الجزء السّابع

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

شرح الكلمات :

(عَداوَةً) : (١) العداوة : بغض نفسي تجعل صاحبها بعيدا ممن يعاديه فلا يصله بخير ، ولا يقربه بمودة ، وقد تحمله على إرادة الشر بالعدو.

(مَوَدَّةً). المودة : حب نفسي يجعل صاحبه يتقرب إلى من يوده بالخير ودفع الشر.

(قِسِّيسِينَ) : جمع قسيس : وهو الرئيس الديني لعلمه عند النصارى.

(وَرُهْباناً) : الرهبان : جمع راهب : مشتق من الرهبة وهو الرجل فى النصارى يتبتل وينقطع للعبادة في دير أو صومعة.

(ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) : الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل إليه آيات القرآن الكريم الدالة على تشريف عيسى ووالدته مريم عليهما‌السلام ، وأن عيسى عبد الله

__________________

(١) (عَداوَةً) منصوب على التمييز مبيّنا لنسبة أشد وكذا مودّة.

(الشَّاهِدِينَ) : جمع شاهد : من شهد لله بالوحدانية وللنبي محمد بالرسالة واستقام على ذلك.

(الصَّالِحِينَ) : جمع صالح : وهو من أدّى حقوق الله تعالى كاملة من الإيمان به وشكره على نعمه بطاعته ، وأدّى حقوق الناس كاملة من الإحسان إليهم ، وكف الأذى عنهم.

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) : جزاهم بما قالوا من الإيمان ووفّقوا له من العمل جنات تجري من تحتها الأنهار.

معنى الآيات :

يخبر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعداوة كل من اليهود والمشركين للمؤمنين وأنهم أشد عداوة من غيرهم ، فيقول (لَتَجِدَنَ (١) أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أما اليهود فلما توارثوه خلفا عن سلف من إنكار الحق. والوقوف في وجه دعاته ، إضافة إلى أن أملهم في إعادة مجدهم ودولتهم يتعارض مع الدعوة الإسلامية وأما المشركون فلجهلهم وإسرافهم في المحرمات وما ألفوه لطول العهد من الخرافات والشرك والضلالات. كما أخبر تعالى أن النصارى هم أقرب مودة للذين آمنوا فقال : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ (٢) مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) وعلل تعالى لهذا القرب من المودة بقوله : (ذلِكَ ...) أي كان ذلك بسبب أن منهم قسّيسين (٣) ورهبانا فالقسيسون علماء بالكتاب رؤساء دينيّون غالبا ما يؤثرون العدل والرحمة والخير على الظلم والقسوة والشر والرهبان لانقطاعهم عن الدنيا وعدم رغبتهم فيها ويدل عليه قوله : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الحق وقبوله والقول به ولذا لما عمت المادية المجتمعات النصرانّية ، وانتشر فيها الإلحاد والإباحية قلّت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت. أما قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ

__________________

(١) اللّام في (لَتَجِدَنَ) لام القسم. وهذه الآيات الأربع كالفذلكة لما سبق من الآيات في أهل الكتاب.

(٢) هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه إذ هاجر إليه المؤمنون الهجرة الأولى والثانية هروبا من اضطهاد المشركين وأذاهم ، ولمّا بعثت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة بهدايا تطالب برد المهاجرين إليها دعا النجاشي الرهبان والقسس وأسمعهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم فبكوا حتى فاضت أعينهم من الدمع فنزلت هذه الآية.

(٣) جمع قسّ ويجمع على قساوسة ، والرهبان جمع راهب كراكب وركبان وفعله رهب يرهب رهبا ورهبا ورهبة إذا خاف والرهبانية والترهب التعبّد في صومعة أو دير.

تَفِيضُ (١) مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) فالمعنيّ بها من أسلم من النصارى بمجرد أن تلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشى وجماعة كثيرة ومعنى قولهم (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من الحق وسألوا الله تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة ، والشاهدون هم الذين شهدوا لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ، وأطاعوا الله ورسوله من هذه الأمة وقولهم : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ (٢) الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) فإن معناه : أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله ربا وإلها واحدا لا شريك له ولا ولد ولا والد. وبما جاء من الحق في توحيده تعالى ونبّوة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن الطمع في أن يدخلنا ربنا الجنة مع الصالحين من هذه الأمة. ولما قالوا هذا أخبرهم تعالى أنه أثابهم به (جَنَّاتٍ (٣) تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، وأخبر تعالى أن ذلك الجزاء الذي جزاهم به هو (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) وهم الذين أحسنوا القول والعمل مع سلامة عقائدهم ، وطهارة أرواحهم حيث لم يتلوثوا بالشرك والمعاصي ثم أخبر تعالى بأن الذين كفروا (٤) بالله إلها واحدا وبرسوله نبيا ورسولا ، وكذبوا بآياته القرآنية أولئك البعداء هم أصحاب (٥) الجحيم الذين لا يفارقونها أبدا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين.

٢ ـ قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين.

٣ ـ فضيلة التواضع ، وقبح الكبر.

__________________

(١) تفيض أعينهم من الدمع أي بالدمع : وحروف الجرّ تتناوب قال امرؤ القيس :

ففاضت دموع العين مني صبابة

على النحر حتى بلّ دمعي محملي

أي غلاف السيف.

(٢) في الكلام إضمار أي : ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة مع القوم الصالحين ، وهم أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادقين الصالحين.

(٣) دلّ هذا الجزاء الحسن على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم إذ به أجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم ورجاءهم وهكذا كلّ من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة.

(٤) في هذا احتراس إذ ما كلّ النصارى آمنوا لما سمعوا القرآن وبكوا وسألوا الله في صدق وآمنوا وعملوا الصالحات فأثابهم الله الجنة ، لا بل منهم الذين كفورا وكذبوا وهم الأكثرون فجزاؤهم الجحيم يلازمونها أبدا لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.

(٥) يقال : نار جحمة على وزن نجمة أي : شديدة اللهب قال شاعر الحماسة الطائي :

نحن حبسنا بني جديلة في

نار من الحرب جحمة الضرم

٤ ـ فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها.

٥ ـ فضل الكتابي إذا أسلم. وحسن إسلامه.

٦ ـ بيان مصير الكافرين والمكذبين وهو خلودهم في نار جهنم.

٧ ـ استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

شرح الكلمات :

(لا تُحَرِّمُوا) : التحريم : المنع أي لا تمتنعوا.

(ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) : أي ما أباحه لكم وأذن لكم فيه من نكاح وطعام وشراب.

(حَلالاً طَيِّباً) : مباحا غير مستقذر ولا مستخبث.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) : لا يعاقبكم الله باللغو الذي هو ما كان بغير قصد اليمين.

(عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) : عزمتم عليها بقلوبكم بأن تفعلوا أو لا تفعلوا.

(مِنْ أَوْسَطِ) : أغلبه ولا هو من أعلاه ، ولا هو من أدناه.

(أَهْلِيكُمْ) : من زوجة وولد.

(تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) : عتقها من الرق القائم بها.

(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) : المتضمنة لأحكام دينه من واجب وحلال وحرام.

معنى الآيات :

الآيتان الأولى (٨٧) والثانية (٨٨) نزلتا في بعض (١) الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وغيرهما كانوا قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وعزموا على التبتل والانقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألوها عن صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيامه فكأنهم تقالّوا ذلك فقال أحدهم : أنا لا آتي النساء ، وقال آخر : أنا أصوم لا أفطر الدهر كله وقال آخر : أنا أقوم فلا أنام ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخطب الناس ، وقال : «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وإني وأنا رسول الله لآكل اللحم ، وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ونزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ (٢) ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) من طعام وشراب ونساء ، (وَلا تَعْتَدُوا) بمجاوزة (٣) ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن الله تعالى ربكم (لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أما الحرام فلا يكون رزقا لكم ، (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوه بترك الغلوّ والتنطع المفضى بكم إلى الترهب ولا رهبانية في الإسلام. (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي ربا يشرع فيحلل ويحرم ، وإلها يطاع ويعبد ، هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) فقد نزلت لما قال أولئك الرهط من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لقد حلفنا على ما عزمنا عليه من التبتل فماذا نصنع بأيماننا) فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه فقال : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وهو ما لا قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على اللسان فقط نحو : لا والله أو بلى والله ، ومثله أن

__________________

(١) أخرج البخاري عن أنس قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألون عن عبادته فلمّا أخبروا كأنّما تقالّوها فقالوا : وأين نحن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر ، فقال أحدهم أمّا أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أمّا أنا فأصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أمّا أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج ابدا فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».

(٢) قالت العلماء هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها تردّ على غلاة المترهبين وأهل البطالة من المتصوفين ، وقال الطبري لا يجوز لمسلم تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من الطيبات.

(٣) إذا حرّم العبد على نفسه شيئا لا يحرم عليه إلّا امرأته فإنّها تحرم عليه بالطلاق.

يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن ، (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي قصدتموها عازمين (١) عليها ، فمن حنث بعد الحلف فالواجب في حقه خروجا من الإثم كفّارة وهي (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لكل مسكين نصف صاع أي مدّان (٢) من أعدل (ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ما هو بالأجود الغالي ، ولا بالأردأ الرخيض ، (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) كقميص وعمامة ، أو إزار ورداء ، (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي عتق رقبة مؤمنة ذكرا كان أو أنثى صغيرة أو كبيرة فهذه الثلاثة المؤمن مخيّر في التكفير بأيها شاء ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام مفرقة أو متتابعة كما شاء هذا معنى قوله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) ، وقوله (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) أي هذا الذي بين لكم هو ما تكفّرون به ما علق بنفوسكم من إثم الحنث. وقوله (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) (٣) أي لا تكثروا الحلف فتحنثوا فتأثموا فتجب عليكم الكفارة لذلك. وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) معناه مثل هذا التبيين الذي بينه لكم في مسألة الحنث في اليمين والكفارة له يبين لكم آياته المتضمنة لشرائعه وأعلام دينه ليعدكم بذلك لشكره بطاعته بفعل ما يأمركم به وترك ما ينهاكم عنه ، فله الحمد والمنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة تحريم ما أباح الله ، كحرمة تحليل ما حرم الله عزوجل.

٢ ـ بيان مدى حرص الصحابة على طاعة الله خوفا من عقابه وطمعا في إنعامه.

٣ ـ حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه.

٤ ـ بيان كفارة اليمين بالتفصيل.

__________________

(١) هذا إذا لم يستثن بأن يقول إلّا أن يشاء الله أمّا من استثنى فلا كفارة عليه إذ لا إثم مع الاستثناء ولا بد للاستثناء من النطق يقول : إلّا أن يشاء الله ولا يتم إلّا بتحريك لسانه وشفتيه.

(٢) وفي الآية وجه آخر ذكره القرطبي وهو أن يبادر إلى إخراج الكفارة إذا حنث وهذا حفظها من النسيان ظاهر.

(٣) قال العلماء : الأيمان أربعة : يمينان يكفر فيهما إذا حنث ويمينان لا كفارة فيهما فالأوّلان أن يقول : والله لأفعلن كذا ثمّ يحنث والثاني أن يقول : والله لا أفعل كذا ويحنث ، واللّذان لا كفارة فيهما : الأولى : لغو اليمين وهو أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر خلافه ، والثانية : أن يجري على لسانه الحلف وهو غير قاصد نحو : لا والله ، بلى والله ، والخامسة : اليمين الغموس ، وهو أن يحلف متعمّدا الكذب وكفّارتها التوبة لا غير وإن كفّر مع التوبة فحسن.

٥ ـ كراهة الإكثار من الحلف. وحرمة الحلف (١) بغير الله تعالى مطلقا.

٦ ـ استحباب حنث من (٢) حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه ، وتكفيره على ذلك أما إذا حلف أن يترك واجبا أو يأتي محرما فإن حنثه واجب وعليه الكفارة.

٧ ـ الأيمان ثلاثة : (٣) لغو : يمين لا كفارة لها إذ لا إثم فيها ، الغموس : (٤) وهي أن يحلف متعمدا الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة ، اليمين المكفّرة : وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

__________________

(١) لحديث الترمذي : «من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر» وحديث الصحيح : «ألا إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».

(٢) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».

(٣) هذا العدد مجمل وقد تقدم تفصيله وأنّ الأيمان خمسة.

(٤) أخرج البخاري «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله اعرابي قائلا يا رسول الله ما الكبائر؟ قال : الإشراك بالله قال ثمّ ما ذا؟ قال : عقوق الوالدين. قال : ثمّ ما ذا؟ قال اليمين الغموس. قلت وما اليمين الغموس؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب».

شرح الكلمات :

(الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) : الخمر (١) : كل مسكر كيفما كانت مادته وقلّت أو كثرت ، والميسر :

القمار. (٢)

(وَالْأَنْصابُ) : الأنصاب : جمع نصب. ما ينصب للتقرب به إلى الله أو التبرك به ، أو لتعظيمه كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث.

(الْأَزْلامُ) : جمع زلم : وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من الخسارة ، ومثلها قرعة الأنبياء ، وخط الرمل ، والحساب بالمسبحة.

(رِجْسٌ) : الرجس : المستقذر حسا كان أو معنى ، إذ المحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة.

(مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) : أي مما يزيّنه للناس ويحببه إليهم ويرغبهم فيه ليضلهم.

(فَاجْتَنِبُوهُ) : اتركوه جانبا فلا تقبلوا عليه بقلوبكم وابتعدوا عنه بأبدانكم.

(تُفْلِحُونَ) : تكملون وتسعدون في دنياكم وآخرتكم.

(وَيَصُدَّكُمْ) : أي يصرفكم.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) : أي انتهوا فالإستفهام للأمر لا للإستخبار.

(جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) : أي إثم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر قبل تحريم ذلك.

معنى الآيات :

لمّا نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بيّن لهم ما حرّمه عليهم ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره بهم ، وإفساده لقلوبهم وأرواحهم فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ (٣) آمَنُوا) أي يا من صدقتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا اعلموا (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ

__________________

(١) صحّ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب يوما فقال : أيّها الناس ألا إنّه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر ، والعسل والحنطة والشعير» والخمر ما خامر العقل أي : ستره وغطّاه فأصبح المرء يهذي ويقول الخطأ والصواب.

(٢) ما دامت علّة التحريم في الخمر والميسر هي إثارة العداوة بين إخوة الإيمان ، والصدّ وهو الإلهاء عن ذكر الله وعن الصلاة فإن كل ما ينشأ عنه إثارة العداوة والصدّ عن الذكر والصلاة فهو حرام.

(٣) هذه الآية نزلت بعد وقعة أحد وكانت في السنة الثالثة من الهجرة أي في آخرها ولكنها وقعت هنا في سورة المائدة بعد نزولها وهذه الآية هي الناسخة لإباحة الخمر ويروى في سبب نزولها أن ملاحاة كانت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار سببها شرب خمر في ضيافة لهم.

وَالْأَنْصابُ (١) وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) أي سخط وقذر مما يدعو إليه الشيطان ويزيّنه للنفوس ويحسنه لها لترغب فيه ، وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد. وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم ، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر ، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٢)؟!) وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) مغبة ذلك ثم أعلمهم أنّهم إن تولوا عن الحق بعد ما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلّغ وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين. هذا معنى قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا (٣) أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقوله تعالى في الآية الأخيرة (٩٣) (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا (٤) وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقد نزلت لقول بعض الأصحاب (٥) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا رسول الله ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟) أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعلم أنهم ليس عليهم جناج أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه ، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقربا إليه. فكان رفع الحرج عليهم مقيدا بما ذكر. وقوله : (ثُمَّ اتَّقَوْا ...) كما لا (٦) جناح على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم

__________________

(١) ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر المقصود منه تأكيد التحريم وتقويته نظرا لما ألفته النفوس منهما ، والمراد من تحريم الأنصاب تحريم عبادتها وصنعها ، وبيعها.

(٢) هذه الصيغة تستعمل للحث على الفعل إذا المأمور بدا عليه التراخي أو عدم الاهتمام مما أمر بفعله أو تركه. والفاء في (فَهَلْ أَنْتُمْ) تفريع عن قوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ.). الآية ، والمأمور بالانتهاء عنه هو الخمر والميسر فلذا يقدّر عنهما بعد (مُنْتَهُونَ).

(٣) (فَاعْلَمُوا) جواب الشرط أي فإن توليتم عن طاعة الله والرسول فاعلموا أن توليكم لا يضر الرسول شيئا إنما على الرسول البلاغ وقد بلّغكم.

(٤) جملة : (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) تأكيد لفظي لجملة : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

(٥) يروى أن القائل : أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو سؤال اشفاق ورحمة على من مات وهو يشرب هذا المحرم.

(٦) الجناح ، الإثم المترتب عن الجنح الذي هو الميل إلى المعصية وعدم الطاعة.

وبشرط الإيمان ، والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم ، ودوام الإيمان والتقوى والإحسان في ذلك بالإخلاص فيه لله تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الخمر والقمار ، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام.

٢ ـ وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فورا وقول انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه.

٣ ـ بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية.

٤ ـ وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما.

٥ ـ وجوب التقوى حتى الموت ووجوب الإحسان في المعتقد والقول والعمل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

شرح الكلمات :

(لَيَبْلُوَنَّكُمُ) : ليختبرنكم.

(الصَّيْدِ) (١) : ما يصاد. (٢)

(تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) (٣) : كبيض الطير وفراخه.

(وَرِماحُكُمْ) : جمع رمح ، وما ينال به هو الحيوان على اختلافه.

(لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) : ليظهر الله تعالى بذلك الاختبار من يخافه بالغيب فلا يصيد.

(فَمَنِ اعْتَدى) (بعد التحريم) : بأن صاد بعد ما بلغه التحريم.

(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) : جمع حرام والحرام : المحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام.

(مِنَ النَّعَمِ) : النعم : الإبل والبقر والغنم.

(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) : أي صاحبا عدالة من أهل العلم.

(وَبالَ أَمْرِهِ) : ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام.

(وَلِلسَّيَّارَةِ) : المسافرين يتزوّدون به في سفرهم. وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل.

معنى الآيات :

ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ليعلمهم مؤكدا خبره بأنه يبلوهم اختبارا لهم ليظهر (٤) المطيع من العاصي فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرّعا ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم

__________________

(١) أذن للمحرم ولمن في الحرم في قتل ما يؤذي كالحية والعقرب ، والغراب والفأرة وكل ما يؤذي كالأسد والنمر والذئب والفهد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة».

(٢) الصيد مصدر صاد يصيد صيدا وأطلق المصدر على اسم المفعول : المصيد فقالوا : صيد.

(٣) قوله : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) يريد صغار الصيد ، وفراخه وبيضه. (وَرِماحُكُمْ) هو كبار الصيد الذي لا يؤخذ باليد ولكن بآلة الصيد.

(٤) أي ليظهر ذلك لهم إقامة للحجة عليهم أما هو سبحانه وتعالى فعلمه بذلك أزلي سابق.

وامتثلوا أمره ، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين.

وقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، أي فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٤). أما الآية الثانية (٩٥) وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا (١) الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا (٢) الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فأكد لهم تحريم الصيد وبيّن لهم ما يترتب على ذلك من جزاء فقال (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فالحكم الواجب على من قتله جزاء (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وهى الإبل والبقر والغنم (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم فالنعامة تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة ، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء (٣) من وجب عليه بغير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وإن شاء اشترى بثمنه طعاما وتصدق به ، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوما لقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) وقوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي ثقل جزاء مخالفته وقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أي ترك مؤاخذتكم على ما مضى ، وأما مستقبلا فإنه تعالى يقول (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ (٤) اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم ، هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (٩٦) فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد. أخبر أنه امتنانا منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات (٥) ميتة على ساحله (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرما ، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم ، وذكرهم بحشرهم جميعا إليه يوم القيامة للحساب والجزاء فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

__________________

(١) روي أنّ أبا اليسر عمرو بن مالك الأنصاري قتل حمار وحش وهو محرم بعمرة عام الحديبية فنزلت هذه الآية.

(٢) القتل لغة : إفاتة الروح وهو أنواع منها النحر ، والذبح ، والخنق ، والرضخ وشبهه.

(٣) قالت العلماء : ما يجزئ من الصيد شيئان دواب وطير فيجزئ ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ففي النعامة بدنه والطير : القيمة إلا الحمام ففيه شاة.

(٤) الجمهور أنّ من صاد ودفع الجزاء ثمّ صاد كلما صاد لزمه الفداء ، وبعض أهل العلم يرى أنه لا يحكم عليه بشيء ويترك لله تعالى ويقال له : ينتقم الله منك.

(٥) مذهب مالك حلية ميتة البحر مطلقا لحديث : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» وحديث العنبر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم. وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيرا من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد انبيائهم.

٢ ـ تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر فإنه مباح له.

٣ ـ بيان جزاء من صاد وهو محرم وانه جزاء مثل ما قتل من النعم.

٤ ـ وجوب التحكيم فيما صاده المحرم ، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه.

٥ ـ صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

شرح الكلمات :

(الْكَعْبَةَ) : الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام.

(قِياماً لِلنَّاسِ) : يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه.

(الشَّهْرَ الْحَرامَ) : أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم.

(الْهَدْيَ) : ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا.

(وَالْقَلائِدَ) : جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم.

(الْبَلاغُ) : بلاغ ما أمره بإبلاغه.

(ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) : أي ما تظهرون وما تخفون.

(الْخَبِيثُ) : مقابل الطيب وهو الحرام وهو عام في المحسوسات والمعقولات.

(أُولِي الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (جَعَلَ (١) اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ (٢) قِياماً لِلنَّاسِ) المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام ومعنى قياما : أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتى إليه والداخل في حرمه ، وكذا الشهر (٣) الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب ، (٤) وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام ، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعارا بأنه مهدى إلى الحرم ، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لحاء (٥) شجر الحرم إعلاما بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذه الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى

__________________

(١) الله الذي أوجد الكعبة إذ أمر خليله ببنائها فبناها هذا الإيجاد الأخير أمّا الأوّل فكان على عهد آدم عليه‌السلام ، وجعل هنا بمعنى صيرها كذلك أي قياما للناس الذين هم العرب.

(٢) قياما وقيما وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لأن أصل الفعل قام يقوم قواما وقياما.

(٣) الشهر : اسم جنس ولذا أريد به هنا الأشهر الحرم الأربعة.

(٤) يقال له رجب الأصم لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح ويقال : رجب مضر لأن مضر كانت تعظّمه أكثر من غيره ، والأصب حيث يصب فيه الخير صبّا.

(٥) لحاء ككساء : قشر الشجر.

المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء ، وأنه بكل شيء عليم فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه ، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه ، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عزوجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه.

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٩٧) والثانية (٩٨) أما الآية الثالثة (٩٩) فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وهو وعيد شديد فقال تعالى (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (١) وقد بلّغ ، فأنذر وأعذر ، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم لأنه غفور رحيم ، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب وقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعد ووعيد لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء فإن كان العمل خيرا كان الجزاء خيرا وإن كان العمل شرا كان الجزاء كذلك.

هذا مضمون الآية الثالثة أما الرابعة (١٠٠) فإنه تعالى يقول لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل للناس أيها الناس أنه (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) (٢) من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال (٣) ، (وَالطَّيِّبُ) منها ، ولو أعجبتكم (٤) أي سرتكم كثرة الخبيث فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيّب النافع غير الضار ولو كان قليلا ، وعليه (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه ، إذ أمّن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمنا

__________________

(١) أي ليس عليه هداية الناس ولا التوفيق ولا الثواب. وأصل البلاغ : البلوغ وهو الوصول ، بلغ المكان يبلغه وصل إليه ، وأبلغه الشيء أوصله إليه فعلى الرسول إبلاغ أمر الله ونهيه وأخباره إلى عباده بأسلوب بلاغي يصل به إلى نفوسهم في أطيب لفظ وأحسنه.

(٢) الخبيث لا يساوي الطيب مقدارا ولا انفاقا ومكانا ولا ذهابا فالطيب يأخذ جهة اليمين ، والخبيث يأخذ ذات الشمال ، والطيّب والطيّبون في الجنة ، والخبيث والخبثاء في النار.

(٣) قالت العلماء : في قوله : (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) الآية دليل على أنّ البيع الفاسد يفسخ ويرد الثمن على المبتاع وشاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ».

(٤) الخطاب في قوله (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) الخطاب صالح لكل من هو أهل للخطاب والانتفاع به من عقلاء هذه الأمة ولذا قلت في التفسير ولو أعجبتكم ولم أقل : أعجبتك.

واستقرارا وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام ، والهدي والقلائد ، الأمر الذى لا يقدر عليه إلا الله.

٢ ـ بيان مسئولية الرسول أزاء الناس وأنها البلاغ لا غير وقد بلغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ تقرير الحكمة القائلة العبرة بالكيف لا بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلال خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة لا تقبل.

٤ ـ الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)) (١) (٢)

شرح الكلمات :

(إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) : تظهر لكم تضركم.

__________________

(١) من الأحناف من يمنع الحبس ، والوقف تعلّقا واستدلالا بهذه الآية وهو محجوج بإجماع الصحابة لحديث عمر في الصحيح إذ قال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «احبس الأصل وسبّل الثمرة».

(٢) وذلك إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها ، والسائبة ، بغير يسيب بنذر ينذره أحدهم للآلهة إن حصل له كذا سيّب كذا وتترك فلا تمنع من رعي ولا ماء ولا يركبها أحد.

(عَفَا اللهُ عَنْها) : سكت عنها فلم يذكرها أو لم يؤاخذكم بها.

(سَأَلَها قَوْمٌ) : طلبها غيركم من الأمم السابقة.

(ما جَعَلَ اللهُ) : أي ما شرع.

(بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) : البحيرة : الناقة تبحر أذنها أي تشق ، والسائبة : الناقة تسيّب.

(وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) : الوصيلة : الناقة يكون أول إنتاجها أنثى ، والحام : الجمل يحمى ظهره للآلهة.

(ما أَنْزَلَ اللهُ) : من الحق والخير.

(ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) : من الباطل والضلال.

معنى الآيات :

لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تضايق منهم فقام خطيبا فيهم وقال : «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» .. فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة كان إذا تلامى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال : أبوك حذافة ، وقال أبو هريرة : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ولو قلت نعم ، لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم» فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ (١) إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي تظهر لكم جوابا لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم ، (وَإِنْ (٢) تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي يبينها رسولنا لكم. أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك ما لا ينبغي لكم لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته ثم قال تعالى لهم : (عَفَا اللهُ عَنْها) أي لم يؤاخذكم بما سألتم (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ، فتوبوا إليه يتب (٣) عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم. وقوله تعالى : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي قد سأل أسئلتكم التنطعية

__________________

(١) ممنوع من الصرف لأنّه مشبه بحمراء. في الآية دليل على كراهة السؤال لغير حاجة وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله حرّم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات ، وكره لكم ثلاثا : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال».

(٢) إن قيل : ما وجه أنه تعالى نهاهم عن السؤال ثم أذن لهم بقوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها ..) الخ؟ الجواب : إن تسألوا عن غيرها مما دعت الحاجة إليه ، ففي الكلام حذف مضاف كما قدّمناه فتأمله.

(٣) بعد انقطاع الوحي أمن الناس من نزول ما قد يسوء ومع هذا فإن سؤال التنطع والتعنت مكروه دائما وفي الحديث الصحيح : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

المحرجة هذه قوم من قبلكم (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (١) ، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٠١) والثانية (١٠٢) وأما الثالثة (١٠٣) فقد قال تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حاميا ، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذبا عليه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى ، وأول من سيب السوائب وغير دين اسماعيل عليه‌السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجرّ قصبه في النار أي أمعاءه في جهنم. هذا ما تضمنته الآية الثالثة أما الرابعة (١٠٤) فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك إذ قيل لهم (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب ، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون : (حَسْبُنا) أي يكفينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فلسنا في حاجة إلى غيره فرد تعالى عليهم منكرا عليهم قولهم الفاسد (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) أي يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالا حمقا لا يعقلون شيئا من الحق ، (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى خير أو معروف.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها.

٢ ـ حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس.

٣ ـ وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما.

٤ ـ حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم.

__________________

(١) من أمثلة ذلك : سؤال قوم صالح الناقة ، وقوم عيسى المائدة ، وفي الآية تحذير للمؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرهم فيهلكوا كما هلكوا. وفي صحيح مسلم يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم عن المسلمين فحرم من أجل مسألته».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا) : صدقوا الله ورسوله واستجابوا لهما بفعل المأمور وترك المنهي.

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (١) : ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.

(إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) : إلى معرفة الحق ولزوم طريقه.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : ضلّالا ومهتدين.

(فَيُنَبِّئُكُمْ) : يخبركم بأعمالكم ويجازيكم بها.

معنى الآية الكريمة :

ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (٢) ألزموها الهداية والطهارة بالإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والمعاصي ، (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) : أي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى ، كل نفس تجزى بما كسبت لا بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر وينتشر ويؤدّي حتما إلى أن يضلّ المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه خطيبا يوما فقال : (يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ (٣) آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (٤) ..) الخ وإنكم تضعونها (٥) على غير

__________________

(١) وإن قيل في معنى احفظوا أنفسكم من الوقوع في المعاصي لكان وجيها لأنّ عليكم اسم فعل بمعنى احفظ كذا.

(٢) في الآية التحذير مما وقع فيه من تقدّم ذكرهم من التقليد الأعمى والابتداع المضر المهلك وهو وجه المناسبة بين هذه الآية وما سبقها من الآيات.

(٣) قيل هذه الآية هي الوحيدة التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ ، فالناسخ فيها قوله : (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) والمنسوخ هو (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إذ من اهتدى لا يضره من ضل ولا تتم الهداية إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٤) أنفسكم منصوب على الإغراء الدال عليه اسم الفعل عليكم.

(٥) ورد بدل تضعونها ... إلخ : وتتأوّلونها على غير تأويلها.

موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيه وعد ووعيد ، وعد لمن أطاع الله ورسوله ، ووعيد لمن عصاهما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.

٢ ـ ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف (١) ونهاهم عن المنكر.

٣ ـ تقرير مبدأ البعث الآخر.

٤ ـ للعمل أكبر الأثر في سعادة الإنسان أو شقائه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ

__________________

(١) قالت العلماء : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رجي القبول والتغيير فإن كان هناك عدم رجاء فلا يجب الأمر والنهي. وكذا يسقط إذا خاف ضررا يلحقه لا يقوى عليه أو يلحق غيره من المسلمين.

أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١) (١٠٨))

شرح الكلمات :

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) : الشهادة : قول صادر عن علم حاصل بالبصر أو البصيرة ، وبينكم : أي شهادة بعضكم على بعض.

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي بأن كنتم مسافرين.

(مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) : صلاة العصر.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) : شككتم في سلامة قولهما وعدالته.

(فَإِنْ عُثِرَ) : أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.

(أَدْنى) : أقرب.

(عَلى وَجْهِها) (٢) : أي صحيحة كما هي لا نقص فيها ولا زيادة.

(الْفاسِقِينَ) : الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآيات الثلاث (١٠٦) ، (١٠٧) ، (١٠٨) ينادى الله تعالى عباده المؤمنين فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي ليشهد اثنان (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة ، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر ، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة

__________________

(١) هذه الآية نزلت فيما ذهب إليه أكثر المفسرين : في تميم الداري وعدي بن بداء إذ روى البخاري وغيره أن تميم الداري وابن بداء كانا يختلفان إلى مكة فخرج معهما : فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوحى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما (إناء) من فضة مخوصا بالذهب فاستحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما كتمتما ولا أطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أنّ هذا الحام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال : فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية «لفظ الدارقطني» والظاهر أن استحلاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما : كان بعد نزول الآية مبيّنة طريق الحكم في هذه القضية فاتبعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم بينهم بما في الآية نصّا وروحا والله أعلم.

(٢) أي غير مشوّه بالتغيير والتبديل والنقص والزيادة ، والتعبير بالوجه شائع يقال : جاء بالشيء الفلاني على وجهه أي : من كمال أحواله.

شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا ، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة ، (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ، إِنَّا إِذاً) أي إذا كتمنا شهادة الله (لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه ، (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) (١) فيقسمان بالله قائلين والله : لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما ، (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي عليهما باتهام باطل ، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين ، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت ، قال تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) ، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته ، (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه ، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته ، فاحذروا الفسق واجتنبوه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الوصية في الحضر والسفر معا ، والحث عليها والترغيب فيها.

٢ ـ وجوب الإشهاد على الوصية.

٣ ـ يجوز شهادة غير المسلم (٢) على الوصية إذا تعذر وجود مسلم. (٣)

٤ ـ استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظا في شأن اليمين.

__________________

(١) واحد الأوليان : الأولى بمعنى الأجدر والأحق ، وعرفا باللّام العهدية لأنه معهود للمخاطب ذهنا ، والأوليان : الأحقّان بالشهادة لقرابتهما من الميت ، قال أهل العلم إنّ هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما.

(٢) هذا بناء على أن الآية غير منسوخة وهو قول الأقلية كأحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو الراجح والآية دلالتها قوية عليه ، وأما التخوف من قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فلا داعي إليه مع وجود ضرورة السفر وانعدام وجود المسلم ، كما لا محذور من تحليف الشاهد إذا حامت حوله ريبة أوشك في عدالته لا سيما في ظروف تقل فيها العدالة لفساد أحوال الناس. ولهذا ذهبت في تفسير الآية على أنّها محكمة والعمل بها جائر.

(٣) وممن قال بعدم نسخ هذه الآية وأنها محكمة والعمل بها من الصحابة : أبو موسى الأشعري وقضى بها ، وعبد الله بن قيس ، وعبد الله بن عباس ، ومن التابعين سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وابراهيم النخعي وغيرهم ، ومن الأئمة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحم الله الجميع.

٥ ـ مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

شرح الكلمات :

(١) (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) : أي اذكر يوم يجمع الله الرسل وذلك ليوم القيامة.

(الْغُيُوبِ) : جمع غيب : وهو ما غاب عن العيون فلا يدرك بالحواس.

(أَيَّدْتُكَ) : قويتك ونصرتك.

(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبريل عليه‌السلام.

(الْمَهْدِ) : سرير الطفل الرضيع.

__________________

(١) وجه اتصال هذه الآية بسابقتها ظاهر ، إذ أمرهم تعالى في الآية الأولى بالتقوى والسمع والطاعة لأوامره ونواهيه ، وذكّرهم في هذه الآية بأهوال يوم القيامة ليكون ذلك حافزا لهم على التقوى مقوّيا لهم على السمع والطاعة.

الكهل : من تجاوز سن الشباب أي ثلاثين سنة.

(الْكِتابَ) : الخط والكتابة.

(وَالْحِكْمَةَ) : فهم أسرار الشرع ، والإصابة في الأمور كلها.

تخلق كهيئة الطير : أي توجد وتقدر هيئة كصورة الطير.

(الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) : الأكمه : من ولد أعمى ، والأبرص : من به مرض البرص.

(تُخْرِجُ الْمَوْتى) : أي أحياء من قبورهم.

(كَفَفْتُ) : أي منعت.

الحواريون : جمع حواري : وهو صادق الحب في السر والعلن.

معنى الآيات :

يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الآخر يوم يجمع (١) الرسل عليهم‌السلام ويسألهم وهو أعلم بهم : (فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ؟) أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون : (لا عِلْمَ لَنا : (٢) إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه‌السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم ، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى ، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله ، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي ، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ (٣) بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، جبريل عليه‌السلام (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) وأنت طفل. إذ قال وهو في مهده (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) وقوله (وَكَهْلاً) أي وتكلمهم وأنت كهل أيضا وفيه بشرى لمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيرا وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل ويعدد نعمه عليه

__________________

(١) (يَوْمَ) منصوب على الظرفية معمول ل اسمعوا لفعل محذوف يقدّر ب اذكروا ، أو اسمعوا ، أو احذروا.

(٢) أي : لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا ، ويشهد له حديث الصحيح : «يرد عليّ أقوام الحوض فيختلجون فأقول : أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

(٣) أي : قويتك مأخوذ من الأيد الذي هو القوة ومنه قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ).

فيقول : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة ، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه‌السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) فيكون طيرا بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيرا فأخذت طينا وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائرا ، واذكر أيضا (تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) وهو الأعمى الذي لا عينين له ، (وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) أي بعوني لك وإقداري لك على ذلك (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه‌السلام عددا من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حيا من قبره وهم ينظرون ، واذكر (إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (١) فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك ، (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). واذكر (إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) (٢) على لسانك (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) أي بك يا عيسى (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.

٢ ـ وجوب الاستعداد لذلك اليوم بتقوى الله تعالى.

٣ ـ توبيخ اليهود والنصارى بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه.

٤ ـ بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.

٥ ـ ثبوت معجزات عيسى عليه‌السلام وتقريرها.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) أي : الدلالات والمعجزات وهي المذكورة في هذه الآيات من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.

(٢) الوحي يكون بمعنى الإلهام لغير الرسول أمّا الرسول فطرق الوحي إليهم جاءت في آخر سورة الشورى.

مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

شرح الكلمات :

(هَلْ يَسْتَطِيعُ) : هل يطيع ويرضى.

(مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) : المائدة : الخوان وما يوضع عليه أو الطعام والمراد بها هنا الطعام.

(وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) : أي تسكن بزيادة اليقين فيها.

(وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) : أي نشهد أنها نزلت من السماء.

(عِيداً) : أي يوما يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره.

(وَآيَةً مِنْكَ) : علامة منك على قدرتك ورحمتك ، ونبوة نبيك.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) : فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم أيها السائلون للمائدة.

(أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) : أي من الناس أجمعين.

معنى الآيات :

يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى واذكر (إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) ، (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) : (هَلْ يَسْتَطِيعُ (١) رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ

__________________

(١) اضطربت نفوس المؤمنين في توجيه هذه العبارة : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ..) كيف يقول هذا أنصار الله الحواريون وهو دالّ دلالة واضحة على جهل بالله تعالى وعدم معرفة الأدب مع نبيّه عيسى عليه‌السلام ، فمن قائل : أنّ يستطيع بمعنى : يطيع أي : هل يطيعك ربّك في هذا؟ ومن قائل : إن قراءة (هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالتاء ، وربك معمول أي : هل تقدر على سؤال ربّك أن ـ

عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟) ولما كان قولهم هذا دالا على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه‌السلام (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فلا تقولوا مثل هذا القول. فاعتذروا عن قيلهم الباطل و (قالُوا : نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه‌السلام داعيا ربه ضارعا إليه (اللهُمَ) أي يا الله (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ، تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا) أي للموجودين الآن منا (وَآخِرِنا) أي ولمن يأتون بعدنا ، (وَآيَةً مِنْكَ) ، أي وتكون آية منك أي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك ، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولا إلى بني إسرائيل ، (وَارْزُقْنا) وأدم علينا رزقك وفضلك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، فأجابه تعالى قائلا : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ، وحقا قد أنزلها ، (١) (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي ، أو عظيم قدرتي (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم إذ قالوا لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وقالوا لعيسى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ).

٢ ـ في قول عيسى لهم (اتَّقُوا اللهَ) دال على أنهم قالوا الباطل كما أن قولهم : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) دال على شكهم وارتيابهم.

٣ ـ مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر شكرا لله تعالى وفي الإسلام عيدان : الأضحى والفطر.

٤ ـ من أشد الناس عذابا يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.

__________________

ـ ينزل الخ ومن قائل إنّ هذا كان منهم في أوّل أمرهم قبل أن يتعلموا ، ومن قائل : أنّ هذا صدر ممن كان مع الحواريين ولم يكن من الحواريين ، وما ذكرته في التفسير أولى لانسجامه مع السياق إذ قول عيسى لهم : اتقوا الله ، وقولهم : ونعلم أن قد صدقتنا دال على جهلهم بالله ومقام عيسى عليه‌السلام ، وقد يكون أصحاب هذا القول ليسوا من فضلاء الحواريين ولكن كالذين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعل لنا ذات أنواط وكالذين قالوا لموسى عليه‌السلام : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والله أعلم.

(١) روى الترمذي عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما».

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

شرح الكلمات :

(إِلهَيْنِ) : معبودين يعبدان من دوني.

(سُبْحانَكَ) : تنزيها لك وتقديسا.

(ما يَكُونُ لِي) : ما ينبغي لي ولا يتأتى لي ذلك.

(شَهِيداً) : رقيبا.

(الرَّقِيبَ) : الحفيظ.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) : أي بنارك فإنهم عبادك تفعل بهم ما تشاء.

(وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) : أي تستر عليهم وترحمهم بأن تدخلهم جنتك.

(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : العزيز : الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده ، الحكيم : الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار ، والموحد الجنة.

(الصَّادِقِينَ) : جمع صادق : وهو من صدق ربه في عبادته وحده.

(وَرَضُوا عَنْهُ) : لأنه أثابهم بأعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

(عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : أي على فعل أي شيء تعلقت به إرادته وأراد فعله فإنه يفعله ولا يعجزه بحال من الأحوال.

معنى الآيات :

يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واذكر لقومك (إِذْ قالَ اللهُ) (١) تعالى يوم يجمع الرسل ويسألهم ما ذا أجبتم ، ويسأل عيسى بمفرده توبيخا للنصارى على شركهم (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) أي معبودين يقرره بذلك فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزها ربه تعالى مقدسا (سُبْحانَكَ (٢) ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) ، ويؤكد تفصيه مما وجه إليه توبيخا لقومه : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) يا ربي ، إنك (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) فكيف بقولي وعملي ، وأنا (لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) إلا أن تعلمني شيئا ، لأنك (أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ما (قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) أن أقوله لهم وهو (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٣) أي رقيبا (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) برفعي إليك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها. (وَأَنْتَ عَلى كلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) رقيب وحفيظ. (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أي لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل فإنك أنت العزيز الغالب على أمره الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده. فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلا : (هذا يَوْمُ (٤) يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) : صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا

__________________

(١) هذا مثل أتى أمر الله أتى بصيغة الماضي لتحقق الوقوع وكذلك هناك (إِذْ قالَ) فهو بمعنى يقول : اذكر إذ يقول الله يا عيسى .. الخ.

(٢) أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال : «تلقى عيسى حجته ولقّاه الله في قوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) قال أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقاه الله : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) الآية.

(٣) شهيدا : أي رقيبا أراعي أحوالهم وأدعوهم إلى العمل بطاعتك وأنهاهم عن مخالفتك.

(٤) قال الله هذا يوم ينفع الصادقين ...» الخ كلام مستأنف ختم به الحديث عما يقع يوم يجمع الله الرسل فذكر ثواب الصادقين وهو الجنة ورضوان الله وهو الفوز العظيم.

سواه. ونفعه لهم أن أدخلوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا ، مع رضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد ، (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إنّه النّجاة من النار ودخول الجنات. وفي الآية الأخيرة (١٢٠) يخبر تعالى أن له (مُلْكُ (١) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) من سائر المخلوقات والكائنات خلقا وملكا وتصرفا يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما‌السلام.

٢ ـ براءة عيسى عليه‌السلام من مشركي النصارى وأهل الكتاب.

٣ ـ تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية.

٤ ـ فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة ، وفي الحديث : «عليكم بالصدق (٣) فإنه يدعو إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا».

٥ ـ سؤال غير الله شيئا ضرب من الباطل والشرك ، لأن غير الله لا يملك شيئا ، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟

__________________

(١) في هذه الآية البرهنة الصحيحة على ألوهية الله تعالى وربوبيته للعالمين وإبطال دعوى النصارى في تأليه عيسى وأمّه عليهما‌السلام.

(٢) فما تعلقت إرادته بشيء فأراده إلّا كان كما أراد من سائر الممكنات.

(٣) أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.

سورة الأنعام (١)

مكية

وآياتها خمس وستون ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

شرح الكلمات :

(الْحَمْدُ) (٢) : الثناء باللسان على المحمود بصفات الجمال والجلال.

(خَلَقَ) : أنشأ وأوجد.

(يَعْدِلُونَ) : يسوون به غيره فيعبدونه معه.

الأجل : الوقت المحدد لعمل ما من الأعمال يتم فيه أو ينتهي فيه ، والأجل الأول أجل كل إنسان ، والثاني أحل الدنيا.

(تَمْتَرُونَ) : تشكّون في البعث الآخر والجزاء : كما تشكون في وجوب توحيده بعبادته وحده دون عيره.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) : أي معبود في السموات وفي الأرض.

__________________

(١) روى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد ، وسميت بالأنعام لذكر لفظ الأنعام فيها ست مرّات نزلت بمكة ليلا».

(٢) الحمد لله : تفيد استغراق المحامد لله تعالى إذ ال للاستغراق واللّام للاستحقاق فجميع المحامد مستحقة لله تعالى ، والقصر في الحمد لله قصر إضافي دال على إبطال حمد المشركين لآلهتهم الباطلة.

(ما تَكْسِبُونَ) : أي من خير وشر ، وصلاح فساد.

معنى الآيات :

يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله وهو الوصف بالجلال والجمال والثناء بهما عليه وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه كأنما قال قولوا الحمد لله ، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضَ (٢) وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات (٣) والنور وهما من أقوى عناصر الحياة هو المستحق للحمد والثناء لا غيره ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناما وأوثانا ومخلوقات فيعبدونها معه يا للعجب!!

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١) أما الآية الثانية (٢) فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخا لهم على جهلهم منددا بباطلهم فيقول : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ (٤) طِينٍ) لأن آدم أباهم خلقه من طين ثم تناسلوا منه فباعتبار أصلهم هم مخلوقون من طين ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين ، ثم قضى لكل أجلا وهو عمره المحدد له وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه وهو مسمى عنده معروف له لا يعرفه غيره ولا يطلع عليه سواه ولحكم عالية أخفاه ، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكّون في وجوب توحيده ، وقدرته على إحيائكم بعد موتكم (٥) لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره ، حسنه وسيئه ، وفي الآية الثالثة (٣) يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السموات (٦) وفي الأرض لا إله غيره ولا رب سواه (يَعْلَمُ

__________________

(١) (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) هاتان الجملتان هما مقتضيات الحمد لله وموجباته له تعالى ، إذ من أوجد الكون كلّه وهو جواهر وأعراض ، فالجواهر السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، والأعراض الظلمة والنور هو المستحق للعبادة دون غيره فأبطل بهذا عبادة الأجسام كالأصنام والملائكة والأنبياء ، وعبادة الأعراض كالظلمة والنور إلها المانوية.

(٢) الأرض : اسم جنس ، فالمراد بالأرض : الأرضون السبع كالنور اسم جنس والمراد به كل نور.

(٣) من رشاقة الكلم جعل خلق للأجسام وجعل للأعراض في قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

(٤) قال القرطبي هل في هذه الآية دليل على أنّ الجواهر من جنس واحد؟ الجواب : نعم لأنّه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر إذ صح انقلاب الجماد إلى حيوان بدلالة هذه الآية.

(٥) ذكره تعالى أصل خلق الناس من طين فيه إشارة إلى الردّ على منكري البعث المحتجين على عدم إمكان الحياة الآخرة بكونهم بعد الموت يصيرون ترابا ، وجهلوا أنّ صيرورتهم إلى تراب هو دليل إعادتهم إلى خلقهم من جديد إذ عادوا إلى أصل خلقهم ليعودوا إلى حياة أكمل من حياتهم الأولى.

(٦) قال القرطبي في تفسير هذه الآية : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي : وهو الله المعظّم والمعبود في السموات وفي الأرض كما تقول : زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه.

سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من خير وشر فهو تعالى فوق عرشه بائن من خلقه ويعلم سر عباده وجهرهم ويعلم أعمالهم وما يكتسبون بجوارحهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير ، والرهبة مما لديه من عذاب ، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله.

٢ ـ لا يصح حمد أحد بدون ما يوجد لديه من صفات الكمال ما يحمد عليه.

٣ ـ التعجب من حال من يسوون المخلوقات بالخالق عزوجل في العبادة.

٤ ـ التعجب من حال من يرى عجائب صنع الله ومظاهر قدرته ثم ينكر البعث والحياة الآخرة.

٥ ـ صفة العلم لله تعالى وأنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

شرح الكلمات :

(مِنْ آيَةٍ) : المراد بالآية هنا آيات القرآن الكريم الدالة على توحيد الله تعالى والإيمان برسوله ولقائه يوم القيامة.

(مُعْرِضِينَ) : غير ملتفتين إليها ولا مفكرين فيها.

(بِالْحَقِ) : الحق هنا هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الدين الحق.

(أَنْباءُ) : أخبار ما كانوا به يستهزئون وهو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

(مِنْ قَرْنٍ) : أي أهل قرن من الأمم السابقة ، والقرن مائة سنة.

(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) : أعطيناهم من القوة المادية ما لم نعط هؤلاء المشركين.

(مِدْراراً) : مطرا متواصلا غزيرا.

(بِذُنُوبِهِمْ) : أي بسبب ذنوبهم وهي معصية الله ورسله.

(وَأَنْشَأْنا) : خلقنا بعد إهلاك الأولين أهل قرن آخرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أولئك الذين يعدلون بربهم غيره من مخلوقاته فيقول تعالى عنهم : وما تأتيهم (١) من آية من آيات ربهم التي (٢) يوحيها إلى رسوله ويضمها كتابه القرآن الكريم ، إلا قابلوها بالإعراض التام ، وعدم الالتفات إلى ما تحمله من هدى ونور ، وسبب ذلك أنهم قد كذبوا بالحق لما جاءهم وهو الرسول وما معه من الهدى ، وبناء على ذلك (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وقد استهزأوا بالوعيد وسينزل بهم العذاب الذي كذبوا به واستهزأوا ، وأول عذاب نزل بهم هزيمتهم يوم بدر ، ثم القحط سبع سنين ، ومن مات منهم على الشرك فسوف يعذب في نار جهنم أبدا ، ويقال لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون

وقوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ (٣) قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي كثيرا من أهل القرون

__________________

(١) (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) من الأولى لاستغراق الجنس ، ومن الثانية للتبعيض.

(٢) وجائز أن يراد بالآية أيضا المعجزة كانشقاق القمر ونحوها.

(٣) القرن : الأمّة من الناس ، والجمع : قرون قال الشاعر :

إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم

وخلّفت في قرن فأنت غريب.

فالقرن : كل عالم في عصره مأخوذ من الإقتران أي عالم مقترن بعضهم ببعض وفي الحديث : «خير الناس قرني ..» ويطلق القرن على المائة سنة ، إذ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن بشر «تعيش قرنا» فعاش مائة سنة وقرن الشاة معروف.

الماضية مكن الله تعالى لهم في الأرض من الدولة والسلطان والمال والرجال ما لم يمكن لهؤلاء المشركين من كفار قريش ، وأرسل على أولئك الذين مكن لهم السماء (١) مدرارا بغزير (٢) المطر وجعل لهم في أرضهم الأنهار تجري من تحت أشجارهم وقصورهم ، فلما أنكروا توحيدي وكذبوا رسولي ، وعصوا أمري (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ، لا ظلما منا ولكن بظلمهم هم لأنفسهم ، وأوجدنا بعدهم قوما آخرين ، وكان ذلك علينا يسيرا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التكذيب بالحق هو سبب الإعراض عنه فلو آمنوا به لأقبلوا عليه.

٢ ـ الاستهزاء والسخرية بالدين من موجبات العذاب وقرب وقوعه.

٣ ـ العبرة بهلاك الماضين ، ومصارع الظالمين.

٤ ـ هلاك الأمم كان بسبب ذنوبهم ، فما من مصيبة إلا بذنب. (٣)

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)

__________________

(١) (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) عبر عن المطر بالسماء لأنّه منها ينزل قال الشاعر :

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناها وإن كانوا غضابا

(٢) مدرارا : بناء دال على الكثرة نحو امرأة مذكار إذا كثر أولادها الذكور وهو مشتق من درّت الشاة تدر إذا أقبل لبنها على الحالب لها بكثرة.

(٣) شاهده من القرآن الكريم : قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

شرح الكلمات :

قرطاسا : القرطاس : ما يكتب عليه جلدا أو كاغدا.

(فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) : مسوه بأصابعهم ليتأكدوا منه.

(مَلَكٌ) : الملك أحد الملائكة.

(لَقُضِيَ الْأَمْرُ) : أي أهلكوا وانتهت حياتهم.

(لا يُنْظَرُونَ) : لا يمهلون.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) : ولو جعلنا الرسول إليهم ملكا لإنكارهم البشر.

(لَلَبَسْنا) : خلطنا عليهم.

(اسْتُهْزِئَ) : سخر وتهكم واستخف.

حاق بهم : نزل بهم العذاب وأحاط بهم فأهلكوا.

معنى الآيات

مازال السياق في شأن العادلين بربهم أصنامهم التي يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله يقول تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) أيها الرسول (كِتاباً) أي مكتوبا في ورق جلد أو كاغد ورأوه منزلا من السماء (١) ولمسوه بأيديهم وحسوه بأصابعهم ما آمنوا ولقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). أي سحر واضح سحركم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلا كيف ينزل الكتاب من السماء ، (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ (٢) عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي هلا أنزل عليه ، لم لا ينزل عليه ملك يساعده ويصدقه بأنه نبي الله ورسوله ، فقال تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) ، وليس من شأن الله أن ينزل الملائكة ولو أنزل ملكا فكذبوه لأهلكهم ، إذ الملائكة لا تنزل إلا لإحقاق الحق وعليه فلو نزل ملك لقضي أمرهم بإهلاكهم وقطع دابرهم وهذا ما لا يريده الله تعالى لهم. وقوله : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ولو ساعة ليتوبوا أو يعتذروا مثلا. وقوله تعالى : (وَلَوْ

__________________

(١) قال ابن عباس : كتابا معلّقا بين السماء والأرض يشاهدونه. أمّا إنزال الوحي فهو حاصل وأبوا أن يؤمنوا به.

(٢) هذا اقتراح منهم حملهم عليه الكبر والعناد.

جَعَلْناهُ مَلَكاً) أي الرسول ملكا لقالوا كيف نفهم عن الملك ونحن (١) بشر فيطالبون بأن يكون بشرا وهكذا كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) خلطنا وشبهنا ما يخلطون على أنفسهم ويشبهون. ثم أخبر تعالى رسوله مسليا له قائلا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ (٢) بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزيء بك فاصبر ، فقد حاق بالمستهزئين ما كانوا به يستهزئون ، كانوا إذا خوفهم الرسل عذاب الله سخروا منهم واستخفوا بهم وبالعذاب الذي خوفوهم به ، ثم أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لأولئك المستهزئين بما يعدهم من عذاب ربهم وهم أكابر مجرمي قريش : (قُلْ (٣) سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) جنوبا لتقفوا على ديار عاد أو شمالا لتقفوا على ديار ثمود ، أو غربا لتقفوا على بحيرة لوط فتعرفوا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من أمثالكم لعلكم تحققون من طغيانكم وتكذيبكم فيسهل عليكم الرجوع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الآيات بمعنى المعجزات والخوارق لا تستلزم الإيمان بل قد تكون سببا للكفر والعناد ، ولذا لم يستجب الله لقريش ولم يعط رسوله ما طالبوه به من الآيات.

٢ ـ إنكار رسالة البشر عام في كل الأمم وقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم في آيات كثيرة في حين أن إرسال الملائكة لا يتم معه هدف لعدم قدرة الانسان على التلقي عن الملائكة والتفاهم معهم ، ولو أنزل الله ملكا رسولا لقالوا نريده بشرا مثلنا ولحصل الخلط واللبس بذلك.

٣ ـ الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية لا تكاد تتخلف ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر على ذلك.

