسير الفلك في البحار كل مدبّر ، كان لتدبيره ـ في المسير بهما في بحر ـ حكمة ، أو فيهما (٥) لفلك بعد الله من نجاة عصمة ، لما جعل سبحانه فيهما من الضياء ، وبصّر بهما في المسير من القصد للأشياء ، وبصّر تبارك وتعالى بغيرهما ، إذ فقد (٦) في ظلم الليل ما جعل من البصر بتسخيرهما ، من

__________________

(١) في (د) : الاحداث ، مصحفة. والأحدان : جمع أحد ، واللحمان : جمع لحم.

(٢) جاريات.

(٣) في (أ) : عجيب تدبيرها ، وباختلاف.

(٤) في (د) : المالح.

(٥) في (أ) و (ج) و (د) : فيه.

(٦) في (أ) إذا افقد. وفي (د) : إذ أفقد.

النجوم السّيّر التي جعلها الله هدى للسارين (١) في الظلمات ، سروا في البحار أو كان سراهم في الفلوات. كما قال الله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)) [الأنعام : ٩٧].

وتسخير ما ذكر الله سبحانه من الشمس والقمر ، وتسخيره لغيرهما من النجوم السّيّر ، فظاهر بحمد الله غير متوار ولا خفي ، يبصره عيانا كل ذي عقل حيي ، لما فيها من آيات التسخير ، وبيّن ما (٢) معها من دليل التدبير ، بتفاوت نورها ، وغيره من أمورها ، في السرعة والإبطاء ، والظهور والخفاء ، والرجوع والتّحيّر ، والدأب (٣) في التدوّر ، فهي راجعة في المسير ومتحيّرة ، ومقبلة بالدءوب (٤) ومدبرة ، فهذه حال المسخّر غير مرية ولا شك ، جرى بها فلكها أو كانت جارية بأنفسها في الفلك. والتفاوت بينها (٥) في الضياء ، فكغيره من التفاوت بين الأشياء ، ولا يقع حكم التفاوت ، أبدا بين متفاوت ، إلا كان له وفيه ، من فاوت (٦) بينه في حاليه ، وكان مملوكا اضطرارا غير مالك ، وكان ملكه لمن أسلكه من التفاوت في تلك المسالك. وكذلك حال (٧) تفاوت هذه النجوم ، يجري من الله فيه (٨) بحكم محكوم ، ولله سبحانه من (٩) ملك كل نجم وفلك ماله من ملك كل مملوك ، والحمد لله إله الآلهة وملك الملوك ، ومدبر كل نجم وغيره ، بما لا يخفى من أثر تدبيره ، في الهيئة والتصوير ، والمقام والتحيير والتيسير ، ذلك قوله سبحانه فيما وصفنا من قدرته على خلق الواحد المشتبه من شتيت الأصناف ،

__________________

(١) في (أ) : للسائرين.

(٢) في (أ) و (د) و (ه) : وبين معها.

(٣) التحيّر : من الحور. أي : الرجوع. عطف تفسيري. وفي (ب) و (ج) و (د) : الدءوب.

(٤) في (أ) : للدوب.

(٥) في (ج) : وتفاوت ما بينها في الضياء ، فكغيره من تفاوت ما بين الأشياء.

(٦) في (ج) : يفاوت.

(٧) في (ج) : حكم.

(٨) في (ج) : فيها.

(٩) في (ج) : في.

وخلقه للكثير المختلف من الواحد الذي ليس بذي اختلاف ، وما ولي الله سبحانه من تدبير النجوم وتسخيرها ، وإجراء الفلك في مختلف البحار وتسييرها ، وإيلاجه سبحانه الليل في النهار ، وتقديره لذلك كله بأحسن الأقدار ، (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(١٣) [فاطر : ١٢ ـ ١٣]. فصدق الله تبارك وتعالى ، ذو الملك والقدرة والأمثال العلى ، إنه لهو الله ربنا ، ومنّا منه كان خلقنا وتركيبنا ، له الملك ومنه عجيب التدبير ، ومن دعي معه أو دونه فما يملك من قطمير ، والقطمير : فأصغر ما يملكه متفرد به مالك ، أو يشرك مليكا في ملكه مشاركه.

فكل ما ذكر الله من هذه الأمور ، فنيّر (١) بيّن غير مستور ، يشاهده ويحضره ، ويعاينه ويبصره ، من آمن بالله شكرا ، أو صد عن الله كفرا.

أو لا تسمع قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣٣) [الأنبياء : ٣٠ ـ ٣٣]. ففتق السماوات والأرض فيهن ظاهر لا يتوارى ، يراه ويعاينه كل ذي عين ترى ، وما يعاين فيهن ويرى فتقا ، فشاهد على أنهن كنّ قبله رتقا ، إذ لا يكون فتق إلا لمرتتق ، كما لا يكون رتق إلا لمفتتق ، ولا فتح إلا لمنغلق. ولا بد يقينا لكل مفتوق من فاتقه ، كما لا بد لكل مفتوح من فاتح أغلاقه (٢) ، وما جعل الله من الماء من

__________________

(١) في (د) و (ه) فبين بين. وفي (ج) : فمنير بأثر التدبير من الله غير مستور.

(٢) في (أ) : علاقه.

الحيوان ، فموجود ما ذكر الله منه بالعيان ؛ لأن كل شجرة حية قائمة (١) ، أو دابة ناطقة أو بهيمة ، فمن الماء جعلتها ، وبه قامت جبلتها.

ألا ترى أن الشجرة إذا فقدت من الماء غذاءها ، وفارق الماء قلبها ولحاها (٢) ، يبست فماتت ، وانحطمت فتهافتت ، فذلك (٣) الدليل على أن من الماء جعلت ، إذ كانت إذا عدم الماء عدمت.

أولا ترى أن لو لا مياه الذكران والإناث التي هي النطف ، إذا (٤) لما وجد من البشر والبهائم طارف يطرف ، فذلك الدليل على أنهم من الماء جعلوا ، إذ كان الماء إذا عدم عدموا ، وذلك قوله سبحانه : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٧) [الطارق : ٥ ـ ٧]. وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) [الفرقان : ٥٤].

[حكمة خلق الجبال]

وما جعل الله سبحانه في الأرض من رواسي الجبال ، وغيرها مما ثقّلها به من الأثقال ، كيلا تميد بمن عليها من الانسان ، وغيره من أنواع الحيوان ، الذي لا بقاء له (٥) ولا قوام مع الميدان ، فموجود بأيقن الايقان ، إذ توجد بالعيان الأفلاك تمر من تحت الأرض دائرة ، وتخفى بممرها تحتها وتظهر عليها سائرة ، ولا يمكن أن يكون مسيرها ، تحتها ومقبلها ومدبرها ، إلا في خلاء أو عراء ، أو هواء أو ماء ، وأي ذلك ما كان مسيرها مقبلها ومدبرها (٦) فيه ، احتاج من على الأرض من ساكنها إلى ما جعلهم

__________________

(١) كل المخطوطات قدمت كلمة (قائمة) على (حية) وتأخيرها اجتهاد مني.

(٢) لحاها : قشرها.

(٣) في (ج) : وذلك.

(٤) في (أ) و (د) و (ه) : بحذف إذا.

(٥) في (أ) : التي لا بقاء لها.

(٦) سقط من (أ) و (ج) و (ه) : مقبلهما ومدبرها. وفي (ب) و (ج) : قدم كلمة (فيه) على قوله ـ

محتاجين إليه ، من تثقيل قرارهم بما ثقّله الله من رواسي الجبال ، وغيرها مما ثقلها به سبحانه مما عليها من الأثقال ، لكيما تكون كما قال الله : قرارا ، ولما جعله الله خلالها أنهارا ، ولو لم تكن سكنا قارا ، لما احتملت من أنهارها نهرا ، ولو مادت لاضطربت غير مستقرة ولا هادية ، ولو لم تستقر وتهدأ لكانت أنهارها متفجرة غير جارية ، لا ينفع ما جعل الله حاجزا وبرزخا ، وحبسا ثابتا مرسخا ، بين (١) منسبح عذب مياهها وملحه ، ومفسد أمورها ومصلحه ، فاختلط فراتها بأجاجها ، وبطل ما جعل فيها من سبل منهاجها ، حتى لا يكون لفلك فيها سبيل مسير ، ولا لطامي جم مياهها صوت خرير ، ولو كان ذلك ، فيها كذلك ، لكان فيها من فساد التدبير ، وجفاء الفعل في حسن التقدير ، ما لا يجهل ولا يخفى ، لكنه تبارك وتعالى ألطف في التدبير لطفا ، وأعلم بالأمور كلها علما ، من أن يدبر إلا محكما. ألم تسمع لقوله سبحانه : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)) [النمل : ٦١].

فإن قال قائل : فما جعل من الأثقال عليها والجبال لا يزيدها إلا ثقلا ، وكل ما ازداد ثقلا هوى وذهب سفلا ، فنحن إذن نهوي سافلين ، وقد نرانا بالعيان عالين ، فهذا من القول تناقض واختلاف ، لا يصح لذي لب به إقرار ولا اعتراف؟!

قلنا : قد قيل فيما تحت الأرض وما يحملها ، ويمسكها بحيث هي ويقلها ، أقوال كثيرة غير واحدة ، قالتها فرق ملحدة وغير مخلدة.

فمنهم من قال تحت الأرض خلاء ، ومنهم من قال تحتها هواء ، ومنهم من قال تحتها لج ماء ، ومنهم من قال ليس تحتها شيء من الأشياء ، وهي غاية الثقل ومنتهاه ، وكل ثقيل فإليها انتهاه ، فليس لجرم من الأجرام ثقلها ، ولا شيء من الأشياء في الثقل مثلها ، فهي أثقل الأثقلين ، وأسفل الأسفلين ، وما كان وهو أخف منها ، فغير شك أنه مرتفع عنها ، أو قار عليها ، أو داخل فيها ، وقرارها بحيث هي زعموا قرار طبيعي ، ومنهم من قال إن قرارها بحيث هي قرار موضعي ، وإنها إنما ثبتت بحيث هي من

__________________

مقبلهما ومدبرها ، والأوفق لنسق الكلام ما أثبت.

(١) في (أ) : من.

موضعها ، واستقرت ثابتة في موقعها ، لأنها زعموا معتدلة في الوسط ، غير مائلة إلى جهة من الجهات بفرط ، مستوية كاستواء كفة الميزان ، ممتنعة لاستوائها عن الميلان ، يمينا أو شمالا ، أو علوا أو سفالا (١) ، وقال حشو هذه الأمة المختلف ، الذي لا يفقه ولا يتصرف (٢) ، قرار الأرض زعموا على ظهر حوت (٣) ، ونعتوا حوتها في ذلك بألوان من النعوت ، وأشبه هذه الأقوال عندنا بالحق ، وأقرب ما قيل به فيها من الصدق ، أن يكون ما تحت الأرض خلاء منفهقا ، وهواء من الأهوية منخفقا (٤) ، ليس فيهما لسالكهما رد يرده ، ولا للمقبل والمدبر فيهما صد يصده ، لقول الله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)) [الأنبياء : ٣٣].

وليس أحد من هذه (٥) الفرق كلها التي وصفنا ، وإن قالوا من مختلف الأقوال بما ألفنا ، إلا مقر لا يناكر ، ومعترف لا يكابر ، أن الشمس والقمر يسلكان بأنفسهما ، أو يسلك فلكهما بهما ، فيما يرى من دورهما ، ويعاين في كل حين من مرورهما ، من تحت الأرض لا من فوقها ، يعرف ذلك بغروب الشمس في كل يوم وشروقها ، لا يسلكان

__________________

(١) في (أ) و (ب) : سفلا. وفي (د) : أسفالا.

(٢) في (أ) : يصرف. وفي هامش (د) : يتعرف. ولعله الصواب.

(٣) أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخطيب في تاريخه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، قال : إن أول شيء خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : يا رب وما أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى من ذلك اليوم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم طوي الكتاب وارتفع القلم ، وكان عرشه على الماء ، فارتفع بخار الماء ففتقت منه السماوات ثم خلق النور فبسطت الأرض عليه ، والأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ، ثم قرأ ابن عباس : (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ). الدر المنثور ٨ / ٢٤٠.

وقد ذكره المسعودي في مروج الذهب ١ / ٢٨ ، واستنكره محققه الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.

ولا شك أن هذه من الخرافات والدسائس الإسرائيلية التي غزت كتب الحديث والتفسير عند المحدثين.

(٤) أي : متحركا. وفي (أ) : متخفقا. وفي (ب) و (ج) و (ه) : متحققا.

(٥) سقط من (ب) و (ج) : هذه.

يمينا ولا يسارا ، ولا يختلف مسلكهما تحتها ليلا ولا نهارا ، والشمس والقمر فجسمان ، مدركة جسميتهما بالعيان ، يذرعان ذرع الأجسام ، وينقسمان بأبين الانقسام ، لهما أوساط وأطراف ، وفيهما كل وأنصاف ، والأرض فذات جسم مصمت معلوم ، لا يمكن أن يسلكه جسم مثله من النجوم ، ولا يمكن أن يسلك جسم (١) إلا في هواء أو خلاء ، أو فتق إن سلك في أرض أو ماء ، أو في جو من الأجواء ، وإن كان مسلكه من الأرض أو الماء ، إنما يكون في فتق ففي الخلاء يسلك أو الهواء ، وإن هو احتجب عن العيون فلم ير. وإن كان مسلكه في فتق (٢) من أرض أو ماء ، لا فيما قلنا به من هواء أو خلاء ، انتقض ما أجمعوا عيانا عليه ، واجتمعت أقوالهم جميعا فيه ، من أن مسلك النجوم ، من وراء قاصية التخوم.

وما جعل الله في الجبال الرواسي ، وغيرها من القنان (٣) الشّمّخ الطوال العوالي ، من فجاج السبل ، ومن الطرق الذّلل ، فما لا يمتري ـ في وجود صنعه وتقديره ، بما يرى فيه من إحكام الصنع وتدبيره ـ منصف أنصف في نظر لنفسه ، قاض على الأمور كلها (٤) بحقيقة درك حسّه ، لأنه قد أدرك بحسه دركا بتا (٥) ، وأيقن بقلبه إيقانا (٦) مثبتا ، أن أصغر ما يرى من هذه الفجاج سبيلا ، لم يتهيأ لسالكه سلوكه ولم يمكنه حتى ذلّل تذليلا ، وأن هذه الفجاج التي جعلت سبيلا ، وهيّئت مع صعوبتها طرقا ذللا ، لم تتأت وتتواطأ ، سبلا وصرطا (٧) ، في حزون (٨) الجبال الشوامخ ، وبطون البيدان (٩)

__________________

(١) في (ب) : ولا يمكن الجسم أن يسلك. وفي (ج) : ولا يمكن جسما.

(٢) في (ب) و (ج) : من الأرض وماء. وفي (د) : وإن كان مسلكه بين الأرض والماء.

(٣) القنان : جمع قنة ، والقنة قمة الجبل.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : الأمور فيها.

(٥) في (أ) : باتا.

(٦) في (ب) و (ج) و (ه) : يقينا.

(٧) الصراط : جمع صراط.

(٨) والحزون : جمع حزن ما غلظ من الأرض.

(٩) البيدان : جمع بيداء. الصحراء.

الرواسخ ، إلا بقوة أيد من قوي شديد ، وتدبير رشيد (١) من عزيز حميد ، لا يؤده حفظ شيء ولا صنعه ، ولا يمتنع منه قوي وإن عز تمنّعه (٢) ، ذلك الله العزيز الأقوى ، ومن لا يماثل في شيء ولا يساوى ، فيصعب عليه ما يصعب على الأمثال ، من صنع فجاج رواسي الجبال ، وما جعل فيها من السبل المسهلة ، وما منّ به في ذلك من النعم المفضلة ، التي لا يمن بمثلها مآنّ (٣) ، ولا يحتملها سوى إحسان الله إحسان ، ولا يدعي المنة فيها مع الله أحد ، ولا يقوم بها سوى مجد الله مجد.

ومن ينكر إلا بمكابرة لنفسه ، أو إكذاب لحقائق درك حسه ، أن السماء جعلت كما قال الله سبحانه : (سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢]. وقد يعاين سمكها عيان عين مرفوعا ، وآياتها من نجومها دائبة غروبا وطلوعا ، ونرى السماء كما قال الله سبحانه محفوظة في مكانها ثابتة غير زائلة ، ونرى الشمس والقمر وغيرهما من نجومها مقيمة على هيئة واحدة غير حائلة ، ونعلم يقينا ، ونوقن تبيينا (٤) ، أنه مستنكر مدفوع ، ومقبح في اللب مشنوع ، أن يتوهّم حفظ مثل (٥) ما ذكرنا ، ودوام ما قد عاينا وأبصرنا ، دائما ثابتا مقيما ، ومن البلاء والزوال سليما ، إلا بحافظ عزيز ، وحرز من الحفيظ حريز ، لا تحيط (٦) به الملالات (٧) ، ولا تلتبس به الغفلات ، ذلك الله العزيز الحكيم ، المقتدر العليم ، ومن يشك فيما قال الله من إعراض الناس عن آيات السماء ، وهم بكل ما فيها من آياتها أجهل الجهلاء ، لا يعتبرون من عبرها (٨) بظاهر مقيم ، لا ولا بسائر دائب مديم ، لا يني في مسيره ولا يفتر ، يخفى في مسيره مرة ويظهر ، مدبر لما (٩) يحث حثا ، لا يحتمل

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : وتدبير رشيد.

(٢) في (أ) : بمنعة.

(٣) في (أ) و (ه) : منان.

(٤) في (أ) : بتا.

(٥) سقط من (أ) و (ه) : مثل.

(٦) في (أ) و (د) و (ه) : تختلط.

(٧) الملالات : جمع ملالة ، وهي السئم.

(٨) في (ب) و (ج) : غيرها.

(٩) في (ب) : بما. وسقط من : (أ) و (د) و (ه).

غفلة ولا عبثا ، في رجوع ولا مقام ولا مسير ، ولا في شيء مما له من صنع ولا من تدبير.

ومن تنبيهه أيضا قوله تبارك وتعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٢٠) [الغاشية : ١٧ ـ ٢٠]. فخلق الإبل الذي هو صنعها (١) فيه موجود ، ورفع السماء معها معاين مشهود ، ونصب الجبال أوتادا ، وسطح الأرض مهادا ، متيقن معلوم ، ومعاين مفهوم ، وهذه كلها فقد ثبتت صنعا ، وثبت كل صنع بدعا ، بما بان فيها ، وشهد عليها ، من دلائل الصنع وتدبيره ، ومعالم البدع وتأثيره.

فأين خالق الإبل وصانعها؟! وممسك السماء ورافعها؟! وناصب الجبال وموتدها؟! وساطح الأرض وممهدها؟! إذ لا بد اضطرارا لكل مصنوع من صانع ، ولكل مرفوع من الأشياء كلها من رافع ، ولكل منصوب موتد من ناصبه وموتده ، ولا بد لكل مسطوح ممهّد (٢) من ساطحه وممهده ، ذلك الله رب العالمين ، وصانع الصانعين ، الذي جعل الأرض والإبل والجبال صنعا له مصنوعا ، والسماء سقفا بحفظه له ثابتا محفوظا مرفوعا.

ومن توقيفه وتفهيمه ، وتنبيهه وتعليمه ، قوله سبحانه : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها)(٣٢) [النازعات: ٢٧ ـ ٣٣]. فلا بد في كل حس وعقل ، لا عند مضرور بخبل (٣) ، لكل بناء ـ غاب أو حضر ـ من بانيه ، ولا بد لكل مرفوع ومسوّى من رافعه ومسوّيه ، ولا بد لكل ليل مغطش من مغطشه ، كما لا بد لكل عرش معروش من

__________________

(١) في (ب) : صنعه.

(٢) في (ب) و (ج) : وممهد.

(٣) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) و (ه) : فلا بد في حس ولا عقل ولا عند مضرور بخبل إلا أنه شكّل في (د) على كلمة (لا) في قوله : ولا عقل. وفي نسخة أشار إليها المحقق ب (ص) فلا بد في كل حس وعقل فحذفت الواو من قوله (ولا عند) ليستقيم المعنى.

معرشه ، ولا بد لإخراج الضحى ، من مخرج وإن كان لا يرى ، ولا بد لدحو الأرض من داحيها ، لما تبيّن من شواهد الدحو عليها ، ولا بد لمخرج المرعى والماء من مخرجه ومرعيه ، ولا بد لما أرسي من الجبال من مرسيه ، لما فيها بيّنا من علم كل مرسى ، وإن كان هذا كله يدرك عقلا وحسا ، فلا بد من صانع السماء وبانيها ، ورافع سمكها ومسويها ، ومغطش ليلها ومخرج ضحاها ، ولا بد ممن خلق الأرض ودحاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها ، ومن نصب الجبال وأرساها ، ثمّ لا بدّ إذ (١) لم يوجد ذلك شيئا مما وجد (٢) بالحواس الخمس ، ولا شيئا مما أدرك بالعقول (٣) من كل نفس ، أن يثبت بأثبت الثبت ، وأيقن اليقين البتّ ، أن صانع ذلك كله ، ومن تولى فيه إحكام فعله ، خلاف سبحانه لكل محسوس ، ولكل ما يعقل من النفوس.

[استدلال إبراهيم عليه‌السلام على الله]

ومن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول إبراهيم عليه من الله أفضل الصلاة والسلام(٤) ، فيما دار بينه وبين قومه في الله من الجدال والخصام ، قوله تعالى : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(٥٦) [الأنبياء : ٥٢ ـ ٥٦]. فشهد صلى الله عليه شهادة الحق لله رب العالمين ، ونبههم بشواهد الله ودلائله ، بما قد يرونه رأي عين من صنعه وجعائله.

أو لا يعلم من يعمى ويجهل؟! فضلا عمن يبصر ويعقل ، أن لو كانت ـ هذه

__________________

(١) في (ب) : إذا.

(٢) في (أ) و (ج) : وجدنا.

(٣) في (ب) و (ج) : يدرك بالعقول.

(٤) في المخطوطات : والتسليم. ولعل ما أثبت أصوب لتوافقه مع كلمة (الخصام) بعده.

البدائع والأصول ، وما تدركه منها عيانا العقول ، على ما يقول به فيها الجاهلون أنها كانت وجاءت ، كما أرادت وشاءت ـ لما فضل بعضها أبدا بعضا ، ولما كانت الأرض سفلا وأرضا ، ولما قصر أوضع الأشياء وأدناها ، عن درجة أرفع الأشياء وأعلاها ، ولكانت الأشياء جميعا سواء ، ولما كان بعضها من بعض أقوى ، حتى يكون كلها شيئا واحدا ، وحتى لا يوجد شيء لشيء منها ضدا. وقد يوجد باليقين من تضادها ، ويتبين (١) من صلاحها وفسادها ، لكل حاسة من الحواس الخمس. ومن سلمت له حواسه من جميع الإنس ، فقد يستدل بما يرى فيها من الاختلاف والنقائص ، على أن لها صانعا خصها بما أبان فيها من الاختلاف والخصائص ، بريء تبارك وتعالى من شبهها في النقص والاختلاف ، متعال عما يوجد فيها أو في واحد منها من الأوصاف.

فدل سبحانه على صنعه للأشياء كلها ، بما أبان فيها من تصرف (٢) أحوالها وتنقلها.

واحتج إبراهيم صلى الله عليه (٣) ، عند محاجّته لقومه فيه ، ومنازعته لهم فيما كانوا يعبدون من النجوم معه ، وإنما هي صنع من الله صنعه ، بأفول النجوم التي كانوا يعبدون والكواكب ، ووقفهم على أن كلها صنع الله مغلوب غير غالب ، بما أراهم صلى الله عليه من الأفول فيها والزوال ، وبما أبان عليها من أثر التّبدّل (٤) والانتقال ، وتصرف ما لا ينكرونه فيها من الأحوال ، فلما أراهم أنها من الزائلين ، قال لهم : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦]. يقول صلى الله عليه عند أفول الكواكب : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ). (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(٧٧) [الأنعام : ٧٧]. وكذلك قال : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ). قال الله : (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ

__________________

(١) في (أ) : ويبين.

(٢) في (ب) و (ج) : تصريف.

(٣) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : عليه‌السلام. وفي هامش (ه) : صلى الله عليه ، وهو الأوفق لنسق الكلام.

(٤) في (ب) و (ج) : التبديل.

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٧٩) [الأنعام : ٧٨ ـ ٧٩].

والفاطر هو : المبتدئ الصانع ، والحنيف هو : المخبت (١) الخاشع ، فاستدل صلوات الله عليه بدلائل الله من سماواته وأرضه ، على أن الله صانع لذلك كله لا لبعضه ، وتبرأ صلى الله عليه من شرك كل من أشرك ، إذ رأى كل نجم منها إنما يسلك كما أسلك ، بما رآه بيّنا في جميعها ، من تدبير بديعها ، في الجيئة والطلوع ، والذلة الخشوع ، وعلم أنّه لا يكون ما رأى منها عيانا ، وأدركه فيها إيقانا ، من الطلعة والأفول ، إلا من مصرف ناقل غير منقول ، فقال صلى الله عليه : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الذين أشركوا بين المالك والمملوكين ، تجاهلا بما يعلمون ، ومكابرة لما يرون ، من التزايل والفرق ، بين الخالق والخلق ، والمبتدع والبدائع ، والصانع الصنائع.

وفي الدلالة على الله بدلائله ، وبما جعله دليلا عليه من جعائله ، ما يقول لهم صلى الله عليه ، فيما كانوا من الشرك فيه : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢) [الشعراء : ٧٥ ـ ٨٢]. فلما رأى صلى الله عليه ما رأى من عالم ومعلوم ، وكل ما أدركه وهم من الوهوم ، ملكا مربوبا ، وصنعا مغلوبا ، قال صلى الله عليه : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ). الذي هو رب السموات كلها والأرضين.

ثمّ ابتدأ احتجاجا عليهم لله في معرفته ، بما لا يوجد سبيل إلى دفعه من صفته ، وما بان الله به من خصائص الأنعات ، التي لا توجد إلا فيما له من الصفات. قال صلى الله عليه : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢). فهو الله الخالق الذي لا خالق سواه ، والهادي الذي لا يشبه هدى هداه ، والمطعم الساقي الذي لا يطعم ولا يشرب إلا من أطعمه وسقاه ،

__________________

(١) المخبت : المطمئن المتواضع.

والشافي من كل سقم الذي لا يشفى من سقم أبدا إلا من كشف عنه سقمه فشفاه ، والمميت المحيي الذي لا يموت أبدا ولا يحيا إلا من أماته وأحياه ، والغافر الذي لا يظفر بالمغفرة إلا من وهبها إياه ، لا تؤخذ المغفرة منه كرها ولا قسرا ، ولا ينالها إلا من كان الله (١) له مغتفرا.

ألا تسمع كيف يقول صلى الله عليه : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢). ويوم الدين ففيه يغفر الله لمن يشاء أن يغفر له من المذنبين ، فاستدل صلوات الله عليه ودل بما عدد من هذا كله على رب العالمين ، وليس مما دل به صلى الله عليه من دليل صغير ولا كبير ، يدل أبدا مستدلا إلا على الله العلي الكبير ، فذكر إبراهيم عليه‌السلام مننا من الله لا يمنّ بها مآنّ ، وإحسانا من الله لا يمثّل به إحسان ، منها خلقه لأعضاء الانسان السليمة الظاهرة القوى ، التي ليس فيها لمدع من الأولين والآخرين دعوى ، والتي كلهم جميعا في الحاجة إليها سواء ، وكيف يصح في ذلك لمدع شيء لو ادعاه؟! وهو لا يقدر على أن يزيد (٢) مثقال ذرة في شيء من خلقه ولا قواه ، فكيف يعطي معط شيئا من ذلك أحدا سواه؟!

فهذا والحجة البالغة لله فما لا يمكن فيه الكيف ، ولا يتوهمه بصحة من الدعوى قوي من الخلق ولا ضعيف ، والحمد لله على ما أبان من برهانه وحجته (٣) ، لإبراهيم صلى الله عليه في محاجّته. وفي ذلك ما يقول سبحانه فيه ، لإبراهيم صلى الله عليه : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣) [الأنعام : ٨٣]. وما ذكر صلى الله عليه من فعله به في المطعم والمشرب ، المشفي من المرض والوصب ، والموت والحياة ، والمغفرة للخطيئة والإساءة ، فما لا يدعيه مدع ولا يدّعى له أبدا بصدق ولا كذب ، ولا يوجد ما يرى من صنعه وتدبيره أبدا إلا للرب ، كما لا يرى صنع الأرض والسماوات ، وما بينهما من الفتوق والفجوات ، من صانع ولا خالق سوى الله ، فكذلك ما ذكر إبراهيم لا يكون إلا من

__________________

(١) سقط من (أ) : الله.

(٢) في (ب) و (ج) : يزداد.

(٣) سقط من (أ) : برهانه.

الله ، فلو لا صنع الله سبحانه للسماء ، لما ارتوى أهل الأرض من الماء ، ولو لا ما صنع الله منها ومن الأرض والهواء ، لما اغتذى أحد أبدا ولا ارتوى ، ولخفت كل مغتذ مواتا ، ولمات إذا لم يغتذ خفاتا ، فاحتج إبراهيم صلى الله عليه في الدعاء إلى الله من صنعه وخلقه ، ورزقه وغير رزقه ، بما لم تزل أنبياء الله عليهم‌السلام قبله وبعده ، تحتج به لله على كل من أنكره وجحده.

[استدلال نوح عليه‌السلام على الله]

فممّن (١) كان قبله ممن وهبه الله رسالته ، ودل على معرفة الله دلالته ، نوح صلى الله عليه ، إذ يقول لقومه فيما يدعوهم إليه ، من عبادة الله ومعرفته ، ويدلهم عليه بالخلق والصنع من صفته : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠) [نوح : ١٣ ـ ٢٠]. فأبان لهم صلى الله عليه فيما عدد كله أثر صنع الله برهانا واحتجاجا ، بخلقه لهم في أنفسهم أطوارا ، يريد بالأطوار طبقات ومرارا ، مرة من تراب وطين ، وطورا من ماء مهين ، ومرة مضغة وطورا علقة ، يصرّفهم سبحانه خلقة بعد خلقة ، ثمّ خلق الانسان عظاما ، ثمّ كسا العظام لحما ، ثمّ أنشأها خلقا آخر بشرا ، قد جعل له سمعا وفؤادا وبصرا ، كما قال سبحانه : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤) [الملك : ٢٣ ـ ٢٤]. ومعنى ذرأكم : فهو كثّركم وأنماكم ، وكذلك فعل رب العالمين ، كما قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

__________________

(١) في (أ) و (ب) : فمن.

[استدلال يوسف عليه‌السلام على الله]

ومن دلائل من كان بعده من رسل الله وأنبيائه ، الذين جعلهم من ذرية إبراهيم عليهم‌السلام وأبنائه. قول يوسف صلى الله عليه ، لصاحبي السجن اللذين كانا معه فيه ، وهو يدلهما على ما تفرد الله به من الربوبية ، وما هو له لا لغيره سبحانه من الوحدانية : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [يوسف : ٣٩ ـ ٤٠]. يقول صلى الله عليه أأرباب (١) الربوبية بينهم ، ليست بخالصة لواحد منهم؟! خير في الربوبية أمرا ، وأعلى في الفضيلة قدرا ، أم (٢) تكون الربوبية لواحد خاصة ، ولرب لا لربين اثنين خالصة؟! فمن يمتنع من الأصحاء ، سمع أو لم يسمع من النصحاء ، أن الربوبية لرب واحد أفضل فضلا ، وفي رب واحد أكمل منها في اثنين وبين ربين وأعلى؟! لأنها لو كانت لاثنين كان كل واحد من الربين منقوصا ، وكل إله من الإلهين بالنقص مخصوصا ، فإن كانوا وهم أكثر عددا ، كان كل واحد منهم أنقص أبدا.

فكيف يكون المنقوص إلها أو يثبت ربا؟! وأين الأعلى من الأشياء كلها قدرا ممن له أضداد وأكفاء؟! وربنا فمعلوم في الألباب غير مجهول ، وثابت لا يدفع في العقول ، لأن (٣) كل اثنين فبينهما تباين لا يخفى في الأحوال ، يبين به أحدهما على صاحبه في الفضل والكمال ، وأن أفضلهما أبدا أحوالا ، وأكملهما في الفضل كمالا ، أولاهما (٤) بالأثرة والتقدمة ، وأحقهما بالطاعة والتكرمة. وإذا كان ذلك ، موجودا في العقل كذلك ، لم تصح الربوبية أبدا إلا لرب واحد ، وثبتت الحجة في التوحيد وإثبات الإلهية لله على كل ملحد ، وانقطع بين الموحّد والملحد في ذلك كله التشاغب ، وذهب ـ بصدق الحجة لله في ذلك كله ـ التكاذب ، ونفي الحق من الباطل وتبرأ ، فلم يعم

__________________

(١) في (ب) : أرباب.

(٢) في (أ) و (د) و (ه) : أو.

(٣) في (ب) و (ج) : أن.

(٤) في المخطوطات : وأولاهما. والصواب حذف الواو لأن (أولاهما) خبر أن.

عنه إلا من لا يبصر ولا يرى ، فلا (١) يجيب إلى الحقائق لله داعيا ، ولا يسمع بالدعاء إلى الله مناديا ، كما قال سبحانه : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١٩٨) [الأعراف : ١٩٨].

[استدلال موسى وهارون عليهما‌السلام على الله]

ومن مقاول رسل الله بعد يوسف صلى الله عليه وعليهم ، واحتجاجهم لله على عباده بدلائله فيهم ، قول موسى وهارون ، إذ أرسلهما الله إلى فرعون : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦]. فقال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣]. قال موسى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)(٢٤) [الشعراء : ٢٤]. يقول صلى الله عليه إن كنتم ممن يوقن في غيب بيقين ، أو يستدل فيما غاب عنه بدليل مبين ، استدلال ذوي العقول والألباب ، على ما غاب عن أبصارهم بتوار واحتجاب. وإنما يدرك ما غاب من الأمور بالفكر واليقين ، ويدرك ما حضر منها بالحواس من العين أو غير العين ، وذلك فإنما هو درك البهائم الخرس ، التي لا تدرك شيئا إلا بحاسة من الحواس الخمس ، ولا توقن أبدا بغائب غاب عنها ، ولا تدرك إلا ما كان شاهدا قريبا منها ، فأما أهل الألباب والعقول ، فيستدلون موقنين على الجاعل بالمجعول ، وعلى الغائب المتواري الخفي ، بالحاضر الظاهر الجلي.

وكل ما عظم من الدلائل وازداد عظما ، ازداد به موقنوه يقينا وعلما ، فلما كانت السماوات والأرضون ، أعظم ما يرون من الدلائل ويبصرون ، دلهم بهما على ربهما ، وأخبرهم أنهم إن لم يوقنوه بهما ، لم يوقنوه بغيرهما ، لما فيهما من دلائل اليقين بصنعه وتدبيره(٢) ، ف (قالَ) ـ فرعون ـ (لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)(٢٥) [الشعراء : ٢٥]. فسألوا موسى كما سأله الملعون ، وارتابوا في قوله كما ارتاب فرعون ، فقال موسى صلى الله عليه لهم : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)(٢٦) [الشعراء : ٢٦]. فأخبرهم أن

__________________

(١) في (أ) و (ه) : ولا.

(٢) لعل هنا سقطا.

كلهم وكل من كان قبلهم عبد لله مربوب ، إذ كلهم وكل من كان مثلهم (١) مصرف مقهور مغلوب ، يسقم ويفنى ويموت ، ويحل به السقم والموت ، فقال لهم فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٢٧) [الشعراء : ٢٧]. فقال لهم موسى صلى الله عليه إذ عاودوا يسألون : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(٢٨) [الشعراء: ٢٨]. فقررهم صلى الله عليه من ذلك بما لا ينكرون ، إن كانوا يوقنون بغائب أو يعقلون ، ودلّهم على الله سبحانه بدليل مبين ، فيه لمن أيقن أدل الدلائل وأيقن اليقين.

وكذلك قال الله سبحانه للقوم (٢) الذين لا يعلمون ، إذ سألوا من رؤيته ما لا يمكن ولا يكون ، إذ يقول سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨) [البقرة : ١١٨]. فأخبر سبحانه أن بيانه إنما هو للذين يعقلون ، ويوقنون من الغيب بما لا يرون ولا يبصرون ، فأما أشباه البهائم الذين لا يعلمون ، إلا ما يرون ويبصرون ، فإن الله سبحانه انتفى من البيان لهم ، وتبرأ من ذلك إليهم (٣) ، وذلك فمما يدل على علم الله وحكمته ، ولطيف خبره بأحوال بريته.

ومن ذلك قوله سبحانه لكفرة قريش والعرب ، ولمن كان معهم من كل ذي لسان معرب : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) * قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ٩ ـ ١٠]. الذي يستدل عليه منهما بكل شيء فيهما من كل أو بعض ، فقالت رسلهم في ذلك لهم ، ما قالت الرسل لأممهم قبلهم ، واحتجوا لله عليهم ، بمثل حجج نوح وإبراهيم

__________________

(١) في (أ) : إن كلهم وكل ما كان قبلهم. وكان هذه هي التامة. وفي (أ) و (ه) : قبلهم.

(٢) في (أ) : في القوم.

(٣) سقط من (أ) و (ه) : من ذلك إليهم.

فيهم ، ودلّوهم على الله بدلائله ، من فطره (١) صنعه وفعائله ، وتعجّبوا من شكهم!! وما هم فيه من شركهم!! مع ما يرون من الدلائل في السماء والأرض ويبصرون ، مما يوقن بأقله فيما غاب عنهم الموقنون.

[استدلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الله]

ومن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى الطيبين من آله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)(٢٠) [إبراهيم : ١٩ ـ ٢٠] ، فنبه سبحانه في ذلك من دلائله على ما فيه لمن اعتصم به من الشك فيه أحرز الحرز الحريز. ثمّ قال سبحانه في هذه السورة ، تكريرا بحججه (٢) المنيرة : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤) [إبراهيم : ٣٢ ـ ٣٤]. يقول سبحانه الذي خلق ذلك كله وصنعه ، لا صانع فيه غيره ولا صانع له معه ، فذلك كله وإن كابروا فما لن يدّعوه ، وإن لم يأتهم فيه قصص الله ولم يسمعوه ، كما قال تبارك وتعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١) [لقمان : ١٠ ـ ١١]. فصدق الله لا شريك له ، في أن من لم يعرف هذا كله ، صنعا له وخلقا ، وحقا يقينا صدقا ، فهو في أبين الضلال ، وأخبل صاغر الخبال ، والحمد لله كثيرا رب العالمين ، على ما أبان من حججه على الملحدين.

__________________

(١) أي : خلقه.

(٢) في (أ) : بالحجة. وفي (ب) و (ج) : للحجة.

فكيف ـ يا ويله ـ يلحد ملحد؟! أو يهن أو يضعف لله موحّد؟! ودرك السماوات والأرض وما بينهما من الخلق بالعيان ، والعلم بالله سبحانه فمدرك بأوضح من ذلك من العلم والايقان ، واليقين بالله فما لا يشاركه ولا يختلط به أبدا شك ، وعلم الأبصار والعيان والحواس فعلم بين الانسان والبهائم مشترك ، وقد تعلم البهائم وتدرك بما جعل الله لها من حواسها من السمع والبصر ، كل ما يدرك مدرك بالحواس من جميع البشر.

وكيف ـ ويلهم ـ يرتابون أو يلحدون؟! أو يعتقدون من الشك في الله والشرك بالله ما يعتقدون؟! والله يقول جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) [السجدة : ٤ ـ ٥]. والولي فهو النصير المانع ، والشفيع فهو الطالب الشافع.

فأخبر سبحانه أن تدبيره وصنعه من العرش لما بعد عنهم ، كتدبيره وصنعه لما قرب في الأرض منهم ، وأن بعد ما بين العرش ـ وهو ذرى السماوات العلى ـ وبين ما تحتهن مما ترى أعينهم من الأرض الأولى ، مقدار ألف سنة كاملة مما يعدون ، وأن الأشياء كلها لا تبعد عنه كما يستبعدون ، وكيف يبعد عليه (١) سبحانه من الأشياء شيء ، وإنما ينشئ منها ما ينشئ ، إذا أراد له إبداء أو إعادة (٢) ، بأن يريده سبحانه إرادة بعد إرادة ، كما قال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠) [النحل : ٤٠].

وكيف يشك ملحد في صنع الله للأشياء كلها ، أو في ما يرى من دقّ الأشياء أو جلها؟! وقد يرى كيف أحكمت فاستحكمت ، وانقادت للصنعة فتقوّمت ، وذلّت على ما فطرت (٣) ، واضطرت كما اضطرت ، فكلها مصرّف مضرور ، وجميعها بدع

__________________

(١) في (أ) : عنه.

(٢) في (ب) و (ج) : وإعادة.

(٣) في (ب) و (ج) : على ما فطرت عليه.

مفطور ، لا يمتنع من القهر والذلة والخشوع ، ولا عن ما أبان الله فيه من أثر صنعة كل مصنوع ، لا ينظر منه ناظر إلى طرف ، ولا يلتفت إلى كنف (١) ، إلّا وجد أثر الصنع فيه واضحا بيّنا ، ووجده بصنع الله له مخبرا مبيّنا.

ولما ثبت اضطرارا بما لا تدفعه العقول مما لا مرية فيه ، وبما جميع العقول كلها مجمعة عليه ، أن لكل ما يرى أو يسمع أو يشم ، أو يذاق أو يلمس أو يتخيل فيتوهم ، مدبرا لا يخفى تدبيره ، ومؤثّرا بيّنا ـ لكل ذي (٢) عقل ـ تأثيره ، ثبت وجود (٣) خلاف المدبّر مدبّرا غير مدبّر ، ووجود (٤) خلاف المؤثّر مؤثّرا غير مؤثّر ، لا يمكن غير ذلك علما ، ولا يتخيل خلاف لذلك فهما ، لأنّه لما كان ما وجد من الأشياء كلها مدبّرا وصنعا ، وخلقا مفتطرا بدعا (٥) ، احتيج إلى علم مدبره ومفتطره ، وثبت يقينا وجود المفتطر المدبّر بما وجد من تدبيره ومفتطره ، فلا بد كيفما كان النظر في ذلك فارتفع أو لم يرتفع ، من أن يثبت مدبر صانع لم يدبّر ولم يصنع ، وذلك فما لا يوجد أبدا غير الله جل ثناؤه ، وتقدست بكل بركة أسماؤه ، فهو الله الصانع غير المصنوع ، والأول المبتدع غير المبدوع.

ولما كان ـ كل عزيز من ذلّ ، إنما يعز في بعض لا في كل ، كان العز كلا وبعضا ، ولم يوجد العز كله لواحد محضا ـ أيقنّا أن بعض العز مملوك لمليك ، وأيقنا أن كل العز لمالك غير ذي شريك ، لأنه لو كان له فيه شريك ، أو له معه مليك ، لكان إنما له ، بعضه لا كله ، فرجعنا إلى الخطة الأولى ، وعاد العز ذلا ، إذ كان مشاركا فيه ، لأنه إنما له أحد شطريه ، وذلك يرده إلى أن يكون عزيزا ذليلا ، وأن يكون ما يستكثر (٦) من عزه قليلا ، لأن نصف العز أقل من ضعفه ، وضعف العز أكثر من نصفه ، وما ملك غيره من أحد شطري العز ، فليس له بملك ولا عز معز ، ولكنه لمالكه دونه ، ليس له شيء

__________________

(١) أي : جانب.

(٢) سقط من (أ) : ذي.

(٣) في (أ) : وجوده.

(٤) في (أ) : ووجد.

(٥) سقط من (أ) : بدعا.

(٦) في (أ) و (ه) : يستكثره.

منه ، فكلاهما ذليل وإن عز ، وغير محرز من العز إلا لما أحرز ، وجميعهما قليل عزّه ، إذ لم يملك العز كله فيحرزه ، فليس العزيز الذي لا يذل ، إلا من له العز الذي لا يقل ، بأن تشاركه فيه الشركاء ، أو أن تتقسمه بملكها له الملكاء ، وذلك فهو الله العزيز الأعلى ، يهب لمن يشاء عزا ويذل من يشاء إذلالا ، (بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك : ١] ، كما قال سبحانه : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨]. مع ما في القرآن من هذا ومثله ، مما يكثر عن أن يحيط كتابنا هذا بتفسيره أو جمله.

[تنزه الله عن شبه الخلق]

فأما دلائله لنا سبحانه على أنه خلاف للأشياء ، ولكل ما يعقل في جميعها من العجزة والأقوياء ، فقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وما ليس كمثله شيء ، فهو خلاف لكل شيء ، وقوله سبحانه في سورة التوحيد والإفراد ، بعد تنزهه فيها سبحانه عن الوالد والأولاد : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) [الإخلاص : ٤]. ومن لم يكن له كفوا أحد ، فهو خلاف لكل أحد ، وما كان خلافا للآحاد كلها ، كان خلافا اضطرارا لأصلها ، لان الأصل في نفسه وتحداده ، فهو غير شك جميع آحاده ، فالله سبحانه هو خلاف الآحاد المعدودة ، وجميع ما يعقل من الأصول الموجودة (١) ، وهو الله الصمد الحق الذي ليس من ورائه مصمد (٢) يصمد إليه صامد ، والله الملك القدوس الذي ليس من ورائه ملك ولا قدوس يجده واجد ، والله الأول قبل الأوائل المتقدمة (٣) ، والعظيم قبل جميع الأشياء المعظمة ، فليس قبله أول موجود ، ولا بعده معظّم معمود ، ومن وراء كل عظيم عظيم ، حتى ينتهي إلى الله الذي ليس من ورائه عظيم ، وفوق كل ذي علم عليم ، حتى ينتهي إلى الله الذي

__________________

(١) في (ب) و (ج) : المحدودة.

(٢) في (ب) و (ج) : صمد.

(٣) في (ب) و (ج) : المقدمة.

ليس فوقه عليم ، والصمد فهو النهاية القصوى في الوجود ، وفيما يرغب إليه (١) فيه في الآخرة والدنيا من كل محمود ، والأحد فما ليس له قبل ولا بعد يفترقان فيه ، وما لا تجري مدد الدهور والأزمان عليه ، لأنه إن افترق فيه القبل والبعد ، زال من صفة الأحد والصمد ، إذ هما فيه اضطرارا مفترقان ، فهما عليه بالمقارنة لا شك متداولان ، لا خلوة له من أحدهما ، يجري عليه من المقارنة ما يجري عليهما من حدهما ، ويزول عنه من الوحدانية ما زال عنهما ، ولا يتوهّم أبدا خاليا منهما.

وكذلك ما جرت عليه مدد الأزمان والدهور ، غيّرته (٢) تغييرها لغيره من الأمور ، كما قال الله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) [الحديد : ٣]. فأوّليّته سبحانه آخريته ، وباطنيته ظاهريته ، لا يختلف من ذلك ما وصف به ، كما لا يختلف سبحانه في نفسه.

وكذلك أسماؤه كلها الحسنى ، وأمثاله كلها العلى ، فأسماء (٣) لا تتناهى مرسلة مطلقة(٤) ، مجتمعة كلها فيه سبحانه لا مفترقة ، ليس لاسم منها حد محظور ، ولا لمثل منها حصار محصور ، فيكون الحد حينئذ للمحدود ثانيا ، وما حضر (٥) بالحد من المحدود متناهيا ، ولكنه كما قال سبحانه : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] ، ولا لن يوجد له سمي إذ لا تجد الألباب له كفيا ، كقوله تبارك وتعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [الروم : ٢٧] ، وكذلك هو سبحانه إذ لا تجد له الألباب مثلا ، وما قلنا به في هذا من دلالة التفاضل ، فموجود والحمد لله لا ينكره عقل عاقل ، ومضطرة الألباب إلى علمه لا يدفعه إلا متجاهل ، مع ما لا نأتي عليه وإن بلغ (٦)

__________________

(١) في (أ) و (ب) : وفيما يرغّب الله فيه.

(٢) في (ب) و (ج) : وغيرته.

(٣) في (د) و (ه) : فاسماءه أسماء. وفي (أ) : فاسماءه لا تتناهى.

(٤) يؤخذ للإمام من هذا أنه يرى جواز إطلاق أسماء على الله ، وإن لم يرد بها أذن من الشرع ما دامت تفيد مدحا وتعظيما.

(٥) في (أ) : وما حظر.

(٦) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) و (ه) : ما لا يأتي عليه وإن بولغ.

تعديدنا ، ولا نستقصيه (١) وإن جهد تحديدنا ، من لطيف شواهد معرفة الله سبحانه وجلائلها ، وما جعل الله من شواهد المعرفة به (٢) ودلائلها.

وكفى بما ذكرنا لمعرفة الله عزوجل علما منيفا شامخا ، وعلما بالله يقينا في النفوس ثابتا راسخا ، لا يدفعه إلا بمكابرة للعقول ملحد ، ولا يصدف (٣) عن الاقرار به إلا معاند ملد(٤) ، والحمد لله الذي لا يهتدي للخير أبدا إلا من هداه ، ولا يصيب الرشد إلا من آتاه إياه ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١)) [الأنبياء: ٥١]. وقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)) [الأنعام : ٧٥].

[الايمان قول وعمل واعتقاد]

فقلب الإيمان من كل عصيان اليقين بالله وبعلمه (٥) ، وإبراء الضمائر من توهّمه ، فإنه لا تجول أوهام المتوهّم ، إلا في كل ذي صورة وتجسّم ، ومن توهم الله جسما ، فلم يصب بالله علما ، ولم يقارب من اليقين بالله شيئا ، ولذلك كان حشو (٦) هذه العامة من اليقين بالله براء ، ولما التبس بقلوبهم وأنفسهم من ذلك واعتقاده ، اقتادهم وليّهم إبليس بالمعصية في قياده ، فحثوا له بالعصيان لله سراعا عنقا (٧) ، وآثروا رضاه على رضى الله إذ لم يؤمنوا (٨) به فسقا ، فبدلوا معالم أموره ، وعموا عن ضياء نوره ، ثمّ لم

__________________

(١) في (أ) و (ه) : ولا يستقصيه.

(٢) سقط من (ب) و (ج) : به.

(٣) أي : يعرض ويميل.

(٤) المتمادي في اللجاجة.

(٥) في (أ) : وعلمه. وفي (د) : وتعليمه.

(٦) الحشوية : طائفة جبرية مشبهة ، وسميت حشوية : لحشوهم الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. الحور العين / ٢٥٨.

(٧) نوع من السير السريع.

(٨) في (ب) و (ج) : يوقنوا.

يزدادوا في العمى عن الله إلا تماديا ، ولم يجيبوا له إلى الهدى من الهادين إلى الله داعيا ، وعدوا إساءتهم فيما بينهم وبين الله إحسانا ، وكفرهم بالله ورسله وكتبه إيمانا ، وجعلوا لله مثل السوء ولهم المثل الأعلى ، فتبارك الله عما قالوا به عليه وتعالى ، ونسبوا إلى الله سبحانه جور الحكم ، وبرءوا أنفسهم من الجور والظلم ، وهم بما نسبوا إليه سبحانه من الجور والظلم أولى ، وله سبحانه لا لهم المثل الأعلى ، ومثل السوء فلهم كما قال سبحانه : وهم كاذبون ، (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) [النحل : ٦٢]. وقال سبحانه : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)) [النحل : ٦٠].

ولعمري ما آمن بالآخرة مصدقا ، ولا وجد لما حقق الله منها محققا ، من أكذب وعدها ووعيدها ، وأنكر من جزاء المحسن والمسيء عتيدها (١) ، والله يقول سبحانه : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٤) [يونس : ٤].

ويقول سبحانه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(٣١) [النجم : ٢٩ ـ ٣١].

ويقول سبحانه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)) [النساء : ١٢٣ ـ ١٢٤].

ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) العتيد : المعد الحاضر.

كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠)) [النساء : ٢٩ ـ ٣٠].

ويقول سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)) [الكهف : ٢٩]. وعدا من الله ووعيدا ، وجزاء من الله للفريقين عتيدا ، لا تكون الآخرة أبدا إلا وهو معها ، ومن أنكره ودفعه أنكر الآخرة اضطرارا ودفعها ، وله جعلت الآخرة وثبتت ، وثبت باقيا معها أبدا ما بقيت ، ولو أمكن فناؤه لأمكن فناؤها ، وما بقيت الآخرة بقي معها جزاؤها ، فبقاء كلّ بكل معقود ، وكلّ من الله فوعد موعود ، لا يدخله أبدا كذب ولا خلف ، ولا يزول من أوصاف الله فيه بصدق الوعد وصف.

ولا أكفر بالآخرة وأمرها ، وما ذكر الله من بعث الأمم وحشرها ، ممن زعم أن الله يحكم يومئذ فيها بغير العدل ، فيقضي (١) بين أهلها فيها بغير قضاء الفصل ، فيعذب من عذب فيها ، بأمور هو حمل المعذّب عليها ، حتى لم يجد من ارتكابها بدا ، ولا عما ارتكب منها مصدا ، وإن عمل (٢) ما شاء الله فيها وارتضى ، وحكم الله به منها وقضى ، عذّب بألوان العذاب ، وعوقب (٣) بأشد العقاب.

فوصفوا الله بإخلاف الميعاد ، ونسبوا إليه ما تبرأ منه من ظلم العباد ، فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)) [النساء : ٤٠]. وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)) [يونس : ٤٤]. وقال تبارك وتعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ١٦]. وقال سبحانه فيما قالوا به عليه من إخلافه في الوعد والوعيد : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢]. وقال سبحانه : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ

__________________

(١) في (أ) و (د) و (ه) : ويقضي.

(٢) في (ب) : وأنه على. وفي (ج) و (د) : وإن عملا. وفي (ه) : وإن علا.

(٣) في (ب) و (ج) و (د) و (ه) : عاقب.

الْمِيعادَ (٢٠)) [الزمر : ٢٠]. وقال تبارك وتعالى في حكمه يوم القيامة بين الخلق بعدله ، وقضائه يومئذ بين العباد بعدل فصله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)) [غافر : ١٧ ـ ٢٠]. وقال سبحانه : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)) [المرسلات : ٣٨ ـ ٣٩]. يقول تبارك وتعالى هذا (١) يوم القضاء بالعدل الذي كنتم به تكذبون : (* احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٢٥) [الصافات : ٢٢ ـ ٢٥]. فلعدله سبحانه في الحكم ، وتعاليه عن كل ظلم ، وقّفوا فعرّفوا ، وبعد المسألة (٢) صرفوا ، إلى ما استحقوا من الجحيم ، واستوجبوا من العذاب الأليم.

فاستقبل حشو هذه (٣) العامة ما بيّن الله من هذا كله بجحده ، وجاهروا الله وأولياءه علانية برده ، فكلما دعاهم المهتدون ليهتدوا ، استكبروا عن الهدى وصدوا ، وكلما ذكروهم بالله ليذكروا ، أعرضوا عن تذكيرهم بالله وفروا ، فكلهم مصرّ مستكبر ، مولّ عن الهدى مدبر ، كأنهم في ذلك بفعلهم ، وما أصروا عليه من جهلهم ، قوم نوح إذ يقول فيهم ، صلى الله عليه لا عليهم : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧)) [نوح : ٥ ـ ٧]. فكلهم عدو للصادقين على الله (٤) مكذب ، وفؤاد كل امرئ منهم

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : هذا.

(٢) في (أ) و (ج) و (د) : المسألة ما صرفوا.

(٣) سقط من (أ) و (د) و (ه) : هذه.

(٤) في (أ) : عدو الصادقين. وفي (ه) : عدوا للصادقين. وسقط من (ب) : على الله.

عن الايمان بالحق منقلب ، وذلك إذ لم يؤمنوا به أول مرة ، وكانوا به إذ سمعوه عند الله من الكفرة ، ألم تسمع إلى قوله سبحانه : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) * وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) [الأنعام : ١١٠ ـ ١١١]. فقوله سبحانه (يَشاءَ) إنما هو خبر عن قدرته عليهم ، وقوة سلطانه تبارك وتعالى فيهم ، ولو أنه شاء لمنعهم من المعصية فكانوا (١) به مؤمنين ، إذ كان الإيمان عندنا إنما هو أمان من عصيان العاصين ، ومن منعه الله من المعصية جبرا فمأمون عصيانه ، وإذن كان الاحسان في ذلك المنع إحسان الله لا إحسانه ، وكان فيما منع منه من المعصية غير مطيع لله ، ولا مستوجب لثواب من الله ، إذ منع من المعصية بجبر ، وحمل على الإيمان منه (٢) بقسر.

[أول الواجبات معرفة الله]

فابتدئ يا بني ـ في طلب فعل الصالحات ، واكتساب الخيرات ، إذا ابتدأت ـ بطلب اليقين بالله ، وحقيقة العلم لله ، فإنك إن تفعل اهتديت لكل بركة وخير ، وظفرت بالحظ الكبير ، وأمنت بإذن الله من العمى ، ورويت بمعرفة الله من الظماء ، وشاركت الملائكة المقربين في عبادتهم ، وازددت مما يمكنك من فعل كل خير مثل زيادتهم (٣) ، وأنّسك يقينك (٤) بالله من كل وحشة مرعبة ، واكتفيت بصحبة الله من كل صاحب وصاحبة ، وخف عليك من عبادة الله عبء الأثقال ، فكنت إماما للصالحين في صالح الأعمال ، فدانت (٥) بالبر أعمالك ، وصدّق قولك في الخير فعالك ،

__________________

(١) في (أ) : وكانوا.

(٢) في (أ) و (د) و (ه) : منها.

(٣) في (أ) : كزيادتهم.

(٤) في (ب) و (ج) : وأنست نفسك.

(٥) في (ب) و (ج) : فدامت.

فكنت إلى الله حبيبا مخبتا ، وكان سمت (١) الصالحين لك سمتا ، ومن والى الله من أوليائه لك وليا (٢) ، وما رضيه من الأشياء عندك رضيا (٣) ، ورأيت السوء حيث كان سوءا ، واتخذت عدو الله عدوا ، وكنت من خاصة الله وخلصانه ، وأهل العلم بالله وإيقانه ، وانفتحت لك بعد اليقين بالله أبواب العلوم ، وكنت في الأرض قيما من قومة الحي القيوم ، فقرّت بالله عينك ، وتزيّد بالله يقينك ، وانشرح بمعرفته صدرك ، و؟ ع؟ بأمره سبحانه أمرك ، فلم تهب ولم تخش غيره ، ولم ترج من الخير إلا خيره ، وعلمت أنّه سبب الخيرات الأول ، وأن بيده الفضل الكبير الأطول ، فأمنت بإذن الله مسكنة الفقراء ، وامتلأت يداك من الغنائم الكبرى ، وكنت على ملوك الدنيا ملكا ، ونجوت بإذن الله من هلكة الهلكى.

ففي طلب اليقين بالله يا بني فادأب ، ومن رجوت عنده على اليقين بالله عونا فقارن (٤) واصحب ، فإنهم ألفاء كلّ رحمة ، وقرناء كل حكمة ، لا يرغب لبيب إلا فيهم ، ولا تنزع نفس حكيم إلا إليهم ، فمن لم يكن منهم فأعرض عنه واتركه ، ومن كان منهم فاشدد به يديك (٥) وامسكه ، فإنه بلغني أن حكيما من الحكماء ، قال لبعض من كان له علم كثير من القدماء : يا هذا لا ترينّ أنك علمت شيئا وإن علمت كل شيء ، ما لم تكن عالما بالله الأول الحي ، الذي هو سبب كل خير كان أو يكون ، والذي تعالى عن أن يلحق به حركة أو سكون. ثمّ قال : يا هذا إني كنت قبل أن أعرف الله أروى وأظمأ بالطباع ، ولما عرفت الله رويت بغير طباع.

نعم روي فشفي بالهدى!! من حرّ الغلّة والصدى (٦)! ولما صار إلى اليقين بالله تبارك وتعالى ، الذي هو سبب الخيرات الأول الأعلى ، غني بالله غنى الأبد ، وصار إلى

__________________

(١) السمت : القصد والمذهب والسير على الطريق.

(٢) أي : وكان من وإلى الله ... إلخ.

(٣) في (ب) و (ج) : مرضيا.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : فقارب.

(٥) في (أ) : به يدك. وفي (ب) و (ج) : يدك به.

(٦) الغلة : شدة العطش. والصدى : العطش.

الغنى الباقي المخلد ، وسكن اضطراب نفسه وقلقها ، إذ علمت يقينا أن الله هو ربها وخالقها.

وبلغني أن حكيما آخر من حكماء الأولين ، كان في أمة تعبد الأصنام من الأمم الخالين ، كان يقول : من أيقن بالله إيقانا نقيا ، لم يزل بالله في عاجل الدنيا ما بقي غنيا ، وأيقن ليقينه بالله بكل حقيقة علم معلومة ، وأدرك ليقينه بالله من العلوم كل ذات سر مكتومة ، فاطلع بما ينوّر الله من قلبه على خفي سرها ، وأمن أن تتعبده الدنيا برقّ مسكنتها وفقرها!.

وبلغني أيضا عن بعض من تقدم وخلا ، من الأمم السالفة الأولى ، أنه كان يقول : لا يشك أحد ولا يمتري ، ممن خلا ولا ممن بقي ، في أن من جهل الصانع كان للعقوبة مستوجبا مستحقا ، نعم ولم يؤمن عندي أن لا يكون ممن يعرف من الحقوق كلها حقا ، إلا معرفة فاسدة مختلطة ، مقصرة عن التحقيق أو مفرطة ، لأن من جهل ما كثرت دلائله وشهوده ، ووجد بمتظاهر الآيات فلم يدفع وجوده ، حريّ حقيق ، وجدير خليق ، أن يكون بكل شيء جاهلا ، وأن لا يعتقد من علم شيء طائلا.

أما رأيت العامة لما (١) هي فيه من الجهل بالله الأعلى ، إذ جهلت ما قلنا مما كثر الله على معرفته الأدلاء ، كيف قلّت بحقائق الأمور علومها ، وضلّت بعد جهلها بمعرفته حلومها(٢) ، فقالت في دينها بكل قول متناقض مذموم ، لا يصح لفحش تناقضه في الألباب ولا الحلوم ، فهي فيه دائبة تخبط كل عشوى (٣) ، وصادة عن سبيل كل تقوى ، ترى معتقد باطلها فيه حقا ، وزور قولها فيه على الله صدقا ، وقبيحها فيه حسنا جميلا ، وجهلها به علما جليلا.

فمن جهل الله تبارك وتعالى ، فلن يدرك بحقيقة من الأشياء إلا شبها أو خيالا ، ولن

__________________

(١) سميت العامة : عامة لالتزامهم بالعموم. الذي اجتمع عليه أهل الخصوص ، وهم الذين يقولون بالأصول ، ولا يعرفون شيئا من الفروع ، ويقرون بالله ، وبرسوله ، وكتابه ، وما جاء به رسوله على الجملة ، ولا يدخلون في شيء من الاختلاف. الحور العين ٢٥٨. وفي (أ) و (د) و (ه) : بما.

(٢) عقولها.

(٣) في (ه) : تخبط خبط عشوى. والعشوى : الناقة التي لا تبصر أمامها.

يزال متحيرا في الأمور خبّاطا ، ومقصرا في حقائق العلوم أو مفراطا (١) ، لا يقرّ به قرار علم فيسكن ، ولا يذل لمحق في حجته (٢) فيذعن ، ولا يزال مفتريا على المحقين كذبا ، ومدعيا من الباطل دعوى عجابا ، ليس لها من الله سبحانه تصديق ، ولا يشهد لها في الألباب من برهان تحقيق ، وإن كانت في نفس مدعيها ذات حقيقة وبرهان ، فإنها في حقائق الأمور كسراب القيعان ، كما قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) [النور : ٣٩ ـ ٤٠]. انظر كيف يمثله لإغفاله ، فيما يراه حقا من باطله بأمثاله ، من ذوي الظمإ ، وبمن ينظر في الظلماء ، فلا يرى يده ولا يكاد ، فكيف يقود أو ينقاد له في الظلماء منقاد ، إلا أن يكون مثله عميا ، لا يرى لعمى قلبه شيا ، فهو ينقاد في ظلمة وعشوى ، لمن لا يبصر ولا يرى ، ولمن آثر الضلالة على الهدى ، فهو متورط في ورطات الردى ، يركب بعضه في كل هوة بعضا ، رافض لكل حقيقة (٣) علم رفضا ، لا يسمع لكتاب الله به نداء ، ولا يقبل من الله فيه هدى ، مخبّة (٤) به في خبوت الضلال ركائبه ، عظيمة عليه في هلكة الدين والدنيا مصائبه ، غير متحفظ من هلكاته بحفظ ، ولا متعظ من عظات الله بوعظ ، غلق (٥) بين إطباق خطيئاته ، غرق في بحور عماياته ، لما عطل من يقين علم الكتاب ، ورضي من صحبته بشكوك الارتياب (٦) ، فبالله يا بني : فعذ من موالاته ، والرضى بما

__________________

(١) في (أ) : حقائق الأمور أو مقرا بما.

(٢) في (أ) : حجة.

(٣) في (أ) : لحقيقة كل.

(٤) أي : مسرعة.

(٥) أي : مرتهن.

(٦) في (أ) و (د) و (ه) : ورضي بصحبته من شكوك الارتياب. وفي (ب) : ورضي من صحبته من سلوك. وفي (ج) : ورضي بصحبته من سلوك. وما أثبت اجتهاد مني والله أعلم بالصواب.

رضي به من تعطيل ما عطل من كتاب (١) ربه وآياته.

[الاصغاء لحديث القرآن]

وإذا أردت أن ترى عجائب الأنباء والأنبياء ، وتعلم فضل عدل حكم الله في الأشياء ، فاسمع من الكتاب ولا تسمع عليه ، واكتف بحكم الله على العباد فيه ، فإنك إن تسمع صوتا عنه بأذن واعية ، ثم تقبل عليه منك بنفس لحكمته راعية ، تسمع منه بالهدى صيّتا ، وتعرف من جعله الله حيا ممن جعله ميتا ، فلعلك حينئذ عند معرفتك به (٢) للأشياء ، تهرب من الميتين وتلحق بالأحياء ، فتجد طيب طعم الحياة ، وتثق بالقرار في محل النجاة ، فتنزل يومئذ منازل العابدين ، وتأمن الموت حينئذ أمن الخالدين ، ففي مثل ذلك فارغب ، وله ما بقيت فانصب ، فللرغبة فيه ، وللحرص (٣) عليه ، استنزل إبليس أباك آدم فأغواه ، وبالخلد في معصيته (٤) الله منّاه ، فقال له ، ولزوجه (٥) معه : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠]. وفي ذلك : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُما) ـ كما قال الله ـ (بِغُرُورٍ). [الأعراف : ٢١ ـ ٢٢]. وكذبهما فيما منّاهما به من الأمور ، فأعقبا برجائهما في المعصية لله ندما ، ونسي آدم صلى الله عليه ولم (٦) يجد الله له عزما ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) [طه : ١١٥]. فلو لم يعص الله للبث فيها أبدا ، ولو أطاع الله في الشجرة لبقي فيها مخلدا.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : كتب.

(٢) سقط من (ب) ، ج ، (د) : به.

(٣) في (أ) و (د) : والحرص.

(٤) في (أ) : معصية الله.

(٥) في (أ) و (د) و (ه) : ولزوجته.

(٦) في (أ) : فلم.

فكذلك يبقى فيها يوم القيامة ، وفي الآخرة الباقية الدائمة ، من أطاع الله في هذه الحياة الدنيا ، وقام بما يجب له عليه فيها من التقوى ، فيدوم في الجنة له النعيم والتخليد ، ويبقى له ما هو فيه من نعيمها فلا يبيد ، فطاعة الله مفتاح الخلد في الجنة ، واليقين بالله مفتاح كل طاعة وحسنة ، فأيقن بالله تحسن ، وأحسن لله تؤمن.

[صفات المؤمن]

واعلم يا بني أنك لن توقن حتى تعرف الموقنين ، ولن تؤمن حتى تؤمن (١) للمؤمنين ، ومن الموقنين أبوك إبراهيم خليل الرحمن ، والمؤمنون فمن (٢) أمن من الكفر وكبائر العصيان (٣) ، وأعمال الموقنين من البر فدليل على إيقانهم ، وترك المؤمنين (٤) للكفر وكبائر العصيان فحقيقة إيمانهم ، فاسمع يا بني لخبر الله الذي لا خبر كخبره (٥) عن يقينهم ، وما كانوا يعملون به لله في دينهم ، من الصالحات ، ويسارعون فيه من الخيرات ، فإنه يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)(٦١) [المؤمنون : ٥٧ ـ ٦١].

ويقول سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)) [الأنفال : ٢ ـ ٤].

__________________

(١) أي : تصدق.

(٢) في (ص) : ممن.

(٣) في (أ) و (ج) : كبائر الكفر والعصيان.

(٤) في (أ) و (ب) و (ج) و (و) و (ه) : لكبائر الكفر والعصيان. وفي حواشي (و) كما أثبت.

(٥) في (ص) : كخبر.

ويقول عزوجل : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)) [النور : ٦٢].

ويقول سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)) [الحجرات : ١٥]. وقال عز من قائل : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)) [السجدة : ١٦ ـ ١٧].

أنظر كيف وصفهم الله سبحانه بالخشوع (١) والدين ، بما نسبه مما سكن قلوبهم من حقيقة اليقين ، فأولئك هم الذين وصفهم الله بالايمان وحلّاهم ، وسمّاهم به في كتابه ودعاهم ، ولهم أوجب الجنان والرحمة ، ومنه استحقوا الرضوان والعصمة ، فمن خرج من (٢) صفتهم ونعتهم فغير مؤمن ولا نعمى عين (٣) ، ولا مستوجب من الله الرحمة ولا (٤) الرضوان في يوم الدين ، وداره غير دار المؤمنين ، ومثواه من النار مثوى الظالمين.

وقد زعم غيرنا أن من لم يؤمن كبير (٥) عصيانه ـ فيكون لأحد منه أمان بإيمانه ، ممن ذكر الله بالإيمان وحلّى ـ أنه ولي لله سبحانه فيمن تولى!! خلافا على الله ومشاقة!! ومجانبة لكتاب الله ومفارقة.

وزعم أن الله لا يعذب من أقر به وبرسله وكتبه بلسانه ، وإن ارتكب كل كبيرة من كبائر عصيانه ، تمنّيا على الله وافتراء ، واستكبارا عن تبيانه (٦) واجتراء!!

__________________

(١) في (أ) و (د) و (ه) : في الخشوع.

(٢) في (ب) و (ج) : عن.

(٣) أي : قرار عين.

(٤) سقط من (أ) : ولا.

(٥) في (ب) و (ج) و (و) و (ه) : كثير.

(٦) في (ص) و (ج) : ببيانه.

فاسمع يا بني لقول الله في خلافهم ، وما وصف فيما زعموا من خلاف أو صافهم ، فإنه يقول سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)) [النساء : ٦٥]. فلم يرض سبحانه منهم له بالتحكيم ، دون ما وصف من الرضى والتسليم ، فقال سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ). وقالوا هم : بلى خلافا على الله هم مؤمنون!! والاقرار بالله ورسله ، غير الرضى والتسليم لحكمه ، فأيّ خلاف ـ لقائل أو اختلاف ، أو فرط عن قول بغير حق أو إسراف ـ أبين مما تسمع وترى ، مما قالوه جرأة وافتراء.

ويقول سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٦٢) [النور : ٦٢]. واستئذانهم له ، غير إقرارهم بالله وبرسوله ، فأين ما قالوا في الايمان ووصفوا (١)؟! مما قال الله به إن أنصفوا!! والله يقول سبحانه : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(٤٥) [التوبة : ٤٤ ـ ٤٥]. فالله يقول : لا يؤمنون بالله إن استأذنوا!! وهم يقولون : بلى إن أقروا فقد آمنوا!!

فأيّ مجاهرة لله بخلاف ، أو مقالة بغير حق في إسراف ، أبين على الله خلافا ، أو في قول بغير حق إسرافا ، من قول هذا مخرجه ، وسبيل أهله في القول ومنهجه؟! أو ما سمعوا لقول الله تبارك وتعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) [الأنفال : ١]. يخبر سبحانه أنهم إن لم يطيعوا أمر رسوله ويقبلوه ، ويفعلوا ما يأمرهم به (٢)

__________________

(١) في (أ) : فوصفوا.

(٢) سقط من (أ) : به.

أن يفعلوه ، فليسوا مؤمنين به لا ولا بالله ربه ، ولا برسل الله وكتبه.

أو ما سمعوا لقوله سبحانه : (* وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١) [الأنفال : ٤١]. يقول سبحانه لمن شهد من المهاجرين والأنصار بدرا ، وكان له ولرسوله من عدوهما منتصرا ، إن كنتم بما وصفت آمنتم ، فامضوا لما (١) به أمرتم ، فان لم تمضوه على ما نزلت من حكمه ، فلستم بمستحقين لثواب الايمان ولا اسمه.

فأي حجة لمحتج أقوى ، أو ضياء نور أضوأ ، فيما اختلفنا ، ووصفوا وصفنا ، مما تلونا جملا (٢) لا تأويلا ، ووحيا أنزله الله (٣) تنزيلا.

فاسمع في ذلك يا بني عن الله تنزيل وحيه ، وما نزّل فيه صراحا مكشوفا على نبيه ، فإنه يقول : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٤٤]. فالله تبارك وتعالى يقول وما أولئك بالمؤمنين ، وهم يقولون بلى إذا كانوا بالله وبما (٤) جاء من عنده مقرّين!! وإنما أخرجهم الله من الإيمان بتولّيهم ، وبذلك نزل وحيه فيهم ، وعليه عاتبهم لا على إنكار ، ألا ترى أن قولهم آمنا قول إقرار ، لم يدعهم إليه ، ولم يعاتبهم فيه.

[اعرف الحق تعرف أهله]

فاعرف الحق يا بني ومن خالفه ، فإنك تعرف حينئذ الحق ومن آلفه ، واعلم أن معرفة الحق قسمان معلومان ، وجزءان عند المحقين مقسومان :

__________________

(١) في (أ) و (د) و (ه) : ما به.

(٢) في (د) و (ه) : مجملا.

(٣) سقط من (ب) و (ج) : الله.

(٤) في (أ) و (د) و (ه) : وما.

أحدهما : معرفة الحق في نفسه ونعته ، وما أبانه الله به من ضياء بينته.

والآخر : معرفة ما خالفه من الباطل ، والبراءة إلى الله من جهل كل جاهل ، فاعرفهما جميعا تعرف الحق وتوقنه ، وتعرف قبح كل أمر كان أو يكون وحسنه ، ولا تغتر بهما جاهلا (١) ، ولا تكن لواحد منهما معطلا ، فتجهل بعض الحق أو تعطله ، ولا يؤمن أن ترتكب بعض الباطل أو تفعله ، ومتى لا تعرف الباطل لا تتبرأ من أهله ، ومن لا يتبرأ من المبطل حلّ من السخط في محله ، ومتى تجهل بعض الحق ، لا تؤمن من (٢) البراءة من المحقّ ، ومن تبرأ من المحقين تبرأ الله منه ، ومن أعرض عنه المحقون ـ سخطا ـ أعرض الله عنه ، والمحقون من خلق الله فهم المؤمنون ، والمؤمنون فهم البررة الرحماء المتحابّون ، والمتحابون فهم المحبون في الله لمن أحبهم وتولاهم ، والمعاندون لمن حاد الله ربهم ومولاهم.

فاسمع يا بني لما ذكر الله في ذلك سبحانه عنهم ، وعرّف أولياءه في ذلك منهم ، إذ يقول لا شريك له : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١) [التوبة : ٧١]. ويقول سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢]. ومحادة الله تبارك وتعالى في حدوده ، خلاف المخالفين فيما حدد من أمره وعهوده ، فالله يقول سبحانه : (لا تَجِدُ) وهم يقولون : بلى هم كثير موجودون ، والله يشهد سبحانه ومن قبل وحيه على خلاف ما عليه يشهدون. وما في كتاب الله من بيان خلافهم ، وشهادته بغير أوصافهم ، فكثير بمنّ الله جم ، يخص من بيان الله فيه ويعم.

__________________

(١) في (أ) و (د) : جهلا.

(٢) في (د) و (ه) : لا تؤمن على. وفي (ب) و (ج) : لا تؤمن البراءة.

[أئمة الجور من أسباب الضلال]

وليس لقلة ذلك ولا عسره ، ولا لملتبس (١) لبس من أمره ، ضل القوم عنه ولا تاهوا ، ولكن لما (٢) سنّ فيهم ملوك بني أمية (٣) وشبهوا ، ولقهر بني أمية لهم وغلبة

__________________

(١) في (ه) : بملتبس.

(٢) في (ب) ، ج : بما.

(٣) أخرج الترمذي عن سفينة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ، ثم ملك بعد ذلك) ثم قال لي سفينة : أمسك عليك خلافة أبي بكر ، ثم قال وخلافة عمر ، وخلافة عثمان ، ثم قال أمسك علي فوجدناها ثلاثين سنة. قال سعيد فقلت له : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم ، قال كذب بنو الزرقاء : بل هم ملوك من شر الملوك). تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ٦ / ٤٧٦ (٢٣٢٦). والزرقاء : امرأة من أمهات بني أمية. وأخرجه أبو داود في سننه ٢ / ٦٢٢ (٤٦٤٦).

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أريت بني أمية على منابر الأرض ، وسيملكونكم ، فتجدونهم أرباب سوء). واهتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك : فأنزل الله (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلى فتنة للناس).

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر ، كأنهم قردة). وأنزل الله في ذلك (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلى فتنة للناس ، والشجرة الملعونة). يعنى الحكم وولده.

وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لأبيك وجدك (إنكم الشجرة الملعونة في القرآن).

وعن الأسود ، قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد الخلافة؟ قالت : وما يعجب؟! هو سلطان الله ، يؤتيه البر ، والفاجر ، قد ملك فرعون مصر. سير أعلام النبلاء ٣ / ٩٥.

وعن أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولا ، ومال الله نحلا ، وكتاب الله دغلا. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٧٩. وذكره في كنز العمال ٦ / ٣٩ ، وقال : ومال الله دخلا ، وقال أخرجه ابن عساكر.

وعن أبي برزة الأسلمي قال : كان أبغض الأحياء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنو أمية ، وبنو حنيفة ، وثقيف. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٨٠. وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وذكره الهيثمي أيضا في مجمعه ١٠ / ٧١. وقال : رواه أبو يعلى.

وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أهل بيتي سيلقون من ـ

__________________

ـ بعدي من أمتي قتلا وتشريدا ، وإن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية ، وبنو المغيرة ، وبنو مخزوم. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٨٧. وقال هذا حديث صحيح الاسناد. وذكره المتقي في كنز العمال ٦ / ٤٠. وقال : أخرجه نعيم بن حماد في الفتن.

عن بجالة قال : قلت لعمران بن حصين : حدثني عن أبغض الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : تكتم عليّ حتى أموت؟ قلت : نعم. قال : بنو أمية ، وثقيف ، وبنو حذيفة. قال أخرجه نعيم بن حماد في الفتن. كنز العمال ٦ / ٦٨.

عن أبي عثمان النهدي عن عمران بن حصين قال : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبغض ثلاث قبائل ، بنو حنيفة ، وبني مخزوم ، وبني أمية ، قال : رواه هشام بن حسان عن عمران بن حصين. حلية الأولياء لأبي نعيم ٦ / ٢٩٣.

وعن علي عليه‌السلام في قوله : (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا). قال : هما الأفجران من قريش ، بنو أمية ، وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. كنز العمال ١ / ٢٥٢. قال أخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والطبراني في الجامع الصغير.

وذكره السيوطي أيضا في الدر المنثور في تفسير الآية في سورة إبراهيم ، وقال أخرجه الطبراني في الأوسط ، والحاكم وصححه ، قال : وأخرج ابن مردويه عن علي عليه‌السلام أنه سئل عن (الذين بدلوا نعمة الله كفرا). قال : بنو أمية ، وبنو مخزوم رهط أبي جهل.

وذكره المتقي أيضا بعينه في كنز العمال ١ / ٢٥٢. وقال : أخرجه ابن مردويه عن علي عليه‌السلام.

وعن ابن مسعود قال : إن لكل دين آفة وآفة هذا الدين بنو أمية. كنز العمال ٧ / ١٤٢. قال : أخرجه نعيم بن حماد في الفتن.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إني رأيت في منامي كأن بني الحكم بن العاص؟ ينزون؟ على منبري كما؟ تنزو؟ القردة. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٨٠. قال : فما رئي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجمعا ضاحكا حتى توفي. قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

وذكره المتقي باختلاف يسير. كنز العمال ٦ / ٤٠. وقال : أخرجه أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة وفي (ص ٩٠). وقال : أخرجه البيهقي في الدلائل ، وابن عساكر وفي (ص ٩٠) ثانيا وقال : أخرجه أبو يعلى ، وابن عساكر.

وفي ذيل تفسير قوله تعالى في تفسير الفخر الرازي الكبير : (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، والشجرة الملعونة في القرآن). في سورة بني إسرائيل قال : واختلفوا في هذه الشجرة ـ إلى أن قال ـ : القول الثاني. قال ابن عباس : الشجرة بنو أمية ـ يعني الحكم بن أبي العاص. قال : ورأى رسول الله ـ

__________________

ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره ، فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما ، فلما تفرقوا سمع رسول الله الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاشتد ذلك عليه ، واتهم عمر في إفشاء سره ، ثم ظهر أن الحكم كان يستمع إليهم فنفاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى أن قال ـ : ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان : لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنة الله.

وفي ذيل تفسير قوله تعالى : (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، والشجرة الملعونة في القرآن).

في سورة الإسراء من تفسير السيوطي الدر المنثور. قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله في ذلك (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، والشجرة الملعونة). يعني الحكم وولده.

وقال أيضا : وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأبيك وجدك : إنكم الشجرة الملعونة.

وعن عبد الرحمن بن عوف قال : كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا له فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال : هو الوزغ بن الوزغ الملعون ابن الملعون. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٧٩ قال : هذا حديث صحيح الاسناد.

وعن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان : سنة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سنة هرقل وقيصر. فقال : أنزل الله فيك (والذي قال لوالديه أف لكما). الآية. قال : فبلغ عائشة فقالت : كذب والله ما هو به ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه. فمروان قصص من لعنة الله عزوجل. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٨١. قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

وذكره السيوطي أيضا في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : (والذي قال لوالديه أف لكما). في سورة الأحقاف. وقال : أخرجه عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن محمد بن زياد. وقال : فضفض من لعنة الله.

وعن عمرو بن مرة الجهني ـ وكانت له صحبه ـ إن الحكم بن أبي العاص استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوته وكلامه ، فقال : ائذنوا له عليه لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه ، إلا المؤمن منهم وقليل ما هم ، يشرفون في الدنيا ويوضعون في الآخرة ، ذو مكر وخديعة ، يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٨١. قال : هذا حديث صحيح الاسناد.

وذكره المتقي ، وقال : أخرجه أبو يعلى ، والطبراني ، والبيهقي ، وابن عساكر. كنز العمال ٦ / ٨٩.

وعن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن الحكم وولده. المستدرك ٤ / ٤٨١ ،

__________________

ـ قال : هذا حديث صحيح الاسناد.

ثم قال ليعلم طالب العلم أن هذا باب لم أذكر فيه ثلث ما روي ، وأن أول الفتن في هذه الأمة فتنتهم ، ولم يسعني فيما بيني وبين الله تعالى أن أخلي الكتاب من ذكرهم.

وفي كنز العمال ٦ / ٩٠ ذكر حديثا عن يحيى النخعي قال : فيه فغضب الحسن عليه‌السلام وقال له ـ يعني لمروان ـ أقلت : أهل بيت ملعونون فو الله لقد لعنك الله على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت في صلب أبيك .. قال : أخرجه ابن سعد ، وأبو يعلى ، وابن عساكر.

وعن زهير بن الأرقم قال : كان الحكم بن أبي العاص يجلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وينقل حديثه إلى قريش فلعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما يخرج من صلبه إلى يوم القيامة. كنز العمال ٦ / ٩٠. قال : أخرجه ابن عساكر.

وعن عبد الله بن الزبير قال وهو على المنبر : ورب هذا البيت الحرام والبلد الحرام إن الحكم بن أبي العاص وولده ملعونون على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كنز العمال ٦ / ٩٠. قال : أخرجه ابن عساكر.

وعن ابن الزبير أنه قال وهو يطوف بالكعبة : ورب هذه البينة لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم وما ولد. كنز العمال ٦ / ٩٠. قال أخرجه ابن عساكر.

وعن عبد الله بن عمرو قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذهب عمرو بن العاص يلبس ثيابه ليلحقني فقال ونحن عنده : ليدخلن عليكم رجل لعين ، فو الله ما زلت وجلا خارجا وداخلا حتى دخل فلان ـ يعني الحكم ـ. الهيثمي في مجمعه ١ / ١١٢. قال : رواه أحمد.

وعن حلام بن جذل الغفاري قال : سمعت أبا ذر جندب بن جنادة الغفاري يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا. قال حلام فأنكر ذلك على أبي ذر فشهد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، أني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء ، على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، وأشهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله. أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٤٧٩. قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

وفي كنز العمال ٦ / ٣٩ : إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا ، وعباد الله خولا ، وكتاب الله دغلا ، فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة. قال : أخرجه الطبراني ، والبيهقي عن معاوية وابن عباس.

وذكره بنحو أبسط. / ٩١. فقال : عن ابن موهب أن معاوية بينا هو جالس وعنده ابن عباس إذ دخل عليهم مروان بن الحكم في حاجة فقال : اقض حاجتي يا أمير المؤمنين ، فو الله إن مئونتي لعظيمة ، وإني أبو عشرة وعم عشرة وأخو عشرة ، فلما أدبر قال معاوية لابن عباس : أما تعلم أن رسول الله صلى ـ

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم قال : إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا ، اتخذوا مال الله دولا ، وعباده خولا ، وكتابه دخلا ، فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك التمرة. وفي لفظ لوك تمرة.

قال ابن عباس : اللهم نعم ، ثم إن مروان رد عبد الملك إلى معاوية في حاجة فلما أدبر عبد الملك قال معاوية : أنشدك بالله يا بن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذكر هذا فقال : أبو الجبابرة الأربعة؟ قال : اللهم نعم ، قال : أخرجه البيهقي في الدلائل ، وابن عساكر.

وفي كنز العمال ٦ / ٣٩ : إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه ، وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء ، وبعضكم يومئذ شيعته ـ يعني الحكم بن أبي العاص ـ قال : أخرجه الدارقطني ، في الأفراد عن ابن عمر. وذكره في ص ٤٠. وقال : أخرجه الطبراني عن ابن عمر.

وفي ص ٩٠ بنحو أبسط ، فقال : عن ابن عمر قال : هجرت الرواح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء أبو الحسن ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدن فلم يزل يدنيه حتى التقم أذنيه فبينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسارّه إذ رفع رأسه كالفزع. قال فدعّ الحكم بسيفه الباب فقال لعلي عليه‌السلام : اذهب فقده كما تقاد الشاة إلى حبالها ، فإذا علي عليه‌السلام يدخل الحكم بن أبي العاص آخذا بإذنه له زنمة حتى أوقفه بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلعنه نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثا ثم قال : أحله ناحية حتى راح إليه قوم من المهاجرين ثم دعا به فلعنه ثم قال : إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء. فقال ناس من القوم : هو أقل وأذل من أن يكون هذا منه! فقال : بلى وبعضكم يومئذ شيعته. قال أخرجه الدارقطني في الأفراد ، وابن عساكر.

وعن عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمر بن سعيد ، قال : أخبرني جدي ، قال : كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ، ومعنا مروان ، قال : أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم ، قلنا : أنت أعلم. صحيح البخاري ٦ / ٢٥٨٩ (٦٦٤٩).

يقول الشارح ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : ١٣ ـ ٧ ، ٨ : إن أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللهم لا تدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان.

قال الشارح : وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان سنة ستين ، وهو كذلك فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها وبقي إلى سنة (٦٤ ه‍) ، فمات ثم ولي ولده معاوية ، ومات بعد أشهر. وقال الشارح أيضا : إن أول هؤلاء الغلمان يزيد كما دل عليه قول أبي هريرة سنة ستين وإمارة الصبيان. ثم قال الشارح : تنبيه ، يتعجب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم من ولده ، فكأن الله تعالى ـ

سلطانهم ، قوي عليهم فيه سلطان شيطانهم ، فألفوه حتى أنسوا به لطول الصحبة ، وعز فراقه في أنفسهم لما كان يكون في خلافه من الأنكال المعطبة (١) ، ولمّا كان من جهله يومئذ لديهم منكلا محروما ، عاد مجهوله يومئذ فيهم بعد جهله معلوما ، ثمّ خلفت من بعدهم أخلاف السوّ ، التي أتت (٢) عداوتها للاسلام من وراء عداوة كل عدو ، فكانت أكلف (٣) بما سنّ لها أسلافها كلفا ، وأسرف في الاحتجاج للباطل سرفا ، فالله المستعان للمحقين عليهم وفيهم ، وفيما خالفوهم فيه من حكم ربهم عليهم ، فقد أصبحوا وأمسوا عن الحق بكما وصما وعميا ، وصاروا هم وأئمتهم من بني أمية لأنفسهم في ذلك داء دويا (٤) ، لا يقبل شفاء الأدوية ، ولا يسوغ فيه ولا ينفع دواء الأشفية ، كما لا يسوغ في البكم ، ولا في العمى ولا في الصّمم ، دواء ولا شفاء أبدا ، إلا أن يكون

__________________

ـ أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة عليهم ، لعلهم يتعظون ، وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد. أخرجها الطبراني ، وغيره غالبها فيه مقال وبعضها جيد.

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر (ص ١٣٤) : ومات ـ يعني يزيد ابن معاوية ـ سنة أربع وستين لكن عن ولد شاب صالح عهد إليه فاستمر مريضا إلى أن مات ولم يخرج إلى الناس ولا صلى بهم ، ولا أدخل نفسه في شيء من الأمور ، وكانت مدة خلافته أربعين يوما ، وقيل : شهرين ، وقيل : ثلاثة أشهر ، ومات عن إحدى وعشرين سنة ، وقيل : عشرين ، قال : ومن صلاحه الظاهر أنه لما ولي صعد المنبر فقال : إن هذه الخلافة حبل الله ، وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله ، ومن هو أحق به منه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته ، فصار في قبره رهينا بذنوبه ، ثم قلد أبي الأمر وكان غير أهل له ، ونازع ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقصف عمره وانبتر عقبه ، وصار في قبره رهينا بذنوبه ، ثم بكى وقال : من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه ، وبؤس منقلبه ، وقد قتل عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأباح الخمر ، وخرب الكعبة ، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلد مرارتها ، فشأنكم أمركم ، والله لئن كانت الدنيا خيرا فقد نلنا منها حظا ، ولئن كانت شرا فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها ، قال : ثم تغيّب في منزله حتى مات بعد أربعين يوما كما مر ، فرحمه‌الله أنصف من أبيه ، وعرف الأمر لأهله. أقول : بل وأنصف من أبيه وجده ، جميعا فلا تغفل ، ولابن حجر هذا كتاب يحامي فيه عن معاوية بن أبي سفيان.

(١) المهلكة.

(٢) في (ب) و (ج) : بث.

(٣) الكلف : شدة الحب.

(٤) دويا : لازما.

الله بشفائه متوحدا (١) ، وكذلك داؤهم من الجهل والضلالة والكفر ، فلن يشفى منهم إلا بإكراه من الله لهم على الإيمان وجبر ، وذلك فما لا يكون منه بعد أن أمرهم ، ولأنه لو كان منه بجبر لكان الإيمان (٢) لمن جبرهم ، وإذا كان له لا لهم ، وكان فعله لا فعلهم ، لأنه منه لا منهم ، فالاحسان فيه له دونهم.

فهذا يا بني فاعلمه (٣) من أمرهم ، ومما (٤) هم فيه من جهلهم وكفرهم.

[الجهل المركب]

واعلم يا بني أن جهل الناس بالله وبدينه ، وما هم عليه من العمى عن الله وعن تبيينه ، يدعيان جهلا مضعفا (٥) ، وعمى متبّرا (٦) متلفا ، لا يرجى إلا بالله لأهلهما منهما سلامة ، ولا يزدادان على صاحبهما (٧) طول الدهر إلا مداومة ، وإنما قيل في الجهل إنه مضعف ، لأن صاحبه لا يعرف ولا يعرف أنه لا يعرف ، فجهله هذا جهلان ، وهلكته بجهله هلكتان ، بل لو قيل إن جهله هذا جهل مضعف أضعاف ثلاثة متراكبة ، لكانت مقالة من قال ذلك في جهله صادقة غير مكذّبة ، لأنه جهل فكانت تلك منه جهلا ، ثمّ جهل أنّه جاهل فكانت تلك لجهله مثلا ، ثمّ رأى أن جهليه (٨) جميعا علما ، فكان ذلك منه جهلا ثالثا وظلما.

وإنما قيل إن عماه عمى متبّر متلف ، ليس له إلا بالله عنه زوال ولا تكشّف ، لأن

__________________

(١) في (ب) : منفردا.

(٢) في (أ) : إيمان. وفي (ج) : إيمانا.

(٣) في (أ) : فاعرفه.

(٤) في (د) : وبما.

(٥) في (أ) : مضاعفا.

(٦) أي : مهلكا.

(٧) في (ب) و (ج) و (د) و (ه) : لأهلها على طول.

(٨) في (أ) و (د) و (ه) : أن جهليه. وفي (ب) و (ج) : أن جهله ، وفي حواشي (و) كما أثبت.

صاحبه لا يألم له (١) ولا يجده ، فهو يزيده دائبا ويمده ، إذ لا يجد له في نفسه ألما ، ولا يعدّ عماه فيه عمى ، فلذلك ما (٢) ازداد داؤه ، وقلّ من عماه شفاؤه ، ولو وجده فلمسه ، أو ألمّ بألمه فحسه (٣) ، لطلب له الشفاء ، ولما كان متبّرا متلفا ، ولو طلب ـ ويله ـ طب ما به من دائه ، عند من جعل الله عنده طبّه من أهل الحق وأوليائه ، لوجد عندهم من ذلك شفاء له شافيا ، ونورا لما عدم من بصره كافيا ، ولكنه أصر عن آيات الله مستكبرا ، وعدّ عماه عن الله وعن تبيينه بصرا ، فكانت مقالته على الله كاذبة ، ونفسه فيما بينه وبين الله للآثام كاسبة ، كما قال الله العليم بإصرار المصرين ، في أمثاله من الأئمة (٤) المستكبرين : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) * اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) [الجاثية : ٧ ـ ١٣].

فكذلك (٥) هو فكما قال وإلا فمن سخّره ، هل ادعا تسخير ذلك أحد قط أو ذكره؟! لا ولو ادعاه مدّع إذا لكان كذبه مكشوفا ، ولكان بكذبه (٦) في كل قرن خلا أو بقي من القرون موصوفا ، وما ادعا ذلك فرعون في جهله وعتائه (٧) ولقد ادعا غيره

__________________

(١) في (أ) و (د) : به.

(٢) ما زائدة.

(٣) في (أ) : فأحسه.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : الأئمة.

(٥) في (د) و (ه) : وكذلك هو كما.

(٦) في (ب) : تكذيبه. وفي (د) : كذبه.

(٧) العتيّ : الاستكبار ومجاوزة الحد.

في (١) ملكه لنظرائه ، وما ادعا لهم خلقا ولا صنعا ، ولو ادعاه لكان ذلك كذبا مستشنعا ، وإنما تأويل قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤) [النازعات : ٢٤] ، أنا سيدكم ومليككم لا ما قال موسى ، ولم يرد أنا لكم رب خلاق ، ولا أنا لكم إله رزاق ، لأن كل رب في لسان العرب فسيد ومليك ، ولا سيما إذا كان وليس له عند نفسه فيما ملك شريك.

أولا تسمع يا بني وترى ، أنّه لم يزعم أنّه رب لغيرهم من أهل القرى ، التي لا ملك له عليها ، ولا سلطان له فيها ، فلما لم يوقن بغيره ، ولم يستدل على الله بتدبيره ، وكذّب من(٢) الله بما لم تره عيناه ، وكان كل من صدّقه مثله لا يوقن إلّا بما عاينه ورآه ، وما كان لذلك مثلا ونظيرا ، قال أنا ربكم ومليككم ولم يدّع لهم صنعا ولا تدبيرا ، صغرا منه وتضاؤلا عن تلك ودعواها ، فلما صغر عنها وتضاءل كان ادعاؤه لسواها ، مما يدخل به وفيه غلط وامتراء ، وما يمكن في مثله له عندهم الادّعاء ، ولو ادعا فيهم خلقا ، أو انتحل لهم رزقا ، لما اعترتهم في كذبه مع تلك مرية ، ولا أعمتهم من الشبهة في أمره معمية ، ولكنهم لما لم يوقنوا بالله وتدبيره ، ولم يقروا إلّا بما رأوا مثله (٣) من فرعون وغيره ، وأنكروا ما لم يروا أو يكون مثلا لما رأوا فدفعوه ، جاز عندهم لفرعون ولهم في فرعون ما ادعوه ، فنحمد الله الذي حسّر (٤) كل من أيقن أو تحيّر عن أن يدعي من صنعه وإن جهله صنعا ، فيكون فيه لشبهة أو تحيّر لمبطل مدّعا ، وإن كان أثر التدبير فيه بأنه صنع مصنوع باديا ، وكان هدى الله فيه لمن لم يهتد إليه بالهدى مناديا ، فنداؤه بإحداث الله له أعلى من كل علي ، وتبدّيه بأنه صنع لله وتدبير أبدى من كل جلي ، فتبارك الله أحسن الخالقين خلقا ، وأحق (٥) جميع الحقائق متحققا ، الذي لم يزل ولا يزال ، ومن له الكبرياء والجلال ، رب الأرباب المعظمة ، وولي كل إحسان

__________________

(١) في (د) و (ه) : من.

(٢) سقط من (د) و (ه) : من.

(٣) في (د) و (ه) : رأوا أو مثله.

(٤) الحسر : الإعياء والتعب.

(٥) في (أ) و (ج) : وأحق من. وفي (ب) : وأحق في.

ونعمة ، الأول الذي ليس كمثله شيء وهو القوي العزيز القهار الغلاب ، (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) [آل عمران : ٨]. وصلّ على جبريل أمينك وعلى ملائكتك المصطفين ، وعلى محمد رسولك وعلى جميع الرسل والنبيين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيدنا محمد خير خلقه أجمعين ، وأهله الطاهرين وسلامه.

تم كتاب الدليل على الواحد الجليل

* * *

الدليل الصغير

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال أبو محمد الحسن بن القاسم رضي الله عنه :

سألت أبي رضي الله عنه عن الحجة على من ألحد في الله تمردا ، وجهل المعرفة بالله حيرة وتلددا ، فظن أنه موقن بمعرفة رب الأرباب ، وهو من ظنه لذلك في مرية وحيرة وارتياب ، فكثير أولئك ، ومن هو كذلك ، وإن هو لم يظهر ما في قلبه ، من الحيرة والجهل بربه ، جل جلاله وسلطانه ، وظهر دليل الإيقان به وبرهانه؟!

فقال : إنما يستدل يا بني : على إيقان الموقنين ، بمعرفة رب العالمين ، بطاعتهم لله وتقواهم ، فبهما يعرف يقينهم بالله وهداهم.

ولذلك يا بني وفيه ، من الدلائل عليه ، قول الله سبحانه (لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٥]. وقوله سبحانه :) (١) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)) [الحجرات : ١٥]. وقوله سبحانه : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١٦) [السجدة : ١٥ ـ ١٦]. وآياته سبحانه فهي وحيه وتنزيله ، وشواهد الإيقان به ودليله ، والإيمان فمن الإيقان ، وهو الأمان من كبائر العصيان. وأكبر الكبائر عند الله ، وعند الصالحين من خلق الله ، فهو الإنكار لله ، والإلحاد في الله ، والارتياب في معرفة الله.

وفي ارتياب المرتابين ، وصفة الله للمؤمنين ، ما يقول أرحم الراحمين : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٤٥) [التوبة : ٤٤ ـ ٤٥].

وفي الحيرة والمرية والشك والارتياب ، ما يقول سبحانه لأهل إضاعة طاعته والغفلة

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

والتقصير والألعاب (١) : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)(٩) [الدخان: ٧ ـ ٩]. فأخبر (٢) تبارك وتعالى بلعبهم ، عن شكهم في ربهم ، ودل بذلك على أن من اشتغل عن طاعة الله بلعبه ، فليس من الموقنين مع ذلك بالمعرفة بالله ربه.

[التفكير طريق المعرفة بالله]

وفي قلة اليقين بالغيب ، وما يعرض للجاهلين فيه من الريب ، ما يقول الله سبحانه فيما قص من نبإ (٣) قوم نوح وعاد وثمود وآدم وقوم لوط وأصحاب الأيكة ، وما أحل بهم بعد ما أراهم من الآيات والدلالات البينات من التدمير والهلكة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١) [الشعراء : ١٩٠ ـ ١٩١]. ففي كل ما قص الله من ذلك لمن يعقل فيوقن بيان من الله فيما ذكرنا من قلة اليقين وتعريف وتفهيم ، واليقين بالغيب فإنما يكون ، بما يدركه (٤) الفكر لا بما تدركه العيون ، فمن لم يفكر بقلبه فيما غاب عنه ، لم يؤمن أبدا بشيء منه.

والآية في كل ما كانت من الأشياء فيه ، فهي الدلالة البينة المستدل بها عليه ، ومن استدل بالآيات على ما غاب صح له به (٥) يقينه ، وإن لم يره ولم يبصره لغيبته عنه ، وكان أصح عنده صحة ، وأوضح له ضحّة (٦) ، من كل ما وضح من الأمور كلها فاستنار ، وأيقن به كما يوقن بالليل (٧) والنهار ، بل كان أصح عنده في الإيقان ، من كل ما أدركه برؤية أو عيان ، لفضل درك اليقين ، على درك الرؤية والعين ، ومن لم

__________________

(١) في (أ) و (ج) : والألعاب ما يقول.

(٢) سقط من (ب) : فأخبر.

(٣) في (ب) : أنباء.

(٤) في (أ) : يذكره.

(٥) سقط من (ب) : له به. ومن (د) : به.

(٦) الضحة : الظهور والوضوح. يقال : ما لكلامه ضحى ـ كهدى ـ بيان.

(٧) في (أ) و (ج) : الليل.

يفكر ، لم يؤمن ولم يبصر ، وإنما يوقن من فكّر ، ويبصر من نظر ، كما قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) [الأعراف : ١٨٤ ، الروم : ٨]. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) [الأعراف : ١٨٥]. (أَوَلَمْ يَرَوْا) [النحل : ٤٨]. تنبيها من الله بذلك كله لهم على أن يوقنوا فلا يمتروا ، فيما عرفهم الله سبحانه من نفسه بآياته ، ودلهم على معرفته من غيب أموره بدلالاته ، فليس يوصل إلى معرفته واليقين به ، وما احتجب عن (١) العباد من غيبه ، إلا بما جعل من (٢) الدلالات ، وأرى من الآيات ، كما قال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤) [فصلت : ٥٣ ـ ٥٤]. ولقاؤهم لربهم فهو مصيرهم ومرجعهم إليه ، وليس بلقاء رؤية ولا عيان ولا يمكن شيء من ذلك فيه(٣) ، لبعده سبحانه في ذلك وغيره من مماثلة الناس وغير الناس ، وبقدسه وتعاليه عن أن ينال أو يدرك بحاسة من الحواس ، وإنما تدرك معرفته وتنال ـ له القدس والكبرياء والجلال ـ بما بيّن من الدلائل والآيات لقوم يعقلون ، كما قال سبحانه : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [البقرة : ١١٨]. فليس بعد تبيين الله بيان ، يكون به معرفة ولا إيقان.

والحمد لله على ما بيّن من آياته ، وأوضح من دلالاته (٤) ، ونستعين بالله على اليقين بمعرفته ، ونعوذ بالله من الإلحاد في صفته.

وفي مدحة الله سبحانه للأبرار ، بما آمنوا به مما غاب عن الأبصار ، واستدلوا عليه بالنظر والأفكار ، عن (٥) غيب المعرفة بالله وإيقانه ، وما لا يدرك أبدا من الله برؤيته جهرا(٦) ولا عيانه ، وما لا يصاب فيه أبدا حقيقة العلم واليقين ، إلا بما جعل الله عليه

__________________

(١) في (أ) و (ج) : من.

(٢) في (ب) : جعل الله الدلالات.

(٣) سقط من (ب) و (د) : فيه.

(٤) في (ب) و (د) : دلائله.

(٥) في (ب) و (د) : من.

(٦) في (ب) و (د) : جهرة.

من الشواهد والدليل المبين ، هو أحق حقيقة ، وأوثق وثيقة ، وأثبت يقينا ، وأنور تبيينا ، من كل معاينة ـ كانت أو تكون ـ أو رؤية ، أو درك حاسة ضعيفة أو قوية ، ما يقول الله سبحانه : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: ٢ ـ ٣]. تبرئة من الله لهم فيما غاب عنهم في جميع أموره من كل شك وريب.

[استدلال إبراهيم على وجود الله]

وفي الاستدلال على الله ، بما يرى ويبين (١) من آيات الله ، ما يقول أبوك إبراهيم خليل الله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٧٤] ، احتجاجا على قومه في غيبه (٢) بما يرون من فطرة الله في سماواته وأرضه وتوقيفا. ويقول صلى الله عليه : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) (٨١) [الشعراء : ٧٥ ـ ٨١]. فكل ما ذكر صلى الله عليه وعدد من خلق الله له وهداه ، وإطعام الله له وسقيه إياه ، وإبراء الله له من مرضه وشفائه ، وإماتة الله له وإحيائه ، فبدائع موجودة ، وأفعال بينة معدودة ، لا ينكر موجودها ، ولا يجهل معدودها ، من المدركين (٣) لها من أحد ، ألحد فيها أو لم يلحد ، وإنما ينكر من أنكر صنعها ، ويجهل من جهل بدعها ، فأما (٤) العدد لها والوجود ، فبيّن فيها محدود ، لا ينكره منكر ، ولا يتحير فيه متحيّر.

وكل ذي عدد ، وكلّ ما حدّ بحد ، فالدليل على صنعه تعديده ، وعلى أنه محدث

__________________

(١) في (أ) : ما نور وبيّن. وفي (ج) : بما نور وبيّن.

(٢) في (ب) و (د) : نفسه.

(٣) في (أ) و (ج) : المدعين.

(٤) في (ب) : وأما.

تجديده ، وإذ (١) كان ذلك كذلك وجد الصانع المبدع عند وجوده ، والمحدّد له المحدث بما بان فيه من حدوده ، لأنه لا يكون أبدا حدث إلا من محدث موجود ، ولا يكون حد (٢) أبدا إلا من مفرّق محدود ، كما قد رأينا في ذوات الحدود ، من كل مفترق موجود ، لا يمتنع من درك ذلك ويقينه وعلمه (٣) ، إلا من كان مكابرا فيه لحسّه ووهمه.

وإنما أراد إبراهيم صلى الله عليه بما عدّد من ذلك وذكر ، ما ابتدع من ذلك كله وصنع وافتطر ، مما لا صنع فيه لصانع مع الله ، وما لم يوجد شيء فيه قط إلا من الله ، فأما ما يصنع العباد بعد صنع الله من أخذ وعطاء ، وما يدور في ذلك بينهم من الأشياء ، فلم يرده إبراهيم صلى الله عليه ، ولم يعدده ولم يذهب إليه ، وكل ما كان من العباد في ذلك من الصنائع ، فغير صنع الله في الابتداء والبدائع ، صنع الله سبحانه فابتداع ، وصنع العباد فاحتيال (٤) واصطناع ، وصنع الصّانع ، غير صنع الطبائع ، صنع الطبائع (٥) صنيعة مبتدعة مطبوعة ، وصنع الصانع فصنيعة معتملة مصنوعة ، والصنعة لا تكون إلا في مصنوع ، والطبيعة لا تكون إلا في مبدوع ، فما طبع من غير شيء ، وكان من غير أصل ولا بدي ، وذلك كله وأمثاله ، فما لا يصنعه إلا الله جل جلاله ، ولا يدركه أبدا ولا يناله ، صنع الخلق ولا احتياله.

ولو كان ـ ما صنع وابتدع تبارك وتعالى ، من ذلك من (٦) الأرضين والسماوات العلى ، وجعل من الليل والنهار ، وما مزج بقدرته من البحار ، وما أرسى من الجبال ، صنع أكفّ واحتيال ـ إذا لما قدر بذلك على صنع أقله ، فضلا عن صنع جميعه وكله ، في وقت من الأوقات وإن طال أبدا ، بل إن كان الوقت منه ممتدا سرمدا (٧) ، ولكنه

__________________

(١) في (ب) و (د) : وإذا.

(٢) في (ب) و (د) : حدا. مصحفة.

(٣) في (أ) و (ج) : وعلمه ويقينه. مقلوبة.

(٤) في (أ) : فاختيار. مصحفة.

(٥) سقط من : (أ) و (ب) و (د) : صنع الطبائع. ولعلها سقطت لظن التكرار.

(٦) في (ب) : ومن.

(٧) في (ب) و (د) : وإن كان الوقت فيه ممتدا سرمدا.

تبارك وتعالى صنعه وأنشأه ، فابتدعه كله وفطره فطرة واحدة فبراه (١) ، كما قال سبحانه : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) [البقرة : ١١٧]. (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١]. وفي أقل ما ذكر الله من ذلك وجعل ، لمن فكر ونظر فاستدل (٢) ، دليل مبين ، وعلم يقين.

وأي دليل على الله؟! وعلى اليقين بالله؟! من افتطار الله للسماوات والأرض ، وما جعل منا ومن الأنعام أزواجا بعضها لبعض ، فجعل سبحانه ما ذكر من الأزواج أصولا ، أنسل منها بقدرته نسولا ، لا يحصيها أبدا غيره ، ولا يمكن فيها إلا تدبيره ، فأي دليل أدل؟ لمن فكر فاستدل ، على اليقين بالله؟! مما (٣) يراه عيانا من صنع الله ، للأزواج المجعولة المحدثة ، وما خولف به في ذلك بينها من الذكورة والأنوثة ، فجعل ذكور الأزواج غير إناثها ، دلالة بذلك على جعلها وإحداثها ، وكان ما (٤) عوين بعدها من ذروّ نسلها وتكثيره ، دليلا على حكمة صانعها وتدبيره ، وآية أبانها منيرة مضيّة ، ودلالة بينة جلية ، لمن فكر ونظر ـ فأحسن ـ بقلبه ، على الله خالقه وربه ، فأيقن لفكره فيما يراه ببصره ، وما يدركه بمشاعره بالله (٥) مقدّره ومدبّره ، فظفر باليقين والهدى ، وسلم من الحيرة والردى ، فاستراح ووثق واطمأن ، واعتقد المعرفة بالله وأيقن ، فخرج (٦) بيقينه من الظلمة والمرية والشك (٧) ، إذا أيقن بالله مليك كل ذي ملك.

وفي مثل ذلك من الخلق والإحداث ، لما ذكر الله من صنعه للذكور والإناث ، ما

__________________

(١) برأه : خلقه.

(٢) في (ب) و (د) : واستدل.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) في (أ) و (ج) : مما.

(٥) في (ب) و (د) : فالله.

(٦) في (ب) و (د) : فيخرج بنفسه.

(٧) في (أ) و (ج) : والشك والحيرة. (زيادة).

يقول سبحانه : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) [الشورى : ٤٩ ـ ٥٠]. فملك جميعهما ، وما يرى من بديعهما (١) ، فمعاين موجود لا يخفى ولا يتوارى ، عن كل من يعقل ويبصر فيرى ، وكل ملك صح دركه رؤية وإيقانا ، فلا بد من درك مالكه باليقين وإن لم ير جهرة عيانا. وكل مفترق في الخلقة والصنع والفطور ، مما ذكر سبحانه من الإناث والذكور ، فوجد كما وجد (٢) افتراقه ، وبان فطرة صنعه وفطرته واختلاقه ، فلا بد له اضطرارا ، إذ وجد كذلك (٣) جهارا ، من مميّز فارق ، ومفتطر خالق ، لا يشك في ذلك ولا يجهله ، إلا من لا عقل له.

فلخلق الله تبارك وتعالى لما شاء ، فرّق بين ما خلق من الذكور والإناث وأنشأ ، فوهب لمن يشاء إناثا ووهب لمن شاء ذكورا ، وجعل كلا على حياله خلقا مفطورا ، غير مشبه بعضه لبعض ، كما السماء غير مشبهة للأرض ، ووهب لمن شاء ذكورا وإناثا معا ، فجمع ذلك له بموهبته فيه جميعا ، وجعل من شاء من الرجال والنساء عقيما لا يلد ولدا ، ولا يكون (٤) منه ولد أبدا ، إلا بعد تبديله الإعقام وتغييره ، وبحادث (٥) يحدثه في ذلك من صنعه وتدبيره ، (٦) كما فعل سبحانه في امرأة زكريا ، وما وهب لهما (٧) من يحيى ، صلى الله عليهما وعليه ، وما منّ به عليهما من ذلك وفيه. وما وهب لإبراهيم صلى الله عليه من الولد بعد يأسه منه ، وكبره صلى الله عليه عنه (٨) ، وفي ذلك ما يقول عليه‌السلام ذكرا ، وحمدا وشكرا ، بما وهب له تبارك وتعالى ، في ذلك من الموهبة والنعماء : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي

__________________

(١) في (أ) و (ج) : جميعها وما يرى من بديعها.

(٢) في (أ) و (ج) : وجدنا.

(٣) في (أ) و (ج) : ذلك.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : يكون.

(٥) في (أ) و (ج) : ولحادث.

(٦) سقط من (ب) : وتدبيره.

(٧) في (ب) و (د) : لها.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : عنه.

لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)) [إبراهيم : ٣٩].

وفي محاجّة الملك ، بالمكابرة والإفك ، لإبراهيم (١) خليل الله ، إذ يقول عليه صلوات الله (٢) : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ـ فقال الملك بالمكابرة والكذب ـ : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. وإنما قال إبراهيم عليه‌السلام من ذلك صدقا ، ونطق به (٣) في محاجّته للملك بما نطق حقا ، لا شك فيه ولا مرية ، ولا شبهة ولا ظلمة مغشية ، لأنه لمّا وجدت الحياة يقينا والموت ، وجد بوجودها اضطرارا المحيي (٤) المميت. ولما لم يجد الملك ـ صاغرا لليقين بهما والاضطرار ـ سبيلا لنفسه بحدثهما إلا المكابرة فيهما والإنكار ، (٥) كابر لدادا ، ومباهتة وجحادا ، فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). وكيف يكون محييا أو مميتا ، من لا يملك لنفسه حياة ولا موتا؟!

وفي مثل ذلك ، ومن كان كذلك ، ما يقول الله سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) [الفرقان : ٣]. وفيما اتخذوا (٦) من تلك الآلهة الملائكة المقربون ، وعيسى بن مريم عليه‌السلام وما كان من آلهتهم يعبدون ، فقال تعالى : (آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣) [الفرقان : ٣]. فلما كابر الملك إبراهيم عليه‌السلام من قوله بما كابره به مباهتة وإفكا وزورا ، (٧) فقال صلوات الله عليه ورضوانه : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٧].

وتأويل بهت هو : صمت وسكت عن الإفك والمباهتة والجحود ، إذ قرره صلى

__________________

(١) في (ب) و (د) : لأبيك إبراهيم.

(٢) في (أ) و (ج) : صلوات رب العالمين.

(٣) سقط من (ب) و (د) : به.

(٤) في (ب) و (د) : المجيء والمميت.

(٥) في (أ) و (ج) : وإن كان. مصحفة.

(٦) في (ب) و (د) : اتخذه.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : وزورا.

الله عليه بأمر معاين موجود ، لا ينكره إلا بمكابرة فاحشة عقل الملك ولا عقل غيره ، لما فيه من بيّن أثر تدبير الله وتقديره ، من تدليل (١) الملك والتسخير ، من دءوب (٢) التحرك والمسير ، جيئة وذهوبا ، وطلعة وغروبا ، فهي طالعة وغائبة لا تقصر ، وجائية (٣) وذاهبة لا تفتر ، مختلفا (٤) بها ما جعل الله من الليل والنهار ، وما قدّر (٥) بمسيرها من الأوقات والأقدار ، وبما بان من ذلك وأنار لكل أحد ، بهت الذي كفر فلم يكابر ولم يجحد.

[استدلال موسى على وجود الله]

وكذلك قال موسى عليه‌السلام إذ قال لفرعون ، حين قال له ولأخيه هارون : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه : ٤٩ ـ ٥٠] ، فدله صلى الله عليه على ربهما بأدل دلائل الهدى ، من عطائه سبحانه لخلقه من نعمه ما أعطاهم ، وما منّ به جل ثناؤه من هداهم ، لكل رشد (٦) في دينهم ودنياهم.

وفيما ذكر موسى صلى الله عليه من عطية الله لخلقه ، ما أعطاهم من هداه لهم ورزقه ، ما يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩]. ويقول سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) [الجاثية : ١٣]. وفي هدايته لهم ما يقول سبحانه : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٧٨) [النحل : ٧٨]. ولفرعون ما

__________________

(١) في (ب) و (د) : بدليل.

(٢) في (ب) و (د) : في دؤب. وفي (أ) و (ج) : من دون. مصحفة.

(٣) سقط من (ب) و (د) : وجائية.

(٤) في (ب) و (د) : مخلفاتها. مصحفة.

(٥) في (ب) و (د) : قدر الله.

(٦) في (ب) و (د) : للرشد.

يقول موسى عليه‌السلام إذ (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)) [الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤]. فلما أن قال له ذلك : (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)) [الشعراء : ٢٥]؟! يريد ما تقولون؟ فقالوا لموسى ما قال ، وسألوه عما سال ، (١) فقال عليه‌السلام رب العالمين : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)(٢٦) [الشعراء : ٢٦] ، دلالة لهم على أن الله ربهم ورب آبائهم الأولين ، بما بيّن (٢) لهم ولغيرهم من تدبيرهم وإنشائهم ، الذي لا يمتنعون (٣) من وجوده في أنفسهم ، وفي كل عضو من (٤) أعضائهم ، بالنشأة البينة فيهم والتقدير ، والهيئة الظاهرة عليهم والتصوير ، فلما قطعه وقطعهم ، من حجة الله بما أسمعه (٥) وأسمعهم ، خرج فرعون في المسألة والمجادلة ، إلى غير ما كان فيه من الجدال والمقاولة ، فقال العميّ الملعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٢٧) [الشعراء : ٢٧]. فرد عليه موسى عليه‌السلام قوله ، بتبيين الحجة القاطعة له ، فقال له ولمن حوله كلهم أجمعين ، فيما كانوا يتقاولون (٦) أو يتجاهلون ويجهلون ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)) [الشعراء : ٢٨] ، فالمشرق (٧) والمغرب وما بينهما كله فمربوب لا يشك فيه إلا الجاهلون ، (٨) لما يرى فيه ، ويتبين عليه ، من أثر الصنع (٩) والتدبير ، والهيئة البينة والمقادير.

فلما وقّفه وإياهم على الآيات فلم يقفوا ، وعرّفهم الدليل والبينات فلم يعرفوا ، وأمسكوا عن المسألة والمقال خاسئين محسورين ، قال فرعون : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً

__________________

(١) سال بدون همز ، لغة حجازية فصيحة.

(٢) سقط من (ب) و (د) : الأولين. وفي (أ) و (ج) : يبيّن.

(٣) في (أ) و (ج) : لا يسمعون. وفي (ب) و (د) : يمتنعون. ولفقت النص من الجميع.

(٤) في (أ) و (ج) : غوامض. مصحفة.

(٥) سقط من (ب) و (د) : أسمعه.

(٦) في (أ) و (ج) : يقولون.

(٧) في (ب) و (د) : المشرق.

(٨) في (أ) و (ج) : جاهل.

(٩) في (أ) و (ج) : آثار. وفي (ب) : الصنعة.

غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)) [الشعراء : ٢٩]. قال موسى عليه‌السلام توقيفا له ولهم (١) وتعريفا ، وتقريرا للحجة (٢) عليهم وتعطيفا : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٢) [الشعراء : ٣٠ ـ ٣٢].

وبمثل احتجاج إبراهيم صلى الله عليه وموسى عليه‌السلام على من ألحد وجحد وأشرك ، لم تزل رسل الله تحتج على من تحيّر في الله أو ارتاب أو شك ، وذلك (٣) فبيّن والحمد لله فيما نزل من كتبه كثير (٤) ، وقولهم في الاحتجاج على من جحد أو ألحد أو أشرك فواضح منير ، لا يطفأ له سراج ، ولا يشبهه احتجاج ، ولا ينكره من الخلق كلهم رشيد ، ولا يأبى قبوله من الخلق إلا شيطان مريد.

وما لم يزل الله برحمته وفضله ، (٥) يدل به من هذا ومثله ، في كتبه (٦) وعلى ألسن رسله ، فكثير عن الذكر له والاستقصاء ، والتعديد والإحصاء ، في كتابنا هذا وأمثاله ، فنحمد الله على منّه فيه وإفضاله ، ونسأل الله أن يجعلنا وإياك ـ بما بصّر ـ من المبصرين ، وفيما أمر بالفكر فيه من المفكرين.

اسمع يا بني (٧) : فقد سألت أرشدك الله للهدى ، وجعلك رشيدا مرشدا ، عن أولى ما سأل عنه سائل أراد لنفسه أو لغيره رشدا وهدى ، أو لمبطل كان فيما سألت عنه متحيرا أو ملحدا متمردا.

فجعلنا الله وإياك فيما سألت عنه ، من القائلين بما يرضى منه ، ووهبنا من البصائر بدلائله وآياته ، ما وهب للقائلين في ذلك من محبته ومرضاته ، فانه لن يصيب في ذلك

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : ولهم.

(٢) في (ب) : وتكرير الحجة. وفي (د) : وتكريرا للحجة.

(٣) في (أ) و (ج) : في ذلك.

(٤) سقط من (ب) و (د) : كثير.

(٥) في (ب) و (د) : وفضله يؤتي فضله.

(٦) في (أ) و (ج) : كتبهم. مصحفة.

(٧) سقط من (ب) و (د) : اسمع يا بني.

هداه ، إلا من أرشده وهداه ، ولن يظفر فيه ببغيته وطلبته ، إلا من كان متحريا لإرادة (١) الله فيه ومحبته.

وبعد : فاعلم يا بني : نفعك (٢) الله بعلمك فكم من علم غير نافع ، ومنادى (٣) له وإن كان صحيحا سمعه غير سامع ، وناطق في عداد البكم ، إذ ينطق بغير رشد في الهدى ولا علم ، (٤) وكم من ناظر لا يبصر (٥) ولا يرى ، كما قال الله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)) (١٩٨ [الأعراف : ١٩٨]. وقال سبحانه : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)) [البقرة : ١٧١]. فليس كل من علم انتفع ولا اتبع ، ولا كل من نودي به سمع ولا استمع ، ولا كل من نطق فكر ، ولا كل (٦) من نظر أبصر ، ولا كل من له قلب فقه ولا عقل ، إذا (٧) هو أعرض وترك وغفل.

وفي أولئك ، ومن هو كذلك ، ما يقول سبحانه : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(١٧٩) [الأعراف : ١٧٩] ، فكفى رحمك الله بما نرى من هذا ومثله في كثير من الناس بيانا وآيات لقوم يعقلون.

[عظة بليغة]

وكيف لا يكون عند من يعلم أو يعقل كالأنعام ، من لا يهتم إلا بما لها من الهم

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بغيته وطلبته ، إلا من كان متحريا إرادة الله.

(٢) في (ب) : ينفعك.

(٣) في (ب) و (د) : له بعد علمه وإن. (زيادة).

(٤) في (أ) و (ج) : إذ نطق بغير رشد إلى الهدى ، وكم.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : لا يبصر.

(٦) سقط من (ب) و (د) : كل.

(٧) في (أ) و (ج) : إذ.

والاهتمام ، في مأكل أو منكح ، أو لعب أو متمرّح ، فعلمه علمها ، وهمته همتها ، فهو مكبّ عليها ، لا يرغب إلا فيها ، ولا تنازعه نفسه إلا إليها ، فلها يجتهد ويشقى ، وبها يدعو ويدعى ، غافلا عما شيب بمحابه فيها من الأذى والمكاره ، غير متّعظ بشيء ولا معتبر ولا متنبه ، وقد يوقن إيقانا ، ويرى بعينه عيانا ، أن ما يحب من دنياه وحياتها مشوب بموتها ، وما يشوبه من دركها مقرون بفوتها ، فكم من مدرك من (١) بعد دركه فائت ، وحي بعد حياته مائت ، قد تبدد شمله ، وأعرض عنه أهله ، الذين كان يعدّهم له أحبابا ، ويكد لهم في حياته بجهده اكتسابا ، بما حل من المكاسب أو حرم ، أو حمد من المطالب أو ذم ، وكم قبل موته عنهم ، كان من مسخط له (٢) منهم ، قليل له شكره ، سيئ له ذكره ، ورثه ما جمع غير شاكر ولا حامد ، يقول : لقد كان فلان غير مهتد ولا راشد ، كما يقول أعدى الأعداء ، وأبعد البعداء ، يعجّب بعض من يجالس بعد موت شخصه ، بما كان يرى من كده قبل موته وحرصه ، وكم كان له قبل موته من خليل حبيب مقارن ، (٣) أسلمه عند وفاته لموته إسلام البعيد المباين ، ولهى بعده ، بخليل جدّده! فكأن لم يكن لمن مات (٤) خدينا! ولم يعدّه بعد موته قرينا! بل كم من أب والد ، أو ولد حبيب واحد ، تعزى فسلا ، عمن مات وتولى ، واشتغل من بعده بأشغاله ، وأقبل على ما يعنيه من حاله ، وقال هلك أبي ومات! أو ذهب ابني وفات! فما عسيت أن أصنع؟! وهل لي في الجزع منتفع؟! تسهيلا في مصابه لما دهاه ، وتفرغا بمقاله لدنياه ، فهذا في الوالد والولد ، وهما سلالة النفس والجسد ، كما تعلم وترى ، فكيف بغيره من الأمور الأخرى ، من المال والأثاث ، والفكاهات والأعباث؟!

وفي الولد رحمك الله وفي المال ، ما يقول ذو الكبرياء والجلال ، لمحمد عبده ورسوله،صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)) [التوبة : ٨٠]. فجعل

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بعد من دركه. وسقط من (ب) و (د) : من. وما أثبت اجتهاد.

(٢) سقط من (ب) : له.

(٣) في (ب) و (د) : مقارب. مصحفة.

(٤) في (ب) و (د) : مات إذ مات.

سبحانه المال والولد لهم عذابا في حياتهم وهما عندهم آثر ما يؤثرون (١) ، وما قال سبحانه من ذلك فقد رأيناه يقينا ، وأدركناه فيهم ظاهرا مبينا ، لا يشك فيما ذكر الله منه سبحانه ولا يمتري ، ولا يجهله منا إلا من لا يعقل ولا يدري!! أو ليس قد علمنا أن العذاب ، ألم ونصب وأتعاب ، وقد رأينا من نصب أهل الأموال والأولاد فيهما ، وبشفقتهم ومحافظتهم عليهما ، (٢) ما يكثر به السهر والسهاد ، ويقل معه الخفض (٣) والرقاد ، فأيّ ألم أوجع لفؤاد أو جسم ، أو ادعى لمرض أو سقم ، من السهر والنصب والاهتمام؟! وقد يترك له كثير من الشراب والطعام!!

والمال والولد فإنما هما كما قال الله سبحانه فتنة ، والفتنة قد يعلم كل ذي لب أنها ابتلاء (٤) وتمحيص ومحنة ، وفي الأزواج رحمك الله والأولاد ، وهما أحب الأشياء إلى جهلة العباد ، ما يقول رب العالمين ، لمن قال له من المؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥) [التغابن : ١٤ ـ ١٥]. فكل ما تسمع (٥) آيات بينات ، ودلائل على الله متيقنات ، فليس لمن يعقل الحياة الدنيا وحال أهلها وسكانها ، مع ما وصفنا من حال أحبائها وقرنائها وخلانها ، أنس ولا ثقة ، ولا توكّل ولا حقيقة ، إلا بالله وحده ، وبالرغبة فيما عنده ، وليس يأنس أبدا بالله ، إلا من صح يقينه ومعرفته لله ، ولا يعرف الله جل ثناؤه فيوقنه ، إلا من يجد أنسه بالله وأمنه ، فيكون عليه جل جلاله ، معتمده واتكاله ، فتقر عينه ، ويسلم دينه ، ويعز فلا يرى خزيا (٦) ولا ذلا ، ما كان على الله سبحانه متوكلا.