٤ ـ عاقبة التكذيب والاستهزاء هلاك المكذبين المستهزئين.

٥ ـ مشروعية زيارة القبور للوقوف (٤) على مصير الإنسان ومآل أمره فإن في ذلك ما يخفف شهوة

__________________

(١) لأنّ سنة الله تعالى في التفاهم أن تكون بين متجانسين كإنسان مع إنسان أو حيوان مع حيوان أمّا ملك مع انسان أو إنسان مع حيوان فلا لا.

(٢) في هذه الآية تعزية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له ليصبر على ما يلاقيه من قومه من سخرية واستهزاء وعناد ومكابرة.

(٣) قال القرطبي : هذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار ، وأقول على شرط أن يدخلوا تلك الديار باكين أو متباكين لا ضاحكين غافلين لاهين بأنواع الطعام والشراب.

(٤) أخذا من قوله تعالى في الآية : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وشاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة الصحيحة : «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة».

الدنيا والنهم فيها والتكالب عليها وهو سبب الظلم والفساد.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُل ـ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

شرح الكلمات :

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) : أي أوجب على نفسه رحمة خلقه.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : لا شك في مجيئه وحصوله في أجله المحدد له.

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : حيث لوثوها بأوضار الشرك والمعاصى فلم ينتفعوا بها.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي ما استقر فيها من ساكن ومتحرك أي له كل شيء.

(وَلِيًّا) : أحبه وأنصره واطلب نصرته ومحبته وولايته.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) : أي من العذاب بمعنى يبعد عنه.

(الْفَوْزُ الْمُبِينُ) : أي الواضح إذ النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث مع العادلين بربهم غيره من أهل الشرك فيقول تعالى لرسوله

سلهم قائلا : (لِمَنْ (١) ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وإيجادا أو ملكا وتصرفا وتدبيرا ، واسبقهم إلى الجواب فقل لله ، إذ ليس لهم من جواب إلا هذا : (لِلَّهِ) ، أي هو الله الذي (كَتَبَ (٢) عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قضى بها وأوجبها على نفسه ، ومظاهرها متجلية في الناس : إنهم يكفرونه ويعصونه وهو يطعمهم ويسقيهم ويكلؤهم ويحفظهم ، وما حمدوه قط. ومن مظاهر رحمته جمعه الناس ليوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم الحسنة بعشر أمثالها أما السيئة فبسيئة مثلها فقط وهو ما دل عليه قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ (٣) إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أى الكائن الآتى بلا ريب ولا شك ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يخبر تعالى أنّ الذين كتب خسرانهم أزلا في كتاب المقادير فهم لذلك لا يؤمنون وما كتب أزلا لعلم تام بموقفهم هذا الذي هم وافقوه من الكفر والعناد والشرك والشر والفساد ، بذلك استوجبوا الخسران هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٢) أما الآية الثانية (١٣) (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وهذا تقرير بأنه رب كل شيء والمالك لكل شيء إذ ما هناك إلا ساكن ومتحرك وهو رب الجميع ، وهو السميع لأحوال عباده وسائر مخلوقاته العليم بأفعالهم الظاهرة والباطنة ولذا لا يسأل عما يفعل ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن هنا وجب اللجأ إليه والتوكل عليه ، والانقياد لأمره ونهيه. وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٤) (قُلْ أَغَيْرَ (٤) اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) يأمر تعالى رسوله أن يرد على المشركين المطالبين منه أن يوافقهم على شركهم ويعبد معهم آلهتهم فيقول : أفغير الله فاطر السموات والأرض الذي يطعم غيره لافتقاره إليه ، ولا يطعم (٥) لغناه المطلق أغيره تعالى أتخذ وليا أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء تعبدونهم. إن هذا لن يكون أبدا كما أمره ربه تعالى أن يقول في صراحة ووضوح ، (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي وجهه لله ، وأقبل عليه يعبده

__________________

(١) هذا حجاج مع المشركين آخر : قل لهم لمن ما في السموات والأرض؟ فإن قالوا : لمن هو؟ قل : لله ، ولكن لا يقولون إلّا الله ، لمعرفتهم أنّ غير الله لا يخلق ولا يرزق ولا يملك.

(٢) ولذا لم يعاجلهم بالعقوبة التي يقتضيها كفرهم وعنادهم ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله لمّا خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ان رحمتي تغلب غضبي».

(٣) اللّام : للقسم أي : وعزتي وجلالي ليجمعنكم في يوم القيامة الذي كذّبتم به وهو لا شك فيه.

(٤) الإستفهام إنكاري وقدم المفعول الأوّل : (أَغَيْرَ اللهِ) لأنّه هو المقصود بالإنكار.

(٥) أي يرزق ولا يرزق كقوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) بفتح العين أي إنّه يطعم عباده بالرزق وهو لا يطعم لاستحالة احتياجه إلى الغذاء كما يحتاجه المخلوقون من عباده.

بما شرع له ، ونهاني أن أكون من المشركين بقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يعبدون مع الله غيره من مخلوقاته وأمره في الآية (١٥) أن يقول للمشركين الراغبين في تركه التوحيد : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١) وهو عذاب يوم القيامة. إنه عذاب أليم لا يطاق من يصرف (٢) عنه يومئذ فقد رحمه أي أدخله الجنة والنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم كما قال تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) نعم فاز وأي فوز أكبر من الخلوص من العذاب ودخول في دار السّلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عموم رحمة الله تعالى.

٢ ـ تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الأزل قبل خلق الخلق.

٣ ـ الله رب كل شيء ومليكه.

٤ ـ تحريم ولاية غير الله ، وتحريم الشرك به تعالى.

٥ ـ بيان الفوز الأخروي وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

__________________

(١) قوله : (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) عوضا عن اسم الجلالة (الله) فيه إيماء وإشارة إلى أن عصيان الرب قبيح قبحا أشد من عصيان المعبود ، لأنّ الربّ هو المليك المربي المتولي الحافظ الولي فعصيان من يربّي ويرزق قبيح جدا.

(٢) أي : من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه فأدخله جنّته بعد أن نجّاه من النار.

شرح الكلمات :

(يَمْسَسْكَ) : يصبك.

(بِضُرٍّ) : الضر : ما يؤلم الجسم أو النفس كالمرض والحزن.

(بِخَيْرٍ) : الخير : كل ما يسعد الجسم أو الروح.

(الْقاهِرُ) : الغالب المذل المعز.

(شَهادَةً) : الشهادة : إخبار العالم بالشيء عنه بما لا يخالفه.

(لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) : لأخوفكم بما فيه من وعيد الله لأهل عداوته.

(إِلهٌ واحِدٌ) : معبود واحد لأنه رب واحد ، إذ لا يعبد إلا الرب الخالق الرازق المدبر.

معنى الآيات :

ما زال السياق في توجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية موقفه من أولئك العادلين بربهم المشركين به فيقول له ربه تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ (١) فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي إن أصابك الله بما يضرك في بدنك فلا كاشف له عنك بإنجائك منه إلا هو. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) أي وإن يردك بخير فلا (٢) راد له (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، والخطاب وإن كان موجها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه عام في كل أحد فلا كاشف للضر إلا هو ، ولا راد لفضله أحد ، ومع كل أحد ، وقوله تعالى في الآية الثانية (١٨) (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) تقرير لربوبيته المستلزمة لألوهيته فقهره لكل أحد ، وسلطانه على كل أحد مع علو كلمته وعلمه بكل شيء موجب لألوهيته وطاعته وطلب ولايته ، وبطلان ولاية غيره وعبادة سواه وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٩) (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) نزلت لما قال المشركون بمكة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إئتنا بمن يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروها فأمره ربه تعالى أن يقول لهم ردا عليهم : أي شيء أكبر شهادة؟ ولما كان لا جواب لهم إلا أن يقولوا الله أمره أن يجيب به : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). فشهادة الله تعالى لي بالنبوّة إيحاؤه إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به ، وأنذر

__________________

(١) الضرّ : هو ما يؤلم الإنسان وهو من الشر المنافي للإنسان ويقابله النفع وهو من الخير الملائم للإنسان ولذا فالضرّ هنا أعم من المرض إذ يتناوله وغيره من سائر ما يضر الإنسان.

(٢) شاهده حديث ابن عباس عند الترمذي وهو صحيح إذ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا غلام إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم انّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفّت الصحف».

كل من بلغه وسمع به بأن من بلغه (١) ولم يؤمن به ويعمل بما جاء فيه من العقائد والعبادات والشرائع فإنه خاسر لنفسه يوم القيامة. ثم أمره أن ينكر عليهم الشرك بقوله : أئنكم (٢) لتشهدون مع الله آلهة أخرى ، وذلك بإيمانكم بها وعبادتكم لها أما أنا فلا أعترف بها بل أنكرها فضلا عن أن أشهد بها. ثم أمره بعد إنكار آلهة المشركين أن يقرر ألوهيته الله وحده وأن يتبرأ من آلهتهم المدعاة فقال له قل : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). (٣)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب اللجأ إلى الله تعالى دون غيره من سائر خلقه إذ لا يكشف الضر (٤) إلا هو.

٢ ـ شهادة الله تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات.

٣ ـ نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين.

٤ ـ تقرير مبدأ التوحيد لا إله إلا الله ، ووجوب البراءة من الشرك.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

__________________

(١) في البخاري : «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له ، وقال القرطبي : من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع منه.

(٢) الاستفهام للتوبيخ والتقريع مع الإنكار لشهادتهم الباطلة وذلك بتأليههم الأصنام ، والأحجار جهلا وعنادا.

(٣) أي من الشرك والشركاء معا.

(٤) آية (يونس) في هذا الباب عظيمة إذ قال مخاطبا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

شرح الكلمات :

الذين أوتوا الكتاب : علماء اليهود والنصارى.

(يَعْرِفُونَهُ) : يعرفون محمدا نبيا لله ورسولا له.

(افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : اختلق الكذب وزوّره في نفسه وقال.

(لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) : لا ينجون من عذاب الله يوم القيامة.

(أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) : استفهام توبيخي لهم.

(تَزْعُمُونَ) : تدعون أنهم شركاء يشفعون لكم عند الله.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) : غاب عنهم ولم يحضرهم ما كانوا يكذبونه.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي علماء اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي الله ورسوله وأن القرآن كتاب الله أوحاه إليه يعرفونه بما ثبت من أخباره ونعوته معرفة كمعرفة أبنائهم ، رد الله تعالى بهذا على العرب الذين قالوا : لو كنت نبيا لشهد لك بذلك أهل الكتاب ثم أخبر تعالى أن الذين (١) خسروا أنفسهم في قضاء الله وحكمه الأزلي لا يؤمنون ، وإن علموا ذلك في كتبهم وفهموه واقتنعوا به ، فهذا سر عدم إيمانهم ، فلن يكون إذا عدم إيمانهم حجة ودليلا على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه غير نبي ولا رسول هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٠) وفي الآية الثانية نداء الله تعالى لكلّ من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب بقوله (وَمَنْ (٢) أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وهم المشركون بزعمهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله ولذا عبدوها ، أو كذبوا بآياته وهم أهل الكتاب ، وأخبر أن الجميع في موقفهم المعادي للتوحيد والاسلام ظالمون ، وإن الظالمون لا يفلحون فحكم بخسران الجميع إلا من آمن منهم وعبد الله ووحده وكان من المسلمين وقوله تعالى في الآية الثالثة (٢٢) (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ (٣) جَمِيعاً) مشركين وأهل كتاب أي لا يفلحون في الدنيا ولا يوم

__________________

(١) (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في موضع النعت أو البدلية من قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ).

(٢) (وَمَنْ أَظْلَمُ) الاستفهام للنفي والتقريع أي لا أحد أعظم ظلما ممن افترى على الله الكذب أو كذّب بآياته التي هي الآيات القرآنية والمعجزات النبوية.

(٣) الظرف معمول لفعل محذوف تقديره : واذكر لقومك الوقت الذي يجري فيه الاستنطاق والاستجواب وكيف يكون موقف هؤلاء المشركين الظالمين.

نحشرهم وهو يوم القيامة لأنهم ظالمون ، ثم أخبر تعالى بمناسبة ذكر يوم القيامة أنه يسأل المشركين منهم فيقول لهم : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم؟ ثم لم تكن نتيجة هذه الفتنة أي الاختبار إلا قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا (١) مُشْرِكِينَ) ، يكذبون هذا الكذب لأنهم رأوا أن المشركين لا يغفر لهم ولا ينجون من النار. ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من موقفهم هذا المخزي لهم فقال له : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى (٢) أَنْفُسِهِمْ) أما ربهم فهو عليم بهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي غاب فلم يروه. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الاسلام إلا إيثار الدنيا على الآخرة.

٢ ـ سببان في عظم الجريمة الكاذب على الله المفتري والمكذب الجاحد به وبكتابه وبنبيه.

٣ ـ تقرير عدم فلاح الظالمين في الحياتين.

٤ ـ الشرك لا يغفر لصاحبه إذا لم يتب منه قبل موته.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)

__________________

(١) تبرّؤا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوز الله ومغفرته للموحدين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره فإذا رأى المشركون ذلك قالوا : إنّ ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول : والله ربّنا ما كنا مشركين.

(٢) وجه كذبهم : أنهم كانوا يقولون في الأصنام تشفع لنا عند الله وتقرّبنا إليه زلفى. ففي هذا الموقف غاب عنهم الكذب والافتراء وواجهوا الحقيقة المرّة كما هي.

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(أَكِنَّةً) : جمع كنان ما يكن فيه الشيء كالغطاء.

(وَقْراً) : ثقلا وصمما فهم لا يسمعون.

(يُجادِلُونَكَ) : يخاصمونك.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : جمع أسطورة : ما يكتب ويحكى من أخبار السابقين.

(وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) : أي ويبعدون عنه.

(بَلْ بَدا لَهُمْ) : بل ظهر لهم.

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا) : ما هي إلا حياتنا.

(بِمَبْعُوثِينَ) : بعد الموت أحياء كما كنا قبل أن نموت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أولئك العادلين بربهم المشركين به سواه فيخبر تعالى عن بعضهم فيقول (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حال قراءتك القرآن ولكنه لا يعيه قلبه ولا يفقه ما فيه من أسرار وحكم تجعله يعرف الحق ويؤمن به ، وذلك لما جعلنا حسب سنتنا في خلقنا من أكنة (١) على قلوبهم أي أغطية ، ومن (٢) وقر أي ثقل وصمم في آذانهم ، فلذا هم يستمعون ولا يسمعون ، ولا يفقهون وتلك الأغطية وذلك الصمم هما نتيجة ما يحملونه من بغض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكره لما جاء به من التوحيد ، ولذا فهم لو يرون كل آية مما يطالبون به من المعجزات كإحياء الموتى ونزول الملائكة عيانا لا يؤمنون بها لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا ولذا قال تعالى :

__________________

(١) الأكنة : جمع كنان كأسنة جمع سنان ، والأعنة جمع عنان ، والكنّة : امرأة الأب لأنّها في كنّه ، وكذا امرأة الابن والأخ.

(٢) يقال : وقرت أذنه توقر وقرا ، إذا صمّت ، والنخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي في شأن التوحيد وآلهتهم (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا (١) إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، أمليت عليك أو طلبت كتابتها فأنت تقصها ، وليس لك من نبوة ولا وحي ولا رسالة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٥) أما باقي الآيات فإن الثانية (٢٦) تضمنت إخبار الله تعالى عنهم بأنهم ينهون الناس عن الإيمان بالنبي وبما جاء به وعن متابعته والدخول في دينه ، وينأون هم بأنفسهم أي يبعدون عنه فلا إيمان ولا متابعة. وهذه شر الصفات يصفهم الله تعالى بها وهي البعد عن الحق والخير ، وأمر الناس بالبعد عنهما ونهيهم عن قربهما ولذا قال تعالى : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ (٢) إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بهذا الموقف الشائن المعادى للرسول والتوحيد ، وما يشعرون بذلك إذ لو شعروا لكفوا ، والذي أفقدهم الشعور هو حب الباطل والشر الذي حملهم على عداوة الرسول وما جاء به من عبادة الله وتوحيده وها هم أولا قد حشروا في جهنم ، والله تعالى يقول للرسول : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا (٣) عَلَى النَّارِ) ولا بد لهم من دخولها والاصطلاء بحرها والاحتراق بلهبها ، فقالوا وهم في وسطها (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) إلى الحياة الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وما هم والله بصادقين وإنما هي تمنيات حمل عليها الإشفاق من العذاب والخوف من نار جهنم ، والفضيحة حين ظهر لهم (٤) ما كانوا يخفون في الدنيا من جرائم وفواحش وهم يغشونها الليل والنهار قال تعالى وهو العليم الخبير : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، وصدق الله لو ردوا لعادوا وفي الآية الأخيرة (٢٩) يسجل الله تعالى عليهم سبب بلائهم ومحنتهم ، وإقدامهم في تلك الجرأة الغريبة على الشرك ومحاربة التوحيد ، ومحاربة الموحدين بالضرب والقتل والتعذيب إنه كفرهم بالبعث والجزاء إذ قالوا ما أخبر تعالى به عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا (٥) حَياتُنَا الدُّنْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

__________________

(١) قال ابن عباس : قالوا للنضر بن الحارث ما يقول محمد؟ قال : أرى تحريك شفتيه وما يقول إلّا أساطير الأوّلين مثل ما أحدّثكم أنا عن القرون الماضية إذ كان النضر صاحب قصص سمعها من ديار العجم إذ كان سافر إليها للتجارة ، والأساطير : جمع أسطار وأسطورة نحو : أحاديث وأحدوثة ومعنى الأساطير : ما كتب وسطّر من أخبار الأولين وهو ترّهاتهم وأباطيلهم.

(٢) (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) أي : ما يهلكون فإن بمعنى : ما النافية.

(٣) أي : وهم على الصراط وهي تحتهم أو وقفوا بقربها وهم يعاينونها ، وجواب لو محذوف تقديره : لرأيت منظرا هائلا ونحوه.

(٤) قوله تعالى (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي في دار الدنيا من الكفر والتكذيب والعناد وجائز أن يكون ظهر لهم صدق ما كانوا يعلمون أنّه حق من أمر الدين والتوحيد ولكن يخفونه في أنفسهم حتى لا يعلم ذلك إخوانهم في الكفر واتباعهم في الشرك.

(٥) هذا سبب شقائهم هو إنكارهم للبعث والجزاء ومغالطة أنفسهم بأنه لا حياة إلّا الحياة الدنيا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى فى أن العبد إذا كره أحدا وأبغضه وتغالى في ذلك يصبح لا يسمع ما يقول له ، ولا يفهم معنى ما يسمع منه.

٢ ـ شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالإعراض عنه ، وينهى من يقبل عليه.

٣ ـ سبب الشر في الأرض الكفر بالله ، وإنكار البعث والجزاء الآخر.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) : جيء بهم ووقفوا على قضائه وحكمه تعالى فيهم.

(بَلى وَرَبِّنا) : أي إنه للحق والله.

(خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) : أي خسروا أنفسهم في جهنم.

(السَّاعَةُ بَغْتَةً) : ساعة : البعث ليوم القيامة وبغتة : أي فجأة.

(يا حَسْرَتَنا) : الحسرة : التندم والتحسر على ما فات ينادون حسرتهم زيادة في التألم والتحزن.

(أَوْزارَهُمْ) : أحمال ذنوبهم إذ الوزر الحمل الثقيل.

(لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : اللعب : العمل الذي لا يجلب درهما للمعاش ، ولا حسنة للمعاد.

واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه مما يكسبه خيرا أو يدفع عنه ضيرا.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله : ولو ترى (١) إذ وقف أولئك لمنكرون للبعث القائلون (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ، لو تراهم وقد حبسوا لقضاء الله وحكمه فيهم وقيل لهم وهم يشاهدون أهوال القيامة وما فيها من حساب وجزاء وعذاب (أَلَيْسَ (٢) هذا بِالْحَقِ) أي الذي كنتم تكذبون فيسارعون بالإجابة قائلين (بَلى ، وَرَبِّنا) ، فيحلفون بالله تعالى تأكيدا لصحة جوابهم فيقال لهم (٣) : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) لا ظلما منا ولكن بسبب كفركم إذ الكفر منع من طاعة الله ورسوله ، والنفس لا تطهر إلا على تلك الطاعة ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٠) أما الآية الثانية (٣١) فقد أعلن تعالى عن خسارة صفقة الكافرين الذين باعوا الإيمان بالكفر والتوحيد بالشرك ، والطاعة بالمعاصي فقال تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) (٤) أي بالحياة بعد الموت وهذا هو سبب المحنة والكارثة (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) ساعة فناء هذه الحياة وإقبال الحياة الآخرة (بَغْتَةً) أي فجأة لم يكونوا يفكرون فيها لكفرهم بها ، وعندئذ صاحوا بأعلى أصواتهم معلنين عن تندمهم (يا حَسْرَتَنا (٥) عَلى ما فَرَّطْنا) أي في صفقتنا حيث اشترينا الكفر بالإيمان والشرك بالتوحيد قال تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) من الجائز أن تصور لهم أعمالهم من الكفر والشرك والظلم والشر والفساد في صورة رجل قبيح أشوه فيحملونه على ظهورهم في عرصات القيامة وقد ورد به خبر. ولذا قال تعالى : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي قبح ما يحملونه! وفي الآية (٣٢) الأخيرة يخبر تعالى مذكرا واعظا ناصحا فيقول يا عباد الله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) فانتبهوا فلا تغتروا بما فيها من ملذات فإن نعيمها إلى زوال ما شأنها إلا شأن من يلعب أو يلهو ، ثم لا يحصل على طائل من لعبه (٦) ولهوه ، أما الدار الآخرة فإنها خير ولكن للذين يتقون الشرك والشر

__________________

(١) جواب لو محذوف تقديره : لعظم شأن الوقوف.

(٢) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي : أليس هذا البعث كائنا موجودا.

(٣) جائز أن يكون القائل : الله تعالى ، وجائز أن تكون الملائكة وهو أولى لأنهم ليسوا أهلا لأن يكلّمهم الربّ تبارك وتعالى.

(٤) أي بالبعث بعد الموت والجزاء على العمل في الدنيا هذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» في الصحيح ، إلّا أنه لا مانع من حمل اللفظ على ظاهره لأنّ لقاء الله كائن حقا وكيف وهو الذي يفصل بينهم في ساحة فصل القضاء.

(٥) أي : يا حسرتنا احضري فهذا أوان حضورك ، والحسرة : الندم الشديد ، والتلهف والنداء للتندّم والتعجب من حالهم وما حلّ بهم.

(٦) هي كما قال الحكيم :

ألا إنّما الدنيا كأحلام نائم

وما خير عيش لا يكون بدائم

تأمّل إذا ما نلت بالأمس لذّة

فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

والمعاصي ، فما لكم مقبلين على الفانى معرضين عن الباقي (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟!)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له.

٢ ـ قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبها يوم القيامة.

٣ ـ حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحا.

٤ ـ الساعة لا تأتي إلا بغتة ، ولا ينافي ذلك ظهور علاماتها ، لأن الزمن ما بين العلامة والعلامة لا يعرف مقداره.

٥ ـ نصيحة القرآن للعقلاء بأن لا يغتروا بالحياة الدنيا. ويهملوا شأن الآخرة وهي خير للمتقين.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(لَيَحْزُنُكَ) : أي ليوقعك في الحزن الذي هو ألم النفس من جراء فقد ما تحب من هدايتهم أو من أجل ما تسمع منهم من كلم الباطل كتكذيبك وأذيتك.

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) : أي لا ينسبونك إلى الكذب في بواطنهم ومجالسهم السرية لعلمهم اليقيني أنك صادق.

(كُذِّبَتْ رُسُلٌ) : أي كذبتهم أقوامهم وأممهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام.

(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) : التي تحمل وعده بنصر أوليائه وإهلاك أعدائه.

(مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) : أي أخبارهم في دعواتهم مع أممهم.

(تَبْتَغِيَ نَفَقاً) : تطلب سربا تحت الأرض.

(أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) : أي مصعدا تصعد به الى السماء.

(بِآيَةٍ) : أي خارقة من خوارق العادات وهى المعجزات.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) : أي فلا تقف موقف الجاهلين بتدبير الله في خلقه.

معنى الآيات :

هذه الآيات من تربية الله تعالى لرسوله وإرشاده لما يشد من عزمه ويزيد في ثباته على دعوة الحق التي أناط به بلاغها وبيانها فقال له تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ (١) إِنَّهُ) أي الحال والشأن ، (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أي الكلام الذي يقولون لك وهو تكذيبك واتهامك بالسحر ، والتقول على الله ، وما إلى ذلك مما هو إساءة لك وفي الحقيقة إنهم لا يكذبونك (٢) لما يعلمون من صدقك وهم يلقبونك قبل إنبائك لهم وإرسالك بالأمين ولكن الظالمين هذا شأنهم فهم يرمون الرجل بالكذب وهم يعلمون أنه صادق ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة ، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في الإبقاء على عاداتهم وما ألفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نسبتك إلى الكذب وهم يعلمون أنك صادق (٣) غير كاذب فإذا عرفت هذا فلا تحزن لقولهم.

__________________

(١) قد نعلم إنه : كسرت إن في إنه لدخول اللام في (لَيَحْزُنُكَ) ولولاها لفتحت نحو أنه يحزنك.

(٢) روي أنّ أبا جهل وجماعة معه من رجالات قريش مرّوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا محمد ما نكذّبك وإنّك عندنا لصادق ولكن نكذّب ما جئت به. وهذه الآية شاهد لصحة هذه الرواية ، ومعنى يكذّبونك ينسبونك إلى الكذب ويردون قولك.

(٣) روى ابن اسحق وغيره أنّ الأخنس بن شريق أتى أبا جهل فقال له : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد إذ كانوا يأتون دار محمد وهو يصلي بالليل يستمعون القرآن فإذا طلع النهار تفرّقوا قال ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الرّكب وكنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك نحن هذه والله لا نؤمن أبدا ولا نصدقه فقام الأخنس وتركه.

هذا أولا وثانيا فقد كذبت رسل من قبلك وأوذوا كما كذبت أنت وأوذيت ، وصبروا حتى أتاهم نصرنا فاصبر أنت حتى يأتيك النصر فإنه لا مبدل لكلمات الله التي تحمل وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ، ولقد جاءك في هذا الكتاب الذي أوحينا إليك من نبأ المرسلين وأخبارهم ما يكون عونا لك على الصبر حتى النصر فاصبر ، وثالثا (إِنْ كانَ كَبُرَ (١) عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) عن دعوتك وعدم إيمانهم بها حتى تأتيهم بآية تلجئهم إلى الإيمان بك وبرسالتك كما يطلبون منك ويلحّون عليك وهم كاذبون فإن استطعت أن تطلب لهم آية من تحت الأرض أو من السماء فافعل ، وهذا ما لا تطيقه ولا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تكلف به وإذا فما عليك إلا بالصبر هذا معنى قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) أي (٢) سربا ، (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) أي مصعدا (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي فافعل ، وما أنت بقادر فاصبر إذا ورابعا إن الله قادر على أن يجمعهم كلهم على الإيمان بك وبرسالتك والدخول في دينك ، ولكنه لم يشأ ذلك لحكم عالية فلا تطلب أنت ما لا يريده ربك ، فإنك إن فعلت كنت من الجاهلين ، (٣) ولا نريد لك ذلك. (٤)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ثبوت بشرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر.

٣ ـ بيان سنة الله في الأمم السابقة.

٤ ـ إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعاده عن ساحة الجاهلين.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) (كَبُرَ) ثقل فشق عليه تحمله لثقله.

(٢) أي نفقا كالأنفاق المعروفة اليوم تحت الأرض ، والسلّم : الدرج وهو ما يرقى عليه وسمي السلم من السلامة.

(٣) ولا يليق بمثلك مثله وهذا كلّه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعزية وحمل له على الصبر وهو لكلّ داع إلى الله تعالى يواجه التكذيب والتعذيب إلى يوم الدين.

(٤) جائز أن يكون المعنى : من الجهل الذي هو ضد العلم ، والجهل الذي هو ضد الحلم ويناسب الأوّل قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) والثاني قوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ..) الآية.

قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ) : أي لدعوة الحق التي دعا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيؤمن ويهتدي.

(يَبْعَثُهُمُ اللهُ) : أي يوم القيامة.

(لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) : هلا أداة تحضيض لا لو لا الشرطية.

(آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : آية : خارقة تكون علامة على صدقه.

(لا يَعْلَمُونَ) : أي ما يترتب على إيتائها مع عدم الإيمان بعدها من هلاك ودمار.

(مِنْ دَابَّةٍ) : الدابة كل ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان.

(فِي الْكِتابِ) : كتاب المقادير أم الكتاب اللوح المحفوظ.

(صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) : صم : لا يسمعون وبكم : لا ينطقون في الظلمات لا يبصرون.

(صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : هو الدين الإسلامي المفضي بالآخذ به إلى سعادة الدارين.

معنى الآيات :

بعد ما سلى الرب تعالى رسوله في الآيات السابقة وحمله على الصبر أعلمه هنا بحقيقة علمية تساعده على الثبات والصبر فأعلمه أن الذين يستجيبون لدعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الذين يسمعون لأن حاسة السمع عندهم سليمة ما أصابها ما يخل بأداء وظيفتها من كره الحق

وبغض أهله والداعين إليه فهؤلاء هم الذين يستجيبون لأنهم أحياء أما الأموات فإنهم لا يسمعون ولذا فهم لا يستجيبون ولكن سيبعثهم الله يوم القيامة أحياء ثم يرجع الجميع إليه من استجاب ، لحياة قلبه ، ومن لم يستجب لموت قلبه ويجزيهم بما عملوا الجزاء الأوفى وهو على كل شيء قدير ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٦) أما الآية الثانية (٣٧) فقد أخبر تعالى رسوله بقولهم (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ، وعلمه أن يقول لهم (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) وهي الخارقة كإحياء الموتى أو تسيير الجبال أو إنزال الملائكة يشاهدونهم عيانا ، ولكن لم ينزلها لحكم عالية وتدبير حكيم ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحكمة فى (١) ذلك ، ولو علموا أنها إذا نزلت كانت نهاية حياتهم لما سألوها. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (٣٨) وهي قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ (٢) بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) سبقت هذه الآية لبيان كمال الله تعالى وشمول علمه وعظيم قدرته ، وسعة تدبيره تدليلا على أنه تعالى قادر على إنزال الآيات ، ولكن منع ذلك حكمته تعالى في تدبير خلقه فما من دابة تدب في الأرض ولا طائر يطير في السماء إلا أمم مثل الأمة (٣) الإنسانية مفتقرة إلى الله تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها ، والله وحده القائم عليها ، وفوق ذلك إحصاء عملها عليها ثم بعثها يوم القيامة ومحاسبتها ومجازاتها ، وكل ذلك حواه كتاب المقادير وهو يقع فى كل ساعة ولا يخرج شيء عما كتب في كتاب المقادير ، اللوح المحفوظ (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فهل يعقل مع هذا أن يعجز الله تعالى عن إنزال آية ، وكل مخلوقاته دالة على قدرته وعلمه ووحدانيته ، ووجوب عبادته وفق مرضاته ، وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٤) كل دابة وكل طائر يموت أحب أم كره ، ويبعث (٥) أحب أم كره ، والله وحده مميته ومحييه ومحاسبه ومجازيه ، (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) ، ومن هنا كان المكذبون بآيات الله (صُمٌّ وَبُكْمٌ

__________________

(١) قال القرطبي : القول بحشر البهائم هو الصحيح ، والبهائم وإن كان القلم لا يجري عليها في الأحكام ولكن فيما بينها تؤاخذ به ، وروي عن أبي ذرّ قال ، انتطحت شاتان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا. قلت : لا ، قال : لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما».

(٢) من الحكمة في عدم انزال الآية أنه لو أنزلها ما آمنوا بها ، فاستوجبوا الهلاك فأهلكهم ، ولكنّه يريد الإبقاء عليهم ليخرج من أصلابهم مؤمنين يعبدونه ويوحدونه.

(٣) ذكر الجناحين للتأكيد من جهة ، وإزالة الإبهام من جهة أخرى لأنّ العرب تطلق لفظ الطيران على غير الطائر فتقول للرجل طر في حاجتي أي أسرع في قضائها وطائر الإنسان ما قسم الله له أزلا قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ).

(٤) وهذه المثلية بين الإنسان وبين دواب الأرض وطائر السماء تقتضي ألا يظلم الإنسان الحيوان ولا يؤذيه ولا يتجاوز ما أمر به نحوه ، ووجه المثلية في كون كل من الإنسان والحيوان يسبّح الله تعالى ويدل على قدرته وعلمه وحكمته.

(٥) قيل في (يُحْشَرُونَ) أنّ حشرها الموت وهو مروي عن ابن عباس قال : موت البهائم : حشرها وروي عن مجاهد والضحاك أيضا ، وقيل حشرها : هو بعثها يوم القيامة حيّة وهذا أصح لحديث : «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة».

فِي الظُّلُماتِ) (١) أموات غير أحياء إذ الأحياء يسمعون وينطقون ويبصرون وهؤلاء صم بكم في الظلمات فهم أموات غير أحياء وما يشعرون. وأخيرا أعلم تعالى عباده أن هدايتهم كإضلالهم بيده فمن شاء هداه ومن شاء أضله ، وعليه فمن أراد الهداية فليطلبها في صدق من الله جل جلاله وعظم سلطانه ومن رغب عنها فلن يعطاها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الإيمان بالله ورسوله ولقائه حياة والكفر بذلك موت فالمؤمن حي والكافر ميت.

٢ ـ سبب تأخر الآيات علم الله تعالى بأنهم لو أعطاهم الآيات ما آمنوا وبذلك يستوجبون العذاب.

٣ ـ تعدد الأمم (٢) في الأرض وتعدد أجناسها والكل خاضع لتدبير الله تعالى مربوب له.

٤ ـ تقرير ركن القضاء والقدر وإثباته في أم الكتاب.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا

__________________

(١) إنها ظلمات الكفر والشرك والمعاصي وما ينتج عن ذلك من القلق والحيرة واضطراب النفس ، والخوف ، والهمّ.

(٢) روى ابن كثير بسنده عن الحافظ أبي يعلى عن جابر بن عبد الله أن الجراد لم يرفي سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا إلى كذا واخر إلى الشام ، واخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو لا؟ قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثلاثا ثم قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خلق الله عزوجل ألف أمّة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البرّ وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه. هذه الرواية ذكر بعض أهل العلم بطلانها.

نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتَكُمْ) : أخبروني.

(السَّاعَةُ) : يوم القيامة.

(فَيَكْشِفُ) : يزيل ويبعد وينجي.

(بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) : البأساء : الشدائد من الحروب والأمراض ، والضراء : الضر.

(يَتَضَرَّعُونَ) : يتذللون في الدعاء خاضعون.

(بَغْتَةً) : فجأة وعلى حين غفلة.

(مُبْلِسُونَ) : آيسون قنطون متحسرون حزنون.

(دابِرُ الْقَوْمِ) : آخرهم أي أهلكوا من أولهم إلى آخرهم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الثناء بالجميل والشكر لله دون سواه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية أولئك المشركين العادلين بربهم أصناما وأحجارا ، فيقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا رسولنا لأولئك الذين يعدلون بنا الأصنام (أَرَأَيْتَكُمْ) (١) أي أخبرونى ، (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) اليوم انتقاما منكم ، (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) وفيها عذاب يوم القيامة ، (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) ليقيكم العذاب ويصرفه عنكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن آلهتكم تنفع وتضر ، تقي السوء وتجلب الخير؟ والجواب معلوم أنكم لا تدعونها لبأسكم من إجابتها بل الله (٢) وحده هو الذي تدعونه فيكشف ما تدعونه له إن شاء ، وتنسون عندها ما تشركون به من الأصنام فلا تدعونها ليأسكم من إجابتها لضعفها وحقارتها.

__________________

(١) قال القرطبي : هذه الآية في محاجة المشركين ممن اعترف أنّ له صانعا أي : أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله تعالى وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا ، فلم تصرّون على الشرك في حال الرفاهية؟! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب.

(٢) (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) بل : للإضراب ، إضراب عن الأوّل وهو دعاء غير الله تعالى وايجاب للثاني وهو دعاء الله عزوجل.

هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (٤٠) والثانية (٤١) وأما الآيات الأربع بعد هما فإن الله تعالى يخبر رسوله بقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ) (١) (مِنْ قَبْلِكَ) أي أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممهم فأمروهم بالإيمان والتوحيد والعبادة فكفروا وعصوا فأخذناهم بالشدائد من حروب ومجاعات وأمراض لعلهم يتضرعون إلينا فيرجعون إلى الإيمان بعد الكفر والتوحيد بعد الشرك والطاعة بعد العصيان ولما لم يفعلوا وبخهم تعالى بقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) (٢) أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا إلينا (وَلكِنْ) حصل العكس حيث (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) أي حسن لهم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصى. وهنا لما نسوا ما ذكرتهم به رسلهم فتركوا العمل به معرضين عنه غير ملتفتين إليه فتح الله تعالى عليهم أبواب كل شيء من (٣) الخيرات حتى إذا فرحوا بذلك (٤) وسكنوا إليه واطمأنوا ولم يبق بينهم من هو أهل للنجاة. قال تعالى (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة بعذاب من أنواع العذاب الشديدة (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٥) آيسون من الخلاص متحسرون (فَقُطِعَ دابِرُ (٦) الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي استؤصلوا بالعذاب عن آخرهم. وانتهى أمرهم (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ناصر أوليائه ومهلك أعدائه فاذكر هذا لقومك يا رسولنا لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم معرضون.

هداية الآيات

من هداية الايات :

١ ـ من غريب أحوال الإنسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه الآلهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها.

__________________

(١) أي أرسلنا رسلا. فرسلا مضمر وهناك إضمار آخر تقديره : فكذّبوهم فأهلكناهم.

(٢) يتضرعون : يدعون الله ويتذلّلون له ، إذ التضرع مأخوذ من الرضاعة التي هي الذلة ، يقال : ضرع إليه فهو ضارع أي : متذلل.

(٣) أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم وهو استدراج لهم وقد تطول مدّة الاستدراج والإمهال عشرين سنة فأكثر.

(٤) روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون».

(٥) قالوا : المبلس : هو الباهت الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال قال العجاج.

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه وأبلسا

المكرّس : الذي به الكرس وهو أبوال الإبل وأبعارها.

(٦) الدابر : الآخر يقال : دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم. ومعناه أخذهم أجمعين إذ آخر من يؤخذ هو من كان خلف القوم وآخرهم.

٢ ـ بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم.

٣ ـ إذا رأيت الأمة قد فسقت عن أمر ربها ورسوله فعوقبت فلم تتعظ بالعقوبة واستمرت على فسقها وبسط الله تعالى لها في الرزق وأغدق عليها الخيرات فاعلم أنها قد استدرجت للهلاك وأنها هالكة لا محالة.

٤ ـ شؤم الظلم هلاك الظالمين.

٥ ـ الإرشاد إلى حمد الله تعالى عند نهاية كل عمل ، وعاقبة كل أمر.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتُمْ) : أخبروني وفي هذه الصيغة نوع من التعجب.

أخذ سمعكم وأبصاركم : أي أصمكم وأعماكم.

(وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) : جعلها لا تعى ولا تفهم.

(نُصَرِّفُ الْآياتِ) : ننوع الأساليب لزيادة البيان والإيضاح.

(يَصْدِفُونَ) : يعرضون.

(بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) : بغتة : بدون إعلام ولا علامة سابقة ، والجهرة : ما كان بإعلام وعلامة تدل عليه.

(هَلْ يُهْلَكُ) : أي ما يهلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة العادلين بربهم الأصنام والأوثان إلى التوحيد فقال تعالى لنبيه يلقنه الحجج التي تبطل باطل المشركين (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني يا قوم (إِنْ أَخَذَ اللهُ (١) سَمْعَكُمْ) وجعلكم صما لا تسمعون وأخذ (أَبْصارَكُمْ) فكنتم عميا لا تبصرون (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي طبع عليها فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون. أي إله غير الله يأتيكم بالذي أخذ الله منكم؟ والجواب لا أحد ، إذا فكيف تتركون عبادة من يملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويملك كل شيء فيكم وعندكم ، وتعبدون ما لا يملك من ذلكم من شيء؟ أي ضلال أبعد من هذا الضلال! ثم قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (انْظُرْ) يا رسولنا (كَيْفَ (٢) نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي ننوع أساليبها زيادة في بيانها وإظهار الحجة بها (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي يعرضون عادلين بربهم ما لا يملك نفعا ولا ضرا ثم أمره في الآية الثانية (٤٧) أن يقول لهم وقد أقام الحجة عليهم في الآية الأولى (٤٦) قل لهم (أَرَأَيْتَكُمْ) أي أخبرونى (٣) (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) وقد استوجبتموه بصدوفكم عن الحق وإعراضكم عنه (بَغْتَةً) (٤) أي فجأة بدون سابق علامة ، (أَوْ جَهْرَةً) بعلامة تقدمته تنذركم به أخبروني من يهلك منا ومنكم؟ (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٥) بصرف العبادة إلى من لا يستحقها وترك من وجبت له وهو الله الذي لا إله إلا هو ثم عزى الرحمن جل جلاله رسوله بقوله : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) (٦) (وَمُنْذِرِينَ) أي ما نكلفهم بغير حمل البشارة بالنجاة ودخول الجنة لمن آمن وعمل صالحا والنذارة لمن كفر وعمل سوءا ، فقال تعالى : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (وَالَّذِينَ

__________________

(١) الأخذ : انتزاع الشيء ، وتناوله من مقره وهو هنا بمعنى السلب والإعدام.

(٢) هذا التعجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة ، أي : انظر كيف نكررها ونلونها من أسلوب إلى آخر تارة نوردها بمقدمات عقلية وأخرى بأسلوب الترغيب والترهيب ، والتنبيه والتذكير.

(٣) وهذا تبكيت آخر غير الأول لهم.

(٤) وفسّر بغتة وجهرة بليلا ونهارا والكل صالح وصحيح.

(٥) الاستفهام في قوله : (هَلْ يُهْلَكُ ..) الخ للتقرير وحصر الهلاك في أهل الظلم تسجيلا عليهم الظلم وإيذانا بأن هلاكهم كان سبب ظلمهم الذي هو وضعهم الشرك موضع التوحيد والكفر موضع الإيمان.

(٦) (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان مقدرتان من المرسلين أي ما نرسلهم إلّا مقدرين تبشيرهم وإنذارهم وفيهما معنى التعليل للإرسال والتبشير : الأصل فيه الإخبار بالأمر السار ، والإنذار : الإخبار بالخبر الضار دنيويا أو أخرويا. والمراد هنا بكل من البشارة والنذارة نعيم الآخرة وعذابها.

كَذَّبُوا بِآياتِنا) التي نرسل بها المرسلين فلم يؤمنوا ولم يعملوا صالحا (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) (١) عذاب النار (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم عن طاعتنا وطاعة رسلنا الفسق الذي أثمره لهم التكذيب بالآيات ، إذ لو آمنوا بآيات الله لما فسقوا عن طاعته وطاعة رسوله فشؤمهم في تكذيبهم ، وذلك جزاؤهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقلبه وفى كل حياته موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه.

٢ ـ هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلا أو آجلا.

٣ ـ بيان مهمة الرسل وهي البشارة لمن أطاع والنذارة لمن عصى والهداية والجزاء على الله تعالى.

٤ ـ الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب ، والطاعة ثمرة الإيمان.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ

__________________

(١) أي : العذاب الذي أنذروا به وهو عاجل كعذاب الدنيا أو آجل وهو عذاب الآخرة.

عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

شرح الكلمات :

(خَزائِنُ) : جمع خزانة أو خزينة ما يخزن فيه الشيء ويحفظ.

(الْغَيْبَ) : ما غاب عن العيون وكان محصلا فى الصدور وهو نوعان غيب حقيقي وغيب إضافي فالحقيقي ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، والإضافي ما يعلمه أحد ويجهله آخر.

(أَنْذِرْ بِهِ) : خوّف به أي بالقرآن.

(بِالْغَداةِ) : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والعشي من صلاة العصر إلى غروب الشمس.

(فَتَطْرُدَهُمْ) : أي تبعدهم من مجلسك.

(فَتَنَّا) : ابتلينا بعضهم ببعض الغني بالفقير ، والشريف بالوضيع.

من الله علينا : أي أعطاهم الفضل فهداهم إلى الإسلام دوننا.

(بِالشَّاكِرِينَ) : المستوجبين لفضل الله ومنته بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام المنكرين للنبوة المحمدية فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم : (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) (١) أي خزائن الأرزاق (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب ، (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة ما أنا إلا عبد رسول أتبع ما يوحي (٢) إلي ربي فأقول وأعمل بموجب وحيه إلي. ثم قال له اسألهم قائلا (هَلْ

__________________

(١) هذا ردّ على المشركين في اقتراحاتهم المتعددة المتنوعة فأمر تعالى رسوله أن يرد عليهم بأنّه لا يملك خزائن الله التي فيها الأرزاق حتى يعطيهم ما يطلبون ويقترحون ، ولا هو يعلم الغيب حتى يخبرهم بموعد العذاب الذي ينتظرهم ، ولا هو ملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ، وإنما هو بشر يوحى إليه الخبر من ربّه فيخبر به ويعمل به ليس غير.

(٢) هذا غير ناف لاجتهاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثيرا ما يجتهد وقد يقيس على المنصوص عنه ، ولكنه لا يقرّ على غير الحق وما يرضي الرب عزوجل.

يَسْتَوِي الْأَعْمى (١) وَالْبَصِيرُ؟) والجواب لا ، فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر ، والمهدي والضال (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) أي ما لكم لا تتفكرون فتهتدوا للحق وتعرفوا سبيل النجاة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٠) أما الآية الثانية (٥١) فإن الله تعالى يأمر رسوله أن ينذر بالقرآن المؤمنين العاصين فقال (وَأَنْذِرْ (٢) بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) يوم القيامة وهم مذنبون ، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع (٣) فهؤلاء ينفعهم إنذارك بالقرآن أما الكفرة المكذبون فهم كالأموات لا يستجيبون وهذا كقوله تعالى من سورة ق (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) فهؤلاء إن أنذرتهم يرجى لهم أن يتقوا معاصي الله ومعاصيك أيها الرسول وهو معنى قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). هذا ما تضمنته الآية الثانية (٥١) أما الآية الثالثة (٥٢) وهي قوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ (٤) الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) فإن بعض المشركين في مكة اقترحوا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعد من مجلسه فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب حتى يجلسوا إليه ويسمعوا عنه فهمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل رجاء هداية أولئك المشركين فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في صلاة الصبح ، وصلاة العصر ، يريدون وجه الله ليرضى عنهم ويقربهم ويجعلهم من أهل ولايته وكرامته ، ومبالغة في الزجر عن هذا الهم قال تعالى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ما أنت بمسؤول عن خطاياهم إن كانت لهم خطايا ، ولا هم بمسئولين عنك فلم تطردهم إذا؟ (فَتَطْرُدَهُمْ (٥) فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فلا تفعل ، ولم يفعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصبر عليهم وحبس نفسه معهم وفي الآية الأخيرة (٥٣) يقول تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (٦)

__________________

(١) في هذا الخطاب الاستفهامي إيماء إلى المفارقة التامة الحاصلة من المؤمنين والكافرين ، وأن الكافرين عمي والمؤمنين بصراء ، والمؤمنون مهتدون ، والكافرون ضالّون ، فما لهم لا يتفكّرون لعلهم يخرجون من ظلمة كفرهم.

(٢) وأنذر به أي : بالقرآن وقيل بيوم القيامة ، وكونه القرآن أولى وأصح لقوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

(٣) في الآية دليل على إبطال شفاعة الأصنام لعابديها ، والأولياء للمشركين ممن يذبحون لهم وينذرون كما فيها إبطال لزعم أهل الكتاب القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه فسوف يشفع لنا الأب ، إذ شرط صحة الشفاعة يوم القيامة أن يأذن الله لمن يشفع إن رضي بنجاة المشفوع له.

(٤) روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطرد هؤلاء عنك لا يدخلون علينا وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله أن يقع فحدّث نفسه فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ...) الآية.

(٥) في الآية دليل على عدم جواز تعظيم الرجل لجاهه وثوبه وعدم احتقار الرجل لخموله ورثاثة ثوبه.

(٦) الفتنة : الاختبار أي : عاملناهم معاملة المختبر لهم فأغنينا بعضا وأفقرنا بعضا واللّام في قوله تعالى : (لِيَقُولُوا) هي لام العاقبة أي : ليقول أغنياء وأشراف المشركين مشيرين إلى فقراء المؤمنين : أهؤلاء منّ الله عليهم بأن وفقهم لإصابة الحق من دوننا ونحن الرؤساء وهم العبيد.

أي هكذا ابتلينا بعضهم ببعض هذا غني وذاك فقير ، وهذا وضيع وذاك شريف ، وهذا قوي وذاك ضعيف ليؤول الأمر ويقول الأغنياء الشرفاء للفقراء الضعفاء من المؤمنين استخفافا بهم واحتقارا لهم : أهؤلاء الذين من الله عليهم بيننا بالهداية والرشد قال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). بلى فالشاكرون هم المستحقون لإنعام الله بكل خير وأما الكافرون فلا يعطون ولا يزادون لكفرهم النعم ، وعدم شكرهم لها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير بشرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تقرير مبدأ أن الرسول لا يعلم الغيب ، وأنه لا يتصرف في شيء من الكون.

٣ ـ نفي مساواة المؤمن والكافر إذ المؤمن مبصر والكافر أعمى.

٤ ـ استحباب مجالسة أهل الفاقة وأهل التقوى والايمان.

٥ ـ بيان الحكمة في وجود أغنياء وفقراء وأشراف ووضعاء ، وأقوياء وضعفاء وهي الاختبار.

٦ ـ الشاكرون مستوجبون لزيادة النعم ، والكافرون مستوجبون لنقصانها وذهابها.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ (١) رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ

__________________

(١) قرىء (فَأَنَّهُ غَفُورٌ) بالفتح أنّه وقرىء بكسرها على الاستئناف ، أمّا على الفتح ففي توجيهه رأيان ، الأوّل أن يكون في موضع رفع على الابتداء كأنّه قال : فله أنه غفور رحيم أي : فله غفران الله ، والثاني : أن يضمن مبتدأ تكون أنّ وما وعملت فيه خبره ، تقديره فأمره غفران الله له ، وهذا الأخير أولى من الأول.

أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

شرح الكلمات :

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : دعاء بالسلامة من كل مكروه ، وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة في الجنة.

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) : أي أوجب الرحمة على نفسه فلذا لا يعذب إلا بعد الإنذار ، ويقبل توبة من تاب.

(سُوءاً) : أي ذنبا أساء به إلى نفسه.

(بِجَهالَةٍ) : الجهالة أنواع منها : عدم تقدير عاقبة الذنب ، ونسيان عظمة الرب.

(لِتَسْتَبِينَ) : تتضح وتظهر.

(نُهِيتُ) : أي نهاني ربي أي زجرني عن عبادة أصنامكم.

(تَدْعُونَ) : تعبدون.

(بَيِّنَةٍ) : البينة : الحجة الواضحة العقلية الموجبة للحكم بالفعل أو الترك.

(إِنِ الْحُكْمُ) : أي ما الحكم إلا لله.

(يَقُصُّ الْحَقَ) : أي يخبر بالحق.

(خَيْرُ الْفاصِلِينَ) : الفصل في الشيء : القضاء والحكم فيه ، والفاصل في القضية :

الحاكم فيها ومنهيها.

معنى الآيات :

يرشد الله تبارك وتعالى رسوله إلى الطريقة المثلى في الدعوة إليه ، بعد أن نهاه عن الطريقة التي هم بها وهي طرد المؤمنين من مجلسه ليجلس الكافرون رجاء هدايتهم فقال تعالى :

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ (١) يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) أي يصدقون بنبوتك وكتابك وما جئت به من الدين الحق فهؤلاء رحب بهم وقل (٢) سلام عليكم ومهما كانت ذنوبهم التي ارتكبوها ، وأخبرهم أن ربهم تعالى قد كتب (٣) على نفسه الرحمة فلا يخافون ذنوبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى ربهم بالإيمان به وتوطين النفس على طاعته ، (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً (٤) بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) أي أقلع عن الذنب نادما مستغفرا ، وأصلح نفسه بالصالحات فإن ربه غفور رحيم فسيغفر له ويرحمه. هكذا يستقبل كل عبد جاء مؤمنا مستفتيا يسأل عن طريق النجاة يستقبل بالبشر والطلاقة والتحية والسّلام لا بالعنف والتقريع والتوبيخ. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٤) أما الآية الثانية (٥٥) فإنه تعالى بعد أن نهى رسوله عن الاستجابة لاقتراح المشركين المتكبرين ، وعن طرد المؤمنين وعن حكمته فى وجود أغنياء وفقراء وأقوياء وضعفاء في الناس وعن الطريقة المثلى فى استقبال التائبين المستفتين بعد هذا كله قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات مستقبلا لبيان الهداية الإلهية ليهتدي من أراد الله له الهداية وقد طلبها ورغب فيها ، ولتستبين (٥) وتتضح سبيل المجرمين ، فلا تتبع وينهى عن اتباعها ، لأنها طريق الهلاك والدمار. هذا ما أفادته الآية الثانية أما الآيات الثالثة والرابعة والخامسة في هذا السياق فهي تحمل الهداية الإلهية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق دعوته إلى ربه فكل آية من تلك الآيات مفتتحة بكلمة (قُلْ) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين يدعونك إلى موافقتهم على شركهم وعبادة غيري معهم (إِنِّي نُهِيتُ) أي نهاني ربي أن أعبد ما تدعون (٦) من الأصنام والأوثان ، وقل لهم : لا أتبع أهواءكم في عبادة غير الله تعالى الموروثة لكم عن آبائكم الضلال مثلكم إني إن فعلت أكون قد

__________________

(١) روي عن الفضل بن عباس قوله : جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا إنّا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية ، وروي عن أنس بن مالك مثله.

(٢) أي : سلمكم الله في دينكم وأنفسكم ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».

(٣) كتب : بمعنى أوجب ذلك على نفسه بفضله ورحمته ، وكتبه في اللوح المحفوظ فالكتابة على بابها إذا.

(٤) (سُوءاً) أي خطيئة من غير إرادة تحدي شرع الله وانتهاك حرماته وإنما ضعفا منه وعدم قدرة على التغلب على طبعه وشهوته وميل هواه.

(٥) قرىء : ليستبين بالياء والتاء فقراءة التاء يكون الخطاب فيها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : ولتستبين يا رسولنا سبيل المجرمين ، وخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطاب لأمته ، وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين وقراءة الياء ليستبين سبيل المجرمين ، فسبيل مرفوع على الفاعلية.

(٦) أطلق لفظ الدعاء وأريد به العبادة ، لأنّ الدعاء هو العبادة ومخها أيضا لما في الدعاء من مظاهر العبودية لله تعالى ومظاهر أسمائه وصفاته عزوجل.

ضللت (١) إذا وما أنا من المهتدين إلى سبل الفوز والفلاح. وقل : (إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على علم يقيني من وجوب الإيمان بالله ووجوب توحيده وطاعته ووجوب الدعوة إلى ذلك ، وكذبتم أنتم بهذا كله وبالعذاب إذ أنذرتكم به وأنا ما عندي ما تستعجلون به من العذاب ، ولو كان عندي لحل بكم وانتهى أمركم ، ولكن الحكم لله ليس لأحد غيره وقد قص عليكم أخبار السابقين المطالبين (٢) رسلهم بالعذاب ورأيتم كيف حل بهم العذاب ، والله (يَقُصُ (٣) الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) فإذا أراد أن يحكم بيني وبينكم فإنه نعم الحكم والعدل وهو خير الحاكمين. وقل لهم يا رسولنا (لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بتدمير الظالم منا ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) ، ولا يهلك غيرهم لأنهم المستوجبون للعذاب بظلمهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم.