__________________

(١) في (ب) : يرون.

(٢) في (ب) : فيها بشفقتهم ومحافظتهم عليها. وفي (د) : فيها شفقتهم عليها ومحافظتهم عليها. وفي (أ) و (د) : فيهما وشفقتهم ومحافظتهم عليها. ولفقت النص من الجميع.

(٣) الخفض : الدعة ، والسكون.

(٤) في (ب) و (د) : بلوى.

(٥) في (ب) و (د) : ما ذكر الله.

(٦) في (أ) و (ج) و (د) : حزنا.

[التوكل على الله]

ولما جعل الله من ذلك في التوكل عليه ، أمر رسوله عليه‌السلام به ودعاه إليه ، فقال سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى وآله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)) [التوبة : ١٢٩]. والعرش العظيم (١) فهو السلطان والملك ، الذي ليس لأحد مع الله فيه نصيب ولا شرك (٢).

والتوكل فهو الاعتماد عليه والثقة به ، وأصل توكل كل متوكل فهو اليقين والمعرفة بربه.

وفي التوكل على الله وذكره ، وما عظّم الله من التوكل عليه وقدره ، ما يقول تبارك وتعالى لقوم يؤمنون : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣) [التغابن : ١٣] (٣). (وفي التوكل على الله ، ما يقول رسل الله (٤) : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢) [إبراهيم: ١٢] فمن (٥) توكل على الله كفى بالله واستغنى ، وعاش في دنياه مسرورا آمنا ، غير مشوبة كفايته ولا غناه ، بحاجة ولا فقر في آخرته ولا دنياه ، ولا مشوب سروره بحزن ، ولا أمنه بخوف ولا وهن ، كما قال سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)) [يونس : ٦٣ ـ ٦٤].

وكيف يخاف أو يحزن؟! ولا يأنس فيأمن ، (٦) من كان الله معه! ومن حاطه ومنعه! وإن مكر به الماكرون ، وخذله من قرابته الناصرون!!

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) و (ج) : العرش العظيم.

(٢) في (أ) و (ج) : ولا شريك.

(٣) في جميع المخطوطات : المتوكلون. والآية كما أثبت.

(٤) في (ب) و (ج) : رسل الله عليهم‌السلام. وما أثبت اجتهاد.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين. وفي (ب) و (د) : ومن.

(٦) سقط من (ب) : فيأمن.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨) [النحل : ١٢٧ ـ ١٢٨]. وأول التقوى والإيمان ، والبر والنهى (١) والإحسان ، فهو حقيقة المعرفة بالله والإيقان ، فمن أيقن بالله وعرفه أنس واستراح ، وجمع بمعرفته لله السرور والأفراح ، وقلّت وحشته وأحزانه ، وعظمت راحته وأمانه.

ومعرفة الله لمن أبصر سبيلها ، واستدل دليلها ، فأقرب قريب يرى علانية جهارا ، أو يستدل عليه بدليل من دلائله اعتبارا ، فالحمد لله الذي قرّب إلى معرفته واليقين به السبيل ، وأقام فيها وعليها برحمته الآيات والدليل ، فسبيلها من الله سهل يسير ، ودليلهما (٢) والحمد لله فظاهر منير ، ينطق بهما البكم (٣) الخرس ، في كل ما تدركه فكرة أو حس ، من كبائر الخلق وصغائره ، وعوالن (٤) الصنع وسرائره ، فلا يتعنت (٥) في أوصاف ذلك واصف ولا متعنت ، (٦) ولا يلتفت إلى شيء منه كله ملتفت ، إلا رأى منه عيانا بعينه ، أو سمع منه سماعا بإذنه ، أو ذاق منه ذوقا بفمه ، أو لمس منه لمسا بجسمه ، أو شم منه شما بأنفه ، ما يدل على تغيّره وتصرفه ، وعلى أنه مصنوع في نفسه ، لدرك المدرك له بحسه. إذ كل محسوس يحس ، من الجن كان أو من الإنس ، فمركّب لا بد مجموع ، وكل مركب فهو لا محالة مصنوع ، وصانعه ومدبره ومركّبه فغيره ، إذ (٧) وضح صنعه وتركيبه وتدبيره ، وما سوى الإنس والجان ، من كل موات أو حيوان ، (٨) فقد يدرك أيضا بحاسة من الحواس الخمس ، وما يدرك بمباشرة الفكر له من كل نفس ،

__________________

(١) في (أ) و (ج) : والتقى.

(٢) في (أ) : ودليلها.

(٣) في (أ) : بها. وفي (أ) و (ج) : إليكم. مصحفة.

(٤) في (ب) و (د) : وعوالي. مصحفة.

(٥) في (ب) و (د) : ينعت. مصحفة.

(٦) في (ب) و (د) : ولا يسغب. مصحفة.

(٧) في (ب) : إذا.

(٨) في (ب) و (د) : وحيوان.

فمركّب لا يخفى على من فكّر فيه تركيبه ، وسواء في الفكر عنده بعيده وقريبه.

[قوى النفس]

والنفس فالدليل على تركيبها أنها ذات قوى شتى ، مختلفة وتبدّل (١) وتنقّل وتصرّف لا تخفى ، فمن قواها ، وإن كنا لا نراها ، بهيئة تبين ولا صورة ، أنها ذات ذكر وفكرة ، ومفكرها فغير ذاكرها ، وإذا ثبت ما ذكرنا من تغايرها ، صح بذلك أن لها قوى ، كانت لذلك أقساما وأجزاء ، وكل ذي قسم وأجزاء متغايرة ، مصوّرة كانت أو غير مصوّرة ، فهو مركّب غير شك ، ومدبّر في قدرة وملك ، ولتركيبها تصرفت وتنقلت ، فعلمت مرة وجهلت ، فتغيرت من جهل وطلاح ، إلى علم وصلاح ، ومن حزن وترح ، إلى سرور وفرح.

وقوى النفس فكثيرة أقسام ، ليس للنفس بغيرها تتمة ولا قوام ، ولا يزول قسم من أقسام النفس عنها ، إلا كان في زواله فناء ما كان موجودا منها ، فقوة النفس الأولى فهي القوة الغاذية ، (٢) وقوة النفس الحاسة فهي قوتها الثانية ، وقوتها الثالثة ، فهي الناهضة المتقابضة ، وقوة النفس الرابعة فهي (٣) المالكة من الشهوة والغضب بالفكر لما ملكت ، وأي هذه القوى كلها فني من النفس وهلك فنيت النفس بفنائه وهلكت ، وكل قوة من هذه القوى ، فمقسمة أقساما أجزاء.

ومن الدلالة على أن قوى النفس غير واحدة ، وأنها قوى كثيرة ذوات عدة ، ما ذكرنا من اختلاف أحوالها ، وتغيّرها وانتقالها ، وكل متغير ، فتركيبه نيّر (٤) والتركيب

__________________

(١) في (ب) و (د) : وتبدل. والظاهر أنها مصحفة. والأفعال الثلاثة أفعال مضارعة محذوفة التاء تخفيفا.

كقوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا). أي : تتفرقوا.

(٢) في (ب) و (د) : العادية.

(٣) في (ب) و (د) : فهو.

(٤) في (أ) و (ج) : بيّن. مصحفة.

فحدث (١) بيّن ، ولا بد لكل حدث من صانع محدث ، لا ينكر ذلك إلا كل مكابر متعبّث، (٢) ولا يكون حدث مصنوع مثل محدثه وصانعه أبدا ، ولا مشبها له في شيء من الأشياء ولا ندا ، لأنه أبدا (٣) إن أشبه المصنوع الصانع في معنى واحد من معانيه ، جرى في ذلك من المعنى على الصانع من الحدث ما يجري عليه ، صغر ذلك المعنى أو كبر ، وقلّ فيما يدرك منه أو كثر ، ولذلك جل الله سبحانه وتبرأ ، من أن يكون مشبها من خلقه لشيء مما يرى أو لا يرى ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٠٣) [الأنعام : ١٠٣]. و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)) [الشورى : ١١]. ويقول جل جلاله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٣]. فنفى سبحانه من قليل مشابهة خلقه في السّنة ما نفى من كثيرها ، تقدسا وتعاليا عن صغير المماثلة لخلقه وكبيرها ، فتعالى من ليس له مثل يكافيه ، ولا ند من الأشياء كلها يساويه ، ولا يشك فيه ولا يمتري (٤) إلا من جهل نفسه فهي أقرب الأشياء إليه ، وما يرى من السماوات والأرض خلفه وبين يديه.

[الدلائل على الله]

وفي أولئك ، ومن كان كذلك ، ما يقول رسل الله صلى الله عليهم ، لمن أرسله جل ثناؤه إليهم : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ٦]؟. تعجبا وإكبارا ، وتفحشا (٥) وإنكارا ، لشك الشاكّين ، مع ما يرون من فطرة الله في السماوات

__________________

(١) في (ب) و (د) : محدث.

(٢) في جميع المخطوطات متعنت. مصحفة. والصحيح ما أثبت. والله أعلم.

(٣) سقط من (ب) و (د) : أبدا.

(٤) في (ب) و (د) : ولا يمتري ولا يشك فيه.

(٥) في (أ) و (ج) : أو تفحيشا.

والأرضين ، التي لا تخفى ولا تتوارى ، عن كل من يبصر بعين أو يرى ، (١) أو يحس بحاسة حسّا ، أو يتوجس توجسا ، لأن كل أحد من الناس ، لا يخلو من حس أو إيجاس ، والإحساس ما يحس المحس (٢) بحواسه ، والتوجس فما يكون بالنفس (٣) بالتوهم من إيجاسه ، (٤) فكل ذي نفس ، أو درك يحس بحس ، أو بحسوس أثر بالأرض (٥) والسماء ، وبماله (٦) من الأعضاء ، ففي إحساسه أو إيجاسه بأقلّ درك ، (٧) بغير ما مرية ولا شك ، ما دله على الصنع (٨) والتركيب ، وعلى ما لله في ذلك من التدبير العجيب ، الذي لا يكون أبدا أصغره ، إلا وهو دليل مبين على من دبّره ، لا ينكر ذلك أو يجحده ، من يحسه ويجده ، إلا بمكابرة ليقين نفسه ، ومكابرة لدرك حسه ، ومن صار إلى تلك من الحال ، خرج من حدود المنازعة والجدال ، ولم ينازعه بعد ذلك (٩) ويجادله ، إلا من هو في الجهل مثله. ولذلك ما يقول الله جل ثناؤه لرسوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) [النجم : ٢٩ ـ ٣٠]. فأخبر سبحانه أن مبلغ من أعرض عن ذكره وتولى ، ولم يرد ـ كما قال الله جل ثناؤه ـ إلا الحياة الدنيا ، في فهمه وعلمه بدنياه ، وما يريده منها ويرضاه،(١٠) مبلغ البهائم في علمها بدنياها ، (١١) وما تريده البهائم فيها من متعتها ومرعاها ، ومن أجل ذلك ولذلك ،

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : أو يرى.

(٢) في (ب) و (د) : والإيجاس. وفي (ب) و (د) : ما يحس الحاس.

(٣) في (ب) و (د) : من النفس.

(٤) في (أ) و (ج) : اتجاسه.

(٥) في (ب) و (د) : أو توجيس أثر. وفي (أ) و (ج) : أثر الأرض.

(٦) في (أ) : وبمسه من. وفي (ج) : وتملله. (مصحفة).

(٧) في (أ) و (ج) : اتجاسه بأقل. وفي (أ) و (ج) : بأقل ذلك.

(٨) في (ب) و (د) : فأدلة. وسقط من (د) : الصنع.

(٩) في (ب) و (د) : ولا ينازعه بعد تلك.

(١٠) في (ب) : وما يرضاه.

(١١) في (ب) و (د) : علم دنياه. وفي (أ) و (ج) : عملها بدنياها. ولفقت النص من الجميع.

وإذ (١) كانوا سواء كذلك ، مثّلهم الله من البهائم بأمثالهم ، وجعلهم أضل من البهائم في ضلالهم ، فقال سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)) [الفرقان : ٤٤ ـ ٤٥]. ثم جعل سبحانه الاستدلال (٢) عليه بذلك بينا منيرا ، فقال تعالى ذكره في قبضه للظل : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦) [الفرقان : ٤٦]. يعني سبحانه تيسيرا هيّنا ، (٣) ظاهرا لا يخفى بيّنا. وقبض الظل فهو فناؤه ، وذهابه وانطواؤه ، ولا ينقبض ويفنى ، ويذهب ويطوى ، شيء مما كان أبدا ، جميعا كان أو فردا ، إلا كان قابضه ومفنيه ، ومذهبه وطاويه ، موجودا يقينا بلا شك ولا مرية فيه ، وشاهدا بصنعه لصانعه ، ودليلا عليه مكفيا من (٤) علم غيب صانعه ، وإن لم ير بدرك اليقين ، (٥) من درك مشاهدة كل حاسة من عين أو غير عين ، وزيادة الظل ومده ، فلا يكون (٦) إلا بمن يزيده ويمده ، وإذا كان زائده ومادّه ومدبره ، لا تدركه العيون ولا تبصره ، وإنما تقع العيون على صنعه وفطرته ، كان أدل على جلاله وقدرته.

ثم أتبع ما صنع من مده سبحانه للظل وقبضه وتدبيره ، بما ذكر وفطر وخلق وجعل من غيره ، فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) ...* وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ

__________________

(١) في (ب) و (د) : وإذا.

(٢) في (أ) و (ج) : استدلالا.

(٣) سقط من (أ) : يعني سبحانه تيسيرا.

(٤) في (ب) و (د) : مكتفا في.

(٥) في (أ) : باليقين. وفي (ب) و (د) : النفس.

(٦) في (ب) و (د) : فلا يكونان.

مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)(٥١) [الفرقان : ٤٧ ـ ٥٤]. فقرّر سبحانه بذكر آيات الظل ودلائله ، ما يسمع من ذكر آيات خلقه وفطره وجعائله ، رحمة منه ورأفة بعباده ، وزيادة منه برحمته لهم من إرشاده ، للمعرفة به والإيقان ، إذ لا يدرك بحاسة ولا عيان ، ولا يعرف ماله من الكبرياء والجلال ، إلا بالشواهد والآيات والاستدلال ، وكان دركه سبحانه بذلك أصح الدرك ، وأنفاه لكل (١) مرية وشك ، لأن درك الاستدلال واليقين ، لا يدخل عليه ولا فيه ما يدخل من الشك في درك العين ، لأن العين ربما رأت الشيء شيئين ، كالهلال تراه (٢) هلالين ، كالشيء الصغير إذا بعد تراه كبيرا ، وكالكبير إذا كان كذلك تراه صغيرا ، ودرك اليقين (٣) والاستدلال والأفكار ، فدرك بريء من كل شبهة وشك واحتيار ، لا يزداد بالنظر والفكر إلا استيثاقا ، ولا يتيقنه (٤) فيما أيقن به من الأمور كلها إلا استحقاقا ، فدركه الدرك البتّ اليقين ، وعلمه العلم المثبت (٥) المبين.

فمن تفهّم يا بني ـ أرشدك الله ـ يسيرا قليلا ، مما ذكرنا (٦) لله من آياته عليه دليلا ، اكتفى بقليل ذلك ويسيره ، كفاية كافية بإذن الله من كثيره ، وكان في اقتصاره على اليسير القليل ، كفاية له من (٧) التبيين والدليل ، ومن (٨) ازداد في ذلك من الآيات والدلائل كان له في ذلك من المزيد ، أكثر ـ والحمد لله ـ مما يريد (٩) في ذلك من كل مزيد ، ولم يتقدم في الاستدلال فترا ، (١٠) إلا وجد منه شبرا ، ولا في حسن النظر ذراعا ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : من كل.

(٢) في (أ) و (ج) : ترى.

(٣) في (ب) و (د) : النفس.

(٤) في (ب) : استيقافا. وفي (د) : اشثياقا. مصحفة. وفي (ب) و (د) : ولا بيقينه.

(٥) في (أ) : المنبث.

(٦) في (ب) و (د) : بما ذكره.

(٧) في (ب) و (د) : في.

(٨) في (أ) و (ج) : وما.

(٩) في (ب) و (ج) : يزيد.

(١٠) الفتر : ما بين طرف الإبهام وطرف المسبحة.

إلا وجد بعدها باعا ، بل يجد أبدا سرمدا ، زيادة في الدلالة ومددا ، (١) يمده (٢) بما استمده ، ويدله على الله وحده ، لما وسّع الله في ذلك للمقربين برحمته ، ووهب فيه للمستدلين من نعمته.

ألا ترى كيف يقول سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) [الفرقان : ٤٧]. ولباس الشيء فهو ما غشيه وواراه ، ونوم النائم فهو ما أسبته وأهداه (٣) ، وكلّ فقد نعلمه ونراه (٤).

[الله خالق الكون]

والدليل على أن الله صنعه وأنشأه ، أن لا يعلم له صانع ولا منشئ سواه ، وأن نشأته بيّنة ، وصنعته نيّرة ، بما تبيّن فيه ، ويشهد بتّا عليه ، بالنشأة والتدبير ، والصنع (٥) والتقدير ، من جيئته تارة وذهابه ، ومفارقته وإيابه ، وكل ما جاء وذهب ، وفارق وتأوّب ، دل ذلك من حاله ، على تصريفه واجتعاله ، وثبت مصرفه بما ثبت من تصريفه ، وبما يرى بيّنا من اختلافه وتأليفه ، ولم يكن مصرّف أبدا إلا من مصرّف ، ولا تأليف ما كان إلا من مؤلّف ، (٦) وكذلك اللباس فلا يكون أبدا (٧) إلا من ملبس للباس ، ولا النوم والسبات إلا من مسبت منيم بغير ما شبهة ولا التباس ، لأن ذلك كله ، وآخر ما يدرك من ذلك وأوله ، صنع وجعائل ، لا تكون إلا من صانع جاعل ، وفطرة وفعائل ، لا تكون إلا من مفتطر فاعل ، وكذلك ما جعل الله سبحانه من النهار نشورا ،

__________________

(١) .....

(٢) في (ب) و (د) : وممدا. وفي (ب) : يمداه.

(٣) السبت : الراحة. وأهداه : من الهدوء.

(٤) في (ب) : يعلمه ويراه.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : الصنع.

(٦) في (ب) و (د) : لمؤلف.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : أبدا.

فلا يكون إلا صنعا مفطورا ، لما يرى فيه من أثر الفطرة والصنع ، وذلك فدلالة لا تخفى على الصانع المبتدع ، وما أرسل تبارك وتعالى من الرياح بشرا بين يدي رحمته ، فلا بد من وجود مرسله وولىّ فطرته ، وما أنزل سبحانه من الماء ، من أجواء السماء ، فلا بد من منزله ، ومعرّف رحمته فيه وفضله ، لأن التفضيل لا يكون أبدا والرحمة ، إلا ممن له منّ ونعمة.

وفي الماء وإنزاله ، وحدره من المزن وإهطاله ، ما يقول سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٧٠) [الواقعة : ٦٨ ـ ٧٠].

وما أحيى بمنزل الماء من موات البلاد ، وما أسقاه من الأنعام وكثير العباد ، فلا يمتنع فكر عند وجوده كله ، من وجود محييه وساقيه ومنزله ، (١) وما مرج فحلّي من البحرين ، فرؤي ممزوجا رأي عين ، كل بحر منهما مخلا يمعج ، (٢) ولا ينقطع بعضه عن بعض ولا يعرج ، (٣) متصلا جميعا كله ، غير منقطع متصله ، يسير في قرار موضعه وبين أكنافه ، (٤) وفيما بين حدوده التي جعلت له وأطرافه ، (٥) قدر مسير مسافة شهر (٦) وربما كان أشهرا عدة ، يعلم (٧) ذلك من سمع بخبره أو رآه فأبصره عيانا مشاهدة ، فإذا انتهى إلى ما جعل الله له من الحد ووقف عند حده وحاجزه ، وما جعل بينه وبين البحر العذب الفرات من برزخه وحواجزه ، فلم يعد من حدوده كلها حدا ، (٨) ولم يجد له معه مطلعا (٩) ولا مصعدا ، وفيما جعله الله له موضعا ، ومقرا رحبا واسعا ، يرى طاميا

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : منزله.

(٢) المعج : الاضطراب ، وسرعة المرّ ، والسير في كل وجه.

(٣) العروج : الصعود ، والارتقاء والإقامة والميل. وهو المراد هنا.

(٤) في (ب) و (د) : أطباقه.

(٥) في (ب) : حتى جعلت أطرافه.

(٦) في (ب) و (د) : مسيرة شهر.

(٧) في (ب) و (د) : ويعلم.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : حدا.

(٩) في (أ) : يجد له مطلقا.

فيه مشرفا ، (١) يركب بعضه بعضا (٢) ركوبا متعسفا.

فأي عجب أعجب ، وأي دليل أقرب ، لمن استدل بحقيقة من الحقائق ، على ما نرى من الصنع في الخلائق ، (٣) بين رؤية هذا وعيانه ، والعلم به وإيقانه.

وفي ذلك بعينه ، وفي دلالة تبيينه ، (٤) ما يقول الله سبحانه : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) [النمل : ٦١]. تذكيرا للمقرين بما يقرون ، (٥) واحتجاجا على المنكرين بما لا ينكرون ، إلا بمكابرة وجحد لما يعرفون ، من صنع الحاجز بين البحرين ، وما بيّن لهم منه بأوضح التبيين.

ولصنع ذلك وبيان جعله ، وما ذكر الله معه من صنع مثله ، ما يقول سبحانه : أم من جعل ما لا تنكرون جعله ، وإن كنتم لا تعرفون الجاعل له ، وإذ (٦) لا بد عندكم لكل مجعول من جاعله ، (٧) وكما يعرفون ذلك ولا ينكرونه في كل مجعول وأمثاله ، فلا يشكّون ولا يمترون ، في أن لكل ما ترون من ذلك وتبصرون ، جاعلا ببتّ (٨) إيقانا ، وإن لم تروه عيانا.

فمن جاعل الحاجز بين البحرين وفاطره؟! ومدبر ما يرى من ذلك ومقدّره؟ إلا من ليس له مثل ولا نظير ، ومن لا يلغبه (٩) تدبير ولا تقدير ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ)(٣٨)

__________________

(١) طاميا : مرتفعا. ومشرفا : عال.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : بعضا.

(٣) في (أ) و (ج) : الخالق. وفي (ب) و (د) : الحقائق. (مصحفة). ولعل الصواب ما أثبت والله أعلم.

(٤) في (أ) و (ج) : دلالة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أم من جعل .... مصحفة.

(٥) في (أ) و (ج) : يرون.

(٦) في (ب) : وإن.

(٧) في (أ) و (ج) : جاعل.

(٨) في (ب) و (د) : بآتا.

(٩) في جميع المخطوطات يغلبه. (ولعلها مصحفة). بدلالة الآية بعدها. والله أعلم. واللغوب : التعب والإعياء.

[ق : ٣٨] ، وهل يدبر أو يفتطر أقل ما يرى من بدائع الله وصنعه ـ سوى الله ـ واهب أو موهوب ، (١) كلا لن يفتطره ، ويصنعه أبدا ويدبره ، سوى الله صانع ، معط ومانع (٢) وإنما صنع من (٣) سوى الله إذا صنع ، أن يعطي أو يمنع ، أو يفرق أو يجمع ، أو يرفع أو يضع ، بعض ما ولي الله ابتداعه صنعا ، أو كان من الله خلقا وبدعا.

وفي امتناع ذلك على المخلوقين ، ما يقول رب العالمين : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)) [الحج : ٧٣]. فأقل بدائع صنع الله تبارك وتعالى فما لا يخلقه ولا يصنعه أبدا (٤) غالب من الخلق ولا مغلوب ، ثم زاد سبحانه بما ذكر من الآيات في سورة الفرقان من الدلالة والتبيين دلالة وبيانا وتبصيرا ، (٥) بقوله جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤) [الفرقان : ٥٤]. والبشر الذين خلقه جل ثناؤه من الماء ، فهو ما لهم من الذرية والأبناء ، ومنهم ولهم ، وفيهم وبينهم ، جعل سبحانه النسب والصهر لانتساب بعضهم إلى بعض ، ومصاهرة بعضهم لبعض ، لأن كلهم ينتسب ، إلى أم أو إلى أب ، وليس آدم عليه‌السلام (٦) بمنسوب إلى نسب ، لأنه لم يخرج صلى الله عليه من رحم ولا صلب ، ولم يصاهر بصهر (٧) أبدا ، إذ كان كل البشر له ولدا ، والماء الذي خلق الله منه ولده ونسله ، فهي النطف التي لم تكن قبله ، وفي ذلك كله وتصريفه ، وعجيب صنعه وتأليفه ، أدل الدلائل على مصرّفه ، وصانعه ومؤلّفه ، وكل ما ذكر الله تعالى من ذلك ومعجبه ، فدليل على

__________________

(١) في (ب) : راهب أو مرهوب. (مصحفة).

(٢) في (ب) و (د) : ولا مانع.

(٣) في (أ) و (ج) : إنما صنع ما سوى الله أن يعطى.

(٤) في (أ) : فما لا يصنعه أبدا. وفي (ج) : فما لا يخلقه أبدا. وفي (ب) و (د) : مما لا يخلقه ولا يصنعه. ولفقت النص من الجميع.

(٥) في (أ) و (ج) : وتبصرة.

(٦) سقط من (ب) و (د) : عليه‌السلام.

(٧) في (ب) : صهرا أحدا.

الله والحمد لله لا خفاء (١) به.

ومن الدليل على معرفة الله ، والدواعي لليقين بالله ، فما لا يجهله ، بعد الإحساس له ، إلا جاهل عصي ، (٢) ولا يحصيه من الخلق كلهم ـ ولو جهد كلّ جهد ـ محصي ، من خلق السماء والأرض ، وغيرهما من الصنع والخلق ، الذي في كل شيء منه على ناحيته وحياله ، آية ودلالة نيّرة على فطرته واجتعاله. والفطرة والاجتعال ، هما (٣) الوصلة والانفصال ، وليس من السماء والأرض وما (٤) فيهما ، ولا من كل ما يضاف من الخلق إليهما ، ما يخلو من تفصيل أو توصيل ، (٥) وفي ذلك على صنعه أدل الدليل. وآيات الله ، (٦) فهن الدلائل على الله ، والدلائل فهن (٧) العلامات المنيرات ، والعلامات فهن الشواهد الظواهر البينات ، وكل آية من آيات الله ، فهي علم بيّن للمعرفة (٨) بالله ، والدلائل على الله المنيرة الزاهرة ، والآيات في (٩) معرفة الله البينة الظاهرة ، في (١٠) كل ما تدركه حاسة من الحواس الخمس ، (١١) من عيان أو سمع أو شم أو ذوق أو لمس ، ومن تنزيل الله لذلك (١٢) وفيه ، ومن الشواهد لله عليه ، قوله سبحانه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : لله لا خفاء.

(٢) في (ب) : عم. وفي (د) : غمر. مصحفة.

(٣) في (أ) : ومما.

(٤) في (أ) : ومما.

(٥) في (ب) و (د) : من توصيل وتفصيل.

(٦) في (أ) و (ج) : الله عزوجل.

(٧) في (ب) و (د) : فهي. وسقط من (ب) : والدلائل.

(٨) في (أ) و (ج) : بين من المعرفة. وفي (د) : بين المعرفة.

(٩) في (ب) و (د) : هي. مصحفة.

(١٠) في (أ) و (ج) : ففي.

(١١) سقط من (أ) و (ج) : الخمس.

(١٢) في (أ) و (ج) : ذلك.

وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤) [البقرة : ١٦٤].

وفي ذلك ما يقول جل جلاله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)) [يونس : ٥]. فكان كما قال جل ثناؤه ، وصدق وعده وأنباؤه ، (١) خلق (٢) ما خلق في ذلك من الخلق ، مما ذكر في خلقه (٣) من الحقيقة والحق ، وفصّل فيه تبارك وتعالى كما قال : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) آياته تفصيلا ، فجعل كل شيء منه له آية وعليه دليلا ، فما ينكر ـ شيئا (٤) من ذلك بمكابرة ولا يجحده ، ولا يكابر الدليل فيه بمناكرة فيرده ، ـ إلا من لا يعقل ولا يعلم ولا يتقي ، ولقلة تقواه لله (٥) شقي بحيرته فيه من شقي ، وإنما يبصر ذلك ويتفكر فيه وينتفع به المتقون ، كما قال سبحانه : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦) [يونس : ٦].

ألا ترى أنه ليس من المتحيرين في ذلك ولا من المنكرين ، ولا من الجاحدين له المكابرين ، من يرى (٦) أصغر صنع الصانعين بأكفهم ، لوهنهم عن الابتداع وضعفهم ، فليمتنع من الإقرار بصنعه وصانعه ، وإن كان صانعه بريا عندهم من ابتداعه ، ومن أنكر ذلك عنده ، وكابر فيه فجحده ، خرج بإنكاره لأقله ، (٧) من العقل وصفة أهله ، وقيل : ماله ـ ويله ـ ما أعماه؟ وأجهله بما لا يجهله (٨) أحد صحيح العقل فيما ظنه ورآه؟!

__________________

(٢) في (أ) و (ج) : ونباؤه. وفي (ب) و (د) : يخلق.

(٣) في (ب) و (د) : خلقه له.

(٤) في (أ) و (ج) : شيء.

(٥) في (ب) : ولقلة تقوى الله.

(٦) في (ب) و (د) : والمكابرين. وفي (ج) : من برّ. لعلها مصحفة. والحرف الأول مهمل.

(٧) في (ب) و (د) : أو كابر فيه وجحده. وفي (ب) : خرج من إنكاره. وفي (ج) : بإنكاره ولأقله.

(٨) في (ب) و (د) : لا يجهله (أحد صح عقله فما يرى ويعاين من ببصره ويراه ، ما هذا بصحيح العقل فيما يظنه ويراه) ، ويبدو لي أن هذه الفقرة (زيادة سهو). والله أعلم.

فكيف أنكر وتحيّر؟ وأبى مكابرة عن أن يقر؟ بما يرى من الصنع والتدبير ، في أكثر ما يراه أحد من الصنع الكبير ، (١) الذي لا خفاء فيه من القدرة والتدبير ، والصنعة البينة والتأثير المنير ، مما تقصر (٢) عنه الأفكار ، وتنحسر (٣) فيه الأبصار ، من الأرض والسماء ، وما بينهما من الأشياء ، التي يدل اضطرار دركها ، على من يدبرها ويملكها ، وعلى أن من صنعها وأنشأها ، إنما فطرها وابتداها ، فابتدعها صنعا ، وخلقها بدعا ، يدل على ذلك فيبينه ، (٤) ويوضح ذلك فينيّره ، (٥) ما يرى من كثرة ذلك وسعة أقداره ، وما يعاين من بعد ما بين أطرافه وأقطاره ، مع ما فيه من لطيف التقدير والإحكام ، وماله من طول البقاء والإقامة والدوام ، فكل صنعه ولطيف (٦) تدبيره وتقديره وإحكامه ، وما ذكرنا من بقائه وإمساكه وإقامته ودوامه ، دليل بيّن على صانعه ومحكمه ، وممكسه بحيث هو ومديمه ، وذلك الله العزيز الحكيم ، والمتقن لما يشاء والممسك المديم ، كما قال سبحانه : (* إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١) [فاطر : ٤١] ، فكل ذلك فقد جعله الله بحلمه (٧) ومغفرته قدرا مقدورا ، ولا يكون القدر وهو القدر المقدور ، (٨) إلا وهو لا بد لربنا (٩) صنع وخلق مفطور ، ولا يجحد ذلك أبدا ولا ينكره ، إلا من عمي قلبه وفكره.

فاسمع يا بني : ـ هداك الله ـ لما بيّن في ذلك برحمته لما خلقه الله من الآيات الجليات ، والدلائل المضيّات ، ففي أقل استماعه ، وفهمه عن الله واتباعه ، ما أغنى من

__________________

(١) في (أ) و (ج) : الكثير.

(٢) في (ب) : ما قصر.

(٣) في (ب) : وتتحيّر.

(٤) في (أ) : ويبينه.

(٥) في (أ) : وينيره.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : ولطيف.

(٧) في (ب) و (د) : بحكمه. تصحيف. بدلالة الآية قبلها.

(٨) في (ب) و (د) : القدرة والمقدور.

(٩) سقط من (ب) : لا بد لربنا. ومن (د) : لربنا.

فهمه وكفاه ، (١) وأبراه من كل داء حيرة وشفاه ، كما قال تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٥٧) [يونس: ٥٧] ، فإنّك يا بني : إن تفهم أقل آياته وما دل به على نفسه في ذلك (٢) من دلالته حق فهمه تكن من الموقنين.

فمن ذلك ـ فافقه مقالته جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٣) [الملك : ١٣].

فأخبرهم سبحانه من إنشائه لهم بما يرون عيانا ويبصرون ، وما لا يقدرون على إنكاره إلا بالمكابرة (٣) لما يرون ، إذ الجعل والإنشاء ، إنما هو الزيادة والنماء ، ولا خفا عندهم ، ولو جهدوا جهدهم ، بما يرونه والحمد لله عيانا من زيادتهم ، في أنفسهم وسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم ، كما قال سبحانه لهم في ذلك ، فإنما كانوا على ما وصفهم كذلك ، يزيدون وينمون ، وينشون ويتمون ، (٤) حتى عادوا رجالا بعد أن كانوا أطفالا ، وصاروا كثيرا مذكورا ، بعد أن كانوا قليلا محقورا ، كما قال سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١)) [الإنسان : ١]. وقد أتى عليه أن كان ترابا ثم نطفة ثم علقة ، ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ، وفي ذلك ما يقول الله تعالى ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ

__________________

(١) في (ج) : وكفى.

(٢) في (ب) و (د) : من ذلك.

(٣) سقط من (ب) : إلا بالمكابرة.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : وينشون ويتمون.

اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) [الحج : ٥ ـ ٦]. كما أحيا الأرض بعد همودها ، (١) وكذلك الله لا شريك له فموجود بما ذكر من الخلائق ووجودها ، لا ينكر (٢) إلا بمكابرة ولا يجحده ولا يدفعه ، من دلّه على صانع من الصانعين ما كان وإن غاب صنعه.

ألا ترى يا بني : أن من رأى كتابا علم أن له كاتبا ، وإن كان من كتبه عنه غائبا ، وكذلك من رأى أثرا ، أو صورة ما كانت أيقن أن لها مصوّرا ، أو سمع منطقا علم أن له ناطقا ، وكذلك ما يرى من هذا الخلق العجيب فقد يوقن من نظر وفكر أن له خالقا ، ليس له مثل ولا شبيه ، كما ليس بين صنعه وصنع غيره تمثيل ولا تشبيه ، (٣) كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] ، (٤) يخبر تبارك وتعالى أن لن يفعل أحد فعله ، وكيف يفعل ذلك من ليس له بمثال ، (٥) وإنما يكون تشابه الأفعال بين النظراء والأمثال.

وفيما وقّف الله تبارك وتعالى عليه الإنسان بيانا ، من رؤيته لصنع (٦) الله فيه وخلقه له عيانا ، قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ). والنطفة فهي : الماء المهين ، (فَإِذا هُوَ) ، بعد أن كان نطفة وماء مهينا (خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٧٧) [يس : ٧٧] ، والمهين فهو المهان ، الذي لا قدر له ولا شان ، وكذلك النطفة في صغرها ، ومهانتها وقذرها. وخلق الله لها فهو تهيئته (٧) وتصريفه جل ثناؤه إياها ، الذي قد رآه من الناس كلهم من رآها ، من نطفة وماء مهين إلى علقة ، ومن علقة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة ، وتخليق المضغة فهو تهيئتها ، وتقدير الصورة الآدمية لها وتسويتها ، التي لا

__________________

(١) في (ب) و (د) : موتها.

(٢) في (أ) : ما لا ينكره.

(٣) سقط من (ب) : كما ليس بين صنعه وصنع غيره تمثيل ولا تشبيه.

(٤) في (ب) و (د) : أكمل الآية.

(٥) في (ب) و (د) : ليس مثله.

(٦) في (ب) و (د) : لرؤيته. وفي (أ) و (ج) : بصنع.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : فهو.

يكون أصغر صغير رؤي (١) منها إلا بخالق مهيئ ، مقدّر حكيم مسوّي ، (٢) لا يشك فيه ولا يمترى ، وإن خفي عن (٣) العيون فلا يرى ، وذلك فهو الله الذي (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام : ١٠٣] ، وكيف تدرك الأبصار من ليس له مثل ولا ند ولا كفؤ ولا نظير؟! لا كيف إلا عند جاهل عمي! شاك في جلال الله ممتري ، (٤) لا يعرف ما بينه وبين الخلق ، من المباينة والفرق.

فكل (٥) ما تسمع يا بنى بتعريف ، (٦) وتبصير وتوقيف وتصريف ، من الله الحكيم ، الخبير العليم ، الرحمن الرحيم ، لدرك معرفته ، واليقين به ، من حجج الفكر (٧) والاعتبار ، وحجج الرؤية والمعاينة بالأبصار.

وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩)) [العنكبوت : ١٩]. فابتداؤه جل ثناؤه له (٨) فهو ابتداعه وزيادته وإنماؤه ، وإعادته فهو إلى ما كان عليه وهو محقه وتقليله وإفناؤه ، وذلك كله فقد يراه ويعاينه ، ويبصره ويوقنه ، من كان حيا ، (٩) مبصرا سويا ، كما قال لا شريك له ، لا يجهله إلا من تجاهله ، ولا يخفى إلى على من أغفله! ممن لعنه الله وخذله! أو لم تسمع كيف يقول سبحانه : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)) [العنكبوت : ٢٠]. وتأويل بدأ ، (١٠) فهو كان ونشأ ، ونما فصار ناميا زائدا ، ثم رجع إلى

__________________

(١) في (أ) و (ج) : درك.

(٢) في (أ) : فسوى.

(٣) في (أ) : من.

(٤) في (ب) و (د) : جاهل غمر! شاك في جلال الله ممتر.

(٥) في (أ) و (ج) : وكل.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : بتعريف و.

(٧) في (أ) و (ب) و (ج) : بين حجج. وفي (ب) و (د) : الفكرة.

(٨) في (ب) و (د) : فابتداؤه له جل ثناؤه.

(٩) في (أ) و (ج) : حييا.

(١٠) في (أ) و (ج) : أبدا.

الفناء عائدا ، فقلّ بعد زيادته ، وبلي بعد جدّته. فمن يعمى (١) بعد عيان هذا اليقين بربه ، إلا من خذله الله فأسلمه إلى عمى قلبه ، فكابر عيانه ، وأنكر إيقانه ، (٢) وهو يرى النور لائحا لا يخفى ، (٣) والبيان ظاهرا واضحا لا يطفأ.

ومن البيان فيما قلنا من ذلك ، ومن (٤) الدليل على أنه كذلك ، قوله سبحانه : (*اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(٥٤) [الروم : ٥٤] ، والضعف والشيب فهو الإفناء والتدمير.

تم كتاب الدليل الصغير ، وصلواته وسلامه على رسوله سيدنا محمد النبي البشير النذير ، وعلى أهله المخصوصين بالمودة والتطهير.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : تعامى.

(٢) في (أ) و (ج) : عيانا وأنكر إيقانا.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : لا يخفى.

(٤) في (أ) و (ج) : من الدليل.

مجموع الإمام القاسم عليه‌السلام

مناظرة مع ملحد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[مدخل إلى المناظرة]

قيل : كان وافى (١) مصر رجل من الملحدين فكان يحضر مجالس فقهائها ، ومتكلميها ، فيسألهم (٢) عن مسائل الملحدين ، وكان بعضهم يجيب عنها جوابا ركيكا ، وبعضهم يزجره ويشتمه ، فبلغ خبره القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، وكان بمصر متخفيا (٣) ، في بعض البيوت فبعث صاحب منزله ليحضره عنده ، فأحضره ، فلما دخل عليه قال له القاسم رضي الله عنه : إنه بلغني أنك تعرضت لنا ، وسألت : أهل نحلتنا (٤) ، عن مسائلك ، ترجو أن تصيد أغمارهم (٥) بحبائلك (٦) ، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله ، والذب عن دينه ، ونطقت على لسان شيطان رجيم لعنه الله : (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)(١١٨) [النساء : ١١٤].

فقال الملحد : أما إذا عبت أولئك ، وعيّرتهم بالجهل فإني سائلك ، وممتحنك ، فإن أجبت عنهم فأنت زعيمهم (٧) ، وإلا فأنت إذا مثلهم.

فقال القاسم عليه‌السلام : سل عما بدا لك ، وأحسن الاستماع ، وعليك بالنّصفة (٨) ، وإياك والظلم (٩) ، ومكابرة العيان ، ودفع الضرورات (١٠) ، والمعقولات ، أجبك عنه ، وبالله أستعين ، وعليه أتوكل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

__________________

(١) في (ب) و (د) : كان في.

(٢) في (ب) : ويسألهم.

(٣) في (ب) و (د) : مستخفيا.

(٤) الانتحال : ادعاء الشيء وتناوله. مفردات الراغب ٤٨٥ ، وهو هنا بمعنى أهل ملتنا.

(٥) أغمار : جمع غمر بالضم : من لم يجرب الأمور.

(٦) الحبائل : جمع حبالة بالكسر : ما يصاد بها من أي شيء كان ـ النهاية ١ / ٣٣٣.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : أجبت عنهم فأنت زعيمهم.

(٨) النّصفة بالتحريك : الإنصاف والعدل.

(٩) الظلم : هو تعدي وتجاوز الأمر الواضح المدلول عليه عقلا بزيادة منه أو نقصان.

(١٠) أي : بدائه العقول.

[إثبات وجود الصانع وحدوث العالم]

فقال الملحد عند ذلك : حدثني ما الدلالة على إنية الصانع؟ (١)

قال القاسم عليه‌السلام : الدلالة على ذلك قوله في كتابه عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)) [الحج : ٥ ـ ٧].

ووجه الدلالة في هذه الآية فهو : كون الإنسان ترابا ، ثم نطفة ، ثم علقة ، لا تخلو هذه الأحوال من خلتين :

إما أن تكون محدثة ، أو قديمة ، فإن كانت محدثة فهي إذا من أدل الأدلة على وجود إنّيّته ، لعلل :

منها : أن المحدث متعلق في العقل بمحدثه ، كما كانت الكتابة متعلقة في العقل (٢) بكاتبها ، والنّظم بناظمه. إذ لا يجوز وجود كتابة لا كاتب لها ، ووجود أثر لا مؤثر له في الحس ، والعقل.

ومنها : أن المحدث هو ما لم يكن فكوّن ، فهو في حال كونه (٣) لا يخلو من أحد

__________________

(١) الإنّية : تحقق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية ، وقال الراغب : أنية الشيء ، وإنيته : كما يقال ذاته ، وذلك إشارة إلى وجود الشيء ، وهو لفظ محدث ليس من لغة العرب. المفردات / ٢٩. وفي المعجم الفلسفي / ٢٧ : إنية منطقيا : الوجود الفردي المتعين ، مقابل الماهية.

(٢) سقط من (ب) و (د) : في العقل.

(٣) أي : وجوده.

أمرين :

إما أن يكون هو كوّن نفسه ، أو غيره كوّنه (١)!!

فإن كان هو الذي كوّن نفسه لم يخل أيضا من أحد أمرين :

إما أن يكون كوّن نفسه وهو معدوم ، أو كوّنها وهو موجود! فإن كان كوّنها وهو معدوم ، فمحال أن يكون المعدوم أوجد نفسه وهو معدوم. وإن كوّنها وهو موجود ، فمحال أن يكون الموجود أوجد نفسه وهو موجود. إذ وجود نفسه قد أغناه عن أن يكوّنها ثانيا. فإذا بطل هذا ثبت أن الذي كوّنه غيره ، وأنه قديم ليس بمحدث ، إذ (٢) لو كان محدثا كان حكمه حكم المحدثات.

وإن كانت الأحوال قديمة فذلك يستحيل ، لأنا نراها تحدث شيئا بعد شيء في حين واحد ، في نفس واحدة ، فلو كانت (٣) كلها مع اختلافها في أنفسها وأوقاتها قديمة ، لكانت الترابية نطفة مضغة دما علقة عظما لحما إنسانا ، في حالة واحدة ، إذ القديم هو الذي لم يكن ، ولم يزل (٤) وجوده ، وإذا لم يزل وجود هذه الأحوال ، كان على ما ذكرت وقلت ، من كونه ترابا مضغة لحما عظما إنسانا ، في حالة واحدة ، إذ الأحوال لم يسبق بعضها بعضا ، لأنها قديمة ، ولأن كل واحد منها (٥) في باب القدم سواء ، فإذا استحال وجود هذه الأحوال معا في حين واحد ، في حالة واحدة ، وثبت (٦) أن الترابية سابقة للنطفية ، والنطفية (٧) سابقة للحال ، التي بعدها (٨) ، صح الحدوث ، وانتفى عنها

__________________

(١) في (أ) و (ج) : كون نفسه وهو معدوم أو غيره كونه.

(٢) في (أ) و (ج) : إذا لو كان.

(٣) في (أ) و (ج) : ولو كانت.

(٤) الأزل : استمرار الوجود في الأزمنة غير المتناهية ، والأزلي : هو من لا يكون مسبوقا بغيره. التعريفات / ٣٢ ، المعجم الفلسفي / ٩.

(٥) في (ب) و (د) : ولأن كلها.

(٦) في (ب) و (د) : فصح.

(٧) في (ب) : والنطفة.

(٨) في (أ) و (ج) : التي معهما. وفي (ه) : للحالتين اللتين بعدها.

القدم (١) ، وإذا صح الحدوث فقد قلنا بديّا : إن المحدث متعلق في العقل بمحدثه.

قال الملحد : وما أنكرت أن تكون (٢) الأحوال حديثة ، وأن العين ـ التي هي الجسم ـ قديمة.

قال القاسم عليه‌السلام : أنكرت ذلك من حيث لم أره منفكا عن هذه الأحوال بتة ، ولا جاز أن ينفك (٣) (فلما لم أره منفكا من هذه الأحوال ولا جاز أن ينفك) ، كان (٤) حكم العين كحكم الأحوال في الحدوث.

قال الملحد : ولم؟

قال القاسم عليه‌السلام : من قبل أنها ـ أعني العين ـ إذا كانت قديمة وكانت الأحوال محدثة ، فهي لم تزل تحدث فيها الأحوال ، وإذا قلت لم تزل تحدث فيها ناقضت ، لأن قولك : لم تزل خلاف قولك : تحدث. والكلام إذا اجتمع فيه إثبات شيء ونفيه في حال واحد استحال. وذلك أنها إذا لم تزل تحدث فيها ، فقد أثبتها قديمة (٥) لم تزل تحدث فيها ، وإذا كان هذا هكذا فهي لم تسبق الحدث ، فقد صار الحدث قديما ، لأنه صفة الجسم الذي هو قديم ، وإذا كانت صفته استحال أن تكون صفة القديم الذي لا يخلو (٦) منها ولا يزول عنها محدثة (٧) ، وهذا محال بيّن الإحالة ، لأن فيه تثبيت المحدث قديما ، والقديم محدثا.

قال الملحد : فما أنكرت أن تكون هذه الأعيان هي التي فعلت الأحوال؟

قال القاسم عليه‌السلام : بمثل ما أنكرت زيادتك الأولى ، لأنه لا فرق بين أن

__________________

(١) في (أ) : العدم مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : ما أنكرت أن تكون الأحوال. وفي (ه) : ما أنكرت أن هذه الأحوال. وفي (د) : ما أنكرت هذه الأحوال.

(٣) سقط من (ب) : ولا جاز أن ينفك.

(٤) سقط من (و) : ما بين القوسين. وفي (ه) و (و) : فكان.

(٥) في (أ) و (ب) : قديما.

(٦) في (د) : لم يخلو.

(٧) في (ب) و (د) : يزال عليها. وفي (و) : يزد. وفي (أ) و (و) : محدثا.

تكون هي الفاعلة ، وهي لم (١) تسبق فعلها ، أو تكون هي قديمة وهي لم تسبق صفاتها (٢) ، لأن الفاعل سابق لفعله متقدم له ، وكذلك القديم الذي لم يزل ، سابق للذي لم يكن ، لأن في إثبات الفعل له إثبات حدث فعله ، وإذا لم يسبق فعله فقد جمعت بينهما في حال واحد ، وثبّتّ للشيء الواحد القدم والحدوث في حالة واحدة ، وهذا محال بيّن الإحالة.

[نظرية الهيولى والصورة وحدوث الأشياء من بعضها]

قال [الملحد] : فإني لم أر كون شيء إلا من شيء ، فما أنكرت أن تكون الأشياء لم تزل يتكون بعضها من بعض؟ وما أنكرت أن يكون الشيء الذي هو الأصل قديما؟

قال القاسم عليه‌السلام : أنكرت ذلك أشد الإنكار ، وذلك أن الشيء الذي هو الأصل لا يخلو من أن يكون فيه من الأحوال والهيئات والصفات مثل ما في فرعه ، أو ليس كذلك؟! فإن كان فيه مثل ما في فرعه ، فحكمه في الحدث كحكمه ، وقد تقدم (٣) الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية ، على أنا نجد الصور والألوان والهيئات والصفات بعد أن لا نجدها فيه (٤) ، ووجود الشيء بعد عدمه هو أدل الدلالة على حدثه!!

فحدثني عن الصورة (٥) من أي أصل حدثت (٦)؟ فإن قلت إنها قديمة أحلت ، وذلك أنها لا تخلو من أمور.

__________________

(١) في (أ) : لمن. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : أو تكون قديمة لم تسبق صفاتها.

(٣) في (ه) و (و) : تم.

(٤) في (ب) : لم نجدها. وسقط من (أ) : فيه.

(٥) في (ه) : عن الصور. والصورة : العرض ، وهي ما قابل المادة وقد عنى أرسطو بهذا التقابل وبنى عليه فلسفته كلها ، وطبقه في الطبيعة وعلم النفس والمنطق. والإله عنده صورة بحتة ، والنفس صورة الجسم ، ولا يتم وجودها إلا بالفعل دون وجود ما حلت فيه. انظر : المعجم الفلسفي / ١٠٧ ، التعريفات / ١٧٨.

(٦) في (ج) : من أي شيء حدثت.

أحدها : أن الصورة لو كانت قديمة لكانت في هذا المصوّر (١) الذي ظهرت فيه الصورة ، أو في عنصره الذي تسمونه" هيولى" (٢) ، فإن كان في هذا المصوّر بان فساد قولكم ودعواكم ، إذ قد نجده بخلاف (٣) هذه الصورة ، وإن كانت في الذي تسمونه" هيولى" ، فلا بد إذا ظهرت في هذا المصوّر أن تكون قد انتقلت عنه إلى هذا (٤) فإن قلت : انتقلت. أحلت ، لأن الأعراض (٥) لا يجوز عليها الانتقال ، على أن في الصورة ما يرى بالعيان ، فإن كانت منتقلة فما بالها خفيت عند الانتقال ، وظهرت عند اللبث؟!

وفيه خلة أخرى وهي : أنها (٦) لو كانت في الأصل (٧) ، ثم انتقلت عنه إلى فرعها (٨) ، فقد جعلت لانتقالها غاية ونهاية ، وإذا جعلت لها غاية ونهاية (٩) فقد صح حدث (١٠) الذي انتقلت عنه هذه الأحوال (١١).

فإن قلت : لم تزل تنتقل. كان الكلام عليك في هذا المعنى ، كالكلام الذي قدمناه آنفا في" باب لم تزل تحدث".

__________________

(١) المصوّر : الجسم ، أيّ جسم.

(٢) الهيولى : القطن. وشبه الأوائل طينة العالم به. وهو السديم. والسديم هو الضباب الرقيق. وهو في اصطلاحهم موصوف بما يصف به أهل التوحيد الله تعالى أنه موجود بلا كمية ولا كيفية ، ولم يقترن به شيء من سمات الحدث ثم حلت به الصنعة ، واعترضت به الأعراض ، فحدث منه العالم.

(٣) في (ب) و (د) : على غير.

(٤) أي : عن الهيولى إلى المصوّر. وسقط من (ه) : عنه إلى هذا.

(٥) أي : الصّور.

(٦) أي : الصورة.

(٧) يعني : الهيولى.

(٨) لعله : فرعه ، أي فرع الأصل الذي هو الهيولى وفرعه المصوّر.

(٩) في (ب) : جعلت الانتقال لها غاية ونهاية.

(١٠) سقط من (ب) : صح.

(١١) لأنها قد تخلفت عنه فدل ذلك على أنها غير ذاتية ، لأن ما بالذات لا يتخلف ، ودل ذلك على جواز ثبوتها له وانتفائها عنه ، وإذا جاز ذلك لم يصح أن يثبت له إلا لفاعل أو علة قديمة موجبة ، والثاني باطل كإثباتها له لذاته ، فدل ذلك على أنها لفاعل ، وأنها محدثة وأن ملازمتها للجسم دليل حدوثه. تعليقة للسيد بدر الدين الحوثي.

وفيه معنى آخر وهو : أنك إذا جعلت الأشياء في وهمك شيئين ، إذا أفردت كل واحد من صاحبه نقص ، وانتهى إلى حد ما وقلّ ، وإذا جمعت كل واحد إلى صاحبه زاد ، وانتهى إلى حد ما وكثر ، أفليس (١) إذا انتهى في حال ، وزاد فكثر أو نقص فقلّ ، فالنقص والزيادة يخبران بالنهاية عنه (٢)؟! وإذا ثبت فيه النهاية ، ثبت فيه الحدوث (٣)!!!

[نظرية الكمون والظهور]

قال الملحد : ما أنكرت أن تكون صورة التمرة والشجرة كامنة في النواة ، فلما وجدت ما شاكلها ظهرت؟!

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذا يوجب التجاهل ، وذلك أنا لو تتبعنا أجزاء النواة لم نجد فيها ما زعمت.

وشيء آخر وهو : أنه لو جاز هذا لجاز أن يكون الإنسان كامنة فيه (٤) صورة الخنزير ، والحمار ، والكلب ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان (٥) الإنسان إنسانا في الظاهر ، كلبا ، حمارا ، خنزيرا ، فيلا ، في الباطن!! فإن قلت ذلك ، لحقت بأصحاب سوفسطاء (٦).

__________________

(١) في (ه) : فليس.

(٢) في (أ) : عنه بالنهاية.

(٣) وهذا يوافق قول زين العابدين عليه‌السلام في جوابه على الخارجي : كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث. أي : الحوادث المنقضية.

(٤) في (أ) : في.

(٥) في (أ) و (و) : والكلب ، فيكون الإنسان.

(٦) في (ه) و (و) : أصحاب. والسوفسطائيون : جماعة يونانية اتخذت من التدريس مهنة لها ، وكان همها تعليم الشباب اليوناني الفضيلة ، ويعنون بالفضيلة مقدرة الشخص على أداء وظيفته في الدولة ، وكان ابتداء وجودهم حوالي ٤٨٠ ق م ، أما كتب المقالات الإسلامية فتقسمهم إلى ثلاث فرق واصطلحت على تسميتهم بالعنادية ، والعندية ، واللاأدرية ، فالأولى تنكر في الأصل حقائق الأشياء ، فليس ثمّة حقيقة مؤكدة. والثانية الحقيقة هي ما تبدو لها فحسب ، فإذا كان في يدي قلم فإنه قلم ، وقد يكون عندك شيء آخر. والأخيرة اتخذت من كلمة لا أدري منهجا ، فإذا ما سئلوا عن شيء فإنهم ـ

فإن شئت تكلمنا فيه. على أنه قد ظهر من حمقهم لأهل العقول ما يزعهم (١) عن القول بمقالتهم.

قال الملحد : وكيف يجوز أن يكون الإنسان إنسانا في الظاهر ، وكلبا حمارا خنزيرا فيلا (٢) ، في الباطن؟! قال القاسم عليه‌السلام : كما جاز أن تكون صورة التمرة والنخلة كامنة في النواة!!

قال الملحد : فإن بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة ، وليس بين الإنسان والكلب مشاكلة.

قال القاسم عليه‌السلام : لو كان بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة مع اختلاف الصورة ، لجاز أن يكون بين الإنسان والكلب مشاكلة!!

قال الملحد : فإن النواة إذا انتقلت من صورتها ، انتقلت إلى صورة النخلة (٣).

قال القاسم عليه‌السلام : وكذلك الإنسان إذ تفرقت أجزاؤه جاز أن يكون كلبا في الطبع والقوة والهيولية عندك ، فمهما أتيت به فيه من شيء (٤) تريد الفرق بينهما فهو لي عليك ، أو مثله.

ووجه آخر وهو : أن الصورة لو كانت في الأصل نفسه ، لكان الأصل نفسه هو التمرة ، لأن التمرة إنما بانت من (٥) سائر المصورات ، وعرفت من غيرها بالصورة ، فعلى هذا يجب أن يكون أصلها التمرة ، وهذا مكابرة العقول ، لأنه لو كان هذا هكذا ، لكان

__________________

لا يدرون ، وإذا ما شكوا فإنهم يشكون في أنهم شكوا.

(١) في (ب) و (د) : يرغبهم.

(٢) سقط من (ه) و (و) : فيلا.

(٣) سقط من (أ) : قول القاسم وجواب الملحد عليه.

(٤) في (أ) و (ج) : فمهما أثبت به من شيء. وفي (ب) : فمهما ثبت من شيء. وفي (د) : فمهما أثبت به فيه من شيء. وفي (ه) : فمهما أثبت به من شيء. وفي (و) : فمهما أثبت به شيء. ولفقت النص من الجميع.

(٥) في (ب) و (د) : عن.

ظهورها في نواتها أقرب وأشهر وأعم ، ولم يستحل وجود صورتين معا (١) في حين واحد.

قال الملحد : إن النواة هي تمرة بالقوة الهيولية ، أعني أنها إذا انتقلت لم تنتقل إلا إلى شجرتها ، ثم إلى ثمرتها ، ثم تعود إلى أصلها ، ثم تصير نواة في وسطها.

قال القاسم عليه‌السلام : لو كان هذا هكذا ، لكانت الطبيعة (٢) التي هي الأصل تمرة بالقوة الهيولية ، إن كنت ممن يقول بالدهر ، وإن كنت ثنويا فالنور والظلمة ، وما أصّلت من أصل فيجب على هذا أن يكون ذلك الأصل تمرة بالقوة ، لأنها إذا انتقلت انتقالاتها صارت تمرة ، وهذه مكابرة (٣) واضحة ، وذلك يوجب عليك أن الأصل البحت : تمرة ، نواة ، خوخة ، باذنجانة ، لأنه جائز عندك الانتقال من صورة إلى صورة. وإن (٤) كان حكم الأصول في الهيئات (٥) خلاف حكم الفروع فسنقول فيه قولا شافيا إن شاء الله.

قال الملحد : إن صحّحت أن (٦) حكم الأصول حكم الفروع (٧) ، تركت مذهبي ، فإنه قد عظمت عليّ الشّبهة في هذا الموضع.

قال القاسم عليه‌السلام : اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفة.

فمنها : ما يعرف بالحس.

ومنها : ما يعرف بالنفس.

ومنها : ما يعرف بالعقل.

ومنها : ما يعرف بالظن والحسبان.

__________________

(١) سقط من (ب) و (ه) : معا.

(٢) سقط من (ب) : لكانت الطبيعة.

(٣) في (ه) : وفي هذا مكابرة. وفي (و) : وهذا مكابرة.

(٤) لعله عطف على قوله في الجواب السابق حيث قال : أشد الإنكار ، وذلك أن الشيء الذي هو الأصل لا يخلو من أن يكون فيه من الأحوال. في (ب) : فإن.

(٥) في (ب) و (د) : الأصول والهيئات.

(٦) في (ب) : بأن.

(٧) في (ج) : إن صححت أن حكم الأصول في الهيئات خلاف حكم الفروع تركت مذهبي.

فأما الذي يعرف بالحس فطرقه خمس :

سمع ، بصر ، شم ، ذوق ، لمس.

فالسمع طريق الأصوات ، والكلام.

والبصر طريق الألوان ، والهيئات.

والذوق طريق المطعوم.

والشم طريق الأراييح (١).

واللمس طريق اللين والخشونة.

وما يعرف بالنفس فالخجل ، والوجل ، والسرور ، والحزن ، والصبر ، والجزع ، واللذة ، والكراهية ، وما أشبه ذلك من التوهم ، وغيره.

وأما ما يعرف بالعقل فشيئان : أحدهما : يدرك (٢) ببديهته مثل تحسين الحسن ، وتقبيح القبيح ، وحسن التفضل ، وشكر المنعم ، ومثل تقبيح كفر المنعم ، والجور ، وما يجانسه من علم بدائه العقول.

والوجه الثاني هو : الاستنباط ، والاستدلال ، الذي هو نتيجة العقول (٣) كمعرفة الصانع ، وعلم التعديل ، والتجوير ، والعلم بحقائق الأشياء.

وأما ما يعرف بالظن والحسبان فهو : القضاء (٤) على الشيء ، بغير دليل ، فهذا ربما يصيب ، وربما يخطي ، وإنما لخصت لك هذا كله ، ليكون عونا لنا فيما تأخر من كلامنا ، ويكون أحد (٥) المقدمات التي نرجع إليها ، فكل (٦) شيء من هذه العلوم لا يصاب إلا من طريقه ، ولو حاولته من غير طريقه لتعسر عليك ، وكنت كمن طلب

__________________

(١) في (ب) : الروائح. وفي (د) : الأرياح.

(٢) في (ب) و (د) : يعرف.

(٣) في (ب) و (د) : العقل.

(٤) القضاء هنا بمعنى : الحكم.

(٥) في (ب) و (د) : إحدى.

(٦) في (ب) : وكل.

علم الألوان بالسمع ، وعلم الذوق بالعين.

فأما أحوال (١) الأجسام فإن (٢) طريق المعرفة بها من جهة البصر ، والبصر لا يؤدي إلى الإنسان إلا الأجسام ، لأن الأجسام لا يجوز أن (٣) تخلو من هذه الصفات ، فيتوهمه ويمثله (٤) في نفسه خاليا منها ، فإذا لم يجز ذلك ، ثبت أن الأجسام لا تخلو من هذه الصفات ، وأنه لا يكون حكم أصولها إلا كحكم فروعها.

[علة وجود الأشياء وفسادها]

قال الملحد : إنهم يزعمون أن علة كون الأشياء ، وفسادها حركات الفلك ، وسير الكواكب ، وبعضهم يقول : إن علتها تمازج الطبيعتين ، أعني النور والظلمة ، وبعضهم يقول غير ذلك.

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على فساد قولهم : قول الله تبارك وتعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج : ٥] ، وقوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)(٦٨) [يس : ٥٥].

فلو كان علة كونه ما ذكروا (٥) لكان الإنسان لا يتوفى في طفوليته ، ولا يفسد كونه ، مع وجود علة كونه ، اللهم إلّا أن يقرّوا بحدوث علة الفساد ، فيكونوا حينئذ تاركين لمذهبهم ، فإن قالوا : بل علة كونه وفساده قديم. فالشيء (٦) إذا كان فاسدا في حال ، كان فيها صالحا ، إذ عللهما موجودة ، ومحال أن تكون عللهما موجودة ويتوفى

__________________

(١) يعني : الصّور ، التي هي الأعراض.

(٢) في (ب) و (د) : فإنما.

(٣) سقط من (أ) : يجوز أن.

(٤) أي : يتوهم الإنسان الجسم خاليا من الصفات ، لأن منها الطول والعرض والعمق ولو تجرد منها لخرج عنه كونه جسما.

(٥) في (أ) و (ه) و (و) : ما ذكر.

(٦) هذا جواب عليهم.

هذا في الطفولية ، ويرد هذا إلى أرذل العمر ، وينكس هذا في الخلق. إذ يعمر (١) ؛ إن هذا لعمري لعكس العقول.

قال الملحد : لو لزمهم ذلك ، للزمك حين زعمت : أن الله علة كون الأشياء وفسادها ، مثل ما ألزمت خصومك.

قال القاسم عليه‌السلام : ولا سواء! وذلك أنا لا نزعم أن الله علة كون الأشياء وفسادها ، بل نزعم : إن الله تعالى هو الذي كون الشيء ، وأفسده من غير ما (٢) اضطرار. والدليل على أن الله عزوجل ليس بعلة فعله (٣) ذلك ؛ أنّ أفعاله مختلفة الأحوال ، منتقلة الصفات. فلو كان هو العلة لما زال شيء عن صفته ، لأنه عز ذكره قديم ، والقديم لو كان علة شيء ، لم يزل معلوله ، كما لم يزل هو في ذاته ، وزوال الأشياء عن صفاتها يدل على أن الله عزوجل ليس بعلة ولا معلول.

فقال الملحد حينئذ (٤) : بارك الله فيك ، وفي من ولدك ، فقد أوضحت ما كان ملتبسا عليّ ؛ وإني سائلك عن غيرها ، فإن أجبتني عنها كما أجبت أسلمت.

قال القاسم عليه‌السلام : إن أسلمت فخير لك ، وإن أصررت فلن يضر الله إصرارك! سل عما بدا لك.

[توحيد الخالق]

قال الملحد : ما الدلالة على أن صانع العالم واحد؟

قال القاسم عليه‌السلام : لأنه لو كان أكثر من واحد ، لم يخل من أن يكون كل واحد من الصانعين حيا ، قادرا. أو ليس كذلك؟! فإذا (٥) كان كل واحد منهما حيا

__________________

(١) في (أ) و (ج) : أو يعمر.

(٢) سقط من (ب) و (ه) و (د) : ما.

(٣) سقط من (أ) و (ب) و (ج) و (د) : فعله.

(٤) في (ه) : عند ذلك.

(٥) في (ب) و (د) و (و) : فإن.

قادرا ، لم يكن محالا متى أراد هذا خلق شيء ، أن يمنعه الآخر من خلقه لذلك الشيء بعينه ، ولو منعه صاحبه من ذلك ، كان الممنوع عاجزا ، ودلّك عجزه على حدثه! وإن تمانعا ، وتكافأت قواهما ، وقع الفساد ، ولم يتم لواحد منهما خلق شيء ، ودخل على كل واحد منهما العجز ، إذ لم يقدر كل واحد منهما على مراده. فلما وجدنا العالم منتظما ، متّسق التدبير ، دلنا على (١) أن صانع ذلك ليس باثنين ، ولا فوق ذلك.

قال الملحد : ما أنكرت أن يتّفقا ، ويصطلحا؟

قال القاسم عليه‌السلام : إن الاتفاق والاصطلاح يدلان على حدث من تعمدهما ، لأنهما لا يتفقان إلّا عن ضرورة ، والمضطر فمحدث لا محالة.

قال الملحد : إنهم يقولون : إن صانع الخير لا يأتي بالشر أبدا ، وكذلك صانع الشر لا يأتي بالخير أبدا (٢).

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذا مكابرة العقول.

قال الملحد : وكيف ذلك؟

قال القاسم عليه‌السلام : لأن ذلك يدعو إلى القول بأن أحدا لم يذنب قط ، ثم اعتذر من ذنبه (٣) ؛ وإلى القول بأن إنسانا واحدا لم يصدق ولم يكذب ، ولم يضل ولم يهتد (٤) ، ألا ترى أنهم (٥) يزعمون أن انتحالهم حق ، وأنه واجب على الناس الرجوع إلى مذهبهم ، فإن كان الشيء الواحد لا يأتي بالخير والشر ، فحدثني من يدعون إلى مذهبهم؟ فإن قالوا : الخير. قيل : فإن الخير لا يضل أبدا. وإن قالوا : الشر. فالشر لا

__________________

(١) في (ب) و (د) : واتسق تدبيره. وسقط من (أ) و (ب) و (ج) و (د) : على.

(٢) الشر قسمان : الأول شر ليس من صنع الله وهو الفساد والمعاصي وما شابهها. والثاني من الله وهو شر في تصور الإنسان وخير في الواقع وذلك مثل : الجدب والمرض والفقر وما شابه ، وهو المقصود هنا.

(٣) أي : تاب وصلح بعد فساده.

(٤) في (ه) : لم يصدق ويكذب ولم يضل ويهتد.

(٥) أي : الثنوية أصحاب الظلمة والنور.

يهتدي أبدا. فليت شعري من هذا (١) الذي يدعونه إلى مذهبهم.

قال الملحد : لعمري لقد ألطفت (٢) في الاستخراج على القوم ، ولعمري إن هذا مما يقطع شغبهم ، ولكنهم يقولون : لما كان في العالم خير وشر ، دلنا ذلك على أنهما من أصلين قديمين.

قال القاسم عليه‌السلام : أما وجود الخير والشر في العالم ، فإنا نجده ؛ إلّا أن هذا يدلنا على أن صانع العالم واحد.

والدليل على ذلك : أن الخير والشر ، معتقبان على الخيّر والشرير ، ووجدناهما محدثين ، وقد قدمنا الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية ، وبيّنا أن العالم أصله وفرعه محدث ، وأن المحدث يقتضي المحدث ، (فإن كان حكم فاعله كحكمه ، أوجب ذلك حدوث صانع العالم ، ويقتضي المحدث) (٣) ، فإن كان هذا هكذا ، فلكل صانع صانع ، إلى ما لا نهاية له ، وقد بيّنا فساده آنفا (٤).

ووجه آخر وهو : أن الخير والشر ليس اختلافهما يدل على قدمهما ، ليس اختلافهما بأعظم (٥) من اختلاف الصور والهيئات. وقد قلنا : إن اختلافهما يدل على من خالف بينها ، واخترعها (٦) مختلفة ، فلو كان الخير والشر وسائر المختلفات قديمة ، لكان فيها دفع الضرورات.

ووجه آخر : ذلك (٧) أنا نرى خيرا لمعنى ، وشرا لمعنى آخر ، ونرى الخير والشر

__________________

(١) في (أ) و (ج) : ما هذا.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : لطفت.

(٣) سقط من (ب) و (د) : ما بين القوسين.

(٤) في (ه) و (و) : أيضا.

(٥) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : بأكثر. وفي (ه) : أعظم.

(٦) في (أ) : إن اختلافهما يدل على من خالف بينهما واخترعهما. وفي (ج) : إن اختلافها يدل على من خالف بينهما واخترعها. وفي (و) : إن اختلافهما يدل على من خالف بينها واخترعها.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : ووجه آخر. وفي (ه) : وهو.

مجتمعين في حين (١) واحد ، فلا يخلوان في حال اجتماعهما من أمور : إما أن يكونا اجتمعا بأنفسهما ، أو جمعهما غيرهما ، فإن كانا اجتمعا بأنفسهما فمحال (٢) ، وذلك أنهما ضدان ، والضدان لا يجتمعان بأنفسهما ، لأنا (٣) نشاهد نفورهما ، وفرار كل واحد من صاحبه ، فإذ فسد ذلك ، لم يبق إلا أن جامعا جمعهما.

ووجه آخر وهو : أنه لو كان وجود الخير والشر ، دالا على أن لهما أصلين قديمين ، لكان وجود الطبائع الأربع دالا على أن لها أصولا قديمة ، وإذا كان هذا هكذا ، دلنا على أن شاهدهم شاهد زور.

[حكمة خلق العالم]

قال الملحد : فإذا لم يكن العالم واحدا قديما ، ولا كان (٤) مزاج الاثنين ، وكان صنعا من صانع قديم ؛ فحدثني. لم خلق الله هذا العالم؟

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذا الكلام فرع من أصل ، فإن سلّمت لي الأصل كلمتك فيه ، وإلا نازعتك في الأصل.

قال الملحد : وما ذلك الأصل؟

قال القاسم عليه‌السلام : هو أن تعلم بالدلائل : أن العالم محدث ، وأن له محدثا ، ثم تعلم: أن محدثه واحد ، قديم ؛ ثم تعلم : أنه قادر ، حي ، حكيم في نفسه ، وفعله.

قال الملحد : قد دللت على الصانع ، وعلى أنه واحد ، فما الدليل على أنه قادر حي حكيم؟

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على ذلك أنا وجدنا الفعل المتقن المحكم متعذرا

__________________

(١) في (ه) : حال.

(٢) في (ب) و (ج) و (ه) : فذلك يستحيل.

(٣) في (أ) و (ج) و (و) : مع أنا.

(٤) سقط من (ه) : وكان.

إلا على القادر الحي الحكيم العالم ؛ فلمّا وجدنا الفعل المحكم واقعا ، دلنا ذلك على أن صانعه عالم ، قادر ، حي ، حكيم.

قال الملحد : فهل وجدت الفاعل الحكيم القادر سوى الإنسان؟

قال [القاسم] : لا.

قال [الملحد] : أفتقول إنه إنسان؟

قال [القاسم] : إني وإن لم أجد إلا إنسانا ، فلم يقع الفعل منه لأنه إنسان ، إذ قد وجدنا إنسانا تعذر عليه الفعل ، فلما وجدناه متعذرا عليه ؛ دلنا ذلك على وجود فاعل ليس بإنسان (١).

ألا ترى أنا لما قلنا : إنه لا يجوز كون الفعل إلا من قادر حكيم ، جائز منه ذلك. فكان قولنا فيه مستمرا ؛ ولما لم يستمر القول في ذلك (٢) لم نقل به.

(قال الملحد : قد أبلغت في هذا ، فنرجع إن شئت إلى مسألتي.

قال [القاسم] : سل) (٣).

قال [الملحد] : لم خلق الله العالم؟

قال القاسم عليه‌السلام : قال الله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ، وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٥٦) [الذاريات : ٥٦] ، وقال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣]. فأخبر أنه خلقنا للعبادة ، والابتلاء ، وليبلغ بنا إلى أرفع الدرجات ، وأعلى المراتب.

__________________

(١) لأن تخلف القدرة والحكمة عن بعض الناس دليل على أنها لم تحصل للآخرين لعلة كونهم من الناس ، إذ قد وجد ناس لم تحصل لهم فدل على أنها حصلت ممن يعلم ويقدر من الناس بجعل جاعل ، لا لعلة أنه إنسان. وذلك يدل على أن القدرة والحكمة لا تتوقف على الإنسانية. تعليقة السيد بدر الدين الحوثي.

(٢) أي : في الإنسان وقدرته.

(٣) سقط من (ه) : ما بين القوسين.

قال الملحد : فما دعاه إلى خلقنا؟ ألحاجة خلق؟

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : ما دعاه؟ فمحال.

وذلك أنه لم يزل عالما بلا سهو ، ولا غفلة. فقولك : ما دعاه (١)؟ محال. لأن الدعاء ، والتنبيه ، والتذكير ، إنما يحتاج إليها الغافل ؛ فأما الذي لا يجوز أن يغفل ، فمحال أن يدعوه شيء إلى شيء ؛ إذ لا غفلة هناك ، ولا سهو. والدليل (٢) على ذلك : أن الغفلة من الدلالة على الحدوث ؛ وقد قامت الدلالة على أنه قديم. وأما قولك : ألحاجة خلق؟ فالحاجة أيضا من صفات المحدثين ، والقديم يتعالى عنها.

قال الملحد : فلم خلق؟!

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : لم خلق؟ فقد أجبتك ، وذلك في الجوابين السابقين لهذا. لأن قولك «لم»؟ سؤال. وقولي : «لأن» إجابة.

قال الملحد : فما وجه الحكمة في خلق العالم ، وخلق الممتحنين؟

قال القاسم عليه‌السلام : وجه الحكم في ذلك ، أنه إحسان ، أو داع إلى إحسان ، وكل من أحسن ، أو دعا إلى إحسان ، فهو حكيم فيما نعرفه.

قال الملحد : وكيف يكون حكيما من خلق خلقا فآلمه بأنواع الآلام؟ وامتحنه بضروب من الامتحان ، أخبرني عن وجه (٣) الحكمة في ذلك ، من الشاهد؟

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : كيف يكون حكيما ، من خلق خلقا ، فآلمه بأنواع الآلام؟ فوجه الحكمة في ذلك من الشاهد (٤) ، أنا وجدنا من الآلام في الشاهد ما هو داع إلى الإحسان. من ذلك : ضرب المؤدّبين للصبيان (٥) ومنه الحجامة ، والفصد (٦) ،

__________________

(١) في (ه) : فما دعاه.

(٢) في (ب) و (ج) و (د) : والدلالة.

(٣) في (أ) : خبرني بوجه. وفي (د) : خبرني ما وجه. وفي (ب) و (ج) : خبرني عن وجه.

(٤) في (ه) : في الشاهد.

(٥) في (ه) و (د) : المؤدبين والصبيان. وفي (د) : المؤدبين الصبيان.

(٦) الفصد : شق العروق ، والمراد الحجامة.

وشرب الأدوية الكريهة ؛ كل ذلك داعية إلى الإحسان ، وإلى شيء حسن في العقل ، فإذا كان من الآلام (١) في الشاهد ما هو كذلك ، فكل ما (٢) كونه من قبل الله عزوجل ، مثل الموت والمرض والعذاب وغيره ، حكمة في الصنع ، وصواب في التدبير ، إذ كان كل ذلك داعية إلى إحسان.

قال الملحد : ما الدليل على أن ذلك داعية إلى الإحسان؟

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على ذلك أنها أفعال الحكيم ، وقد صح أن الحكيم إنما (٣) يفعل هذه الأشياء ، التي هي الترغيب في السلامة والصحة والخير ، والترهيب من الغم والشر (٤) والسقم. ومن رغّب في الخير ، فحكيم في ما نعرفه.

وأما قولك : لم امتحن امتحانات ، عطب (٥) أكثرهم عندها؟

فإنا نقول في ذلك ولا قوة إلا بالله : إن الله سبحانه إنما امتحانه وأمره ونهيه ، داعية له إلى الخير ، فمن عطب فمن قبل نفسه عطب (٦) ، لأنه لم يأتمر بما أمره الله سبحانه ؛ ولا انتهى عما نهاها عنه ، ولو كان انتهى عما نهاه عنه ، وركب ما أمر به ، لكان يؤديه ذلك إلى الفوز العظيم.

فهو : من قبل نفسه عطب ؛ لا من قبل الله عزوجل.

ومثل (٧) ذلك فيما نعرفه : أن حكيما من حكمائنا لو أعطى عبيدا له دراهم ، وقال لهم : اتجروا ، فإن ربحتم ، ولم تفسدوا ، فأنا معطيكم ما يكفيكم ، وإن لم تفعلوا عاقبتكم. فأطاعه منهم قوم ، وعصاه آخرون ، لم ترجع اللائمة عليه ، بعصيانهم إياه ؛ ولكنها لا حقة بهم ، حين عصوه ، ولم يخرج دعاء سيدهم إياهم وعطيتهم من الحكمة ؛

__________________

(١) في (ه) : الأدوية.

(٢) في (أ) و (ج) و (ه) : ما هو كونه من قبل.

(٣) في (ب) و (د) : لأنه فعل الحكيم ، والحكيم إنما.

(٤) في (ه) و (و) : الغم والسقم والشر.

(٥) في (ج) : غضب. (مصحفة).

(٦) في (ب) و (د) : داعية له إلى الحكمة ، فالمأمور من قبل نفسه عطب. وسقط من (أ) و (ج) : عطب.

(٧) في (ب) : مثال.

إذ لم يدعهم به إلا إلى الإحسان ، فلما كان ذلك كذلك ، كان الله حكيما ، بامتحانه وأمره(١) ونهيه.

قال الملحد : إن الله يعلم ما هو صائرون إليه ، ونحن لا نعلم ذلك (٢).

قال القاسم عليه‌السلام : إن الجهل ، والعلم (٣) ، لا يحسّن الحسن ، ولا يقبّح القبيح ، وذلك لأنه (٤) لو كان حسنا لأن الآمر به يعلم أنه يفعله (٥) لكان ذلك قبيحا ، إذا (٦) كان الأمر منا بما يصير إليه المأمور جاهلا ، فلما (٧) لم يكن ذلك قبيحا لجهل الآمر منا ، لأنه إنما (٨) أمر بالحسن ودعا إلى الحسن ، وإن كان جاهلا بما يصير إليه المأمور [دل ذلك على أنه لا فرق بين أن يكون الآمر بالحسن ، والداعي إلى الحسن ، جاهلا بما يصير إليه المأمور] (٩) ، أو عالما.

وشيء آخر : وهو أنه لو كان الامتحان قبيحا ، إذا علم أنه يعصى ، لكان لا شيء أقبح من إعطاء العقل ، لأنه إنما يعصى عند وجوده ، ويستحق الذم والمدح به ، فلما كان إعطاء العقل عند الأمم كلها موحدها وملحدها حسنا ، دل ذلك على أن الامتحان والخلق والأمر بالحسن كله حسن ، علم أنه يعصي أو (١٠) يطيع.

قال الملحد : فلم مزج الخير بالشر ولم صار واحد غنيا ، وواحد فقيرا ، والآخر قبيحا ، والآخر حسنا؟

__________________

(١) في (ب) و (د) : بأمره.

(٢) يعني أن ما ذكر القاسم غير مطابق ، لأن الله يعلم مصير الممتحنين ، والسيد لا يعلم.

(٣) يعني الجهل منا. والعلم من الله.

(٤) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : أنه.

(٥) في (ب) : بفضله. (مصحفة).

(٦) سقط من (ب) : ذلك. وفي (أ) و (ب) و (ج) و (د) : إذ.

(٧) في (ب) : ولما.

(٨) في (ب) : لجهل الآمر لأنه أمر.

(٩) زيادة توضيحية لا بد منها لانتظام الكلام.

(١٠) في (ب) : أم.

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذه الدار دار امتحان ، ودار ابتلاء ، وحقيقة الامتحان فهو : أن يخلق فيه ، أو يأمره بشيء يثقل على طباعه ؛ فينظر هل يطيع ، أم لا يطيع؟

ولو خلق الله ما هو خفيف على طباعه ، ثم أمره بالخفيف لكان ذلك لذة له ، وليس بامتحان (١). فلما كانت هذه الدار دار امتحان ، كان الواجب في صواب التدبير ، أن يمزج الخير بالشر ، والنفع بالضر ، والمكروه بالمحبوب ، والحسنة بالسيئة ، والكريه المنظر بالحسن المنظر ، إذ كانت الدار دار امتحان ؛ لأنه (٢) لو كان كله محبوبا كان دار الثواب ، ولو كان كله مكروها ، كان دار العقاب ، ودار الثواب والعقاب هذه صفتها.

واعلم أنه لو (٣) لم تعرف علل ذلك لكان جائزا ، وذلك أنه في بدي الأمر ، إذا أقمت الدلالة على أنه حكيم في نفسه وفعله ، ثم دللت على أن الكل من أفعاله حكمة ، استغنيت عن معرفة علله.

ومثال ذلك من الشاهد : أنا لو هجمنا على آلات من آلات الصانع ، فرأينا اعوجاج المعوجات ، واستواء المستويات ، وصغر بعضها ، وكبر بعضها ، وغلظ بعضها ، ورقة بعضها ، فحكمنا (٤) أن صانعها غير حكيم ، لكنا جاهلين بالحكمة ، نضع الحكمة في غير موضعها. بل حينئذ الواجب علينا أن نسلم للحكماء حكمتهم ، ونعرف أنهم لا يفعلون شيئا من ذلك إلا لضرب من الحكمة يعرفونه ، ونعلم بأن المعوج والمستوي ، وكل زوج منها يصلح لعمل لا يصلح له الآخر ، فحينئذ وضعنا الحكمة في موضعها. فاعرف ذلك وتبيّنه ، تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى.

فلما (٥) كانت أفعال الله كلها إحسانا ، أو داعية إلى الإحسان ، كان تبارك وتعالى

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولم يكن بامتحان.

(٢) في (ه) : لأنه جل وعلا لو.

(٣) في (ه) : واعلم أنه ولو لم نعرف.

(٤) في (ه) : وكثرة بعضها. وقلة بعضها. وفي (ب) و (د) : فحكمنا على.

(٥) في (ب) و (د) : ولما.

بفعلها كلها حكيما ، إذ كل ذلك حسن في العقل.

فإن قلت : لم فعل الحسن في العقل؟

قيل لك : يفعل الحسن لحسنه ، ولو لم يفعل الحسن في العقل لحسنه ، لكان لا يترك القبيح لقبحه في العقل (١) ، وكفى بهذا القول قبحا.

[إرسال الرسل وحكمة التشريع]

قال الملحد : لقد أبلغت وقد بقيت لي مسائل.

قال القاسم عليه‌السلام : سل.

قال الملحد : ما الدليل على أن الصانع له رسول؟

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على ذلك أن الصانع حكيم ، محسن إلى خلقه ، وفي العقل أن شكر المنعم واجب ، فلما كان هذا في عقولنا واجبا ، وكان الله حكيما منعما على خلقه ؛ كان من كمال النعمة أن أرسل إليهم الرسل ، مع دلائل اضطرت العقول إليها ، ليبين لهم كيفية شكره ، لأن كيفية (٢) شكره ليس مما يعلم بالعقل ، ولا بالنفس ، ولا بالحس ، ولا بالظن ، وإن كان في العقل جوازه. فحينئذ أقام لهم معهم دلائل ومعجزات ، دل بها على صدقهم.

قال الملحد : كأنك تقول : إن شرائع الأنبياء خارجة عن العقول ، إذ قلت : لا يعلم كيفيتها بها (٣).

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : إن شرائع الرسل خارجة عن العقول إذ ليس فيها كيفيتها. فإني لم أقل لك (٤) ليس فيها كيفيتها بتة ، بل اشترطت لك فقلت لك : إنه

__________________

(١) سقط من (ه) : في العقل.

(٢) في (ه) : كيف.

(٣) سقط من (ه) : بها.

(٤) في (ه) و (د) : أقل لك ليس فيها أن لا تكون بتة.

وإن لم يكن فيها كيفيتها ففيها جواز كونها.

قال الملحد : وكيف ذلك؟

قال القاسم عليه‌السلام : هو مثل ما تعرفه في الشاهد ، وذلك لو أن سيدا أمر عبده ببناء دار ، أو قطع شجرة ، أو إعطاء عبد الله ، أو ضرب زيد ، فإنه ليس في العقل أن السيد يأمر به (١) ، فإذا أمر به كان في العقل أن الايتمار به حسن ، وأن تركه قبيح ، إذا كانت (٢) لأمر سيده عاقبة محمودة ، ومرجع نفع إلى العبد ، فالعقل (٣) يجوّز الأمر بكل شيء على حياله ، ولا يوجب شيئا من ذلك دون شيء ، إذا كان ذلك الأمر مما ينتقل حاله في العقل ، وذلك أنه قد يكون المشي إلى موضع ما حسنا في العقل ، إذا كان للمشي معنى حسن ، فأما اللواتي يدرك حكمها في العقل ، فقد أدرك بأن (٤) الآمر بها لا يأمره إلا بما هو حسن ، ولا ينهى إلا عن ما هو قبيح عنده.

قال الملحد : فحدثني عن الصلاة والصيام وغيرهما من الشرائع ، هل له أصل في العقل (٥) تفرّع هذا منه؟

قال القاسم عليه‌السلام : أجل ، قد أخبرتك به آنفا ، وهو كالأمر بالمشي إلى موضع ما ، وكضرب زيد ، وإعطاء عبد الله ، ليس له أصل في العقل (٦) ، أكثر من الايتمار لأمر الحكيم ، ووجه الحكمة فيه أن الآمر إنما يأمر به لينظر هل يأتمر به المأمور فيجازيه لذلك؟ لا سيما إذا كان الآمر مستغنيا ، غير محتاج إلى ما يأمر به ، وإنما يأمرهم ليمتحنهم ، وليظهر بذلك أعمالهم ، فإن الأمر به حسن ، وعلى ذلك سبيل الشرائع كلها.

قال الملحد : خبرني عن كيفية معجزاتهم.

قال القاسم عليه‌السلام : هو قلب العادات ، وأن لا يترك العادات جارية على

__________________

(١) أي : بعينه.

(٢) في (ب) : كان.

(٣) في (ب) : فإن العقل.

(٤) في (ب) و (ه) : أن.

(٥) في (ه) : هل لأمر في العقل.

(٦) في (ه) : ليس له في الأصل في العقل.

مجراها ، فإذا جاء أحدهم وقال له قومه : ما الدلالة على صدقك ، قال : الدليل أن الله يقلب عاداتهم ، في كذا ، وكذا ، إلى كذا وكذا ، فحينئذ يعرفون صدقه ، ويضطرون إلى قبول قوله ، وهذه سبيل المعجزات كلها ، وبمثل ذلك (١) يفرق بين النبي والمتنبي ، وبين (٢) الصادق والكاذب.

[الحكمة من الموت والبعث]

قال الملحد : فإنه (٣) بقي في قلبي شبهة ، فأحب أن تقلعها بحسن رأيك ونظرك.

قال القاسم عليه‌السلام : هاتها لله أبوك!

قال الملحد : أخبرني عن الله عزوجل ، لم يميت الإنسان ، ويصيّره ترابا ، بعد أن جعله ينطق بغرائب الحكمة ، وبعد هذه الصورة العجيبة البديعة؟! ولم يفني العالم كله؟! أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء فنقضه لا لمعنى ، هل يكون حكيما؟!

قال القاسم عليه‌السلام : ليس الأمر كما ظننته ، أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء للشتاء فلما جاء وقت الصيف نقضه وبناه للصيف ، هل يكون حكيما؟

قال [الملحد] : نعم.

قال [القاسم] عليه‌السلام : ولم؟

قال [الملحد] : لأن الذي اتخذه للشتاء ، لا يصلح للصيف ، وكذلك الذي اتخذه للصيف لا يصلح للشتاء.

قال القاسم عليه‌السلام : وكذلك الله عزوجل ، خلق الدنيا وما فيها (٤) للابتلاء ، فإذا انتهى إلى أجله وحينه ، أفناها (٥) ، ويعيدها ثانيا (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما

__________________

(١) في (ب) : وبذلك.

(٢) سقط من (ه) : بين.

(٣) في (ب) و (د) : إنه قد.

(٤) سقط من (ه) : وما فيها.

(٥) سقط من (أ) و (ج) و (ه) : وحينه. وفي (ب) و (د) : يفنيها.

عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)) [النجم : ٣١]. ولا يكون ذلك خروجا من الحكمة ، بل الحكمة أن لا يضيع الثواب والعقاب.

قال الملحد : إن التوحيد ، والتعديل ، والرسل ، قد تكلم فيه ناس من أهل الملل (١) وكل يشك في الميت ، هل يحيى أم لا؟ وكلّ يجيء في ذلك بشيء ، فإن دللت على ثباته ، وكيفيته ، لم تبق لي مسألة ، وحينئذ آمنت بربي.

قال القاسم عليه‌السلام : أما الدلالة على ثباتها (٢) فإني وجدت الله تبارك وتعالى حكيما ، قد امتحن خلقه ، وأمرهم ، ونهاهم ، وكان قول من يقول بإزالة الامتحان ، داعيا (٣) إلى الإهمال ، والإهمال داع إلى أن الله غير حكيم ، وإذا (٤) جاز أن يكون العالم قديما. لأنه لا فرق بين أن يفعل من (٥) ليس بحكيم هذا الصنع العجيب ، وبين أن يقع فعل لا من فاعل ، والأشياء موجودة ، فتكون قديمة أزلية ، لا فاعل لها.

ووجدت (٦) هذا القول داعيا إلى التجاهل ، فلما كان ذلك كذلك ، صح أن الله حكيم ، والحكيم لا يهمل خلقه ، وإذا لم يهمل خلقه ، لم يكن بد من أمر ونهي ، ولم يكن بد من (٧) مؤتمر ، وغير مؤتمر ، وكان من حكم العقل أن يفرق بين الولي ، والعدو ، ووجدنا أولياءه وأعداءه مستوية الأحوال في الدنيا ، لأنه كما أن في الأعداء من هو موسر صحيح ، ففيهم من هو معسر مريض ، وكذلك الأولياء ، فلما كانت في الدنيا أحوالهم مستوية ، ولم يكن بدّ من التفرقة بينهما (٨) ، صح أن دارا أخرى فيها يفرق بينهم ، وفيها ينشرون ، إذ قد وجدت هذه الحال قد اشتملت الكل ، الولي والعدو.

__________________

(١) في (ب) : الملل والرسل. وفي (ج) : أهل العلل. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : حياتها.

(٣) في (ب) و (د) : داعية.

(٤) في (ه) : فإذا.

(٥) في (ه) : ما.

(٦) في (ب) و (ه) : وجدت.

(٧) سقط من (ه) : لم يكن بد من.

(٨) سقط من (ه) : بينهما.

وذلك قوله عزوجل : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)) [ص : ٢٨].

وأما قولك : أخبرني عن كيفيتها؟ فإن الله عزوجل جعل الروح لجسد الإنسان حياة له ، كالأرض إذا اهتزت بالماء ، وتحركت بالنبات ، كذلك الروح إذا صار في الإنسان ، صار حيا متحركا ، إذا امتزج أحدهما بصاحبه.

قال الملحد : وكيف يمتزج الروح بالبدن (١) وقد صار ترابا؟

قال القاسم عليه‌السلام : وكيف يمتزج الماء بالأرض الهامدة؟ إذا صارت قاحلة يابسة.

قال الملحد : هو أن يمطر عليها ، أو يجري فيها فيتصل أجزاء الأرض بأجزاء الماء ، بالمشاكلة التي بينهما ، فعندها تهتز وتتحرك.

قال القاسم عليه‌السلام : وكذلك الروح ، يرسل (٢) إلى ذلك التراب ، فيماسه ويمازجه ، فحينئذ يحيى الإنسان ويتحرك. أولا ترى إلى بدء خلق الإنسان ، كيف كان؟! أو ليس (٣) تعلم أنه كان ترابا ، فلما جمع الله بينه وبين روحه صار إنسانا ، فأصل خلق الإنسان يدلك على آخره ، أولا تسمع قوله سبحانه : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)) [يس: ٧٩ ـ ٨٠].

قال الملحد : إنه ليس بين الروح والتراب مشاكلة ، فيما يعرف!

قال القاسم عليه‌السلام : فهل تعلم (٤) بين النار والشجر الأخضر مشاكلة؟

قال الملحد : نعم. وهي أنها مجموعة (٥) من الطبائع الأربع إحداهن

__________________

(١) في (ب) و (د) : بالجسد.

(٢) في (ه) : يوصل.

(٣) في (ه) : أولست.

(٤) في (د) و (ه) : تعرف.

(٥) في (ه) : مخلوقة.

النار (١). قال القاسم عليه‌السلام : الله أكبر هل تعلم بين النار وبين (٢) ثلاثتها مشاكلة؟

قال الملحد : لا.

قال القاسم عليه‌السلام : فكيف اجتمعن؟ إنه لما جاز أن تجتمع النار مع الماء ، والأرض والأهوية ، بلا مشاكلة بينهن (٣) جاز للروح مثل ذلك.

فقال الملحد عند ذلك : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق ، وتعست أمة ضلت عن مثلك. وأسلم وحسن إسلامه ، وكان يختلف إلى الإمام أمير المؤمنين القاسم عليه‌السلام ، ويتعلم منه شرائع الإسلام.

تمت المناظرة وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

* * *

__________________

(١) الطبائع الأربع هي : التراب ، والماء ، والنار ، والهواء.

(٢) سقط من (ه) : وبين.

(٣) سقط من (ه) : بينهن.

مجموع الإمام القاسم عليه‌السلام

الرد على الزنديق

ابن المقفع

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله خالق كل معبود ، المستوجب للحمد في كل موجود ، الذي لا يقصر عنه بالحمد من رشيد خلقه حامد ، الصمد الذي ليس من ورائه غاية يصمدها صامد.

دليل من استدل بالحقائق ، فيما فطر سبحانه من مختلف الخلائق ، التي يوجد من اختلافها ، وما خالف بينه من أصنافها ، ما يوجد من اختلاف الظّلم والأنوار ، وفرقة ما بين الليل والنهار ، بل أكثر في الفرقة بيانا ، وأوضح في التباين فرقانا ، لتفاوت ما فيها من اختلاف الألوان والطعوم ، ولضروب ما فيها من كل محسوس ومعلوم ، دلالة منه سبحانه بمتفاوتها ، ومختلف ما بين حالاتها ، على الأول الأحد ، السابق لكل عدد ، الذي لا يكون ثان إلا من بعده ، ولا يثبت الثاني إلا من بعد عده ، البعيد من مساواة الأنداد ، المتعالي عن مناواة الأضداد.

نحمده على ما هدانا إليه ، ودل برحمته من توحيده عليه ، ونسأله أن يصلي على ملائكته المصطفين ، وعلى جميع رسله والنبيين ، وأن يخص محمدا في ذلك من صلواته ، بأفضل ما خص به أهل كراماته ، ونستعينه لا شريك له على شكر نعمته ، فيما وهب لنا من أبوة محمد عليه‌السلام وولادته ، والحمد لله رب العالمين ، ونعوذ به (١) من عماية العمين.

__________________

(١) في (ب) : بالله.

[الرد على ماني (١)]

ثم إن فرقة من الكفرة قادها عصيانها ، ونعق بقادتها في الكفر والعمى شيطانها ، إمامها المقدم ، وسيدها المعظم ، (ماني) الكافر بأنعم الله اللعين ، الذي لم يبلغ كفره قط بالله الشياطين ، ابتدع من القول زورا لم يسبقه إليه سابق من الأولين ، ولم يقل به قبله قط أحد من قدماء الخالين ، مع افتراق مللهم ، ومختلف سبلهم ، فزعم أن الأشياء كلها شيئان ، وقد يوجد خلاف زعمه بالعيان ، فلا يوجد بين ما ذكر من النور والظلمة فرقة ، إلا وجدت الأشياء كلها بمثله لهما مفارقة ، إلا أن الفرقة بين الأشياء أوجد ، ومن الأشياء للنور والظلمة أوكد ، مكابرة لعقول أطفال الأنام ، وتجاهلا بما تجهله بهيمة الأنعام.

ثم قال تحكما ، وافترى زعما ، أن الأشياء كلها من النور والظلمة مزاج ، وأنه لم

__________________

(١) ماني بن فاتك ، مؤسس المانوية ، ولد بجنوبي بابل نحو سنة (٢١٦ م) أي بعد ميلاد المسيح عليه‌السلام ، واختلف في أصله ، إلا أن أقرب للصواب أنه كان فارسي الأصل ، وتربى تربية دينية ، هيئته فيما بعد إلى ادعاء النبوة هو في سن صغيرة في الرابعة والعشرين من عمره. أما عن أسباب ادعائه النبوة في هذه السن وبواعث ذلك فهو أمر يصعب معرفته أو التكهن به ، لأن أغلب المراجع التي أرخت له تقف عند أسباب ادعائه للنبوة ، إلا أن الظاهر من ذلك هو أن ميوله الشخصية وبيئته والتربية الدينية التي تلقاها قد أثرت كثيرا في ذلك. الموسوعة الفلسفية / ٤١٧.

وشرع يبشر بالمانوية وقصد الهند ، ولما ارتقى شابور عرش فارس (٢٤١ م) استدعاه ، لكن دعوته لاقت معارضة شديدة من كهنة الزرادشتية ، فلما نصب بهرام بن شابور ملكا قضى بإعدامه سنة (٢٧٢ م).

وتعتبر المانوية فرقة غنوصية مسيحية ، وهي من أخطر الدعوات على العقيدة المسيحية والأفكار التي تعرضت لها منذ بشر بها المسيح عليه‌السلام ، بل تعتبر من أطول هذه الدعوات التي أثرت فيها ، إذ استمرت من القرن الثالث الميلادي حتى القرن الثالث عشر.

انتشرت المانوية وشاعت واعتنقها الكثيرون في سوريا وآسيا الصغرى والهند والصين ومصر وبلاد البلقان وإيطاليا وفرنسا ، وكان القديس أوغسطين نفسه مانويا لبعض الوقت.

وتقوم عقيدة المانوية على ثنائية الإله ، وهي أهم فكرة في هذه العقيدة ، فهناك إله للنور وإله للظلمة ، والأول إله للخير والخصب والثمار ، والثاني إله للشر والدمار.

يكن بينهما فيما خلا من دهرهما امتزاج ، سفها من القول وتعبثا (١) ، ومجانة في السفه وخبثا ، فثبت بينهما شبه الاستواء ، وحكم عليها حكم السواء ، في حالين يجمعانهما عنده معا ، وفعالين يتساويان فيهما جميعا ، فقال في أولاهما لم يمتزجا ، ثم قال في أخراهما امتزجا ، فجمعهما ـ عنده في الامتزاج وخلافه ـ الحالان ، واشتراكهما فيما كان من إساءة وإحسان ، وليس في أنهما هما الأصلان ، دليل واضح به يثبتان ، أكثر من تحكّم العماة في الدعوى ، والاعتساف منهم (٢) فيهما للعشوى ، وما ذا يرون قولهم ، لو عارضهم مبطل في الدعوى كهم (٣).

فقال : بل النور والظلمة مزاجان ، ومن ورائهما فلهما أصلان ، هل يوجد من ذلك لهم ، إلا ما يوجد لمن خالفهم؟!

فإن قالوا : الدليل على ذلك نفع النور ، فربما ضرنا النور في أكثر حوادث الأمور ، ولما يوجد من نفع قليل غيره ، أنفع مما يوجد من أكثر كثيره ، لتمرة أنفع في الغذاء لأكلها ، من الأنوار في الغذاء كلها ، ولئن كانت الدلالة من الدال على المنكر ضرا ، يعود عندهم شرا ، إن النور لأدل على طلبات الأشرار ، وأكشف لهم عن خفيات ما يبغون من الأسرار ، التي عنها تجلى نورهم ، وبه كثرت في الضر شرورهم.

وإن كان دليل عماة الظّلمة ، على ما بينوه أصلا في (٤) الظلمة ، ضر الظلمة في بعض أمورها ، لربما منعت كثيرا من الشرور بستورها ، فلم يجد لمنعها بسواتر ظلامها ، الأئمة سبيلا إلى تناول آثامها ، ولسنا نجد عيانا نورهم من المضارّ معرّى ، ولا ظلامهم في جميع الأحوال مضرا ، (٥) إلا أن يكون نورهم عندهم غير النور المعقول ، فيصيروا

__________________

(١) في جميع المخطوطات : وتعنتنا. وما أثبت اجتهاد.

(٢) في (ب) : فيهم.

(٣) في (ب) و (د) : لهم.

(٤) في (ب) : من الظلمة ضرا الظلمة. وفي (د) : ضرا للظلمة.

(٥) قال أحد الشعراء مقتدا دعوى المانوية في أن النفع وإلى في النور والضر والشر في الظلمة. وكم لظلام الليل عندي من يد تفيد بأن المانوية تكذب يقول : إن للظلام عندي أباد مشكورة فقد نفعني وأوصل إلى الخير حينما جن تسترني مع معشوقي ولولاه لما تمكنت من لقائه ، وهذا النفع من الظلام يكذب ـ

بعد إثبات أصلين إلى إثبات أصول ، ويحكموا على غائب لا يرى ، بحكم لا يتيقن ولا يمترى ، يتبين به عند أنفسهم قصرة (١) عماهم ، ويصح لهم بله (٢) غيرهم فيه خطاهم.

ثم يقال لهم أيضا : حدثونا عن نور الشمس ، وما يباشر أبصار المبصرين منه عند شروقه باللمس ، أليس نافعا (٣) في نفسه ، وعند مباشرة لمسه؟!

فإن قالوا : بلى ، وكلما تلألأ ؛ لأنه يتلألأ فيشرق وينير ، وكذا الأمر به كل نور إما قليل وإما كثير.

قيل : فما باله يعشي أبصار الناظرين ويؤذيها؟! وما بال بعض الحيوان لا تبصر مع ضوء الشمس وتلاليها؟! (٤)

فإن قالوا : لعلة (٥) أن النور إذا أشرق على ناظر الانسان ، وغيره مما يبصر (٦) مع ضوء الشمس من الحيوان ، رد مع شروقه ما في النواظر ، من الظلمة إلى الناظر ، فلم ير فيه ، ولم يطق النظر إليه.

قيل : فالظلمة في قولهم تستر ، فكيف مع مكانها في الناظر تبصر ، وقد ترى الأبصار ، إذا أشرقت الأنوار ، تبصر حينئذ الأشياء ، وترى الظلمة والضياء ، فلو كانت الظلمة لها سترة ، لما أبصرت ما ترونها له مبصرة.

فإن قالوا : الحرارة هي التي فعلت ذلك بالأبصار ؛ لأن النور من شأنه دفعها إلى ما هي فيه من محجر القرار.

قيل : فالحرارة عندكم يا هؤلاء من شأنها الإحراق ، وقد يرى الناظر يديم النظر إلى شروق الشمس فلا يحرق ناظره الإشراق! وقد يزعمون أن الحرارة في الظلمة أوكد ،

__________________

ـ دعوى المانوية في نسبة الشر إلى الظلام والخير إلى النور.

(١) القصر : اختلاط الظلام.

(٢) بله : ناهيك عن ، أو فضلا عنه.

(٣) في (أ) و (ج) : نافع.

(٤) أي : تلألؤها. وإنما حذف الهمز لتوافق السجعة أو الفصلة السابقة. وهي لغة حجازية.

(٥) في (ب) : العلة.

(٦) في (ب) : لا يبصر.

وفي سوسها (١) وكونها أوجد ، ثم يديم الناظر إليها نظره ، فلا يعشيه ولا يحرق بصره! فأي دليل أدل على تلعبهم ، وأوضح برهانا على سفه مذهبهم؟! من هذا عند من ذاق من المعارف ذوقا ، وعقل بين مفترقات الأشياء فروقا!!.

وأخرى يا هؤلاء فافهموها ، تدل فيها على غير الأوهام التي توهموها ، أن الشديد الرمد يجد في الظلمة راحة وفترة ، وأنه يجد في النور عند مقاربته له مضرة منكرة ، فلا نرى الظلمة إلا تفعل خيرا ، ولا النور إلا يفعل شرا كبيرا (٢).

وهذا فقد يبين أيضا بوجه آخر ، يدل على خلاف ما قالوا في الخير والشر.

وهو أن يقال لهم في الماء ، إذ زعموا أنه مزاج من النور والظلماء : ما بال قليله ينفع وكثيره يضر؟!

فإن قالوا من قبل أن المزاج يقل ويكثر.

قيل : فما بال كثير نوره ، في الكثير من بحوره ، لا يمنع ضر كثير ظلمته ، كما منع قليل نفعه قليل مضرته؟!

أم تزعمون أن قليل النور أقوى من كثيره ، فهذا من القول هو المحال بعينه ، أن يكون قليل من شيء هو أقوى من كثير ، كان منيرا أو غير منير!

ومما ـ أيضا ـ يدخل عليهم ، أن يقال إن شاء الله لهم : حدثونا يا هؤلاء عن الثور (٣) ما باله يفر عن الحر إذا أحرقه إلى البرد والضّلال ، ويفر من البرد إذا آذاه إلى الصّلاء (٤) والنار ، وهما في زعمكم جميعا ظلمة مضرة ، ليس لأحد فيهما منفعة ولا مسرّة! ولن يخلو عندكم أن يكونا من سوسه فينفعاه ، أو مما زعمتم من خلافه فيضراه؟!

فإن قلتم بما فيهما من مزاج النور انتفع؟

__________________

(١) أي : أساسها.

(٢) في (ب) و (د) : كثيرا.

(٣) في (ب) و (د) : النور. ولعلها مصحفة.

(٤) الصّلاء : الشواء.

قيل لكم : فإلى أيهما فر ونزع؟!

فإن قالوا : إلى أكثرهما نورا ، وأقلهما من المزاج شرورا.

قيل : لئن كان من الشر إلى الخير صار بفراره ، لقد أدركه الشر منهما في مقره وقراره ، وإن ذلك لما لا ينمي (١) أبدا ، ولا يكون حيث كان إلا ضدا.

ثم يقال لهم : هل الظلمة مضادة للنور؟

فإن قالوا نعم.

قيل : أبمثل ما يعقل من تضاد الأمور؟

فإن قالوا : نعم.

قيل : إن الضد لا يجامع أبدا ضدا ، إلا أفناه فكان له عند المجامعة مفسدا ، ولا تكون المضادّة من الشيئين واقعة ، إلا لم تجمعها بعد تضادهما جامعة ، إلا مع بطلان موجود (٢) أعيانهما ، أو تبدّلهما باجتماعهما عن معهود شأنهما ، كبطلان الثلج والنار عند اعتلاجهما ، أو كتبدل اللونين أو الطعمين في امتزاجهما.

فكيف يصح لما زعموا من الأصلين الاجتماع؟! أو يوجد منهما بعد المزاج إضرار (٣) أو انتفاع؟! وهما لا يكونان إلا متنافرين ، أو مزاجا فيكونا متغيرين ، كتغير الممتزجات عند مزاجها (٤) إلى فعال واحد ، يجده منها بدرك الحواس أو بعضها كل واحد.

لا كما قال (ماني) المكابر لدرك حسه ، المخالف فيما قال ليقين نفسه ، المتلعب (٥) في مذهبه ، السفيه بمتلعّبه.

__________________

(١) لا ينمي : أي : لا ينجي ، والنامي : الناجي. قال التغلبي :

وما فيه كان السم فيها

وليس سليمها أبدا بنامي

لسان العرب مادة نمي.

(٢) في (ب) : وجود.

(٣) في (ب) : أو إضرار وانتفاع. وفي (د) : اضطرار أو انتفاع.

(٤) في (أ) : مزاجهما.

(٥) في (ب) : المتغلب في مذهبه السفيه بمتغلبه ، وهو تصحيف.

وهذا أيضا يكذب قولهم ، أن يقال لهم : حدثونا ممن موجود الضحك والبكاء؟

فإن قالوا : هما من الظلماء. لم يصح أن يكونا وهما متضادان من واحد غير متضاد. وكذلك إن قالوا من النور لم يصح أن يكونا منه وهو واحد غير ذي تضاد.

وكذلك الجوع والشبع ، والصبر والجزع ، والفرح والحزن ، والجرأة والجبن ، وهذا كله ، وفرعه وأصله ، عندهم شرّ مذموم ، وفي كل حال مقبّح ملوم ؛ لأنه قد يضحك ويبكي ، ويصح في هذا الدار ويشتكي (١) ، ويجوع ويشبع ، ويصبر ويجزع ، ويفرح ويحزن ، ويجترئ ويجبن ، من يكون ذلك كله منه عندهم في بعض الحال شرا ، فكفى بهذا لمن أنصف الحق من نفسه منهم معتبرا.

فهذا أصل قول (ماني) النجس الرجيس (٢) ، الذي لم يسبق قوله فيه قول إبليس ، ولم يعب على الله بمثله قط عات ، ولم يقصر بمعتقده عن غايات الضلالات ، وعلى هذا ـ من قوله ، وما وصفنا فيه من أصوله ـ مات (٣) ماني لعنه الله لعنا كثيرا ، وزاده إلى ناره سعيرا.

[الرد على بن المقفع]

ثم خلف من بعد ماني أبي (٤) الحيرة والهلكات ، خلف سوء استخلفه إبليس على ما خلف ماني من الضلالات ، يسمى ابن المقفع (٥) ، لعنه الله بكل مرأى ومسمع ، فورث

__________________

(١) أي : يمرض.

(٢) في (أ) و (ج) : الرجس.

(٣) في (ج) : فات.

(٤) في (ب) : أبو.

(٥) ابن المقفع :

أبو محمد عبد الله روزبه بن داذويه. فارسي الأصل.

ولد حوالي سنة / ١٠٦ ه‍ ، في قرية بفارس اسمها (جور). وهي مدينة (فيروزآباد) الحالية ، وقيل بالعراق.

لقب أبوه بالمقفّع ، بفتح الفاء ، لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده ، أي : تشنجت.

وقيل : بكسرها لعمله القفعة ، وهي شبيهة بالزنبيل ، بلا عروة وتعمل من الخوص.

__________________

نشأ بين أحياء العرب. فكان أبوه (داذويه) المقفع الفارسي يعمل في جباية الخراج لولاة العراق ، من قبل بني أمية ، وهو على دين المجوسية ، ثم أسلم في آخر عمره ، وولد له ابنه هذا وسماه (روزبه) فنشأ بالبصرة ، وهي يومئذ حلبة العرب ، ومنتدى البلغاء والخطباء والشعراء.

فكان لكل ذلك ـ فوق ذكائه المفرط ـ أعظم أثر في تربيته ، وتهيئته ، لأن يصير من الكتاب والأدباء ، والمترجمين إليها.

وكان مجوسيا مزدكيا ، قيل أسلم على يد عيسى بن علي ـ عم السفاح ـ بمحضر من الناس ، وتسمى (عبد الله) وتكنى بأبي محمد.

وتقرب من بني أمية وولاتهم ، فكان يكتب ليزيد بن عمر بن هبيرة وإلى العراق في عهده ، ثم كتب لأخيه داود بن هبيرة بعده وهو لا يزال مجوسيا. في خلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

فلما ظهر العباسيون ، وتمكنوا من الأمويين اتصل بعيسى بن علي ـ عم الخليفين السفاح ، والمنصور ـ وكان حاكم الأهواز ، فأسلم على يده ـ كما قيل ـ فكان كاتب ديوانه ، كما قام بتعليم بني أخيه فنون العربية.

والمؤرخون يقولون إنه كان كاتبا بليغا يضارع صديقه الكاتب عبد الحميد الكاتب ، والذي كان يكتب بالشام لمروان بن محمد الملقب بالحمار ـ آخر خلفاء بني أمية.

وترجم له كتب (أرسطاطاليس) الثلاثة في المنطق ، وكتاب (المدخل إلى علم المنطق) المعروف بإيساغوجي. وترجم له عن الفارسية وقيل عن الهندية كتاب (كليلة ودمنة) الشهير.

واتهم بالزندقة.

قال ابن حجر : وحكى الجاحظ أن ابن المقفع ، ومطيع بن أياس ، ويحيى بن زياد ، كانوا يتهمون ، ويقال : إن ابن المقفع مر ببيت نار المجوس ، فتمثل بأبيات عاتكة.

والبيتان ذكرهما الشريف المرتضى في أماليه ، وقال روى ابن شيبة قال حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس ، بعد أن أسلم فلمحه وتمثل :

يا بيت عاتكة الذي أتغزل

حذر العدى وبه الفؤاد موكل

إني لأمنحك الصدود وإنني

قسما إليك مع الصدود لأميل

وقال الشريف المرتضى أيضا :

وروى أحمد بن يحيى ثعلب قال : قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد ، وقال الأخفش : والصحيح أنه يرثي بها ابن أبي العوجاء :

رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله

فلله ريب الحادثات بمن وقع

فإن تك قد فارقتنا وتركتنا

ذوي خلة ما في السداد لها طمع

لقد جر نفعا فقدنا لك أننا

أمنّا على كل الرزايا من الجزع

__________________

قال ثعلب : البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر ، والشر ممزوج بالخير.

أقول : والأبيات مذكورة في حماسة أبي تمام / ٣٥٧.

وقال ابن حجر : ونقل عن ابن المهدي أنه قال : ما رأيت كتابا في زندقة إلا هو أصله. لسان الميزان ٣ / ٤٤٩.

وكذلك قال الشريف المرتضى في أماليه ١ / ١٣٥.

وأيضا ما نقل الإمام القاسم عنه من كتابه من النصوص التي تؤكد صدق ما قيل عنه من الزندقة ، شاهد عدل ، وخبر ثبت ، سيما والإمام القاسم قريب العهد به ، إذ ولد ابن المقفع سنة (١٠٦ ه‍) ، وولد الإمام القاسم سنة (١٦٩ ه‍). إضافة إلى ورع الإمام الشديد الذي يستحيل معه التقول والافتراء. ورغم أني بحثت كثيرا عن كتب ابن المقفع إلا أني لم أعثر إلا على مجلد بعنوان آثار ابن المقفع ، بعد لأي وجهد ، حصلت عليه من مكتبة بعمان الأردن ، يحتوي هذا المجلد على :

ـ كليلة ودمنة.

ـ الأدب الكبير

ـ الأدب الصغير

ـ الدرة اليتيمة

ـ رسالة في الصحابة ، وبضع وريقات رسائل وحكم.

ولم أقف على كتابه الذي نقل منه الإمام القاسم ، ولعل الله أن يمن بالوقوف عليه.

ولقد شن الجاحظ حملة شعواء على الثنوية ، وذكر طرفا من عقائدهم التي ذكرها الإمام القاسم في كتابه (الرد على ابن المقفع) ، وهو من المعاصرين للإمام القاسم ، فقال : إن كتبهم لا تفيد علما ولا حكمة ، وليس فيها مثل سائر ، ولا خبر طريف ، ولا صنعة أدب ، ولا حكمة غريبة ، ولا فلسفة ، ولا مسألة كلامية ... وجل ما فيها ذكر النور والظلمة ، وتناكح الشياطين ، وتسافد العفاريت ، وذكر الصنديد ، والتهويل بعمود الصبح). الحيوان ١ / ٢٨.

وهذا يؤكد وجود رسالة ابن المقفع في هذا الشأن ، التي رد عليها الإمام القاسم ، وقد أثبت المستشرق الإيطالي (ميكل أنجلو جويدي) رسالة ابن المقفع التي فندها الإمام القاسم وأكد أنها من تأليفه.

ورغم الهالة العلمية الكبيرة التي أحيط بها في علمه بفنون وآداب العربية ، فإن الإمام القاسم قلل من علمه بلغة العرب ، وآدابها ، في غير ما موضع من كتابه هذا. قال : إنه إنما أتي هو وأضرابه من قبل جهلهم باللسان العربي. ومثّل لذلك بقوله : والذي اضطرت عظمته أعداءه الجاهلين له ، والعامين عنه. فقال : وجهله بما بين العامين والعمين من الفرق في اللسان ، أوقعه بحيث وقع من جهله بمخارج القرآن ، والعامي فإنما هو ما نسب إلى أعوام الزمان ، والعمي فإنما هو أحد العميان.

قتله ـ حرقا بتهمة الزندقة ـ سفيان بن معاوية المهلبي ، أمير البصرة ، بأمر المنصور.

عن ماني في كفره ميراثه ، وحاز عن أبيه ماني فيه تراثه ، فعقد بعنقه من ضلالاته أرباقها ، (١)وشد على نفسه من هلكاته (٢) أطواقها ، فنشأ في الغواية منشأه ، وا فترى على الله ورسله افتراءه ، فوضع كتابا أعجمي البيان ، حكم فيه لنفسه بكل زور وبهتان ، فقال من عيب المرسلين ، وافترى الكذب على رب العالمين ، بما تقوم له ذوائب الرءوس ، وتضطرب لوحشته أركان النفوس ، ووصل إلينا في ذلك كتابه ، وما جمحت به فيه من الإفك ألعابه.

فرأينا في الحق أن نضع نقضه ، بعد أن وضعنا من قول ماني بعضه ، إذ كان ماني العمي له فيما قال من الضّلال إماما ، فأما النقض على ماني فسنضع له إن شاء الله كتابا تاما (٣).

زعم ابن المقفع اللعين عماية وفرطا ، أنه لا يرى من الأشياء كلها إلا مزاجا مختلطا. كذلك زعم النور والظلمة ، اللذان هما عنده الجهل والحكمة.

فاعرفوا إن شاء الله هذا من أصله ، فإنا إنما وضعناه لنكشف به عن جهله ، وبالله نستعين في كل حال ، كانت منا في قول أو فعال

__________________

وقيل : إن سبب قتله الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي ـ عم المنصور ـ بعد أن خرج بالشام بعد موت السفاح ، وكان أميرا عليها ، وغلب عليها ، وادعى أن السفاح عهد إليه ، فجهز المنصور أبا مسلم الخراساني ، فدخل البصرة ، فاستأمن له أخواه عيسى وسليمان المنصور فآمنه ، فطلب عبد الله من يرتب له كتاب أمان لا يستطيع المنصور أن ينقضه ، وكان ابن المقفع كاتب سليمان أمير البصرة فأمره فكتب نسخة الأمان ، ومن جملته : ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله ، فرقيقه أحرار ، ونساؤه طوالق ، والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد على المنصور ، وأمر سفيان بن معاوية المهلبي ـ وكان يعادي ابن المقفع ـ أن يقتله فقتله.

هذا ما قيل في سبب قتله.

وكما أسلفنا فقد ولد ابن المقفع سنة (١٠٦ ه‍) ، وقتل سنة (١٤٢ ه‍). يعني أنه كان في ريعان شبابه عند مقتله ، فعمره آنذاك (٣٦) سنة.

(١) الأرباق جمع ربق : الحبال.

(٢) في (أ) و (ج) : هلكته.

(٣) لم نقف عليه ولم يذكره المؤرخون ، فلعل الإمام عليه‌السلام توفي قبل وضعه.

كان أول ما افتتح به كتابه ، ما أكذب به نفسه وأصحابه ، أن قال :

بسم النور (١) الرحمن الرحيم

فإن كان النور هو الذي فعل اسمه (فلا اسم له ، وإن لم يكن فعل اسمه فمن فعله ، فإن هم ثبتوا (٢) له اسما غيره لم يكن إلا مفعولا ، وإن كان هو اسمه) (٣) كانت أسماؤه ممن سماه فضولا ، والفضول عندهم من كل شيء فمذمومة ، وأسماؤه إذا كلها شرور ملومة ، فهل يبلغ هذا من القول ، إلا كل أحمق أو مخبول.

وقال : الرحمن الرحيم ، فلمن زعم ألنفسه أم للأصل الذميم؟! فإن كان عنده رحمانا رحيما ، لمن لم يزل عنده شرا مليما (٤) ، إن هذا لهو أجلّ الجهل ، والرضى عما ذم من الأصل ، وإن كان إنما هو رحيم رحمان ، لما هو من نفسه إحسان ، فهذا أحول المحال ، وأخبث متناقض الأقوال.

ثم قال : أما بعد : فتعالى النور الملك العظيم ، فليت شعري أيّ تعال يثبت لمن هو في أسفل التخوم!! ومن هو مختلط عنده بكل مذموم ، من الأنتان القذرة ، والبول والعذرة ، وبكل ظلمة هائلة ، وأوساخ سائلة ، مرتبط في الأسافل ، مزلزل فيها بأمواج الزلازل ، لا يطيب منها نتنا ، ولا يعيد قبيحا حسنا ، ولا هائلا أنسا ، ولا سائل بول يبسا.

أيّ ملك لمن لا يملك إلا نفسه وحدها؟! ولا يستطيع رشدا إلا رشدها! ولا يتخلص من مرتبط عدو! ولا يقدر على النجاة من سوء! وأي عظمة تحق لمناوئ ضده بالمباشرة؟! ولم (٥) يعل عدوه بغلبة ـ له عن مباشرته (٦) ـ قاهرة ، ومن فرّقته المناواة أعضاء؟! ومزّقته المحاربة أجزاء؟! ومن حطّه حربه من أعالي العلى؟! إلى بطون الأرض السفلى؟!!

__________________

(١) في (ب) : الله (خطأ).

(٢) في (أ) : بينوا.

(٣) سقط ما بين القوسين من (ج).

(٤) في (ب) و (د) : ملوما.

(٥) في (ب) : ولمن.

(٦) في (أ) و (ب) : مياشرته.

ثم قال زعم : الذي بعظمته وحكمته ونوره عرفه أولياؤه. فليت شعري أنور أولئك عنده أم ظلمة؟! فإن كانوا نورا (١) فهم أجزاؤه ، أو ظلمة فتلك ـ زعم ـ أعداؤه ، فهو الذي لا ولي له في قوله ، ولم يؤمن عليه الفناء بعد زواله ، عما كان معهودا من حاله ، ومع ما صار إليه من انتقاله ، عن دار أودّائه ، إلى دار أعدائه (٢).

فيا ويل ابن المقفع ، أيّ مشسع (٣) عن الحق شسع ، وأي متطوّح (٤) من الضلالة تطوّح ، وإلى أيّ طحية (٥) من العماية تروّح (٦).

فافهموا أيها السامعون عجيب أنبائه ، وتدبروا من قوله معيب أهوائه ، إذ زعم (٧) أن بعظمة نوره ، وحكمة ما ذكر من زوره ، كانت أولياؤه ـ زعم ـ عارفة ، كأنه يثبت أنها كانت به جاهلة ، ومع تثبيت هذا من القول في أموره ، ثبت عمى (٨) الجهل والشر في نوره ، ثم نسب عظمة إلى عظيم ، وثبّت حكمة لحكيم ، فأضاف نورا إلى منير ، ولا (٩) يخلو ذلك من أن يكون قليلا من كثير ، فيكون كثير ذلك أفضل من قليله ، فيكون مقصرا بالقليل عن الكثير وتفضيله ، والتقصير نقص والنقص عنده شر من شروره ، والشر ـ زعم ـ لا يكون أبدا في نوره. فاسمعوا لقول التناقض ، وزور حجج التداحض ، ففي واحدة مما عددنا ، وأصغر ما من قوله أفسدنا ، كفاية نور كافية ، وأشفية من الضلالة شافية ، لمن أنصف فاعتبر ، واعتبر فادّكر.

فإن زعم أن عظمته ونوره وحكمته هن هو ، زال عنه بزواله عنهن إذ هواهن الارتفاع والعلو ، إلا أن يزعموا أنه ليس في الأرض للنور عظمة ، ولا في دار هذه الدنيا

__________________

(١) في (ب) و (د) : أنوارا.

(٢) في (أ) و (ج) : عذابه. (مصحفة).

(٣) المشسع : المبعد.

(٤) المتطوح : المهلكة والمهوى.

(٥) الطحية : الذهاب في الأرض ، والبعد.

(٦) تروّح أي : ذهب.

(٧) في (ج) : إذ يزعم ، وسقط : إذ من (ب).

(٨) في (ج) : عم الجهل والبشر.

(٩) في (ب) : ولن. وفي (د) : أن.

من حكمه حكمة ، فيكون هذا ترك قولهم كله ، والخروج من معهود فرعهم فيه وأصله.

ثم قال زعم : والذي اضطرت عظمته أعداءه ، الجاهلين له ، والعامين عنه ، إلى تعظيمه ـ كما زعم ـ لا يجد الأعمى بدا مع قلة نصيبه من النهار أن يسميه نهارا مضيئا.

وجهله بما بين العامين والعمين من الفرق في اللسان ، أوقعه بحيث وقع من جهله بمخارج (١) القرآن ، والعامي فإنما هو ما نسب إلى أعوام الزمان ، والعميّ فإنما هو أحد العميان ، فكيف ويله مع جهله لهذا ومثله ، يقدم على تعنيف وحي كتاب الله ومنزله ، الذي نزله على رسله ، سبحان الله ما يبلغ العمى بأهله!! فثبّت العظمة من نوره جزءا ، وجعلها (٢) من أعضائه عضوا ، ونسب إليها بعد فعلا ، زالت (٣) به عن عدو النور جهلا ، ورفعت به عن العمين ـ زعم ـ عماهم ، والعمون فلا يكونون عنده إلا ظلماهم ، فلا نرى عظمتهم عندهم ، وإن كابروا في ذلك جهدهم ، إلا وقد أولت الظلمة خيرا كثيرا ، وأحدثت (٤) للجهل والعمى تغييرا ، وهو يزعم في قوله ، أنه لا تغيّر (٥) في شيء من أصوله ، والأعمى فلم ينكر قط نهارا ، ولم يستصغر نهاره احتقارا ، ولم يعارضه به جهل ، ولم يكن له عما فيه تبدّل ، وأعداء نوره به ـ زعم ـ جاهلة (٦) ، وعن مذهبه فيه ضآلة مضلة ، (٧) فكيف يصح تمثيله لهم بالأعمى؟ إن هذا لصمم من ابن المقفع وعمى!!

ثم قال : ومسبّح ومقدّس النور. (٨) النور الذي ـ زعم ـ من جهله لم يعرف شيئا

__________________

(١) في (ج) : جهله لمخارج. وفي (د) : بمن جهله بمخارج.

(٢) في (أ) و (ب) و (د) : وجعله من. وفي (ج) : وجعل له من. وما أثبت هو الصواب. تأمل.

(٣) في (أ) و (ج) : أزاله. وفي (د) : أزالت.

(٤) في (ج) : أو حديث (مصحفة).

(٥) في (أ) و (ج) : لا يغير شيء من أصوله.

(٦) في (ج) : جهله. (تصحيف).

(٧) في (أ) و (ج) : متصلة.

(٨) في (ب) و (د) : ومقدس النور الذي.

غيره ، ومن شك فيه ـ زعم ـ لم يستيقن بشيء بعده.