٢ ـ اتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك.

٣ ـ على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه.

٤ ـ وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)

__________________

(١) قرىء ضللت بفتح اللام وكسرها ، وهما لغتان ، فضللت : بكسر اللام لغة تميم ، والفتح لغة الحجاز ، وهي أفصح.

(٢) إذ أكثر أمم الرسل قالوا لرسلهم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قالتها عاد لنبيها هود وقالها قوم نوح لنوح عليه‌السلام.

(٣) أي : يقص القصص الحق ، قال القرطبي بهذا استدل من منع المجاز في القرآن ، وقرىء نقض بالضاد من القضاء ويدل عليه قوله بعد : (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) الفصل : القضاء والحكم.

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

شرح الكلمات :

(مَفاتِحُ الْغَيْبِ) : المفاتح : جمع مفتح (١) بفتح الميم أي المخزن.

(الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : البر ضد البحر ، وهو اليابس من الأرض ، والبحر ما يغمره الماء منها.

(وَرَقَةٍ) : واحدة الورق والورق للشجر كالسعف للنخل.

(حَبَّةٍ) : واحدة الحب من ذرة أو بر أو شعير أو غيرها.

(وَلا رَطْبٍ) : الرطب ضد اليابس من كل شيء.

(فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير.

(يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) : أي ينيمكم باستتار الأرواح وحجبها عن الحياة كالموت.

(جَرَحْتُمْ) : أي كسبتم بجوارحكم من خير وشر.

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) : أي يوقظكم لتواصلوا العمل إلى نهاية الأجل المسمى لكم.

(حَفَظَةً) : الكرام الكاتبين.

(رُسُلُنا) : ملك الموت وأعوانه.

__________________

(١) المفتاح والجمع مفاتيح ، والمفتح : عبارة عن كل ما يحل مغلقا محسوسا كالقفل للباب ، أو معقولا كالنظر. وفي الحديث : «إنّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر».

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى في نهاية الآية السابقة أنه أعلم بالظالمين المستحقين للعقوبة أخبر عزوجل أن الأمر كما قال ودليل ذلك أنه عالم الغيب والشهادة ، إذ (عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (١) أي خزائن الغيب وهو الغيب الذي استأثر بعلمه فلا يعلمه سواه (٢) ويعلم ما في البر والبحر وهذا من عالم الشهادة ، إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح المحفوظ ، وهو ما دل عليه قوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ (٣) وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذا فهو عالم الغيب والشهادة أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما ، فكيف إذا لا يعبد ولا يرغب فيه ولا يرهب منه وأين هو في كماله وجلاله من أولئك الأموات من أصنام وأوثان.؟؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٩) وأما الآية الثانية (٦٠) فقد قررت ما دلت عليه الآية قبلها من قدرة الله وعلمه وحكمته فقال تعالى مخبرا عن نفسه (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ (٤) بِاللَّيْلِ) حال نومكم إذ روح النائم تقبض ما دام نائما ثم ترسل إليه عند إرادة الله بعثه من نومه أي يقظته ، وقوله (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي في النهار المقابل لليل ، وعلة هذا أن يقضى ويتم الأجل الذى حدده تعالى للإنسان يعيشه وهو مدة عمره طالت أو قصرت ، وهو معنى قوله (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وقوله تعالى (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) لا محالة وذلك بعد نهاية الأجل ، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) بعلمه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر ويجازيكم بذلك وهو خير الفاصلين. وفي الآية الثالثة يخبر تعالى عن نفسه أيضا تقريرا لعظيم سلطانه الموجب له بالعبادة والرغبة الرهبة إذ قال مخبرا عن نفسه (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ، ذو القهر التام

__________________

(١) روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلّا الله : لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» والعرّاف الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب ، والمهنة : العرافة ، وصاحبها عرّاف. وفي مسلم عن عائشة أنها قالت سأل رسول الله أناس عن الكهانة فقال : «ليست بشيء. فقالوا يا رسول الله انهم يحدّثون أحيانا بشيء فيكون حقا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليّه قرّ الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة».

(٢) روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : من زعم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ).

(٣) يطلق لفظ الرطب على الماء وما ينبت والحيّ ، ولسان المؤمن ، واليابس على ضد ذلك كالياس والتراب وما لا ينبت ، ولسان الكافر لأنّه لا يذكر الله تعالى.

(٤) التوفي : استيفاء الشيء ، وتوفي الميت : استوفى عدد أيام عمره ، والنائم كأنه استوفى حركاته في اليقظة ، والوفاة : الموت ، واستوفى دينه : أخذه كاملا.

والسلطان الكامل على الخلق أجمعين (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ) أيها الناس (حَفَظَةً) (١) بالليل والنهار يكتبون أعمالكم وتحفظ لكم لتجزوا بها (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) لانقضاء أجله (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ملك الموت وأعوانه ، (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أي لا يضيعون ولا يقصرون وأخيرا يقول تعالى مخبرا بالأمر العظيم إنه الوقوف بين يدي الرب تعالى المولى الحق الذي يجب أن يعبد دون سواه ، وقد كفره أكثر الناس وعصوه ، وفسقوا عن أمره وتركوا طاعته وأدهى من ذلك عبدوا غيره من مخلوقاته فكيف يكون حسابهم والحكم عليهم؟ والله يقول : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٢).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة لله تعالى.

٢ ـ استئثار الله تعالى بعلم الغيب.

٣ ـ كتاب المقادير حوى كل شيء حتى سقوط الورقة من الشجرة وعلم الله بذلك.

٤ ـ صحة إطلاق الوفاة على النوم ، وبهذا فسر قوله تعالى لعيسى إني متوفيك.

٥ ـ تقرير مبدأ المعاد والحساب والجزاء.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ

__________________

(١) الحفظة : جمع حافظ كالكتبة جمع كاتب ، والمراد هنا : الملائكة الكرام الكاتبون وهم أربعة : ملكان بالليل ، وملكان بالنهار ، وخامس لا يفارق أبدا.

(٢) (أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) أي : لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يد.

بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))

شرح الكلمات :

(يُنَجِّيكُمْ) : يخلصكم مما تخافون.

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) : التضرع : الدعاء بتذلل وخفية بدون جهر بالدعاء.

(مِنْ هذِهِ) : أي الهلكة.

(مِنَ الشَّاكِرِينَ) : المعترفين بفضلك الحامدين لك على فعلك.

(كَرْبٍ) : الكرب : الشدّة الموجبة للحزن وألم الجسم والنفس.

(تُشْرِكُونَ) : أي به تعالى بدعائهم أصنامهم وتقربهم إليها بالذبائح.

(مِنْ فَوْقِكُمْ) : كالصواعق ونحوها.

(مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) : كالزلزال والخسف ونحوهما.

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) : أي يخلط عليكم أمركم فتختلفون شيعا وأحزابا.

(وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) : أي يقتل بعضكم بعضا فتذيق كل طائفة الأخرى ألم الحرب.

(يَفْقَهُونَ) : معاني ما نقول لهم.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) : أي قريش.

الوكيل : من يوكل إليه الشيء أو الأمر يدبره.

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) : المستقر : موضع الاستقرار والنبأ : الخبر العظيم.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع المشركين العادلين بربهم فيقول الله تعالى لرسوله قل لهم : (مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ (١) وَالْبَحْرِ) إذا ضل أحدكم طريقه في الصحراء ودخل عليه ظلام الليل ، أو

__________________

(١) ظلمات البر والبحر : كناية عن شدائدهما ، يقال : يوم مظلم أي : شديد ، وتقول العرب : يوم ذو كواكب وأنشد سيبويه.

بني أسد هل تعلمون بلادنا

إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا

وجمع الظلمات لتعددها إذ هي ظلمة البر وظملة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم.

ركب البحر فغشيته ظلمة السحاب والليل والبحر واضطربت نفسه من الخوف يدعو من؟ إنه يدعو الله وحده لعلمه أنه لا ينجيه إلا هو يدعوه ويتضرع إليه جهرا وسرا قائلا وعزتك لئن أنجيتنا من هذه الهلكة التي حاقت بنا لنكونن من الشاكرين لك. ثم إذا نجاكم استجابة لدعائكم وأمنتم المخاوف عدتم فجأة الى الشرك به بدعاء غيره. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٣) (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ، لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، وفي الآية الثانية (٦٤) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم جوابا لقوله من ينجيكم : (اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) (١) أي من تلك الحالة التي اضطربت لها نفوسكم وخشيتم فيها الهلاك وينجيكم أيضا من كل كرب ، (٢) ثم مع هذا يا للعجب أنتم تشركون به (٣) تعالى أصنامكم. قل لهم يا رسولنا أن الله الذي ينجيكم من كل كرب هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من السماء فوقكم ، (٤) أو من الأرض تحتكم ، أو يخلط عليكم أمركم فتتنازعوا فتختلفوا فتصبحوا شيعا وطوائف وفرقا متعادية يقتل بعضكم بعضا ، فيذيق بعضكم بأس بعض ، ثم قال الله تعالى لرسوله انظر يا رسولنا كيف نفصل الآيات بتنويع الكلام وتوضيح معانيه رجاء أن يفقهوا معنى ما نقول لهم فيهتدوا إلى الحق فيؤمنوا بالله وحده ويؤمنوا بلقائه وبرسوله وما جاء به فيكملوا ويسعدوا وفي الآية (٦٦) يخبر تعالى بواقع القوم : أنهم كذبوا بهذا القرآن وما أخبرهم به من الوعيد الشديد وهو الحق الذي ليس بباطل ولا يأتيه الباطل ، ويأمر رسوله أن يقول لهم بعد تكذيبهم له (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فأخاف من تبعة عدم إيمانكم وتوحيدكم و (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) (٥) وقد أنبأتكم بالعذاب على تكذيبكم وشرككم (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ذلك يوم يحل بكم وقد استقر نبأه يوم بدر والحمد لله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة.

__________________

(١) قرىء : (يُنَجِّيكُمْ) بالتشديد ، وينجيكم بالتخفيف ، والمعنى واحد والفعل : يقال نجّاه من كذا وأنجاه من كذا.

(٢) الكرب : الغمّ يأخذ النفس ويقال فيه : رجل مكروب ، والكربة مأخوذة منه.

(٣) هذه الجملة تحمل لهم التقريع والتوبيخ أي : ومع هذا الإنجاء الذي يحصل لكم من ربكم إذا أنتم مشركون يا للوقاحة والدناءة ، وإلّا فهم مشركون من قبل.

(٤) من فوقكم كالحجارة ، والطوفان والصواعق ومن تحتكم كالخسف والرجفة.

(٥) (لِكُلِّ نَبَإٍ) أي : خبر مستقر أي وقت يقع فيه مضمونه فلا يتقدّم ولا يتأخر.

٢ ـ لا منجى من الشدائد ولا منقذ من الكروب إلا الله سبحانه وتعالى.

٣ ـ التحذير من الاختلاف المفضي (١) إلى الانقسام والتكتل.

٤ ـ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ). أجري مجرى المثل ، وكذا (سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

شرح الكلمات :

(يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) : يتكلمون في القرآن طعنا فيه ونقدا له ولما جاء فيه.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) : قم محتجا على صنيعهم الباطل ، غير ملتفت إليهم.

(بَعْدَ الذِّكْرى) : أي بعد التذكر.

__________________

(١) يحسن ذكر شاهد عظيم على معنى هذه الآية : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) روى مسلم عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله زوى لي الأرض (أي جمعها) فرأيت مشارقها ومغاربها وإنّ أمتى سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمّتى ألّا يهلكهم بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإنّ ربي قال لي يا محمد : إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمّتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا».

(وَلكِنْ ذِكْرى) : أي موعظة لهم.

(وَذَرِ الَّذِينَ) : أي اترك الكافرين.

(لَعِباً وَلَهْواً) : كونه لعبا لأنه لا يجنون منه فائدة قط ، وكونه لهوا لأنهم يتلهون به وشغلهم عن الدين الحق الذي يكملهم ويسعدهم.

(أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) : أي تسلم فتؤخذ فتحبس في جهنم.

(كُلَّ عَدْلٍ) : العدل هنا : الفداء.

(أُبْسِلُوا) : حبسوا في جهنم بما كسبوا من الشرك والمعاصي.

(مِنْ حَمِيمٍ) : الحميم الماء الشديد الحرارة الذي لا يطاق.

(وَعَذابٌ أَلِيمٌ) : أي شديد الألم والإيجاع وهو عذاب النار.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين المكذبين فيقول الله تعالى لرسوله (وَإِذا رَأَيْتَ (١) الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) يستهزئون بالآيات القرآنية ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فصد عنهم وانصرف (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين ، وقوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وليس على المؤمنين المتقين أنت وأصحابك يا رسولنا من تبعة ولا مسئولية ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى. وهذا كان بمكة قبل قوة الإسلام ، ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ومن جلس معهم يكون مثلهم وهو أمر عظيم قال تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية.

__________________

(١) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأمته داخلة معه في هذا فمتى حصل لمؤمن أو مؤمنة مثل هذا تعيّن عليه أن يقوم احتجاجا وعدم رضا ، وفي الآية دليل على أنّ مجالسة أهل الكبائر لا تجوز لا سيما في حال تلبسهم بالكبيرة ، وهذه أقوال السلف في هذه المسألة قال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمنا كان أو كافرا قال القرطبي : منع أصحابنا الدخول على أرض العدو ودخول كنائسهم ومجالسة الكفار وأهل البدع وألّا تعتقد مودّتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. قال الفضيل بن عياض من أحبّ صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإيمان من قلبه.

أما الثالثة (٧٠) فإن الله تعالى يأمر رسوله أن يترك الذين اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به رسول الحق لعبا ولهوا يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به وغرتهم الحياة الدنيا قال تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) (١) (لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) اتركهم فلا يهمك أمرهم وفى هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والاستهزاء ، وقد أخبر تعالى فى سورة الحجر أنه كفاه أمرهم إذ قال (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ، وقوله تعالى (وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) أي كي لا تبسل (٢) (بِما كَسَبَتْ) أي كي لا تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك والمعاصي ، (لَيْسَ لَها) يوم تسلم للعذاب (مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌ) يتولى خلاصها ، (وَلا شَفِيعٌ) يشفع لها فينجيها من عذاب النار (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ (٣) لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن تقدم ما أمكنها حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا فداء لها لما نفعها ذلك ولما نجت من النار ، ثم قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) أبلسوا : أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والأثام لهم في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع أليم. وذلك بسبب كفرهم بالله وآياته ورسوله. حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم فما أصبح يلائم وصفهم إلا عذاب النار قال تعالى من هذه السورة سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله.

٢ ـ وجوب القيام احتجاجا من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله.

٣ ـ مشروعية الإعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم.

__________________

(١) اختلف في الدين الذي اتخذه المشركون لهوا ولعبا ، والظاهر أنّه الإسلام الذي جاءهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم به إذ لا دين لله سواه وبعث الله تعالى إليهم رسوله به فهو دينهم ومع الأسف رفضوه واتخذوه لهوا ولعبا يسخرون ويستهزئوا به.

(٢) قال القرطبي تبسل أي ترتهن وتسلم للهلكة عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والإبسال تسليم المرء للهلاك. قال الشاعر :

وابسالي بنيّ بغير جرم

بعوناه ولا بدم مراق

ومعنى بعوناه جنيناه. والشاهد في قوله وإبسالي بني حيث أسلم بنيه للهلاك.

(٣) العدل الفداء أو الفدية.

٤ ـ وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم.

٥ ـ من مات على كفره لم ينج من النار إذ لا يجد فداء ولا شفيعا يخلصه من النار بحال.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

شرح الكلمات :

(أَنَدْعُوا) : أي نعبد.

(ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) : أي ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا لو أراد ذلك لنا.

(وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) : أي نرجع كفارا بعد أن كنا مؤمنين.

(اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) : أي أضلته في الأرض فهوى فيها تائه حيران لا يدري أين يذهب.

(وَاتَّقُوهُ) : أي اتقوا الله بتوحيده في عبادته وترك معصيته.

(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) : أي في يوم القيامة.

(الصُّورِ) : بوق كالقرن ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام.

(الْحَكِيمُ) : في أفعاله الخبير بأحوال عباده.

معنى الآيات :

يدل السياق على أن عرضا من المشركين كان لبعض المؤمنين لأن يعبدوا معهم آلهتهم فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص منكرا عليهم ذلك أشد الإنكار (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) ، الاستفهام للإنكار ، (ما لا يَنْفَعُنا) إن عبدناه ، (وَلا يَضُرُّنا) إن تركنا عبادته وبذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا (١) من التوحيد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإيمان به ومعرفته ومعرفة دينه ، فيكون حالنا كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها فلا يدرى أين يذهب ولا أين يجيىء ، و (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) وهو لا يقدر على إجابتهم ولا الاتيان إليهم لشدة ما فعل استهواء (٢) الشياطين في عقله. ثم أمره أن يقول أيضا قل إن الهدى الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه هدى الله الذي هدانا إليه ألا إنه الإسلام ، وقد أمرنا ربنا أن نسلم (٣) له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين فأسلمنا ، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها وأن نتقيه فاتقيناه وأعلمنا أنا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك ثم هدانا فلن نرجع بعد إلى الضلالة. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة (٧٣) فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله فقال تعالى : (وَهُوَ) أي الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له فأسلمنا (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) (٤) فلم يخلقهما عبثا وباطلا بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر ، ويوم يقول لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله كن فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائما (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ (٥) يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) (٦) نفخة الفناء فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار فيقول جل ذكره (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فلا

__________________

(١) أي نرجع من الهدي إلى الضلال. والأعقاب جمع عقب وهي مؤنثه فتصغر على عقبيه. ويقال رجع على عقبيه إذا أدبر وأصابه من العاقبة والعقبى من ذلك عقب الرجل ومنه العقوبة لأنها تالية للترتيب وتكون نسبية.

(٢) استهوته بمعنى استغوته وزينت له هواه ودعته إليه فهو إذا من هوى يهوى من هوى النفس وليس هو يهوي إلى الشيء إذا أسرع إليه والحيران هو الذي لا يهتدي لجهله.

(٣) الآية وأمرنا لنسلم ومعناها أمرنا بأن نسلم تقول العرب أمرتك لتذهب وبأن تذهب بمعنى واحد واللامات أربع : لام الجر ، لام الابتداء ، لام التوكيد ، ولام الأمر.

(٤) قال القرطبي : ومعنى (بِالْحَقِ) أي بكلمة الحق يعني قوله (كُنْ) وهو كما قال إلا أن القول أن بالحق بمعنى بحكمة أي لم يخلقها لهوا أو لعبا هذا أوضح وأهم كما هو في التفسير.

(٥) من أخطاء الناس قول من قال الصور جمع صورة ومعناه ينفخ في الصور فتتم الحياة وهذا يتنافى مع الأحاديث الصحاح ومع سياق الآية. إذ قال ثم نفخ فيه أخرى أي مرة أخرى ولم يقل فيها أي في الصور فأين معنى الصورة هنا؟

(٦) الصور القرن والنافخ فيه إسرافيل عليه‌السلام والمراد بالنفخة هنا نفخة الفناء والنفخة التالية لها نفخة البعث وهناك نفخة الصعقة وهم في ساحة القضاء ونفخة رابعة وهي التي يقومون فيها لفصل القضاء.

يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه قائلا : (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما غاب في خزائن الغيب عن كل أحد ، ويعلم الشهادة والحضور لا يخفي عليه أحد وهو الحكيم في تصرفاته وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته الخبير ببواطن الأمور وظواهرها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء بهذا كان المعبود الحق الذي لا يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى ليعبد بها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قبح الردة وسوء عاقبتها.

٢ ـ حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل.

٣ ـ لا هدى إلا هدى الله تعالى أي لا دين إلا الإسلام.

٤ ـ وجوب الإسلام لله تعالى وإقامة الصلاة واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي.

٥ ـ تقرير المعاد والحساب والجزاء.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))

شرح الكلمات :

(إِبْراهِيمُ) : هو إبراهيم خليل الرحمن بن آزر من أولاد سام بن نوح عليه‌السلام.

(أَصْناماً) : جمع صنم تمثال من حجر.

(آلِهَةً) : جمع إله بمعنى المبعود.

(فِي ضَلالٍ) : عدول عن طريق الحق.

(مَلَكُوتَ) : ملك.

(جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) : أظلم.

(فَلَمَّا أَفَلَ) : أي غاب

(بازِغاً) : طالعا والبزوغ الطلوع.

(الضَّالِّينَ) : العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل.

(وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) : أقبلت بقلبي على ربي وأعرضت عما سواه.

(حَنِيفاً) : مائلا عن الضلال إلى الهدى.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناما يعبدونها لعلهم يهتدون فقال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (١) ، أي واذكر لهم قول إبراهيم لأبيه آزر : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) (٢) أي أتجعل تماثيل من حجارة آلهة. أربابا تعبدها أنت وقومك (إِنِّي أَراكَ) يا أبت (وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣) عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٤) أما الآية الثانية (٧٥) فإن الله تعالى يقول : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ (٤)

__________________

(١) قيل لآزر اسم آخر هو تارح فيكون كيعقوب له اسم يعقوب واسرائيل أما من قال آزر عمه فخلط وخبط حملهم عليه عدم اطاقتهم أن يكون والد رسول في النار وهو غاية الجهل بأسرار الشرع وحكمه وآزر بالرفع على تقدير النداء أي يا آزر.

(٢) الاستفهام للانكار وأصناما مفعول أول وآلهة مفعول ثان لأن اتخذ تنصب مفعولين كعلم.

(٣) كان قوم ابراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصورون لها أصناما وهي ديانة الكلدانيين قوم ابراهيم وكانوا يعبدونها توسلا وتقربا بها إلى الله تعالى ولذا فهم مشركون وليسوا ملاحدة.

(٤) نوري هو بمعنى ارينا الماضي.

مَلَكُوتَ (١) السَّماواتِ) والأرض أي كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضا مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض ، ليكون بذلك من جملة الموقنين ، واليقين من أعلى مراتب الإيمان. هذا ما دلت عليه الآية الثانية وفي الثالثة (٧٦) فصّل الله تعالى ما أجمله فى قوله (نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). فقال تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي أظلم (رَأى كَوْكَباً) قد يكون الزهرة (قالَ هذا رَبِّي (٢) فَلَمَّا أَفَلَ) أي غاب الكوكب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ (٣) بازِغاً) أي طالعا (قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ) أي غاب (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ، في معرفة ربهم الحق. (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي طالعة (قالَ هذا رَبِّي (٤) هذا أَكْبَرُ) يعني من الكوكب والقمر (فَلَمَّا أَفَلَتْ) (٥) أي غابت بدخول الليل (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوتة واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليها معهم وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم ، وأعلن براءته في وضوح وصراحة : فقال : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (٦)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إنكار الشرك على أهله ، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب الناس إلى المرء.

٢ ـ فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها.

__________________

(١) الملكوت الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة ، ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت من الرغبة والرهبة والجبر قيل كشف له تعالى عن السموات والأرض حتى رأى العرش وأسفل الأرضين.

(٢) قوله هذا ربي في المواضع كلها في السياق ليس هو على ظاهره أبدا. بل هو تدرج بهم إلى الوصول إلى الحقيقة وهو إنه لا إله إلا الله فقوله : هذا ربي أي على قولكم أو زعمكم وهو كقوله تعالى أين شركائي كما زعمتم أو على قولكم وإلا فالله تعالى يعلم أنه لا شريك له أبدا أو هو على حذف حرف الاستفهام أي أهو ربي؟ نحو أفإن مت فهم الخالدون أي أفهم الخالدون؟.

(٣) بزغ القمر إذا بدأ في الطلوع وأصل البزغ الشق فالقمر يشق الظلام بنوره ومن بزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. ومنه البزاغ وهو ما يسيل من الفم.

(٤) هذا ربي أي هذا الطالع ربي وإلّا فالشمس مؤنثة وقد قال فيها بازغة.

(٥) أفل يأفل أفولا إذا غاب.

(٦) في أنا ثلاث لغات أن وأنّه ، وأنا وهي متعينة في الوقف (أنا).

٣ ـ مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها ، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات.

٤ ـ الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عزوجل.

٥ ـ سنة التدرج في التربية والتعليم.

٦ ـ وجوب البراءة من الشرك وأهله.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

شرح الكلمات :

(حاجَّهُ قَوْمُهُ) : جادلوه وحاولوا غلبه بالحجة ، والحجة : البينة والدليل القوي.

(أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) : اتجادلونني في توحيد الله وقد هداني إليه ، فكيف أتركه وأنا منه على بينة.

(سُلْطاناً) : حجة وبرهانا.

(بِالْأَمْنِ) (١) : خلاف الخوف.

(وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) : أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك.

معنى الآيات :

لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه فى ذلك فقال منكرا عليهم ذلك : (أَتُحاجُّونِّي (٢) فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) أي كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته ، وترك عبادة ما سواه من الآلهة المدعاة وهي لم تخلق شيئا ولم تنفع ولم تضر ، ومع هذا فقد هداني إلى معرفته وتوحيده وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ). ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتهم خوفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه (٣) فرد ذلك عليهم قائلا : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) من آلهة أن تصيبني بأذى ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي (٤) شَيْئاً) فإنه يكون قطعا فقد (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) ، ثم وبخهم قائلا (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتذكروا ما أنتم عليه هو الباطل ، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق ، ثم رد القول عليهم قائلا (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر لعجزها وحقارتها وضعفها ، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا إله إلا هو المحيي المميت الفعال لما يريد ، وقد أشركتم به أصناما ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهانا تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى. ثم قال لهم استخلاصا للحجة وانتزاعا لها منهم فأي الفريقين أحق بالأمن من الخوف : أنا الموحد للرب ، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف وهو من يعبد ربا واحدا أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى جمادات لا تسمع ولا تبصر. وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ (٥) بِظُلْمٍ) أي ولم يخلطوا إيمانهم بشرك ، (أُولئِكَ لَهُمُ

__________________

(١) روي انهم قالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟

(٢) قرأ نافع بتخفيف نون ا تحاجونني وثقلها غيره وتخفيفها مبني على حذف النون الثانية تخفيفا ومن ثقلها فقد ادغمها في نون الرفع.

(٣) أخرج ابن كثير عن ابن مردويه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من أعطي فشكر ومنع فصبر. وأذنب فاستغفر وظلم فغفر وسكت فقلنا يا رسول الله ما له؟ قال أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.

(٤) قال هذا احتياطا منه للتوحيد إذ من الجائز أن يعثر في حجر أو تشوكه شوكة أو يمرض بسبب وآخر فيقولون هذه آلهتنا قد أصابتك لأنك تسبها فهذا وجه الاستثناء هنا.

(٥) روي في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه انه لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

الْأَمْنُ) أي في الدنيا والآخرة (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهو الإسلام الصحيح ثم قال تعالى : (وَتِلْكَ (١) حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) إشارة إلى ما سبق من محاجة ابراهيم قومه ودحض باطلهم وإقامة الحجة عليهم. وقوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) تقرير لما فضّل به إبراهيم على غيره من الإيمان واليقين والعلم المبين. ثم علل تعالى لذلك بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). حكيم في تدبيره عليم بخلقه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإقامة الحجة عليهم علهم يهتدون.

٢ ـ بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان.

٣ ـ التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه.

٤ ـ أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشرك به شيئا.

٥ ـ تقرير معنى (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧))

__________________

(١) ما هي تلك الحجة؟ هل هي جميع احتياجاته التي حاجهم بها فغلبهم وهذا هو الظاهر ، وقيل هي قوله لهم : أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها : قال لهم أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم فيغضب الكبير فيخبلكم.

شرح الكلمات :

(وَهَبْنا لَهُ) : أعطيناه تكرما منا وإفضالا.

(إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) : اسحاق بن إبراهيم الخليل ويعقوب ولد إسحاق ويلقب بإسرائيل.

(كُلًّا هَدَيْنا) : أي كل واحد منهما هداه إلى صراطه المستقيم.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) : أي ذرية إبراهيم.

(داوُدَ وَسُلَيْمانَ) : داود الوالد وسليمان الولد وكل منهما ملك ورسول.

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى) : زكريا الوالد ويحيى الولد وكل منهما كان نبيا رسولا.

(عَلَى الْعالَمِينَ) : أي عالمي زمانهم لا على الإطلاق ، لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء.

ومن ذرياتهم : أي من بعض الآباء والذرية والإخوة لا الجميع.

(اجْتَبَيْناهُمْ) : اخترناهم للنبوة والرسالة وهديناهم إلى الإسلام.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى ما آتى إبراهيم خليله من قوة الحجة والغلبة على أعدائه ذكر منّة أخرى منّ بها عليه وهي أنه وهبه (١) اسحق ويعقوب بعد كبر سنه ، اسحق الولد ويعقوب الحفيد وأنه تعالى هدى كلا منهم الوالد والولد والحفيد ، كما أخبر تعالى أنه هدى من قبلهم نوحا ، وهدى من ذريته (٢) أي إبراهيم ، وإن كان الكل من ذرية نوح ، أي هدى من ذرية إبراهيم داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون ، (٣) وأشار تعالى إلى أنهم كانوا محسنين ، فجزاهم جزاء المحسنين والإحسان هو الإخلاص في العمل وأداؤه على الوجه الذي يرضي الرب تبارك وتعالى مع الإحسان العام لسائر المخلوقات بما يخالف الإساءة إليهم في القول والعمل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨٤) وأما الآية الثانية (٨٥) فقد ذكر تعالى أنه هدى كذلك إلى حمل رسالته والدعوة إليه والقيام بواجباته وتكاليف شرعه كلا من زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وأخبر أن كل واحد منهم كان من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق

__________________

(١) أي جزاء صبره وحجاجه وبذله نفسه في سبيل نصرة دين ربه كافأه الله عزوجل بأن وهبه من الذرية الصالحة.

(٢) يصح عود الضمير على نوح كما يصح عوده على ابراهيم قاله غير واحد من أهل التفسير لأن ذكرها قد مرّ معا.

(٣) قال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية ابراهيم وإن كان منهم من لم تلحقه ولادة من جهته لا من جهة الأب ولا الأم لأن لوطا ابن أخ ابراهيم وعدّ عيسى من ذريته وهو ابن البنت من هنا ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن من وقف وقفا على ولده وولد ولده دخل فيه ولد بناته لأن لفظ الولد يشمل الذكر والانثى كما يشمل عيسى عليه‌السلام وهو ولد البنت لا غير.

عباده كذلك كاملة غير ناقصة وكانت المجموعة الأولى داود وسليمان ومن ذكر بعدهما الصفة الغالبة عليهم الإحسان لأنه كان فيهم ملك وسلطان ودولة ، والمجموعة الثانية وهي زكريا ويحيى وعيسى وإلياس الصفة الغالية عليهم الصلاح لأنهم كانوا أهل زهد في الدنيا وأعراضها ، والمجموعة الثالثة والأخيرة في الآية الثالثة (٨٦) وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط لم يغلب عليهم وصف مما وصف به المجموعتان الأولى والثانية ، لأنهم وسط بين المجموعتين ، فذكر تعالى أن كل واحد منهم فضله على عالمى زمانه ، وكفى بذلك شرفا وكرما وخيرا. وأما الآية الأخيرة (٨٧) فإن الله تعالى يقول فيها ، ومن آباء المذكورين من الأنبياء ومن ذرياتهم (١) وإخوانهم هديناهم أيضا وإن لم نذكر اسماءهم فهم كثير هديناهم إلى ما هدينا إليه آباءهم من الحقّ والدين الخالص الذي لا شائبة شرك فيه ، واجتبينا (٢) الجميع اخترناهم للنبوة والرسالة (٣) (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الدين الإسلامي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ سعة فضل الله.

٢ ـ خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم.

٣ ـ فضيلة كل من الإحسان والصلاح.

٤ ـ لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإمارة والصلاح.

٥ ـ فضيلة الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا

__________________

(١) من للتبعيض أي هدى بعض أبنائهم وبعض ذرياتهم ولم يهد كل أب وكل ولد.

(٢) الاجتباء مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته فالاجتباء اختيار الشخص وضمه إلى خاصتك من الناس ، والجبا مقصور مصدر جبيت الماء والجابية الحوض.

(٣) ذكر تعالى في هذه الآيات ثمانية عشر رسولا وبقي سبعة ذكروا في سور أخرى وهم ادريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وآدم عليهم‌السلام وقد نظمهم البعض في ثلاثة أبيات من الشعر هي :

حتم على كل ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التفصيل قد عرفوا

في تلك حجتنا منهم ثمانية

من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

ادريس هود شعيب صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

شرح الكلمات :

(هُدَى اللهِ) : الهدى ضد الضلال ، وهدى الله ما يهدي إليه من أحب من عباده وهو الإيمان والاستقامة.

(لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي بطلت أعمالهم فلم يثابوا عليها بقليل ولا كثير.

(الْحُكْمَ) : الفهم للكتاب مع الاصابة في الأمور والسداد فيها.

(يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) : يجحد بها أي بدعوتك الإسلامية هؤلاء : أي أهل مكة.

(قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) : هم المهاجرون والأنصار بالمدينة النبوية.

(اقْتَدِهْ) : اقتد : أى اتبع وزيدت الهاء للسكت.

(عَلَيْهِ أَجْراً) : أي على إبلاغ دعوة الإسلام ثمنا مقابل الإبلاغ.

(ذِكْرى) : الذكرى : ما يذكر به الغافل والناسي فيتعظ.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر ما وهب الله تعالى لمن شاء من عباده من هدايات وكمالات لا يقدر على عطائها إلا هو فقال ذلك في الآية الأولى (٨٨) ذلك المشار إليه ما وهبه أولئك الرسل الثمانية عشر رسولا وهداهم إليه من النبوة والدين الحق هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. وقوله تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١) يقرر به حقيقة علمية ، وهي أن الشرك محبط للعمل فإن أولئك الرسل على كمالهم وعلو درجاتهم لو أشركوا بربهم سواه فعبدوا معه غيره لبطل كل عمل عملوه ، وهذا من باب الافتراض ، وإلا فالرسل معصومون

__________________

(١) حبوط العمل بطلانه وقد عصم الله تعالى انبياءه من الشرك فلذا لم تحبط ولم تبطل أعمالهم.

ولكن ليكون هذا عظة وعبرة للناس. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (٨٩) فقد أشاد الله تعالى بأولئك الرسل السابقي الذكر مخبرا أنهم هم الذين آتاهم الكتاب وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داوود وإنجيل عيسى والحكم (١) وهو الفهم والإصابة والسداد فى الأمور كلها. ثم قال تعالى فإن يكفر بهذه الآيات القرآنية وما تحمله من شرائع وأحكام وهداية الإسلام (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) من أهل مكة (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) من قبل وهم الرسل المذكورون في هذا السياق وقوما هم موجودون وهم المهاجرون والأنصار من أهل المدينة ، ومن يأتي بعد من سائر البلاد والأقطار وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ (٢) اقْتَدِهْ ،) يأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي بأولئك الأنبياء المرسلين (٣) في كمالاتهم كلها حتى يجمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل كمال فيهم فيصبح بذلك أكملهم على الإطلاق. وكذلك كان ، وقوله تعالى في ختام الآية الكريمة : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ (٤) أَجْراً) يأمره تعالى أن يقول لأولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان المكذبين بنبوته وكتابه : ما أسألكم على القرآن الذي أمرت أن أقرأه عليكم لهدايتكم أجرا أي مالا مقابل تبليغه إياكم (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي ما القرآن إلا موعظة للعالمين يتعظون بها إن هم القوا أسماعهم وتجردوا من أهوائهم وأرادوا الهداية ورغبوا فيها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بالله تعالى.

٢ ـ فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية.

٣ ـ وجوب الاقتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل العلم والصلاح من هذه الأمة.

٤ ـ حرمة أخذ الأجرة على تبليغ الدعوة الإسلامية.

__________________

(١) قال القرطبي : والحكم العلم والفقه وهو كذلك إلا أن ما في التفسير أوسع وأولى بالاعتماد عليه.

(٢) قال القرطبي : الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. وقال : قد احتج بعض العلماء بهذه الآية على وجوب إتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص واستدلوا بحديث مسلم في حادثة الربيع إذ أمر الرسول بكسر سنها محتجا بآية (وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) وهو من أحكام بني اسرائيل ولم يوجد في القرآن غيره.

(٣) روى البخاري عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة «ص» فقال سألت ابن عباس عن سجدة «ص» فقال أو تقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وكان داوود عليه‌السلام ممن أمر نبيكم عليه‌السلام بالاقتداء بهم.

(٤) أي جعلا على القرآن.

٥ ـ القرآن الكريم ذكرى لكل من يقرأه أو يستمع إليه وهو شهيد حاضر القلب.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ (١) تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

شرح الكلمات :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : ما عظموه التعظيم اللائق به ولا عرفوه حق معرفته.

(عَلى بَشَرٍ) : أي إنسان من بني آدم.

(الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) : التوارة.

(قَراطِيسَ) : جمع قرطاس : وهو ما يكتب عليه من ورق وغيره.

(تُبْدُونَها) : تظهرونها.

(قُلِ اللهُ) : هذا جواب : من أنزل الكتاب؟

(ذَرْهُمْ) : اتركهم.

(فِي خَوْضِهِمْ) : أي ما يخوضون فيه من الباطل.

(مُبارَكٌ) : أي مبارك فيه فخبره لا ينقطع ، وبركته لا تزول.

(أُمَّ الْقُرى) : مكة المكرمة.

(يُحافِظُونَ) : يؤدونها بطهارة في أوقاتها المحددة لها في جماعة المؤمنين.

معنى الآيتين

ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحى

__________________

(١) فسرت الآية على قراءة يجعلونه بالياء وكذلك يبدون ويخفون أما على قراءة تجعلون بالتاء فإن الخطاب يكون لليهود والسورة مكية فلذا رجح ابن جرير قراءة الياء.

الإلهي وتكذيبهم بالقرآن الكريم إذ قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ، ومن هنا قال تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه كما ينبغي تعظيمه لما قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، ولقن رسوله الحجة فقال له قل لهم : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً) يستضاء به في معرفة الطريق إلى الله تعالى وهدى يهتدى به إلى ذلك وهو التوراة جعلها اليهود قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها حسب أهوائهم وأطماعهم ، وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أي وعلمكم الله بهذا القرآن من الحقائق العلمية كتوحيد الله تعالى وأسمائه وصفاته ، والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم ، وعذاب أليم ، ثم أمر الرسول أن يجيب عن السؤال الذي وجهه إليهم تبكيتا : (قُلِ اللهُ) أي الذي أنزل التوراة على موسى هو الله. (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي اتركهم (فِي خَوْضِهِمْ) أي في الباطل (يَلْعَبُونَ) (٢) حيث لا يحصلون من ذلك الخوض في الباطل على أي فائدة تعود عليهم فهم كاللاعبين من الأطفال. هذا ما تضمنته الآية الأولى (٩١) أما الآية الثانية (٩٢) فقد تضمنت أولا الرد على قول من قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي كيف يقال ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا القرآن بين أيديهم يتلى عليهم أنزله الله مباركا لا ينتهي خيره ولا يقل نفعه ، مصدقا لما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل أنزلناه ليؤمنوا به ، (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) (٣) أي أهلها (وَمَنْ حَوْلَها) من المدن والقرى القريبة والبعيدة لينذرهم عاقبة الكفر والضلال فإنها الخسران التام والهلاك الكامل ، وثانيا الإخبار بأن الذين يؤمنون بالآخرة أي بالحياة في الدار الآخرة يؤمنون (٤) بهذا القرآن ، وهم على صلاتهم يحافظون وذلك مصداق إيمانهم وثمرته التي يجنيها المؤمنون الصادقون.

__________________

(١) بيان ذلك انهم لما قالوا ما أنزل الله من شيء كانوا قد نسبوا إلى الله تعالى أنه لا يقيم الحجة على عباده ولا يأمرهم بما فيه صلاحهم ولا ينهاهم عما فيه خسرانهم وبهذا ما قدروا الله حق قدره وما آمنوا أنه على كل شيء قدير.

(٢) أي لاعبين لأنها حال من قوله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون إذ لو لم يكن حالا لجزم في وجوب الطلب الذي هو ذرهم.

(٣) أم القرى مكة المكرمة.

(٤) يريد اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كل من كذب الله تعالى أو أشرك به أو وصفه بوصف لا يليق بجلاله فإنه لم يقدر الله حق قدره. (١)

٢ ـ بيان تلاعب اليهود بكتاب الله في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر وهو تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الآخرة.

٣ ـ بيان فضل الله على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم بلغتهم لهدايتهم.

٤ ـ تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيفية الحجاج والرد على المجادلين والكاذبين.

٥ ـ بيان علة ونزول الكتاب وهي الايمان به وإنذار المكذبين والمشركين.

٦ ـ الإيمان بالآخرة سبب لكل خير ، والكفر به سبب لكل باطل وشر.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

شرح الكلمات :

(افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : اختلق على الله كذبا قال عليه ما لم يقل ، أو نسب له ما هو منه

__________________

(١) أي لم يعرفه حق معرفته ولم يعرف جلاله وعظمته ولا رحمته وحكمته فلهذا قال ما قال من الباطل وهو نفيه إنزال الوحي الإلهي على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

براء.

(أُوحِيَ إِلَيَ) : الوحي : الإعلام السريع الخفي بواسطة الملك وبغيره.

(غَمَراتِ الْمَوْتِ) : شدائده عند نزع الروح.

(باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) : للضرب وإخراج الروح.

(عَذابَ الْهُونِ) : أي عذاب الذل والمهانة.

(فُرادى) : واحدا واحدا ليس مع أحدكم مال ولا رجال.

(ما خَوَّلْناكُمْ) : ما أعطيناكم من مال ومتاع.

(وَراءَ ظُهُورِكُمْ) : أي في دار الدنيا.

(وَضَلَّ عَنْكُمْ) : أي غاب.

(تَزْعُمُونَ) : تدعون كاذبين.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على الله تعالى بإتخاذ الأنداد والشركاء فقال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن ادّعى (١) أن الله نبأه وأنه نبيه ورسوله كما ادعى (٢) سعد بن ابي سرح بمكة ومسيلمه (٣) في بني حنيفة بنجد والعنسى باليمن : اللهم لا أحد هو أظلم منه ، وممن قال أوحى إلّى شيء من عند الله ، ولم يوح إليه شيء وممن قال : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) من الوحى والقرآن ، ثم قال تعالى لرسوله : (وَلَوْ تَرى) يا رسولنا (إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي في شدائد سكرات الموت ، (وَالْمَلائِكَةُ) ملك الموت وأعوانه (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) بالضرب وإخراج الروح ، وهم يقولون لأولئك المحتضرين تعجيزا

__________________

(١) قال القرطبي : ومن هذا النمط أي المدعي للوحي ولم يوح إليه من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول وقع في خاطري كذا أو أخبرني قلبي بكذا أو أخبرني قلبي عن ربي فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها عن الأغيار فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيستغنون بذلك عن أحكام الشرع ويقولون هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة وهي زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب.

(٢) أدعى عبد الله بن سعد الوحي لما كتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان إلى قوله ثم أنشأناه خلقا آخر فاعجبه تفصيل خلق الله تعالى للإنسان قال فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هكذا أنزلت فشك عبد الله بن سعد حينئذ وارتد ولحق بالمشركين وأسلم عام الفتح وحسن إسلامه بشفاعة عثمان له إذ كان أخا له من الرضاعة وهو فاتح افريقيا ودعا ربه أن يموت وهو يصلي فمات في صلاة الصبح.

(٣) كانوا يسمونه رحمان اليمامة والعنسي هو الأسود العنسي ومنهم سجاح امرأة مسيلمة قال ابن عباس وقتادة نزلت هذه الآية في مسيلمة.

وتعذيبا لهم : (أَخْرِجُوا (١) أَنْفُسَكُمُ ، (٢) الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) بسبب استكباركم (٣) في الأرض بغير الحق إذ الحامل للعذرة وأصله نطفة قذرة ، ونهايته جيفة قذرة ، استكباره في الأرض حقا إنه استكبار باطل لا يصح من فاعله بحال من الأحوال. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٣) أما الآية الثانية (٩٤) فإن الله تعالى يخبر عن حال المشركين المستكبرين يوم القيامة حيث يقول لهم (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) (٤) أي واحد واحدا (كَما خَلَقْناكُمْ) حفاة (٥) عراة غرلا (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي ما وهبناكم من مال وولد (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي في (٦) دار الدنيا ، (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) وأنتم كاذبون في زعمكم مبطلون في اعتقادكم (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي انحل حبل الولاء بينكم ، (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ما كنتم تكذبون به في الدنيا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ قبح الكذب على الله تعالى في أي شكل ، وأن صاحبه لا أظلم منه قط.

٢ ـ تقرير عذاب القبر ، وسكرات الموت وشدتها ، وفي الحديث : أن للموت سكرات.

٣ ـ قبح الاستكبار وعظم جرمه.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا.

٥ ـ انعدام الشفعاء يوم القيامة إلا ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعلماء والشهداء بشروط هي : أن يأذن الله للشافع أن يشفع وأن يرضى عن المشفوع له.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ

__________________

(١) الغمره الشدة وأصلها من غمر الشيء إذا غطاه ومنه غمر الماء.

(٢) يقال لهم هذا توبيخا لهم وتقريعا أي خلصوها من هذا العذاب إن أمكنكم.

(٣) تستكبرون أي تتعظمون وتأنفون من قول الحق الذي هو توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده المؤمنين.

(٤) هذا يوم القيامة يوم يحشرون إلى ربهم ، وفرادى في موضع نصب على الحال.

(٥) روي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ...) الخ فقالت يا رسول الله واسوأتاه الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض.

(٦) ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس.

الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))

شرح الكلمات :

(فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) : شاق الحب كحب البر ليخرج منه الزرع ، والنوى واحده نواة وشقها ليخرج منها الفسيلة (النخلة الصغيرة).

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) : الدجاجة من البيضة.

(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) : البيضة من الدجاحة.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : كيف تصرفون عن توحيد الله الذي هذه قدرته إلى عبادة الجمادات.

(فالِقُ الْإِصْباحِ) : الإصباح : بمعنى الصبح وفلقه : شقه ليتفجر منه النور والضياء.

(سَكَناً) : يسكن فيه الناس ويخلدون للراحة.

(حُسْباناً) : أي حسابا بهما تعرف الأوقات الأيام والليالي والشهور والسنون.

(تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره العليم بأحوال وأفعال عباده.

(لِتَهْتَدُوا بِها) : أي ليهتدي بها المسافرون في معرفة طرقهم في البر والبحر.

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : هي آدم أبو البشر عليه‌السلام.

(فَمُسْتَقَرٌّ) : أي في الأرحام.

(وَمُسْتَوْدَعٌ) : أي في أصلاب الرجال.

(يَفْقَهُونَ) : أسرار الأشياء وعلل الأفعال فيهتدوا لما هو حق وخير.

(خَضِراً) : هو أول ما يخرج من الزرع ويقال له القصيل الأخضر.

(مُتَراكِباً) : أي بعضه فوق بعض وهو ظاهر في السنبلة.

طلع النخل : زهرها.

(قِنْوانٌ) : واحده قنو وهو العذق وهو العرجون بلغة أهل المغرب.

(مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) : في اللون وغير مشتبه في الطعم.

(وَيَنْعِهِ) : أي نضجه واستوائه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان الدليل على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان عبادة غيره فقال تعالى واصفا نفسه بأفعاله العظيمة الحكيمة التي تثبت ربوبيته وتقرر ألوهيته وتبطل ربوبية وألوهية غيره مما زعم المشركون أنها أرباب لهم وآلهة : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي هو الذي يفلق الحب ويخرج منه الزرع لا غيره وهو الذي يفلق النوى ، ويخرج منه الشجر والنخل لا غيره فهو الإله الحق إذا وما عداه باطل ، وقال : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فيخرج الزرع الحيّ من الحب الميت (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ (١) مِنَ الْحَيِّ) فيخرج الحب من الزرع الحيّ ، والنخلة والشجرة من النواة الميتة ثم يقول : (ذلِكُمُ اللهُ) أي المستحق للإلهية أي العبادة وحده (فَأَنَّى

__________________

(١) أي يخرج النطفة الميتة من الحي وهو الإنسان ويخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة.

تُؤْفَكُونَ) أي فكيف يا للعجب تصرفون عن عبادته وتأليهه إلى تأليه وعبادة غيره. ويقول : (فالِقُ الْإِصْباحِ) (١) أي هو الله الذي يفلق ظلام الليل فيخرج منه ضياء النهار (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) : أي ظرف سكن وسكون وراحة تسكن فيه الأحياء من تعب النهار والعمل فيه ليستريحوا ، وقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) (٢) أي وجعل الشمس والقمر يدوران في فلكيهما بحساب تقدير لا يقدر عليه إلا هو ، وبذلك يعرف الناس الأوقات وما يتوقف عليها من عبادات وأعمال وآجال وحقوق ثم يشير الى فعله ذلك فيقول : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب على أمره (الْعَلِيمِ) بسائر خلقه وأحوالهم وحاجاتهم وقد فعل ذلك لأجلهم فكيف إذا لا يستحق عبادتهم وتأليههم؟ عجبا لحال بني آدم ما أضلهم؟!

ويقول تعالى في الآية الثالثة (٩٧) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) هذه منة أخرى من مننه على الناس ومظهرا آخر من مظاهر قدرته حيث جعل لنا النجوم ليهتدي به مسافرونا في البر والبحر حتى لا يضلوا طريقهم فيهلكوا فهي نعمة لا يقدر على الإنعام بها إلا الله ، فلم إذا يكفر به ويعبد سواه؟ وقوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يخبر به تعالى على نعمة أخرى وهي تفصيله تعالى للآيات وإظهارها لينتفع بها العلماء الذين يميزون بنور العلم بين الحق والباطل والضار والنافع ويقول في الآية الرابعة (٩٨) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) ـ أي خلقكم ـ (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم عليه‌السلام ، فبعضكم مستقر في الأرحام و (٣) بعضنا مستودع في الأصلاب وهو مظهر من مظاهر إنعامه وقدرته ولطفه وإحسانه ، ويختم الآية بقوله (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) لتقوم لهم الحجة على ألوهيته تعالى دون ألوهية ما عداه من سائر المخلوقات لفهمهم أسرار الكلام وعلل الحديث ومغزاه.

ويقول في الآية (٩٩) (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو ماء المطر ويقول (فَأَخْرَجْنا

__________________

(١) الإصباح مصدر أصبح يصبح إصباحا أي يخرج النور من الظلام إذ نور الفجر يشق ظلمة الليل ويخرج عنها الصبح والإصباح أول النهار ويجمع الإصباح على أصباح بفتح الهمزة وقرىء به.

(٢) حسبانا أي بحساب يتعلق به مصالح العباد ، والحسبان جمع حساب مثل شهاب وشهبان أي جعل الله سير الشمس والقمر بحساب ولا يزيد ولا ينقص ويطلق الحسبان على النار كما في قوله تعالى (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) أي نارا.

(٣) قال عبد الله بن مسعود لها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها وهذا على قراءة مستقر بفتح القاف بمعنى لها مستقر وأكثر المفسرين على ما جاء في التفسير أن المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب قال سعيد بن جبير قال لي ابن عباس هل تزوجت فقلت لا. قال فإن الله عزوجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. أما قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) فالمستقر هو القبر مودع. فيه الإنسان إلى يوم القيامة.

بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي ينبت أي قابل للإنبات من سائر للزروع والنباتات ويقول فأخرجنا من ذلك النبات خضرا وهو (١) القصيل للقمح والشعير ، ومن الخضر (٢) يخرج حبا متراكبا في سنابله ، ويقول عزوجل : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي ويخرج بإذن الله تعالى من طلع النخل قنوان جمع قنو العذق دانية متدلية وقريبة لا يتكلف مشقة كبيرة من أراد جنيها والحصول عليها ، (٣) وقوله (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) يقول وأخرجنا به بساتين من نخيل وأعناب ، وأخرجنا به كذلك الزيتون والرمان حال كونه مشتبها في اللون وغير متشابه في الطعم ، كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه ينبت لديكم ذلك التشابه وعدمه ، وختم الآية بقوله : إن في ذلكم المذكور كله (لَآياتٍ) علامات ظاهرات تدل على وجوب ألوهية الله تعالى وبطلان ألوهية غيره (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم أحياء يفعلون ويفكرون ويفهمون أما غيرهم من أهل الكفر فهم أموات القلوب لما ران عليها من أوضار الشرك والمعاصي فهم لا يعقلون ولا يفقهون فأنى لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يدلهم على توحيد الله عزوجل؟

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الله خالق كل شيء فهو رب كل شيء ولذا وجب أن يؤله وحده دون ما سواه.

٢ ـ تقرير قدرة الله على كل شيء وعلمه بكل شيء وحكمته في كل شيء.

٣ ـ فائدة خلق النجوم وهي الاهتداء بها في السير في الليل في البر والبحر.

٤ ـ يتم إدراك ظواهر الأمور وبواطنها بالعقل.

٥ ـ يتم إدراك أسرار الأشياء بالفقه.

٦ ـ الإيمان بمثابة الحياة ، والكفر بمثابة الموت في إدراك الأمور.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا

__________________

(١) خضر بمعنى أخضر كمطرة بمعنى ماطرة ومنه قولهم : أرنها نمرة أركها مطرة أي أرني سحابة كأنها نمرة في شكلها أركها ماطرة يتصبب منها الماء الغزير.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنه يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب.

(٣) هذا قصار النخل إذ يجنى ثمارها لمدة عشر سنوات والمرء يتناول منها بيديه وهو واقف عندها وبعد ذلك ترتفع وتطول فيرقى اليها.

يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))

شرح الكلمات :

(شُرَكاءَ) : جمع شريك في عبادته تعالى.

(الْجِنَ) : عالم كعالم الإنس إلا أنهم أجسام خفية لا ترى لنا إلا إذا تشكلت بما يرى.

(وَخَرَقُوا) : اختلقوا وافتاتوا.

(يَصِفُونَ) : من صفات العجز بنسبة الولد والشريك إليه.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : مبدع خلقهما حيث أوجدهما على غير مثال سابق.

(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) : أي كيف يكون له ولد؟ كما يقول المبطلون.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) : أي زوجة.

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) : لا تراه في الدنيا ، ولا تحيط به في الآخرة.

(وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) : أي محيط علمه بها.

(وَهُوَ اللَّطِيفُ) : الذي ينفذ علمه إلى بواطن الأمور وخفايا الأسرار فلا يحجبه شيء.