فاسمعوا في هذا القول من أعاجيبه! وما استحوذ عليه فيه من ألاعيبه!! قال ومسبّح فمن تأويله مسبّحه (١) ، إذ ليس إلا هو وعدوه الذي لا يسبحه ، فإن كان إنما يسبح نفسه ، فإنما يسبح جنس جنسه ، فما في ذلك له من المدح! وما يحق بهذا من مسبّح وغير مسبّح ، وإن (٢) كان إنما سبحه (٣) جزء من أجزائه ، فإنما سبح (٤) الجزء نفسه وغيره نظيره (٥) من أكفائه ، وقد يحق له يا هؤلاء على الأكفاء ، من تسبيحه ما يحق لها عليه بالسواء ، وهو مسبّح ومسبّح ، ومادح وممتدح ، فليس له من مسبّحه إلا ما عليه مثله من تسبيحه ، ولا له من مادحه إلا ما عليه من مديحه ، وكل هذا أعجب عجيب! وقول متناقض وتكذيب!!

قال : ومقدّس وإنما مقدّس مفعّل ومعناه فمبرّك ، فمن يبرّكه وهو عنده يبرّك ولا يبرّك ، وليس معه إلا عدوه ، الذي لا سوّ إلا سوّه ، (٦) فنفسه تبرّكه ، فقد كان إذا ولا بركة له. فسبحان الله ما أفحش خطاهم! وأبين جهلهم وعماهم!!

فإن قال قائل منهم فبهذا فقد قلتم ، وقد يدخل لهم عليكم ما أدخلتم!!

قلنا أما مسبّح فنقولها ، وأما مقدس فأنت تقولها ، ونحن لا من (٧) طريق ما كفرت ، فقد نقولها في النور الذي ذكرت ، لأن الله تبارك وتعالى بارك فيه ، وفطره من البركة على ما فطره عليه ، فينفع بقدره (٨) ، في بعض أمره ، فدل بذلك على بركته ، وإحسان وليّ فطرته ، ولكنا نقول في الله : الملك القدوس كما قال ، إذ كان كل شيء فبقدسه

__________________

(١) في (ج) : سبحانه.

(٢) في (ب) و (د) : فإن.

(٣) في (ج) : يسبحانه. وفي (ب) و (د) : يسبحه.

(٤) في (ب) و (د) : يسبح.

(٥) في (ب) و (د) : نظيرا.

(٦) يعني : لا سوء إلا سوءه. وإنما لغة الإمام لغة حجازية وهم يسهلون المهموز.

(٧) في (أ) : لأن (مصحفة).

(٨) في (ب) و (د) : بقدرته.

نال من قدس البركة (١) ما نال.

ومسبّح فقد نقولها (٢) ، إذ نجدها له ونعقلها ، من كل ما هو سواه مفطورا ، ظلمة كان ذلك أو نورا ، فأما هذيان التعبث ، وقول التناقض والتنكث ، فهو بحمد الله ما لا نقول ، مما لا يقارب قول (٣) أهل العقول ، فأما قوله : الذي من جهله لم يعرف شيئا غيره ، فافهموا فيه هذيانه وهذره ، فلعمر أبيه ، ولعمر مغويه ، لقد يعرف ـ الطب والصناعات ، وأنواع ما تفرق فيه الناس من البياعات ـ من لا يعرف نوره ، ولا يتوهم أموره ، يعرف ذلك يقينا من نفسه ابن المقفع ، ويرى منه (٤) بيانا بكل مرأى ومسمع ، كم ترون من طبيب طلب منه ابن المقفع الدواء؟! أو موصل من العوام أوصل إليه سراء (٥) أو ضراء؟! توقن نفسه أن طبيبه يداويه ، وأنه لا ينجع (٦) فيه بغير يقين تداويه.

وكذلك من أوصل إلى ابن المقفع ضراءه فقد يعلم أنها غير سرّائه ، أو أوصل إليه سرّاءه فقد يوقن بتّا أنها غير ضرائه ، وهذا من تكذيبه فيما قال فأتم موجود ، كثير بين الناس في كل ساعة معهود ، لا يشك في يقينه أهل الطب والصنائع ، ولا العامة فيما تدبر من المضارّ بينها والمنافع ، وكلهم لا يوقن بشيء مما زعم في نوره ، بل يزعم أن الجهل في كل ما هو عليه من أموره.

ثم ابن المقفع فقد يعلم بتّا يقينا ، أن الناس لا يثبتون لشيطانه فعلا ولا عينا (٧) ، فأي أمر أعمه عمها؟! أو ضلالة أقل شبها؟! من ضلالة دخلت بأهلها ، في مثل هذا السبيل من جهلها! فنعوذ بالله من خزي الأضاليل ، ونعتصم به من لهو الأباطيل ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا طيبا مباركا فيه.

__________________

(١) في (د) : البركة له ما نال.

(٢) في (أ) و (ج) : ويفعلها. تصحيف.

(٣) في (أ) : يقارب قوله العقول.

(٤) في (أ) و (ج) : وابن أمية. تصحيف.

(٥) في (أ) و (ج) : شرا أو ضرا.

(٦) أي : لا ينفع.

(٧) في (ب) و (ج) : عبثا.

وأما ما بعد هذا من حشو كتابه ، فإنا قصرنا ـ لضعفه (١) ـ عن جوابه. ثم قال وتلعّب (٢) في بعض كلامه ، وجوّز ما حكم به لنفسه من أحكامه : فقد يبصر المبصرون ـ زعم ـ أن من الأمور محمودا ، وأن منها مذموما. فقال منها ولم يقل كلها ، وسقط عنه بعضها وفضلها ، وإذا كان لأيها (٣) كان بعض وكل ، كان لكلها يقينا على بعضها (٤) فضل ، وإذا ثبت بين النور التفاضل ، ثبت لبعضه على بعض فضائل ، وإذا كان النور فاضلا ومفضولا ، فقد عاد (٥) النور بعد أصل أصولا ، إذ الفاضل والمفضول اثنان ، والفضل والنقص منهما شيئان ، والفاضل فخير حالا ، والمفضول أسفل سفالا ، فكل جزءين من أجزائه ، فهما خير من جزء ، وكل عضو من أعضائه ، فهو في الشر كعضو ، وهما (٦) إذا اجتمعا ، خير منهما إذا انقطعا ، فمرة فيهما (٧) خير عند الاجتماع ، ومرة فغيرهما خير منهما عند الانقطاع.

وكذلك أيضا فقد يدخل عليهم (٨) في الظلمة وتفاضلها ، ما يصيّرهم إلى أن شر البعض منهما أقل من شر كلها ، إذ شر كلها أكثر من شر بعضها ، وإذ الشر من أقلها ليس هو أكثر من شر كلها ، فالنور في نفسه واسمه شر ضرّار ، ونافع شرّار ، وذلك أنه (٩) يقل والقلة عنده شر فيعود نوره ضرا ، ويقصر عن قدر مبلغ كماله والتقصير عنده ضر فيعود ضرا ، والظلمة فخير عندهم وشر ، ونفع وضر ، إذ قليلها (١٠) مقصر في

__________________

(١) في (ب) و (د) : لضعفه فيه عن.

(٢) سقط من (ج) : وتلعب.

(٣) في (ب) و (د) : لأيهما.

(٤) في (ب) و (د) : بعض.

(٥) في (ب) : صار.

(٦) في (ب) و (د) : فهما.

(٧) في (أ) و (ج) : فيهما. وفي (ب) و (د) : فهما. ويبدو أن كليهما مصحفة.

(٨) في (أ) و (د) : يدخل عليهما الظلمة وفاضلها. وفي (ج) : وتفاضلاهما.

(٩) في (أ) و (ج) : وكذلك. وفي (ب) : لأنه.

(١٠) في (أ) و (ج) : قلتها.

الشر ، عن مبلغ كثيرها في مواقعه من الضر ، وبعضها كذلك مع كلها ، فرعها فيه ليس كأصلها.

فأي عدوان أعدى؟! أو طريقة أقل هدى؟! مما تسمع من أمورهم أيها السامع ، فلتنفعك في بيان قبائحه المنافع ، وأيّا (١) ما ـ ويله ـ رأى من الأشياء ، من كل ظلمة أو ضياء ، يحمد أو يذم في الناس دائبا ، وليس في الحمد والذم عندهم متقلبا ، ألم ير (٢) أن الظلمة ربما نفعت فحمدت ، وذلك إذ استترت الأبرار (٣) بها عن ظلم الظالمين فسلمت ، وطلبت فيها وبها ، البرد (٤) فأدركته في طلبها ، فهذا منها نفع ظاهر في دنيا ودين ، يراه (٥) بيّنا من أمرها كل ذي عين وقلب رصين (٦) ، ثم تعود منافعها مضارا ، إذا أعطت (٧) هذا منها أشرارا ، وكذلك أحوال النور ، في جميع ما يرى من الأمور ، ربما (٨) نفع فيها ، ثم عاد بالضر عليها ، وقد ذكرنا من ذلك في صدر كتابنا طرفا ، فيه لمن أنصف في النظر ما كفى.

وقال في كتابه زعم لبعض من دعاه (٩) : إن الذي دعاه إليه رجاؤه فيه للهدى. فمن يأوله رجا ، الظلمة التي لا ترجى ، ولا يكون (١٠) منها أبدا إلا الأذى ، ولا يفارقها

__________________

(١) في (ب) و (د) : وأيما.

(٢) في (ب) و (ج) و (د) : ألم تر.

(٣) في (أ) و (ج) : الأنوار. (مصحفة).

(٤) في (ب) : البرة. (مصحفة). والبرد هنا : النوم. قال تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً). أي : نوما.

(٥) في (ب) و (د) : يرى.

(٦) الرصين : المحكم الثابت.

(٧) في (أ) : مضارا أعطت هذا فيها أسرارا.

(ب) : إذا أعطت به هذا منها أسرارا. (ج) : مضارا أعطيت هذا فيها أشرارا. والمعنى : أنها تنقلب منافعها إلى مضار إذا سترت الأشرار. وهم يرتكبون الجرائم.

(٨) في (أ) و (ج) : بما (مصحفة).

(٩) في (ب) و (د) : دعا.

(١٠) في (أ) و (ج) : يمكن.

أبدا عنده العمى؟ أم النور الذي لا يخشى ولا يعمى (١)؟! ولا يكون منه أبدا عنده إلا الرضى؟! بل ليت ـ ويله ـ شعري ، فلا يشك ـ زعم ـ ولا يمتري ، من الذي يدعوه إلى الإحسان من الإساء؟! (٢) ومن الذي ينادي به إلى الصواب عن الخطأ؟! أهو النور الذي لا يسيء؟! والمصيب الذي لا يخطي؟! فلا حاجة له إلى دعائه وندائه ، وهو لا يسيء أبدا فيكون كأعدائه ، أم المسيء الذي لا يحسن؟! والمخطئ الذي يشتم ويلعن؟! كان يا ويله إليه دعاؤه ، وبه كان نداؤه ، فأنى يجيبه وليس بمجيب؟! وأنى يصيب من ليس أبدا بمصيب؟!

إن ابن المقفع ليكابر يقين علم نفسه ، وإن به لطائفا من لمم الشيطان ومسّه ، بل مثل ابن المقفع يقينا ، وما مثّله الله به تبينا ، ما ذكر الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، حيث يقول : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)) [الأعراف : ١٧٩]. يقول الله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠) [الأعراف : ١٨٠]. ثم قال سبحانه : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) [الأعراف : ١٨١]. فلعمر الحق وأهله ، ما وفّق (٣) ابن المقفع فيه لعدله ، ألم يسمع ويله ، قول الله لا شريك له : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٨٦) [الأعراف : ١٨٥ ـ ١٨٦]. فيا ويل ابن المقفع لقد أدّاه عتهه وعماه في الأمور ، إلى أجهل الجهل فيما وصف من الظلمة والنور ، وليس علّته (٤) فيما أحسب من ضلاله ، ولا علة من تبعه عليه من جهاله ، إلا قلة علمهم بما شرع الله به دينه ونزل به كتابه من الحكمة ، لا عن شبهة

__________________

(١) في (ب) و (د) : ويعمى.

(٢) في جميع المخطوطات : الإساءة. ولعل الصواب ما أثبت ، والله أعلم. رغم أني لم أقف على الإساء في معاجم اللغة.

(٣) في (أ) و (ج) : ما وافق.

(٤) في (أ) : عليه. وفي (ج) علمه. مصحفة.

دخلت عليه ولا عليهم فيما وصفوا من النور والظلمة ، فلما ـ عموا عن حكم (١) الله في ذلك ورسله ، وما حكم به فيه سبحانه من أحكام عدله ، ورأوا فيه ما ظنوه (٢) تناقضا ، ورأوا كل أهل ادعائه فيه متباغضا ، ولم يلجئوا (٣) إلى الله في جهله باستسلام ، ولا عصمهم(٤) فيه من صالح عمل بعروة اعتصام ، ولم يلقوا (٥) ـ فيما اشتبه منه ـ من جعلهم الله معدنه ، فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره ، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره ، الذين جعلهم الله الأمناء عليها ، ومنّ عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها ، ولم يجدوا عند علماء هذه العامة فيما اشتبه عليهم منه (٦) شفاء ، ولم يرجوا منهم في مسألة لو كانت لهم عنه اكتفاء ـ ازدادوا بذلك إلى حيرتهم فيه حيرة ، ولم تفدهم أقوال العلماء فيه بصيرة ، حتى بلغني والله المستعان ـ من تهافت الضعفاء في (٧) هذا المذهب العمي ، لما رأوا من جهل علماء هذه العامة بما فيه لأهله من الدعاوي ما دعاني (٨) إلى وضع أقواله ، والكشف عما كشف الله عنه من ضلاله ، وإن كان عندنا قديما لحمقه وضعفه ، لمما لا أحسب بأحد حاجة إلى كشفه ، حتى بلغني عن الحمقى منه انتشار ، وتتابعت بانتشاره عليّ أخبار ، ورفعت إلينا منه مسائل عن ابن المقفع ، لم آمن أن يكون بمثلها اختدع في مذهبه كل مختدع ، فرأيت من الحق علينا جوابها ، وقطع ما وصل به من باطله أسبابها ، فلينصف فيها ، من نظر إليها ، وليحكم ـ فيما يسمع منها نقائضها ـ حكم الحق ، فإنه أعدل الحكم وأرضاه عند من يعقل من الخلق ، وما ألّف من مسائله هذه وجمع ، فهو ما أوقعه من الضلال بحيث وقع ، فذكر فيها النور والظلمة تلعبا ، وتلعّب بذكرهما فيهما كذبا.

__________________

(١) في (ب) : حكمة.

(٢) في (أ) و (ج) : ما طلبوه (مصحفة).

(٣) في (أ) : يلجؤه. وفي (د) : يلجأ.

(٤) في (ب) : أعصمهم.

(٥) في (أ) و (ج) : يلحقوا.

(٦) في (أ) و (ج) : فيه.

(٧) في (ج) : وفي. وفي (د) : من.

(٨) في (أ) و (ج) : ما هو دعاني. (مصحفة).

فافهموا عنا جواب مسائله ، فإن فيه إن شاء الله قطع حبائله ، التي لا تصيد صوائدها ، ولا تكيد له كوائدها ، إلا حمقان الرجال ، وموقان (١) الأنذال ، كان أول ما بدأ منها ، وقال به متحكما عنها : إن سألناك يا هذا فما أنت قائل : أتقول كان الله وحده ولم يكن شيء غيره.

فاعرفوا يا هؤلاء فضول قوله ، فإنّ (٢) لم يكن شيء غيره هو من فضوله ، (٣) التي كثّر بها كتابه ، وضلّل بها أصحابه ، ومسألته هذا مما كان جوابه فيه قديما ، من كل من أثبت لله من خلقه توحيدا وتعظيما ، وفي ذلك من كتب ضعفة الموحدين وعلماءهم ، ما فيه اكتفاء لمن نظر في آرائهم ، ففي كتبهم فانظروا ، ومن نور قولهم فيه فاستنيروا ، ففيها لعمري منه ما كفى ، وصفوة (٤) هدى لمن اصطفى ، ومع ذلك فسنجيب مسألته ، ونقطع إن شاء الله علته.

نعم وكذلك يقول في الله فليعقل قولنا فيه من سمعه ، ممن لم يتبع ابن المقفع وممن تبعه ، فقد يعلم كل أحد أن الواحد لا يكون واحدا ، عند من أثبت له ندا وضدا ، وأنه متى كان معه غيره ، ضده (٥) كان ذلك أو نظيره ، زال أن يكون معنى الواحد المعلوم ثابتا ، ويعلم كل أحد أنه لا يكون ذو الأجزاء إلا أشتاتا ، ولا تكون أبدا الأشتات إلا كثيرا ، ولا تكون أجزاء إلا كان بعضها لبعض نظيرا.

أو ليس معلوما معروفا أن من وراء كل غاية غاية ، حتى ينتهي المنتهي الذي ليس من ورائه غاية ولا نهاية ، وأنه إن كان مع غاية غاية ، أو بعد نهاية عند أحد نهاية ، فلم تصر بعد إلى غاية الغايات ، ولم ينته عقله إلى نهاية النهايات ، وأنه يصير بالعظمة عند النظر من عظيم إلى عظيم ، حتى يقفه النظر على غاية ليس وراءها مزيد في تعظيم.

__________________

(١) في (ب) : مرقان. لعلها مصحفة. وموقان : جمع مائق. وهو الأحمق الغبي.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) : إن. بغير ضبط. فأفهمت الجازمة. وهي هنا الناصبة ، لأن الإمام يتكلم عن جملة قول ابن المقفع (لم يكن شيء غيره) فليتأمل.

(٣) في (أ) : فصوله ، وهي محتملة للصواب.

(٤) في (أ) و (ج) : وضوه هذا. تصحيف.

(٥) في (أ) و (ج) : ضد.

وكذلك الأمر في كل معلوم أو مجهول ، حتى ينتهي إلى الله الذي لا يدرك إلا بالعقول ، فيجده كل عقل سليم ، وفكر قلب حكيم ، واحدا لا اثنين ، وشيئا لا شيئين ، عظيم ليس من ورائه عظيم ، وعليم ليس فوقه عليم ، ذلك الله الرحمن الرحيم ، الواحد الأول القديم ، القدوس الملك الحكيم ، الذي لا تناويه الأعداء بمقاتلة ، ولا تكافيه الأشياء بمماثلة ، وهو الله الذي لم يلد ولم يولد ، والصمد الذي ليس من ورائه مبتغى يصمد ، غاية طلب الخيرات ، ونهاية النهايات ، وإذا صحح حجتنا في هذا صوابنا ، فهو لمن سأل عن وحدانية الله جوابنا.

فأما ما ذكر (١) بعد هذا من القيل (٢) فحشو مسربل بهذيان الفضول ، ليس له مرجوع نفع ، ولا يحتاج له إلى دفع.

أرأيتم حين يقول : انقلب عليه خلقه الذين ـ زعم ـ هم عمل يديه ، ودعاء كلمته ، ونفخة روحه ، فعادوه ، وسبوه وآسفوه ، وأنشأ تعالى يقاتل بعضهم في الأرض ، ويحترس من بعضهم في السماء بمقاذفة النجوم ، ويبعث لمقاتلتهم ملائكته وجنوده.

فيا ويل ابن المقفع ما أكذب قيله! وأضل عن سبيل الحق سبيله!! متى قيل له ـ ويله ـ ما قال؟! أو زعم له أن الأمر في الله كذا كان؟! ومتى ـ ويله ـ قلنا له أن من قوتل هو من قذف بالقذف؟! وأن الله في نفسه هو المحترس أف لقوله ثم (٣) أف!! بل الله (٤) هو المانع لأعدائه ، من أن يصلوا من العلو إلى مقر أوليائه ، تعريفا ـ بعدل (٥) حكمه ، وفيما تعلم الملائكة من علمه ـ بين الشياطين العصاة ، وبين الملائكة المصطفاة ، ورحمة منه سبحانه للآدميين ، وإقصاء عن (٦) علم السماء للشياطين ، توكيدا به لحجته

__________________

(١) في (ب) و (د) : ما ذكره.

(٢) في (أ) و (ج) : القبل. وفي (ب) و (د) : القتل. وكلاهما مصحفة ، ولعل الصواب ما أثبتنا.

(٣) في (أ) و (ج) : من.

(٤) في (ب) و (د) : بل هو الله المانع أعداءه.

(٥) في (أ) و (ج) : فعدل. مصحفة.

(٦) في (أ) : من.

سبحانه وإحداثا ، وإحياء به (١) لموتى الجهالة وانبعاثا ، وإكراما منه بذلك لنبيه ، وصيانة منه (٢) لوحيه.

فمن أين ـ يا ويله ـ أنكر من هذا ما كان مستبانا؟! وما يراه الناس في كل حال عيانا؟! أو يقول إن ما يرى من هذا لم يزل ، وأنه ليس بحادث كان بعد أن لم يكن ، فأين كانت مردة قريش عن الرسول به؟! ودلالتها للعرب (٣) فيه على كذبه ، وهو يزعم لها أن ما رمي بها عند بعثته ، وأن الرمي (٤) بها علم من أعلام نبوءته ، فلو كانت عند قريش ـ على ما قال ـ حالها ، لكثرت على الرسول فيه أقوالها ، ولما أرادوا من شاهد أكبر بيانا من هذا في إكذابه ، ولكن ابن المقفع يأبى في هذا وغيره إلا ما ألف من ألغابه (٥).

للعرب إذ أكثرها أهل ضواحي وبادية ، وقريش (٦) فإذ كانت منازلها على جبال عالية ، أحدث بالنجوم عهدا ، وأشد في الكفر تمردا ، من أن يكون أمرها على خلاف ما قال الرسول فيها ، ثم لا يكذبونه فيما زعم من اختلاف حاليها (٧) ، وإلا فالرسول كان في حكمته ، (٨) وفيما كان له عليه‌السلام من فضيلة الصدق عند عشيرته ، يتقول مثل هذا لعبا ، أو يفتريه عندهم كذبا ، بل ليت شعري ما أنكر؟! ولم ـ ويله ـ نفر

__________________

(١) في (ب) : وإحيائه.

(٢) في (ج) : وصلة منه. مصحفة. وفي جميع المخطوطات الاعنة بدل : منه. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت. لأن الشهب رصدت لمنع الشياطين من استراق السمع.

(٣) في (أ) و (ج) : للغرر.

(٤) يعني أن ابن المقفع يزعم أنه لم يرم بشيء بعد بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن الرمي لم يكن علما من أعلام نبوته.

(٥) في (أ) و (د) : ألعابه. وفي (ب) و (ج) : الغاية. ولعل الصواب ما أثبت. وألغاب : جمع لغب. وهو الإفساد ، والحديث الخلف ، وسيئ الكلام.

(٦) في (أ) و (ب) و (ج) : وبادية قريش فإذا كانت.

(٧) في (أ) : خاليها. (ب) : حمالتها. وفي (ج) : لفظة مهملة.

(٨) في (أ) و (ج) : حكمه.

فاستكبر (١) ، من أن ترجم الشياطين على علم وحي الله ومنزله ، كي لا تسبق به الشياطين إلى أوليائها قبل رسله ، فينتشر علمه قبلها في الناس انتشارا ، فيزداد مثله (٢) يومئذ له إنكارا ، ويحكم له (٣) فيه ظنونه ، ويزيد فتنة به مفتونه ، فأيما (٤) من هذا أنكر في رحمة الله الرحيم ، وفيما خص الله به رسله من التكريم.

فإن قال فما باله إذا أراد إنزاله؟! لم يطوه حتى لا يناله ، شيطان رجيم مريد ، ولا مطيع رشيد ، إلا رسوله من بين خلقه وحده ، فيكون هو الذي يبث (٥) رشده؟!

فليعلم أنه لم يصل (٦) إلى الأرض من الله حكمة في تنزيل ، إلا كانت ملائكة الله أولى فيها بالتفضيل ، لأنها صلوات الله عليها أطوع المطيعين وأعلمهم عن الله بحكم التنزيل ، وأنها في ذلك متعبدة ، وبه لله عزوجل ممجّدة ، وإنما تعبدها الله سبحانه بالعلم ، وفضلها في العبادة للحكم ، والتنزيل بعلم العلوم ، وبحكمة كل محكوم ، وجبلّة الجن جبلة (٧) ، للسمو إلى السماء محتملة ، والجن فهم (٨) بفضل أهل السماء عالمون ، وإلى علم ما عندهم من العلوم متطلعون ، فإذا دارت في الملائكة حكمة وحي نزّل (٩) فيها ، أو عدل حكم (١٠) حكم به في الأمور عليها ، استرقت منه الجن ما سمعت في مشاهدها ، وما ذكرت أنه لها هناك من مقاعدها. ألم تسمع قولها في ذلك ، وخبرها عن مقاعدها

__________________

(١) في (أ) و (ج) : فامسكين. مصحفة.

(٢) يعني : مثل ابن المقفع.

(٣) في (ب) و (د) : أو يحكم به.

(٤) في (أ) و (ج) : فأما ما من. تصحيف.

(٥) في (أ) و (ج) : بيت. تصحيف.

(٦) في (ب) و (د) : لا يصل.

(٧) في (أ) : وحبيله الجن حبله. (ب) : وحبله الجن حبله. وفي (ج) و (د) : (بدون إعجام). وقد قلّبت الكلمة على وجوه عدة مع البحث في معاجم اللغة ، فلم أهتد إلى معنى يطمئن إليه ، فاجتهدت فيما أثبت. والله أعلم بالصواب.

(٨) في (أ) و (ج) : فهم.

(٩) في (ج) : ينزل.

(١٠) في (أ) و (ج) : بحكم. مصحفة.

هنالك ، (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)) [الجن : ٨ ـ ١٠].

وهذا يا هؤلاء فإنما كان منها ، ونبأ الله به فيما أدى عنها ، بعد أن قالت : (إِنَّا سَمِعْنا) ـ في الأرض ـ (قُرْآناً عَجَباً)(١) [الجن : ١] ، ألا تسمعها تقول بعد : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٨).

وما ابن المقفع بمأمون ، من (١) أن يظن أن الحرس شرطيون ، لما بلونا من جهله باللسان ، وقلة علمه بمخارج القرآن. وإنما الحرس مثل على معنى الحفظ لها ، بما جعل من الرجم دونها ، فازدادت الجن بما وجدت هنالك ، يقينا وإيمانا بذلك. فما ينكر من القذف بالشهب ، وغيره ما فيه من التعجب؟! هل ذلك ممن يقدر عليه ، إلا كغيره مما هو فيه ، وقد زيد به في هذا من من الجن (٢) اهتدى ، وتجنب طرق الضلالة والردى ، وكان فيه منع لتوكيد كذب الشياطين ، ودفع عن الرسول لتصديق أقوال المكذبين ، والله يقول لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله ، في السورة نفسها ، ومع ذكر الشياطين وحرسها ، (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)) [الجن : ٢٥ ـ ٢٨].

وأما قوله في القتال : وأنزل ملائكته فإذا غلبوا عدوا قال : أنا غلبته ، أو غلب له وليّ، قال : أنا ابتليته.

فما أنكر ويله من أنا غلبته؟! وقد قاتلت معه ملائكته ، وقد قذف بالرعب في قلوبهم ، وبث الرعب في مرعوبهم ، وما ينكر من قتلهم ـ ويله ـ بالملائكة ، وهل ذلك بهم إلا كغيره من كل هلكة ، إلا أن ملائكة الله في ذلك متعبدة مثابة ، وأنه منه جل

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : من.

(٢) في (ب) و (د) : من الجن من اهتدى.

ثناؤه بالملائكة لأعدائه معاقبة ، وأنه لأوليائه عز ونصر ، ولأعدائه ذل وكسر.

فإن قال : ألا قتلهم (١) بما هو أوحى! (٢) واجتاحهم بغير القتل اجتياحا!!

فهذا إن دخل علينا له دخل في الملائكة ، دخل في غيره من كل هلكة ، يقال في كل واحده بعينها ، ألا كان الأمر بغيرها! وكل ما كان به كائن الهلكة ، فهو أمره بالملائكة أو غير الملائكة.

فإن قال : ألا خلق الناس أبرارا! ومنعهم أن يكونوا أشرارا! فمسألة من سأل عن هذا محال ، وليس لأحد علينا في هذا مقال ، لأنه إنما يكون البرّ برّا ، ما فعله فاعله متخيرا ، فأما ما جبر عليه صاحبه جبرا ، فلا يكون منه خيرا ولا شرا.

وفيما قال : أن يكون الانسان إنسانا لا إنسانا ، والاحسان إحسانا لا إحسانا ، لأن الانسان لا يكون إنسان إلا وهو مملّك مختار ، والاحسان لا يكون إحسانا إلا ولم يحمل عليه اضطرار.

وأما قوله (في ظفر أعدائه ، في بعض الحالات على أوليائه) (٣) ، فليس ويله بموجود من قولنا صحيح ، يعلمه كل أعجمي منا أو فصيح ، أن أوليائه لم تغلب إلا بنصره ، ولم تغلب إلا بمخالفتهم أو بعضهم لأمره ، والدليل على ذلك أنه لما أمسك عنهم نصره لما كان من عصيانهم ، كان ذلك هو بعينه سبب خذلانهم ، وأنه من فقد سب ، ما به الغلبة غلب ، وأنه غير مستنكر ذلك من فعال حكيم يملكه ، أن يعصيه (٤) من أعطاه إياه فيمسكه ، فيفقد فيه من نصره ما كان يجد ، ويتغير الأمر به إذا عصى عما كان يعهد ، فمتى نصر الله له وليا فبرحمته ، أو تركه من النصر فبضرب من معصيته ، وهذا من الأمر فلا يزول به عن قدير قدرة ، ولا تفسد معه لحكيم حكمة ، بل الحكمة معه قائمة موجودة ، والأفعال فيه منه عدل محمودة. ألم تسمع حكيم الحكماء ، وأقدر قادري العظماء ، يقول في هذا من نصره وخذله ، وقدرته سبحانه وعدله : (إِنْ

__________________

(١) في (أ) و (ج) : ألّا هو قتلهم.

(٢) أي : أسرع.

(٣) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٤) في (أ) و (ب) : بملكه أن يعصيه. وفي (أ) و (ج) : أو يعصيه.

يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)) [آل عمران : ١٦٠].

يخبر عن أنه متى حبس عنهم نصره ، حل مع حبسه خذله ، فمن لم يخذله سبحانه فأولئك هم المنصورون ، ومن خذله فلم ينصره فأولئك هم المبتلون ، فما في هذا مما ينكره عقل ، أو يفسد فيه من الله فعل ، سبحان الله ما أحق في من جهل هذا شبه البهائم! التي مثّلها جل ثناؤه بأهل الجرائم.

وأما قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، فهي فيما أرى والله أعلم ، مما قد يجوز في اللسان ويعلم ، أنك لم ترم بالرعب في قلوبهم إذ رميت ، ولكني أنا الذي به في قلوبهم رميت ، وبالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم انهزموا ، لا بالرمي بالبطحاء إذ رموا.

ومثل ذلك من الله لا شريك له قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢٧) [الأحزاب : ٢٦ ـ ٢٧]. فما ينكر من القدير على الأشياء ، أن يفعل ما يقدر عليه من الرّماء ، ما ينكر هذا إلا أحمق ، ولا يدفع هذا من الله محق ، فالله على هذا وخلافه يقدر ، وكذلك قدرته في أن يخذل وينصر ، وما صحت في فعله لقادر (١) قدرة ، فغير مستنكر أن تكون له وحده (٢) مفتعلة ، وإلا كان معنى القدرة عليه باطلا ، إذ ليس يرى بها القادر طول الدهر فاعلا.

فإن قال قائل : فما تقولون (٣) هل يقدر الله على أن لا يدخل المتقين الجنان؟! ولا من كفر نعمته (٤) وأنكره وأنكر رسله النيران؟!

__________________

(١) في (د) : لفاعل.

(٢) في جميع المخطوطات (وحدة). وقد قلبتها على الوجوه المحتملة فلم أهتد فيها إلى معنى صحيح ، فلعل الصواب ما أثبت والله أعلم.

(٣) في (ب) و (د) : تقول.

(٤) في (ب) : بنعمته.

قلنا (١) قديما كان ولم يدخل واحدا من الفريقين مدخله ، وإنما القدرة على أن يدخل ولا يدخل فقدما فعله ، فقد كانوا قديما ولم يدخلوا ، ولا بد بعد أن يدخلوا ، فقد كان المقدور عليه من لم يدخل ، وسيدخل ، فافهموا ما قلنا عنا ، وضعوا الفهم فيه حكما (٢) بيننا.

وأما قوله : فقتلت أعداؤه أنبياءه ورسله. فما ينكر من قتلهم لهم (٣) قاتله الله وقتله،(٤) لو لم يقتلوا لم يجب لهم من الكرامة عنده ما أوجبه ، ولم يدركوا ثواب ما كان القتل فيه سببه ، ولو كان له علينا في قتلهم مطلب لكان في موتهم ، ولو دخل علينا بقتلهم وموتهم لدخل علينا في أصل الفطرة لهم ، والفطرة لا يكون فيها من الحكمة ما فيها ، إلا بموجود البنية التي بنيت عليها ، وذلك ما قد فرغنا من الجواب فيه ، ودللنا بآثار الله في الحكمة عليه ، وفيما وصفنا منه ، وأنبأنا به عنه ، ما أوضحه ، ووضح به فصحّحه. والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما.

وأما قوله : فأجّل عدوه إلى يوم يبعثون. فهو وأصحابه في هذا يلعبون ، ولو فسد في التأجيل طول تأخيره ، لفسد في ذلك أقصر قصيره! فليت شعري ويله ، لم تقابح هذا وأنكره؟! وهو لو لم يبق لم يعص ولم يطع ، ولو لا المعصية والطاعة لم يخلق ولم يصنع!

وأما قوله : وأمرض خلقه وعذبهم ، بما عرض من الأسقام لهم. فلعمري لقد وفّاهم سبحانه طبائعهم مفصلة ، وسلمها إليهم مكملة ، عن هلكات العصيان ، وشين معايب النقصان ، فما دخلها من سقم بدن ، أو فساد متديّن (٥) ، فبعد اعتدال تركيبها ،

__________________

(١) في (أ) و (ج) و (د) : قيل.

(٢) في (ب) : الفهم فيه كما بينا.

(٣) في (أ) و (د) : له.

(٤) في (ب) و (د) : ولعنه.

(٥) متديّن : مصاب بداء ، يقال : دان. إذا أصابه الدّين. وهو داء. لسان العرب. مادة دين.

عن كل نقص من معيبها ، (١) وما فسد لهم من دين بعصيان ، فبعد هدى من الله وبيان ، وتخيير في (٢) الطاعة وإمكان ، فما في الذي ذكر ، وفنّن فيه فأكثر ، مما (٣) يدخل له أو لغيره علينا ، أو يجد به أحد مقال تعنيف فينا ، كأن كلامه ، ويله وأحكامه ، كلام لم يزل يسمعه من شطار (٤) أهل السجون ، أو كأنما قبل آدابه عن سفلة أهل المجون ، بل كأنه مجنون مصاب ، لا يحق له جزاء ولا عليه عقاب.

ومتى قيل له ، قاتله الله وقتله ، ما زعم وقال؟! (٥) وهذى به وهذر إذ سال؟! أنه أصمّ خلقه من حيث ظن ، (٦) وأعماهم كما توهم ، أو جبرهم على عصيانه ، أو حال بين أحد وبين إيمانه ، أو أنه هو أمرضهم ، (٧) أو عذّب بغير ذنب بعضهم ، بل نقول هو أسمعهم بالدعاء نداه ، ونوّر أبصارهم بنور هداه. ومن مرض منهم فمن الله يطلب شفاه ، وإذا ابتلي ببلاء فهو سبحانه الذي يكشف بلاه ، ألم يسمع ـ ويله ، الله تعالى وقوله ، عن أيوب نبيئه المبتلى ، عليه صلوات الرب الأعلى : (أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)) [ص : ٤١] ، (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٨٣) [الأنبياء : ٨٣]. قال الله سبحانه : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)) [الأنبياء : ٨٤].

أو ما سمع قول إبراهيم ، فيما نزل الله به (٨) من القرآن الحكيم ، فيما ذكر عند

__________________

(١) لعل المطرفية فيما تدعي من الأخذ بأقوال الإمام القاسم والهادي عليهما‌السلام أخذت في دعواها بأن الأمراض من تغيّر في الطبيعة المجبول عليها الإنسان ، ومن حدوث خلل في التركيب ، أخذت ذلك من هذا النص.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : في.

(٣) في (ب) : فما.

(٤) الشطار : جمع شاطر ، وهو من أعيى أهله خبثا.

(٥) في (أ) : وقال وهذر به إذ. وفي (ب) و (د) : وقال به وهذى به وهذر إذ.

(٦) ربما نقص هنا شيء من الكلام. فعادة الإمام السجع المستوي.

(٧) وهذا أيضا مما تعلقت به المطرفية في تلك الدعوى.

(٨) سقط من (ب) و (د) : به.

الله (١) لمرضه إذا مرض من الشفاء ، وأضاف إلى نفسه من الغفلة والخطأ ، إذ يقول صلى الله عليه : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢) [الشعراء : ٧٨ ـ ٨٢].

وأما قوله : وكل خلقه دمر تدميرا.

فلقد أنكر ويله من تدميرهم ما لم يجعله الله نكيرا .... (٢) عصيانهم لله مستحق الطاعة ظلما واعتدا ، ومجانبتهم لما جعل الله لهم به النجاة والهدى ، هو الذي به هلكوا ودمّروا ، بعد أن بصّرهم الله منجاتهم فلم يبصروا ، إلا أن يكون توهّم أن الله (٣) هو الذي حملهم على العصيان وجبرهم ، فكيف يا (٤) ويله وهو الله الذي مكّنهم فيه وخيّرهم؟! وما أجبر أحدا تعالى على إحسان ، فكيف يجبره له على عصيان؟! ولم يسخط ما قضى ، ولا رضي إلا بما فيه الرضى ، ولم يغضب له من فعال ، ولم يتضاد بحال ، ولم يتناول (٥) عدوا بقتال ، ولم يتمثل في شيء بمثال ، وإذا مرض خلقه شفاهم ، أو تعاموا عن الهدى أراهم.

فيا عجبا ممن (٦) جهله! وأنكر حقه وعطّله!! لو كان الله سبحانه صاحبا لوجب حقه!! فكيف والخلق خلقه؟! وهو خالق الخلق ومبتدعه ، والمحسن إليه في كل حال ومصطنعه ، ومن لم يدبر (٧) عنه بإحسانه حتى أدبر (٨) ، ولم يغيّر ما به من نعمه حتى كفر ، كيف وهو من عصاه استرضاه! ومن استكبر وهو القادر عليه أملاه! ثم كرّر

__________________

(١) في (ب) و (د) : عن.

(٢) أشار إلى بياض في (أ).

(٣) في (ب) و (د) : أن يكون يتوهم أن يكون هو حملهم.

(٤) في (ب) و (د) : فيكف ويله.

(٥) في (أ) و (ج) : ينازل. وفي (ب) : يناول.

(٦) في (أ) و (ج) : عن. وفي (ب) : من.

(٧) سقط من (ب) : من. وفي (أ) و (ج) : يدبره. تصحيف.

(٨) يعني : أن الله سبحانه لم يقطع إحسانه عن أحد حتى أدبر وأعرض عنه.

عليه في دعواه الهدى نداه ، ثم من قبل حظه فيه جازاه ، ومن أبى عطيته من الخيرات حرمه ، وهو الذي قبّح من كل ظالم ظلمه. فيا ويل من جهل إحسانه ، وركب في الكفر عصيانه ، ما ذا جهل من إحسان كثير لا يحصى؟! ومن عصى (١) إذ إياه عصى ، فمن أولى منه جل ثناؤه بالعبادة والتعظيم ، فيما دعا إليه من الطاعة له والتسليم ، وهو الله الهادي إلى سبيل النجاة ، والمنعم بنعمه التي ليست بمحصاة.

فإن قال قائل : ومن أين تدري أن هذه نعمه؟ وأن محدثها إحسانه وكرمه؟!

فليعلم أن كل ما يرى منها نعم بيّن آثار الإنعام فيها ، بحكم تصحح أثره (٢) العقول عليها ، وأنه لا بد في فطرة العقول ، وما فيها لها (٣) من المعقول ، من أن يكون لهذه النعم مول أولاها ، هو الذي فطرها وأنشأها ، وأنه لا ينبغي أن يكون موليها ، كهي فيما أبان من أثر الصنعة عليها ، وأنه لا يوجد شيء غيرها ، إلا وجدت فيه الصنعة وتأثيرها ، حتى ينتهي ذلك إلى من لا يشبهه مصنوع ، ومن كل الأشياء فمنه بدع مبدوع ، وأنه الله الأول القديم ، الملك القدوس الحكيم.

فإذا صح ذلك عند من يعقل بإشهاده ، علم أن النجاة من الله لا تكون (٤) إلا بإرشاده ، الذي نزل فيما أوحى من كتبه ، ودل على النجاة فيه بسببه ، فالحمد لله ولي النعمة في الأشياء ، والمتولي لنجاة من نجا بهداه (٥) من الأولياء ، الذي ليس له أكفاء فتساويه ، ولا شركاء في الملك فتكافيه ، المتبري من كل دناءة ، (٦) المتعالي عن كل إساءة ، رب الأنوار المتشابهة في أجزائها ، وولي تدبير الظلم وإنشائها ، العلي الأعلى ، ذي الأمثال العلى ، والأسماء الحسنى ، شاهد كل نجوى ، ومنتهى كل شكوى ، والممهل

__________________

(١) في (د) : عصاه.

(٢) في (ب) و (د) : آثار.

(٣) سقط من (ب) : ولها.

(٤) سقط من (ب) : لا تكون.

(٥) سقط من (أ) : بهداه.

(٦) في (أ) و (ج) : ذله. تصحيف.

المطيل ، ومن لا يعدل من الأشياء كلها بعديل ، فكل ذي خير (١) محمود ، أو منسوب إلى كرم أو وجود ، فالله مبتدئ فطره محموده ، والسابق الأول بما حمد من وجوده (٢).

فأين قولنا ويله ، مما (٣) ادعاه وتقوّله؟ سبحان الله ما أشد سفهه وجهله! لعنه الله وأضل عقله. ولو لا ـ أني سمعت الله لا شريك له يقول : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)) [الزخرف : ٥] ، ويقول سبحانه : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)) [الأعراف : ١٧٩]. ثم لم يترك مع (٤) ذلك تذكيرهم ، وبعث مع ذلك فيهم نذيرهم ، ـ لما رأيت لمن ذهب مذهبه ، وتلعّب في القول متلعّبه ، منازعة ولا إجابة ولا تذكيرا ، ولظننتهم إلا ما شاء الله له في العقول بقرا أو حميرا!!

أرأيتم حين يقول : ولا يغلب أحدا إلا بالخيل السلاح. إنه ليطمح (٥) في الخطأ ـ ويله ـ أيّ طماح! أترونه إنما يظن تغالب البهائم ، أو غلبة الناس للإبل الجلة الصّلادم (٦) وارتباطهم للفيلة بالأمراس ، وقرع سوّاسها (٧) لرءوسها بالأجراس ، (٨) إنما كان منهم بخيل أو سلاح ، ويله إنه ليجمح (٩) عن الحق أيّ جماح! ولئن كان يظن أن الناس أقوى من الملائكة ، إن هذا في الظن لأهلك الهلكة ، وقد بينا في جواب ذلك لهم فيهم ، ومن

__________________

(١) في (ب) : ذي كرم.

(٢) في (ب) : موجوده.

(٣) في (أ) و (ج) : بما ادعاه ، ويقوله. تصحيف.

(٤) في (أ) و (ج) : ثم ينزل. وفي (ج) : ثم لم ينزل. وفي (ب) : ثم يترك. وفي (د) : ثم لم يذكر. وما أثبت ملفق من الجميع ، والله أعلم بالصواب. وفي (أ) و (ج) : في ذلك.

(٥) في (أ) و (ج) : لطمح.

(٦) في (ب) و (د) : اللجية. تصحيف. والجلة : هو الجمل إذا ثنّى ، يعني في السنين. قاموس. والصلادم جمع صلدم : وهو الصلب الشديد.

(٧) الأمراس : الحبال. وسوّاس جمع سائس : وهو الذي يقوم عليها ويروضها.

(٨) الأجراس : عيدان يضرب بها.

(٩) في (أ) و (د) : للجمح. والطماح والجماح بمعنى. وهو الارتفاع ، والنشوز. مأخوذ من جماح الخيل.

غلبة الأولياء لله (١) لعدوهم وظهورهم عليهم ، بما (٢) فيه بيان كاف ، وعبرة واضحة لذي إنصاف (٣).

واما قوله : يقاتل على الملك والدنيا. فكيف ـ ويله ـ يقاتل على الملك والدنيا ، وطلب العز فيها والكبرياء ، من كان لباسه فيها مع وجوده لملكها الشّعر والوبر والعباء والصوف ، وشعاره فيها والناس شباع آمنون الجوع والظمأ والخوف ، وما الملك ممن يظل (٤) نهاره وليله خاشعا وباكيا ، ويسيح على قدميه (٥) في الأرض حافيا ، يدعو من هلك من أهلها إلى النجاة ، وينادي من مات عن الهدى إلى الحياة ، ومن هو أعز ما يكون مفارقا (٦) لأحوال ملوك الدنيا وأغنيائها ، ومن (٧) لا يرى متكبرا عن مساكين العامة وفقرائها ، يقف عليها ، ويرى واقفا فيها ، ويأكل معها إذا أكلت ، ويجيبها إذا سألت ، ويعود مرضاها إذا مرضت ، ويشهد موتاها إذا ماتت.

فأين هذا كله ، وفرع هذا وأصله ، من أحوال الملوك التي تتكبر عن (٨) آبائها ، ولا تنظر بخير إلى أبنائها ، ما أشبه بعض ابن المقفع ببعض ، وما أحسب له في المكابرة نظيرا من أهل الأرض.

وأما قوله قول الزور والباطل : وأخرج ـ زعم ـ سلطان الجاهل ، الذي يستر (٩) عليك الجهالة ، ويأمرك أن لا تبحث ولا تطلب ، ويأمرك بالايمان بما لا تعرف ، والتصديق بما لا تعقل ، فإنك ـ زعم ـ لو أتيت السوق بدراهمك تشتري بعض السلع ، فأتاك الرجل من أصحاب السلع ، ودعاك إلى ما عنده ، وحلف لك أنه ليس في

__________________

(١) في (ج) : عليهم الأولياء. مصحفة. وفي (ب) و (ج) و (د) : بالله.

(٢) في (أ) و (ج) : ما.

(٣) في (ج) : لذوي إنصاف. وفي (ب) : لذوي الإنصاف.

(٤) في (أ) : يظل بهذه. وفي (ج) : يظن بهاذه. مصحفة.

(٥) السياح : الذهاب في الأرض للعبادة. وسقط من (أ) و (ج) : على قدميه.

(٦) في (أ) و (ج) : مفارق الأحوال. وفي (ب) و (د) : مفارق لأحوال. ولعل الصواب ما أثبت.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : ومن.

(٨) في (أ) و (ج) : على.

(٩) في (أ) : ستر. وفي (ب) : يسري. وفي (د) : يسر.

السوق شيء أفضل مما دعاك إليه لكرهت أن تصدقه ، وخفت الغبن والخديعة ، ورأيت ذلك ضعفا ، وعجزا منك ، حتى تختار ـ زعم ـ على بصرك ، وتستعين بمن رجوت عنده معونة وبصرا.

[التفكير فريضة إسلامية]

فمن ـ يا ويله ـ الذي يخاطب ويسأل؟ ومن الذي يخشى أن يخدع ويجهل؟ النور الذي لا يجهل ـ زعم ـ فيعود شرا ، أم الظلمة التي لا تكون إلا خديعة ومكرا؟! سبحان الله ما أشبه أمثاله بعقله! وما أوجد (١) شبهه في الدناءة (٢) بفعله!! أمحمد ـ ويله ـ (٣) صلوات الله عليه ، كان يدعو إلى شيء مما كذب (٤) عليه فيه؟! معاذ الله أن تكون تلك كانت قط من آدابه ، ومما نزّل عليه في كتابه! أهو ـ ويله ـ يحمل على خلاف ما يعرف؟! وإنما جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو إلى المعارف ، أو يأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكف عن الطلب والبحث ، وهو الكاشف عن أسرار الغيوب لكل متبحّث ، أو هو يرضى دناءة الخدع وقبائحها ، أو يقارب الأسواء وفضائحها؟! ولم يقبّح أحد من الخلق السيئات بأكثر مما قبّح ، ولم ينصح في الدلالة على الخيرات أشد (٥) مما نصح ، ولم يناد بإظهار أمره أحد قط كما نادى ، ولم يدع إلى (٦) كشف الحق ما إليه دعا.

أما سمعه ويله ، ما أكذب قيله! وهو يقول صلوات الله عليه ورضوانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٤) [يونس : ١٠٤].

__________________

(١) في (ب) و (د) : يوجد.

(٢) في (ب) : الدنيا. مصحفة.

(٣) سقط من (ب) و (د) : ويله.

(٤) أي كذب ابن المقفع على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٥) في (ب) : أكثر.

(٦) في (أ) : من الكشف للحق.

ويقول الله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤) [آل عمران : ٦٤] ، ويقول سبحانه : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٥) [يونس : ٣٥].

وإن (١) دعوى ابن المقفع هذه فيه ، لما لم يدّعه قط مدّع عليه ، لا ممن أجابه فاهتدى ، ولا ممن صد عنه واعتدى ، (٢) ولكني أحسب أن ابن المقفع هذى ، وألقى الشيطان على لسانه ما (٣) تمنى ، فجعل ظنه عليه يقينا ، أو كابر (٤) من وجد قوله بيّنا! كيف يا ويله ، قاتله الله وقتله ، يكون كما افتراه ، أو على شيء مما ادعاه ، والله يقول سبحانه : (* قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)) [سبأ : ٤٦]. ويقول سبحانه : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)) [الأعراف : ١٨٥]. ويقول سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١) [يونس : ١٠١]. فهل دعا أحد إلى إخلاص الفكر دعاه ، أو حدى (٥) أحد من الناس على النظر حداه ، ما يبلغ كذب ابن المقفع في الكلام ، كذب أضغاث الأحلام ، طلب ـ ويله ـ في الكتاب من التعنيف ، وتكلّف في عيبه من التكاليف ، ما لم تطقه قبله عفاريت الشياطين ، فكيف به وإنما هو مجنون من المجانين!! أما سمع قول رب العالمين: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ

__________________

(١) في (أ) و (ج) : وأين.

(٢) في (أ) و (ج) : ملحدا.

(٣) سقط من (ب) : الشيطان. وفي (ب) : لسانه بما.

(٤) في (ج) : كأين. مصحفة.

(٥) في (أ) : حذاء. وفي (ج) : حد. مصحفة. ومعنى حدى : بعث وساق وحث.

وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨]. وقوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) [يونس : ٣٨].

أما قوله : فلا نعلم دينا مذ كانت الدنيا ـ زعم ـ إلى هذا الزمان الذي حان فيه انقضاؤها ، أخبث زبدة كلما مخض ، وأسفه في ذلك التمخيض أهلا ، والبتر أصلا ، وأمرّ ثمرا وأسوأ أثرا ، على أمته ، والأمم التي ظهر عليها ، وأوحش سيرة ، وأغفل عقلا ، وأعبد للدنيا ، وأتبع للشهوات من دينكم.

وقد قال : ويله في هذا من أصول ديننا وفروعه ، ومفرّق حكم دين الله ومجموعه ، بما لا يخفى كذبه فيه ، عمن (١) حكم بأقل الحق عليه.

وأيّ دين أحسن نظاما ، وأعدل أحكاما ، وأقل تناقضا ، وأرضى رضى ، من دين قامت دعائمه ، واعتدلت (٢) قوائمه ، على الأمر فيه بالعدل والاحسان ، ونهت نواهيه عن كل فحشاء وعدوان ، فلم يترك لمحسن ثوابا ، ولم يضع (٣) عن مسيء فيه عقابا ، بمقادير من قسط عادلة ، وموازين من عدل غير مائلة ، لولاه لفسدت الأرض خرابا ، وعدمت الصالحات ذهابا.

[إسلام السلاطين]

ولكني أراه ظن ديننا ، وتوهم أحكام ربنا ، أحكام معاوية بن أبي سفيان ، (٤) وما

__________________

(١) في (ب) : من.

(٢) في (ب) : وعدلت.

(٣) في (ب) : يضع لمسيء. تصحيف.

(٤) عن عبد الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. أخرجه الذهبي في الميزان ٢ / ٧. وصححه. وأخرجه في تهذيب التهذيب ٥ / ١١٠ ، وفي تهذيب التهذيب ٧ / ٣٢٤ ، وفي الميزان ٢ / ١٢٩ ، مثله عن أبي سعيد رفعه ، ونحوه عن أبي جذعان. وقال في تهذيب التهذيب ٨ / ٧٤ ، في ترجمة عمرو بن عبيد بن باب قال : حدثنا بندار ، حدثنا سليمان بن حرب ، ـ

__________________

ـ حدثنا حماد بن زيد قيل لأيوب : إن عمرا روى عن الحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ، وعن أبي سعيد رفعه : إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه. قال ابن حجر : وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن إسحاق عن عبد الرزاق ، عن ابن عيينة عن علي بن زيد. قال : والمحفوظ عن عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن علي ولكن لفظ ابن عيينة : فارجموه. قال أورده ابن عدي عن الحسن بن سفيان. وفي كنوز الحقائق للمناوي / ٩ ، ولفظه : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ، قال : أخرجه الديلمي ـ يعني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. يحتمل قويا أن يكون المراد من المنبر في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا رأيتم معاوية على منبري). هو مطلق المنبر بدعوى أن كل منبر يصعد عليه في الإسلام ويخطب عليه فهو منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحتمل أن يكون المراد منه مخصوص منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة كما يؤيده بل يدل عليه ما تقدم في حديث أبي سعيد : إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد ... إلخ.

وعلى كل حال فإن معاوية حسب الأحاديث المتقدمة ممن يجب قتله بحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تسامح فيه المسلمون ، أما وجوب قتله على الاحتمال الأول فواضح ، وأما على الثاني فلما رواه ابن سعد في الطبقات ٤ / ١ / ١٣٦ ، من مجيء معاوية إلى المدينة وصعوده على منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، عن أيوب ، عن نافع ، قال : لما قدم معاوية المدينة حلف على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتلن ابن عمر. ثم رواه بطريق آخر عن نافع. فراجع.

وقال في أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة معاوية بن صخر وهو معاوية بن أبي سفيان ، قال : وروى عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال : هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد ، ثم في كذا وكذا ليس فيها لطليق ، ولا لولد طليق ، ولا لمسلمة الفتح شيء. ورواه ابن سعد أيضا في طبقاته. ٣ ـ ١ / ٢٤٨.

الاستيعاب لابن عبد البرج ٢ / ٤٠٢ : في ترجمة عبد الرحمن بن غنم الأشعري ، قال : ويعرف بصاحب معاذ لملازمته له ، وسمع من عمر بن الخطاب ، وكان من أفقه أهل الشام ، وهو الذي فقّه عامة التابعين بالشام ، وكانت له جلالة وقدر ، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند علي عليه‌السلام رسولين لمعاوية ، وكان مما قال لهما : عجبا منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به ، تدعوا عليا أن يجعلها شورى ، وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار ، وأهل الحجاز ، وأهل العراق ، وأن من رضيه خير ممن كرهه ، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه ، وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ، وهو وأبوه من رءوس الأحزاب. قال : فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه. وذكره ابن الأثير أيضا في أسد الغابة. ٣ / ٣١٨ باختلاف يسير.

سن بعد معاوية ملوك بني مروان (١) ، من تناقض أحكامها ، وجورها في أقسامها ، وأولئك فأعداء ديننا ، وحكم أولئك فغير (٢) حكم ربنا ، وحكم ديننا فالحكم الذي لم يخالطه قط جور ، وأموره من الله فالأمور التي لا يشبهها أمور ، ويحق (٣) بذلك أمر وليه أحكم الحاكمين ، وحكم جاء من رب العالمين.

وأما قوله : رجل من أهل تهامة. فإنما هو ضرب من العجامة ، وما في هذا ويله ، ما أشد عتوّه وكفره ، تهاميا كان عليه‌السلام أو شاميا ، أو مغربيا كان من الناس أو مشرقيا ، هل هو إلا بشر آدمي ، بعثه إلى كل فصيح وأعجمي ، كما قال سبحانه ، أجزل الله كرامته ورضوانه: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (٦) [فصلت : ٦]. هل هو إلا رسول الله صلى الله عليه بعثه الله إلى الانسان ، وإحسان من الله وهبه الله عباده لا كالاحسان ، أرسله سبحانه بهداه مبتديا ، إلى أولاء الخلق بأن يكون مهتديا ، إل الملأ من عشيرته ، وفي ولد إبراهيم وذريته ، وإلى أبناء قحطان من خيرته ، وهم الذين كانوا في كفرهم أوفى أهل الكفر لمن عاهدوا عهدا ، وأكرمهم لمن وادّ ودّا ، وأحسنهم لمن تحرّم بهم تحرّما ، وأحفظهم لجوار من جاورهم تكرما ، وأشدهم للكذب إنكارا ، وعن كل دناءة خلق استكبارا ، وأشدهم لله إعظاما ، ولحرم بيته إكراما ، والذين يقول عنهم ، فيما ذكر عنهم ، في عبادة ما كانوا يعبدون معه من الأوثان ، تقربا بعبادتهم لذلك إلى الرحمن ، (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [ص : ٨٤]. أما سمعت قول الله فيهم ، وفيما ذكر لعباده من تمنيهم ، (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٩) [الصافات : ١٦٧ ـ ١٦٩]. ويقول سبحانه عنهم خاصا (٤) دون الخلق ، في تمنيهم دون أهل الأرض لدين الحق ، (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى

__________________

(١) في (أ) و (ج) : في. وقد سبق في الدليل الكبير بعض ما ورد في بني أمية فراجعه.

(٢) في (أ) : غير.

(٣) في (ب) : بحق.

(٤) في (أ) : خاصة. وفي (ج) : حاصلا. مصحفة.

الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢].

وأما قوله : عليه اللعنة في آيات المرسلين ، وتمثيله لها بسحر الساحرين ، فغير بدع بحمد الله منه وقبله ، ما قال إخوانه من الكافرين فيها قوله ، أما سمعتم قول فرعون وملائه ، عند ما رأوا من نور الحق وضيائه ، (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] فبينا (١) هو يقول أيها الساحر إذ قال إنك لمسحور ، وبينا قريش تقول لمحمد صلى الله عليه ما هذا إلا سحر إذ قالوا إنك لمجنون ، ولعمري لو كان موسى ومحمد صلى الله عليهما ساحرين عندهم وفيهم ، لكان ذلك بيّنا جليا لديهم لا يخفى منه شيء عليهم ، كما كان يتبين لهم سحر السحرة والكهان ، يوقنونه منهم بحقيقة الايقان ، ولا يدّعون سحرهم جنونا ، ولا ساحرهم مسحورا ، غلطا وعتها ، وعماية وعمها (٢).

هذا ليعلم أن قولهم فيه لم يكن إلا كذبا وافتراء ، وأن السحر لم يكن عندهم ما (٣) يشك فيه ولا يمترى.

كيف ويله وويل أسلافه ، ومن تبعه بعده من أخلافهم وأخلافه ، يسمى سحرا أو جنونا؟ ما يملأ بطونا وعيونا! وترى آثاره اليوم (٤) إلى الدهر الأطول دائمة ، ومواقعه في بطون الآكلين والشاربين من الظمأ والجوع باقية ، ما هذه بطريقة السحر المعروف ، ولا يعرف السحر بوصف من هذه الوصوف ، إلا أن يكون في مومه (٥) وعماه ، وشدة تباعده عن هداه ، يبصر اليوم من السحر ما لم يكونوا يبصرون ، أو يظهر السحرة اليوم له منهم ما لم يكونوا يومئذ (٦) يظهرون ، والسحر يومئذ فيهم ظاهر منشور ، وصاحبهم إذ ذاك عندهم مكرّم محبور ، ومن أظهر اليوم السحر ، لم يكن له عند الأمة عقوبة إلا القتل ، ما أوضح الأمور ، وأبين الساحر والمسحور ، وليس في هذا شغل ، لأحد ممن

__________________

(١) في (ب) : فبينما.

(٢) في (أ) و (ج) : وعماها.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) سقط من (ب) : اليوم.

(٥) مومه. الموم : البرسام. وهو علة يهذى فيها.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : يومئذ.

يعقل ، مع أنك لم تر قط أحدا يسحر ، إلا وهو يعبث في سحره ويسخر ، ولم تره وإن سحر إلا مسترذلا ، وسفلة دنيّا نذلا.

وأما قوله : نافر الله الإنسان فقال : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١٨) [العلق : ١٧ ـ ١٨]. ثم افتخر بغلبته ـ زعم ـ لقرية أو لأمة أهلكها من الأمم الخالية. فما في هذا ويله من نافر وافتخر ، لا ولكنه أوعد وحذّر ، بما فيه لمن عقل مزدجر ، (١) وعبرة كافيه ومدّكر ، وهذه من لفظاته الأولى ، وشبيهتهن في الدناءة والعمى ، فيا ويله ما أغلب عليه قول السفال والبهتان ، وأجهله بما يدور بين أهله من هذا اللسان ، الذي لا يصاب إلا به تأويل القرآن ، ولا يتبين بغيره من الألسن ما يتبين به من البيان ، فليقبل من أراده قبل تعلّمه ، ولا يحكم على القرآن بوهمه ، فإن (٢) ابن المقفع إنما استعار أحرفه ، فأما معناها فجهله وحرّفه ، يسمع منا في ذكر الله لفظا ، فوعاه كما سمع حفظا ، ثم ثبّته إلى نوره وضلالته كذبا ، فأنشأ يمدح به غير الممدوح تلعبا ، والمعاني منه فأعجمية ، والأسماء التي سمى فعربية.

وأما قوله : انقلب وأنشأ. فكلمتان ليس لهما في الله معنى ، لقبح مخرجهما ، وضلال منهجهما ، عن كلام أهل القدر والنّهى ، وإنما قبلهما من الناس عن (٣) الطبقة السفلى!

ومن قال له يا ويله انقلب عليه خلقه؟! وأنه أنشأ سبحانه يقاتله ويغالبه؟! هذا ويله فما لم يقل به في الله قط ، منذ كانت الدنيا مقتصد ولا مفرط.

وأما قوله : عمل يديه ، ودعاء كلمته ، ونفخة روحه. فكله منه على ما توهمه زور وبهتان ، وأكثر قوله فيه هذر وهذيان ، وليس فيما فنّن في (٤) هذا من قوله ، لا في قصره ولا في طوله ، أكثر من أن الله أحدث صنعا ، وأبدع لا شريك له بدعا.

فإن قال قائل ولم أوجد صنعه؟! وما العلة التي لها أبدع بدعه؟! فهي الاختيار

__________________

(١) في (أ) و (ج) : من زجر. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : فإنما.

(٣) سقط من (ب) و (ج) : عن.

(٤) في (ب) : من.

فيما أنشأ ، وإظهار حكمته فيما أبدى ، جودا منه وكرما لا يشوبه حسد ، ولا يجب به إلا له فيه حمد ، وكفى بهذه (١) لصنعه علة ، وفيما سأل عنه جوابا ومسألة.

فإن سأل سائل ، أو قال قائل ، (٢) فما باله إذا كان الجود عندكم من علة صنعه وبريته ، والجود فلم يزل عندكم من ذاته ، لم يحدث الصنع قبل إحداثه؟! فهذا ضرب من غلط السؤال وأعياثه (٣)! إذ كان الصنع كيف ما كان حدثا ، وكان الله له في ذلك محدثا ، فهذا جوابنا له فيما سال ، إذ كان في مسألته قد أحال (٤). والحمد لله رب العالمين ، وأول من أنعم من المنعمين.

وأما قوله : فصارت الغلبة للشيطان بأن تبعه الخلائق على ضلالته إلا أقلهم.

فيا ويله ما في هذا من غلبته ، (٥) بل هبهم تبعوه على ضلالته ، فإنما بأهوائهم ، (٦) وأطاعوه لعدائهم ، (٧) لا عن غلبة منه لهم ، فو الله ما غلبهم ، فكيف يغلب خالقه وخالقهم؟! ، ومتى غالب الله الشيطان فغلب أو غلب؟! يأبى (٨) ابن المقفع ـ ويله ـ إلا اللعب ، لئن كان الشيطان غلب الله بكثرة أتباعه ، لقد غلب الشر نوره بكثرة أشياعه!. ويله إنما يتبع الشيطان من أطاع هواه ، وعمي عن الله مثل عماه ، وسبله إلى الله لو أرادها ذلل ، وطريق نجاته بالحق له مسهّل ، ولم يعص من عصى غلبة ولا قهرا ، ولم تطع نفس على طاعتها جبرا ، إنما خلق الثقلان ، مخيّرين بين الطاعة والعصيان ، لتكون الطاعة بالاختيار إحسانا ، والمعصية للانسان عصيانا.

وأما قوله عليه اللعنة : أدخلوا عليه الأسف والحسرة والغيظ.

__________________

(١) في (ب) و (د) : بهذه الصنعة. تصحيف.

(٢) سقط من (أ) : أو قال قائل.

(٣) الأعياث : جمع عيث. وهو الافساد.

(٤) أحال : أتى بالمحال.

(٥) في (أ) و (ج) : غلبه.

(٦) في (ب) و (د) : وإنما تبعوه ومالوا إليه بأهوائهم.

(٧) في (أ) و (ب) : لعذابهم. وفي (ج) : لعذانهم. وما أثبت اجتهاد مني ، والله أعلم بالصواب.

(٨) في (أ) و (ج) : فأبى.

فكذب عدو الله لا يقال لله تحسّر ولا غيظ ، ولكن يقال لهم آسفوا ، إذا عصوا (١) الله فأسرفوا ، (٢) ولا يقال تحسر الله ولا اغتاظ ، (٣) وليس سبحانه مما يغاظ ، يأبى ابن المقفع إلا عجمة اللسان ، ومظلمة كذب البهتان ، متى وجد الله سبحانه عما يقول ، زعم مما لا تقبله العقول ، أظنه ذهبت به ذواهب استعجام الحيرة ، فيما ذكر عن الله سبحانه من الغيظ والحسرة ، إلى قول الله سبحانه : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠)) [يس : ٣٠] ، فهذه إنما هي حسرة على العباد لا عليه ، وتحسّر فيهم على الهدى لا فيه.

وأما قوله سبحانه : (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج : ٦]. وهذا أيضا فإنما كان لما (٤) هو لهم من أمر الله مغيظ. يقول سبحانه أما من امرؤ غاظه ، فليس يذهبه اغتياظه ، وأما (آسَفُونا) [الزخرف : ٥٥]. فهو أفرطوا في عصياننا ، فوجب عليهم بذلك تعجيل انتقامنا ، لا على ما توهم (٥) من حرقة الأسف ، التي لا تحل إلا بكل مستضعف ، ولقد كان له في هذا بيان واضح لو تبيّن ، ويقين علم صادق لو تيقّن ، لقول الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وأن الذي توهم لتمثيل هو التمثيل ، (٦) فسبحان من لا تصل إليه الآلام ، ولا يعرض له نوم ولا نسيان ، ومن ليس كمثل ما خلق من الإنسان ، ذلك الله رب الأرباب ، ووليّ مجازاة العدل في الثواب والعقاب.

وأما قوله : فجعل الله السبيل سبيلين.

فوا عجبا لمحال قوله في هذا التكثير والتفنين! وكيف ـ ويله ـ يكون سبيلان

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف / ٥٥]. وفي (ب) : إذ غضبوا. تصحيف.

(٢) في (ب) و (د) : وأسرفوا.

(٣) في (أ) : واغتاظ.

(٤) سقط من (ب) : كان لما.

(٥) في (أ) و (ج) : لا على توهّم.

(٦) هكذا في جميع المخطوطات ، ولعل معناه : أن ما توهمه في تمثيل الله بالأمثلة هو التمثيل والتشبيه ، الممنوع في حق الله سبحانه.

سبيلا؟! ما أحسب كلامه بهذا ومثله إلا خبلا وتضليلا!! فسبيل ـ زعم ـ للطاغوت وحزبه ، وسبيل تفرد الله به ، (١) وإنما يكون سبيلهم لهم سبيلا غيا ، إذا (٢) كان كل أحد سواهم منه بريّا ، وإنما يكون السبيل لله سبحانه سبيلا ، (٣) إذا كان إليه داعيا وعليه دليلا ، فهذا ـ ويله ـ وجه السبيلين ، لا ما قال به من محال الشيئين.

وقال : هل تعلم يا هذا لم خلق الخلق؟! فنعم نعلم ، إذ (٤) علّم وفهّم ، ومن ما نزّل من ذلك وبيّن ، أما الجن والإنس فلما قال تعالى من عبادته ، إذ العبادة له واجبة على أهل النعمة في محمدته ، وأما ما سوى الثقلين فلهما خلقه ، وبه استحق عليهما من الشكر ما استحقه ، فذلك قوله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٨]. ومن ذلك قوله سبحانه : (سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) [الجاثية : ١٢ ـ ١٣]. فسبحان الله مستقح الرضى ، ممن أطاع أو عصى ، بأحق حقائق الاستحقاق ، وما يحق للخالق الرزاق.

فأما قوله : فما أراد بخلقه الخير أم الشر؟!

فالخير أراد بهم جميعا سبحانه معجلا ، وثواب المحسن منهم أراد جل ثناؤه مؤجلا ، فأراد سبحانه الخير في كلهم إرادة تعجيل ، أتمها فأكملها أفضل تكميل ، لا كما يريد من لم تتم إرادته ، ولا تحق على غيره عبادته ، وأما إرادته في التأجيل ، فإرادة خلافها يستحيل ، إذ لا يكون بنية أهل الدين ، إلا بنية تمليك وتمكين ، وأنه متى كان غير ذلك

__________________

(١) في (أ) : الله زعم نهجه. وفي (ج) و (د) : الله به زعم نهجه. وفي (ب) : ينهجه. والعبارة قلقة هنا ولعل (زعم بنهجه). زيادة من النساخ. فالكلام مستقيم بدونها. أو أن هنا سقطا من الكلام.

(٢) في (ب) و (ج) و (د) : سبيلا وغيا. وفي (أ) : وعيا. ولعلها مصحفة وما أثبت اجتهاد ، ولم يظهر لي المعنى ، والله أعلم بالصواب. وفي (أ) و (ب) و (ج) : إذ.

(٣) سقط من (ب) و (د) : سبيلا.

(٤) في (أ) و (ج) و (د) : إذا.

لم تكن البنية بمحكمة ، ولم ير فيها ما يرى من آثار الحكمة ، وكانت مواتا لا تفعل ، وشيئا من الأشياء لا يعقل ، فليعقل ـ ويله ـ أسباب حكم الله المترافدة ، (١) وليعلم تعالى الله عن بنية أعيان الأشياء المتضادة ، التي لا تقوم بحال في وهم الأصحاء ، ولا توجد بفهم في جهلاء ولا علماء.

وأما قوله لعنه الله : إن ربهم على كرسيه (٢) قاعد ، وإنه تدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.

فيال عباد الله من أعطاه ، قاتله الله ما أعظم فراه ، أنه جلس فقعد ، أو تدلى أو صعد ، من حيث ظن ، أو توهم ، وما يبالي ما قال علينا كذبا ، وادعاه (٣) من القول فينا تلعبا ، إن الذي قال من قعد وتدلى وانقلب ، وجزع وافتخر وأنشأ وغلب ، فأكثر فيه من هذا القول علينا كذبا وقرفا (٤) وخلفا ، لشيء ما علمت أن ملّيا (٥) ولا ذمّيا يعقل ما قال منه قط حرفا ، وبلى ، ولعله وعسى ، أن يكون ظن قوله : (اسْتَوى) [البقرة : ٢٩] ، فلا لم يعن الله بها ما عنى ، وما لله سبحانه من ذلك ، (٦) لو عنى به ما ظن هنالك ، من المدح المعظم ، والتعظيم المكرّم.

أما علم إنما يراد بالاستواء ، الاجلال لله والاعلاء بملكه لما فوق السموات العلى ، وأنّ استواءه على ذلك كاستوائه على الأرض السفلى ، وأن استوى في هذا كلمة من الكلام ، جائز معناها بين الخواص والعوام ، تقول العرب إذا ظفرت بأحد ، وغلبت على بلد : لقد صرت إليها ، واستويت عليها ، تريد غلب سلطاني فيها ، فهذا وجه قوله جل ثناؤه : (اسْتَوى). لا ما يذهب إليه فيه من العمى.

وأما ما جهل من قول الله تبارك وتعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) في (ب) : المترافية. وفي (د) : المترادفة. كلاهما مصحفتان.

(٢) في (أ) : كرسي.

(٣) في (ب) و (د) : أو ادعاه.

(٤) القرف : البغي. والخلف الطالح الرديء.

(٥) يعني : من أهل الملة.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : من ذلك.

ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ٩] ، فقد يمكن أن يكون ثمانية أصناف ، أو ثمانية آلاف ، أو ثمانية معان ، ليس مما يدرك بعيان ، وأن لا يكون كما ظنوا ملائكة ، وأن أقل ما في ذلك إذ (١) لم يأتهم فيه عن الله فيه بيان أن تكون قلوبهم فيه ممترية شاكة ، لأن ذلك قد يخرج في اللسان ، ويتوجه (٢) في فهم أهله بإمكان ، وإن في ذلك لعلما عند أهله مخزونا ، وإن فيه لله لغيبا مكنونا ، يدل على عجائب خفيّة ، ويتجلى (٣) إذا كشف عنه تجلية مضية ، وليس معنى : (فَوْقَهُمْ) ما يذهب إليه الجهلة من الرقاب ، ولا (٤) ما يتوهمون فيه من تشبيه رب الأرباب. والثمانية فقد يمكن فيها ، غير ما قال به الجهلة عليها.

وأما قول الله لا شريك له : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥]. فقد يحتمل حافين ، أن يكون مكبّرين مجلّين. ويحتمل أن يكونوا بأمره عاملين ؛ لأن الاحفاف قد يحتمل ذلك في لسان العرب أبين الاحتمال ، لأنهم يقولون إن قوم فلان لمحفون به في الاجلال.

فإن قال قائل : فما وجه قوله ، فيما ذكر من إحفافهم به من حوله؟ فقد يكونون حافين وإن كانوا من تحته كما يقال : إنهم بفلان لحافون ، وإن كان من علا لي منازله بحيث لا يبصرون ، ذلك كقوله سبحانه فيما أرى ، (٥) لا ما توهم في حمل وأحفّ واستوى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٦ ـ ١٧]. فإذا انشقت السماء للفناء والبلاء ، تحوّزت الملائكة لشقّها إلى الأرجاء ، وهي النواحي ، وصارت حينئذ (٦) حافة حول العرش الباقي ، والعرش فإنما هو السقف الأعلى ، والأسفل ففناؤه قبل فناء الأعلى ، فليعقل هذا من المعنى ، من أراد حقيقة ما عنى ، وليعلم أن سقف أعلى ما فيه الملائكة من السماوات ، غير مسكون بشيء من

__________________

(١) في (ب) و (د) : إذا.

(٢) في (أ) و (ج) : ويوجه.

(٣) في (أ) و (ج) : أو يتجلى.

(٤) يعني : ليس عرشا يحمل فوق الرقاب. وفي (ب) و (د) : وما.

(٥) في (أ) و (ج) : أرى فتعالى.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : حينئذ.

البريات.

فإن قال قائل : أفيكون ، مكان غير مسكون؟! قيل : نعم سقف ما تناهى من بناء السماوات العلى ، لأنه لا يكون سفل أبدا إلا بأعلى ، فأما أن العرش هو السقف فموجود في اللسان ، كثير ما يتكلم به بين العرب والعجمان.

وقد يمكن أن يكون معنى : «الذين يحملونه» ، إنما يراد به الذين يلونه ، إذ ليس بينهم وبينه شيء ، فتعالى الملك العلي.

وقد تقول العرب في المنزل تنزله ، أو في الأمر تحمله : إنه ليحملنا إذا كان عليهم واسعا ، وبمرافقه لهم ممتّعا ، وليس يريدون حمله لهم بيد ولا عنق ، أفما في اختلاف هذا ما وقّف عن تشبيه الخالق بالخلق؟!!

فأما الخداع والمكر والكيد ، لمن كان يمكر ويخدع ويكيد ، فقد نقوله عنه ، ونصفه سبحانه منه ، لأنه خير الماكرين ، وذو الكيد المتين ، وخادع من خادعه من الكافرين ، وكل ذلك منه فليس كفعال الخاسرين. والمكر والخدع والكيد ، فإنما هو إخفاء ما يريد من ذلك المريد ، وما عند الله مما يريد بأعدائه ، فأخفى (١) ما يحتال في إخفائه.

وأما حربه (٢) فإنما هو حرب أوليائه عن أمره ، هذا وجه ما ذكر سبحانه من حربه وكيده ومكره ، الصحيح معناه ، لا ما شدّ به ابن المقفع جهله وكفره وعماه.

وأما ما سمعه من الله سبحانه إذ يقول : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦)) [النحل : ٢٦]. أفترى أن أحدا يعقل أو لا يعقل يتوهم أن هنالك سقف بناء مسقوف ، أو أنّ (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ). إنما هو تمثيل (٣) ما يعرف من سقوط السقوف ، (٤) ما يتوهم هذا أحد ، ولا يضل فيه من ذي لب قصد ، وهو أيضا

__________________

(١) في جميع المخطوطات : فإخفاء.

(٢) في (أ) و (ج) : حزبه. مصحفة.

(٣) في (أ) و (ج) و (د) : بمثل.

(٤) في جميع المخطوطات : السقف. وما أثبت اجتهاد مني. فهو بأسلوب الإمام أشبه.

وتوجّهه من تنزيل الله في كتابه ، بهذه الوجوه كلها في فهمه وإعرابه ، يدل على غير ما توهم فيما (١) ذكر كله ، إلا أن يأبى ذلك مكابرة لعقله.

وقوله في الكيد استدرجهم سبحانه من حيث لا يعلمون (٢) ، وقوله في المنافقين : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢]. وقوله سبحانه في الاستهزاء : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)) [البقرة : ١٥] ، فإنما يريد تركه لهم وتأخيره إياهم وهم عاصون ، لا ما ظنه ابن المقفع بالله كذبا ، ولا استهزاء يكون من الله لعبا ، كقول قوم موسى إذ قال لهم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧)) [البقرة : ٦٧]. فهذا الاستهزاء إذا كان كذبا ، وقول الخادع فإذا كان لعبا ، فإلى المخلوق يضاف وينسب ، لا أنه هو الذي يلهو ويلعب ، فهذا وجه الاستهزاء منه والخداع والمكر ، لا ما يذهب إليه كل عميّ ضيق العلم والصدر. وإذا قيل له سبحانه يرضى أو يحب ، أو يأسف أو يسخط أو يغضب ، فإنما ذلك إخبار عن أقدار الطاعة والعصيان ، وجزاء الإساءة عنده والاحسان ، لا يتوهم مع ذلك ضمير مسكون ، ولا حركة منه في رضى ولا سخط ولا سكون ، وكيف يكون عندنا غير هذا وهو عندنا ـ ويله ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤) [الحشر : ٢٤].

وأما قوله : فما باله جزع في غير كنهه من عمل يديه.

فهي (٣) أخوات قوله : انقلب وافتخر وانشأ التي لا تخرج إلا من بين جنبيه ، ومتى زعم ـ ويله ـ أنا أخبرناه أنه جزع ، أو سخط أو كره أو عاب شيئا مما صنع؟!

وأما قوله: ابتدع الأشياء مما كان هاذيا فيه.

__________________

(١) في (ب) و (د) : مما.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم / ٤٤].

(٣) في (أ) : فهو. وفي (ج) : فهو. إلا أنه وضع الواو على شكل ياء ونقطها من تحت.

وهذا من قوله في الأشياء ، فقول فاسد ليس يقرأ ، (١) إلا أنا أدّيناه عنه لحفظه ، وكرهنا تبديله إذ حكيناه عن لفظه.

ثم قال عذبه الله ، وأدام (٢) العذاب عليه : وتجاوز رضاه إلى سخطه ، ومحابّه إلى مكارهه ، والخير لعباده إلى الشر لهم ، والرحمة لهم إلى العذاب عليهم ، ثم افتخر ـ زعم ـ وامتدح بأنه غلبهم وقهرهم وإنما هم لا شيء ومن لا شيء.

افهموا قوله : وإنما هم لا شيء. فكيف ـ ويله ـ يكون هم لا هم ، وشيء لا شيء ، متى يبلغ مثل هذا هذيان المجانين؟ ولا جنون أقوال الهاذين.

فأما قوله : إذا (٣) غلبهم افتخر وامتدح.

فهما من أخوات انقلب ، وهو فيهما يلعب كما كان يلعب.

ثم عمد إلى سر أسرار الفرقان ، وأعجب عجيب (٤) سر القرآن ، من الرائيات والحواميم ، وما ذكر فيه من (ق) و (آلم) و (طسم) ، فعدّ علمها جهلا ، وظن مصون عجيبها مبتذلا ، وأراد ـ ويله ـ علم سر أنبائها ، وما طواه الله إلا عن الأصفياء في إيحائها. وكلا لم يجعله لعلمها أهلا ، ولم يجعل قلبه العميّ لها محلا ، بل أخفاه الله وزمّله (٥) ، ولم يعطه إلا أهله ، فإن كان علمه يصيّر المعلوم مجهولا ، فقد يوجد كثير مما هو عنده علم مجهولا ، وليس من جهل لذي فضل فضيلته ، ولا من رأى أمرا فلم يدر علته ، يسلب ذا فضل فضله ، ولا يزيل عن ذي علل علله ، وقد يرى ـ ويله ـ هو آلات الصناعات ، وأشياء كثيرة من أنحاء الأمتعات ، فلا يدري لم ذلك وأهله به دارون ، ولا يشعر بما فيه من المنافع وهم يشعرون.

فأين ـ ويله ـ كان من إحضار هذا وهمه ، أولا ـ ويله ـ حكم بما رأى من هذا وأشباهه حكمه ، ولكنه يأبى إلا تحكيم العمى ، والاعتداء والمكابرة في العلم للعلماء ،

__________________

(١) في (ب) : يعزي. وفي (د) : يعرى. مصحفتان.

(٢) في (ب) : فأدام.

(٣) في (ب) و (د) : إذ.

(٤) في (ب) و (د) : عجائب.

(٥) التزميل : الإخفاء واللف.

وإلا فلم لم يفكر ، إن كان ذا فطنة وينظر ، إن كان من أهل النظر فيما يستدل به أهل الكتاب والعرب ، من هذه الأحرف على ضمائر كل مغيّب ، فكانت هي الدليل لهم على الكتاب ، والسبب لعلمه دون جميع الأسباب. أفما رأى ـ ويله ـ سر عجائبها ، فيما تنبئ عن محجوب غيبها ، من سرائر قلوب المتكاتبين (١) بها ، ويدور من الأنباء في التعبد بسببها ، اكتفاء منهم في أنباء الأمور ، من كل مشاهدة بين المخبرين أو حضور ، فهذا وأشباهه فليس لمثله فيه مدخل تعنيف ، ولا يشتغل منه ولا من مثله فيه بمنازعة في تحريف ، مع أن لهذه الوجوه في التأويل ، (٢) ما لو سقط عنا علمها في التنزيل ، لكان علينا أن نعلم أن لها مخارج عند الحكيم ، ووجوها صحاحا في علم التعليم.

ولو كان جهلنا بها يزيل صحتها ، أو يبطل عن الحكيم حكمتها ، لما ثبتت للحكماء حكمة ، ولا في علم العلماء معلمة ، إذ توجد العامة لا تعلم (٣) علمها ، ولا تعرف للحكماء حكمها ، (٤) ولو لم يثبت العلم لعالمه ، ولا حكم الحكمة لحاكمه ، إلا بأن يعلم غيره منه ما علم ، أو يحكم في الأمور كما حكم ، لما كان في الأرض من أهلها جاهل ، ولما وجدت بين الناس في العلم فضائل! وما ـ ويله ـ في جهله لحكمة الكتاب ، وما جعل الله فيه من عجائب الأسباب ، مما يلحق بالله جهلا ، أو يزيل عن كتابه فضلا ، ما له لعنه الله تأبى؟! به عماياته إلا تبابا؟! (٥) ، لقد كابر من فرّق ما بين الجهلاء (٦) والعلماء ، ما لا يكابره ذو العمى ، يقينا منها به وعلما ، ومرمى منها إلى غير ما رمى.

والتبيان في هذا بيننا وبينه ، وما ينبغي أن يشتغل به منه ، فإنما هو في تثبيت الصانع

__________________

(١) في (ب) و (د) : المتكابنين. مصحفة.

(٢) في جميع المخطوطات : التفاسير. وما أثبت اجتهاد مني. وأكاد أجزم بصحة ما أثبت ، لأنه الأشبه بكلام الإمام.

(٣) في (د) : لا توجد.

(٤) في جميع المخطوطات : حكمتها. وما أثبت اجتهاد مني ، والله أعلم بالصواب.

(٥) التّب : النقص والخسار والهلكة.

(٦) في (أ) و (ج) : ما بين العلماء والجهلاء.

ورسوله ، لا فيما أنكر وفنّن فيه من هذيان قيله ، فإذا ثبتت الحجة فيهما ، وأقمنا دليل الحق عليهما ، علم بعد إقامة الدليل ، أن الحكمة ثابتة موجودة في التنزيل ، جهل ذلك أو علم ، أو توهّم فيه أو لم يتوهم. فدليل معرفة الله الذي لا يكابر ، وشاهد العلم بالله الذي لا يناكر ، ما أرى وأوضح مما تراه (١) أعين الناظرين ، وتحيط بالتحديد فيه أفكار المفكرين ، من الأشياء كلها في تأثير مؤثّرها ، وتصوير صور مصوّرها ، وتناهي أقطار موجودها ، وظاهر افتطار محدودها ، وما ذكره منها ذاكر ووصفه واصف ، أو تصرف بوصفه من الواصفين لها متصرف.

ففيه لمن نظر وأنصف ، وعدل في النظر فلم يحف ، (٢) دليل على حدوث الأشياء مبين ، وشاهد ثابت ـ لا يدفع ـ مكين ، إذ الأشياء كلها محدود ، والآثار في قائمها موجودة ، ومعلوم بأن التحديد إذا وجد لا يكون إلا من محدّد غير محدود ، ولا أثر إذا عوين (٣) إلا من مؤثّر موجود ، ولا تصوير مصوّر إلا من مصوّر ، ولا فطرة مفطور إلا من مفتطر ، كما لا يكون كتاب وجد إلا من كاتب ، ولا تركيب إذا كان إلا من مركّب ، ولا فعل ما كان إلا لفاعل ، ولا مقال قيل إلا من قائل ، فالله تعالى مؤثّر كل مؤثّر ، والفاطر جل ثناؤه لكل مفتطر ، لا ينكره إلا مناكر ، ولا يأبى الاقرار به إلا مكابر ، والمناكر فغير منكر ، والمكابر (٤) فغير مستنكر.

فلمن أنهج إلى معرفته السبيل ، وأوضح بمنته الدليل ، الشكر على إبانة التعريف ، ووضوح (٥) دلالة التأليف ، التي لا يضل عنها إلا متضالل ، ولا يجهل معلومها إلا متجاهل ، ولا يبور (٦) على الله فيها إلا خاسر ، ولا يجور عن قصدها إليه إلا جائر.

وإذا ثبت تأثير الأشياء كما قلنا ، واستدل امرؤ عليه من حيث استدللنا ، فمعلوم

__________________

(١) الفاعل في أرى وأوضح ضمير مستتر تقديره هو عائد على الله. وفي (أ) و (ج) : تراعيه. وفي (ب) و (د): ترى عنه. ويبدو أنهما مصحفتان. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) الحيف : الميل.

(٣) في (ب) و (د) : إذا عرف.

(٤) في (ب) و (د) : ومن كابر.

(٥) في (ب) و (د) : وأوضح.

(٦) في (أ) و (ج) : ينور. وفي (ب) و (د) : مهملة بغير إعجام. والبوار : الهلاك والكاد.

أن المؤثّر بعيد الشبه عن مؤثره ، وأن من ولي تصوير المصوّر متعال عن مساواة مصوّره ، وأنه إن قرب من الشبه منه ، أو لم يفرّق بينه ـ جل ثناؤه ـ وبينه ، في كل معنى من معانيه ، وفيما جلّ أو دقّ مما فيه ، جعل كهو في عجزه ومقاديره ، وذلّ ضعفه وتأثيره ، وعاد المؤثّر مؤثّرا ، ومصوّر الأشياء مصوّرا ، فأثبتوا على المؤثّر سمة المؤثّرين ، وأضافوا إلى الله تعالى ذلة تصوير المصوّرين ، وكان في قولهم ، وما سلكوا من سبيلهم ، (١) المؤثّر مؤثّرا ، ومصوّر الأشياء مصوّرا ، وصانعها مصنوعا ، ومصنوعها صانعا ، وبديعها مبتدعا ، ومبتدعها بديعا.

وهذا من قول القائلين ، ومعمد جهل الجاهلين ، عين متناقض المحال ، ونفس متدافع الأحوال ، الذي لا يقوم له في الأوهام صورة ، ولا من فطر معقولات الأقوال فطرة ، وفي ذلك أن تكون الأشياء موجودة لا موجودة ، ومفقودة في الحال التي وجدت فيها لا مفقودة ، وصار المخلوق لا مخلوقا ، والخالق في قولهم لا خالقا ، فتعالى ـ العلي الأعلى ، الذي نهج إلى معرفته سبلا ذللا ، ـ عما وصفه به المشبهون ، وافترى في التشبيه به المفترون ، ونحمده على ما عرفنا به من الفرق ، فيما بينه وبين جميع الخلق ، ونعوذ به من جهل ما جهل من (٢) توحيده ، ونستعينه على ما ألهمنا من شكره وتمجيده ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما.

وأما مذهبه في العاديات وعيبها ، لجهله بشا هدها وغائبها ، فغير مستنكر منه ، قاتله الله ولعنه ، فقد تكون العاديات من العدوان والغي ، وتكون العاديات من العدو والسعي ، ثم لكل ما كان من ذلك وجوه شتى ، يرى (٣) ما بينها من يعقل متفاوتا ، والضبح أيضا فألوان مختلفة ، وكل ما ذكر في السورة فله وجوه متصرفة ، يعرفها من عرّفه الله إياها ، ويوجد علمها عند من جعله الله مجتباها ، (٤) فليقصر من عمي عنها في عماه ، فإن العميّ لا يعلم الظاهر ولا يراه ، كيف يعلم خفي ما بطن من الأسرار ، التي

__________________

(١) في (ب) و (د) : سبلهم.

(٢) في (د) : من جهل من جهل.

(٣) في (أ) و (ج) : ما يرى.

(٤) المجتبي : المختار.

جعلها الله أفضل مواهبه للأبرار ، أو لا فليسأل عنها ، وليطلب ما خفي فيه منها ، عند ورثة الكتاب ، الذين جعلهم الله معدن علم ما خفي فيه من الأسباب ، فإنه يقول سبحانه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)) [فاطر : ٣٢]. (١) ولتكن مسألته منهم للسابقين بالخيرات ، فإن أولئك أمناء الله على سرائر الخفيات ، من منزل وحي كتابه ، وما فيه من خفي عجائبه ، فقد سمعت قول الله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل / ٤٣ ، الأنبياء / ٧]. (٢) فأما من لا فرق عنده بين عامّي من عميّ ، ولا غيّ (٣) في العاديات من سعي ، ولا الصّور من صوّر ، ولا العمر من عمّر ، ولا النور من نوّر ، ولا الأمور من أمر ، فحقيق أن يتعلم لسان القرآن ، الذي صوّر والصّور فيه مفترقان ، والحمد لله رب العالمين ،

__________________

(١) المقصود بورثة الكتاب هم أهل البيت عليهم‌السلام. والآية نزلت فيهم. أخرج الحبري في تفسيره عن علي بن الحسين عليهما‌السلام في الآية قال : نزلت والله ـ فينا أهل البيت قيل فمن الظالم لنفسه؟ قال : الذي استوت حسناته وسيئاته وهو في الجنة. فقلت : والمقتصد؟ قال : العابد لله في بيته حتى يأتيه اليقين. فقلت : السابق بالخيرات؟ قال : من شهر سيفه ، ودعا إلى سبيل ربه. تفسير الحبري / ٣٥٤ (٣٢). ورواه أيضا عن زيد بن علي ومحمد بن علي عليهما‌السلام / ٣٥٥ ٣٥٧. وأخرجه فرات الكوفي في تفسيره ٢ / ٣٤٧ (٤٧٣) عن زيد بن علي بلفظ : الظالم لنفسه. فيه ما في الناس ، والمقتصد : المقصد الجالس. ومنهم سابق بالخيرات : الشاهر لسيفه. وأخرجه الحسكاني عن زيد بن علي في شواهد التنزيل ٢ / ١٠٤ (٧٨٢) ، وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب عن زيد بن علي عليهما‌السلام ٢ / ١٦٤ (٦٤٣) ، وأخرج الطبراني في المعجم الكبير ٣ / ١٢٤. عن ابن عباس حديثا في معنى الآية.

(٢) المراد بأهل الذكر آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، روى فرات الكوفي عن أبي جعفر عليهما‌السلام في الآية قال : نحن أهل الذكر ، وفي رواية : هم آل محمد. وعن زيد بن علي عليهما‌السلام قال في الآية : إن الله سمى رسوله في كتابه ذكرا فقال : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) [الطلاق / ١٠] ، وقال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). تفسير فرات ٢ / ٢٣٥ ، وأخرج الرواية الأولى محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٣٠ (٧١) ، والثعلبي في تفسيره والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٣٣٥ (٤٦٠).

(٣) في (ج) : عن العاديات من سعي. وفي (د) : ولا عي.

وصلواته على محمد وآله وسلم.

وأما قوله : ثم زعموا أن الله خلق الأشياء كلها بيده من شيء موجود ـ وزعم ـ أن اليد لا يتوهّم قبضها وبسطها إلا بعد وجود.

فوا عجبا لجهله بمسائله! وزور كذبه علينا ومقاوله! ومتى ويله زعمنا له أن جميع ما بثّ من خلقه وأرى ، مما ولي خلقه بيده تعالى؟! إنما قيل ذلك في آدم خاصة دون غيره من الأشياء ، إذ تولى سبحانه صنعه بالابتداء ، ولم يكن ككون بعض الأشياء من بعض ، ولم يتقدمه في خلقه (١) نظير من أهل الأرض. فأما نظراؤه الذين كانوا بعد من أولاده ، فإنما خلقهم سبحانه بالتناسل من بعده ، لا على طريق خلقته من الابتداء ، ولا بمثل مبتدئه من الأشياء ، خلقا عن غير والدين ولداه ، ومبتدعا لا على مثال ابتداه.

فأما قوله في قول الله سبحانه : (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧] ، وزعمه أنه لا يقال : كن إلا لما هو كون ، فليس ـ ويله ، ويلا يكثر عوله ـ مذهبنا في ذلك إلى ما توهم(٢) وأنه سبحانه نطق أو تكلم ، إنما ذلك للإخبار ، عن القوة منه والاقتدار ، وأنه لا يفعل ما فعل بمباشرة ، وأن سبيل فعله كله سبيل قدرة ، لا يعان بكفين ، ولا يستعان (٣) بمعين.

فأما (٤) قوله : لأن كون شيء ، لا من شيء ، لا يقوم في الوهم له مثال ، وما لا يقوم في الوهم مثاله فمحال.

فإنه يقال فيه لمن قال مقاله ، ورضي ـ فيما قال منه ـ حاله : أتزعم يا هذا أن الأشياء قديمة؟! ليس لبعضها على بعض عندك تقدمه؟!

فمن قوله : نعم ، قد ثبت لكلها القدم.

فيقال له : أليس إقرارك لكلها بقدمها ، وإثباتك للقدم في توهّمها ، إقرارا بأنها لا من شيء ، وأنها أول بدي؟!

__________________

(١) في (ب) و (د) : خلقته.

(٢) في (ب) و (د) : يتوهم.

(٣) في جميع المخطوطات : لا يعانا. مصحفة. وفي (ب) و (د) : ولا يستعان فيه بمعين.

(٤) في (أ) و (ج) : وأما.

والأول لا يكون أولا إلا لغيره ، ولا يثبت أولا لتكريره ، فأيهما أولى بالقيام في الوهم؟ حدوث شيء لا من شيء متقدم؟! أو شيء لا أوّل له يعلم؟! ولا نهاية في آخره تتوهّم؟!!

فإن قال شيء لا أوّل له ولا نهاية ، أولى بالتّوهّم منه ولاية.

قيل : فلا يكون هو أولا إلا وهو متوهّم ، وإذا أجزت في معنى لم يزل التوهم ، ثبتت(١) به حينئذ الإحاطة ، ولا يحاط إلا بما له نهاية محيطة ، والنهاية أقطار ، والقطر تحديد وافتطار.

فإن قلت : ليس نتوهمه على هذا لأن هذا قد استحال ، ولكننا نتوهم أنه لم يزل ولن يزال.

قيل : فأنت إنما تريد تتوهم أنك تدرك وتعلم!! فلم أنكرت المحدث وإن لم تعلم له كيفية في الوهم؟! وقد ثبت معنى لم يزل غير متوهّم ، فقد يلزمك أن يكونا جميعا (٢) عندك في التعجب مشتبهين ، فإن قلت : فإني أنفي يا هذا هذين من الوجهين ، فالمسألة عليك في نفسك لازمة ، والأشياء بعد قائمة!!

يقال لك : أتخلو الأشياء من أن تكون حوادث أو قديمة؟! إذ الأشياء ليست إلا قديما أو حادثا ، لا يتوهّم متوهّم فيها وجها ثالثا؟

فإن قلت : فإني لا أدري أعلى حقائق الأشياء أم لا! لحقت بأصحاب سوفسطاء (٣) ، وفيما كان من رد الأوائل عليهم غنى كاف ، وبيان قد تقدم منهم شاف. والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على محمد وآله الذين طهرهم تطهيرا.

ومما يقال إن شاء الله لمن قال إنه لا يكون شيء إلا من شيء ، وأن كل ما أدركنا

__________________

(١) في (ب) و (د) : تبتت. وهي لا تستقيم هنا. لأن معناها الانقطاع.

(٢) سقط من (أ) : جميعا.

(٣) سوفسطاء زعيم لجماعة تنكر المشاهدات والضروريات وقد سبق الحديث عن خرافاتهم. والسوفسطائية : لفظة يونانية و «سوفا» بمعنى العلم ، و «سطاء» تعني الغلط ، فيكون معناها : علم الغلط. وعلى هذا فالسفسطة : قياس مركب من الوهميات ، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته. وليس يعقل أن يكون في العالم قوم ينتحلون هذا المذهب ، بل كل غالط في موضع غلطه يقال له : سوفسطائي.

بالحواس كلها فأوّلي أزلي ، (١) وهم فرق شتى متفرقة ، فمنهم من يقول : إنما الحدث اجتماع وفرقة.

ومنهم من يقول : إنما هو بتغيّر العين ، باختلاف ما يدخلها من التعيين (٢).

ومنهم من يقول : إنما الحدث كون بعض الأشياء المختلفة المتضادة من بعض ، كالأرض التي تكون من الماء والماء الذي يكون من الأرض ؛ ومن أجل هذا الأصل ، قالوا جميعا إن الكل مختلط بالكل ، وأن الكل من الكل (٣) يكون ، وأن هذا هو الحدوث والكون ، إلا أنه من صغر أقداره ، لا يوجد ولا يحس به ، وهو لا منتهى له في عدّه ، (٤) وأن كل ضد من الأشياء مختلط بضدّه ، البياض بالسواد ، والنامي بالجماد ، والعظم باللحم ، واللحم بالعظم ، ليس شيء منه بخالص وحده ، ويرون أن طبيعة الشيء هي الأكثر منه أو مما ضاده.

يا هؤلاء إنه إن (٥) كان الشيء لا منتهى له في نفسه لم يعرفه (٦) أبدا عارف ، وإن كان لا منتهى له في عدّة أو كثرة لم يكن للكمية معارف ، وإن كان لا منتهى للشيء في الصورة ، كانت الكيفية مجهولة ، وإذا كانت الأشياء لا تعرف لأنه لا منتهى لها ، فما كان منها فلا يعرف أيضا مثلها ، وإنما يعرف ما يدرك ، ويسهل لمعرفته (٧) المسلك ، إذا

__________________

(١) سقط من (أ) : أزلي.

(٢) في جميع المخطوطات : التغيير. وما أثبت اجتهاد. وأكاد أجزم بصحة ما أثبت لوجهين :

أولا : ما عهدنا من أسلوب الإمام في السجع.

ثانيا : ما سيأتي من الكلام يدل على ما ادعيت ، لأنه في صدد الرد على من أثبت وحدة الأشياء وأن بعضها من بعض ، وإنما تختلف بالتعيين فتعين جزء منها أرضا ، وجزء ماء ، وجزء هواء ، وإلا فالأرض من الماء والأرض هي الماء ، والماء هو الهواء ، لأن الماء مكون من الأوكسجين والهيدروجين ... وهكذا. تأمل.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : من الكل.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : عدده.

(٥) في (أ) و (ب) : لو.

(٦) في (أ) : لا يعرفه.

(٧) في (ب) و (ج) و (د) : بمعرفته.

علم من كم ركّب؟ وأي الأشياء هو إذا تركّب ، ومضطر أن يكون ما كان من الأشياء لما منه كان نظيرا ، قليلا كان منه إذا (١) كان أو كثيرا ، وأن الذي يكون عنه ، كالكل إذا يكون منه.

فإن كان لا يستقيم أن يكون الحيوان ، ولا ما جعل الله له من الأجسام ، ولا الأشجار ، ولا ما جعل الله له من الثمار ، بلا منتهى في عظم ولا صغر ، ولا فيما يرى له من قدر ، فكذلك الكل ـ عند من يعقل ـ ذوات (٢) نهاية ، إذ هذه الأشياء التي هي أجزاؤه ذوات غاية ، ولا تستقيم له ما لم يستقم لأجزائه ، وإنما تناهيها من قبل انتهائه.

وإن كان الحيوان والشجر وأجزاؤهما ، التي لحق (٣) بها في وصفها انتهاؤهما ، لسن (٤) حوادث مفتعلة ، وإنما يريد القائل بحوادث منفصلة.

وبعضها عندهم فبعض ، فالماء منها هو الأرض ، والأرض فهي الماء ، والماء فهو الهواء ، فإن ذلك يصير إلى أن كل موجود فمن موجود ، والموجود فلا يصح أن يقال له كن (٥) ولا يعود ،! وكيف يكون الكائن؟ أو يبين شيء من شيء وهو بائن؟! كقولك : إن الماء ينفصل من اللحم واللحم ينفصل من الماء كيف والماء فأصل موجود ، وإن كان كل جسد ذي حد إذا خرج منه بقدره جسد مثله محدود ، فني عندها يقينا ، وبطل أن يكون كمينا ، (٦) فمعروف أنه لا يكون الكل من الكل ، ولا يخرج منه في الوزن مثل له بعد مثل ، كيف وقد يعلم أن الشيء إذا أخذ منه مثله ، فقد فني وذهب كله ، وإن كان ما أخذ منه ، مقصرا في القدر عنه ، نقص منه بقدر ذلك ، لا يكون الأمر فيه أبدا إلا كذلك ، ولا يستقيم أن يكون لهذا الذي أخذ منه مثله قوام أبدا بلا منتهى ، ولو انتقص منه مثل بعضه لكان بذلك قد تناها ، الشيء الذي يدوم عظمه وينفى عنه تغيّره ، ولا

__________________

(١) في (ب) : إذ.

(٢) في (ب) : دونها. مصحفة. وفي (أ) و (د) : ذو نهاية. وفي (ج) : ذوا نهاية. ويبدو أنها مصحفة. والصواب ما لفقت من الجميع. ويدل عليه ما بعده.

(٣) في (أ) و (ج) : يحق. ولعلها مصحفة.

(٤) في (ب) و (د) : ليس. مصحفة.

(٥) في (ب) و (ج) و (د) : يكون. مصحفة.

(٦) من الكمون ، وهو الاختفاء.

يستقيم أن ينفصل منه أبدا غيره ، ومن أجل أنه لا يبقى أبدا قدره ، وهو يخرج منه أجساد مثله ، وبقدرة في الوزن محدودة ، مستوية في الوزن بقدرة موجودة ، وهو أيضا لا يحد إذا حدّ(١) بكثرتها ، ولا يوصف عند الصفة بصفتها ، وإن كان كل جسد من الأجساد إذا أخذ من بعض زنته ، (٢) لا بد أن ينقص من كميته ، (٣) كيف ما كان في حده ، من كبره أو صغره ، فمعلوم أنه لا يفصل منه أبدا جسد مثله ، إلا انتقصه (٤) ما فصل منه كله ، وأنه لا يجوز في ألباب الأصحاء ، ولا فيما يحمد من قضاء النصحاء (٥) ، أن يكون يوجد من شيء شيء ثم لا ينقصه ما أخذ منه ، وإذا انتقص فالنقص يخبر بالنهاية عنه.

ويقال أيضا لهم إن (٦) كانت الأجساد والأعراض مختلطة ، وإنما يفارق بعضها بعضا عندكم فرقة ، وهي كلها في قولكم فواحدة ، فالإنس والجن (٧) بينهما عندكم خلاف ، والأعراض والأعيان فقد تجمعهما (٨) الأوصاف ، ولا بد لهذا الخلق من رءوس أوّلية ، مبتدعة من الله سبحانه بديّة ، منها برأ الله كل بريّة ، ترى من البرايا كلها بعيان ، وثبت (٩) أن تركيبها شيء أو شيئان ، ولا ينبغي لهذه الرءوس أن يكون بعضها من بعض ، بل تكون متضادة تضاد النار والأرض.

ويقال أيضا إن كانت صور الأشياء لم تزل ولا تزال ، والصور فهي الألوان

__________________

(١) في (ب) و (د) : أخذ. إلا أنه شطب في (ج) : على الألف. مصحفة.

(٢) في (ب) و (د) : بعض زينته. ووضع على زينته في (ب) علامة ((CS ((. وفي (أ) و (ج) : بعضه زنته. وكتب كلمة (بعض) فوق (بعضه) في : (أ). ولعل الصواب ما لفقت من الجميع. والله أعلم بالصواب.

(٣) في (ب) : ينتقص فيه بكميته. وفي (د) : ينقص منه كميته.

(٤) في (ب) و (د) : إلا ينقصه.

(٥) في (أ) و (ج) : الصلحاء.

(٦) في (ب) : لئن.

(٧) في (ب) و (د) : فالأبيض والخلق. مصحفتان.

(٨) في (أ) و (ب) : تجمعها.

(٩) في (أ) و (ج) : ويثبت.

والهيئات والأشكال ، كان قول القائل ـ إنه لا يمكن أن يكون شيء لا (١) من شيء ، ولا يفسد من الأشياء كلها شيء فيعود إلى التلاشي ، ـ قولا من قائله مقبولا ، وعدّ ما زعم فيه قولا.

وإن لم تكن صور الأشياء دائمة ، ولا في كل حين موجودة قائمة ، أعني بالصور صورة اللحم ، وصورة الدم ، وصورة العظم ، وصورة الأشكال الطبيعية ، والألوان كلها الظاهرة منها والخفية.

فلا محالة أنها لم تكن قبل حدوثها ، وأنها قد (٢) تفنى بعد حدثها ، وأن حدوثها استحالتها من ليس إلى أيس ، (٣) وأن فناءها استحالتها من أيس إلى ليس ، كبياض الثلج الذي يحدث عند كون الثلج معا ، ويبطل بياضه عند بطلانه فيفنيان جميعا ، وهل من فعال في سكون أو زوال يجده واجد ، (٤) أو يشهد به على فاعله شاهد ، إلا وهو محدث ثم كان (٥) بعد أن لم يكن ، برئ من معنى لم يزل ، تعلم كل بهيمة مضيّ ماضيه ، وفراقها في المعنى لمنتظر آتيه ، فلا يجهل أحد منه ماضيا ، ولا يشبه (٦) ماض منه آتيا ، إلا أن يزعم متجاهل ، أو يكابر عاقل ، فيقول : إن كون الحركة والسكون في حال واحدة معا ، وإن الحركات والسكون لم تزل قط جميعا ، فيلزمه أن تكون أوقاتها كلها وقتا ، ونطق ما يعقل ناطقا من الأشياء سكتا ، فيعود يومه من أوقاتها أمسا ، ومجنوسها عنده لنفسه جنسا ، وفرعها أصلا ، وآخرها أولا.

وكفى بهذا من القول محالا ، ومن وصف محالات القول مقالا ، أن (٧) البهائم جميعا

__________________

(١) في (ب) : إلا مصحفة.

(٢) سقط من (ب) و (د) : قد.

(٣) الأيس : العدم والفناء. قال الليث : أيس : كلمة قد أميتت. إلا أن الخليل ذكر أن العرب تقول : جيء به من حيث أيس. وليس معناها : كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوجد. وقال : إن معنى أيس أي : لا وجد. لسان العرب مادة أيس. وفي (أ) و (ج) : من لبس إلى أنس. مصحفتان.

(٤) في جميع المخطوطات : واحد. مصحفة.

(٥) في (أ) : محدث كان إذ لم.

(٦) في (أ) : بشبه. وفي (د) : يشتبه. مصحفتان.

(٧) في (ب) و (د) : وإن.

في اختلافها ، لتنظر ما لم يأتها بعد من أعلافها ، فإذا وصل إليها ، افترقت مواقعه لديها ، فما تنتظره بعد إتيان ، ولا تضطرب إليه بجولان ، (١) ومن قبل ذلك ما (٢) كانت تصهل إليه وتنهق ، وتضطرب إليه دائبة وتقلق ، ولكن لم يعد القوم في جهلهم من ذلك لما جهلوا ، وضلالتهم عن حقائق الأمور عما ضلوا ، ما وصفهم الله به ، وذكر من ضلالتهم في محكم كتابه ، (٣) إذ يقول تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)) [الفرقان : ٤٤]. فلم يقفهم على مواقف البهائم في الجهل ومناهيها ، بل زادهم (٤) في حكم الجهل عليها ، فافهموا أدلة هذه الآية المعجبة المتحققة ، وما أوجد الله سبحانه منها عيانا في هذه الفرقة ، وأن وجودها فيهم ، ودلالة الله بها عليهم ، آية عظيمة عند من يعقلها في البيان ، لا توجد إلا فيما ذكر سبحانه من الضّلان (٥) ، والحمد لله رب العالمين حمدا موفورا ، وعلى سيدنا محمد النبي وآله السلام كثيرا.

ثم جعل ابن المقفع النور الذي زعم أنه خير واحد أفانين ، ولوّنه في معناه ألاوين ، وجعله بعد توحيده له كثيرا لا يحصى ، وعددا جما لا يتناهى ، فقال (٦) : إنه نور وحكمة ، وطيب وبهجة ، وخير وبركة ، وإحسان وراحة.

وكذا وكذا مما لا يتناهى. وقد تعلمون أن البركة والبهجة ، والطيب والحسن والحكمة ، أشياء في العدد كثيرة ، ومعان لا يشك فيها متغايرة ، كل واحد منها غير صاحبه ، والسبب منها غير سببه ، لا يشك في ذلك ولا يمتريه ، إلا من لا يعقل شيئا ولا يدريه.

__________________

(١) في (ب) و (ج) و (د) : بحولان. وكلاهما صحيح. وهما بمعنى الانتقال والطواف.

(٢) ما : زائدة.

(٣) في (أ) و (ج) : كتبه.

(٤) في (ب) و (د) : زادوا.

(٥) الضّلّان : جمع ضال. ولم أقف على هذا الجمع في ما لدي من معاجم اللغة. ووقفت على الضّلال والضالين. بيد أن الإمام القاسم من أهل اللسان العربي. المحتج بلغته. فهو حجة فيما نقل عن العرب.

(٦) في (أ) : وقال.

وكذلك قال في تكثير الظّلمة ، وما نسب إليها من الشر وخلاف الحكمة ، ثم جعل كثيرها واحدا ، وزعم أنه لا يكون منها خير أبدا.

أفليس يا هؤلاء الليل الأدهم ، وسواده الذي هو من كل ظلمة أظلم ، موجودا فيه ما ذكر الله فيه من السكون؟! بأوجد معارف ما يعرف من كل كون؟! والسكون راحة ، والراحة فسحة ، والفسحة خير كثير ، فالظلمة الآن عندهم خير. يقول الله تبارك وتعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)) [يونس : ٦٧]. وقال الله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)) [القصص : ٧٢].

وهل ينكر أن نور الشمس ، يدرك ذلك منها بالحس ، معشاة (١) لبعض العيون ، ومضار في كثير من الفنون ، وهو أفضل النور عندهم فضلا ، وأكثره في النور محصلا؟! أو ليس قليل النهار (٢) مقصرا في النور عن كثيره؟! والتقصير (٣) شر فالشّرّ في بعض النهار بتقصيره؟! فأي محال أوضح! أو مقال إحالة أقبح؟ من هذا مقالا! ومن محاله محالا! ليس بالأمر من خفاء ، ولا على عورة أهله من غطاء. إلا أن عجمة القلوب ، وما فيها من عمه الذنوب ، تجول بأهلها كل مجال ، وتهلك (٤) بمحالها ضعفة الرجال.

ومما قال من هماهم صدره ، وزمازم هتره (٥) : إن الشيطان ـ زعم ـ قد بنى على كل صنف من أهل الأديان حائطا حصينا ، وسورا شديدا ، حصرهم ـ زعم ـ فيه ،

__________________

(١) معشاة : معماة.

(٢) في (أ) : البهاء. مصحفة.

(٣) في (ب) و (د) : وبالتقصير.

(٤) في (أ) : ويهلك محالها.

(٥) الهماهم : جمع همهمة ، وهي الكلام الخفي ، وتردد الزئير في الصدر من الهم والحزن. والزمازم : جمع زمزمة ، وهي : كلام المجوس عند أكلهم ، وهي صوت خفي لا يكاد يفهم. وتراطن العلوج عند الأكل ، وهم صموت لا يستعملون اللسان ولا الشفة في كلامهم ، لكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها ، فيفهم بعضها عن بعض. والهتر : الكذب ، والأمر العجب ، والسقط من الكلام ، والخطأ فيه. لسان العرب. مادة هم ، وزم ، وهتر.

ووكّل بهم شيطانا من شياطينه وجعله عليه ، فإن كان الوكيل حفظ السور فهذا أمانة ، وإن لم يحفظه وكانت منه لموكله فيه خيانة ، كان السور كما لم يكن ، ولم يبق فيه أحد ممّن سجن.

فاعجبوا أيها السامعون ، لما تسمعون ، من متناقض هذا القول ، الذي لا يقول مثله إلا كل منقوص مرذول. فافهموا ما به وصف شيطانه ، وكيف شدّد أركانه ، إذ جعل له أسوارا وحصونا ، وجعل نوره عنده مسجونا ، وذو السجن والحصون محتال ، والحيلة فلا يعرفها عنده الجهال ، لأن المعرفة عنده خير سار ، والجهالة شرّ ضار.

وقال : حصرهم. والحاصر فقوي والقوة فخير فقد عادت الظّلمة عندهم خيرا ، والمحصور فعاجز والعجز فشر فقد عاد النور عنده شرا.

ومما يقال لهم فيما زعموا من المزاج ، وجاروا به من ذلك عن كل منهاج ، سلكه سالك ، أو فتك فيه فاتك (١) : من أين يا هؤلاء جاء تعادي الممتزجين من المتضادة؟! (٢) بعد أن صارا جميعا في عقدة من المزاج واحدة ، كنحو معاداة إنسان لإنسان ، أو ضرب آخر سواه من موات أو حيوان ، وكيف يكون من الناس ـ ما كانوا صلحاء ـ نسل غير صالح؟! ومن طالحهم (٣) ـ شيئا كانوا أو أشياء ـ شيء (٤) ليس بطالح ، ولا يرى صلاح أبيهم أصلحهم ، ولا ما في أبيهم من الطلاح أطلحهم ، ولا يكون منهما وهما اثنان ، ولما هو منهما أصلان ، إلا أنثى واحدة أو ذكر ، لا يوجد لهما سواه بشر ، فما بال فرعهما من ولدهما ، إذا لا يكون كأحدهما؟ إما أنثى مفردا ، أو ذكرا أبدا ، فلو كان الأمر على ما يزعمون ، أو في شيء من طريق ما يتوهمون ، كان ولدهما ذكرا أنثى ، وأنثى ذكرا ، إذ كان عندهم إنما يكون كل شيء من مثله ، وكل (٥) فرع شيء ـ زعموا كأصله ، والوالدان لولدهما أصل ، وكل شيء فإنما يكون منه ما هو له مثل ،

__________________

(١) الفتك : ركوب ما همّ من الأمور ، ودعت إليه النفس ، وانتهاز الفرصة.

(٢) في (ب) و (ج) : التضاد.

(٣) في (ب) و (د) : صالحهم.

(٤) سقط من (أ) و (ج) و (د) : شيء.

(٥) في (ب) و (ج) و (د) : أو كل.

والمزاج نفسه فثمرة لا من مثلها ، وعقدة المزاج فليست كأصلها ، إذ أصلها اثنان وهي واحدة ، وإذ هما لها أصل وهي لهما عقدة ، فأيّ مكابرة أوحش ، أو محال قول أفحش؟! مما أدى إلى مثل هذا ، وما كان من القول هكذا؟!

فليعلموا ـ ويلهم ـ أن الله هو الذي صنع الأولاد للآباء ، وأنه لا يصنع الأكفاء (١) الأكفاء ، ولكن الله الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد.

وكيف يصنع والد ولدا؟! وإنما كان بالأمس مولودا ، إذا (٢) يكون الوالد من صنع ولده ، كما الولد من صنع والده ، لأنهما كفوان في الميلاد ، وولدان كالأولاد ، ولكن ذلك كما قال الله الشريك له ، وما بيّنه في كتابه ونزله ، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)) [الشورى : ٤٩ ـ ٥٠].

ويقال إن شاء الله لهم من الناطق الظلمة فالمنطق خلاف الخرس وهو خير زعمتم؟! أم النور والظلمة جميعا فقد استويا في النطق والاستواء تشابه كما علمتم؟! أم الناطق النور؟ فالمنطق خير وشرور ، والشر إذا فهو في نوركم ، ويلكم ما أبين في هذا شناعة أموركم! وأشد مجونكم! وأعظم جنونكم! وأظهر السفه به وبغيره فيكم! وأغلب الدناءة فيه عليكم.

وزعموا أنهما حساسان ، (٣) فهما لا محالة في الحس مشتبهان ، ومشبه الشر لا يكون إلا شرا مؤذيا أليما ، ومشبه النور لا يكون عندهم إلا نورا كريما ، وفي مشابهة النور بالحس للظّلمة نفي ألا يكون (خيرا ، وفي مشابهة الشر للنور بالحس نفي أن لا يكون) (٤) شرا ، فكل منهما خير شر ، وشر خير ، (٥) وهو من القول فأحول ما يكون

__________________

(١) في (ب) و (د) : الأكفاء إلا الأكفاء. (زيادة).

(٢) في (ب) : إن. مصحفة.

(٣) في (ب) و (د) : أنها حساسات. مصحفة.

(٤) سقط من (ب) و (د) : ما بين القوسين.

(٥) في (ج) : فكل خير منهما خير شر وشر خير. وفي (د) : فكل خير منهما شر خير شر.

من المحال ، وأخبث ما قيل به في الإحالة من الأقوال.

ومن (١) قولهم إن الأشياء لا تتغير عن جواهرها ، (٢) وقد ترون أنها تتغير عن صورها ، فصورة النور مؤنسة مضيّة ، وصورة الظلمة موحشة ظلمية ، فإذا ما هما امتزجا عوين مزاجهما بصورة في المزاج (٣) أخرى ، ليست بما كان يرى ، لا مؤنسا مضيا ، ولا موحشا ظلميا ، فمن أين كانت هذه الصورة الثالثة؟ إلا أن الأمور حادثة ، ولكن القوم يلعبون بنفوسهم ، ويقولون بخلاف ما يجدون من محسوسهم ، وليس ببدع ممن جسر (٤) على قول الزور والبهتان ، أن يجحد بلسانه ما يدركه بشواهد العيان ، فيزعم أن الرطب يبس ، وعشر العدد خمس ، وإنما التبيان في الحقائق الموجودة ، ما يدرك منها بشواهدها المشهودة.

وزعموا أن الشيء لا يكون أبدا ، إلا مثل جوهره مجتمعا ومفردا ، وشأن النور العلو والارتفاع ، وشأن الظلمة السفول والاتضاع ، وكذلك شأن كل ضدين ، متى وجدا متضادين ، متى علا هذا ، هوى هذا ، فهو أبدا يهوي إذا ضده سما ، ويسمو إذا ضده هوى ، وفي فراق الشيء لشأنه ، حقيقة فنائه وبطلانه ، كالنار التي من شأنها التسخين ، واللين الذي لا يكون إلا وله تليين ، فمتى بطل شأناهما ، بطلت لا بد عيناهما ، لأنه لا حار إلا مسخّن ، ولا ليّن أبدا إلا مليّن.

وقد زعموا أن النور قد زال عن داره من العلى ، وصار إلى هذه الأرض السفلى ، وفي ذلك من تغيّره ، ما قد قيل من بطلان عينه. وكذلك الظّلمة في بطلانها ، إذا صارت إلى خلاف شأنها ، فصارت في منزلها سفلا ، إلى ارتفاع ومعتلى ، فهما في قولهم قد بطلا ، وقد يوجدان بالعيان علوا وسفلا ، وهذا نفس متناقض المحال ، وعين متدافع الأحوال ، إذ في أن يبطلا فقدانهما ، وفي أن يوجدا بطلانهما ، فعدمهما وجود ، وغيبتهما

__________________

(١) في (أ) : وأما.

(٢) في (ب) : جوهرها.

(٣) سقط من (ب) و (د) : في المزاج.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : ببديع. وفي (أ) و (ج) : خسر. وفي (ب) و (د) : حسر. وكلاهما مصحفتان. والصواب ما أثبت. والجسر : الإقدام ، والمضي ، والجرأة.

شهود. فأيّ عجب أعجب؟! ومتلعّب ألعب؟! ممن رضي بهذا قولا ، وكان بمثله معتلا ، وفي هذا من أمرهم ، وما أوجدنا (١) فيه من ذكرهم ، كفاية للناظر المبصر ، بل قد يكتفي به غير المفكر ، والحمد لله حمدا دائما مقيما ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما.

فأما خرافات أحاديثهم ، وترّهات (٢) أعابيثهم ، فهزل ليس فيه جد ، ولا مما يجب له رد ، (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩]. وبأي متلعّب قاتلهم الله يتلعبون ، ألم يروا أسماءهم التي يسمون ، وما منها لا (٣) غيره يعظمون. فمنها عندهم : أبو العظمة ، وأم الحياة المتنسمة ، وحبيب الأنوار ، وحراس الخنادق والأسوار ، والبشير والمنير ، والانسان القديم ، وما ذكروا من الأراكنة (٤). التي عليهم بها من الله ألعن اللعنة ، وما قالوا من عمود الشبح ، التي بها وبقولهم فيها أقبح ما يستقبح ، وأكذب أكاذيب الزور ، وأعجب عجائب ما وصفوا من الظلمة والنور ، فزعموا أن أسماءهم هذه التي افتروا ، وفننوا فيها بأعباثهم (٥) وكثروا ، هي رد الظلمة ـ زعموا ـ عن النور ، أفلا ردت عن أنفسها ما هي فيه من الشرور!!

وزعموا أن هؤلاء لأجزاء النور مصطفّون ، وهم في أنفسهم بالظلمة مختلطون. فيا ويلهم ويلا ويلا ، (٦) من أقاويلهم قيلا قيلا ، في أبي عظمتهم ، وأم حياتهم ، وحبيب أنوارهم ، وبشيرهم ومنيرهم ، وعمود شبحهم وإنسانهم ، وما يعبثون فيه من أراكنهم ، فعظموا منها غير معنى ، وسموها كذبا بالأسماء الحسنى ، وهم يزعمون عنها ـ ويلهم ـ أنها مخالطة في حال للأقذار ، (٧) ملتبسة فيما زعموا بالأشرار ، تنكح في بعض الأحايين

__________________

(١) في (ب) و (د) : وما وجدنا.

(٢) الترّهات : جمع ترّهة : وهي الأباطيل.

(٣) في (أ) : إلا غيره. مصحفة.

(٤) الأراكنة : جمع أركون : العظيم من الدهاقين. والدهقان : التاجر العظيم. فارسي معرب.

(٥) في (ب) و (د) : بأعيانهم. مصحفة.

(٦) سقط من (ب) و (د) : ويلا ويلا.

(٧) في (ب) و (ج) : للأقدار. وفي (أ) : للاقتدار. كلاهما مصحفتان.

نكاحا ، وتؤكل في بعضها صراحا ، وتقسم تارة (١) وتحدث ، ثم تقيم في ذلك وتمكث ، فيا لعباد الله إن هذا لهو العبث العابث ، والمقال الفاسد العائث ، الذي لم يقل بمثله سوى أهله قط قائل ، ولم يسأل فيه بمثل عجز مسائل ابن المقفع سائل ، ولقد ـ ويله ـ أكثر في المسألة والمسألة لا تكثر (٢) وطغى ، حتى هممنا أن لا نجيبه لو لا مخافة أن يكون على ذلك المحق (٣) متّبعا (٤) ، وذلك لجهله ، بما سقط إلينا من مسائله ، وخلّط في (٥) قوله ، ولكذبه أيضا فيما ينحل وينتحل ، وكثرة ما يختلف في كل مسألة وينتقل ، وما أحسبه جالس قط متكلما ، ولا أحسن لمسائله تفهّما.

فليعلم من قرأ كتابنا هذا وفهم ما فيه لهم ، جوابنا إن هو كان من غيرهم ، عمى مذهبهم وصممه ، وإن كان ممن تلبس بضلالتهم فليحذر غير الله ونقمه ، فلقد قذفوا قذفا ، مسخا وخسفا ، وكادت السماوات أن يتفطرن وشوامخ الجبال أن تخر بدون ما قالوا ، ولأصغر أضعافا مما نالوا ، لأن الذين قالوا قبلهم الأقوال ، وجعلوا لله سبحانه الأمثال ، أثبتوه سبحانه ولم ينفوا ، وإن هؤلاء أنكروا ونفوا ، فلا يغترّنّ منهم مؤخّر في الجزاء ، بما يرى من استدراجه بالاملاء ، فإن الله يقول لا شريك له ، وتعالى عن كذب الكاذبين قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)) [آل عمران : ١٧٨]. ويقول سبحانه : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)) [الأنعام : ٤٤ ـ ٤٥]. ويقول سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى

__________________

(١) في (د) : ساعة.

(٢) يعني : أن من شأن السؤال أن يكون قليلا مختصرا.

(٣) المحق : النقص ، والمحو ، والإبطال.

(٤) في جميع المخطوطات : متبعا. وغير بعيد أن تكون الكلمة (مبتغى) وغيّرتها أيدي النساخ.

(٥) في (ب) و (د) : من.

أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤٥) [إبراهيم : ٤٢ ـ ٤٥].

فإن قال قائل منهم يحذرني النار ، ويخبرني عن كتابه الأخبار ، ولست بهما بموقن ، ولا لخبره عنهما بمؤمن. (١) فليعلم أن أقل ما عليه فيما أنذر ، وفيما يعقل من يعقل فيما حذّر ، خوف الممكن المطنون ، إذا كان غير مستنكر أن يكون ، وإن الناس لو كانوا لا يحذرون إلا ما يعلمه من حذروه ، ولا ينذر المنذرون قوما إلا ما عاينوه وأبصروه ، لقلّت النذر ، وفني الحذر ، وإنه لو حذّر (٢) جبارا بل إنسانا ذليلا لارتاع له ارتياعا ، ولاستشعر من الخوف لتحذيره وهو هو أفزاعا! فكيف بملك الملوك؟! ومن له ملك كل مملوك؟! ذلك الله العلي الجبار ، الذي بإرادته كانت الظّلم والأنوار ، والسلام على من اتبع الهدى ، وآثر رضى الرب الأعلى ، فرضي من الأشياء مرتضاه ، واصطفى من الأمور مصطفاه ، فأدى إليه سبحانه في نفسه حقه ، وعلم أنه هو الذي فطره وأحسن خلقه ، وأن له عليه فرضا واجبا ، أن يكون لما أحبّ محبا ، ومن كل ما كره من الأمور قصيّا ، ولمن والى من خلقه وليا ، ولمن عادى سبحانه من أهل الأرض عدوا ، فإنه لا يعادي سبحانه إلا مسيئا أو سوءا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على محمد وأهله الطاهرين.