معنى الآيات :

لقد جاء في الآيات السابقة من الأدلة والبراهين العقلية ما يبهر العقول ويذلها لقبول التوحيد ، وأنه لا إله إلا الله ، ولا رب سواه ، ولكن مع هذا فقد جعل الجاهلون لله من

الجن شركاء فأطاعوهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام والأوثان ، وهذا ما أخبر به تعالى في هذه الآية الكريمة (١٠٠) إذ قال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ (١) وَخَلَقَهُمْ (٢) وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) ومعنى الآية وجعل العادلون بربهم الأصنام والجن شركاء لله في عبادته ، وذلك بطاعتهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام ، والحال أنه قد خلقهم فالكل مخلوق له العابد والمعبود من الجن والأصنام ، وزادوا في ضلالهم شوطا آخر حيث اختلقوا له البنين والبنات وهذا كله من تزيين الشياطين لهم وإلا فأي معنى في أن يكون لخالق العالم كله بما فيه الإنس والجن والملائكة أبناء وبنات. هذا ما عناه تعالى بقوله : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) فنزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما وصفوه به كذبا بحتا وتخرّصا كاملا من أن له بنين وبنات وليس لهم على ذلك أي دليل علمى لا عقلي ولا نقلي ، وقد شارك في هذا الباطل العرب المشركون حيث قالوا الملائكة بنات الله ، واليهود حيث قالوا عزير ابن الله ، والنصارى إذ قالوا المسيح ابن الله ، تعالى الله عما يقول المبطلون. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية (١٠١) فقد تضمنت إقامة الدليل الذي لا يرد على بطلان هذه الفرية المنكرة فرية نسبة الولد لله سبحانه وتعالى ، فقال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما على غير مثال سابق (أَنَّى (٣) يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي يا للعجب كيف يكون لله ولد ولم تكن له زوجة إذ النوالد يكون بين ذكر وأنثى لحاجة إليه لحفظ النوع وكثرة النسل لعمارة الأرض بل ولعبادة الرب تعالى بذكره وشكره ، أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء ورب كل شيء فأي معنى لاتخاذ ولد له ، لو لا تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من الإنس ، وقوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) دليل آخر على بطلان ما خرق أولئك الحمقى لله من ولد ، إذ لو كان لله ولد لعلمه وكيف لا ، وهو بكل شيء عليم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (١٠٢)

__________________

(١) صور اتخاذهم الجن شركاء ثلاث الأولى : أنهم أطاعوا الجن فجعلوهم بطاعتهم لهم شركاء لله إذ المطاع الحق هو الله تعالى : والثانية : قولهم الملائكة بنات الله مع عبادتهم لهم فذلك معنى جعلوا لله شركاء الجن لأن الملائكة لا يرون كالجن قال تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) فسمى الملائكة جنا لاجتنابهم واستتارهم عن عيون الناس والثالثة : أن الزنادقة قالوا الله خالق الماء والنور والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب.

(٢) قوله تعالى وخلقهم يصح عود الضمير فيه على العادلين كما في التفسير ويصح عوده على الجن الذين اتخذوهم شركاء لله يعبدونهم معه.

(٣) أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلّا من صاحبة أي زوجة.

وهي قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) أي ذلكم الله الذي هو بديع السموات والأرض والخالق لكل شيء والعليم بكل شيء هو ربكم الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ولا تشركوا به سواه. وإنه لكفيل برزقكم وحفظكم ومجازاتكم على أعمالكم وهو على كل شيء قدير. والآية الآخيرة في السياق الكريم (١٠٣) يقرر تعالى حقيقة كبرى وهى أن الله تعالى مباين لخلقه في ذاته وصفاته ليس كمثله شيء فكيف يشرك به وكيف يكون له ولد ، وهو لا تدركه الأبصار (٢) وهو يدركها وهو اللطيف (٣) الذي ينفذ علمه وقدرته في كل ذرات الكون علويّه وسفليّه الخبير بكل خلقه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وهو العزيز الحكيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أن من الإنس من عبد الجن بطاعتهم وقبول ما يأمرونهم به ويزينونه لهم.

٢ ـ تنزه الرب تعالى عن الشريك والصاحبة والولد.

٣ ـ مباينة الرب تبارك وتعالى لخلقه.

٤ ـ استحالة رؤية الرب في الدنيا ، (٤) وجوازها في الآخرة لأوليائه في دار كرامته.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ

__________________

(١) هذا أكبر برهان على بطلان نسبة الولد له تعالى إذ كل شيء خلقه فهل من خلق شيئا يقال لمن خلقه ولده؟ لو صح هذا لقالوا لكل من صنع شيئا هو أبوه والمصنوع ولده ولا قائل بهذا البتة.

(٢) لا تدركه الأبصار بمعنى لا تحيط به ولذا يراه أولياؤه في الجنة رؤية بصرية فينظرون إلى وجهه الكريم وأما رؤيته تعالى فمتعذرة في الحياة الدنيا إذ طلبها موسى ولم ينلها لعجز الإنسان عن رؤية الله تعالى بهذه الأبصار المحدودة القدرة والطاقة.

(٣) روي في الصحيحين ما يفيد تعذر رؤية الله في الدنيا لضعف الإنسان فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ، يرفع الله عمل النهار قبل الليل ، وعمل الليل قبل النهار حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

(٤) وفسر اللطيف بالرفيق بعباده واللطيف من أسماء الله تعالى. ولذا هو يلطف بعباده. كما هو للطفه لا يدرك بالكيفية ، واللطيف في الأجسام الذي يدخل في كل شيء.

الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

شرح الكلمات :

(بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) : البصائر جمع بصيرة : والمراد بها هنا الآيات المعرفة بالحق المثبتة له بطريق الحجج العقلية فهي في قوة العين المبصرة لصاحبها.

(بِحَفِيظٍ) : وكيل مسئول.

(نُصَرِّفُ الْآياتِ) : نجريها في مجاري مختلفة تبيانا للحق وتوضيحا للهدى المطلوب.

(وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) : أي تعلمت وقرأت لا وحيا أوحي إليك.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) : أي لا تلتفت إليهم وامض في طريق دعوتك.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) : أي لو شاء أن يحول بينهم وبين الشرك حتى لا يشركوا لفعل وما أشركوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية المشركين وبيان الطريق لهم ففي هذه الآية يقول (قَدْ جاءَكُمْ) أي أيها الناس (بَصائِرُ مِنْ (١) رَبِّكُمْ) وهي آيات القرآن الموضحة لطريق النجاة (فَمَنْ أَبْصَرَ) بها وهي كالعين المبصرة (فَلِنَفْسِهِ) إبصاره إذ هو الذي ينجو ويسعد (وَمَنْ عَمِيَ) فلم يبصر فعلى نفسه عماه إذ هي التي تهلك وتشقى وقل لهم يا رسولنا (ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي بوكيل مسئول عن هدايتكم ، وفي الآية الثانية (١٠٥) يقول تعالى : (وَكَذلِكَ (٢) نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي بنحو ما صرفناها من قبل في هذا القرآن نصرفها كذلك لهداية مريدي الهداية والراغبين (٣) فيها أما غيرهم فسيقولون درست (٤) وتعلمت من غيرك حتى يحرموا الإيمان

__________________

(١) (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) أي حجج وبينات ووصفها بالمجيء لتضخيم شأنها واكباره.

(٢) (كَذلِكَ) الكاف في محل نصب أي مثل أي نصرف الآيات : مثل ذلك التصريف.

(٣) وهم المذكورون في الآية ولنبيننه لقوم يعلمون.

(٤) قرىء دارست أي ذاكرت أهل الكتاب وتعلمت عنهم ولم يوح إليك شيء واللام في قوله وليقولوا درست هي لام العاقبة كما يقال كتب فلان هذا الكتاب لحتفه ، وفي القرآن (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً).

بك وبرسالتك والعياذ بالله تعالى ، وفي الآية الثالثة (١٠٦) يأمر الله تعالى رسوله باتباع ما يوحى إليه من الحق والهدى ، والإعراض عن المشركين المعاندين الذين يقولون درست حتى لا يأخذوا بما آتيتهم به ودعوتهم إليه من آيات القرآن الكريم إذ قال تعالى له : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١) وفي الآية الرابعة (١٠٧) يسلي الرب تعالى رسوله ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته ومحاربته فيها فيقول له : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) (٢) أي لو يشاء الله عدم إشراكهم لما قدروا على أن يشركوا إذا فلا تحزن عليهم ، هذا أولا ، وثانيا (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تراقبهم وتحصي عليهم أعمالهم وتجازيهم بها ، وما أرسلناك عليهم وكيلا تتولى هدايتهم بما فوق طاقتك (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد بلغت إذا فلا أسى ولا أسف!!

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ آيات القرآن بصائر من يأخذ بها يبصر طريق الرشاد وينجو ويسعد.

٢ ـ ينتفع بتصريف الآيات وما تحمله من هدايات العالمون لا الجاهلون وذلك لقوله تعالى في الآية الثانية (١٠٥) (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

٣ ـ بيان الحكمة في تصريف الآيات وهي هداية من شاء الله هدايته.

٤ ـ وجوب اتباع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية.

٥ ـ بيان بطلان مذهب القدرية «نفاة القدر».

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ

__________________

(١) هذا منسوخ بآية الجهاد.

(٢) في الآية دليل على إبطال مذهب القدرية وهم نفاة القدر والزاعمون أن أفعال العباد لم تقدر عليهم وإنما هم الخالقون لها بدون إذن الله وإرادته.

لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))

شرح الكلمات :

(وَلا تَسُبُّوا) : ولا تشتموا آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله تعالى.

(عَدْواً) : ظلما.

(زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) : حسناه لهم خيرا كان أو شرا حتى فعلوه.

(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أي غاية اجتهادهم في حلفهم بالله.

(آيَةٌ) : معجزة كإحياء الموتى ونحوها.

(وَما يُشْعِرُكُمْ) : وما يدريكم

(وَنَذَرُهُمْ) : نتركهم.

(يَعْمَهُونَ) : حيارى يترددون.

معنى الآيات :

عند ما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصبح يصدع بالدعوة جهرا بعد ما كانت سرا أخذ بعض أصحابه يسبون أوثان المشركين ، فغضب لذلك المشركون وأخذوا يسبون الله تعالى إله المؤمنين وربهم فنهاهم تعالى عن ذلك أي عن سب آلهة المشركين بقوله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا تسبوا آلهتهم (فَيَسُبُّوا (١) اللهَ عَدْواً) (٢) أي ظلما واعتداء بغير علم ، إذ لو علموا جلال الله وكماله لما سبوه ، وقوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) بيان منه تعالى لسنته في خلقه وهي أن المرء إذا أحب شيئا ورغب فيه وواصل ذلك الحب وتلك الرغبة يصبح زينا له ولو كان في الواقع شينا. ويراه حسنا وإن كان في حقيقة الأمر

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغضّ منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه. فنزلت الآية وهذا الحكم باق إلى نهاية الحياة فإن كان سب المؤمن الكافر يؤدي إلى سب الله تعالى أو رسوله فلا يحل للمؤمن أن يسب الكافر أو دينه.

(٢) وقرىء عدوا بضم العين والدال ومعنى القراءتين واحد وهو الجهل والإعتداء الذي هو الظلم.

قبيحا ، ومن هنا كان دفاع المشركين عن آلهتهم الباطلة من هذا الباب فلذا لم يرضوا أن تسب لهم وهددوا الرسول والمؤمنين بأنهم لو سبوا آلهتهم لسبوا لهم إلههم وهو الله تعالى ، وقوله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يخبر تعالى أن مرجع الناس المزين لهم أعمالهم خيرها وشرها ورجوعهم بعد نهاية حياتهم إلى الله ربهم فيخبرهم بأعمالهم ويطلعهم عليها ويجزيهم بها الخير بالخير والشر بالشر. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٨) وأما الآيتان الثانية (١٠٩) والثالثة (١١٠) فقد أخبر تعالى أن المشركين أقسموا (١) بالله أبلغ أيمانهم وأقصاها أنهم إذا جاءتهم آية كتحويل جبل الصفا إلى ذهب آمنوا عن آخرهم بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته واتبعوه على دينه الذي جاء به ، قال هذا رؤساء المشركين ، والله يعلم أنهم إذا جاءتهم الآية لا يؤمنون ، فأمر رسوله أن يرد عليهم قائلا : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) هو الذي يأتي بها إن شاء أما أنا فلا أملك ذلك. إلا أن المؤمنين من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغبوا في مجيء الآية حتى يؤمن المشركون وينتهي الصراع الدائر بين الفريقين فقال تعالى لهم : (وَما يُشْعِرُكُمْ) (٢) أيها المؤمنون (أَنَّها إِذا (٣) جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) أي وما يدريكم أن الآية لو جاءت لا يؤمن بها المشركون؟ وبين علة عدم إيمانهم فقال : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) فلا تعي ولا تفهم (وَأَبْصارَهُمْ) فلا ترى ولا تبصر. فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة لما دعوا إلى الإيمان به (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي ونتركهم في شركهم وظلمهم حيارى يترددون لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهداية من الضلال.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة قول أو فعل ما يتسبب (٤) عنه سب الله ورسوله.

٢ ـ بيان سنة الله في تزيين الأعمال لأصحابها خيرا كانت أو شرا.

٣ ـ بيان أن الهداية بيد الله تعالى وأن المعجزات قد لا يؤمن عليها من شاهدها.

__________________

(١) في هذا دليل الموادعة والأخذ بمبدأ سد الذرائع.

(٢) كان المشركون يحلفون بآلهتهم ، وإذا حلفوا بالله كان ذلك أقصى أيمانهم وأشدها. وهنا مسألة لو قال المرء الأيمان تلزمه ثم حنث فإن عليه إطعام ثلاثين مسكينا لأن أقل الجمع ثلاثة ، وإن لم يكن له مال صام تسعة أيام.

(٣) الإشعار مصدر أشعره إذا أعلمه بأمر من شأنه أن يخفى ويدق.

(٤) قرئت إنها بكسر الهمزة على الاستئناف فيكون الكلام قد انتهى عند قوله وما يشعركم ويكون المعنى وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم قال إنها إذا جاءت لا يؤمنون. فذكر علة عدم إيمانهم بقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم.

الجزء الثامن

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

شرح الكلمات :

(الْمَلائِكَةَ) : أجسام نورانية يعمرون السموات عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.

(الْمَوْتى) : جمع ميت : من فارقته الحياة أي خرجت منه روحه.

(حَشَرْنا) : جمعنا.

(قُبُلاً) : معاينة.

(يَجْهَلُونَ) : عظمة الله وقدرته وتدبيره وحكمته.

(شَياطِينَ) : جمع شيطان : وهو من خبث وتمرد من الجن والإنس.

(يُوحِي بَعْضُهُمْ) : يعلم بطريق سريع خفي بعضهم بعضا.

(زُخْرُفَ الْقَوْلِ) : الكذب المحسن والمزين.

(غُرُوراً) : للتغرير بالإنسان.

(يَفْتَرُونَ) : يكذبون.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) : تميل إليه.

(وَلِيَقْتَرِفُوا) : وليرتكبوا الذنوب والمعاصي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أولئك العادلين بربهم المطالبين بالآيات الكونية ليؤمنوا إذا شاهدوها فأخبر تعالى في هذه الآيات أنه لو نزل إليهم الملائكة من (١) السماء ، وأحيى لهم الموتى فكلموهم وقالوا لهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وحشر عليهم كل شىء (٢) أمامهم يعاينونه معاينة أو تأتيهم المخلوقات قبيلا بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ما كانوا ليؤمنوا بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إلا أن يشاء (٣) الله ذلك منهم. ولكن أكثر أولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان يجهلون أن الهداية بيد الله تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون وأنهم لو رأوا الآيات آمنوا.

هذا ما دلت عليه الآية (١١١) أما الآية الثانية (١١٢) فإن الله تعالى يقول وكما كان لك يا رسولنا من هؤلاء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداء يجادلونه ويحاربونه (شَياطِينَ (٤) الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي (٥) بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي القول المزين بالباطل المحسن بالكذب (غُرُوراً) أي للتغرير والتضليل ، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) أيها الرسول عدم فعل ذلك الإيحاء والوسواس (ما فَعَلُوهُ) إذا (فَذَرْهُمْ) أي اتركهم (وَما يَفْتَرُونَ) من الكفر والكذب والباطل.

هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (١١٣) وهي قوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) هذه الآية بجملها الأربع معطوفة على قوله (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) إذ إيحاء شياطين الجن والإنس (٦) كان

__________________

(١) فرأوهم عيانا.

(٢) أي شيئا سألوه وطلبوه.

(٣) الاستثناء منفصل فهو بمعنى لكن إن شاء الله إيمانهم آمنوا والآية تحمل التسلية والعزاء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) شياطين الإنس والجن بدل من قوله عدوّا ويصح أن يكون نعتا أيضا.

(٥) يوحي بمعنى يلقى إليه الباطل المزين بطريق الوسواس فيفهم عنه إذ الإيحاء الإعلام السريع الخفي وشاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما منكم من احد إلّا قد وكل به قرينه من الجن ، قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلّا أن الله أعانني عليه فأسلم».

(٦) روي عن مالك بن دينار أنه قال : شياطين الإنس أشد من شياطين الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. ويشهد لهذا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع امرأة تنشد :

إن النساء رياحين خلقن لكم

وكلكم يشتهي شم الرياحين

فأجابها عمر رضي الله عنه قائلا :

إن النساء شياطين خلقن لنا

نعوذ بالله من شر الشياطين

للغرور أي ليغتر به المشركون ، (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي تميل (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم المشركون العادلون بربهم (وَلِيَرْضَوْهُ) ويقتنعوا به لأنه مموه لهم مزين ، ونتيجة لذلك التغرير والميل إليه وهو باطل والرضا به والاقناع بفائدته فهم يقترفون من أنواع الكفر وضروب الشرك والمعاصي والإجرام ما يقترفون!.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبدا ، وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للأولين والآخرين.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل داع إلى الله تعالى بإعلامه أنه ما من نبي ولا داع إلا وله أعداء من الجن والإنس يحاربونه حتى ينصره الله عليهم.

٣ ـ التحذير من التمويه والتغرير فإن أمضى سلاح للشياطين هو التزيين والتغرير.

٤ ـ القلوب الفارغة من الإيمان بالله ووعده وعيده في الدار الآخرة أكثر القلوب ميلا إلى الباطل والشر والفساد.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))

شرح الكلمات :

(أَبْتَغِي) : أطلب.

(حَكَماً) : الحكم الحاكم ومن يتحاكم إليه الناس.

(أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) : أي أنزله لأجلكم لتهتدوا به فتكملوا عليه وتسعدوا.

(مُفَصَّلاً) : مبينا لا خفاء فيه ولا غموض.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : أي علماء اليهود والنصارى.

(الْمُمْتَرِينَ) : الشاكين ، إذ الامتراء الشك.

(صِدْقاً وَعَدْلاً) : صدقا في الأخبار فكل ما أخبر به القرآن هو صدق ، وعدلا في الأحكام فليس في القرآن حكم جور وظلم أبدا بل كل أحكامه عادلة.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : أي لا مغير لها لا بالزيادة والنقصان ، ولا بالتقديم والتأخير.

(السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : السميع لأقوال العباد العليم بأعمالهم ونياتهم وسيجزيهم بذلك.

(سَبِيلِ اللهِ) : الإسلام إذ هو المفضي بالمسلم إلى رضوان الله تعالى والكرامة في جواره.

(يَخْرُصُونَ) : يكذبون الكذب الناتج عن الحزر والتخمين

(مَنْ يَضِلُ) : بمن يضل.

(بِالْمُهْتَدِينَ) : في سيرهم إلى رضوان الله باتباع الإسلام الذي هو سبيل الله.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام والأوثان لقد كان المراد في طلبهم الآية الحكم بها على صحة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي الله وأن القرآن كلام الله وأنه لا إله إلا الله ، ولم يكن هذا منهم إلا من قبيل ما توسوس به الشياطين لهم وتزينه لهم تغريرا بهم وليواصلوا ذنوبهم فلا يؤمنون ولا يتوبون ، ومن هنا أنزل تعالى قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي (١) حَكَماً). وهو تعليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله للمشركين أأميل إلى باطلكم وأقتنع به فغير الله أطلب حكما بيني

__________________

(١) أفغير منصوب بأبتغي أي آبتغى غير الله؟ وكلما منصوب على الحال أو التمييز المبين لمبهم الابتغاء.

وبينكم في دعواكم أني غير رسول وأن ما جئت به ليس وحيا من الله؟ ينكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحكيم غير ربه تعالى وعلى ما ذا يكون الحكم والله هو الذي أنزل إليهم الكتاب مفصلا فأي آية تغلب القرآن وهو آلاف الآيات هذا أولا وثانيا أهل الكتاب من قبلهم وهم علماء اليهود والنصارى مقرون ومعترفون بأن ما ينفيه المشركون هو حق لا مرية فيه إذا فامض أيها الرسول في طريق دعوتك ولا تكونن من الممترين فإنك عما قريب تظهر على المشركين ، لقد تمت كلمة (١) ربك أي في هذا القرآن الذي أوحي إليك صدقا في كل ما تحمله من أخبار ومن ذلك نصرك وهزيمة أعدائك ، وعدلا في أحكامها التي تحملها ، ولا يستطيع أحد تبديلها بتغيير (٢) لها بإخلاف وعد ولا بإبطال حكم ، وربك هو السميع لأقوال عباده العليم بمقاصدهم وأفعالهم فما أقدره وأضعفهم فلذا لن يكون إلا مراده ويبطل جميع إراداتهم. واعلم يا رسولنا أنك (إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي لو أنك تسمع لهم وتأخذ بآرائهم وتستجيب لاقتراحاتهم لأضلوك قطعا عن سبيل الله ، والعلة أن أكثرهم لا بصيرة له ولا علم حق لديه وكل ما يقولونه هو هوى نفس ، ووسواس شيطان. إنهم ما يتبعون إلا أقوال الظن وما هم فيما يقولون إلا خارصون (٣) كاذبون. وحسبك علم ربك بهم فإنه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإلهي.

٢ ـ تقرير صحة الدعوة الإسلامية بأمرين الأول : القرآن الكريم ، الثاني : شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي وغيرهم.

٣ ـ ميزة القرآن الكريم : أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.

٤ ـ وعود الله تعالى لا تتخلف أبدا ، ولا تتبدل بتقديم ولا تأخير.

٥ ـ اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه لقوله

__________________

(١) قرأ أهل الكوفة كلمة بالإفراد وقرأها الباقون بالجمع كلمات قال ابن عباس رضي الله عنه في كلمات ربك هي مواعيده تعالى.

(٢) كما لا يستطيع أحد تبديل كلماتها وحروفها في القرآن الكريم كما بدلت التوراه والإنجيل بتحريف الكلمات وتغييرها.

(٣) من هذا قيل لمن يقدر كمية التمر في النخل خراص لأنه يقول بدون علم يقيني ـ وإنما بالحدس والتخمين واجازه الشارع للضرورة إليه.

تعالى : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

شرح الكلمات :

(مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) : أي قيل عند ذبحه أو نحره بسم الله والله أكبر.

(فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) : أي بين لكم ما حرم عليكم مما أحل لكم وذلك في سورة النحل.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) : أي ألجأتكم الضرورة وهي خوف الضرر من الجوع.

(بِالْمُعْتَدِينَ) : المتجاوزين الحلال إلى الحرام ، والحق إلى الباطل.

(ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ) : اتركوا : الإثم الظاهر والباطن وهو كل ضار فاسد قبيح.

(يَقْتَرِفُونَ) : يكسبون الآثام والذنوب.

(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) : أي الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. فسق عن طاعة الله تعالى.

(إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) : أي من الإنس ليخاصموكم في ترك الأكل من الميتة.

(لَمُشْرِكُونَ) : حيث أحلوا لكم ما حرم عليكم فاعتقدتم حله فكنتم

بذلك عابديهم وعبادة غير الله تعالى شرك.

معنى الآيات :

مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإنس أن قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين : كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله الله؟ فأنزل الله تعالى قوله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ). (١) فأمر المؤمنين بعدم الاستجابة لما يقوله المشركون ، وقال (وَما لَكُمْ (٢) أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي : أي شيء يمنعكم من الأكل مما ذكر اسم الله عليه؟ (وَقَدْ فَصَّلَ (٣) لَكُمْ) أي بين لكم غاية التبيين (ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) من المطاعم (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي ألجأتكم الضرورة إليه كمن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع فإنه يأكل مما حرم في حال الإختيار. ثم أعلمهم أن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم (٤) بغير علم فيحلون ويحرمون بدون علم وهم في ذلك ظلمة معتدون لأن التحريم والتحليل من حق الرب تعالى لا من حق أي أحد من الناس وتوعدهم بما دل عليه قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) ولازمه أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق الله تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم.

وقوله تعالى في الآية الثالثة : (١٢٠) (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) يأمر تعالى عباده بترك ظاهر الإثم كالزنى العلني وسائر المعاصي ، وباطن الإثم كالزنى السري وسائر الذنوب الخفية وهو شامل لأعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي ظاهرة ، لأن الإثم كل ضار فاسد قبيح كالشرك ، والزنى وغيرهما من سائر المحرمات.

ثم توعد الذين لا يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبوه من الذنوب والآثام ولا ينجو إلا من تاب منهم وصحت توبته وفي الآية الأخيرة في هذا السياق (١٢١) يقول تعالى ناهيا عباده عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من ذبائح المشركين

__________________

(١) هذه الآية نص في مشروعية التسمية عند الذبح وعند الأكل والشرب.

(٢) أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم؟

(٣) بين تعالى ذلك في آخر سورة النحل المكية وأما البيان التام فهو في سورة المائدة المتأخرة في النزول عن النحل والأنعام معا.

(٤) إذ قال المشركون للرسول والمؤمنين ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم أنتم بسكاكينكم.

والمجوس فقال : (وَلا تَأْكُلُوا (١) مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢) وأخبر أن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وهو ذبائح المشركين والمجوس فسق خروج عن طاعة الرب تعالى وهو مقتض للكفر لما فيه من الرضا بذكر اسم الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى ، ثم أخبرهم تعالى بأن الشياطين وهم المردة من الجن يوحون إلى الأخباث من الإنس من أوليائهم الذين استجابوا لهم في عبادة الأوثان يوحون إليهم بمثل قولهم : كيف تحرمون ما قتل الله وتحلون ما قتلتم أنتم؟ ليجادلوكم بذلك ، ويحذر تعالى المؤمنين من طاعتهم وقبول وسواسهم فيقول (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) فأكلتم ذبائحهم أو تركتم أكل ما ذبحتم أنتم وقد ذكرتم عليه اسم الله ، (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (٣) لأنكم استجبتم لما تأمر به الشياطين تاركين ما يأمر به رب العالمين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حلّ الأكل من ذبائح المسلمين.

٢ ـ وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام عند تذكيتها.

٣ ـ حرمة اتباع الأهواء ووجوب اتباع العلماء.

٤ ـ وجوب ترك الإثم ظاهرا كان أو باطنا وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح.

٥ ـ حرمة الأكل من ذبائح المشركين والمجوس والملاحدة البلاشفة الشيوعيين.

٦ ـ اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بالله تعالى.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ

__________________

(١) روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) قال : خاصمهم المشركون فقالوا : ما ذبح الله فلا تأكلوه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه فقال الله سبحانه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

(٢) إن هذا اللفظ الوارد على سبب معين لا يمنع العموم إذ القاعدة الأصولية أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن هنا تعين معرفة ما يلي : أولا : وجوب التسمية عند الذبح والنحر. ثانيا : إن ترك المسلم التسمية سهوا أكلت ذبيحته ، ثالثا : إن تركها عمدا لم تؤكل ذبيحته ، رابعا : قال بعض الفقهاء ترك المسلم التسمية عمدا لا يحرم ذبيحته إلّا أن يكون تركها مستخفا بها.

(٣) الآية دليل على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا وقد حرّم الله سبحانه الميتة نصا فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. وقال ابن العربي إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا ـ إذا أطاعه في الاعتقاد. أما إن أطاعه في الفعل وعقيدته سليمة مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص غير كافر.

زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

شرح الكلمات :

(مَيْتاً) : الميت فاقد الروح ، والمراد روح الإيمان.

(فَأَحْيَيْناهُ) : جعلناه حيا بروح الإيمان.

(مَثَلُهُ) : صفته ونعته امرؤ في الظلمات ليس بخارج منها.

(قَرْيَةٍ) : مدينة كبيرة.

(لِيَمْكُرُوا فِيها) : بفعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها بأسلوب الخديعة والاحتيال.

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) : لأن عاقبة المكر تعود على الماكز نفسه لآية (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) : أي من القرآن الكريم تدعوهم إلى الحق.

(صَغارٌ) : الصغار : الذل والهوان.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في حرب العادلين بربهم الأصنام الذين يزين لهم الشيطان تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) أي أطاعة هذا العبد الذي كان ميتا بالشرك والكفر فأحييناه بالإيمان والتوحيد وهو عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر كطاعة من مثله رجل في الظلمات ظلمات الشرك

والكفر والمعاصي ليس بخارج من تلك الظلمات وهو أبو جهل (١) والجواب لا ، إذا كيف أطاع المشركون أبا جهل وعصوا عمر رضى الله عنه والجواب : أن الكافرين لظلمة نفوسهم واتباع أهوائهم لا عقول لهم زين لهم عملهم الباطل حسب سنة الله تعالى في أن من أحب شيئا وغالى في حبه على غير هدى ولا بصيرة يصبح في نظره زينا وهو شين وحسنا وهو قبيح ، فلذا قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها (٢) لِيَمْكُرُوا فِيها) فيهلكوا أيضا. وقوله : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) هو كما قال : قوله الحق وله الملك ، فالماكر من أكابر المجرمين حيث أفسدوا عقائد الناس وأخلاقهم وصرفوهم عن الهدى بزخرف القول والاحتيال والخداع ، هم في الواقع يمكرون بأنفسهم إذ سوف تحل بهم العقوبة في الدنيا وفي الآخرة ، إذ لا يحيق المكر الشيء إلا بأهله ولكنهم لا يشعرون أي لا يدرون (٣) ولا يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم ، وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٢٤) (وَإِذا (٤) جاءَتْهُمْ آيَةٌ ..) (٣) أي حجة عقلية مما تحمله آيات القرآن تدعوهم إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به ويدعو إليه من التوحيد بدل أن يؤمنوا (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى (٥) مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي من المعجزات كعصا موسى وطير عيسى الذي نفخ فيه فكان طائرا بإذن الله فرد الله تعالى عليهم هذا العلو والتكبر قائلا : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فإنه يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية ، لا في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة ، وقوله تعالى (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) على أنفسهم بالشرك والمعاصي وعلى غيرهم حيث أفسدوا قلوبهم وعقولهم ، (صَغارٌ) (٦) : أي ذل وهوان (عِنْدَ اللهِ) يوم يلقونه (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) قاس لا يطاق (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) : أي بالناس بتضليلهم وإفساد قلوبهم وعقولهم بالشرك والمعاصي التي كانوا

__________________

(١) الآية عامة في كل كافر ومؤمن والموت قد يطلق أيضا على الجهل. فالجاهل ميت وحياته بالعلم كما قال الشاعر :

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله

فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرؤا لم يحيى بالعلم ميت

فليس له حتى النشور نشور

(٢) في الآية تقديم وتأخير. الأصل جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها والأكابر جمع أكبر وهم الرؤساء والعظماء وخصوا بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والإفساد من عامة الناس.

(٣) وذلك لفرط جهلهم لا يعلمون أن وبال مكرهم عائد عليهم.

(٤) في الآية شيء من بيان جهلهم وعملهم.

(٥) هذه مقالة بعضهم قال الوليد بن المغيرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر سنا وأكثر منك مالا. وقال أبو جهل : والله لا نرضى به أبدا ولا نتبعه إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه.

(٦) الصغار من الصغر ضد الكبر كأن الذل يصغر إلى المرء نفسه والفعل صغر يصغر من باب نصر ، وصغر يصغر من باب علم يعلم. والمصدر الصغر بفتح الصاد والغين معا والصغار الاسم واسم الفاعل صاغر وهو الراضي بالضيم.

يجرئونهم عليها ويغرونهم بها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الإيمان حياة ، والكفر موت ، المؤمن يعيش في نور والكافر في ظلمات.

٢ ـ بيان سنة الله تعالى في تزيين الأعمال القبيحة.

٣ ـ قل ما تخلو مدينة من مجرمين يمكرون فيها.

٤ ـ عاقبة المكر عائدة على الماكر نفسه.

٥ ـ بيان تعنت المشركين في مكة على عهد نزول القرآن.

٦ ـ الرسالة توهب لا تكتسب.

٧ ـ بيان عقوبة أهل الإجرام في الأرض.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))

شرح الكلمات :

(يَشْرَحْ صَدْرَهُ) : شرح الصدر توسعته لقبول الحق وتحمل الوارد عليه من أنوار الإيمان وعلامة ذلك : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله.

(حَرَجاً) : ضيقا لا يتسع لقبول الحق ، ولا لنور الإيمان.

(كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) : يصعب عليه قبول الإيمان حتى كأنه يتكلف الصعود إلى السماء.

(الرِّجْسَ) : النّجس وما لا خير فيه كالشيطان.

(فَصَّلْنَا الْآياتِ) : بيناها وأوضحناها غاية البيان والتوضيح

(يَذَّكَّرُونَ) : يذكرون فيتعظون.

(دارُ السَّلامِ) : الجنة ، والسّلام اسم من أسماء الله تعالى فهي مضافة إلى الله تعالى.

(اسْتَكْثَرْتُمْ) : أي من إضلال الإنس وإغوائهم.

(اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) : انتفع كل منّا بصاحبه أي تبادلنا المنافع بيننا حتى الموت.

(أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) : أي الوقت الذي وقت لنا وهو أجل موتنا فمتنا.

(مَثْواكُمْ) : مأواكم ومقر بقائكم وإقامتكم.

(حَكِيمٌ عَلِيمٌ) : حكيم في وضع كل شىء في موضعه فلا يخلد أهل الإيمان في النار ، ولا يخرج أهل الكفر منها ، عليم بأهل الإيمان وأهل الكفران.

معنى الآيات :

بعد ذلك البيان والتفصيل لطريق الهداية في الآيات من أول السورة إلى قوله تعالى حكاية عن المدعوين إلى الحق العادلين به الأصنام إذ قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).

أعلم تعالى عباده أن الهداية بيده وأن الإضلال كذلك يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بعدله ، وأن لكل من الهداية والإضلال سننا تتبع في ذلك فمن طلب الهداية ورغب

فيها صادقا علم تعالى ذلك منه وسهل له طرقها وهيأ له أسبابها ، ومن ذلك أنه يشرح (١) صدره لقبول الإيمان وأنواره فيؤمن ويسلم ويحسن فيكمل ويسعد ، ومن طلب الغواية ورغب فيها صادقا علم الله تعالى ذلك منه فهيأ له أسبابها وفتح له بابها فجعل صدره ضيقا (٢) حرجا لا يتسع لقبول الإيمان وحلول أنواره فيه حتى لكأنه يتكلف الصعود إلى السماء وما هو بقادر هذه سنته في الهداية والإضلال ، وقوله تعالى (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي كذلك الفعل في الهداية والإضلال يجعل الله الرجس (٣) أي يلقي بكل ما لا خير فيه على قلوبهم من الكبر والحسد والشرك والكفر والشيطان لقبول المحل لكل ذلك نتيجة خلوه من الإيمان بالله ولقائه.

وقوله تعالى (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشيرا إلى ما بيّنه من الهدى وهذا طريق ربك مستقيما فاسلكه والزمه فإنه يفضي بك إلى كرامة ربك وجواره في جنات النعيم. وقوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يمتن تعالى وله الحمد والمنة بما أنعم به على هذه الأمة من تفصيل الآيات حججا وبراهين وشرائع ليهتدي طالبوا الهدى المشار إليهم بقوله (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فيذكرون فيؤمنون ويعملون فيكملون ويسعدون في دار السّلام إذ قال تعالى (لَهُمْ (٤) دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا والإنعام والتكريم في الآخرة (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الصالحات.

هذا ما دلت عليه الآيات الأولى والثانية والثالثة أما الآية الرابعة (١٢٨) فقد تضمنت عرضا سريعا ليوم القيامة الذي هو ظرف للجزاء على العمل في دار الدنيا فقال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) (٥) إنسهم وجنهم ويقول سبحانه وتعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ (٦) مِنَ الْإِنْسِ) أي في إغوائهم وإضلالهم ، (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي الذين كانوا

__________________

(١) الشرح أصله التوسعة وشرح الأمر بيّنه وأوضحه ومنه تشريح اللحم والشريحة منه القطعة. وشرح الصدر لقبول الحق توسعته لتقبل ما يلقى إليه من الهدى وفي الحديث الصحيح «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».

(٢) الحرج والحرج بالفتح والكسر قراءتان وهو الضيق وكل ضيق حرج والحرجة الغيضة والجمع حروج وحرجات وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الحرج موضع الشجر الملتف فقلب الكافر لضيقه لا تصل إليه المعرفة كما لا تصل الشاة إلى الشجر الملتف أو تدخل رأسها بين الشجر فيصعب عليها إخراجه فتقع في حرج ، والحرج الإثم.

(٣) أصل الرجس في اللغة النتن وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه فكما يجعل صدر الكافر ضيقا لا يقبل الهدى يجعل عليه الرجس فيقبل كل خبيث نتن من الأقوال والاعتقادات.

(٤) دار السّلام الجنة والسّلام هو الله فدار السّلام كبيت الله وهناك معنى اخر وهو أنها دار السلامة من كل أذى ومكروه وآفة.

(٥) نصب الظرف بفعل محذوف تقديره يقول يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن الخ.

(٦) حذف لفظ الاستمتاع إيجازا لدلالة السياق وحرف الجر عليه أي قد استكثرتم من الاستمتاع من الإنس.

يوالونهم على الفساد والشر والشرك والكفر (رَبَّنَا) أي يا ربنا (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي كل منا تمتع بخدمة الآخر له وانتفع بها ، يريدون أن الشياطين زينت لهم الشهوات وحسنت لهم القبائح وأغرتهم بالمفاسد فهذا انتفاعهم منهم وأما الجن فقد انتفعوا من الإنس بطاعتهم والاستجابة لهم حيث خبثوا خبثهم وضلوا ضلالهم. وقولهم (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي واستمر ذلك منا إلى أن انتهينا إلى أجلنا الذي أجلته لنا وهو نهاية الحياة الدنيا وها نحن بين يديك ، كأنهم يعتذرون بقولهم هذا فرد الله تبارك وتعالى عليهم بإصدار حكمه فيهم قائلا : (النَّارُ مَثْواكُمْ (١) خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ومعنى مثواكم : مقامكم الذي تقيمون فيه أبدا.

ومعنى قوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هو استثناء (٢) لبيان إرادة الله المطلقة التي لا يقيدها شىء ، إذ لو شاء أن يخرجهم من النار لأخرجهم أي ليس هو بعاجز عن ذلك ، ومن الجائز أن يكون هذا الاستثناء المراد به من كان منهم من أهل التوحيد ودخل النار بالفسق والفجور وكبير الذنوب بإغواء الشياطين له فإنه يخرج من النار بإيمانه ، ويكون معنى (ما) (من) أي إلا من شاء الله. والله أعلم بمراده ، وقوله في ختام الآية ، (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ، ومن مظاهر حكمته وعلمه إدخال أهل الكفر والمعاصي النار أجمعين الإنس والجن سواء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في الهداية والإضلال.

٢ ـ بيان صعوبة وشدة ما يعاني الكافر إذا عرض عليه الإيمان.

٣ ـ القلوب الكافرة يلقى فيها كل ما لا خير فيه من الشهوات والشبهات وتكون مقرا للشيطان.

٤ ـ فضيلة الذكر المنتج للتذكر الذي هو الإتعاظ فالعمل.

٥ ـ ثبوت التعاون بين أخباث الإنس والجن على الشر والفساد.

٦ ـ إرادة الله مطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يؤثر فيها شيء.

__________________

(١) المثوى المقام أي النار موضع مقامكم.

(٢) ذكر المفسرون أقوالا كثيرة في هذا الاستثناء وما ذكرته في التفسير أحسن ما يؤول به هذا الاستثناء الإلهي في هذه الآية وفي آية هود.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

شرح الكلمات :

(نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) : أي نجعل بعضهم أولياء بعض بجامع كسبهم الشر والفساد.

(بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي من الظلم والشر والفساد.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) : الإستفهام للتوبيخ والرسل جمع رسول من أوحى الله تعالى إليه شرعه وأمره بإبلاغه للناس ، هذا من الإنس أما من الجن فهم. من يتلقون عن الرسل من الإنس ويبلغون ذلك إخوانهم من الجن ، ويقال لهم النّذر.

(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) : يخبرونكم بما فيها من الحجج متتبعين ذلك حتى لا يتركوا شيئا إلا بلغوكم إياه وعرفوكم به.

(وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ) : أي يخوفونكم بما في يومكم هذا وهو يوم القيامة من العذاب والشقاء.

(وَأَهْلُها غافِلُونَ) : لم تبلغهم دعوة تعرفهم بربهم وطاعته ، وما لهم عليها من جزاء.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) إخبار منه تعالى بسنته في أهل الظلم وهي أن يجعل بعضهم أولياء بعض بمعنى يتولاه بالنصرة والمودة بسبب الكسب الشيء الذي يكسبونه على نحو موالاة شياطين الإنس للجن فالجامع بينهم الخبث والشر وهؤلاء الجامع بينهم الظلم والعدوان ، ولا مانع من حمل هذا اللفظ على تسليط الظالمين بعضهم على بعض على حد : ولا ظالم إلا سيبتلى بأظلم. (١) كما أنه تعالى سيوالي يوم القيامة إدخالهم النار فريقا بعد فريق وكل هذا حق وصالح لدلالة اللفظ عليه.

وقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إخبار منه تعالى بأنه يوم القيامة ينادي الجن والإنس موبخا لهم فيقول : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ (٢) يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون عنهم ويفهمون عنكم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يتلونها عليكم ويخبرونكم بما تحمله آياتي من حجج وبراهين لتؤمنوا بي وتعبدوني وحدي دون سائر مخلوقاتي ، وينذرونكم أي يخوفونكم ، لقاء يومكم هذا الذي أنتم الآن فيه وهو يوم القيامة والعرض على الله تعالى. وما يتم فيه من جزاء على الأعمال خيرها وشرها ، وأن الكافرين هم أصحاب النار. فأجابوا قائلين : شهدنا على أنفسنا ـ وقد سبق أن غرتهم (٣) الحياة الدنيا فواصلوا الكفر والفسق والظلم ـ (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ (٤) أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة (١٣١) فقد تضمنت الإشارة إلى علة إرسال الرسل إلى الإنس والجن إذ قال تعالى (ذلِكَ (٥) أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ (٦)

__________________

(١) في هذا المعنى قول الشاعر :

وما من يد إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلّا سيبلى بظالم

(٢) قوله منكم فيه تغليب الإنس على الجن في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث إذ الرسل من الإنس لا غير ومن الجن نذر ينذرونهم بما يتلقونه عن الرسل من الإنس كما قال تعالى (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وشاهد آخر في قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) والمراد البحر الملح فقط وفي وصف الرسل بلفظ منكم زيادة في إقامة الحجة عليهم.

(٣) غرتهم إذ عجلت لهم طيباتهم فيها فانفردوا بزخارفها وزينتها وطول العمر فيها.

(٤) قال مقاتل هذا معنى شهدت عليهم الجوارح بالشرك.

(٥) ذلك في موضع رفع أي الأمر ذلك وإن مخففة من الثقيلة أي المشددة واسمها ضمير الشأن محذوف وذلك لأن هذا الخبر له شأن يجدران يعرف والتقدير الأمر ذلك لأنه ـ أي الشأن ـ لم يكن ربك مهلك القرى بظلم الخ.

(٦) الباء في بظلم سببية أي بسبب ظلمهم وجملة وأهلها غافلون حالية.

وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي ذلك الإرسال كان لأجل أنه تعالى لم يكن من شأنه ولا مقتضى حكمته أنه يهلك أهل القرى بظلم منه وما ربك بظلام للعبيد ولا بظلم منهم وهو الشرك والمعاصي وأهلها غافلون لم يؤمروا ولم ينهوا ، ولم يعلموا بعاقبة الظلم وما يحل بأهله من عذاب.

وفي الآية الأخيرة (١٣٢) أخبر تعالى أن لكل عامل (١) من خير أو شر درجات من عمله إن كان العمل صالحا فهي درجات في الجنة ، وإن كان العمل سيئا فاسدا فهي دركات في النار ، وهذا يتم حسب علم الله تعالى بعمل كل عامل وهو ما دل عليه قوله ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح ، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد.

٢ ـ التحذير من الإغترار بالحياة الدنيا.

٣ ـ بيان العلة في إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس ، وعدم إهلاكهم قبل الإرسال إليهم.

٤ ـ الأعمال بحسبها يتم الجزاء فالصالحات تكسب الدرجات ، والظلمات تكسب الدركات.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

__________________

(١) لكل عامل أي من الإنس والجن.

مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))

شرح الكلمات :

(الْغَنِيُ) : عن كل ما سواه ، فغناه تعالى ذاتي ليس بمكتسب كغنى غيره.

(ذُو الرَّحْمَةِ) : صاحب الرحمة العامة التي تشمل سائر مخلوقاته والخاصة بالمؤمنين من عباده.

(وَيَسْتَخْلِفْ) : أي ينشىء خلقا آخر يخلفون الناس في الدنيا.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) : إن ما وعد الله تعالى به عباده من نعيم أو جحيم لآت لا محالة.

(عَلى مَكانَتِكُمْ) : أي على ما أنتم متمكنين منه من حال صالحة أو فاسدة.

(عاقِبَةُ الدَّارِ) : أي الدار الدنيا وهي سعادة الآخرة القائمة على الإيمان والعمل الصالح.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) : أي لا يفوز الظالمون بالنجاة من النار ودخول الجنان لأن ظلمهم يوبقهم في النار.

معنى الآيات :

بعد تلك الدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وبيان جزاء من أقام بها ، ومن ضيعها في الدار الآخرة.

خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله قائلا : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ (١) ذُو الرَّحْمَةِ) أي ربك الذي أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته هو الغني عنهم وليس في حاجة إليهم ، بل هم الفقراء إليه المحتاجون إلى فضله ، ورحمته قد شملتهم أولهم وآخرهم ولم تضق عن أحد منهم ، ليعلم أولئك العادلون بربهم الأصنام والأوثان أنه تعالى قادر على إذهابهم بإهلاكهم بالمرة ، والإتيان بقوم آخرين أطوع لله تعالى منهم ، وأكثر استجابة له منهم : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) وليعلموا أن ما يوعدونه من البعث والحساب والجزاء لآت لا محالة وما أنتم بمعجزين الله تعالى ولا فائتينه بحال ،

__________________

(١) الغني هو الذي لا يحتاج إلى غيره وكل غنى من الخلق غناه إضافي غير حقيقي أما غنى الله تعالى فهو حقيقى فقوله وربك الغني أي الغنى المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره ولذا كان في الصيغة قصر الغنى الحق عليه تعالى.

ولذا سوف يجزي كلا بعمله خيرا كان أو شرا وهو على ذلك قدير.

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة (١٣٥) فقد تضمنت أمر الله تعالى للرسول أن يقول للمشركين من قومه وهم كفار قريش بمكة (اعْمَلُوا (١) عَلى مَكانَتِكُمْ) ما دمتم مصرين على الكفر والشرك (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي فسوف (٢) تعلمون من تكون له عاقبة دار (٣) الدنيا وهي الجنة دار السّلام أنا أم أنتم مع العلم أن الظالمين لا يفلحون بالنجاة من النار ودخول الجنان ، ولا شك أنكم أنتم الظالمون بكفركم بالله تعالى وشرككم به.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير غنى الله تعالى المطلق عن سائر خلقه.

٢ ـ بيان قدرة الله تعالى على إذهاب الخلق كلهم والإتيان بآخرين غيرهم.

٣ ـ صدق وعد الله تعالى وعدم تخلفه.

٤ ـ تهديد المشركين بالعذاب إن هم أصروا على الشرك والكفر والذي دل عليه قوله (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) الدنيا (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ

__________________

(١) هذا الأمر للتهديد ، والمكانة هي المكان كالدارة والدار والمراد بها الحال التي عليها الإنسان من قوة أو ضعف أو خير أو شر أو إصلاح أو إفساد.

(٢) الجملة تحمل التهديد الشديد وهي تشير إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واثق من نصره وحسن عاقبته وهو كذلك إذ الله تعالى الذي بيده الأمر هو الذي أمره أن يعلن عن هذا التهديد.

(٣) العاقبة لغة آخر الأمر وأثر عمل العامل ، فعاقبة كل شيء هي ما ينجلي عنه الشيء من نتيجة وأثر وتأنيث العافية بالنظر إلى تأويلها بالحالة والحالة مؤنثة.

ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

شرح الكلمات :

(مِمَّا ذَرَأَ) : مما خلق.

(مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ) : الحرث كل ما يحرث له الأرض من الزروع ، والأنعام : الإبل والبقر والغنم.

(نَصِيباً) : حظا وقدرا معينا.

(لِشُرَكائِنا) : شركاؤهم أوثانهم التي أشركوها في عبادة الخالق عزوجل.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) : قبح حكمهم في ذلك إذ آثروا أوثانهم على الله.

(لِيُرْدُوهُمْ) : اللام لام العاقبة ومعنى يردوهم : يهلكوهم.

(وَلِيَلْبِسُوا) : ليخلطوا عليهم دينهم.

(حِجْرٌ) : أي ممنوعة على غير من لم يأذنوا له في أكلها.

(حُرِّمَتْ ظُهُورُها) : أي لا يركبونها ولا يحملون عليها.

(افْتِراءً عَلَى اللهِ) : أي كذبا على الله عزوجل.

(عَلى أَزْواجِنا) : أي إناثنا.

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) : أي إن ولد ما في بطن الحيوان ميتا فهم فيه شركاء الذكور والإناث سواء.

(سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حمقا وطيشا وعدم رشد وذلك لجهلهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في التنديد بأفعال العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فأخبر تعالى عما كانوا يبتدعونه من البدع ويشرعون من الشرائع بدون علم ولا هدى ولا كتاب مبين فقال تعالى عنهم (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) (١) أي جعل أولئك العادلون بربهم لله تعالى مما خلق من الزرع والأنعام نصيبا أي قسما كما جعلوا للآلهة التي يؤلهونها مع الله سبحانه وتعالى نصيبا ، (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ، (٢) وَهذا لِشُرَكائِنا). وقوله تعالى : (بِزَعْمِهِمْ) لأنه سبحانه وتعالى ما طلب منهم ذلك ولا شرعه لهم وإنما هم يكذبون على الله تعالى ثم إذا أنبت أو أنتج ما جعلوه لله ، ولم ينبت أو ينتج ما جعلوه للشركاء حولوه إلى الشركاء بدعوى أنها فقيرة وأن الله غني ، وإذا حصل العكس لم يحولوا ما جعلوه للآلهة لله بنفس الحجة وهي أن الشركاء فقراء ، والله غني.

هذا معنى قوله تعالى : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) وهو تحيز ممقوت وتحكم فاسد فلذا قبح تعالى ذلك عليهم فقال (ساءَ

__________________

(١) في الكلام ايجاز إذ حذف منه المقابل وهو وجعلوا لآلهتهم نصيبا وحذفه كان لدلالة ما بعده عليه.

(٢) الزعم بفتح الزاي وقد تضم وتكسر أيضا لغات والفتح أشهر والزعم الكذب قال شريح القاضي رحمه‌الله تعالى إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا وقد كذب المشركون فيما جعلوه لله تعالى حيث لم يشرع ذلك لهم وإنما هم مفتاتون

ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الحكم حكمهم هذا وقبح صنيعا ، صنيعهم هذا ، وما جعلوه لله ينفقون على الضيفان والفقراء ، وما جعلوه للشركاء ينفقونه على السدنة والمقيمين على الأصنام والأوثان.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (١٣٧) وهي قوله تعالى (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) يريد وكذلك التحكم الباطل والإدعاء الكاذب في جعل لله شيئا مما ذرأ من الحرث والأنعام ، ثم عدم العدل بين الله تعالى وبين شركائهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم وهم شياطينهم من الجن والإنس قتل أولادهم كالمؤودة من البنات خوف العار ، وكقتل الأولاد الصغار خوف الفقر ، أو لنذرها للآلهة ، (١) وفعل الشياطين ذلك من أجل أن يردوهم أي يهلكوهم ، ويلبسوا عليهم دينهم (٢) الحق أن يخلطوه لهم بالشرك ، وهو معنى قوله تعالى (لِيُرْدُوهُمْ (٣) وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) وو قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) هو كما قال إذ لو أراد تعالى منعهم من ذلك لمنعهم (٤) وهو على كل شىء قدير ، إذا فذرهم أيها الرسول وما يفترون من الكذب في هذا التشريع الجاهلي الباطل القبيح.

هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (١٣٨) وهي قوله تعالى : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ (٥) لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ).

فقد تضمنت هذه الآية ثلاثة ضروب من تشريع الجاهلية وأباطيلهم :

الأول : تحريمهم بعض الأنعام والحرث وجعلها لله وللآلهة التي يعبدونها مع الله.

الثاني : أنعام أي إبل حرموا ركوبها كالسائبة والحام.

الثالثة : إبل لا يذكرون اسم الله عليها فلا يحجون عليها ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحال ولا إن حملوا عليها.

__________________

(١) كما نذر عبد المطلب ولده عبد الله للآلهة ، ثم فداه بمائة من الإبل.

(٢) فإن قيل : وهل كان لهم دين حق؟ الجواب! نعم كان لهم دين حق وهو ما جاءهم به اسماعيل بن ابراهيم عليه‌السلام وبطول الزمان وفتنة الشيطان فسد عليهم.

(٣) اللام هنا لام العاقبة والصيرورة.

(٤) في هذا رد على القدرية وفيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخفيف عليه.

(٥) في لفظ حجر الفتح والضم والكسر ومعناه المنع وسمى العقل حجرا لأنه يمنع من قول وفعل القبيح وحجر القاضي على المفلس منعه من التصرف فى المال وهو مشتق من الحرج بالكسر وهي لغة في الحرج الذي هو الضيق والإثم.

وقوله تعالى في ختام الآية (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي كذبا على الله تعالى لأنه تعالى ما حرم ذلك عليهم وإنما حرموه هم بأنفسهم وقالوا حرمه الله علينا ، ولذا توعدهم الله تعالى على كذبهم هذا بقوله : (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سيثيبهم الثواب الملائم لكذبهم وهو العذاب الأخروي.

هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة (١٣٩) (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) فقد تضمنت تشريعا آخر باطلا اختلقوه بأنفسهم وزعموا أن الله شرعه لهم وهو أنهم حرموا ما في بطون بعض الأنعام على الإناث ، وجعلوها حلالا للذكور خالصة لهم دون النساء فلا يشرب النساء من ألبانها ولا يأكلن لحوم أجنتها إن ذبحوها ولا ينتفعن بها بحال ، اللهم إلا أن ولد الجنين ميتا فإنهم لا يحرمونه على النساء ولا يخصون به الذكور فيحل أكله للنساء والرجال معا ، ولذا توعدهم تعالى بقوله (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ (١) إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي سيثيبهم على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب إنه حكيم في قضائه عليم (٢) بعباده.

هذا ما دلت عليه الآية الرابعة أما الخامسة (١٤٠) فقد أخبر تعالى بخسران أولئك المشرعين وضلالهم وعدم هدايتهم بقوله (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً) أي جهلا (بِغَيْرِ (٣) عِلْمٍ ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) مما سبق ذكره (افْتِراءً عَلَى اللهِ) كذبا (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الابتداع في الدين والتشريع المنافي لشرع الله تعالى وإن لم ينسب إلى الله تعالى.

٢ ـ ما ينذره الجهال اليوم من نذور للأولياء وإعطائهم شيئا من الأنعام والحرث والشجر هو من عمل المشركين زينه الشيطان لجهال المسلمين.

٣ ـ حرمة قتل النفس لأي سبب كان وتحديد النسل اليوم وإلزام الأمة به من بعض

__________________

(١) أي كذبهم وقيل في الوصف كذب لأنهم وصفوا بعض الأجنة بالحرمة وبعضا آخر بالحلية وهو كقوله تعالى من سورة النحل (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ).

(٢) قال القرطبي في الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول مخالفه وإن لم يأخذ به حتى يعرف فساد قوله ويعلم كيف يرد عليه لأن الله تعالى علّم نبيه وأصحابه قول من خالفهم في زمانهم ليعرفوا فساد قولهم.

(٣) في الآية دليل واضح على حرمة القول بدون علم وكذا الاعتقاد والعمل فلا يحل لأحد أن يعتقد أو يقول أو يعمل بدون علم شرعي قد تمكن من معرفته.

الحكام من عمل أهل الجاهلية الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم كقتل البنات خشية العار والأولاد خشية الفقر.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤))

شرح الكلمات :

(أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) : خلق جنات جمع جنة وهي البستان.

(مَعْرُوشاتٍ) : ما يعمل له العريش. من العنب ، وما لا يعرش له من سائر الأشجار.

(مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) : أي ثمره الذي يأكل منه.

(مُتَشابِهاً) : في الورق وغير متشابه في الحب والطعم

(حَقَّهُ) : ما وجب فيه من الزكاة.

(يَوْمَ حَصادِهِ) : يوم حصاده إن كان حبا وجذاذه إن كان نخلا.

ولا تسرفوا في إخراجه : أي بأن لا تبقوا لعيالكم منه شيئا.

(حَمُولَةً) : الحمولة ما يحمل عليها من الإبل.

(وَفَرْشاً) : الفرش الصغار من الحيوان.

(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : مسالكه في التحريم والتحليل للإضلال والغواية.

(أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) : أنثى الضأن وأنثى الماعز ذكرا كان أو أنثى.

(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) : خبروني بأيهما حرم بعلم صحيح لا بوسواس الشياطين.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) : أي حاضرين وقت تحريمه تعالى ذلك عليكم إن كان قد حرمه كما تزعمون.

معنى الايات :

لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه حيث حرموا وحللوا ما شاءوا ونسبوا ذلك إليه إفتراء عليه تعالى ، وما فعلوه ذلك إلا لجهلهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته وإلا لما اتخذوا له أندادا من الأحجار وقالوا : شركاؤنا ، وشفعاؤنا عند الله. ذكر تعالى في هذه الآيات الأربع مظاهر قدرته وعلمه وحكمته وأمره ونهيه وحجاجه في إبطال تحريم المشركين ما أحل الله لعباده فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) (١) أي بساتين وحدائق من العنب

__________________

(١) الجنّات : جمع جنة وهي البستان وسمي البستان جنة لأنه لكثرة أشجاره يجن أي يستر الكائن فيه ، وسمي الجنين في البطن جنينا لاجتنانه واستتاره ببطن أمه.

معروشات (١) أي محمول شجرها على العروش التي توضع للعنب ليرتفع فوقها وغير معروشات أي غير معرش لها ، وأنشأ النخل والزرع مختلفا ثمره وطعمه ، وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في الورق ، وغير متشابه في الحب والطعم أيضا. وأذن تعالى في أكله وأباحه وهو مالكه وخالقه فقال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي نضج بعض النضج وأمر بإخراج الواجب فيه وهو الزكاة فقال (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ (٢) حَصادِهِ) أي بعد درسه وتصفيته إذ لا يعطى السنبل ، ونهى عن الإسراف وهو تجاوز الحد في إخراج الزكاة غلوا حتى لا يبقوا لمن يعولون ما يكفيهم ، فقال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُ (٣) الْمُسْرِفِينَ) وأنشأ من الأنعام : الإبل والبقر والغنم (حَمُولَةً) وهي ما يحمل عليها لكبرها (وَفَرْشاً) وهي الصغار التي لا يحمل عليها ، وأذن مرة أخرى في الأكل مما رزقهم سبحانه وتعالى من الحبوب والثمار واللحوم وشرب الألبان ، فقال : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ونهى عن اتباع مسالك الشيطان في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وعلل للنهي فقال : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ومن عرف عدوه اتقاه ولو بالبعد عنه ، وأنشأ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) وهما الكبش والنعجة ، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) وهما التيس والعنزة ، وأمر رسوله أن يحاج المفترين في التحريم والتحليل فقال له (قُلْ) يا رسولنا لهم (آلذَّكَرَيْنِ (٤) حَرَّمَ) الله عليكم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي النعجة والعنزة (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإن قلتم حرم الذكرين فلازم ذلك جميع الذكور حرام ، وإن قلتم حرم الأنثيين فلازمه أن جميع الإناث حرام وإن قلتم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فكل ما ولد منهما حرام ذكرا كان أو أنثى فكيف إذا حرمتم البعض وحللتم البعض فبأي علم أخذتم نبوئوني به إن كنتم صادقين وقوله تعالى (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) وهما الناقة والجمل ، (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) وهما الثور والبقرة (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ (٥) حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ (٦)

__________________

(١) وقيل المعروشات : ما يعني به من الشجر على اختلافه ، وغير المعروشات وهو شجر البوادي والجبال وما في التفسير أولى لقوته ودلالة اللفظ عليه.

(٢) كان قبل فريضة الزكاة يتعين على من حصد أوجد ثمره وأتاه المساكين أن يعطيهم شيئا مما بين يديه قل أو كثر ولما فرضت الزكاة وحددت مقاديرها خصص هذا بها حيث بين الحق المجمل هنا.

(٣) في الآية دليل حرمة الإسراف وهو محرم في كل شيء وهو الخروج عن حد الإعتدال والقصد.

(٤) الاستفهام للإنكار أي ينكر عليهم أن يكون الله حرم ذلك.

(٥) إبطال لما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.

(٦) إبطال لقولهم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا.

الْأُنْثَيَيْنِ) ، فهل حرم الذكرين أو الأنثيين هذه الأزواج الأربعة فإن حرم الذكرين فسائر الذكور محرمة ، وإن حرم الأنثيين فسائر الإناث محرمة ، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وحينئذ يكون كل مولود منهما محرما ذكرا كان أو أنثى ، وبهذا تبين أنكم كاذبون على الله مفترون فالله تعالى لم يحرم من هذه الأزواج الثمانية شيئا ، وإنما حرم الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه.

وقوله تعالى (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ) بهذا التحريم فهو تبكيت لهم وتقريع ، إذ لم يحرم الله تعالى هذا الذي حرموه ، ولم يوصهم بذلك ولم يكونوا حال الوصية حضورا ، وإنما هو الإفتراء والكذب على الله تعالى.

وأخيرا سجل عليهم أنهم كذبة ظالمون مضلون لغيرهم بغير علم ، وأنهم لا يستحقون الهداية فقال عزوجل : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَ (١) النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إباحة أكل التمر والعنب والرمان والزيتون.

٢ ـ وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب إذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق والوسق ستون صاعا ، والصاع أربع حفنات.

٣ ـ جواز الأكل من الثمر قبل جذاذه وإخراج الزكاة (٢) منه.

٤ ـ حرمة الإسراف في المال بأن ينفقه فيما لا يعني ، أو ينفقه كله ولم يترك لأهله شيئا.

٥ ـ إباحة أكل بهيمة الأنعام وهي ثمانية أزواج ، ضأن (٣) وماعز ، وإبل وبقر وكلها ذكر وأنثى.

٦ ـ إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل ، فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام

__________________

(١) يدخل في هذه الخطاب دخولا أوليا عمرو بن لحىّ أذ هو أول من جلب الأصنام للحجاز ويدخل فيه كذلك أول من سيب السوائب الخ ..

(٢) الضأن من ذوات الصوف والمعز من ذوات الشعر.

(٣) اختلف في زكاة التين والراجح أنه إذا بلغ خمسة أوسق بعد يبسه يزكى لأنه يدخر ويقتات واختلف في الخرص للثمر والعنب والجمهور على جوازه للحديث الوارد في ذلك وهو «وإنما كان أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق». رواه الدارقطني.

ما حرمه الله ورسوله.

٧ ـ جواز الجدال والحجاج لإحقاق الحق أو إبطال الباطل.

٨ ـ لا أظلم ممن يكذب على الله تعالى ، فيشرع لعباده ما لم يشرع لهم.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

شرح الكلمات :

(مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) : محظورا ممنوعا على آكل يأكله.

(مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) : الميتة : ما مات دون تزكية ، والدم المسفوح : المصبوب صبا لا المختلط باللحم والعظام.

(رِجْسٌ) : نجس وقذر قبيح محرم.

(أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : الفسق الخروج عن طاعة الله والمراد ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه وإنما ذكر عليه اسم الأصنام أو غيرها ، والإهلال

رفع الصوت باسم المذبوح له.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) : اضطر : ألجأته الضرورة وهي خوف الهلاك ، والباغ الظالم ، والعادي : المعتدي المجاوز للحد.

(هادُوا) : اليهود

(ذِي ظُفُرٍ) : صاحب ظفر وهو الحيوان الذي لا يفرق (١) أصابعه كالإبل والنعام.

(ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا) : أي الشحم العالق بالظهر ، والحوايا : (٢) المباعر والمصارين والأمعاء.

(أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) : أي عفى لهم عن الشحم المختلط بالعظم كما عفي عن الحوايا والعالق بالظهر.

(بِبَغْيِهِمْ) : أي بسبب ظلمهم.

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) : بطشه وعذابه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحجاج مع أولئك المحرمين ما لم يحرم الله ففي أولى هذه الآيات يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للذين يحرمون افتراء على الله ما لم يحرم (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) ـ وأنا رسول الله ـ (مُحَرَّماً) أي شيئا محرما (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) أي آكل يأكله اللهم (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه أي لم يذك الذكاة الشرعية ، (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا صبا لا الدم المختلط بالعظم واللحم كالكبد والطحال ، (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ) أي لحم الخنزير (رِجْسٌ) أي نجس قذر حرام ، (أَوْ فِسْقاً (٣) أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم الأصنام عليه فهو فسق أي خروج عن طاعة الرب الذي أمر من أراد ذبح بهيمة أن يذكر عليها اسمه ليحل له أكلها.

__________________

(١) في ذي الظفر تفاسير أرجحها ما في التفسير وهو ما ليس بمنفرج الأصابع وقيل الإبل خاصة ، وقيل كل ذي حافر من الدواب.

(٢) واحد الحوايا حاوية. وحويّة والمراد بها ما تحوّى من الأمعاء واستدار منها.

(٣) تقدير الكلام أو أن يكون المراد أكل ما أهل لغير الله به فصار فسقا لذلك إذ الذبح لغير الله شرك وخروج من الدين ، والفسق يطلق على التفصي من طاعة الله تعالى وطاعة رسوله.

هذا معنى قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ (١) إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

وقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) أي غير ظالم بأكل الميتة وما ذكر معها وذلك بأن يأكلها تلذذا بها لا دفعا لغائلة الموت وهو كاره لأكلها (وَلا عادٍ) أي غير متجاوز القدر الذي أبيح له وهو ما يدفع به غائلة الموت عن نفسه (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومن مظاهر مغفرته ورحمته أنه أذن للمضطر بالأكل مما هو حرام في الضرورة.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٤٥) أما الآية الثانية فبعد أن بين تعالى أنه لم يحرم على المؤمنين غير ما ذكر من الميتة وما ذكر بعدها أخبر أنه حرم على اليهود أكل كل ذي ظفر وهو ما ليس له أصابع مفرقة مثل الإبل والنعام والبط والإوز ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما وهو الشحم اللاصق بالكرش والكلى ، وأباح لهم من الشحوم ما حملته البقرة أو الشاة على ظهرها ، وما كان لاصقا بالمباعر وهي الحوايا جمع حاوية وكذا الشحم المختلط بالعظام كشحم اللية ، وشحم الجانب والأذن والعين وما إلى ذلك.

هذا ما تضمنه قوله تعالى من الآية الثانية (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) ثم أخبر تعالى بأن هذا التحريم عليهم كان عقوبة لهم بسبب ظلمهم وإجرامهم فقال (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (٢) أي ذلك التحريم منا عليهم كان جزاء ظلمهم ، وقوله (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرنا به عنهم ، وهم الكاذبون إذ قالوا إنما حرم هذا على إسرائيل ونحن أتباع له أما نحن فلم يحرم علينا شىء وإنهم لكاذبون. وقوله تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) (٣) أي اليهود فيما أخبرت به عنهم (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) (٤) ولذا لم يعاجلكم بالعقوبة وقد كذبتموه وكذبتم رسوله وافتريتم على رسله ، ولكن ليس معنى ذلك أنكم نجوتم من

__________________

(١) هل هذه الآية منسوخة بآية المائدة؟ اختلف في ذلك والراجح أنها غير منسوخة إذ هي خبر والأخبار لا تنسخ وآية المائدة ذكرت المنخنقة وما بعدها وهي داخلة في حكم الميتة ، وما ذبح على النصب داخل في وما أهل به لغير الله إذا فالآية محكمة.

(٢) من بغيهم قتلهم الأنبياء وأكل الربا وتبرج النساء واستحلال المحرمات بالحيل والفتاوى الفاسدة.

(٣) قيل إن المراد بالمكذبين المشركون ، وقيل اليهود وكلاهما مكذب وكافر واللفظ يصدق عليهما معا.

(٤) من مظاهر رحمته أنه يحلم على العصاة وينظرهم ويمهلهم لعلهم يتوبون فعدم تعجيله العقوبة هو دليل رحمته الواسعة.

العذاب فإن بأس الله لا يرد عن القوم المجرمين (١) من أمثالكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الميتة وأنواعها في سورة المائدة وهي المنخنقة والموقوذة ، والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، وحرمة الدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وما ذبح على النصب وحرم بالسنة الحمر (٢) الأهلية والبغال ، وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.

٢ ـ قد يحرم العبد بالذنوب من كثير من الطيبات كما حصل لليهود.

٣ ـ إمهال الله تعالى المجرمين لا يدل على عدم عقوبتهم فإن بأس الله لا يرد عن القوم المجرمين.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ

__________________

(١) في الآية وعيد وتهديد وهو صالح لأن ينزل في الدنيا وفي الآخرة إذ العلة هي الإجرام وهو قائم فهم متوغلون فيه ولذا لا بد من العقوبة ما لم تحصل توبة صادقة.

(٢) ذكر القرطبي أن علة تحريم الحمار قد تكون حاجة الناس للحمل عليه والركوب وذكر علة أخرى وهي كونه نجسا وذكر عن الترمذي في نوادر الأصول أن الحمار أظهر جوهره الخبيث حيث نزا على ذكره وتلوّط فسمى لذلك رجسا وليس في الدواب من يعمل عمل قوم لوط إلا الحمار والخنزير.

لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

شرح الكلمات :

(أَشْرَكُوا) : أي جعلوا لله شركاء له يعبدونهم معه.

(وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) : أي مما حرموه من البحائر والسوائب والوصائل والحامات.

(ذاقُوا بَأْسَنا) : أي عذابنا.

(تَخْرُصُونَ) : تكذبون.

(الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) : الدليل القاطع للدعاوي الباطلة.

(هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) : أي أحضروهم.

(يَعْدِلُونَ) : أي به غيره من الأصنام وسائر المعبودات الباطلة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في رد ترهات وأباطيل العادلين بربهم المشركين في ألوهيته سواه فذكر تعالى في الآيتين (١٤٨) و (١٤٩) شبهة للمشركين يتخذونها مبررا لشركهم وباطلهم وهي قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا (١) وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (٢) يريدون أن عدم مؤاخذة الله تعالى لنا ونحن نشرك به ونحرم ما نحرمه دليل على رضا الله بذلك (٣) وإلا لمنعنا منه وحال دون فعلنا له ، فرد الله تعالى هذه الشبهة وأبطلها بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (٤) حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي مثل هذا التكذيب الصادر من هؤلاء العادلين بربهم من كفار قريش ومشركيها كذب الذين من قبلهم من الأمم ، وما زالوا على تكذيبهم حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فلو كان تعالى راضيا بشركهم وشرهم وباطلهم لما أخذهم فإمهال الله تعالى للناس لعلهم يتوبون ليس دليلا على رضاه بالشرك والشر ، والحجة أنه متى انتهت فترة الإمهال نزل بالمكذبين العذاب.

__________________

(١) إلى اليوم والغافلون من المسلمين يحتجون بما احتج به المشركون الأولون ويقولون لو شاء الله أن نصلي لصلينا ولو شاء الله أن نترك المحرم لتركناه وهو احتجاج باطل لا وزن له.

(٢) أي من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

(٣) قولهم هذا دال على جهل مركب منهم بالله تعالى وحكمته وتدبيره وهذا ناتج عن كفرهم وعدم إيمانهم بالله وكتابه ورسوله ، فالله أوجد العبادة في هذه الحياة ليبتليهم ثم يجزيهم لا أن يجبرهم على ما يحب منهم.

(٤) في قوله كذلك كذب الذين من قبلهم دلالة على أن المشركين لم يريدوا من قولهم لو شاء الله ما أشركنا إلا رد قول الرسول وتكذيبه فيما جاء به ويدعوهم إليه حتى لكأن كلامهم هذا من باب كلمة حق أريد بها باطل.

وقوله تعالى (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمذنبين العادلين بربهم (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ) أي ليس لديكم علم على ما تدعونه فتخرجوه لنا ، (إِنْ تَتَّبِعُونَ (١) إِلَّا الظَّنَ) أي ما تتبعون في دعاويكم الباطلة إلا الظن ، (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي وما أنتم إلا تحرصون أي تقولون بالحزر والخرص فتكذبون ، وقوله تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ (٢) الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي يعلم رسوله أن يقول لهم بعد أن دحض شبهتهم وأبطلها إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البالغة ، ومع هذا (فَلَوْ شاءَ) هدايتكم (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) وهو على ذلك قدير ، وإنما حكمه في عباده وسنته فيهم أن يكلفهم اختبارا لهم ويوضح الطريق لهم ويقيم الحجة عليهم ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فعليها.

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية وأما الآية الثالثة (١٥٠) وهي قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ (٣) الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أي الذين حرمتموه فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بهم (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) وإن فرضنا أنهم يأتون بشهداء باطل يشهدون (٤) فلا تقرهم أنت أيها الرسول على باطلهم بل بين لهم بطلان ما ادعوه ، فإنهم لا يتبعون في دعاويهم إلا الأهواء ، وعليه (لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ، وقد جمع هؤلاء المشركون كل هذه العظائم من الذنوب التكذيب بآيات الله ، وعدم الإيمان بالآخرة ، والشرك بربهم فكيف يجوز اتباعهم وهم مجرمون ضالون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والاستمرار فيها.

٢ ـ لا حجة إلا فيما قام على أساس العلم الصحيح.

٣ ـ الحكمة في عدم هداية الخلق كلهم مع قدرة الله تعالى على ذلك هو التكليف

__________________

(١) إن في الموضعين نافيه بمعنى (ما) كما هي في التفسير.

(٢) فالله الفاء هنا هي الفاء الفصيحة إذ هي مفصحة عن كلام سابق ترتب عليه ما بعدها ترتب الجزاء على الشرط تقديره هنا فإن كان قولكم لمجرد اتباع الظن والخرص والحزر ولا علم لكم فلله تعالى الحجة البالغة التي تصل إلى الحقيقة وتؤكدها وتبطل ما عداها.

(٣) الأمر هنا للتعجيز والشهداء جمع شهيد بمعنى شاهد.

(٤) أي كذبهم واعلم بأنهم شهداء زور فقوله تعالى فلا تشهد معهم معناه كذبهم ولا تقرهم فإنهم شهداء زور لا غير.

والابتلاء.

٤ ـ مشروعية الشهادة وحضور الشهود.

٥ ـ عدم إقرار شهادة الباطل وحرمة السكوت عنها.

٦ ـ حرمة اتباع أصحاب الأهواء الذين كذبوا بآيات الله.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

شرح الكلمات :

(أَتْلُ) : اقرأ.

(مِنْ إِمْلاقٍ) : من فقر.

(الْفَواحِشَ) : جمع فاحشة كل ما قبح واشتد قبحه كالزنى والبخل.

(حَرَّمَ اللهُ) : أي حرم قتلها وهي كل نفس إلا نفس الكافر المحارب.

(إِلَّا بِالْحَقِ) : وهو النفس بالنفس وزنى المحصن ، والردة.

(بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : أي بالخصلة التي هي أحسن.

(أَشُدَّهُ) : الإحتلام مع سلامة العقل.

(بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل.

(إِلَّا وُسْعَها) : طاقتها وما تتسع له.

(تَذَكَّرُونَ) : تذكرون فتتعظون.

(السُّبُلَ) : جمع سبيل وهي الطريق.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إبطال باطل العادلين بربهم المتخذين له شركاء الذين يحرمون بأهوائهم ما لم يحرمه الله تعالى عليهم فقد أمر تعالى رسوله في هذه الآيات الثلاث أن يقول لهم : (تَعالَوْا (١) أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) لا ما حرمتموه أنتم بأهوائكم وزينه لكم شركاؤكم. ففي الآية الأولى جاء تحريم خمسة أمور وهي : الشرك ، وعقوق الوالدين ، وقتل الأولاد ، وارتكاب الفواحش ، وقتل النفس فقال تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ (٢) رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فأن تفسيرية ، (٣) ولا ناهية وهذا أول محرم وهو الشرك بالله تعالى ، (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، وهذا أمر إذ التقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، والأمر بالشيء نهي عن ضده فالأمر بالإحسان يقتضي تحريم الإساءة والإساءة إلى الوالدين هي عقوقهما ، فكان عقوق الوالدين محرما داخلا ضمن المحرمات المذكورة في هذه الآيات الثلاث. (وَلا تَقْتُلُوا

__________________

(١) أي أقبلوا وتقدموا وما موصولة بمعنى الذي حرم ربكم عليكم وفي الآية دليل على وجوب بيان المحرمات للأمة حتى تتجنبها ، والعلماء منوط بهم ذلك.

(٢) هذه الآيات الثلاثة : قل تعالوا أتل إلى قوله تتقون تضمنت عشرا من الوصايا قال ابن عباس هي محكمات وأجمعت الشرائع الإلهية على تقريرها والعمل بها.

(٣) أي فسرت المحرم وهو الشرك بالله تعالى ، وهو أول المحرمات وقدم لأنه أخطرها وأضرها بالإنسان.

أَوْلادَكُمْ (١) مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فهذا المحرم الثالث وهو قتل الأولاد من الإملاق الذي هو الفقر وهذا السبب غير معتبر إذ لا يجوز قتل الأولاد بحال من الأحوال وإنما ذكر لأن المشركين كانوا يقتلون أطفالهم لأجله وقوله تعالى (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) تعليل للنهي عن قتل الأولاد من الفقر إذ ما دام الله تعالى يرزقكم أنتم أيها الآباء ويرزق ابناءكم فلم تقتلونهم؟ وفي الجملة بشارة للأب الفقير بأن الله تعالى سيرزقه هو وأطفاله فليصبر وليرج ، ولا يقتل أطفاله. وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). هذا الأمر الرابع مما حرم الله تعالى ، وهو فعل الفاحشة التي هي الزنى وسواء ما كان منه ظاهرا أو باطنا والتحريم شامل لكل خصلة قبيحة قد اشتد قبحها وفحش فأصبح فاحشة قولا كانت أو فعلا أو اعتقادا ، وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (٢) هذا هو المحرم الخامس وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها وهي كل نفس ما عدا نفس المحارب فإنها مباحة للقتل ، والحق الذي تقتل به النفس المحرمة واحد من ثلاثة وهي القود والقصاص فمن قتل نفسا متعمدا جاز قتله بها قصاصا. والزنى بعد الإحصان فمن زنى وهو محصن وجب قتله رجما بالحجارة كفارة له ، والردة عن الإسلام ، وقد بينت هذه الحقوق السنة فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» وقوله تعالى في ختام الآية (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي ليعدكم بترك هذه المحرمات الخمس لأن تكونوا في عداد العقلاء ، لأن من يشرك بربه صنما أو يسىء إلى أبويه أو يقتل أولاده أو يفجر بنساء الناس أو يقتلهم ، لا يعتبر عاقلا أبدا إذ لو كان له عقل ما أقدم على هذه العظائم من الذنوب والآثام.

وفي الآية الثانية وهي قوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ،) (٣) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ

__________________

(١) استدل بهذه الآية من قال بتحريم العزل ومثله اليوم استعمال الحبوب لمنع الحمل والجمهور على الجواز للضرورة فقط لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العزل : «ذلك الوأد الخفي» فإنه ان لم يدل على التحريم دل على الكراهية.

(٢) قوله تعالى إلا بالحق يخرج به نفس الكافر المحارب فقط فهي التي تقتل بحق الحرب والكفر ، وما عداها فكل نفس محرمة القتل ولذا حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفس الكافر المعاهد والذمّي بقوله من قتل معاهدا في غير كنهه أى في غير الحقيقة التي توجب قتله كنقضه المعاهدة مثلا. حرم الله عليه الجنة ، والحق الذي تقتل به النفس المحرمة القتل هو قتل النفس.

وزنى المحصن والردة والخروج عن إمام المسلمين والمفارقة للجماعة.

(٣) قيل الأشد مفرد لا جمع له بمنزلة الآنك أي الرصاص. وقيل واحده شدّ نحو فلس وافلس ، وهو مأخوذ من شد النهار إذا ارتفع.

ذا قُرْبى ، وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ففي هذه الآية جاء تحريم أربعة أمور هي : أكل مال اليتيم ، والتطفيف في الوزن ، والجور في الأقوال والأحكام ، ونكث العهد. فقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي بما ينقصه أو يفسده إلا بالحالة التي هي أحسن له نماء وحفظا وقوله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) بيان لزمن اليتم وهو من ولادته وموت والده إلى أن يبلغ زمن الأشد وهو البلوغ ، والبلوغ يعرف بالاحتلام أو نبات شعر العانة ، وفي الجارية بالحيض أو الحمل ، وببلوغ الثامنة عشرة من العمر وعلى شرط أن يبلغ اليتيم (١) عاقلا فإن كان غير عاقل يبقى في كفالة كافله ، وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ (٢) وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أمر بتوفية الكيل والوزن ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، وبذا حرم بخس الكيل والوزن والتطفيف فيهما وقوله (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل بحيث لا يزيد ولا ينقص ، وقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها رفعا للحرج عن المسلم في الكيل والوزن إذا هو نقص أو زاد بغير عمد ولا تساهل.

وقوله تعالى (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا (٣) وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) هذا المحرم الثالث وهو قول الزور وشهادة الزور ، إذ الأمر بالعدل في القول ولو كان المقول له أو فيه قريبا نهى عن ضده وهو الجور في القول.

وقوله تعالى (وَبِعَهْدِ (٤) اللهِ أَوْفُوا) متضمن للمحرم الرابع وهو نكث العهد وخلف الوعد ، إذ الأمر بالوفاء بالعهود نهي عن نكثها وعدم الوفاء بها ، وقوله تعالى (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى ما تضمنته هذه الآية الثانية مما حرم تعالى على عباده ، وقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي ليعدكم بذلك لأن تذكروا فتتعظوا فتجتنبوا ما حرم عليكم. وقوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هذه هي الآية الثالثة من آيات الوصايا العشر (٥) وقد تضمنت

__________________

(١) لأن الرشد لا يكون إلا مع العقل والله يقول فإن آنستم منهم رشدا والرشد مقابل السفه وهو إساءة التصرف فيما اسند إليه من مال وغيره.

(٢) ورد في التطفيف وعيد شديد قال تعالى ويل للمطففين ، وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق».

(٣) الأمر بالعدل في القول يتناول الأحكام والشهادات.

(٤) هذا الوفاء عام في كل ما عهد الله تعالى به إلى عباده من سائر الفرائض والواجبات وسائر التكاليف كما يتضمن العهود التي تكون بين الإنسان وأخيه الإنسان.

(٥) هذه الوصايا العشر موجودة في أول التوراة ومع الأسف أضاعها اليهود لشقائهم.

الأمر بالتزام الإسلام عقائدا وعبادات وأحكاما وأخلاقا وآدابا ، كما تضمنت النهي عن اتباع غيره من سائر الملل والنحل المعبر عنها بالسبل ، وما دام الأمر بالتزام الاسلام يتضمن النهي عن ترك الاسلام فقد تضمنت الآية تحريما ألا وهو ترك الإسلام واتباع غيره هذا الذي حرم الله تعالى على عباده لا ما حرمه المشركون بأهوائهم وتزيين شركائهم وقوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إشارة إلى التزام الإسلام وترك ما عداه ليعدكم بذلك للتقوى وهي إتقاء غضب الرب تعالى وعذابه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ هذه الوصايا العشر عليها مدار الاسلام وسعادة الإنسان في الدارين كان عبد الله بن مسعود يقول فيها «من سره أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا .... تَتَّقُونَ).

٢ ـ حرمة الشرك وحقوق الوالدين وقتل الأولاد والزنى واللواط وكل قبيح من قول أو عمل أو اعتقاد وقتل النفس إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وبخس الكيل والوزن ، وقول الزور وشهادة الزور ، ونكث العهد وخلف الوعد. والردة عن الإسلام ، واتباع المذاهب الباطلة والطرق الضالة.

٣ ـ كمال العقل باجتناب المحرمات الخمس الأولى.

٤ ـ الحصول على ملكة المراقبة باجتناب المحرمات الأربع الثانية.

٥ ـ النجاة من النار والخزي والعار في الدارين بالتزام الاسلام حتى الموت والبراءة من غيره من سائر المذاهب (١) والملل والطرق.

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ

__________________

(١) روى الدارمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال خط لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية قل هذه سبيلي. وهذه صورة تقريبية.

رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : التوارة.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) : تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها وعباداتها وفضائلها وأحكامها.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) : القرآن الكريم.

(مُبارَكٌ) : خيريته ونفعه وبركته دائمة.

(عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) : اليهود والنصارى.

(عَنْ دِراسَتِهِمْ) : أي قراءتهم لكتبهم لأنها بلسانهم ونحن لانفهم ذلك.

(وَصَدَفَ عَنْها) : أعرض عنها ولم يلتفت إليها.

(سُوءَ الْعَذابِ) : أي شيء العذاب وهو أشده.

معنى الآيات :

هذا الكلام متصل بما قبله ، فثم (١) حرف عطف والمعطوف عليه هو قل تعالوا أتل الآيات أي ثم قل يا رسولنا آتى ربي موسي الكتاب تماما لنعمه (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) طاعة ربه وهو

__________________

(١) قال الزجاج : ثم ها هنا للعطف على معنى التلاوة ، فالمعنى اتل ما حرم ربكم عليكم. ثم أتل عليكم ما آتى الله موسى الخ. فهي إذا لعطف الجمل وما كان لعطف الجمل فلا يراعى فيه تراخي الزمان.

موسى عليه‌السلام ، (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) مما تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها ، وعباداتها وأحكامها العامة والخاصة (وَهُدىً) يتبينون به الحق والصواب ، (وَرَحْمَةً) لهم في دنياهم لما يحمله من الدعوة إلى العدل والخير رجاء أن يوقنوا بلقاء ربهم.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) (١) أي بني إسرائيل (يُؤْمِنُونَ) فيعملون الصالحات ويتخلون عن المفاسد والشرور لما تجلبه لهم من غضب الله تعالى وعذابه.

أما الآية الثانية (١٥٥) فقد أشاد الله تعالى بالقرآن الكريم ممتنا بإنزاله وما أودع فيه من البركة التي ينالها كل من يؤمن به ويعمل به ويتلوه تعبدا وتقربا وتعلما.

هذا معنى قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) وقوله (فَاتَّبِعُوهُ ....) (٢) أمر للعباد باتباع ما جاء في القرآن الكريم من عقائد وعبادات وشرائع وأحكام فإن من اتبعه قاده إلى السعادة والكمال في الحياتين ، وقوله (وَاتَّقُوا (٣) لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي اتقوا ترك العمل به ليعدكم ذلك الذي هو متابعة القرآن والتقوى للرحمة فترحمون في الدنيا والآخرة.

وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) فمعناها : إن الله تعالى أنزل الكتاب على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بتلاوته وإبلاغه الناس لئلا يقول الكافرون من العرب إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) إذ لم نعرف لغتهم ، ولم نعرف ما يقرأونه في كتابهم ، فتقوم الحجة لكم علينا فقطعا لهذه الحجة أنزلنا الكتاب.

وقوله تعالى في الآية الرابعة : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) كما قطع تعالى عذرهم بإنزال كتابه الكريم لو قالوا يوم القيامة إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى ونحن لم ينزل إلينا شىء فلذا ما عرفنا ربنا ولا عرفنا محابه ومكارهه فنطيعه بفعل محابه وترك مكارهه ، قطع كذلك عذرهم لو قالوا

__________________

(١) أي رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم.

(٢) أي اعملوا بما فيه متتبعين ما فيه من أوامر ونواه تفعلون الأمر وتتركون النهي.

(٣) أي اتقوا تحريفه وتبديله كما فعلت اليهود.

لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى الحق المعرف بالهدى لكنا أهدى من اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب قبلنا ، فقال تعالى (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن الكريم ورسوله المبلغ له (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي وجاءكم الهدى والرحمة يحملهما القرآن الكريم ، فأي حجة بقيت لكم تحتجون بها عند الله يوم القيامة إنكم إن لم تقبلوا هذه البينة وما تحمله من هدى ورحمة فقد كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها ولا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ، وسيجزيكم بما يجزي به المكذبين بآيات الله الصادفين عنها.

هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (١٥٧) (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي كراهية أن تقولوا. (فَقَدْ جاءَكُمْ (١) بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً (٢) وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان منة الله تعالى على موسى عليه‌السلام والثناء عليه لإحسانه.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.

٣ ـ الإشادة بالقرآن الكريم ، وما أودع الله فيه من البركة والهدى والرحمة والخير

٤ ـ قطع حجة المشركين بإنزال الله تعالى كتابه وإرسال رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ التنديد (٣) بالظلم ، وبيان جزاء الظالمين المكذبين بآيات الله المعرضين عنها.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا

__________________

(١) أي بطل عذركم بمجيء النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكم وهو البيّنة وسمي بينة لكماله الخلقي والخلقي ولما معه من العلوم والمعارف الإلهية وهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب.

(٢) الهدى والرحمة المراد بهما ما في القرآن الكريم من هدى ورحمة للمؤمنين بقرينة. فمن أظلم ممن كذب بآيات الله.

(٣) وفي الحديث الصحيح : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة». وفي آخر الظلم يذر الديار بلاقع أي قفرا خالية.

إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

شرح الكلمات :

(بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) : أي علامات الساعة منها طلوع الشمس من مغربها.

(كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) : من الطاعات والقربات.

(فَرَّقُوا دِينَهُمْ) : جعلوه طرائق ومذاهب تتعادى.

(وَكانُوا شِيَعاً) : طوائف وأحزابا.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : أي أتى يوم القيامة بالحسنة التي هي الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته والعمل بطاعته وطاعة رسوله.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : أي بالشرك بالله ومعاصيه.

معنى الآيات :

بعد ذكر الحجج وإنزال الآيات التي هي أكبر بينة على صحة التوحيد وبطلان الشرك ، والعادلون بربهم الأصنام ما زالوا في موقفهم المعادي للحق ودعوته ورسوله فأنزل الله تعالى قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ ....) أي ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم ، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يوم القيامة لفضل القضاء ، (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) الدالة على قرب الساعة كطلوع الشمس من مغربها ، إن موقف الإصرار على التكذيب هو موقف المنتظر لما ذكر تعالى من الملائكة ومجىء الرب تعالى أو مجىء علامات الساعة للفناء. وقوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ (١) رَبِّكَ) الدالة على قرب الساعة وهي طلوع الشمس من

__________________

(١) الآيات بمعنى العلامات الدالة على قرب الساعة الكبرى منها عشر جاءت في حديث مسلم إذ روى عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات. طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم ، وخروج الدجال وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب. وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا.

مغربها إيذانا بقرب ساعة الفناء في هذه الحال يخبر تعالى أن نفسا لم تكن آمنت قبل ظهور هذه الآية لو آمنت بعد ظهورها لا يقبل منها إيمانها ولا تنتفع به لأنه أصبح إيمانا اضطراريا لا اختياريا ، كما أن نفسا آمنت به قبل الآية ، ولكن لم تكسب في إيمانها خيرا وأرادت أن تكسب الخير فإن ذلك لا ينفعها فلا تثاب عليه ، لأن باب التوبة مفتوح إلى هذا اليوم وهو يوم (١) طلوع الشمس من مغربها فإنه يغلق

وقوله تعالى (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) يأمر الله رسوله أن يقول لأولئك العادلين بربهم المصرين على الشرك والتكذيب : ما دمتم منتظرين انتظروا إنا منتظرون ساعة هلاككم فإنها آتية لا محالة.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٨) أما الآيتان بعدها فإن الله تعالى أخبر رسوله بأن الذين فرقوا دينهم (٢) وكانوا شيعا أي طوائف وأحزابا وفرقا مختلفة كاليهود والنصارى ، ومن يبتدع من هذ الأمة بدعا فيتابع عليها فيصبحون فرقا وجماعات ومذاهب مختلفة متطاحنة متحاربة هؤلاء (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي أنت برىء منهم ، وهم منك بريئون ، وإنما أمرهم إلى الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم فإنه سيجمعهم يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون من الشر والخير (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) من قبلنا فلا ننقص المحسن منهم حسنة من حسناته ، ولا نضيف إلى سيئآته سيئة ما عملها ، هذا حكم الله فيهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات صفة الإتيان في عرصات القيامة للرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.

٢ ـ تقرير أشراط الساعة وإن طلوع الشمس منها وأنها متى ظهرت أغلق باب التوبة.

٣ ـ حرمة الفرقة في الدين وأن اليهود والنصارى فرقوا دينهم وأن أمة الإسلام أصابتها الفرقة كذلك بل وهي أكثر لحديث وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.

__________________

(١) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها» فذلك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).

(٢) قرىء فارقوا دينهم أي تركوه وتخلوا عنه وقراءة الجمهور فرّقوا بالتضعيف حيث أصبح لكل فرقة اعتقاد وعمل خاص بها ومن فرّق فقد فارق أحب أم كره.

٤ ـ براءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن فرقوا دينهم وترك الأمر لله يحكم بينهم بحكمه العادل.

٥ ـ مضاعفة الحسنات ، وعدم مضاعفة السيئات عدل من الله ورحمة.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

شرح الكلمات :

(قِيَماً) (١) : أي مستقيما.

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : أي دين إبراهيم وهو الإسلام.

(حَنِيفاً) : مائلا عن الضلالة إلى الهدى.

(وَنُسُكِي) : ذبحي تقربا إلى الله تعالى.

(وَمَحْيايَ) : حياتي.

(أَبْغِي رَبًّا) : أطلب ربا : إلها معبودا أعبده.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة.

(وِزْرَ أُخْرى) : أي إثم نفس أخرى.

__________________

(١) قيما مصدر على وزن شبع وصف به المنصوب وهو دينا ومعناه مستقيما لا عوج فيه وهو الإسلام.

(خَلائِفَ الْأَرْضِ) : أي يخلف بعضكم بعضا جيل يموت وآخر يحيا إلى نهاية الحياة.

(لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) : أي ليختبركم فيما أعطاكم من الصحة والمرض والمال والفقر والعلم والجهل.

معنى الآيات :

في هذه الآيات وهي خاتمة هذه السورة التي بلغت آياتها بضعا وستين ومائة آية وكانت كلها في الحجاج مع العادلين بربهم وبيان طريق الهدى لهم لعلهم يؤمنون فيوحدون ويسلمون. في هذه الآيات أمر الله رسوله أن يعلن عن مفاصلته لأولئك المشركين فقال له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) (١) أي ما أذبحه تقربا إلى ربي ، (وَمَحْيايَ) أي ما آتيه في حياتي (وَمَماتِي) أي ما أموت عليه من (٢) الطاعات والصالحات (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وحده (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) أي أمرني ربي سبحانه وتعالى ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لا يسبقني أحد أبدا. كما أمره أن ينكر على المشركين دعوتهم إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن يعبد معهم آلهتهم ، ليعبدوا معه إلهه وقال : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي أطلب إلها ، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي ما من كائن في هذه الحياة إلا والله ربه أي خالقه ورازقه ، وحافظه ، وأعلمه أنه لا تكسب نفس من خير إلا وهو لها ، ولا تكسب من شر إلا عليها ، وأنه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى ، وأن مرد الجميع إلى الله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ويقضي بينكم فينجو من ينجو ويهلك من يهلك ، كما أخبره أن يقول : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا هذا يموت فيورث ، وهذا الوارث يموت فيورث ، وقوله (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي هذا غنى وهذا فقير ، هذا صحيح وهذا ضرير هذا عالم وذاك جاهل ، ثم علل تعالى لتدبيره فينا بقوله (لِيَبْلُوَكُمْ) أي يختبركم فيما آتاكم ليرى الشاكر ويرى الكافر ولازم الابتلاء النجاح أو الخيبة فلذا قال (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فيعذب الكافر ويغفر ويرحم الشاكر.

هداية الآيات :

__________________

(١) قيل المراد من الصلاة هنا صلاة العيد لمناسبة النسك وهو الذبح تقربا وقيل صلاة نافلة والعموم أولى. وكذا النسك يطلق على الذبح تقربا وهو مراد هنا ويطلق على سائر العبادات من الفرائض والنوافل لأن النسك هو التعبد.

(٢) وقال القرطبي في الآية وما أوصى به بعد وفاتي وهو حسن ويشهد له قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم.

من هداية الآيات :

١ ـ ملة إبراهيم عليه‌السلام هي الإسلام.

٢ ـ مشروعية قول (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) في القيام للصلاة. (١)

٣ ـ لا يصح طلب رب غير الله تعالى لأنه رب كل شيء.

٤ ـ عدالة الله تعالى تتجلى يوم القيامة.

٥ ـ عدالة الجزاء يوم القيامة.

٦ ـ تفاوت الناس في الغنى والفقر والصحة والمرض ، والبر والفجور وفي كل شىء مظهر من مظاهر تدبير الله تعالى في خلقه. ينتفع به الذاكرون من غير أصحاب الغفلة والنسيان.

سورة الاعراف

مكية (٢)

وآياتها خمس ومائتا آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

__________________

(١) لحديث مسلم عن عليّ بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان اذا أقام الصلاة قال وجهت وجهي لله فاطر السماوات ..

الخ. الآية وفيه دعاء طويل ذكره القرطبي عند تفسير هذه الآية.

(٢) إلّا قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ..) فإنها مدنيات.

شرح الكلمات :

(المص) : هذه أحد الحروف المقطعة ويقرأ هكذا : ألف لآم ميم صاد. والله أعلم بمراده بها.

(كِتابٌ) : أي هذا كتاب.

(حَرَجٌ) : ضيق.

(وَذِكْرى) : تذكرة بها يذكرون الله وما عنده ومالديه فيقبلون على طاعته.

(أَوْلِياءَ) : رؤساؤهم في الشرك.

(ما تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون فترجعون إلى الحق.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) : أي كثيرا من القرى.

(بَأْسُنا بَياتاً) : عذابنا ليلا وهم نائمون.

(أَوْ هُمْ قائِلُونَ) : أي نائمون بالقيلولة وهم مستريحون.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) : أي دعاؤهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين.

معنى الآيات :

(المص) في هذه الحروف إشارة إلى أن هذا القرآن تألف من مثل هذه الحروف المقطعة وقد عجزتم عن تأليف مثله فظهر بذلك أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله فآمنوا به

وقوله (كِتابٌ) أي هذا كتاب (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (١) يا رسولنا (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي ضيق منه (لِتُنْذِرَ بِهِ) قومك عواقب شركهم وضلالهم ، وتذكر به المؤمنين منهم ذكرى وقل لهم (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من الهدى والنور ، (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي من غيره (أَوْلِياءَ) (٢) لا يأمرونكم إلا بالشرك والشر والفساد ، وهم رؤساء الضلال في قريش (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون فترجعون إلى الحق الذي جانبتموه (وَكَمْ (٣) مِنْ قَرْيَةٍ) أي وكثيرا من القرى أهلكنا أهلها لما جانبوا الحق ولازموا الباطل (فَجاءَها (٤) بَأْسُنا) (٥) أي عذابنا الشديد

__________________

(١) جملة : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يصح إعرابها في محل نعت لكتاب ويصح إعرابها في محل نصب حالا من هذا كتاب نحو :

(هذا بعلي شيخا) وإن لم يقدر لفظ هذا تعرب جملة حينئذ في محل رفع خبر كتاب ، ويكون التنكير في كتاب للتعظيم وهو كالوصف فيسوغ الابتداء به وإن كان نكرة نحو قولهم : شر أهر ذا ناب.

(٢) قالت العلماء : كلّ من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه ، ومنع أولياء من الصرف لأنّ فيه ألف التأنيث.

(٣) (كَمْ) : للتكثير كما أنّ ربّ للتقليل وهي في موضع رفع على الابتداء ، والخبر جملة أهلكناها ، والتقدير : وكثير من القرى أهلكناها.

(٤) (فَجاءَها) في حرف الفاء هنا إشكال لأنّ الإهلاك قد تمّ فما معنى مجيء البأس حينئذ؟ وعليه فليكن تقدير الكلام : وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.

(٥) البأس : العذاب الآتي على النفس.

(بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي ليلا أو نهارا ،

فما كان دعاءهم (١) يومئذ إلا قولهم : يا ويلنا إنا كنا ظالمين فاعترفوا بذنبهم ، ولكن هيهات أن ينفعهم الاعتراف بعد معاينة العذاب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن الكريم هو مصدر نذارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشارته بما حواه من الوعد والوعيد ، والذكرى والبشرى.

٢ ـ وجوب اتباع الوحي ، وحرمة اتباع ما يدعو إليه أصحاب الأهواء والمبتدعة.

٣ ـ الاعتبار بما حل بالأمم الظالمة من خراب ودمار.

٤ ـ لا تنفع التوبة عند معاينة الموت أو العذاب.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

شرح الكلمات :

(أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) : هم الأمم والأقوام.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) : فلنخبرنهم بأعمالهم متتبعين لها فلا نترك منها شيئا.

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) : أي عنهم أيام كانوا يعملون.

(الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) : أي العدل.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) : أي بالحسنات فأولئك هم المفلحون بدخول الجنة.

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : بدخولهم النار والإصطلاء بها أبدا.

(مَعايِشَ) : جمع معيشة بمعنى العيش الذي يعيشه الإنسان.

__________________

(١) الدعاء والدعوى بمعنى واحد ومنه : وآخر دعواهم أي : دعائهم.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) : أي شكرا قليلا والشكر ذكر النعمة للمنعم (١) وطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ (٢) إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ، (٣) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) يخبر تعالى أنه إذا جمع الخلائق لفصل القضاء مؤكدا الخبر بالقسم أنه يسأل كل أمة أو جماعة أو فرد أرسل إليهم رسله يسألهم عن مدى إجابتهم دعوة رسله إليهم ، فهل آمنوا بما جاءتهم به الرسل ، وأطاعوهم فيما بلغوهم من التوحيد والعبادة والطاعة والانقياد ، كما يسأل الرسل أيضا هل بلغوا ما ائتمنهم عليه من رسالته المتضمنة أمر عباده بالإيمان به وتوحيده وطاعته في أمره ونهيه ، ثم يقص تعالى على الجميع بعلمه كل ما كان منهم من ظاهر الأعمال وباطنها ، ولا يستطيعون إخفاء شىء أبدا ، ولم يكن سؤاله لهم أولا ، إلا من باب إقامة الحجة وإظهار عدالته سبحانه وتعالى فيهم ، ولتوبيخ من يستحق التوبيخ منهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم حينما كانوا في الدنيا يعملون فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة له تعالى ولا يخفى عليه منها شىء وهو السميع البصير.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦) والثانية (٧) أما الآيتان الثالثة والرابعة فقد أخبر تعالى أنه بعد سؤالهم وتعريفهم بأعمالهم ينصب الميزان وتوزن (٤) لهم أعمالهم فمن ثقلت موازين حسناته أفلح بالنجاة من النار ودخول الجنة دار السّلام ومن خفّت لقلة حسناته وكثرة سيئاته (٥) خسر نفسه بإلقائه في جهنم ليخلد في عذاب أبدي ، وعلل تعالى لهذا الخسران في جهنم

__________________

(١) وحده والثناء بها عليه.

(٢) في الآية دليل على أنّ الكفار يحاسبون وإن لم توزن أعمالهم لقوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فمحاسبتهم لإظهار العدالة الإلهية لا لأن لهم أعمالا صالحة يجزون بها والله أعلم.

(٣) ويشهد لهذه المساءلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته ، والرجل يسأل عن أهله ، والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده).

(٤) هنا زلت أقدام المعتزلة فأوّلوا الوزن للأعمال والميزان وقالوا : الأعراض لا توزن ولو اتبعوا لأوّلوا الميزان بالصراط والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد ، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة ، والملائكة على القوى المحمودة وهكذا حتى لا يبقى للدين حقيقة والعياذ بالله من فساد القلوب والعقول ومن الجري وراء فلسفة الإغريق واليونان.

(٥) ورد في السنة الصحيحة أنّ الأعراض تحوّل إلى أجسام وتوزن كما في حديث : أنّ البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة وكانهما غمامتان. الحديث ، كما توزن صحائف الأعمال لحديث : (فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) وحديث : (يؤتى بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة) وبهذا تقرر أنّ الأعمال توزن وتوزن محالها وفاعلوها والله على ذلك قدير.

بقوله (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي يكذبون ويجحدون ، وأطلق الظلم وأريد به التكذيب والجحود لأمرين هما :

أولا : اكتفاء بحرف الجر الباء إذ لا تدخل على ظلم ولكن على كذب أو جحد يقال كذب به وجحد به ولا يقال ظلم به ولكن ظلمه وهذا من باب التضمين وهو سائغ في لغة العرب التي نزل بها القرآن.

وثانيا : أنهم بدل أن يؤمنوا بالآيات وهي واضحات كذبوا بها فكانوا كأنهم ظلموا الآيات ظلما حيث لم يؤمنوا بها وهي بينات.

هذا ما دلت عليه الآيتان أما الآية الخامسة (١٠) فقد تضمنت امتنان الله تعالى على عباده ، وكان المفروض أن يشكروا نعمه عليهم بالإيمان به وتوحيده وطاعته ، ولكن الذي حصل هو عدم الشكر من أكثرهم قال تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) حيث جعلهم متمكنين في الحياة عليها يتصرفون فيها ويمشون في مناكبها ، وقوله (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) (١) هذه نعمة أخرى وهي أن جعل لهم فيها معايش وأرزاقا يطلبونها فيها ويحصلون عليها وعليها قامت حياتهم ، وقوله (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي لا تشكرون إلا شكرا يسيرا لا يكاد يذكر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والسؤال والحساب ووزن الأعمال يوم القيامة.

٢ ـ صعوبة الموقف حيث تسأل الأمم والرسل عليهم‌السلام كذلك.

٣ ـ الفلاح والخسران مبنيان على الكسب في الدنيا فمن كسب خيرا نجا ، ومن كسب شرا هلك.

٤ ـ وجوب شكر النعم بالإيمان والطاعة لله ورسوله.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا

__________________

(١) المعايش : جمع معيشة ، والمعيشة : ما يتوصل به إلى العيش الذي هو الحياة من المطاعم والمشارب. والتمكين في الأرض : معناه جعلها قارة ممهدة لا تضطرب ولا تتحرك فيفسد ما عليها.

لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

شرح الكلمات :

(خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) : أي خلقنا أباكم آدم أي قدرناه من الطين ثم صورناه على الصورة البشرية الكريمة التي ورثها بنوه من بعده إلى نهاية الوجود الإنساني.

(فَسَجَدُوا) : أي سجود تحية لآدم عليه‌السلام.

(إِبْلِيسَ) : أبو الشياطين من الجن وكنيته أبو مرة ، وهو الشيطان الرجيم.

(فَاهْبِطْ مِنْها) : أي من الجنة.

(مِنَ الصَّاغِرِينَ) : جمع صاغر الذليل المهان.

(فَبِما أَغْوَيْتَنِي) : أي فبسبب إضلالك لي.

(مَذْؤُماً مَدْحُوراً) : ممقوتا مذموما مطرودا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تعداد أنعم الله تعالى على عباده تلك النعم الموجبة لشكره تعالى بالإيمان

به وطاعته فقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (١) أي خلقنا أباكم آدم من طين ثم صورناه بالصورة البشرية التي ورثها بنوه عنه ، (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وفي هذا إنعام آخر وهو تكريم أبيكم آدم بأمر الملائكة بالسجود له تحية له وتعظيما (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ (٢) لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي أبى وامتنع أن يسجد ، فسأله ربه تعالى قائلا : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ (٣) إِذْ أَمَرْتُكَ) أي أي شىء جعلك لا تسجد فأجاب إبليس قائلا : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فأنا أشرف منه فكيف أسجد له ، ولم يكن إبليس مصيبا في هذه القياس (٤) الفاسد أولا : ليست النار أشرف من الطين بل الطين أكثر نفعا وأقل ضررا ، والنار كلها ضرر ، وما فيها من نفع ليس بشىء إلى جانب الضرر وثانيا : إن الذي أمره بالسجود هو الرب الذي تجب طاعته سواء كان المسجود له فاضلا أو مفضولا ، وهنا أمره الرب تعالى أن يهبط من الجنة فقال (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي الذليلين الحقيرين ، ولما وقع إبليس في ورطته ، وعرف سبب هلكته وهو عدم سجوده لآدم قال للرب تبارك وتعالى (أَنْظِرْنِي) أي أمهلني لا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فأجابه الرب بقوله (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو فناء هذه الدنيا فقط وذلك قبل البعث ، جاء هذا الجواب في سورة الحجر وهنا قال (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ومراد إبليس في الإمهال التمكن من إفساد أكبر عدد من بني آدم انتقاما منهم إذ كان آدم هو السبب في طرده من الرحمة ، ولما أجابه الرب إلى طلبه قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي أضللتني (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) يريد آدم وذريته ، والمراد من الصراط الإسلام إذ هو الطريق المستقيم والموصل بالسالك له إلى رضوان الله تعالى (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ (٥) وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ

__________________

(١) ويصح أن يقال : خلقناكم نطفا ثم صورناكم ، وما في التفسير أولى بالآية وأصح بدليل قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

(٢) استثناء من غير الجنس إذ إبليس من الجنّ ولم يكن من الملائكة.

(٣) (ما مَنَعَكَ) ما : في موضع رفع بالابتداء فهي اسم استفهام والتقدير أي شيء منعك من السجود ، وأن المصدرية مدغمة في لا الزائدة بدليل عدم زيادتها في [ص] إذ قال : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) أي : من السجود لآدم.

(٤) قال ابن عباس والحسن : أوّل من قاس إبليس فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. قال العلماء : من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة ولهذا تاب آدم ، ومن جوهر النار الخفة والحدة والطيش والارتفاع ولذا لم يتب إبليس.

(٥) معناه : لأصدنّهم عن الحق ، وأرغبهم في الدنيا وأشككهم في الآخرة وهذا غاية الضلال ، وقال بعضهم : المراد من قوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من دنياهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من آخرتهم ، (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) يعني حسناتهم (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) يعني سيئاتهم.

أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) يريد يحيط بهم فيمنعهم سلوك الصراط المستقيم حتى لا ينجوا ويهلكوا كما هلك هو زاده الله هلاكا ، وقوله (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) هذا قول إبليس للرب تعالى ، ولا تجد أكثر أولاد آدم الذي أضللتني بسببه شاكرين لك بالإيمان والتوحيد والطاعات.

وهنا أعاد الله أمره بطرد اللعين فقال (اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (مَذْؤُماً مَدْحُوراً) أي ممقوتا مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ (١) مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي فبعزتي لأملأن جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ خطر الكبر على الإنسان.

٢ ـ ضرر القياس (٢) الفاسد.

٣ ـ خطر إبليس وذريته على بني آدم ، والنجاة منهم بذكر الله تعالى وشكره.

٤ ـ الشكر هو الإيمان والطاعة لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا

__________________

(١) اللام في (لَمَنْ) موطئة للقسم ، واللام في (لَأَمْلَأَنَ) في جواب القسم والتقدير : وعزتي من تبعك منهم لأملأن جهنم منك ومنهم أجمعين.