تم الرد على ابن المقفع ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : موقن. وفي (ب) و (د) : بخبره. والصواب : لخبره. وله يشهد له قوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا). وفي (أ) : بموقن. وفي (ب) : مؤمن.

(٢) في (ب) و (د) و (ج) : حذرت. ويبدو أنها مصحفة. لأن الفعل مبني للمجهول. ونائب الفاعل (ضمير القائل). السابق ذكره.

الرد على النصارى

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي لم يزل ولا يزال ، وله الكبرياء بديّا والجلال ، البري من كل تغيّر وزوال ، وتبدّل وحركة وانتقال ، أو فناء أو احتيال ، المتعالي عن أن يكون لشيء أصلا متأصلا ، أو عنصرا من عناصر الأشياء كلها متحللا ، فيكون كواحد منها ، أو كما بان من فروعها عنها ، فكثر من قلته بتفرع بعد قلة ، أو عزّ بكثرته بتجمع من ذلة ، ولو أن ذلك ، كان فيه كذلك ، لعاد غيره له ندا ومثلا ، إذ كان له سبحانه محتدا (١) وأصلا ، ولكان حينئذ لكل ما كان منه ، ووجد من فروعه وعنه ، ما كان من التوالد له ، إذ كان المتولد منه مثله.

[مشابهة الفروع للأصول]

وكذلك يوجد لكل فرع كان من أصل ، ما يوجد لأصله من التوالد مثلا بمثل ، كفرع ما يرى من الأشياء كلها ، التي تتولد يقينا عيانا من نسلها ، مثل ما يتولد غير مرية من أصلها ، كما يرى من ولادة الأبناء ، لمثل ما يتولد من الآباء ، سواء ذلك كله سواء.

وكذلك ما يرى من متولد الشجر وغير الشجر ، فكالأنثى في ذلك أجمع والذكر ، يتولد في ذلك كله من أولاده (٢) ، ما يتولد سواء من والده ، فكل شيء أبدا كان ممكنا في أصل ووالد كون وجوده ، فمثله ممكن سواء في نسله ومولوده ، لا يمتنع مما قلنا به في ذلك وقبوله ، إلا مكابر في ذلك لعلمه ومعقوله. ولذلك وما فيه من الامكان ، وما يدخل به على أهله من النقصان ، ما تقدس الله عنه ، وجل وتطهر منه ، فلم تمكن فيه منه سبحانه ممكنة في فكر ولا مقال ، وكان القول عليه جل جلاله بذلك أحول محال ، إذ في أن يكون شيء له ولدا ، وأن يكون لشيء أصلا ومحتدا ، إبطال الإلهية والربوبية ،

__________________

(١) في (ج) : إذا كان سبحانه. والمحتد : الأصل والطبع.

(٢) في (ج) : أولاد.

وزوال الأزلية والوحدانية ، وإذ لا يكون واحدا من كان له ولد أبدا ، ولا يكون أزليا من كان أبا أو والدا ، (١) لأن الابن ليس لأبيه برب ، وكذلك الرب فليس لمربوب بأب ، إذ كان الابن في الذات هو مثله فكلاهما من الربوبية قاص متبعّد ، إذ ليس منهما من هو بها متفرد متوحد. لأن الربوبية لا تمكن أبدا إلا لواحد ، ليس بأصل لشيء ولا ولد ولا والد.

ولكل ولد في (٢) ذاته ، ما للوالد من صفاته ، وكذلك والده فله في الذات ، مثل ما للولد في ذلك من الصفات ، كالانسانية التي للابن منها ما لأمه وأبيه ، وفي الأبوين منها ومن كمالها مثل ما فيه ، فليس له من الانسانية وحدودها ، ولا مما يوجد فيه وفيهما من موجودها ، أكثر مما لهما منها ، وكل واحد منهما فغير مقصر عنها ، ولتمامهما جميعا فيها ، وفطرة الله لهما عليها ، كان الابن ولدا لهما ونسلا ، وكانا له بها محتدا وأصلا ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه ، لعيسى صلوات الله عليه ورضوانه ، فيما نزل من الكتاب ، في يوم البعث والحساب ، توقيفا وتعريفا له وللعباد ، على أنه قد يجب للوالد في الذات ما يجب للأولاد ، وتوبيخا لمن أفرده دون أمه في العبودية والإلهية ، وحالهما في الذات حال واحدة مستوية ، فعبدوه عماية وجهلا دونها ، وهم يعلمون أنه ابنها ومنها ، ويوقنون فلا يشكّون أن أباها أبوه ، فهي وآباؤها أولى منه بما أعطوه ، إذ كان لو لا وجودهم لم يوجد ، ولو لا ولادتهم له لم يولد.

فكيف يعبدونه دونهم ، ولم يكن قط إلا منهم ، فهو في الذات كهم ، إلا أن يفرقوا بينه وبينهم ، بحال يخصونه بها دونهم ، أو بغير ذلك من فعل من الأفعال ، هو سوى ما يجمعهم وإياه في الذات من الحال ، فكيف وذلك غير قولهم ، وما يبنون عليه من أصلهم.

[عيسى بشر]

فاسمعوا لقول الله في ذلك وبيانه ، وما بيّن فيه جل جلاله من تفصيله وفرقانه ، إذ

__________________

(١) في جميع المخطوطات : كان والدا أو أبا. والصواب ما أثبت.

(٢) في (ج) : من.

يقول له صلى الله عليه ، في ذلك من غير ما سخطة منه عليه ولا لوم فيه (١) : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦)) [المائدة : ١١٦] ، فسبح الله جل جلاله إكبارا له عن أن يقول في ذلك على الله علّام ما كان وما يكون بقول إفك مفتر مكذوب ، لا يصح فيه أبدا قول في فطرة ، ولا يقوم في سليم عقل ولا فكرة.

وقال صلى الله عليه : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)) [المائدة : ١١٧] ، فأنبأهم صلى الله عليه أنه عبد الله (٢) كما هم كلهم جميعا عبيد ، (٣) وأخبر الله سبحانه من قوله في ذلك بما لا تنكره النصارى كلها وإن اختلفت في أديانها ، وفرّقتها البلدان في كل مفترق من أوطانها ، لما رأوا منه عيانا ، وأيقنه من غاب منهم إيقانا ، من عبادته عليه‌السلام لله واجتهاده في طاعة الله ، وكان في ما عاينوا (٤) من مشابهته لهم في الخلقة دليل مبين على أنه عبد الله ، يجري عليه من حكم الله في أنه عبد لله ما جرى عليهم ، بما (٥) بان من أثر تدبير الله وصنعه فيه وفيهم.

وفيما قلنا من ذلك ومثله ، في أن (٦) الفرع من الشيء له ما لأصله ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١)) [الزخرف : ٧٤]. يخبر جل جلاله عن أنه قد يجب للولد ما يجب

__________________

(١) في المخطوطات : عليه فيه ولا لوم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في (أ) و (د) : عبد له كما هم جميعا عبيده.

(٣) في (أ) و (د) و (ج) : عبيده. والتصحيح من نسخة أشار إليها المستشرق الألماني.

(٤) في (ج) : ما عاينوه.

(٥) في (ج) : يجري. وفي (د) : مما.

(٦) في (د) : وأن الفرع.

للوالدين (١) في كل ما يجب لهم بالطبيعة والذات ، لا فيما يجب من ذلك بالأعراض المحدثات.

ولو كان عيسى صلى الله عليه كما قالوا ربا وإلها ، وعن أنه لله عبد أو صنع معظما في ذاته (٢) منزّها ، لكان لأمه من ذلك ما له ، إذ كانت في الذات مثله ، بل لكان ينبغي لمن ولده أن يكون أعلى من ذلك منزلة منه ، إذ كان وجوده صلى الله عليه به وعنه.

وليس أحد من النصارى يثبت لمريم ما يثبت لابنها من الإلهية ، بل كلهم يقول : إنها أمة من إماء الله محدثة غير قديمة ولا أزلية ، وقد يلزمهم صاغرين فيها ، من إضافة الإلهية إليها ، ما قال الله تبارك وتعالى فيهما ، إذ الحكم واقع بالاشتباه (٣) في الذات عليهما ، فهي في ذلك كله كولدها ، إذ روحه من روحها وجسده من جسدها.

فإن لم يكن ذلك ، فيهما كذلك ، زالت البنوة عنه منها ، وزال أن تكون له أمّا عنها ، فلم تكن له أمّا ولم يكن لها ابنا ، إذ لم تكن إلا موضعا له ومكانا ، إلا أن يجعلوا الأماكن أمهات لما كان فيها ، فيقع ما قالوا من أنها أم له عليها.

فأما إن جعلوها (٤) من طريق ما يعقل أمّا له ، فقد جعلوها في الطبيعة لا محالة مثله.

وإذا كان ذلك ، فيهما كذلك ، جعلوه صاغرين كأمه إنسانا لا ربا ولا إلها ، وكان الناس كلهم إذ هو مثلهم في ذلك له أمثالا وأشباها ، لا افتراق بينه وبينهم في الإنسية ، ولا تفاوت بينه وبين جميعهم في الجنسية ، ولذلك كان يطعم صلى الله عليه كما يطعمون ، ويألم مما يؤلمهم كما يألمون ، ويقيمهم كما يقيمهم الشراب والطعام ، ويعرض له الحزن والغموم والاهتمام.

والنصارى كلها فقد تقر بطعمه وحزنه واغتمامه ، وتحمده بما كان من صبره

__________________

(١) في (أ) و (د) : للوالد.

(٢) سقط من (أ) و (د) و (ج) : معظما في ذاته.

(٣) في (د) : في الاشتباه.

(٤) في (د) : يجعلوها.

وآلامه ، التي كانت وصلت إليه عندهم في الضرب والصلب ، وما كان يلقى في سياحته وأمره ونهيه من الدؤب والتعب ، وفيما (١) جعل الله من طعمه وأكله من الآيات البينة الجلية، ما يبطل ما قالت به النصارى فيه من الأقوال الكاذبة المفترية الرديّة ، وفي نسبة الله له المعقولة في الدنيا والآخرة إلى أمه ، ما يدل ـ والحمد لله ـ من رشد على أنها من أصله وجرمه ، (٢) وأنه في ذلك كله كمثلها ، إذ هو منها ومن نسلها ، آباؤها آباؤه ، وغذاؤها غذاؤه.

فليفهم هذا ـ من أمره وأمرها ، وعند ذكره في النسب وذكرها ـ من يفهم ويعقل ، ولا يتجاهل منه ما لا يجهل. وليعلم أن قول الله سبحانه كثير في كتابه : ابن مريم ، وترديده في ذلك لذكره بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيه من تيقن الثّلج ، (٣) وغوالب الحجج ، التي يثلج (٤) بها كل قلب ، ويغلب فلا يعلى بغلب ، إذ تقرر من ولادتها له ما لا ينكره من النصارى ولا غيرها منكر ، ولا يتحير فيه من (٥) كل من عرفه بها ولا بما كان له من ولادتها متحيّر ، إذ جعله الله سبحانه ابنها ، وجوده منها وعنها ، منها (٦) كونه وفصوله ، وأصولها كلها أصوله ، وكل ما لزم فرع شيء من تغيير أو فناء لزم أصله ، وكذلك كل ما كان من ذلك للأصل فهو له ، لا يأبى ذلك ولا يكابره ، إلا فاسد العقل حائره (٧).

وفيما قلنا به والحمد لله من ذلك ، وأن (٨) عيسى صلى الله عليه كذلك ، ما يقول الله سبحانه : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ

__________________

(١) في (ج) و (د) : ونهيه والدءوب. وفي (أ) و (ب) : وما جعل.

(٢) الجرم : الجسد.

(٣) في (ج) و (د) : يقين. والثّلج : اليقين.

(٤) يسكن ويطمئن.

(٥) سقط من (ج) : من.

(٦) سقط من (ج) : منها.

(٧) في (أ) : جائره. وفي (ج) و (د) : حائر.

(٨) في (ج) : وفي أن عيسى. وفي (د) : في أن عيسى.

أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)) [المائدة : ٧١] ، فأي آية أدل لهم على أنه مثلهم من أكله للطعام لو كانوا يعقلون ، فلقد جهلوا من هذا ـ ويلهم ـ ما لم يجهل قوم نوح إذ يقولون : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣].

[مصادر عقائد النصارى]

ومن قبل ما قالت به النصارى في المسيح بن مريم ما قال بمثل قولهم المشركون ، فزعموا أن ملائكة الله المقربين ، ولد وبنات لله رب العالمين.

ومنهم ما (١) قبلت النصارى أقوالها ، وحذت في الاشراك بالله منهم مثالها ، وهو قول كان يقول به في الأوائل الروم والقبط وأهل الجاهلية ، من كان يقول في النجوم السبعة بتثبيت الربوبية لها والإلهية ، وكانوا يزعمون أن النجوم السبعة ملائكة لله ناطقة ، وأنها آلهة مع الله ـ لما تم بها (٢) كونه ـ خالقة ، وأن الله سبحانه صنعهن منه صنعا ، ولم يبتدعهن لا من شيء بدعا ، فلما أكملهن تبارك وتعالى وتم تمامهن ، كنّ كلهن به وعنه قال لهن :

أنتن آلهة الإلهية بكنّ عقد كل معقود وحل كل محلول ، وزعموا أن بهن وعنهن كانت من الحيوان المائت (٣) جعله كل مجعول ، بهن كان وجوده وقوامه (٤) ، ومنهن كان صنعه وتمامه ، وأنهن (٥) علة واسطة بين الله وبين الأشياء ، وأن الله الصانع لهن ولغيرهن به ماتت (٦) الأحياء ، وكان الله لا شريك له إله الآلهة العليّ الذي لا يمثلونه بشيء ، والأول القديم الذي لم يزل تبارك وتعالى من غير أول ولا بدي ، وأنه هو المبتدئ (٧)

__________________

(١) في (أ) : من قبلت. وما ، هذه زائدة ، كثيرا ما يستخدمها الإمام.

(٢) في (ج) : تم به كونها خالقة.

(٣) في (ج) : الميت.

(٤) في (ج) : قيامه.

(٥) في (د) : وأنه.

(٦) في (ج) و (د) : بهن. وفي (ج) : ما بث.

(٧) في (د) : المبتدئ بإنية الصانع.

الصانع للنجوم السبعة ، المتعالي عن مشابهة كل مصنوع كان أو يكون وكل صنعة.

وكذلك قالت النصارى : إن الله خلق الأشياء بابنه نفسه ، وحفظها ودبّرها بروح قدسه ، وإن الابن خلق الخلق وفطره ، وإن روح القدس حفظ الخلق ودبّره ، وزعموا أن قوة الخلق غير قوة الحفظ والتدبير ، وأن الأب لم ينفرد من ذلك كله بقليل ولا بكثير ، وأن حال الأب والابن وروح القدس في الإلهية واحدة ، وأن عبادة كل واحد منهم (١) عليهم واجبة.

وكذلك زعم المشركون من أصحاب النجوم أن الله خلق الحيوان الميت ودبّره بالنجوم السبعة ، وأن بهن وبما جعل الله من القوة فيهن كانت من ذلك كل بريته وكل صنعة ، فأقوالهم كلهم (٢) في أن لله ولدا واحدة (٣) غير مفترقة ، وفريتهم جميعا في ذلك على الله فكاذبة غير مصدقة ، إذ شبهوا بالله غيره ، فجعلوه ولده ونظيره.

وفي القول بالولادة والاشتباه ، (٤) إبطال من قائله لكل إله ، لأنهما إذا تماثلا واشتبها ، لم يكن كل واحد منهما إلها ، لأنه لا يقدر مع تشابههما أحدهما على إبطال الآخر ، وإذا لم يقدر على إبطاله كان عاجزا غير قادر ، ومن كان في شيء من الأشياء كلها عاجزا ، كان عجزه له (٥) عن الربوبية والإلهية حاجزا.

وإن قال قائل كان (٦) كل واحد منهما قادرا على إبطال نظيره ، ففي ذلك أدل الدلائل على نقص كل واحد منهما وتقصيره ، وإذا كان كل واحد منهما منقوصا مقصّرا ، (٧) لم يكن من الأشياء كلها لشيء صانعا مدبرا ، ليس له كفؤ من الأشياء كلها ولا مثل ولا نظير ، ولم يوجد في السماء ولا في الأرض ولا فيما بينهما صنع ولا تدبير ،

__________________

(١) سقط من (أ) و (د) و (ج) : منهم.

(٢) في (د) : كلهم جميعا في.

(٣) في (أ) : أوجده. مصحفة.

(٤) في المخطوطات : في الولادة. ولعل الصواب ما أثبت. وفي (د) : والأشياه.

(٥) سقط من (ج) : له.

(٦) في (د) : فإن قال. وسقط من (ج) : كان.

(٧) في (ج) : مقسّرا.

والصنع فقد (١) يرى بالعيان في ذلك كله قائما موجودا ، فكفى بذلك دليلا بيّنا على أن لهذا الصنع العجيب صانعا لا والدا ولا مولودا.

ووجود (٢) صانعه أبين وأوجد من وجود كل موجود وجودا ، وأنه واحد صمد ليس والدا ولا مولودا ، ولن يجد ذلك أحد أبدا ، إلا الله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يزل تبارك وتعالى واحدا صمدا ، ليس من ورائه أزلي مصمود ، ولا أوّلي من الأشياء موجود ، فيكون متقدما أوّلا قبله ، فلا يكون الله هو الخالق له ، بل هو الله الخالق الأول القديم ، الذي ليس لغيره (٣) عليه أولية ولا تقديم ، ولكن كل ما سواه ، فخلق ابتدعه وأبداه ، فوجد بالله خلقا بديا بعد عدمه ، بريا من مشاركة الله في قدرته وقدمه ، بينة آثار الصنع والتدبير فيه ، شاهدة أقطاره بالحدث والصنع عليه ، مختلف مؤلف ، ضعيف مصرّف ، مجسم محدود ، متوهم معدود ، قد ناهاه قطره وحدّه ، وأحصاه مقداره وعدّه ، فهو كثير أشتات ، له نعوت وصفات ، كثيرة متفاوتات ، كذلك الحيوان منه والموات.

فليس يوجد أبدا الواحد الأزلي ، الذي ليس له مثل ولا نظير ولا كفي ، (٤) إلا الله تقدست أسماؤه ، وجل ذكره وثناؤه ، وفي ذلك وبيانه ، ومن حججه وبرهانه ، ما يقول الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ، فيما نزل من كتابه المجيد ، في سورة الإخلاص والتوحيد : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : ١]. والأحد فمن ليس له والد ولا ولد ، (اللهُ الصَّمَدُ) (٢) [الإخلاص : ٢] والصمد فهو الغاية في كل خير والمعتمد ، الذي ليس من ورائه ، من يسمى بأسمائه ، فيستحق منها كما استحق الله شيا ، فيكون لله فيما يسمّى به منها كفيا ، كما قال الله سبحانه في كتابه ، وما نزل من

__________________

(١) في (ج) : قد.

(٢) في (ب) : ووجوده أبين وأوجد من وجود كل موجود وجودا. وفي (ج) : مثل (ب). إلا أنه سقط قوله (وجودا). وفي (د) مثل (أ). وسقط منه قوله : (وجودا).

(٣) في (ج) : لغير عليه.

(٤) في (ج) : كفو.

البيان (١) على عباده ، فيما كان لله (٢) تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى متسميا : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥) [مريم : ٦٥].

وفيما نزّل سبحانه من أنه ليس له كفؤ ولا نظير ، ما يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣].

وفي أنه ليس له شبيه ولا كفي ، (٣) ولا مثيل ولا بدي ، ما يقول الله سبحانه : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٣ ـ ٤]. وكيف يولد من لم يزل واحدا أولا؟! أو يلد من جل أن يكون عنصرا متحللا؟! (٤) لا كيف والحمد لله أبدا! يكون الله والدا أو ولدا! فنحمد الله على ما منّ به علينا في ذلك من البيان والهدى ، ونعوذ بالله في الدين والدنيا من الضلالة والردى.

فليسمع ـ من قال بالولد على الله ، من كل من أشرك فيه بالله ، من اليهود والنصارى ، والملل الباقية الأخرى ـ حجج الله المنيرة في ذلك عليهم ، ففي أقل من ذلك بمنّ الله ما يشفيهم ، من سقم كل عمى عارضهم فيه أو داء ، ويكفيهم في كل قصد أرادوه أو اهتداء ، ففي ذلك ما يقول الله سبحانه لهم كلهم جميعا ، ولكل من كان من غيرهم لقوله فيه سميعا ، ممن لم يعم عن قول الله فيه عماهم ، ولم يعتد على الله فيه اعتداءهم : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، فقال الله إنكارا لقولهم فيه وردا : (سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) [البقرة : ١١٦ ـ ١١٧].

__________________

(١) في (د) : البيان به على.

(٢) في (د) : كان الله.

(٣) في جميع المخطوطات الموجودة (شبيه ولا مثل أو مثيل ، ولا كفيء ولا بدي). وما أثبت اجتهاد مني جريا على نفس الإمام.

(٤) في (ج) : متخللا.

وفي ذلك وتبيينه ، وفي افترائهم فيه بعينه ، ما يقول الله سبحانه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٠ ـ ١٠٣]. ومعنى خرقوا ، فهو : افتروا واخترقوا ، باطلا وبهتانا ، وعماية وجهلا وطغيانا.

وتأويل «سبحن» ومعناها ، فليعرف ذلك من قراها : إنما هو بعد الله وتعاليه ، عما قالوا به (١) من اتخاذ الولد فيه ، وقول القائل سبحان ، إنما معناه : بعدان ، كما يقال بينك وبين ما تريد ، سبح يا هذا بعيد ، فالسبح هو البعيد (٢) الممتنع ، والأمر المتعالي المرتفع.

فما الذي هو أمنع وأبعد ، من أن يكون الله والدا أو يولد ، وهذا فهو قول متناقض ، محال داحض ، لا يقوم أبدا في فكرة ولا وهم ، ولا يصح به كلام من متكلم.

ولذلك من محاله ، وتناقضه وإبطاله ، ما يقول الله سبحانه تعاليا عن قولهم وبعدا : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، والمتخذ عند كل أحد فهو المستحدث المصطنع ، وما اتّخذ فاصطنع (٣) فهو يقينا المحدث المبتدع ، والوالد كما قد بينا في صدر هذا الكتاب كالمولود ، في مالهما بالذات والطبيعة من (٤) الخاصية والحدود ، فجعلوا الإله البديع كالمبدوع ، والرب الصانع للأشياء كالمصنوع ، وكلهم يزعم أن الله صانع غير مصنوع ، ومبتدع لجميع البدائع غير مبدوع ، وإذا صح أن السماوات والأرض وما فيهن لله ، وأن قيام ذلك ووجوده وصنعه بالله ، وما قضى من أمر فإنما قضاؤه له ، بأن

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : به.

(٢) في (ج) : البعد.

(٣) في (ج) : واصطنع.

(٤) سقط من (د) : من.

يبتدع صنعه وفعله ، لا بنصب ولا علاج ، (١) ولا أداة ولا معاناة ولا احتياج ، (٢) ولكنه يتم كونه وصنعه ، إذا هو أراده وشاءه.

وإذا قيل أمر الله في خلقه وقضى ، فإنما هو من الله بمعنى أراد الله وشاء ، وما ذكر من قنوت الأشياء لله ، فإنما هو قيامها ووجودها بالله ، وتأويل قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١١٦) ، إنما هو كل به ومن أجله كائنون.

وسواء في هذا الباب ، وفيما ذكر منه (٣) في الكتاب ، قلت : له ، وبه (٤) ومن أجله ، وكما يقال : فعلت ذلك بك ولك ، وكذلك يقال : فعلت ذلك بك ومن أجلك.

ولما أن صح بأحق الحقائق ، وأوجد ما يكون من الوثائق ، أن السماوات والأرض ومن (٥) فيهن لا تكون أبدا إلا من واحد ، صح أن ذلك لا يكون أبدا من مولود ولا والد ، فكان القول ـ مع صحة هذا ونحوه وأمثاله ، بما قالوا به في الولد ـ من أخبث القول وأحول محاله!! وأيّ تناقض في مقال يقال أقبح؟! أو محال بتناقض (٦) فاحش أوضح؟! من قولهم اتخذ الله ولدا فجعلوه (٧) متخذا مولودا! وهم يقولون مع قولهم ذلك أن الولد لم يزل قديما موجودا ، لم يفقد قط ولم يزل ، ولم يتغير حاله ولم يتبدّل ، فمن أين يكون مع (٨) هذا القول منهما ولد ووالد؟! وأمرهما جميعا في القدم والأزلية واحد! وكيف يكون متخذا حدثا من لم يزل موجودا قديما ، وإنما يكون المتخذ المستحدث من كان قبل أن يتّخذ مفقودا عديما. فقالوا جميعا كلهم : هو الله (٩) وولده ، ثم زعموا مع

__________________

(١) علاج ومعالجة : المحاولة.

(٢) سقط من (أ) و (ب) : ولا احتياج.

(٣) في (د) : من.

(٤) في (ج) : قلت به وله.

(٥) في (ج) : ما.

(٦) في (أ) و (د) : ومحال يتناقض.

(٧) في (ج) و (د) : فجعلوا الولد متخذا.

(٨) في (ج) و (د) : (مع الله هذا). وهو سهو من الناسخ.

(٩) في (أ) و (ب) و (ه) : و (هو ابنه وولده). وهو سهو فيما يبدو.

ذلك أنه ابنه يسبحه ويعبده ، والمولود (١) عندهم في الإلهية والأزلية كالوالد ، فصيّروا الرب المعبود في ذلك كله كالمربوب العابد ، فهل وراء ما قالوا به من التناقض في ذلك على الرب؟! من مزيد في تناقض أو محال أو إبطال أو إفساد أو كذب ، يقول به قائل مناقض محيل ، ويضل (٢) في مثله إلا تائه ضليل ، قد عظم في المحال والتناقض إسرافه ، وقلّ في المقام بالباطل لنفسه إنصافه ، فهو يلعب في حيرته ساهيا ، ويخوض في غمرته لاهيا.

وفيه والحمد لله وفي أمثاله ، ممن قال على الله بمقاله ، ما يقول الله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٨٣) [الزخرف : ٨٢ ـ ٨٣]. وفي ذلك ما يقول سبحانه : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١].

وفي إحالة قول من قال بالولد ، من أهل الكتاب ومن كل ملحد ، ما يقول سبحانه: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)) [مريم : ٨٩ ـ ٩٥]. والإدّ من الأمور والأقاويل ، فما امتنع امكانه في العقول ، فلم يطق له أحد احتمالا ، وكان في نفسه فاسدا محالا ، وهو كما قال الله سبحانه : (وَما يَنْبَغِي). وذلك فما ليس بممكن ولا متأتي (٣).

فأي ممتنع من الأمور أبعد إمكانا (٤)؟! مما قالوا به في الولد على الله بهتانا ، وهل

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : والمعبود.

(٢) في (ج) و (د) : أو يضل.

(٣) في (ج) و (د) : ولا متأت.

(٤) في (أ) و (ب) : مكانا.

يمكن السماوات والأرض في عقل أو لب ، أن تكون من ابن أبدا أو (١) أب ، وهل الابن إلا كالأبناء ، وكذلك الأب فكالآباء ، فإن لم يكن كهم زال أن يكون أبا أو ابنا ، ولم يكن ذلك أبدا في الأوهام ممكنا ، لأنه إن لم يكن أب وابن كأب وابن في الأبوة والبنوة مثله ، زالت الأبوة والبنوة واسمها كلها عنه ، وإن كان الابن للابن مثلا ، كان مثله خلقا مجتبلا ، ومتى (٢) جعلوا المسيح ابنا وولدا ، كان مثل الأبناء لله عبدا مخلوقا متعبدا ، ومتى أنكروا أنه كغيره من الأبناء عبد (٣) لله ، أنكروا صاغرين أن يكون كما قالوا ابنا لله ، أفليس هذا من القول هو المحال بعينه؟! وما يحتاج أحد يعقل إلى تبيينه!!

إذ يثبتون من ذلك في حال واحدة ما ينفون ، وينفون من مقالهم في حال واحدة ما يثبتون.

ولله تبارك وتعالى من الحجة والرد ، في كتابه على من قال عليه بالولد ، ما يكثر عن الله عن أن نحصيه أو نعدده ، أو يدرك مدرك سوى الله (٤) أمده ، وكفى بما ذكرنا والحمد لله حجة وردا ، على من زعم أن لله تبارك وتعالى ولدا ، من فرق النصارى واليهود ، (٥) وأهل الفرية على الله والجحود ، ممن جعل لله سبحانه ندا أو ضدا ، وجعله والدا (٦) أو ولدا ، فليفهم حجج الله في ذلك كله من كان لله موحدا ، وليتفقد تناقض قولهم فيه وفساده ، وإحالته واختلافه ، يجد قولا محالا فاسدا ، متناقضا مختلفا.

وفيه ما يقول الله سبحانه ، لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفع شأنه : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)) [الكهف : ٤ ـ ٦]. فأخبر

__________________

(١) في (ج) : أو من أب.

(٢) في (د) : مثله سواء خلقا. وفي (ج) : خلقا مختبلا. وفي (ج) و (د) : فمتى جعلوا.

(٣) في (أ) و (ج) و (د) : عبد الله. وفي (ب) : عند الله. وما أثبت هو الصواب ، والله أعلم.

(٤) في (ج) و (د) : الله أبدا أمده.

(٥) لقولهم : عزيز بن الله.

(٦) في (ج) : مولودا.

سبحانه بأسف رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من قولهم على الله سبحانه بالفاسد المحال ، وبأخبث ما يقال من متناقض الأقوال ، ونبأ الله جميع عباده ، بجهلهم لقولهم فيه وفساده ، بقوله سبحانه: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)(٥) ، ووجدنا ما قال الله من كذبهم فيه وقلة علمهم لازما واجبا ، وكان ذلك على ما قال به من أهل الكتاب ، أوكد لما (١) يقولون به من ربوبية رب الأرباب ، فكلهم يثبت لله الربوبية ، ويصحح له الوحدانية ، وجميعهم ـ وإن زعم أن لله ولدا ـ يقر بربوبيته ووحدانيته ، ويشهد له بدوامه وأزليته ، التي لا يصح لهم أبدا ما يقولون به منها ، إلا بتركهم لمقالتهم في الولد والرجوع عنها ، ولن يرجعوا عن ذلك مصارحة أبدا ، وإن هم قالوا أن قد اتخذ الله ولدا ، لأن في رجوعهم عن القول لله بالوحدانية والأزلية ، لحوقهم عند أنفسهم بقول (٢) أهل الجاهلية ، من عبدة الأوثان ، والنجوم والنيران ، وذلك فما لن يقولوه ، وإن لم يعرفوا الله وجهلوه ، لفساد ذلك عندهم وشناعه ، وبعد إمكان ذلك في الله وامتناعه ، ولذلك ما يقول جلّ جلاله ، عن أن يصح عليه تشبيه شيء (٣) أو يناله ، في أزلية قديمة أو ذات ، أو صفة ما كانت من صفات ، إذ في ذلك ، لو كان كذلك ، إشراك (٤) غيره معه في الإلهية ، إذ كان شريكا له في القدم والأزلية.

فتبارك الله الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وجل ربنا عن أن يكون له في شيء كفؤ أو نظير! وأنى وكيف يكون خلق كخالقه؟! وهل يصح من ناطق بهذا لناطقه؟! لا ولو تظاهر الخلق جميعا عليه ، لما صح لهم والحمد لله أبدا منطق فيه.

__________________

(١) في (ب) : ما.

(٢) في (ج) : لقول.

(٣) في (ج) : تشبيه له بشيء.

(٤) في (ج) : اشتراك.

[أدب الحوار]

وبعد : فلا بد لمن أنصف خصما في منازعته له ومجادلته ، من ذكر ما يرى الخصم أن له فيه حجة من مذهبه ومقالته ، فإذا ذكر ذلك كله ، بان ما فيه عليه وله ، فكان ذلك لباطله أقطع ، وفي الجواب له أبلغ وأجمع.

والنصارى فهم خصماؤنا في الله ، فلا بد من تبيين ما افتروا فيه على الله ، وهم ممن قال الله فيهم : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) [الشورى : ١٦]. ومن الذين قال فيهم : (*هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٦]. فهم في ذلك كغيرهم من كفرة الأمم.

فليفهم من قرأ كتابنا هذا ما نصف فيه من قولهم كله فسنصفه ، بما يعلمه علماء كل فرقة منهم إن شاء الله ويعرفه ، وسنستقصي لهم في كله ما استقصوا لأنفسهم من المقال ، ثم نجادلهم فيه على الحق بالتي هي أحسن وأبلغ في الجدال ، وندعوهم إلى سبيل ربنا وربهم بالحكمة والبينة ، ونعظهم إن شاء الله بالمواعظ البليغة الحسنة ، فإن الله سبحانه يقول لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) [النحل: ١٢٥] ، فنستعصم الله في ذلك كله بعصمة الهداة المسترشدين. (١)

[مذاهب النصارى المتفق عليها]

وهذا كتاب ما حددت النصارى من قولها ، قد استقصينا فيه جميع أصولها ، فليفهم ذلك إن شاء الله منها ، من أراد فهمه من الأمم عنها.

زعمت النصارى كلها : أن الله سبحانه ثلاثة أشخاص مفترقة ، وأن تلك الأشخاص الثلاثة كلها طبيعة واحدة متفقة ، وقالوا : تلك الثلاثة في درك يقين النفس ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : المرشدين. وفي (د) : الراشدين.

أب وابن وروح قدس.

قالوا : فالأب غير مولود ، والابن فابن وولد مولود ، وروح القدس فلا والد ولا مولود، وكل واحد من الثلاثة بما قلنا فموجود.

وقالوا : إن هذه الأشخاص الثلاثة لم تزل جميعا معا ، لم يسبق بعضها في الوجود بعضا ، وإن ما ذكروا (١) من الأب والروح والولد ، لم يزالوا كلهم في اللاهوت وملك واحد ، ليس بين الثلاثة كلها تفاوت في الإلهية ، ولا في قدم ولا قدرة ولا ملك ولا مشيّة ، وإن الثلاثة كلها واحد في الطبيعة والذات ، (٢) وإن هذا الواحد في الطبيعة ثلاثة في الأشخاص المفترقات ، (٣) وذلك كالشمس ، فيما يدرك منها بالحس ، التي هي شمس واحدة في كمالها وذاتها ، وثلاثة متغايرة في حالها وصفاتها ، كل واحد منها غير الآخر في شخصه وصفته ، وإن كان هو هو في ذاته وطبيعته.

فمن ذلك زعموا أن الشمس في عينها كالأب ، وضوءها فيها كالابن ، وحرّها منها كالروح ، ثم هي بعد وإن كانت لها هذه العدة ، فشمس لا يشك فيها أحد واحدة ، لأن الشمس إن فارقها ضوءها لم تدع شمسا ، وكذلك إن فارقها حرّها لم تدع أيضا شمسا ، وإنما تسمى شمسا وتدعا ، إذا كان هذا كله فيها مجتمعا.

وكذلك الانسان فإنه وإن كان في الانسانية واحدا ، فإنا قد نراه وترونه أشياء كثيرة عددا ، منها نفسه وجسده ، وحياته ومنطقه ، فجسده غير نفسانيته ، ومنطقه غير حياته ، لأنه ليس يقدر أحد أن يزعم أن الحياة هي المنطق ، ولا أنهما جميعا واحد متفق ، لأن كثيرا من الأحياء لا يتكلم ولا ينطق.

قالوا : ولسنا نريد بالمنطق القول الذي يسمع سماعا ، ولكنا نريد الفكر الذي جعله الله في الانسان غريزة وطباعا ، فطرة (٤) خاصة في الانسان ، لا في غيره من الحيوان ،

__________________

(١) في (ج) : ما ذكرنا. وفي (د) : ما ذكر.

(٢) سقط من (د) و (ج) و (د) : والذات.

(٣) في (ج) و (د) : المفترقة.

(٤) في (ج) و (د) : وفطرة.

كالحيوان الذي جعل (١) من البهائم وغيرها ، من نوابت الأرض وشجرها ، ولو كانت الحياة هي المنطق ، لكان كل حي من الأشياء ينطق ، فنطق جميع البهائم ، كما ينطق بنو آدم.

قالوا : فلما لم يكن الأمر كذلك ، دل على ما قلنا به من ذلك ، فالأب والابن وروح القدس ، كان دركهم بعقل أو حس ، فقد (٢) صاروا في الذات والطبيعة واحدا فردا ، وفي الأقانيم التي هي الأشخاص ثلاثة عددا ، فالطبيعة تجمعهم وتوحدهم ، والأقانيم تفرقهم وتعددهم ، فالأب ليس بالابن والابن فليس بالروح ، وما قلنا به من هذا فبيّن مشروح ، فهم كلهم بالطبيعة والذات واحد ، وهم في الأقانيم ثلاثة روح وابن وأب والد ، لأن الأب والد غير مولود والابن فمولود غير والد ، والروح فثالث موجود ، لا والد ولا مولود.

قالوا : ثم إن هذه الأقانيم الثلاثة لم تزل جميعا معا ثلاثة عددا ، لم يسبق في الوجود والأزلية والقدم واحد منها واحدا ، أنزل واحد منها وهو الابن إلى الأرض رأفة بالبشر والإنس ، عن (٣) غير مفارقة منه للأب ولا لروح القدس ، إلى مريم العذراء ، فاتخذ منها حجابا وسترا ، فتجسد منها بجسد كامل في جميع إنسانيته ، فتبدّى به وظهر فيه لأعين الناظرين عند معاينته ، فأكل كما يأكل الإنسان وشرب ، وساح على قدميه ودأب وتعب ، وأسلم نفسه رأفة ورحمة بالبشر للصّلب ، ولما صار إليه لكرمه وحلمه من الأذى والنصب.

[مذاهب النصارى المختلفة]

ثم اختلفت النصارى (٤) بعد في الابن والولد ، وما كان من تجسده بما زعموا من الجسد.

__________________

(١) في (ج) : جعل الله في البهائم.

(٢) في (ج) و (د) : قد.

(٣) في (ج) : من. وسقط من (د) : عن.

(٤) قال الإمام يحيى بن حمزة عليه‌السلام في الشامل : (وأما النصارى فحكى نقلة الأقوال ، إن مذاهب النصارى لا تنضبط ، وهي غير منحصرة حتى قال بعض النقلة لمذاهبهم ليس شيء أغلظ علي من ـ

__________________

ـ حكاية أقاويل النصارى ، لاضطرابها وكثرة تناقضها ، وكفى بمذهب بطلانا هذه خلاصته ، وثمرته وثقاوته ، وهم على ما اشتهر عنهم أربع فرق :

الأولى : الملكانية ، وهم أقدم فرق النصارى مذهبا ، وقد قالوا بأن الله تعالى ، واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية ، وان الاتحاد لعيسى عليه‌السلام ، ما كان من حيث أنه انسان معين ، بل إنما وقع الاتحاد بالانسان الكلي.

الثانية : اليعقوبية ، وهم القائلون بأن الاتحاد إنما كان من حيث الذات ، حتى قالوا : المسيح جوهر من جوهرين ، وأقنوم من أقنومين ، ناسوتي ولاهوتي ، وأنهما امتزجا حتى صار منهما شيء ثالث ، كما تمتزج النار بالفحمة ، فيصير منهما شيء ثالث وهو الجمرة.

الثالثة : النسطورية ، وهم القائلون بأن الاتحاد إنما كان من جهة المشيئة ، وقال بعضهم معنى الاتحاد هو :

إن الكلمة جعلته هيكلا وادّرعته ادّراعا ، وكذلك قالوا : المسيح جوهران أقنومان.

الرابعة : هؤلاء الأرمنوسية ، فإنهم زعموا أن عيسى عليه‌السلام ، كان عبد الله تعالى اصطفاه ، ولكنه اتخذه ابنا له على سبيل التشريف ، هذا ما ذكره الإمام يحيى عليه‌السلام من بيان فرقهم.

قال : واشتهر على ألسنة المتكلمين أن النصارى يقولون : إن الله واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية. فأما وصفهم الله تعالى بالجوهرية ، فالخلاف فيه ليس إلا من جهة اللفظ ، لأنهم متفقون على أن الله ليس بمتحيز ، وأنه تعالى منزه عن المكان والجهة ، ومعنى وصفه بكونه جوهرا عندهم ، أنه قائم بنفسه ليس بمفتقر إلى غيره.

وأما الأقنوم فهو : اسم سرياني. ومعنى الأقنوم عندهم : الشيء المتفرد بالعدد. والأقانيم عندهم ثلاثة : أقنوم الأب ، وهذا ذات الباري تعالى. وأقنوم الابن ، وهو الكلمة. وأقنوم روح القدس ، وهو الحياة. وقد تخبط الناس في معرفة مقاصدهم ، بهذه الأقانيم ، فذهب بعضهم إلى أن هذه الأقانيم ذوات قائمة بأنفسها ، وكل أقنوم منها مستقل بنفسه ، وذهب آخرون منهم إلى أنها أشخاص. وقال قائلون : إنها وجوه وصفات ، إلى غير ذلك من التفرق والخلاف.

قال : وكلامهم في هذه الأقانيم في غاية الخبط والاضطراب ، لا تستقر له قاعدة ، ولا يعقل له حقيقة.

قال : واعلم : أن الأشبه عند التحقيق أن مراد النصارى من هذه الأقانيم التي زعموها هو هذه المعاني التي يثبتها هؤلاء الأشعرية ، وبيانه أن النصارى يعتبرون في تقرير مذهبهم وقولهم ، بهذه الأقانيم شرائط ثلاث :

الأولى : وحدة الذات ، فإن عندهم أن الله تعالى ، واحد بالجوهرية.

الثانية : أن الصحيح من مذهبهم أن هذه الأقانيم عندهم ذوات مستقلة بأنفسها ، ليست من قبل الأحوال والصفات ، بل ذوات على حيالها منفردة.

الثالثة : أن هذه الأقانيم متعددة في أنفسها ، وأعدادها ثلاثة كما سبق ، وهذه الشرائط الثلاث لا توجد ـ

فقالت فيه الروم ، وهو قولها المعلوم : إن الأقنوم (١) الإلهي الذي لم يزل موجودا ، ومن قبل الدهور من الأب مولودا ، أنزل إلى مريم العذراء فأخذ منها طبيعة بغير أقنوم فكان لطبيعتها أقنوما ، فعمل (٢) بطبيعتها التي أخذ منها كل ما كان لها في طبيعتها معلوما ، فنام كما كانت تنام نومها ، وإن لم يكن أقنومه أقنومها ، وفعل من أفعال طباعها فعلها ، وإن لم يكن أصله في الناسوت أصلها. قالوا : فعمل بطبيعتها فكان المسيح إنسانا تاما بطبيعتين ، وإن كان أقنوما واحدا لا اثنين ، والمسيح فهو ابن الله الأزلي المولود ، وعمل الطبيعتين جميعا فهو فيه موجود. قالوا : فإذا سرّ أو بكى ، أو ضحك أو اشتكى ، ـ وكلهم يقر ولا يشك ، أن قد كان يبكي ويضحك ـ فكل ما

__________________

ـ على الكمال ، إلا في مذهب الأشعري ، فإن ذات الله عندهم هي أصل لهذه المعاني ، وهو غير متعدد ، وزعموا أيضا أن هذه المعاني مستقلة بأنفسها ذواتا على انفرادها ، وهي القدرة ، والعلم ، والحياة ، وغيرها. وقالوا أيضا : إن هذه المعاني متعددة في أنفسها ، فزعم بعضهم أنها سبعة ، وزعم بعضهم أنها ثمانية ، فحصل من هذا أن الشرائط التي اعتبرتها النصارى في قولهم بالأقانيم ، لا توجد إلا في مذهب هؤلاء الأشعرية ، فهم يضاهونهم في مقالتهم ، ويكرعون معهم في آجن ضلالتهم.

قال : وقد فسر بعض النقلة من أهل المقالات كلام النصارى وقولهم بالأب ، والابن ، وروح القدس ، بما تقوله الفلاسفة من أنه تعالى عقل وعاقل ومعقول ، فهو من حيث أنه عقل لذاته أقنوم الأب ، ومن حيث أنه عاقل لذاته أقنوم الابن ، ومن حيث أنه معقول لذاته أقنوم روح القدس.

قال : واتفقت آراء الفرق النصرانية على القول بالاتحاد ، ثم اختلفوا في كيفيته ، فقال بعضهم : إن الاتحاد كان بامتزاج الذاتين.

وقال بعضهم : الاتحاد بالحلول.

وزعم بعضهم : أن الاتحاد كان بالانسان الكلي.

وبعضهم قال : الاتحاد بالانسان الجزئي ، إلى غير ذلك من التفرق والنزاع ، تعالى الله عن سخيف نحو هذه المقالات ، التي أذعنت لها السماء بالانفطار ، والأرض بالتشقق ، والجبال بالانحدار (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

(١) الأقنوم : اسم سرياني ، ومعناه الأصل ، والشيء المتفرد كما سبق.

(٢) سقط من (أ) و (د) و (د) : فعمل.

كان من ذلك كله وما (١) أشبهه مما في طبائع (٢) الإنس فمن عمل الطبيعة الانسانية ، وما كان من إحيائه الموتى وإبرائه للكمه والبرص ومثله فمن عمل الطبيعة الإلهية.

وقالت اليعقوبية (٣) : إن الابن الذي لم يزل ، زال من السماء إلى الأرض ونزل ،

__________________

(١) في (ج) : ومن.

(٢) في (ج) : طباع.

(٣) النصرانية هي الديانة المسيحية التي أنزلت على عيسى عليه‌السلام ، مكملة لرسالة موسى عليه‌السلام ، متممة لما جاء في التوراة من تعاليم ، موجهة إلى بني إسرائيل ، داعية إلى التهذيب الوجداني والرقي العاطفي والنفسي ، لكنها سرعان ما فقدت أصولها ، مما ساعد على امتداد يد التحريف إليها حيث ابتعدت كثيرا عن صورتها السماوية الأولى ، لامتزاجها بمعتقدات وفلسفات وثنية.

التأسيس وأبرز الشخصيات :

زكريا عليه‌السلام : كان واحدا من أنبياء بني إسرائيل ، كرس نفسه لخدمة الهيكل المقدس في فلسطين ، وقد اختير ليكون كافلا لمريم ، وقد وهبه الله تعال ـ على الكبر ـ يحيى عليه‌السلام.

يحيى (يوحنا) : واحد من أنبياء بني إسرائيل ، كان يقوم بتعميد الناس في نهر الأردن ليطهرهم من الخطايا والذنوب ، وقد قام هو نفسه بتعميد عيسى عليه‌السلام ، مات مقتولا بأمر من ملك اليهود بفلسطين (هيردوس) بسبب معارضته إياه في زواجه من ابنة أخيه.

مريم ابنة عمران : عمران هو أحد عظماء بني إسرائيل ، وقد كانت زوجته عاقرا فرزقها الله بمريم ، فنذرتها لخدمة الهيكل والعبادة فيه ، أما مريم فقد كانت صالحة وطاهرة ، وقد اصطفاها الله على نساء العالمين.

عيسى عليه‌السلام : ولد في بيت لحم من أمه مريم ، من غير أب ، إذ نفخ الله فيها من روحه فكان ميلاده حدثا عجيبا على هذا النحو ، ليلقي بذلك درسا على بني إسرائيل الذين غرقوا في الماديات وفي ربط الأسباب بالمسببات ، بعث عيسى عليه‌السلام نبيا إلى بني إسرائيل مؤيدا من الله بعدد من المعجزات الدالة على نبوته ، فمن ذلك.

أنه كان يخلق لهم من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.

وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.

وكان يحيى الموتى بإذن الله.

وكان يخبر الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم بإذن الله.

وقد أيده الله بمائدة من السماء أنزلها عليهم لتكون عيدا لأولهم وآخرهم.

غضب اليهود عليه فأغروا به الحاكم الروماني الذي تجاهلهم أولا ، ثم كذبوا وتقوّلوا مما جعله يصدر ـ

__________________

ـ أمرا بالقبض عليه وإصدار حكم بالاعدام ضده.

ألقى الله شبه عيسى وصورته على رجل من أصحابه يقال : إنه (يهوذا الإسخريوطي) فنفذ الحكم فيه ، أما عيسى فقد توفاه الله بعد ذلك ورفعه إليه.

الحواريون الاثنا عشر كما هم مذكورون في إنجيل متّى :

١ ـ سمعان المعروف باسم بطرس

٧ – توما.

٢ ـ اندرواس أخو سمعان.

٨ ـ متى العشار.

٣ ـ يعقوب بن زبدى.

٩ ـ يعقول بن حافي.

٤ ـ يوحنا أخو يعقوب.

١٠ ـ لباوس الملقب تدّاوس.

٥ ـ فيليبس.

١١ ـ سمعان القانوني (الغيور).

٦ ـ برنو لماوس.

١٢ ـ يهوذا الإسخريوطي.

 ـ وهناك الرسل السبعون الذين يقال بأن المسيح قد اختارهم فأرسلهم ليعلموا المسيحية.

ـ وهناك المائة والعشرون الذين يقال بأن بطرس قد خطب فيهم فامتلئوا بالروح بعده وراحوا يدعون للنصرانية ، وعن طريق هؤلاء اختير بالقرعة بدل ليهوذا فوقعت القرعة على متياس الذي أكمل الاثنى عشر.

ـ بولس (شاول) : لقد كان لهذا اليهودي الخبيث ، الذي دخل النصرانية ـ دور كبير في تحطيم الاتجاهات الصحيحة للمسيحية بإدخاله فكرة التثليث والقول بألوهية المسيح ، وأنه قام من الأموات ، وصعد ليجلس عن يمين أبيه ، كما ابتكر خرافة العشاء الرباني وغفران الذنوب مستمدا ذلك من الفلسفات الإغريقية والوثنية ، ونادى بألوهية الروح القدس ، ودعا إلى عدم ضرورة الختان ، واخترع قصة الفداء ، وهو الذي نقل المسيحية من كونها دينا خاصا ببني إسرائيل إلى جعلها دينا عالميا ، لقد كتب أربعة عشر سفرا تعليميا من أصل إحدى وعشرين رسالة تشكل مجموع الرسائل التي تعد مصدرا تشريعيا في النصرانية.

الأفكار والمعتقدات :

أولا : كتبها وأناجيلها :

ـ التوراة : وهو العهد القديم الذي يعد أصلا للديانة النصرانية.

ـ العهد الجديد : أي الإنجيل ، والأناجيل المعتبرة التي اعترفت بها الكنائس في القرن الثالث الميلادي أربعة هي :

إنجيل متى : وهو أحد التلاميذ الاثنى عشر ، دوّن الإنجيل باللغة العبرية أو بالسريانية ، وأقدم نسخة عثر عليها كانت باللغة اليونانية ، كما أن هناك خلافا حول من دوّن الإنجيل ومن ترجمه.

إنجيل مرقص : كاتبه يوحنا الذي اختير من السبعين ، وقد كان رجلا نشيطا في نشر النصرانية في ـ

__________________

ـ أنطاكية وشمال إفريقيا ومصر وروما وقد قتل حوالي عام ٢٦ م.

إنجيل لوقا : طبيب أو مصوّر من أصل يهودي ، كان مرافقا لبولس في حله وترحاله ، وهو ليس من تلاميذ المسيح.

إنجيل يوحنا : وهو حواري ابن صياد ، كان المسيح يحبه ، بعضهم يقول بأنه شخصية مجهولة ، انفرد بالقول بالتثليث وبألوهية المسيح في ذلك الوقت المبكر من تاريخ النصرانية.

ـ يلاحظ على الأناجيل الأربعة أنها ليست من إملاء السيد المسيح عليه‌السلام مباشرة ، وأن كاتبيها ليسوا على مستوى من الأهلية ليكونوا علماء دين ، كما أن أصولها ضائعة ولا تحمل أقل ما توجبه شروط الرواية التي يستلزمها كتاب سماوي ديني.

ـ أما الرسائل : فهي الأسفار التعليمية التي توضح النصرانية المعاصرة أكثر من الأناجيل ، وقد دوّنها رجال مشهورون ، وهي تعنى بتفسير مظاهر السلوك وأنواع الطقوس في الحياة النصرانية.

ـ إنجيل برنابا : يعرف بابن الواعظ وهو لاوي قبرصي ، طاهر نقي ، وهو خال مرقص ، وأول نسخة اكتشفت منه كانت في مكتبة سكتس الخامس بروما ، لكنه يختلف عن الأناجيل الأربعة بما يلي :

(الله) عنده هو رب العالمين خالق السموات.

الذبيح من أبناء إبراهيم إنما هو إسماعيل لا إسحاق.

يبشر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لا يقول بصلب المسيح بل يؤكد بأن الله قد ألقى الشبه على يهوذا الإسخريوطي.

يحث على الختان.

يعتبر عيسى نبيا لا أكثر. ولهذا فالمسيحيون لا يعترفون بهذا الإنجيل.

هذا وقد تم نقل هذا الإنجيل إلى العربية وطبع بها.

ثانيا : المجامع النصرانية :

هي مجالس شورية تعقد بين الحين والحين لسن القرارات وإصدار الفتاوى ، فهي هيئة تشريعية تحل وتحرم ، ومن أهم هذه المجامع :

مجمع نيقية ٣٢٥ م : قالوا فيه بأن المسيح إله فقط.

مجمع القسطنطينية الأول ٣٨١ م : قرروا فى بأن الروح القدس إله.

مجمع أفسس الأول ٤٣١ م : قالوا فيه بأن للمسيح طبيعتين لاهوتية وناسوتية.

مجمع خلقيدونية ٤٥١ م : قالوا فيه بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.

مجمع رومه ١٨٦٩ م : قرروا فيه بأن البابا معصوم.

ـ تتابعت المجامع ، وما تزال إلى يومنا هذا ، ومن أواخرها مجمع روما ١٨٦٩ م والمجمع الإقليمي في ـ

__________________

ـ جاكرتا ١٩٦٧ م الذي عقد لتوقيع ميثاق بين كل الطوائف ، للتحالف على مواجهة المسلمين بكلمة واحدة في الاجتماعات والمحافل الدولية.

ثالثا : الفرق النصرانية :

الموحدون وهم :

ـ أتباع آريوس الذي كان يقول بأن الأب وحده هو الله ، والابن مخلوق له.

ـ بولس الشمشاطي وأصحابه في أنطاكية : يقولون بأن عيسى عبد الله ورسوله وهو واحد من أنبياء اللهعليهم‌السلام.

ـ النسطوريون : وهم أصحاب نسطور بطريرك الإسكندرية سنة ٤٣١ م ، والذي قال بأن مريم لم تلد إلا الإنسان ، فهي بذلك أم لإنسان وليست أما لإله ، ومذهب النساطرة وضع الأساس للقول بطبيعتين في المسيح.

ـ مذهب الكنائس الشرقية : «الأرثوذكس» وهو رد فعل لعقيدة نسطور ، إذ أعلنوا في مجمع عقد بمدينة أفسس بالأناضول سنة ٤٣١ م ووافقوا فيه على عقيدة البابا كيرلس بطرس الإسكندرية ، والتي تقضي بأن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة.

ـ مذهب الكاثوليك : وهو مذهب الطبيعتين والمشيئتين متأثر بمذهب النساطرة ، وقد اعتنقت روما هذا المذهب واتخذت به قرارا في مجمع خلقيدونية سنة ٤٥١ م.

ـ مذهب اليعاقبة : يقولون بأن للمسيح طبيعة واحدة وهي التقاء اللاهوت بالناسوت.

ـ مذهب الموارنة : وهو مذهب منسوب لرجل اسمه يوحنا مارون ، الذي دعا سنة ٦٦٧ م إلى أن للمسيح طبيعتين ، ولكن له مشيئة واحدة وذلك لالتقاء الطبيعتين في أقنوم واحد.

ـ مذهب البروتستانت : وتسمى كنيستهم «الإنجيلية» إذ إنهم يتبعون الإنجيل دون غيره ، وفهمه لديهم ليس مقصورا على رجال الكنيسة ، إنها تمثل ثورة في الفكر النصراني ، بدأها آريوس في القديم مرورا بنسطور وانتهاء بالكثيرين الذين من أبرزهم لوثر كنج (١٤٨٢ ـ ١٥٢٩ م) وهم يستنكرون حق الغفران والاستحالة ومنع الصلاة للموتى وقصر سلطان الكنيسة في الوعظ والارشاد ، ومنع استعمال لغة غير مفهومة في الصلاة.

ـ بعد انعقاد المجمع الثامن ٨٧٩ م انقسمت الكنائس إلى قسمين رئيسين :

الكنيسة الغربية اللاتينية البطرسية ورئيسها البابا بروما.

الكنيسة الشرقية اليونانية الأرثوذكسية ورئيسها بطريرك القسطنطينية.

وسبب الانقسام هو السؤال التالي :

«هل الروح القدس منبثق عن الأب؟ وهو رأي الكنيسة الشرقية».

«أم أن الروح القدس منبثق عن الأب والابن معا؟ وهو رأي الكنيسة الغربية».

__________________

رابعا : في المعتقدات :

ـ الألوهية والتثليث : يعتقدون بوجود إله خالق عظيم ، لأنهم كتابيون أصلا لكنهم يشركون معه الابن (عيسى) ، والروح القدس (جبريل) ، وبين الكنائس تفاوت عجيب في تقرير هذه المفاهيم وربط بعضها مع بعض ، مما يسمونه الأقانيم الثلاثة ويفسرونه بأنه وحدانية في تثليث وتثليث في وحدانية.

ـ الدينونة : يعتقدون بأن الحساب في الآخرة سيكون موكولا لعيسى ابن مريم ، لأن فيه شيئا من جنس البشر مما يعينه على محاسبة الناس على أعمالهم.

ـ الصلب : المسيح في نظرهم مات مصلوبا فداء عن الخليقة ، ذلك أن الله لشدة حبه للبشر من ناحية ولعدالته من ناحية أخرى ، فقد أرسل وحيده ليخلص العالم من خطيئة آدم حينما أكل من الشجرة المحرمة ، وأن عيسى قد صلب عن رضى تام فتغلب بذلك على الخطيئة ، وأنه دفن بعد صلبه ، وأنه قام بعد ثلاثة أيام متغلبا على الموت ثم ارتفع إلى السماء.

ـ تقديس الصليب : يعتبر الصليب شعارا لهم ، وهو موضع تقديس الأكثرين ، وحمله علامة على أنهم من أتباع المسيح.

ـ الصوم : هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته ، مقتصرين على أكل البقول ، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى.

ـ الصلاة : ليس لها عدد معلوم مع التركيز على صلاتي الصباح والمساء ، وهي عبارة عن أدعية وتسابيح وإنشاد ، كما أن الانتظام في الصوم والصلاة إنما هو تصرف اختياري لا إجباري.

ـ التعميد : وهو يعني الارتماس في الماء أو الرش به باسم الأب والابن والروح القدس ، تعبيرا عن تطهير النفس من الخطايا والذنوب.

ـ الاعتراف : وهو الإفضاء إلى رجل الدين بكل ما يقترفه المرء من آثام وذنوب ، وهذا الاعتراف يسقط عن الانسان العقوبة بل يطهره من الذنب ، إذ يدّعون بأن رجل الدين هذا هو الذي يقوم بطلب الغفران له من الله.

ـ العشاء الرباني : يزعمون بأن المسيح قد جمع الحواريين في الليلة التي سبقت صلبه ، وأنه قد وزع عليهم حمرا وخبزا كسّره بينهم ليلتهموه ، إذ إن الخمر يشير إلى دمه ، والخبز يشير إلى جسده.

ـ الاستحالة : من أكل الخبز وشرب الخمر من الكنيسة في يوم الفصح ، فإن ذلك يستحيل فيه وكأنه قد أدخل في جوفه لحم المسيح ودمه ، وأنه قد امتزج في تعاليمه بذلك.

ـ يحلون أكل لحم الخنزير مع أنه محرم في التوراة ، ويحرمون الختان مع وجوده في شريعتهم أصلا ، وأباحوا كذلك الربا وشرب الخمرة ، لقد قصروا التحريم في الزنى وأكل المخنوق وأكل الدم وأكل ما ذبح للأوثان.

ـ الأصل في ديانتهم الرهبانية ، وهو العزوف عن الزواج ، لكنهم قصروه على رجال الدين ، وسمح ـ

__________________

ـ للناس بزوجة واحدة مع منع التعدد الذي كان جائزا في مطلع المسيحية.

ـ الطلاق : لا يجوز للرجل أن يطلق زوجته إلا في حالة الزنى ، وهنا لا يجوز للزوجين الزواج بعده مرة أخرى ، أما الفراق الناشئ عن الموت فإنه يجيز للحي منهما أن يتزوج مرة أخرى ، كما يجوز التفريق إذا كان أحد الزوجين غير نصراني.

ـ التكاثر والنسل : يحثون جماعتهم من النصارى على التكاثر ، ويصبح ذلك أكثر وجوبا في المناطق التي لا يكونون فيها أكثرية.

ـ النواحي الروحية : لقد جاءت النصرانية في الأصل لتربية الوجدان ، وتنمية النواحي العاطفية ، داعية إلى الزهد وعدم محاولة الثأر ، مستنكرة انخراط اليهود في المادية المغرقة ، يقول إنجيلهم (من ضربك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر ، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك) لوقا ٦ / ٢٨ لكن تاريخهم ملئ بالقتل وسفك الدماء.

ـ صكوك الغفران : وهو صك يغفر لمشتريه جميع ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر ، وهو يباع كأسهم الشركات ، وقد يمنح الشخص بناء على هذا الصك أمتارا في الجنة على حسب مقدار المبلغ الذي يقدمه للكنيسة.

ـ الهرطقة ومحاربتها : لقد حاربت الكنيسة العلوم والاكتشافات ، والمحاولات الجديدة لفهم الكتاب المقدس ، وصوبت سهامها إلى كل نقد ، ورمت ذلك كله بالهرطقة ، ومحاربة هذه الاتجاهات بمنتهى العنف والقسوة.

الجذور الفكرية والعقائدية :

ـ أساسها كتاب التوراة الذي يسمونه العهد القديم ، فقد انعكست الروح والتعاليم اليهودية من خلاله ، ذلك أن النصرانية قد جاءت مكملة لليهودية ، وهي خاصة بخراف بني إسرائيل الضالة ، كما تذكر أناجيلهم.

ـ لقد أدخل أمنيوس المتوفى سنة ٢٤٢ م أفكارا وثنية إلى النصرانية ، بعد أن اعتنق المسيحية وارتد عنها إلى الوثنية الرومانية.

ـ عند ما دخل الرومان في الديانة النصرانية نقلوا معهم إليها أبحاثهم الفلسفية وثقافتهم الوثنية ، ومزجوها بالمسيحية التي صارت خليطا من كل ذلك.

ـ لقد كانت فكرة التثليث التي أقرها مجمع نيقية ٣٢٥ م انعكاسا للأفلوطنية الحديثة ، التي جلبت معظم أفكارها من الفلسفة الشرقية ، لقد كان لأفلوطين المتوفى سنة ٢٧٠ م أثر بارز على معتقداتها ، فأفلوطين هذا تتلمذ في الاسكندرية ، ثم رحل إلى فارس والهند ، وعاد بعدها وفي جعبته مزيج من ألوان الثقافات ، فمن ذلك قوله : بأن العالم في تدبيره وتحركه يخضع لثلاثة أمور :

المنشئ الأزلي الأول.

رأفة منه ورحمة بالانسان ، وتعطفا منه على البشر بالاحسان ، فأخذ من مريم العذراء جسدا ، فتجسد به فصارا جميعا واحدا ، وقالوا : ألا ترون الانسان من روح وجسد ، ثم هو يدعا إنسانا باسم واحد ، فترونهما وإن سميا بالإنسان ، فليس يقال لهما : إنهما في الانسانية اثنان ، ولكن يقال : إنه إنسان واحد ، وهو كما تعلمون روح وجسد. قالوا

__________________

العقل المنبثق عنه.

الروح التي هي مصدر تتشعب منه الأرواح جميعا.

وهو يضع بذلك أساسا للتثليث ، إذ إن المنشئ هو الله ، والعقل هو الابن ، والروح هو الروح القدس.

ـ تأثرت النصرانية بديانة متراس التي كانت موجودة في بلاد فارس قبل الميلاد بحوالي ستة قرون ، والتي تتضمن تعاليمها قصة مثيلة لقصة العشاء الرباني.

ـ الهندوسية فيها تثليث وأقانيم وصلب للتكفير عن الخطيئة ، وزهد ورهبنة وتخلص من المال للدخول في ملكوت السموات ، والإله لديهم له ثلاثة أسماء فهو (فشنو) أي الحافظ. وسيفا (المهلك). وبراهما (الموجد). وكل ذلك انتقل إلى النصرانية بعد تحريفها.

ـ البوذية التي سبقت النصرانية بخمسة قرون انتقلت بعض معتقداتها وأفكارها إلى المسيحية ، وإن علم مقارنة الأديان يكشف تطابقا عجيبا بين شخصية بوذا وبين شخصية المسيح عليه‌السلام (انظر محمد أبو زهرة : محاضرات في النصرانية).

ـ عقيدة البابليين القديمة خالطت النصرانية ، إذ أن هناك محاكمة لبعل إله الشمس ، تماثل وتطابق محاكمة المسيح عليه‌السلام.

ـ نستطيع أن نقول بأن النصرانية قد أخذت من معظم الديانات والمعتقدات التي كانت موجودة قبلها ، مما أفقدها شكلها وجوهرها الأساسي الذي جاء به عيسى عليه‌السلام من لدن رب العالمين.

الانتشار ومواقع النفوذ :

ـ تنتشر النصرانية اليوم في معظم بقاع العالم ، وقد أعانها على ذلك الاستعمار والتنصير ، الذي تدعمه مؤسسات ضخمة عالمية ذات إمكانات هائلة.

ـ لقد انتشرت الكاثولوكية بشكل كبير في إيطاليا وبلجيكا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال.

ـ أما الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية فمعظم انتشارها في روسيا والبلقان واليونان ، ومقرها الأصلي في القسطنطينية ، ويتبعها عدد من الكنائس الشرقية المستقلة.

ـ أما الكنيسة البروتستانتية فمركز انتشارها ألمانيا وانجلترا والدانمرك وهولندا وسويسرا والنرويج وأمريكا الشمالية. الموسوعة الميسرة / ٤٩٩.

وكذلك المسيح الذي هو اجتماع اللاهوت والناسوت (١) يسمى مسيحا ، وهو ابن الله الذي لم يزل أفما ترون هذا قولا فيما ذكرنا وقسنا بيّنا صحيحا.

وقالت النسطورية : إن الابن الذي لم يزل بمحبته نزل رأفة وكرما ، فتجسّد من مريم عند نزوله جسدا كاملا تاما ، بطبيعة وقنومية ، (٢) من إنسانية وآدمية ، فكان المسيح طبيعتين وقنومين ، بعد تجسده بالجسد تآمين. وقالوا : فنحن إذا رأيناه يأكل ويشرب ، ويجيء في الأرض ويذهب ، وينصب ويشتكي ، ويضحك ويبكي ، جعلنا ذلك كله ، وما رأينا منه ومثله ، من الناسوت وإذا (٣) نحن رأيناه يحيي الموتى ، ويبرئ المرضى ، ويمشي على الماء ، جعلنا ذلك للاهوت.

[المذهب الجامع للنصارى]

وقالت فرق النصارى كلها مع اختلافها ، وافتراق قولها في أوصافها ، (٤) إن سبب نزول الابن الإلهي الذي نزل من السماء ، رحمة للبشر ومحافظة على الرسل والأنبياء ، قالوا من أجل خطيئة آدم فإنه لما أن (٥) أخطأ ، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فعصى ، تبرأ الله تبارك وتعالى منه ، وأسلمه إلى الشيطان باتّباعه له. قالوا فكان في حيّز الشيطان ودار ملكه ، وكذلك زعموا كان معه فيها جميع ولده ، يحكم فيهم الشيطان بما أحب من حكمه ، قالوا وكان فيما ملك الشيطان من آدم ونسله ، أنفس كثيرة من أنبياء الله ورسله ، فمن تلك الأنفس نفس نوح ونفس إبراهيم ، وغيرهما من أنفس الرسل والنبيين ، قالوا فتلطف الابن واحتال لاستخراج تلك الأنفس من يد الشيطان ، فلبس لذلك ومن أجله جسدا آدميا ، ليكون بما لبس منه عن الشيطان خفيا ، فتنكر

__________________

(١) اللاهوت : الإله ، والناسوت : الناس.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) : وقنومة.

(٣) في (ج) و (د) : فإذا.

(٤) في (ج) : أقوالها إن. وفي (د) : أقوالها في أوصافها.

(٥) سقط من (ج) و (د) : أن.

الابن بذلك له ، لكي لا يحترس الشيطان منه ، فلا ينفذ فيه مكره.

قالوا : فلما غلبت (١) على الناس الخطية ، وحلت بها (٢) فيهم البلية ، واستبان لآدم زعموا ما فعل الشيطان به ، وما كان من غروره إياه وخديعته له ، خدع عند تلك (٣) الابن الشيطان بمكره ، فبلغ فيه ما أراد من أمره ، فاستخرج آدم وجميع ولده ، من سلطان الشيطان ويده. قالوا وذلك كله فإنما كان الابن يبذل نفسه للصلب ، ولما لقي من الأذى قبله والنصب ، إحسانا من الابن (٤) إلينا وكرما ، ورأفة من الابن بنا ورحما (٥).

قالوا : فاشترى الابن البشر من أبيه ، بما وصل (٦) من الأذى والصلب إليه ، وذلك زعموا أن أباه لم يكن في حكمه وعدله ، أن يظلم الشيطان ما جعل له من آدم وولده ، إن صاروا إلى طاعة الشيطان وأمره ، لأنه قال للشيطان فيما يزعمون من المقال : كل من اتبعك فهو لك.

قالوا : فلذلك اشترانا الابن من أبيه بالعدل ، وغلب الشيطان على ما كان في يده منا بالمكر. فلما استخرج آدم ونفوس الرسل والأنبياء ، صعد بعد فراغه من معاملة الشيطان إلى السماء ، بعد أربعين (٧) يوما مرت به ، بعد الذي كان من صلبه. قالوا : فجلس عن يمين أبيه تاما بكليته وجسده وجميع ما فيه من اللاهوت والناسوت ، وكل ما كان فيهما ولهما من النعوت.

قالوا : وسينزل أيضا مرة أخرى ، فيدين الأحياء والأموات عند فناء الدنيا. قالوا : ولذلك آمنا بالأب والابن وروح القدس. قالوا : والأب فهو الذي خلق الأشياء بابنه ،

__________________

(١) في (ج) : غلب.

(٢) سقط من (ج) و (د) : بها.

(٣) في (ج) و (د) : ذلك.

(٤) في جميع المخطوطات : الابن. وأنا أعتقد أنها الأب. وإنما تصحفت والله أعلم.

(٥) في (ج) : ورحمة.

(٦) في (أ) و (ب) : وصل من ذلك من. وفي (د) : وصل والصلب.

(٧) في (د) : أربعين مرت بعد.

وحفظها بروح قدسه.

فهذا ـ فليعلمه من أراد علمه ـ جماع قول النصارى وما لبسوا من اللبس ، في الأب والابن وروح القدس ، وفي (١) الأقانيم والطبيعة ، وما لهم في ذلك من المقالة البديعة ، التي لم يقل بها قبلهم قائل ، ولم يتنازع (٢) فيها مجيب ولا سائل ، وقولهم إن الثلاثة في موضع يوحدون ، وفي موضع بعد التوحيد يثلثون ، وفي سبب نزول الابن زعموا من أجل (٣) خطيئة آدم ، وما قالوا به في ذلك من خلاف جميع الأمم ، فلم نترك لهم بعد هذا من قول ، يجهله منهم (٤) إلا كل جهول.

[نقض مذاهب النصارى]

ونحن إن شاء الله مبتدئون فرادّون ، لباب فباب بما يقولون ويحددون ، فليفهم ذلك من يريد مجادلتهم من أهل التوحيد والدعوة ، فإنا مقدّمون إن شاء الله من ذلك باب الأبوة والبنوة.

فقائلون لهم ، جميعا جوابهم (٥) : أخبرونا عن هذه الأسماء التي سميتم؟ وادعيتم من خرافات القول فيها ما ادعيتم؟! من أب زعمتم وابن روح قدس ، لم يدل على شيء منه قياس ولا حاسة من الحواس الخمس ، ما هذه الأسماء أسماء طبيعية ذاتية جوهرية؟! أم هي أسماء شخصية قنومية (٦)؟! أم تقولون هي أسماء حادثة عرضية؟! فإنكم إن كنتم إنما (٧) سميتم الأب عندكم أبا ، لأنه ولد بزعمكم ولدا وابنا ، فليس هذه الأسماء طبيعية

__________________

(١) سقط من (ج) : في.

(٢) في (ج) : ولم ينازع.

(٣) سقط من (ج) : أجل.

(٤) سقط من (ج) : منهم.

(٥) سقط من (ج) : جوابهم.

(٦) في (ج) : اقنومية.

(٧) سقط من (ج) و (د) : إنما.

ذاتية ، ولا أسماء أيضا قنومية (١) شخصية ، ولكنها حادثة عرضية ، عرضت (٢) عند حدوث أولاد ، بين الوالدين والأولاد ، ولسن (٣) بأسماء طبيعية ولا أقنوم ، لا في الروم ولا في غير الروم.

والطبيعية فإنما تسمى بذاتها وطباعها ، (٤) وبما يكمل ذلك كله لها من اجتماعها ، لأنا بالأسماء المعلقة بالعلة المشتقة من الأفعال المعتملة أعرف ، (٥) لأن اسم الطبيعة غير اسم الأقنوم ، واسم القنوم (٦) غير اسم الفعل المعلوم ، واسم الطبيعة ثابت ، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، إنما هو اسم لها محدود موقّف ، (٧) لا ينصرف فيها ولا يختلف ، فيدل على قنوم ، (٨) ولا فعل مفعول ، ولكنه اسم الشيء نفسه ، يدل عليه لا على جنسه ، كالأرض والسماء ، والنار والماء ، وأشباه ذلك من الأسماء ، التي تدل (٩) على أعيان الأشياء ، فهذه هي أسماء (١٠) الذات والطبائع ، لا أسماء الأقانيم والصنائع.

فأما أسماء القنومية ، التي ليست بطبيعية ولا عرضية ، فمثل إبراهيم وموسى ، وداود وعيسى ، وليس في الأسماء الطبيعية ، ولا في الأسماء الشخصية القنومية ، أبوة ولا بنوة ، ولا فعال (١١) ولا قوة ، إنما هي أسماء تدل على الأعيان ، كالانسانية التي تدل على الانسان.

وفيما بينا ـ والحمد لله ـ من تحديدنا الذي حددنا في الأسماء ، حجة لا يدفعها في

__________________

(١) في (ج) : اقنومية.

(٢) سقط من (أ) و (ب) و (د) : عرضت.

(٣) في (ج) : فليس. وفي (د) : وليست.

(٤) في (د) و (ج) : بطباعها وذاتها.

(٥) في (أ) و (ب) و (د) : ترك فراغا بما يسع سبع كلمات ، وقال في (أ) : بياض في الأم. وفي (د) : كذا.

(٦) في (ج) : الأقنوم.

(٧) في (ج) : موقوف.

(٨) في (ج) : أقنوم وعلى فعل. وفي (د) : قنوم ولا مفعول.

(٩) في (ج) و (د) : التي قد تدل.

(١٠) في (أ) : فهذه من أسماء.

(١١) في (ج) : ولا أفعال.

التسمية عندهم إلا من كان من أهل الجهل والعمى ، لأن الأسماء عندهم للأشياء ثلاثة أسماء:

اسم جوهر كالأرض والسماء.

واسم قنوم ، كفلان المعلوم.

واسم ثالث من عرض وحدث ، يسمى به كل عارض (١) محدث.

وزعمت الفرق الثلاث من النصارى ـ فنعوذ بالله من الجهل بالله (٢) ـ أنها تجد فيما في أيديها من كتب الأنبياء أن المسيح بن مريم هو الله ، وأنه هو ابن (٣) الله ، فجعلوا في قولهم هذا الابن أباه ، ثم رجعوا فجعلوا الأب هو إياه ، (٤) غفلة وسهوا واختلافا ، وعماية وتخرصا واعتسافا ، تصديقا لقول الله فيهم وفي أمثالهم ، ومن كان يقول من أهل الجهالة بمقالتهم ، (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (١١) [الذاريات : ٨ ـ ١١].

وإنما أخذت النصارى وقبلت ، هذه الكتب فيما زعمت وقالت ، عند ما صلب عندهم المسيح صلى الله عليه من اليهود ، وليس أحد من خاصتهم ولا عامتهم عند النصارى بعدل ولا محمود ، ولا تقبل شهادته على يهودي مثله ، فكيف تقبل شهادتهم على الله تعالى وعلى رسله.

مع أنّ لما قالت النصارى من ذلك كله مخارج عندنا في التأويل صحيحة ، لا يعمى عنها ولا عما بيّن الله منها إلا من لم يقبل فيها من الله بيانا ولا نصيحة ، ولكن النصارى تأولت تلك الكتب بآرائها ، (٥) وعلى قدر موافقة أهوائها ، فضلّت في ذلك وما تأولت منه بعمى التأويل ، وأضلت من اتبعها عليه عن سواء السبيل.

__________________

(١) سقط من (ج) و (د) : عارض.

(٢) سقط من (ج) : بالله.

(٣) في (ج) : الله وهو ابن. وفي (د) : الله وابن.

(٤) في (ج) : الأب أباه.

(٥) في (ج) : بآرائهم.

فيقال إن شاء الله لهم فيما تأولوه من ذلك وادعوا ، وافتروا في ذلك على كتب الأنبياء وابتدعوا ، مما لم يسبقهم إليه أحد ، ولم يقل به قبلهم مفتر ولا ملحد : إنا لم ندرك نحن ولا أنتم الأنبياء ولا المسيح بن مريم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم ندرك نحن ولا أنتم أحدا من حواريه ، فنسأل من أدركنا منهم عما اختلفنا نحن وانتم فيه ، فتكتفوا (١) بمن أدركتم من الأنبياء عليهم‌السلام في التأويل ، ونجتمع نحن وأنتم على الحق فيما اختلفنا فيه من الأقاويل.

[قواعد للحوار]

ولا بد لنا ولكم من الانصاف ، فيما وقع بيننا وبينكم من الاختلاف ، فإن نحن تناصفنا ائتلفنا ، وإن فارقنا التناصف اختلفنا ، ثم لم نعد أبدا للائتلاف ، (٢) إلا بعودة منا إلى الانصاف. والتناصف هو الحكم العدل بعد الله بين المختلفين ، والشفاء الشافي الذي لا شفاء أبدا في غيره للمتناصفين ، فأنصفوا الحق من أنفسكم ، تخرجوا بإذن الله بإنصافكم من لبسكم ، وارفضوا للحق أهواءكم ، تسعدوا في دينكم ودنياكم ، وأقيموا ما أنزل إليكم (٣) من التوراة والإنجيل ، واتركوا الافتراء على الله فيها (٤) بعمى التأويل ، تهتدوا إن شاء الله لقصد سبلكم ، وتأكلوا كما قال الله من فوقكم ومن تحت أرجلكم ، وافهموا قول العزيز الوهاب ، فيكم وفي غيركم من أهل الكتاب : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦) [المائدة : ٦٦] ، فكفى بهذا بيانا من الله في أهل الكتاب لقوم يعقلون.

__________________

(١) في (ج) : فنكتفوا.

(٢) في (ج) و (د) : أبدا إلى الائتلاف.

(٣) في (ب) : إليكم من ربكم من. وفي (ج) : إليكم ربكم في. وفي (د) : الله إليكم من ربكم من.

(٤) سقط من (ج) : فيها.

وليعلم من فهم منهم ، أو من غيرهم ، أن (١) فيما ذكر الله لهم من المأكل ومثله ، آية عجيبة ظاهرة لمن يفهمها بعقله ، تدل على أنه لم ينزلها إلا علام الغيوب ، الذي لا يخفى عليه شيء من سرائر القلوب ، لا سيما في النصارى (٢) من أهل الكتاب ، وما هم عليه من الحرص والكد والاكتساب ، فإنا لم نر أمة من أهل الكتاب أرغب في المأكل والمشرب ، واكتناز الفضة والذهب ، منهم خاصة دون غيرهم ، معلوم ذلك من غنيهم وفقيرهم ، ولذلك ما يقول الله سبحانه فيهم ، وفي بيان ما قلنا به من ذلك عليهم : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤) [التوبة : ٣٤]. فرهبانهم إلا القليل وشمامستهم ، (٣) تعولهم أبدا أقوياؤهم وضعفتهم. وليس من الرهبان ولا الشمامسة من تكلّف في مطعمه ولا مشربه ولا كسوته ولا مصلحته كلفة ، ومن كفاهم ذلك من عوامهم وضعفتهم فقد يرى ذلك قربة له عند من يعبدون وزلفة.

فأول ما يقال ـ إن شاء الله ـ لمن أراد الانصاف لنفسه منهم ، وعند من تجري المجادلة فيما ادعوا من الكتب بين أحد من أهل التوحيد وبينهم (٤) ، يا هؤلاء : أنصفونا فيما ادعيتم من شهادات الكتب من أنفسكم ، فلا تدعوا فيها ولا تأولوا فيها تأويلا ملتبسا يزيدكم لبسا على لبسكم ، فإن شئتم تأولتم الكتب وتأولنا ، على ما قد قلتم وقلنا ، ولنا من التأويل. مثل مالكم ، وقولنا فيه يخالف أقوالكم. فإن كان ذلك أحب إليكم ، فافهموا فيه ما يدخل عليكم ، فلسنا ندخل عليكم فيه ، إلا ما نجمع نحن وأنتم عليه.

أجمعنا نحن وأنتم جميعا كلنا ، قولكم مما قلنا به من ذلك قولنا ، على أن أصدق الشهادات كلها وأعدلها ، خمس شهادات يلزمنا وإياكم أن نقبلها :

__________________

(١) في (ج) و (د) : ومن غيرهم. وسقط من (أ) و (د) و (د) : أن.

(٢) في (أ) و (ب) و (د) : لا سيما خاصة من النصارى.

(٣) الشمامة : جمع شماس ، من رءوس النصارى الذي يحلق وسط رأسه ويلزم البيعة.

(٤) في (أ) و (د) : بينه.

فأولها : زعمنا وزعمتم شهادة الله ، والثانية : فشهادة ملائكة الله.

والثالثة : فقول المسيح وشهادته.

والرابعة : فما شهدت به أمه ووالدته.

والخامسة : فشهادة الحواريين وما كانوا يقولون. فهذه خمس شهادات ليس منها ما تنكرون ، وكلها فنحن وأنتم بها راضون ، فيما ندعي في المسيح وتدّعون.

فقد وجدنا ووجدتم في الأناجيل الأربعة شهادات مختلفة ، كلها فيما عندنا وعندكم فقد (١) أحطتم بها وأحطنا معرفة ، فيما في الأناجيل الذي يدعا عندكم إنجيلا مثل ما لا تنكرون من قوله ، في أول ما وضع من إنجيله : (هذا ميلاد يسوع المسيح بن داود) (٢) ، فهذه شهادته وهو من الحواريين على أن أبا المسيح داود ، وأن المسيح ابنه وهو منه مولود ، ولهذه الشهادة في الأناجيل الأربعة نظائر كثيرة ، وفي ذلك حجة عليكم لا تدفع ظاهرة منيرة.

ومنها شهادة المسيح صلى الله عليه لحواريه أنهم بنو الأب جميعا ، (٣) وأن الله أبوهم كلهم معا ، وهذا يدل على أن تأويل الأبوة والبنوة ، غير ما قلتم به فيها من الدعوة.

ومنها : شهادة المسيح أن الحواريين إخوانه (٤) فإن شئتم فقولوا في نسب أو غير نسب ، فلهم بذلك ماله بعد شهادته صلى الله عليه زعمتم أنه ابن الأب.

ومنها : شهادة أمه صلى الله عليها ، على أنه ابن يوسف جدها وأبيها (٥).

__________________

(١) في (أ) و (د) و (ج) : وقد أحطتم وأحطنا.

(٢) إنجيل متّى / الإصحاح الأول.

(٣) نص الإنجيل هكذا : ولا تدعوا أبا على الأرض لأن أباكم الذي في السماوات. إنجيل متى ٣٣ / ٩.

(٤) نص الإنجيل هكذا : فأجاب وقال لهم : أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها. إنجيل لوقا ٨ / ٢١.

(٥) نص الإنجيل هكذا : ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب ، رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة ، وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئا حكمة ، وكانت نعمة الله عليه ، وكان أبواه يذهبان ـ

ومنها قول فيلبس لسائل سأله ، (١) إذ قال له عند مسألته عنه ، هو ذلك الذي ذكره موسى في التوراة ، ونسبه صلى الله عليه فيها وسمّاه ، فقال : يسوع بن يوسف (٢) ، يعرف هذا منكم كل عارف.

ومنها أيضا : شهادة يحيى التي تدل على أن معنى البنوة والولادة ، إنما هو معنى المحبة والولاية والعبادة ، إذ يقول : أما أولئك الذين قبلوا قوله ، وسلموا فيما سمعوا منه له ، فلم يولدوا من اللحم والدم ، ولا من مزاج المرة والبلغم ، ولكنهم ـ زعم ـ من الله ولدوا ، وأعطوا من كرامة الله ما رضوا وحمدوا. (٣) فتأويل هذا ومثله إن كان صدق فيه ، فإنما هو على ما يصح أن يكون عليه ، لا على ما يستحيل في الألباب والعقول ، ويفسد ويتناقض من القول في التأويل ، من أن يكون الرب عبدا ، والوالد مع ولادته ولدا ، وذلك أجهل الجهل ، وفي ذلك المكابرة للعقل.

أما سمعوا قول الملائكة لمريم ، صلى الله عليهم وعليها وسلم ، عند ما صاروا به من البشارة بولادتها ، للمسيح ابنها : (تلدين ابنا) (٤) ولم يقولوا : تلدين ابن الله ، وقالوا : (يدعا

__________________

ـ كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح ، ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد ، وبعد ما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي اليسوع في أورشليم ويوسف وأمه لم يعلما ، وإذ ظناه بين الرفقة ، ذهبا مسيرة يوم وكان يطلبانه بين الأقرباء والمعارف ، ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه ، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم ، وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته ، فلما أبصراه اندهشا وقالت له أمه يا بني لما ذا فعلت بنا هكذا؟ هو ذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين ، فقال لهما : لما ذا كنتما تتطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي. لوقا. ٢ / ٥٠٣٩.

(١) في جميع المخطوطات : فليفس. وسقط من (ج) و (د) : سأله.

(٢) نص الإنجيل هكذا : وجد نثنائيل وقال له : وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء ، يسوع بن يوسف الذي من الناصرة. يوحنا. ١ / ٤٦٤٥.

(٣) نص الإنجيل هكذا : (إلى خاصته جاء ، وخاصته لم تقبله ، وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله ، أي المؤمنون باسمه الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ، ولا من مشيئة رجل بل من الله). إنجيل يوحنا (١٢ ـ ١٣) الإصحاح الأول. ويوحنا هو يحيى.

(٤) إنجيل متى (١ ـ ٢٢) بلفظ : وتلد ابنا.

يسوع ويكون عليا عظيما بالله ، ويرث كرسي أبيه داود) (١) فلو كان كما يقولون لقالت الملائكة : تلدين ابن الله ويكون منك مولودا ، فكان أعظم في القدر والخطر ، من أن يقال: ابن البشر.

وكذلك قال الملك ليوسف زعمتم بعلها ، عند ما أراد لمّا ظهر من حملها ، من تطليقه لها وتخليته لسبيلها : (يا يوسف بن داود لا تخل سبيل امرأتك فإن الذي بها من روح الله ، وهو يدعا يسوع ، وبه يحيي الله شعبه من خطاياهم بإذن الله) (٢).

ومما زعموا فاعرفوه أنه دلهم ، وشهد على ما ادعوا لهم ، واعتقدوا من ضلال أقاويلهم ، قول الله زعموا في إنجيلهم ، في المسيح بن مريم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هذا ابني الحبيب الصفي) (٣). وقول سمعان (٤) الصفا له : (أنت ابن الله الحق) (٥).

وما ذكروا من هذا إن صح ومثله ، مما يدعون على الله وعلى رسله ، فقد يوجد له تأويل ، لما قالوا مبطل مزيل ، لا ينكرونه ولا يدفعونه ، ولا يكذبون من خالفهم فيه ولا ينازعونه.

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة ، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك ، فقال سلام لك أيتها المنعم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك : لا تخافي لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما. وابن العلي يدعا ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. لوقا ١ / ٣٣٢٦.

(٢) نص الإنجيل هكذا (ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور ، إذ ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا : يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك ، لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابنا وندعوا اسمه يسوع ، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل. (إنجيل متّى ١ / ٢١ ـ ٢٢).

(٣) نص الإنجيل هكذا : (هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به). إنجيل متى ٣ / ١٧. وإنجيل لوقا ٣ / ٣٢.

(٤) في (د) : شمعان.

(٥) نص الإنجيل هكذا قول سمعان : فأجابه سمعان : بطرس يا رب إلى من تذهب ، كلام الحياة الأبدية عندك ، ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح بن الله الحي. إنجيل يوحنا ٦ / ٧٠٦٨. وإنجيل متى ١٦١٦.

فمن ذلك ما هم عليه وغيرهم مجمعون ، لا يختلفون فيه كلهم ولا يتنازعون ، من أن ملائكة الله ، ومن مضى من رسل الله ، لم يسبّح المسيح قط ولم يعبده ، (١) ولم يزعم أحد منهم أن الله ولده.

ومن تأويل ما ذكروا من الولد والابن ، في زمن المسيح وكل زمن ، أن الناس لم يزالوا يدعون ابنا وولدا من تبنوا وأحبوا وحظي عندهم ، وإن لم يكن على طريق التناسل ولدهم ، ثم لم يزل ذلك لديهم معروفا ، قديما وحديثا ، ولا سيما في القدماء ، من أهل العلم والحكماء ، فكان الحكيم منهم يقول : يا بني لمن علّمه ، ويدعو المتعلم باسم الأبوة معلّمه ، فيقول : قد قلت وقلنا يا أبانا ، وربما قال أحدهم : يا أبت أما ترانا.

قال بعضهم :

آباء أرواحنا الذين هم هم

أخرجونا من منزل التلف

من علّم العلم كان خير أب

ذاك أبو الروح لا أبو النطف (٢)

وذلك والحمد لله في الأمم كلها فأوجد موجود ، يقوله الرحيم منهم لمن ليس بابن له مولود (٣).

ومن ذلك ما كان يقول المسيح صلى الله عليه ، كثيرا لا تنكره النصارى لحوارييه : (إذ هبوا بنا إلى أبينا ، وقولوا : يا أبانا أنزل من سمائك طعامك علينا) (٤). ومن ذلك قوله لهم ، صلى الله عليه وعليهم : (قولوا : يا أبانا تقدس اسمك ، لتنزل في

__________________

(١) في (ب) و (ج) : لم يسبحوا المسيح. قط ولم يعبدوه.

(٢) لم أقف على البيتين فيما لدي من مصادر الأدب.

(٣) نص الإنجيل هكذا : وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله ، أي المؤمنون باسمه. يوحنا. ١ / ١٣١٢. ومما يؤكد معنى الأبوة بالمعنى الذي قاله الإمام قول يسوع عليه‌السلام. قال يسوع : ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم. وإلهي وإلهكم. يوحنا. ٢٠ / ١٧.

(٤) نص الإنجيل هكذا : لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم. إنجيل لوقا ١١ / ٣٢. وإنجيل متى ٦ / ١٢٩.

الأرض ملكوتك وحكمك) (١).

فهل يتوهم أحد أنه أب من الآباء يلد وينسل ويتغير ويتغذى؟! أو يصل إليه صلب أو نصب أو أذى؟! لا بحمد الله وكلا! وتبارك ربنا عن ذلك وتعالى! ولكنه أرحم بنا وألطف ، وأعطف علينا وأرأف ، من الآباء كلهم والأمهات ، ومن أنفسنا فيما يهمنا من المهمات.

وقد ذكر عن بعض الحكماء ، ممن مضى من أوائل القدماء ، أنه كان إذا أخذ في التسبيح لله والذكر ، قال : الله الذي هو في ذاته محب للبشر. وإنما يراد بالمحبة لهم ، الرأفة والرحمة بهم.

وكذلك قال الرحمن الكريم : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٣]. فمن أرأف بهم وأرحم؟! وأعطف عليهم وأكرم؟! ممن خلقهم مبتدئا فسوّاهم؟! وأعطاهم من نعمه ما أعطاهم؟! ثم دلّهم تعالى على الهدى ، (٢) وبيّن لهم الغيّ والردى. لا من بحمد الله وفضله! فنستمتع (٣) الله بالنعم في ذلك كله.

ومما يحتج به على من كفر منهم بربه جهلا ومجانة ، (٤) قول المسيح بن مريم لهم فيما زعموا من إنجيلهم أبانه (٥) : (أنا ابنه وهو أبي) (٦) وقوله : (جئتكم من عند أبي ، وما سمعت عنده فهو ما أكلمكم به ، وأنتم لو كنتم منه لقبلتم ما جئتكم به من أمره ، ولكنكم من الشيطان وأنتم بنوه ، ولذلك قبلتم قوله فلم تخالفوه ، وإنما أنتم بنو الخطيئة والشيطان أبوها ، وأنتم صاغرون لطاعتكم له فبنوها. فقالوا : نحن بنو إبراهيم ، ورموه

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : فقولوا أبانا الذي في السماء ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. إنجيل لوقا ١١ / ٣٢. وإنجيل متى ٦ / ١٢٩.

(٢) في (أ) : دلهم بعد ذلك على. وفي (د) : دلهم على.

(٣) أي : نسأله أن يمتعنا بالنعم.

(٤) المجانة : المجون.

(٥) سقط من (ج) : أبانه.

(٦) نص الإنجيل هكذا : فالذي قدسه الأب وأرسله إلى العالم ، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله. يوحنا ١٠ / ٣٦.

بالبهتان العظيم. فقال : لستم بولد إبراهيم ولا بنيه ، لو كنتم ولده لعملتم بما يرضيه ، ولكنكم بنو الشيطان والخطيئة.

أخبروني هل منكم من يرتجي الله لمعصيته؟ فعلام تريدون قتلي؟! ولم لا تقبلون قولي؟! لو عملتم بطاعة الله ، إذن لكنتم أبناء الله (١).

فجعل كما ترون الله أبا لمن أطاعه وأرضاه ، وجعل الشيطان أبا لمن أطاعه واتبع هواه ، فكفى بهذا حجة دامغة ، وشهادة قاطعة بالغة ، على من تأول من النصارى الأبوة والبنوة على ما تأولوها عليه ، وما قلنا به من هذا كله فهم كلهم مقرون به في إنجيلهم لا يختلفون فيه(٢).

فإن لم تكن الأبوة والبنوة إلا على ما قالوا ، لزمهم أن يتأولوا كل ما في إنجيلهم من الأبوة والبنوة بما تأولوا ، فقد يقرون كلهم من ذلك في إنجيلهم ، بما سنذكره مع ما ذكرنا إن شاء الله من أقاويلهم.

زعموا أن فيها ، وفيما يضيفونه إليها : ((أن المسيح خرج من القرى وتنحى ، وصام في البرية أربعين صباحا ، لم يأكل فيها طعاما ، ولم يشرب فيها شرابا ، فجاءه

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : فأجابهم يسوع قائلا : (الحق الحق أقول لكم إن كل من يقترف الخطيئة هو عبد للخطيئة ، والعبد لا يمكث في البيت إلى الأبد ، وأما الابن فيمكث إلى الأبد ، فإن حرركم الابن تصيروا بالحقيقة أحرارا ، أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم ، ولكنكم تبتغون قتلى ، لأن كلامي لا مقر له فيكم ، أنا أتكلم بما رأيت لدى أبي ، وأنتم تعملون بما سمعتم من أبيكم ، فأجابوا وقالوا له : (أبونا هو إبراهيم). فقال لهم يسوع : (لو كنتم أبناء إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم ، ولكنكم الآن تبتغون قتلى ، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله ، وهذا ما لم يفعله إبراهيم ، إنكم تعملون أعمال أبيكم). فقالوا له : (إننا لم نولد من زنى ، وإنما لنا أب هو الله وحده) ، قال لهم يسوع : (لو كان الله أباكم لأحببتموني ، لأني من الله خرجت وأتيت ، فأنا لم آت من نفسي وحدي ، وإنما هو الذي أرسلني ، لما ذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تستطيعون أن تستمعوا إلى ما أقول ، إنكم أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تبتغون أن تتمموا ذاك الذي كان منذ البدء قتالا للناس ، ولم يثبت على الحق قط ، لأنه ليس فيه من الحق شيء ، متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما عنده ، لأنه كذاب وأبو الكذب ، وأما أنا فلأني أقول لكم الحق لا تؤمنون بي ، من منكم يستطيع أن يثبت عليّ خطيئة؟ فإن كنت أقول لكم الحق ، فلما ذا لا تصدقوني؟. يوحنا. ٨ / ٤٧٣٤.

(٢) سقط من (أ) و (د) : فيه.

إبليس في صومه ومنتحاه ، فعرض عليه جميع زهرة الدنيا وأراها إياه ، فلما رأى المسيح ذلك كله ، سأله إبليس أن يسجد له سجدة واحدة ، على أن يعطيه من ذلك كل ما أراه ، فلعنه المسيح وأخزاه ، وقال : لا يصلح السجود لغير الله ، اخس (١) إليك يا عدوّ الله ، قال إبليس ـ زعموا له ، عند ما جرى من القول بينه وبينه ـ فاليوم لك أربعون يوما ، لم تشرب شرابا ولم تطعم طعاما ، فادع الله إن كنت له حبيبا ، أن يجعل لك هذه الحجارة فضة وذهبا ، فقال له : ألم تعلم يا لعين أن كلام الله يكفي من اكتفى به من أحب كل طعام وشراب»(٢).

ومن كلام الله الذي ذكر صلى الله عليه ما نزّل لا شريك له من كل كتاب ، وزعموا في أناجيلهم أن الله أوحى إلى يوسف بعل مريم ، بعد ولادتها للمسيح بما الله به أعلم ، «أن انطلق بالصبي وأمه إلى مصر فأقم بها أنت ومريم وابنها حتى أبين لك موت هيردوس ـ وهو ملك من ملوك الروم كان ملكا على بني إسرائيل ـ فإنه يريد قتل عيسى ودماره ، فرحل يوسف بمريم وابنها ليلا ، وأتم الله زعموا بما كان من ذلك من أمره ببعض ما أوحى إليه من (٣) كتب رسله إذ يقول سبحانه : من مصر دعوت صفيّي (٤).

__________________

(١) في (ج) : حاشا.

(٢) في إنجيل متى : (ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس ، فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا فتقدم إليه المجرب وقال له : إن كنت ابن الله فقل أن يصير هذه الحجارة خبزا فأجابه وقال : مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ، ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له : إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل ، لأنه مكتوب أن يوصي ملائكته بك ، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك ، قال له يسوع : مكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك ، ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها ، وقال له : أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي ، حينئذ قال له يسوع : اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك نسجد وإياه وحده نعبد) إنجيل متى (٤ / ١ ـ ١١). وإنجيل لوقا ٤ / ٩١.

(٣) في (أ) : في بعض ما أوحى. وفي (ج) : أوحى إليه في بعض.

(٤) في (أ) : في مصر. وفي إنجيل متى (وبعد ما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا : قم ـ

وقالوا في إنجيلهم : (فلما مات هيردوس أوحى الله إلى يوسف أن قد مات فانطلق بعيسى وأمه إلى أرض إسرائيل) (١) وزعموا أن هذا كله موجود عندهم فيما في أيديهم من الإنجيل ، وأنه لما قدم بهما يوسف سمع أن كيلادوس ملك من اليهود بعد أبيه ، ما كان يملك أبوه ، ففزع لعيسى وأشفق عليه ، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : (أن امض إلى جبل الجليل فكن فيه ، فخرج حتى نزل منه في مدينة يقال لها : ناصرة). تصديقا لما أوحى الله به قديما في بعض كتبه.

وفيما ذكر من عيسى وأمره في أنه : «يكون ويدعا ناصريا» ، (٢) وبذلك يرى ويدعا كل من تنصّر نصرانيا.

فلما كبر عيسى وظهر (٣) في أيام يحيى ، وكان يحيي صلى الله عليهما ممن أجابه وصار إليه ، فأمره بالتطهر (٤) والاغتسال في نهر الأردن ، وكان ذلك تطهرة من الخطايا لمن تاب وآمن ، فقال فيما زعموا من إنجيلهم : (أنا أطهركم كما ترون بالماء والذي يأتيكم على أثري ، هو (٥) أكرم على الله مني ، وهو الذي يجعل الله به (٦) المذراة ، فلا يودع خزائنه إلا الحبوب المطيبة المنقاة ، وما بقي بعد ذلك من الغرابلة والتبن ، وما

__________________

ـ وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك ، لأن هيردوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه ، فقام وأخذ الصبي ليلا وانصرف إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيردوس ، لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني) في (متى ٢ / ١٣ ـ ١٤).

(١) نص الإنجيل هكذا : (فلما مات هيردوس إذا ملاك الرب قد ظهر وحلم ليوسف في مصر قائلا : قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل). إنجيل متى ٢ / ١٩ ـ ٢٠.

(٢) في (أ) و (د) : ناصرا. وفي إنجيل متى (ولكن لما سمع أن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيردوس أبيه ، خاف أن يذهب إلى هناك ، وإذ أوحى إليه في حلم : انصرف إلى نواحي الجليل ، وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة ، لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه سيدعى ناصريا). إنجيل متى ٢ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) سقط من (أ) و (ب) و (د) : وظهر.

(٤) في (أ) و (د) : بالتطهرة. وفي (د) : بالتطهير.

(٥) في (ج) : فهو.

(٦) في (ج) : يجعل الله بيده المذراة.

ليس بذي قيمة ولا ثمن ، يحرق بالنار التي لا تخمد ، حيث يبقى التحريق ويخلد) (١).

فلما سمع عيسى بأخبار يحيى صلى الله عليهما وعلى جميع النبيين ، وما يصنع من تطهيره للمؤمنين ، (أقبل إلى يحيى من جبل الخليل (٢) ليصبغه بالماء ويطهره ، فكره يحيىعليه‌السلام مجيئه لذلك ـ زعموا (٣) ـ وأمره ، وقال له يحيى عليه‌السلام : بي إليك فاقة ، وتجيء إلي أنت تطلب الطهارة ، فقال عيسى ، صلى الله عليه وعلى أخيه يحيى : دعنا الآن من هذا فإنه هكذا ينبغي لنا أن نستتم خلال البر كلها ، أو كل ما قدرنا عليه منها ، فتركه يحيى حينئذ فاغتسل ، وعمل في (٤) ذلك ما أراد أن يعمل). (٥)

(ثم سمع بقتل اليهود ليحيى فانطلق إلى أرض الجليل (٦) فسكن في كفر ناحوم يتفيأ من حد زبولون) (٧). (وثم أوحى الله ـ زعموا ـ فيه (٨) إلى شعيب (٩) صلى الله عليه ، في مصير عيسى من زبولون إلى ما صار إليه ، وكان في مصيره إليها ومقامه بها سيارا يسيح في أرض الجليل ، يبشر (١٠) ويعلّم ما يجب لله كلّ جيل وقبيل ، ويبرئ كل مرض

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : (أنا أعمدكم بماء التوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس وناره الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ). إنجيل متى ٣ / ١١ ـ ١٢ وإنجيل لوقا الإصحاح الثالث ١٨١٦.

(٢) في (ج) : الجليل.

(٣) سقط من (ج) و (د) : زعموا.

(٤) في (ج) : فاغتسل وعمل من ذلك.

(٥) نص الإنجيل هكذا : حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه ، ولكن يوحنا منعه قائلا : أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي ، فأجاب يسوع وقال له : اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ، حينئذ سمح له ، فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء. إنجيل متى الإصحاح الثالث ١٧١٣.

(٦) في (أ) و (ب) و (د) : إلى أرض الخليل.

(٧) نص الإنجيل هكذا : ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل وترك الناصرة ، وأتى فسكن في كفر ناحوم التي عند البحر في تخوم ، زبولون ونفتاليم. إنجيل متى الإصحاح الرابع ١٤١٢.

(٨) سقط من (ج) : فيه.

(٩) في (ج) : إلى شعيب النبي.

(١٠) في (أ) و (د) : في أرض الخليل. وفي (د) : ينشر.

ووجع في (١) بني إسرائيل ، حتى سمع بفعاله ، وتبشيره ومقاله ، في كل ناحية وأرض ، وأتي بكل ذي وجع ومرض ، من البرصى والمجانين ، والكمه والمقعدين ، فأبرأهم بإذن الله من أمراضهم المختلفة الهائلة ، وانطلقت على إثره جموع كثيرة من كل قبيلة ، من أرض الجليل،(٢) ومن المدائن العشر وأهل بيت المقدس ومن عبر الأردن (٣).

[وصايا المسيح عليه‌السلام]

(فلما رأى عيسى صلى الله عليه تلك الجموع وما اجتمع منها إليه ، صعد على جبل مرتفع فارتفع عليه ، ليسمع قوله كل من اجتمع فلما علا قعد عليه (٤) أدنى منه حوارييه ، ثم قال : طوبى بالروح عند الله غدا للمساكين ذوي التقوى ، كيف يكون ثوابهم في ملكوت الله ودار الإقامة والمثوى ، طوبى للمحزونين على خطاياهم في الدنيا ، كيف يغفر الله لهم خطاياهم غدا ، طوبى للمتواضعين لله كيف يرثون أرض الله ، طوبى للجياع العطاش في الله بالبر ، كيف يشبعون ويروون في يوم البعث والحشر ، طوبى للرحماء في الله ، كيف يفوزون برحمة الله ، طوبى للنقية قلوبهم ، إذا نظروا إلى ربهم ، كيف يصنع غدا بهم ، وكيف ينتفعون عنده بكسبهم ، طوبى لعمال السلام لله ، كيف يدعون أصفياء الله ، طوبى للذين يطردون لأعمال البر ، كيف يملكون في ملك السماء إلى آخر الدهر.

ثم قال صلى الله عليه ، لمن أجابه ولحوارييه : طوبى لكم إذا أنتم عيّرتم وطرّدتم فيّ

__________________

(١) في (ب) و (د) : من.

(٢) في (أ) و (ج) : أرض الخليل.

(٣) نص الإنجيل هكذا : وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب ، فذاع خبره في جميع سورية ، فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة ، والمجانين والمصروعين والمفلوجين فشفاهم ، فتبعته جموع كثيرة من الجليل ، والعشر المدن وأورشليم واليهودية ، ومن عبر الأردن. إنجيل متى الإصحاح الرابع / ٢٥٢٣.

(٤) في (أ) و (ب) و (د) : فلما صعد عليه. وفي (ج) : عليه ثم أدنى.

وعليّ ، وقيل لكم قول السوء والكذب من أجلي ، عندها فليعظم فرحكم لما عظّم الله في السماء من نوركم ، وذخر عند الله في الآخرة لكم (١) من أجوركم ، فإن تظلموا فقبلكم ما (٢) ظلمت الرسل والأنبياء ، أو يكذب عليكم فمن قبل ما قيل على الله الكذب والافتراء ، أنتم ملح الأرض فإذا أنتن الملح فبم يملّح ، فحينئذ لا يصلح إلا أن يرمى به ويطرح ، فيكون شيئا ملقى ، وتراب أرض يوطأ ، أنتم نور العالم (٣) الذي لا يخفى على من يبصر ويرى ، وهل تستطيع مدينة ظاهرة على جبل أن تخفى أو تتوارى ، وهل يسرّج السراج فيحمل (٤) تحت الأغطية ، لا ولكن يحمل فوق المنارة العالية ، لكي ينير فيضيء ، ويظهر فلا يختفي ، وكذلك أنتم تنيرون للناس بنوركم المضيء ، لينظروا عيانا إلى عملكم الرضي ، لتحمدوا الله ربكم الذي زكاكم ، وأعطاكم من توفيقه ما أعطاكم ، ألا ولا يظنن أحد أني جئت لدفع التوراة والإنجيل والأنبياء ، ولا لنقض شيء جاء عن الله من جميع الأشياء ، ولكني جئت لتمام ذلك كله ، ولتصديق جميع ما أمر الله فيه ورسله ، (٥) بل أقول لكم قولا حقا ، وأنبئكم نبأ فافهموه صدقا ، أنه لا تغيّر من آيات الله كلها آية ولا تنتقض ، إلى أن تتغير وتفنى السماوات والأرض ، ومن نقض من آيات الله آية ، أو غيّر من أصغر وصاياه وصية ، فعلّمها أحدا من الناس مبدّلة مغيّرة ، صغيرة كانت الآية والوصية أو كبيرة ، دعي في ملكوت الله خسيسا ناقصا ، ومن علّمها كما أنزلت كان في الآخرة تاما خالصا.

وحقا أقول لكم : لئن لم تكونوا من الأبرار ، ويكن بركم أفضل من بر الكتبة والأحبار ، لا تدخلون غدا في ملكوت الله الغفار. ألا وقد سمعتم (٦) في التوراة ألّا تقتلوا النفس المحرمة ، (٧) ومن قتلها فقد استوجب في الدنيا العقوبة المؤلمة ، وأنا فإني أقول

__________________

(١) سقط من (أ) : لكم.

(٢) ما ، زائدة معروفة في لغة الإمام.

(٣) في (أ) و (ب) و (د) : العلم.

(٤) سقط من (أ) و (ب) و (د) : فيحمل.

(٥) سقط من (أ) و (ب) و (د) : ورسله.

(٦) في (ج) : سمعتم أن قيل في.

(٧) في (ج) : النفس المجرمة.

لكم : إن من قال لأخيه ، كلمة قبيحة تؤذيه ، فقد استوجب العقوبة ، إلا أن يحدث لله منها توبة ، ومن قال لأخيه ليعيره : إنك لأرغل لم تختتن ، فقد استوجب في الآخرة نار جهنم ، بل من قرب منكم قربانه على المذبح وأدناه وقربه (١) ليذبحه ، ثم ذكر أن أخاه واجد عليه فليدع قربانه وليذهب إلى أخيه فيصالحه.

ألا وقد قيل في التوراة : لا تكذبوا إذا حلفتم ، ولكن اصدقوا إذا حلفتم بالله وأقسمتم ، وأنا فإني أقول لكم : لا تحلفوا بشيء من الأشياء ، ولا تقسموا طائعين بقسم ولا إيلاء ، (٢) لا تحلفوا بالسماء التي هي (٣) مكان كرسي الله ، وفيها يكون ملائكة الله ، ولا بالأرض التي هي منزل رحمة الله وآياته ، (٤) ولا بحياة شيء ، ولا برأس آدمي ، ولكن ليكن كلامكم نعم (٥) وكلا ، فيما تقولون وبلى ، وما كان سوى ذلك فهو من السوء ، [والقول الباطل] والهزوء ، ومن سأل أحدكم شيا ، فليعطه وإن كان نفيسا عليا (٦).

ألا وقد سمعتم أن قيل : أحبوا أولياءكم ، وأبغضوا من الناس أعداءكم ، وأنا أقول لكم أحبوا في الله أعداءكم ، وبرّكوا منهم على من لعنكم وآذاكم ، وأحسنوا منهم إلى مبغضيكم ، وصلوا منهم من يؤذيكم ، لكي تكونوا من أصفياء الله ، ولتفوزوا بالكرامة والرضا من الله ، الذي يطلع شمسه على المتقين والفجرة ، وينزل أمطاره على الظالمين والبررة ، فإن كنتم إنما تحبون من يحبكم ، فأي أجر حينئذ لكم ، أو ليس المكسة والعشارون ، كذلك فيما بينهم يفعلون.

ألا ولا تراءوا الناس بالصدقة والزكاة ، ولا بما تصلونه لله من الصلاة ، فتحبطوا أعمالكم في ذلك لله بالرياء ، وتتوفوا أجرها في عاجل هذه الدنيا ، ولكن لتكن

__________________

(١) سقط من (ج) : وقربه.

(٢) في (ج) : بقسم ولا إبلاء.

(٣) سقط من (ج) : هي.

(٤) لعل هنا سقطا.

(٥) في (ج) و (د) : زيادة : نعم ولا.

(٦) في (ج) : غليا.

صدقتكم لله فيما بينكم وبين الله خفية وسرا ، فإن الله ربكم الذي يرى سركم هو يجعلها لكم علانية جهرا ، وإذا كنتم في صلاة لله أو خشوع ، فلا تقوموا بذلك في السكك والجموع ، كالمرائين للناس بما هم فيه لذلك من حالهم ، فحقا أقول لكم لقد توفّى أولئك جزاء أعمالهم.

وإذا صليتم فلا ترفعوا أصواتكم ودعاءكم طلبا للرياء ، فإن الله يعلم قبل أن تسألوه ما تحتاجون إليه من الأشياء ، ولكن إن صليتم فلله وحده فصلوا ، وإذا حكمتم في أرضه بحكم فاعدلوا ، وقولوا ربنا الذي في السماء تقدس اسمك وحكمتك ، وعظم ملكك وجبروتك ، أظهر حكمك في أرضك كما أظهرته في سمائك ، وارزقنا طعام فاقة يومنا ، واغفر لنا سالف جرمنا ، كما نغفر لمن ظلمنا ، واعف عنا برحمتك وإن أجرمنا ، ولا تبتلنا ربنا بالبلاء ، وخلّصنا من مكاره الأسواء ، فإن لك الملك والقدرة ، ومنك الحكم والمغفرة ، أبد الآبدين ، ودهر الداهرين.

واعلموا أنكم إن غفرتم للناس ما بينهم وبينكم ، فإن الله سبحانه يغفر لكم ، وإذا صمتم فلا تغيروا وجوهكم ، ليعلم الناس صومكم ، ولكن إذا صمتم فاغسلوا وجوهكم وادهنوا رءوسكم ، لكيما (١) لا يعلم الناس صومكم ، فإن الله الذي صمتم له سرا ، هو يجزيكم بصومكم علانية جهرا.

ألا ولا تخزنوا خزائنكم ، ولا تجعلوا في الأرض ذخائركم ، فإن ما في الأرض يفسده السوس وتأكله الأرضة ، وتعرض له الآفات وتناله السرقة ، ولكن اخزنوا خزائنكم ، واجعلوا ذخائركم في السماوات العلى ، حيث لا يفسد منها شيء ولا يبلى ، بسرقة ولا آفة معترضة ، ولا يناله أكل سوس ولا أرضة ، فحقا أقول لكم : أن حيث تكون خزائنكم وذخائركم ، فهنالك (٢) تكون قلوبكم وضمائركم.

واعلموا أن سراج الجسد العين فإن كانت العين نيرة مضيئة كان الجسد نيرا مضيا ، وإن كانت العين عمية مظلمة كان الجسد مظلما عميا ، وإذا كان النور الذي

__________________

(١) في (أ) : لكي لا.

(٢) في (أ) و (ب) و (د) : هنالك.

فيكم مظلما لا يبصر ولا يعلم ، فكم (١) ترون ظلمة حواسكم وقلوبكم أعمى وأظلم.

واعلموا أن الله لم يجعل لأحد في جوفه من قلبين ، وأنه لا يستطيع أحد منكم أن يعبد ربين ، لأنه لا بد له من أن يكرم أحدهما ويجله ، فيقصر بالآخر عن الكرامة ويغفله ، أو يهين أحدهما ويحقره ، فيجل الآخر ويكبره.

وكذلك لا تستطيعون أن تعبدوا الله وتعزروه ، وتسعوا للمال فتجمعوه وتكثروه ، ومن أجل ذلك فإني أقول لكم : لا تهتموا بما تأكلون ، ولا بما تشربون ، ولا ما تلبسون ، أليس ما خلق الله لكم من الجوارح والأجسام؟! أكرم وأجل وأكبر من الشراب والطعام! أو ليس ما خلق الله لكم من الأنفس؟! آثر عند الله من الثياب والملبس!

انظروا إلى طير الأرض والسماء ، وما خلق الله من دواب الماء ، التي لا يزرعن زرعا ولا يحصدنه ، ولا يدخرنه في الأهواء ولا يحشدنه ، والله ربكم الذي في السماء ، يرزقهن في كل يوم ما يصلحهن من الغذاء.

وانظروا إلى عشب البرية الذي لم ينسج ولم يغزل ، ولم يعن منه بشيء ولم يعتمل ، كيف يلبسه الله في حينه كل لون زينة تبهجه! أو حسنا أو نورا ، (٢) فأنا أقول لكم إن سليمان بن داود في كل ما كان فيه من ملكه وسلطانه ، ما كان يقدر على أن يلبس لونا واحدا مما ألبسه الله العشب من ألوانه ، فإن كان العشب في حين تنويره ذا بهجة ونور ، فعما قليل وبعد يسير ما يجعل وقودا للتنور.

ثم الله تبارك وتعالى اسمه يلبسه من البهجة والنور ما لم يلتمسه فيكم ، فكم ينبغي لكم يا ناقضي الأمانة ألا تهتموا فتشتغلوا ولا تكثروا من القول لأنفسكم ولا لغيركم؟! فتقولوا ما نأكل وما نشرب؟! وما نلبس وأين نذهب؟! كأنكم بما قلت من هذا لا توقنون ، فكل هذه الشعوب التي ترون ، تبتغي ذلك ولا تبتغوا منه ما يبتغون ، فإن ربكم الذي في السماء يعلم ما ينبغي لكم من قبل أن تسألوه إياه ، ولكن ابتغوا

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : فيكم. وفي (ج) : فبكم ، ولم يظهر لها معنى ويبدو أن الصواب ما أثبت ، سيما ونص الإنجيل هكذا (فإن كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون) والله أعلم.

(٢) لعل هنا سقطا.

طاعة الله ورضاه.

فأما ما ذكرت من هذا كله فهو يعطيكموه ويعطيه ، من لا يرضى عليه ، فلا تشتغلوا بغد وما بعده من شغله ، فحسب غد أن يقوم بشغل أهله ، وكفى يومكم في غده ، بما في غد من كده.

ألا ولا تعسفوا أحدا بظلم فإنكم كما تدينون تدانون ، والمكيال الذي تكيلون به تكتالون ، فما بال أحدكم يرى القذى في عين أخيه؟! ولا يرى السارية الشامخة في عينيه! أم كيف يقول لأخيه : اتركني أنزع من عينك قذاها! والسارية الشامخة التي في عينيه لا يراها!

أيا مخادعا ملقا ، ومخاتلا لغيره مسترقا ، أخرج السارية أولا من عينيك ، ثم التمس بعد إخراجها من عين غيرك.

ألا واسمعوا مني ، وافهموا ما أقول عني : لا ترموا بقدس الصواب ، بين نوابح الكلاب ، ولا تقذفوا بلؤلؤكم المنير ، بين عانات (١) الخنازير ، فلعلهن أن يدنسنه ، وينتن ما ألقيتم بينهن منه ، ألا واسألوا تعطوا ، وابتغوا تجدوا ، واقرعوا يفتح لكم فكل سائل يعطى ، ومبتغ يجد ما ابتغى ، وكل من استفتح يفتح له ، وأي امرؤ منكم يسأله حبيبه أو ابنه برّا أو خيرا؟ فيعطيه مكان ما سأله من ذلك حجرا! أو يسأله سمكة؟ فيعطيه حية مهلكة! فإن كنتم وأنتم أنتم في النقص والتقصير ، ومنكم كل ظالم وشرير ، تعطون العطايا الصالحة أبناءكم ، وتجيبون عند الدعاء والمسألة أحباءكم ، فكم ترون لله في ذلك؟! وإذ الأمر كذلك ، من الزيادة عليكم فيه ، للذي تسألونه وترغبون إليه.

وانظروا كما تحبون أن يفعله الناس بكم فافعلوه إليهم ، وكما تريدون العدل من الناس عليكم فكذلك فاعدلوا عليهم ، وإن تلك سنة الرسل والأنبياء ، وميزان عدل الله في الأشياء ، ألا وادخلوا لله وفي الله باب الضيق والمخاوف ، فإن باب الأمن والسعة بمعصية الله سبب الهلكة والمتالف ، ولكثير ممن يدخله ويؤثره ، ممن يبصر ذلك ومن لا يبصره ، وما أضيق المدخل والباب! وأغفل السبيل والأسباب! التي تبلّغ العباد الحياة ،

__________________

(١) العانة : الأتان ، والقطيع من حمر الوحش.

وتوجب للناس النجاة ، وأقل من يجدها! ويسهل له وردها!

ألا واحتفظوا من كذبة أولياء الشيطان ، الذين يراءون الناس بلباس الحملان ، وهم مع ذلك ذئاب ضارية ، وقلوبهم مستكبرة عاصية ، فلا تغتروا بظاهر حالهم ، ولكن اعرفوهم من قبل أعمالهم ، فهل يخرج من الشوك عنب؟! أو من الحنظل رطب؟! لا لن يكون أبدا ذلك! ولن يوجد كذلك! ولكنه يخرج من كل شجرة طيبة ثمرة طيبة ، ويخرج من كل شجرة خبيثة ثمرة خبيثة ، وإنما تعرف الشجرة الخبيثة من قبل خبث ثمرها ، فإذا كانت كذلك خبيثة أوقدت النار بها ، وكذلك العمل إذا كان شيئا غيا ، فلا يكون صاحبه إلا مسيئا غويا.

وليس كل من يقول : ربي ربي بإقراري والدعاء! يدخل يوم القيامة في كرامة ملكوت السماء ، إلا أن يكون ممن عمل في دار الدنيا ، بما حكم الله عليه به من التقوى ، ولكثير في ذلك اليوم من يقول ربنا باسمك هدينا وسعينا ، وباسمك أخرجنا من الشياطين ما أخرجنا ، وباسمك أمورا كثيرة من العجائب صنعنا ، ثم يقول الله لهم في ذلك اليوم : تأخروا عني يا عمال الزور.

وقال صلى الله عليه : اعلموا أنه من سمع كلامي ، فعمل بما سمع وقبله عني ، فمثله كمثل رجل ذي لب وحكمة ، بنى بيته (١) على أساس من حجر محكمة ، فلما جاءت الأمطار ، وخرّت فأعظمت الأنهار ، (٢) وتهيجت الرياح الكبار ، جعل ذلك ينطح من كل جدر ، (٣) فلم يسقط البيت ولم يخرّ.

ومثل من سمع (٤) كلامي بغير تسليم ولا تقبّل ، كمثل رجل ذي حماقة وجهل مضلل ، بنى بيته (٥) على جرف منهار ، أو رمل كثير هيال ، فلما جاءت الأمطار ودرّت ، وتحركت الأنهار فجرت ، وعصفت الرياح فأعصرت ، خر بيته منقعرا ، وسقط سقوطا

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : بنية.

(٢) سقط من (أ) : فأعظمت الأنهار.

(٣) في جميع المخطوطات : جدار. وما أثبت اجتهاد.

(٤) في (ج) و (د) : يسمع.

(٥) في (أ) و (ب) و (ج) : بنية.

مفزعا مذعرا.

قالوا فلما فرغ من كلامه هذا كله ، عجب من حضره من حكمته فيه وقوله ، ثم لا سيما الكتبة والأحبار ، فإنهم كانوا أعجبهم به (١).

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه ، ففتح فاه وعلمهم قائلا : طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السماوات ، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون ، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض ، طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون ، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون ، طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله ، طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون ، طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات ، طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين ، افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات ، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم ، أنتم ملح الأرض ، ولكن إن فسد الملح فبما ذا يملح ، لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجا ويداس من الناس.

أنتم نور العالم ، لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل ، ولا يوقدون سراجا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت ، فليضئ نوركم هكذا قدام الناس ، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات ، لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعا أصغر في ملكوت السماوات ، وأما من عمل وعلّم فهذا يدعا عظيما في ملكوت السماوات.

فإني أقول لكم إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات ، قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ، ومن قتل يكون مستوجب الحكم ، وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ، ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ، ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم ، فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك ، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك ، وحينئذ تعال وقدم قربانك.

كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق ، لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي ، ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى في السجن ، الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير ، سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك ، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة ، لا ـ

__________________

ـ بالسماء لأنها كرسي الله ، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء ، بل ليكن كلامكم نعم نعم ، لا لا ، وما زاد على ذلك فهو من الشرير.

سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا ، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا ، ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين ، ومن سألك فأعطه ، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ، سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبعض عدوك ، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات ، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ، ويمطر على الأبرار والظالمين ، لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم ، أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك؟! وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون ، أليس العشارون أيضا يفعلون هكذا؟! فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي هو في السماوات كامل.

احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم ، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات ، فمتى صنعت صدقة فلا تصوّت قدامك بالبوق كما يفعل المراءون في المجامع ، وفي الأزقة لكي يمجدوا من الناس ، الحق أقول لكم : إنهم استوفوا أجرهم ، وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك ، لكي تكون صدقتك في الخفاء ، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية ، ومتى صليت فلا تكن كالمرائين ، فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس ، الحق أقول لكم : إنهم قد استوفوا أجرهم ، وأما أنت فمتى صليت فادخل في مخدعك واغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء ، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية ، وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم ، فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم ، فلا تتشبهوا بهم ، لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه ، فصلوا أنتم هكذا : أبانا الذي في السماوات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك في الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير ، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد ، آمين.

فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي ، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم ، ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين ، فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين ، الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم ، وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك ، لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء ، فأبوك الذي يرى في الخفاء ـ

__________________

ـ يجازيك علانية.

لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ ، وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون ، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا ، سراج الجسد هو العين ، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا ، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلما ، فإن كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون؟!

لا يقدر أحد أن يخدم سيدين ، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر ، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر ، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ، ولا لأجسادكم بما تلبسون ، أليست الحياة أفضل من الطعام ، والجسد أفضل من اللباس ، انظروا إلى طيور السماء ، إنها لا تزرع ولا تحصد ، ولا تجمع إلى مخازن ، وأبوكم السماوي يقوتها ، ألستم أنتم بالحري أفضل منها ، ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة ، ولما ذا تهتمون باللباس ، تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو ، لا تتعب ولا تغزل ، ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها ، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا ، أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم يا قليلي الايمان ، فلا تهتموا قائلين ما ذا نأكل؟ أو ما ذا نشرب؟ أو ما ذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم ، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها ، لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره ، وهذه كلها تزاد لكم ، فلا تهتموا للغد ، لأن الغد يهتم بما لنفسه ، يكفي اليوم شره.

لا تدينوا لكي لا تدانوا ، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون ، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ، ولما ذا تنظر القذى الذي في عين أخيك ، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟! أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك ، وها الخشبة في عينك ، يا مرآئي أخرج أولا الخشبة من عينك ، وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك.

لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير ، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم ، اسألوا تعطوا ، اطلبوا تمجدوا ، اقرعوا يفتح لكم ، لأن كل من يسأل يأخذ ، ومن يطلب يجد ، ومن يقرع يفتح له ، أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزا يعطيه حجرا ، وإن سأله سمكة يعطيه حية ، فإن كنتم وأنتم أشرارا تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة ، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه ، فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم ، افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم ، لأن هذا الناموس والأنبياء.

ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك ، وكثيرون هم الذين يدخلون منه ، ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ، وقليلون هم الذين ـ

وفي أناجيلهم أنه قال عليه‌السلام : لحقا أقول لكم أيها الناس والكتبة والأحبار ، إنّ كثيرا من المشرق والمغرب يجيء يوم القيامة والجزاء ، يتكئ مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء ، وإن كثيرا ممن يزعم أنه ابن لهم يقصى عنهم مع الظلمة في النار ، ثم يكونون مخلدين أبدا في البكاء وتحريق الأستار (١).

وفي أناجيلهم : أن رجلا من الكتبة جاءه فقال : إني أحب أن أتبعك ، وأكون حيث كنت معك ، فقال عليه‌السلام : لثعالب الوحش مغار ، ولطير السماء أوكار ، وأنا فليس لي منزل ولا قرار أقر إذا قروا فيه ، ولكلّ مأوى وليس لي مأوى آوي إليه (٢).