(٢) القياس من الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة مشروع محمود لأنّه اعتصام بالكتاب والسنة واجماع الأمة ، وإنّما المذموم المحرّم : القياس على غير أصل من هذه الأصول الثلاثة : الكتاب ، السنة ، الإجماع ، وهذا علي ابن أبي طالب لما قال له أبو بكر رضي الله عنهما أقيلوني بيعتي فقال عليّ : والله لا نقيلك ولا نستقيلك رضيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دنيانا أفلا نرضاك لديننا فقاس الإمامة على الصلاة لله ، وقاس أبو بكر الزكاة على الصلاة.

يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))

شرح الكلمات :

(وَزَوْجُكَ) : هي حواء التي خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.

(الْجَنَّةَ) : دار السّلام التي دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء والمعراج.

(مِنَ الظَّالِمِينَ) : أي لأنفسهم.

(فَوَسْوَسَ) : الوسوسة : الصوت الخفي ، وسوسة (١) الشيطان لابن آدم إلقاء معان فاسدة ضارة في صدره مزينة ليعتقدها أو يقول بها أو يعمل.

(لِيُبْدِيَ (٢) لَهُما ما وُورِيَ) : ليظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما.

(وَقاسَمَهُما) : حلف لكل واحد منهما.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) : أي أدناهما شيئا فشيئا بخداعه وتغريره حتى أكلا من الشجرة.

(وَطَفِقا يَخْصِفانِ) : وجعلا يشدان عليهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما.

معنى الآيات :

ولما طرد الرحمن إبليس من الجنة نادى آدم قائلا له (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) أي حواء (الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) يعني من ثمارها وخيراتها ، (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أشار لهما إلى شجرة من أشجار الجنة معينة ، ونهاهما عن الأكل منها ، وعلمهما أنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين المستوجبين للعقاب ، واستغل إبليس هذه الفرصة التي أتيحت له فوسوس (٣) لهما مزينا لهما الأكل من الشجرة قائلا لهما (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ

__________________

(١) الوسواس اسم للشيطان أيضا قال تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ).

(٢) اللام : لام العاقبة والصيرورة.

(٣) ذهب الأولون مذاهب في تحديد كيفية اتصال إبليس بآدم وحوارهما في الجنة وهو خارج منها حتى وسوس لهما فأكلا من الشجرة التي لم يأذن الله تعالى لهما في الأكل منها إلّا أن المخترعات الحديثة بيّنت لنا كيفية ذلك الاتصال وبيانه : ان الإنسان في نفسه قابلية لتلقي الوسواس أشبه ما تكون بجهاز اللاسلكي بواسطتها يتم الاتصال بين الإنسان وعدّوه إبليس وذريته

تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)

(وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما أنه ناصح (١) لهما وليس بغاش لهما ، (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) وخداع حتى أكلا (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ ...) أي ظهرت لهما سوءاتهما (٢) حيث انحسر النور (٣) الذي كان يغطيهما ، فجعلا يشدان من ورق الجنة على أنفسهما ليستر عوراتهما ، وهو معنى قوله تعالى (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وعندئذ ناداهما ربهما سبحانه وتعالى قائلا : ألم أنهكما عن هذه الشجرة وهو استفهام تأديب وتأنيب ، (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) فكيف قبلتما نصحه وهو عدوكما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ سلاح إبليس الذي يحارب به ابن آدم هو الوسوسة والتزيين لا غير.

٢ ـ تقرير عداوة الشيطان للإنسان.

٣ ـ النهي يقتضي التحريم إلا أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة.

٤ ـ وجوب ستر العورة من الرجال والنساء سواء.

٥ ـ جواز الاقسام بالله تعالى ، ولكن لا يحلف إلا صادقا.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

شرح الكلمات :

(ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) : أي بأكلهما من الشجرة.

(الْخاسِرِينَ) : الذين خسروا دخول الجنة والعيش فيها.

__________________

(١) قال قتادة : حلف لهما بالله أنه خلق قبلهما وأنه أعلم منهما وحلف أنه ناصح لهما فانغرا به ، على حد قول العلماء : من حدعنا بالله انخدعنا له.

(٢) سمي الفرجان سوأتين وعورة لأن السوءة مشتقة مما يسيء إلى النفس بالألم والعورة هي كل ما استحيي من كشفه.

(٣) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تقلّص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل. والله أعلم.

(مُسْتَقَرٌّ) : مكان استقرار وإقامة.

(مَتاعٌ إِلى حِينٍ) : تمتع بالحياة إلى حين انقضاء آجالكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن آدم عليه‌السلام ، أنه لما ذاق آدم وحواء الشجرة وبدت لهما سؤاتهما وعاتبهما ربهما على ذلك قالا معلنين عن توبتهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) أي بذوق الشجرة (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أي خطيئتنا هذه (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي الهالكين ، وتابا فتاب الله تعالى عليهما وقال لهم اهبطوا إلى الأرض إذ لم تعد الجنة في السماء دارا لهما بعد ارتكاب المعصية ، إن إبليس عصا بامتناعه عن السجود لآدم ، وآدم وحواء بأكلهما من الشجرة وقوله (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي اهبطوا إلى الأرض (٢) حال كون بعضكم لبعض عدوا ، إبليس وذريته عدو لآدم وبنيه ، وآدم وبنوه عدو لإبليس وذريته ، (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مقام استقرار ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي تمتع بالحياة إلى حين انقضاء الآجال وقوله تعالى (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٣) يريد من الأرض التي أهبطهم إليها وهي هذه الأرض التي يعيش عليها بنو آدم ، والمراد من الخروج الخروج من القبور إلى البعث والنشور.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قول آدم وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ..) الآية هو الكلمة التي ألقاها تعالى إلى آدم فتلقاها عنه فتاب عليه بها.

٢ ـ شرط التوبة الاعتراف بالذنب وذلك بالاستغفار أي طلب المغفرة.

٣ ـ شؤم الخطيئة كان سبب طرد إبليس من الرحمة ، وإخراج آدم من الجنة.

٤ ـ لا تتم حياة للإنسان على غير الأرض ، ولا يدفن بعد موته في غيرها لدلالة آية (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ).

__________________

(١) أي : يا ربنا ، حذف حرف النداء لقربه منهما سبحانه وتعالى إذ ينادى بحرف النداء البعيد.

(٢) قال ابن كثير : لو كان في تعيين الأماكن التي هبط فيها آدم وحواء وإبليس فائدة تعود على المكلّفين في دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى.

(٣) أي : للحساب والجزاء على الكسب في الدنيا من خير وشرّ.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨))

شرح الكلمات :

(وَرِيشاً) (١) : لباس الزينة والحاجة.

(يُوارِي سَوْآتِكُمْ) : يستر عوارتكم.

(لِباسُ التَّقْوى) : خير في حفظ العورات والأجسام والعقول والأخلاق.

(مِنْ آياتِ اللهِ) : دلائل قدرته.

(لا يَفْتِنَنَّكُمُ) : أي لا يصرفنكم عن طاعة الله الموجبة لرضاه ومجاورته في الملكوت الأعلى.

(أَبَوَيْكُمْ) : آدم وحواء.

(قَبِيلُهُ) : جنوده من الجن.

(فاحِشَةً) : خصلة قبيحة شديدة القبح كالطواف بالبيت عراة.

__________________

(١) الريش للطائر ما يستر جسمه ، وللإنسان اللّباس وجمعه رياش وهو ما كان فاخرا من أنواع الألبسة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا بَنِي (١) آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا (٢) عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) هذا النداء الكريم المقصود منه تذكير للمشركين من قريش بنعم الله وقدرته عليهم لعلهم يذكرون فيؤمنون ويسلمون بترك الشرك والمعاصي ، من نعمه عليهم أن أنزل عليهم لباسا يوارون به سوءاتهم ، (وَرِيشاً) لباسا يتجملون به ، في أعيادهم ومناسباتهم ، ثم أخبر تعالى أن لباس التقوى خير لصاحبه من لباس الثياب ، لأن المتقي عبد ملتزم بطاعة الله ورسوله ، والله ورسوله يأمران بستر العورات ، ودفع الغائلات ، والمحافظة على الكرامات ، ويأمران بالحياء ، والعفة وحسن السمت ونظافة الجسم والثياب فأين لباس الثياب مجردة عن التقوى (٣) من هذه؟؟.

وقوله تعالى (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي من دلائل قدرته الموجبة للإيمان به وطاعته ، وقوله (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي رجاء أن يذكروا هذه النعم فيشكروا بالإيمان والطاعة.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٦) وفي الآية الثانية (٢٧) ناداهم مرة ثانية فقال (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما (٤) سَوْآتِهِما) يحذرهم من إغواء الشيطان لهم مذكرا إياهم بما صنع مع أبويهما من إخراجهما (٥) من الجنة بعد نزعه لباسهما عنهما فانكشفت سوءاتهما الأمر الذي سبب إخراجهما من دار السّلام ، منبها لهم على خطورة العدو من حيث أنه يراهم هو وجنوده ، وهم لا يرونهم. ثم أخبر تعالى أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ، وذلك حسب سنته في خلقه ، فالشياطين يمثلون قمة الشر والخبث ، فالذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة لا نعدام نور الإيمان فيها فهي متهيئة

__________________

(١) ابتداء الخطاب بالنداء الحكمة منه ليقع إقبال المنادين على ما بعد النداء بكل قلوبهم.

(٢) إنزال اللّباس من السماء يعود لأمور منها : أن آدم أوّل من ستر عورته بورق التين من شجر الجنة ومنها أنّ آدم نزل مكسوا وورث عنه أولاده ذلك ، ومنها أن الماء الذي به النبات ومنه يتخذ اللّباس كالقطن مثلا نزل من السماء وحتى ذوات الصوف والوير حياتها متوقفة على ماء السماء.

(٣) قال الشاعر في لباس التقوى ما يلي :

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى

تقلب عريانا وإن كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه

ولا خير فيمن كان لله عاصيا

(٤) في هذه الآية دليل على حرص الشيطان على أن يكشف الآدمي عورته لما يسبب ذلك من الفسق والفجور الذين يرغب الشيطان في إيقاع الآدمي فيهما.

(٥) تكاد تكون هذه سنة بشرية لا تتخلّف إذ ما من أمّة تبرج نساؤها فكشفن محاسنهن وأبدين عوراتهن إلّا أسرع إليها الهلاك بزوال الملك وذهاب السلطان.

لقبول الشياطين وقبول ما يوسوسون به ويوحونه من أنواع المفاسد والشرور كالشرك والمعاصي على اختلافها ، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين ، وكبرهان على هذا الولاء بينهم أن المشركين إذا فعلوا فاحشة خصلة ذميمة قبيحة شديدة القبح ونهوا عنها احتجوا على فعلهم بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها ، وأن الله تعالى أمرهم بها وهي حجة باطلة لما يلي

أولا : فعل آبائهم ليس دينا ولا شرعا.

ثانيا : حاشا لله تعالى الحكيم العليم أن يأمر بالفواحش إنما يأمر بالفواحش الذين يأتونها وهم الشياطين وأولياؤهم من الإنس ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ووبخهم معنفا إياهم بقوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التذكير بنعم الله تعالى المقتضي للشكر على ذلك بالإيمان والتقوى. (١)

٢ ـ التحذير من الشيطان وفتنته لا سيما وأنه يرى الإنسان والإنسان لا يراه.

٣ ـ القلوب الكافرة هي الآثمة ، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين.

٤ ـ قبح الفواحش وحرمتها.

٥ ـ بطلان الاحتجاج بفعل الناس إذ لا حجة إلا في الوحي الإلهي.

٦ ـ تنزه الرب تعالى عن الرضا بالفواحش فضلا عن الأمر بها.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١))

__________________

(١) الإيمان والتقوى بهما تحصل ولاية الرب للعبد ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

شرح الكلمات :

(بِالْقِسْطِ) (١) : العدل في القول والحكمة والعمل.

(أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) : أي أخلصوا العبادة لله واستقبلوا بيته.

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) : كما بدأ خلقكم أول مرة يعيدكم بعد الموت أحياء.

(أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يوالونهم محبة ونصرة وطاعة ، من غير الله تعالى.

(زِينَتَكُمْ) : أي البسوا ثيابكم عند الدخول في الصلاة.

(وَلا تُسْرِفُوا) : في أكل ولا شرب ، والإسراف مجاوزة الحد المطلوب في كل شيء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان أخطاء مشركي قريش فقد قالوا في الآيات السابقة محتجين على فعلهم الفواحش بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن الله تعالى أمرهم بها وأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال في هذه الآية (٢٩) (قُلْ) يا رسولنا (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) الذي هو العدل وهو الإيمان بالله ورسوله وتوحيد الله تعالى في عبادته ، وليس هو الشرك بالله وفعل الفواحش ، والكذب على الله تعالى بأنه حلل كذا وهو لم يحلل ، وحرم كذا وهو لم يحرم ، وقوله تعالى (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي وقل لهم يا رسولنا أقيموا وجوهكم عند كل (٢) مسجد أي أخلصوا لله العبادة ، واستقبلوا بيته الحرام ، (وَادْعُوهُ) سبحانه وتعالى (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي ادعوه وحده ولا تدعوا معه أحدا قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) يذكرهم بالدار الآخرة والحياة الثانية ، فإن من آمن بالحياة بعد الموت والجزاء على كسبه خيرا أو شرا أمكنه أن يستقيم على العدل والخير طوال الحياة وقوله (فَرِيقاً هَدى ، (٣) وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (٤) بيان لعدله وحكمته ومظاهر قدرته فهو المبدىء والمعيد والهادي والمضل ، له الملك المطلق والحكم

__________________

(١) (بِالْقِسْطِ) : العدل ، وهو وسط بين الشرك والإلحاد. ولذا قال ابن عباس : القسط : لا إله إلّا الله أي : بأن يعبد الله وحده.

(٢) أي : في كل موضع للصلاة من سائر بقاع الأرض إذ موضع السجود هو المسجد وإقامة الوجوه بالذات معناه أن لا يلتفت بقلبه ولا بوجهه إلى غير الله تعالى وهو إخلاص العبادة لله عزوجل.

(٣) (فريقا) نصب على الحال من الضمير في تعودون أي : حال كونكم فريقين فريقا مهديا سعيدا ، وفريقا وجبت عليه الضلالة فجاء الموقف ضالا شقيا ، وقال القرطبي : من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيّره للضلالة ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى ، وشاهد قوله هذا آدم وإبليس فآدم مخلوق للهداية وإبليس للضلالة.

(٤) أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول :

من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله

الأوحد ، فكيف يعدل به أصنام وأوثان هدى فريقا من عباده فاهتدوا ، وأضل آخرين فضلوا ولكن بسبب رغبتهم عن الهداية وموالاتهم لأهل الغواية ، (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) فضلوا ضلالا بعيدا (وَيَحْسَبُونَ) لتوغلهم في الظلام والضلال (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي البسوا ثيابكم عند الطواف (١) بالبيت فلا تطوفوا عراة ، وعند الصلاة فلا تصلوا وأنتم مكشوفوا العورات كما يفعل المشركون المتخذون الشياطين أولياء فأضلتهم حتى زينت لهم الفواحش قولا وفعلا واعتقادا. وقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (٢) أي كلوا مما أحل الله لكم واشربوا ، ولا تسرفوا بتحريم ما أحل الله ، وشرع ما لم يشرع لكم فالزموا العدل ، فإنه تعالى لا يحب المسرفين فاطلبوا حبه بالعدل ، واجتنبوا بغضه بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب العدل في القول وفي الحكم.

٢ ـ وجوب اخلاص العبادة صلاة كانت أو دعاء لله تعالى.

٣ ـ ثبوت القدر.

٤ ـ وجوب ستر العورة في الصلاة.

٥ ـ حرمة الإسراف في الأكل والشرب وفي كل شيء.

__________________

(١) هذه الآية الكريمة أصل من أصول الدواء ، إذ أمرت بالأكل والشرب وهما قوام الحياة وحرّمت الإسراف فيهما وهو سبب كافة الأمراض إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) وشاهد آخر أنه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني قال لعلي بن الحسين : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان علم أديان وعلم أبدان فقال له علي قد جمع الله الطب كلّه في نصف آية من كتابنا فقال له ما هي؟ قال : قوله عزوجل (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).

(٢) روي أن سمرة بن جندب رضي الله عنه سأل عن ابنه فقيل له : بشم البارحة؟ قال : بشم؟ قالوا : نعم قال : أما إنه لو مات ما صليت عليه ، وقال العلماء : من الاسراف : الأكل بعد الشبع ، وقال لقمان لابنه : يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

شرح الكلمات :

(مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) : التحريم : المنع ، والزينة : ما يتزين به من ثياب وغيرها.

(وَالطَّيِّباتِ) : جمع طيب وهو الحلال غير المستخبث.

(خالِصَةً) : لا يشاركهم فيها الكفار لأنهم في النار.

(الْفَواحِشَ) : جمع فاحشة والمراد بها هنا الزنى واللواط السري كالعلني.

(وَالْإِثْمَ) : كل ضار قبيح من الخمر وغيرها من سائر الذنوب.

(وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) : الظلم بغير قصاص ومعاقبة بالمثل.

(وَأَنْ تُشْرِكُوا) : أي الشرك بالله وهو عبادة غير الله تعالى.

السلطان : الحجة التي تثبت بها الحقوق المختلف فيها أو المتنازع عليها.

(أَجَلٌ) : وقت محدد تنتهي إليه.

معنى الآيات :

لما حرم المشركون الطواف بالبيت بالثياب وطافوا بالبيت عراة بدعوى أنهم لا يطوفون بثياب عصوا الله تعالى فيها ، أنكر تعالى ذلك عليهم بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ (١) زِينَةَ اللهِ الَّتِي

__________________

(١) الزينة : هنا الملبس الحسن من غير ما حرّم كالذهب والحرير على الرجال ويطلق لفظ الزينة أيضا على مطلق اللباس ولو لم يكن حسنا.

أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (١) كلحوم ما حرموه من السوائب ، فالاستفهام في قوله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) للإنكار. ومعنى أخرجها : أنه أخرج النبات من الأرض كالقطن والكتان ومعادن الحديد لأن الدروع من الحديد ، وقوله تعالى (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ (٢) آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالأصالة ، لأن المؤمنين علماء فيحسنون العمل والإنتاج والصناعة ، والكفار تبع لهم في ذلك لجهلهم وكسلهم وعدم بصيرتهم ، (خالِصَةً (٣) يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي هي خالصة للمؤمنين يوم القيامة لا يشاركهم فيها الكفار ولأنهم في دار الشقاء النار والعياذ بالله تعالى وقوله تعالى (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي كهذا التفصيل والبيان الذي بيناه وفصلناه في هذه الآيات وما زلنا نفصل ونبين ما ننزل من آيات القرآن الكريم لقوم يعلمون أما غيرهم من أهل الجهل والضلال فإنهم لا ينتفعون بذلك لأنهم محجوبون بظلمة الكفر والشرك ودخان الأهواء والشهوات والشبهات.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٢) أما الآية الثانية (٣٣) فقد تضمنت بيان أصول المحرمات وأمهات الذنوب وهي : الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والإثم : وهو سائر المعاصي بترك الواجب أو فعل الحرام والبغي : وهو الاستطالة على الناس والاعتداء عليهم بهضم حقوقهم وأخذ أموالهم وضرب أجسامهم وذلك بغير حق أوجب ذلك الاعتداء وسوغه كأن يعتدي الشخص فيقتص منه ويعاقب بمثل ما جنى وظلم ، والشرك بالله تعالى بعبادة غيره ، والقول على الله تعالى بدون علم منه وذلك كشرع ما لم يشرع بتحريم ما لم يحرم ، وإيجاب ما لم يوجب.

هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة والأخيرة في هذا السياق (٣٤) فقد أخبر تعالى فيها أن لكل أمة أجلا محددا أي وقتا معينا يتم هلاكها فيه لا تتقدمه بساعة ولا تتأخر عنه تأخرى. وفي هذا إشارة أفصح من عبارة وهي أن هلاك الأمم والجماعات والأفراد يتم بسبب

__________________

(١) الطيبات : اسم عام لكل ما طاب كسبا وطعما وقد أكل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللحم والعسل والحلوى والبطيخ والرطب ، وإنما الذي يكره الإكثار منها والتكلف في شرائها وإعدادها ، وعمر لم ينكر الطيبات وإنما أنكر الكثرة منها ، فكان يرى عدم الجمع بين الطيبات ويكتفي بنوع واحد.

(٢) في الآية دليل على التجمل بأحسن الثياب وخاصة في الأعياد والجمع وزيارة الإخوان ومقابلة الوفود ، وليس من السنة لبس المرقعات والفوط وليس معنى : (وَلِباسُ التَّقْوى) : أنه لباس الخشن والمرقعات أبدا وإنما هو تقوى الله بامتثال الأمر واجتناب النهي ، وقد تقدم معناها ، وفي الحديث الصحيح : (إنّ الله جميل يحب الجمال).

(٣) قرىء : خالصة بالرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هي خالصة ، وقرىء (خالِصَةً) بالنصب على الحال أي : ثابتة لهم في الدنيا حال كونها خالصة لهم يوم القيامة.

انحرافهم عن منهج الحياة ، كالمرء يهلك بشرب السم ، وبإلقاء نفسه من شاهق ، أو إشعال النار في جسمه كذلك ارتكاب أمهات الذنوب وأصول المفاسد التي ذكر تعالى في قوله (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ .....) من شأنها أن تودى بحياة مرتكبيها لا محالة ما لم يتوبوا منها وتصلح حالهم بالعودة إلى منهج الحياة الذي وضع الله في الإيمان والتوحيد والطاعة لله ورسوله بفعل كل أمر وترك كل نهي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الإنكار الشديد على من يحرم ما أحل الله من الطيبات كبعض المتنطعين. (١)

٢ ـ المستلذات من الطعام والشراب والمزينات من الثياب وغيرها المؤمنون أولى بها من غيرهم لأنهم يحسنون العمل ، ويبذلون الجهد لاستخراجها والانتفاع بها. بخلاف أهل الجهالات فإنهم عمي لا يبصرون ومقعدون لا يتحركون. وإن قيل العكس هو الصحيح فإن أمم الكفر وأوربا وأمريكا هي التي تقدمت صناعيا وتمتعت بما لم يتمتع به المؤمنون؟

فالجواب : أن المؤمنين صرفوا عن العلم والعمل وأقعدوا عن الإنتاج والاختراع بإفساد أعدائهم لهم عقولهم وعقائدهم ، فعوقوهم عن العمل مكرا بهم وخداعا لهم. والدليل أن المؤمنين لما كانوا كاملين في إيمانهم كانوا أرقى الأمم وأكملها حضارة وطهارة وقوة وإنتاجا مع أن الآية تقول (... لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإذا حل الجهل محل العلم فلا انتاج ولا اختراع ولا حضارة.

٢ ـ بيان أصول المفاسد وهي الفواحش وما ذكر بعدها إلى (.... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

٣ ـ ذكرت هذه المفاسد بطريق التدلي آخرها أخطرها وهكذا أخفها أولها.

٤ ـ أجل (٢) الأمم كأجل الأفراد يتم الهلاك عند انتظام المرض كامل الأمة أو أكثر أفرادها كما يهلك الفرد عند ما يستشري المرض في كامل جسمه.

__________________

(١) روى النسائي بسند صحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده) وقال البخاري عن ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان ، سرف ، ومخيلة.

(٢) الأجل : هو الوقت الموقت ، فأجل الموت هو : وقت الموت وأجل الدّين هو وقت حلوله وكل شيء وقت به شيء فهو أجل له.

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦))

شرح الكلمات :

(إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) : أصل إما إن ـ الشرطية ـ وما زائدة لتقوية الكلام أدغمت فيها (إن) فصارت إما.

(يَقُصُّونَ (١) عَلَيْكُمْ آياتِي) : يتلونها عليكم آية بعد آية مبينين لكم ما دلت عليه من أحكام الله وشرائعه ، ووعده ووعيده.

(فَمَنِ اتَّقى) : أي الشرك فلم يشرك وأصلح نفسه بالأعمال الصالحة.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) : في الدنيا والآخرة.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : على ما تركوا وراءهم أو فاتهم الحصول عليه من أمور الدنيا.

معنى الآيتين :

هذا النداء جائز أن يكون نداء عاما لكل بني آدم كما هو ظاهر اللفظ وأن البشرية كلها نوديت به على ألسنة رسلها ، وجائز أن يكون خاصا بمشركي العرب وأن يكون المراد من الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر بصيغة الجمع تعظيما وتكريما له ، وما نوديت إليه البشرية أو مشركوا العرب هو إخبار الله تعالى لهم بأن من جاءه رسول من جنسه يتلو عليه آيات ربه وهي تحمل العلم بالله وصفاته وبيان محابه ومساخطه ، فمن اتقى الله فترك الشرك به ، وأصلح ما أفسده قبل العلم من نفسه وخلقه وعقله وذلك بالإيمان والعمل الصالح فهؤلاء في حكم الله أنه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الحياتين (٢) معا ، أما الذين كذبوا بآيات الله التي جاءت

__________________

(١) القصص : هو اتباع الحديث بعضه بعضا.

(٢) أمّا في البرزخ وفي يوم القيامة فالأمر ظاهر لا خلاف في أنهم لا يخافون ولا يحزنون ولكن في الحياة الدنيا يصيبهم الخوف والحزن ، ولكن خوفهم وحزنهم لا يكاد يذكر مع خوف وحزن أهل الكفر والشرك.

الرسل بها وقصتها عليهم واستكبروا (١) عن العمل بها كما استكبروا عن الإيمان بها ، فأولئك البعداء من كل خير (أَصْحابُ النَّارِ) أي أهلها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها بحال من الأحوال.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ قطع حجة بني آدم بإرسال الرسل إليهم.

٢ ـ أول ما يبدأ به في باب التقوى الشرك بأن يتخلى عنه الإنسان المؤمن أولا.

٣ ـ الإصلاح يكون بالأعمال الصالحة التي شرعها الله مزكية للنفوس مطهرة لها.

٤ ـ التكذيب كالاستكبار كلاهما مانع من التقوى والعمل الصالح. ولذا أصحابهما هم أصحاب النار.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا

__________________

(١) الاستكبار : المبالغة في التكبّر وضمن مع الاستكبار الإعراض ، والمعنى : واستكبروا فأعرضوا عنها.

بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١))

شرح الكلمات :

(فَمَنْ أَظْلَمُ) : الظلم وضع الشىء في غير موضعه ، ولذا المشرك ظالم لأنه وضع العبادة في غير موضعها حيث عبد بها من لا يستحقها.

(نَصِيبُهُمْ) : ما قدر لهم في كتاب المقادير.

(رُسُلُنا) : المراد بهم ملك الموت وأعوانه.

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) : غابوا عنا فلم نرهم ولم نجدهم.

(فِي أُمَمٍ) : أي في جملة أمم.

(ادَّارَكُوا) : أي تداركوا ولحق بعضهم بعضا حتى دخلوها كلهم.

(أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) : الاتباع قالوا للرؤساء في الضلالة وهم المتبوعون.

(تَكْسِبُونَ) : من الظلم والشر والفساد.

(يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) : أي يدخل الجمل في ثقب الإبرة.

(الْمُجْرِمِينَ) : الذين أجرموا على أنفسهم فافسدوها بالشرك والمعاصي.

(مِهادٌ) : فراش يمتهدونه من النار.

(غَواشٍ) : أغطية يتغطون بها من النار كذلك.

معنى الآيات :

يخبر تعالى بأنه لا أظلم ولا أجهل ولا أضل ممن يفترى على الله الكذب فيقول اتخذ ولدا أو أمر بالفواحش ، أو حرم كذا وهو لم يحرم ، أو كذب بآياته التي جاءت بها رسله فجحدها وعاند في ذلك وكابر ، فهؤلاء المفترون المكذبون يخبر تعالى أنه (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ)

أي ما كتب لهم في اللوح المحفوظ من خير وشر وسعادة أو شقاء (١) (حَتَّى (٢) إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ). يقولون لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تعبدون من أولياء؟ فيجيبون قائلين : (ضَلُّوا عَنَّا) أي غابوا فلم نرهم. قال تعالى : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) ويوم القيامة يقال لهم (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) في النار ، فيدخلون. (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) فلعن المشركون بعضهم بعضا ، واليهود والنصارى كذلك ، (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أي تلاحقوا وتم دخولهم النار أخذوا يشتكون (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا) أي يا ربنا (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) عن صراطك فلم نعبدك (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) أي مضاعفا (مِنَ النَّارِ) ، فأجابهم الله تعالى بقوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) لكل واحدة منكم ضعف من العذاب (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ، إذ الدار دار عذاب فهو يتضاعف على كل من فيها ، وحينئذ (قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ (٣) فَضْلٍ ، فَذُوقُوا (٤) الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي من الشرك والافتراء على الله والتكذيب بآياته ، ومجانبة طاعته وطاعة رسوله.

هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآيتان الرابعة والخامسة فإن الرابعة قررت حكما عظيما وهو أن الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا (٥) عنها فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعاشوا على الشرك والشر والفساد هؤلاء إذا مات أحدهم وعرجت الملائكة بروحه إلى السماء لا تفتح له أبواب السماء ، (٦) ويكون مآلهم النار كما قال تعالى (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فعلق دخولهم الجنة على مستحيل وهو دخول الجمل في ثقب الإبرة ، والمعلق على مستحيل مستحيل. قال تعالى (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) على أنفسهم حيث أفسدوها بالشرك والمعاصي. هذا ما تضمنته الآية الرابعة ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) أي : في الدنيا أمّا في الآخرة فهم أصحاب النار هم فيها خالدون ولا سعادة مع دخول النار.

(٢) حتى هنا : ابتدائية وليست غائية إذ هي بداية خبر المكذبين المستكبرين المعرضين. قال سيبويه : حتى ، وإمّا ، وألا لا يملن لأنهن حروف وكتبت حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى وحبلى.

(٣) (مِنْ) زائدة لتأكيد نفي الفضل.

(٤) الذوق هنا : مستعمل للإهانة والتشفي والباء في (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) سببية.

(٥) جملة : (إِنَّ الَّذِينَ) الخ مستأنفة استئنافا ابتدائيا سيقت لتحقيق خلود الفريقين في النار معا والفريقان هما أولاهما وأخراهما في الآية إذ كلا الفريقين كان مكذبا مستكبرا.

(٦) القول بأنّ قوله تعالى : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) : كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الجزاءات الإلهية قول باطل لأنّه تأويل يبطل به ما أخبر تعالى به من أنّ للسماء أبوابا إذ أيّ مانع أن يكون للسماء أبواب لا يدخل معها ملك ولا جني ولا إنسان إلّا بإذن ولكل بناء أبواب بحسبه.

كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِ) (١) (الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ). (٢)

أما الخامسة فقد تضمنت الخبر التالي : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي أغطية من النار وكما جزى تعالى هؤلاء المكذبين المستكبرين والمجرمين يجزي بعدله الظالمين لأنفسهم حيث لوثوها وخبثوها بأوضار الذنوب والآثام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شر الظلم ما كان كذبا على الله وتكذيبا بشرائعه.

٢ ـ تقرير فتنة القبر (٣) وعذابه.

٣ ـ لعن أهل النار بعضهم بعضا حنقا على بعضهم بعضا إذ كان كل واحد سببا في عذاب الآخر.

٤ ـ بيان جزاء المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها وهو الحرمان من دخول الجنة ، وكذلك المجرمون والظالمون.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

__________________

(١) الخياط : أي المخيط.

(٢) الإجرام : فعل الجرم ، وأجرم إذا فعل الجرم وهو : الذنب والذنب : هو ما يفسد الروح وينجسها ، فأجرم معناه : أفسد.

(٣) أخرج ابن كثير في تفسيره عن أبي داود حديثا طويلا اشتمل على بيان قبض روح العبد والعروج بها إلى السماء ثم العودة بها إلى القبر وما يجري في القبر من فتنة وما يتم للعبد الصالح من سعادة وللكافر من شقاوة فليرجع إليه.

شرح الكلمات :

(إِلَّا وُسْعَها) : طاقتها وما تتحمله وتقدر عليه من العمل.

(وَنَزَعْنا) : أي أقلعنا وأخرجنا.

(مِنْ غِلٍ) : أي من حقد وعداوة.

(هَدانا لِهذا) : أي للعمل الصالح في الدنيا الذي هذا جزاؤه وهو الجنة.

(بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي بسبب أعمالكم الصالحة من صلاة وصيام وصدقات وجهاد.

معنى الآيتين :

لما ذكر تعالى جزاء أهل التكذيب والاستكبار عن الإيمان والعمل الصالح وكان شقاء وحرمانا ذكر جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، ولما كان العمل منه الشاق الذي لا يطاق ومنه السهل الذي يقدر عليه قال : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي ما تقدر عليه من العمل ويكون في استطاعتها ، ثم أخبر عن المؤمنين العاملين للصالحات فقال (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). كما أخبر في الآية الثانية أنه طهرهم باطنا فنزع ما في صدورهم من غل (١) على بعضهم بعضا ، وأن الأنهار تجري من تحت قصورهم ، وأنهم قالوا شاكرين نعم الله عليهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي لعمل صالح هذا جزاؤه أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم ، وقرروا حقيقة وهي أن هدايتهم التي كان جزاؤها الجنة لم يكونوا ليحصلوا عليها لو لا أن الله تعالى هو الذي هداهم فقالوا : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) (٢) ، ثم قالوا والله (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فهاهم أهل الكفر والمعاصي في النار ، وها نحن أهل الإيمان والطاعات في نعيم الجنة فصدقت الرسل فيما أخبرت به من وعد ووعيد ، وناداهم ربهم سبحانه وتعالى : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها (٣) بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيزداد بذلك نعيمهم وتعظم سعادتهم.

__________________

(١) الغلّ : الحقد الكامن في الصدر أي : أذهبنا ـ في الجنة ـ ما كان في قلوبهم من الغلّ في الدنيا ولذا فلا يكون بينهم من تحاسد في الجنة على تفاوت درجاتهم في العلو والارتفاع. وقال علي رضي الله عنه : فينا والله أهل بدر نزلت : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).

(٢) روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لو لا أن الله هداني فيكون له شكرا ، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فيكون له حسرة.

(٣) روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) وعليه فالباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سببية وليست باء العوض إذ أعمال العبد لا تعادل موضع سوط في الجنة فالعمل مورث بفضل الله تعالى ورحمته.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ الإيمان والعمل الصالح موجبان لدخول الجنة مقتض للكرامة في الدارين.

٢ ـ لا مشقة لا تحتمل في الدين الصحيح الذي جاءت به الرسل إلا ما كان عقوبة.

٣ ـ لا عداوة ولا حسد في الجنة.

٤ ـ الهداية هبة من الله فلا تطلب إلا منه ، ولا يحصل عليها إلا بطلبها منه تعالى.

٥ ـ صدقت الرسل فيما أخبرت به من شأن الغيب وغيره.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))

شرح الكلمات :

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) : أي أعلن بأعلى صوته أن لعنة الله على الظالمين.

(لَعْنَةُ اللهِ) : أي أمره بطرد الظالمين من الرحمة إلى العذاب.

(يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : سبيل الله هي الإسلام والصد : الصرف فهم صرفوا أنفسهم وصرفوا غيرهم.

(وَيَبْغُونَها عِوَجاً) : يطلبون الشريعة أن تميل مع ميولهم وشهواتهم فتخدم أغراضهم.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) : أي بين أهل الجنة وأهل النار حاجز فاصل وهو سور الأعراف.

(وَعَلَى الْأَعْرافِ) : سور بين الجنة والنار قال تعالى من سورة الحديد (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ).

(يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) : أي كل من أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم.

(صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) : أي نظروا إلى الجهة التي فيها أصحاب النار.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار فيخبر تعالى أن أصحاب الجنة نادوا أصحاب النار قائلين لهم إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا به من الجنة ونعيمها حقا ، فهل (١) وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من النار وعذابها حقا؟ فأجابوهم : نعم (٢) إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، وهنا أذن مؤذن قائلا : لعنة (٣) الله على الظالمين الذي يصدون عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى والجنة ، ويبغونها عوجا أي يريدون سبيل الله معوجة تدور معهم حيث داروا في شرورهم ومفاسدهم ، وشهواتهم وأهوائهم ، وهم بالآخرة كافرون أيضا فهؤلاء يلعنونهم : لعنة الله على الظالمين الذين تلك صفاتهم قال تعالى في الآية الثالثة : (وَبَيْنَهُما) أي بين أهل الجنة وأهل النار (حِجابٌ) فاصل أي حاجز وهو مكان على مرتفع ، وعليه رجال من بني آدم استوت سيئاتهم وحسناتهم فحسبوا هناك حتى يقضي بين أهل الموقف فيحكم فيهم بدخولهم الجنة إن شاء الله تعالى.

وقوله : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي يعرفون أهل الجنة بسيماهم وهي بياض الوجوه ونضرة النعيم ، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة العيون.

(وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين : سلام عليكم يتطمعون بذلك كما قال تعالى (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ (٤) أَصْحابِ النَّارِ) أي نظروا إلى جهة أهل النار فرأوا أهلها مسودة وجوههم زرق أعينهم يكتنفهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، رفعوا أصواتهم قائلين : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي أهل النار لأنهم دخلوها بظلمهم والعياذ بالله.

__________________

(١) هذا سؤال توبيخ وتعيير لا استفهام واستخبار.

(٢) في نعم لغات : فتح النون والعين نعم وكسر العين للفرق بينها وبين النعم التي هي الإبل والبقر والغنم ، وهي حرف إجابة وتكون للعدة والتصديق فمثال العدة نحو : أيقوم زيد؟ فتقول : نعم أي تعده بقيامه ومثال التصديق قولك : هل جاء زيد؟ فتقول : نعم فتصدقه في مجيئه.

(٣) يروى أن طاووسا دخل على هشام بن عبد الملك فقال له : اتق الله واحذر يوم الأذان فقال : وما يوم الأذان؟ قال : قوله تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) فصعق هشام فقال طاووس : هذا ذلّ الصفة فكيف ذل المعاينة.

(٤) قال أهل اللغة : لم يأت مصدر على تفعال سوى حرفين : تلقاء وتبيان. وما عداهما فبالفتح نحو تسيار وتذكار وتهمام ، أما الأسماء فكثيرة نحو تمثال ومفتاح ومصباح ومعراج.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجود اتصال كامل بين أهل الجنة وأهل النار متى أراد أحدهم ذلك بحيث إذا أراد من في الجنة أن ينظر إلى من في النار ويخاطبه تم له ذلك.

٢ ـ يجوز إطلاق لفظ الوعد على الوعيد للمشاكلة أو التهكم كما في هذه الآيات.

٣ ـ التنديد بالصد عن سبيل الله ، والظلم والكفر بالآخرة وهي أسباب الشقاء في الدار الآخرة.

٤ ـ تقرير مبدأ ثقل الحسنات ينجي وخفتها تردي ، ومن استوت حسناته وسيئاته ينجو آخر من ينجو من دخول النار.

٥ ـ مشروعية الطمع إذا كان مقتضاه موجودا.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

شرح الكلمات :

(بِسِيماهُمْ) : السيما العلامة الدالة على من هي فيه.

(جَمْعُكُمْ) : أي للمال وللرجال كالجيوش.

(أَهؤُلاءِ) : إشارة إلى ضعفاء المسلمين وهم في الجنة.

(أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) : أي من الطعام والشراب.

(حَرَّمَهُما) : منعهما.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار قال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) أي من أهل النار يعرفونهم بسيماهم التي هي سيما أصحاب النار من سواد الوجوه وزرقة العيون نادوهم قائلين : (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي للأموال والرجال للحروب والقتال ، كما لم يغن عنكم استكباركم على الحق وترفعكم عن قبوله وها أنتم في أشد ألوان العذاب ، ثم يشيرون لهم إلى ضعفة المسلمين الذين يسخرون منهم في الدنيا ويضربونهم ويهينونهم (١) (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) أي حلفتم (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) (٢) ثم يقال لأصحاب الأعراف (ادْخُلُوا (٣) الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

وفي الآية الثالثة يقول تعالى مخبرا عن أصحاب النار وأصحاب الجنة (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ) (٤) (الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) (٥) وذلك لشدة عطشهم (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي من الطعام وذلك لشدة جوعهم فيقال لهم : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما) أي شراب الجنة وطعامها (عَلَى الْكافِرِينَ) فلا ينالوهما بحال من الأحوال.

ثم وصف الكافرين ليعرض جرائمهم التي اقتضت حرمانهم وعذابهم ليكون ذلك عظة وعبرة للكفار من قريش ومن سائر الناس فقال وهو ما تضمنته الآية الرابعة (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي نتركهم في عذابهم كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا له من الإيمان والصالحات ، وبسبب جحودهم لآياتنا الداعية إلى الإيمان وصالح الأعمال.

__________________

(١) كبلال وعمار وصهيب وخباب وغيرهم من سائر ضعفة المؤمنين في كل أمّة من الأمم التي وجد فيها مؤمنون مستضعفون.

(٢) جعل إيواء الله تعالى إياهم بدار رحمته التي هي الجنة بمنزلة النيل الذي هو حصول الأمر المحبوب المطلوب.

(٣) اختلف في القائل. والراجح أنه الله تعالى ، وذلك بعد استقرار أهل الجنة فيها وأهل النار في النار ولم يبق إلّا أصحاب الأعراف فيقول لهم الرب تبارك وتعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ).

(٤) روي عن ابن عباس أنه قال : لمّا صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس فقالوا : يا رب إنّ لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم .. فينادي الرجل أخاه أو قريبه قد احترقت فأغثني فيقول له إن الله حرّمهما على الكافرين.

(٥) في الآية دليل على أفضلية صدقة الماء ، وفي الحديث : (أي الصدقة أعجب إليك؟ قال : الماء) وليس أدل من حديث الذي سقى كلبا عطشان فشكر الله له فغفر له.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عدم إغناء المال والرجال أي إغناء لمن مات كافرا مشركا من أهل الظلم والفساد.

٢ ـ بشرى الضعفة من المسلمين بدخول الجنة وسعادتهم فيها.

٣ ـ تحريم اتخاذ شىء من الدين لهوا ولعبا.

٤ ـ التحذير من الاغترار بالدنيا حتى ينسى العبد آخرته فلم يعد لها ما ينفعه فيها من الإيمان وصالح الأعمال.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) : أي أهل مكة أولا ثم سائر الناس.

(بِكِتابٍ) : القرآن العظيم.

(فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) : بيناه على علم منّا فبيّنا حلاله وحرامه ووعده ووعيده وقصصه ومواعظه وأمثاله.

(تَأْوِيلَهُ) : تأويل ما جاء في الكتاب من وعد ووعيد أي عاقبة ما أنذروا به.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) : أي ذهب ولم يعثروا عليه.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : هي الأحد إلى الجمعة.

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) : يغطي كل واحد منهما الآخر عند مجيئه.

(حَثِيثاً) : سريعا بلا انقطاع.

(مُسَخَّراتٍ) : مذللات.

(أَلا) : أداة استفتاح وتنبيه (بمنزلة ألو للهاتف).

(لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) : أي له المخلوقات والتصرف فيها وحده لا شريك له.

(تَبارَكَ) : أي عظمت قدرته ، وجلت عن الحصر خيراته وبركاته.

(الْعالَمِينَ) : كل ما سوى الله تعالى فهو عالم أي علامة على خالقه وإلهه الحق.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض لأحوال الناس يوم القيامة ومشاهد النعيم والجحيم أخبر تعالى أنه جاء قريشا لأجل هدايتهم بكتاب عظيم هو القرآن الكريم وفصّله تفصيلا فبيّن التوحيد ودلائله ، والشرك وعوامله ، والطاعة وآثارها الحسنة والمعصية وآثارها السيئة في الحال والمآل وجعل الكتاب هدى أي هاديا ورحمة يهتدي به المؤمنون وبه يرحمون.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (٥٢) وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) (١) (هُدىً وَرَحْمَةً (٢) لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وأما الآية الثانية (٥٣) فقد استبطأ الحق تعالى فيها إيمان أهل مكة الذين جاءهم بالكتاب المفصّل المبيّن فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ما ينظرون (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي عاقبة ما أخبر به القرآن من القيامة وأهوالها ، والنّار وعذابها ، وعندئذ يؤمنون ، وهل ينفع يومئذ الإيمان؟ وها هم أولاء يقولون (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وينكشف الغطاء عما وعد به ، (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل وقوعه ، وذلك في الحياة الدنيا ، نسوه فلم يعملوا بما ينجيهم فيه من العذاب يقولون : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) اعترفوا بما

__________________

(١) أي : منا به فلم يقع فيه سهو ولا غلط وحاشاه تعالى أن يسهو أو يغلط.

(٢) (هُدىً وَرَحْمَةً) منصوبان على الحال ، ويصح فيهما الرفع والخفض فالرفع على الابتداء أي : هو هدى ورحمة ، والخفض على النعت لكتاب أي : ذي هداية ورحمة ، وخص المؤمنون بالهدى والرحمة لأنهم أحياء ، وأمّا الكافرون فهم أموات.

كانوا به يجحدون ويكذبون ثم يتمنون ما لا يتحقّق لهم أبدا فيقولون : (فَهَلْ (١) لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا؟ أَوْ نُرَدُّ) إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) من الشرك والشر والفساد. وتذهب تمنياتهم أدراج الرياح ، ولم يرعهم إلا الإعلان التالي : (قَدْ خَسِرُوا (٢) أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) خسروا أنفسهم في جهنم ، وضاع منهم كلّ أمل وغاب عنهم ما كانوا يفترون من أنّ آلهتهم وأولياءهم يشفعون لهم فينجونهم من النار ويدخلونهم الجنة.

وفي الآية الأخيرة يقول تعالى لأولئك المتباطئين في إيمانهم (إِنَّ رَبَّكُمُ) الذي يحبّ أن تعبدوه وتدعوه وتتقربوا إليه وتطيعوه (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ) (٣) (حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) هذا هو ربكم الحق وإلهكم الذي لا إله لكم غيره ، ولا ربّ لكم سواه ، أمّا الأصنام والأوثان فلن تكون ربّا ولا إلها لأحد أبدا لأنّها مخلوقة غير خالقة وعاجزة عن نفع نفسها ، ودفع الضّر عنها فكيف بغيرها؟ إنّ ربّكم ومعبودكم الحقّ الذي له (٤) الخلق كلّه ملكا وتصرفا وله الأمر وحده يتصرف كيف يشاء في الملكوت كله. علويّه وسفليّه فتبارك الله رب العالمين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا ينفع الإيمان عند معاينة الموت والعذاب كما لا ينفع يوم القيامة.

٢ ـ يحسن التثبت في الأمر والتأني عند العمل وترك العجلة ، فالله قادر على خلق السمّوات والأرض في ساعة ولكن خلقها في ستة (٥) أيام بمقدار أيام الدّنيا تعليما وإرشادا إلى التثبت في الأمور والتأني فيها.

٣ ـ صفة من صفات الرب تعالى التي يجب الإيمان بها ويحرم تأويلها أو تكييفها وهي

__________________

(١) (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ)؟ الاستفهام مشوب بالتمني.

(٢) خسران النفس أكبر خسران إذ هو آخر ما يخسر ، فإنّ من خسر نفسه فقد خسر كل شيء قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ومعنى : خسران النفس : عدم الانتفاع بها.

(٣) أي : يطلبه طلبا حثيثا أي سريعا ، إذ الحث : الإعجال والسرعة.

(٤) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله) أخرجه ابن كثير نقلا عن ابن جرير. وقال ابن عيينة : فرّق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر إذ قال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فالخلق غير الأمر فمن قال : الأمر مخلوق فقد كفر.

(٥) أصل ستة : سدسة فأرادوا إدغام الدال في السين فالتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليها فصارت ستة ولذا تصغر على سديسة وتجمع على أسداس ، والجمع والتصغير يردّان الأسماء إلى أصولها ، ويقال : جاء فلان سادس ستة.

استواؤه تعالى على عرشه. (١)

٤ ـ انحصار الخلق كلّ الخلق فيه تعالى فلا خالق إلا هو ، والأمر كذلك فلا آمر ولا ناهي غيره. هنا قال عمر : من بقي له شىء فليطلبه إذ لم يبق شىء ما دام الخلق والأمر كلاهما لله.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

شرح الكلمات :

(ادْعُوا رَبَّكُمْ) : سلوه حوائجكم الدنيوية والأخروية فإنّه ربّكم فلا تستحيوا من سؤاله.

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) : أي حال كونكم ضارعين متذللين مخفي الدعاء غير رافعين أصواتكم به.

(الْمُعْتَدِينَ) : أي في الدعاء وغيره والاعتداء في الدعاء أن يسأل الله ما لم تجر سنته بإعطائه أو إيجاده أو تغييره كأن يسأل أن يكون نبيا أو أن يرد طفلا أو صغيرا ، أو يرفع صوته بالدعاء.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : أي بالشرك والمعاصي بعد إصلاحها بالتوحيد والطاعات.

(الْمُحْسِنِينَ) : الذين يحسنون أعمالهم ونياتهم ، بمراقبتهم الله تعالى في كل أحوالهم.

معنى الآيات :

لما عرّف تعالى عباده بنفسه وأنه ربهم الحق وإلههم ، وأنه الخالق الآمر المتصرف بيده كل شىء أمرهم إرشادا لهم أن يدعوه ، وبين لهم الحال التي يدعونه عليها ، ليستجيب لهم

__________________

(١) من أحسن ما يؤثر في مسألة الاستواء قول مالك رحمه‌الله تعالى إذ قال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة ، ويروى مثله عن أم سلمة رضي الله عنها.

فقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) (١) أي تذللا وخشوعا (وَخُفْيَةً) (٢) أي سرا لا جهرا ، ونهاهم عن الاعتداء في الدعاء حيث أعلمهم أنه لا يحب المعتدين ، والاعتداء في الدعاء أن يدعى غير الله تعالى أو يدعى معه غيره ، ومنه طلب ذوات الأسباب بدون إعداد أسبابها ، أو سؤال ما لم تجر سنة الله به كسؤال المرء أن يكون نبيا أو يرد من كهولته إلى شبابه أو من شبابه إلى طفولته.

ثم بعد هذا الإرشاد والتوجيه إلى ما يكملهم ويسعدهم نهاهم عن الفساد في الأرض بعد أن أصلحها تعالى والفساد في الأرض يكون بالشرك والمعاصي ، والمعاصي تشمل سائر المحرمات كقتل الناس وغصب أموالهم وإفساد زروعهم وإفساد عقولهم بالسحر والمخدرات وأعراضهم بالزنى والموبقات. ومرة أخرى يحضهم على دعائه لأن الدعاء هو العبادة وفي الحديث الصحيح «الدعاء هو العبادة» فقال : ادعوا ربكم أي سلوه حاجاتكم حال كونكم في دعائكم خائفين من عقابه طامعين راجين رحمته وبين لهم أن رحمته قريب (٣) من المحسنين الذين يحسنون نيّاتهم وأعمالهم ومن ذلك الدعاء فمن أحسن الدعاء ظفر بالإجابة ، فثواب المحسنين قريب الحصول بخلاف المسيئين فإنه لا يستجاب لهم.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب دعاء الله تعالى فإن الدعاء هو العبادة.

٢ ـ بيان آداب الدعاء وهو : أن يكون الداعي ضارعا متذللا ، وأن يخفي دعاءه فلا يجهر به ، وأن يكون حال الدعاء خائفا طامعا ، (٤) وأن لا يعتدي في الدعاء بدعاء غير الله تعالى أو سؤال ما لم تجر سنة الله بإعطائه.

٣ ـ حرمة الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله تعالى بالإسلام.

٤ ـ الترغيب في الإحسان مطلقا خاصا وعاما حيث أن الله تعالى يحب أهله.

__________________

(١) اختلف في رفع اليدين في الدعاء والأكثرون على استحبابه لفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي).

(٣) عدم تأنيث قريب مع أنه خبر عن مؤنث ، تكلم فيه كثيرا وأحسن ما قيل في مثله أن لفظ قريب وبعيد إذا أطلق على النسب تعيّن التذكير والتأنيث بحسب المخبر عنه نحو : زيد قريب عمر ، وعائشة قريبة بكر مثلا ، وما كان لغير النسب جاز تذكيره وتأنيثه قال تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) وقال : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فذكّر في الموضعين مع أنّ الوصف عائد على مؤنث.

(٤) ويصح نصب خوفا. وطمعا مفعولين لأجله أي ادعوه لأجل الخوف منه والطمع فيه ، ونصبهما على الحال كما في التفسير حسن أيضا.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

شرح الكلمات :

(الرِّياحَ) : جمع ريح وهو الهواء المتحرك.

(بُشْراً) (١) : جمع بشير أي مبشرات بقرب نزول المطر ، قرىء نشرا أي تنشر السحاب للأمطار.

(رَحْمَتِهِ) : أي رحمة الله تعالى وهي المطر.

(أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) : أي حملت سحابا ثقالا مشبعا ببخار الماء.

(مَيِّتٍ) : لا نبات به ولا عشب ولا كلأ.

(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) : أي كذلك نحيي الموتى ونخرجهم من قبورهم أحياء.

(تَذَكَّرُونَ) : تذكرون فتؤمنون بالبعث والجزاء.

(الطَّيِّبُ) : أي الطيب التربة.

(خَبُثَ) : أي خبثت تربته بأن كانت سبخة.

(إِلَّا نَكِداً) : أي إلا عسرا.

(نُصَرِّفُ الْآياتِ) : أي ننوعها ونخالف بين أساليبها ونذكر في بعضها ما لم نذكره في بعضها للهداية والتعليم.

(لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) : لأنهم هم الذين ينتفعون بالنعم بشكرها بصرفها في محاب الله تعالى.

__________________

(١) كرسل جمع رسول ، وسكّن بشرا للتخفيف كما تسكن السين في رسل فيقال : رسل على وزن فعل.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في بيان مظاهر القدرة الربانية والرحمة الإلهية الموجبة لعبادته تعالى وحده دون سواه قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) وهو أي ربكم الحق الذي لا إله إلا هو وبشرا أي مبشرات (١) ونشرا أي تنشر الرياح تحمل السحب الثقال ليسقي الأرض الميتة فتحيا بالزروع والنباتات لتأكلوا وترعوا أنعامكم ، وبمثل هذا التدبير في إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها يحييكم بعد موتكم فيخرجكم من قبوركم أحياء ليحاسبكم على كسبكم في هذه الدار ويجزيكم به الخير بالخير والشر بمثله جزاء عادلا لا ظلم فيه وهذا الفعل الدال على القدرة والرحمة ولطف التدبير يريكموه فترونه بأبصاركم لعلكم به تذكرون أن القادر على إحياء موات الأرض قادر على إحياء موات الأجسام فتؤمنوا بلقاء ربكم وتوقنوا به فتعملوا بمقتضى ما يسعدكم ولا يشقيكم فيه.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (٥٧) (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي المطر (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) أي حملت (سَحاباً ثِقالاً) أي ببخار الماء (سُقْناهُ) بقدرتنا ولطف تدبيرنا (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) (٢) لا حياة به لا نبات ولا زرع ، ولا عشب (فَأَنْزَلْنا بِهِ) أي بالسحاب (الْماءَ) العذب الفرات ، (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) المختلفة الألوان والروائح والطعوم (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) كهذا الإخراج للنبات من الأرض الميتة نخرج الموتى (٣) من قبورهم وعملنا هذا نسمعكم إياه ونريكموه بأبصاركم رجاء أن تذكروا فتذكروا أن القادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الموتى رحمة منا بكم وإحسانا منا إليكم.

أما الآية الثانية (٥٨) فقد تضمنت مثلا ضربه الله تعالى للعبد المؤمن والكافر إثر بيان قدرته على إحياء الناس بعد موتهم فقال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) أي طيب التربة (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) وذلك بعد إنزال المطر به ، وهذا مثل العبد المؤمن ذي القلب الحي الطيب إذا سمع ما ينزل من الآيات يزداد إيمانه وتكثر أعماله الصالحة (وَالَّذِي خَبُثَ) أي والبلد الذي تربته خبيثة سبخة أو حمأة عند ما ينزل به المطر لا يخرج نباته إلا نكدا عسرا (٤) قليلا غير

__________________

(١) قرىء (بُشْراً) بضم الباء ، وقرىء (نشرا) بالنون المضمومة ، وهما قراءتان سبعيتان وفسرت الكلمتان بحسب ما تدلان عليه فتأمل ، وفيهما قراءات أخرى من حيث الحركات كضم الباء مع الشين ، وبشرى بالألف المقصورة.

(٢) البلد والبلدة بمعنى ويجمع على بلاد وبلدان.

(٣) روى مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ثم يرسل الله أو قال : ينزل الله مطرا كأنّه الطلّ فتنبت منه أجساد الناس ، ثم قال : أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون) الحديث.

(٤) النكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير من الناس ، وشبه به البلد الخبيث التربة كذات الحجارة أو السبخة.

صالح وهذا مثل الكافر عند ما يسمع الآيات القرآنية لا يقبل عليها ولا ينتفع بها في خلقه ولا سلوكه فلا يعمل خيرا ولا يترك شرا.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي ببيان مظاهر قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وضرب الأمثال وسوق الشواهد والعبر (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) إذ هم المنتفعون بها أما الكافرون الجاحدون فأنى لهم الإنتفاع بها وهم لا يعرفون الخير ولا ينكرون الشر.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والحياة بعد الموت للحساب والجزاء إذ هي من أهم أركان الإيمان.

٢ ـ الإستدلال بالحاضر على الغائب وهو من العلوم النافعة.

٣ ـ حسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.

٤ ـ فضيلة الشكر وهو صرف النعمة فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

شرح الكلمات :

(نُوحاً) : هذا أول الرسل هذا العبد الشكور هو نوح بن ملك بن متوشلخ بن أخنوخ أي أدريس (١) عليهما‌السلام ، أحد أولى العزم الخمسة من الرسل عاش داعيا وهاديا ومعلما ألفا ومائتين وأربعين سنة ، ومدة الدعوة ألف سنة إلّا خمسين عاما ، وما بعدها عاشها هاديا ومعلما للمؤمنين.

(عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : هو عذاب يوم القيامة.

(الْمَلَأُ) : أشراف القوم ورؤساؤهم الذين يملأون العين والمجلس.

(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) : أريد لكم الخير لا غير.

(أَوَعَجِبْتُمْ) : الاستفهام للإنكار ، وعجبتم الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة هي كذبتم أي أكذبتم وعجبتم.

(لِيُنْذِرَكُمْ) : أي العذاب المترتب على الكفر والمعاصي.

(وَلِتَتَّقُوا) : أي الله تعالى بالإيمان به وتوحيده وطاعته فترحمون فلا تعذبون.

(وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) : هم المؤمنون من قومه والفلك هي السفينة التي صنعها بأمر الله تعالى وعونه.

(عَمِينَ) : جمع عم (٢) وهو أعمى البصيرة أما أعمى العينين يقال فيه أعمى.

معنى الآيات :

هذا شروع في ذكر قصص ستة من الرسل وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم‌السلام والمراد من ذكر هذا القصص هو تنويع أسلوب الدعوة ليشاهد المدعون من كفار قريش صورا ناطقة ومشاهد حية لأمم سبقت وكيف كانت بدايتها وبم ختمت نهايتها ، وهي لا تختلف إلا يسيرا عما هم يعيشونه من أحداث الدعوة والصراع الدائر بينهم وبين نبيهم لعلهم يتعظون. ، ومع هذا فالقصص يقرر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لو لم يكن رسولا يوحى إليه لما تأتى له أن يقص من أخبار الماضين ما بهر العقول كما أن المؤمنين مع نبيهم يكتسبون من العبر ما يحملهم على الثبات والصبر ، ويجنبهم القنوط واليأس من حسن العافية والظفر والنصر.

__________________

(١) الظاهر أن إدريس هنا ليس هو إدريس النبي الرسول عليه‌السلام ـ والله أعلم.

(٢) يقال : رجل عم أي جاهل بكذا.

وهذا أول قصص يقوله تعالى فيه (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) أي وعزتنا لقد أرسلنا نوحا إلى قومه كما أرسلناك أنت يا رسولنا إلى قومك من العرب والعجم ، فقال : أي نوح في دعوته : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٢) أي ليس لكم على الحقيقة إله غيره ، إذ الإله الحق من يخلق ويرزق ويدبر فيحيي ويميت ويعطي ويمنع ، ويضر وينفع ، ويسمع ويبصر فأين هذا من آلهة نحتموها بأيديكم ، ووضعتموها في بيوتكم عمياء لا تبصر صماء لا تسمع بكماء لا تنطق فكيف يصح أن يطلق عليها اسم الإله وتعبد (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أنذرهم عذاب يوم القيامة إن هم أصروا على الشرك والعصيان فأجابه الملأ (٣) منهم وهم أهل الحل والعقد في البلاد قائلين : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بسبب موقفك العدائي هذا لآلهتنا ، ولعبادتنا إياها فأجاب عليه‌السلام قائلا (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) مجرد ضلالة فكيف بالضلال كله كما تقولون ، (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إليكم (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ (٤) لَكُمْ) أي بما هو خير لكم في حالكم ومآلكم ، واعلموا أني (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فأنا على علم بما عليه ربي من عظمة وسلطان ، وجلال ، وجمال ، وما عنده من رحمة وإحسان ، وما لديه من نكال وعذاب ، وأنتم لا تعلمون فاتقوا الله إذا وأطيعوني يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى آجالكم ، ولا يعجل بفنائكم وواصل حديثه معهم وقد دام ألف سنة إلا خمسين عاما قائلا : أكذبتم بما دعوتكم إليه وجئتكم به وعجبتم (٥) أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا الله بتوحيده وعبادته وطاعته رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أمن هذا يتعجب العقلاء؟ وكانت النتيجة لهذه الدعوة المباركة الخيّرة أن كذبوه فأنجاه ربه والمؤمنين معه ، وأغرق الظالمين المكذبين ، لأنهم كانوا قوما عمين فلا يستحقون البقاء والنجاة قال تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي

__________________

(١) نوح : هو أوّل الرسل من حيث انه حارب الشرك ودعا إلى التوحيد ، وهل إدريس من ذريته أو من آبائه خلاف ، أمّا شيت بن آدم فقطعا هو من آبائه.

(٢) غيره : مرفوع على النعت لإله المرفوع تقديرا ، إذ الأصل رفعه ، وجرّ بحرف الجرّ الزائد الذي هو من.

(٣) الملأ : هم أشراف القوم ورؤساؤهم الذين إذا نظر إليهم ملأوا العين وإذا جلسوا ملأوا المجلس ، هذا أصل الكلمة.

(٤) النصح : إخلاص القول والعمل من شوائب الفساد ، بمعنى تخليص القول أو العمل مما هو ضار أو غير نافع للمنصوح له ، ويقال نصحه ونصح له والمعنى واحد ، والاسم النصيحة ، والناصح الخالص من العسل مثل الناصح الذي لا شائبة فيه.

(٥) قوله تعالى : (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للاستفهام ، والواو عاطفة على جملة محذوفة كما هي في التفسير.

الْفُلْكِ ، (١) وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٢) لا يبصرون الآيات ولا يرون النذر والشواهد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنبوة نوح عليه‌السلام.

٢ ـ تقرير وتأكيد التوحيد ، وبيان معنى لا إله إلا الله.

٣ ـ التحذير من عذاب يوم القيامة بالتذكير به

٤ ـ أصحاب المنافع من مراكز وغيرها هم الذين يردون دعوة الحق لمنافاتها للباطل.

٥ ـ تقرير مبدأ العاقبة للمتقين.

٦ ـ عمى القلوب أخطر من عمى العيون على صاحبه.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩))

__________________

(١) الفلك يكون واحدا وجمعا ويذكر ويؤنث.

(٢) (عَمِينَ) أي : عن الحق وعن معرفة الله وقدرته ولطفه ، واحسانه يقال رجل عم بكذا أي : جاهل به لا يعرفه.

شرح الكلمات :

(وَإِلى عادٍ) : أي ولقد أرسلنا إلى عاد وهم قبيلة عاد ، وعاد أبو القبيلة وهو عاد بن عوص ابن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام.

(أَخاهُمْ هُوداً) : أخاهم في النسب لا في الدين وهود هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام ابن نوح عليه‌السلام.

(أَفَلا تَتَّقُونَ) : أي أتصرّون على الشرك فلا تتّقون عذاب الله بالإيمان به وتوحيده ، والاستفهام إنكاري أي ينكر عليهم عدم تقواهم لله عزوجل.

(فِي سَفاهَةٍ) : السفاهة كالسّفه وهو خفّة العقل ، وقلّة الإدراك والحلم.

(أَمِينٌ) : لا أخونكم ولا أغشكم ولا أكذبكم ، كما أني مأمون على رسالتي لا أفرط في إبلاغها.

(بَصْطَةً) : أي طولا في الأجسام ، إذ كانوا عمالق من عظم أجسادهم وطولها.

(آلاءَ اللهِ) : نعمه واحدها ألى وإلى والي وإلو والجمع آلاء

(تُفْلِحُونَ) : بالنجاة من النار في الآخرة ، والهلاك في الدنيا.

معنى الآيات :

هذا هو القصص الثاني ، قصص هود عليه‌السلام مع قومه عاد الأولى التي أهلكها الله تعالى بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام. قوله تعالى (وَإِلى (١) عادٍ) أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم من النسب هودا فما ذا قال لهم (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه في العبادة ولا تعبدوا معه آلهة أخرى. وقوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ليس لكم أي إله غير الله ، إذ الله هو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة ، لأنه تعالى يخلق وهم لا يخلقون ويرزق وهم لا يرزقون ويدبر الحياة بكل ما فيها وهم مدبّرون لا يملكون نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكيف يكونون آلهة. ثم حضهم على التقوى وأنكر عليهم تركهم لها فقال عليه‌السلام لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي الله ربّكم فتتركوا الشرك وتوحدوه؟ فأجاب الملأ الذين كفروا من قومه ، بأسوأ إجابة وذلك لكبريائهم واغترارهم فقالوا : (إِنَّا لَنَراكَ فِي

__________________

(١) عاد : أمّة عظيمة كانوا أكثر من عشر قبائل ، ومنازلهم كانت ببلاد العرب من حضرموت والشحر إلى عمان ، وعاد اسم القبيلة وصرف لأنّه ثلاثي ساكن الوسط كهند ودعد.

سَفاهَةٍ) أي حمق وطيش وعدم بصيرة بالحياة وإلا كيف تخرج عن إجماع قومك ، وتواجههم بعيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما جئت به أي من الرسالة ، ودعوت إليه من التوحيد ونبذ الآلهة غير الله تعالى ، فأجاب هود عليه‌السلام رادا شبهتهم فقال : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي أني لست كما تزعمون أن بي سفاهة ولكني أحمل رسالة أبلغكموها ، وأنا في ذلك ناصح لكم مريد لكم الخير أمين (١) على وحي الله تعالى إلي ، أمين لا أغشكم ولا أخونكم فما أريد لكم إلا الخير. ثم واصل دعوته فقال (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي أكذبتم برسالاتي وعجبتم من مجيئكم ذكر من ربكم (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) أي عواقب كفركم وشرككم ، أمن مثل هذا يتعجب العقلاء أم أنتم لا تعقلون؟.

ثم ذكرهم بنعم الله تعالى عليهم لعلّها تحدث لهم ذكرا في نفوسهم فيتراجعون بعد عنادهم وإصرارهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ (٢) مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي بعد أن أهلكهم بالطوفان لإصرارهم على الشرك (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) (٣) أي جعل أجسامكم قوية وقاماتكم طويلة هذه نعم الله عليكم (فَاذْكُرُوا آلاءَ (٤) اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لأنكم إن ذكرتموها بقلوبكم شكرتموها بأقوالكم وأعمالكم ، وبذلك يتم الفلاح لكم ، وهو نجاتكم من المرهوب وظفركم بالمحبوب وذلك هو الفوز المطلوب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الدعوة إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو معنى لا إله إلا الله.

٢ ـ مشروعية دفع الإتهام ، وتبرئة الإنسان نفسه مما يتهم به من الباطل.

٣ ـ من وظائف الرسل عليهم‌السلام البلاغ لما أمروا بإبلاغه.

__________________

(١) الأمين : هو الموصوف بالأمانة ، والأمانة أعز أوصاف البشر وفي الحديث (لا إيمان لمن لا أمانة له) ويروى : (لمن لا أمان له).

(٢) الخلفاء : جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء أي : يتولى العمل الذي كان يقوم به الآخر ، كما يجمع خليفة على خلائف.

(٣) ويجوز بصطة : بالصاد أي طولا في الأجسام قيل كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا ، فالزيادة كانت على خلق من قبلهم ، وذكر القرطبي أمورا عجبا لا يحسن ذكرها.

(٤) الآلاء : مفرده إلي ويعرف فيقال الإلي وهو : النعمة وهو على وزن عنب وأعناب ونظيره إنى أي : الوقت والجمع آناء قال تعالى : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) الخ.

٤ ـ فضيلة النصح وخلق الأمانة.

٥ ـ استحسان التذكير بالنعم فإن ذلك موجب للشكر والطاعة.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي (١) فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

شرح الكلمات :

(وَنَذَرَ) : أي نترك.

(بِما تَعِدُنا) : أي من العذاب.

(رِجْسٌ) : سخط موجب للعذاب.

(أَتُجادِلُونَنِي) : أي أتخاصمونني.

(مِنْ سُلْطانٍ) : أي من حجّة ولا برهان يثبت أنها تستحق العبادة.

(دابِرَ) : دابر القوم آخرهم ، لأنه إذا هلك آخر القوم هلك أولهم بلا ريب.

__________________

(١) (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ) أي : في الأصنام التي أطلقوا عليها أسماء كاللّات ، والعزّى ومناة عند قريش ومشركي العرب ، فأطلق الاسم وأريد به المسمّى.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص هود عليه‌السلام ، فهاهم أولاء يردّون على دعوة هود بقول الملأ منهم (أَجِئْتَنا (١) لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) وتهددنا إن نحن لم نترك عبادة آلهتنا ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) به من العذاب (٢) (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك فرد هود عليه‌السلام على قولهم هذا قائلا قد وقع (٣) عليكم رجس (٤) أي سخط وغضب من الله تعالى وأن عذابكم لذلك أصبح متوقعا في كل يوم فانتظروا ما سيحلّ بكم (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) قال تعالى (فَأَنْجَيْناهُ (٥) وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي بعد إنزال العذاب ، ومن معه من المؤمنين برحمة منا خاصة لا تتم إلا لمثلهم ، (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) أهلكناهم بخارقة ريح تدمر كل شيء بأمر بها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، وكذلك جزاء الظالمين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ احتجاج المشركين على صحّة باطلهم بفعل آبائهم وأجدادهم يكاد يكون سنّة مطّردة في الأمم والشعوب ، وهو التقليد المذموم.

٢ ـ من حمق الكافرين استعجالهم بالعذاب ، ومطالبتهم به.

٣ ـ آلهة الوثنيين مجرّد أسماء لا حقائق لها إذ إطلاق المرء اسم إله على حجر لا يجعله إلها ينفع ويضر ، ويحيى ويميت.

٤ ـ قدرة الله تعالى ولطفه تتجلّى في إهلاك عاد وإنجاء هود والمؤمنين.

__________________

(١) الاستفهام هنا انكاري أنكروا على نبي الله هود دعوته إيّاهم إلى التوحيد وكان جوابهم هذا أقل جفوة من السابق الذي اتهموه فيه بالسفاهة والكذب.

(٢) ذكر العذاب في سورة الأحقاف إذ قال تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

(٣) (قَدْ وَقَعَ) بمعنى : وجب ، يقال : وقع الحكم أو القول إذا وجب.

(٤) وفسّر الرجس بالعذاب أو الرّين على القلوب بزيادة الكفر.

(٥) روي أنّ هودا ومن معه من المؤمنين نزحوا إلى مكة وأقاموا بها بعد هلاك قومهم.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦))

شرح الكلمات :

(وَإِلى ثَمُودَ) : أي أرسلنا إلى ثمود ، وثمود قبيلة سميت باسم جدها وهو ثمود (١) بن عابر بن إرم بن سام بن نوح.

(أَخاهُمْ صالِحاً) : أي في النسب وصالح هو صالح بن عبيد بن آسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود.

(آيَةً) : علامة على صدقي في أني رسول الله إليكم.

(وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أنزلكم فيها منازل تحبون فيها.

__________________

(١) ثمود : هو أخو جديس.

(وَتَنْحِتُونَ) : تنجرون الحجارة في الجبال لتتخذوا منازل لكم لتسكنوها.

(آلاءَ اللهِ) : نعم الله تعالى وهي كثيرة.

(وَلا تَعْثَوْا) : أي لا تفسدوا في الأرض مفسدين.

(اسْتَكْبَرُوا) : عتوا وطغوا وتكبروا فلم يقبلوا الحق ولم يعترفوا به.

معنى الآيات :

هذا القصص الثالث قصص نبي الله صالح عليه‌السلام قال تعالى (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود (١) أخاهم صالحا نبيا أرسلناه بما أرسلنا به رسلنا من قبله ومن بعده بكلمة التوحيد (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وهذا مدلول كلمة الإخلاص التي جاء بها خاتم الأنبياء «لا إله إلا الله» (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) تشهد بأنه لا إله إلا هو ، وأني رسوله إليكم ، هذه البينة (٢) ناقة تخرج من صخرة في جبل ، (هذِهِ ناقَةُ (٣) اللهِ لَكُمْ آيَةً) علامة وأية علامة على صدقي في إرسال الله تعالى لي رسولا إليكم لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ، فذروا هذه الناقة تأكل في أرض (٤) الله (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، فكانت الناقة نرعى في المرج ، وتأتي إلى ماء القوم فتشربه كله ، ويتحول في بطنها إلى لبن خالص فيحلبون ما شاءوا وقال لهم يوما هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم ، ووعظهم عليه‌السلام بقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) أي بعد هلاكهم ، وكانت ديار عاد بحضرموت جنوب الجزيرة العربية وديار ثمود بالحجر شمال الجزيرة بين الحجاز والشام. وقوله (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أرض الحجر تتخذون من سهولها قصورا (٥) تسكنونها في الصيف ، وتنحتون من الجبال بيوتا تسكنونها في الشتاء ، (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعمه العظيمة لتشكروها بعبادته وحده دون ما اتخذتم من أصنام ، وحذّرهم من عاقبة الفساد فقال (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تنشروا الفساد في الأرض بالشرك وارتكاب المعاصي وإزاء هذه الدعوة

__________________

(١) ثمود : يصرف ولا يصرف فمن صرفه : على أنه اسم للحي ، ومن منعه : على أنه علم على القبيلة.

(٢) هذه الناقة هم الذين طالبوا بها لتكون آية على صدق نبوّة صالح ، ولمّا جاءتهم كفروا بها.

(٣) إضافة الناقة إلى الله تعالى للتشريف والتخصيص إذ كل ما في الكون هو لله عزوجل.

(٤) أي : ليس عليكم رزقها ومؤونتها.

(٥) استدل بعضهم على جواز بناء القصور للسكن بهذه الآية وبحديث : (إنّ الله إذا أنعم علي عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه) وكره ذلك بعض ، لحديث : (وما أنفق المؤمن من نفقة فإنّ خلفها على الله عزوجل إلّا ما كان في بنيان أو معصيّة) رواه الدارقطني.

الصادقة الهادفة إلى هداية القوم وإصلاحهم لينجوا من عاقبة الشرك والشر والفساد (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي قوم صالح ، قالوا (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ (١) مِنْهُمْ) أي لمن آمن من ضعفاء القوم : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) ، وهو استفهام سخرية واستهزاء دال على صلف القوم وكبريائهم ، فأجاب المؤمنون من ضعفة القوم قائلين (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) قالوها واضحة صريحة معلنة عن إيمانهم بما جاء به رسول الله صالح غير خائفين ، وهنا ردّ المستكبرون قائلين : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وإمعانا منهم في الجحود والتكبّر ، لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون حتى لا يعترفوا بالرسالة ولو في جواب رد الكلام فقالوا (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ اتحاد دعوة الرسل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت أي في عبادة الله وحده.

٢ ـ تقرير إرسال الرسل بالآيات وهي المعجزات وآية صالح أعجب آية وهي الناقة.

٣ ـ وجوب التذكير بنعم الله إذ هو الباعث على الشكر ، والشكر هو الطاعة.

٤ ـ النهي عن الفساد في الأرض والشرك وارتكاب المعاصي.

٥ ـ الضعفة هم غالبا أتباع الأنبياء : وذلك لخلوهم من الموانع كالمحافظة على المنصب أو الجاه أو المال ، وعدم إنغماسهم في الملاذ والشهوات.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

__________________

(١) (لِمَنْ آمَنَ) بدل من (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بدل بعض من كلّ.

شرح الكلمات :

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) : نحروها بعد أن عقروا قوائمها أي قطعوها ، والناقة هي الآية.

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) : تمردوا عن الأمر وعصوا فلم يطيعوا.

(الرَّجْفَةُ) : المرة من رجف إذا اضطرب ، وذلك لما سمعوا الصيحة أخذتهم الرجفة.

(جاثِمِينَ) (١) : باركين على الركب كما يجثم الطير أي هلكى على ركبهم.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) : بعد أن هلكوا نظر إليهم صالح وهم جاثمون وقال راثيا لحالهم (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) إلى قوله (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ثم أعرض عنهم وانصرف.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص صالح عليه‌السلام فإنه بعد تلك الدعوة الطويلة العريضة والمستكبرون يردونها بصلف وكبرياء ، وطالبوا بالآية لتدل على صدقه وأنه من المرسلين وأوتوا الناقة آية مبصرة ولجوا في الجدال والعناد وأخيرا تمالؤوا على قتل الناقة وعقروها (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها).

قوله تعالى في الآية الأولى (٧٧) (فَعَقَرُوا (٢) النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) يخبر تعالى أن قوم صالح عقروا الناقة قطعوا أرجلها ثم نحروها وهو العقر ، وعتوا بذلك وتكبروا متمردين عن أمر الله تعالى حيث أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء فإذا بهم يعقرونها تحديا وعنادا ، (وَقالُوا يا صالِحُ) بدل أن يقولوا يا رسول الله أو يا نبي الله (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أي من العذاب إن مسسنا الناقة بسوء فقد نحرناها فأتنا بالعذاب إن كنت كما تزعم من المرسلين قال تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وهي هزة عنيفة اضطربت لها القلوب والنفوس نتيجة صيحة لملك عظيم صاح فيهم صباح السبت (٣) كما قال تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ

__________________

(١) أصل الجثوم للأرانب وما شابهها وموضع الجثوم يقال لهم : مجثم. قال زهير :

بها العين والآرام يمشين خلفه

وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

(٢) العقر : الجرح أو قطع عضو يؤثر في النفس ، يقال : عقر الفرس إذا ضرب قوائمه بالسيف ، وقيل للنحر عقر : لأنّه بسبب النحر غالبا.

(٣) هو بداية اليوم الرابع ، إذ قال لهم : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) فكانت الأربعاء والخميس والجمعة والسبت أهلكهم الله تعالى.

مُشْرِقِينَ) ولما هلكوا وقف عليهم صالح كالمودع كما وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل القليب ببدر فناداهم يا فلان يا فلان كذلك صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسّلام وقف عليهم وهم خامدون وقال كالراثي المتحسر (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ (١) رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) وتولى عنهم وانصرف.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حلول نقمة الله تعالى بكل من عتا عن أمره سبحانه وتعالى.

٢ ـ مشروعية الرثاء لمن مات أو أصيب بمصاب عظيم.

٣ ـ علامة قرب ساعة الهلاك إذا أصبح الناس يكرهون النصح ولا يحبون الناصحين.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

شرح الكلمات :

(وَلُوطاً) : أي وأرسلنا لوطا ولوط هو لوط بن هاران ابن أخي ابراهيم عليه‌السلام. ولد في بابل العراق.

(الْفاحِشَةَ) : هي الخصلة القبيحة وهي اتيان الرجال في أدبارهم.

__________________

(١) من الجائز أن يكون قد قال هذا وهم أحياء قبل موتهم كالآيس منهم وكونه قاله بعد موتهم أقرب كما في التفسير.

(مِنَ الْعالَمِينَ) : أي من الناس.

(مِنَ الْغابِرِينَ) : الباقين في العذاب.

(وَأَمْطَرْنا) : أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهلكتهم.

(الْمُجْرِمِينَ) : أي المفسدين للعقائد والأخلاق والأعراض.

معنى الآيات :

هذا هو القصص الرابع قصص نبي الله تعالى لوط بن هاران ابن أخي ابراهيم عليه‌السلام فقوله تعالى (وَلُوطاً ....) (١) أي وأرسلنا لوطا إلى قومه من أهل سذوم ، ولم يكن لوط منهم لأنه من أرض بابل العراق هاجر مع عمه إبراهيم وأرسله الله تعالى إلى أهل سذوم (٢) وعمورة قرب (٣) بحيرة لوط بالأردن.

وقوله إذ قال لقومه الذين أرسل إليهم منكرا عليهم فعلتهم المنكرة : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وهي اتيان الرجال في أدبارهم (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي لم يسبقكم إليها أحد من الناس قاطبة ، وواصل إنكاره هذا المنكر موبخا هؤلاء الذين هبطت أخلاقهم إلى درك لم يهبط إليه أحد غيرهم فقال : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً (٤) مِنْ دُونِ النِّساءِ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وإلا فالشهوة من النساء هي المفطور عليها الإنسان ، لا أدبار الرجال ، ولكنه الإجرام والتوغل في الشر والفساد والإسراف في ذلك ، والإسراف صاحبه لا يقف عند حد.

وبعد هذا الوعظ والإرشاد إلى سبيل النجاة ، والخروج من هذه الورطة التي وقع فيها هؤلاء القوم المسرفون ما كان ردهم (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ) أي لوطا والمؤمنين معه (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي مدينتكم سدوم ، معللين الأمر بإخراجهم من البلاد بأنهم أناس يتطهرون من الخبث الذي هم منغمسون فيه قال تعالى بعد أن بلغ الوضع هذا الحد (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) من بناته وبعض نسائه (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) حيث أمرهم بالخروج من

__________________

(١) هذا العطف على إرسال نوح كما هو مع هود وصالح من قبل لوط ، ولوط : اسم عجمي وليس مشتقا من لطت الحوض أو من قولهم : هذا أليط بقلبي من هذا.

(٢) هذه الأرض هي أرض الكنعانيين وسكانها خليط جلّهم كنعانيون.

(٣) هو المعروف بالبحر الميت ويقال له بحيرة لوط.

(٤) (شَهْوَةً) منصوب على أنّه مفعول لأجله.

البلاد ليلا قبل حلول العذاب بالقوم فخرجوا ، وما إن غادروا المنطقة حتى جعل الله تعالى عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجين فأهلكوا أجمعين.

وقوله تعالى في ختام هذا القصص (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) فإنه خطاب عام لكل من يسمع هذا القصص ليعتبر به حيث شاهد عاقبة المجرمين دمارا كاملا وعذابا أليما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شدة قبح جريمة اللواط.

٢ ـ أول من عرف هذه الجريمة القذرة هم قوم لوط (١) عليه‌السلام.

٣ ـ الإسراف وعدم الاعتدال في الأقوال والأفعال يتولد عنه كل شر وفساد.

٤ ـ الكفر والإجرام يحل رابطة الأخوة والقرابة بين أصحابه والبرءاء منه.

٥ ـ من أتى هذه الفاحشة من المحصنين يرجم (٢) بالحجارة حتى الموت.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ

__________________

(١) روي أنّ ابليس هو الذي علّمهم إيّاها في نفسه بعد أن تشكّل بشكل إنسان.

(٢) الجمهور على أن من أتى هذه الفاحشة من الذكران البالغين أنه يقتل وغير البالغ يضرب ، وخالف أبو حنيفة الجمهور وقال بعدم القتل واكتفى بالتعزير وهو محجوج بعمل الصحابة فقد أحرقوا من عمل عمل قوم لوط على عهد أبي بكر بإجماع رأي الصحابة على ذلك لحديث أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) وعند الترمذي : (أحصنا أو لم يحصنا) واختلف في الفاعل في البهيمة هل يقتل أو يعزّر؟ فالراجح : القتل لحديث : (من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه).

عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

شرح الكلمات :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) : مدين أبو القبيلة وهو مدين بن إبراهيم الخليل وشعيب من أبناء القبيلة فهو أخوهم في النسب حقيقة إذ هو شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) : أي لا تنقصوا الناس قيم سلعهم وبضائعهم ، إذ كانوا يفعلون ذلك.

(صِراطٍ تُوعِدُونَ) : طريق وتوعدون تخيفون المارة وتأخذون عليهم المكوس أو تسلبونهم أمتعتهم.

(وَتَبْغُونَها عِوَجاً) : أي تريدون سبيل الله ـ وهي شريعته ـ معوجة حتى توافق ميولكم.

(الْمُفْسِدِينَ) : هم الذين يعملون بالمعاصي في البلاد.

يحكم بيننا : يفصل بيننا فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين.

معنى الآيات :

هذا هو القصص الخامس في سورة الأعراف وهو قصص نبي الله شعيب مع قومه أهل مدين ، فقوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (١) أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا. فما ذا قال لهم لما أرسل إليهم؟ (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قولوا لا إله إلا الله ، ولازم ذلك أن يصدقوا برسول الله شعيب حتى يمكنهم أن يعبدوا الله بما

__________________

(١) شعيب : تصغير شعب أو شعب ويقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه.

يحب أن يعبد به وبما من شأنه أن يكملهم ويسعدهم في الدارين وقوله (قَدْ جاءَتْكُمْ (١) بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي آية واضحة تشهد لي بالرسالة وبما أن ما آمركم به وأنهاكم عنه هو من عند الله تعالى إذا (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أي بالقسط الذي هو العدل ، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) بل أعطوهم ما تستحقه بضائعهم من الثمن بحسب جودتها ورداءتها (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي في البلاد بعد إصلاحها ، وذلك بترك الشرك والذنوب ومن ذلك ترك التلصص وقطع الطرق ، وترك التطفيف في الكيل والوزن وعدم بخس سلع الناس وبضائعهم ذلكم الذي دعوتكم إليه من الطاعة وترك المعصية خير لكم حالا ومآلا إن كنتم مؤمنين وقوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِ (٢) صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) (٣) ينهاهم عليه‌السلام عن أبشع الإجرام وهو أنهم يجلسون في مداخل البلاد ، وعلى أفواه السكك ، ويتوعدون (٤) المارة بالعذاب إن هم اتصلوا بالنبي شعيب وجلسوا إليه صرفا للناس عن الإيمان والاستقامة ، كما أنهم يقطعون الطرق ويسلبون الناس ثيابهم وأمتعتهم أو يدفعون إليهم ضريبة خاصة.

وقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) يذكرهم عليه‌السلام بنعمة الله تعالى عليهم وهي أنهم أصبحوا شعبا كبيرا بعد ما كانوا شعبا صغيرا لا قيمة له ولا وزن بين الشعوب وقوله : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) يعظهم ببيان مصير الظلمة المفسدين من الأمم المجاورة والشعوب حيث حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فهلكوا يعظهم لعلهم يذكرون فيتركوا الشرك والمعاصي ، ويعملوا بالتوحيد والطاعة.

وأخيرا يخوفهم بالله تعالى ويهددهم بأن حكما عدلا هو الله سيحكم بينهم وعندها يعلمون من هو المحق ومن هو المبطل فقال : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة (آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) من التوحيد والطاعة وترك الشرك والمعاصي ، (وَطائِفَةٌ) أخرى (لَمْ يُؤْمِنُوا) وبهذا كنا متخاصمين نحتاج إلى من يحكم بيننا إذا (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ

__________________

(١) من الجائز أن يكون الله تعالى قد أعطى نبيّه شعيبا آية ولم تذكر في القرآن ، والراجح أنّها حجة قوية قهرهم بها ولم يتمكنوا من ردّها.

(٢) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعّدون من أراد المجيىء إليه ويصدّونه عنه ويقولون : إنّه كذّاب فلا تذهب إليه ، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) قال أبو عبيدة والزجاج : كسر العين عوجا في المعاني ، والفتح عوجا في الاجرام والذوات.

(٤) قال أبو هريرة رضي الله عنه هذا نهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم.

الجزء التاسع

الْحاكِمِينَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ دعوة الرسل واحدة في باب العقيدة إذ كلها تقوم على أساس التوحيد والطاعة.

٢ ـ حرمة التطفيف في الكيل والميزان ، وبخس الناس أشياءهم ، ويدخل في ذلك الصناعات وحرف المهن وما إلى ذلك.

٣ ـ حرمة الفساد في الأرض بالمعاصي لا سيما البلاد التي طهرها الله بالإسلام وأصلحها بشرائعه.

٤ ـ حرمة التلصص وقطع (١) الطرق وتخويف المارة.

٥ ـ حرمة الصد عن سبيل الله بمنع الناس من التدين والإلتزام بالشريعة ظاهرا وباطنا.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

شرح الكلمات :

(الْمَلَأُ) : أشراف القوم الذين يملؤون المجلس إذا جلسوا ، والعين إذا نظر اليهم.

(اسْتَكْبَرُوا) : تكلفوا الكبروهم حقيرون ، حتى لا يقبلوا الحق.

__________________

(١) ومثله الضرائب الفادحة التي تضرب على المسلمين في بلادهم والمكوس التي في الأسواق وغيرها مما اقتدى فيه المسلمون بالكافرين.

(مِنْ قَرْيَتِنا) : مدينتنا

(فِي مِلَّتِكُمْ) : في دينكم.

(عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) : أي فوضنا أمرنا واعتمدنا في حمايتنا عليه.

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) : أي يا ربنا احكم بيننا.

(وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) : أي وأنت خير الحاكمين.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في قصص شعيب مع قومه أهل مدين فبعد أن أمرهم ونهاهم وذكرهم ووعظهم (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) مهددين موعدين مقسمين (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا). هكذا سنة الطغاة الظلمة إذا غلبوا بالحجج والبراهين يفزعون إلى القوة فلما أفحمهم شعيب خطيب الأنبياء عليهم‌السلام ، وقطع الطريق عليهم شهروا السلاح في وجهه ، وهو النفي والإخراج من البلاد أو العودة إلى دينهم الباطل : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَ (١) فِي مِلَّتِنا) ورد شعيب على هذا التهديد بقوله : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٢) أي أنعود في ملتكم ولو كنا كارهين لها (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) (٣) ووجه الكذب على الله إن عادوا إلى ملة الباطل هو أن شعيبا أخبرهم أن الله تعالى أمرهم بعبادته وحده وترك عبادة غيره ، وأنه تعالى أرسله إليهم رسولا وأمرهم بطاعته إنقاذا لهم من الباطل الذي هم فيه فإذا أرتد وعاد هو ومن معه من المؤمنين إلى ملة الشرك كان موقفهم موقف من كذب على الله تعالى بأنه قال كذا وكذا والله عزوجل لم يقل. هذا ثم قال شعيب (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) ليس من الممكن ولا من المتهيء لنا العودة في ملتكم أبدا ، اللهم إلا أن يشاء (٤) ربنا شيئا فإن مشيئته نافذة في خلقه ، وقوله : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فإذا كان قد علم أنا نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، فسوف يكون ما علمه كما علمه وهو الغالب على أمره.

__________________

(١) (أَوْ لَتَعُودُنَ) : إمّا أن يراد به أتباع شعيب المؤمنون إذ كانوا قبل إيمانهم على دين قومهم وإمّا أن يراد بكلمة (لَتَعُودُنَ) : لتصيرنّ إذ تكون عاد بمعنى : صار.

(٢) الاستفهام للتعجب والاستبعاد.

(٣) هذا أسلوب الإياس لهم من العودة إلى دينهم الباطل.

(٤) هذا الاستثناء كان من شعيب تأدبا مع الله تعالى بتفويض الأمر إلى مشيئته وعودة غيره من أمته ممكنة ولكن عودته هو مستحيلة.

ثم قال عليه‌السلام بعد أن أعلمهم أن العودة إلى دينهم غير واردة ولا ممكنة بحال من الأحوال إلّا في حال مشيئة الله ذلك ، وهذا مما لا يشاءه الله تعالى قال : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في الثبات على دينه الحق ، والبراءة من الباطل ثم سأل ربه قائلا : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) أي احكم بيننا وبينهم بالحق (وَأَنْتَ خَيْرُ) (١) (الْفاتِحِينَ) أي الحاكمين ، وذلك بإحقاق الحق وإبطال الباطل.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة بشرية وهي أن الظلمة والمتكبرين يجادلون بالباطل حتى إذا أعياهم الجدال وأفحموا بالحجج بدل أن يسلموا بالحق ويعترفوا به ويقبلوه ، فيستريحوا ويريحوا يفزعون إلى القوة بطرد أهل الحق ونفيهم أو إكراههم على قبول الباطل بالعذاب والنكال.

٢ ـ لا يصح من أهل الحق بعد أن عرفوه ودعوا إليه أن يتنكروا ويقبلوا الباطل بدله.

٣ ـ يستحب الاستثناء في كل ما عزم عليه المؤمن مستقبلا وإن لم يرده أو حتى يفكر فيه.

٤ ـ وجوب التوكل على الله عند تهديد العدو وتخويفه ، والمضي في سبيل الحق.

٥ ـ مشروعية الدعاء وسؤال الله تعالى الحكم بين أهل الحق وأهل الباطل ، لأن الله تعالى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ

__________________

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) هذا الاستثناء منقطع بمعني لكن أي : ما يقع منّا العودة إلى الكفر لكن إن شاء الله ذلك كان ، والله لا يشاء ذلك فهو إذا كقولك : لا أكلمك حتى يبيض الغراب أو (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).

(١) الفتح بمعنى القضاء والحكم وهو لغة : أزد عمان من اليمن أي : أحكم بيننا وبينهم وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر إذ كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ويرون أن النصر حكم الله للغالب على المغلوب.

رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) : أي على ما جاء به من الدين والهدى.

(الرَّجْفَةُ) : الحركة العنيفة كالزلزلة.

(جاثِمِينَ) : باركين على ركبهم ميتين.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) : أي كأن لم يعمروها ويقيموا فيها زمنا طويلا.

(الْخاسِرِينَ) : إذ هلكوا في الدنيا وادخلوا النار في الآخرة.

(آسى) (١) : أي أحزن أو آسف شديد الأسف.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص شعيب مع أهل مدين فإنه بعد أن هدد الظالمون شعيبا بالإبعاد من مدينتهم هو والمؤمنون معه أو أن يعودوا إلى ملتهم فرد شعيب على التهديد بما أيأسهم من العودة إلى دينهم ، وفزع إلى الله يعلن توكله عليه ويطلب حكمه العادل بينه وبين قومه المشركين الظالمين كأن الناس اضطربوا وأن بعضا قال اتركوا الرجل وما هو عليه ، ولا تتعرضوا لما لا تطيقونه من البلاء. هنا قال الملأ الذين استكبروا من قومه مقسمين بآلهة الباطل : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) أي على دينه وما جاء به وما يدعو إليه من التوحيد والعدل ورفع الظلم (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) قال تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) استجابة لدعوة شعيب فأصبحوا (٢) هلكى جاثمين على الركب. قال تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (٣)

__________________

(١) أسي كرضي يأسى كيرضي يقال : أسيت على كذا أسى فأنا آس وآسى في الآية مضارع أسى دخلت عليه همزة المتكلم فصارت آسى بهمزتين.

(٢) في سورة هود : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وفي سورة الشعراء : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وطريقة الجمع. أنهم لمّا اجتمعوا تحت الظلة وهي سحابة أظلتهم ، فزعوا إليها من شدّة الحرّ الذي أصابهم يومئذ فلمّا استقروا تحتها زلزلوا من تحتهم وهي الرجفة ونزلت عليهم من الظلة صاعقة وهي الصيحة فأحرقتهم هذا إن قلنا إنّ مدين وأصحاب الأيكة هما أمة واحدة ، وإلّا فأصحاب الأيكة أخذوا بعذاب الظلة وأصحاب مدين أخذوا بالرجفة من تحتهم ، والصيحة من فوقهم.

(٣) وفسّر القرطبي الغنى : بالمقام يقال : غنى القوم في دارهم أي : طال مقامهم ، والمغني : المنزل والجمع المغاني ، قال لبيد :

وغنيت ستا قبل مجرى داحس

لو كان للنفس اللجوج خلود

ومعنى غنيت : أقمت وهو الشاهد.

أي كأن لم يعمروا تلك الديار ويقيموا بها زمنا طويلا ، وأكد هذا الخبر وهو حكم في المكذبين الظالمين فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) أما الذين صدقوا شعيبا فهم المفلحون الفائزون وودعهم شعيب كما ودع صالح قومه قال تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وهم جاثمون هلكى فقال (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) فأبيتم إلا تكذيبي ورد قولي والإصرار على الشرك والفساد حتى هلكتم (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (١) أي لا معنى للحزن والأسف على مثلكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ثمرة الصبر والثبات النصر العاجل أو الآجل.

٢ ـ نهاية الظلم والطغيان والدمار والخسران.

٣ ـ لا أسى ولا حزنا على من أهلكه الله تعالى بظلمه وفساده في الأرض.

٤ ـ مشروعية توبيخ الظالمين بعد هلاكهم كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل القليب وكما فعل صالح وشعيب عليهما‌السلام.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

شرح الكلمات :

(فِي قَرْيَةٍ) : القرية : المدينة الجامعة لأعيان البلاد ورؤسائها وهي المدينة.

(بِالْبَأْساءِ) : بالشدة كالقحط والجوع والحروب.

__________________

(١) الاستفهام إنكاري وهو موجه في الظاهر إلى نفس شعيب ، والمقصود نهي من معه من المؤمنين الناجين من العذاب برحمة الله تعالى نهيهم عن الحزن عن قومهم وأقاربهم كأنه لاحظ ذلك فيهم.

(وَالضَّرَّاءِ) : الحالة المضرة كالأمراض والغلاء وشدة المؤونة.

(يَضَّرَّعُونَ) : يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه ليكشف عنهم السوء.

(مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) : أي بدل الغلاء الرخاء ، وبدل الخوف الأمن ، وبدل المرض الصحة.

(حَتَّى عَفَوْا) : كثرت خيراتهم ونمت أموالهم ، وأصبحت حالهم كلها حسنة.

(فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) : أنزلنا بهم العقوبة فجأة.

معنى الآيتين :

على إثر بيان قصص خمسة أنبياء ذكر تعالى سنته في الأمم السابقة ليكون ذلك عظة لكفار قريش ، وذكرى للمؤمنين فقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) (١) أي في أهل قرية والمراد بالقرية الحاضرة والعاصمة من كبريات المدن حيث الكبراء والرؤساء من نبي من الأنبياء والمرسلين فكذبوه قومه وردوا دعوته مصرين على الشرك والضلال إلا أخذ الله تعالى أهل تلك المدينة بألوان من العذاب التأديبى كالقحط والجوع وشظف العيش ، والأمراض والحروب المعبر عنه بالبأساء والضراء. رجاء أن يرجعوا إلى الحق بعد النفور منه ، وقبوله بعد الإعراض عنه ثم يغير تعالى ما بهم من بأساء وضراء إلى يسر ورخاء ، وعافية وهناء فتكثر أموالهم وأولادهم ويعظم سلطانهم ، ويقولون عند ما يوعظون ويذكرون ليتوبوا فيؤمنوا ويتقوا : (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) (٢) أي الخير والشر وما هناك ما تخوفوننا به إنما هي الأيام هكذا دول يوم عسر وآخر يسر وبذلك يحق عليهم العذاب فيأخذهم الجبار عزوجل فجأة (٣) (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيتم هلاكهم ويمسون حديث عبرة لمن بعدهم عذاب في الدنيا ، وعذاب في الآخرة وعذاب الآخرة أشد وأبقى.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في الأمم السابقة.

__________________

(١) في الجملة إضمار تقديره : وما أرسلنا في قرية من نبي فكذّب أهلها إلّا أخذناهم وهو مبسوط في التفسير مبيّن غاية البيان والجملة معطوفة على جملة : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً).

(٢) أي : فنحن مثلهم.

(٣) أي : بغتة ليكون أكثر حسرة.

٢ ـ تخويف كفار قريش بما دلت عليه هذه السنة من أخذ الله تعالى المصرين على الكفر المتمردين على الحق ،

٣ ـ التذكير والوعظ بتاريخ الأمم السابقة المنبىء عن أسباب هلاكهم وخسرانهم ليتجنبها العقلاء ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا وَاتَّقَوْا) : أي آمنوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده واتقوه تعالى بطاعته وعدم معصيته.

(بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : جمع بركة وهي دوام الخير وبقاؤه والعلم والإلهام والمطر من بركات السماء والنبات والخصب والرخاء والأمن والعافية من بركات الأرض.

(يَكْسِبُونَ) : من الشرك والمعاصي.

(بَياتاً) : أي ليلا وهم نائمون.

(مَكْرَ اللهِ) : استدراجه تعالى لهم بإغداق النعم عليهم من صحة

الأبدان ورخاء العيش حتى إذا آمنوا مكره تعالى بهم أخذهم بغتة.

أولم يهد لهم : أي أو لم يبين لهم بمعنى يتبين لهم.

(بِذُنُوبِهِمْ) : أي بسبب ذنوبهم.

معنى الآيات :

بعد ما بين تعالى سنته في الأمم السابقة ، وهي أخذ الأمة بعد تكذيبها وعصيانها بالبأساء والضراء ، ثم إذا هي لم تتب واستمرت على كفرها وعصيانها أغدق عليها الخيرات حتى عفت بكثرة مالها وصلاح حالها أخذها بغتة فأهلكها ، وتم خسرانها في الدارين ، فتح تعالى باب التوبة والرجاء لعباده فقال : (وَلَوْ (١) أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) (٢) المكذبين ككفار مكة والطائف وغيرهما من المدن (آمَنُوا) أي بالله ورسوله وبلقاء الله ووعده ووعيده ، (وَاتَّقَوْا) الله تعالى في الشرك وفي معصيته ومعصية رسوله لفتح عليهم أبواب السماء بالرحمات والبركات ، وفتح عليهم كنوز الأرض ورزقهم من الطيبات ولكن أهل القرى الأولين كذبوا فأخذهم بالعذاب بما كانوا يكسبون ، وأهل القرى اليوم وهم مكذبون فإما أن يعتبروا بما أصاب أهل القرى الأولين فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا ، وإما أن يصروا على الشرك والتكذيب فينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من عذاب الإبادة والاستئصال ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٦) وهي قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) (٣) (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أما الآيات الثلاث بعدها فإن الله تعالى ينكر على أهل القرى غفلتهم موبخا لهم على تماديهم وإصرارهم على الباطل معجبا من حالهم فيقول : (أَفَأَمِنَ (٤) أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟) أي أجهلوا ما نزل بمن قبلهم فأمنوا أن

__________________

(١) لو : حرف امتناع لا متناع ، امتنع شرطها فامتنع جوابها ، وشرطها هنا : الإيمان والتقوى وجوابها فتح البركات على أهل القرى.

(٢) يقال للمدينة : قرية لاجتماع الناس فيها مأخوذ من التقرّى الذي هو التجمع يقال : قريت الماء في الحوض : إذا جمعته ، وسمي القرآن قرآنا لاجتماع الحروف والكلمات والجمل والآيات فيه.

(٣) البركات : جمع بركة ، وهي الخير الدائم الصالح الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا في الآخرة. وتكون في العمر والمال وفي كل ما هو خير ونافع غير ضار للإنسان.

(٤) الاستفهام للانكار والتعجب معا ، ومكر الله تعالى : إمهالهم وإغداق الخير عليهم مع شركهم وكفرهم ، إذ المكر : أن يظهر المرء الإحسان لمن يمكر به ليأخذه فجأة. والأمن من مكر الله تعالى زيادة على أنه كبيرة من كبائر الذنوب فإنه يؤدي بالآمن إلى هلاكه دنيا وأخرى.

يأتيهم عذابنا ليلا وهم نائمون؟ (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟) أي أو غفل أهل القرى وأمنوا أن يأتيهم عذابنا ضحى وهم في أعمالهم التي لا تعود عليهم بخير كأنها لعب أطفال يلعبون بها (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ)؟ أي أغرهم إمهالنا لهم واستدراجنا إياهم فأمنوا مكر الله؟ إنهم في ذلك خاسرون إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وقوله تعالى في الآية الخامسة (١٠٠) (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي عمى الذين يرثون الأرض من بعد أهلها ولم يتبين لهم بعد ولم يعلموا أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا الذين ورثوا ديارهم بذنوبهم (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي ونجعل على قلوبهم غشاوة حتى لا يعوا ما يقال لهم ولا يفهموا ما يراد بهم حتى يهلكوا كما هلك الذين من قبلهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عرض الرحمن تبارك وتعالى رحمته على عباده ولم يطلب منهم أكثر من الإيمان والتقوى.

٢ ـ حرمة الغفلة ووجوب الذكر واليقظة.

٣ ـ حرمة الأمن من مكر الله تعالى.

٤ ـ إذا أمنت الأمة مكر الله تهيأت للخسران وحل بها لا محالة.

٥ ـ وجوب الاعتبار بما أصاب الأولين ، وذلك بترك ما كان سببا لهلاكهم.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

شرح الكلمات :

(تِلْكَ الْقُرى) : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

(مِنْ أَنْبائِها) : أي من أخبارها.

(بِالْبَيِّناتِ) : بالحجج والبراهين الدالة على توحيد الله وصدق رسله.

(مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل خلقهم ووجودهم ، إذ علم الله تعالى تكذيبهم فكتبه عليهم في كتاب المقادير.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) : أي لم نجد لأكثرهم وفاء بعهودهم التي أخذت عليهم يوم أخذ الميثاق.

معنى الآيتين :

يخاطب الرب تعالى (١) رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أي من أخبارها مع أنبيائها كيف دعتهم رسلهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة ، وكيف ردت تلك الأمم دعوة الله واستكبرت على عبادته ، وكيف كان حكمنا فيهم لعل قومك يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا. وقوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم ، وما جاءتهم به رسلهم من أمر ونهي من ربهم. وقوله (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ (٢) قَبْلُ) أي لم يكن أولئك الهالكون من أهل القرى ليؤمنوا بما كذبوا به في علم الله وقدره إذ علم الله أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم فلذا هم لا يؤمنون. وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي كما كتب على الهالكين من أهل القرى أنهم لا يؤمنون ولم يؤمنوا فعلا فأهلكهم ، يطبع كذلك على قلوب الكافرين فلا يؤمنون حتى يأخذهم العذاب وهم ظالمون بكفرهم. وهذا الحكم الإلهي قائم على مبدأ أن الله علم من كل إنسان قبل خلقه ما يرغب فيه وما يؤثره على غيره ويعمله باختياره وارادته فكتب ذلك عليه فهو عند خروجه

__________________

(١) سرّ هذا الخطاب زيادة على التعليم لكمال الهداية فإنه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلاقى من صلف المشركين وعنادهم وجحودهم ، وهو تسلية لكل مؤمن ومؤمنة يعاني من صلف المشركين وأذاهم.

(٢) اختلف في المضاف إليه المحذوف في قوله : (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) هل المراد : من قبل خروجهم للحياة الدنيا وهم في عالم الأرواح حيث أمروا بالإيمان فكذّبوا فكتب الله عليهم ذلك فلن يكون إلا هو أو لو أحييناهم بعد إهلاكهم بذنوبهم لمّا آمنوا بما كذّبوا به فكان سبب هلاكهم ، أو سألوا المعجزات ليؤمنوا فلمّا رأوها لم يؤمنوا بما كذّبوا من قبل رؤيتهم المعجزات ، والراجح من هذه المقولات ما هو في التفسير إذ هو قول ابن جرير إمام المفسرين.

إلى الدنيا لا يعمل إلا به. ليصل الى ما كتب عليه ، وقدر له أزلا قبل خلق السموات والأرض ، وقوله تعالى (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (١) أي لم نجد لتلك الأمم التي أهلكنا وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. لم نجد لأكثرهم وفاء بعهدهم الذي أخذناه عليهم قبل خلقهم من الإيمان بنا وعبادتنا وطاعتنا وطاعة رسلنا ، وما وجدنا (٢) أكثرهم إلا فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا وطاعة رسلنا ، وكذلك أحللنا بهم نقمتنا وأنزلنا بهم عذابنا فأهلكناهم أجمعين.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير الوحي الإلهي وإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه ما قصّ من أنباء الأولين لا يتلقّى إلا بوحي إلهي ولا يتلقى عن الله تعالى إلا رسول أعدّ لذلك.

٢ ـ وجود البينات مهما كانت قوية واضحة غير كاف في إيمان من لم يشأ الله هدايته.

٣ ـ المؤمن من آمن في الأزل ، والكافر من كفر فيه.

٤ ـ الطبع على قلوب الكافرين سببه اختيارهم للكفر والشر والفساد وإصرارهم على ذلك كيفما كانت الحال.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ (٣) عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ

__________________

(١) (مِنْ عَهْدٍ) من زائدة لتقوية النفي والدلالة على الجنس أي : جنس العهد ، والعهد من الجائز أن يكون ما أخذ عليهم في عالم الذرّ وهو صحيح قاله ابن عباس وأن يكون ما أخذ عليهم من قبل الأنبياء أن يعبدوا الله وحده ويطيعوه ولا يعصوه.

(٢) الآية : (وَإِنْ وَجَدْنا) وإن : بمعنى ما النافية فلذا اكتفينا في التفسير بما ولم نذكر إن اختصارا وتقريبا للفهم.

(٣) قرأ نافع : (حقيق عليّ) بياء الضمير المشدّدة وهي بمعنى : واجب عليّ خبر ثان لأنّ في قوله : (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقرأ غيره (على) حرف جرّ أي : محقوق بأن لا أقول على الله إلّا الحق ، فحقيق : فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول.

جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨))

شرح الكلمات :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

(مُوسى) : هو موسى بن عمران من ذرية يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام.

(بِآياتِنا) : هي تسع آيات : العصا ، واليد ، والسنون المجدبة ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والطمس على أموال فرعون.

(إِلى فِرْعَوْنَ) : أي بعث موسى الرسول إلى فرعون وهو الوليد بن مصعب بن الريان ، ملك مصر.

(وَمَلَائِهِ) : أي أشراف قومه وأعيانهم من رؤساء وكبراء.

(فَظَلَمُوا بِها) : أي ظلموا أنفسهم بالآيات وما تحمله من هدى حيث كفروا بها.

(بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) : حجة قاطعة وبرهان ساطع على أني رسول الله إليكم.