__________________

ـ يجدونه ، احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة ، من ثمارهم تعرفونهم ، هو يجتنون من الشوك عنبا ، أو من الحسك تينا ، هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة ، وأما الشجرة الرديئة فتصنع أثمارا رديئة ، لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا رديئة ، ولا شجرة رديئة أن تصنع أثمارا جيدة ، كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار ، فإذا من ثمارهم تعرفونهم.

ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات ، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم : يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا ، وباسمك أخرجنا شياطين ، وباسمك صنعنا قوات كثيرة ، فحينئذ أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط ، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم ، فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها ، أشبهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر ، فنزل المطر وجاءت الأنهار ، وهبت الرياح ، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط ، لأنه كان مؤسسا على الصخر ، وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها ، يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل ، فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط ، وكان سقوطه عظيما. فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه ، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان ، وليس كالكتبة. إنجيل متى الإصحاح الخامس / ٢٠١ ثم ٣٢ إلى آخر الإصحاح السابع.

(١) نص الإنجيل هكذا : وأقول لكم : إن كثيرين سيأتون غدا من المشارق والمغارب ، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، في ملكوت السماوات ، وأما بنوا الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. إنجيل متى الإصحاح الثامن ١٣١٢. لوقا ١٣ / ٣٠٢٧.

(٢) نص الإنجيل هكذا : فتقدم كاتب وقال : يا معلم اتبعك أينما تمضي. فقال يسوع للثعالب أوجرة ، ولطيور السماء أوكار ، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. إنجيل متى الإصحاح الثامن / ١٩ ـ

وفي أناجيلهم : أن رجلا من حوارييه قال له : يا معلمي ائذن لي أذهب فأدفن أبي ، فقال له : تعالى اتبعني وكن معي وعلى أثري ، واترك الأموات يدفنون موتاهم ، ففيهم لدفنهم ما كفاهم (١).

تم والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ، وعلى أهله الطيبين ، وسلم عليهم أجمعين.

* * *

__________________

٢١. إنجيل لوقا ٩ / ٦١٦٠.

(١) نص الإنجيل هكذا : وقال له آخر من تلاميذه : يا سيد ائذن لي أن أمضي ، وأدفن أبي ، فقال له يسوع اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم. إنجيل متى الإصحاح الثامن ٢١ ـ ٢٣. وإنجيل لوقا ٩ / ٥٧ ـ ٥٩.

كتاب المسترشد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي لا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأقطار ، الذي لم تهجم (١) عليه العقول بفكرها ، ولا الفكر بمحالها (٢) ولا الألباب بتدبيرها ، الذي لم ينفصل من المخلوقين فيكون منهم بعيدا ، ولم يتصل بهم فيكون لهم مخالطا.

إن سأل سائل ذو حيرة (٣) عن قول الله عزوجل : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ٤]. وتوهم أن الله تبارك وتعالى ارتفع في مكان دون الأماكن!! وعاب من قال : إن الله بكل مكان ، وقال : أيصعد من الله إلى الله!! إذ (٤) قال إنه في السماء وفي الأرض.

فجوابنا في ذلك أن الله تبارك وتعالى في الأماكن كلها ، مدبر لها حافظ قائم عليها ، لم تحوه ولم تحط به ، ولا نقول يصعد منه إليه ، فنصفه بالغاية والتحديد ، وأنه سبحانه في مكان دون مكان ، ولكنّا نقول : إن الله تبارك وتعالى خلق ملائكته ، وتعبدهم بما شاء ، فكلف بعضهم نقلة (٥) الأخبار من السماء إلى الأرض ، ونقلة الأخبار من الأرض إلى السماء ، وأنه خلق السماء فأسكنها ملائكته لعبادته (٦) بعضهم ينسخ أعمال الآدميين ، ووكل بعضهم رقيبا وحافظا على الملائكة التي وكّلت بنسخ أعمال الآدميين ، وكذلك قالت الملائكة صلوات الله عليهم (٧) : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)) [الصافات : ١٦٤]. أي : ما وكّلوا به من صنوف التعبد ، وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ٤]. معناه في الآية الأخرى ، مثل قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٩٩)

__________________

(١) في (ب) : لا. ولم تهجم أي : لم تنته إليه. قال أمير المؤمنين : هجم بهم العلم على حقائق الأمور ، فباشروا روح اليقين.

(٢) في (ب) و (د) : بمجالها. والمحال : الشدة والكيد والتدبير.

(٣) في (ب) : خبرة (مصحفة).

(٤) في (ب) : أن.

(٥) الاسم من الانتقال.

(٦) سقط من (أ) : لعبادته.

(٧) في (أ) و (ج) : عليها.

[الصافات : ٧٧]. ولم يبرح الأرض في حال ذهابه إلى ربه ، وقد كان الله معه.

وقد قال لكليمه موسى وأخيه (١) هارون صلى الله عليهما : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٣٨]. وذهاب إبراهيم صلى الله عليه إلى ربه ، في الحالة التي ربه معه فيها ، وإنما معناه في ذهابه إلى ربه ، توجهه إليه بعبادته ، وتشاغله عما (٢) سواه.

وكذلك توجيه الملائكة بصعود أعمال العباد إلى الموضع من السماء الذي (٣) تعبدت به ، ولتصعد بأعمال العباد إليه ، وإنما توجهت بتلك العبادة إلى الله ، كما ذهب إبراهيم إلى ربه ، بمعنى توجهه بعبادته إليه.

ووجه آخر في الصعود ، هو القبول (٤) لذلك ، لأنك تقول لا يصعد إلى الله هذا الكفر ، ويقال : قد نسخت الملائكة أعمال الكافرين ، وصعدت بها إلى الله ، وهو لا يقبلها ، ولا تصعد إليه أعمالهم ، بمعنى لا يقبلها ، وكذلك قال الله عزوجل : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) بمعنى إنما يقبل الله الكلام الطيب بالعمل الصالح.

فإن لجّ (٥) السائل بالشغب فقال (٦) أيصعد من الله إلى الله؟!

قيل له لا. (٧) ولكن يصعد الكلم الطيب من المكان الذي لا يخلو منه الله ، (٨) إلى السماء التي فيها الله.

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولأخيه.

(٢) في (أ) و (ج) : عن. وفي (د) : عمن.

(٣) في (ب) و (ج) و (د) : التي.

(٤) أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة رضي الله عنه قوله : (الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : لا يقبل قول إلا بعمل. وقال الحسن : بالعمل قبل الله. الدر المنثور المنثور ٧ : ١٠. وقال أبو حيان : وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه ، لأنه تعالى ليس في جهة ، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود ، لأن الصعود يكون من الأجرام ، وإنما الصعود يكون من الأجرام ، وإنما ذلك كناية عن القبول. البحر المحيط ٧ / ٣٠٣. وقال ابن حجر العسقلاني : قال البيهقي : صعود الكلام الطيب ، والصدقة الطيبة ، عبارة عن القبول ، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء. فتح الباري (١٣ / ٥١٦).

(٥) في (ج) : تمادى في الخصومة. والشغب : تهييج الشر.

(٦) في (أ) : و. وفي (ج) : وقال.

(٧) سقط من (ب) : لا.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : لفظ (الله).

[معاني «في»]

والله على العرش استوى ، وهو عنه غير غائب وهو في السماوات العلى ، وفي الأرض ولم يغب عنه نجوى ، كذلك (١) قال في كتابه : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)) [الملك : ١٦]. فأخبر أنه في السماء ، وكذلك قال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤]. وكذلك قال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣].

و (في) : لها معان تختلف في اللغة ، ليس شيء في شيء (٢) إلا وهو لا يخلو من أحد هذه المعاني التي نحن ذاكروها إن شاء الله.

١ ـ إما أن تكون فيه ، بمعنى قول القائل : الناس في عامهم هذا مخصبون.

٢ ـ أو يكون الشيء في الشيء محويا كاللبن في وعائه.

٣ ـ أو يكون الشيء في الشيء كالحي في حياته.

٤ ـ ويكون الشيء في الشيء كالأبيض في بياضه.

٥ ـ ويكون الشيء في الشيء كالعبد في سلطان مولاه.

٦ ـ ويكون الشيء في الشيء كالمرابط في رباطه ، والغازي في غزاته ، والباني في بنائه.

فاعرف هذه اللغات ، كيف تتصرف في معانيها ، وتتوجه في تصاريفها.

٧ ـ وقد يكون أيضا معنى (٣) (في) : إنما هو مع. وفي القرآن مثل ذلك قول الله سبحانه : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ٣٨]. فمعنى قوله : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي مع أمم. وكذلك قال : (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) [الأحقاف : ١٨] ، يعني : مع أمم. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي

__________________

(١) في (أ) و (ج) : وكذلك.

(٢) سقط من (أ) : شيء في.

(٣) سقط من (ب) : معنى.

عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٤]. أي : مع عبادك الصالحين. وقال سبحانه : (فِي تِسْعِ آياتٍ) [النمل : ١٢] أي : مع تسع آيات. وقال : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] بمعنى : معهن.

٨ ـ ومعنى آخر من تأويل (في) : يكون تفسيره على ما قال الله تبارك : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] يعني : على جذوع النخل (١). وقال : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف : ٣٥]. يعني : عليها. وقال : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) [طه : ١٢٨ الأحزاب : ٢٦]. يعني : يمرون على قراهم.

٩ ـ ومعنى آخر من معاني (في) : يكون تفسيره إلى. وذلك قوله عزوجل : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧]. يعني : إليها.

١٠ ـ وقد يتجه تفسير (في) : إلى معنى آخر ، قال الله سبحانه في كتابه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) [الإسراء : ٧٢]. أي : عن هذه (٢) النعمة ، وعن ذكر آياتي ، فهو في الآخرة أعمى (٣).

١١ ـ وقد يتجه على معنى آخر ، في قول الله فيما (٤) أخبر عن فرعون ، وقوله لموسى عليه‌السلام : (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١] أي : عندنا ، وقال : (إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) [هود : ٩١]. بمعنى (٥) : عندنا.

وقال تبارك وتعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤]. فالمعنى في ذلك كله على المشاهدة والتدبير لا على أنه في شيء يحويه ، ولا على أنه مع شيء ملازق له

__________________

(١) سقط من (ب) : يعني على جذوع النخل.

(٢) سقط من (ب) : هذه.

(٣) أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس : (وَمَنْ كانَ) في الدنيا (أَعْمى) عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا (فَهُوَ) عما وصفت له في الآخرة ، ولم يره (أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) يقول : بغير حجة. الدر المنثور ٥ / ٣١٧.

(٤) في (أ) و (ج) : قوله فيما.

(٥) في (ب) و (د) : أي بمعنى.

ولا (١) أنه على شيء ، كما الانسان على السرير ، وعلى السطح ، وقد خلا منه ما هو أسفل من ذلك.

ومن ذلك قول الشاعر :

وصرنا خاليين وليس معنا

سوى رب البنيّة والمقام (٢)

فمن أنكر ذلك وزعم أن ربه في مكان دون مكان! سئل في أي مكان هو؟! فإن قال : على العرش.

قيل له : أو ليس العرش غير السماوات والأرض؟! فقوله : نعم.

فيقال له (٣) : كيف. قلت هو في السماء ، وقد زعمت أنه على العرش ، والعرش غير السماوات والأرض؟! وفي هذا ردّ لقول الله سبحانه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣].

وإن قالوا : إن العرش ليس في السماوات ، ولكنه فوقها ، عطلوا السماوات من العرش ، وفي تعطيلهم (٤) السماوات من العرش تعطيل ما قالوا هو العرش دون ما سواها.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولا على.

(٢) لم أقف على قائله.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : له.

(٤) في (ب) : تعطيلكم.

(الرد على من قال إن لله نفسا كنفس الإنسان)

إن سأل سائل ذو حيرة (١) عن قول الله عزوجل : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]. وعن قوله سبحانه : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام: ١٢]. وتوهم أن لله عزوجل نفسا كنفس الانسان ، وأنها جزء الجسم ، وأنها جوهر يقيم الأعراض؟

قيل له : إن معنى قول الله سبحانه في كتابه : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٤] ، أي : تعلم ما أعلم ولا أعلم الذي تعلم ، وكذلك قال عزوجل: (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، فالكاتب (٢) هو المكتوب عليه ، وهو الله عزوجل ، الكاتب والمكتوب عليه.

وإن زعم أن النفس معنى غير ذاته ، وزعم أنه شخص (٣).

سئل عما في النفس ، أهي النفس أم غير النفس؟!

فإن زعم أنها غير النفس ، زعم أن في ربه غير ربه ، وإن زعم أن الذي في النفس هي النفس! زعم أنه لا معنى لقوله (فِي نَفْسِي)!!

ويسألون هل كانت النفس وفيها ذلك الذي هو غيرها؟!

فإن زعموا أنه لم يزل ، جحدوا قول الله : (هُوَ الْأَوَّلُ) [الواقعة : ٧٧]. وإن زعموا أنها كانت ، وليس فيها ذلك الذي في النفس ، وأن ذلك محدث ، جحدوا أن يكون: كان عالما لم يزل.

واعلم أن للنفس في لغة (٤) العرب معاني ، فمنها ما يجوز على الله تبارك وتعالى ،

__________________

(١) في (ب) : حبرة (تصحيف).

(٢) في (ب) : فالكتاب. (تصحيف).

(٣) الشخص : سواد الإنسان وغيره تراه من بعد.

(٤) قال البيهقي : ومعنى قول من قال : الله سبحانه ، أنه نفس : أنه موجود ثابت غير منتف ولا معدوم ، وكل موجود نفس ، وكل معدوم ليس بنفس.

ومنها ما لا يجوز عليه.

فأما ما لا يجوز عليه : (١) فمعنى النفس التي هي الروح ، وما ذكر الله تعالى من قوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)) [التكوير : ٧]. فهذه النفوس هي أجزاء الإنسان التي هي أرواحهم. وقد قيل في اللغة [في] ذكر هذه النفس : فاضت نفس فلان ، يعنون : خروج روحه ، (٢) وهذا المعنى عن الله عزوجل منفي.

وقال الله عزوجل في كتابه ، يذكر النفس بغير هذا المعنى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء : ١ ، الأعراف : ١٨٩ ، الزمر : ٦] يعني : من آدم عليه‌السلام ، فسماه نفسا ، ولم يرد به روحه ، وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي) [الفجر : ٢٧ ـ ٢٨]. يعني : يا أيها الإنسان ، ولم يرد النفس التي هي الروح فقط ، وإنما أراد الحي الذي هو الإنسان ، وكذلك قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)) [المدثر : ٣٨]. أي : كل إنسان بما كسب رهين ، وقال : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٤٨]. يعني : أن يقول الانسان وقال : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٢]. يريد : الانسان. وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ الأنبياء : ٣٥ ، العنكبوت : ٥٧]. يعني : أن كل إنسان ميّت.

__________________

والنفس في كلام العرب على وجوه :

فمنها نفس منفوسة مجسمة مروّحة.

ومنها مجسمة غير مروحة. تعالى الله عن هذين علوا كبيرا.

ومنها نفس بمعنى إثبات الذات ، كما نقول في الكلام : هذا نفس الأمر ، نريد إثبات الأمر ، لا أن له نفسا منفوسة ، أو جسما مروحا ، فعلى هذا المعنى يقال في الله سبحانه : إنه نفس. لا أن له نفسا منفوسة أو جسما مروحا. وقد قيل في قوله عزوجل : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ). أي : تعلم ما أكنه وأسره ولا علم لي بما تستره عني وتغيبه ، ومثل هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). أي : حيث لا يعلم به أحد ولا يطلع عليه أحد. الأسماء والصفات / ٢٨٦.

(١) سقط من (أ) و (ب) و (ج) و (د) : فأما ما لا يجوز عليه.

(٢) في (ب) و (د) : خرج.

والعرب قد تقول للشيء الذي لا روح (١) له ولا شخص ، هذا نفس كلامك ، وهذا النور بنفسه.

وقال الشاعر :

قالت له النفس إني لا أرى طمعا

وإن مولاك لم يسلم ولم يصد

وقال آخر :

وهل نحن إلا أنفس مستعارة

تمر بها الروحات والغدوات

يعني هل نحن إلا أناسي مستعارون ، ولو أراد بذكر النفس معنى الروح لما (٢) جاز أن يسمى كله نفسا ، لأنه بدن ونفس.

وقال آخر :

وقد وفدت إليك بذات نفسي

قصائد يعترفن بما نشاء

يعني بقوله بذات نفسي ، أي : بي كما أنا. كما قيل في اللغة : جئتك بنفسي ، ولم يريدوا بقولهم معنى ثانيا ، هو غير جئتك ، لأنه إذا قيل : جئتك دل على الجائي تاما ، ولما قال بنفسي لم يرد معنى ثانيا هو غير المعنى الذي هو جئتك.

وقال آخر :

 .......................

وما لام نفسي مثلها لي لائم (٣)

قال الله عزوجل : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) [آل عمران : ٥٣]. يعني : نحن وأنتم ، وقال الله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]. فالمحذّر : هو : المحذّر منه ، يعني يحذركم

__________________

(١) في (أ) و (ج) : له بنفسه وكذلك يقولون للشيء الذي لا روح له ولا شخص.

(٢) سقط من (أ) : لما.

(٣) لم أقف على هذه الأبيات فيما لدي من كتب الأدب.

الله أي : يعذبكم ، كما قال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢]. وليس الكاتب غير المكتوب عليه.

* * *

(الرد على من زعم أن الله نور كالأنوار المخلوقة)

إن بعض الملحدين توهم (١) أن الله عزوجل نور كالأنوار المنبسطة ، وتوهم آخرون منهم أنه نور كالأنوار الكثيفة الساترة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقد رأينا مثل المعنيين اللذين توهموا من النور المنبسط ، والنور الكثيف الساتر ، فأما النور الكثيف الساتر ، فالبدر إذا هو كهر ، (٢) وكثف ، ستر من السماء عن أبصارنا بقدر استدارته ، ورأينا قرص الشمس كثيفا ساترا يستر الأبصار من السماء بقدر استدارته ، فأما النور المنبسط ، الذي تنفذه الأبصار فقد رأيناه ، (٣) من ذلك ضوء النهار ، ونور القمر ، وشعاع الشمس يدخل من الكوة ، فلا يستر (٤) أبصارنا لانبساطها ، ولا يكون ذلك ساترا لأبصارنا عما خلفه.

وأعلام العبودية في هذه الأنوار التي ذكرنا كلها بينة ، وذلك (٥) لأن النور الكثيف الساتر ضعيف لا يقدر على الزيادة في نفسه ، ولا الانتقاص لها ، ولا تقدر على الامتناع من العيون أن تدركها ، (٦) فالضعف لكل ما ذكرنا لازم ، وكذلك الضعف بيّن في الأنوار المنبسطة ، إذ لم يحجب الأبصار عن نفذها ومجاوزتها إلى ما خلفها ، فالضعف لكل ما ذكرنا لازم ، والله فيتعالى (٧) عن هذه المعاني ، أن يكون بشيء منها موصوفا ، لأنها مخلوقة ، وكل ما أشبه المخلوق فهو مخلوق ، وليس الخالق للشيء ، كالمخلوق في جميع المعاني كلها.

وأعلم أن النور له في الكتاب وفي (٨) اللغة معان ، يجري على الله عزوجل بعضها ،

__________________

(١) في (ب) و (ج) : زعم.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : قهر ، والكهر : الارتفاع.

(٣) في (أ) : رأينا.

(٤) في (ب) و (د) : فلا تستره.

(٥) سقط من (ب) و (د) : لأن.

(٦) كذا في جميع المخطوطات ولعلها (تدركه) لأن الضمير عائد على النور.

(٧) في (أ) و (ج) : فتعالى.

(٨) سقط من (ب) : في.

ولا يجري عليه بعضها ، فالذي يجري عليه منها ، هو ما قال الله في كتابه : (* اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٢].

يعني : الله ينير لعباده (١) دلائله التي يهتدون إليه بها ، لأن يعرفوه بما أبان ، ويعلمون أنه الحق بآياته المنيرة ، وأن يميزوا بها بين الخالق وخلقه ، والله نور الأنوار ، وهو منير لما (٢) نوّر من دلائله ، فهو نورها لأنه أضاء لنا (٣) الأشياء وأبانها ، وجلا عنها ظلمة الشبهة ، فأزال عنها الشكوك والريب ، بتجليتها للعقول ، أنه الحق المبين ، وأنه نور كل شيء ، وليس كمثله شيء. وكذلك (٤) أمرنا أن نصفه ، وبذلك دلنا على نفسه ، من غير أن نجاهر الله فتدركه الأبصار ، فاستنار لنا بتدبيره ، من غير مشاهدة منّا له ، ولا إحاطة به ، ولا إدراك من حواسنا له ، فهو نور السماوات والأرض ، ونور من فيهما ، بمعنى : (٥) الذي ذكرنا أن الحق من عنده ، وأن العباد به استناروا ، وبه استضاءوا ، وبه أبصروا ، إذ استضاء لهم سبحانه بنوره الذي عاينوا من خلق أنفسهم ، وتدبيره في ملكوت السماوات والأرض.

ومن لطائف الآيات التي لا يكون معها ريب ، ولا تدانيها الشكوك ، ولا تعتريها الفترات (٦) ، ولا تكون معها الغفلات ، فرأوا ربّهم بتدبيره ونوره وعلاماته ، لا بمجاهرة منهم له ، ولا بالمشاهدة والملاقاة ، تقدس الله عن ذلك ، وجل جلالا عظيما. وكذلك الله نور السماوات والأرض ومن فيها ، لأن عباده الذين هم سكان أرضه ، استناروا وعلموه بما عاينوه من نوره ، إذ دبّر الأرض ، وخلق فيها ما به أنار لهم ، إنه الله سبحانه ،

__________________

(١) أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق علي ، [كذا في الدر المنثور. ولعله يقصد عليا آخر غير الإمام علي عليه‌السلام] عن ابن عباس : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال : هادي أهل السماوات وأهل الأرض ، الدر المنثور ٦ / ١٩٧.

(٢) في (أ) و (ج) : بما نوره. وفي (د) : بمانور.

(٣) في (ب) : له.

(٤) في (ب) و (د) : كذلك.

(٥) في (أ) و (ج) : لمعنى.

(٦) الفترة : الانكسار والضعف.

فاستنار نوره بغير تحديد ، وعرفوه من غير تخيّل ، ووحدوه معروفا بغير (١) تشبيه ، بل عرفوا الله بعجيب آياته ، وبأثر دلالاته.

ومعنى آخر في تأويل قوله نور (٢) ، قد علّم العالمين ، أن الأشياء تدرك بحقائقها ، وتعلم بالاستيقان وإن كانت غائبة. (٣) فالله يعلم ويعرف ويميز (٤) بين ما يدرك بالمجاهرة ، وبين ما لا يدرك بها ، كالخشونة واللين ، والحمرة والبياض ، وما لا يدرك بالمجاهرة ، بالسمع والبصر والعقل [ك] الرّي (٥) والظمأ ، والشبع والسغب (٦) ، وما أشبه ذلك مما غيّب عن حواسنا ، وإن كنا قد أدركناه ، لعلمنا بما صرّفنا منه ربنا ، فيما أخبرنا عما غاب عنا من ملكوته.

واعلموا أن الله سبحانه وصف الآية التي هي نور ، مخبرا لعباده أن الله سبحانه لم يرد نفسه بقوله : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥]. ولم يمثل بالقنديل نفسه ، ولا بالمصباح تعالى عن ذلك ، وأي فضل في القنديل ، ليس في النجم الذي هو الزهرة ، فكيف يمثل نفسه بالقنديل ، ويترك ما هو أنور من القنديل وأحسن ، بل أي فضل (٧) في القنديل ليس في درّ الجنان! كيف (٨) يمثل نفسه بالقنديل؟! وهو يتعالى عن الزهرة ودرّ الجنان!

بل كيف يضرب الله لنفسه أمثالا مفضولة (٩) دون الفاضلة ، تعالى عن التمثيل والأشباه ، وتقدس عن ذلك. لكن الله سبحانه نور السماوات والأرض بما أبان لهم عن نفسه ، بخلقه لهم ، وبما له فيهم من التدبير ، الدال عليه ، فاستضاء عباده به إذ أضاء لهم

__________________

(١) في (أ) : من غير.

(٢) في (أ) و (ج) : من تأويل. وفي (ب) و (د) : نورا.

(٣) سقط من (ب) : وإن كانت غائبة.

(٤) في (أ) و (ب) و (د) : ويميز ما بين.

(٥) في جميع المخطوطات : والرأي ، وما أثبت اجتهاد مني.

(٦) السغب : الجوع.

(٧) في (ب) و (د) : فضل أحسن في.

(٨) سقط من (ب) : كيف.

(٩) في (ب) : مثلا مفضولا.

نفسه بخلقه لهم ، فلم يضل في مضلات الشبهة ، من استضاء بربه ، واستنار به ، فبانت الأعلام الهادية ، لمن استبان بها عن ربها ، فبان الله بها لمن استنار بها ، وكان الله نوره إذ اهتدى به ، وأحيا لنا القلوب بعد موتها بنوره ، إذ أنار لها فاهتدينا بها (١) إليه.

ومعنى آخر من معاني النور ، وهو مما لا يجوز على الله ، وهو ما ذكرنا من معنى الشمس الساترة ، وشعاعها المنبسط الذي ليس بساتر. ومعنى من معاني النور ، وهي النيران الكثيفة ، وهي في معاني قرص الشمس والقمر (٢). ومعنى من معاني النور ، وهو الإيمان (٣) ، لأن الإيمان نور ، وكذلك القرآن نور ، وقد سمى الله القمر نورا والشمس سراجا ، والإيمان نورا ، وقال : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الأحزاب : ٤٣ ، الحديد : ٩].

فهذه المعاني من الأنوار التي ذكرنا مميزة للعقول ، إذا ما نظروا إليها بها ، فأجروا على الله منها ما يجوز عليه ، وما جرى على العباد منها ، فعنه عزوجل نزهوا الله ولم ينسبوه (٤) إليه.

وأما تأويل : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [النور : ٣٢] فقد يجوز أن يكون عنى بذلك القرآن (٥) في غياهب (٦) الوساوس نيّرا مضيئا ، وبه يبطل كيد إبليس اللعين ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : به.

(٢) أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبر الأمر فيهما نجومها وشمسها وقمرها. الدر المنثور ٦ / ١٩٦.

(٣) في (ب) و (د) : هو.

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه عن أبي بن كعب : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، مَثَلُ نُورِهِ). قال : هو المؤمن الذي جعل الإيمان والقرآن في صدره فيضرب الله مثله. الدر المنثور ٦ / ١٩٧.

(٤) في (ب) و (د) : ينسبا.

(٥) سقط من (ب) : عنى.

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الحسن رضي الله عنه (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ). قال : مثل هذا القرآن في القلب (كَمِشْكاةٍ). قال الكوة. الدر المنثور ٦ / ١٩٩.

(٦) الغيهب جمع غيهب وهو : الظلمة.

وتوهيمه وخدعه ، فالقرآن في هذه الأماكن الموحشة ، كالمشكاة التي هي الكوة والمصباح في القنديل ينير (١) لما حوله ، ويضيء لمن دنا منه (٢).

وقد يجوز أن يكون الله عنى بقوله مثل نور النبي (٣) صلى الله عليه كهذا المعنى (٤) الذي وصفنا به القرآن ، والمعنى : أن النبي صلى الله عليه أضاء لنفسه بنبوته ورسالة ربه ، وأضاء لمن دنا منه أو سمع به في الأخبار.

وقد يتجه أن يكون الله أراد به قلب المؤمن أيضا ، والإيمان الذي فيه ، فمثل قلب المؤمن وكون الإيمان فيه (٥) مثل القنديل في المشكاة ، فالإيمان يضيء للمؤمن عن كل ظلمة ، كما أن القنديل يضيء في الكوة ، وتضمحل به الغياهب المدلهمات (٦) من الريب ، والإيمان يتوقد ويضيء بالحكمة توقدا يظهر شعاع الحكمة ، ونورها في كلامه وفعاله ، وعلى جوارحه ، وهو بعلمه بربه (٧) علمه له نور على نور.

واعلم أنه قد يجوز أن يكون معنى قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥]. أي : نور مع نور ، لأن كلامه نور مع عمله (٨) ، وعمله مع علمه ، فهذا نور على نور ، أي مع نور. (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥]. لا من يشاء غيره يهدي ، ولو كانت البرية كلها لمن لا يريد هدايته ظهيرا لما اهتدى المرء أدنى الهداية ، إلا أن يشاء الله.

__________________

(١) في (ب) و (د) : نير.

(٢) في (ب) : به.

(٣) أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن شمر بن عطية ، قال : جاء ابن عباس رضي الله عنهما إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ). قال : مثل نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الدر المنثور ٦ / ١٩٨.

(٤) في (ج) : كالمعنى. وفي (ب) و (ج) و (د) : كهذا كالمعنى. وأشار في (أ) : بنسخة أخرى ، بما أثبتناه.

(٥) سقط من (ب) و (د) : فيه.

(٦) المدلهمات : المظلمات.

(٧) في (ب) و (د) : يريد (مصحفة).

(٨) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في حديث قال في آخره : (نُورٌ عَلى نُورٍ). يعني : بذلك إيمان العبد وعمله. الدر المنثور ٦ / ١٩٨.

وقد يتجه أن يكون الله سبحانه شبّه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما شبه القرآن والإيمان بالمعنى الذي وصفناه.

ومعنى قوله : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) [النور : ٣٥] ، فهذه شجرة منبتها في مكان تطلع (١) الشمس عليه ولا تزول عنها حتى تغيب ، وهي الشمس الضاحية ، وهو أنضج لثمرها ، تكاد أن (٢) ترى في الزيتونة التي هي ثمرها وجهك من ودكها (٣) من نقائه وصفائه (٤) ، فإذا وقد القنديل من زيت هذه الزيتونة ، كان أنور للمصباح ، وهذه أمثال ضربها الله للناس لعلهم يتفكرون.

وقال بعضهم : إن معنى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ). أنه : محمد صلى الله عليه يصلي لا للمشرق ولا للمغرب ، ولكن لكعبة الله البيت الحرام (٥).

* * *

__________________

(١) في (أ) : مطلع.

(٢) سقط من (أ) : أن.

(٣) الودك : الدسم. معروف.

(٤) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد ، قال : الضوء إشراق الزيت. الدر المنثور ٧ / ٢٠٢.

(٥) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في نهاية حديث : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : ليس بنصراني فيصلي نحو المشرق ، ولا بيهودي فيصلي نحو المغرب.

(الرد على من أنكر من الجهمية (١) أن يكون الله سبحانه شيئا)

الحمد لله الذي علا على الخلائق ، فلم يغب عنه خفيات الأمور ، وكل شيء عنده بمقدار ، المنشئ لما أنشأه (٢) ، فشيأه شيئا كما شاء ، وجعله متناهيا محدودا ، آثار الصنعة له لازمة ، وأعلام العبودية فيه بينة ، فأنشأ ما أنشأ نحوين : أحدهما مبتدأ لا من شيء.

والثاني منقول من شيء إلى شيء ، ومحوّل من حال إلى حال ، ومن طبيعة إلى طبيعة ، كالمضغة تقلب من نطفة إلى علقة ، والعلقة حولت مضغة ، ثم جسّدها (٣) لحما وأنشأها إنسانا (٤) ، فصيّره بشرا مخالفا للبهائم ، في الشكل والهيئة ، احتجاجا من الله على خلقه ، بما أراهم من آياته فيهم.

وأن الله تبارك وتعالى وسم المعاني بأن قال : هي شيء ، لإخراجه لها من العدم إلى الوجود لا أنه (٥) وصفها بهذه الصفة بمعنى ، ولا فرق بينها وبين شيء ، إذ قال لها : إنها أشياء ، لأنه أخبرنا أنه خالق كل شيء ، فكل شيء سواه هو (٦) خلق شيء ، وكل خلق شيء ، فقد خلق النار والثلج ، فالثلج شيء ، والنار شيء ، وليس أحدهما بالآخر شبيها في لون ولا طبيعة ولا فعل ، وإنما تماثلا في الشيئية ، وقد اختلفا في الصفات ، وإنما سميت الأشياء بأن قيل لهذا : شيء وهذا شيء ، لإثبات الأشياء بأنها موجودة ، وأنها ليست بعدم ، وقد قال الله في كتابه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. ذلك دليل على أن الله شيء لا كالأشياء ، إذ الأشياء تهلك ، وهو المهلك لما يشاء منها ، وقد قال الله في كتابه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩]. فأخبر أنه

__________________

(١) الجهمية : نسبة إلى جهم بن صفوان ، تفردوا بأن لا فعل للعبد ، بل هو كالشجرة ، وفناء الجنة والنار ، وأن الإيمان المعرفة.

(٢) في (ب) و (د) : المشيء ما شاء. وسقط من (ب) : ما شاء.

(٣) في (ب) و (د) : جسدا.

(٤) في (أ) : إنشاء.

(٥) سقط من (ب) و (د) : إلى الوجود. وفي (أ) : الوجود لأنه.

(٦) سقط من (ب) : هو.

شيء أكبر الأشياء ، ولو قال قائل : أي (١) الملائكة أفضل؟ لم يجز أن يقال : بعض المؤمنين من الآدميين هو أفضل ، لأن الآدميين (٢) ليسوا ممن ذكر في المسألة.

كذلك قال : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً). علمنا أنه أجرى على نفسه الذكر أنه شيء ليس كالأشياء.

فإن سأل من الجهمية سائل : فقال : هل الله شيء؟

قيل له : نعم. الله شيء لا يشبّه بالأشياء ، الأشياء مشيّأة ، وهو سبحانه شيء لا مشيّأ.

فإن قال : أنت شيء؟

قيل له : نعم. أنا شيء مشيّأ لا أني غير مشيّأ ، والله شيء لا مشيّأ ، بل الله مشيئ الأشياء لا يشبهه ما شيّأه. وليس في قولي : أنا شيء والله شيء تشبيه ، لما فصلناه من معنى الشيء والمشيّأ ، وأن قولي أيضا شيء اسم لازم للجميع ، وجار على كل معنى ، وثابت على كل موجود مشيّأ ، كان أو يكون ، ولا يقضي بإيقاعه على المسمين ـ مفردا ـ ائتلاف ولا اختلاف ، وذلك أنك تقول : الفيل شيء ، والذرة شيء ، وهما غير مشتبهين في قولك : هذا شيء وهذا شيء ، وكذلك تقول : الإنسان شيء ، والشيطان شيء ، وهما لا يتماثلان ، وقد أوقعت على كل واحد منهما أنه شيء ، وكذلك تقول : آدم صلى الله عليه شيء ، وربنا شيء ، وهما غير متماثلين.

فإن قال : أليس آدم مخلوقا والذّرة مخلوقة؟!

قيل له : بلى.

فإن قال : هل يتماثلان في أنهما خلق لله؟

قيل له : نعم.

فإن قال : ما فرق ما بين شيء وشيء وخلق وخلق؟

__________________

(١) في (أ) : أن (مصحفة).

(٢) سقط من (ب) و (د) : هو أفضل ، لأن الآدميين.

قيل له : إن الخلق اسم له خلاف ، وخلافه خالق ، ولو قال القائل : الخالق مخلوق كذب ، ولو قال القائل : الخالق شيء لم يكذب ، والخالق هو خلاف المخلوق ، ولا يوجد لشيء خلاف إلا شيء مثله موجود ، ولا شيء إلا موجود ، ولا موجود لا يكون لا خلاف ولا يكون خلافا.

فإن قال قائل : إن لا شيء خلاف شيء.

قيل له : قد أنبأناك أن الشيء خلاف شيء ، ولا يكون شيء خلاف لا شيء ، ولا يكون لا شيء له خلاف ، ولا يجوز أن يقال : للا شيء اتفاق ولا اختلاف ، لأن هذا عدم لا يتوهم.

فإن قالوا : لم أجزت أن تقول : شيء وشيء وهما لا يشتبهان؟

قيل : من قبل أني ثبّتّهما ونفيت عنهما العدم ، وأخرجتهما من التعطيل.

فإن قال : لم قلت لا شيء؟

قلت : لنفي إثباته ، وقلت : لا شيء لإخراجه من الوجود ، وليس قولي هذا شيء ولا شيء تشبيه ولا غير تشبيه ، وقول القائل : هذا شيء ، وهذا شيء لا يجب به تشبيه ، لأن التشبيه لا يجوز إلا على ضد أو مثل.

واعلم أن الضد هو غير الخلاف ، وبيان ذلك أن كل ضد خلاف ، وليس كل خلاف ضدا ، والضد هو المضادّ ، والخلاف هو الغير الذي ليس بمضاد ، وذلك لأنك تقول : هذا خلاف الله ، ولا تقول : هذا ضد الله.

فإن قال قائل : ما بالك إذا قلت : لا شيء لا يقع اتفاق ولا اختلاف؟

قيل له : من قبل أن لا شيء عدم والعدم (١) ليس بموجود ، ولا هو موهوم ، ما هو فيكون له شبيه ، والشيء إثبات ووجود وموهوم إذا قلت : شيء ما هو ، وأي الأشياء هو؟ إلا رب العالمين ، فإنه شيء خالق الأشياء ، وليس كالأشياء. وإنما قلت : إنه هو شيء لأثبته موجودا ، وقولي : شيء ليس فيه تشبيه ، لأني إنما أشيئه بقولي : شيء ، وقد

__________________

(١) في (ب) و (د) : عدم العدم.

يشتبه قول شيء وشيء (١) ، ولا يشتبه المسمى ، إلا أن أوقع عليه من أيّ الأشياء هو وما هو؟ فحينئذ يشتبه المسميان ، (٢) فأما شيء وشيء فليس فيه اشتباه المعاني ، وإن استوى قول شيء وشيء.

وقد يقال : الخنزير شيء ، والكلب شيء ، والانسان شيء ، وليس [في] هذا الاسم ، الذي هو إثبات الشيء (٣) منهم مدح ولا تهجين ، إذا كانت التسمية مبهمة مفردة في الذكر ، ولذلك لم يقع به تشبيه إذا قلنا : إن الله شيء ، والإنسان شيء.

فإن قال : فإذا سميت الله شيئا فقد سميته بما لا مدحة له فيه.

قلت : إني إذا سميته شيئا ذكرته سبحانه بكلام آخر أصله به ، فيكون مديحا ، لقولنا : الله شيء واحد كريم ، والله شيء واحد عزيز ، والله شيء ليس كالأشياء ، فيكون ذلك مدحة ، ولا يذكر العبد التقي ربه إلا وهو فيما ذكر من أسمائه مادح ، فإذا سمى الله العبد بأنه شيء لم يفرده ، حتى يقول : الله شيء لا كالأشياء ، فيكون الكلام كله مقرونا بكلام آخر على ما ذكرنا ، كان كله مديحا ، وقول القائل للشيء هذا شيء ، كلام مرسل غير مقرون بما يتجلى به (٤) المعنى ، فليس بذم ولا مدح ، لقولك عرفت شيئا ، ولا يكون المعروف عندك مذموما ولا ممدوحا ، حتى تقرنه بكلام آخر ، فتقول : عرفت شيئا هو صالح ، وعرفت شيئا هو فاسد ، فيكون هنالك الذم والمدح ، فلا يدرك بقولك هذا شيء وهذا شيء ائتلاف ولا اختلاف ، فلا يرسل القول على الله بأنه شيء إلا مقرونا بكلام آخر ، فيقول : هو شيء ليس كالأشياء ، فيكون قولك : هو شيء بالصلة المقرونة مديحا ، فكذلك يقول القائل : هذا الثوب شيء حسن أفضل من غيره ، فيكون بما أجرى به الثوب مديحا ، وإذا كان مرسلا لم يكن له مدحا ولا ذما.

__________________

(١) في (ب) و (د) : شيء بشيء.

(٢) في (ب) و (د) : المسميات.

(٣) في (ب) و (د) : إثبات لشيء.

(٤) سقط من (ب) و (د) : به.

(الرد على من أنكر أن يكون الله واحدا ليس بذي أبعاض)

الحمد لله الذي عن شبه كل شيء تعالى ، وشاهد كل ملاء وهو في السموات العلى ، على العرش استوى ، ولا يخفى عليه النجوى ، وهو يرى ولا يرى ، سبحانه ، فليس عليه شيء يخفى ، وليس كمثله شيء ، وهو الواحد الصمد الباري المصور ، وليس بصورة بل هو مصوّر الصورة ، وهو السميع العليم ، قال الله عزوجل : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنعام : ١٩]. يخبر بوحدانيته في آي كثير.

والواحد في اللغة له معان :

أحدها : البائن بالفضل والسؤدد.

ومعنى آخر يقول الناس : هذا شيء واحد ليس له نظير في الشبه.

ويقال : هذا وهذا واحد يراد أنهما متماثلان ، وقد يقول المرء : قولي وقولك واحد ، أي مثله ، ويقال : لأقل قليل القلة هذا شيء واحد ، يراد ثباته وتعطيل الثاني ، بمعنى ليس له نظير ولا شبيه ، بمعنى أنه ليس فيه اختلاف ، وهذا معنى قولنا الله واحد ليس من عدد ، ولا هو عدد ، كما الانسان واحد عدد ، كما أن الإنسان أعضاء وكل عضو يقال إنه واحد ، فإذا اجتمعت الأعضاء قيل واحد ، فهو واحد عدد آحاد ، وهو من عدد آحاد مثله ، لأنك تقول : هذا إنسان واحد ، وتقول الآخر واحد فصاعدا ، فكل واحد منهما واحد من عدد ، وليس الله سبحانه واحدا من عدد ، على معنى ما ذكرنا من معاني الواحد من غيره.

وقد قالت العرب : إن فلانا واحد قومه أي : سيدهم ، وهو واحد القوم ، وإن كان له الاتباع والعبيد والأموال.

ويقال : إن فلانا واحد الناس. أي : ليس له نظير ، يعنون في السؤدد والكرم.

واعلم أن الله واحد في الربوبية والعز والكبرياء ، واحد بنفسه لا بغيره ، وهو واحد لا ثاني معه ، ولا مثل له في صفة ولا ذات ، ولا في قول ولا في فعل ، ولا في معنى من المعاني كلها ، ولا له مثل في صفة ولا في معنى شرف وفضل ، ولا يزول عنه هذا المعنى الذي هو شرف في كل معنى ، إذ لا شيء يشبهه ، ولا هو شيء يشبه شيئا ، ولو جاز

أن يكون له مثل في معنى ، وكان ذلك يكون شرفا لجاز أن يكون مثل غيره بكل معنى ، ويكون ذلك له شرفا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومعنى من معاني الواحد هو الأول الفرد ، ذلك في الحساب والعدد بيّن ، إذ (١) لا يكون العدد إلا به ، لأنك تقول : واحد واثنان ، فالثاني بالواحد كان ، ولو لا الواحد الذي هو أول الثاني ، ما كان الثاني قبل الأول ، كان واحدا ، أكثر (٢) العدد الذي لا يحصى ، وهو المكثر لكل معدود ، العدد الواحد يستزيد وبه يزاد ، ولو لا هو ما كانت الزيادة ، وكل ما زاد الحساب فبالواحد (٣) زاد ، والواحد هو المفرد لما سواه ، وهو أقدم من كل ما به ازداد ، وكثرة العدد تزداد به ، وتنقص به ، فالواحد الذي به يزداد العدد وهو مقيم لكثرته ، وبه يكون النقصان ، وبه استوى الحساب ، وبه يقل الكثير ، ويكثر القليل ، ويفرق بين الكثير والقليل.

فكذلك يقال الله واحد : بمعنى أول الأشياء ، وبه كان كل شيء ، وهو مشيئها ، ومدبرها ، بنفسه لا بغيره ، ولا يتغير لتكثيرها ولا لتقليلها ، ولا عند بطلانها ، ولا يختلف سبحانه عند شيء من اختلافها ، وهو سبحانه القائم بإنشائها ، لا يتغير ولا يدخل في التغيير ، بل التغيير داخل على ما أنشأ ، ولم يزل الله قبل أن يكون الشيء شيئا ، ثم إنه أراد إنشاء ما أنشأ ، فأنشأ ما أراد إنشاءه على ما شاء ، واضطر المنشأ إلى التغيير والزوال ، والحطوط (٤) والنقص والنماء.

والله سبحانه واحد في معناه ، لا في معاني ما أنشأه (٥) وهو الواحد لا من عدد ، ولا فيه عدد به تجزّأ ، وليس شيء يقال : إنه واحد في الحقيقة غير الله ، وكل واحد سوى الله فهو ذو عدد مجزأ ومن عدد ، وذلك أنك تقول للواحد من الخلق : إنه له فوق

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولا.

(٢) في (ب) و (د) : أكثر من العدد.

(٣) في (ب) : بالواحد.

(٤) الحطوط : الحدر من علو إلى أسفل.

(٥) في (ب) و (د) : ما أنشأه الله وهو (زيادة).

وتحت وأمام (١) وخلف وشمال ويمين ، وكل واحد كما ذكرنا غير الآخر ، فهذا غير واحد مما يضمه (٢) اسم الواحد ، وهذا الواحد هو العدد ، ومن عدد كثير من اللون وغير ذلك ، هو من عدد له أشباه ، والله واحد ليس بشيء من هذه المعاني المنقوصة شبيها ، لأنه ليس له نظير.

فإن قال قائل : لم لا يكون قولك واحد تشبيها ، وقد قلت لغير الله واحد؟!

قيل له : إنا لم نقل لغير الله واحد ، بمعنى ما قلت إن الله واحد ، وليس واحد كالله في ربوبيته ووحدانيته ، وليس من هو واحد في الحقيقة ليس بجزء ولا باثنين سوى الله ، وكل ما سوى الله فقد يقال واحد وهو أكثر من اثنين إذا حدد على وجه ما فسرنا من الحدود التي تلزم الخلائق ، وذلك لأن كل واحد مما سوى الله فمسدس ، وهو أكثر من اثنين. وإن قيل : إنه واحد على ذكرنا ، فليس (٣) الله بواحد كمعنى الآحاد المعدودة ، وإنما هو إله واحد ، ليس له ند ولا له شبيه ، تعالى عما يقول المشبهون علوا كبيرا.

ومعنى من معاني الواحد إذا أرادوا به دفع الاختلاف وحذف الجميع ، كما قال الكميت (٤) بن زيد الأسدي :

فضمّ قواصي الأحياء منهم

فقد رجعوا كحيّ واحدينا

فإن قال قائل : فإذا قلت : إن الواحد من الحساب في جميع العدد ، فكذلك يقول

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : وأمام.

(٢) سقط من (د) : مما. وفي (ب) : واحد بضم اسم.

(٣) في (ب) و (د) : وليس.

(٤) الكميت بن زيد الأسدي شاعر الهاشميين من أهل الكوفة ، اشتهر في العصر الأموي. وكان عالما بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها ، ثقة في علمه. ولد سنة ٦٠ ه‍ ، وتوفي سنة ١٢٠ ه‍.

أشهر شعره الهاشميات ترجمت إلى الألمانية ، يقال إن شعره أكثر من خمسة آلاف بيت. والبيت من قصيدة له تسمى المذهبة التي مطلعها :

لنا قمر السماء وكل نجم

تشير إليه أيدي المهتدينا

هجى بها أهل اليمن تعصبا لمضر.

الله في كل شيء.

قيل له : إن الله تبارك وتعالى في كل شيء مدبره ، لا محويّ ومع كل شيء رقيب لا يحاط به ، وليس هو في شيء من الأشياء ، بمعنى كون الشيء في الشيء ولا شيء مع الشيء ، كما (١) الله في الأشياء ، ومع الأشياء على غير الإحاطة ، ولا يعزب الله فيها ولا هي تعزب عن الله ، وذلك لأن كل ما كان في فعله لم يقطعه ، فالعرب تقول : إنه في فعله ، كذلك الأشياء فعل الله ولم يقطع تدبيره منها ، فلذلك قلنا : إن الله بكل مكان ، فهو في كل شيء ليس بغائب عن شيء ، وقد حقق الله مقالتنا في كتابه بقوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) [الأعراف : ٧]. وقوله : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦]. وكذلك: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ...) الآية [المجادلة : ٧].

ألم تر إلى المرء يصبح صائما ثم يقوم مصليا وهو في ثغر (٢) ، فيقال : إن فلانا في صلاته وصيامه ورباطه ، ويقال له ذلك في حال أقل قليل كونه في أفعاله ، وأفعاله أفعال مختلفات بعضها غير بعض ، ليس فعل يشغله عن الآخر ، وهو في الوقت الذي هو في هذا الفعل فاعل للفعل الآخر ، وليس فعله له بحاو ، ولا فعله أيضا فيه محويّ ، فالله (٣) أقرب من الأشياء من الشيء (٤) إلى نفسه ، وهو بكل شيء أنظر وألطف.

فإن مجن (٥) السائل من أهل التشبيه ، وذكر الأكبال (٦) والقيود ، وقال : هل الله فيها.

قيل له تقدس الله وجل أن نذكره بكلام فيه تهجين (٧) ، ولا يجوز أن نذكر أن الله في شيء ذكره تصغير بالمذكور ، من أجل أن الله أخذ علينا في ميثاق الكتاب أن لا

__________________

(١) في (ب) : كما قال الله.

(٢) الثغر : جبهة الحرب.

(٣) في (ب) و (د) : والله.

(٤) سقط من (ب) : الشيء.

(٥) المجون : ألا يبالي الإنسان ما صنع.

(٦) الأكبال : جمع كبل. وهو : القيد.

(٧) التهجين : التقبيح.

نذكره إلا بالأسماء الحسنى ، ومن الأسماء الحسنى كل اسم لا يكون معناه عند السامع محتمل التهجين ، وقول القائل : ربه في السلاسل والكبول تصغير بذكر الله وتهجين ، تعالى الله عزوجل ، وارتفع عن ذلك وعن أن نذكره به ، لأن المذكور بهذا مذكور بالإحاطة والقلة ، والله عن ذلك يتعالى ، وإذا ذكر الرب بالاسم العام كان له تعظيما ، وإذا ذكر بالاسم الخاص كان له تهجينا ، ولا يعرف الرّبّ من ذكره بهجنة ، وقد دللنا على معنى صحيح ، إذ قلنا إن (١) الله في الأشياء مبثوثة ، وإن خص السائل ذكر شيء هو بالمذكور تصغير وتهجين ، ويذكر ما يكون حواء وإحاطة لم يجز الجواب فيه بنعم!

فإن سأل السائل ما الله تبارك وتعالى إذا قلتم : هو الواحد؟!

قلنا : معنانا (٢) أن الله واحد أي : لا واحد سواه ، إلا وله شبيه (٣) ، والله واحد ليس له شبيه ، وهو يقيم الأشياء ، وهو القائم بها لا بغيره قامت الأشياء ، وليس الله بذي أعضاء ، بعضها لبعض مؤيد ولا ممسك ، بل الله واحد ليس سواه واحد في معناه ، وليس واحد سوى الله إلا وقيامه بغيره ، وذلك أن الحركة لا تقوم في وقتها إلا بمتحرك ، كذلك اللون لا يقوم إلا بملوّن ، والطول لا يقوم إلا بمطوّل ، لأن ما ذكرنا كلها أجزاء ، وإنما يقوّم بعضها بعضا ، ولا يكون الجميع إلا باتصال الأبعاض ، ولما كان على الجميع الأجزاء ، جاز أن يكون مع الجميع ثان ، وجاز أن يقال : هذا كان غير هذا. كذلك لا يقوم شيء مما ذكرنا من الخلق إلا في زمان ومكان ، والله القائم بنفسه لا تجري عليه الأزمنة ، ولا تحويه الأمكنة (٤).

واعلم أن العدد من الحساب أصله وجوب الغير ، ولا يقع الغير إلا على اثنين فصاعدا ، فإن كان الاثنان جنسين مختلفين ، جاز أن يقال : هذا غير هذا ، فإن كانا مؤتلفين قيل : هذا وهذا واحد ، وهذا واحد وهذا واحد ، وكان كل واحد منهما غير الآخر.

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : إن.

(٢) معنانا : أي : مقصدنا الذي عنيناه وقصدناه.

(٣) في (ب) و (د) : تشبيه.

(٤) في (ب) و (د) : الأماكن.

وقد يقال للمؤتلفين الذين هما واحد : إن أحدهما غير الآخر ، كعملي غير عملك ، وإذا كان عملهما دينا قال : هذا وهذا واحد ، وكل ما ذكرنا يحتمل التضعيف والزيادة ، ويحتمل التضعيف أضعافا ، وكل ما احتمل الزيادة لم يكمل أبدا ، فقد يحتمل النقصان ، وكل ما احتمل النقصان أمكن أن يبيد ، وهو أبدا منقوص من صفة الكامل ، والله واحد لا بهذا المعنى ، ولكنه واحد في معناه الذي ليس يشبه (١) معاني البشر ولا الحساب ، وهو إسقاط الثاني ، وليس ثان مع الله ، ولا واحد غيره في معناه كهو ، وإثباته واحدا تعطيل الثاني ، وفي تعطيل الثاني توحيد الأول ، والواحد الباقي الذي ما سواه فان.

* * *

__________________

(١) سقط من (ب) : الذي. وفي (أ) و (ج) و (د) : لا يشبه.

(الرد على من زعم أن لله وجها كوجه الإنسان)

الحمد لله الذي كل شيء هالك إلا وجهه ، الذي به قامت سماواته وأرضه ، واستوى على عرشه ، فلا شيء في استوائه يماثله ، لأنه عن شبه كل شيء تعالى ، وهو لكلنا شاهد ولنا باري ، وكلنا عليه لا يخفى سامع النجوى ، والعالم بما في الضمير وأخفى.

اعلموا رحمكم الله أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه كلامه ، لسانا عربيا مبينا ، أوجز البلاغات وأبلغه إيجازا ، وليس للأميين (١) في اللغة أن يتأولوا في الكتاب ما لا يدركه المتأولون من رباني (٢) اللغة والكتاب ، وقد علم رباني اللغة أن لها تصاريف المذاهب وفنون الجهات ، وأنها ذات قيم (٣) وأمواج وأطناب ولطائف ودقائق في بيان.

وإن فرقة من البدعيّة (٤) استعجمت في كتاب الله ، وسارعت في تأويله من غير فصاحة بالتأويل ، ولا فهم في التنزيل ، ولا آلة في العلم باللغات ، فتأولت بالعجمة إذ تأولته ، ولما سمعوا كلام الله وما فيه من قول المطعمين : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٥] ، وقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧]. إن

__________________

(١) قال قطرب : الأمية الغفلة ، والجهالة ، وأيضا معناها : قلة المعرفة.

(٢) الرباني : المتألّه العارف بالله. قيل منسوب إلى الربّان. وقيل إلى الرب ، أي : الله تعالى ، فالرباني كقولهم : إلهيّ ، وزيادة النون فيه كزيادته في جسماني ، قال علي عليه‌السلام : أنا رباني هذه الأمة. والجمع ربانيون ، قال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ). (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ). والرّبي : بمعنى : الرباني في قوله تعالى : (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). وقيل الرباني : لفظ في الأصل سرياني.

(٣) القيم : جمع قامة ، وأمواج جمع موج وهو : الاضطراب. وأطناب : جمع طنب ومن معانيها : الطرائق. ولطائف : جمع لطيفة. واللطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي. ودقائق : جمع دقيقة ، والدقيق : الغامض. والمعنى الإجمالي : أن للغة العربية نواح عديدة وأبعادا وغوامض ، لا تفهم إلا للمتبحرين في علومها.

(٤) البدعية نسبة إلى البدعة. واستعجم : التبس.

لله تعالى عزّ عن ذلك وجها كوجه الإنسان.

ونحن سائلوهم وبالله نستعين ، ما ذا أراد الله بقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) شيء منه دون شيء؟ أم هو الله تبارك وتعالى يبقى؟! لأنه ليس بذي جوارح متفاوتة ، فإن رجعوا إلى النظر ، وتصفية الجواب ، علموا أن الله أراد بقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، يعني : يبقى ربك ، وإن كان شيء غيره فان ، لأن الله ليس مبعّضا يبقى وجهه دون أبعاضه ، تعالى الله عن التبعيض.

فإن تقحّم (١) ذو حيرة غمرات الكفر ، وزعم أن له أبعاضا أحدها وجه!!

قيل له : أخبرنا عن تلك الأبعاض التي أحدها وجه تفنى دون الوجه؟!

فإن زعم أنها تفنى دون الوجه صرح بشركه ، وإن زعم أن الأبعاض التي هي غير الوجه تبقى مع الوجه!

قيل له : من أين قلت إن كلها تبقى؟! وقد قال الله عزوجل في كتابه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، والأبعاض التي هي غير الوجه هي شيء ، وقد قال الله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، ولن تجدوا حجة (٢) تدفعون بها الفناء عن الأبعاض التي هي سوى الوجه ، إلا أن ترجعوا إلى قولنا. وقد قال الله في كتابه : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)) [الروم : ٣٩]. وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، فليس على الأوهام الطالبة إليه للحق في تأويل هذا مئونة ، إذا نظرت بصافي عقلها استبان أن معنى قوله : (تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي تريدون الله وثوابه ، وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لله ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

وللوجه في القرآن معان في اللغة.

قال بعض العرب :

__________________

(١) التقحم : الرّمي بالنفس فجأة بلا رويّة.

(٢) في (أ) : تجدوا علينا حجة.

أعوذ بوجه من تعنو الوجوه له

بالله ليس له شبيه (١)

ومعنى تعنو الوجوه ، أي : تستأسر (٢) النفوس ، وكل امرؤ أسير يرى على أنه لله مستأسر ، وإنما أراد بوجهه ذاته ، فلما أن قال : أعوذ بوجه من تعنو الوجوه له ، ثم قال بالله ، علمنا أنه إنما استعاذ بالله في قوله : أعوذ بوجه من تعنو الوجوه له.

وقال آخر :

إني بوجه الله من شر البشر أعوذ

من لم يعذ الله دمر (٣)

وقال آخر :

إلهي لا ربّ لنا غير وجهه

وليس له من صاحب لا ولا ندّ (٤)

دليل على أنه أراد بذكره وجه الله أي : الله ، ولم يرد بذكره وجهه ، إنه بعض دون أبعاض ، لأن الله سبحانه ليس بذي أبعاض.

قال ذو الرّمّة (٥) :

أقمت لها وجه المطي فما درى

أجائرة أعناقها أم قواصد

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) [طه : ١١١]. قال : استأسرت ، صاروا أسارى كلهم. الدر المنثور المنثور ٥ / ٦٠١.

(٣) لم أقف عليه.

(٤) لم أقف عليه.

(٥) ذو الرمة : غيلان بن عقبة بن نهيس العدوي ، من مضر شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره كان شديد القصر دميما أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال. عشق ميّة المنقرية واشتهر بها. ولد سنة ٧٧ ه‍ ، وتوفي سنة ١١٧ ه‍ ، بأصبهان ، وقيل بالبادية ، له ديوان شعر مطبوع في مجلد ضخم. والبيت من قصيدة له مطلعها :

ألا أيها الربع الذي غيّر البلى. أنظر ديوانه.

فجعل للمطي وجها ، وليس ذلك الوجه على ما يعقل من وجه الإنسان.

وقال آخر :

أعوذ بوجه الله من شر معقل

إذا معقل راح البقيع وهجرا (١)

وهذا دليل على أنه استعاذ بالله.

وقال آخر :

وتطلّب المعروف في كل وجهة

تخطى إلى المعروف نحو ابن عامر (٢)

ويقال في اللغة : أخبرنا بالخبر على وجهه ، ولا يتوهم للخبر وجه على ما يعقل من وجوه البشر ، وقال الله سبحانه : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) [البقرة : ١٤٨]. أي لكلّ قبلة(٣).

وقال آخر في تأويلها : ولكلّ ملة.

ويتأول بعض أهل العلم : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) [النساء : ٤٧]. أي ملّة نمسخهم (٤) يعني أهل الملل ، وإنما صارت الملة وجها ، لأن صاحبها يتوجه إلى الرب بها.

وقال الشاعر :

درست وجوههم فكل آخذ

غير الطريق وكلهم متحير (٥)

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) لم أقف عليه.

(٣) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ، يعني بذلك أهل الأديان يقول : لكل قبلة يرضونها ، ووجه الله حيث توجه المؤمنون. الدر المنثور / ٣٥٧.

(٤) أخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع الأزرق قال له : أخبرني عن قول الله عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) ، قال : من قبل أن نمسخها على غير خلقتها. الدر المنثور ٢ / ٥٥٥. وهو في مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس (بتحقيقنا).

(٥) لم أقف عليه.

فهذا دليل على أن الله أراد بقوله : (من قبل أن نطمس وجوها) أي : مللا.

وقال آخر :

أضحت وجوههم شتّى فكلهم

لوجهته فضلا على الملل (١)

وقال عباس (٢) بن مرداس السلمي :

أكليب ما لك كل يوم ظالما

والظلم أنكد وجهه ملعون

وقال الله عزوجل : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة : ١١٢]. أي من أخلص دينه لله (٣) فجعل للدين وجها.

وقال الشاعر :

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

لأرض تحمل صخرا ثقالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له

المزن تحمل عذبا زلالا (٤)

وفي ذلك دليل على أنه أراد بالوجه الدين ، وقال الله سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) [الروم : ٤٣ ، ٣٠]. ولم يرد الوجه دون القلب وسائر الأبعاض ، وإنما تأويل أقم وجهك ، أي : أقم نفسك للدين ، وتأويل أقم نفسك للدين إنما هو : بالدين ، وقال الله سبحانه : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [آل عمران : ٧٢]. يعني : صدر النهار. وقال

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) عباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي من مضر ، شاعر فارس ، من سادات قومه ، أدرك الجاهلية والإسلام ، وأسلم قبيل فتح مكة ، وكان من المؤلفة قلوبهم مات في خلافة عمر سنة ١٨ ه‍ ، جمع الدكتور يحيى الحبوري ما بقي من شعره في ديوان مطبوع. والبيت مطلع قصيدة مكونة من سبعة أبيات انظر ديوانه.

(٣) أخرج ابن جرير عن مجاهد (من أسلم وجهه لله) قال : أخلص دينه. الدر المنثور ١ / ٢٦٣.

(٤) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل. أبو سعيد أحد العشرة. أنظر المعارف لابن قتيبة / ٥٩ ، والأغاني للأصفهاني ٣ / ١٧ ، وتفسير ابن جرير الطبري ١ / ٣٩٣ ، وإيثار الحق على الخلق / ٥٣.

بعض أهل العلم : أول النهار (١). فذكر الله للنهار وجها ، ولم يرد به وجها من الوجوه التي أمر بغسلها عند الوضوء ، وقد يجوز في اللغة القول بأن (٢) هذا وجه المتاع ، وهذا وجه القوم وفاضلهم ، وهذا وجه الدار ، وهذا وجه الكلام ، هذا وجه العمل ، معنى قولهم هذا وجه الكلام ، أي : صدقه وبيانه ، ووجه العمل أي : العمل به صواب. وقال الله تعالى : قال تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) [المائدة : ١٠٨] أي : يأتوا بها على صدقها (٣).

وتأويل قول الله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) له معان :

منها ما أريد به وجه الله من العمل الطيب ، والقول الحسن (٤).

ومعنى آخر في : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). إلّا هو (٥). ومن أراد هذا المعنى قرأ وجهه مرفوعا ، وله سوى هذا أيضا ، (٦) من أراده قرأه مفتوحا ، والمعنى فيه : ثواب اللهعزوجل.

وقال الله عزوجل في كتابه : قال تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦]. فمعنى هذا الوجه معنى واحد ، وهو الوجه الذي في الناس ، وذلك عن الله عزوجل منفيّ ، وقوله : قال تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥]. دليل على أنه الله ، لأن الشرقي والغربي بين المشرق والمغرب لا يكون جهتهم جميعا تلقاء وجه الله ، لأن وجهه : الذي هم مقابلون دون ما سواه ، فبطل قولهم في تأويلهم : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

__________________

(١) أخرج ابن جرير عن قتادة ، والربيع ، في قوله تعالى : (وَجْهَ النَّهارِ) ، قالا : أول النهار. الدر المنثور ٢ / ٢٤٠.

(٢) في (أ) و (ج) : القول بمثل هذا.

(٣) أخرج ابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) ، يقول : ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم. الدر المنثور ٣ / ٢٢٦.

(٤) أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سفيان قال (كل شيء هالك إلا وجهه). قال : ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة. الدر المنثور ٦ / ٤٤٧. وفي تفسير الغريب للإمام زيد بن علي عليه‌السلام / ٢٤.

وهو قول مجاهد. انظر تفسير سفيان الثوري / ١٩٤.

(٥) انظر تفسير الإمام زيد بن علي / ٢٤٤.

(٦) في (أ) و (ج) : وله شواهد أيضا.

وزعموا أن وجهتهم جميعا تلقاء وجه الله ، وبطل قولهم : (خلق آدم على صورة وجه الله) (١) ، لأن الصورة وجه ، وهي لا تواجه إلا ما كان تلقاءها ، ومما يبطل به قولهم في

__________________

(١) في جميع المخطوطات : تؤده وجه الله. ولم أهتد فيها إلى معنى يتوافق مع السياق ، ومعنى تؤدة : في اللغة : التمهل والرزانة. والذي يبدو أنها تصحّفت من كلمة صورة ، سيما والحديث المشار إليه ذكرت فيه الصورة.

الحديث أخرجه البخاري (فتح ١١ / ٣). ومسلم (٤ / ٢٠١٧ رقم ١١٥). في الصحيحين من حديث أبي هريرة بلفظ (خلق الله آدم على صورته). ومثل هذا موجود في التوراة ، فقد جاء في القسم الأول من الفصل الخامس من سفر التكوين : (لما خلق الله آدم ، خلقه على صورة الله). وهذا الحديث باطل مردود إن لم يمكن حمله على وجه صحيح. قال الحافظ ابن حجر (قوله : خلق الله آدم على صورته). تقدم بيانه في بدء الخلق ، واختلف إلى ما ذا يعود الضمير ، فقيل : إلى آدم ، أي : خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط ، وإلى أن مات ، دفعا لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى. أو ابتدأ خلقه كما وجد لم ينتقل ـ في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة. وقيل : للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ، ولا أول لذلك. فبيّن أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة. وقيل : للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره. وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعل نفسه. (قلت يريد أن القائلين بأن الإنسان مخير في فعله قدرية ، وهم يعتقدون أن الانسان مسيّر لا مخير. وهذه عقيدة المجبرة وقد أبطلها الإمام القاسم عليه‌السلام بكتاب الرد على المجبرة ، من هذا المجموع). ثم قال ابن حجر : وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية ، وأن أوله قصة الذي ضرب عبده ، فنهاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وقال له : الله خلق آدم على صورته. انتهى كلام ابن حجر فتح الباري (١١ / ٣).

قلت : وتلك القصة التي أشار إليها الحافظ مروية في مسند أحمد (٢ / ٤٣٤). ورواها البخاري بنحوه في الأدب المفرد (٧٣). وابن أبي عاصم في سننه (٢٢٨ ـ برقم (٥١٦) (٥٢١). والبيهقي في الأسماء والصفات (٢٩١). بتحقيق الكوثري. وذكرها الحافظ ابن حجر نفسه في الفتح (٥ / ١٣٩). وهي بلفظ (لا تقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك. فإن الله خلق آدم على صورته). أي : صورة المقول له قبح الله وجهك ... ويؤكد هذا ما أخرجه مسلم في صحيحه (٤ / ٢٠١٧). من حديث أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته). تأمل!! وأما المشبهة : فإنهم يحملونه على معناه الظاهري ، ويعتقدون أن لله وجها وصورة ، بل قد وضعوا في ذلك كتبا مثل : عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن. للتويجري.

زعمهم ، أن الله على العرش دون ما سواه ، وأن الملائكة يسبحون من حول العرش ، فقد أحاط المسبحون بالمسبّح ، إذ هم حوله ، ولا يكون توجيههم وتسبيحهم تلقاء وجه الله. وإن قالوا : إن جهتهم جميعا ، وإن الله هو (١) أينما تولّوا ، رجعوا إلى التوحيد الأول.

* * *

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) و (د) و (ه) : هو.

(الرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين

تعالى عن ذلك)

الحمد لله الذي يدرك الأبصار ، ولا تدركه الأبصار (١) ، وهو الواحد المتكبر ، العزيز القهار : قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. زعم قوم من أهل الجهل أن العباد غدا يعاينون ربهم جهرة ، ينظرون إليه كما ينظر بعضهم بعضا ، محاطا به محدودا ، وتأولوا قول الله عزوجل : قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٢٣) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣]. وقوله تعالى : (* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) (٢) وَزِيادَةٌ [يونس : ٢٦]. وقوله : قال تعالى : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) [المطففين : ١٥] ، وقوله : يخبر عن موسى عليه‌السلام : قال تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، ونحن مقرّون بالنظر من أولياء الله في جنته على غير تحديد ولا إحاطة ، جل الله وعز وتعالى علوّا كبيرا.

والنظر له في لغة العرب معان :

__________________

(١) وعن أنس رضي الله عنه :

«أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول : «يا من لا تراه العيون ، ولا تخالطه الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيّره الحوادث ولا يخشى الدوائر ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الأشجار ، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار ، وما تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا ، ولا بحر ما في قعره ، ولا جبل ما في وعره ، اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتيمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه.

فوكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأعرابي رجلا ، فقال : إذا صلى فائتني به ، فلمّا صلّى أتاه ، وقد كان أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب من بعض المعادن ، فلمّا أتاه الأعرابي وهب له الذهب ، وقال : ممّن أنت يا أعرابي؟ قال : من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله ، قال : هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال : للرحم بيننا وبينك يا رسول الله ، قال : إن للرحم حقا ، ولكن وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله عزوجل)).

قال الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد) في (١٠ / ١٥٨) : رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة.

(٢) في جميع المخطوطات : (لَهُمُ الْحُسْنى). والآية كما أثبت. وهو سهو من النساخ.

أحدها : أن يلاقي الشيء جهرا ، ويحيط به بالعيان بإدراك وتحديد ، فيقال نظر إليه ، وعوين وأدرك وأبصر وجوهر.

ومعنى آخر : من معاني النظر لا بالعيان من بصر البصر ، ولكن ينظر إليه بأفعاله ، ومن ذلك قول العرب : انظر إلى شرائع الدين ما أحسنها ، انظر إلى كلام عبد الله ما أفصحه وأبينه ، انظر إلى ما صنع الله بعباده ، وانظر إلى الذين جابوا الصخر بالواد ما ذا صاروا إليه ، فتجيب العقول له قد (١) نظرت إلى ذلك كله ورأيته ، لا بعيان البصر.

ويقال : إنه قد نظر في لغة العرب وما ينظر فلان إلا إلى الله ، ثم إلى محمد ، ويقول: ما ينظر إلا إلى عبد الله ، وعبد الله (٢) غائب. ومن ذلك النظر إلى الشيء بأفعاله وآياته لا بروحه وشخصه ، وتقول : رأيت نفس زيد حين خرجت لا تريد بذلك نظر العين للروح ، ويقال : رأيت عقل زيد صحيحا ، ونظرت إلى عقله ، فرأيت عقلا حسنا.

والعقل روحاني لا يرى بالعيون ، لأنه ليس بشبح (٣) ولا لون ولا جسم ، ويقال : أحسنت النظر وأسأت النظر.

ومن ذلك قول الشاعر :

لا يزال وإن كانت له سعة

إلى الذي راه لم يظفر به نظر (٤)

ولذلك تقول : رأيت حلم زيد وعقل عبد الله ، وإنما رأيت الحلم والعقل بأفعال لهما ، مع أشياء كثيرة ، مما يجوز في اللغة ، كقولك انظر إلى شدة غضبه ، وانظر إلى شدة فرحه ، وانظر إلى عمه وعداوته ، وهذه كلها روحانيات خفيات لا تدرك بأنفسها وقد تدرك بأفعالها ، ويقال : رأينا غضبه ورضاه وما أشبه ذلك.

وقال الله : قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٦) [الفجر : ٦] ، والذي قيل له : ألم تر هو النبي صلى الله عليه ، وإنما النبي بعد قرون قبلها عاد ، فرأى كيف فعل

__________________

(١) في (ب) : فقد.

(٢) سقط من (ب) : وعبد الله.

(٣) الشبح : الشخص.

(٤) لم أقف على هذا البيت ولا قائله.

ربه سبحانه بعاد (١) ، ولم ير ذلك بعيان جهرة. وقال : قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥]. وقال إبراهيم الخليل صلى الله عليه : قال تعالى : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠]. وقد رأى كيف أحياه الله من نطفة ، ولكنه أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى من وجه من الوجوه ، الذي عاين من إحياء الله سبحانه الأجسام الميتة من النطف وغير النطف.

وكذلك سأل موسى صلى الله عليه ربه فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣]. ومعناه ومعنى الخليل صلى الله عليهما في نفس النظر سواء ، لأنهما أرادا أن يعاينا بأبصارهما من معالم الله وآياته ما لم يزل الله يملك من العالم والآيات ، إلا أن موسى صلى الله عليه عاص فيما سأل من قبل أنه (٢) سأل الله آية ليست من آيات الدنيا ، ولم يكن له أن يسأل تلك الآية. وسأل إبراهيم ربه آية من آيات الدنيا ، فلذلك لم يكن في سؤال الله عاصيا ، وإبراهيم وموسى في سؤالهما وقولهما لم (٣) يسألا ربهما أن يرياه جهرة لمعنى ما يرى البشر البشر ، لأن ذلك شرك ، ولم يكن إبراهيم وموسى صلى الله عليهما بمشركين ، والله لا تدركه الأبصار ، وقد علما (٤) ذلك ، وكان موسى أعلم بالله من أن يسأل ربه أن يعاينه جهرة ، بل أراد : أن ينظر إليه بآية يحدثها له فيراه ، ليست من آيات الدنيا ، ثم يكون له آية مرتجحة لا يحتملها الناس لو شاهدوها في الدنيا ، إلا أن يزاد في قوى حواسهم.

فقيل لموسى : إن بنيتك لا تحتمل ما سألت ، واعرف ذلك بهذا الجبل فإنه أعظم منك خلقا ، وأشد منك قوة ، وأشمخ منك طولا وعرضا ، انظر إليه كيف يعجز عن إدراك ما سألت مثله (٥) ، ولم يكن الجبل بذي عقل ، والله تبارك وتعالى لا يتجلى إلا

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : فرأى كيف فعل ربه سبحانه بعاد.

(٢) في (ب) : أن يسأل.

(٣) سقط من (ب) : لم.

(٤) في (ب) و (د) : علمنا. مصحفة.

(٥) أخرج عبد بن حميد عن مجاهد ، قال : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ، فإنه أكبر منه وأشد خلقا ، قال : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل يندك على أوله ، فلما رأى موسى ما ـ

بالتجلي الذي به يدرك ، ولن يدرك من ربنا إلا جلالته وآياته وتدبيره وصرفه ، فبذلك يتجلى الله ، وذلك بأنه (١) سبحانه ليس بشخص. أحدث في الجبل عقلا يدرك به ما يتجلى له ، فإن (٢) الله تبارك وتعالى أحدث آية فتجلى الله للجبل وجعلها آية سماوية ولم تكن أرضية. وقال بعض العلماء (٣) أبرز بعض العرش للجبل ، رواه يوسف بن الأسباط (٤) ، عن الثوري ، وذلك قوله : قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف : ١٤٣]. فعرف الجبل ربه بتجلي الرب له بما أظهر له ، فعظّم الجبل الله فبلغ من تعظيم الجبل لله أن تقطع وساخ وذهب. (٥) وإن الله جعل ذلك موعظة للقلوب القاسية لتلين ، والقلوب الناكرة لتسترشد ، ولئن (٦) ترجع القلوب إلى ربها بشدة الفكر والتعظيم لله العظيم(٧).

فقال لموسى : قال تعالى : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] من وجه ما سألت ، لأن التجلي إنما يكون من وجه يدرك من المتجلّي. فتجلّى (٨) الأشخاص للأبصار ، ولا تجلى لغير الأدوات من الأسماع والآذان والملامس ، وقد تجلّى الأصوات للأسماع ، وإنما يتجلى المتجلّي من وجه ما يدرك به ، فقد يقول السامع للكلام ، قد تجلّى لي هذا الكلام ، ولا

__________________

ـ يصنع الجبل خر موسى صعقا. الدر المنثور ٣ : ٥٤٤.

(١) في (أ) و (ج) : بأن الله.

(٢) في (ب) : وإن.

(٣) في (أ) و (ج) : الحكماء.

(٤) في جميع المخطوطات : يوسف بن الأسيابا. وهو تصحيف. والصحيح ما أثبته. قال ابن حجر : يوسف بن أسباط بن واصل الشيباني الكوفي نزل قرية حلب وأنطاكية حدث عن عامر بن شريح ، وسفيان الثوري ... الخ. تهذيب التهذيب ١١ / ٣٥٨. والثوري هو : سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ، من كبار المحدثين الثقات الأثبات معدود من ثقات محدثي الشيعة ، ويسمى أمير المؤمنين في الحديث. ولد سنة (٩٧ ه‍). وتوفي بالبصرة سنة (١٦١ ه‍).

(٥) أخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن سفيان في قوله : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) ، قال : ساخ الجبل إلى الأرض حتى وقع في البحر ، فهو يذهب بعد. الدر المنثور ٣ / ٥٤٦.

(٦) في (ب) : ولا ترجع (مصفحة).

(٧) في (د) : العليم.

(٨) فتجلى أي : فتتجلى بحذف التاء للتخفيف ، كما في قوله تعالى : ولا تفرقوا.

يراد به عيان البصر.

والله تعالى ليس بشخص فتجاهره الأبصار ، ولا هو صوت فتوعيه الأسماع ، ولا رائحة فتشمه المشام ، ولا حار ولا باد ، ولا خشن ولا لين ، فتذوقه اللهوات ، ولا تلمسه الأيدي ، لأنه سبحانه خلق الأسماع وما أدركت ، والأبصار وما جاهرت ، والمشام وما شمّت ، واللهوات وما ذاقت ، والأيدي وما لمست ، فهذه الخمس المدركات ، والخمس المدركات (١) كلها محدثات مخلوقات ، والله سبحانه لا يشبه شيئا منها ولا فيها شيء يشبه الله ، وكذلك لا يتجلى الله من وجه ما تتجلى هي ، لأنها مخلوقات ، وإنما يتجلى من وجه ما يجوز من صفته ، يتجلى بآياته وتدبيره على خلاف تجلي ما سواه ، وقد تجلّى الله سبحانه في كتابه بكلامه لنا في وحيه وآياته ، فهذا معنى من معاني تجليه عزوجل.

وقد يقول القائل : أرى عقلك صحيحا ، ويقول : إني أحبّ أن أرى عقلك وأمتحنه بتدبيرك ، فإن أحسن التدبير قال له صاحبه : قد رأيت عقلك حسنا.

وأما قول الله عزوجل : قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، فقد روى الناس عن سلفنا أنهم قالوا : هو النظر إلى ما يأتيهم من أمر الله (٢). وقال بعضهم : هو الانتظار لثواب الله (٣). ولا يرى الله أحد ، (٤) وكلا

__________________

(١) في (أ) : المحدثات.

(٢) قال الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام : إنما قوله : (ناظِرَةٌ) إلى أمر ربها ناظرة من النعيم والثواب. تفسير الغريب / ٣٥٩.

وقد رواه عن علي وابن عباس الربيع بن حبيب في مسنده ، وعزاه إلى مجاهد ومكحول وإبراهيم والزهري ، وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ص ٢٢٦ ، ٢٢٨ ، ورواه في مجمع البيان والاحتجاج للطبرسي عن عليعليه‌السلام.

(٣) أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير ، عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، قال : حسنة : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، قال : تنتظر الثواب من ربها.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنتظر منه الثواب. الدر المنثور ٨ / ٣٦٠. وهو في تفسير الإمام زيد في سورة القيامة.

(٤) أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : أول ـ

القولين جائز.

ولسنا ننكر أن يكون أولياء الله في الجنة يرون ربهم لا بتحديد ولا إدراك إحاطة ، وكذلك كان معنى قول مجاهد في أن لا يرى الله أحد ، أي : لا يراه أحد بتحديد ولا إحاطة ، ولكن يراه أولياؤه وينظرون إليه ، نظر مخلوقين إلى خالق ، ينتظرون ثوابه ، ويرون تدبيره ، لا كنظر مخلوقين إلى مخلوق ، لأنه ليس كالمخلوقين. ويجوز أن يقال : نظر إلى من ليس كالمخلوق كما ينظر إلى المخلوق ، وفي الخلق ما لا يرى وهو الروح والعقل ، وما أشبههما ، فلا يقال : إن شيئا من ذلك يرى كما ترى الأشخاص ، فكيف يقال : إنه يرى الله كما يرى الشخص.

وإذا ابتعث الله أولياءه من الأجداث أرسل إليهم ملائكته ليبشرهم بالجنة وينادونهم : قال تعالى : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣]. وذلك قبل أن يدخلوها وهم ينظرون إلى أن ينيلهم ما وعدهم وما به بشرهم ، فوجوههم يومئذ ناضرة بهجة مشرقة حسنة ناعمة ، تنظر إلى ربها بالحب له والرضى عنه والرغبة إليه ، ينظرون ما يأتيهم منه ما بشرهم به الملائكة ، وإن الله عزوجل ينظر إليهم نظر الخالق إلى المخلوق المطيع الحبيب ، وينظرون إليه بالرغبة فيما لديه نظر مخلوقين محبين إلى خالقهم المحبوب عندهم المنعم عليهم ، نظر معرفة ، لا نظر تحديد وإحاطة ، والله ينظر إليهم ، وقد كان يراهم في الدنيا ، إلا أن نظره هذا نظر ثواب ورحمة ووفاء بما وعدهم ، والمزيد لهم من كل كرامة إذ أدخلهم الجنة ، فلا يزالون ينظرون إليه في جنته بالرضى عنه ، والاستزادة مما عنده من فوائد النعم ، وتحف الكرامات ، مع ما قال لهم عزوجل : قال تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (١) [ق : ٣٥] ، أي

__________________

ـ المصدقين أنه لا يراك أحد.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس أيضا قال في الآية : أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك. الدر المنثور ٣ / ٥٤٧. وأما عن مجاهد فقد سبقت الرواية عنه في تفسير قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

(١) وقد نقل عن أنس في تفسيرها قال : يتجلى لهم الرب عزوجل. الدر المنثور ٨ / ٦٠٥. وهو قول باطل ، ومعناها ما أشار إليه الإمام. قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام في قوله تعالى (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) : ـ

مزيد (١) من ربهم ، لا تنقطع التحف والخيرات الحسان من ربهم أبدا عنهم ، وينظرون إلى ربهم في الجنة بمقعدهم ، وما هم فيه من الازدياد من نعيمهم والإحسان إليهم ، وإنما يوصف الله سبحانه بنظر أوليائه إليه ، بهذه المعاني التي ذكرنا ولا ينظر إلى الله أحد من أعدائه يوم القيامة بمعنى ما ينظر أولياؤه.

ويقال في اللغة : إنما ينظر العبد إلى سيده ، وإنما ينظر إلى الله ثم إليك ، يريدون بذلك ما يأتي من المنظور ، وعلى هذا المعنى قول الناس.

وقال الله تبارك وتعالى يخبر عن أعدائه ، إنه لا ينظر إليهم ولا يكلمهم (٢) فيها وفي الحالة التي لا ينظر إليهم الله يراهم ، وقوله : قال تعالى : (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٧٤ آل عمران : ٧٧] ، أي لا يسألهم ، وقد كلمهم بما فيه حزنهم ، وإن العالمين بالرب علم اليقين عاينوا بيقينهم (٣) القيامة ، وأبصروا وجوها مسودة ، وقد علاها القتر والعبوس ، جزاء بما كانوا يصنعون ، فراعهم ما أبصروا بيقينهم من تلك المفضعات ، فحذروا أن

__________________

ـ إن الرجل يسكن في الجنة سعين سنة قبل أن يتحول ، ثم تأتيه امرأة فتضربه على منكبه ، وتنظر في وجهه ، فخذها أضاء من المرآة! وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه ، فيرد عليها‌السلام. ويسألها من أنت ، فتقول أنا من المزيد ... إلخ. تفسير الغريب / ٣٠١. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك باختلاف يسير. الدر المنثور ٨ / ٦٠٧.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسرها بغرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب. وهو مروي عن عليعليه‌السلام.

وعن ابن عباس ، والحسين ، وعلقمة : أن الزيادة مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها.

وعن الحسن ومجاهد أنها مغفرة من الله ورضوان.

وعن محمد بن كعب ما يزيدهم الله من الكرامة والثواب.

انظر الجامع الصحيح للإمام الربيع بن حبيب ٣ / ٢٣٢ ط مكتبة الاستقامة ، وتفسير ابن جرير ١١ / ٧٥ ، ٧٦ ط. دار الباز. وتفسير الغريب للإمام زيد بن علي عليهما‌السلام.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن علقمة بن قيس قال : الزيادة العشر (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها). وهو مروي عن الحسن أيضا. الدر المنثور ٤ / ٣٦٠.

(١) سقط من (ب) : أي مزيد.

(٢) والآية : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران ٧٧].

(٣) في (ب) : يقينهم.

يكونوا : من الذين قال الله : قال تعالى : (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] و : قال تعالى : (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١)) [عبس : ٤١] (١) فلم يكذبوا على ربهم إذ سمعوه عزوجل يقول : قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ، وهذه مدحة لله وحسن ثناء عليه وتعظيم له ، فاستيقنوا أن الثناء والمدح عن الله غير حائل في الدنيا ولا في الآخرة ، وأبصروا بيقينهم في القيامة إلى وجوه ابيضّت ، فهي ناضرة مستبشرة ضاحكة مسفرة ، إلى ربها ناظرة في روح وجنات عالية ، يخبرون فيها بصدقهم عن الله في القول والعمل له ، والموافقة له في الأيام الخالية ، فلذلك وضع القوم كلامهم من ربهم حيث وضع الرب ، ولم يقولوا بغير ما قال الله لهم ، وقالوا : كما قال لهم ربهم إلى ثواب ربها ناظرة ، ولم يقولوا لربها مجاهرة.

وإنما الشيء إذا جوهر نظر إليه بالعيان لا بالوجه ، لأن الوجه غير العين ، ولو كان ما قالوا على ما ادعوا لقال الله في كتابه أعين إلى ربها ناظرة ، لأن الوجه لا يرى ولا يبصر ، وإنما البصر للرؤية والعينين اللتين في الوجه ، فهذه معان لطيفة مفصلات في النظر.

وقد قال إبراهيم الخليل ، لابنه إسماعيل ، صلى الله عليهما : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) [الصافات : ١٠٢]. وليس ذلك رؤية حسّ ، ثم قال : انظر ما ذا ترى ، ولم يرد إدراك العين ولا إحاطة البصر ، في قوله : ما ذا ترى في الذبيح أن يسلم لربه نفسه ، ويجود له بها ، فرأى موافقة أبيه في طاعة ربه بما أمره ، فأمكنه من ذبحه واستسلم لربه ، وليس ذلك النظر بالعين ورؤيتها.

وكان مما احتج به القوم أن قالوا : إن موسى صلى الله عليه سأل ربه فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، وقد بينا ما أراد موسى بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، ولم يكن ذلك سؤالا للنظر الذي هو رأي العين ، بالإحاطة والتحديد جهرة ، وقد رأينا الله عزوجل : ذكر في كتابه حدث موسى في قتله القبطي ، وما أخبرنا سبحانه عن آدم صلى الله عليه في معصيته بأكل الشجرة ، وسمعناه عزوجل يذكر في كتابه أحداث

__________________

(١) في جميع المخطوطات : عليها قترة.

أنبيائه معيبا لأحداثهم ، ولم يكن ما عاب من أحداثهم عند الله موبقا ولا كبيرا ، بل كانت أحداث أنبيائه صغائر ، ولم تكن بكبائر ، وكان الله عزوجل يأخذهم في عاجل الدنيا من أجل أحداثهم التي لم تكن بكبائر ، حبس بعضهم في الظلمات في جوف الحوت (١) ، وبمعان ذكر الله عزوجل في كتابه وكيف صنع ببني إسرائيل ، ولم ينجهم من الله إلا النقلة عن صغائرهم والاستغفار بالإنابة والندم ، وقد سأل قوم موسى فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) [النساء : ١٥٣] ، ليكون في ذلك مزدجر للآخرين ، وليحذروا مصارع الذين سألوا رؤية الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ، فزجر الله العباد عن السؤال عما يضاهي ما سأل القوم نبيهم صلى الله عليه من رؤية الله جهرة (٢).

فكيف يتوهم أن يكون موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سأل ربه مسألة القوم الذين أخذوا بالنقم ، لأجل تلك المسألة التي سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ، وقد علم موسى أن سؤالهم عن ذلك شرك ، وقد نهى موسى قومه عن معاني الشرك كلها ، ولم يكن صلى الله عليه ليخالفهم إلى ما نهاهم عنه ، لأن مسألة القوم له كفر ، ولا يجوز أن يتوّهم على موسى أن يسأل الله مسألة هي كفر ، ولو كانت مسألة موسى على ما يتوهم المشبهون لنزلت به من العقوبة مثل ما نزل بغيره ، ولغلظ الله عليهم تغليظا يعلم العباد أنه أكبر من الصغائر ، وفي تكفير الله عزوجل الذين قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) إخراج مسألة موسى من معنى رؤية الجهرة ، وإخراجه من جهل القوم بالله.

ويقال لهم : هل يدرك البصر إلا شخصا أو لونا؟

فإن قالوا : لا.

قيل لهم : أخبرونا عن ربكم ، أتقولون إنه لون؟! فإن قالوا : نعم.

__________________

(١) يونس عليه‌السلام.

(٢) قال تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) [البقرة / ١٠٨]. وقال تعالى (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء : ١٥٣].

قيل لهم : فمن أين قلتم ذلك وما بينتكم عليه؟! ولن تجدوا سبيلا إلى إثبات اللون إلا من وجه الرواية ، فيعارضون بأضداد رواياتهم فإن جعلوا الرواية حجة لم يصح لهم دعوى ولا لنا ، لأنهم رووا خلاف ما روينا وروينا خلاف ما رووا ، ولا بد أن يكون أحدنا محقا والآخر مبطلا ، وفي إبطال قول أحدنا إبطال أحد الأثرين ، وفي إبطال أحد الأثرين إخراج الأثر الشاذ من الحجة ، لأن الشاذ من الأثر لا يكون مثل كتاب الله ولا سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع ما يدخل عليهم من التناقض في إثبات اللون لمعبودهم ، من وجه ما ذكرنا من (١) إيجاد العجز عليه وإلزام النّصب ، لأن لون الحدقة غير لون اللسان ، ولون اللسان غير لون الوجه ، وفي الغير وجوب الاثنين فصاعدا ، لأن اللسان غير العين ، والعين مخالفا للسان ، وكذلك كل جزء غير ما يليه ، وهو مقصر عن صفة غيره.

فإن قالوا : ليس لونا.

قيل لهم : كيف ترى العيون ما ليس يكون لونا ، والعيون لا ترى في العقول إلا ملونا؟!

وإن لجئوا إلى أن يقولوا : إن الله يعطيهم حاسة سادسة في القيامة (٢) بها يدركون ربهم إدراك (٣) الجهر ، يسألون عن الذي يدركون ربهم به ، أليس قد نال ثوابا لم ينل الجزء الذي كان في الدنيا له ناصبا عاملا؟! فيكون الثواب لمن لم يطع ، ولا ثواب إلا لمن أطاع (٤).

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) و (د) : من.

(٢) هو قول ضرار بن عمرو المعتزلي والمعتزلة لا تورده في طبقاتها ، فله أقوال توافق المعتزلة وأخرى توافق الأشاعرة ، منها نسبة الأفعال إلى الله. ولنا في إبطال دعواهم أن قوى وحواس الناس تتغير وتقوى يوم القيامة عما هي عليه في الدنيا قول الله سبحانه : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). يعني أن الله سيعيدنا مثل ما كنا وكما بدأنا سبحانه وتعالى.

(٣) في (ب) : إذا زال (مصحفة).

(٤) يعني : إذا أعطينا حاسة سادسة على حد زعمهم ، فإنها هي التي سترى الله على زعمهم فتنال الثواب الذي هو الرؤية مع أنها لا تستحق ثوابا ، لأنها لم تطع في الدنيا لأنها لم تخلق إلا في الآخرة مع أنه لا ـ

ويقال لهم : كيف يسمى المطيع مدركا وليس هو المعاين؟! وإنما المعاين هو السادس المحدث لهم في الآخرة.

ويسألون هل يجوز أن يعطوا سابعا يدركون به لمسه أو ذوقه أو شمه ، كما جوزتم السادسة التي بها تكون الرؤية ، ليكون ذلك أتم لنعيمهم إذا لمسوا ما عاينوا وصافحوه وذاقوه وشموه؟! فإن جوزوا ذلك جعلوه منفصلا بائنا بعيدا مبعضا ، وفي الانفصال والبينونة والبعض والبعد وجود العجز والنقص ، والعاجز الناقص ليس بالكامل التام القوي القادر ، وليس العاجز الناقص بإله ، فتعالى الله عن العجز والنقص.

وقد أجمع المصلون معنا أن إلهنا عزوجل لا تدركه الأبصار إلا فرقة من الروافض ووافقتهم الحشوية فقالوا : إن النبي صلى الله عليه رأى ربه أبيض مجمم الشعر.

ورووا من وجه آخر أنه رؤي في صورة الشاب المراهق مقصصا (١).

فعزم بعضهم أن هذه الرواية كانت بالقلب (٢) ، وزعم آخرون أنها كانت بعيان النظر(٣). وقد رووا بخلاف ذلك : أن ثلاثا من قال واحدة منهن فقد أعظم الفرية على

__________________

ـ ثواب إلا لمن أطاع.

(١) في (ب) : مفضضا. روى الطبراني في الكبير (٢٥ / ١٤٣) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (٤٤٦ / ٤٤٧) ، وابن الجوزي في الموضوعات (١ / ١٢٥) : (رأى ربه عزوجل في المنام في أحسن صورة ، شابا موفّرا) ، وبلفظ (رأيت ربي أجعد أمرد عليه حلة خضراء). ورووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ـ وحاشاه ـ قال : (ولما أسري بي رأيت الرحمن تعالى في صورة شاب أمرد له نور يتلألأ ، وقد نهيت عن وصفه لكم ، فسألت ربي أن يكرمني برؤيته ، وإذا هو كأنه عروس حين كشف عن حجابه مستو على عرشه). اللآلئ المصنوعة للسيوطي وإن كان قد وضعه السيوطي في الموضوعات لكن له أصل عندهم. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد طعن في الحديث البخاري في تاريخه (٦ / ٥٠٠). وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، والنسائي (تاريخ بغداد ٣ / ٣١١). وابن حبان في الثقات (٥ / ٢٤٥).

وابن حجر في تهذيب التهذيب (١٠ / ٩٥).

(٢) أخرج النسائي ، عن أبي ذر ، قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره. الدر المنثور ٧ / ٦٤٩.

(٣) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بعينه ، الدر المنثور ٧ / ٦٤٧.

وعن ابن عباس : رآه بقلبه. مسلم ١ / ١٥٨ (٢٨٤) و (٢٨٥).

الله (١) ، ومن زعم أن محمدا رأى ربه ، وفي هذا انتقاض الخبر ، وإذا تناقض الشيء لم يكن بحجة ، وأولاهما بحجة العقل أشبههما بكتاب الله.

ويقال لهم جميعا : أخبرونا إذ زعمتم أن النبي صلى الله عليه حين رأى ربه ، هل كان يقدر عقل النبي على (٢) صفة ما رأى؟!

فإن قالوا : نعم.

قيل : فكان يقدر أن يخيل ما عاين؟!

فإن قالوا : نعم جوزوا القدرة على صفة الله وإحاطته والتفكير فيه ، والله عزوجل يقول: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠].

وإن قالوا : لا يقدر على تخييله بقلبه.

قيل لهم : فكيف يدرك ما لا يتخيل ولا يحيط به العقل؟! ، وهذا محال بيّن ؛ لأن الإدراك أكثر من التخيل ، وإذا بطل التخيل لم يصح الإدراك.

ويقال لهم : أخبرونا إذا جوّزتم أن يكون النبي صلى الله عليه رآه ، فما يشعركم لعله أسرّ إلى بعض أصحابه صفة تحديد ، فورّث ذلك الصاحب علم التحديد من بعده

__________________

(١) أخرج البخاري عن مسروق ، قال : قلت لعائشة رضي الله عنها يا أمتاه هل رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه؟ فقال : لقد قف شعري مما قلت : أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب ، الحديث بطوله ٨ / ٤٩٢ مع شرح الفتح.

وأخرج مسلم عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية ، قلت ما هن؟ قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، وقال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين ، أنظريني ولا تعجلي ، ألم يقل الله عزوجل : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى). فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض ، فقالت : أولم تسمع أن الله يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ...). صحيح مسلم ٣ / ٨ بشرح النووي.

(٢) سقط من (ب) : على.

إلى يوم القيامة فيكونوا لم يدركوه كما أدركه.

فإن قالوا : فقد يمكن أن يكون ذلك فقد عبدتم ما لا تعرفون.

ويقال لهم : أليس قد يمكن أن يكون وارث ذلك يصفه بصفة تحديد ، ويخيله بقلبه على غير ما تخيله ذلك العالم بصفته ، فقد عبدتم خلاف ما عبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

فإن احتج القوم بقول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة: ٤٦]. كان جوابنا أن الذين يظنون ، أي : يوقنون أنهم مبعوثون بعد الموت للثواب والعقاب.

وكذلك تأويل قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠]. وقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) [القصص : ٨٥ ، العنكبوت : ٥]. أي من كان يؤمن بالبعث فإن وعد الله ووعيده اللذين هما الجنة والنار لآت ، وليس ذلك اللقاء رؤية ، ولو كان لقاء رؤية لقال : من كان يرجو لقاء ربه فإن الله يلاقى.

ويسألون عن الذين كفروا بلقاء ربهم [هل يلقونه] (١) فإن قالوا : نعم ، لم يفرقوا بين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم في الآخرة ، وبين الذين كفروا بلقاء ربهم ، لأن هؤلاء لاقوه.

وإذا زعموا أن اللقاء عندهم الرؤية ، فما الفرق بين الولي والعدو ، إذا كانا يلقيان ربهما واللقاء رؤية ، والرؤية عندهم أفضل الثواب.

وإن زعموا أنهم لا مؤمنون ولا مصدقون بتكذيب الكافرين من لقاء ربهم ، جحدوا قول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) [الانشقاق : ٦]. وقوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)

__________________

(١) أشار في (أ) و (ب) و (د) إلى بياض ، ولعله ما أثبتّ بين المعكوفين. وفي (ب) و (د) : من لقاء. وفي (ج) : عن لقاء.

[التوبة : ٧٧]. فقد أخبر أنهم منافقون وأنهم يلقونه ، وإذا زعموا أن اللقاء رؤية ، فالمنافق والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريانه بزعمهم ، إذ كان اللقاء عندهم رؤية ، فما فضل ثواب النبي صلى الله عليه على عقاب المنافق؟!

بل لا فضل بينهما إذا اشتركا في أفضل الثواب وهو الرؤية ، وفساد هذا المعنى بيّن ، وذلك لأنهم تأولوا لقاء الله تحديدا بالإحاطة ، وزعموا أيضا أن النبيين عليهم‌السلام يشتبهون في لقاء الله الذي هو رؤيته ، إلا أن يزعموا أن اللقاء غير الرؤية فيصيروا إلى قولنا.

وإن هم سألوا عن التأويل للقاء الله؟

قلنا لهم : إن الأعداء والأولياء كلهم ملاقوا ربهم ، ولقاؤهم انبعاثهم (١) من أجداثهم ، ومصيرهم إلى معادهم يوم محشرهم ، (٢) ويوم إلى الله مرجعهم.

وتأويل ما سألوا عنه من قول الله سبحانه : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] ، وذلك أن الله عزوجل لا ينالهم برحمته وهم عن ربهم محجوبون ، وترجمت (٣) هذه الآية آية أخرى قوله : (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران: ٧٧]. أي : نظره إلى أوليائه برحمته ، ولا يسمعهم كلاما لهم فيه سرور ولا فرح ، ولا ينظر إليهم أي : لا ينيلهم رحمة ولا يأتيهم بفرح.

وقد أجمع أهل الصلاة أن الله لا ينظر إلى أعدائه ، وهو يراهم في الحالة التي لا ينظر إليهم فيها ، وفي ذلك دليل أن أولياءه ينظر إليهم أي : يرحمهم ، وهو يراهم وينظر إليهم برحمته ، ونظره إلى أوليائه رحمته ، وذلك نظره الذي كان لأوليائه ولم يكن لأعدائه ، وكذلك ينظر أولياؤه إليه لا بمعنى جهرة وإحاطة منهم به ، ولكن ينظرون إليه على خلاف التحديد والإحاطة ، وقد قالت العرب : ما ننظر إلا إلى سيدنا.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : ابتعاثهم.

(٢) في (ب) و (د) : حشرهم.

(٣) ترجمت : أي : فسّرت.

وأجمع المسلمون على الدعاء إلى الله أن قالوا : اللهم انظر إلينا ، والدعاء على عدوهم أن قالوا : لا ينظر الله إليهم ، وليس ذلك سؤالا منهم له أن لا يراهم ، وذلك أنهم يعلمون أن الله عزوجل يراهم ، ولم يعلموا أن الله ينظر إليهم نظر رحمة ورضى ، وقد علموا أن الله عزوجل يراهم ويرى كل شيء ، وأن الأشياء كلها له جهرة ، وإنما أراد المسلمون بدعائهم الله أن ينظر إليهم : أن يكرمهم ويجود برحمته عليهم.

واعلم أن الله عزوجل إذا مدح نفسه بمدحة لم يزلها عن نفسه في آخرة ولا دنيا ، كذلك قال الله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣]. فالله لا يزيل مدائحه.

وزعم العماة أن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى (١) ربه حين أسري به تكذيبا للقرآن ، وردا على الرحمن ، واحتجوا بقول الله عزوجل : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)) [النجم : ١٣ ـ ١٤]. فظنوا أنه رأى ربه ، وإنما ذلك جبريل (٢) صلى الله عليه ، رآه نبي الله على خلقته التي عليها جبل ، ولم يره النبي صلى الله عليهما على تلك الخلقة قط إلا مرتين ، جعل الله ذلك آية بينه وكرامة شريفة عالية ، وذلك قوله عزوجل : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)) [النجم :

__________________

(١) روى الخطيب البغدادي في تاريخه (٨ / ١٥١ ١٥٢). وابن الجوزي في العلل المتناهية (١ / ٣٠). عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (لما كنت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة). وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قول الله (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى). قال ابن عباس : قد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربه عزوجل. الدر المنثور ٧ / ٦٤٧.

(٢) أخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، في العظمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك قوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى). قال : خلق جبريل. الدر المنثور ٧ / ٦٤٣. وأخرج مسلم ، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة في قوله (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى). قال : رأى جبريل عليه‌السلام. الدر المنثور ٧ / ٦٤٩.

١٨]. فأين الله عزوجل من آياته؟! فكيف يتوهم أن النبي صلى الله عليه رأى الله ، والله يقول : (رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، وليس الله سبحانه بالحواس مدركا.

وتوهموا أن تجلي الرب سبحانه للجبل هو أن بدا (١) للجبل وبرز له بذاته ، من غير أن يكون للجبل من المقام في طاعته ، والمنزلة الرفيعة ، ما لموسى صلى الله عليه ، مع ما اختص الله به موسى بكلامه تكليما ، واستخلاصه إياه بالرسالة ، ثم سأل موسى ومسألته لله أن يراه بزعمهم ذلك ، وكان ذلك منه دليلا ، ثم اختص الجبل الذي لم يكن الله كلمه تكليما ، ولا اصطفاه برسالته فبدا له بذاته وبرز له متجليا ، وخصه بكرامة لم يجعلها لجبريل ولا لميكائيل ولا للملائكة المقربين ، ولا للمرسلين (٢) ، وقد قال الله عزوجل : إن أولياءه غدا ينظرون إليه في جواره ، ليس ذلك النظر إحاطة ولا تحديدا ، بل ينظرون إليه من غير (٣) تحديد ، وذلك النظر أفضل من دركهم.

والدرك دركان ، فدرك هو المشاهدة والملاقاة جهرة.

والدرك الثاني ما يرد على القلب ، وقد أدرك المؤمنون في الدنيا ربهم وعرفوه بقلوبهم ، فلذلك أطاعوه ، وذلك لما أحبوه (٤). ولهم في هذا الدرك سرور ولا نعيب (٥)

__________________

(١) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الرؤية عن ابن عباس (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ). قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر. الدر المنثور ٧ / ٥٤٥. تعالى الله عن هذا علوا كبيرا!!

(٢) أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً). قال : غشي عليه إلا أن روحه في جسده (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ). لعظم ما رأى (سُبْحانَكَ). تنزيها لله من أن يراه (تُبْتُ إِلَيْكَ). رجعت عن الأمر الذي كنت عليه (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). يقول : أول المصدقين الآن أنه لا يراك أحد. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). يقول : أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك. الدر المنثور ٧ / ٥٤٧.

(٣) سقط من (ب) : غير.

(٤) سقط من (ج) : لما. وفي (أ) : وذلك ما أحبوه.

(٥) في (أ) : ولا يعيب ، وفي (ب) : لا بعيب ، الباء مهملة إلا أن الكمبيوتر لا يكتب الباء إلا معجمة ، وكذلك بقية الحروف المعجمة. وفي (ج) : ولا يغيب. وفي (د) : لا يغيب ، وما أثبتّ اجتهاد والله أعلم.

عليهم في السرور الذي نالوه من معرفة الدرك لله ، والمؤمنون يتفاضلون في الدرك لله ، وذلك بيّن فيما يرى منهم في اتصال السرور بالمعرفة ، على حسب اتصال المعرفة بالقلب ، وكلما ترقى العارف في معارج المعرفة ترقى في معارج السرور.

وقد ترى جمهور أمتنا (١) يعلمون أن الله عالم بعلمهم ، أن الله عالم ، دركا به عرفوا الله ، فهذا الدرك هو درك العلماء بالله ، فإذا نزل بهم تفصيل معاني دقائق مسائل تدخل في الكلام في العلم ، كان (٢) ذلك دركا هو عند العالمين بالله ، الذين هم في معاني درجات العارفين بالله ، (٣) فإذا أخذوا في ذلك العلم وجدوا في ذلك سرورا.

فالناس لا يستوون في درك الله في الدنيا في تفاضلهم ، وكذلك يتفاضلون غدا في إدراك الله ، للمعنى الذي ليس هو تحديد الله ، (٤) فيكون الله يعطيهم من ذلك العلم ما لا يخطر على قلب بشر في الدنيا ، مما فيه السرور والتنعم للعالمين بالله في الدنيا ، ما لا يعطي كثيرا من سواهم من العلماء الذي هم دونهم ، وقد عرفنا درك المؤمنين في الدنيا كيف هو. وأما درك المؤمنين في المعاد ، فإنا لا نعلم كيف هو ، لأنا لم نره وهو في الآخرة ثواب ، والثواب مؤجل ، وكلما كان من ثواب الله في الجنة فلا يعلم كيف هو إلا الله ، إلا أنا نعلم أن معنى الدرك له في الجنة ليس بتحديد ولا إحاطة ، فاعرف معاني الدرك واعرف (٥) فضل الدرك الذي يكون في الآخرة ، على فضل الدرك الذي يكون في الدنيا.

ولو أمدّ الله عزوجل الأبصار بالمعونة ، حتى تدرك أقل قليل نقطة من القطر في مدلهم ليل عاتم (٦) تحت الأرض السفلى ، من أبعد غايات السماوات العلى ، ما أدركت

__________________

(١) في (أ) و (ج) : أئمتنا.

(٢) في (ب) و (د) : كان في ذلك دركا (زيادة).

(٣) في (أ) و (ج) : في المعاني درجات والعارفين بالله.

(٤) في جميع المخطوطات : تحديد لله. ولعل العبارة كما أثبت ، أو : ليس هو تحديد لله. أو بتحديد الله. والله أعلم.

(٥) سقط من (ب) : إحاطة فاعرف معاني الدر واعرف.

(٦) في (أ) و (ج) : غائم.

الأبصار الله ، وكذلك لو أمدّت الحواس كلها بالمعونات حتى تدرك كل محسوس ما هجم (١) منها شيء على الله سبحانه ، تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

تم كتاب المسترشد والحمد لله كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد النبي وأهله الطاهرين وسلم تسليما.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (ج) : ما هجم عليه منها شيء على الله سبحانه.

الرد على المجبرة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله المحسن إلى جميع خلقه ، بما عمّهم من فضله وإحسانه ، الذي : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)) [النساء : ٤٠]. الذي خلق خلقه لعبادته ، وقوّاهم على طاعته ، وجعل لهم السبيل إلى ما أمرهم به ، كما قال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦]. وقال : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) [البينة : ٥]. وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [النساء : ٦٤]. وقال لموسى وهارون صلى الله عليهما : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤)) [طه : ٤٣ ـ ٤٤].

فزعمت القدرية الكاذبة على ربها ، أن الله عزوجل عن قولهم : خلق أكثر خلقه ليعبدوا غيره ، ويتخذوا الشركاء والأنداد ، مع قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢]. ومع قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [النساء : ١ ، الحج : ١ ، لقمان : ٢٣]. وقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النساء : ٥٩ ، المائدة : ٩٢ ، النور : ٥٤ ، محمد : ٣٣ ، التغابن : ١٢]. وقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [يونس : ١٠٨]. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٣٩].

فزعموا أنه لم يرد منهم أن يطيعوا رسله ، وأن الله أمر بما لا يريد ، ونهى عما يريد. وخلقهم كفارا ، وقال الله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) [آل عمران : ١٠١]. ومنعهم من الإيمان ، وقال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ) [النساء : ٣٩]. وقال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) [الإسراء : ٩٤ ، الكهف : ٥٥]. ومنعهم من الهدى ، وأفّكهم ، وقال : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة / ٧٥ ، والتوبة / ٣٠ ، والمنافقون / ٤]. وصرفهم عن دينه ، وقال : (أَنَّى يُصْرَفُونَ) [غافر : ٦٩].

فافهموا ـ وفقكم الله ـ ما يتلى عليكم من كتاب الله ، فإن الله يقول : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) [يونس : ٥٧]. ويقول : (لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ

يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)) [فصلت : ٤١ ـ ٤٢]. ويقول : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦]. ويقول : (اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٥].

وقد بيّن الله للخلق ، واحتج عليهم بما بيّن لهم في كتابه ، وأمرهم بالتمسك بما في الكتاب ، والاقتداء بما عن نبيه (١) جاءهم ، فإنما هلك من كان قبلهم ، بإعراضهم عن كتاب ربهم ، والترك لمن مضى من أنبيائهم ، من أهل الكتاب وغيرهم.

فاتقوا الله (٢) ، وانظروا لأنفسكم قبل نزول الموت ، واعلموا أنه لا حجة لمن لم يحتج بقول (٣) الله ، فإن الله سبحانه يقول : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٤٦]. فاسمعوا قول المفترية على الله. فمن قولهم : إنه لم يعمل أحد خيرا ولا شرا .. فرد الله عليهم مكذبا لهم : فقال : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١)) [محمد : ١]. وقال : (كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩]. وقال : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢)) [النجم : ٥٢]. وقال: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢]. وقال : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [غافر : ١٧]. وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٧ ـ ٨]. مع الآيات الكثيرة المحكمة الواضحة ، من كتاب الله ، تصديقا لما قلنا ، وتكذيبا لما قالوا.

وإنما أنزل الله الكتاب ليتمسّك به ، قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [الأحزاب : ٢]. وقال : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)) [طه : ١٢٣ ـ ١٢٤]. وقال : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٠٦]. ثم قال لجميع الأمة : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)) [الأعراف : ٣]. فاتقوا الله ولا تقولوا على

__________________

(١) في (أ) : نبيهم. وفي (ج) : بينة. (مصحفة).

(٢) سقط من (ج) : الله.

(٣) في (أ) : بكتاب. وكتب فوقها قول. وفي (ج) : بقول كتاب الله.

الله إلا الحق ، فقد بيّن لكم آثار من مضى من أسلافكم ، وقص عليكم قصة من كان قبلكم ، من المؤمنين والصالحين ، ومن أوليائه المرسلين ، وما أمركم من الاقتداء بهم ، ورغّبكم في مرافقتهم (١) ، وقد خبّركم ما قد أصبح بمن خالفهم (٢) وسلك عكس طريقهم ، من قوم لوط ، وأصحاب فرعون ، فأخذهم الله بذنوبهم فقال : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٣٩]. وقال ، سبحانه لنبيه : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٨٢]. وقال : (فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)) [الزمر : ١٧ ـ ١٨].

ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥)) [محمد : ٢٥].

فهذا ما أخبر الله عزوجل ذكره عن جميع عباده ، كيف من ضل منهم ، واهتدى من اهتدى منهم ، ومن بعد ما قد حكى الله من أنبيائه صلوات الله عليهم ، وعلى آدم وحواء ، قال الله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] ثم قال : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢] ، فاعترفا بذنبهما ، فقالا مقرّين تائبين عن معصيتهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [الأعراف : ٢٣].

ولم يقولا : معصيتنا من الرحمن وإرادته.

والقدرية والمجبرة يقولون : معصيتنا بقضاء الله وإرادته ، خلافا على أبي البشرعليه‌السلام.

وقال الله ، عزوجل ، يخبر عن موسى صلى الله عليه : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥]. ولم يقل : هذا من الله ومشيئته. وقال يعقوب عليه‌السلام : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) [يوسف : ١٨]. والقدرية

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بهم في مرافقتهم.

(٢) في جميع المخطوطات : خالفكم. والسياق يؤكد ما أثبت. فلعلها مصحفة.

تقول : إن الله سوّل لهم ذلك. وقال يوسف صلى الله عليه : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ٩٦]. وقال يخبر عن يونس ، عليه‌السلام : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧]. والقدرية تزعم أن الظلم قضاء رب العالمين. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ : ٥٠]. فجعل ضلالته من قبل نفسه ، وهداه من قبل ربه ، موافقة لله ، إذ يقول سبحانه : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢)) [الليل : ١٢]. وقال : (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الطارق : ١]. وقال : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦]. أي لئلا تضلوا. وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٢]. فكل ما كان من هدى فقد أضافه إلى نفسه ، وكل ما كان من ضلال فقد أضافه إلى خلقه ، والله أولى بما أضاف إلى نفسه ، والعباد أولى بما أضاف إليهم ، وكانوا هم المعتدين الظالمين ، الجائرين المخالفين لقضائه وقدره ، تبارك وتعالى.

فأقرّت الأنبياء ، صلوات الله عليهم بالإساءة والتقصير ، فيما أغفلت وقصّرت ، وأضافت ذلك إلى أنفسها ، وإلى الشيطان ، معرفة منهم بالله ، أنهم لم يؤتوا في ذلك من ربهم. وخالفت المجبرة والقدرية كتاب الله ، ووافقت الشيطان ، قلة معرفة منهم بعدل الله في خلقه ، ورحمته لهم ، وانتفائه من ظلمهم ، في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)) [النساء : ٤٠].

فقد ذكرنا جملة مما احتج الله على القدرية الكاذبة على الله في كتابه ، وعلى النبيين.

وكيف يتوهم عاقل ، أو ينطوي قلب مؤمن؟! أنه مصيب مع خلافه لقول الله وقول أنبيائه؟! إن من ظن ذلك لقد جهل جهلا مبينا ، وضل ضلالا بعيدا.

فزعموا من بعد ما حضرنا ما ذكرنا ، وما لم نذكر من حجج الله عليهم ، وما قد رد الله من مقالتهم ، وأكذبهم ما لا يحصى ، فزعموا أن الله خلق الخلق صنفين ، وجعلهم جزءين ، فجعل صنفا يعبدونه ، وصنفا يعبدون الشيطان ، وجعل من يعبد الشيطان أكثر ممن يعبد الله ، فأكذبهم بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦].

ثم زعموا أن الله تبارك وتعالى ، رضي بذلك وأراده وأحبّه ، (١) وأنه لا يرضى أن يعبد من أرضاه أن يكفر به ، (٢) تكذيبا بقول الله وردا عليه إذ يقول : (لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧]. ويقول : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)) [البقرة : ٢٠٥]. فتعالى الآمر بالعدل والاحسان ، أن يكون راضيا بالمنكر والعدوان ، لأنه لا يريد الظلم (٣) لأنه عدل ، ولا يريد الفساد لأنه مصلح ، ولا يحب المنكر لأنه حكيم حاكم بالحق.

وقال سبحانه ردا على من زعم أن الله أراد الكفر والظلم ، فقال سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١]. وقال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥]. وقال : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) (٤) إلى قوله : (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧)) [النساء : ٢٦ ـ ٢٧]. فأخبر أنه يريد أن يبين لنا ويهدينا ، وأن الشيطان يريد خلاف ذلك بنا. إذ كان سبحانه ناظرا رحيما بنا ، وكان الشيطان عدوا لنا مبغضا ، فلا يكون الناظر لنا يريد بنا عدوانا. وقال : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨)) [الصف : ٨]. وقال : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٧]. وقال : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)) [النساء : ٢٨]. في آي كثيرة ، ولو لا طول الكتاب ذكرتها ، وفيما ذكرنا كفاية. والحمد لله.

زعمت القدرية : أن العباد ما شاءوا شيئا قط ، ولا يريدون شيئا ، والله هو المريد

__________________

(١) في (د) : وأوجبه.

(٢) كذا في جميع المخطوطات : وقد استشكل العبارة في (أ) وقال : كذا. والمعنى أن الله لا يرضى أن يعبده الذين قد رضي أن يكفروا به.

(٣) في (ب) و (د) : الظلم ولا يشاؤه.

(٤) تكملة الآية : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ).

للظلم ، والغراة (١) عليه ، فرد الله عليهم بقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩]. و : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل : ١٩ ، الإنسان : ٢٩]. وقال : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) (١٣) [عبس: ١١ ـ ١٣]. وقال موسى ، عليه‌السلام : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧]. وقال أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤]. فذكر الله المشيئة في غير موضع من الكتاب ، وذكر أن العباد يريدون ويفعلون ويشاءون ، تكذيبا لمن قال بخلاف ذلك.

فقد ذكرنا جملة من كتاب الله تبارك وتعالى ، مما فيه رد عليهم ، وحجة بلاغ لقوم عابدين.

[أسئلة إلى المجبرة]

ونحن سائلون بعد ذلك ، وبالله نستعين ، مع أن في المسألة آيات كثيرة مما قد دل الله العباد ، وبين لهم أنهم يشاءون ويريدون ، ويرضون ويحبون.

فأما المشيئة فقال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [فصلت : ٤٠]. وقال : ما (أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)) [الفرقان : ٥٧].

فأما الإرادة فقال : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [آل عمران : ١٥٢].

وأما الرضى ، فقال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩].

وأما المحبة ، فقال : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) [الحشر : ٩]. وفي ذلك آيات كثيرة مما لم نذكره.

ثم يقال لمن زعم أن الله خلق أكثر خلقه ليعبدوا غيره : ما حجتك وما برهانك على ما ادعيت من ذلك؟ أبكتاب الله ما قلت؟! أم بسنة؟ أم بقياس؟

__________________

(١) في جميع المخطوطات : والغراء ويبدو أنها مصحفة. والغراة والاغراء اسمان لمعنى واحد.

فإن ادعا حجة من الكتاب سئل؟

فإن قال : قلت : يقول الله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف: ١٧٩].

يقال له : إنا لم (١) نسألك عما أجبت ، وإنما سألناك عن قولك : خلق الله أكثر خلقه ليعبدوا غيره ، فمن زعم أن الله خلق أكثر خلقه للكفر والمعصية ، فلا يجد إلى ذلك سبيلا. مع أن لقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). تأويل عدل الله ، وإنما ذرأ لجهنم من عصاه ، وابتغى غير سبيله ، فجعلهم ذرو جهنم ، جزاء بما كانوا يكسبون ، ويعملون.

ثم يسأل عن قوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦]؟ فإن زعم أن ذلك خاص في المؤمنين! سئل عن الحجة في ذلك والدليل على ما قال؟ ثم يعارض ، فيقال له : إذا زعمت أن ذلك خاص ، ثم زعمتم أن قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]. فإن كان خاصا إلى المؤمنين ، والمؤمنون قد آمنوا ، فما معنى قوله : آمنوا ، وقد آمنوا؟! فلا يجدون وجه الآية أبدا (٢) إلا قول الحق خاصا في المؤمنين ، دون الكافرين ، ولا يجدون فرقا في ذلك.

ثم يسألون فيقال : أخبرونا عن إبليس ، خلقه الله ليعبده؟ أو ليعبد من دونه؟ ..

فإن قالوا : خلقه ليعبده. تركوا قولهم. وإن قالوا : ليعبد من دون الله ، زعموا أنه أول من أشرك بنفسه ، إذ جعل إبليس ليعبد من دونه ويشركه في عبادته ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ثم يقال لهم : إن زعمتم أن الله خلق خلقه كفارا ، وأمرهم بالإيمان ، أفليس قد أمرهم أن ينتقلوا من خلقهم ، وأن يصيروا إلى خلاف ما خلقهم عليه؟!

فإن قالوا : نعم. قيل لهم : فلم لا يجوز أن يخلقهم سودا ويأمرهم أن يصيروا بيضا ، كما خلقهم كفارا ، وأمرهم بالإيمان؟! فلا بد من إجازة ذلك ، أو يتركوا قولهم.

__________________

(١) في (أ) : لا نسألك.

(٢) في (ب) و (د) : الآية إذا.

ثم يسألون أيضا ، فيقال لهم : إذا خلق الكفار كفارا ، أيجوز أن يكون الكفر فعل الكفار؟

فإن قالوا : نعم. قيل لهم : وكذلك يجوز أن يخلق الأبيض أبيض ، ويكون البياض فعله ، ويخلق الأسود أسود ويكون السواد فعله!!

وإن سألوك فقالوا : إذا زعمت أن الله تبارك وتعالى ، خلق العباد للإيمان ، فلم يؤمنوا ، لم لا يجوز أن يخلقهم للموت فلا يموتوا؟

فقل لهم : إنما أعني بقولي : إن الله خلقهم ليفعلوا الايمان ، ولم يخلقهم للموت ليفعلوا الموت ، فهذا فرق ما سألتم عنه.

فإن قالوا : خلقهم للايمان فلا يؤمنون؟

قلنا : نعم. كما أمرهم بالايمان فلم يؤمنوا.

فإن قالوا : فما أنكرتم من أن يخلقهم للايمان كما خلقهم للموت؟

قيل لهم : من قبل : أن معنى قولي : خلقهم للموت ، أريد أن الله خلقهم ليميتهم ويضطرهم إلى ذلك ، فلو كان خلقهم للايمان كما خلقهم للموت كانوا كلهم مؤمنين ، كما كانوا كلهم يموتون ، ولو كان ذلك كذلك ، لم يجز أن يأمرهم بالإيمان ، ولا ينهاهم عن المنكر والكفر ، كما لا يجوز أن يأمرهم بالحياة ، ولا ينهاهم عن الموت ، ولا يجبرهم على شيء من ذلك ، ولا يثيبهم به. فمن هاهنا أنكرنا ما ذكرتم. ثم يقال لهم : إذا زعمتم أن الله خلق الناس كفارا ، فمن جاء بالكفر؟ من خلقه؟! أو من لم يخلقه؟!

فإن قالوا : من خلقه يقال لهم : فما معنى قوله : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)) [مريم : ٨٩ ـ ٩٢]. وقوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : ٧٤]. فهل يكون هذا على معناكم وأصلكم ومذهبكم إلا كذبا؟! لأنكم زعمتم أن الله تبارك وتعالى ، جاء به. وقال للكفار : أنتم الذين جئتم به. فلو أردتم تصفون ربكم بالكذب كيف كنتم تقولون؟! وهل يجوز هذا عندكم؟! وفي عقولكم أن يكون للصادق أن يفعل شيئا ، ثم يقول لغيره : أنت فعلته!

ولو جاز أن يكون فاعل هذا صادقا ، جاز أن يكون من فعل شيئا وجاء به ، وقال : أنا جئت به أن يكون كاذبا ، مع أن الله تبارك وتعالى ، قد عاب فاعل ذلك وذمه ، فقال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)) [النساء: ١١٢].

وإن زعم أن الكفر جاء به من لم يخلقه ، ومن خلقه لم يجئ به خرج من المعقول ، ولزمه أن يقول : إن من لم يخلق الموت هو الذي جاء به ، ومن خلقه لم يجئ به ، وهذا خروج من عقول الخلائق.

فإن سأل سائل عن قول الله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩]. فقال : إذا كان قد أخبر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس ، كيف يزعم أنه خلقهم لعبادته؟ وإلا فبينوا ما تأويل الآية عندكم؟!

فأول ما نجيبه أن نقول له : ينبغي أن تعلم أن كتاب الله لا يتناقض ولا يختلف ، ولا يكذب بعضه بعضا ، لأن الاختلاف لا يأتي من عند حكيم ، وقد قال تبارك وتعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. فإذا علمت أن ذلك كذلك ، فقد وضح لك الأمر ، أمر الآية من قبل أنه أخبرنا أن خلق الإنس والجن لعبادته ، وقال في موضع آخر : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). ثم أخبرك من هم فقال : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ...) إلى آخر الآية [الأعراف : ١٧٩]. فينبغي لك إذا ورد عليك شيء من كتاب الله ، مما ذهب عنك معناه ، أن تسأل عنه العلماء ، فإن الله عزوجل ، يقول : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧]. وقال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ١٩]. وليس ينبغي لعاقل أن يدع ما علم لما جهل ، وليس لك أن تشك في الواضح إذا ذهب عنك الخفي ، فينبغي للعاقل أن يتمسك بالواضح من كتاب الله ، وبالمحكم من كلام الله ، فإن في ذلك تبيانا وشفاء لمن طلب الحق وأراده. وقد رغّب الخلق في التمسك بالمحكم من كتابه ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران : ٧].

وأنا مخبرك بتأويل الآية : قال بعض أهل العلم : إن معنى قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩]. يريد الإعادة ولم يرد ابتدأهم لجهنم. ألا ترى أنهم كانوا في الدنيا يتمتعون ويأكلون!

ولكن لما علم تبارك وتعالى ، أن أكثر عاقبة هذا الخلق يصيرون إلى جهنم بكفرهم ، جاز على سعة الكلام ومجاز اللغة : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ). وإن كان إنما خلقهم في الابتداء لعبادته ، وذلك جائز في اللغة. وقد قال نظير ما قلنا في كتابه في موسى ، عليه‌السلام ، قال : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]. وإن كانوا إنما التقطوه ليكون لهم قرة عين ، وهكذا (١) حكى الله عن امرأة فرعون ، إذ قالت : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) [القصص : ٩]. ومثل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)) [النساء : ١٠]. لما كان عاقبة أمرهم إلى ذلك ، وإن كانوا لا يأكلون في الدنيا إلا الأخبصة ، (٢) والفالوذجات ، والأطعمة الطيبة.

وقد قال الشاعر ما يدل على ما قلنا من ذلك :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وللمنايا تربي كل مرضعة

وللحتوف برى الأرواح باريها (٣)

والوجه الثاني قال فيه بعض العلماء : إن معنى قوله : (ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) : خلقنا ، ومعنى خلقنا : على أن سنخلق ، وليس على قد خلقناكم في الابتداء لجهنم ، وإنما أراد

__________________

(١) في (ج) : وهذا.

(٢) في (ب) و (د) : وإن كانوا يأكلون الأخبصة. وفي (أ) و (ج) : وإن كانوا لا يأكلون في الدنيا إلا خبيصة. وما أثبتّ ملفق من الجميع. والله أعلم بالصواب. والخبيصة : الحلوى المخبوصة. والفالوذج : يقال فيه : فالوذ ، وفالوذق. ولا يقال فالوذج ، قاله الجوهري. فارسي معرب. وهو نوع من الحلوي مصنوع من لب الحنطة.

(٣) البيتان من قصيدة للإمام علي عليه‌السلام. ديوان الإمام قافية الهاء.

به في القيامة ، كما قال : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤]. على معنى سينادون ، وكما قال : (قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) [سبأ : ٣٣]. إنما يريد الله بقوله سنخلقهم بمعنى الإعادة ، وهو يوم القيامة في النشأة الأخرى ، فهذا تأويل الآية.

وإنما يدخلون جهنم بأعمالهم جزاء بما كانوا يكسبون ، وجزاء بما كانوا يكفرون ، وجزاء بما كانوا يعملون ، قال الله عزوجل : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف : ١٧٩]. يعني لا يتفقهون بها ، وقد كانوا يفقهون ما يقولون ، ويبصرون ما هو ألطف من الخردل ، ويسمعون ما يريدون ، ويستثقلون ما لا يريدون. فعلى هذا المعنى تأويل الآية ، وكل آية تشبهها.

ومن سألك فقال : من خلق الشر؟!

فقل له : إن الشر على أمرين : شر هو ألم وأذى وعذاب ، وشر هو ظلم وجور وكذب وعيب .. فعن أي الشرين تسأل؟

فإن قال : عن الظلم والجور.

فقل : إن الظلم من أفعال الظالمين ، والجور من الجائرين ، والكذب من الكاذبين.

فإن قال لك فالجور من خلقه؟

فقل له : لم نقل إنه مخلوق ، فتسألنا عن خالقه. فإن قال لك : فلم يخلق الله الكذب ، والجور؟!

فقل له : إن معنى خلقه : فعله ، والله لم يفعل الجور والكذب والظلم ، لأن الجور والكذب لا يفعله إلا كاذب جائر ظالم.

فإن قال : ما دليلك على أن الحمّى والألم شر؟

فقل له : دليلي على ذلك قول الله تبارك وتعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٢٥]. وقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠)) [المعارج : ٢٠]. وقول القائل :

لم أزل البارحة في شر طويل ، من حمى ووجع ضرس ، أو أذن ، أو بدن ، على ما (١) قال المتوجع.

ثم يقال له : أخبرني عن الخير والشر ، كله من الله؟!

فإن قال : نعم.

يقال له : وإذا كان الخير كله من الله ، فهل كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخير أيضا؟

فإن قال : نعم. ترك قوله ، وزعم أن النبي فعل خيرا ، وفعل النبي غير فعل الله. فإن قال : لم يفعل النبي خيرا ، فقد شك في الحق وكفره ، وجحد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهله.

ثم يسأل عن إبليس ، يقال : كان من إبليس شر قط؟

فإن قال : نعم. ترك قوله. وإن قال : لا. فقل له : فلا ينبغي لك أن تستعيذ من شر إبليس ، لأن من استعاذ من شره فهو أحمق عابث ، وإذا استعاذ من شرّ من لا شر له فقد جهل. هذا مع قول الله عزوجل : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) ...) [الفلق : ١] (٢) إلى آخر السورة.

ومن سأل عن ولد الزنا ، من خلقه؟ فيقال : الله خلق ولد الزنا وولد الكافر ، والناس أجمعين.

فإن قال : فأراد الله أن يخلقه؟ فيقال : نعم. فإن قال : فقد أراد الله الزنا؟! يقال : إنّ ولد الزنا غير الزنا ، والله لم يغضب من ولد الزنا ، وإنما غضب من الزنا ، وكذلك لم ينه الزاني عن الولد ، وإنما نهاه عن الزنا ، فما نهى الله عنه فليس من الله ، وما لم يرده فليس منه.

فإن قال : فيكون ولد إذا لم يزن الزاني؟

يقال له : يكون الولد بأن يتزوج ، فيكون الولد على غير الزنا.

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : ما.

(٢) كذا في جميع المخطوطات. ولعلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ...).

فإن قال : الولد الذي بعد الزنا كان يكون إلا من (١) الزنا؟ يقال له : قد أخبرناك أن الولد لم يكن من الزنا ، وإنما كان لأن الله خلقه. فإن قال : فلو لم يزن الزاني ، كان الله يخلقه؟! يقال : لا ندري بعد ، الله كان يخلقه ولو ولم يزن ، كأن يتزوج.

فإن قال : أرأيتك إذا زعمت أن الله أراد أن يخلق ولد الزنا ولم يرد الزاني يزني ، (٢) كيف يكون ذلك؟ يقال له : مثل ذلك : رجل اغتصب أرض رجل ، فبذر فيها ، وأراد الله أن ينبته ، فالله هو أراد أن ينبت الزرع ، ولم يرد الرجل أن يبذر في أرض غيره.

فإن قال : فما معنى هذا؟ يقال له : مثل ذلك : رجل زنى وسرق فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطعه وأن يجلده ولم يرد أن يسرق ولا يزني ، فإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقطعه ولا يجلده حتى يسرق ويزني ، فكذلك لم يرد الزنا ، وإن كان الولد لا يكون إلا بعد الزنا.

تم الكلام والحمد لله ولي الأنعام. وصلى الله على رسوله محمد وآله الكرام ، وحسبي الله وحده وكفى ، ونعم الوكيل.

* * *

__________________

(١) في (أ) : إلا بعد الزنا.

(٢) يعني : ولم يرد الله أن يزني الزاني.

الرد على الرافضة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على كل حال (١).

زعمت الرافضة أنه لم يكن قرن من القرون خلا ، ولا أمة من الأمم الأولى ، إلا وفيها وصي نبي ، أو وصي وصي ، حجة لله قائمة عليهم ، وعالم بأحكامه (٢) فيهم ، مفروضة عليهم طاعته ومعرفته ، ليس لأحد ممن معه في دهره حاله (٣) ولا صفته ، لا يهتدي إلى الله أبدا من ضلّه ، ولا يعرف الله سبحانه أبدا من جهله.

فيسألون ـ ولا قوة إلا بالله ـ عن فترات الرسل في الأيام الماضية ، وما لم يزل فيها لا ينكره منكر ولا يجهله من الأمم الخالية ، هل خلت منها كلها فترة؟ وأمة منهم مستقلة أم مستكثرة!؟ من أن يكون فيها إمام هاد؟ حجة لله على من معه من العباد ، يعلم من حلال الله وحرامه ، وجميع ما حكم الله به في العباد من أحكامه ، ما يعلم من تقدمه وكان قبله ، من كل ما حكم الله به ونزله؟

فإن (٤) قالوا : لا تخلو فترة من الفترات مضت ، ولا أمة من الأمم كلها التي خلت ، من أن يكون فيها إمام هاد على العباد لله حجة ، ليس بأحد معه إلى غيره من الخلق كلهم (٥) حاجة محوجة ، في احتجاج بحق ولا تبيين ، ولا في حكم من أحكام الدين ، من نذارة لغيّ ولا ردى ، ولا تبصرة لرشد ولا هدى ، كما قالت الرافضة فلا حاجة إذا بعد آدم ، بأمة من الأمم ، إلى أن يبعث الله فيهم نبيا ، ولا يجدد لهم لرشده وحيا ، يعلّمهم في دين الله علما ، ولا يحكم عليهم لله حكما ، ومن كان من ذلك وفيه ، ففضل لا فاقة بأحد إليه ، لأنه لا يبعث نبي في فترة ، ولا أمة مستقلة ولا مستكثرة ، إلا ووصيها فيها ، كاف في الحجة عليها ، مستغنى به عن التبصرة والتعريف ، وما حمّلها الله من فرض أو تكليف ، تامة به النعمة في الهدى من الله عليهم ، لعلمه بجميع أحكام الله

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : الحمد لله على كل حال.

(٢) في (أ) و (ج) : لأحكامه.

(٣) في (ب) و (د) : حالته.

(٤) في (أ) : فإذا.

(٥) في (ب) و (د) : كلهم أجمعين.

سبحانه فيهم ، وفيما قالوا به من هذا القول ، الغنى عن كل نبي أو رسول ، جاء عن الله بنذارة لجاهل من عباده أو تعليم ، أو هداية لضال من خلقه أو تقويم.

وفي هذا من إكذاب كتاب الله ووحيه ، وخلاف خبره تبارك وتعالى على لسان نبيه ، ما لا خفاء به ولا فيه عن موحّد ولا ملحد ، ولا خصم لدّ (١) أو لم يلدّ ، والله تبارك وتعالى يقول في إكذاب من قال بهذا القول عليه في كتابه ، بما لا يأباه مكابر مرتاب وإن عظمت بليته في ارتيابه ، قال الله سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (١٠) [الحجر : ١٠]. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦]. وقال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥)) [فاطر : ٢٤ ـ ٢٥]. وقال سبحانه : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)) [فاطر : ٤] ، مع ما ذكر لا شريك له مما يكثر ، عن(٢) أن نحصيه من تبعيثه في الماضين للرسل والنذر ، وما لم يزل يجدده من نعمه من ذلك في البشر ، لا يذكر سبحانه في ذلك كله وصيا ، ولا مما ذكرت الروافض في ذلك كله شيا ، ولو كان الهدى يصاب بغير كتب الله ورسله ، لعرف الله في ذلك بمنته (٣) وفضله ، ولذكر حجته على عباده ، وما دلهم عليه به من رشاده ، كما قال سبحانه فيما أنعم به من وحيه ، ومنّ به فيه من أمره ونهيه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)) [يونس : ٥٧]. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)) [النساء : ١٧٤]. مع ما يكثر في هذا ومثله ، من ذكر نعم الله فيه وفضله ، وكما قال سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) [الأنبياء : ١٠٧]. وقال سبحانه : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) اللّدّ : الشديد الخصوبة.

(٢) سقط من (أ) و (ب) و (د) : عن.

(٣) في (أ) و (ج) : بمننه.

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)) [آل عمران : ١٦٤].

وكما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦)) [الأحزاب : ٤٥ ـ ٤٦]. فذكر سبحانه منته على عباده ، برسوله وكتابه. وما ذكر في ذلك مما تقول الرافضة ـ بحمد الله ـ قليلا ولا كثيرا ، ولا أنه جعل غير رسوله كما جعله سراجا منيرا ، فنحمد الله على ما أفرد به رسوله صلى الله عليه وعلى أهله من التقدمة والتبيين ، إلى الدلالة به لعباده على كل رشد أو دين ، فهدى به في أيام حياته ، وقبل نزول حمامه (١) ووفاته ، خلقا كثيرا من خلقه ، ودلّهم سبحانه على سبيل حقه ، وهو بينهم سويّ حيّ ، ينزل عليه ـ وهم معه أحياء ـ الوحي ، ببيان (٢) ما التبس عليهم ، وبما منّ الله به من بعث رسوله فيهم ، وقد أكمل لهم سبحانه قبل وفاته الدين ، وأبان لهم به (٣) صلى الله عليه وعلى أهله التبيين ، بأنور دليل ، وأقوم سبيل ، وأبلغ حجة في هدى وتبصير ، وأهدى هداية تكون بنذارة أو تذكير.

وفيهم ما يقول سبحانه : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)) [آل عمران : ١٠١]. وكما قال سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] ، خبرا منه سبحانه عن أنه قد بيّن لهم دينهم كله جميعا تبيينا ، ومن ذلك ما يقول سبحانه : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩]. وقوله سبحانه : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩) [الأنعام : ١١٩]. ويقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا

__________________

(١) الحمام : الموت.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : الوحي. وفي (أ) : بيان.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : به.

رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)) [الحج : ٧٧ ـ ٧٨]. فجعلهم جميعا برحمته وفضله ، وإكرامه لآبائهم من أوليائه ورسله ، شهداء على خلقه وعباده ، وأمناءه في أرضه وبلاده.

وجعلهم سبحانه أئمة شهداء كما جعلهم ، وفضّلهم من ولادة إبراهيم وإسماعيلعليهما‌السلام بما فضّلهم ، فبفعلهم للخيرات ، وعملهم للصالحات ، في كل ما حكم به عليهم من فرضه ، وعدهم ما وعدهم من الاستخلاف لهم في أرضه ، وما وعدهم في ذلك من مواعيده ، وتكفّل لهم به في الشكر عليه من مزيده.

وأخبر سبحانه بأصدق الخبر عن فسق من كفر منهم نعمه فيه ، ولم يؤد من شكره به ما يجب لله عليه ، فقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)) [النور : ٥٥].

فمن لم يفعل من الإيمان ما فعلوا ، ويعمل من الصالحات كما عملوا ، فلم يجعل الله له (١) إيمانا ولا إسلاما ، فكيف يجعله الله في الهدى إماما؟! وإنما جعل الله الإمام من هدى بأمره ، وعرف بالجهاد في الله مكان صبره ، كما قال الله لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)) [السجدة : ٢٣ ـ ٢٤].

__________________

(١) سقط من (أ) : له.

فكيف (١) يكون بالله موقنا أو معتصما ، أو عند الله مؤمنا أو مسلما ، من يشبه الله بصورة آدم ، وبما فيه من صور الشعر واللحم والدم؟ وأولئك فأصحاب هشام بن سالم (٢).

أو كيف يكون كذلك من قال بقول ابن الحكم ، (٣) وهو يقول : إن الله نور من

__________________

(١) في (ب) و (د) : وكيف.

(٢) هشام بن سالم الجواليقي الجعفي العلاف ، عدّه الإمامية تارة من أصحاب الصادق وأخرى من أصحاب الكاظم.

كان يتهم بالتجسيم ، ذكر ذلك عنه غير واحد من كتّاب الفرق كالشهرستاني وغيره ، بل ذكره بذلك أصحابه الإمامية ، فقد روى الطوسي في رجال الكشي عن عبد الملك بن هشام الحناط ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام أسألك جعلني الله فداك؟ قال : سل يا جبلي عما ذا تسألني؟

فقلت : جعلت فداك زعم هشام بن سالم أن الله عزوجل صورة ، وان آدم خلق على مثال الرب ، ويصف هذا ويصف هذا وأوميت إلى جانبي وشعر رأسي ، وزعم يونس مولى آل يقطين وهشام بن الحكم : أن الله شيء لا كالأشياء ، بائنة منه وهو بائن من الأشياء.

وزعما أن إثبات الشيء أن يقال : جسم فهو جسم لا كالأجسام ، شيء لا كالأشياء ، ثابت موجود غير مفقود ولا معدوم ، خارج من الحدين حد الإبطال وحد التشبيه ، فبأي القولين أقول؟

قال : فقال عليه‌السلام : أراد هذا الإثبات ، وهذا شبّه ربه تعالى بمخلوق ، تعالى الله الذي ليس له شبيه ولا عدل ولا مثل ولا نظير ، ولا هو بصفة المخلوقين ، لا تقل بمثل ما قال هشام بن سالم ... إلخ. اختيار معرفة الرجال ٢ / ٥٦٧ (٥٠٣).

(٣) هشام بن الحكم الشيباني بالولاء الكوفي أبو محمد : متكلم مناظر ، كان شيخ الإمامية في وقته ولد بالكوفة ونشأ بواسط وسكن بغداد ، وانقطع إلى يحيى بن خالد البرمكي ، فكان القيم بمجالس كلامه ونظره وصنف كتبا عدة منها الإمامية ، والرد على هشام الجواليقي ، والرد على شيطان الطاق ، وغيرها. وتوفي بالكوفة سنة (١٩٠ ه‍) تقريبا ، وكان يقول بالتجسيم روى ذلك عنه كتّاب الفرق والملل والنحل ، حتى أصحابه الإمامية رووا ذلك عنه ، قال الطوسي : عن أبي محمد الحجال ، عن بعض أصحابنا ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : ذكر الرضا عليه‌السلام العباسي ، فقال : هو من غلمان أبي الحارث ـ يعني ـ يونس بن عبد الرحمن ، وأبو الحارث من غلمان هشام ، وهشام من غلمان أبي شاكر الديصاني ، وأبو شاكر زنديق.

وعلق المحقق على قول الأصل : وهشام من غلمان أبي شاكر الديصاني بقوله : وحكى السيد جمال الدين بن طاوس رحمه‌الله تعالى أيضا عن كتاب أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، أنه قال : هشام بن ـ

__________________

ـ الحكم مولى بني شيبان ، كوفي تحول من الكوفة إلى بغداد ، وكنيته أبو محمد ، وفي كتاب سعد له كتاب ، وكان من غلمان أبي شاكر الزنديق ، وهو جسمي ردي. اختيار معرفة الرجال ٢ / ٥٦١ (٤٩٧).

وفي أصول الكافي في باب النهي عن الجسم والصورة ١ / ١٠٤. عن علي بن أبي حمزة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي نوري ، معرفته ضرورة يمن بها على من يشاء من خلقه. فقال سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، لا يحد ولا يحس ولا يجس ، ولا تدركه الحواس ، ولا يحيط به شيء ، ولا جسم ولا صورة ، ولا تخطيط ولا تحديد.

روى الكليني بسنده عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني قال : (قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : إن هشام بن الحكم زعم أن الله جسم ليس كمثله شيء ، عليم سميع بصير قادر متكلم ناطق ، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحدا ، ليس شيء منها مخلوقا. فقال : قاتله الله ، أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم معاذ الله ، وأبرأ إلى الله من هذا القول لا جسم ولا صورة ...). الكافي ١ / ١٠٦.

وروى الكليني أيضا بسنده عن محمد بن الفرج الرحمي قال : (كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأل عما قال هشام بن الحكم في الجسم ، وهشام بن سالم في الصورة ، فكتب : دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان ، ليس القول ما قال الهشامان). الكافي ١ / ١٠٥. والصدوق في التوحيد / ٩٧ ، والأمالي / ٢٢٨.

وعن محمد بن حكيم قال : (وصفت لأبي إبراهيم عليه‌السلام قول هشام بن سالم الجواليقي ، وحكيت له قول هشام بن الحكم : أنه مجسم ، فقال : إن الله لا يشبهه شيء). الكافي ١ / ١٠٦ ، والصدوق في التوحيد / ٩٧ ، وتنقيح المقال ٣ / ٢٩٤.

وعن يونس بن ظبيان قال : (دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت : إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما ، إلا أني أختصر لك منه أحرفا ، فزعم أن الله جسم لأن الأشياء شيئان جسم وفعل ، والجسم فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل ، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ويحه أما علم أن الجسم محدود متناه والصورة محدودة ومتناهية؟!). الكافي ١ / ١٠٦ ، والصدوق في التوحيد / ٩٩.

وعن أبي علي بن راشد ، عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام قال : قلت : (جعلت فداك قد اختلف أصحابنا فأصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ فقال : يا أبا علي عليك بعلي بن حديد. قلت : فآخذ بقوله؟ فقال : نعم. فلقيت علي بن حديد فقلت له : نصلي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال : لا). رجال الكشي / ٢٧٩ ، وصححه السيد بحر العلوم في الفوائد الرجالية ١ / ٤٠٣ ، ٤٠٤.

الأنوار ، وإنه سبحانه حبة مسدسة المقدار ، وإنه يعلم بالحركات ويعقل ، وتحف به الأماكن وينتقل ، وتبدو له البدوات ، وتخلو منه السماوات. لأنهم يزعمون أنه على العرش دون ما سواه ، وأنه لا يبصر ما حجبت (١) عنه الحجب ولا يراه ، ويدنو لما يدنو له من الأشياء المشاهدة ، وينأى عما نأى عنه بالمباعدة ، فما نأى عنه فليس له شهيد ، وما قرب منها إليه فهو منه غير بعيد.

والله سبحانه يقول فيما وصف نفسه لعباده ، وما تعرّف إليهم به من الصفات في كتابه : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)) [المجادلة : ٦]. وقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج : ١٧]. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)) [ق : ١٦]. وقال سبحانه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)) [الأنعام: ٣]. أفما في هذا بيان قاتلهم الله أنى يؤفكون!!

__________________

وروى الكشي بسنده عن أحمد بن محمد ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : (أما كان لكم في أبي الحسن عظة؟ ما ترى حال هشام بن الحكم فهو الذي صنع بأبي الحسن ما صنع ، وقال لهم وأخبرهم ، أترى الله أن يغفر له ما ركب منا؟!). رجال الكشي / ٢٧٨ ، تنقيح المقال ٣ / ٢٩٨.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : (هشام بن الحكم أبو محمد الشيباني من أهل الكوفة ، سكن بغداد وكان من كبار الرافضة ومشاهيرهم ، وكان مجسما يزعم أن ربه طوله سعة أشبار بشبر نفسه ، ويزعم أن علم الله محدث ، ذكر ذلك ابن حزم. وقال ابن قتيبة في مختلف الحديث : كان من الغلاة ، ويقول بالجبر الشديد ، ويبالغ في ذلك ، ويجوّز المحال الذي لا يتردد في بطلانه ذو عقل ...). لسان الميزان ٦ / ١٩٤. الطويل ولا عرضا غير العريض. وقالك ليس ذهابه في جهة الطول أزيد على ذهابه في جهة العرض ، وزعم أيضا أنه نور ساطع يتلألأ كالسبيكة الصافية من الفضة ، وكاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ، وزعم أيضا أنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسة ، وأن لونه هو طعمه ، وطعمه هو رائحته ، ورائحته هو مجسته ، ولم يثبت لونا وطعما هما غير نفسه ، بل زعم أنه هو اللون وهو الطعم. ثم قال : قد كان الله ولا مكان ، ثم خلق المكان بأن تحرك فحث مكانه بحركته فصار فيه ، ومكانه هو العرش. وحكى بعضهم عن هشام أنه قال في معبوده أنه سبعة أشبار بشبر نفسه). الفرق بين الفرق / ٦٥ ـ ٦٨.

(١) في (ب) و (د) : ما حجبته.

مع ما بيّن في غير هذا من بعده عن شبه الأشياء ، من النور وغيره من كل ظلمة وضياء ، من ذلك قوله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣]. وقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وقوله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٤] ، والكفؤ : فهو المثل والند. فلو كان كما قال هشام وأصحابه نورا وجسما ، أو كان كما قال ابن الحكم لحما أو دما ، لكانت أكفاؤه عددا ، وأمثاله سبحانه أشتاتا (١) بددا ، لأن الأنوار في نورها متكافية ، والأجسام في جسميتها متساوية ، وكذلك تكافؤ اللحم والدم ، كتكافؤ الجسمية كلها في الجسم ، ولو كان كما قال أصحاب النور نورا محسوسا ، لكانت الظلمة له ضدا ملموسا ، ولو كان بينهما كذلك لوقع بينهما ما يقع بين (٢) الأضداد ، من التغالب والتنافي والفساد ، فسبحان من ليس له ند يكافيه ، ولا ضد من الأضداد ينافيه ، (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)) [الزمر : ٦٢].

وما قالت به الرافضة من هذا فقد تعلم (٣) أن كثيرا منها لم يقصد فيه لما قصد ، أو يعتقد من الشرك بالله في قوله به ما اعتقد ، ألا وإن ما قالوا به في الله ، أشرك الشرك بالله ، فنعوذ بالله من الشرك بربوبيته ، والجهل لما تفرد به من وحدانيته.

هذا إلى (٤) ما أتوا به من الضلال بقولهم في الوصية ، وما أعظموا على الله وعلى رسوله في ذلك من الدعوى والفرية ، التي ليس لهم بها في العقول حجة ولا برهان ، ولم ينزل بها من الله وحي ولا فرقان.

وما قالت به الرافضة في (٥) الأوصياء من هذه المقالة فهو قول فرقة كافرة من أهل

__________________

(١) في (ب) و (د) : أشياء.

(٢) في (ب) و (د) : من.

(٣) في (ب) : علمت.

(٤) سقط من (ب) و (د) : إلى.

(٥) في (أ) و (د) : من.

الهند يقال لهم البرهمية ، (١) تزعم أنها بإمامة آدم من كل رسول وهدى مكتفية ، وأن من ادعى بعده نبوة أو رسالة ، فقد ادعى دعوة كاذبة ضآلة ، وأنه أوصى بنبوته إلى شيث ، وأن شيئا أوصى إلى وصي (٢) من ولده ، ثم يقودون وصيته بالأوصياء إليهم ، ولا أدري لعلهم يزعمون أن وصيته اليوم فيهم.

ولو كان الهدى في كل فترة كاملا موجودا ، ولم يكن إمام الهدى في كل أمة مفقودا ، لما جاز أن يقال لفترة من الفترات فترة ، ولا كانت للجاهلية في أمة من الأمم قهرة ، وقد ذكر الله لا شريك له أنه لم يرسل محمدا عليه‌السلام إذ أرسله ، ولم يرسل من أرسل من الرسل قبله ، إلا في أمة ضآلة غير مهتدية في دينها لحظها ، ولا مستحقة على الله بإصابة رشد (٣) لحفظها ، ولكن رحمة (٤) منه سبحانه لها وإن ضلت ، وإحسانا منه إليها في تعليمها إذ جهلت ، كما قال الله سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة : ٢١٣] ، فأخبر أنهم كانوا ضالين غير مهتدين. ولو كان فيهم حينئذ وصي وأوصياء ، لكان فيهم يومئذ لله ولي وأولياء ، ولما جاز مع ذلك ، لو كان كذلك ، أن يقال لهم : أمة واحدة ، لأنهم فرق متضادة ، لا تجمعهم في الهدى كلمة ، ولكنهم في الضلال أمة.

وكما قال سبحانه في بعثته لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (وَما كُنْتَ

__________________

(١) البراهمة نسبة إلى هندي يدعى (برهم) وهم طوائف ثلاث : فطائفة تقول : بقدم العالم ، وتعترف بمدبر له قديم ، إلا أنها تعتقد أن الإنسان غير مكلف بسوى المعرفة.

وطائفة تقول : بحدوث العالم ، وتعترف بوجود صانع حكيم ، ولكنها تنكر الرسل والكتب السماوية وترى أن لا واسطة بين الله تعالى وخلقه غير العقل.

وطائفة ثالثة تقول : بحدوث العالم ووجود الخالق ، ولكنها تؤمن بأن مدبرات العالم : الأفلاك السبعة (البروج الاثنا عشر) ، ولا تزال هذه النحلة الباطلة قائمة في الهند يعتنقها الكثيرون من أبنائها.

ذكر بعض كتاب الملل والنحل أن من عقائدهم أنهم لا يأكلون البقر وأنهم يغتسلون ببولها. فلعلهم فرقة من الهندوس عباد البقر.

(٢) في (أ) و (د) : أوصى من ولده.

(٣) في (ب) : رشدها.

(٤) في (ب) و (ج) : برحمة.

بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)) [القصص : ٤٦]. فما ذكر سبحانه أنه كان فيهم يوم بعثته له إليهم ، ومنته بالهدى فيه عليهم ، مهتد واحد منهم بهداه ، ولا قائم بما هو الهدى من تقواه ، لا رسول ولا نبي ، ولا إمام ولا وصي ، حتى منّ تبارك وتعالى عليهم ، ببعثته لمحمد عليه‌السلام إليهم ، فأقام لهم به منار الهدى وأعلامها (١) ، ونهج لهم سبل الحجج بأنوار أحكامها ، فبين به من ذلك كله ما كان درس (٢) وهلك خفاتا ، وأحيى به صلى الله عليه وعلى آله ما كان مواتا ، توحّدا منه سبحانه بالمنة فيه على خلقه ، وإفرادا لرسوله صلى الله عليه وعلى آله بالدلالة على حقه ، فلم يبق من هدى المحجوجين من العباد ، باقية بها إليهم حاجة من رشاد ، يكون بها لهم في دنياهم صلاح ، ولا لهم فيها عند الله فلاح ، إلا وقد جاء بها كتاب الله سبحانه منيرة مستقرة ، وكرر ـ لا إله إلا هو ـ بها فيه بعد تذكرة تذكرة ، إحسانا إليهم ورحمة ، وتذكرة لهم وعصمة ، ومظاهرة للنعمة فيهم وإسباغا ، واحتجاجا بكتابه عليهم وإبلاغا ، كما قال سبحانه : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)) [آل عمران : ١٣٨]. وقال سبحانه : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ٢٠٣].

فأين ذكر الرافضة في هذا وأمرها من ذكر الله وأمره ، وما بيّن سبحانه من إكذابهم فيما قالوا بخبره؟! فالله سبحانه يخبر أن كلهم كان ضالا فهداه ، وجاهلا بالهدى حتى علّمه الله بمنة إياه ، كما قال سبحانه لبني آدم : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)) [النحل : ٧٨]. وقال سبحانه لرسوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء : ١١٣]. وقال سبحانه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (ج) : وأعلامه ، فبين.

(٢) درس الشيء : عفى أثره.

ضَلالٍ مُبِينٍ (٢)) [الجمعة : ٢].

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)) [النحل : ٣٦].

ولا يهدى أحد (١) أبدا إلا من ضلال ، ولا يهتدي من تركه الله في جهالته من الجهال ، والله سبحانه يخبر أنهم كلهم كانوا في ضلال وعمى ، قد كانوا جميعا جهلة بدينه لا علماء.

والرافضة تزعم أن قد كانت فيهم يومئذ الأوصياء ، وأنها قد كانت تعلم من الدين حينئذ ما كانت تعلمه الأنبياء ، ومن كان لبعض علم الهدى وارثا ، وكان هدى الأنبياءعليهم‌السلام له (٢) تراثا ، كان بريا من الضلال ، وغير معدود في الجهال ، وإذا كان ذلك ، في الأوصياء كذلك ، وكانوا يزعمون أنهم إنما أخذوا هذا عن الكتاب وقبلوه ، وادعوا فيما قالوا به منه حكم الكتاب وتنحّلوه ، (٣) كان فيه للكتاب من التهجين ، ما يلحد فيه كل لعين ، شأنه تعطيل كل دين ، وتلبيس كل برهان مبين. لأن ما قالوا به من هذا فمن القول المتناقض المستحيل ، إذ وصفوا بعضهم بالهدى مع (٤) وصفهم لكلهم بالتضليل ، لأن في أن يكون كلهم عميّا ، دليل على أن لا يكون أحد منهم مهتديا ولا وصيا ، (٥) وفي أن لا يكون منهم وصي ولا مهتدي ، (٦) خبر عن أن كلهم ضال ردي ، وهذا فهو التناقض بعينه ، وما لا يحتاج كثير إلى تبيينه ، ولله الحمد في ذلك كله قبل غيره ، وبالله نستعين على ما أوجب بالهدى من إجلاله (٧) وتكبيره.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : أحد.

(٢) في (أ) : وكان علم. وسقط من (ب) و (د) : له.

(٣) التنحل : الادعاء.

(٤) في (ب) و (د) : بالهدى ووصفوا كلهم.

(٥) في (ب) و (د) : مهتديا بالأوصياء.

(٦) في (ب) و (د) : مهتد.

(٧) في (ب) : جلاله.

ومما يسأل عنه الرافضة إن شاء الله فيما يقولون به من الأوصياء ، أن يقال لهم : حدثونا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أكان وصيا لمن كان قبله من الأنبياء؟

فإن قالوا : نعم. قد كان لمن قبله وصيا. كان أمرهم في المكابرة جليا ، ولم يخرجهم ذلك من كر المسألة إليهم ، وتوكيد الحجة بما في المكابرة عليهم.

فيقال لهم : حدثونا عن الوصي الذي أوصى إلى النبي عليه‌السلام بالوصية أمن أهل اللسان العربي؟ (١) كان؟ أم من أهل اللسان العجمي؟

فإن قالوا : إن من أوصى إليه ، صلوات الله ورضوانه [عليه] ، كان يومئذ وصيا عربيا ، زعموا أن الوصي حينئذ كان أمّيا ، لأن كل عربي كان حينئذ بغير شك أميا ، لأن الله لم ينزل عليهم يومئذ قرآنا ، ولم يفصل لهم حينئذ بوحي فرقانا ، ولم يكن يومئذ أحد من العرب رسولا نبيا ، يجوز أن يكون له أحد وصيا ، لأنه معلوم عند كل أحد من الأمم غير مجهول ، أنه لم يكن في العرب بعد عيسى صلى الله عليه رسول ، ولا مدع يومئذ وإن أبطل ، يدعي أن يكون نبيا قد أرسل.

فإن قالوا : فإن الوصي الذي أوصى إلى النبي صلى الله عليه كان أعجميا.

قيل : أو ليس قد كان يعلّمه علمه وكان عليه‌السلام في علمه (٢) به مقتديا؟!

فإذا قالوا : بلى. قيل (٣) فإن الله تعالى يقول في ذلك بخلاف ما يقولونه ، ويخبر أنه لم يعلّمه يومئذ بشر عربي ولا عجمي يعلمونه ولا يجهلونه ، قال الله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)) [النحل : ١٠٣]. فأخبر أن معلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله غير أمي بأنه علمه بلسان عربي مبين. ولو كان الأمر كما تقول الرافضة في الإمامة والوصية ، لما خلا النبي عليه‌السلام فيما نسبت إلى عربية أو أعجمية ، من أن يكون قبل نبوته وبعثته ، وما وهبه الله بالرسالة من نعمته ، لم ير وصيا ولم يصل إليه ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : العربية.

(٢) في (ب) و (د) : به في علمه مقتديا.

(٣) في (أ) : قيل لهم. وسقط من (ب) : قيل.

ولم يعرفه ولم يستدل عليه ، فيكونوا هم اليوم أهدى منه يومئذ في معرفة وصيهم سبيلا ، أو يكون الله أقام لهم في معرفة الأوصياء ولم يقم له دليلا ، أو يزعمون أن قد لقي وصيّ عيسى صلى الله عليه ورآه ، (١) وكان مهتديا يومئذ بهداه ، من قبل مجيء رسالة الله إليه ، وقبل تنزيله سبحانه لوحيه عليه ، فيزعمون أن قد كان يومئذ مهتديا غير ضال ، وبريا قبل نبوته من جهل الجهال ، وعالما بجميع الإيمان ، فيكذبوا بذلك آيا من الفرقان ، منها قوله سبحانه: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧)) [الليل : ١٥]. وقوله سبحانه في آية أخرى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)) [الشورى : ٥٢].

وقوله سبحانه : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)) [يونس : ١٦]. فهو صلى الله عليه وعلى آله لم يكن يدري ما الإيمان حتى أدري ، ولا يعلم عليه‌السلام ما الهدى حتى علّم وهدي ، وبعض أئمتهم عندهم فقد علم ما الهدى والإيمان وهو وليد طفل ، ورسول الله صلى الله عليه لم يكن يعلمه حتى علّمه الله إياه وهو رجل كهل.

فأي شنعة أشنع ، أو وحشة أفظع ، من هذا ومثله ، وما يلحق فيه بأهله ، من مزايلة كل حق ، ومخالفة كل صدق؟! فإن هم أبوا ما وصفنا لتفاحشه ، ولما يدخله من شنائع أواحشه (٢) ، فزعموا أنه لم يكن في الأمم ، لا في العرب منها ولا في العجم ، قبل بعثة النبي محمد عليه‌السلام ، وصي يعلم يومئذ ولا إمام ، ظل (٣) رسول الله صلى الله عليه بجهله ، ولا أصاب الهدى يومئذ من قبله ، حتى آتاه الله هداه وأرشده ، وبصّره سبيل الهدى وقصده ، كما فعل بأبيه إبراهيم صلى الله عليه فيما آتاه قبله من رشده ، ودله عليه من الهدى وقصده ، إذ يقول سبحانه : (* وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : ورآه.

(٢) في (ب) و (د) : أو حشه.

(٣) في (ب) : ولا وصي قبل. وفي (د) : ولا إمام قبل. مصحفة.

وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١)) [الأنبياء : ٥١]. ويقول فيه عند تلمسه ليقين المعرفة لرب العالمين : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)) [الأنعام : ٧٦ ـ ٧٩]. فقرّ به (١) صلوات الله عليه قرار اليقين ، في معرفة رب العالمين ، حين برئ عنده من مذموم الأفول والزوال ، وتصرف اختلاف التغيير والأحوال ، وما لا يكون من (٢) ذلك إلا في الأمثال المتعادلة ، وأشباه الصنع المتماثلة ، التي جل الله سبحانه أن يكون بشيء (٣) منها مثيلا ، أو يكون جل جلاله لشيء منها عديلا.

وفي مثل ذلك ما يقول سبحانه لمحمد صلى الله عليه ، مع إفضائه من يقين المعرفة إلى ما أفضى إليه : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)) [الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣]. فهو عليه‌السلام يخبر أنه أول ـ أمته وقرنه ، ومن كان معه من أهل أيامه وزمنه ، بالله لا شريك له ـ إسلاما وإيمانا ، [ومعرفة بالله وإيقانا] (٤).

والله يخبر أن قد أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ، ولو كان معهما صلى الله عليهما يومئذ وصي لمرسلين ، لكان إسلام الوصي وإيمانه قبل إسلام إبراهيم ومحمد وإيمانهما ، ويقين الوصي بالله وعلمه قبل علمهما بالله وإيقانهما ،

__________________

(١) في (أ) : فقرر به.

(٢) سقط من (ب) و (د) : من.

(٣) في (ب) و (د) : لشيء.

(٤) أشار في (أ) : إلى بياض ، وترك في (ب) و (ج) فراغا يسع ثلاث كلمات أو أربع. قد تكون (ومعرفة بالله وإيقانا) كما أثبت بين المعكوفين ، والله أعلم.

ولما جاز أن يقول محمد صلى الله عليه : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) فيما قد سبقه غيره ممن معه (١) إليه ، وإبراهيم صلى الله عليه يطلب يومئذ المؤمنين ، ويلتمس حينئذ بالله جاهدا اليقين ، بحيلة كل محتال بفكره ، ويخاف الضلال عن الله مع (٢) نظره ، ويقول : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ، ويقول للكواكب : (هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، ومعه وصي أيامه ودهره ، لا يخطر على باله ولا نظره ، فلا يقع على شيء مما يجيل (٣) بفكره.

والرافضة اليوم تزعم أنها قد تعلم أنه قد كان معه ، وصي يلزمه أن يعرفه بعينه ، ويعلمه ما يلزمها (٤) اليوم من معرفة الوصي ، وما تدعي فيه من باطل الدعاوي ، فهي عند أنفسها تعلم من الأوصياء في دين الله ، ما لم يكن يعلمه منهم خليل الله ، وتهدى من الرشد فيه ، ما لم يهد الله خليله إليه. إلا أن تزعم أنه لم يكن مع إبراهيم وفي (٥) أمته وصي يهديها ، فيكون في ذلك بطلان ما في أيديها ، وما يلزمها من هذا في إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما ، فقد يلزمها في كثير من رسل الله معهما ، صلى الله على رسله وأنبيائه ، وزادهم الله فيما خصهم من كرامته واصطفائه.

وإمامهم ـ اليوم فيما يزعمون ، وكما في إفكهم يقولون ـ يدري ما كان رسول الله داريا ، ويدعو إلى ما كان إليه داعيا ، ودعوته (٦) صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت إلى الخير والهدى ، وتبيين ما كان يبيّن عليه‌السلام من الغي والردى ، وإنذار من أدبر عن الله يومئذ وأعرض ، وإعلام العباد بما حكم الله يومئذ وفرض.

__________________

(١) في (أ) : ممن كان معه.

(٢) في (أ) و (ج) : محتال بكفره. مصحفة. وفي (ب) و (د) : بفكره بخلاف. مصحفة. وفي (ب) و (د): من نظره.

(٣) في (د) : تحيّل.

(٤) في (ب) و (د) : ما يلزمه.

(٥) في (ب) و (د) : من.

(٦) في (ب) و (د) : دعوته.

فهذه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلمه وفعله ونعته (١) ، وقد يزعمون أن للإمام أحواله كلها (٢) لا رسالته ، فأين صفة أئمتهم وأحوالهم من صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وأحوالها؟ وأين (٣) ما نرى من أفعال أئمتهم قديما وحديثا فيما وصفنا كله من أفعاله!؟ لا أين ، وإن كابروا!!! وأقروا بخلاف ذلك أو لم يقروا ، أولا يعلم أنه إذا كان وصيهم غير نذير ، ولا مذكر بما أمر الله به من التذكير ، ولم يكن إلى ما دعا إليه الرسول عليه‌السلام داعيا ، كان عند من يؤمن بالله واليوم الآخر من الهدى بريا قاصيا ، وإذا لم يكن بما كان به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله على من خالفه محتجا ، لم يكن منهجه عند من يؤمن بالله واليوم الآخر لرسول الله عليه‌السلام منهجا.

تم كتاب الرد على الرافضة والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : وبعثه.

(٢) في (أ) و (ج) : كلها ورسالته.

(٣) في (ب) و (د) : ولين. مصحفة.

الرد على الروافض

من أهل الغلو

بسم الله الرّحمن الرّحيم (١)

افترق من ادعا التشيع على ثلاثة عشر صنفا ، منهم اثنا عشر في النار وهم الروافض.

١ ـ صنف من الروافض يقال لهم : السحابية ، (٢) وهم يزعمون أن عليا حي لم يمت [ولا يموت] حتى يسوق العرب والعجم بعصاه ، وهم يزعمون أن عليا في السحاب.

٢ ـ وصنف آخر يقال لهم الكيسانية (٣) : وهم أصحاب محمد بن الحنفية ، (٤)

__________________

(١) في (ب) و (د) : الرد على أهل الغلو من أصحاب الروافض.

(٢) السحابية : نسبة إلى السحاب لقولهم : إن عليا في السحاب ، وإن البرق سيفه والرعد صوته. حتى قال فيهم الشاعر :

برئت من الخوارج لست منهم

ومن قول الروافض وابن داب

ومن قوم إذا ذكروا عليا

يردون السلام على السحاب

الحور ١ / ٢٠٦.

ورواه الحلبي في سيرته ٣ / ٣٦٩ ، والإمام يحيى بن حمزة في التصفية / ٤٢٢ ، قال (كان لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عمامة تسمى (السحاب) كساها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فكان ربما طلع عليه علي كرم الله وجهه فيقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتاكم علي في السحاب. يعني عمامته التي وهبها له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) الكيسانية : نسبة إلى كيسان قيل : إنه لقب للمختار بن عبيد الثقفي لقبه به محمد بن الحنفية لكيسه ، ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم. فرق الشيعة للنوبختي ٧٤ ـ ٤٨.

وقيل نسبة إلى كيسان أبي عمرة وهو من الموالي ، وكان له غلو في علي عليه‌السلام ، وكان من أقوى أعوان المختار. العقد الثمين / ١٤. للإمام عبد الله بن حمزة.

قال أحد شعرائهم ، قيل : إنه كثير عزة ـ وكان كيسانيا ـ :

ألا إن الأئمة من قريش

ولاة الحق أربعة سواء

علي والثلاثة من بنيه

هم الأسباط ليس بهم خفاء

فسبط سبط إيمان وبر

وسبط غيبته كربلاء

وسبط لا يذوق الموت حتى

يقود الخيل يقدمها اللواء

تغيب لا يرى فيهم زمانا

برضوى عنده عسل وماء

(٤) محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي أبو القاسم المعروف بابن الحنفية. أحد الأبطال الشجعان ـ

ويزعمون أنه لم يمت ولا يموت حتى يملأها عدلا كما ملئت جورا.

٣ ـ وصنف آخر يقال لهم : الرّاوندية (١).

٤ ـ (وصنف آخر يقال لهم : الموصية) ، (٢) قادوا الوصية إلى جعفر (٣) بن محمد ، وزعموا أن الوصية انتهت إليه وهم الروافض.

وافترقوا من عند جعفر ، وزعموا أن الوصية وراثة يرث ابن عن أب.

٥ ـ ثم افترقت منهم طائفة يزعمون أن جعفر أوصى إلى ابنه إسماعيل ، (٤) وإسماعيل مات قبل جعفر ، وزعموا أنه لم يمت ، وذلك الذي دفنه جعفر جذع نخلة ، وغيّبه جعفر تقية عليه ، وقادوا الوصية إلى ولده ، وهم يقال لهم : المباركية ، (٥) يصومون قبل رمضان بيومين ، ويفطرون قبل الفطر بيومين ، ويزعمون أن الشهر من غيبوبة الهلال إلى غيبوبته.

__________________

ـ الأشداء في صدر الإسلام أخو الحسن والحسين عليهم‌السلام غير أن أمهما فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وأمه خولة بنت جعفر الحنفية ينسب إليها تمييزا له عنهما ، شارك أباه في جميع حروبه ومعاركه ولد بالمدينة سنة (٢١ ه‍) وتوفي بها سنة (٨١ ه‍) وقيل خرج إلى الطائف هاربا من ابن الزبير فمات هناك وأخباره طويلة. وللخطيب علي بن الحسين الهاشمي النجفي كتاب (محمد بن الحنفية) في سيرته. مطبوع.

(١) الروندية : نسبة إلى عبد الله بن الخرب الكنادي الكوفي الروندي العالم المشهور المتوفي سنة (٢٩٨) وقيل سنة (٣٠١) وهي القائلة بأن عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين. الموصية : نسبة إلى الوصية.

(٣) جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، أبو عبد الله الصادق إمام من أئمة المسلمين ، وعلم من أعلام الإسلام ، ولد سنة ٨٠ ه‍ وتوفي سنة ١٤٨ ه‍ روى عن أبيه ، وعن محمد بن المنكدر ، وعبيد الله بن أبي رافع ، وعطاء ، وعروة ، وجده لأمه القاسم بن محمد ، ونافع ، والزهري وغيرهم ، وعنه ابنه موسى وشعبة والسفيانان ، ومالك وأبو حنيفة ، وابن جريح وخلق كثير ، جمع الحافظ بن عقدة من روى عنه في كتاب فبلغوا أربعة آلاف رجل.

(٤) إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر الهاشمي القرشي إليه تنسب فرقة الإسماعيلية وهي القائلة بإمامته بعد أبيه جعفر. كان رجلا صالحا وكان أكبر إخوته وكان أبوه شديد المحبة له والبر به ، مات في حياة أبيه بالعريض وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة ودفن بالبقيع سنة (١٣٣ ه‍).

(٥) المباركية : نسبة إلى عظيم من عظمائهم يسمى المبارك. العقد الثمين / ٤٥ ، الحور العين / ٢١٦.

٦ ـ وصنف آخر يقال لهم : الفطحية ، (١) منهم زرارة ، (٢) وحمران ، (٣) وبكير ، (٤)

__________________

(١) الفطحية : سموا فطحية لأن عبد الله بن جعفر كان أفطح الرأس ، وأفطح القدم ، أي عريضهما ، وقيل : إنما نسبوا إلى رجل من رؤسائهم يسمى عبد الله بن أفطح. العقد الثمين / ٤٥ ، الحور العين / ٢١٨.

رجال الكشي ٢ / ٥٢٤. إلا أنهما قالا : عبد الله بن فطيح.

(٢) زرارة : بن أعين بن سنسن الشيباني يعده الإمامية تارة من أصحاب الباقر ، وأخرى من أصحاب الصادق ، وثالثة من أصحاب الكاظم.

اسمه عبد ربه ويكنى أبا الحسن وزرارة لقّب به. معدود من فقهائهم ومتكلميهم له كتاب في الاستطاعة والجبر مات سنة (١٥٠ ه‍).

(٣) حمران بن أعين الشيباني أخور زرارة. معدود من أصحاب الباقر ، وقيل : الصادق ، أحد متكلمي الإمامية. ضعفه جماعة منهم.

(٤) بكير بن أعين الشيباني أخور زرارة وحمران ، أبو الجهم عد من أصحاب الباقر ، وقيل : الصادق ، مات في حياة الإمام الصادق لم يوثق نصا من رجال الجرح والتعديل الإمامية وإنما استفيد توثيقه من قرائن أخر ، كما قال المامقاني في توضيح المقال عند ترجمته.

وآل أعين كلهم متهمون في دينهم ، روى الكشي عن حنان بن سدير قال : (كنت أنا ومعي رجل أريد أن أسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عما قالت اليهود والنصارى والمجوس الذين أشركوا ، هو مما شاء الله أن يقولوا؟ قال : فقال لي : إن ذا من مسائل آل أعين ليس من ديني ولا دين آبائي. قال : قلت : ما معي مسألة غير هذه). رجال الكشي / ١٥٣ ، وتنقيح المقال ١ / ٤٤٤.

وروى الكشي أيضا عن عبد الرحمن القصير قال : (قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ائت زرارة وبريدا فقل لهما ما هذه البدعة التي ابتدعتماها أما علمتما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كل بدعة ضلالة؟ قلت له : إني أخاف منهما فأرسل معي ليثا المرادي فأتينا زرارة فقلنا له ما قال أبو عبد الله عليه‌السلام ، فقال : والله لقد أعطاني الاستطاعة وما شعر ، فأما بريد فقال : والله لا أرجع عنها أبدا). رجال الكشي / ١٤٨ ، وتنقيح المقال ١ / ٤٤٤.

وروى الكشي أيضا أن الإمام الصادق سأل أحد شيعته بقوله : متى عهدك بزرارة؟ قال : ما رأيته منذ أيام ، قال ـ أي الإمام الصادق ـ لا تبالي وإن مرض فلا تعده وإن مات فلا تشهد جنازته. قال ـ أي السائل ـ زرارة؟ متعجبا مما قال. قال ـ أي الصادق ـ نعم زرارة. زرارة شر من اليهود والنصارى ومن قال : إن الله ثالث ثلاثة. رجال الكشي / ١٦٠ ، وتنقيح المقال ١ / ٤٤٣.

وروى الكشي أيضا بسنده عن زياد بن أبي الحلال قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : (إن زرارة روى عنك في الاستطاعة شيئا فقبلناه منه وصدقناه وقد أحببت أن أعرضه عليك ، فقال : هاته ، فقلت : يزعم أنه سألك عن قول الله عزوجل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ ـ

ومحمد بن مسلم ، (١) وعمار الساباطي ، ..

__________________

ـ سَبِيلاً)؟ فقلت : من ملك زادا وراحلة. فقال : كل من ملك زادا وراحلة فهو مستطيع للحج وإن لم يحج؟ فقلت : نعم. فقال : ليس هكذا سألني ولا هكذا قلت ، كذب علي والله ، كذب علي والله ، كذب علي والله ، لعن الله زرارة ، لعن الله زرارة ، لعن الله زرارة ، إنما قال لي : من كان له زاد وراحلة فهو مستطيع للحج؟ قلت : قد وجب عليه. قال : فمستطيع هو؟ فقلت : لا حتى يؤذن له. قلت : فأخبر زرارة بذلك؟ قال : نعم. قال زياد : فقدمت الكوفة فلقيت زرارة فأخبرته بما قال أبو عبد الله وسكت عن لعنه ، قال ـ أي زرارة ـ أما أنه قد أعطاني الاستطاعة من حيث لا يعلم وصاحبكم هذا ليس له بصر بكلام الرجال). رجال الكشي / ١٤٧ ، وتنقيح المقال ١ / ٤٤٣ ، والخوئي في معجم رجال الحديث ٧ / ١٤١.

وروى الكشي أيضا عن مسمع بن كردين قال : سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : (لعن الله بريدا ولعن الله زرارة). رجال الكشي / ١٤٨ ، والخوئي ٧ / ٢٤٣.

وروى الكشي أيضا عن إسماعيل بن عبد الخالق ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ذكر عنده بنو أعين ، فقال : (والله ما يريد بنو أعين إلا أن يكونوا على غلب). رجال الكشي / ١٣٤.

وروى الكشي أيضا عن ميسر قال : (كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام فمرّت جارية في جانب الدار على عنقها قمقم قد نكسته ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فما ذنبي إن الله قد نكس قلب زرارة كما نكست هذه الجارية القمقم). رجال الكشي / ١٦٠ ، وتنقيح المقال ١ / ٤٤٤.

وروى الكشي أيضا عن أبي مسكان قال : (سمعت زرارة يقول رحم الله أبا جعفر وأما جعفر فإن في قلبي عليه لفته ، فقلت له : وما حمل زرارة على هذا؟ قال : حمله على هذا أن أبا عبد الله أخرج مخازيه) رجال الكشي / ١٤٤ ، وتنقيح المقال ١ / ٤٤٤.

وروى الكشي أيضا بإسناده إلى ليث الراوي قال : سمعت أبا عبد الله عليه يقول : (لا يموت زرارة إلا تائها). رجال الكشي / ١٤٩ ، وتنقيح المقال ١ / ٤٤٣.

(١) محمد بن مسلم بن رباح أبو جعفر الأوقص الطحان ، عد من أصحاب الباقر ، وقيل : الصادق. وقيل : الكاظم مات سنة (١٥٠ ه‍) عن نحو سبعين سنة ، وردت أخبار عن الصادق بذمه ولعنه هو زرارة بن أعين. له كتاب الأربعمائة مسألة في الحلال والحرام.

عن عامر بن عبد الله بن جذاعة قال : (قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن امرأتي تقول بقول زرارة ومحمد بن مسلم في الاستطاعة وترى رأيهما؟ فقال : ما للنساء وللرأي والقول لها ، إنهما ليسا بشيء في ولاية. قال : فجئت إلى امرأتي فحدثتها ، فرجعت عن ذلك القول). اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٩٣ ٢٨٢).

وعن أبي الصباح قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : (يا أبا الصباح هلك المترئسون في ـ

(١) ومعاوية بن عمار ، (٢) وكانوا يزعمون أن جعفرا أوصى إلى عبد الله (٣) ابنه ، وهو الإمام من بعده ، ثم أوصى عبد الله إلى موسى (٤).

٧ ـ وصنف آخر من الروافض (٥) يقال لهم : المفضلية (٦) ، زعموا أن موسى وصي جعفر وهو الإمام من بعده.

٨ ـ وصنف آخر يقال لهم : السبطية ، (٧) زعموا أن جعفر أوصى إلى محمد (٨) ابنه،

__________________

ـ أديانهم ، منهم زرارة ، وبريد ، ومحمد بن مسلم ، وإسماعيل الجعفي ، وذكر آخر لم أحفظ). اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٩٤ (٢٨٣).

وعن مفضل بن عمر قال : (سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لعن الله محمد بن مسلم كان يقول : إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون). اختيار معرفة الرجال ١ / ٣٩٤ (٢٨٤).

(١) عمار بن موسى أبو اليقظان الساباطي. عد من أصحاب الصادق ، وأخرى من أصحاب الكاظم ، قال في الفهرست : عمار بن موسى الساباطي وكان فطحيا له كتاب كبير جيد ، وكذلك قال عنه الكشي وغيره. ضعفه جماعة من الإمامية.

(٢) معاوية بن عمار أبو معاوية بن خباب بن عبد الله البجلي الرهبي أبو القاسم الكوفي من أصحاب الصادق له كتب منها الحج وكتاب يوم وليلة وكتاب الزكاة. مات سنة (١٥٠ ه‍) ضعفه وقدح فيه جماعة.

(٣) عبد الله بن جعفر الصادق أكبر إخوته بعد أخيه إسماعيل. خرج مع الإمام زيد بن علي عليه‌السلام.

(٤) موسى الكاظم بن جعفر الصادق أبو الحسن سابع الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ولد سنة (١٢٨ ه‍) في الأبواء قرب المدينة ، كان من سادات بني هاشم ، ومن أعبد أهل زمانه ، وأحد كبار العلماء الأجواد ، حبسه هارون الرشيد في البصرة سنة واحدة ثم نقله إلى بغداد فتوفي فيها سجينا مسموما ، وقيل قتل سنة (١٨٣ ه‍).

(٥) سقط من (ب) و (د) : من الروافض.

(٦) المفضلية : نسبة إلى رئيس لهم كان صيرفيا يسمى المفضل. الحور العين / ٢٢٢. انظر رجال الكشي ٢ / ٦١٢ ـ ٦١٥.

(٧) السبطية ، لعلها نسبة إلى عمار الساباطي ، أحد رءوسهم.

ويقال : السمطية نسبة إلى يحيى بن أبي سمط. ويقال الشمطية نسبة إلى يحيى بن أبي شمط ، ولا يعدو أن يكون الاسم مصحفا.

(٨) محمد بن جعفر الصادق يكنى أبا جعفر ، كان فاضلا مقدما في أهله ، خرج بالمدينة وبويع بإمرة المؤمنين يوم الجمعة لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة مائتين ، وكان على مذهب الزيدية. قيل ـ

وهو الإمام من بعده ، وهو مفقود.

٩ ـ وصنف آخر يقال لهم : الخطابية (١) : زعموا أن الإمامة انتقلت من جعفر إلى الخطاب ، والخطاب خليفة جعفر ووصيه ، وجعفر غائب حتى يرجع.

١٠ ـ وصنف آخر من الروافض من أصحاب موسى ، وقفوا على موسى وزعموا أن موسى حي لم يمت ، ولا يموت حتى يملأها عدلا كما ملئت جورا ، ويقال لهم الواقفة (٢) والممطورية.

١١ ـ وصنف آخر منهم يقال لهم القطعية ، (٣) وهم أصحاب علي بن موسى (٤).

__________________

ـ كتب رجل كتابا في أيام أبي السرايا يسب فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجميع أهل البيت ، وكان محمد بن جعفر معتزلا العمل السياسي الجهادي لم يدخل في شيء منه. فجاءه الطالبيون فقرءوه عليه فلم يرد عليهم جوابا حتى دخل بيته ، فخرج عليهم وقد لبس الدرع ، وتقلد السيف ، ودعا إلى نفسه وتسمى بالخلافة وهو يتمثل :

لم أكن من جناتها علم الله

وإني بحرّها اليوم صالي

شكا ذات يوم على مالك بن أنس عالم المدينة ما هم فيه وما يلقون فقال : اصبر حتى يجيء تأويل هذه الآية (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).

وكان في أيام هارون وحاصره جيش هارون حتى تفرق عنه أصحابه فاضطر لأخذ الأمان لأصحابه من هارون. ومات بخراسان أيام المأمون.

قيل : عند ما خرجت جنازته دخل المأمون بين عمودي السرير فحمله حتى وضعه في لحده ، وقال : هذه رحم مجفوة منذ مائتي سنة ، وقضى دينه وكان عليه نحو ثلاثين ألف دينار.

(١) الخطابية : نسبة إلى أبي الخطاب محمد بن أبي زينب ، مولى لبني أسد. الحور العين / ٢٢٠. كان يدعي أن الصادق عليه‌السلام جعله قيمه ووصيه من بعده ، وأنه علمه اسم الله الأعظم ، ثم ترقى إلى أن ادعى النبوة ، ثم ادعى الرسالة ، ثم ادعى أنه من الملائكة ، وأنه رسول الله إلى أهل الأرض والحجة عليهم.

(٢) الواقفة : سموا بذلك لوقوفهم على موسى بن جعفر ، وسموا بالممطورية لأن رجلا منهم ناظر يونس بن عبد الرحمن ، وهو من القطعية ، فقال له يونس : لأنتم أنتن من الكلاب الممطورة. أي : المبتلة بالمطر.

العقد الثمين / ٤٦ ، والحور العين / ٢١٩.

(٣) القطعية : سموا بذلك لقطعهم بموت موسى بن جعفر.

(٤) في جميع المخطوطات علي بن محمد ولعله سهو من النساخ والأصح علي بن موسى الرضا.

علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ولد بالمدينة سنة (١٥٣ ه‍) وقيل غير ذلك ، ثامن ـ

١٢ ـ وصنف آخر منهم يقال لهم البشرية ، (١) وهم من أصحاب علي بن محمد أيضا يزعمون أنا إذا عرفنا إمام زماننا فليس علينا شيء من الأعمال لا صلاة ولا صوم ، ولا زكاة ولا حج ، ولا شيء من الفرائض ، حتى يظهر حكم صاحبنا ، لأنا في الفترة ، وقد غيّرت وبدّلت الأحكام والفرائض ، فليس علينا من هذا شيء إلى يوم القيامة.

وكل من قال بجعفر من الروافض يزعم أن الإمام يخلق عالما ، وطبعه العلم ، والعلم مطبوع فيه ، ويزعمون أن الإمام يعلم الغيب ، ويعلم ما في تخوم الأرضين السابعة السفلى ، وما في السماوات السابعة العليا ، وما في البر والبحر ، والليل والنهار (٢) عنده

__________________

ـ الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية من أجلاء أهل البيت وفضلائهم ، أحبه المأمون العباسي فعهد إليه بالخلافة من بعده ، وزوجه ابنته ، وضرب اسمه على الدينار والدرهم ، وغيّر من أجله الزي العباسي الذي هو السواد ، فجعله أخضر ، وكان هذا شعار أهل البيت ، وتوفي سنة (٢٠٣ ه‍) بطوس. قيل : سمه المأمون ، ودفنه إلى جانب أبيه الرشيد.

(١) البشرية : نسبة إلى محمد بن بشير ، كان صاحب شعبذة ومخاريق. ادعا أن موسى بن جعفر كان ظاهرا بين الخلق يرونه جميعا ، يتراءى لأهل النور بالنور ، ولأهل الكدورة بالكدورة في مثل خلقهم ، بالإنسانية والبشرية اللحمانية ، ثم حجب الخلق جميعا عن إدراكه. رجال الكشي ٢ / ٧٧٥.

(٢) بوّب الكليني في كتابه الكافي بابا مستقلا تحت عنوان «إن الأئمة عليهم‌السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وإنه لا يخفى عليهم الشيء».

ونقل عن الإمام جعفر الصادق أنه قال : إني أعلم ما في السماوات والأرض ، وأعلم ما في الجنة وما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون. الأصول من الكافي كتاب الحجة ١ / ٢٦١.

ونقل عن الإمام الباقر أنه قال : لا يكون والله عالم جاهلا أبدا ، عالما بشيء جاهلا بشيء ، ثم قال : الله أجل وأعز وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه ، ثم قال : لا يحجب ذلك عنه. المصدر السابق ١ / ٢٦٢.

وعن سالم بن قبيصة قال : شهدت علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : أنا أول من خلق الله وآخر من يهلكها (كذا) ، فقلت : يا بن رسول الله وما آية ذلك؟ قال : آية ذلك أن أرد الشمس من مغربها إلى مشرقها ومن مشرقها إلى مغربها ، فقيل له : افعل ذلك ، ففعل. دلائل الإمامة / ٨٥٨٤.

وأن الأئمة يعلمون متى يموتون ، وأنهم يموتون باختيار منهم. الأصول من الكافي ١ / ٢٥٨.

وأن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وما عليه. المصدر السابق ١ / ٢٦٤.

وعند الأئمة علم لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل. المصدر السابق ١ / ٤٠٢.

مجرى واحدا. فسبحان الله!! وما هذه إلا صفات (١) رب العالمين!!

فكيف يخلقون علماء ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخلق عالما ، ولم يكن طبعه العلم ، ولم يعلم إلا بعد تعلّم ، ولم يعرف حتى عرّف! وكيف وقد حدّث بعض أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن آبائه (٢) قال : قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا عبد مخلوق مربوب لم أكن نبيئا فنبئت ، ولم أكن رسولا

__________________

وأن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه روح. قرب الإسناد للحميري / ١٤٦ طبعة مكتبة نينوى طهران.

وعن المفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله : جعلت فداك ما لإبليس من السلطان؟ قال : ما يوسوس في قلوب الناس ، قلت : ما لملك الموت؟ قال : يقبض أرواح الناس. قلت : وهما سلطان على من في المشرق والمغرب؟ قال : نعم. قلت : فما لك أنت جعلت فداك من السلطان؟ قال : أعلم ما في المشرق والمغرب وما في السماوات والأرض وما في البر والبحر وعدد ما فيهن ، وذلك لا لإبليس ولا لملك الموت. دلائل الإمامة / ١٢٤.

وعن يزيد بن عبد الملك قال : كان لي صديق وكان يكثر الرد على من قال إنهم يعلمون الغيب. قال : فدخلت على أبي عبد الله فأخبرته بأمره ، فقال : قل له إني والله لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما دونهما. دلائل الإمامة / ١٢٦.

وعن إبراهيم بن منصور ، قال : رأيت الحسن بن علي وقد خرج مع قوم يستسقون ، فقال للناس : أيما أحب إليكم المطر أم البرد أم اللؤلؤ؟ فقالوا : يا بن رسول الله ما أحببت ، فقال : على أن لا يأخذ أحد منكم لدنياه شيئا بالثلاثة ، قال : ورأيناه يأخذ الكواكب من السماء ثم يرسلها فتطير كما تطير العصافير إلى مواضعها. دلائل الإمامة / ٦٤.

وعن محمد بن راشد عن أبيه ... في حديث طويل قال في آخره : قال يعني الصادق : إنكم معاشر أهل الحديث تركتم العلم. فقلت له : يرحمك الله أنت إمام هذا الزمان؟ قال : نعم والله إني إمام هذا الزمان. فقلت : علامة ودليل. فقال : سلني عما بدا لك أخبرك به إن شاء الله. فقلت : إن أخا لي مات في هذه المقبرة فأمر أن يحيا. فقال لي : وما أنت أهل لذلك ، ولكن أخوك ما كان اسمه؟ فقلت : أحمد. فقال : يا أحمد ، قم بإذن الله تعالى ، وبإذن جعفر بن محمد ، فقام والله ويقول : يا أخي اتبعه ، وحلفني بالطلاق والعتاق ألا أخبر أحدا.

الخرائج والجرائح ٢ / ٧٤٢ ، مدينة المعاجز : ٤٠٩ / ٩٩.

(١) في (ب) و (ج) : وما هذه إلا صفة. وفي (ب) و (د) : وما هذه الصفة إلا صفة.

(٢) في (ب) و (د) : آبائهم.

فأرسلت ، ولم أكن عالما فعلّمت ، فلا تقولوا فيّ فوق طولي) (١).

وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧)) [الضحى : ٧]. فسماه ضالا ثم هداه ، ولم تكن ضلالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضلالة شرك ، ولا كضلالة قريش ، ولا كضلالة اليهود والنصارى ، غير أنه كان ضالا (٢) عن الشرائع ، أي جاهلا بالشرائع حتى بصّره الله وهداه وعرّفه ، ولم يجهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رب العالمين.

أما بلغك قول الله سبحانه لنبيه : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤]؟! وهل تكون الزيادة إلا من نقصان ، فما لم يكن لرسول الله صلى الله عليه ، فلا يكون لأحد من خلق الله ، وكل عالم بعد جهل يعلم ، ولا بد أن يقع اسم الجهل على كل خلقه ، كيلا يشبّه أحد من خلقه به ؛ لأن الله لم يجهل ولم يتعلم. ولم يزل عالما ، وكل خلقه بعد جهل تعلموا ، والله سبحانه لم يجهل ولم يتعلم. ولو كان على ما قالت الروافض بأن الأئمة علماء غير متعلمين ، ولا يجوز الجهل في وقت من الأوقات على أحد من الأئمة ، فسبحان الله أفليس قد شبهتموه (٣) برب العالمين ، إذ لم يجهل صاحبكم ولم يتعلم ، أو ليس قد شبهتموه بالله بقولكم ، إذ (٤) زعمتم أنه يعلم الغيب ، ويعلم أعمال العباد (ومواضعهم ، وكل رجل باسمه ونسبه ، ويعلم ما تلفظونه ، ويعلم ما في قلوب العباد) (٥) ، فسبحان الله عما يقولون! وهل هذه إلا صفة رب العالمين؟!

__________________

(١) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ ، ووقفت على حديث طويل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخره : (لا تطروني كما أطري ابن مريم ، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله). أخرجه البخاري رقم (٣١٨٩) أحمد بن حنبل رقم (١٤٩ ، ١٥٩ ، ٣١٣ ، ٣٦٨) ، والدارمي برقم (٢٦٦٥) ، وأبو داود ١٠١ برقم (١٠٤) ، وفي بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث ٢ / ٨٨٣ (٩٥٢) ، : (لا ترفعوني فوق حقي ، إن الله اتخذني عبدا ، قبل أن يتخذني نبيا). والطبراني في الكبير. ٣ / ٢٨٨. (٢٨٨٩) ، بلفظ :

(اتخذني رسولا).

(٢) في (أ) و (ج) : ضلال.

(٣) في (أ) و (ج) : شبهوه.

(٤) في (ب) : إن. وسقط من (أ) و (ج).

(٥) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

وتأولوا قول الله سبحانه في كتابه ـ لقوله ـ : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٠] فيزعمون أن الله ورسوله والأئمة يرون أعمال العباد ، فسبحان الله! كيف يرى ما غاب عنه ، وإنما قال الله سبحانه : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) إنما عنى تبارك وتعالى أي : فسيرى المؤمنون والأنبياء في الآخرة أعمالكم إذا ظهر الغيب ، وانكشف الستر ، وكان فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، واستبان للخلق (١) المطيع من العاصي ، والكافر من المؤمن ، والصالح من الطالح ، فكم من مستور عليه يجرّ إلى عذاب أليم ، وكان عند الناس على خلاف ذلك في دار الدنيا.

ولو رأى أحد ممن وصفت الروافض ، من الأنبياء والأئمة ، من غير أن يخبر لم يكونوا يموتون بالسم ، ولم يكونوا ليأكلوا السم ، (٢) فيعينوا على أنفسهم بالقتل ، وقد قال تبارك وتعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩]. أو ليس من أكل شيئا من السم وهو يعلم أن فيه نفسه ، فقد أعان على قتلها؟ فإن زعموا أنه (٣) أكل السم من الخوف. يقال لهم : من أي شيء يخاف؟ فإن زعموا أنه إنما يخاف من القتل. فقل (٤) لهم : أو ليس قتله بالسم (٥) فلا يأكل حتى يقتل مظلوما ، خير له من أن يقتل نفسه وهو معين عليها.

وكيف يعلم وقد قال الله تبارك وتعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩]. يعني من حوادث الدنيا ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠٠]. فكيف (٦) يرى أعمال العباد؟! هذا كتاب الله يكذب قولكم. ولو كان

__________________

(١) في (ب) : الخلق.

(٢) يشير إلى سم جعدة بنت الأشعث لزوجها الإمام الحسن ، وسم المأمون للرضا وغيرهما.

(٣) في (ب) و (د) : أنهم أكلوا من الخوف. وفي (ج) : أنهم أكلوا السم من الخوف.

(٤) في (ب) و (د) : فقيل.

(٥) في (أ) و (ج) : في السم.

(٦) في (ب) و (د) : وكيف يرى أفعال.

الأمر على ما وصفتهم ، لم يقل تبارك وتعالى بخلاف قولكم ، لقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) وقد قال تبارك وتعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٢٩]. فهل أصحابكم إلا من الأنفس ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٣]. فقد جمعت هذه الآية جميع ولد آدم ، لأن كل ولد آدم خرجوا من بطون النساء ، كل نبي وغيره ، وقد أخبرنا أنهم لم يعلموا شيئا حتى علّموا ، وقد قال ـ تصديق ما قلنا في محكم كتابه ـ : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢]. وجميع دعواكم مكذّب له كتاب الله ، فيا سبحان الله ما أعظم ما تقولون! وهل الشرك إلا دون ما تزعمون.

فإن زعموا أنهم (١) يجهلون تأويل كتاب الله ، والنظر فيه ، ويحتجون علينا بشيء ، وتأويله خلاف ما يظنون (٢).

يقال لهم : كيف ذلك؟

فإن زعموا أنه ليس لأحد ينظر في تأويل كتاب الله ، ولا يحتج به إلا الأئمة.

يقال لهم : أخبرونا عن القرآن كله ليس لأحد ينظر في كتاب الله ، ولا يحتج به إلا الأئمة ، ولا يتدبر إلا هم؟

فإن قالوا : نعم.

فقل لهم : فلم يتعلم الناس كتاب الله وهم لا يتدبرونه (٣)؟ وكيف وقد أكذب (٤) الله قولكم بقوله تبارك وتعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [محمد: ٢٤]. أفترى هذا قول (٥) الله للأئمة؟!

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بأنهم.

(٢) في (ب) و (د) : تظنون.

(٣) في (أ) و (ج) : لا يتدبرون فيه.

(٤) في (ج) : كذّب.

(٥) في (ج) : قال.

فإن قالوا : نعم.

فقل : أفلا ترون (١) أن الله قد عاب أئمتكم إذ تركوا تدبر كتاب الله ، وعابهم فقال: (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)!

فإن قالوا : ليس هذا في الأئمة ، وإنما هذا في العوام (٢) : أن ينظروا في كتاب الله ويتدبرون فيه (٣).

يقال لهم : أفلا ترون أن الله ألزم العباد النظر في كتابه ، وقد (٤) قال تبارك وتعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١]. أو ليس عابهم لما تركوا النظر في كتابه ، ومعرفة ما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، ومعرفة الأولياء من الأعداء ، فلمّا تركوه عابهم بذلك! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رويتم وروينا : (أيها الناس خلفت فيكم الثقلين فتمسكوا بهما لا تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (٥). وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

__________________

(١) في (ج) : ترى.

(٢) في (أ) و (ج) : هذا للعوام. وفي (د) : هو في العوام.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : ويتدبرون فيه.

(٤) سقط من (ب) و (د) : وقد.

(٥) هذا الحديث ورد بألفاظ متفاوتة فممن أخرجه وفيه لفظ (وعترتي) الإمام زيد بن علي في المسند / ١٠٤ ، والإمام الرضى في الصحيفة / ٤٦٤ ، والحافظ محمد بن سليمان الكوفي في مناقبه / ١٦٧ رقم (٦٤٦) ، والإمام أبو طالب في الأمالي ١٧٩ ، والمرشد بالله في الأمالي / ١٥٢ ، والدولابي في الذرية الطاهرة / ١٦٦ رقم (٢٢٨) ، والبزار ٣ / ٨٩ رقم (٨٦٤) عن علي.

وأخرجه مسلم ١٥ (بشرح النووي) ١٩٩ ، والترمذي ٥ / ٦٢٢ رقم (٣٧٨٨) ، وابن خزيمة ٤ / ٦٢ رقم (٢٣٥٧) ، والطحاوي في مشكل الآثار ٤ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ٤١٨ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٥ / ٣٦٩ (تهذيبه) ، والطبري في ذخائر العقبى / ١٦ ، البيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٣٠ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ رقم (٤١٦٩) ، والنسائي في الخصائص ١٥٠ رقم (٢٧٦) ، والدارمي ٢ / ٤٣١ ، وابن المغازلي في المناقب ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٦٧ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٢ / ١٢ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٨ ، وصححه وأقره الذهبي عن زيد بن أرقم.

وأخرجه عبد بن حميد ١٠٧ ـ ١٠٨ في (المنتخب) ، وأحمد ٥ / ١٨٢ و ١٨٩ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ ، ـ

(أيها الناس قد كذب على الأنبياء الذين كانوا من قبلي ، وسيكذب علي من بعدي ، فما أتاكم فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله فهو مني ، وإن لم يوافق كتاب الله فليس مني) (١) فكيف يدعونا (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

ـ وأورده السيوطي في الجامع الصغير ١٥٧ رقم (٢٦٣١) ، ورمز له بالتحسين ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٦ رقم (٩٤٥) ، وعزاه إلى ابن حميد وابن الأنباري عن زيد بن ثابت. وأخرجه أبو يعلى في المسند ٢ / ١٩٧ و ٣٧٦ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ١٧٧ ، والطبراني في الصغير ١ / ١٣١ و ١٣٥ و ٢٢٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٧ ، ٦ / ٢٦ ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٥ رقم (٩٤٣) ، وعزاه إلى البارودي ورقم (٩٤٤) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وأبي يعلى. عن أبي سعيد الخدري.

وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ / ٤٤٢ ، وهو في الكنز ١ / ١٦٨ ، وعزاه إلى الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد.

وأخرجه الترمذي في السنن ٥ / ٦٢١ رقم (٣٧٨٦) ، وذكره في كنز العمال ١ / ١١٧ ، رقم (٩٥١) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر بن عبد الله. والكنجي في كفاية الطالب ١١ ، وابن سعد في الطبقات ٤ / ٨ ، ورواه في العقد الفريد ٢ / ٩٥٨ ، و ٣٤٦. وفي تذكرة الخواص / ٣٣٢ ن ورواه نورا الدين الحلبي في إنسان العيون ٣ / ٣٠٨ ، والعزيزي في السراج المنير شرح الجامع الصغير ١ / ٣٢١ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة / ٢٤ ، وشهاب الدين الخفاجي في نسيج الرياض ٣ / ٤١٠ ، والثعلبي في الكشف والبيان عن تفسير آية الاعتصام ، وآية (أيها الثقلان). والرازي في تفسير آية الاعتصام ٣ / ١٨ وهو في تفسير النظام النيسابوري ١ / ٢٥٧ ، ٤ / ٩٤ ، وفي تفسير ابن كثير الدمشقي ٣ / ٤٨٥ ، و ٤ / ١١٣ ، ورواه في البداية والنهاية في ضمن حديث الغدير وابن الأثير في النهاية الجزء الأول ، والسيوطي في الدر المنثور / ١٥٥ ، وذكره في لسان العرب في مادة عترة ومادة ثقل وحبل ، والشيرازي في القاموس في مادة ثقل ، والزبيدي في تاج العروس في مادة ثقل أيضا. وشرح نهج البلاغة ٦ / ١٣٠ في معنى العترة ، ومدارج النبوة لعبد الحق الدهلوي / ٢٥٠ ، والمناقب المرتضوية لمحمد صالح الترمذي الكشفي / ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠٠ ، ٤٧٢ ، ومفتاح كنوز السنة ٢ / ٤٤٨ ، ومصابيح السنة للبغوي ٢ / ٢٠٥ ، ٢٠٦. والصواعق المحرقة / ٧٥ ، ٨٧ ، ٩٠ ، ٩٦ ، ١٣٦ ، وإسعاف الراغبين في هامش نور الأبصار / ١١٠. وينابيع المودة / ١٨ ، ٢٥.

(١) رواه الإمام زيد بن علي في الرسالة المدنية / ٨ والإمام الهادي في كتاب القياس / ١٣٢ ، وفي تثبيت الإمامة / ٥٢ ، والديلمي في البرهان ، والإمام أحمد بن سليمان في حقائق المعرفة / ٢٦٣ ، والشرفي في المصابيح / ٨٩ ، والرازي في المحصول ٤ / ٣٠٠. وأبو الحسين البصري في المعتمد ٢ / ٥٥٠ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٥٦٥ (١٥٢٢) والطبراني في الكبير. ٢ / ٩٧ (١٤٢٩). بلفظ : (ليكثر علي الكذابة ، فما حدثتم به عني ، فاعرضوه على كتاب الله عزوجل ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف ـ

ويأمرنا بشيء ليس لنا فيه النظر؟ لقوله : (اعرضوه على كتاب الله) (١).

وقوله صلى الله عليه وعلى آله : (تمسكوا بالثقلين) (٢) فإن كان الإمساك بالقرآن

__________________

ـ كتاب الله فردوه). ، والشافعي في الرسالة / ٢٢٤. بلفظ : (ما جاءكم عني ، فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فأنا قلته ، وما خالفه فلم أقله). وابن معين في تاريخه ٣ / ٤٤٦. بلفظ : (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله). والآمدي في الإحكام ٢ / ٧٦. والصاغاني في الموضوعات / ١٠. والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ١٧٠. وقال رواه الطبراني ، والرازي في المحصول ٣ / ٩١. والسيوطي في الجامع الصغير ١ / ٧٤ (١١٥١). بلفظ : (أعرضوا حديثي على كتاب الله ، فإن وافقه فهو مني ، وأنا قلته). وروى الخطيب البغدادي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (سيأتيكم عني أحاديث مختلفة ، مما جاء موافقا لكتاب الله وسنته فهو مني ، وما جاءكم مخالفا لكتاب الله وسنتي فليس مني).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما حدثتم عني مما تعرفونه فخذوه وما حدثتم عني مما تنكرونه فلا تأخذوا به ، فإني لا أقول المنكر ، ولست من أهله). الكفاية في علم الرواية / ٤٣١.

وروى نحوه في معانى الأخبار : ٣٩ / ٣٠.

وفي كنز العمال (اعرضوا حديثي على كتاب الله ، فإن وافقه فهو منّي وأنا قلته).

ورواه القاضي بن عبد الجبار في فضيلة الاعتزال ، وطبقات المعتزلة بلفظ! سيأتيكم عني حديث مختلف ، فما وافق كتاب الله فهو مني ، وما كان مخالفا لذلك فليس مني). الاعتصام ١ / ٢٢. وروى الكليني عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه). الكافي : ١ / ٦٩. ويؤكد معنى الحديث ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (٨) : عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم.

وأخرجه أحمد باختلاف يسير برقم (٨٢٤١).

وقد ضعف حديث العرض أغلب المحدثين من أهل السنة ، وتضعيفهم غير مقبول ، وترك العرض على الكتاب هو الذي أوقعهم في مزالق خطيرة في العقيدة والشريعة ، فحكموا السنة على القرآن ، ومن ثم قبلوا كثيرا من الأحاديث التي تقتضي تشبيه الله بخلقه ، أو تمس قدسية الأنبياء أو نحو ذلك مما يخالف مقتضى العقول وثوابت العقيدة ، ومقاصد الإسلام ، إضافة إلى قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ). أي : إلى كتابه. لأنه المحفوظ من التحريف والزيادة والنقصان ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

(١) في (ج) : فيكف كان يدعونا.

(٢) سبق تخريجه.

هو القراءة ، فقد قرأه جميع أهل الأهواء ، فهم ممن حفظ وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتمسكوا بكتاب الله.

فإن زعموا أنه لا يكون التمسك إلا النظر فيه ، والقيام بما فيه ، والعمل به ، فقد أطلقوا للخلق ينظرون (٢) فيه ، ويعرفون الحق من الباطل ، وقد وجدنا كتاب الله مكذبا لجميع دعواكم (٣).

ثم قالت الروافض : إن الإمامة وراثة يرث ابن عن أب ، وتأولوا كتاب الله ، وزعموا أن (٤) أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.

فإن كان الأمر على ما وصفت الروافض ، أفليس الابن أولى بالأب من الأخ ، وأحق بالوراثة؟ وأقرب رحما؟ لأن الابن من الأب ، والأخ ليس من الأخ أفليس على مذهب قولكم : أن الحسن بن الحسن أولى بأبيه من الحسين؟! أو ليس لا يرث الحسين مع الحسن بن الحسن؟! لقول الله تبارك وتعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ) [النساء : ١٧٦]. أوليس إذا كان الولد قطع ميراث الأخ والعم؟! أوليس الحسن بن الحسن قطع ميراث الحسين بن علي بن الحسن؟! إذا كانت الإمامة على ما وصفتم من الوراثة.

فإن زعموا أن حسينا أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقعد من حسن بن حسن.

يقال لهم : أوليس قد خرج الأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي بن أبي طالب بعد موته؟ وخرج من علي إلى الحسن ، وكان يجب على الحسين طاعة حسن ، والأمر للحسن دون الحسين ، ويخرج من الحسن إلى الحسن ، أو ليس ابن الحسن أولى بالحسن من حسين؟

__________________

(٢) في (ب) و (د) : أن ينظروا فيه ويعرفوا.

(٣) في (أ) : مكذبا لدعواكم.

(٤) في (ب) و (د) : بأن.

فإن زعموا أن الحسن والحسين هما مشتركان في هذا الأمر ، وورثا عليا جميعا ، فقد تركوا قولهم ، ودعواهم بالوصية ، إذا كانا مشتركين في هذا الأمر ، فمن قام به فهو صاحبه.

فإن زعموا أنه ليس للحسين أن يقوم في وقت حسن ، فقد قطعوا الأمر من الحسين في زمان الحسن ، لأن طاعة حسن واجبة على حسين ، وقد حاز الأمر الحسن دون الحسين ، وورثه ابنه (١) الحسن بن الحسن.

فإن (٢) قالوا : لا يرث حسن بن حسن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وحسين قائم ؛ لأن الحسين أقعد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن كان أقرب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وأقعد فهو أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥ ، الأحزاب : ٦]. وإنما هذه الآية يعني بها أرحام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). (٣) وحسين أقرب رحما برسول الله عليه‌السلام من حسن بن حسن.

يقال لهم : قد بطلت دعواكم في صاحبكم ، لأنه ليس في جميع آل أبي طالب أبعد رحما من صاحبكم ، لا يلحق برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا بثمانية آباء ، وصاحبكم التاسع ، وفي ولد فاطمة من هو أقرب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه ، من ليس بينه وبين النبي إلا أربعة آباء ، أوليس هذا أقرب رحما ، وأقرب قرابة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، (من الذي زعمتم ، فليس لصاحبكم مع هذا أمر ولا نهي ؛ لأن هذا أقرب قرابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). (٤) وأقعد ، فهذا أبطل لدعواكم.

فإن زعمت الروافض أن الحسن بن الحسن كان صبيا ، وحسين بالغ ، ولا يكون إمام المسلمين إلا بالغا ، فصدقتم. يقال لهم أخبرونا عن صاحبكم علي بن موسى حين

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : ابنه.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : فإن.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

مات ، أليس كان ابنه ابن أربع سنين أو ثلاث؟ وابنه محمد (١) حين مات كان ابنه (٢) صغيرا؟ فلم (٣) نصبتم الأطفال إذا لم يجز لطفل أن يكون إمام المسلمين؟! هذا يبطل دعواكم ، ويدخلكم (٤) فيما عبتم!!

وزعمتم أنه لا يصلح حسن بن حسن أن يكون إماما لأنه طفل صغير ، ثم نصبتم الأطفال ، وزعمتم أنهم أئمة ، وهما أصغر سنا من حسن بن حسن وكيف ـ ويحكم ـ يكون طفل إمام المسلمين؟! وليس في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، ولا حكم الإسلام أن يصلى خلف طفل ، ولا تؤكل ذبيحته ، ولا تقبل شهادته ، ولا يجوز بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ، ولا يؤمن على ماله ، فمن لم يؤمن على هذه الأشياء ، ولا تأمنه على ألف درهم أو أقل أو أكثر ، فكيف يأمنه الله على أحكام دينه ، ودماء عباده ، وفروجهم؟! ويقيمه مقام الأنبياء؟! لقوله تبارك وتعالى : «حجّة بلغة» (٥). فلا تكون الحجة لله في أرضه إلا عند بلوغه.

وقوله تبارك وتعالى في الأطفال (٦) اليتامى (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦]. فيا عجبا ممن لم يأمنه الله على ماله

__________________

(١) محمد الجواد بن علي الرضا الهاشمي القرشي ، أبو جعفر ولد سنة (١٩٥ ه‍) بالمدينة قبل وفاة أبيه ، قيل : بأربع سنوات ، وقيل : بسبع ، تاسع الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية كان رفيع القدر كأسلافه ، ذكيا طلق اللسان قوي البديهية ، كفله المأمون بعد وفاة أبيه ورباه وزوجه ابنته أم الفضل ، وتوفي ببغداد سنة (٢٢٠ ه‍).

(٢) علي الهادي بن محمد الجواد ، أبو الحسن العسكري عاشر الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ، وأحد الأتقياء الصلحاء ، ولد بالمدينة سنة (٢١٢ ه‍) فعمره يوم وفاة أبيه (٨) سنوات. وشيء به إلى المتوكل فاستقدمه إلى بغداد وأنزله في سامراء ، وكانت تسمى مدينة العسكر فنسب إليها ، توفي بسامراء ودفن بها سنة (٢٣٤ ه‍).

(٣) سقط من (ب) : فلم.

(٤) في (أ) و (ج) : ودخولكم.

(٥) الآية الكريمة هكذا : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام / ١٤٩]. ولعلها اشتبهت بقوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [القمر / ٥].

(٦) في (ب) و (د) : أطفال.

إلا عند بلوغه فكيف يأمنه على خلافته؟!

وقد رويتم وروينا أن جعفر بن أبي طالب جلس بين يدي النجاشي فقرأ آية من الإنجيل ففهمها جعفر فضحك ، فغضب النجاشي! فقال : يا جعفر أبكتاب الله تهزأ؟! والله إن الله أنزل على موسى في التوراة ، وعلى داود في الزبور ، وعلى عيسى في الإنجيل ، وعلى نبيئك في القرآن (أن (١) إذا ولي الخلائق الأطفال نزلت عليهم من السماء لعنة ، أو أفرغت عليهم من السماء لعنة) (٢) فكيف ـ ويحكم ـ يكون الطفل إمام المسلمين.

وإن زعمت الروافض بأن يحيى بن زكريا كان صبيا وكان نبيئا!

يقال لهم : أحكم الأنبياء وحكم الأئمة واحد؟

فإن قالوا : نعم.

يقال لهم : فبم بان الأنبياء من غيرهم؟ إلا أن الأنبياء أعطوا ما لم يعط غيرهم من الأئمة ، وأعطي الأئمة ما بانوا به من سواهم من الخلائق. مع أن يحيى بن زكريا لم يرسل إلى أحد من خلق الله ، وكان نبيا ولم يكن مرسلا ، ولم يل أحكام الأمة ، وكانت الأحكام إلى غيره ـ إلى زكريا ـ مع أن يحيى دعاء زكريا إذ قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥]. وقال : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩)) [الأنبياء : ٨٩]. وقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [آل عمران : ٣٨]. فوهب الله يحيى إجابة لزكرياء ، وكان في وقت يحيى الحجة زكرياء.

فإن زعمت الروافض أن عيسى بن مريم تكلم في المهد صبيا.

يقال لهم : أفتزعمون أن عيسى بن مريم ، وصاحبكم شيء واحد؟! ألا ترى أن الله يعجّب به خلقه ، وأخبرهم بقدرته إذ قال : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)

__________________

(١) في (ب) و (د) : وأنه.

(٢) لم أقف على هذه القصة. وفيها إشكال ، وهو ذكر النجاشي لنزول ما ذكر في القرآن. من أين عمله؟! وأيضا أين هو؟!

[آل عمران : ٤٦]. وقال تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠]. لأنه لم يكن في ولد آدم خلق (١) مثله ، خلق من غير أب ، ولم يقل : إن صاحبكم(٢) آية منه مع أنه يستبين (٣) من صاحبكم للناس خلاف ما استبان من عيسى ويحيى وهما نبيان ، فتحتجون علينا بحجة الأنبياء ، وتساوون أصحابكم بالأنبياء ، ونرى (٤) أفاعيلهم خلاف أفاعيل الأنبياء ، إذ أخذوا التّقيّة من المخلوقين دينا ، وهذا يحيى بن زكرياء لم يخف غير الله ، ولم يدار في دينه ، استبقاء على بدنه ، حتى قتل صلى الله عليه ، ومع أن يحيى لم يلبس اللّيّن ، ولم يأكل الطيب ، وكان باكيا آثار الدموع بخديه ، حتى مضى إلى الله،صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا عيسى بن مريم تكلم في المهد صبيا ، لم يحبس كلامه تقية على نفسه ، وكان يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، فينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله ، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وكان يحيي الموتى بإذن الله ، وكان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، لم يتق أحدا من خلق الله ولم يراقبه ، وكانوا يقولون : ساحر مجنون كذاب كاهن. فلم يسعه كتمان ما جعل الله فيه بما عاين من تكذيب الخلق له ، مع أن فعل عيسى بان من فعل صاحبكم.

وليس كل الأنبياء ولوا حكم الأمة ، وإنما كان بعضهم نبي نفسه ، وبعضهم نبي أهله، وبعضهم نبي أهل بيته ، وبعضهم نبي قرابته ، وبعضهم نبي قومه.

وليس حكم الأنبياء كحكم غيرهم ممن دونهم ، مع أنه قد مضت سنة بني إسرائيل ، وهذه سنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : خلق.

(٢) في (ب) و (د) : وأمه وآية.

(٣) في (ب) و (د) : مع أنه سيبين. وهذا كما ترى إثبات. والذي في (أ) و (ج) : مع أنه لم يستبن ، نفي. فالمعنى على النفي رغم أن كلمة (خلاف) ثابتة في جميع النسخ إلا أني أرى أنها زائدة مع النفي ، فيصبح المعنى : ولم يستبن من صاحبكم للناس ما استبان من عيسى. ليصح التفريق بينهما. أما مع الإثبات كما في (ب) و (د) : فالمعنى كذلك أيضا. والله أعلم بالصواب.

(٤) في (ب) و (د) : وترى.

فإن زعموا أن السنة لم تزل من لدن آدم إلى يومنا هذا ، فقد كذّبوا كتاب الله ، لقول الله تبارك وتعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٦]. وقد حرم الله على بني إسرائيل الصيد يوم السبت ، وأحل لنا ، وقد حرم الله عليهم الشحم وأحل لنا ، لقول الله سبحانه : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٤٦]. أفلا ترى أن عيسى حلّل لأمته الذي حرم موسى على أمته.

فإن زعموا واحتجوا بقول الله : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)) [الإسراء : ٧٧]. ثم قال : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٥٥] أي : بالدعوة ؛ لأن دعوة الأنبياء واحدة ؛ لأن كلهم دعوا إلى طاعة الله ونهوا عن معصيته ، غير أن في الشرائع لكل أمة شريعة ، وأحل لأمة ما حرم على غيرها ، محنة من الله وامتحانا ، مع أن الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفوة بعد الصفوة ، لذلك ورث حسين الإمامة ، لأنه كان خير أهل زمانه ، مع ما كان فيه من الدلائل في نفسه ، والآثار من نبيه ، وإجماع الأمة على أنه خير أهل زمانه ، وهو وأخوه (سيدا شباب أهل الجنة) ، (١) فهل يكون لأحد أن يتقدم على من هو خير منه؟! فالإمامة لا تكون إلا لخير أهل الأرض ، يستبين للناس فضله وزهده وعلمه ، وإنما الإمامة نقلة وصفوة وخيرة ، ولم تزل كذلك من لدن آدم ، تنقل من صفوة إلى صفوة.

ولو أن النبوة والإمامة كانت وراثة لم تخرج (من اليمن إلى غيرها ، إذ كان هود نبيا ، كان يحيز (٢) الأمر في ولده ، فلم يخرج) الأمر منه (٣) إلى غيره ، لكن (١) إنما هي صفوة

__________________

(١) رواه الإمام الهادي في العدل والتوحيد. / ٦٩. مرسلا ، وأبو عبد الله العلوي في الجامع الكافي ، ورواه الإمام أحمد بن سليمان في حقائق المعرفة / ٢٣٣ ، وابن عساكر في ترجمة الحسن / ٧٨. والحاكم ٣ / ١٨٢ ، برقم (٤٧٧٨) و (٤٧٧٩) و (٤٧٨٠) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٥ / ١٤٩ ، برقم (٨٥٢٧) ، وأبو يعلى ٢ / ٣٩٥ ، برقم (١١٦٩) ، والطبراني في الكبير ٣ / ٣٥ ، برقم (٢٥٩٨) و (٢٥٩٩) و (٢٦٠٤) ، والترمذي برقم (٣٧٠١) و (٣٧١٤) ، وابن ماجة برقم (١١٥) ، وأحمد برقم (٥٦٨) و (١٠٥٧٦) و (١١١٦٦) و (١١١٩٢) و (١١٣٥١) و (٢٢٢٤٠) و (٢٢٢٤١).

(٢) في نسخة : يصير. أشار إليها في : (ب) و (د).

(٣) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين سهوا. وفي نسخة : منهم إلى غيرهم. أشار إليها في : (ب) و (د).

بعد صفوة ، كذلك يصطفي الله من كل قوم خيرهم ، فاصطفى من اليمن هودا وصالحا وشعيبا (٢).

فإن زعم زاعم أن هودا وصالحا وشعيبا من ولد إبراهيم. يقال لهم : ألا ترون أن الله قص علينا خبرهم ، ثم قال في كتابه ، عن قول صالح لقومه : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) [الأعراف : ٧٤]. هذا من قبل إبراهيم.

ثم اصطفى الله من الأعاجم إبراهيم خليله ، فجرت النبوة والخلافة والإمامة في ولده ، ثم جرت من ولده في ولد إسحاق ، ثم اصطفى من ولد إسحاق يعقوب ، ثم اصطفى من ولد يعقوب يوسف ، ثم اصطفى من ولد إسحاق أيوب ، وهو من غير ولد يعقوب ، ثم جرت الصفوة في ولد يعقوب ، حتى انتهت الصفوة إلى موسى بن عمران ، ولم يكن موسى من يوسف ، ثم جرت الصفوة في يوشع بن نون ، وكان يوشع خير أهل زمانه ، ثم جرت الصفوة في ولد هارون ، وإنما تنتقل الصفوة من بطن إلى بطن من بني إسرائيل حتى انتهت الصفوة إلى عيسى بن مريم.

ثم جرت الإمامة والزعامة فيمن تبع عيسى بن مريم ، حتى انتهت كرامة نبوة الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى جميع النبيين ، فانتقلت من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل ، وجرى الأمر والصفوة في ولد إسماعيل ، إذ صار الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وجرى الأمر في ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفوة بعد الصفوة.

[صفة الإمام]

وإنما الصفوة (٣) لا تكون إلا في أخير أهل زمانه ، وأكثرهم اجتهادا ، وأكثرهم

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولكن.

(٢) في (أ) و (ج) : وشعيبا وإبراهيم. وهو سهو من الناسخ.

(٣) سقط من (أ) و (ب) و (ج) : وإنما الصفوة.

تعبدا ، وأطوعهم لله ، وأعرفهم بحلال الله وحرامه ، وأقومهم بحق الله ، وأزهدهم في الدنيا ، وأرغبهم في الآخرة ، وأشوقهم للقاء الله.

فهذه صفة الإمام. فمن استبان منه هذه الخصال فقد وجبت طاعته على الخلائق.

فتفهموا وانظروا هل كان بيننا وبينكم اختلاف في علي بن أبي طالب؟! ثم من بعده في الحسن بن علي؟! أو هل اختلفنا من بعده في الحسين بن علي؟ أو هل اختلفنا في محمد بن علي (١)؟ أو هل ظهر منهم رغبة في الدنيا ، أو طلب أموال الناس؟ أو هل بخلوا بما عندهم؟ أو هل اتخذوا القصور والمراكب والخدم والأتباع؟ أليس قد مضوا إلى الله على البصيرة؟!

فلو أردنا أن نجحد الحق لجحدناهم من بعد الحسين بن علي ، فصيرناه في أهل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عامة ، ولكن اتبعنا الحق حيث أمرنا الله باتباعهم ، وأقررنا بالفضل لمن جعل الله فيه الفضل ، فلم نر فيهم من طلب الأخماس من التجارة ، ولا من صانع ، ولا من زارع ، ولا من حمّال يحمل على رأسه ، ولم يستأثر بما جعل الله لأهل بيت نبيهم على أهل بيت نبيئهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ففي دون هذا التّفهّم.

فإن زعمت الروافض أن ذا في صاحبنا بما وصفتم من الدلائل (٢) الإمامة والزهد والفضل.

يقال لهم : ما لنا لا نرى ما تصفون؟

فإن قالوا : إنه في دار تقية.

فيقال لهم : أفتظهر منكم معصية الله على التقية؟ فإن قالوا : نعم.

يقال لهم : فهل ظهر من أحد من الأنبياء أو الأئمة أو الدعاة إلى الله مثل علي والحسن والحسين ، أو علي بن الحسين ، (٣) ...

__________________

(١) يريد الباقر. رغم أن الزيدية لا تعده عليه‌السلام من الأئمة الذين قاموا وجاهدوا.

(٢) في (ب) : لاديل. مصحفة. وفي (د) : من دلائل.

(٣) هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي عليه‌السلام أبو الحسن زين العابدين ، ولد ـ

أو محمد (١) بن علي ، أو غيرهم ممن دعا إلى الله ، الذين لم نختلف فيهم إذ كانوا أئمة؟ وجعل الله فيهم ذلك ، أو هل طلبوا ما ليس لهم من أموال الناس غيرهم؟ أو هل أظهروا المعصية بالتقية؟ استبقاء على أنفسهم ومخافة (٢) على دمائهم؟ أو ليس صبروا على أمر الله؟ وقاموا بحق الله ، حتى قتل بعضهم ، ونشر بعضهم ، وأحرق بعضهم ، وأغلي بعضهم في القدور ، ودفن بعضهم أحياء ، وغرّق بعضهم في البحار ، وسمّر بعضهم بالمسامير ، وعذبوا بألوان العذاب؟! فما كان يمنعهم أن يظهروا التقية فينجوا من أعداء الله ، إذا (٣) كانت التقية من المخلوقين دينا على ما وصفتم؟! وقد قال تبارك وتعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١٠٩]. وهل الركون إليه إلا الاتباع له على ما يريد ، وتصديقه من (٤) وجهة ما يقول ، وسكناه معه في داره على غير منابذة ، وهو على غير الدعاء إلى الله وطلب الجهاد ، وقد قال الله تبارك وتعالى يصبّر المؤمنين على ما يصيبهم فيه سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا

__________________

ـ سنة ٣٨ ه‍ وتوفي سنة ٩٤ ه‍ ، ركن من أركان الدين ، وإمام من أئمة المسلمين ، وهو أشهر من أن يترجم له. وقد وضع في ترجمته وسيرته كتب.

(١) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، أبو جعفر الباقر ، من أكابر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولد سنة ٥٩ ه‍ في حياة جده ، وتوفي سنة ١١٤ ه‍ وقيل : ١١٨ ه‍ روى عن أبيه ، وعن أبي سعيد وجابر وأبي الطفيل وعدة من الصحابة ، وعنه أولاده وأخوه زيد وعبد الله بن الحسن وخلائق.

وفيه روى جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : (إنك ستعيش حتى تدرك رجلا من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقرا ، فإذا رأيته فأقرأه مني السلام) فلما دخل محمد بن علي على جابر وسأله عن نسبه فأخبره قام إليه فاعتنقه وقال له : (جدك يقرأ عليك السلام) ، رواه الهيثمي في المجمع ١ / ٢٢ ، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه ٥١ / ٤١ ، وهو في الوافي بالوفيات ٤ / ١٠٢ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ٤ / ٢٤١ ، وقال : وأقرأه جده الحسين السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والكليني في أصول الكافي ١ / ٤٦٩ ، ٤٧٠ ، والكشي في رجاله ٢٧ ٢٨.

(٢) في (ب) و (د) : مخافة.

(٣) في (أ) و (ج) : إذ.

(٤) في (ب) و (د) : في.

اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)) [آل عمران : ١٤٦]. وقال : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [المائدة : ٤٤]. ثم قال : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)) [البقرة : ٤١ ـ ٤٢]. وقال تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)) [البقرة : ١٥٩ ـ ١٦٠]. فكيف يجوز لأحد من الأئمة يكتم الحق ، ويظهر من نفسه خلاف ما يعلم؟ أو ليس من رأى فعله من المستضعفين اقتدى به ، لما يعاينون من ظاهر فعله ، فهم مصيبون إذ غاب عن المستضعفين الناصر ؛ إذا اقتدى بالإمام.

فإن قلتم : نعم. فقد وجب لمن خالفكم الإيمان. وإن قلتم : إن الذي رأيتم من الإمام هو التقية ، والذي أخبركم خلاف الحق ، والحق ما تقولون ، وإنما كتمتم الحق تقية منكم ، أفليس تدعونا (١) إلى أن نصدقكم على ما قلتم ونكذبه فيما قال لنا؟ فأنتم إذن أولى بالصدق منه ، وأنتم أئمة إذ تأمروننا أن نقتدي بما تقولون ، ونترك ما قال.

فإن زعمتم أنه على الحق ، وقد رأى الناس خلاف ما تقولون ، ورووا منه خلاف ما تنسبون ، وسمعوا منه خلاف ما تدعون ، فاقتدوا به إذ زعمتم بأنه (٢) إمام افترضت طاعته! أو ليس يجب على الناس أن يطيعوه فيما يأمرهم ، ويمتنعوا عما ينهاهم ، ثم تكلفون الناس أن يتبعوا قولكم ، ويتركوا قوله ، فأنتم إذا الذين افترض الله طاعتكم ، وأنتم الصادقون ليس هو!

ثم زعمتم أنه إمام مفترض الطاعة ، أفليس على مذهب قولكم هو إمام هدى وإمام ضلالة ، إذ هداكم وأضل غيركم آخرين ، (٣) حين أفتاكم بالحق ، وأفتى غيركم بالباطل ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : تدعوننا.

(٢) في (ب) : أنه.

(٣) في (ب) : وآخرين. ولعلها مقلوبة والصواب. وأضلّ آخرين عيركم.

وعلمكم حكم الله ، وعلم غيركم خلاف حكم الله؟

وكيف وقد قال تبارك وتعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]. أفترى جميع الحكمين سواء ، حكم ما أخبرك ، وحكم ما أخبر غيرك؟ هما جميعا من حكم الله ، وهما حكمان متضادان ، إلا أن تقولوا : إنه حجة على بعض دون بعض ، لناس مخصوصين ، وليس حجة على الآخرين.

[الحجة الغائبة]

فإن زعمتم أنه حجة على الكل ، فالواجب عليه أن يهديهم أجمعين ، ويدلهم ويبصرهم ، ويعرفهم بنفسه.

وكيف يكون حجة يحجب نفسه من الناس ، ولا يبين لهم؟! أرأيتم إذا وقفوا بين يدي الله بم يحتج عليهم؟ أبما دعاهم فعصوه؟ أم بما بيّن لهم فخالفوه؟ أو بما حجبهم نفسه فجهلوه؟ فكيف تثبت له عليهم حجة ، ولم تبلغهم حججه ، ولم يعرفوا اسمه ، ولم يعرّف بنفسه.

فإن زعمتم بأن له أن يكتم ، لأن الله قال في محكم كتابه : (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : ٢٦]. وهو قال لهم : (رَجُلٌ) ولم يكن الرجل بحجة ، لأن الحجج فيما مضى أنبياء وأوصياء الأنبياء ، وهذا رجل مؤمن أثنى الله عليه ، ولم يكن بنبي ولا حجة.

فإن زعموا أن صاحبنا يكتم كما كتم المؤمن.

يقال لهم : أو ليس زعمتم أن صاحبكم حجة ، وهل للمؤمنين أن يبينوا (١) ما بيّن الحجج ، يسع المؤمن أن يكتم ، ولا يسع الحجة أن يكتم؟! مع أن مؤمن آل فرعون كتم الإيمان قبل أن يبين الله لخلقه ، فلما بيّن الله لخلقه لم يسعه الكتمان بعد البيان ، مع أنه كان في عبدة الأوثان ، وفي دار من يدعي. الربوبية من دون الله ، ويجحد رب

__________________

(١) في (أ) و (ج) : يثبتوا. مصحفة.

العالمين ، وصاحبكم في دار الإقرار والمعرفة ، وتصديق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فإن جهلوا الأحكام والشرائع ، فليس لأحد أن يكتم العلم من طالبه بعد بيان الأنبياء ، وليس الحجة حجة إلا من احتج على خلق الله ، ولم يلبّس دين الله.

فإن زعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم حين ظهر.

يقال لهم : ومتى كتم رسول الله صلى الله عليه؟ أو ليس قال الله لنبيه : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)) [المدثر : ١ ـ ٢]. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مستند إلى الكعبة ، والناس يومئذ مشركون جهال ، عبدة أوثان ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]. لم يتق أحدا من خلقه ، فاحتمل (١) الأذى ، وصدع بأمر الله ، وقام بحق الله ، واحتج على خلق الله ، وصبر على ما أصابه ، حتى أبلغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السامع والعاصي ، والخاص والعام ، والأبيض والأسود ، فمرة يرمون ساقيه ، وأخرى يرمونه ، ويتشاورون في قتله ، فثبتت حجته على الخلق.

فإن زعمتم أن الأئمة يقومون مقام الأنبياء ، فالواجب عليهم أن يحتملوا الأذى كما احتمله الأنبياء.

[صفة الإمام]

ولا يكون حجة إلا داعيا إلى الله مجتهدا ، زاهدا فيما في أيديكم ، عالما بحلال الله وحرامه ، أقوم خلق الله ، وأبصره بدينه ، وأرأفه بالرعية ، وأقومه لدين الله ، أمين الله في أرضه ، صادق اللسان ، سخي النفس ، راغبا فيما عند الله ، زاهدا في الدنيا ، مشتاقا إلى لقاء الله.

فإن زعموا : أن هذا في صاحبهم.

يقال لهم : أو ليس إظهار التقية استبقاء على نفسه من الموت ، ورغبة في دار الدنيا ، على أن يترك فيها ، ولا يفطن له فيقتل؟ فليس هذا الزهد ، ولا الرغبة ، إذ أظهر من

__________________

(١) في (ب) و (د) : واحتمل.

نفسه خلاف ما يعلم من الحق. فسبحان الله ما أبين تكذيب دعواكم! وأبطل قولكم! وعبث ما أنتم فيه! إذ نرى فيكم ضعفاء فقراء محاويج ، من شيخ ضعيف ، أو أرملة ضعيفة ، أو يتيم طفل ، أو مديون مغموم ، أو غريب محتاج إلى النكاح ، أو فقير محتاج لا حيلة له ، ولا مبيت عنده ، وزعمتم أنه يعرف مكانكم ، ويرى أفاعيلكم ، ويعلم حالكم (١) ، أو ليس عليه أن يغيّر حالكم ، ويفرّج على مغمومكم ، ويقضي عن مديونكم؟! إذ زعمتم أنه قام مقام النبيين.

وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣]. فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي ضعفاء أمته حتى يستأثرهم على نفسه وعياله ، وقد

__________________

(١) عن إبراهيم بن مهزم قال : خرجت من عند أبي عبد الله ليلة ممسيا فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أمي معي فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت عليها فلما كان من الغد صليت الغداة وأتيت أبا عبد الله فقال مبتدئا : يا بن مهزم ما لك وللوالدة أغلظت لها البارحة ...

دلائل الإمامة / ١١٥ ، بصائر الدرجات : ٢٦٣ / ٣ ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ / ٢٢١ ، إثبات الهداة ٣ / ١٠٢ (٨٨).

ونقل عن أبي الحسن الرضا أنه كان جالسا وعنده إسحاق بن عمار ، فدخل عليه رجل من الشيعة ، فقال له : يا فلان ، جدد التوبة وأحدث العبادة ، فإنه لم يبق من عمرك إلا شهر ، قال إسحاق : فقلت في نفسي : وا عجباه كأنه يخبرنا أنه يعلم آجال الشيعة أو قال : آجالنا ، قال : فالتفت إليّ مغضبا ـ لأنه عرف ما اختلج في صدره ـ وقال : يا إسحاق وما تنكر من ذلك ... يا إسحاق أما إنه يتشتت أهل بيتك تشتتا قبيحا ، ويفلس عيالك إفلاسا شديدا. رجال الكشي / ٣٤٨ ترجمة إسحاق بن عمار.

وعن أبي كهمس قال : كنت بالمدينة نازلا في دار بها وصيفة تعجبني ، فانصرفنا ليلة ممشانا فاستفتحت الباب ففتحت لي ورددت يدي إلى ثدييها فقبضت عليهما ، فلما كان من الغد دخلت على أبي عبد الله فقال : يا أبا كهمس تب إلى الله عزوجل مما صنعت البارحة. دلائل الإمامة / ١١٥.

وعن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله ذات يوم جالسا إذ قال : يا أبا محمد هل تعرف إمامك؟ قلت : إي والله الذي لا إله إلا هو وأنت هو ووضعت يدي على ركبته أو فخذيه ، فقال : صدقت ، قد عرفت فاستمسك به. قلت : أريد أن تعطيني علامة الإمام؟ قال : يا أبا محمد ليس بعد المعرفة علامة. قلت : ازداد إيمانا ويقينا ، قال : يا أبا محمد ترجع إلى الكوفة وقد ولد لك عيسى ومن بعد عيسى محمد ومن بعدهما ابنتان ، واعلم أن ابنيك مكتوبان عندنا في الصحيفة الجامعة مع أسماء شيعتنا وأسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وأنسابهم وما يلدون إلى يوم القيامة ، وأخرجها فإذا هي صفراء مدرجة. كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي ٢ / ٤٠٢.

قال الله تبارك وتعالى في أهل بيته صلى الله عليه وعليهم وسلم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)) [الإنسان : ٨] (١). فلم يبخلوا بطعامهم على الأسير ، وهو كافر ، واستأثروا على أنفسهم. فكيف كان ينبغي لصاحبكم أن يستأثر بالمال على المستضعفين الفقراء من أصحابه؟ وقد قال الله سبحانه في أهل بيت نبيئه صلى الله عليه وعليهم : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر / ٩ ، التغابن / ١٦] (٢). وقد قال في المؤمنين : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، فقد وصف المؤمنين بالرحمة بعضهم لبعض ،

__________________

(١) رواه ابن الأثير في أسد الغابة ٥ / ٥٣٠ في ترجمة فضة النوبية ، والواحدي في أسباب النزول / ٣٣١ ، والمحب الطبري في الرياض ٢ / ٢٢٧ ، والذخائر / ١٠٢ ، والسيوطي في الدر عند تفسير الآية ٦ / ٢٩٩ ، والشبلنجي في نور الأبصار / ١٠٢ ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ٣٩٤ (١٠٤٢ ١٠٦٦) ، والصدوق في أماليه المجلس ٤٤ حديث رقم (١١) ، والكوفي في المناقب ١ / ١٧٧ (١٠٣) و (١٠٤) و (١٠٥) ، والثعلبي في تفسيره عند تفسير السورة ، وابن البطريق في خصائص الوحي المبين / ١٠٠ عن الثعلبي ، وفي العمدة ١٨٠ برقم (٥٧٠) ، والخوارزمي في المناقب / ١٨٨ في الفصل : (١٧) ، وابن حجر في الإصابة في ترجمة فضة ٤ / ٣٨٧ ، والحبري في تفسيره ٣٢٦ / (٦٩) ، وابن المغازلي في المناقب / ٢٧٢ برقم (٣٢٠) ، والزمخشري في الكشاف عند تفسير السورة ٤ / ١٦٩ ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص / ٢٨١ ، وأبو حيان في البحر المحيط ٨ / ٣٩٥ ، والقرطبي في تفسيره / ١٩ ، والبغوي في معالم التنزيل ٧ / ١٥٩ ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب / ٢٠١ ، ٣٤٥ ، في قصة مطولة ، ثم قال : هكذا رواه الحافظ أبو عبد الله الحميدي في فوائده ، وما رويناه إلا من هذا الوجه ، ورواه الحاكم أبو عبد الله في مناقب فاطمة ، ورواه ابن جرير الطبري أطول من هذا في سبب نزول هل أتى. والقندوزي في ينابيع المودة ٢ / ١٠٨ ، وفرات الكوفي في تفسيره ٢ / ٥١٩ (٦٧٦) و (٦٧٧) و (٦٧٨) و (٦٧٩) و (٦٨٠).

(٢) نزلت الآية في علي وفاطمة عليهما‌السلام. أخرج الحاكم الحسكاني بسنده إلى أبي هريرة قال : إن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشكا إليه الجوع ، فبعث إلى بيوت أزواجه فقلن : ما عندنا إلا الماء!! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لهذا الليلة؟ فقال علي : أنا يا رسول الله. فأتى فاطمة فأعلمها ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبية ، ولكنا نؤثر به ضيفنا!! فقال علي : نوّمي الصبية ، وأنا أطفئ السراج للضيف. ففعلت وعشوا الضيف ، فلما أصبح أنزل الله فيهم هذه الآية : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ). الآية. شواهد التنزيل عند تفسير الآية برقم (٩٩٢). وأخرجه الطوسي في أماليه ١ / ١٨٨. وأخرج نحوه الكوفي في المناقب ٢ / ٥٥٤.

فكيف يسع حجة الله ، إذ كان حجة على ما وصفتم أن يستغل الألوف ، ويأخذ خمس أموالكم ، ويوكّل في كل بلاد لقبض الأموال ، ولا يفرّج على أحد من خلق الله ، ولا يقسمها في الفقراء والمساكين؟! فلم ير منه صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قال الله سبحانه : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣]. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨]. ولم ير منه صفة المؤمنين من أصحاب النبي عليه‌السلام إذ قال الله فيهم : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) [الفتح : ٢٩]. (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الحشر : ٤] (١).

فلا يرى فيه أن يفرج على أحد من فقراء المؤمنين إن ظلم أو قتل ، ولم ير فيه النّصب حربا لأعداء الله ، ولا يسير فيما يسخط الأعداء ، ولم ير قط (٢) إلا طلب أخذ الأموال من غير أن يقسمها في المستضعفين! فكيف يسعنا أن نقول فيه : هو حجة ، وليس يرى فيه صفة الحجج؟!

وأما قولكم : إنه يعلم ما نفعل ، ويعلم ما بسرائرنا ، ونحن نرى فيكم شرّاب الخمور ، ونرى فيكم الزنا واللواط ، وأخذ أموال الناس ، وظلم العباد ، والتقاطع والجفاء ، والمسير بغير ما أمر الله والقتل! وزعمتم بأنه يعلم منكم هذه الخصال ، إذ زعمتم أنه يرى أفاعيل العباد ، وهو يتولاكم على هذه الخصال ، التي فيكم ، فإن كان يتولاكم على هذا فليس من الله في شيء ، لقول الله تبارك وتعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣]. وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩)) [النجم : ٢٩]. وقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة : ٢٢]. وقال تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩].

__________________

(١) دمج آيتين على أنها آية للتشابه بينهما وآية الحشر هكذا : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ). وهي في جميع المخطوطات. ولعلها سهو من النساخ.

(٢) سقط من (ب) و (د) : قط.

وقال لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٢٨]. فقد أمره الله سبحانه أن لا يتولى أصحاب الدنيا ، ويصبر على الذين يريدون الآخرة ، فلم نر من صاحبكم إلا طلب الدنيا ، مجتهدا للمكاثرة ، وإن كان وصفتم من الأشياء ما ليس فيه!

وزعمتم أنه يرى أفاعيل العباد وأعمالهم ، وهو شاهد عليهم ، وليس فيه الذي وصفتم بأنه يرى أفاعيل العباد! فإن كان يرى أفاعيلكم فليس له أن يتولاكم ، ولا يأخذ منكم شيئا من عرض الدنيا ، وإن كان لا يرى منكم ما وصفتم فيه فقد كفرتم وعبدتموه من دون الله ، وهل هذه إلا صفة رب العالمين؟! أيرى ما غاب عنه ، ويسمع من غير أن يسمع ، وأن يعلم ما في قلوبكم من غير أن يخبر؟! فتعالى الله رب العالمين ، عما يقولون علوا كبيرا ، ما أعظم افتراءكم على الله إذ شاركتم في فعله أحدا من خلقه ، وكيف يكون ذلك كما زعمتم؟! وهو يقول : (عالِمُ الْغَيْبِ) ثم قال : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧)) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧]. يعني سبحانه : بالوحي. لقوله : (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (١). فقد أخبر بأن لا يعلم الغيب إلا الله (٢) ومن ارتضى من رسول ، يوحي إليه بخبر ما يريد ، فإذا مضى رسول الله انقطع الخبر والوحي ، وحجب عن الخلق أمر الوحي ، وعلم الحادثات سوى علم ما جاءت به الأنبياء ، وبعلم الأنبياء يشهدون ، فكيف يعلم أحد الغيب من غير وحي الله جل جلاله؟ عن أن يحويه قول أو يناله.

فإن زعمتم أن في الأرض اليوم من يوحى إليه ، فقد زعمتم أنه نبي ، لأنه لا يكون الوحي إلا إلى النبي ، وإنما سمي نبيئا لأنه نبأ عن الله ، فمن أنبأ عن الله فهو نبي ، فويلكم متى آمنتم بالله وقد كذبتم كتاب الله؟! لقوله : (خاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : ٤٠].

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : يعني سبحانه : بالوحي. لقوله : (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً).

وأضاف في (ب) و (د) : بعد قوله (رصدا) الأولى ، الوحي.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : الله. وفي نسخة بدل (الله) ، كلمة (هو). أشار إليها في (ب) و (د).

فكيف يكون محمد خاتم النبيين ، وقد نصبتم الأنبياء من بعده؟!

ويقال للروافض : أخبرونا عن أعراب البادية والمستضعفين ، والذين لا يعلمون لصاحبكم اسما ولا نسبا هل لصاحبكم عليهم حجة؟

فإن قالوا : نعم.

يقال لهم : هل بلغتهم (١) منه الحجة ، فيكون حجة عليهم؟.

ويقال للروافض : هل لصاحبكم أن يتبع أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكون تابعا لرسول الله عليه‌السلام لا مخالفا له؟

فإن قالوا : نعم هو تابع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

يقال لهم : هل رأيتم فيه ما رأيتم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الزهد وغير ذلك؟ فإن قالوا : نعم. يقال لهم : فهل رأيناه فرّج على أحد منكم أو غيّر حاله؟ وقد رأينا منه أفاعيل لا يجوز أن تكون في نبي ، ولا في مؤمن ، ونستحيي أن نصفه في كتابنا؟.

ويقال للروافض : هل يكون حجة لله إلا بالغا؟ كما أن الله لم يبعث محمدا إلا في وقت بلوغه! وكيف يجوز أن يكون حجة لله طفلا ، وقد قال الله : «حجّة بلغة» (٢) فكيف يكون صبي في ثلاث أو أربع حجة؟! ونحن في أمة محمد ، وسنتنا سنة الإسلام ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٦]. فمن شرائع محمد أن لا يصلى خلف طفل ، ولا تجوز شهادته ، ولا تؤكل ذبيحته ، ولا يجوز شراؤه ولا بيعه ولا نكاحه ، فكيف يجوز أن يكون إمام المسلمين طفلا صغيرا؟!

فإن زعمتم أنه صاحب الأمر في حال طفوليته ، فإذا بلغ كان حجة.

يقال لهم : أفلا ترون أنه قد خلت الأرض من حجة؟! ولو جاز أن تخلو الأرض

__________________

(١) في (ج) : بلغتم. مصحفة.

(٢) الآية هكذا (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام / ١٤٩]. ولعلها اشتبهت بقوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [القمر / ٥].

طرفة عين لجاز أن تخلو ألف عام!!!

ويقال للروافض : أخبرونا عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعليهم مشركون أو كفار أو مسلمون؟

فإن زعمتم أنهم مسلمون. يقال : فقد أجمع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم وعلماؤهم بأنكم على غير طريقة الإسلام.

فإن زعموا بأنهم قد يعلمون الحق ، ويجحدون حسدا منهم.

يقال لهم : فنحن نرى منهم أنهم إذا استبان لهم من أحد منهم الفضل والزهد والعلم انقادوا له ، وأقروا بفضله ، ونزلوا عند حكمه ، فكيف حسدوا صاحبكم ، ولم يحسدوا ذاك؟! فلو كان الأمر على ما وصفتم أنه لا يمنعهم من الإقرار إلا الحسد لكانوا لا يقرون لأحد!! وكل واحد منهم يجر إلى نفسه ، ولا يقر بفضل صاحبه. ولكن كذبتم عليهم ، لأنا قد رأينا قولهم يصدقه كتاب الله ، وقولكم يكذبه كتاب الله ، وهم أولى بالصدق منكم ، ونحن نرى منهم من الزهد ما لا نرى من غيرهم ، فهم أعرف بأهل بيتهم منكم ، وهم أعرف بعضهم لبعض منك يا مدعي ما ادعيت بالباطل ، وتريد أن نقبل باطلك بغير بيان ولا برهان ، ونكذب أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!!

أليس ينبغي لصاحبكم أن يتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقتدي بفعله؟! إذ كان حجة كما زعمتم. وقد قال الله تبارك وتعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب : ٢١]. أو ليس ينبغي لصاحبكم أن يبدي نصيحته لأهل بيته قبل العوام ، كما أمره الله تعالى فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)) [الشعراء : ٢١٤]. فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين رجلا من بني عبد المطلب ، وعبد مناف ، ورجالا من بني مخزوم فيهم أبو جهل بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، وفي القوم أبو بكر ، ومن بني أمية عثمان ، وصخر بن حرب أبو سفيان فأنذرهم بعلم ما أوحي إليه وأخبرهم بما أوحى الله إليه (١)

__________________

(١) سقط من (أ) : وأخبرهم بما أوحى الله إليه.

وأبدى لهم نصيحته ، ودعاهم إلى نصرته ، فأجابه من أجابه ، وخالفه من خالفه ، (١) لم يخف منهم التكذيب ، ولا الجحد ولا (٢) الحيود ، وكان حجة لمن اتبعه ، وحجة على من عصاه ، أفليس يجب على صاحبكم أن يبين لأهل بيته كما بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقربائه؟

فإن قالوا : يخاف أن لا يقبلوا منه ، ويكذبوه ويحسدوه.

يقال لهم : ـ ويلكم ما أعظم افتراءكم على أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفتراهم أشر ممن وصفنا من قريش الذين بلّغهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وتزعمون أن أخيار آل محمد وزهادهم ، مثل زيد (٣) بن علي بن الحسين بن علي ، وعمر (٤) بن علي بن الحسين بن علي ، وعلي (٥) بن علي بن الحسين ، وحسين (٦) بن

__________________

(١) أخرجه البخاري برقم (٢٥٤٧) و (٢٥٤٨). ومسلم برقم (٣٠٣) و (٤٣٤٧).

(٢) سقط من (أ) و (ج) و (د) : لا. والحيود : العدول.

(٣) زيد : هو الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو الحسين ، إمام المسلمين ، وعلم آل البيت عليهم‌السلام ، ولد سنة ٧٥ ه‍ على أصح الأقوال في المدينة ، روى عن أبيه ، وأخيه الباقر ، وأبان بن عثمان وآخرين ، وعنه ابناه حسين وعيسى ، والصادق ، وأبو خالد ، والزهري ، والأعمش ، وشعبة ، وخلق ، استشهد في ٢٥ من شهر محرم سنة ١٢٢ ه‍ في الكوفة ، وهو أشهر من أن يترجم له في هذه العجالة ، وفي سيرته واستشهاده كتب كثيرة.

(٤) عمر الأشرف بن علي زين العابدين. أخو الإمام زيد لأمه ، وأسن منه. ويكنى أبا علي ، وقيل : أبا حفص.

وكان من أفاضل الناس وأخيارهم. لقب بالأشرف بالنسبة إلى عمر الأطرف. عم أبيه ، وذلك لما ناله من شرف وفضيلة ولادة الزهراء ، كان أشرف من ذلك ، وسمي عمه عمر الأطرف ، لأن فضيلته من طرف واحد ، وهو طرف أبيه علي عليه‌السلام ، تولى صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصدقات جده علي عليه‌السلام ، قال الحسين بن زيد : رأيت عمي عمر يشترط على من ابتاع صدقات علي ، أن يثلم في الحائط كذا وكذا ، لا يمنع من دخله أن يأكل. سفينة البحار ٢ / ٢٧٣. وهذا يدل على سخائه ونبله ، وسمو إنسانيته. توفي عن خمس وستين سنة.

(٥) علي بن علي زين العابدين يلقب بالأصغر.

(٦) الحسين الأثرم بن الحسن السبط بن علي. هكذا ذكر بعض النسابين ولم يزيدوا على ذلك.

علي بن حسن (١) ، والحسن (٢) بن الحسن ، وعبد الله (٣) بن الحسن بن الحسن ، الذي روت الأمة فيه ماروت ، وقال [الباقر] محمد بن علي بن الحسين : «يكون هذا خير أهل زمانه ، يقتله شر أهل زمانه ، لقاتله مثل ثلث عذاب أهل النار ، ويموت قاتله قبل دخول الحرم» (٤) فلما قام أبو جعفر (٥) ، قال عبد الصمد (٦) بن علي : سمعتم ما روى ابن أخي ، والله ما له قاتل غيره.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : وحسين بن علي بن حسن. وفي (ب) و (د) : زاد (الحسن بن الحسن ، والحسين بن الحسن) فأما الحسين بن الحسين فليس له وجود. وأما الحسين بن الحسن فهو الأثرم ، فمعروف غير أنه ليس مشهورا.

(٢) الحسن المثنى بن الحسن السبط ، يكنى أبا محمد.

أمه خولة بنت منظور بن زبان الذبياني بن ذبيان. وكانت تحت محمد بن طلحة بن عبد الله فقتل عنها يوم الجمل ، ولها منه أولاد ، فتزوجها الحسن بن علي. لم تحدد المصادر التاريخية مولده.

كان كبير الطالبيين وشيخهم في عهده ، وكان وصي أبيه وولي صدقة جده أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، إمامته ووفاته بالمدينة ، كان أهل العراق يكاتبونه ويدعونه للقيام فهابه عبد الملك بن مروان ، زوجه عمه الحسين بابنته فاطمة ، وشهد معه كربلاء وأثخن بالجراح ولكنه نجا ، وعند خروج عبد الرحمن بن الأشعث على عبد الملك بن مروان وعامله على العراق الحجاج دعا إلى الحسن وبايعه ، فلما قتل ابن الأشعث توارى الحسن حتى دس إليه سليمان بن الملك السم فتوفي سنة (٩٣ ه‍) تقريبا عن (٥٣ ه‍).

(٣) أبو محمد ، لقب بالكامل لكمال خصاله ، وحميد خلاله ، ولد سنة (٧٠) للهجرة ، وسجنه المنصور العباسي ، في مطبق الهاشمية ، حتى توفي في السجن سنة (١٤٥) للهجرة ، وأخباره طويلة ، سأفردها في كتاب إن شاء الله.

(٤) لم أقف على هذه الرواية.

(٥) عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، أبو جعفر المنصور ولد سنة (٩٥ ه‍) ثاني خلفاء بني العباس ولي الخلافة بعد أخيه السفاح سنة (١٣٦ ه‍) ، أمه سرية تدعى سلامة كان سفاحا مجرما قتل أعلام بيت النبوة. توفي سنة (١٥٨ ه‍) عن (٦٣ ه‍) تولى الخلافة (٢٢) سنة. توفي ببئر ليمون من أرض مكة محرما بالحج ، ودفن بالحجون.

(٦) عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس. ولد سنة (١٠٤ ه‍). أمير عباسي وهو عم المنصور. وكان عامله على مكة والطائف سنة (١٤٧ ه‍) ثم ولي المدينة ، ثم عزله سنة (١٦٣ ه‍). حبسه إلى سنة (١٦٦ ه‍). وأخرجه وولاه دمشق ، ثم عزله وعمي في آخر عمره. توفي سنة (١٨٥ ه‍).

ومثل الحسن (١) بن الحسن بن الحسن ، ومثل علي (٢) سيد العباد بن الحسن بن الحسن بن الحسن ، ومثل الحسين (٣) بن علي ، ومثل محمد بن عبد الله النفس الزكية (٤) ،

__________________

(١) الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي المثلث.

أمه فاطمة بنت الحسين ، ولد سنة (٧٧ ه‍). كان متألها ، فاضلا ، ورعا.

ولما حبس أخوه عبد الله ، آلى ألا يدهن ، ولا يكتحل ، ولا يلبس لينا ، ولا يأكل طيبا ، ما دام عبد الله في السجن ، فكان أبو جعفر المنصور ، يسأل عنه ، فيقول : ما فعل الحاد؟. حبس بالهاشمية ، وتوفي بها سنة (١٤٥ ه‍). وهو ابن (٦٨) سنة.

(٢) علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي ويكنى أبا الحسن ، ويقال له : علي الخير ، وعلي العابد ، وكان يقال له ولزوجه زينب بنت عبد الله بن الحسن الزوج الصالح.

أمه أم عبد الله بنت عامر بن عبد الله بن بشر بن عامر بن ملاعب الأسنة ، كان عابدا زاهد تقيا مستجاب الدعوة.

حبسه المنصور مع بني هاشم في مطبق مظلم فلم يكونوا يميزون أوقات الصلوات إلا بأجزاء يقرؤها علي بن الحسن. توفي وهو ساجد سنة (١٤٦ ه‍) عن (٤٥) سنة.

(٣) الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي الفخي.

أمه زينب بنت عبد الله بن الحسن الكامل ، وكان يعرف أبوه وأمه زينب بالزوج الصالح ، لعبادتهما.

ولد سنة (١٢٨ ه‍).

خرج بالمدينة سنة (١٦٩ ه‍). وبايعه فضلاء أهل البيت وغيرهم ، ثم خرج إلى مكة ، ومعه زهاء (٣٠٠) رجل ، فلما صاروا (بفخ) ـ المسمى اليوم : بالشهداء بمكة أو الزاهر قرب التنعيم ـ لقيتهم جيوش موسى الهادي العباسي ، يوم التروية فاقتتلوا حتى قتل عن (٤١) سنة ، وأخذ رأسه وحمل إلى موسى الهادي ، ودفن بدنه بفخ.

(٤) محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، النفس الزكية.

أبو عبد الله ، وقيل : أبو القاسم ، وكان يسمى المهدي.

وأمه هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي. ولد سنة (١٠٠ ه‍).

كان متناهيا في العلم ، متقدما في الفقه والحديث ، وكان شجاعا فارسا خطيبا بارعا ، وهو أول من ظهر من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخوطب بأمير المؤمنين.

ظهر في المدينة في شهر جماد الآخرة ، سنة (١٤٥ ه‍). وخرج على أبي جعفر المنصور ، الذي كان قد بايعه ، وأرسل إليه أبو جعفر عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في جيش كثيف ، فقاتل حتى استشهد في شهر رمضان ، من سنة (١٤٥ ه‍). فكانت مدة قيامه شهرين وأياما.

ولما استشهد وحز رأسه ، وأنفذ إلى أبي جعفر ، استوهبت جثته أخته زينب من عيسى ، واستأذنته في ـ

الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروى ذلك جعفر بن محمد قال : «هذا النفس الزكية يقتل بالثنية (١) بالمدينة ، ويبلغ دمه حجر الزيت (٢)».

__________________

ـ دفنه ، فأذن لها في ذلك ، فدفن. وقد زرته أنا ـ عبد الكريم جدبان ـ سنة (١٤١٠ ه‍) تقريبا في المدينة المنورة في حارة تسمى حارة الزكي ، نسبة إليه ، قرب البقيع ، وكان عليه بناء مثل غرفة ، وليس له باب ، وتسلقنا إليه وقبره مرتفع شبرا ، فأصلحنا ما تهدم من قبره الشريف ، وفي السنة الثانية زرناه فلم نجد قبره ، فأخبرنا أنه جرف بالجرافات ، وصار طريقا ، ونقل إلى البقيع.

(١) في (أ) و (ج) : بالبنية.

(٢) النفس الزكية. قال أبو الفرج الأصفهاني : وكان علماء آل أبي طالب يرون فيه أنه النفس الزكية ، وأنه المقتول بأحجار الزيت.

روى المنصور بالله ، والحسن بن بدر الدين : أن النفس الزكية ، يقتل فيسيل دمه إلى أحجار الزيت ، لقاتله ثلث عذاب أهل جهنم. الشافي ١ / ١٩٨. وأنوار اليقين / ١٢٥.

وروى المنصور أيضا عن العقيقي الشريف الحسيني صاحب كتاب الأنساب ، قال : كتب إلي حماد يخبرني عن يحيى عن حماد بن يعلا ، عن عمر قال : كنت مع محمد بن عبد الله في منزله ، فذكرنا النفس الزكية ، فخرجنا حتى انتهينا إلى أحجار الزيت ، فقال : هاهنا يا أبا حفص تقتل النفس الزكية ، قال : ثم قال : والله لوددت أنها قد قتلت ، وإن كنت أنا هو. ومر بنا علي بن الحسين فقال ما يقيمك يا أبا عبد الله هاهنا؟ قال : ذكر النفس الزكية. فقال : ابن عمك كذا وكذا. فقال : علي بن الحسين : أنهما نفسان ، نفس تقتل بالحرم ، ونفس هاهنا. الشافي ١ / ١٩٩. ورواه الأمير الحسين في ينابيع النصيحة ٤١٤. وقال أبو طالب : ويسمى النفس الزكية ، لورود الرواية بأن النفس الزكية يقتل عند أحجار الزيت. الإفادة / ٧٣. والحدائق الوردية / ١٥٤. ومآثر الأبرار / ٩٥.

وروى ابن جرير الطبري ، وابن الأثير ، أن محمد بن عبد الله النفس الزكية قال لعبد الله بن عامر الأسلمي: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا ، وإن تجاوزتنا إليهم ، نظر إلى دمي عند أحجار الزيت. قال : فو الله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا ، وتجاوزتنا إلى عيسى وأصحابه ، فظفروا وقتلوا محمدا ، ورأيت دمه عند أحجار الزيت. إلى أن قال ابن الأثير : وكان يلقب المهدي ، والنفس الزكية. تاريخ الطبري ٧ / ٥٩٦ ، الكامل ٥ / ١٢.

وقال : المسعودي : وكان يدعى بالنفس الزكية. مروج الذهب ٣ / ٣٠٦.

وروى الشيخ أبو القاسم البستي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : يقتل من ولدي عند أحجار الزيت رجل اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، وإنه النفس الزكية. ينابيع النصيحة / ٤١٤. حقائق المعرفة / ٢٤٢. بزيادة : على قاتله ثلث عذاب أهل النار.

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : النفس الزكية من ولد الحسن. ينابيع النصيحة / ٤١٥.

وعن محمد بن عبد الله النفس الزكية أنه قال : آية قتل النفس الزكية أن يسيل الدم حتى يدخل بيت ـ

ومثل إبراهيم (١) بن عبد الله بن الحسن ، ومثل يحيى (٢) وإدريس (٣) وسليمان (٤)

__________________

ـ عاتكة. قال : فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم حتى يدخل بيت عاتكة؟!!

فكان يوما مطيرا فسال الدم حتى دخل بيت عاتكة. ينابيع النصيحة / ٤١٥. مقاتل الطالبين / ٢٧٢.

وروى أبو الفرج الأصفهاني بسنده عن مسلم بن بشار ، قال : كنت مع محمد بن عبد الله عند غنائم خشرم فقال لي : هاهنا تقتل النفس الزكية. قال : فقتل هناك. مقاتل الطالبين / ٢٤٩.

وقال ابن عنبة : ثم خرج فقاتل حتى قتل بأحجار الزيت ، وكان ذلك مصداق تلقيبه بالنفس الزكية ، لأنه روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : تقتل بأحجار الزيت من ولدي نفس زكية. عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب / ١٠٥.

(١) إبراهيم بن عبد الله الكامل ، أخو محمد النفس الزكية.

أبو الحسن ، أمه أم أخيه محمد ، هند بنت أبي عبيدة ، ولد سنة (٩٧ ه‍) ، خرج بالبصرة بعد مقتل أخيه النفس الزكية ، وبايعه كبار العلماء في عصره ، وخلق كثير ، وسيّر الجموع إلى الأهواز ، وفارس ، وواسط ، وكانت بينه وبين جيوش العباسيين وقائع كثيرة هائلة ، قتل في إحداها ، وحز رأسه وجيء به إلى أبي جعفر المنصور ، ودفن بدنه الزكي بباخمرا ، سنة (١٤٥ ه‍) ، وكان شاعرا عالما بأنباء العرب ، وأيامهم ، وأشعارهم.

(٢) يحيى بن عبد الله الكامل ، أخو النفس الزكية.

أبو الحسين ، وقيل أبو عبد الله.

أمه قريبة بنت عبد الله بن أبي عبيدة ، وهي بنت أخي هند ، بنت أبي عبيدة ، أم أخيه محمد. لم تحدد المصادر التاريخية ، مولده ولا مبلغ عمره.

كان فارسا شجاعا ، له مقامات مشهورة في موقعة فخ ، مع الحسين بن علي الفخي ، استتر بعد وقعة فخ ، ودعا إلى نفسه ، وبايعه خلق وجماعة من أكابر علماء عصره ، وطاف البلدان يدعو إلى الثورة ، فوصل ديلمان وبلاد الترك ، وخافه هارون فأمّنه مع أصحابه ، ثم سمّه في الحبس ، بعد نقض الأمان ، وقيل : خنق ، وقيل : وجد ميتا بين اسطوانتين في قصر القرار ، بعد خرابه أيام فتنة الأمين ، قيل : استشهد سنة (١٧٥ ه‍) ، وقيل : (١٨٠ ه‍).

(٣) إدريس بن عبد الله الكامل ، أخو النفس الزكية.

أمه عاتكة بنت عبد الملك بن الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي.

مؤسس دولة الأدارسة في المغرب ، وإليه نسبتها.

كان مع الإمام الحسين الفخي ، ثم هرب إلى مصر ثم إلى المغرب ، ونزل بمدينة وليلى ، (على مقربة من مكناس ، وهي اليوم مدينة قصر فرعون).

ثم دعا البربر وأقام دولة إسلامية ، ثم بعث هارون الرشيد من سمّمه في قصة معروفة. سنة (١٧٧ ه‍).

وللمزيد من أخبارهم يرجع إلى الحدائق الوردية ، والإفادة ، ومقاتل الطالبين.

(٤) سليمان بن عبد الله الكامل. أخو النفس الزكية.

وجعفر (١) وموسى (٢) بني عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ومثل يحيى بن زيد (٣) وعيسى

__________________

أمه عاتكة بنت عبد الملك ، أم أخيه إدريس. قتل في وقعة فخ مع الإمام الحسين الفخي ، وهو جد السليمانيين ، أصحاب الدولة في تلمسان ، فقد خرج ولده محمد إلى افريقية ، ونزل تلمسان ، فكانت له ولبعض بنيه إمارتها وإمارة ما حولها ، قال ابن حزم : وهم أي أحفاده بالمغرب كثير جدا. جمهرة أنساب العرب / ٤٢.

(١) جعفر بن عبد الله الكامل ، أخو النفس الزكية. لم أقف له على خبر.

(٢) موسى بن عبد الله الكامل. أخو النفس الزكية.

أمه هند بنت أبي عبيدة أم أخيه محمد. وكنيته أبو الحسن ، ولقبه الجون لسواد لونه ، كانت أمه ترقصه وهو صغير. وتقول :

إنك إن تكون جونا أفرعا

يوشك أن تسودهم وتبرعا

كان شاعرا ، ضربه المنصور ألف سوط ، وأرسله إلى الحجاز ليأتي بخبر أخويه ، محمد وإبراهيم ، فهرب إلى مكة ، فلما قتل أخوه حج المهدي العباسي ، في تلك السنة ، فقال له في الطواف قائل ، أيها الأمير لي الأمان وأدلك على موسى الجون بن عبد الله ، فقال المهدي لك الأمان إن دللتني عليه ، فقال : الله أكبر ، أنا موسى بن عبد الله. فقال المهدي من يعرفك ممن حولك من الطالبية؟

فقال : هذا الحسن بن زيد ، وهذا موسى بن جعفر ، وهذا الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي ، فقالوا جميعا : صدق. هذا موسى بن عبد الله بن الحسن ، فخلى سبيله ، وعاش إلى أيام الرشيد ، ودخل عليه ذات يوم ، فلما قام من عنده عثر بطرف البساط فسقط ، فضحك الرشيد ، فالتفت موسى إليه وقال : يا أمير المؤمنين إنه ضعف صوم ، لا ضعف سكر. ومات بسويقة ببغداد ، سنة (١٨٠ ه‍). تقريبا.

(٣) يحيى بن زيد بن علي ، أبو عبد الله. وقيل : أبو طالب.

أمه ريطة بنت عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب. ولد سنة (٩٨ ه‍). أحد الأبطال الشجعان ، ثار مع أبيه على بني أمية ، ولما قتل أبوه وصلب ، انصرف إلى بلخ ، ودعا إلى الثورة من جديد ، وكان أبوه مع أبيه على بني أمية ، ولما قتل أبوه وصلب ، انصرف إلى بلخ ، ودعا إلى الثورة من جديد ، وكان أبوه قد سأله قبل موته بلحظات فقال : يا يحيى ما أنت صانع؟ قال : أقاتلهم وأجاهدهم. قال : نعم جاهدهم فو الله إنك لعلى الحق ، وإنهم لعلى الباطل ، وإن قتلاك في الجنة ، وقتلاهم في النار.

وكان يردد :

يا ابن زيد أليس قد قال زيد

من أحب الحياة عاش ذليلا

كن كزيد فأنت مهجة زيد

تتخذ في الجنان ظل ظليلا

وخاض مع جيش بني أمية معارك طاحنة ، فقتل في إحداها بالجوزجان بسهم أصاب جبهته ، كما أصاب أباه سنة (١٢٥) ه. عن (٢٨). سنة.

وحز رأسه وحمل إلى الوليد بن يزيد ، وصلب جسده ، بالجوزجان ، ثم دفن هنالك وقبره مشهور مزور. وقد أعيد بناؤه أخيرا بتوجيهات من مرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي.

بن زيد ، (١) ومحمد ، (٢) والحسين ، (٣) ابني زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي

__________________

(١) عيسى بن زيد بن علي. أبو يحيى. ويلقب بمؤتم الأشبال .. ولد سنة (١٢١ ه‍). في الوقت الذي أشخص فيه أبوه إلى هشام بالشام ، وكانت أم عيسى معه في طريقه ، فنزل ديرا للنصارى ، ووافق نزو ـ له إياه ليلة الميلاد ، وضربها المخاض هنالك ، فولدته له تلك الليلة ، وسماه أبوه عيسى باسم المسيح عيسى بن مريم .. خرج عيسى مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، والحسين الفخي ، وأوصى محمد أصحابه إن هو قتل أن يكون الأمر بعده لأخيه إبراهيم ، فإن أصيب إبراهيم ، فالأمر لعيسى بن زيد ، ولم يجد الناصر الناصح فاختفى ، وظل يتنقل في زي الجمالين ، والعيون ترصده ، وتبحث عنه ، إلى أن توفي سنة (١٦٨ ه‍). وقيل : (١٦٦ ه‍). مسموما ، وقد كان يعد العدة للخروج ، توفي وعمره (٤٥) سنة ، وعند ما بلغ الهادي العباسي موته سجد على الأرض طويلا ، فرحا بموته.

(٢) محمد بن زيد بن علي.

أم أم ولد سندية ، ويكنى أبا جعفر. وكان في غاية الفضل ، ونهاية النبل ، وما يروي عنه بعض المؤرخين من أنه كان يميل إلى العباسيين ضد النفس الزكية ، فرواية ينبغي التثبت فيها ، ويحكى من نبله أنه عرض على المنصور جوهر فاخر وهو بمكة ، فعرفه وقال : هذا جوهر كان لهشام بن عبد الملك الأموي ، وقد بلغني أنه عند محمد ابنه ، ولم يبق منهم غيره.

ثم قال للربيع : إذا كان غدا وصليت بالناس في المسجد الحرام ، فأغلق الأبواب كلها ، ووكّل بها ثقاتك ثم افتح بابا واحدا ، وقف عليه ، ولا تخرج إلا من تعرفه.

ففعل الربيع ذلك ، وعرف محمد بن هشام أنه هو المطلوب فتحير ، وأقبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، فرآه متحيرا وهو لا يعرفه ، فقال له : يا هذا أراك متحيرا فمن أنت؟ قال : ولي الأمان؟ قال : ولك الأمان في ذمتي حتى أخلصك.

قال : أنا محمد بن هشام بن عبد الملك ، فمن أنت؟ قال : محمد بن زيد بن علي. فقال : عند الله احتسب نفسي إذن. فقال : لا بأس عليك ، فإنك لست بقاتل زيد ولا في قتلك درك بثأره. الآن خلاصك أولى مني بإسلامك ، ولكن تعذرني في مكروه أتناولك به وقبيح أخاطبك به يكون فيه خلاصك؟ قال : أنت وذلك. فطرح رداءه على رأسه ووجهه ، ولبّبه وأقبل يجره ، فلما أقبل على الربيع لطمه لطمات ، وقال : يا أبا الفضل إن الخبيث جمال من أهل الكوفة ، أكراني جماله ، ذاهبا وراجعا ، وقد هرب مني في هذا الوقت ، وأكرى بعض قواد الخراسانية ، ولي عليه بذلك بينة ، فضم إلي حرسيين. فمضيا معه فلما بعد عن المسجد ، قال له : يا خبيث تؤدي إلي حقي؟ قال : نعم يا ابن رسول الله ، فقال للحرسيين : انطلقا عنه. ثم أطلقه فقبل محمد بن هشام رأسه ، وقال : بأبي أنت وأمي ، الله يعلم حيث يجعل رسالته. ثم أخرج جوهرا له قدر فدفعه إليه ، وقال : تشرفني بقبول هذا؟ فقال : إنا أهل بيت لا نقبل على المعروف ثمنا ، وقد تركت لك أعظم من هذا ، دم زيد بن علي ، فانصرف راشدا ، ووار شخصك حتى يرجع هذا الرجل فإنه مجد في طلبك. عمدة الطالب / ٢٩٩.

(٣) الحسين بن زيد بن علي.

طالب ، ومثل أحمد (١) بن عيسى بن زيد ، ومثل عبد الله (٢) بن موسى بن عبد الله ،

__________________

الملقب بذي الدمعة ، وذي العبرة ، لكثرة بكائه ، ويكنى أبا عبد الله.

أمه أم ولد ، كان من الأتقياء الصالحين ، خرج مع محمد بن عبد الله النفس الزكية ، قال أبو جعفر المنصور ، لما بلغه خروج الحسين وعيسى ابني زيد : عجبا لهما قد خرجا علي ، وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله ، وصلبناه كما صلبه ، وأحرقناه كما أحرقه. قال يحيى بن زيد : قالت أمي لأبي : ما أكثر بكاءك؟! فقال : وهل ترك السهمان والنار سرورا يمنعني من البكاء!!. يعني السهمين اللذين قتل بهما أبوه زيد وأخوه يحيى ، والنار التي أحرق بها الإمام زيد عليه‌السلام. توفي سنة (١٣٥) ه. وقيل : (١٤٠ ه‍).

(١) أحمد بن عيسى بن زيد بن علي ، أبو عبد الله. ولد سنة (١٥٧ ه‍). وقيل : (١٥٨ ه‍) ، جبل من جبال العلم ، وبحر من الفقه ، زاهد عابد ، إمام من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

أمه عاتكة بنت الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن الحارث الهاشمية. أتى به وبأخيه زيد حاضر صاحب عيسى بن زيد إلى الهادي العباسي ، بعد موت عيسى ، فعاش في كنف الهادي حتى مات ، ثم كان عند الرشيد إلى أن كبر وخرج فأخذ وحبس ، فخلص من السجن واختفى إلى أن مات بالبصرة سنة (٢٥٣ ه‍). وقيل : غير ذلك ، توفي وقد جاوز الثمانين وعمي.

(٢) عبد الله بن موسى بن عبد الله الكامل ، أمه أم سلمة بنت طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان في أيام المأمون متواريا ، فكتب إليه بعد وفاة الرضا ، يدعوه إلى الظهور ليجعله مكانه ، ويبايع له ، فأجابه عبد الله بن موسى برسالة طويلة منها :

«فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن صلوات الله عليه بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته. والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ، ولا كراهة له ، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي ، ولو لا ذلك لأتيتك حتى تريجني من هذه الدنيا الكدرة ، هبني لا ثأر لي عندك! وعند آبائك المستحلين لدمائنا ، الآخذين حقنا ، الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم ، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر بمحبتنا ، تختل واحدا فواحدا منا ، ولكني كنت امرأ حبب إلي الجهاد ، كما حبب إلى كل امرئ بغيته ، فشحذت سيفي ، وركبت سناني على رمحي ، واستفرهت فرسي ، لم أدر أي العدو أشد ضررا على الإسلام ، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شيء ، فقرأته فإذا فيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً). فما أدري من يلينا منهم ، فأعدت النظر ، فوجدته يقول : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ ، أَوْ أَبْناءَهُمْ ، أَوْ إِخْوانَهُمْ ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). فعلمت أن عليّ أن أبدأ بما قرب مني ، وتدبرت فإذا أنت أضر على الإسلام والمسلمين ، من كل عدو لهم ، لأن الكفار خرجوا منه وخالفوه فحذرهم الناس وقاتلوهم ، وأنت دخلت فيه ظاهرا ، فأمسك الناس وطفقت تنقض عراه عروة عروة ، فأنت ـ

صاحب سويقة ، ومثل القاسم (١) بن إبراهيم ، ومثل محمد (٢) بن إبراهيم ، ومثل الحسن (٣) بن إبراهيم ، ومثل أحمد بن إبراهيم ، ومثل علي بن إبراهيم ، ومثل جعفر (٤) بن عبد الله.

فلو وصفتهم لك لطال عليك المجلس ، الذين (٥) كانوا أزهد الخلق ، وأعلم الخلق ، وكانوا فرجا للمستضعفين من عباد الله ، الذين كانت وجوههم كصفائح الفضة ، ملس يبس من خوف الله ، صفر الألوان من سهر الليل ، قد انحنت أصلابهم من العبادة ، باكية أعيانهم من خوف الله ، وشفقة من عذاب الله. لم يستحلوا مثل ما استحل غيرهم من قبض أموال الناس ، ولا يستأثرون بشيء من فيء المسلمين ، مثل ما استأثر غيرهم ، أحدهم إذا وصل المؤمن وصله بمائة ألف فما دونها من صميم أموالهم ، وخرجوا من أموالهم زهدا في الدنيا ، ورغبة لما عند الله.

أفترون أن جميع هؤلاء ، وجميع أهل بيتهم كانوا أجهل للحق ، وأشد حسدا ، وأشد بغيا ، وأشد إنكارا من أبي جهل بن هشام ، ومن الوليد بن المغيرة ، ومن أبي لهب ، وأبي سفيان ، ومن معاوية بن أبي سفيان ، ومن قريش ، الذين كان جمعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنذرهم ، وأبدى لهم النصيحة كما أمره الله سبحانه وتعالى لقرابته؟! أفليس كان يجب على صاحبكم أن يبدي نصيحته لأهل بيته وهم مسلمون أخيار؟!! كما أبدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصيحته لبني عبد مناف ، ونفر من بني مخزوم ، وزهرة ، لأنهم كانوا أخواله؟

أفترى هؤلاء أهل بيت النبي الذين سميناهم في كتابنا ، ومن لم نسم في كتابنا ،

__________________

أشد أعداء الإسلام ضررا عليه».

ولم يزل متواريا إلى أن مات في أيام المتوكل سنة (٢٤٧ ه‍).

(١) القاسم بن إبراهيم (صاحب هذا الكتاب).

(٢) محمد بن إبراهيم (أخو القاسم بن إبراهيم ، سبق الحديث عنه).

(٣) الحسن بن إبراهيم ، وأحمد ذكرهما بعض النسابين عند ذكر أبيهما ، أما علي بن إبراهيم فلم أقف عليه.

(٤) جعفر بن عبد الله ، لم أقف له على ذكر.

(٥) سقط من (أ) : الذين.

أجحد من قريش هؤلاء الذين جمعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذين وصفنا في كتابنا ما لا تنكرهم الأمة؟! فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبدى نصيحته لهم أول الخلق. فكيف تزعمون أن صاحبكم يبدي لكم الحق ، ويكتمه عن أهل بيته! عظم فراؤكم على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ووصفتم فعل صاحبكم مضادا لكتاب الله ، وفعل رسوله(١). ومن خالف رسول الله ، فقد خرج من حيّز (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقول الله تبارك وتعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١]. وقوله تبارك وتعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١]. فأمر الله بصلة الأرحام ، ونهى عن قطيعة الأرحام. أفترون أن صاحبكم وصلكم وقطع رحمه؟! وأي قطيعة أعظم من أن يكتم دين الله ، والحق الذي به يتقرب إلى الله ، ودينه الذي به يعبد الله ، فكتم أرحامه فهلكوا بزعمكم ، حتى استوجبوا النار لتركهم الحق ، فأي قطيعة أعظم من هذا وقد أمر الله أن توصل؟!.

ولكن كذبتم وغيّرتم وأظهرتم الباطل ، فلما أنكر عليكم أهل بيت نبيكم ، رويتم فيهم ما رويتم كذبا وبهتانا ، وخلاف كتاب الله ؛ لأن يصدّق باطلكم في زماننا هذا.

فإن زعمتم أنه يبين لنا ويكتم غيرنا ، لأنه يعلم منا أنا لا نذيع سره ، لما أعطاه الله من علم الغيب ، وتأولتم كتاب الله على غير تأويله ، وزعمتم أنهم المتوسمون ، لقوله سبحانه: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)) [الحجر : ٧٥]. وقد عرف منا صاحبنا النصيحة ما لم يعرف من غيرنا ، وأخبرنا بما نحتاج إليه ، وعرّفنا نفسه لما علم منا النصيحة والكتمان عليه ، وأنا لا نذيع سره ، وقد كتمكم إذ علم منكم غير ما علم منا.

يقال لهم : أو ليس قد كذّبتم قولكم ، وجهّلتم صاحبكم؟! إذ زعمتم أنه علم منكم أنكم لا تذيعون سره ، أو ليس قد ادعيتم وقلتم للناس واحتججتم على من خالفكم ، ووصفتم فيه ما لم يدّعه هو لنفسه ، مثل علم الغيب ، ومثل قولكم يرانا في

__________________

(١) في (ب) : رسول الله.

(٢) في (أ) و (ج) : خبر. مصحفة.

كل بلاد ، ويرى حالنا وأعمالنا وأفاعيلنا ، ويسمع كلامنا ، ويخبرنا أنا نرجع إلى الدنيا بعد موتنا ، (١) وأشباه هذا مما لو وصفناه لكثر وطال؟!

__________________

(١) الرجعة عند الإمامية تعني : رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة إلى دار الدنيا للانتقام من أعدائهم وظالميهم.

والقول بالرجعة مما أجمعت عليه الإمامية في جميع الأعصار قال المجلسي بعد سرد الأخبار الكثيرة عن الرجعة :

اعلم يا أخي أني لا أظنك ترتاب بعد ما مهدت وأوضحت لك بالقول في الرجعة التي أجمعت عليها الشيعة في جميع الأعصار ، واشتهرت بينهم كالشمس في رابعات النهار ... وكيف يشك مؤمن بأحقية الأئمة الأطهار فيما تواترت عنهم من مائتي حديث صريح رواها نيف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم. بحار الأنوار ١٣ / ٢٢٥ الطبعة الأولى.

روى الجزائري أن المفضل بن عمر روى عن جعفر أنه قال في آخر حديث طويل بعد صلب أبي بكر وعمر ... قال المفضل : يا سيدي هذا آخر عذابهما؟ قال : هيهات يا مفضل والله ليردن وليحضرن السيد الأكبر محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصديق الأعظم أمير المؤمنين ، وفاطمة والحسن ، والحسين ، والأئمة عليهم‌السلام ، وكل من محض الإيمان محضا ، وكل من محض الكفر محضا ، وليقتصن منهما بجميع المظالم ثم يأمر بهما فيقتلان في كل يوم وليلة ألف قتلة ويردان إلى أشد العذاب. الأنوار النعمانية ٢ / ٨٦ ـ ٨٧.

وإن أول من يرجع إلى الدنيا الحسين بن علي عليه‌السلام فيملك حتى يقع حاجباه على عينيه من الكبر. بحار الأنوار ١٣ / ٢١١ ، البرهان ٢ / ٤٠٧ ، الصافي ١ / ٩٥٩ ، إثبات الهداة للعاملي ٧ / ١٠٢.

ويرجع معه سبعون رجلا من أصحابه الذين قتلوا معه. تفسير العياشي ٢ / ١٨١ ، وفي رواية يرجع معه خمسة وسبعون ألفا من الرجال ويملك الدنيا كلها بعد وفاة المهدي ثلاث مائة سنة وتسع سنين. الأنوار النعمانية ٢ / ٩٨ ٩٩.

ويرجع معه يزيد بن معاوية وأصحابه ليأخذ ثأرهم منهم. تفسير العياشي ٢ / ٢٨٢ ، البرهان ٢ / ٤٠٨ ، الصافي ١ / ٢٥٩ عند تفسير قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) ، بحار الأنوار ١١٣ / ٢١٩.

والأئمة الاثنى عشر كلهم يرجعون إلى الدنيا في زمن القائم مع جماعتهم. الصافي ١ / ٣٤٧.

وأنه لم يبعث الله نبيا ولا رسولا إلا ردهم جميعا إلى الدنيا حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالبعليه‌السلام. نور الثقلين ١ / ٣٥٩ ، بحار الأنوار ١٣ / ٢١٠.

وليس أحد من المؤمنين قتل إلا سيرجع حتى يموت ، ولا أحد من المؤمنين مات إلا سيرجع حتى يقتل.

بحار الأنوار ١٣ / ٢١٠.

ولو قام قائمنا (المهدي) ردت الحميراء (عائشة) حتى يجلدها الحد ، وحتى ينتقم لابنة محمد صلى الله ـ

فيا سبحان الله! أو ليس يكفي دون ما وصفنا لمن وهب الله له أدنى فهم ، واستقر في قلبه أدنى إيمان ، أن يعرف اختلاف قولكم ، وتكذيب دعواكم ، وعيوب ما أنتم فيه من(١) باطلكم ، ولكن الله يهدي لدينه من يشاء.

زعمتم [أنه] يخبركم لمعرفته بقبولكم ، ويكتم غيركم لمعرفته بجحودهم ، فسبحان الله ما أبين هذا الفعل أنه مضاد لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ زعمتم أن صاحبكم يقوم مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهدي بهدي رسول الله عليه‌السلام ، ويفعل أفاعيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفهكذا كان فعل رسول الله عليه‌السلام أن يكتم بعضا ، ويخبر بعضا؟! أو أخبر الجميع؟ قبله من قبله ، وعصاه من عصاه.

فإن زعمتم أنه أخبر بعضا وكتم بعضا ، فقد عظم فراؤكم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزعمتم بأنه لم ينصح العباد إذ نصح قوما دون قوم ، وزعمتم بأنه لم يبلغ رسالات الله إلا قوما دون قوم ، ويلكم كيف وقد قال الله لنبيه أن يبلغ الناس لقوله : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]. ولقوله تبارك وتعالى : (* يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٥] ، فوعده أن يحفظه ممن كان يحذره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، فأبلغ الثقلين الجن والإنس عامة كافرهم ومؤمنهم ، فقبل من قبل ، وعصى من عصى ، فكان حجة لمن قبل ، وحجة على من عصى ، وكذلك أهله. (٣) وبدون هذا يكتفي المؤمن.

وأول من حاز الوصية وادعا علم آدم قوم يقال لهم الإبراهيمية ، وجعلوا الوصية وراثة من أب عن أب ، وهم من الهند ، وهم سادات البلاد ، وزعموا أن آدم أوصى إلى

__________________

ـ عليه وآله فاطمة عليها‌السلام منها ، قيل : ولم يجلدها؟ قال : لفريتها على أم إبراهيم. تفسير الصافي سورة الأنبياء ٢ / ١٠٨.

(١) في (أ) و (ج) : فيه وباطلكم.

(٢) في (أ) : ويخلي أهله فأبلغ ... ولعلها زيادة.

(٣) في المخطوطات : من عصى وعلى أهله. وبدون ولعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت والله أعلم.

شيث ، وشيث أوصى إلى ابنه ، وقادوا الوصية إلى أنفسهم ، وزعموا أن الوصية فيهم اليوم ، وزعموا أن كل نبي ادعا النبوة من بعد شيث مدع كاذب ؛ لأنه لا (١) يخبرنا بعلم آدم.

وقالوا : إن الله علّم آدم الأسماء ، والعلم كله ، فدفع كل رجل إلى وصيه العلم كاملا ، ثم ادعوا بأن العلم الذي نزل من السماء فيهم كاملا ، وأبطلوا كل نبي بعثه الله من ولد آدم.

ثم قاد الوصية قوم من اليهود ، وزعموا أن الوصية انتهت إلى ولد داود ، فجعلوا الوصية في ولد داود ، وجعلوها وراثة ، وزعموا أنه يرث ابن عن أب ، وهم بالعراق يقال لهم : رأس الجالوت ، (٢) يدفعون إليه خمس أموالهم ، وعن الذكر البكر من الولد والمواشي والدواب ، وإذا ذبح ثور حمل إليه درهم قفلة ، (٣) وثلث وثمن كبده ، وإذا تزوج أعطاه أربعة دراهم قفلة ، وإذا بنى أحدهم دارا أعطاه مثل ذلك ، وإذا تزوج لا يقدر أن يطلق إلا بأمره ، أو أمر وكيله ، فإذا طلقها أخذ منه أربعة دراهم قفلة ، وعليه أن يربي أولاد الزنا من اليهود ، ومن لا يعرف له أب حتى يكبر ، فإذا كبر كان مولاه إن شاء أعتقه ، وإن شاء باعه ، وهم الذين يحملونه إذا خرج من منزله لا يتركونه يمشي ، ويقولون : إن اليهود فيئهم ، (٤) فإن أيديهم أطول من أيدي الناس ، وأنه يبلغ الركبتين ، إذا استوى قائما ، كذبا وزورا ، واسمهم : رأس الجالوت. ويزعمون أن موسى وهارون سيرجعون إلى الدنيا ، فتكون لهم الدولة على المسلمين. وكل نبي بعثه الله في بني إسرائيل من غير هؤلاء ونسلهم كذبوه وقتلوه ، وقالوا : بأنه لو كان نبيئا لكان من

__________________

(١) في (أ) و (ج) : كاذب لا يخبرنا. وفي (ب) : كاذب لأنه يخبرنا. وفي (د) : لأنه لم يخبرنا. ولفقت النص من الجميع ، والله أعلم.

(٢) الجالوتية : فرقة من اليهود ينتسبون إلى زعيمهم رأس الجالوت وهو (الكهنوت ـ رئيس اليهود) كالجاثليق (كاثلوليك ـ رئيس النصارى) يدعون أن معبودهم أبيض الرأس واللحية ، وأن الله ملك الأرض يوسف بن يعقوب وهم وارثوه والناس مماليك لهم.

(٣) القفلة : اعطاؤك إنسانا شيئا مرة ، يقال : أعطاه ألفا قفلة. وقال ابن دريد : ودرهم قفلة ، أي : وازن.

لسان العرب. وهو درهم ثقيل يزن ثمان وأربعين شعيرة من الفضة الخالصة.

(٤) في (أ) و (ب) و (د) : فيهم. مصحفة.

ولد هؤلاء ونسلهم ، الذين قادوا فيهم الوصية ، فقال الله سبحانه تصديق ما قلنا : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)) [البقرة : ٨٧] فقد ارتكبت هذه الأمة ما ارتكبت بنوا إسرائيل القذة بالقذة ، (١) والحذو بالحذو (٢) كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فرحم الله عبدا تفهّم ونظر لنفسه قبل لقاء الله ، ونظر في سنة الماضين ، وما ارتكبوا من البدع والضلالة ، وما جحدوا من الحق والبيان ، وحذر أن يكون كأحدهم.

[صفة الإمام]

وإنما صفة الإمام ، الحسن في مذهبه ، الزاهد في الدنيا ، العالم في نفسه ، بالمؤمنين رءوف رحيم ، يأخذ على يد الظالم ، وينصر المظلوم ، ويفرج عن الضعيف ، ويكون لليتيم كالأب الرحيم ، وللأرملة كالزوج العطوف ، يعادي القريب في ذات الله ، ويوالي البعيد في ذات الله ، لا يبخل بشيء مما عنده مما تحتاج إليه الأمة ، من أتاه من مسترشد أرشده ، ومن أتاه متعلما علّمه ، يدعو الناس مجتهدا إلى طاعة الله ، ويبصّرهم عيوب ما فيه غيهم ، ويرغّبهم فيما عند الله ، لا يحتجب عن من طلبه ، فهو من نفسه في تعب من شدة الاجتهاد ، والناس منه في أدب ، فمثله كمثل الماء الذي هو حياة كل شيء حياته تمضي ، وعلمه يبقى ، يصدق فعله قوله ، يعرف (٣) منه الخاص والعام ، لا ينكر فضله من خالفه ، ولا يجحد علمه من خالطه ، كتاب الله شاهد له ومصدق له ، وفعله

__________________

(١) أخرجه أحمد برقم (١٦٥١٢). ورواه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن في تفسير قوله تعالى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً). والسيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). وهو في مختصر تفسير ابن كثير ، في تفسير قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ). وقوله تعالى : (قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً).

(٢) أخرجه الترمذي برقم (٢٥٦٥).

(٣) في (ب) و (د) : يعرف.

مصدق لدعواه ، وشواهده في كتاب الله ، والدليل عليه كتاب الله ، يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف : ١٠٨] من الدعاة من أهل بيتي (١).

أليس وصف لنا رب العالمين ، بأن حجته داع إليه ، كما بدأ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ). فقال رب العالمين : إن الحجج هم الدعاة ، فمن رأيتم من أهل بيت نبيئكم دعا إلى الله علانية غير مكتتم إلا ما قلنا ، فإن أنكرتم لم تنكره الأمة ، الذين قالوا بخلاف قولنا وقولكم ، فلنا عليكم البيان من غير أهل مقالتنا ومقالتكم ، بأن قوما من أهل بيت النبي مخصوصين ، بأنهم دعوا إلى الله ، وجاهدوا في سبيل الله ، وقاتلوا وقتلوا ، ومضوا إلى الله على سبيل جدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعلي ، والحسن ، والحسين ، الذين جاهدوا في الله حق جهاده حتى أتاهم اليقين.

وقال الله تبارك وتعالى في الأئمة من أهل بيته : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) [النساء : ١٣٥] (٢) وقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] (٣)

__________________

(١) قل هذه سبيلي نزلت في أهل البيت.

عن زيد بن علي عليهم‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قول الله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) من أهل بيتي ، لا يزال الرجل بعد الرجل يدعو إلى ما أدعو إليه.

وعن أبي جعفر الباقر عليهما‌السلام في هذه الآية قال : لا نالني شفاعة جدي إن لم تكن هذه الآية نزلت في علي خاصة.

أخرج الروايتين فرات الكوفي في تفسيره ١ / ٢٠٣٢٠١ برقم (٢٦٤) ، (٢٦٥) ، (٢٦٥) ، (٢٦٦) و (٢٦٧) و (٢٦٨) ، ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ، عند تفسير الآية ، ورواه المجلسي في بحار الأنوار ٣٦ / ٥٢.

(٢) لم أقف للآية على تخريج فيما لدي من مصادر.

(٣) وكذلك جعلناكم. عن جعفر بن محمد الصادق قال في الآية : نحن أمة الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجته في أرضه.

فبما (١) يكونون شهداء عليهم ، بما دعوا الأمة فخالفوهم وعصوهم؟! أو بما لم يدعوهم وجلسوا في بيوتهم؟! أفترى بما يشهدون عليهم يوم القيامة ، بكتمانهم الحق وجلوسهم في منازلهم ، وإظهارهم التقية ، أو في إظهارهم الحق ودعائهم إلى الله ، وبيان الحق؟ فأيهم أحق، وأولى أن يكون شاهدا في كل زمان ، من أظهر وبيّن ودعا ، أو من كتم؟! وأوفى شواهدنا في كتاب الله من دلائل الإمام ، قال الله تبارك وتعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠] فهل شك أحد من خلق الله في زيد بن علي؟ ومن قام مقامه من أهل بيت نبيئه ، ومن مضى من أهل بيته من الأئمة ، أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، علانية غير سر ، فيا ويحكم أليس هذه دلائل من كتاب الله؟! ينبغي للعاقل أن يكتفي بها إن شاء الله.

تم الرد على الروافض ، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد النبي وآله وسلم.

* * *

__________________

وروى الحسكاني في شواهد التنزيل عند تفسير الآية نحوه ١ / ٩٣ ٩٥ (١٣٠) و (١١٣١) و (١٣٢).

عن أبي جعفر الباقر عليهما‌السلام قال في الآية : منا شهيد على كل زمان : علي بن أبي طالب في زمان ، والحسن في زمان ، والحسين في زمان ، وكل من يدعو منا إلى أمر الله تعالى.

أخرج الروايتين فرات الكوفي في تفسيره ١ / ٦٢ رقم (٢٦) و (٢٧).

(١) في المخطوطات : فيما. والصواب ما أثبت.

العدل والتوحيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على ما أسبغ علينا من نعمه ، ومنّ علينا من إحسانه وكرمه ، وبيّن لنا من الهدى ، وأنقذنا من الضلالة والردى ، بإقامة حججه ، وتواتر رسله ، صلوات الله عليهم ، ومحكم آياته ، وتفصيل بيناته ، رحمة لعباده ، ودعاء لهم إلى ثوابه ، وإخراجا لهم من عقابه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) [النساء : ١٦٥]. و (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤١].

[عقائد يجب الإيمان بها]

أما بعد : فإن الذي يجب على العبد أن يكون عاملا بطاعة الله ، التي لا يقبل الله عزوجل غيرها من طاعته إلا بأدائها ، ولا يكون مؤمنا حتى يفعلها.

أن يؤمن بالله وحده لا شريك له ، ولا يتخذ معه إلها ، ولا من دونه ربا ولا وليا ، وأن يؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، وبالحساب والجنة والنار ، وبالجزاء بالأعمال ، وأن الآخرة هي دار القرار ، لا ينقطع ثوابها ، ولا يبيد عقابها ، ولا يموت فيها أهلها ، وهم في جزائهم خالدون. ويؤمن بوعد الله جل ثناؤه ووعيده ، وأخباره ، وكل ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما أمر به ونهى عنه صلوات الله عليه من العمل بالمفروض بطاعة الله ، والاجتناب لمعاصي الله ، والولاية لأوليائه ، والمعاداة لأعدائه ، والرضى بقضاء الله ، والتسليم لأمر الله. فإذا فعل ذلك كان مؤمنا ، مسلما محسنا ، من المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

[التوحيد]

ولا يكون العبد مؤمنا حتى يعلم أنه مخلوق مرزوق ، وأنه ذليل مقهور ، وأن له خالقا قديما ، عزيزا حكيما ، ليس كمثله شيء في وجه من الوجوه ، ولا معنى من المعاني ، وأن ما سواه من الأشياء كلها من عرشه ، وملائكته ، ورسله ، وسماواته ، وأرضه ،

وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ، مما أخرجه الله جل ثناؤه ، من تمكين العباد وأفعالهم ، لم يجعل لأحد عليه قدرة ولا استطاعة ، ولا عند أحد منهم معرفة في شيء من بدوّ ذلك وإنشائه ، ومن أعمل منهم فكره ليبلغ معرفة شيء من ذلك بقي حسيرا ، منقطعا مبهورا ، ولا جعل إلى أحد في شيء منه سبيلا ، ولا جعل لأحد فيه محمدة ولا ذما ، لأنه جل ثناؤه لم يستعن على إنشاء ما أنشأ بأحد ، ولم يشاركه في ملكه أحد ، ولم يؤامر في تدبيره أحدا ، فهو الواحد الأحد ، الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان.

فهو الدائم بلا أمد ، الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)) [الحديد : ٣].

وجميع ما أدركته ببصرك ووهمك ، ووقع عليه شيء من حواسك ، أو كيّفته بتقديرك ، أو حددته بتمثيلك ، أو شبهته بتشبيهك ، أو وقّت له وقتا ، أو حدّدت له حدا ، أو عرفت له أولا ، أو وصفت له آخرا ، فهو محدث مخلوق ، والله تبارك وتعالى خالق الأشياء ، لا من شيء خلقها ، ولا على مثال صوّرها ، بل أنشأها وابتدأها ، فدبرها بأحكم تدبير ، وقدرها بأحسن تقدير.

فهو جل ثناؤه ، لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق ، لأنه الخلاق الذي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. لم يخص بذلك شيئا دون شيء ، بل عم الأشياء كلها ، ما كان منها وما يكون ، فلا شبيه له ولا عديل ، لا الضياء ولا الأنوار ، ولا الظلمات ولا النار. وذلك أن النور والظلمة مخلوقان محدثان ، يوجدان ويعدمان ، ويقبلان ويدبران ، ويذهبان ويجيئان ، ويوصفان ويحدان. والخالق جل ثناؤه ليس كذلك ، لأن الخالق جل وعز قديم لم يزل ، والمخلوق لم يكن ، فآثار الصنعة في المخلوق بينة ، وأعلام التدبير قائمة ، والعجز فيه ظاهر ، والحاجة له لازمة ، والآفات به نازلة ، فأنت تراه مرة ماثلا ، ومرة آفلا زائلا.

فلما كانت هذه صفة كل مخلوق ، ولم يجز أن تضاف صفة المخلوق إلى الخالق عز وجهه ، لأن الخالق لا يكون في صفة المخلوق ، تبارك وتعالى الخالق أن يكون له شبه البشر ، هو الحامد نفسه قبل أن يحمده أحد من خلقه. فقال تبارك وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)) [الأنعام : ١]. يقول جل ثناؤه إن الكفار عبدوا إلها غير الله ، فقالوا هو ضياء ونور ، ومن جنسه النار والنور ، وجعلوا معه إلها آخر ، فقالوا : هو ظلمة ومن جنسه كل ظلمة. فعدلوا بالله جل ثناؤه حين شبهوه بالأنوار ، وجعلوا معه آلهة من الظلمات ، فأكذبهم الله جل ثناؤه إذ قال : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ). تكذيبا لهم إذ شبهوه وعدلوا به ، وأكذب جل ثناؤه الذين شبهوه بالإنس من اليهود وغيرهم من المشركين ، جهلا به وجرأة عليه ، فقال جل ثناؤه مع ما بيّن لهم في عقولهم من وحدانيته ، ونفى شبه الخلق عند ما يرون من أدلته وأعلامه ، التي تدعوهم إلى معرفته وتوحيده ، من خلق السماوات والأرض ، وما فيهما وما بينهما ، ومن أنفسهم لو أحسنوا النظر ، وأعملوا في ذلك الفكر ، فقال جل ثناؤه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ١ ـ ٤]. وقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧].

كذلك الله عزوجل شاهد كل نجوى ، عالم السر وأخفى ، قريب لا بمجاورة ، بعيد لا بمفارقة ، شاهد كل غائب ، آخذ بناصية كل دابة ، وعليه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ، أقرب إلينا من حبل الوريد ، وخائل بيننا وبين قلوبنا (١) لا بتحديد ، وهو مع قربه منا مدبر السماوات العلى ، وشاهد الأرضين السفلى ، وعليم بما فيهن وما بينهن وما تحت الثرى ، وهو على العرش استوى ، وهو مع كل نجوى ، وهو في ذلك لا كشيء من الأشياء.

[أسباب وعلل التشبيه]

ولقد ضل قوم ممن ينتحل الإسلام من المشبهة الملحدين ، الذين شبهوا الله عز ذكره بخلقه ، وزعموا أنه على صورة الإنسان ، (٢) وأنه جسم محدود ، وشبح مشهود ،

__________________

(١) في (أ) و (ج) : قولنا.

(٢) إشارة إلى ما رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا تقبح الوجه فإن آدم خلق على ـ

واعتلّوا بآيات من الكتاب متشابهات ، حرفوها بالتأويل ، ونقضوا بها التنزيل ، كما حرّف من كان قبلهم من اليهود والنصارى كلام الله عن مواضعه ، وبأحاديث افتعلها الضلال ، من بغاة الإسلام ، فحملها عنهم الجهال. فيها الإلحاد والكفر بالله ، وأحاديث لم يعرفوا حسن تأويلها ، (١) ولم يعنوا بتصحيحها ، (٢) فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

[الرؤية]

فكأنما تأولوا قول الله عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣]. فقالوا إن الله عزوجل يرى بالأبصار في الآخرة ، وينظر إليه جهرة ، خلافا لقول الله جل ثناؤه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣]. (٣) جهلا بمعاني الآية وتأويلها.

__________________

ـ صورة الرحمن.

أخرجه الطبراني في الكبير ١٢ / ٣٤٠ (٠١٣٥٨) ، وابن أبي عاصم في السنة / ٢٢٩. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. سبحان رب العزة عما يصفون.

(١) للاطلاع على تلك الأحاديث يمكن الرجوع إلى البحث الذي وضعته في ذلك بعنوان : الصلة بين عقائد الوهابية والتوراة اليهودية.

(٢) لما لم يعرضوها على القرآن.

(٣) عن أنس رضي الله عنه :

«أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول :

«يا من لا تراه العيون ، ولا تخالطه الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيّره الحوادث ولا يخشى الدوائر ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الأشجار ، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار ، وما تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا ، ولا بحر ما في قعره ، ولا جبل ما في وعره ، اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتيمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه.

فوكّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأعرابي رجلا ، فقال : إذا صلى فائتني به ، فلمّا صلّى أتاه ، وقد كان أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب من بعض المعادن ، فلمّا أتاه الأعرابي وهب له الذهب ، وقال : ممّن أنت يا أعرابي؟ قال : من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله ، قال : هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال : للرحم بيننا وبينك يا رسول الله ، قال : إن للرحم حقا ، ولكن ـ

فأما أهل العلم والإيمان ، ففسروها على غير ما قال أهل التشبيه المنافقون ، فقالوا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) يقول : مشرقة حسنة ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) يقول : منتظرة ثوابه وكرامته ورحمته ، (١) وما يأتيهم من خيره وفوائده. وهكذا ذلك في لغات العرب. وبلغاتها ولسانها نزل القرآن ، يقولون : إذا جاء الخصب بعد الجدب : قد نظر الله جل ثناؤه إلى خلقه ، ونظر لعباده. يريدون أنه أتاهم بالفرج والرخاء. ليس يعنون أنه كان لا يراهم ثم صار يراهم.

وقال الله جل ذكره وهو يذكر أهل النار : (لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٧٧]. تأويل ذلك : أنهم لا

__________________

ـ وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله عزوجل».

قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ١٥٨) : رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة.

وأخرج ابن أبي حاتم ، والعقيلي ، وابن عدي ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ). قال : لو أن الإنس والجن والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفّوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال : لا يحيط بها أحد بالله.

وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال : هو أجلّ من ذلك وأعظم أن تدركه الأبصار.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) يقول : لا يراه شيء وهو يرى الخلائق. الدر المنثور ٣ / ٣٣٥.

(١) قال بعضهم إن (إلى) اسم وليست حرف جرّ ، وهي مفرد آلا وهي النعم ، قال الله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). فعلى هذا يكون معنى الآية : نعمة ربها منتظرة.

أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنتظر الثواب من ربها. وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنتظر منه الثواب. الدر المنثور ٨ / ٣٦٠.

وهو المروي عن علي والحسن وسعيد بن جبير والضحاك. رواه الطوسي في مجمع البيان ٦ / ١٢٨.

يرجون من الله جل ثناؤه ثوابا ، ولا يفعل بهم (١) خيرا ، وأهل الجنة ينظر الله إليهم وينظرون إلى الله جل ثناؤه ، ومعنى ذلك أنهم يرجون من الله خيرا ، ويأتيهم منه خير ويفعله بهم ، وليس معنى ذلك أنهم ينظرون إليه جهرة بالأبصار ، عز ذو الجلال والإكرام ، وكيف يرونه بالأبصار ، وهو لا محدود ولا ذو أقطار ، كذلك جل ثناؤه لا تدركه الأبصار ، ومن أدركته الأبصار فقد أحاطت به الأقطار ، ومن أحاطت به الأقطار ، كان محتاجا إلى الأماكن ، وكانت محيطة به ، والمحيط أكبر من المحاط به وأقهر بالإحاطة ، فكل من قال إنه ينظر إليه جل ثناؤه على غير ما وصفنا من انتظار ثوابه وكرامته ، فقد زعم أنه يدرك الخالق ، ومحال أن يدرك المخلوق الخالق جل ثناؤه بشيء من الحواس ، لأنه خارج من معنى كل محسوس وحاس ، فكذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه درك الأبصار ، وإحاطة الأقطار ، وحجب الأستار ، فتعالى الله عن صفة المخلوقين ، علوا كبيرا لا إله إلا هو رب العالمين.

[شبه المشبهة]

وتأولت أيضا المشبهة قول الله تبارك وتعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٦٢]. وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧]. وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)) [الفجر : ٢٢]. وقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤]. وقوله : (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج / ٦١ ، لقمان / ٢٨ ، المجادلة / ١]. وقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨ ، ٣٠]. وقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. ففسروا ذلك على ما توهموا من أنفسهم ، وبأنه عزوجل عندهم في ذلك كله على معنى المخلوقين ، وصفاتهم في هيئاتهم وأفعالهم ، فكفروا بالله العظيم ، وعبدوا غير الله الكريم.

وتأويل ذلك كله عند أهل الإيمان والتوحيد : أن الله عزوجل ليس كمثله شيء ،

__________________

(١) في (ب) : لهم.

فأما قوله تبارك وتعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٦٢]. يعني : بقدرتي وعلمي. يريد أني على ذلك قادر وبه عالم ، توليت ذلك بنفسي لا شريك لي في تدبيري وصنعي ، لا أن قدرتي وعلمي ونفسي غيري ، بل أنا الواحد الذي لا شيء مثلي. وقد بيّن معنى هذه الآية في آية أخرى ، فقال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)) [آل عمران : ٥٩]. وقال جل ذكره : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النحل : ٤٠] يريد إذا كونا شيئا كان. وقال تبارك وتعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١)) [يس : ٧١]. يقول : مما عملت أنا بنفسي.

وقال جل ثناؤه : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة : ٥٨] ، وتأويل ذلك عند أهل العلم : بل نعمتاه مبسوطتان على خلقه ، نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

وقيل في تأويله : بل رزقاه (١) مبسوطان على خلقه ، رزق موسع ، ورزق مضيق ، (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ). أي : يفعل من (٢) ذلك ما هو أصلح لعباده. كذلك قال جل ثناؤه : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١]. يعني : له الملك. وكذلك تقول العرب : الملك بيد فلان. وقد قبض فلان الملك والأرض. وذلك في قبضته وبيمينه. يعنون : في قدرته وملكه. كذلك السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما في قبضة الله وبيمينه. يعني : في قدرته وملكوته وسلطانه ، اليوم ويوم القيامة وفي كل وقت. كما قال جل ثناؤه : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١]. فالأمر يومئذ واليوم بيده. وقال تبارك وتعالى لمن عصاه وهو يساق إلى النار : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠]. و «بما كسبت يداك» (٣). يريد : بما كسبت أنت بقولك وفعلك ، ليس يعني : يده دون بدنه وجوارحه.

وقال جل ثناؤه لنبيه ، صلوات الله عليه وعلى أهله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٤]. يعني : ما ملكتم أنتم ، وتقول العرب : أسلم فلان على يدي فلان. يريدون :

__________________

(١) في (أ) و (ج) : نعمتاه مبسوطتان.

(٢) في (أ) و (ج) : يفعل لذلك.

(٣) لا يوجد آية كما ذكر الإمام فلعله اشتبهت عليه بقوله (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٢٣٠].

بقوله وأمره. ويقولون :

 ...............................

بيد الله أمرنا والفناء (١)

يريدون : بالله عمرنا والفناء. ويقولون : نواصينا بيد الله ، ونحن في قبضة الله. يريدون في هذا كله : أنّا في قدرته وملكه ، ليس يذهبون إلى يد كيد الإنسان أو غيره من الخلق.

ومعنى قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)) [الفجر : ٢٢]. يقولون : جاء الله جل ثناؤه بآياته العظام في مشاهد القيامة ، وجاء بتلك الزلازل والأهوال ، وجاء بالملائكة الكرام ، فتجلت الظّلم ، وانكشفت عن المرتابين البهم ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وليس قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ). أنه جاء من مكان ، ولا أنه زائل ولا حائل ، (٢) أو منتقل من مكان إلى مكان ، أو جاء من مكان إلى مكان ، تبارك الله وتعالى عن ذلك. بل هو شاهد كل مكان ، ولا يحويه مكان ، وهو عالم كل نجوى ، وحاضر كل ملأ.

كذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠]. كما قال جل ثناؤه : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)) [يس : ٤٩]. وكذلك قال جل ثناؤه : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦]. وقال : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢]. يعني بذلك كله : أنه أتاهم بعذابه وأمره. ليس أنه أتاهم بنفسه زائلا ، وكان في مكان فكان عنه منتقلا. وكذلك يقول القائل للرجل إذا جاء بأمر عجيب : لقد أتى فلان أمرا عجيبا. يريدون : أنه فعل شيئا أعجبه. فذلك تأويل المجيء من الله جل ثناؤه. لا هو بالانتقال ولا بالزوال ، لأن الزائل مدبّر محتاج ، لو لا حاجته إلى الزوال لم يزل. فلذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه الزوال والانتقال.

__________________

(١) لم أقف على هذا البيت.

(٢) في (ب) و (د) : أو حائل.

[القرآن كلام الله مخلوق]

وقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤]. فذهبت المشبهة إلى أن الله تعالى عما قالوا علوا كبيرا : تكلم بلسان وشفتين ، وخرج الكلام منه كما خرج الكلام من المخلوقين ، فكفروا بالله العظيم حين ذهبوا إلى هذه الصفة.

ومعنى كلامه جل ثناؤه لموسى صلوات الله عليه عند أهل الإيمان والعلم : أنه أنشأ كلاما خلقه كما شاء ، فسمعه موسى صلى الله عليه وفهمه ، وكل مسموع من الله جل ثناؤه فهو مخلوق. لأنه غير الخالق له وإنما ناداه الله جل ثناؤه ، فقال : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [القصص : ٣٠]. والنداء غير المنادي ، والمنادي بذلك هو الله جل ثناؤه ، والنداء غير الله ، وما كان غير الله مما يعجز عنه الخلائق فمخلوق ، لأنه لم يكن ثم كان بالله وحده لا شريك له.

وكذلك عيسى صلوات الله عليه كلمة الله وروحه ، وهو مخلوق كما قال الله في قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)) [آل عمران : ٥٩]. وكذلك قرآن الله وكتب الله كلها ، قال الله جل ثناؤه : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣]. يريد : خلقناه. كما قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦]. يقول : خلق منها زوجها. وقال جل ثناؤه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) [الأنبياء : ٢]. وقال تبارك وتعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) [القلم : ٤٤]. وقال سبحانه : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) [طه : ٩٩]. فكل محدث من الله جل ثناؤه فمخلوق ، لأنه لم يكن فكان بالله وحده لا شريك له ، فالله أول لم يزل ولا يزول.

وأما قوله : (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١). فمعنى ذلك : أنه لا تخفى عليه الأصوات ولا اللهوات ، ولا غيرها من الأعيان ، أين ما كانت وحيث كانت ، في ظلمات الأرض

__________________

(١) وهما في حق الله بمعنى عالم. والدليل على ذلك قوله سبحانه : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [التوبة / ٧٨] ، والسر : ما انطوت عليه الضمائر قال تعالى : «فأسر يوسف في نفسه» والضمير لا يسمع بل يعلم ، وقوله (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أي : علمت.

والبر والبحر. ليس يعني : أنه سميع بصير بجوارح أو بشيء سواه ، فيكون محدودا ، أو يكون معه غيره موجودا ، تعالى الله عن ذلك.

وأما قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧]. فإنما يعني : إياه لا غيره. يقول : كل شيء هالك إلا هو. وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ليس يعني بذلك : وجها في جسد ، ولا جسدا إذا وجه ، تعالى الله عن هذه الصفات ، التي هي في المخلوقين موجودات.

وأما قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٣٠ ، ٢٨]. يريد : يحذركم الله إياه لا غيره. وقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]. يريد : تعلم أنت ما أعلم ولا أعلم أنا ما تعلم إلا ما علمتني. ليس يعني : أن له نفسا غيره بها يقوم. تعالى عن ذلك. وقد يقول القائل : هذا نفس الحق ، ونفس الطريق ، وكذلك : هذا وجه الكلام ، ووجه الحق ، يريدون بذلك كله : هو الحق ، وهذا هو الكلام ، وهذا هو الطريق. ليس يذهبون إلى شيء غير ذلك. فتعالى الله عن صفات المخلوقين علوا كبيرا ، هو الذي لا كفؤ له ولا نظير له ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١].

فكل من وصف الله جل ثناؤه بهيئات خلقه ، أو شبهه بشيء من صنعه ، أو توهمه صورة أو جسما ، أو شبحا ، (١) أو أنه في مكان دون مكان ، أو أن الأقطار تحويه ، أو أن الحجب تستره ، أو أن الأبصار تدركه ، أو (٢) أنه لم يخلق كلامه وكتبه ، والقرآن وغيره من كلامه وأحكامه ، أو أنه كشيء مما خلق ، أو أن شيئا من خلقه يدركه ، مما كان أو يكون ، بجارحة أو حاسة ، فقد نفاه وكفر به وأشرك به. فافهموا ذلك ، وفقنا الله وإياكم لإصابة الحق ، وبلوغ الصدق.

__________________

(١) الشبح : الشخص.

(٢) في (أ) و (ج) : وأنه.

[العدل]

وعلى العبد : إذا وحّد الله جل ثناؤه ، وعرف أنه ليس كمثله شيء ، أن يتّقيه في سره وعلانيته ، ويرجوه ويخافه ، ويعلم أنه عدل كريم ، رحيم حكيم ، لا يكلف عباده إلا ما يطيقون ، ولا يسألهم إلا ما يجدون ، ولا يجازيهم إلا بما يكسبون ويعملون. وهكذا جل ثناؤه قال ، يدل بذلك على رحمته لنا : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، و (... إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧]. وقال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧]. فلم يكلف الرحيم الكريم أحدا من عباده ما لا يستطيع ، بل كلفهم دون ما يطيقون ، ولم يكلفهم كل ما يطيقون. وعذرهم عند ما فعل بهم من الآفات التي أصابهم بها ، ووضع عنهم الفرض فيها ، فقال لا شريك له : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور : ، الفتح : ١٧٦١]. لأنهم لا يقدرون أن يؤدوا ما فرض الله عليهم ، ولم يقل جل ثناؤه : ليس على الكافر حرج ، ولا على الزاني حرج ، ولا على السارق حرج. وذلك أنه لم يفعل ذلك بهم ، ولم يدخلهم فيه ، ولم يقض ذلك ولم يقدره ، لأنه جور وباطل ، والله جل ثناؤه لا يقضي جورا ولا باطلا ولا فجورا ، لأن المعاصي كلها باطل وفجور ، والله تعالى أن يكون لها قاضيا ومقدرا ، بل هو كما وصف نفسه ، جل ثناؤه إذ يقول : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) [الأنعام : ٥٧]. بل قضاؤه فيها كلها النهي عنها ، والحكم على أهلها بالعقوبة والنكال في الدنيا والآخرة ، إلا أن يتوبوا فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات.

أليس قال جل ثناؤه في الصيام : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥]. (١) فوضع عن المرضى الصيام ، لأنهم لا يقدرون عليه ، ووضعه عن المسافر وإن كان يقدر عليه ، يخبرهم أنه إنما يفعل ذلك لأنه يريد بهم اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، ووضع عنه الصلاة قائما إذا لم يقدر على القيام ، وأباح له أن يصلي جالسا ، وإن لم يقدر على الصلاة

__________________

(١) في المخطوطات : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ ....) والآية كما أثبت.

جالسا ، صلى مضطجعا أو مستقبلا ، فإن لم يقدر على ذلك بشيء من جوارحه فلا شيء عليه. فعل ذلك رحمة ونعمة ونظرا لعباده.

ومن لم يكن له مال فلا زكاة عليه ، وإن كان ذا مال ـ فحال (١) عليه الحول ـ وهو مائتا درهم فعليه خمسة دراهم ، فإن نقص من مائتي درهم شيء ، (٢) قلّ أو كثر فلا شيء عليه فيها ، وكل أمر لا يستطيقه العبد فهو عنه موضوع ، وكلّف مما يستطيع اليسير. يريد لله جل ثناؤه بذلك التخفيف عن (٣) عباده تصديقا لقوله : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)) [النساء : ٢٨]. وقال جل ثناؤه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨]. يقول : من ضيق.

وقال تبارك وتعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤]. فلم يؤت أحد من قبل الله تبارك وتعالى في دينه ، وإنما يؤتى العبد من نفسه بسوء نظره ، وإيثار هواه وشهوته ، ومن قبل الشيطان عدوه ، يوسوس في صدره ويزين له سوء عمله ، ويتبعه فيضله ويرديه ، ويهديه إلى عذاب السعير.

وقال الله جل ثناؤه يحذر عباده الشيطان : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٣]. وقال تبارك وتعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة : ٢٦٥]. وقال سبحانه : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)) [فاطر : ٦]. أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

وعلى العبد أن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الكريم الحليم ، وأن الله جل ثناؤه عالم ما العباد عاملون ، وإلى ما هم صائرون ، وأنه أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، وأنه لم يجبر أحدا على معصية ، ولم يحل بين أحد وبين الطاعة ، فالعباد العاملون والله جل ثناؤه العالم بأعمالهم ، والحافظ لأفعالهم ، والمحصي لأسرارهم وآثارهم ، وهو بما يعملون خبير.

__________________

(١) في (ب) و (د) : وحال.

(٢) في المخطوطات : شيئا. لعلها مصحفة.

(٣) في المخطوطات : من. ولعلها كما أثبت.

[الهدى والضلال]

وعلى العبد أن يعلم أن الله جل ثناؤه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وأنه لا يضل أحدا حتى يبين لهم ما يتقون ، فإذا بيّن لهم ما يتقون ، وما يأتون وما يذرون ، فأعرضوا عن الهدى ، وصاروا إلى الضلالة والردى ، أضلهم بأعمالهم الخبيثة حتى ضلوا ، كذلك قال جل ثناؤه : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧]. وقال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) [البقرة : ٢٦ ـ ٢٧]. وقال تبارك وتعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥]. وقال جل ثناؤه : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥].

وقد يجوز أيضا أن يكون معنى يضل : أن سمّاهم ضلّالا ، وشهد عليهم بالضلال ووصفهم به ، من غير أن يدخلهم في الضلالة ويقسرهم عليها ، فإن رجعوا عن الضلالة وتابوا ، وصاروا إلى الهدى ، سمّاهم مهتدين ، وأزال عنهم اسم الضلال والفسق. ولم يبتدئ ربنا جل ثناؤه أحدا بالضلالة من عباده ، ولا وصف بها أحدا من قبل أن يستحقها ، وكيف يبتدئ أحدا من عباده بالضلالة؟! كما قال القدريون الكافرون الكاذبون على الله. والله جل ثناؤه ينهى عباده عنها ، ويحذرهم إياها. ويقول : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء: ١٧٦]. يعني لئلا تضلوا. وقال جل ثناؤه : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)) [إبراهيم : ١]. وقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١]. ولو ابتدأهم بالضلالة كان قد غيّر ما بهم من النعمة قبل أن يغيروا ، سبحانه هو (١) أرحم الراحمين ، وخير الناصرين. يريد بذلك وصف نفسه.

وأمّن (٢) الخلق أن يكون لهم ظالما ، أو بغير ما عملوا مجازيا ، فقال جل ثناؤه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣].

__________________

(١) في (ب) و (د) : سبحانه وهو.

(٢) في (أ) و (ج) : وأمر مصحفة.

وقال سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وقال تبارك وتعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٧ ـ ٨]. وقال عز ذكره : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦]. فللعبادة خلقهم ، وبطاعته أمرهم ، ومن ظلمه أمّنهم ، وبنعمته ابتدأهم ، بما جعل لهم من العقول والأسماع والأبصار ، وسائر الجوارح والقوى ، التي بها يصلون إلى أخذ ما أمرهم به ، وترك ما نهاهم عنه ، ثم ابتدأهم جل ثناؤه بالنعمة في دينهم ، بأن بيّن لهم ما يأتون وما يذرون ، ثم أمرهم بما يطيقون. أراد بذلك إكرامهم ، ومن المهالك إخراجهم ، بيّن ذلك بقوله في الإنسان : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)) [البلد : ٨ ـ ١٠]. هما : الطريقان ، الخير والشر فيما سمعنا. يقول الله سبحانه : بيّنا له الطريقين ، ليسلك طريق الخير ويجتنب طريق الشر. وقال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) [النجم : ٢٣]. وقال عزوجل : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢)) [الليل : ١٢]. وقال جل ثناؤه : (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى : ٣]. وقال تبارك وتعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) [النحل : ٩] (١). وقال سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧]. وقال لنبيه صلوات الله عليه وعلى آله : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)) [سبأ : ٥٠]. فأمر نبيه صلى الله عليه أن ينسب ضلاله (٢) إن كان منه إلى نفسه ، والهدى إلى ربه تبارك وتعالى ، وقد علم الله جل ثناؤه أن لا يكون من نبيه ضلالة أبدا ، وأن لا يكون منه إلا الهدى ، وإنما أمر بذلك تأديبا لخلقه ، وأن ينسبوا ضلالتهم إلى أنفسهم ، وينزهوا منها ربهم ، وأن

__________________

(١) أي : وعلى الله بيان الطريق المستقيم ، كقوله (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) ومن السبيل طريق جائر أي : عادل عن الحق ، فعلى الله بيان الطريقين وآخر الآية (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يعني : لو شاء مشيئة جبر وقسر وإلجاء لهداكم الطريق المستقيم. ولكنه أمر تخييرا ونهى تحذيرا ليتم التكليف. وعلى الناس الاختيار فمن عمل صلاحا فلنفسه ومن أساء فعليها.

(٢) في (ب) و (د) : ضلالة إن كانت.

ينسبوا هداهم إلى ربهم الذي به اهتدوا ، وبعونه وتوفيقه رشدوا.

[القدرة قبل الفعل]

والقدريون المفترون يكرهون أن ينسبوا الضلالة إلى أنفسهم والفواحش ، ولا يقرون أن الله جل ثناؤه ابتدأ عباده بالهدى ولا بالتقوى ، قبل أن يصيروا إلى هدى أو تقوى ، خلافا لقوله ، وردا لتنزيله ، وإبطالا لنعمه ، وهو يقول جل ثناؤه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٠]. يأمرهم بالتقوى إذ (١) كانوا لها مستطيعين ، فلو لم يكن لهم عليها استطاعة لما أمرهم بها ، ولو كانت استطاعة لغيرها لم يجز أن يقول : «اتّقوا ما الله استطعتم» ، إذ كانت الاستطاعة لغير التقوى. وقال جل ثناؤه : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [الأعراف : ١٧١]. (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢]. فقد أمرهم أن يأخذوا لأن الأخذ فعلهم ، والأمر والقوة فعل ربهم ، فلم يأمرهم جل ثناؤه أن يأخذوا ، حتى قوّاهم على ذلك قبل أن يأخذوا.

وكذلك قال في الصيام : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة : ١٨٤]. يعني : على الذين يطيقون الصيام ولا يصومون فدية ، ونحو ذلك مما في القرآن. وذلك كله دليل على أن القوة قبل الفعل ، إذ كان الفعل لا يكون إلا بالقوة ، وكلما كان بشيء يكون ، أو به يقوم ، فالذي يكون الشيء أو يقوم به فهو قبله ، كذلك الأشياء كلها بالله جل ثناؤه كانت وبه قامت ، وهو قبلها. فكذلك القوة فينا قبل فعلنا ، إذ كان فعلنا لا يكون ولا يقوم ولا يتم إلا بها ، وكذلك يقول الناس : بقوة الله فعلنا. لا كما تقول القدرية المشبهون : إن الله جل ثناؤه لم يبتدئ العباد بالقوة! فأنعم عليهم بها قبل فعلهم! ولكنها كانت منه مع فعلهم.

ففيما وضعناه دليل وبرهان ، أن القوة من الله جل ثناؤه في عباده قبل فعالهم ، إذ كان بطاعته لهم آمرا ، وعن معصيته لهم ناهيا ، نعمة أنعم بها الله عليهم ، وأحسن بها

__________________

(١) في (ب) و (د) : إذا.

إليهم. والقوة عندنا على الأعمال هي الصحة والسلامة من الآفات في النفس والجوارح ، وكل ما يوصل (١) به إلى الأفاعيل ، إذ كانت الصحة والسلامة تثبت الفرض ، وإذا زالت زال الفرض ، ذلك موجود في العقول ، وفي أحكام الله جل ثناؤه ، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي إجماع الأمة. لا يعرفون غير ذلك ، ولا يدينون إلا بذلك.

فليتق الله عبده ، وليعلم أن الله جل ذكره يبتدئ العباد بالنعم والبيان ، ولا يبتدئهم بالضلال والطغيان ، صدّق ذلك قوله لا شريك له : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ٨]. وقال جل ثناؤه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [التوبة : ١١٢].

__________________

(١) في (أ) و (ج) : يوصف. تصحيف.

[المعاصي فعل الإنسان وتزيين الشيطان]

فمن أحسن فليحمد الله جل ثناؤه ، إذ أمره بالخير وأعانه عليه ، ومن أساء فليذم نفسه فهي أولى بالذم ، (١) وليضف المعصية (٢) إذ كانت منه إلى نفسه الأمارة بالسوء ، وإلى الشيطان إذ كان بها آمرا ولها مزيّنا ، كما أضافها الله جل ثناؤه إليه ، (٣) وأضافها الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون حين عصوا الله إلى أنفسهم ، قال آدم وحواء صلوات الله عليهما حين عصيا في أكل الشجرة : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [الأعراف : ٢٣]. فأخبر سبحانه أن الشيطان دلّاهما بغرور ، ثم حذّر أولادهما من بعدهما إعذارا إليهم ، وتفضلا عليهم ، فقال : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧].

وقال موسى صلوات الله عليه حين قتل النفس : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) [القصص : ١٥]. وقال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي

__________________

(١) روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى أربعة من العلماء وهم : الحسن بن أبي الحسن البصري ، وواصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وعامر الشعبي رحمهم‌الله يسألهم عن القضاء والقدر يعني بمعنى الخلق لأفعال العباد؟

فأجابه أحدهم : لا أعرف فيه إلا ما قاله أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وهو قوله عليه‌السلام : (أتظن أن الذي نهاك دهاك ، إنما دهاك أسفلك وأعلاك ، وربك بري من ذاك).

وأجابه الثاني فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قولهعليه‌السلام : (أتظن أن الذي فسح لك الطريق ، لزم عليك المضيق).

وأجابه الثالث فقال : لا أعرف إلا ما قاله علي عليه‌السلام وهو قوله كرم الله وجهه : (إذا كانت المعصية حتما ، كانت العقوبة ظلما).

وأجابه الرابع فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله علي عليه‌السلام وهو قوله كرم الله وجهه : (ما حمدت الله عليه فهو منه ، وما استغفرت الله منه فهو منك). فلما بلغ ذلك الحجاج بن يوسف قال : قاتلهم الله لقد أخذوها من عين صافية. ينابيع النصيحة / ١٥٧ ١٥٨.

(٢) في (أ) و (ج) : إن. وفي (ب) : إذا. تصحيف.

(٣) أي إلى الشيطان.

فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)) [القصص : ١٦].

وقال يونس صلوات الله عليه وهو في بطن الحوت تائبا من ظلمه لنفسه ، ومقرا بذنبه: (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٢]. وقال غيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم نحو ذلك ، وقال الصالحون نحو ذلك عند زلتهم. فنقول كما قال أنبياؤه ورسله صلوات الله عليهم ، وكما قال الصالحون من عباده ، فنضيف المعاصي إلى أنفسنا ، وإلى الشيطان عدونا ، كما أمرنا ربنا ، ولا نقول كما قال القدريون المفترون : أن الله جل ثناؤه قدّر المعاصي على عباده ، ليعملوا بها وأدخلهم فيها ، وأرادها منهم وقلّبهم فيها كما تقلب الحجارة ، وشاءها لهم وقضاها عليهم حتما ، لا يقدرون على تركها. وأنه في قولهم يغضب مما قضى ، ويسخط مما أراد ، ويعيب ما قدّر ، ويعذب طفلا بجرم والده ، وأنه يحمد العباد ويذمهم بما لم يفعلوا ، ويجزيهم بما صنع بهم ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (١).

هذا مع زعمهم أن أفعال العباد كلها طاعتها ومعصيتها صنعه وخلقه ، هو تولى خلقها وإحداثها ، خلافا لقول الله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)) [الواقعة : ٢٤]. (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)) [الزخرف : ٦١]. وقوله لأهل المعاصي : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٢]. و (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة / ٩ ، المجادلة / ١٥ ، المنافقون / ٢]. و (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور / ١٦ ، التحريم / ٧]. فكفروا بالله كفرا لم يكفر به أحد من العالمين ، لعظيم فريتهم على ربهم جل ثناؤه ، ورميهم إياه بجميع جرمهم ، تعالى الله عن إفكهم علوا كبيرا! وتقدس وجل ثناؤه!! أليس في كتابه ، وفي حجة عقول خلقه ، عدله عليهم وإحسانه ، وبراءته من ظلمهم؟! إذ قال جل ثناؤه : (* إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)) [النحل : ٩٠].

فو الله لو لم ينزل على عباده إلا هذه الآية في عدله لكان فيها البيان والنور ، وهي

__________________

(١) سقط من (ب) : ويجزيهم بما صنع بهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا هذا.

آية محكمة مجملة (١) تأتي على جميع الأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية.

وفي أمر الله جل ثناؤه عباده بالطاعة ، دليل لمن كان له عقل أن الله جل ثناؤه أرادها وشاءها وأحبها ، إذ كان بها آمرا وعليها حامدا ، ولأهلها مواليا ، ولهم مثيبا. وفي نهيه عن المعصية دليل أنه لم يردها ولم يشأها ولم يحبها ، إذ كان عنها ناهيا ، وعليها ذاما ، ومن أهلها بريئا ، ولهم معاقبا.

فلا هو أرادها جل ثناؤه ، ولا هو عزوجل عصي مغلوبا ، ولكنه الحليم تأنى بخلقه وأمهلهم وحلم عنهم ، ولم يعجل عليهم بالانتقام منهم ، ليرجعوا فيتوبوا ، فاغتروا بحلمه عنهم ، حتى افتروا عليه ، فزعموا أنه أمر بما لا يريد ، ونهى عما يريد ، وأن رسله صلوات الله عليهم خالفوه فيما أراد ، (٢) وأن إبليس عليه غضب الله وافقه فيما أراد. وذلك أنهم زعموا أنه أراد الكفر من كثير من عباده ، وأرسل إليهم رسله يدعونهم إلى الإيمان وهو خلاف ما أراد من الكفر ، وأن إبليس دعاهم إلى الكفر وهو ما أراد منهم ، فكان إبليس في قولهم ـ لله جل ثناؤه فيما أراد ـ موافقا ، (٣) وكان رسول الله صلى

__________________

(١) أي : عامة.

(٢) في (ب) و (د) : أرادوا. والصحيح ما أثبت : وإنما تصحفت.

(٣) عن الحسن : إذا كان يوم القيامة دعي إبليس وقيل له : ما حملك أن لا تسجد لآدم!؟ فيقول : يا رب أنت حلت بيني وبين ذلك! فيقول : كذبت. فيقول : إن لي شهودا. فينادي أين القدرية؟ شهود إبليس ، وخصماء الرحمن ، فيقوم طوائف من هذه الأمة ، فيخرج من أفواههم دخان أسود ، فتطبق وجوههم ، فتسودّ لذلك ، وذلك قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ). رواه أبو طالب في شرح البالغ المدرك / ١٠٠ ، والأمير الحسين في ينابيع النصيحة / ١٦٣.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي أين خصماء الله؟ فيقومون مسوّدة وجوههم ، مزرقة عيونهم ، مائلا شفاههم ، يسيل لعابهم ، يقذرهم من رآهم ، فيقولون : والله يا ربنا ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا ابن عباس (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ). هم والله القدريون. ثلاث مرات. الدر المنثور ٧ / ٦٨٦.

وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين خصماء الله عزوجل؟ فتقوم القدرية. أخرجه أبو القاسم الجرجاني في تاريخه ١ / ٣٣٦ (٦١٨) ، والدارقطني في العلل ٢ / ٧٠ (١١٥) ، وابن الجوزي في ـ

الله عليه فيما أراد من ذلك مخالفا ، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) (١).

[الطاعة والمعصية فعل العبد]

والدليل على أن ما فعلوا من طاعة الله ومعصيته فعلهم ، وأن الله جل ثناؤه لم يخلق ذلك ، إقبال الله تبارك وتعالى عليهم بالموعظة ، والمدح والذم والمخاطبة ، والوعد والوعيد ، وهو قوله جل ثناؤه : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)) [الانشقاق : ٢٠]. وقوله : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء : ٣٩]. ولو كان هو الفاعل لأفعالهم الخالق لها ، لم يخاطبهم ولم يعظهم ، ولم يلمهم على ما كان منهم من تقصير ، ولم يمدحهم على ما كان منهم من جميل وحسن ، كما لم يخاطب المرضى فيقول : لم

__________________

ـ المتناهية ١ / ٢١٩ ، والجويني في جنة المرتاب ١ / ٤٢.

ولله در القائل :

المجبرون يجادلون بباطل

وخلاف ما يجدون في القرآن

كل مقالته الإله أظلني

وأراد ما قد كان عنه نهاني

أيقول ربك للخلائق أسلموا

جهدا ويجبرهم على العصيان

إن صح ذا فتعوذوا من ربكم

وذروا تعوذكم من الشيطان

ولمزيد من الاطلاع على العلاقة الوثيقة بين القدرية المجبرة وبين زعيمهم الشيطان الرجيم يرجع إلى كتاب رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس للحاكم الجسمي البيهقي وهو مطبوع متداول.

وأخرج السمان في أماليه عن الحسن : قدم رجل من فارس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : رأيتهم ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم!! فإذا قيل : لم تفعلون!؟ قالوا : قضاء الله وقدره.

فقال صلى الله على وآله وسلم : أما إنه سيكون قوم من أمتي يقولون مثل ذلك. ورواه الأمير الحسين في ينابيع النصيحة / ١٦٤ ، والزمخشري في الفائق.

ولقد أبطل مذهبهم الإمام الهادي حفيد الإمام القاسم عليهما‌السلام بكلمتين وذلك عند ما سأله النقوي : ما تقول يا سيدنا في المعاصي؟ فقال الإمام : ومن العاصي؟ فسكت فلامه أصحابه. فقال : ويحكم إن قلت : الله ، كفرت. وإن قلت : العبد ، تركت مذهبي. ثم تاب وتابع الإمام الهادي عليه‌السلام.

(١) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج) : سهوا.

مرضتم؟ ولم يخاطبهم على خلقهم فيقول : لم طلتم؟ ولم قصرتم؟ وكما لم يمدح ويحمد الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب في مجراهن ومسيرهن. وإنما لم يمدحهن ، ويحمدهن لأنه جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهن ، وهو مصرفهن ومجراهن وهو منشؤهن. وكان في ذلك دليل أنه لم يخاطب هؤلاء وخاطب الآخرين ، (١) فعلمنا أنه خاطب من يعقل ، ويفهم ويكسب ، وإنما خاطبهم إذ هم مخيرون ، وترك مخاطبة الآخرين إذ هم غير مخيرين ولا مختارين ، فهذه الحجة ، وهذا الدليل على فعله من فعل خلقه.

والدليل على أن المعاصي ليست بقضائه ولا بقدره ، ما أنزل في كتابه من ذكر قضائه بالحق ، وأمره بالعدل ، وتعبّده عباده بالرضى بقضائه وقدره ، وإجماع الأمة كلها على أن جميع المعاصي والفواحش جور وباطل وظلم ، وأن الله جل ثناؤه لم يقض الجور والباطل ، ولم يكن منه الظلم ، وأنهم مسلّمون لقضاء الله ، منقادون لأمر الله ، فإذا نزلت بهم الحوادث من الأسقام والموت والجدب والمصائب من الله جل ثناؤه ، قالوا هذا بقضاء الله ، رضينا وسلمنا ، ولا يسخطه منهم أحد ، ولا ينكره منكر ، وإن سخطه منهم ساخط ، كان عندهم من الكافرين ، وإذا ظهرت منهم الفواحش وانتهكت فيهم المحارم ، كانوا لها كارهين ، وعلى أهلها ساخطين ، ولهم معاقبين ، يتبرءون منهم ويلعنونهم ، ويذمونهم وأعمالهم. ففي ذلك دليل أن ذلك ليس فعله. وقضاء الله لا يكون جورا ولا فاحشا ، ولا قبيحا ولا باطلا ولا ظلما ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد وصفنا حجج الله في عدله ، وما بيّن من ذلك لخلقه.

[شبه القدرية]

فإن اعتلت القدرية السفهاء ببعض الآيات المتشابهات ، نحو قوله جل ثناؤه : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨]. وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧]. (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥]. ونحو ذلك من متشابه الآيات ، وتأولوها على غير تأويلها ، فإنّ كسر مقالتهم يسير ، والحجة عليهم

__________________

(١) يعني : الشمس والقمر ... إلخ.

بينة. وذلك أن الله عزوجل أخبر أن الشيطان وجنوده من الجن والإنس يضلون ، وإنما (١) إضلالهم للعبد إنما هو من طريق الصد عن الطاعة ، بالغرور والكذب والخداع والتزيين للقبيح الذي قبحه الله ، والتقبيح لما زيّن الله وحسّنه ، فذلك معنى إضلال الشيطان وأوليائه. والله جل ثناؤه يضل لا من طريق أولئك ، لأنه تعالى عن الكذب والصد ، وإنما معنى إضلاله جل ثناؤه للعباد الذين يضلون عن سبيله ، عند كثير من أهل العلم : التسمية لهم بالضلالة ، والشهادة عليهم بها. كما يقال : فلان كفّر فلانا ، وفلان عدّل فلانا ، وفلان جوّر فلانا. يريدون : أنه سماه بذلك ، لما هو عليه من ذلك ، فكذلك يقال أضلّ الله الفاسقين ، وطبع على قلوب الكافرين ، معنى ذلك عند كثير من أهل العلم : أنه شهد عليهم بسوء أعمالهم ، ونسبهم إلى أفعالهم ، مسميا لهم بذلك ، وحاكما عليهم به كذلك ، لما كان منهم ، فذلك تأويل الآيات المتشابهات في هذا المعنى ، عند من وصفنا من أهل العلم.

فعلى العبد أن يتقي الله ، وينظر لنفسه ، وأن لا يقبل ما تأولته القدرية المجبرة ، مما لا يجوز على الله جل ثناؤه في الثناء ، وأدنى ما عليه أن يحسن الظن بربه ، ويأمنه على نفسه ودمه ، ويعلم أنه أنظر له من جميع خلقه ، وليرجع إلى المحكمات من الآيات ، التي وصف الله جل ثناؤه فيها نفسه ـ جل وجهه ـ بالعدل والإحسان ، والرحمة بخلقه ، والغنى عنهم ، والأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية ، فيعمل بتلك الآيات ويكون عليها ، ويؤمن بالمتشابهات ، ولا يظن أنها وإن جهل تأويلها وحرّفت عن تفسيرها أنها تنقض المحكمات ، فإن كتاب الله (لا ينقض بعضه بعضا ، ولا يخالف بعضه بعضا ، وقد قال) (٢) الله عزوجل : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. فنفى أن يكون في كتابه اختلاف.

فليتق الله عبد ولينظر لنفسه ، وليحذر هذه الطائفة من القدرية والمجبرة ، فإنهم كفار بالله ، لا كفر أعظم من كفرهم ، لما وصفنا من فريتهم على الله جل ثناؤه ، في كتابنا هذا. لأنهم شهدوا لجميع الكفار أن الله أدخلهم في الكفر شاءوا أو أبوا ، فشهدوا

__________________

(١) في (ب) و (د) : فإنما.

(٢) سقط ما في القوسين من (أ) و (ج) : سهوا.

للفساق وجميع العصاة ، أنهم إنما أتوا في ذلك كله من ربهم ، ولذلك (١) (هم مجوس هذه الأمة) (٢).

[المرجئة]

وليحذر العبد أيضا هذه الطائفة من المرجئة فإن قولهم من شر قول وأخبثه ، وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صنفان من أمتي لعنوا على لسان سبعين نبيا القدرية والمرجئة ، قيل : من القدرية والمرجئة يا رسول الله؟ فقال : أما

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولذاك.

(٢) وأخرج بن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، من طريق عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، أنه قيل له : قد تكلّم في القدر ، فقال : أو فعلوها؟ وو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أولئك أشرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعي هاتين. الدر المنثور ٧ / ٦٨٣.

وأخرج ابن عساكر من طريق البختري بن عبيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : " قال رجل يا رسول الله : ما العاديات ضبحا؟ فأعرض عنه ثم رجع إليه من الغد فقال : ما الموريات قدحا؟ فأعرض عنه ، ثم رجع إليه الثالثة فقال : ما المغيرات صبحا؟ فرفع العمامة والقلنسوة عن رأسه بمخصرته فوجده مقرعا رأسه فقال : لو وجدتك حالقا رأسك لوضعت الذي فيه عيناك. ففزع الملأ من قوله ، فقالوا يا نبي الله ولم؟ قال : إنه سيكون أناس من أمتي يضربون القرآن بعضه ببعض ليبطلوه ، ويتبعون ما تشابه ويزعمون أن لهم في أمر ربهم سبيلا ، ولكل دين مجوس ، وهم مجوس أمتي وكلاب النار" فكأنه يقول : هم القدرية. الدر المنثور ٦ / ٦٠٤.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم. الحاكم في المستدرك ١ / ١٥٩ (٢٨٦) ، وأبو داود ٤ / ٢٢٢ (٤٦٩١) ، والبيهقي ١٠ / ٢٠٣ (٢٠٠٥٨) ، والطبراني في مسند الشاميين ١ / ٣٢٢ (٥٦٦) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٧ / ٥٢ (٢٩٦) ، وابن عدي في الضعفاء ٢ / ١٣٧ (٣٣٦) ، ٣ / ٢١١ (٧٠٩) ، وفي الكامل ٦ / ٣١٣ (١٧٩٩) ، والخطيب في تاريخه ١٤ / ١١٣ (٧٤٥٣) ، ورواه ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث / ٧٧. وبلفظ : القدرية مجوس أمتي. البخاري في التاريخ الكبير ١٢ / ٣٤١ (٢٦٨١) ، والصغير ٢ / ٢٧١ (٢٥٦٧) ، وابن حجر في اللسان ٢ / ٣٣٢ (١٣٦٥) ، ٤ / ٨٥ (١١٥) ، ٦ / ٢٢٢ (٧٨٤) ، ٢٥٦ / (٩٠٣) ، وابن عدي في الضعفاء ٢ / ٢٠٧ (٣٩٤) ، والكامل ٧ / ٧٧ (١٩٩٩) ، والعقيلي في الضعفاء ٣ / ٩٨ (١٠٧٢) ، والدارقطني في العلل ٨ / ٢٨٩ (١٥٧٦) ، ورواه الخطيب في الكفاية في علم الرواية / ١٢٠ ، وذكره ابن الأثير في النهاية ٤ / ٢٢٩.

القدرية فالذين يعلمون بالمعاصي ويقولون : هي من عند الله وهو قدّرها علينا ، وأما المرجئة فهم الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل) (١).

فهذان قولان فيهما ذهاب الإسلام كله ، ووقوع كل معصية ، وذلك أن القدرية زعمت أن الله جل ثناؤه أدخل العباد في المعاصي ، وحملهم عليها وقدرها عليهم وخلقها فيهم ، فهم لا يمتنعون منها ولا يستطيعون تركها.

وأما المرجئة فرخّصوا في المعاصي وأطمعوا أهلها في الجنة بلا رجوع ولا توبة ، وشككوا الخلق في وعيد الله ، وزعموا أن كل من ركب كبيرة من معاصي الله فهو

__________________

(١) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بعث الله نبيا قط إلا وفي أمته قدرية ومرجئة يشوشون عليه أمر أمته ، وإن الله قد لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا.

أخرجه الطبراني في مسند الساميين ١ / ٢٢٤ (٤٠٠) ، وفي المعجم الكبير ٢٠ / ١١٧ (٢٣٢) ، وابن حجر في لسان الميزان ٤ / ٣٨١ (١١٤٦) ، ٦ / ٢٧٦ (٩٦٩) ، وابن عدي في الكامل ٦ / ٢٢٨ (١٧٧٣) ، وابن حبان في المجروحين ١ / ٣٦٢ (٤٧٨) ، والخطيب البغدادي في تاريخه ١٤ / ٣١٩ (٧٦٣٩) ، وأبو القاسم الجرجاني في تاريخه بلفظ قريب موقوف على ابن عمر ١ / ٣٣٦ (٦١٨) ، وغيرهم كثير.

وأخرجه بلفظ : صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي القدرية والمرجئة قلت يا رسول الله ما المرجئة؟ قال : قوم يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل. ابن حبان في المجروحين ١ / ٣٣٦ (٤٢٣) ، ٢ / ١١٢ (٦٩٠) ، وابن فلانة في الوضع في الحديث ١ / ٢٥٧ ، والكناني في التنزيه ١ / ٣١١ ، والجويني في جنة المرتاب ١ / ٤٧. وغيرهم.

وبلفظ : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب.

الترمذي في السنن ٤ / ٤٥٤ (٢١٤٩) ، وابن ماجة ١ / ٢٤ (٦٢) ، ١ / ٢٨ (٧٣) ، والطبراني في الكبير ٨ / ٢٨١ (٨٠٧٩) ، ١١ / ٢٦٢ (١١٦٨٢) ، والأوسط ٢ / ٣٧٢ (١٦٤٨) ، وعبد بن حميد في المنتخب ٢٠١ (٥٧٩) ، والمزي في تهذيب الكمال ١٦ / ١٠٤ (٣٥٥٣) ، ٢١ / ١٥٥ (٤١٤٣) ، ورواه ابن حجر في تهذيب التهذيب ٤ / ٢٥١ (٥٠٣) ، والذهبي في التذكرة ٣ / ١٢٠٠ (١٠٣٢) ، وابن عدي في الكامل ١ / ٢٨٨ (١٢٦) ، وابن معين في تاريخه ٤ / ٣٨٥ (٤٩٠٦) ، وابن حبان في المجروحين ١ / ٣٣٦ (٤٢٣) ، والعقيلي في الضعفاء ٢ / ١٢٣ (٢٠٦) ، والبغدادي في تاريخه ٥ / ٣٦٧ (٢٨٩٣) ، والجرجاني في تاريخه ١ / ٥٠٢ (١٠٢٠) ، والدارقطني في العلل ١ / ٢٨١ (٧٢) ، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث / ٧٧ ، والبخاري في الكبير ٤ / ١٣٣ (٢٢٢٣).

مؤمن كامل الإيمان عند الله ، بعد أن يكون مقرا بالتوحيد ، (١) وأن جميع أعمال المؤمنين من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك ليس من الإيمان ، ولا من دين الله ، مع أشياء كثيرة تقبح من قولهم ، فكان في قولهم انتهاك حرمات الله سبحانه ، وتعدي حدوده ، وقتل أوليائه، وخفر ذمته ، واستخفاف بحقه ، والفساد في أرضه ، والعمل بالظلم في عباده وبلاده ، فهذان قولان مما أهلك العباد والبلاد بهما ، فنعوذ بالله منهما ، ونبرأ إلى الله من أهلهما ، ونسأله فرجا عاجلا ، إنه قريب مجيب.

[فرائض الله ونواهيه]

فإذا أقرّ العبد بما وصفنا من توحيد الله وعدله وعرفه ، فعليه بعد ذلك أن يؤدي ما افترض الله عليه (٢) من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، إذا كان لذلك مطيقا ، والجهاد في سبيله لجميع أعدائه من الكافرين والفاسقين ، إذا أمكنه ذلك واحتيج فيه إليه ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا لزمه ذلك بنفسه ، ومع غيره إذا أمكنه ذلك ، ويؤدي ما

__________________

(١) أخرجه الخطيب عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (شفاعتي لأهل الذنوب من أمتي) ، قال أبو الدرداء : وإن زنى وإن سرق؟!! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء!!! تاريخ بغداد ١ / ٤١٦. وأخرج البخاري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله ، خالصا من قلبه) ١ / ١٩٣. وأخرج البخاري أيضا : (وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه) ٢ / ٣٠٧ ، وأخرجه أحمد ٢ / ٥١٨ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٤ / ١١١ ، وابن حبان في الموارد / ٦٤٥ ، والحاكم ١ / ٧٠. وأخرج أحمد ٦ / ٢٨ في آخر حديث (فأنا أشهدكم أن شفاعتي لمن لا يشرك بالله من أمتي). وأخرجه الترمذي ٤ / ٤٧ ، والطيالسي ٢ / ٢٢٩ ، وابن خزيمة / ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، وغيرهم. وأخرجه ابن ماجة في آخر حديث عن الشفاعة قال : (هي لكل مسلم) السنن ٢ / ١٤٤٤ ، والآجري في الشريعة / ٣٤٣ ، والحاكم ١ / ١٤. وفي لفظ للحاكم ١ / ٦٧ (هي لمن مات لا يشرك بالله شيئا) وأحمد ٥ / ٢٣٢. ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). أخرجه أحمد ٣ / ٢١٣ ، وأبو داود ٥ / ١٠٦ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٢ / ١٢٦ ، وابن خزيمة / ٢٧١ ، والحاكم ١ / ٦٩.

(٢) في (ب) و (د) : يؤدي إلى الله ما افترض من ...

افترض الله جل ثناؤه عليه من شرائع دينه.

وعليه أن يتجنب ما نهى الله عنه من معاصيه كلها من الكفر كله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق ، وأخذ أموال الناس مسلميهم ومعاهديهم بغير حقها ، والظلم لهم ، والعدوان عليهم ، وأكل أموال اليتامى ظلما ، وأكل الربا ، والسرقة ، والزنا ، وقذف المحصنات والمحصنين ، وشرب الخمر ، وإتيان الذكران من العالمين ، والفرار من الزحف في المواطن التي لا ينبغي له الفرار فيها ، إذا كان في ذلك اصطلام (١) المسلمين ، وهلاكهم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وإن كانا عاصيين صاحبهما (٢) معروفا ، وكل معصية يعلمها الله معصية ، وكل ما عليه أن يعلم أنه لله معصية فلا يعمله ولا يقربه ، فإن الله تبارك وتعالى قد نهى عن الذنوب كلها ، كبيرها وصغيرها ، كبيرها فيه الوعيد ، وصغيرها هو موهوب لمن اجتنب الكبير ، وذلك قول الله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)) [النساء : ٣١].

فليتق الله عبد ولا يقدم على معصية ربه وهو يعلمها ، ولا يعتقدها متأولا ولا متدينا بها ، (٣) وقد جعل الله له السبيل إلى معرفتها وتركها ، وليكن أبدا متحرزا متحفظا ، وبأمر ربه متيقظا ، فإن الله عزوجل وصف المتقين ، من عباده المؤمنين ، فقال جل ثناؤه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)) [الأعراف : ٢٠١]. ولم يقل فإذا هم مصرون ، ثم أخبر تبارك وتعالى عن إخوان الشيطان فقال جل ثناؤه : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)) [الأعراف : ٢٠٢]. فالمؤمن أبدا متيقظ متحفظ ، راج خائف ، يرجو الله لما هو عليه من الإحسان ، ولما يكون منه من ذلك رجاء لا قنوط فيه ، ويخافه على الإساءة الموبقة إن فعلها خوفا لا طمع فيه ، إلا بتوبة منها ، فالخوف والرجاء لا يفارقانه ، بذلك وصف الله جل ثناؤه المؤمنين من عباده، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ

__________________

(١) الاصطلام : الاستئصال.

(٢) في (أ) ، (ج) : صحبهما.

(٣) سقط من (ب) : بها.

وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧]. وهكذا صفة المؤمنين ، وليس أحد يقدر أن يؤدي كلما استحق الله جل ثناؤه من عباده من شكر نعمه ، وإحسانه بالكمال والتمام حتى لا يبقي مما يحق له جل ثناؤه عليه شيئا إلا أداه. هيهات!! فكيف وهو يقول تبارك وتعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨]. فكيف يؤدي شكر ما لا يحصى؟! ولم يفترض جل ثناؤه على خلقه ذلك ، ولا يسأل كلما له عليهم ، مما يستحق لديهم ، لعلمه بضعفهم ، وأن في بعض ذلك استفراغ جهدهم ، وما تعجز عنه أنفسهم ، وأنهم لا يقدرون على ذلك ، ويقصرون عن بلوغ ذلك ، فتبارك الله جل ثناؤه عن الاستقصاء عليهم. ولم يسألهم كل ماله عليهم ، وغفر لهم صغير ذنوبهم كله ، إذا اجتنبوا كبيره ، رحمة بهم ونظرا لهم.

فأما من رجا الرحمة وهو مقيم على الكبيرة ، فقد وضع الرجاء في غير موضعه ، واغتر بربه ، واستهزأ بنفسه ، وخدعه وغرّه من لا دين له ، إلا أن يتوب فيغفر له بالتوبة.

فأما الإقامة على الكبائر فلا. بل قد وصف الله جل ثناؤه الراجين لرحمته ، وكيف وضعوا الرجاء موضعه ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)) [البقرة : ٢١٨]. فهكذا يكون الرجاء. وذلك أن الجنة والنار طريقان ، فطريق الجنة طاعة الله المجردة من الكبائر من معاصى الله ، وطريق النار معصية الله ، وإن لم تكن مجردة من بعض طاعات الله ، لأنا قد نجد العبد يؤمن بكتاب الله (١) ، ويكفر ببعضه فلا يكون مؤمنا ، ولا بما آمن به منه من النار ناجيا ، يصدق ذلك قول الله عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة : ٨٥]. فلم يسمّوا بما آمنوا به مؤمنين ، بل سمّوا بما كفروا به منه كله كافرين.

وعلى هذه الطريق في من لم يكفر به من الفاسقين ، أهل الكبائر العاصين ، فمن

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : بكتاب الله كله ، ويكفر ... لعلها زيادة من النساخ.

كان على المعصية الكبيرة مقيما فهو على طريق النار. فكيف يرجو البلوغ إلى الجنة ، وهو يسلك ذلك الطريق. كرجل توجه إلى طريق خراسان فسلكه وهو يقول أنا أرجو أن أبلغ الشام ، وهو على طريق خراسان. وذلك ما لا يكون إلا أن يتحول (١) طريق الشام. فهذا مثل من وضع الرجاء في غير موضعه.

فإن اعتل معتل بقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦]. فأطمع من فعل فعالا دون الشرك من الكبائر في المغفرة بهذه الآية.

قيل له : إن الله عزوجل قد قال في موضع آخر من كتابه ، لنبيه صلوات الله عليه وآله : (* قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)) [الزمر : ٥٣]. ففي هذه الآية إطماع لجميع المؤمنين والمشركين وغيرهم ، وليست تلك الآية بأوضح في الغفران (٢) من هذه الآية ، فيطمع للمشركين فيها.

فإن قال قائل لا أطمع (٣) للمشركين لإجماع المسلمين ، بطل الاعتلال بالآية. وقيل له : إن الأمة لم تجمع إلا من قبل خبر الله. وكذلك أثبتنا نحن وعيد الله على الفاسقين من قبل خبر الله بقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)) [النساء : ١٤]. ونحو ذلك من الآيات. فكل من مات على معاصي الله مصرا غير تائب إلى الله ، فهو من أهل وعيد الله وعقابه.

ومعنى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أنه يغفر للمجتنبين الصغير ، (٤) إذ أخرج الكبير من أن يكون مغفورا بقوله : (ما

__________________

(١) في (ب) : إلا يتحول طرق.

(٢) في (ب) و (د) : في القرآن.

(٣) في (ب) : فإن قال قائل لا أطمع لهم فيها بآية أخرى قيل له كذلك لا أطمع ولأهل الكبائر ، كما لا يطمع الذين كفروا في آية أخرى. فإن قال لا أطمع للمشركين. وكذلك في (د) : إلا أنه قال للذين أشركوا الآية أخرى. والظاهر أن الزيادة زيادة سهو.

(٤) في (ب) : للمجتنبين الكبائر وهو أيضا دون الشرك وإن كان صغيرا ، فوقع الاستثناء على ذلك الغير.

لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨]. وبغير ذلك من الوعيد ، وبيّن أنه يعد بالمغفرة الصغير قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)) [النساء : ٣١]. وقد يغفر الكبير لمن تاب منه ، فيكون قوله : (لِمَنْ يَشاءُ). أي : لمن تاب من الكبائر.

[موالاة المؤمنين]

وعلى العبد أن يوالي أولياء الله حيث كانوا وأين كانوا ، أحياءهم وأمواتهم وذكورهم وإناثهم. ويكون أحبهم إليه وأكرمهم عليه ، أفضلهم عنده ، وأتقاهم لربه ، وأكثرهم طاعة له.

والمؤمنون هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في كتابه ، وبيّن أحكامهم في سنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)) [الأنفال : ٢]. وقال جل ثناؤه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥)) [المؤمنون : ١ ـ ٥]. فوصفهم بأعمالهم الصالحة حتى قال جل ثناؤه : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)) [المؤمنون : ١٠ ـ ١١]. وقال تبارك وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)) [الحجرات : ١٥]. فقد دخل في هذه الصفة كل طاعة ، لأن الجهاد في سبيل الله يأتي على كل طاعة ، فمن أطاع الله في أداء فرائضه ، واجتناب محارمه ، فهو مجاهد بنفسه لربه ، في إتباع أمره ، وترك هوى نفسه ، فلا جهاد أفضل من مجاهدة النفس ، ليردها من هواها فيما يرديها ، ومن مجاهدة

__________________

وفي (ج) : الكبير الصغير. وفي (د) : للمجتنبين الكبير والصغير وهو.

الشيطان عدو الرحمن. فمن عمل ذلك فهو مؤمن ، لأن الإيمان طاعة لله.

وللمؤمنين يقول الله جل ثناؤه : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)) [الأحزاب : ٤٧]. وقال جل ثناؤه : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)) [الأحزاب : ٤٣ ـ ٤٤]. فهذا ما وصفهم الله به في كتابه ، وحكم لهم فيه ، وفي سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وبالولاية لهم ثبوت عدالتهم وشهادتهم ، وحسن الظن بهم ، والنصيحة لهم ، والإحسان إليهم ، والثناء عليهم.

* * *

[معاداة الكافرين]

وعلى العبد أن يعادي أعداء الله الكافرين ، أين كانوا وحيث كانوا ، أحياءهم وأمواتهم ، وذكورهم وإناثهم ، وقد وصفهم الله جل ثناؤه وبيّن أحكامهم كلهم ، أهل الكتابين والمجوس والصابئين ، وغيرهم من المشركين والملحدين ، والمصرين والمرتدين والمنافقين ، فأمر بقتل بعضهم ، وترك قتل بعضهم ، وأخذ الجزية ، وترك نكاح نسائهم ، وترك أكل ذبائحهم.

وأما ـ غيرهم من أهل الأديان ، من العرب والعجم ، والمرتدين عن الإسلام إلى هذه الأديان المنصوصات من الكفر ، أو إلى الإلحاد ، أو إلى صفة الله بالتشبيه له بخلقه ، والافتراء عليه بالتظليم له في عباده ، بأن كلفهم ما لا يطيقون ، وعذب أطفالهم بما لا يكسبون ، إذ خرجوا مما عليه الأمة مجمعون من سنة نبيهم صلوات الله عليه وعلى آله ، إذا أجمعوا أن الخارج منها كافر ، فهؤلاء كلهم يستتابون من كفرهم ـ فإن تابوا وإلا قتلوا ، لا يقبل منهم غير ذلك ، ولا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم إن كن كفارا ، ويفرق بينهم وبين نسائهم إذا أسلمن ، من حرائرهن وإمائهن ، ولا يرثون ، ويرث المؤمنون أموالهم.

هذا حكم المرتدين منهم ، وبهذا حكم الله جل ثناؤه في جميع الكافرين ، ما خلا من كان منهم له عهد من رسلهم ، ودخل بأمان إلى المسلمين في دارهم ، أو كان بينه وبينهم صلح وعقد ، فهؤلاء يوفى لهم بعهدهم ، ولا ينقض شيء من عهدهم.

[معاداة الفاسقين]

وعلى العبد أن يعادي أعداء الله الفاسقين ، الذين أقروا ثم فسقوا ، من كانوا وحيث كانوا ، أحياءهم وأمواتهم ، وذكورهم وإناثهم ، الذي يسعون في الأرض فسادا ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويركبون كبائر الإثم والفواحش ، أولئك لهم اللعنة

ولهم سوء الدار ، ونلعنهم كما لعنهم الله (١) ونتبرأ منهم ، من كانوا وحيث كانوا ، من قريب أو بعيد. وهكذا قال تبارك وتعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)) [المجادلة : ٢٢]. فكل من أتى كبيرة من الكبائر ، أو ترك شيئا من الفرائض المنصوصة ، على الاستحلال لذلك فهو كافر مرتد ، حكمه حكم المرتدين. ومن فعل شيئا من ذلك اتباعا لهواه ، وإيثارا لشهواته ، كان فاسقا فاجرا ما قام على خطيئته ، فإن مات عليها غير تائب منها ، كان من أهل النار ، خالدا فيها وبئس المصير. يبيّن ذلك قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦)) [الانفطار : ١٣ ـ ١٦]. ومن لم يغب من النار فليس منها بخارج ، ومن لزمه الفسق والفجور من كان فهو من أهل النار ، إلا أن يتوب ، لقول الله جل ثناؤه : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٤٥]. وقوله : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)).

[الفاسق]

ومن أتى كبيرة فهو فاجر فاسق. يبيّن ذلك قول الله جل ثناؤه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)) [النور : ٤]. وقال تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣)) [النور : ٢٣]. فإذا كان قاذف المحصنة فاسقا ملعونا ، فالزاني بالمحصنة أعظم جرما ، والسارق ، وقاتل النفس ، بغير الحق ، وآكل أموال اليتامى ظلما ، وغير ذلك من كبائر الذنوب. وكذلك من فعل ذنبا من الكبائر فهو فاسق في إجماع الأمة.

__________________

(١) في (أ) : الدار ونلعنهم ونتبرأ منهم. وفي (ج) : الدار ، ويلعنهم الله ويتبرأ منهم.

والفاسق ـ لله جل ثناؤه ـ عدوّ ، حكم الله فيه (١) ما أنزل من حدوده. من قتله إذا قتل ظلما ، أو أفسد في الأرض بغيا ، وقطع يده إذا كان سارقا ، وجلده إذا زنا ، وإن زنا وهو محصن قتل بالحجارة رجما ، وإذا قذف المؤمنين والمؤمنات جلد الحدّ ، وغير ذلك (٢) من النكال ، لما يكون منه من الفعال ، (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٣٣]. (٣) مع ما نهى الله عزوجل عنه من ولايته ، وأمر به من جرح عدالته ، وإبطال شهادته ، وسوء الظن به ، والحجر عليه في ماله إذا أنفقه في معاصي ربه ، حتى يؤنس رشده ، وغير ذلك من الأحكام عليه ، من سوء الثناء ، وإلزامه القبيحة من الأسماء ، فليس هو من المؤمنين في أسمائهم ، ولا رضيّ أفعالهم ، لمجانبة المؤمنين في أعمالهم وطيبهم. ولا من الكافرين ولا يسمى بأسمائهم ، (٤) لمخالفته الكافرين في جحدهم ، وفريتهم على ربهم ، واستحلالهم لما حرم الله عليهم. ولا هو من المنافقين لاستسرار المنافقين الكفر في قلوبهم ، ولكنه فاسق. ذلك اسمه ، وعليه حكمه.

وقد بيّن الله جل ثناؤه أن الفاسق اسم من أسماء الذنوب ، لقوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ٥]. ومن لم يتب من فسقه وظلمه ، فهو من أهل النار ليس بخارج منها ، ولكنه وإن كان في النار فليس عذابه كعذاب الكافر ، بل الكافر أشد عذابا.

فلا يغتر مغتر ، ولا يتّكل متّكل ، على قول من يقول ـ من الكاذبين على الله وعلى رسوله ، صلوات الله عليه وعلى أهله ـ أن قوما يخرجون من النار بعد ما يدخلونها ، يعذبون بقدر ذنوبهم. (٥) هيهات أبى الله جل ثناؤه ذلك!! وذلك أن الآخرة دار جزاء ،

__________________

(١) سقط من (ب) : فيه.

(٢) في (ب) و (د) : الجلد. وفي جميع المخطوطات : وعير ذلك لما يكون من النكال. إلا أنه أشار في (أ) إلى زيادة (لما يكون) ، وهو الوجه.

(٣) الآية هكذا (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ ...) [المائدة / ٣٣].

(٤) في (أ) و (ج) : وطيتهم. ولعلها مصحفة.

(٥) أخرج مسلم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال : بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ، ثم قيل : يا أهل ـ

والدنيا دار عمل وبلوى ، فمن خرج من دار البلوى إلى دار الجزاء ، على طاعة أو معصية ، فهو صائر إلى ما أعد الله له خالدا فيها أبدا.

فالله الله في أنفسكم بادروا وجدوا ، وتوبوا قبل أن تحجبوا عن التوبة. ومع ذلك فإن(١) الأمة مجمعة على أن أهل الوعيد من أهل النار.

قال (٢) بعض الناس : إنما عنى بالوعيد المستحلين ، وتواعد به المذنبين ، ليزجرهم عن أعمال الفاسقين.

فقيل لهم : أفيجوز على أحكم الحاكمين ، أن يوعد بعقوبة الكافرين ، من ليس منهم من المذنبين ، وهو يعلم أنه لا يوقع بهم ذلك يوم الدين؟!

فهل يكون من الكذب ، والهزل من القول؟! إلا ما وصفهم به أرحم الراحمين ، إذ كان يوعد قوما بعقوبة قوم آخرين ، لم يكونوا لمثل أعمالهم التي أوجب الله لهم العقوبة عليها عاملين.

وقال بعضهم : إن قوما يخرجون من النار بعد ما يدخلونها.

فقيل لهم إذا اجتمعتم أنتم وأهل الحق على الدخول ، ثم خالفتموهم في الخروج ، فالحق ما اجتمعتم عليه من الدخول ، والباطل ما ادعيتموه ـ بلا إجماع ولا حجة ـ من الخروج. والأمة مجمعة على أن من أتى كبيرة ، أو ترك طاعة فريضة كالصلاة والزكاة والصيام ، من أهل الملة فهو فاسق. (فكلهم قد أقر (٣) بأنه فاسق) (٤) (وهي مختلفة في غير ذلك من أسمائه.

فقال بعضهم : هو مشرك فاسق منافق. وقال بعضهم : هو فاسق كافر.

__________________

ـ الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الجنة تكون في حميل السيل. أخرجه مسلم ١ / ١٧٢ ، وابن ماجة ٢ / ١٤٤١ ، وأحمد ٣ / ٧٨ ٧٩ ، وابن خزيمة ٢٧٣ ٢٨٠ ، والدارمي ٢ / ٣٣١ ، وأبو عوانة ١ / ١٨٦ ، وغيرهم.

(١) في (أ) و (ج) : إن.

(٢) في (ب) و (د) : فقال.

(٣) في (ب) : أقروا.

(٤) سقط ما بين القوسين من (أ).

وقال بعضهم : فاسق منافق. فكلهم قد أقر بأنه فاسق) (١) واختلفوا في غير ذلك من أسمائه. فالحق ما أجمعوا عليه من تسميتهم إياه بالفسق ، والباطل ما اختلفوا فيه. ففي إجماعهم الحجة والبرهان ، نسأل الله التسديد والتوفيق ، لما يحب ويرضى.

والأسماء في الدين والأحكام ، عند ذي الجلال والإكرام ، ليس لأحد من المخلوقين أن يضع اسما وحكما على أحد من العالمين ، فيما هم به مأمورون وعنه منهيون ، فمن استحل شيئا من ذلك برأيه ، عن غير كتاب الله جل ثناؤه ، وسنة رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو من الضالّين إذ كان عند الله كبيرا. لأن الحكم في ذلك كله لرب العالمين ، لقوله جل ثناؤه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) [الأنعام : ٥٧].

وعلى العبد أن يتجنب (٢) الفاسقين ، والمعونة لهم على فسقهم ، والمجالسة لهم على لهوهم ومعاصيهم ، وعليه أن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، لأن على كل مؤمن إذا رأى منكرا مما يجوز أن يغيره هو ، أن يغيره بكل ما يقدر عليه ويحل له ، وإن كان مما لا يجوز أن يغيره (إلا لإجماع المؤمنين بالتعاون ، فعليهم وعليه أن يغيروا) (٣) بكل إمكانهم ، بالسيف إن لم يجز إلا بالسيف ، وبما دون السيف إذا اكتفي به ، وأدنى ذلك النهي باللسان. فإن لم يمكنه ذلك لتعبه لتخوفه (٤) الهلاك أو تقية ، فإنكار ذلك بالقلب ، والعزم على التغيير إذا أمكن الأمر. ولا يترك صاحب المنكر حتى يتوب منه ، أو يقام فيه حكم رب العالمين ، ويدارى أهل المنكر ، ويوعظون بأرق الوجوه ، فإن أبوا إلا المقام على المنكر ، فإن قدر على إزالتهم عنه فلا يؤخر ذلك ، وإن لم يقدر على إزالتهم جونبوا بمجانبة جميلة ، وقطعت الولاية عنهم ، ولا يدعا لهم بخير حتى يتوبوا إلى ربهم ، إنه (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [الشورى : ٢٥].

__________________

(١) سقط ما بين القوسين من : (ج).

(٢) في (ب) : يتقي.

(٣) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٤) في (ب) و (د) : بخوفه.

[التوبة]

وعلى العبد أن يتقي الله في سر أمره وعلانيته ، ويستغفر الله ويتوب إلى الله من ذنوبه ، فإنه يقبل التوبة عن عباده ، بذلك وصف نفسه جل ثناؤه ، فقال : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)) [طه : ٨٢]. ثم دعا عباده إلى التوبة ، ثم أخبرهم أنه يقبلها ، فقال : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)) [هود : ٩٠]. وقال : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : ٣١].

فمن تاب إلى الله قبل توبته ، وإن كانت ذنوبه عدد الرمل ، (١) وأكثر من ذلك ، لأنه كريم ، وهو بعباده رءوف رحيم ، يقبل التوبة ويقيل العثرة ، ويقبل المعذرة ، ويغفر الخطيئة ، إذا صحت من العبد التوبة. وقال جل ثناؤه : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠]. ومن تاب من ذنبه ، قبل الله توبته وأحبه ، كذلك قال جل ثناؤه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : ٢٢٢]. يعني : المتطهرين من الذنوب. فمن أحبه الله لم يعذبه ، وكان من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وكان من أهل الجنة لا شك فيه. وكذلك أخبر تبارك وتعالى عن ملائكته : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ

__________________

(١) يشير إلى حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، ثلاثا غفر الله وإن كان عليه من الذنوب مثل رمل عالج. أخرجه محمد بن منصور المرادي في الذكر ٢٤٢ (٢٧٣) ، والترمذي ٥ / ٤٣٨ (٣٣٩٧) ، ورمل عالج هو : الصحراء الشرقية في الجزيرة العربية.

وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [غافر : ٧ ـ ٨]. والله جل ثناؤه لا يخلف الميعاد.

[التوبة من حقوق الله]

فالتوبة لها وجوه وتفسير ، فكل ذنب بين الله وبين عباده وإمائه نحو الزنا ، وشرب الخمر ، وإتيان الذكران بعضهم بعضا ، وإتيان النساء بعضهن بعضا ، واستماع محارم اللغو واللهو والعكوف عليها ، وقول الزور ، وقذف أهل الإحصان من الرجال والنساء بالرفث والخناء والفجور ، والكذب ، والمرح ، والخيلاء ، والكبرياء ، والرياء ، والعجب ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، والنظر إلى ما لا يحل من العورات ، وغيرها ، والفرار من الزحف لا ينحرف إلى قتال ولا يتحيز إلى فئة ، والكذب ، (١) والغيبة ، والنميمة ، وما أشبه ذلك من الذنوب ، ومعاداة أولياء الله ، وموالاة أعداء الله ، فالتوبة من ذلك كله بالندم على ما مضى ، والاستغفار بالقلب واللسان بلا إصرار ، والعزم أن لا يعود إلى شيء من ذلك أبدا ، قليلا كان أو كثيرا.

[التوبة من حقوق المخلوقين]

وأحب إلينا أن ينظر إلى ما كان أذى لمسلم أو معاهد ، فيستحله ويعتذر إليه منه ويرضيه ، وكل ذنب كان بين العبد وبين الناس مسلمهم ومعاهدهم ، من سرقة ، أو ربا في أموالهم ، أو أخذ مال بغير حق في جناية ، أو غصب ، أو إدخال ضرر عليهم في الأبدان كالقتل ، والجراحات كالضرب الشديد ، (كان إذا قدر على ذلك وكان له مال) (٢) فإن لم يكن مال جعله دينا عليه ، وعزم على أن يرده إلى أهله إذا قدر عليه ، أو على ذريتهم إن كان أهله ماتوا. ويندم على أخذه وحبسه ، ويستغفر الله ، ويعطي من

__________________

(١) تكرر ذكر الكذب.

(٢) يعني : فيتحلل من كل ذلك حالا إن كان له مال. وسقط من (أ) ما بين القوسين.

نفسه أن لا يعود إلى مثل ذلك أبدا ، ولا تجزيه التوبة من الأخذ حتى يرد إذ (١) كان حابسا ، وإن استوهبه منهم ووهبوه له بطيبة أنفس (٢) منهم ، كان ذلك له (٣) حلالا ، بعد الإقرار لهم على أجمل الوجوه. وإن صالحوه وأخذوا بعضا وتركوا بعضا ، على غير اقتسار لهم كان ذلك جائزا.

وإن لم يعرف أصحاب المال الذي أخذ منهم المال وأيس أن يعرفهم ، أو يعرف ورثتهم ، تصدق بمقدار ما أخذ منهم على المساكين ، فإن جاءوا بعد ذلك إليه أخبرهم أنه قد تصدق بذلك عنهم ، فإن رضوا لم يكن عليه شيء ، وإن أرادوا حقهم رده عليهم ، إذا قدر عليه ، وكانت صدقته له. وإن كان محتاجا إليه فأنفقه على نفسه ، وجعله دينا عليه لأهله ، فإن تاب قبل القدرة على أدائه إليهم من غصبه المال ، وإنفاقه إياه على نفسه ، كانت توبته مقبولة عند الله جل ثناؤه ، وكان المال له لازما حتى يعينه الله على قضائه.

وإن كان الذي أخذ أموالهم غائبا في بعض البلدان ، فلم يقدر على الخروج إليهم به لعلة مرض ، أو علة حائلة بينه وبين ذلك ، أوصى أن يبعث به إليهم ، لأن عليه أن يوصل إليهم حقوقهم حيث كانوا ، ويستحلهم من أخذه وإنفاقه وغصبه ، ثم لا شيء لهم عليه بعد ذلك. وتوبته مقبولة فيما بينه وبين الله جل ثناؤه.

وإن لم يكن يدر كم المال الذي أخذ من أموال الناس ، متفرقهم ومجتمعهم ونسي ، وكثر ذلك عليه ، فليتحرّ ما لكل واحد على قدر مبلغ علمه ورأيه ، ويحتط لنفسه ، ويزيد على نفسه حتى يكون الغالب عليه في حكمه (٤) ورأيه ، أن قد استغرق جميع حقوقهم ، وأدى إليهم أموالهم وزاد ، فإن النفقة له في ذلك. فإن زاد كان له أجره ، وإن نقص قليلا لم يضره ، بعد أن يتعمد الوفاء. وذلك كله توبته إلى الله جل ثناؤه مما كان منه في ذلك ، من أخذ وحبس عن أهله ، وهو عنده بندم واستغفار ، وعزم على أن لا

__________________

(١) في (ب) و (ج) : إذا.

(٢) في (ب) : بطيبة نفس منهم.

(٣) في (ب) : كله.

(٤) في (ب) و (د) : الغالب على علمه ورأيه.

يعود إلى مثل ذلك أبدا.

فإن كان صار إليه مال من ناحية ظالم غاصب ، وهو به عالم بسبب معونة له في ظلمه ، ودخول معه في غصبه ، وأخذ ذلك هبة منه ، وهو يعلم أن ذلك ظلم وغصب لغيره ، فالتوبة مما أخذ من ذلك أن يخرجه من عنده ، فيرده على أهله المغصوبين إياه ، ولا يحل له أن يرد شيئا من ذلك إلى الغاصب ، لأنه ليس له.

وإن كان أنفقه وليس عنده شيء منه ، كان ضامنا لرده ـ إذا أمكنه ـ على أهله ، ويتوب إلى الله جل ثناؤه من إنفاقه.

وأما ما كان من الربا فالتوبة منه ما وصفنا من الندم والاستغفار ، (١) ويخرج كل فضل فوق رأس ماله ، فيرده على ما وصفنا من رده على أهله إن عرفهم ، وإلا فعلى ما وصفنا من رده ، لكل ما لزمه رده.

[التوبة من القتل والجراحات]

وأما ما كان من قتل فلا توبة لقاتل المؤمن حتى يندم على القتل ، ويستغفر الله منه ، ويعزم على أن لا يعود إلى قتل أحد أبدا ظلما ، ويمكّن أولياء المقتول المؤمن من نفسه صابرا محتسبا ، يقول لهم : إنه قتل صاحبهم ظلما وعمدا وعدوانا. فإن فعل ذلك فهو تائب لا شيء عليه من إثم القتل ، فإن قتلوه تائبا ـ بحق هو لهم ـ فلا تبعة لهم عليه ، ولا للمقتول لديه حق ، وإن عفوا عنه فلهم أن يعفوا عنه ، لأن الحق بعد المقتول لأولياء المقتول. ويعوض الله جل ثناؤه المقتول إذا كان مؤمنا صابرا. ألم تسمع إلى قوله جل ذكره كيف يقول : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [الإسراء : ٣٣]. فقد سلط الله جل ثناؤه أولياء المقتول على القاتل ، إن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدية.

وإن تاب فيما بينه وبين الله ، ولم يمكّن أولياء المقتول من نفسه ، لم يسعه ذلك ولم

__________________

(١) في (ب) و (د) : والاستغفار منه.

تقبل توبته ، فإن لم يعرف أولياء المقتول عزم القاتل على أن يمكّن من نفسه أولياء المقتول متى عرفهم. يصنعون به ما لهم عليه من القتل ، أو الدية والعفو ، ولا يدفع نفسه إلى سلطان ، ولا إلى غيره ، ولا يدفع نفسه إلا إلى أولياء المقتول.

وإن لم يتب إلى ربه جل ثناؤه ، ويمكّن أولياء المقتول من نفسه ، كان كما قال الله جل ثناؤه : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)) [النساء : ٩٣].

وأما ما كان من جراحات سوى القتل ، مما يجب فيه القصاص ، فإنه يتوب إلى الله جل ثناؤه ـ منها بالندم عليها ، والعزم على أن لا يعود ، ويمكّن من نفسه ـ بعد التوبة إلى الله جل ثناؤه من فعله به ، وإن اقتصّ منه فلا شيء عليه ، وإن عفا عنه فذلك إليه ، وإن كانت جراحات قد برأ منها أصحابها ، ولم يكن أمكنهم القصاص من نفسه ، فلم يعلم مقدارها لبرء فلا قصاص عليه فيها ، لأنه لا يعلم قدر ذلك ، وعليه أرش الجراحات يقيمه عدل ، يتوخى في ذلك الصواب ، فيدفع ذلك إلى أصحاب الجراحات.

فإن لم يعرف أصحابها ، دفع ذلك (١) إلى ورثتهم الذين يقومون بذلك.

وإن كان لا يعرف أصحاب الحقوق ، دفع ذلك القدر إلى المساكين ، إذا قدر على ذلك.

وما كان من الجراحات مما لا قصاص فيه مما يكون فيه حكومة عدل ، دفع إلى من صنع به ذلك إن كانوا أحياء ، وإن كانوا أمواتا دفع ذلك إلى ورثتهم ، فإن لم يعرفهم ولا ورثتهم دفع ذلك إلى المساكين ، إذا قدر على ذلك.

ويفعل في كفارة الخطأ كما أمره الله جل ثناؤه في كتابه ، وكذلك في كفارة الظهار ، فمن لم يقدر على شيء من ذلك ، فالتوبة منه على ما أمر الله جل ثناؤه.

وأما ما كان من ضرب (٢) مما لا يكون القصاص فيه ، فالتوبة فيه والاستغفار والندم ، وأن لا يعود إلى مثله أبدا ، ويرضي أصحابها إن عرفهم ويتحللهم.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : ذلك.

(٢) في (ب) و (د) : من ضرب أو ظلم.

وأما ما كان من ظلم الناس نحو اغتياب وتجسس ، أو سوء ظن بمؤمن ، أو سعاية إلى ظالم ، أو كذب عليه ، فالتوبة إلى الله جل ثناؤه من ذلك ، ويتحلل ذلك من أصحابه (١) الذين فعل بهم ، فإنه أحسن وأفضل ، ويكون ذلك على أجمل الوجوه.

فإن لم يمكنه التحلل ، ولم يفعله بعد أن يتوب إلى الله جل ثناؤه ، رجونا أن لا يضره ذلك.

وكذلك إن أساء إلى مماليكه في تقصير في مطعم أو ملبس ، مما لا يحل له أن يفعله بهم ، أو عاقبهم عقوبة أسرف فيها ، أو شتمهم بما لا يحل له ، فليتب إلى الله جل ثناؤه من ذلك كله ، وليتحلل من مماليكه.

وإن استدان رجل ما لا ينفقه على نفسه وعلى عياله ، بالقصد (٢) كما أمره الله جل ثناؤه ، وكان عزمه أن يرده إذا أيسر ، وأمكنه فمات قبل أن يؤديه ، وليس له مال ، ولم يترك وفاء ، فلا شيء عليه فيما بينه وبين الله جل ثناؤه وبين صاحب الدين ، لأن الله العدل ، الذي (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، و (... إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٦].

فإن أخذ دينا ونسي أن ليس عليه لأحد شيء ، فلا شيء عليه عندنا ، إذا لم يكن نسيانه ذلك من تشاغله بمعصية ربه.

فإن أخذ دينا فلم يرده إلى أصحابه ، حتى ماتوا فليؤده إلى ورثتهم ، فإن لم يعرف لهم ورثة وانقطعت آثارهم ، وانقطع ذكرهم ، فليتصدق به على المساكين ، وقد سلم من الإثم إذ (٣) تاب من حبسه ، وقد كان يقدر على أدائه.

فإن استقرض مالا فأنفقه فيما يحل له ويحرم عليه ، وكان من عزمه أن لا يؤديه إلى أهله (فهو فاسق ، وتوبته في ذلك الاستغفار والندم ، ورده على أهله) (٤) إن كان يقدر

__________________

(١) في (ب) و (د) : أصحابها.

(٢) يعني : بالاقتصاد.

(٣) في (أ) و (ب) و (ج) : إذا.

(٤) سقط ما بين القوسين في : (ب) و (د).

عليه ، وإن كان معسرا عزم على أدائه إليهم إذا قدر عليه ، وأشهد لهم بذلك على نفسه ، إن أرادوا ذلك منه ، فإن ماتوا ولم يكن لهم ورثة تصدق به عنهم ، وإن كان محتاجا أنفقه على نفسه وعياله ، كما يتصدق به على غيرهم هذا إذا كان ضامنا له.

وإن كان أخذ أموال الناس من طريق الدّين ، وكان شأنه أن لا يقضي ولا يؤدي ، وجحد ذلك ، ثم مات على ذلك ، فأقام أصحاب الدّين من بعد موته على ورثته البينة ، أو عرف ذلك الورثة ، فعليهم أن يؤدوه إلى أهله ، والميت من أهل النار ، ولا ينجيه من ذلك أداء ورثته عنه ، لأنه اعتزم (١) على أنه لا يؤديه ، ومات غير تائب مصرا على أخذ أموال الناس ظلما وعدوانا فهو من الفاسقين. وإن لم يكن لهم بينة ، وعرف الورثة أن المال الذي خلف الميت إنما هو أموال الناس ، وعرفوا ما عليه من الدّين ، لم يحل لهم ما أخذوا ، لأنهم أخذوا ما ليس لهم من حقوق الناس. والسنة الماضية أنه لا شيء لوارث حتى يقضى الدين ، فإن لم يقضوه ولم يمكنهم وهم يعرفونه ، كانوا من أهل النار ، إذا (٢) ماتوا على ذلك مصرين ظالمين.

[الأيمان والتوبة منها والكفارة]

فإن كان رجل حلف بأيمان بالله وهو كاذب متعمد للكذب ، من غير إكراه أو تخوّف ، فقد فسق إذا بلغت يمينه كبيرة ، وتوبته من ذلك أن يستغفر الله من ذلك ويندم على ما كان منه ، ولا يعود إلى مثل ذلك أبدا ، وليس عليه كفارة.

وإن كان حلف بما فيه كفارة ثم حنث فعليه كفارة لكل يمين.

والأيمان أربع فيمينان يكفّران ، وهو قول القائل : والله لأفعلن كذا وكذا ، فلا يفعل.

وقوله : والله لا أفعل كذا وكذا ، ففعل.

واليمينان اللتان لا يكفّران قول القائل : والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل.

__________________

(١) في (ب) : اجترم.

(٢) في (ب) : أو.

وقوله : [والله] لقد فعلت كذا وكذا ، وما فعل.

وكفارة اليمين إذا حنث ، إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يأكل هو وأهله ، أو كسوتهم ثوبا ثوبا ، أو تحرير رقبة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. فمن لم يقدر على إطعامهم ، وغير ذلك من الكفارة ، فليصم عن كل يمين ثلاثة أيام ، ويستغفر الله من تضييعه ولا يعد(١).

فإن أدركه الموت ولم يكفّر عن يمينه من إطعام ، أو كسوة ، ولم يقدر على ذلك ، فليوص أن يطعم عنه المساكين من ماله ، لكفارة أيمانه إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال فلا شيء عليه ، لأن الله جل ثناؤه قد عذر من لم يجد.

وإن كان يعرف الأيمان التي عليه كم هي فليكفّر عددها ، وإن كان عددها لا يقف عليه فليتوخّ قدرا من ذلك ، يكون الغالب عنده أنه قد استغرقها وزاد. ثم نرجو أن (٢) لا يضره زاد أو نقص ، إذا لم يتعمد ذلك. وكذلك يوصي بمثل ذلك ، إذا لم يمكنه قضاء ذلك.

[التوبة من ترك الصلاة وسائر العبادات]

وإن كان ضيع صلاة ، أو صياما ، أو حجا ، أو زكاة ، بعد ما وجب ذلك عليه ، بالتواني والاستخفاف ، متعمدا لذلك ، فعليه أن يتوب إلى الله جل ثناؤه من ذلك ، ويقضي ما فاته من الصلوات (٣) إن كان يعرف عددها ، ومن الصيام أيضا كذلك ، وإن كان لا يعرف كم هو فليتحر الصواب جهده ، ويزيد حتى يستغرق ذلك ، ثم نرجو أن لا يضره نقص أو زاد ، إذا لم يتعمد ذلك ، ويقضي تلك الصلوات في أي أوقات النهار أو الليل شاء ، فإذا (٤) حلت له أوقات صلوات يومه الذي هو فيه صلاها في أوقاتها ، ثم عاد فيقضي ما عليه حتى يفرغ منها ، لا يتشاغل بغيرها.

__________________

(١) في (ب) : ولا يعود. وفي (د) : فلا يعود.

(٢) في (أ) : أنه.

(٣) في (أ) و (ج) و (د) : الصلاة.

(٤) في (ب) و (د) : فإن.

[الصلاة]

وإن كان ترك صلاة متعمدا فلم يقضها نسيانا جاز ذلك (منه ، ثم ذكرها فليقضها وحدها أيضا ، وإن كان لها ذاكرا فتركها متعمدا) (١) حتى مضت لها أشهر أو سنوات ، فليقضها وليتب مما صنع.

وقد قال بعض العلماء يجزيه قضاؤها وحدها ويتوب من تأخيرها ، وقال بعضهم أسلم له قضاء ما بعدها من الصلوات ، وذلك أنه لا صلاة لمن ضيّع صلاة حتى يقضي ما ضيع.

[الصوم]

وإن كان ترك صياما من شهر رمضان كله حتى حضر رمضان آخر ، فعليه أن يصوم هذا الذي حضر ، ويعتزم على صيام ما فاته ، فيصوم من بعد ذلك ويتوب مما ضيّع.

[الزكاة]

وإن كان ضيع زكاة حتى أدركه الموت ، فليتب مما ضيّع ويخرج ما عليه منها ، فيؤديه إلى المساكين ، إن كان له مال ، ويوصي بذلك إن لم يمكنه الأداء ، لأنها دين عليه لأهلها الذين سماهم الله جل ثناؤه ، في أي صنف منهم وضعت أجزت عنه ، وإن لم يكن له مال ومات فلا شيء عليه بعد أن يتوب.

[الحج]

وإن كان ترك الحج وهو يقدر عليه حتى أدركه الموت ، فليتب إلى الله جل ثناؤه

__________________

(١) سقط ما بين القوسين في : (ب).

من تفريطه ، وليعزم على الحج ، وليحج إن قدر عليه ، وإن (١) لم أوصى أن يحج عنه ، فقد قال بعض العلماء ذلك. وقال بعضهم لا يحج عن أحد كما لا يصلى عن أحد ، ولا يصام عن أحد ، لأن تلك حقوق الله جل ثناؤه ، أمر عباده أن يتولوها بأنفسهم ، فإن لم يقدروا عليها عذرهم ولم يكلفهم غير هذا.

وأما ما كان من حقوق الناس فيما بينهم في أبدانهم ، وأموالهم ، فعليهم أن يخرج بعضهم إلى بعض منها ، ويعطي عنه إذا قدروا عليها.

وإن أوصى أن يحج عنه فحسن عندنا وهو أحوط.

وعلى المرتدين من الإسلام إذا تابوا ـ مع (٢) ما ذكرنا ـ من الظلم للناس في أبدانهم وأموالهم ومن (٣) الديون قبل ارتدادهم وفي ارتدادهم ، ثم أسلموا أن يتوبوا إلى الله جل ثناؤه من ذلك كله ، ويؤدوا الحقوق إلى أهلها كما يفعل المقرون ، لأن حكمهم في ذلك غير أحكام أهل الحرب ، لأنه لا قصاص بين أهل الإسلام وأهل الحرب (٤).

فعلى العبد مما وصفنا من هذه الذنوب التوبة النصوح ، وقد جعل الله جل ثناؤه لهم إليها السبيل.

التوبة النصوح هي الندم على ما كان من الذنوب ، وتركها والاستغفار منها وترك الإصرار عليها ، والعزم على أن لا يعود أبدا إليها ، فتلك التوبة المقبولة ، يقبلها التواب الرحيم.

فرحم الله عبدا اتقى الله في نفسه ، وتطهّر بالتوبة قبل الموت والفوت ، ولم تغره الحياة الدنيا ، ولم يغره بالله الغرور.

وليبادر بالتوبة قبل أن يسألها فلا يجاب إليها ، قال جل ثناؤه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ

__________________

(١) في (ب) : وإن يوصي. وفي (د) : وإن أوصى.

(٢) في (ب) و (د) : من.

(٣) في (أ) : من الذنوب ، وفي (ب) و (د) : ومن الذنوب. وفي (ج) : من الديون. وما أثبت اجتهاد مني ، والله أعلم.

(٤) في (أ) و (ج) : بينهم وبين أهل الإسلام.

عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)) [النساء: ١٧ ـ ١٨]. والتوبة قائمة مبذولة مقبولة ، من حيث يواقع العبد الذنب إلى قبل حضور أجله بطرفة عين ، أو أقل.

وحضور الموت هو معاينة ملك الموت والملائكة صلوات الله عليهم ، أو بسبب من أعلام الموت العظيم المهول ، (١) الذي يشاهده العبد في تلك الحالات ، لا يعلمه أحد من البشر غيره ، أو ذهاب (٢) عقله ، فحينئذ لا تقبل توبته ، ولا عند نزول العذاب إذا نزل بأهل المعاصي ، ولا عند الحواجب من آيات الله المانعة من الرجوع إلى أحكام الدنيا ، والله ـ جل ثناؤه ـ بهذا كله وأوقاته أعلم وأحكم تبارك وتعالى.

وعلى العبد أن يكون أبدا مستعدا تائبا. نسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الموت إذا نزل بنا ، وفي العرض على ربنا جل ثناؤه ، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)) [آل عمران : ٣٠].

تم الكتاب والحمد لله رب الأرباب ، وصلواته على المصطفى من خير نصاب ، محمد النبي وأهله الطاهرين الأطياب ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

* * *

__________________

(١) في كل المخطوطات بياض بين أعلام ....... والذي. إلا أنه أشار في (د) : إلى ما أثبت في نسخة ، وهو الراجح.

(٢) معطوف على : أو بسبب.

أصول

العدل والتوحيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

اعلم يا أخي علمك الله الخير والهدى ، وجنبك جميع المكاره والردى ، أن الله خلق جميع عباده العقلاء المكلفين لعبادته ، كما قال عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٧].

والعبادة تنقسم على ثلاثة أوجه : أولها : معرفة الله.

والثاني : معرفة ما يرضيه وما يسخطه.

والوجه الثالث : اتباع ما يرضيه ، واجتناب ما يسخطه.

وهذه الوجوه كلها فهي كمال العبادة ، وجميع العبادات غير خارجة منها ، فمعرفة الله عبادة كاملة لمن ضاق عليه الوقت. وهي منفصلة من العبادة الثانية ، لمن تراخت به الأيام إلى وصول التعبد ، وهو الأمر والنهي الذي فيه رضى المعبود وسخطه. ثم العمل بما يرضيه واجتناب ما يسخطه عبادة ثالثة منفصلة من الوجهين الأولين ، لمن تراخى به الوقت إلى استماع كيفية العبادة على لسان الرسول الذي جاءت الشريعة على يديه. فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج ، احتج بها المعبود على العباد ، وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الآخرتين ، لانهما عرفا به ولم يعرف بهما ، فافهم ذلك.

ثم الإجماع من بعد ذلك حجة رابعة مشتملة على جميع الحجج الثلاث ، وعائدة إليها.

ثم اعلم أن لكل حجة من هذه الحجج أصلا وفرعا ، والفرع مردود إلى أصله ، لأن الأصول محكمة على الفروع ، فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء ولم يختلفوا فيه ، والفرع ما اختلفوا فيه ولم يجمعوا عليه. وإنما وقع الاختلاف في ذلك لاختلاف النظر ،

والتمييز فيما يوجب النظر ، والاستدلال بالدليل الحاضر المعلوم ، على المدلول عليه الغائب المجهول. فعلى قدر نظر الناظر واستدلاله يكون دركه لحقيقة (١) المنظور فيه ، والمستدلّ عليه ، فكان (٢) الإجماع من العقلاء على ما أجمعوا عليه أصلا وحجة محكّمة على الفرع الذي وقع الاختلاف فيه.

وأصل الكتاب فهو المحكم الذي لا اختلاف فيه ، الذي لا يخرج تأويله مخالفا لتنزيله. وفرعه المتشابه من ذلك فمردود إلى أصله الذي لا اختلاف فيه بين أهل التأويل.

وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما وقع عليه الإجماع بين أهل القبلة ، والفرع ما اختلفوا فيه عن الرسول. فكل ما وقع فيه الاختلاف من أخبار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مردود إلى أصل الكتاب والعقل والإجماع.

وقد أنكرت الحشوية من أهل القبلة رد المتشابه إلى المحكم ، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض ، وأن لكل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوب تنزيلها وتأويلها ، ولذلك ما (٣) وقعوا في التشبيه ، وجادلوا عليه ، لما سمعوا من متشابه الكتاب ، فلم يحكموا عليه الآيات التي جاءت بنفي التشبيه.

فاعلم ذلك ، فإن هذه جملة من معرفة المعبود والتعبد والعبادة ، ومعرفة الحجج التي وجب التعبد على جميع المكلفين.

ثم نعود إلى تفسير هذه الجملة وشرحها ، وتبيين عللها وما تكمل به المعارف من تقسيمها ، فأول ما نذكره من ذلك معرفة الله عزوجل ، وهي عقلية منقسمة على وجهين : وهي إثبات ونفي ، فالإثبات هو اليقين بالله والإقرار به ، والنفي هو نفي التشبيه عنه تعالى وهو التوحيد.

__________________

(١) في (د) : بحقيقة.

(٢) في (أ) و (ج) : وكان.

(٣) ما : زائدة لتحسين الكلام ، وكثيرا ما ترد في كلام الإمام القاسم.

وهو ينقسم على ثلاثة أوجه :

أولها : الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق ، حتى ينفى (١) عنه ما يليق بالمخلوقين في كل معنى من المعاني ، صغيرها وكبيرها ، وجليلها ودقيقها ، حتى لا يخطر في قلبك في التشبيه خاطر شك ولا توهيم ولا ارتياب ، حتى توحد الله سبحانه باعتقادك وقولك (٢) وفعلك. فإن خطرت على قلبك في التشبيه خاطرة شك ، فلم تنف عن قلبك بالتوحيد خاطرها ، وتمط باليقين البتّ والعلم المثبت حاضرها ، فقد خرجت من التوحيد إلى الشرك ، ومن اليقين إلى الشك ، لأنه ليس بين التوحيد والشرك ، وبين اليقين والشك ، منزلة ثالثة. فمن خرج من التوحيد فإلى الشرك مخرجه ، ومن فارق اليقين ففي الشك موقعه.

والوجه الثاني : فهو الفرق بين الصفتين ، حتى لا تصف (٣) القديم بصفة من صفات المحدثين.

والوجه الثالث : فهو الفرق بين الفعلين ، حتى لا يشبّه فعل القديم بفعل المخلوقين ، فمن شبّه بين الصفتين ، ومثّل بين الفعلين ، فقد جمع بين الذاتين وخرج إلى الشك والشرك بالله ، وبرئ من التوحيد والإيمان بالله ، وصار حكمه في ذلك حكم من أشرك ، اعتقد ذلك وامترى فشك (٤). فهذه جملة التوحيد المضيقة التي لا يعذر ـ من (٥) اعتقادها ، والنظر في معرفتها ، عند كمال الحجة ـ أحد من العبيد ، فمن مكّن بعد بلوغه وكمال عقله ، وقتا يكمل فيه معرفة العدل ويمكنه ، فتعدى (٦) إلى الوقت الثاني وهو جاهل بهذه الجملة ، فقد خرج من حد النجاة ، ووقع في بحور الهلكات ، حتى يستأنف التوبة ، ويقلع عن الجهل والغفلة ، بالنظر في معرفة هذه الجملة التي لمعرفتها

__________________

(١) في (ب) و (د) : تنفى.

(٢) في (ب) و (د) : باعتقادك وقوله فإن ...

(٣) في (ب) و (د) : لا يصف.

(٤) في (أ) : وشك.

(٥) في (ب) و (د) : عن.

(٦) في (أ) و (ج) : العدل تمكنه. وسقط من (ب) : ويمكنه فتعدى.

خلق الله الخلق ، وهي (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٣٠].

والدين القيم : فهو المستقيم الواصب ، الثابت الدائم المتصل ، وذلك قوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) [النحل : ٤٣]. يريد منصبا متعبا. وهو التوحيد والخلصانية ، التي لا تزول عن قلوب المتعبدين العارفين بالله المخلصين ، بزوال سائر الشريعات التي تزول بزوال الاستطاعات ، والعلل المانعات ، عن القيام بالفروض الشرعيات.

ثم اعلم أن هذه الجملة هي أصل التوحيد ، فكل ما ورد من الشرح والكلام فهو مردود إلى هذا الأصل ، الذي أجمع عليه أهل القبلة ، فما ورد عليك من فروع الكلام والشرح ، يؤكد (١) لك أصول دينك اعتقدته ، ودنت الله به ، وما ورد عليك مما ينقض الأصل تركته واعتزلته ، فإن بذلك صحّت المقالة لأهل الفرقة الناجية.

فالواجب على الطالب لنجاته حراسة الأصول من النقض لها بالتفسير ، حتى لا ينقضها بالتفسير طول عمره مضطربا في عمارة التوحيد ، برد الفرع إلى أصله حتى لا يضيف إلى معبوده ، شيئا من صفات خلقه وعبيده ، في كل فعل منه وذات ، وفي كل صفة من الصفات ، حتى تنزه القلوب والضمائر ، وخواطر الأوهام والسرائر ، فإن دقيق ذلك كله كجليله ، والكثير من ذلك كقليله ، فافهمه وتدبره تجده كذلك إن شاء الله.

تم ذلك بعون الله تعالى ، وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : يؤيد.

جواب مسألة لرجلين

من أهل طبرستان

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الحسين (١) بن القاسم : سألت أبي رحمة الله عليه ، لرجلين من أهل طبرستان ، وهما عبيد الله بن سهل (٢) ، وهشام بن المثنى ، عن توحيد الله ومعرفته ، وما اختلف فيه المختلفون من صفته؟

فقال رضي الله عنه : اكتب : سألتما أعانكما الله وهداكما ، ونفعكما بما بصّر كما من الهدى وأراكما ، عن توحيد الله ومعرفته ، وما اختلف فيه المختلفون من صفته.

فتوحيد الله والمعرفة به وتيقنه ، الذي لا يسع أحدا من المكلفين جهل شيء منه ، جهل (٣) قليله في توحيد الله كجهل كثيره ، وأصغر ما يجهل منه في الشرك بالله عند الله ككبيره ، ومن جهل من ذلك شيئا واحدا ، لم يكن بالله موقنا ولا له موحّدا ، أن يعلم أن الله واحد أحد ، ليس له ند من الأشياء ولا ضد ، لأن الند لما ينآده مكاف ، والضد لما يضاده مناف ، وليس من الأشياء كلها ما يكافيه ، ولا يضاده جل جلاله فينافيه ، فليس هو جل ذكره كشيء ، وهو الأول قبل كل بدي ، لم يلد سبحانه فيكون ولده له مثلا ، ولم يولد فيكون والده له بديا وأصلا ، كما قال سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ١ ـ ٤] ، والكفؤ : فهو النظير والمثيل والشبيه والند ، ولبعده سبحانه من (٤) شبه الأشياء ومماثلتها ، ولتعاليه عن مشابهة جزئية الأشياء وكلّيتها ، لم تدركه ولا تدركه أبدا عين ولا بصر ، ولا يحيط به من الناظرين عيان ولا نظر ، كما قال سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣]. وقال جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وقال سبحانه : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] والحي القيوم ، فهو الذي يبقى سرمدا ويدوم ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : الحسن.

(٢) في (ب) و (د) : سهيل. ولم أقف على ترجمته ولا صاحبه هشام بن المثنى.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : جهل.

(٤) في (ب) و (د) : عن.

وليس شيء من الأشياء يبقى فلا يفنى ، ولا يصح له أبدا هذا الذّكر والمعنى ، إلا الله في البقاء والدوام ، كما قال سبحانه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧]. و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص : ٨٨] ، ولكفى دليلا ببقائه وفناء كل ما سواه على تعاليه عن مشابهة الأشياء لقوم يعقلون.

وكيف يشبه الباقي الفاني؟! في معنى ما كان من المعاني ، فمن توهم الله جل ثناؤه أجزاء وأعضاء ، أو أبعاضا يصل بعضها بعضا ، أو اعتقد أنه يرى ، أو رؤي قط فيما خلا ، بعين أو بصر أو رؤية أو نظر ، أو أنه يدرك بحاسة من حواس البشر ، أو وصفه سبحانه بكف أو بنان ، أو بفم أو لهوات (١) أو لسان ، فقد شبهه بما خلقه جل ثناؤه من الانسان ، وبري واصفه بذلك من المعرفة له والإيقان ، وقال في الله من ذلك بالزور والبهتان ، وخالف كلما نزل الله في ذلك من النور (٢) والفرقان ، فهو لرب العالمين من أجهل الجاهلين ، وهو بالله جل ثناؤه من المشركين ، وبما اعتقد في ذلك من أهلك الهالكين ، فهذه صفته تبارك وتعالى في الإنّية والذات ، وهي صفة واحدة ليست فيه جل ثناؤه بمختلفة ولا ذات أشتات ، ولو كانت فيه مختلفة غير واحدة ، لكان اثنين وأكثر في الذّكر والعدة. وإنما صفته سبحانه هو (٣) وأنه كذلك في التوراة (٤) ، قال تعالى لموسى عليه‌السلام عند المناجاة ، : (إني أنا الله إلهك ، وإله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب). (٥) وكذلك قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ

__________________

(١) في (ب) و (د) : بلهوات.

(٢) في (ب) : في ذلك كله من الفرقان. وفي (د) : في كله من الفرقان. وسقط من (أ) : من.

(٣) يعني أن الصفات هي الذات وليست الصفات أمورا زائدة على الذات.

(٤) في (ب) و (د) : التوراة والإنجيل. (زيادة سهو).

(٥) نص التوراة هكذا : (أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب). سفر الخروج ١ / ٧. وسفر التكوين ٣ / ٤٦.

الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)) [الحشر : ٢٢ ـ ٢٤]. فوصف نفسه تبارك وتعالى في أول الآيات بأنه هو ، ثم ذكر سبحانه ملكه وخلقه وقدسه ما ليس له فيه نظير ولا مثيل ولا كفؤ ، فمن وصفه جل ثناؤه بغير ما وصف به نفسه من العلم والقدس والحكمة ، وما ذكر جل جلاله من العز والرأفة والرحمة ، فقد خرج صاغرا بصفته ، من العلم بالله ومعرفته.

والسّنة التي ذكر الله أنها لا تأخذه ، ولا تعرض له جل جلاله ، هي قليل النوم ويسيره ، لا النوم نفسه وكثيره ، فنفى سبحانه عن نفسه من قليل مشابهة خلقه ما نفى تبارك وتعالى عن نفسه من كثيرها ، تعاليا عن صغير مماثلة خلقه وكبيرها ، لأن ذلك كله في التشبيه له سواء ، يثبت به كله أن له نظيرا في التشبيه وكفؤا.

ومن معرفة الله والايمان به ، الايمان بجميع رسله وكتبه ، ومن أنكر آية من تنزيله ، أو جحد رسولا واحدا من رسله ، خرج بذلك من التوحيد والإيقان ، وزال عنه ـ لما أنكر من ذلك ـ اسم الإيمان ، لأنه من أنكر آية من آيات الله ، أو رسولا واحدا من رسل الله ، كمن أنكر صنع السماء والأرض من الله ، ونسب ما كان من آية أو علم أو دلالة إلى غير الله ، لأنه إذا زعم أنما جاء به رسول من رسل الله من أعلامه ودلائله ، أو أن (١) آية من آيات كتب الله وتنزيله ، ليست من الله ولا عن الله (٢) ، ثبّت وزعم أن ذلك من غير الله.

ومن أضاف شيئا من صنع الله في أرضه وسمائه ، أو في سوى ذلك كله من خلقه وإنشائه ، إلى غير الله فقد ألحد وكفر ، وجحد وأنكر ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ

__________________

(١) سقط من (أ) : أن.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : عن الله.

وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)) [النساء : ١٥٠ ـ ١٥٢]. فمن فرّق من ذلك بين ما جمع الله وألّف ، خرج بتفريقه ذلك مما أقر به من توحيد الله وعرف ، وكان منكرا بذلك كله، بإنكاره لما أنكر من أقله.

[مرجع أهل الديانات]

وقد سأل عن هذا بعينه ، وما قلت به من تبيينه ، نصراني ، كان يغشاني ، من قبط أهل مصر يقال له سلمون ، وكان ربما اجتمع عندي هو والمتكلمون ، وكان هو يزعم في عيسى بخلاف ما تزعم النسطورية واليعقوبية والروم ، لأن أولاء كلهم يزعمون أن عيسىعليه‌السلام (١) ابن وإله ، ومنهم من يقول : إنه الله. وفي ذلك ما يقول سبحانه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٢ ، ١٧]. وكان هذا النصراني الذي ذكرنا يقول : إن عيسى عليه‌السلام عبد مربوب ، وصنع مخلوق ، وإنّ من لم يقل من النصارى بقوله ، وينسب عيسى صلى الله عليه إلى الخلق والعبودية ، فليس بنصراني ، وهو مشرك خارج من النصرانية.

فسأل يوما ـ وهو عندي ـ جماعة من الموحّدين ، وفيهم حفص الفرد البصري وكان من المتكلمين ، فقال : يا هؤلاء أخبروني فقد زعمتم أنكم تنصفون ، وأنكم لا تقولون إلا بما تعرفون ، من أين زعمتم أن من أنكر محمدا أو جحده ، ولم يقر بما كان من النبوءة عنده ، منكر لله جاحد؟ والله فغير محمد معبود ومحمد عابد؟ وإنكار واحد ليس بإنكار اثنين ، لأن الشيء الواحد ليس بشيئين! فقد سألت منكم كثيرا عن هذه المسألة ، فأجابوا فيها بجوابات مختلفة غير مقنعة ، (٢) وكيف أكون لك منكرا بإنكاري لغيرك؟ وهل تراه يصح في فكرك؟ أن أكون بإنكاري لمحمد لله منكرا وأنا به مقر ، وله موحّد مجلّ معظّم مكبّر؟

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : عليه‌السلام.

(٢) في (ب) و (د) : متفقة.

فأجابوه فلم يقنع بجوابهم ، ولم يستمع لمقالهم.

وكان مما أجبته به في مسألته ، وما كان فيها من مقالته ، أن قلت : أخبرني يا هذا إذ(١) أنكرت محمدا وما جاء به من رسالاته ، أليس قد زعمت أن ما كان معه من آيات الله ودلالاته ، (٢) وما كان يري الناس من الأعاجيب ، وينبئهم به من السر والغيب ، ليس كله من الله ، ولا شيء منه بصنع الله ، وأضفت ذلك كله إلى غير الله؟!

فقال : بلى. لا شك ولا امتراء.

فقلت : أفلا ترى أنك (٣) لو أنكرت أن تكون السماء والأرض من الله ولله خلقا صنعا (٤) ، مفتطرا بدعا ، كنت بإنكار (٥) ذلك لله منكرا ، وإن كنت بالله عند نفسك مقرا!! فكان في هذا الجواب ـ بحمد الله ـ ما حجّه وقطعه ، وكفاه في الاحتجاج عليه وكفه عن التشنيع ومنعه ، ولم يتكلم بعده ـ علمت ـ في مسألته بكلمة واحدة ، وأمسك في مسألته عن الاكثار والشّغب والملادة (٦).

ومن الدلائل (٧) على ما ذكرنا ، وقلنا به في ذلك وفسّرنا ، قول الله سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢)) [الإسراء : ١٠١ ـ ١٠٢]. يقول صلى الله عليه : لقد علمت ما افتطر وجعل ، وخلق وأنزل ، ما جئتك به من الآيات والدلالات ، إلا من خلق وجعل وافتطر الأرضين والسماوات. فلما أزال فرعون صنعهن وخلقهن عن الله ونسبهن إلى السحر ، ازداد بذلك شركا

__________________

(١) في (أ) و (ج) : إن. وفي (د) : إذا.

(٢) في (أ) و (ج) : ودلالته.

(٣) سقط من (أ) : أنك.

(٤) في (ب) و (د) : ولله صنعا خلقا.

(٥) في (ب) و (د) : وكنت لله بإنكار ذلك منكرا.

(٦) الملادة : اللجاجة والمجادلة.

(٧) في (ب) و (د) : الدليل.

وكفرا إلى ما كان فيه من الشرك والكفر ، وكذلك لو لم ينكر ، إلا آية واحدة مما بصّر وأري من آيات الله لكان بإنكارها مشركا ، صاغرا راغما (١) ، ليس له بالله معرفة ولا إيقان ، ولا بعد إنكاره لها توحيد ولا إيمان.

ومن توحيد (٢) الله ومعرفته ، وما هو أهله من حكمته ، أن تعلم (٣) أنه لم يكلف ولا يكلف أبدا ، (٤) من عبيده عبدا ، ما لا يتسع له ولا يمكنه ، ولا يأمره بما لا يستحسنه ، ولا يريد (٥) أبدا منه ، ما ينهاه تعالى عنه ، ولا يزجره أبدا فينهاه ، عما يريده من الأمور ويشاء ، لما في ذلك كله (٦) من خلاف الحكمة والرحمة ، وما لا يجوز أبدا أن يوصف به من الصفات المستقبحة المذمّمة ، (٧) التي لا يلحق بالله جل ثناؤه منها صفة ، ولا تحتملها من المعارف بالله سبحانه معرفة ، لما يزول بها من الأسماء الحسنى ، والأمثال الكريمة العلى ، ولله جل ذكره من ذلك كله ما طاب وزكى ، ومن قال في الله بخلاف ذلك فقد قال شركا ، كما قال سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠]. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠]. وقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنعام : ١٠٠]. و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣١].

ومن الايمان بالله بعد التوحيد لله إثبات الوعد والوعيد ، فمن أنكرهما ولم يكن مثبتا لهما ضلالة وتأويلا خرج بذلك من التوحيد ، وكان بإنكاره لهما متعديا ضالا ، وعميا جاهلا ، وإن هو أنكر شيئا من آيات تنزيلهما كان بالله مشركا ، ومن توحيد الله خارجا وله تاركا.

وكذلك كل من أنكر فريضة من فرائض الله كلها تنزيلا ، فإن كان إنكاره لها

__________________

(١) في (ب) و (د) : عما. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : ومن معرفة الله ورحمته.

(٣) في (أ) و (ج) : يعلم.

(٤) في (أ) : أبدا أحدا من عبيده.

(٥) في (ب) و (د) : ولا يريده. مصحفة.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : كله.

(٧) في (ب) : الذميمة.

عماية وتأويلا ، كان إنكاره لذلك فسقا وحرجا ، وكان جهله بذلك له من الايمان مخرجا ، وكل فريضة فرضها الله تنزيلا على عبد من عبيده ، فعليه من معرفتها والإقرار بها ما عليه من الإقرار بمعرفة الله وتوحيده ، إذا (١) لزمته حجتها ، وحضره وقتها ، فإن كان بتنزيلها جاهلا وله منكرا ، كان جهله بها منه لله شركا وكفرا ، وإن كان منكرا لتأويلها ، مقرا بتنزيلها ، كان بإنكاره فيها للتأويل فاسقا فاجرا ، ولم يكن مع إقراره فيها بالتنزيل بالله مشركا ولا به كافرا.

فهذه جوامع الايمان الواجبة اللازمة ، المشتبهة في حكم الله المتفقة المتلائمة ، التي لا تختلف جملها ، ولا يسع مكلفا جهلها ، والحمد لله كثيرا ، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين الذين طهرهم من الرجس تطهيرا.

تمت المسألة بعون الله وتوفيقه.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : إذ.

فصول في التوحيد

الأصول الخمسة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

روى علي بن عامر ، (١) قال : قال القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه :

من لم يعلم من دين الإسلام (٢) خمسة من الأصول ، فهو ضال جهول.

أولهن : أن الله سبحانه إله واحد ليس كمثله شيء ، بل هو خالق كل شيء ، يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير.

والثاني من الأصول : أن الله سبحانه عدل غير جائر ، لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يعذبها إلا بذنبها ، لم يمنع أحدا من طاعته بل أمره بها ، ولم يدخل أحدا في معصيته بل نهاه عنها.

والثالث من الأصول : أن الله سبحانه صادق الوعد والوعيد ، يجزي بمثقال ذرة خيرا ، ويجزي بمثقال ذرة شرا ، من صيّره إلى الثواب فهو فيه أبدا خالد (٣) مخلد ، كخلود من صيّره إلى العذاب الذي لا ينفد.

والرابع : من الأصول أن القرآن المجيد فصل محكم ، وصراط مستقيم لا خلاف فيه ولا اختلاف ، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه ما كان لها ذكر في القرآن ومعنى.

والخامس من الأصول : أن التقلب بالأموال في التجارات والمكاسب في وقت ما تعطل فيه الأحكام ، وينتهب ما جعل الله للأرامل والأيتام ، والمكافيف والزّمناء ، وسائر الضعفاء ، ليس (٤) من الحل والإطلاق كمثله في (٥) وقت ولاة العدل والإحسان ،

__________________

(١) لم أقف على ترجمته.

(٢) في (أ) : يعرف من الإسلام. وفي (ب) و (ج) : يعلم في دين الإسلام.

(٣) في (ب) : خالدا مخلد.

(٤) في (ب) : ليس هو من الحل والإحلاق.

(٥) في (ب) : في مثل وقت.

والقائمين بحدود الرحمن (١).

فجميع هذه الأصول الخمسة لا يسع أحدا من المكلفين جهلها ، بل تجب عليهم معرفتها.

تم كتاب الخمسة الأصول والحمد لله كثيرا.

* * *

__________________

(١) أي : أن ذلك يشمل جميع وجوه الكسب ، واختلاف الكاسبين ، ولو كانوا بعيدين عن أعوان الطغاة المعطلين للأحكام ، وذلك لأن تشابك أمور المعاش والاقتصاد تجعل أي كسب في مثل هذه الظروف لا يمكن أن ينجو من التلوث بمثل هذه الظلامات ، وفي هذا الحكم حث على العمل لتغيير الجائر من الأوضاع ، تطهيرا للكسب والمأكل ، وإراحة للضمير.

[فروض الله على المكلفين]

قال القاسم بن إبراهيم ، صلوات الله عليه :

سألتم ، يا ولدي ، وفقكم الله للرشاد ، عن أمهات فروض الله على من كلّفهن من العباد ، وأحببتم أن تعلموا من جملهن ، أصولا كافية في تفسير كلهن ، بقول جزم مختصر ، قريب المأخذ والمدّكر ، ليس فيه حيرة ولا تخايل ، ولا تكثر منه الأقوال.

فأول ـ يا بني ـ فرض الله على خلقه ، ومقدمات أمهات فرضه ، الإيقان لله بوحدانيته ، والإقرار له بربوبيته ، لأن من أقر لله بالربوبية عرف أنه لله عبد ، ومن أيقن له بوحدانيته علم أنه ليس له والد ولا ولد ، وبرئ عنده من مكافأة الأنداد ، وعزوجل ثناؤه عن مناوأة الأضداد ، [لأنه] لا يكون من معه ند أو ضد ، ومن له في الأوهام والد أو ولد ، أحدا أبدا (١) ، وصمدا فردا.

وكيف يكون عند من توهم ذلك فيه سبحانه واحدا ، وقد توهم معه أبا وابنا أو ندا أو ضدا ، ومن شبه الله بشيء من خلقه ، فقد خرج من المعرفة بالله وحقه ، وجعل لله ندا مماثلا ، وكفيا ونظيرا معادلا ، في كل ما يشبهه به فيه من أوصاف الخلق في معنى واحد أو في كل معنى ، لأن في تشبيهه له سبحانه ، بمعنى واحد من الخلق ، إبطال الوحدانية ، ومفارقة الأزلية ، ومن جوّر الله في حكمه فقد أشرك به ، إذ شبهه بالجائرين ، وخرج بتجويره له في حكمه من توحيد الله رب العالمين ، وكان بفريته على الله في ذلك من المشركين ، حكمه حكمهم ، واسمه اسمهم ، لأنه أشرك بين الله وبين الجائرين في الجور ، ومثّله سبحانه بهم فيما مثّل فيه بينه وبينهم من الأمور.

وكذلك كل تمثيل أو تشبيه قيل به فيما بين الله وبين خلقه فهو شرك بالله صريح ، ومعنى شرك صاحبه به فهو شرك في اللسان صحيح ، لأنه أشرك بين الله وغيره ، قال به في ذات الله أو تجويره.

__________________

(١) في (أ) و (ب) : والد وولد ، أحدا أبدا ، فردا صمدا.

وكل (١) من وصف الله بهيئات خلقه ، أو شبّهه بشيء من صفاتهم ، أو توهمه صورة ما كان من الصور (٢) ، أو جسما ما كان من الأجسام ، أو شبحا ، أو أنه في مكان دون مكان ، أو أن الأقطار تحويه ، أو أن الحجب تستره ، أو أن الأبصار تدركه. من جميع خلائقه أو شيء منها ، أو أن شيئا من خلائقه يدرك شيئا مما خلق ، وذرأ وبرأ ، أو مما كان(٣) أبد الأبد ، فقد نفاه وكفر به وأشرك ، وعبد غيره.

فافهموا ، وفقنا الله ـ وكل مؤمن ـ لإصابة الحق وبلوغ الصدق ، إنه قريب مجيب.

* * *

__________________

(١) في (ج) : فكل.

(٢) في (ب) و (ج) : الأصوار.

(٣) في (ب) : مما خلق أبد.

[فصل في التوحيد والعدل]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من عجز إدراك الحواس بارئها ثبت له التوحيد ، وباستحقاق التوحيد ثبت العدل ، لأن المتفرد بالوحدانية لا يجور ، لوجود الجور فيمن ليس بواحد ، ولمّا ثبت العدل وجب الوعد للمطيع ، والوعيد على العاصي ، ولمّا صح الوعد والوعيد وجب التحاجز بين المتظالمين ، وهو بالرسول الآمر الناهي ، بما آتاه الله ، بعد استحقاقه للرسالة منه بالطاعة ، والاتصال به (١) ، فأظهر عليه علامة الاتصال بالمعجزات والدلالات ، فرقا بين المتصل والمنقطع عن الله ، ليصح صدق خبر رسوله عنه ، وكما لم يجز في العقل مشافهة الباري ، وخطابه لخلقه ، خاطبهم منهم بهم ، (٢) بجنسهم ومثلهم ، إذ ليس في فطرهم غير ذلك.

تم والحمد لله كثيرا.

* * *

__________________

(١) هذه النظرية القائلة بأن النبوة وغيرها من المقامات الدينية جزاء على الأعمال ، قال بها جماعة من العلماء ، مستدلين بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) ، وغيرها.

(٢) سقط من (ب) و (د) : بهم.

[فصل في التوحيد والعدل]

إن سأل سائل فقال : ما مذهبك؟ فقل : أنا قاسمي المذهب في القول بالتوحيد والعدل ، ونفي الجور والتشبيه عن الله ، ورأي السيف في القريب والبعيد ، إذا عاند بعد الإنذار والبيان ، فاطمي المقال موالاة العترة والقول بإمامة سبطي الأئمة سيدي شباب أهل الجنة ، وفي إثبات الدعوة وإيجاب البيعة لمن قام بالحق من ولديهما عليهما‌السلام ، إذا كان عالما بالحق عاملا بأحكامه ، داعيا إلى سبيل ربه ، ناصرا لأهله ، وعلوي السيرة في موالاة الأولياء ومنابذة الأعداء ، والصبر على البلوى ، والغمض على القذى ، مع شهر السيف على من ينكث البيعة ، ويحرف عن الدين ، ويخرج عن إمام المسلمين ، فهذا مذهبي وديني ، فمن أبى أنكر ، ومن أحب أقر ، فأنا لا أبالي بإنكار منكر و [لا] (١) أباهي بإقرار مقر ، لأني أرى (٢) الحق لا يستوحش من الوحدة ، ولا يبالي عمن أعرض وتولى. والسلام.

* * *

__________________

(١) في المخطوطات الوحيدة : منكر أباهي.

(٢) في المخطوطات الوحيدة : مقر لأرى الحق.

[أصول الدين]

قال القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام أصول الدين ثمانية عشر أصلا :

أولها : التوحيد.

٢ ـ والعدل.

٣ ـ وتصديق الوعد.

٤ ـ والوعيد.

٥ ـ والنبوة.

٦ ـ والإمامة.

٧ ـ والولاء.

٨ ـ والبراء.

٩ ـ والصلاة.

١٠ ـ والزكاة.

١١ ـ والصوم.

١٢ ـ والحج.

١٣ ـ والجهاد.

١٤ ـ والأمر بالمعروف.

١٥ ـ والنهي عن المنكر.

١٦ ـ وبر الوالدين.

١٧ ـ وصلة القرابة.

١٨ ـ وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، فجملة ذلك ثمانية عشر أصلا.

ثم اعلم أن لكل أصل من ذلك حقيقة ، فحقيقة التوحيد : نفي جميع صفات التشبيه

عنه ، وحقيقة العدل : نفي الفاقة ، وحقيقة تصديق الوعد والوعيد : الخلود ، وحقيقة النبوة : المعجزات ، وحقيقة الإمامة : الأربع الخصال ، القرابة من رسول الله صلى الله عليه ، والعلم البارع ، والزهد ، والشجاعة ، وحقيقة الولاء والبراء : الحب في الله والبغض في الله ، وحقيقة الصلاة : المحافظة على أوقاتها والمواظبة لها. والخمس من الطهارة ، وهي طهارة القلب ، وطهارة البدن ، وطهارة اللباس ، وطهارة الماء ، وطهارة المصلى.

والست الخصال :

أولها : الأذان ، والافتتاح ، والتكبيرة ، والقراءة ، والتسبيح ، والتسليم.

وحقيقة الزكاة : أخذها من حقها وصرفها في أهلها ، وحقيقة الصيام : اجتناب الرفث ، ومجالسة أهل البغي ، وحقيقة الجهاد : بذل المال والمهجة ، وأن لا يولي دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، وحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : قول النبي صلوات الله عليه : (من غابت عليه شمس نهاره ولم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر فقد تبوأ مقعده من النار) ، (١) وحقيقة بر الوالدين : قول الله عزوجل : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء : ٢٣] ، وحقيقة صلة القرابة : التفقد لهم والاطلاع لأحوالهم ، فمن كان منهم مؤمنا كان عليك أن تؤدي ما في رقبتك من حقه ، لأن حقه فرض عند الله ، وذلك قول الله سبحانه : (الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)) [الرعد : ٢١] ، ومن كان منهم عاصيا وعظته ، لقول الله سبحانه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)) [الشعراء : ٢١٤] ، وتحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لها ، وهذا بحر عميق ، غرق فيه بشر كثير.

* * *

__________________

(١) لم أقف على هذا الحديث.

تفسير

العرش والكرسي

صفة العرش والكرسي وتفسيرهما

سماع علي بن محمد بن عبد الله عن الحسن بن القاسم رضي الله عنه.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على كل حال

قال علي بن محمد : حدثني الحسن بن القاسم ، عن الحسين بن القاسم رضوان الله عليه ، قال : سألت أبي رحمه‌الله وأرضاه ، عن تأويل ما ذكر الله سبحانه ، من كرسيه وعرشه؟

فقال : سألت يا بني فهّمك الله فاعلم وافهم ، وليكن أول ما تعلم فيما سألت عنه وتتفهم ، أن يخرج في ذلك كله من علمك وفهمك ، كل خاطرة خطرت بقلبك ، أو وقعت في وهمك ، لله فيها بمعنى من معاني خلقه كلها تشبيه أو تمثيل ، أو لشيء (١) مما صنع الله كله بالله تسوية أو تعديل ، كبير ذلك كصغيره ، وقليله كله (٢) ككثيره.

فهذا يا بني هو الأصل في توحيد الله المقدم الأول ، والقول الصادق على الله وفي الله الصحيح المتقبّل ، الذي لا يقول بغيره في الله ولا على الله إلا كل مفتر أفّاك ، يلزمه في قوله بذلك على الله اسم الجهل بالله والإشراك ، وفي توهّم كل متوهّم لذلك على الله (٣) الخروج مما نزل الله في توحيده من كل تنزيل ، (٤) نزله الله سبحانه في القرآن أو في التوراة أو في الزبور أو في الإنجيل.

وتأويل ما سألت يا بني عنه ومعناه ، فأبين بيان ـ بحمد الله ـ لمن فهّمه الله إياه ، وإنما تلبّس ذلك وأظلم على من لبّس فيه على نفسه ، فأسلمه الله تبارك وتعالى فيه ـ صاغرا ـ إلى حيرته ولبسه ، وسبيل فهمه وعلمه منير مضي ، لا يجهله ـ بمنّ الله ـ من

__________________

(١) في (ب) و (د) : أو بشيء مما خلق لله وصنع كله.

(٢) سقط من (ب) : كله.

(٣) سقط من (ب) : الله.

(٤) في (ب) : تنزيله نزله. مصحفة.

خلق الله زكي ولا رضي.

فمن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ، : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وقوله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣]. وقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٣]. فنفى سبحانه عن نفسه قليل النوم من السّنة نفيه للكثير ، تبرّيا منه وتعاليا عن مشابهة الأشياء كلها في معنى من معانيها كبير أو صغير. والحي : فهو الذي لا يغيره أبد ولا دهر ، والقيوم : فهو الدائم الذي لا يلم به تبدل ولا تغيّر (١). وكذلك قال لرسوله ، (٢) صلى الله عليه وعلى آله (٣) : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢)) [الإخلاص : ١ ـ ٢] (٤). ثم قال في آخر السورة : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٤]. والصمد فهو الذي ليس من ورائه مصمود ولا معمد ، (٥) وليس بعده في جلال ولا كبرياء بعد. والأحد : فهو الواحد الذي ليس بشيئين اثنين ، جزءين كانا أو غير جزءين ، ولا يتوهم أبدا سبحانه بمعنيين متغايرين ، أحدهما في الجزئية غير الآخر ، فيوصفان بالتباين والتغاير.

فلا يخلو كل واحد من الجزءين من أن يكون قادرا على حاله ، (٦) أو عاجزا عن مبلغ قوة الجزء الآخر في قدرته ومثاله ، فإن كان الجزء عاجزا لم يكن ربا ولا قويا ، وإن كان قادرا قدرته كان له في الربوبية مساويا ، فكانا جميعا ربين اثنين ، وإلهين متساويين ، وكان في ذلك الخروج من وصف الله بالوحدانية ، ومما وصف به نفسه جل

__________________

(١) في (ب) : تبديل ولا تغيير.

(٢) في (ب) : لرسول الله.

(٣) في جميع المخطوطات : آله وسلم. ولعل (وسلم) زيادة.

(٤) في (أ) و (ج) : أكمل (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ).

(٥) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) و (ه) : معتمد.

(٦) في (ب) و (د) : حياله.

جلاله من التفرد بالربوبية ، فلم يكن في قولهم إلها واحدا ، وعاد في وصفهم (١) كثيرا عددا.

ومن دلائل الهدى والحق ، في بعد ربنا من مشابهة الخلق ، ما يقول الله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)) [الحديد : ٣]. وكيف يكون لمن كان أولا آخرا ظاهرا باطنا من الأشياء شبيه أو نظير؟! أو يعتقد (٢) ذلك في من كان كذلك أبدا عقل صحيح أو ضمير؟!

وأول الأشياء أبدا غير آخرها ، وباطن الأشياء فغير ظاهرها ، فكفى بما قال سبحانه في ذلك (٣) بيانا ودليلا ، على أن لا يكون شيء من الأشياء كلها له شبيها ولا مثيلا.

وفيما من ذلك أبانه ، يقول سبحانه : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)) [الحشر : ٢٢ ـ ٢٤]. فدل سبحانه على نفسه بأنه هو ، وأنه لا نظير له ولا كفو.

وكذلك قال من رسله كل من قد (٤) عرفه ، عند ما سئل عنه فوصفه ، أو دلّ من جهله عليه ليعرفه ، فقال إبراهيم عليه‌السلام خليله ، لمن كان من قومه يجهله ، ولمن كان يلحد فيه ويجادله ، يا قوم : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩]. وقال صلى الله عليه لقومه ، عند ما منّ الله عليه به من معرفته وعلمه : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ

__________________

(١) في (أ) : صفتهم.

(٢) في (ب) : ويعتقد.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : في ذلك.

(٤) سقط من (أ) : قد.

(٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)) [الشعراء : ٧٥ ـ ٨٢].

وكذلك قال نوح من قبله ، صلى الله عليه وعلى جميع رسله : يا قوم (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)) [نوح : ١٣ ـ ٢٠]. ومثل هذا قوله صلى الله عليه في تعريفه لله من جهله فكثير ، في أقله ـ والحمد لله ـ لمن أيقن بالله هداية جلية وتبصير (١).

وفي مثل ذلك ما يقول موسى ، لفرعون إذ طغى وتعامى ، إذ قال : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩)) [طه : ٤٩]. فقال صلى الله عليه : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه : ٥٠]. وكذلك قال عليه‌السلام ، عند ما دار بينه وبين فرعون في الله الكلام ، إذ يقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)) [الشعراء : ٢٣ ـ ٢٥]. فقال لهم إذا قالوا مقالته ، وسألوه عليه‌السلام مسألته : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦)) [الشعراء : ٢٦]. فقال فرعون لهم ، عند جواب موسى إياهم : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)) [الشعراء : ٢٧]. فقال موسى لهم جميعا : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)) [الشعراء : ٢٨]. فدلهم في ذلك كله ، على الله بصنعه وفعله ، ليس منهم من يدل على الله سبحانه بنعت ولا بحلية ، ولا يصفه جل ثناؤه بصورة ولا هيئة ، ولو كان كما قال الضالّون العمون ، الذين لا يعقلون ولا يعلمون ، على ما ذكروا من صورة آدم ، لكانت الصورة من لحم ودم ، ولوصفه (٢) العارفون به وسموه ، بالصورة والهيئة وحلّوه.

وفي مثل ذلك من وصفه بصنعه وخلقه ، وصدق القول عليه فيه وحقه ، ما تقول

__________________

(١) في (ج) : وتبصرة.

(٢) في (ب) و (د) : ولو وصفه. مصحفة.

رسل الله صلى الله عليها ، للأمم التي أرسلها الله إليها ، إذ شكّوا في الله وتحيروا ، ولم يبصروا من الله ما بصروا : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ٦]. فما دل الله جل ثناؤه على نفسه ، ولا دل عليه العارفون به ، بحلية ولا صورة ، ولا بهيئة منعوتة ولا مذكورة ، ولكن دل سبحانه على نفسه ودلت رسله عليه بخلقه وفطرته ، وبما يرى (١) في ذلك من أثر جلاله وكبريائه وقدرته.

فمن لم يكتف بذلك في المعرفة بالله فلا كفي ، ومن لم يشتف ببيان الله فيه فلا شفي ، ففيما بيّن الله من آياته في ذلك ما يقول سبحانه للمؤمنين والذين لا يعلمون ، إذ قالوا : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)) [البقرة : ١١٨]. فنسأل الله أن ينفعنا ببيانه ، وبما نزّل من فرقانه.

ومن البيان في ذلك والنور ، قول داود عليه‌السلام في الزبور : (سبحان الله القدوس الأعلى ، ورتلوا أسماءه الحسنى العلى ، مصطفى إسرائيل الفعال لما يريد من الأشياء ، في البحار والأرض والسماء ، الذي أنشأ برحمته السحاب ، وجعل البرق والرياح الهواب ، وغرّق فرعون وجنوده في البحر ، وأظهر ما أظهر من عجيب آياته بأرض مصر ، وقتل ملوك الجبابرة ملك الموراسر وملك نيسان ، وكل من كان من عتاة ملوك بني كنعان ، وأعطى إسرائيل أرضهم عطية ، وهبها لهم هبة هنية) (٢).

__________________

(١) في (ب) و (د) : نراه.

(٢) نص الزبور هكذا : هللويا. سبحوا اسم الرب ، سبحوا يا عبيد الرب ، الواقفين في بيت الرب ، في ديار بيت إلهنا ، سبحوا الرب لأن الرب صالح ، رنّموا لاسمه لأن ذاك حلو ، لأن الرب قد اختار يعقوب لذاته ، وإسرائيل لخاصته ، لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم ، وربنا فوق جميع الآلهة ، كل ما شاء الرب صنع في السماوات وفي الأرض ، وفي البحار وفي كل اللجج ، المصعد السحاب من أقاصي الأرض ، الصانع بروقا للمطر ، المخرج الريح من خزائنه ، الذي ضرب أبكار مصر من الناس إلى البهائم ، أرسل آيات وعجائب في وسطك يا مصر على فرعون وعلى كل عبيده ، الذي ضرب أمما كثيرة وقتل ملوكا أعزاء ، سيحون ملك الأموريين ، وعوج ملك باشان وكل ممالك كنعان ، وأعطى أرضهم ميراثا ، ميراثا لإسرائيل شعبه. المزمور المائة والخامس والثلاثون. من زبور داود. ما يسمى بالمزامير.

وما في نفي التشبيه عن الله بخلقه (١) في الإنجيل ، فكثير بحمد الله غير قليل ، ولو لا كراهتنا للتكثير في (٢) الكتاب والتطويل ، لذكرنا إن شاء الله بعض ما فسّر في ذلك من الأقاويل.

ثم قوله سبحانه فيما فسر المفسرون من التوراة الذي لا كقول ، والذي هو أصدق الصدق (٣) وأفضل الفضول ، إذ قال لموسى صلى الله عليه ، إذ ناجاه في مصيره إليه ، : (يا موسى إني أنا الله) ، (٤) مرتين اثنتين ، زيادة من الله له في التعريف والتبيين ، (إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب) ، (٥) تعريفا له من وحدانيته وإلهيته بما ليس في شيء منه شرك لمربوب.

فهل تسمع لله سبحانه أو لأحد من رسله من قول ، في وصف لله تعالى بعرض أو طول؟! بل وصف نفسه جل ثناؤه ، ووصفه رسله وأنبياؤه ، بالوحدانية والقدرة والجلال ، لا بحسن (٦) صورة ولا هيئة ولا حلية ولا جمال.

والصورة يا بني فلا تكون أبدا إلا من صانع مصوّر ، وما في الصورة من أثر التقدير والتدبير فلا يكون إلا من مدبّر مقدّر ، فسبحان البارئ المصور الذي ليس بمبروّ ولا مصوّر ، والمقدّر المدبّر الذي ليس بمقدّر ولا مدبّر!! وتعالى (٧) الله رب العالمين ، وأكرم الأكرمين ، عن أن يوصف بصور الآدميين ، أو مشابهة (٨) شيء من المخلوقين ، وكيف يكون الخالق في شيء كخلقه ، والمخلوق في شيء ما كان كخالقه؟! فهذا يا بني ما لا يصح في الألباب ، على إله الآلهة ورب الأرباب.

__________________

(١) في (أ) و (ج) : لخلقه.

(٢) في (ب) : في هذا الكتاب.

(٣) سقط من (أ) : الصدق.

(٤) في القرآن الكريم أيضا : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ) [النمل / ٧]. و (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص / ٣٠].

(٥) وفي القرآن أيضا وصية يعقوب لبنيه إذ سألهم : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة / ١٣١].

(٦) في (ب) و (د) : لا بحسن في صورة.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : وتعالى.

(٨) في (أ) و (ج) : بصور أو يشابهه.

فهل تعرّف الله قط تبارك وتعالى ، إلى أحد من خلقه بحلية من الحلى ، كلا لن يوجد ذلك من الله أبدا ، ولن يعرف الله من عرفه إلا أحدا واحدا ، غير ذي نواح وأطراف ، ولا مختلف في الأوصاف ، بل تدل أوصافه كلها على واحد أحد ، غير معروف بصورة ولا حلية ولا عدد ، ليس له ند يساويه ، ولا ضد يناويه ، يستدل عليه تبارك وتعالى وعلى جلاله ، بدلائل لا يحصيها غيره من صنعه وفعاله ، فهل يعمى ويصم عما يرى ، إلا من لا يسمع بقلب ولا يرى ، فنحمد الله على ما منّ به في ذلك من الهدى ، وعلى ما بصّر برحمته في ذلك من ضلال أهل الهلكة والردى.

[معنى العرش والكرسي]

وبعد فافهم نفعني الله ونفعك ، بما أسمعني من البيان وأسمعك ، مسألتك عن تأويل ما ذكر الله من كرسيه وعرشه ، فما تأويل ذلك عند من يؤمن بالله إلا كتأويل قبضته وبطشه ، وما ذلك كله ، وفرع ذلك وأصله ، إلا ملكه واقتهاره ، وسلطانه واقتداره ، الذي لا شرك لأحد معه فيه ، ولا ملك ولا سلطان لسواه عليه!

ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥]. وتأويل يؤده : هو يثقله ، فهو لا يثقله حفظ ما هو من السماوات والأرض مالك (١) له.

وكذلك تأويل : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣)) [البروج : ١٢ ـ ١٣]. و (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) [الدخان : ١٦]. وليس يتوهم في كبرها ، طول ولا عرض في ذرعها ولا قدرها ، ولا يتوهم أن القبضة والبطش (٢) من الله على ما يعرف من الآدميين ببنان ولا كف ، وكذلك لا يتوهم أن الكرسي والعرش ذو قوائم ووسط وطرف ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)

__________________

(١) سقط من (ب) : مالك.

(٢) في (د) : البسط. مصحفة.

[هود : ٧]. تأويل ذلك : وكان ملكه على الماء ، كما كان عرشه الذي هو ملكه بعد خلقه للسماء على السماء.

وكذلك ذكر أن كرسيه قد (١) وسع السماوات والأرض كلها ، ولم يذكر أنه جعل الكرسي موضعا لها ، بل ذكر أنها كلها فيه ، ولم يذكر أنه هو فيها ، وكان ذلك من الدلالة على أن (٢) الحفظ والملك هو الكرسي بعينه ، لا ما يتوهم (٣) من عمي عن تنزيل الله في ذلك وتبيينه ، وإنما ذكر الله الكرسي والعرش دلالة للعباد بذكرهما ، على ما ذكرنا ـ إن شاء الله ـ من أمرهما.

وإنما فهّم الله جل ثناؤه عباده ، وأبان لهم في كثير مما نزل الله من آياته رشاده ، بما (٤) ضرب لهم في ذلك من الأمثال ، وذكر برحمته من شبه ومثال ، وأمثال الأشياء ومثلها ، وفروع الأشياء وأصولها ، فليست بالأشياء أنفسها ، ولا بأعيان ما مثّل بها ، ولكنها أشباه ونظائر يستدل عليها ، من فكّر بعون الله فيها.

وفيما ذكر الله سبحانه من ضربه للأمثال ، وما فيها للمؤمنين من الهدى والاستدلال ، ما يقول سبحانه : (* إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦)) [البقرة : ٢٦]. ولا يهتدي لذلك إلا من اتقى (٥) ، كما قال تبارك وتعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)) [البقرة : ١ ـ ٢]. فليس يرتاب ـ والحمد لله ـ في الكتاب ، أحد من أهل التقى والألباب ، فالحمد لله رب العالمين كثيرا ، (٦) على ما نوّر لأهل التقى بكتابه من

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : قد.

(٢) سقط من (ب) : أن.

(٣) في (ج) : لا يتوهم.

(٤) في (ب) و (د) : آيات رشاده. وفي (أ) و (ج) و (ه) : مما ضرب.

(٥) في جميع المخطوطات : اتقاه. ولعلها مصحفة والصواب ما أثبت.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : كثيرا.

الهدى تنويرا.

وفيما ضرب سبحانه للناس من الأمثال ، فيما نزل سبحانه من القرآن ، ما يقول تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)) [الزمر : ٢٧]. ويقول سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (٤٣)) [العنكبوت : ٤٣]. وكذلك فقد يجوّز الفكر في الكرسي والعرش ، وما ذكره الله له من القبضة والبطش ، فنفى (١) عنه جل جلاله في قليل ذلك وكثيره ، مشابهة كبير خلقه وصغيره ، كما نفى عنه فيما ذكر من صفاته لنفسه ، مشابهة جن الخلق وإنسه ، كما قال سبحانه : (خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى : ٢٧] ، ولا يمثل في ذلك من خلقه بالمختبرين المبصرين ، وقيل : كبير وقدير (٢) ولا يشبه بكبير الأشياء في الطول والعرض ولا بالمقتدرين ، وكما قال سبحانه : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)) [الواقعة : ٩٦ ، ٧٤ ، الحاقة : ٥٢]. وقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ولا يشبه في العظم ، بعظم جثة ولا جسم ، ولا يمثل في الرحمة (٣) أرحم الراحمين ، بمن كان رحيما من الآدميين ، ومتى ما (٤) توهم ذلك متوهّم واعتقده في الله ، فهو ـ صاغرا ـ من المنكرين لله.

وكذلك صفات الله وأسماؤه كلها الحسنى ، فتعالى فيها كلها عن شبه الخلق في كل معنى.

وكذلك قبضته وبطشه ، وكرسيه وعرشه ، فلا يتوهم عرشه وكرسيه (٥) ذا قوائم وأركان ، ولا يتوهم قبضته وبطشه بكف ذات بنان ، ومتى ما توهم (٦) ذلك متوهم أو اعتقده في الله ، فهو مشرك لا شك بالله ، وبريء من توحيد الله ومعرفته ، إذ أشرك غيره

__________________

(١) في (ب) و (د) : فيفنى.

(٢) في (أ) : كبير قدير.

(٣) في (ب) : رحمة.

(٤) في (ب) و (د) : ومتى وهم ذلك متوهم أو اعتقده.

(٥) في (ب) و (د) : كرسيه وعرشه.

(٦) في (أ) و (ج) : ومن توهم.

في صفته.

وتأويل الكرسي والعرش لرب العالمين ، فغير تأويليهما في الآدميين ، لأن تأويلهما في بني آدم ، وفيما يحاط به لهم فيهما من العلم ، إنما هو مقعد الملك ، وآلة من آلات الملك ، يحمل للملك أو يوضع ، له (١) دعائم ثماني أو أربع. والكرسي والعرش لله فإنما هما (٢) ملك الله وسلطانه ، وتمكّن الله من الأشياء واستمكانه ، وقدرة الله سبحانه وملكه منها لما لم يكن كقدرته وملكه لما قد كان ، وذلك فما لا يصف (٣) به ـ من قال صدقا ـ إلا الله الرحمن ، وكل من اعتقد التشبيه لله بشيء في وهمه ، فقد برئ من الإيمان بالله وحكمه ، وزال عنه اسم التوحيد ، وكان منه أبعد بعيد ، لا تحل له ذبيحة ، ولا موالاة ولا مناكحة.

وفي العرش وما ذكرنا من أمره ، وما قلنا به فيه من التأويل عند ذكره ، وأنه هو القدرة لله والملك ، الذي ليس فيه لغير الله شرك ، ما يقول الله لا شريك له : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)) [المؤمنون : ١١٦]. ويقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)) [التوبة : ١٢٩] ، وتأويل ـ إن شاء الله ـ ذلك الصحيح المستقيم ، إذ (٤) هو العرش العظيم الكريم ، فإنما هو كرم ملك الله وعظمه ، لا طول العرش ولا عرضه ولا ضخمه ، وما في عظمه لو كان كما قالوا وطوله وعرضه ، ما يكون به وإن عظم واتسع أعظم ولا أوسع من سماء الله وأرضه ، ولو كان ذلك ، كما قالوا كذلك ، لكان عظمه في الإكبار والإجلال ، دون عظم السماء والأرض والجبال.

وإني لأحسب ـ والله أعلم ـ أن الهدهد حين أنبأ ، بعظم عرش ملكة سبأ ، ما أراد بالعرش وذكره ، إلا عظم ملكها وكبر قدره ، ألا تسمع قوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بها له دعائم.

(٢) في (أ) : هو.

(٣) في (أ) : فيما لا يصف. وفي (ب) و (د) : فما لا يوصف.

(٤) في (ب) : أنه.

يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)) [النمل: ٢٢ ـ ٢٣]. فذكر ملكها لهم وما أوتيت وهو ما أعطيت من كل شيء ثم قال : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ، وهذا إن كان إياه أراد كما قلنا فهو الإكبار لها والتعظيم ، وإلا فما عظم عرشها أو سريرها ، من التعظيم لها أو لأمرها ، ومن (١) الكبر لقدرها.

وقوله سبحانه : (ذُو الْعَرْشِ) [غافر : ١٥ ، البروج : ١٥]. فتأويله : ذو الملك لا يتوهم ذلك كرسي منصوب ، لقوائمه في جوانبه ثقوب. ومثل ما ذكرنا في العرش من التمثيل للعباد بما يعرفون ، لا على ما يعلمون من خواص أحوالهم ويوقنون ، مما جل تبارك وتعالى عن مماثلتهم فيه ، أو أن يقع شيء من حقائق صفاتهم به عليه ، ما يقول سبحانه : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥]. وذلك فمقام الحكم في يوم القيامة والبعث وموقف الجزاء ، ثمّ من الله والقضاء ، بدائم السخطة منه والارتضاء.

وفي ذلك أيضا ومثله ، من موقف حكمه وفصله ، ما يقول سبحانه : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)) [الحاقة : ١٧ ـ ١٨]. وذلك فيوم العرض للعباد على المليك ، العلي الذي علا وتقدس عن مشاركة كل شريك ، يمثل ذلك سبحانه لهم بما قد رأوا ، وعرفوا وأبصروا ، من ملوك الدنيا إذا عرضوا ، فحكموا وقضوا ، كيف تنصب لهم يوم ذلك عروشهم وكراسيهم ، للقضاء في أهل مملكتهم ومن تحت أيديهم.

وكل ما أمكن في العرش والكرسي من التمثيل ، فقد يمكن ـ والحمد لله ـ في حملة العرش مثله من التأويل ، وكذلك فقد يكون ذكر الله العرش وحملته من التمثيل ، في موقف الحكم والقضاء والتفصيل ، على ما قد رأوا من ملوك الدنيا (٢) وعرفوا ، لا على ما قال الجاهلون بالله ووصفوا. وكما جاز ذكر العرش للقضاء والفصل ، فقد يجوز مثله فيما ذكر للعرش من الحمل ، ولا تقبل العقول ، أن الله محمول ، كما يعرف

__________________

(١) في (ب) و (د) : أو من.

(٢) في (ب) و (د) : الدنيا في الدنيا.

من حمل شيء ، على سرير أو عرش أو كرسي!! ومن قال بذلك واعتقده (١) فهو بالله من الجاهلين ، وعن المعرفة لله من الضالّين.

وكيف يتوهم من رفع تبارك وتعالى السماوات بغير عمد ، وأمسكها وأقامها في الأهوية بغير علق (٢) ولا سند ، كما قال سبحانه : (* إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٤١]. وقال تبارك وتعالى: (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) [الرعد : ٢] ، ثم قال جل ثناؤه (تَرَوْنَها) ، يعني سبحانه تعاينونها وتبصرونها ، غير معمودة من تحتها بعمد ، ولو كانت كذلك لرأى ذلك من أهل الأرض كل أحد ، فكيف يكون من حملها سبحانه محمولا ، أو يكون ذلك عليه في القول مقبولا؟!

وما ذكر (٣) سبحانه من العرش والكرسي ، وبعده في ذكرهما من مشابهة كل شيء ، إلا كما (٤) ذكر سبحانه من إمساكه وإقامته ، لما ذكر من أرضه وسماواته ، لا يتوهم إمساكه لذلك ببنان ولا كف قابضة ، تقدس في ذلك عن كل صفة محدثة عارضة ، ولئن لم يتأولوا العرش لرب العالمين ، إلا على ما رأوا من عروش الآدميين ، ما لهم أن يتأولوا رفع السماوات والأرض إلا على مثال ما يعرفون ، من الآدميين ويتوهمون.

وكذلك يلزمهم أن يتوهموا صنع الله جل ثناؤه لما صنع ، كصنع من خلق الله من الآدميين وابتدع ، فيشبهون الله تعالى بالخلق ، ويقولون عليه بغير الصدق ، فيبين بإذن الله أمرهم ، ويظهر بالله كفرهم ، ولا يخفى شركهم ولا يستتر ، ولا يتوارى عند من عرف الله ولا يستسرّ ، فنستجير بالله من العمى والضلالة ، ومن الحيرة عن الله والجهالة.

وما الذي ذكر الله سبحانه في التمثيل من عرشه وحمله ، إلا كما ذكر الله من حبله ، إذ يقول تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) [آل عمران : ١٠٣] ، و (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : أو اعتقده.

(٢) العلق : الحبال.

(٣) في (ب) و (د) : ذكره.

(٤) في (أ) و (ج) و (د) : لا كما. وفي (ب) : شيء كما.

فهل يتوهم ذلك حبل مسد ، (١) أو حبلا من سواه يحصد (٢).

ومثل ذلك قوله سبحانه : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦]. فهل يتوهم أو يرى ، أن ذلك عروة من العرى ، التي تكون من شعر ، أو ليف أو لحاء من شجر ، قد أمرّ (٣) ذلك وعقد ، بما يعرف له من المرّة والعقد ، فلا يتوهم ذلك ـ والحمد لله ـ ولا يراه ، أحد من خلق الله رأيناه ولا علمناه.

و [ما] ما ذكر الله من العرش والكرسي وحمّاله ، إلا مثل ضربه الله من أمثاله ، فرحم الله عبدا فهم عن الله وحقّه ، فنفى عنه شبه جميع خلقه ، ولئن لزم الكرسي والعرش أن يكونا كالكراسي والأسرة المنصوبة ، ليلزمنّ مثل ذلك في تأويل رفيع الدرجات فتكون الدرجات عتبة بعد عتبة ، وذلك فما لا يتوهمه (٤) صحيح سوي ، ولا ضعيف في العلم ولا قوي. وما ما يسمع من هذا ومثله إلا أمثال مضروبة ، فهي والله المستعان في قلوب الجاهلين بالله محرفة مقلوبة ، فهم فيها ـ والحمد لله ـ لا يعقلون ولا يعلمون ، كما قال الله سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (٤٣)) [العنكبوت : ٤٣].

وفي ذكر التمثيل والأمثال ، ما يقول الله ذو العزة والتعال : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦]. فذكر الإتيان وليس يتوهم إتيان الله إتيان مجيء ، ولا يتوهم ما ذكر (٥) من البنيان [أنه] بنيان مبني ، ولا يتوهم السقف الذي ذكره الله سقفا مرفوعا ، ولا قواعد بنيانهم التي هي أساسه (٦) أساسا موضوعا ، من حجر ، ولا طين ولا مدر ، ولكنه مثل وتمثيل

__________________

(١) المسد : الليف.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) : محصد.

(٣) في (ب) و (د) : في الشعر. واللحاء : قشر الشجر. وأمرّ : شدّ. يقال : أمرّ بعيره ، إذا شده.

(٤) في (أ) و (ج) : فما لا يتوهم. وفي (ب) : فلا يتوهم. وفي (د) : فلا يتوهمه. ولفقت النص من الجميع.

(٥) في (ب) و (د) : ما ذكر الله من.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : أساسه.

صادق ، مثّله العزيز الصادق (١) الخالق ، الذي أصدق الأقوال أقواله ، وأصح (٢) الأمثال أمثاله. وكذلك فقد يمكن ما قلنا وفسرنا ، في الكرسي والعرش على ما مثّلنا وذكرنا.

ولفي التمثيل لهم بما (٣) يعرفون من الأمثال ، ما يقول في كتابه ذو الكبرياء والجلال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧]. فلا يتوهم ختم بخاتم ولا طين ، ولا يتأوله كذلك من يفرق بين لبس وتبيين.

ومثل ذلك قوله سبحانه : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام : ٢٥]. ولا يتوهم أحد وإن جهل وجفا ، الأكنة أغطية وغلفا.

وكذلك قوله ، جل جلاله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء : ٢٤] ، و (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص : ٣٢] ، فهل يتوهم الجناح في ذلك كله كجناح طائر ، إلا كل أحمق من السامعين عم حائر. وما في هذا ومثله من الأمثال ، فيكثر عن أن نذكره في مقال ، فنعوذ بالله من العمى والحيرة ، ونستمتعه بما وهبه من الهدى والبصيرة ، فإنا في دهر عم تمكن فيه الجهلة العمون ، فقالوا على الله تبارك وتعالى بما لا يعلمون ، وخرجوا بمقالتهم (٤) في الله من حقيقة توحيد الله وهم لا يشعرون.

فإن قال قائل : فما وجه التسمية ، في الحمل للعرش لعدة (ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] ، وما تأويل (فَوْقِهِمْ)؟

قيل : أما فوقهم ، فهو على (٥) الحمال ورءوسهم ، وأما ثمانية فإني أحسب ـ والله أعلم ـ أن أكرم ما كان يعرف الأولون عندهم من العروش (٦) والكراسي ، التي كانت تتخذ فيما خلا لملوك الأمم في الزمان الماضي ، ما كان من العروش ذا ثماني قوائم في

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : الصادق.

(٢) في (ب) و (د) : وأصلح.

(٣) في (د) : ما. وسقط من (ب).

(٤) في (ب) و (د) : بمقالهم.

(٥) في (ب) و (د) : أعلا.

(٦) في (ب) و (د) : أن كان أكرم ما كان يعرف الأوان عندهم من العرش.

كل ركن منه قائمتان ، فتلك قوائم حينئذ ثمان ، قائمتان في كل طرف من الطرفين ، وقائمتان في كل جانب من الجانبين.

ولما كان ـ عند الأولين حمل ثمانية حمّال ، عرش (١) كل ملك ذي قدرة في المملكة والجلال ، أكبر في التعظيم والإجلال ، عند الحمّال وعند غيرهم من أهل المملكة ، ومن وصل إليه ذلك من الجبابرة المتملكة ، أن يكون عرش الملك محمولا على الرءوس ، وكان ذلك أجلّ للملك (٢) في النفوس ـ كانت كل قائمة من قوائم عرش الملك إذا حمل العرش محمولة على رأس حامل واحد ، فتلك (٣) ـ يا بني هداني الله وإياك ـ حينئذ ثمانية سواء في العدد ، فهذا والله أعلم عندي (٤) وجه التسمية ، لما سمي في الحمل للعرش من الثمانية.

وإنما ضرب الله للعباد الأمثال بما يعرفون من الأشياء ، على قدر ما قد رأوا منها في الدنيا ، التي لم يروا قط شيئا إلا فيها ، ففهمهم (٥) الأمثال بها وعليها ، وبالله ـ لا شريك له ـ نستعين على ما أبان وبيّن من قصص آياته وأحاديثها ، وقديم دلائله وحديثها.

ومن ذلك يا بني الأمثال التي مثّلها ، وفصّلها تبارك وتعالى في كتابه ونزّلها ، ما يقول سبحانه : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩)) [القيامة : ٢٩]. لا يتوهم الساق ساق رجل ، أحد ممن له أدنى عقل.

وقال سبحانه : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨)) [المدثر : ٨] ، ولا يتوهم أحد ذلك كالناقور المنقور.

وكذلك قوله جل ذكره : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف : ٩٩ ، يس : ٥١ ، الزمر: ٦٨ ، ق : ٢٠].

__________________

(١) في (ب) : عرش ملك. وفي (ج) : عرش كل مملكة.

(٢) في (ب) و (د) : للملوك.

(٣) في (ب) : فبذلك. مصحفة.

(٤) سقط من (ج) و (د) : عندي.

(٥) في (أ) : نفهمهم. وفي (ب) : فهمهم.

ولا يتوهم بوقا ولا قرنا من القرون ، إلا كل مختل (١) من الناس مجنون.

ومثل ذلك قوله : (عَلى شَفا جُرُفٍ) [التوبة : ١٠٩] ، ولا يتوهمه (٢) جرفا من الجرفة ، إلا من لم يهبه الله في ذلك شيئا من الهدى والمعرفة ، وإنما الجرف من الأرض المعروف ، جانب الوادي أو ما كان من الأرض له حروف.

وفي مثل ذلك من الأمثال ، ما تقوله قريش للرسول عليه‌السلام : (قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥]. ولا يتوهم الأكنة أغطية ولا لبسا ، ولا يتوهم الوقر صمما ولا ما ذكره الله من بكم الكفار خرسا ، إذ يقول سبحانه : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)) [البقرة : ١٨]. ولا الحجاب سترا مضروبا ، ولا بنيانا من الأبنية منصوبا.

وفيما ضرب الله من الأمثال ما يقول سبحانه : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤]. ولا يتوهم ذلك أقفالا من حديد ، إلا كل أخرق (٣) أحمق بليد.

وما في هذا من الأمثال والبيان ، فيما جعل الله للعرب من اللسان ، فيكثر عن الاستقصاء ، والتعديد له والاحصاء ، لا يلتبس (٤) ـ والله محمود ـ على من يعقل وإن لبّس وغطّي ، ولا يخفى مخرجه وبيانه إلا على (٥) من ضلّ وعمي ، فنعوذ بالله من العمى والضلال ، عما ضرب الله ـ برحمته ـ لنا من الأمثال. فكم من جاهل حائر قد عمي!!

يرى أنه في (٦) جهله قد هدي ، أو سامري يقول لا مساس ، لا يعرف البيان ولا الالتباس ، كالبهائم الغافلة المهملة ، التي لا تفرق بين هادية من الأمور ولا مضلة ، فهم كما قال الله سبحانه لقوم يعقلون : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : مختبل.

(٢) في (ب) : يتوهم.

(٣) الأخرق : الجاهل.

(٤) في (ب) : إلا تلبيس.

(٥) سقط من (ب) : على.

(٦) في (ج) : من جهله.

قلت : فما تأويل : (حَافِّينَ) [الزمر : ٧٥]؟!

فقال : ما حافّون في التأويل إلا كالكرسي والعرش وحملته في التمثيل ، والملائكة ـ يا بني ـ فحافّون يومئذ بمقام الحكم والتفصيل ، كما قد عرف أهل الدنيا ، أن الملك منهم إذا حكم وقضى ، أحف بعرشه الذي هو الكرسي يوم يحكم ويقضي ، من يختار من أهل مملكته ويرتضي ، فمثّل سبحانه لهم مقام حكمه وفصله ، بما قد (١) عرفوا في الدنيا من مثله ، وليس يتوهم من يعقل العرش والكرسيّ سريرا محمولا ، ولا منبرا منصوبا معمولا.

ومثل ذلك مما يعرف الناس من الأمثال في أمورهم ، قوله سبحانه : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] ، فذكر سبحانه ما ذكر في هذا الذكر من الأوزار والحمل ، ولا يتوهم ذلك من له أدنى عقل ، حملا كحمل الأحمال ، على ما يعرف من ظهور الجمال ، ولا كعبء محمول ، ولا كور (٢) منقول ، وإنما هو مثل من الأمثال معقول ، تعرفه الألباب والعقول ، وقد علم الناس أن كل عبء أو وزر ، إنما يحمل على عنق أو ظهر.

وكذلك قوله سبحانه : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) [الكهف : ٢٩] ، ولا يتوهم السرادق (٣) كما يعرف في الدنيا من السرادقات ، ذوات الأوتاد والأطناب والرواقات ، (٤) إلا جاهل عمي ، أحمق بهميّ.

وكذلك لا يتوهم قول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] ، فلا يتوهم أحد له لبّ أن ما ذكر الله من ذلك منهم وفيهم ، على أن لله يدا ذات بنان مصافحة للمبايع رسوله ، (٥) صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : قد.

(٢) الكور : الرّحل.

(٣) السرادق : ما أحاط بالبناء.

(٤) الرواق : فسطاط أو سقف في مقدم البيت.

(٥) في (ب) و (د) : لمبايع رسول الله.

ولا يتوهم قوله سبحانه : (قاتَلَهُمُ اللهُ) [التوبة : ٣٠ ، المنافقون : ٤]. على ما يعرف من المقاتلة ، التي تكون بين المقتتلين (١) عند المواثبة والمصاولة.

ولا يتوهم قوله سبحانه : (* إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١]. ولا قوله : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) [التوبة / ١١١] ، ولا ما جرى في البيع والشراء (٢) من هذا ومثله ، على ما يعرف من المتبايعين ، والمشترين والبائعين ، في (٣) معاني المبايعة ، والشراء والمساومة ، كيف (٤) يكون ذلك وما اشترى سبحانه منهم من أنفسهم وأموالهم ، فهو له تبارك وتعالى لا لهم ، فهل يعرف أن مشتريا يشتري ما هو له؟! إلا الله ـ بكرمه ـ جل جلاله!!

وكذلك لا يتوهم قوله سبحانه لنوح صلى الله عليه : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [هود : ٣٧]. ولا قوله : (خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١]. على أن لله تبارك وتعالى أعينا. ولا أيديا كثيرة ، ولا كما تعرف الأعين كبيرة ولا صغيرة ، وأيدي ذوي (٥) الأيدي كلهم من الآدميين طويلة أو قصيرة ، ولا يعرف الناس الأعين والأيدي إلا ما كان كبيرا ، ولا أن شيئا من الأيدي يكون أبدا (٦) إلا طويلا أو قصيرا ، ولا يعرف الناس أجمعون ، فيما رأوا ولا فيما يصفون ، أن شيئا من ذلك ، يكون أبدا إلا كذلك ، ولكنها أمثال مثلها تبارك وتعالى لعباده بما يعرفون ، ليس في شيء منها تشبيه لله بما يقول الجهلة بالله ويصفون.

والإحفاف يا بني فهو الإحاطة ، والإحاطة فهي الإحداق (٧) والإدارة ، وفي إحاطة

__________________

(١) في (ب) و (د) : المتقاتلين.

(٢) في (ب) و (د) : في الشراء والبيع.

(٣) في (د) : من. وسقط من (ب).

(٤) في (ب) و (د) : فكيف.

(٥) في (ب) و (د) : دون. مصحفة.

(٦) سقط من (ب) : يكون أبدا.

(٧) الإحداق : الاستدارة.

الله بالأشياء كلها ، من أواخر الأشياء وأوائلها ، ما يقول سبحانه : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [فصلت : ٥٤]. (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠)) [البروج : ٢٠]. والمحيط من الأشياء بما يحيط به ، فهو المحفّ المحدق بجميعه ، المدير بكل ناحية من نواحيه ، من جوانبه كلها ومن خلفه ومن بين يديه ، ولا يتوهم إحاطة الله ـ تعالى ذكره ـ بالأشياء كذلك ، والعرش والكرسي وحمله والإحفاف به فمثل ذلك ، ولا يتوهم (١) كما يعاين ويرى ، من أمور أهل هذه الدنيا ، وإنما إحاطة الله بالأشياء قدرته عليها ، (٢) وسلطانه جل ثناؤه فيها ، لا يتوهم ذلك من الله العزيز الخلاق ، كما تعرف به الأشياء من الإحفاف والإحداق ، الذي يكون من الأشياء ، ويرى من أهل هذه الدنيا ، تقدس الله وتعالى ، عن (٣) أن يكون شيء له مثالا.

وكذلك قوله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف : ١٤٣] ، (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)) [الفجر : ٢٢]. فلا يتوهم في ذلك كلامه ، من قرّر في قلبه توحيده وإعظامه ، ككلام (٤) الإنسان ، بشفتين ولسان ، ولا يتوهم ـ تجلّيه للجبل كتجلّي ما نرى ، من تجلّى أهل هذه الدنيا ، إلا من لم يكن به تباركت أسماؤه وتعالى عارفا ، ولا له بما وصف به نفسه من الوحدانية واصفا ، ولا يتوهم مجيئه مجيء غائب ، ولا كمجيء ماش ولا راكب ـ إلا من لم يكن مؤمنا ، ولا بوحدانيته ولا بربوبيته موقنا.

وكذلك فينبغي لمن علم أو جهل ، أن يتوهم الكرسي والعرش والإحفاف والحمل ، على خلاف ما يعرف من الأشياء كلها ، لفرق ما بين الأشياء وجاعلها ، في كل صفة ومعنى من معانيها ، وكلما يعرفه عارف فيها. وبذلك ـ والله محمود ـ بان توحيده ، ووجب على العباد تمجيده ، ومن التبس عليه ذلك التبس عليه التوحيد ، ولم

__________________

(١) في (ب) و (د) : لا يتوهم.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : عليها.

(٣) في (أ) و (ج) : من.

(٤) في (أ) و (ج) : كلام.

يصح منه لله جل جلاله (١) تمجيد ، وكان بالله سبحانه جاهلا ، وفي ادعائه لتوحيد الله مبطلا.

ومما ضرب الله سبحانه في كتابه من الأمثال ، قوله سبحانه : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) [آل عمران : ١٠٣] ، ولا يعرف أحد الحفرة ، إلا محفورة منقعرة ، وقد جاز في ذلك ما نزل الله سبحانه من المثل ، وقد يجوز مثل ذلك في الكرسي والعرش والإحفاف والحمل ، لا يأبى ذلك ـ إن شاء الله ـ ولا يجهله ، من يعرف لسان العرب ولا من يعقله ، وقد تدعا من الحفرة شفا ، وما كان منها ولها حرفا ، وعليها من فمها (٢) مشرفا ، فهل كان من المؤمنين الأتقياء البررة؟! أحد على فم ما ذكرنا من هذه الحفرة!!!

وكذلك قوله سبحانه : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤)) [الكهف : ١٤]. ولا يتوهّم ـ والحمد لله شيئا (٣) من ذلك كله عقدا ولا ربطا ، مربوطة ولا معقودة ، مقصرة ولا ممدودة ، ولا يتوهم منها رباطا واحدا ، ـ إلا من لم يهبه الله في ذلك هداية ولا رشدا ، وما من هذا في القرآن ، وفيما للعرب من اللسان ، فيكثر عن أن نذكره كله ، والحمد لله لا شريك له ، ولو لا كراهتنا للتكثير (٤) والتطويل ، لذكرنا بعض ما قالت العرب في ذلك من الأقاويل ، وسنذكر إن شاء الله بعض ما نزل الله سبحانه في ذلك تنزيلا ، وبعض ما قالت العرب في الجاهلية والإسلام تمثيلا.

فمن أمثال الله سبحانه في ذلك البينة النّيرة ، وأقواله جل ثناؤه المقوّية فيه للعلم والبصيرة ، قوله : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الأحزاب : ٤٣ ، الحديد : ٩]. وليس يتوهم الظلمات ليلا أسود ولا مثله ، إلا من لا عقل له ، ولا يتوهم ما ذكر الله من النور شمسا ولا قمرا ، إلا من لم يجعل الله له لبا ولا فكرا.

__________________

(١) في (ب) و (د) : ذكره.

(٢) في (ب) و (د) : فيها.

(٣) سقط من (أ) : شيئا.

(٤) في (ج) : للكثرة.

ومن ذلك قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]. ولا يتوهم الروح كأرواح البشر ، إلا من لم يعمر الله قلبه بضياء ولا بصر.

ومما ضرب الله من الأمثال ، وما يفهم بها وفيها من المقال ، قوله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)) [الشورى : ٢٠]. فدعا تبارك وتعالى ذلك كله حرثا وسمّاه ، ولم يرد بذلك سبحانه الحرث الذي نعرفه نحن ونراه ، من حرث الأرض الذي لا يكون حرثا عند من لا يعقل سواه ، وقد عرفنا بمنّ الله ما أراد بذلك (١) وعناه.

وكذلك الكرسي والعرش والحمل فقد علمنا ، أنه ليس يشبهه بما يفنى ، وأن لله في ذلك كله الأسماء الحسنى ، والمباينة للخلق من المشابهة له في كل معنى.

ومن الأمثال أيضا التي لا تخفى ، إلا على من جهل من الناس وجفا ، قوله سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥]. وإنما معنى الميزان : معنى القضاء (٢) والفصل ، وما حكم به بين عباده من العدل.

ومثل ذلك يقول أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)) [الأنبياء : ٤٧]. ولا يتوهم الموازين ذات كفف ، ولا الوزن (٣) وزنا بالأيدي والأكف ، إلا كل بائر ، عم جائر ، وكلما ذكر الله من ذلك (٤) فبيّن والحمد لله معروف ، لا يعمى عنه ولا يعتسف العلم فيه إلا عسوف (٥).

ومن الأمثال التي لم تزل تمثلها العرب حديثا وقديما ، لا يجهل ما تريد بها إلا من كان من معرفة لسانها عديما ، قول زهير بن أبي سلمى ، في الجاهلية الجهلاء :

__________________

(١) في (أ) : من ذلك.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : وإنما معنى الميزان. وفي (ب) و (د) : معنى للقضاء.

(٣) في (ب) : والوزن.

(٤) في (أ) و (ج) : ذكرنا الله من هذا من ذلك. مصحفة.

(٥) في (ج) : ولا يعسف. والعسوف : المائل عن العدل.

 ..................................

ما عضنى الدهر إلا زادني كرما (١)

ولا يتوهم العض إلا لما كان فما.

وقالت الخنساء :

تعرّقني الدهر نهشا وحزا

وأوجعني الدهر قرعا وغمزا (٢)

ولم ترد خنساء أنه ينهش بفم ولا ناب ، ولا يتوهم ذلك أحد من الحمقاء فضلا عن ذوي الألباب ، ولا يتوهم الحز ولا الغمز بكف ذات أصابع ، ولا القرع بقرع من مقارع.

وقالت هند بنت عتبة (٣) ترثي أباها :

وكان لنا جبلا راسيا

طويل المزاد كثير العشب (٤)

وقال بعض الشعراء بعد الإسلام :

معن بن زائدة الذي زيدت به

شرفا على شرف بنو شيبان

جبل تلوذ به نزار كلها

صعب الذرى متمنع الأركان (٥)

وقد علم أنه ليس أحد من الرجال ، بجبل مما يعرف من الجبال ، ولما جعلوه جبلا وصفوه بما يمكن من صفة الجبل في العشب والمرعى ، وتمنّع الأركان وصعوبة الذرى ، وجاز ذلك كله عندهم في المثل ، وكذلك فقد يمكن مثل ذلك في العرش وما ذكر من الحملة له والحمل.

وفي ضرب الأمثال ، وما يجوز منها في المقال ، ما يقول امرؤ القيس بن حجر :

أميمة إن الدهر في وثباته

أصاب جيادا نابه ومخالبه (٦)

__________________

(١) لم أقف عليه في ديوانه.

(٢) هذا البيت مطلع قصيدة للخنساء. انظر ديوانها.

(٣) في (ب) و (د) : وقد قالت.

(٤) لم أقف عليه.

(٥) أقف عليهما ولا على قائلهما.

(٦) لم أقف عليه.

وليس أحد عقل أو لم يعقل من الناس ، يتوهم أن الدهر ذو مخالب ولا أنياب ولا أضراس.

وقال ابن ميادة :

فإن يك ظني صادقى وهو صادقى

بعبس يكن بالمشرفي عتابها

ويحتلبوها أم سقبين لاقحا

عنيفا بأيدي الحالبين احتلابها (٢)

يريد بقوله الحرب ، وقد علم أن كل حرب ليست تلقح بسقبين ولا سقب ، ولا بذات درّ ولا حلب. والسقب فهو ولدها إذا كان صغيرا ، والحلب فهو لبنها قليلا كان أو كثيرا ، وقد علم أن هذا كله لا يتوهم فيها ولا عليها ، وقد جاز أن ينسب كما ترى في الأمثال إليها.

وكذلك قال النميري :

وحرب قد حلبناها صراها

وحرب قد حلبناها علالا

إذا لبست عوان الحرب جلّا

كشفنا عن مشاعرها الجلالا (٣)

والمشاعر : هي القوائم. والصرا : هو جمع اللبن في الضرع حينين ، والعلال : فهو حلب (٤) اللبن في كل حين.

وقد قال زهير في الحرب :

فتعرككم عرك الرحا بثفالها

وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم

فتنتج لكم غلمان أشأم كله

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم (٥)

__________________

(٢) لم أقف عليه.

(٣) لم أقف عليه.

(٤) في (أ) : حلاب.

(٥) البيتان من معلقة زهير إحدى المعلقات السبع.

وقد علم أن الحرب لا تلقح ولا تتأم ، (١) ولا تنتج ولا ترضع ولا تفطم ، وقد جاز ما قال (٢) كله في الأمثال ، وكان القول به عند العرب من أصح المقال.

وفي مثل ذلك من المثل ، ما يقول :

وهم حملوا المئين فلم تؤدهم

 ............................ (٣)

ولا يعرف الحمل ، المحمول (٤) إلا كما يحمل الحاملون.

وقال زهير أيضا :

وما إن بيتهم إن عد بيت

فطال السمك واتسع البناء

فأما أسه فعلا قديما

على الأحساب إذ رفع النماء (٥)

ولم يرد ببيتهم بيتا من مدر ولا شعر ، ولا بأسه أسّا من صخر ولا حجر.

وقال ابن ميادة :

لنا قبة في المجد خضراء ضخمة

تبذ القباب ذات موج وساحل

لنا راية فوق السماء كأنها

زبيبة وكر روّقت فوق حامل (٦)

وليس يتوهم ما ذكر من القبة قبّة (٧) ذوات عوارض مشبكة ، (٨) ولا أنها قبة مصبوغة بخضرة ولا ملككة (٩). فيا ويل من شبه الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه (١٠)

__________________

(١) في (ب) و (د) : تتئم.

(٢) في (أ) و (ج) : ما كان كله.

(٣) في (أ) : الميان فلم يأدهم جمالاتها. وفي (ج) : فلم يأدهم حمالتها. وفي (د) : حملوا المئين فلم تؤدهم حمالتها.

(٤) في (ب) و (د) : لمحمول.

(٥) لم أقف عليه.

(٦) لم أقف عليه.

(٧) في (ب) و (د) : فيه. مصحفة.

(٨) في (ب) و (د) : مسبلة. مصحفة.

(٩) في (ب) و (د) : بملككة.

(١٠) في (ب) و (د) : بالقدس.

أسماؤه ، في ذاته ومعرفته ، أو في شيء من صفته ، من كرسي أو عرش ، أو أخذ (٢) أو بطش ، بخلقه المفتطر المجعول ، من محمول أو غير محمول ، وجل الله سبحانه عن أن يقع عليه بذلك قول ، أو تعتقد مشابهته في شيء من ذلك كله العقول.

وقد قال أيضا ابن ميادة :

هم الهامة العلياء والذروة التي

تقصر عنها سطوة المتطاول (٣)

وقد علم أن هذا مثل لا يجهله إلا كل عميّ جاهل.

وسألت : أبي رحمة الله عليه عن تأويل (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ١]. و (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢٠٣]. و (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام : ١٥٨]؟

فقال : تأويل ذلك كله مجيء آيات الله وحكمه ، وإتيان أمر الله من رحمته أو نقمه(٤).

ومثل ذلك في المجيء قوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) [الأعراف : ٥٢].

وفي الإتيان قوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦]. ولا يتوهم مجيء الله وإتيانه ، (٥) جل جلاله وتعالى شأنه ، مجيئا من مكان إلى مكان ، ولا إتيان رؤية ولا عيان ، ومن قال ذلك أو ظنه فثبته في نفسه ، خرج بذلك صاغرا من توحيد ربه ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على محمد وأهله وسلم تسليما.

وسألته : عن تأويل قول الله جل جلاله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الفرقان : ٥٩ ، السجدة : ٤]. ما وجه

__________________

(٢) سقط من (أ) : أخذ.

(٣) لم أقف عليه.

(٤) في (ب) و (د) : في رحمته. وفي جميع المخطوطات : أو نقمته. وما أثبت اجتهاد لأنه أوفق لكلام الإمام ، أو أن تكون العبارة هكذا : آيات الله وحكمته ، وإتيان أمر الله من رحمته ونقمته.

(٥) في (ب) : وآياته. مصحفة.

استوى؟ وما معناه (١)؟

فقال : تأويله : ملكه للأشياء وارتفاعه عليها واعتلاه ، (٢) كما يقول القائل : استوى فلان على ملك فلان فاستوى ، (٣) يريد ملك ما كان يملك فلان كله سواء.

وكذلك يقول إذا ملك ملكه قعد على عرش فلان وجلس ، وليس يريد (٤) أن عرشه مقعد له ولا مجلس ، وقد يكون العرش لكل شيء سقفه وأعلاه ، كما جعل الله أعلا ما خلق من السماوات منتهاه ، فأي هذا كله قال به (٥) في مثل استوى على العرش قائل ، لم يخط في تأويله به قائل ولا متأول.

فأما ما يذهب إليه الجاهل ، من أن العرش لله مقعد وحامل ، تحيط به أقطاره ، وتحويه أقداره ، (٦) فلا يجوز في الألباب ، تأويله على رب الأرباب ، ومن تأوّل ذلك في الله ، فهو من الجاهلين بالله ، فنعوذ بالله من الجهل به وبجلاله ، ومن القول بذلك فيه وأمثاله ، وحسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.

وإذا كان العرش كما قال الله مربوبا وكان الله له ربا مبتدعا ، لم يخل من أن يكون لله خلقا وصنعا ، وإذا كان ذلك كذلك ، وعلى ما يقول الجهلة في ذلك ، كان الله قبله ، وكان الله إذا لم يكن العرش قديما ولا عرش له ، فدخل عليهم في ذلك ما أخزاهم ، وبيّن جهلهم فيه وعماهم ، وأظهر كذبهم فيه وافتراهم ، وقلة رشدهم فيه وهداهم. والحمد لله رب العالمين على ما بيّن من عماية العمين ، وتولى من هداية المهتدين.

وفي مثل ذلك من الأمثال ، وما يراد به غيره من المقال ، ما يقول الأول :

__________________

(١) في (ب) و (د) : ومعناه.

(٢) في المخطوطات : واعتلاؤه. ولعلها كما أثبت ، لتوافق السجعة التي قبلها في قوله : (وما معناه).

(٣) في (أ) و (ج) : واستوى.

(٤) في (ب) : تريد أن عرشه مقعد له ومجلس.

(٥) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : قال به ثم استوى.

(٦) في (ب) و (د) : وتحتويه اقتداره.

وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا

وتترك أخرى مرّة ما (١) (٢)

وقد يعلم (٣) أن المنايا لا تستحلى ولا تستمر ، وأن النفوس لا تحلو في ذوق ولا تمرّ.

وقوله :

وشيّب رأسي قبل حين مشيبه

رعود المنايا فوقه وبروقها (٤)

وقد يعلم أن المنايا لا ترعد ولا تبرق ، ولا يتوهم ذلك إلا كل أخرق وأحمق ، وأن الرعود والبروق إنما تكون بالسحاب ، إلا أن مقاله في ذلك مثل يجوز في التبيين والإعراب.

وكذلك قوله :

لنا نبعة كانت تقينا فروعها

فقد ذهبت إلا قليلا عروقها (٥)

والنبعة شجرة صلبة يمانية ، يعمل من قضبانها هذه القسي العربية ، وقد علم كل صحيح العقل ذي سمع ، أنه لم يرد بقوله هذا نبعة من شجر النبع.

ومثل ذلك قول الحطيئة في آل لأي من طيئ وهو يمدحهم :

هل لي ذنب بأن أعيت معاولكم

من آل لأي صفاة أصلها راسى (٦)

ولا يتوهم أحد أنها صفاة من الصفيّ ، إلا كل جلف من الناس جافي ، ولا يتوهم (٧) معاولهم من حديد ، إلا كل أحمق من الخلق بليد ، وقد علم من نوّر الله قلبه ،

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) في (ب) و (د) : لا تذوقها.

(٣) في (أ) : علم.

(٤) لم أقف عليه.

(٥) لم أقف عليه.

(٦) ورد هذا البيت في ديوان الحطيئة ، بلفظ : ما كان ذنبي. من قصيدة مكونة من تسعة عشر بيتا ، انظر ديوانه.

(٧) في (ب) و (د) : فلا.

وعرف الله ربه ، أن العرش والكرسي ليسا مما ذهب إليه المشبهون لله بما صنع ، وبعض ما خلق من خلقه وابتدع ، سبحانه وتعالى عن ذلك ، وعن أن يكون كذلك ، وهل يمكن في وهم أو حقيقة حق ، أن يكون الخالق أبدا كشيء من الخلق؟! أو لم يسمع من توهم ذلك أو ظنه ، قاتله الله ما أضل وهمه وظنه ، قول الله العليم الخبير : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وقوله سبحانه : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٤]. والكفؤ فهو المثل والنظير ، فتعالى من لا نظير له ولا مثل ، (١) ولا كفؤ له ولا عدل ، الذي كل موجود سواه فخلقه وصنعه ، والله فخالق ذلك كله ومبتدعه ، كبيره في صنع الله كصغيره ، وأوله في أنه صنع لله كأخيره ، لا ينكر ذلك ولا يجهله ، إلا من جهل الله جل جلاله.

وقد قال العماة والجاهلون ، الذين لا يفهمون ولا يعقلون : إن الله خلق آدم على صورة نفسه (٢) ، وإنه يضحك حتى تبدو نواجذه (٣). ونواجذ الإنسان أنيابه التي جنب (٤) أضراسه ، فشبهوه في ذلك وغيره ـ تعالى قدسه ـ بالناس ، وزعموا أن علمه وإدراكه لما علم وأدرك إنما هو بالحواس ، فقالوا : إن علمه ودركه لما يرى ويبصر إنما هو بالبصر ، وإن سمعه لما يسمع كما يعقل من سمع البشر ، ومن قال بذلك في الله ، فقد

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : من لا مثل له ولا نظير. وفي (ج) : لا مثل ولا نظير. وما أثبت اجتهاد مني لأنه أوفق لكلام الإمام.

(٢) أخرج حديث : إن الله خلق آدم على صورته. البخاري (فتح ١١ / ٣) ، ومسلم ٤ / ٢٠١٧ (١١٥) ، وأحمد في مسنده ٢ / ٤٣٤ ، والبخاري في الأدب المفرد / ٧٣ ، وابن أبي عاصم في السنة / ٢٢٨ (٥١٦) و (٥٢١) ، والبيهقي في الأسماء والصفات / ٢٩١ ، وذكره ابن حجر في فتح الباري ٥ / ١٨٣.

(٣) حديث : إن الله ضحك حتى بدت نواجذه. تعالى الله سبحانه عن ذلك ، أخرجه أبو عوانة في المسند ١ / ١٣٩. بل روى أبو عوانة أن الله ضحك حتى بدت لهواته وأضراسه. المسند ١ / ١٣٩ ، وابن منده في الإيمان / ٨٠٤.

ورووا : لن نعدم من رب يضحك خيرا. أخرجه ابن ماجة ١ / ٦٤ (١٨١) ، والطبراني في الكبير ١٩ / ٢٠٨٢٠٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ١١. ولفظ الحديث : ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره. قلت : يا رسول الله أو يضحك الرب؟! قال : نعم. قلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!!!

(٤) في (أ) و (ج) : التي إلى جنب.

برئ من المعرفة بالله ، فنحمد الله على ما هدانا له من معرفته ، وأبان بالبرهان النير من فرق ما بين صفات الخلق وصفته ، ونستعين بالله في ذلك على واجب شكره ، ونعوذ به فيه من الضلال عن أمره (١). والحمد لله.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : عنه أمره ، وصلى الله على محمد النبي وأهله وسلم تسليما. تم الكتاب ، بعون الله الملك الغلاب. ويليه هذان البيتان. والحمد لله وحده ، وصلواته على رسوله ، سيدنا محمد وآله.

مجموع الإمام القاسم عليه‌السلام

فهرسة الجزء الأول

الفهرس

مقدمة التحقيق.................................................................. ٣

ترجمة المؤلف.................................................................. ٨

أبوه....................................................................... ٨

أمه...................................................................... ١٠

ولادته................................................................... ١٠

صفته.................................................................... ١١

أولاده................................................................... ١١

مشايخه.................................................................. ١٣

تلامذته.................................................................. ١٣

البيعة الأولى سنة (١٩٩ ه‍)................................................ ١٥

مآسي أهل البيت......................................................... ١٨

اللقاء التاريخي لأهل البيت.................................................... ٢١

البيعة الثانية سنة (٢٢٠ ه‍)................................................ ٢١

جهاد الإمام................................................................. ٢٤

علم الإمام.................................................................. ٢٧

مرحلة التلقي............................................................. ٢٧

علم الإمام بلغة العرب..................................................... ٢٨

فصاحة الإمام وبلاغته........................................................ ٣١

شاعرية الإمام............................................................. ٣١

زهد الإمام.................................................................. ٤٢

ورع الإمام.................................................................. ٤٣

مرحلة العطاء................................................................ ٤٦

الفلسفة اليونانية والفلاسفة................................................. ٤٦

وقفة مع العمل والعصر.................................................... ٤٧

طريقة الإمام القاسم في تناول قضايا الرسالة..................................... ٥٠

الملاحدة................................................................. ٥٥

الزندقة وابن المقفع الزنديق.................................................. ٥٩

العقيدة وهدم الإسلام ومباديه الثابتة............................................ ٦٤

النصرانية والنصارى........................................................... ٦٩

محتوى الرسالة ومنهج المؤلف................................................... ٧٤

منهج في مجادلة الخصوم....................................................... ٧٦

النصارى واليهود أيضا..................................................... ٧٨

المشبهة.................................................................. ٧٩

الكرامية.................................................................. ٨٦

منهج الإمام القاسم في الرد على المشبهة........................................ ٨٨

الرافضة.................................................................. ٩٢

المعتزلة................................................................... ٩٥

الإمامة..................................................................... ٩٦

التوحيد................................................................... ١٠٠

ليس كمثله شيء........................................................ ١٠١

العدل.................................................................... ١٠٥

المجبرة القدرية............................................................ ١٠٥

نحن مجبورون في هذا...................................................... ١٠٦

هنا إرادتنا حرة.......................................................... ١٠٨

معنى يضل من يشاء ويهدي من يشاء...................................... ١٠٩

المرجئة................................................................. ١١٢

الإيمان والعمل............................................................. ١١٦

الشفاعة.................................................................. ١٢٠

حكم وآداب وأخلاق....................................................... ١٢٣

رؤى علمية................................................................ ١٢٧

كروية الأرض وحركتها وجاذبيتها.......................................... ١٢٧

المطر من بخار البحار..................................................... ١٢٧

عناصر الأشياء.......................................................... ١٢٨

العقل.................................................................. ١٢٨

التفكير شرط لفهم الدين................................................. ١٢٩

الإسلام................................................................ ١٣٠

تشويه الحكام للإسلام................................................... ١٣٠

الملوك وراء نشأة المذاهب................................................. ١٣٠

الجهاد والثورة............................................................ ١٣٠

الصلاة................................................................. ١٣١

مثل العالم والمتعلم........................................................ ١٣٢

مثل علماء السوء........................................................ ١٣٢

نظرة إلى القرآن............................................................ ١٣٣

القرآن كتاب حياة....................................................... ١٣٣

[تحريف الطغاة للقرآن]................................................... ١٣٦

[مصحف علي عليه‌السلام].................................................... ١٣٦

نظرته إلى السنة............................................................ ١٣٨

نظرته إلى أهل البيت....................................................... ١٣٨

نظرته إلى الحجة............................................................ ١٣٩

نهاية المطاف............................................................... ١٤٠

قالوا في الإمام القاسم....................................................... ١٤٢

مشايخ الإمام القاسم..................................................... ١٥٤

* الكتاب.................................................................... ١٥٥

إثبات نسبة الكتب إلى الإمام القاسم......................................... ١٥٥

أولا : الأسانيد.......................................................... ١٥٥

تداول الأفكار والمصطلحات في عصره...................................... ١٥٨

النقل من كتبه........................................................... ١٥٩

ذكر العلماء لكتب الإمام................................................ ١٥٩

المسائل المنثورة........................................................... ١٦٣

الكتب والرسائل الموجودة والمفقودة............................................ ١٦٤

الموجود منها............................................................ ١٦٤

المفقود................................................................. ١٦٥

أسلوب التأليف............................................................ ١٦٨

كيفية إيصال الفكرة..................................................... ١٦٨

فكرة التأليف.............................................................. ١٦٩

أهمية الكتب والرسائل....................................................... ١٦٩

الأولى : نقاء الفكرة!..................................................... ١٦٩

الثانية : تناول مواضيع ساخنة............................................. ١٧٠

الثالثة : أصالة الحجة.................................................... ١٧٠

* التحقيق................................................................... ١٧١

كيف كانت البداية......................................................... ١٧١

مراحل الإعداد.......................................................... ١٧١

مراحل التحقيق.......................................................... ١٧٢

منهج التحقيق............................................................. ١٧٢

تصحيح النص.......................................................... ١٧٢

ضبط النص............................................................ ١٧٣

توزيع النص............................................................. ١٧٣

ترتيب الكتب............................................................. ١٧٤

التعليقات............................................................... ١٧٤

المخطوطات المعتمدة..................................................... ١٧٥

نماذج من المخطوطات....................................................... ١٧٨

كلمة أخيرة............................................................... ١٨٩

* الدليل الكبير............................................................... ١٩١

[وسائل المعرفة]............................................................ ١٩٥

[تفصيل طرق المعرفة]....................................................... ١٩٩

[دلالة الآيات الكونية على وجود الله]........................................ ٢٠٣

[حكمة خلق الجبال]....................................................... ٢١٣

[استدلال إبراهيم عليه‌السلام على الله]............................................. ٢١٩

[استدلال نوح عليه‌السلام على الله]............................................... ٢٢٣

[استدلال يوسف عليه‌السلام على الله]............................................. ٢٢٤

[استدلال موسى وهارون عليهما‌السلام على الله]..................................... ٢٢٥

[استدلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الله]............................................ ٢٢٧

[تنزه الله عن شبه الخلق].................................................... ٢٣٠

[الايمان قول وعمل واعتقاد]................................................. ٢٣٢

[أول الواجبات معرفة الله]................................................... ٢٣٦

[الاصغاء لحديث القرآن].................................................... ٢٤٠

[صفات المؤمن]............................................................ ٢٤١

[اعرف الحق تعرف أهله].................................................... ٢٤٤

[أئمة الجور من أسباب الضلال]............................................. ٢٤٦

[الجهل المركب]............................................................ ٢٥٢

* الدليل الصغير.............................................................. ٢٥٧

[التفكير طريق المعرفة بالله].................................................. ٢٦٠

[استدلال إبراهيم على وجود الله]............................................ ٢٦٢

[استدلال موسى على وجود الله]............................................. ٢٦٧

[عظة بليغة]............................................................... ٢٧٠

[التوكل على الله].......................................................... ٢٧٣

[قوى النفس].............................................................. ٢٧٥

[الدلائل على الله]......................................................... ٢٧٦

[الله خالق الكون].......................................................... ٢٨٠

* مناظرة مع ملحد............................................................ ٢٩١

[مدخل إلى المناظرة]........................................................ ٢٩٣

[إثبات وجود الصانع وحدوث العالم]......................................... ٢٩٤

[نظرية الهيولى والصورة وحدوث الأشياء من بعضها]............................. ٢٩٧

[نظرية الكمون والظهور].................................................... ٢٩٩

[علة وجود الأشياء وفسادها]................................................ ٣٠٣

[توحيد الخالق]............................................................ ٣٠٤

[حكمة خلق العالم]........................................................ ٣٠٧

[إرسال الرسل وحكمة التشريع].............................................. ٣١٣

[الحكمة من الموت والبعث]................................................. ٣١٥

* الرد على الزنديق ابن المقفع................................................... ٣١٩

[الرد على ماني]............................................................ ٣٢٢

[الرد على بن المقفع]....................................................... ٣٢٧

[التفكير فريضة إسلامية]................................................... ٣٥٣

[إسلام السلاطين]......................................................... ٣٥٥

* الرد على النصارى.......................................................... ٣٨٧

[مشابهة الفروع للأصول].................................................... ٣٨٩

[عيسى بشر]............................................................. ٣٩٠

[مصادر عقائد النصارى]................................................... ٣٩٤

[أدب الحوار].............................................................. ٢٠٣

[مذاهب النصارى المتفق عليها].............................................. ٤٠٣

[مذاهب النصارى المختلفة]................................................. ٤٠٥

[المذهب الجامع للنصارى]................................................... ٤١٥

[نقض مذاهب النصارى]................................................... ٤١٧

[قواعد للحوار]............................................................ ٤٢٠

[وصايا المسيح عليه‌السلام]....................................................... ٤٣١

* كتاب المسترشد............................................................. ٤٤٣

[معاني «في»]............................................................. ٤٤٧

(الرد على من قال إن لله نفسا كنفس الإنسان)................................ ٤٥١

(الرد على من زعم أن الله نور كالأنوار المخلوقة)................................ ٤٥٥

(الرد على من أنكر من الجهمية أن يكون الله سبحانه شيئا)..................... ٤٦١

(الرد على من أنكر أن يكون الله واحدا ليس بذي أبعاض)...................... ٤٦٥

(الرد على من زعم أن لله وجها كوجه الإنسان)................................ ٤٧١

(الرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين تعالى عن ذلك)........ ٤٧٩

* الرد على المجبرة............................................................. ٤٩٧

[أسئلة إلى المجبرة].......................................................... ٥٠٤

* الرد على الرافضة........................................................... ٥١٣

* الرد على الروافض من أهل الغل و............................................ ٥٣١

[صفة الإمام].............................................................. ٥٥٣

[الحجة الغائبة]............................................................ ٥٥٧

[صفة الإمام].............................................................. ٥٥٨

[صفة الإمام].............................................................. ٥٧٨

العدل والتوحيد............................................................... ٥٨١

[عقائد يجب الإيمان بها].................................................... ٥٨٣

[التوحيد]................................................................. ٥٨٣

[أسباب وعلل التشبيه]..................................................... ٥٨٥

[الرؤية]................................................................... ٥٨٦

[شبه المشبهة]............................................................. ٥٨٨

[القرآن كلام الله مخلوق].................................................... ٥٩١

[العدل].................................................................. ٥٩٣

[الهدى والضلال].......................................................... ٥٩٥

[القدرة قبل الفعل]......................................................... ٥٩٧

[المعاصي فعل الإنسان وتزيين الشيطان]....................................... ٥٩٩

[فرائض الله ونواهيه]........................................................ ٦٠٧

[موالاة المؤمنين]............................................................ ٦١١

[معاداة الكافرين].......................................................... ٦١٣

[معاداة الفاسقين].......................................................... ٦١٣

[الفاسق]................................................................. ٦١٤

[التوبة]................................................................... ٦١٨

[التوبة من حقوق الله]...................................................... ٦١٩

[التوبة من حقوق المخلوقين]................................................. ٦١٩

[التوبة من القتل والجراحات]................................................. ٦٢١

[الأيمان والتوبة منها والكفارة]................................................ ٦٢٤

[التوبة من ترك الصلاة وسائر العبادات]....................................... ٦٢٥

[الصلاة]................................................................. ٦٢٦

[الصوم].................................................................. ٦٢٦

[الزكاة]................................................................... ٦٢٦

[الحج].................................................................... ٦٢٦

* أصول..................................................................... ٦٢٩

العدل والتوحيد............................................................ ٦٢٩

جواب مسألة لرجلين من أهل طبرستان....................................... ٦٣٥

[مرجع أهل الديانات]................................................... ٦٤٠

* فصول في التوحيد........................................................... ٦٤٥

الأصول الخمسة............................................................ ٦٤٧

[فروض الله على المكلفين].................................................. ٦٤٩

[فصل في التوحيد والعدل].................................................. ٦٥١

[فصل في التوحيد والعدل].................................................. ٦٥٢

[أصول الدين]............................................................. ٦٥٣

* تفسير العرش والكرسي...................................................... ٦٥٥

صفة العرش والكرسي وتفسيرهما.............................................. ٦٥٧

[معنى العرش والكرسي]..................................................... ٦٦٣

* فهرسة المواضيع............................................................. ٦٨٧

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ١

المؤلف: القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام
الصفحات: 697
  • مقدمة التحقيق 3
  • ترجمة المؤلف 8
  • أبوه 8
  • أمه 10
  • ولادته 10
  • صفته 11
  • أولاده 11
  • مشايخه 13
  • تلامذته 13
  • البيعة الأولى سنة (199 ه‍) 15
  • مآسي أهل البيت 18
  • اللقاء التاريخي لأهل البيت 21
  • البيعة الثانية سنة (220 ه‍) 21
  • جهاد الإمام 24
  • علم الإمام 27
  • مرحلة التلقي 27
  • علم الإمام بلغة العرب 28
  • فصاحة الإمام وبلاغته 31
  • شاعرية الإمام 31
  • زهد الإمام 42
  • ورع الإمام 43
  • مرحلة العطاء 46
  • الفلسفة اليونانية والفلاسفة 46
  • وقفة مع العمل والعصر 47
  • طريقة الإمام القاسم في تناول قضايا الرسالة 50
  • الملاحدة 55
  • الزندقة وابن المقفع الزنديق 59
  • العقيدة وهدم الإسلام ومباديه الثابتة 64
  • النصرانية والنصارى 69
  • محتوى الرسالة ومنهج المؤلف 74
  • منهج في مجادلة الخصوم 76
  • النصارى واليهود أيضا 78
  • المشبهة 79
  • الكرامية 86
  • منهج الإمام القاسم في الرد على المشبهة 88
  • الرافضة 92
  • المعتزلة 95
  • الإمامة 96
  • التوحيد 100
  • ليس كمثله شيء 101
  • العدل 105
  • المجبرة القدرية 105
  • نحن مجبورون في هذا 106
  • هنا إرادتنا حرة 108
  • معنى يضل من يشاء ويهدي من يشاء 109
  • المرجئة 112
  • الإيمان والعمل 116
  • الشفاعة 120
  • حكم وآداب وأخلاق 123
  • رؤى علمية 127
  • كروية الأرض وحركتها وجاذبيتها 127
  • المطر من بخار البحار 127
  • عناصر الأشياء 128
  • العقل 128
  • التفكير شرط لفهم الدين 129
  • الإسلام 130
  • تشويه الحكام للإسلام 130
  • الملوك وراء نشأة المذاهب 130
  • الجهاد والثورة 130
  • الصلاة 131
  • مثل العالم والمتعلم 132
  • مثل علماء السوء 132
  • نظرة إلى القرآن 133
  • القرآن كتاب حياة 133
  • [تحريف الطغاة للقرآن] 136
  • [مصحف علي عليه‌السلام] 136
  • نظرته إلى السنة 138
  • نظرته إلى أهل البيت 138
  • نظرته إلى الحجة 139
  • نهاية المطاف 140
  • قالوا في الإمام القاسم 142
  • مشايخ الإمام القاسم 154
  • * الكتاب 155
  • إثبات نسبة الكتب إلى الإمام القاسم 155
  • أولا : الأسانيد 155
  • تداول الأفكار والمصطلحات في عصره 158
  • النقل من كتبه 159
  • ذكر العلماء لكتب الإمام 159
  • المسائل المنثورة 163
  • الكتب والرسائل الموجودة والمفقودة 164
  • الموجود منها 164
  • المفقود 165
  • أسلوب التأليف 168
  • كيفية إيصال الفكرة 168
  • فكرة التأليف 169
  • أهمية الكتب والرسائل 169
  • الأولى : نقاء الفكرة! 169
  • الثانية : تناول مواضيع ساخنة 170
  • الثالثة : أصالة الحجة 170
  • * التحقيق 171
  • كيف كانت البداية 171
  • مراحل الإعداد 171
  • مراحل التحقيق 172
  • منهج التحقيق 172
  • تصحيح النص 172
  • ضبط النص 173
  • توزيع النص 173
  • ترتيب الكتب 174
  • التعليقات 174
  • المخطوطات المعتمدة 175
  • نماذج من المخطوطات 178
  • كلمة أخيرة 189
  • * الدليل الكبير 191
  • [وسائل المعرفة] 195
  • [تفصيل طرق المعرفة] 199
  • [دلالة الآيات الكونية على وجود الله] 203
  • [حكمة خلق الجبال] 213
  • [استدلال إبراهيم عليه‌السلام على الله] 219
  • [استدلال نوح عليه‌السلام على الله] 223
  • [استدلال يوسف عليه‌السلام على الله] 224
  • [استدلال موسى وهارون عليهما‌السلام على الله] 225
  • [استدلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الله] 227
  • [تنزه الله عن شبه الخلق] 230
  • [الايمان قول وعمل واعتقاد] 232
  • [أول الواجبات معرفة الله] 236
  • [الاصغاء لحديث القرآن] 240
  • [صفات المؤمن] 241
  • [اعرف الحق تعرف أهله] 244
  • [أئمة الجور من أسباب الضلال] 246
  • [الجهل المركب] 252
  • * الدليل الصغير 257
  • [التفكير طريق المعرفة بالله] 260
  • [استدلال إبراهيم على وجود الله] 262
  • [استدلال موسى على وجود الله] 267
  • [عظة بليغة] 270
  • [التوكل على الله] 273
  • [قوى النفس] 275
  • [الدلائل على الله] 276
  • [الله خالق الكون] 280
  • * مناظرة مع ملحد 291
  • [مدخل إلى المناظرة] 293
  • [إثبات وجود الصانع وحدوث العالم] 294
  • [نظرية الهيولى والصورة وحدوث الأشياء من بعضها] 297
  • [نظرية الكمون والظهور] 299
  • [علة وجود الأشياء وفسادها] 303
  • [توحيد الخالق] 304
  • [حكمة خلق العالم] 307
  • [إرسال الرسل وحكمة التشريع] 313
  • [الحكمة من الموت والبعث] 315
  • * الرد على الزنديق ابن المقفع 319
  • [الرد على ماني] 322
  • [الرد على بن المقفع] 327
  • [التفكير فريضة إسلامية] 353
  • [إسلام السلاطين] 355
  • * الرد على النصارى 387
  • [مشابهة الفروع للأصول] 389
  • [عيسى بشر] 390
  • [مصادر عقائد النصارى] 394
  • [أدب الحوار] 203
  • [مذاهب النصارى المتفق عليها] 403
  • [مذاهب النصارى المختلفة] 405
  • [المذهب الجامع للنصارى] 415
  • [نقض مذاهب النصارى] 417
  • [قواعد للحوار] 420
  • [وصايا المسيح عليه‌السلام] 431
  • * كتاب المسترشد 443
  • [معاني «في»] 447
  • (الرد على من قال إن لله نفسا كنفس الإنسان) 451
  • (الرد على من زعم أن الله نور كالأنوار المخلوقة) 455
  • (الرد على من أنكر من الجهمية أن يكون الله سبحانه شيئا) 461
  • (الرد على من أنكر أن يكون الله واحدا ليس بذي أبعاض) 465
  • (الرد على من زعم أن لله وجها كوجه الإنسان) 471
  • (الرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين تعالى عن ذلك) 479
  • * الرد على المجبرة 497
  • [أسئلة إلى المجبرة] 504
  • * الرد على الرافضة 513
  • * الرد على الروافض من أهل الغل و 531
  • [صفة الإمام] 553
  • [الحجة الغائبة] 557
  • [صفة الإمام] 558
  • [صفة الإمام] 578
  • العدل والتوحيد 581
  • [عقائد يجب الإيمان بها] 583
  • [التوحيد] 583
  • [أسباب وعلل التشبيه] 585
  • [الرؤية] 586
  • [شبه المشبهة] 588
  • [القرآن كلام الله مخلوق] 591
  • [العدل] 593
  • [الهدى والضلال] 595
  • [القدرة قبل الفعل] 597
  • [المعاصي فعل الإنسان وتزيين الشيطان] 599
  • [فرائض الله ونواهيه] 607
  • [موالاة المؤمنين] 611
  • [معاداة الكافرين] 613
  • [معاداة الفاسقين] 613
  • [الفاسق] 614
  • [التوبة] 618
  • [التوبة من حقوق الله] 619
  • [التوبة من حقوق المخلوقين] 619
  • [التوبة من القتل والجراحات] 621
  • [الأيمان والتوبة منها والكفارة] 624
  • [التوبة من ترك الصلاة وسائر العبادات] 625
  • [الصلاة] 626
  • [الصوم] 626
  • [الزكاة] 626
  • [الحج] 626
  • * أصول 629
  • العدل والتوحيد 629
  • جواب مسألة لرجلين من أهل طبرستان 635
  • [مرجع أهل الديانات] 640
  • * فصول في التوحيد 645
  • الأصول الخمسة 647
  • [فروض الله على المكلفين] 649
  • [فصل في التوحيد والعدل] 651
  • [فصل في التوحيد والعدل] 652
  • [أصول الدين] 653
  • * تفسير العرش والكرسي 655
  • صفة العرش والكرسي وتفسيرهما 657
  • [معنى العرش والكرسي] 663
  • * فهرسة المواضيع 687