(وَنَزَعَ يَدَهُ) : أخرجها بسرعة من جيبه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) هذا شروع في ذكر القصص السادس مما اشتملت عليه سورة الأعراف ، وهي قصص موسى عليه‌السلام مع فرعون وملئه. قال تعالى وهو يقص على نبيه ليثبت به فؤاده ، ويقرر به نبوته ، ويعظ أمته ، ويذكر به قومه (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن عمران إلى فرعون وملئه من رجالات ملكه ودولته ، وقوله بآياتنا. هي تسع آيات لتكون حجة على صدق

رسالته وأحقية دعوته. وقوله تعالى (فَظَلَمُوا بِها) (١) أي جحدوها ولم يعترفوا بها فكفروا بها وبذلك ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم بها ، واستمروا على كفرهم وفسادهم حتى أهلكهم الله تعالى بإغراقهم ، ثم قال لرسوله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي دمارا وهلاكا وهي عاقبة كل مفسد في الأرض بالشرك والكفر والمعاصي. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٣) وأما الآيات بعدها فإنها في تفصيل أحداث هذا القصص العجيب. وأتى موسى فرعون وقال (يا فِرْعَوْنُ (٢) إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، حَقِيقٌ) أي جدير وخليق بي (أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) دالة على صدقي شاهدة بصحة ما أقول (فَأَرْسِلْ (٣) مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) لأذهب بهم إلى أرض الشام التى كتب الله لهم وقد كانت دار آبائهم. وهنا تكلم فرعون وطالب موسى بالآية التي ذكر أنه جاء بها فقال (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما تدعيه وتقول به وتدعوا إليه. وهنا ألقى موسى عصاه أي أمام فرعون المطالب بالآية (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي حية عظيمة تهتز أمام فرعون وملئه كأنها جان ، (٤) هذه آية وزاده أخرى فأدخل يده في جيبه كما علمه ربه ونزعها (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) بيضاء بياضا غير معهود مثله في أيدي الناس. هذا ما تضمنته هذه الآيات الخمس في هذا السياق.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سوء عاقبة المفسدين بالشرك والمعاصي.

٢ ـ تذكير موسى فرعون بأسلوب لطيف بأنه ليس ربا بل هناك رب العالمين وهو الله رب موسى وهرون والناس أجمعين.

__________________

(١) (فَظَلَمُوا بِها) أي : ظلموا أنفسهم بالتكذيب بالآيات ، وجائز أن يكون ظلموا بسببها غيرهم ممن منعوهم من الإيمان بها إذ هدّدوهم بالقتل وجائز أن يضمّن الظلم هنا معنى الكفر أي كفروا بها وهو صحيح المعنى.

(٢) فرعون : علم جنس لمن يملك مصر في القديم ككسرى : لكل من يملك فارسا وقيصر : لكل من يملك الروم ونمرود : لمن ملك الكنعانيين ، والنجاشي : للأحباش ، وتبع ، لحمير ونداء موسى له بقوله يا فرعون : فيه نوع احترام ، إذ ناداه بعنوان الملك والسلطان.

(٣) الفاء تفريعية أي : ما بعدها متفرّع عمّا قبلها.

(٤) الجانّ : هنا حية أكحل العينين تسكن البيوت لا تؤذى كثيرة التقلّب والاهتزاز.

٣ ـ تقرير مبدأ الصدق لدى الرسل عليهم‌السلام

٤ ـ ظهور آيتين لموسى العصا واليد.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

شرح الكلمات :

(لَساحِرٌ عَلِيمٌ) : أي ذو علم بالسحر خبير به ليس مجرد مدّع.

(مِنْ أَرْضِكُمْ) : أي من بلادكم ليستولى عليها ويحكمكم.

(فَما ذا تَأْمُرُونَ) : أي أشيروا بما ترون الصواب في حل هذا المشكل.

(أَرْجِهْ) : أي أمهله وأخاه لا تعجل عليهما قبل اتخاذ ما يلزم من الاحتياطات.

(فِي الْمَدائِنِ) : مدن المملكة الفرعونية.

(حاشِرِينَ) : رجالا يجمعون السحرة الخبراء في فن السحر للمناظرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تفصيل قصص موسى مع فرعون فبعد أن تقدم موسى بما طلب فرعون منه من الآية فأراه آية العصا ، واليد ، وشاهد الملأ من قوم فرعون الآيتين العظيمتين قالوا (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وذلك لما بهرتهم الآيتان تحول العصا إلى حية عظيمة واليد بيضاء من غير سوء كالبرص بل بياضها عجب (١) حتى لكأنها فلقة قمر أي قطعة منه ، واتهموا موسى فورا بالسياسة وأنه يريد بهذا إخراجكم من بلادكم ليستولي عليها هو وقومه من بني إسرائيل ، وهنا تكلم فرعون وقال : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٢) أي بم تشيرون علّي أيها الملأ والحال كما ذكرتم؟ فأجابوه قائلين (أَرْجِهْ (٣) وَأَخاهُ) أي أوقفهما عندك (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٤)

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ليد موسى نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.

(٢) يرى بعضهم أن المستفهم غير فرعون ، الصحيح أنه فرعون لانهزامه معنويا.

(٣) قرأ ورش : أرجه بإشباع كسرة الهاء ، وقرأ الجمهور (أَرْجِهْ) بإسكان الهاء ، وقرأ بعض بكسر الهاء بدون مدّ.

(٤) قيل هي صعيد مصر إذ هو مقرّ العلماء بالسحر ، والمدائن جمع مدينة وتجمع على مدن واصل اشتقاقها من مدن بالمكان إذا أقام به.

أي رجالا من الشرط يحشرون أي يجمعون أهل الفن من السحرة من كافة أنحاء الإيالة أي الإقليم المصري ، وأجر معه مناظرة فإذا انهزم انتهى أمره وأمنا من خطره على بلادنا وأوضاعنا. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع في هذا السياق.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جهل الملأ بالآيات أدى بهم إلى أن قالوا إن موسى ساحر عليم.

٢ ـ مكر الملأ وخبثهم إذ اتهموا موسى سياسيا بأنه يريد الملك وهو كذب بحت وإنما يريد إخراج بني إسرائيل من مصر حيث طال استعبادهم وامتهانهم من قبل الأقباط وهم أبناء الأنبياء وأحفاد إسرائيل واسحق وابراهيم عليهم‌السلام.

٣ ـ فضيحة فرعون حيث نسي دعواه الربوبية ، فاستشار الملأ في شأنه ، إذ الربّ الحق لا يستشير عباده فيما يريد فعله لأنه لا يجهل ما يحدث مستقبلا.

٤ ـ السحر صناعة من الصناعات يتعلم ويبرع فيها المرء ، ويتقدم حتى يتفوق على غيره.

٥ ـ حرمة السحر وحرمة تعلمه ، ووجوب إقامة الحد على من ظهر عليه وعرف به.

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦))

شرح الكلمات :

(السَّحَرَةُ) : جمع ساحر وهو من يتقن فن السحر ويؤثر في أعين الناس بسحره.

(إِنَّ لَنا لَأَجْراً) : أي ثوابا من عندك أي أجرا تعطيناه إن نحن غلبنا.

(نَحْنُ الْمُلْقِينَ) : لعصيّنا.

(سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) : حيث صار النظارة في الميدان يشاهدون عصي السحر وحبالهم يشاهدونها حيات وثعابين تملأ الساحة.

(وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) : أي أدخلوا الرهب والرعب في قلوب الناس من قوة أثر السحر في عيونهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه‌السلام من جهة وبين فرعون وملئه من جهة أخرى ، فقد جاء في الآيات السابقة أن الملأ أشاروا على فرعون بأن يحبس موسى وأخاه هارون ويرسل شرطة في المدن يأتون بالخبراء في فن السحر لمناظرة موسى عسى أن يغلبوه ، وفعلا أرسل فرعون في مدنه حاشرين يجمعون خبراء السحر ، وها هم أولاء قد وصلوا قال تعالى (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) (١) وعرفوا أن الموقف جد صعب على فرعون فطالبوه بالأجر العظيم إن هم غلبوا موسى وأخاه فوافق فرعون على طلبهم ، وهو معنى قوله تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَ (٢) لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ نَعَمْ) وزادهم أيضا أن يجعلهم من خواصه ورجال قصره فقال (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي لدينا. وهنا تقدموا لموسى وكأنهم على ثقة في قوتهم السحرية وأن الجولة ستكون لهم ، تقدموا بإلقاء آلاتهم السحرية أو تقدم موسى عليهم فقالوا (يا مُوسى (٣) إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي الق عصاك أو نلقى نحن عصينا فقال لهم موسى (أَلْقُوا) (٤) فألقوا فعلا فسحروا أعين (٥) الناس وجاءوا بسحر عظيم كما أخبر تعالى الأمر الذي استرهب النظارة حتى إن موسى عليه‌السلام أوجس في نفسه خيفة فنهاه ربه تعالى عن ذلك وأعلمه أنه الغالب بإذن الله تعالى جاء هذا الخبر في سورة طه.

__________________

(١) لقد ذكر القرطبي في عدد السحرة أخبارا مثلها لا يصح ، إذ جاء في بعضهم أنّ عددهم كان سبعين ألف ساحر ، والأقرب إلى أن يكونوا سبعين رجلا.

(٢) قرىء في السبع بهمزة الاستفهام أئن لنا لأجرا وقرىء بدونها (إِنَّ لَنا لَأَجْراً).

(٣) قال القرطبي : تأدّبوا مع موسى إذ استشاروه فيمن يبدأ بالإلقاء فنفعهم الله بأدبهم مع نبيّه فأسلموا وسعدوا برضوان الله تعالى.

(٤) في إذنه لهم بالإلقاء توفيق ربّاني عظيم إذ معناه أنه احتفظ بالضربة الأخيرة وصاحبها يغلب بإذن الله دائما.

(٥) أي : خيّلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية طلب الأجرة على العمل الذي يقوم به الإنسان خارجا عن نطاق العبادة.

٢ ـ مشروعية الترقيات الحكومية لذي الخدمة الجلى للدولة.

٣ ـ تأثير السحر على أعين الناس حقيقة بحيث يرون الشيء على خلاف ما هو عليه إذ العصي والحبال استحالت في أعين الناس إلى حيات وثعابين.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

شرح الكلمات :

(تَلْقَفُ) : تأخذ بسرعة فائقة وحذق عجيب.

(ما يَأْفِكُونَ) : ما يقلبون بسحرهم وتمويههم.

(فَوَقَعَ الْحَقُ) : ثبت وظهر.

(صاغِرِينَ) : ذليلين.

(ساجِدِينَ) : ساقطين على وجوههم سجدا لربهم رب العالمين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في المناظرة أو المباراة بين موسى عليه‌السلام وسحرة فرعون ، فبعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في الساحة وانقلبت بالتمويه السحري حيات وثعابين ورهب الناس من الموقف وظن فرعون وملأه أنهم غالبون أوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه فألقاها (فَإِذا هِيَ (١) تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي تأخذه وتبتلعه وبذلك وقع الحق أي ظهر وثبت

__________________

(١) قرىء (تَلْقَفُ) و (تلقّف) بتضعيف القاف ، والأصل : تتلقف فحذف احدى التاءين تخفيفا ، وقرىء في الشاذ : تلقّم بالميم بدل الفاء ، ومعنى الكلّ تبتلع بسرعة وتزدرده ، وصيغة المضارع في الفعلين لاستحضار الماضي كأنّه حاضر ليكون أوقع في النفس.

واستقر (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي السحر والتمويه وقوله تعالى (فَغُلِبُوا) أي فرعون وملأه وقومه (هُنالِكَ) أي في ساحة المباراة والمناظرة (وَانْقَلَبُوا) إلى ديارهم (صاغِرِينَ) أي ذليلين مهزومين. وقوله تعالى (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي إنهم بعد أن شاهدوا الآية الكبرى بهرتهم فخروا ساجدين كأنما ألقاهم (١) أحد على وجه الأرض لا حراك لهم وهم يقولون (٢) (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) وضمن ذلك فقد كفروا بربوبية فرعون الباطلة ، لأن الإيمان بالله سيلزم الكفر بما عداه ، ولذا قالوا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) تلويحا بكفرهم بفرعون الطاغية وبكل إله غير الله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنته تعالى في أن الحق والباطل إذا التقيا في أي ميدان فالغلبة للحق دائما.

٢ ـ بطلان السحر وعدم فلاح أهله ولقوله تعالى من سورة طه (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى).

٣ ـ فضل العلم وأنه سبب الهداية فإيمان السحرة كان ثمرة العلم ، إذ عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو آية له من الله فآمنوا.

٤ ـ مظهر من مظاهر القضاء والقدر فالسحرة أصبحوا كافرين وأمسوا مسلمين.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

__________________

(١) أي : ألقوا أنفسهم على الأرض ، وبني الفعل للمجهول لظهور الفاعل وهو أنفسهم.

(٢) (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) حال هو يهم للسجود إعلاما منهم أنهم ما سجدوا لفرعون كما يفعل الأقباط ، وإنّما سجدوا لله رب العالمين (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

شرح الكلمات :

(آمَنْتُمْ بِهِ) : أي صدقتموه فيما جاء به ودعا إليه.

(لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) : أي حيلة احتلتموها وتواطأتم مع موسى على ذلك.

(مِنْ خِلافٍ) : بأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس.

(ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) : التصليب : الشد على خشبة حتى الموت.

(مُنْقَلِبُونَ) : أي راجعون.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا) : أي وما تكره منا وتنكر علينا إلا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا.

(أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) : أي افض علينا صبرا قويا حتى نثبت على ما توعدنا فرعون من العذاب ولا نرتد بعد إيماننا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون ففي الآيات قبل هذه تمت المناظرة بين موسى والسحرة بنصر موسى عليه‌السلام وهزيمة فرعون النكراء حيث سحرته بعد ظهور الحق لهم واضحا مكشوفا آمنوا وأسلموا وسجدوا لله رب العالمين. وفي هذه الآيات يخبر تعالى عن محاكمة فرعون للسحرة فقال عز من قائل (قالَ فِرْعَوْنُ) أي للسحرة (آمَنْتُمْ (١) بِهِ) أي بموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي في الإيمان به ، وهي عبارة فيها رائحة الهزيمة والحمق ، وإلا فهل الإيمان يتأتى فيه الإذن وعدمه ، الإيمان إذعان باطني لا علاقه له بالإذن إلا من الله تعالى ، ثم قال لهم (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي إن هذا الذي قمتم به من ادعاء الغلب لموسى بعد ما اظهرتم الحماس في بداية المباراة ما هو إلا مكر وتدبير خفي تم بينكم وبين موسى في المدينة قبل الخروج إلى ساحة المباراة ، والهدف منه إخراجكم الناس (٢) من المدينة واستيلائكم عليها. ثم تهددهم وتوعدهم بقوله (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما أنا صانع بكم. وذكر ما عزم عليه فقال مقسما (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) يريد بقطع من كل واحد منهم يده اليمنى ورجله اليسرى ، ثم يربطهم على أخشاب في ساحة معينة ليموتوا كذلك نكالا وعبرة لغيرهم. هذا ما أعلنه فرعون وصرح به

__________________

(١) الاستفهام هنا للانكار والتهديد أي : ينكر على السحرة إيمانهم ويهددهم بالبطش بهم والتنكيل.

(٢) قد يكون المراد بعض الناس وهم بنوا اسرائيل إذ موسى جاء يطالب بهم ليخرج بهم إلى أرض القدس.

للسحرة المؤمنين فما كان جواب السحرة (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي راجعون فقتلك إيانا لم يزد على أن قربنا من ربنا وردنا إليه ونحن في شوق إلى لقاء ربنا ، وعليه فحكمك بقتلنا ما هو بضائرنا ، وشيء آخر هو أنك (ما تَنْقِمُ (١) مِنَّا) يا فرعون أي ما تكره منا ولا تنكر علينا إجراما أجرمناه أو فسادا في الأرض اشعناه إنما تنقم منا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا وهذا شيء لا مذمة فيه علينا ، ولا عارا يلحقنا ، فلذا (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) ثم أقبلوا على الله ورفعوا أيديهم إليه وقالوا ضارعين سائلين (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) حتى نتحمل العذاب في ذاتك (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (٢) ، ونفذ فرعون جريمته (٣) ولكن أحدث ذلك اضطرابا في البلاد ولم يكن فرعون ولا ملأه يتوقعون دل عليه الآيات التالية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القلوب المظلمة بالكفر والجرائم أصحابها لا يتورعون عن الكذب واتهام الأبرياء.

٢ ـ فضيلة الاسترجاع أن يقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) حيث فزع إليها السحرة لما هددهم فرعون إذ قالوا (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي راجعون فهان عليهم ما تهددوا به.

٣ ـ مشروعية سؤال الصبر على البلاء للثبات على الإيمان.

٤ ـ فضل الوفاة على الإسلام وأنه مطلب عال لأهل الإيمان.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ

__________________

(١) يقال : نقم ينقم من باب ضرب ، نقما ونقما على أنه من باب تعب تعبا إذا أنكر الفعل وكره صدوره وحقد على فاعله ، ويكون بالقول والفعل.

(٢) كلمة الإسلام معروفة في كل زمان ومكان بين المؤمنين ويعبر عنها كل قوم بلغتهم إذ معناها الانقياد لله مع حبّه تعالى وتعظيمه والشوق إليه.

(٣) لم يرد في القرآن ما يدل على أنّ فرعون نفّد وعيده في السحرة أو لم ينفذه ، وعدم ذكر القرآن له لأنه خال من الفائدة ، وذكر القرطبي بصيغة التمريض فقال : قيل إنّ فرعون أخذ السحرة وقطعهم على شاطىء النهر وأنّه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف والله أعلم.

اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))

شرح الكلمات :

(قالَ الْمَلَأُ) : أي لفرعون.

(أَتَذَرُ) : أي أتترك.

(وَقَوْمَهُ) : أي بني إسرائيل.

(لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : أي في البلاد بالدعوة إلى مخالفتك ، وترك طاعتك.

(وَآلِهَتَكَ) : أصناما صغارا وضعها ليعبدها الناس وقال أنا ربكم الأعلى وربها.

(نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : نبقي على نسائهم لا تذبحهن كما تذبح الأطفال الذكور.

(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي يجعلكم خلفاء فيها تخلفون الظالمين بعد هلاكهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون انه بعد انتصار موسى في المباراة وإيمان السحرة ظهر أمر موسى واتبعه ستمائة ألف من بني إسرائيل ، وخاف قوم فرعون من إيمان الناس بموسى وبما جاء به من الحق قالوا لفرعون على وجه التحريض والتحريك له (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ) يريدون بني إسرائيل (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر بإفساد خدمك (١) وعبيدك (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (٢) أي ويتركك فلا يخدمك ولا يطيعك ويترك آلهتك فلا

__________________

(١) وإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل أيضا.

(٢) وقرىء وإلهتك أي : عبادتك وعلى هذا فإنه كان يعبد ولا يعبد والوجه الأوّل أظهر.

يعبدها إذ كان لفرعون أصنام يدعو الناس لعبادتها لتقربهم إليه وهو الرب الأعلى للكل. وبعد هذا التحريش والإغراء من رجال فرعون ليبطش بموسى وقومه قال فرعون (سَنُقَتِّلُ (١) أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) كما كان يفعل قبل عند ما أخبر بأن سقوط ملكه سيكون على يد بني إسرائيل (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) هذه الكلمة من فرعون في هذا الظرف بالذات لا تعد وأن تكون تعويضا عما فقد من جبروت ورهبوت كان له قبل هزيمته في المباراة وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٢٧) وهي قوله تعالى (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ : أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ. قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) وكان رد موسى عليه‌السلام على هذا التهديد والوعيد الذي أرعب بني إسرائيل وأخافهم ما جاء في الآية الثانية (١٢٨) (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي من بني إسرائيل (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) على ما قد ينالكم من ظلم فرعون ، وما قد يصيبكم من أذى انتقاما لما فقد من علوه وكبريائه (وَاصْبِرُوا) على ذلك ، واعلموا (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فمتى صبرتم على ما يصيبكم فلم تجزعوا فترتدوا ، واتقيتم الله ربكم فلم تتركوا طاعته وطاعة رسوله أهلك عدوكم وأورثكم أرضه ودياره ، وسبحان الله هذا الذي ذكره موسى لبني إسرائيل قد تم حرفيا بعد فترة صبر فيها بنو إسرائيل واتقوا كما سيأتي في هذا السياق بعد كذا آية ، وهنا قال بنو إسرائيل ما تضمنته الآية الأخيرة (١٢٩) (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) بما أتيتنا به من الدين والآيات ، وذلك عند ما كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم للخدمة (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) وهذه منهم كلمة الآيس المهزوم نفسيا لطول ما عانوا من الاضطهاد والعذاب من فرعون وقومه الأقباط. فأجابهم موسى عليه‌السلام قائلا : محييا الأمل في نفوسهم وإيصالهم بقوة الله التى لا تقهر (عَسى (٢) رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ (٣) تَعْمَلُونَ) وهذا الذي رجاه موسى ورجاه بني إسرائيل قد تم كاملا بلا نقصان والحمد لله الكريم المنان.

__________________

(١) آنس قومه بهذه الجملة من الكلام وأذهب عنهم روح الهزيمة ، ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه ولما أصابه من الرّعب منه حتى قيل : إنه كان إذا رآه يبول من شدّة الخوف منه وهي آية موسى عليه‌السلام.

(٢) عسى من الله واجب أي ليست للرجاء فقط بل ما يذكر معها يقع لا بدّ ولا يتخلّف ، ولذا قد تحقق ما ذكر معها هنا كاملا لا نقص فيه.

(٣) (كَيْفَ) : ليست للاستفهام هنا وإنّما هي دالة على مجرّد كيفية أعمالهم هل هي أعمال صالحة أو فاسدة أي : هل يشكرون؟

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ خطر بطانة السوء على الملوك والرؤساء تجلت في إثارة فرعون ودفعه إلى البطش بقولهم (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ...) الخ.

٢ ـ بيان فضيلة الصبر والتقوى وأنها مفتاح النصر وإكسير الكمال البشري.

٣ ـ النفوس المريضة علاجها عسير ولكن بالصبر والمثابرة تشفى إن شاء الله تعالى.

٤ ـ بيان صدق ما رجاه موسى من ربه حيث تحقق بحذافيره.

٥ ـ استحسان رفع معنويات المؤمنين بذكر حسن العاقبة والتبشير بوعد الله لأوليائه أهل الإيمان والتقوى.

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

شرح الكلمات :

(أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) (١) : أي عاقبناهم بسنيى الجدب والقحط.

__________________

(١) يقال : أصابتهم سنة أي : جدب وتقديره : جدب سنة وفي الحديث : (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) دعاء على قريش.

(وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) : بالجوائح تصيبها ، وبعدم صلاحيتها.

(الْحَسَنَةُ) : ما يحسن من خصب ورخاء وكثرة رزق وعافية.

(سَيِّئَةٌ) : ضد الحسنة وهي الجدب والغلاء والمرض.

(يَطَّيَّرُوا بِمُوسى) (١) : أي يتشاءمون بموسى وقومه.

(الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ) : الطوفان الفيضانات المغرقة ، والجراد معروف بأكل الزرع والثمار ، والقمل جائز أن يكون القمل المعروف وجائز أن يكون السوس في الحبوب ، والضفادع جمع ضفدعة. حيوان يوجد في المياه والمستنقعات.

(وَالدَّمَ) : والدم معروف قد يكون دم رعاف أو نزيف ، أو تحول الماء ماء الشرب الى دم عبيط في أوانيهم وأفواههم آية لموسى عليه‌السلام.

(فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) : حيث لم يؤمنوا بهذه الآيات. أي مفسدين حيث حكم بإهلاكهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص موسى مع آل فرعون انه لما شاهد فرعون وآله آية العصا وانهزام السحر أمامهم وإيمان السحرة حملهم الكبر على مواصلة الكفر والعناد فأصابهم الرب تعالى بجفاف وقحط سنوات لعلهم يذكرون ، ولم يذكروا فحول الله تعالى جدبهم الى خصب ، وبلاءهم إلى عافية فلم يرجعوا وقالوا في الرخاء هذه لنا نحن مستحقوها وجديرون بها ، وقالوا في القحط والبلاء قالوا هذه من شؤم موسى وبني إسرائيل ، قال تعالى (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) وذلك لأنه مدبر الأمر وخالق كل شيء وجاعل للحسنة أسبابها وللسيئة أسبابها ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك قالوا اطيرنا بموسى ومن معه وأصروا على الكفر ولجوا في المكابرة والعناد حتى قالوا لموسى (مَهْما) (٢) (تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ

__________________

(١) أصل الكلمة : يتطيّروا فأدغمت التاء في الطاء لأنّ مخرجهما واحد ، والطير والتطير مأخوذ من زجر الطير. إذ كانوا إذا أرادوا عملا ما سفرا ونحوه يزجرون الطير فإن تيامن في طيرانه أقدموا على العمل ، وإن تشاءم تركوا فهذا أصل اليمن والشؤم كان في الجاهلية وأبطله الإسلام. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الطيرة شرك ثلاثا) وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل وعلمهم أن يقولوا : (اللهم لا طير إلّا طيرك ولا خير إلّا خيرك ولا إله غيرك).

(٢) أصل مهما : ما. ما الأولى شرطية والثانية زائدة توكيدا للجزاء فكرهوا حرفين من جنس واحد متجاورين فأبدلوا الألف هاء فصلت بين الميمين.

لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) ولو علموا ما أصروا على الكفر ولما قالوا ما قالوا فأسباب الحسنة الإيمان والتقوى ، وأسباب السيئة الكفر والمعاصي ، إذ المراد بالحسنة والسيئة هنا : الخير والشر. وهنا وبعد هذا الإصرار والعناد والمكابرة رفع موسى يديه إلى ربه يدعوه فقال : يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغا وعتا ، وأن قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ، ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية ، فاستجاب الله تعالى دعاءه فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع (١) والدم فأخذهم الطوفان أولا فكادوا يهلكون بالغرق فجاءوا موسى وطلبوا منه أن يدعو ربه ليرفع عنهم هذا العذاب فإن رفعه عنهم آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فدعا ربه واستجاب الله تعالى فأخذوا شهرا في عافية فطلب منهم موسى ما وعدوه به فتنكروا لوعدهم وأصروا على كفرهم فأرسل الله تعالى عليهم الجراد (٢) فأكل زروعهم وأشجارهم وثمارهم حتى ضجوا وصاحوا وأتوا موسى وأعطوه وعودهم إن رفع الله عنهم هذا العذاب آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فرفع الله عنهم ذلك فلبثوا مدة آمنين من هذه العاهة وطالبهم موسى بوعدهم فتنكروا له ، وهكذا حتى تمت الآيات الخمس مفصلات ما بين كل آية وأخرى مدة تقصر وتطول فاستكبروا عن الإيمان والطاعة وكانوا قوما مجرمين مفسدين لا خير فيهم ولا عهد لهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من تدبير الله تعالى أخذه عباده بالشدائد لعلهم يذكرون فيتعظون ويتوبون.

٢ ـ بطلان التطير مطلقا ، وإنما الشؤم في المعاصي بمخالفة شرع الله فيترتب على الفسق والعصيان البلاء والعذاب.

٣ ـ الجهل سبب الكفر والمعاصي وسوء الأخلاق وفساد الأحوال.

٤ ـ عدم إيمان آل فرعون مع توارد الآيات عليهم دال على أن إيمانهم لم يسبق به القدر.

كما هو دال على أن الآيات المعجزات لا تستلزم الإيمان بالضرورة.

٥ ـ التنديد بالإجرام وهو إفساد النفس بالشرك والمعاصي.

__________________

(١) صح النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عن قتل الصّرد والضفدع والنملة والهدهد) من رواية أبي داود وأحمد وابن ماجه.

(٢) اختلف في قتل الجراد ، وأجمعوا أنه إذا أفسد جاز قتله. وأجمعوا على جواز أكله بأكل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه هو وأصحابه في بعض الغزوات.

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧))

شرح الكلمات :

(الرِّجْزُ) : العذاب وهو الخمسة المذكورة في آية (١٣٣) الآنفة الذكر.

(إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) : المراد من الأجل أنهم كانوا إذا سألوا موسى أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب ويعدونه بالإيمان وإرسال بني إسرائيل معه فيرفع الله عنهم العذاب فيمكثون زمنا ثم يطالبهم موسى بالإيمان وإرسال بني إسرائيل فيأبون عليه ذلك وينكثون عهدهم.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) : أي أنزلنا بهم نقمتنا فأغرقناهم في اليم الذي هو البحر.

(الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) : هم بنو إسرائيل.

(مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) : هي أرض مصر والشام.

(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) : هي وعده تعالى لهم في قوله (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ـ من سورة القصص ـ.

(وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١) : أي يرفعون من مباني الدور والقصور العالية.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون وقومه ، وهذه هي الآيات الأخيرة في هذا القصص. إنه لما وقع عليهم الرجز وهو العذاب المفصل (٢) الطوفان فالجراد ، فالقمل ، فالضفادع ، فالدم (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) (٣) أي من كشف العذاب عنا إن نحن آمنا بك وبما جئت به وبما تطالب به من إرسال بني إسرائيل معك وحلفوا وقالوا (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) أي العذاب (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) إلى وقت ينتهون إليه (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٤) عهودهم ولم يؤمنوا ولم يرسلوا بني إسرائيل وكان هذا ما بين كل آية وآية حتى كانت الخمس الآيات ، ودقت ساعة هلاكهم قال تعالى (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) وهو البحر الملح أي أغرق فرعون وجنده ورجال دولته وأشراف بلاده ، ثم ذكر تعالى علة هذا الهلاك الذي حاق بهم ليكون عبرة لغيرهم وخاصة قريش التي ما زالت مصرة على الشرك والتكذيب ، فقال تعالى (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) كما هي الحال في

__________________

(١) (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) الباء لتعدية فعل الدعاء ، وما موصولة مبهم أي : ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عنده ليكشف عنا الرّجز.

(٢) أصل النكث : هو نقض المفتول من حبل وغزل واستعير لعدم الوفاء بالعهد.

(٣) شبّه البناء العالي الرفيع بالعرش يقال : عرش يعرش عرشا : إذا رفع البناء أو السرير والعنب والدوالي يعرش لها بناء من خشب ليرفعها عليه.

(٤) وقيل إنه طاعون قتل منهم سبعين ألف نسمة إذ لفظ الرجز دالّ على مرض الطاعون لقوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

قريش ومشركي العرب وكفارهم. وختم تعالى هذا القصص قصص موسى مع فرعون بقوله (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) وهم بنو إسرائيل حيث استعبدهم فرعون الظالم وآله زمنا غير قصير (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (١) وهي أرض مصر والشام إذ الكل مما بارك الله تعالى فيه إلا أن أرض الشام أولا ثم أرض مصر ثانيا ، إذ دخل بنو إسرائيل أرض فلسطين بعد وفاة موسى وهارون حيث غزا بهم يوشع بن نون العمالقة في أرض فلسطين وفتح البلاد وسكنها بنو إسرائيل وقوله تعالى (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) والمراد من كلمة الله قوله في سورة القصص (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) وقوله تعالى (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من سلاح وعتاد ومبان شداد ، وقصور رفيعة البنيان ، (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) ويرفعون ويعلون من صروح عالية ، وحدائق أعناب زاهية زاهرة وأورث أرضهم وديارهم وأموالهم قوما آخرين غيرهم ، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. إلى هنا انتهى قصص موسى عليه‌السلام مع فرعون وملائه وكانت العاقبة له والحمد لله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ضعف الإنسان يظهر عند نزول البلاء به حيث يفزع إلى الله تعالى يدعوه ويضرع إليه وعند رفعه حيث ينسى ما نزل به ويعود إلى عاداته وما كان عليه من الشرك والمعاصي إلا من آمن وعمل صالحا فإنه يخرج من دائرة الضعف حيث يصبر عند البلاء ويشكر عند النعماء.

٢ ـ سبب العذاب في الدنيا والآخرة التكذيب بآيات الله بعدم الإيمان والعمل بها ، والغفلة عنها حيث لا يتدبّر ولا يفكر فيها وفي ما نزلت لأجله.

٣ ـ مظاهر قدرة الله ، وصادق وعده ، وعظيم منته على خلقه ، وحسن تدبيره فيهم فسبحانه من إله عليم حكيم. رؤوف رحيم.

__________________

(١) كما يصدق هذا على أرض الشام إذ لها مشارق ومغارب ، ومن بينها الأرض المقدّسة أرض فلسطين يصدق أيضا على أرض مصر وغيرها إذ مملكة بني اسرائيل على عهد سليمان كانت قد انتظمت المعمورة كلّها.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

شرح الكلمات :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) : أي قطعنا بهم فاجتازوه إلى ساحله.

(يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) : يجلسون إلى تماثيل بقر منحوتة من حجر.

(اجْعَلْ لَنا إِلهاً) : أي معبودا يريدون تمثالا كالذي شاهدوا.

(تَجْهَلُونَ) : أي أنّ العبادة لا تكون إلا لله تعالى.

(مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) : هالك خاسر لا يكسبهم خيرا ولا يدفع عنهم شرا.

وإذ نجيناكم : أي واذكروا نعم الله عليكم بإنجائه إياكم من آل فرعون.

(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) : يوردونكم موارد الردى والهلاك بما يصيبونكم به من عذاب.

(بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي اختبار وامتحان قاس شديد.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص جديد لنبي الله تعالى موسى مع قومه من بني إسرائيل إنه بعد هلاك فرعون وجنوده في اليم ، انتهى الكلام على دعوة موسى لفرعون وملئه ، وبذلك استقبل موسى وأخوه هارون مشاكل جديدة مع قومهما انه بعد أن جاوز تعالى ببني إسرائيل البحر

ونزلوا على شاطئه سالمين مرّوا بأناس يعكفون (١) على تماثيل لهم وهي عبارة عن أبقار حجرية منحوتة نحتا يعبدونها وهم عاكفون عليها وما إن رأى بنو إسرائيل هؤلاء العاكفين على الأصنام حتى قالوا لموسى يا موسى اجعل لنا إلها كما لهؤلاء آلهة ، وهي كلمة دالة على جهل بالله تعالى وآياته ،. فما كان من موسى عليه‌السلام حتى جابههم بقوله : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وواصل تأنيبه لهم وإنكاره الشديد عليهم فقال (إِنَّ هؤُلاءِ) أي العاكفين على الأصنام والذين غرتكم حالهم (مُتَبَّرٌ (٢) ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنهم وما هم عليه من حال في هلاك وخسار ، ثم قال لهم منكرا متعجبا (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) أي غير ربي عزوجل أطلب لكم إلها تعبدونه دون الله ما لكم أين يذهب بعقولكم ، وهو سبحانه وتعالى فضلكم على العالمين وشرفكم على سائر سكان المعمورة (٣) أهكذا يكون شكركم له بطلب إله غيره ، وهل هناك من يستحق العبادة غيره؟ وقوله تعالى في الآية الأخيرة (١٤١) (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ (٤) مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي واذكروا يا من قلتم اجعل لنا إلها كما للمشركين آلهة اذكروا فضل الله عليكم بإنجائه إياكم من فرعون وآله وهم الذين كانوا على منهجه في الظلم والكفر من رجال حكمه وأفراد شرطه وجيوشه (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ : يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) حتى لا تكثروا ، (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) للامتهان والخدمة ، وفي هذا التعذيب والإنجاء منه (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) يتطلب شكركم لا كفركم ، فكيف تريدون أن تعبدوا غيره ، وتشركوا به أصناما لا تنفع ولا تضر ، إن أمركم لجد مستغرب وعجب فاتقوا الله وتوبوا إليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ طلب بني إسرائيل من موسى عليه‌السلام أن يجعل لهم إلها يعبدونه دال على جهل

__________________

(١) قرىء يعكفون بكسر الكاف وضمها سبعيتان ، والعكوف : الإقامة على الشيء وملازمته ، ومنه العكوف في المساجد وهو الإقامة بها وملازمتها مدّة للعبادة.

(٢) (مُتَبَّرٌ) : مهلك ، والتبار : الهلاك ، وكل إناء منكسر فهو متبّر.

(٣) هذا التفضيل خاص بزمانهم الذي كانوا فيه مع أنبيائهم وهم صالحون.

(٤) بعد أن أنكر عليهم طلبهم إلها غير الله في قوله (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) ذكرهم بنعمة الله عليهم وهي : إنجاؤهم من آل فرعون فهل يليق بمن ينعم الله عليه بنعمة عظيمة أن ينساه ويطلب إلها غيره يعبده بدله أو معه؟

تام في بني إسرائيل ولذا قال لهم موسى (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) فالعلة في هذا الطلب العجيب هي الجهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته ، يشهد لهذا أن مسلمة الفتح لما خرج بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حنين مروا بسدرة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجعلها لنا ذات أنواط ننيط بها أسلحتنا ، كما للمشركين نظيرها ينيطون بها أسلحتهم لينتصروا في القتال على أعدائهم فعجب الرسول من قولهم وقال «سبحان الله ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» فجهل القائلين هو الذي سهل عليهم أن يقولوا مثل هذا القول ، ويشهد لذلك أن آلاف الأشجار والمزارات في بلاد المسلمين تزار ويتبرك بها وتقدم لها القرابين ولا علة لذلك سوى جهل المسلمين بربهم عزوجل.

٢ ـ إنكار المنكر عند وجوده والعثور عليه بالأسلوب الذي يغيره.

٣ ـ استحباب التذكير بأيام الله خيرها وشرها لاستجلاب الموعظة للناس لعلهم يتوبون.

٤ ـ الرب تعالى يبتلى بالخير والغير ، وفي كل ذلك خير لمن صبر وشكر.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا

لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥))

شرح الكلمات :

(مِيقاتُ) : الميقات : الوقت المعين.

(اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) : أي كن خليفتي فيهم.

(الْمُفْسِدِينَ) : الذين يعملون بالمعاصي.

(اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) : ثبت ولم يتحول.

(خَرَّ) : سقط على الأرض.

(أَفاقَ) : ذهب عنه الإغماء وعاد إليه (١) وعيه.

(اصْطَفَيْتُكَ) : أخترتك

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر أحداث موسى مع بني إسرائيل انه لما نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملئه ، وحدثت حادثة طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلها كما للمشركين إلها وقد أنبأهم موسى وأدبهم عن قولهم الباطل واعد الله تعالى موسى أن يناجيه بجبل الطور وجعل له الموعد الذي يلقاه فيه شهرا ثلاثين يوما وكانت شهر القعدة وزادها عشرا من أول الحجة فتم الميقات أربعين (٢) ليلة. وعند خروجه عليه‌السلام استخلف في بني اسرائيل أخاه هارون (٣) وأوصاه بالإصلاح ، ونهاه عن اتباع آراء المفسدين هذا معنى قوله تعالى (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) وكان

__________________

(١) في الحديث الصحيح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور.»

(٢) ذكر ابن عباس ومجاهد ومسروق في سبب زيادة العشرة أيام : أن موسى لمّا أكمل صيام الثلاثين يوما أنكر خلوف فمه فاستاك. فقالت له الملائكة : إنّا كنّا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيد فيه عشر ليال فتم له بذلك أربعون يوما. في الحديث الصحيح خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).

(٣) في الآية دليل على استخلاف المرأ أخاه لينوب عنه في حفظ ورعاية ما كلّفه به ، ومن العجب أن الروافض استدلوا بقول ـ

ذلك من أجل أن يأتي بني إسرائيل بكتاب من ربهم يتضمن شريعة كاملة يساسون بها وتحكمهم ليكملوا ويسعدوا عليها.

وقوله تعالى (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) (١) أي في الموعد الذي واعدنا والوقت الذي حددنا وكلمه ربه بلا واسطة بينهما بل كان يسمع كلامه ولا يرى ذاته ، تاقت نفس موسى لرؤية ربه تعالى ، فطلب ذلك فقال (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فأجابه ربه تعالى بقوله إنك لن تراني أي رؤيتك لي غير ممكنة لك ، ولكن إذا أردت أن تتأكد من أن رؤيتك لي في هذه الحياة غير ممكنة فانظر إلى الجبل «جبل الطور» فإن استقر مكانه بعد أن أتجلى له ، فسوف تراني (فَلَمَّا تَجَلَّى (٢) رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى) عند رؤية الجبل (صَعِقاً) أي مغشيا عليه (فَلَمَّا أَفاقَ) مما اعتراه من الصعق (قالَ سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك وتقديسا (تُبْتُ إِلَيْكَ) (٣) فلم أسألك بعد مثل هذا السؤال (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بك وبجلالك وعظيم سلطانك وأنا عبدك عاجز عن رؤيتك في هذه الدار دار التكليف والعمل.

وهنا أجابه ربه تعالى قائلا (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) من هذا الكمال (٤) والخير العظيم (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لي على إنعامي لأزيدك وذلك بطاعتي والتقرب إلى بفعل محابي وترك مكارهي. وقوله تعالى (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ (٥) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي كتبنا له في ألواحه من كل شيء

__________________

ـ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي وقد استخلفه في إحدى عزواته : (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي) أنّ الأصحاب كفروا لتركهم النّص في خلافة علي واجتهدوا واستخلفوا أبا بكر ، ومنهم من كفّر عليا لأنه لم يطالب بالخلافة وما دروا أنّ الرسول استخلف غير واحد ومنهم ابن أمّ مكتوم فهل دلّ ذلك على استخلافه على أمته بعد موته؟ فما أضلّ القوم وأعظم جهلهم!

(١) في الآية دليل على مشروعية الموادعة والتوقيت وأن التاريخ يكون باللّيالي لا بالأيام ، قال ابن العربي : حساب الشمس للمنافع وحساب القمر للمناسك.

(٢) تجلّى معناه ظهر ، واندكاك الجبل على قوة بنيته وعظيم جسمه كان لعجزه عن رؤية الربّ تبارك وتعالى وهذا كقوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

(٣) الإجماع على أنّ توبة موسى هذه لم تكن من ذنب وإنما هي بمعنى الإنابة إلى الله تعالى وعدم طلب مثل هذا الذي طلب.

(٤) فيه الدعوة إلى القناعة وهي خير ما يؤتى المرء في الحياة.

(٥) اختلف في أيهما كان أوّلا الألواح أو التوراة ، والظاهر أنّ الألواح كانت أوّلا ثم أوحيت التوراة عليها فصارت كتابا واحدا هو التوراة.

من أمور الدين والدنيا موعظة لقومه من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وتفصيلا لكل شيء يحتاجون إلى بيانه وتفصيله. وقوله (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي وقلنا له خذها بقوة أي بعزم وجد وذلك بالعمل بحلالها وحرامها فعلا وتركا ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) أيضا (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي بما هو عزائم فيها وليس برخص تربية لهم وتعويدا لهم على تحمل العظائم لما لازمهم من الضعف والخور دهرا طويلا. وقوله تعالى (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١) يتضمن النهي لبني إسرائيل عن ترك ما جاء في الألواح من الشرائع والأحكام فإنهم متى تركوا ذلك أو شيئا منه يعتبرون فاسقين ، وللفاسقين نار جهنم هي جزاؤهم يوم يلقون ربهم ، وسيريهم إياها ، فهذه الجملة تحمل غاية الوعيد والتهديد للذين يفسقون عن شرائع الله تعالى بإهمالها وعدم العمل بها ، فليحذر المؤمنون هذا فإنه أمر عظيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ المحافظة على المواعيد أمر محبوب للشارع مرغب فيه وهو من سمات الصادقين.

٢ ـ جواز الاستخلاف في الأرض في مهام الأمور فضلا عما هو دون ذلك.

٣ ـ مشروعية الوصية للخلفاء بما هو خير.

٤ ـ امكان رؤية الله تعالى وهي ثابتة في الآخرة لأهل الجنة.

٥ ـ استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا لضعف الإنسان على ذلك.

٦ ـ وجود الامة القابلة لأحكام الله قبل وجود الشرع الذي يحكمها.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا

__________________

(١) وجائز أن يراد بدار الفاسقين : بلاد القدس والشام إذ سكانها كانوا فاسقين فواعد الله بني اسرائيل بدحول تلك البلاد والانتصار على أهلها الفاسقين.

وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

شرح الكلمات :

(سَأَصْرِفُ) : سأبعد.

(يَتَكَبَّرُونَ) : يعلون ويترفعون فيمنعون الحقوق ويحتقرون الناس.

(سَبِيلَ الرُّشْدِ) : طريق الحق القائم على الإيمان والتقوى.

(سَبِيلَ الغَيِ) : طريق الضلال القائم على الشرك والمعاصي.

(وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) : لا يلتفتون إليها ولا ينظرون فيها ولا يتفكرون فيما تدل عليه وتهدي إليه.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : فسدت فلا ينتفعون بها لأنها أعمال مشرك والشرك محبط للعمل.

معنى الآيتين الكريمتين :

هاتان الآيتان تحملان تعليلا صحيحا صائبا لكل انحراف وفساد وظلم وشر وقع في الأرض ويقع إلى نهاية هذه الحياة وهذا التعليل الصحيح هو التكذيب بآيات الله والغفلة عنها ، وسواء كان الحامل على التكذيب الكبر أو الظلم ، أو التقليد أو العناد ، إلا أن الكبر أقوى عوامل الصرف عن آيات الله تعالى لقوله عزوجل في مطلع الآية الأولى (١٤٦) (سَأَصْرِفُ (١) عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ومن صرفه الله حسب سنته في صرف العباد لا يقبل ولا يرجع أبدا ، وقوله (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ (٢) لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) هذا بيان لعامل من عوامل الصرف عن آيات الله. وهو أن يعرض على العبد سبيل الرشد فيرفضه ، ويرى سبيل الغي فيتبعه ويتخذه سبيلا ،

__________________

(١) قال قتادة : سأمنعهم فهم كتابي وقال سفيان : سأصرفهم عن الإيمان بها وذلك مجازاة لهم على تكبّرهم ، وما ذكرناه في التفسير لا يتنافى مع هذا.

(٢) (الرُّشْدِ) : ضد السفه والخيبة وقرىء بالضم وقرىء بفتح الراء والشين الرّشد ، وقرىء يروا بضم الياء.

وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) التي جاءت بها رسلنا (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) غير مبالين بها ولا ملتفتين (١) اليها هذا هو التعليل الصحيح الذي نبهنا إليه فليتأمل ، وقوله تعالى في الآية الثانية (١٤٧) (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا (٢) وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) تقرير المراد به تأكيد خسران أولئك المصروفين عن آيات الله تعالى ، إذ أعمالهم لم تقم على أساس العدل والحق بل قامت على أساس الظلم والباطل فلذا هي باطلة من جهة فلا تكسبهم خيرا ، ومن جهة أخرى فهي أعمال سوء سوف يجزون بها سوءا في دار الجزاء وهو عذاب الجحيم ، ولذا قال تعالى (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من السوء ، وعدالة الله تعالى أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في صرف العباد عن آيات الله حتى يهلكوا كما هلك فرعون وآله.

٢ ـ من أقوى عوامل الصرف عن آيات الله الكبر.

٣ ـ التكذيب بآيات الله والغفلة عنها هما سبب كل ضلال وشر وظلم وفساد.

٤ ـ بطلان كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد التي هي سبيل الله التي تحدد الآيات القرآنية وتبين معالمها ، وترفع أعلامها.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا

__________________

(١) مع ما تحمله من الوعد والوعيد ، وبيان الهدى والضلال ، والخير والشر والحق والباطل فغفلتهم الناشئة عن مرض قلوبهم بسبب الكبر والتكذيب هي التي حالت دون تذكرهم وتدبّرهم.

(٢) الآيات في الآية السابقة عامة في المعجزات الكونية في الأنفس والآفاق ، والتنزيلة القرآنية ، وفي هذه الآية المراد بها : القرآنية بقرينة التكذيب بها وبيوم القيامة.

رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩))

شرح الكلمات :

(مِنْ حُلِيِّهِمْ) : جمع حلى (١) وهو ما تتحلى به المرأة لزوجها من أساور ونحوها من ذهب.

(عِجْلاً جَسَداً) : العجل ولد البقرة والجسد أي ذاتا لا مجرد صورة على ورق أو جدار.

(لَهُ خُوارٌ) : الخوار صوت البقر كالرغاء (٢) صوت الابل.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) : أي ندموا على عبادته لأنها عبادة باطلة.

معنى الآيات :

هذا عود إلى قصص موسى عليه‌السلام مع قومه من بني إسرائيل ، فقد كان السياق مع موسى في جبل الطور وطلبه الرؤية وتوبته من ذلك ثم اعترض السياق ببيان القاعدة العظيمة في تعليل هلاك العباد وبيان سببه وهو التكذيب بآيات الله المنزلة والغفلة عنها ، ثم عاد السياق لقصص موسى مع بني إسرائيل فقال تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد غيبته في جبل الطور لمناجاة ربه وليأتي بالكتاب الحاوي للشريعة التي سيسوسهم بها موسى ويحكمهم بموجبها ومقتضى قوانينها اتخذوا (مِنْ حُلِيِّهِمْ) أي حلي نسائهم (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (٣) وذلك أن السامري (٤) طلب من نسائهم حليهم بحجة واهية : أن هذا الحلي مستعار من نساء الأقباط ولا يحل تملكه فاحتال عليهم وكان صائغا فصهره وأخرج لهم منه (عِجْلاً (٥) جَسَداً) أي ذاتا (لَهُ خُوارٌ) أي صوت كصوت البقر ، وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه ولم يقل وإله هارون لأن هارون كان معهم خليفة

__________________

(١) الحلي : يجمع على حليّ وحلي كثدي يجمع على ثدي بضم الثاء وثدي بكسرها.

(٢) والثغاء : صوت الشاة ، والمواء : صوت القط ، والعواء : صوت الذئب ، واليعار : صوت المعز.

(٣) الخوار : صوت العجل ، والجؤار : مثله ، وفعل الخوار خار يخور خوارا ، وفعل الجؤار جأر يجأر جؤرا ، وأما خور يخور خورا فعمناه : جبن وضعف.

(٤) نسبة إلى قرية تسمى : سامرة ، واسمه : موسى بن ظفر ، ولد عام قتل الأبناء كموسى عليه‌السلام.

(٥) العجل ولد البقرة كالحوار : ولد الناقة والمهر : ولد الفرس ، والجحش : ولد الأتان والحمل : ولد الشاة ، والجسد : الجثة.

فخاف أن يكذبه هارون فلم ينسبه إليه ، وقوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ (١) وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) توبيخ لهم وتقريع على غباوتهم وجهلهم ، وإلا كيف يعتقدون إلها وهو لا يتكلم فيكلمهم ولا يعقل فيهديهم سبيل الرشد إن ضلوا وقد ضلوا بالفعل ثم قال تعالى (اتَّخَذُوهُ) أي إلها (وَكانُوا ظالِمِينَ) في ذلك ، لأن الله رب موسى وهارون والعالمين لم يكن عجلا ولا مخلوقا كائنا من كان فما أجهل القوم وما أسوأ فهمهم وحالهم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٤٨) وأما الآية الثانية (١٤٩) فقد أخبر تعالى عن حالهم بعد انكشاف الامر لهم ، وبيان خطئهم فقال تعالى (وَلَمَّا سُقِطَ (٢) فِي أَيْدِيهِمْ) أي ندموا ندما شديدا ورأوا أنهم بشركهم هذا قد ضلوا الطريق الحق والرشد ، صاحوا معلنين توبتهم (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ (٣) لَنا) أي هذا الذنب العظيم (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) في الدار الآخرة فنكون من أصحاب الجحيم.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان سنة من سنن الكون وهي أن المرء يتأثر بما يرى ويسمع ، والرؤية أكثر تأثيرا في النفس من السماع فإن بني إسرائيل رؤيتهم للأبقار الآلهة التي مروا بأهل قرية يعكفون عليها وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها مثلها هو الذي جعلهم يقبلون عجل السامري الذي صنعه لهم ، ومن هذا كان منظر الأشياء في التلفاز وشاشات الفيديو مؤثرا جدا وكم أفسد من عقول ولوث من نفوس ، وأفسد من أخلاق.

٢ ـ تقبيح الغباء والجمود في الفكر ، وذلك لقول الله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ).

٣ ـ إذا أراد الله بعبده خيرا ألهمه التوبة بعد المعصية فندم واستغفر.

__________________

(١) إذ الربّ وهو المربي والمصلح والمعبود المشرّع للعبادت يجب أن يكون متكلّما يهديهم سبل كمالهم وسعادتهم.

(٢) سقط بضم السين ، وأسقط بضم الهمزة بالبناء للمفعول ، يقال للنادم المتحيّر : سقط في يده وأسقط في يده ، وقرىء : سقط بالبناء للفاعل ، أي : سقط الندم في يده ، والندم يكون في القلب ، وإنما ذكروا اليد هنا تشبيها بمن سقط شيء في يده وهو مثل : عضّ يده من الندم.

(٣) أي : عادوا إلى الحق فتضرعوا إلى الله تعالى ودعوه معترفين بخطئهم مستغفرين ربّهم رجاء أن ينجيهم من الخسران.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى) : أي من جبل الطور بعد مرور أكثر من أربعين يوما.

(أَسِفاً) : أي حزينا شديد الحزن والغضب.

(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) : أي استعجلتم.

(بِرَأْسِ أَخِيهِ) : أي هارون شقيقه.

(قالَ ابْنَ أُمَ) : أصلها يا ابن أمي فقلبت الياء ألفا نحو يا غلاما ، ثم حذفت وهارون شقيق موسى وإنما ناداه بأمه لأنه أكثر عطفا وحنانا.

(فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) : أي لا تجعل الأعداء يفرحون يإهانتك أو ضربك لي.

(اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) : أي إلها عبدوه.

(الْمُفْتَرِينَ) : الكاذبين على الله تعالى بالشرك به أي يجعل شريك له.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) : زال غضبه وسكنت نفسه من القلق والاضطراب.

(أَخَذَ الْأَلْواحَ) : أي من الأرض بعد أن طرحها فتكسرت.

(وَفِي نُسْخَتِها) : أي وفي ما نسخه منها بعد تكسرها نسخة فيها هدى ورحمة.

(يَرْهَبُونَ) : يخافون ربهم ويخشون عقابه فلا يعصونه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث قصص موسى مع بني إسرائيل ففي هذا السياق الكريم يخبر تعالى أن موسى عليه‌السلام لما رجع إلى قومه من مناجاته وقد أخبره ربه تعالى أنه قد فتن قومه من بعده وأن السامري قد أضلهم فلذا رجع (غَضْبانَ أَسِفاً) (١) أي شديد الغضب (٢) والحزن ، وما إن واجههم حتى قال (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) أي استعجلتم فلم تتموا ميعاد ربكم أربعين يوما فقلتم مات موسى وبدلتم دينه فعبدتم العجل (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أي طرحها فتكسرت وأخذ بلحية هارون ورأسه يؤنبه على تفريطه في مهام الخلافة فاعتذر هارون فقال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي هذا وارد في سورة طه وأما السياق هنا فقد قال يا (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي (٣) فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهم الذين ظلموا بعبادة العجل ، ومعنى (فَلا تُشْمِتْ بِيَ

__________________

(١) غضبان شديد الغضب ومؤنثه غضبى غير مصروف لزيادة الألف والنون ، وأسفا : معناه شديد الغضب قال أبو الدرداء ، الأسف منزلة وراء الغضب أشدّ منه والأسيف : الحزين.

(٢) الغضب من طباع البشر وقد أرشد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غضب وهو قائم أن يجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلّا اضطجع فقد روى أبو داود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إنّ الغضب من الشيطان ، وإنّ الشيطان خلق من نار وإنّما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).

(٣) في الآية دليل على أن من خاف على نفسه القتل أن يسكت عن المنكر ولا يغيره بيده ولا بلسانه ولكن بقلبه.

الْأَعْداءَ) لا تؤذني بضرب ولا بغيره إذ ذاك يفرح أعداءنا من هؤلاء الجهلة الظالمين ، وهنا رق له موسى وعطف عليه فقال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه بقوله (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (١٥٠) والثانية (١٥١) أما الآية الثالثة فقد أخبر تعالى بأن الذين اتخذوا العجل أي إلها (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وكما جزاهم بالغضب المستوجب للعذاب والذلة المستلزمة للإهانة يجزي تعالى المفترين عليه الكاذبين باتخاذ الشريك له وهو برىء من الشركاء والمشركين ، هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (١٥٢) أما الآية الرابعة فقد تضمنت فتح باب الله تعالى لمن أراد أن يتوب إليه إذ قال تعالى (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) جمع سيئة وهي هنا سيئة الشرك (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) أي تركوا عبادة غير الله تعالى وآمنوا ايمانا صادقا فإن الله تعالى يقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم فيدخلهم جنته مع الصالحين من عباده ، هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (١٥٣) أما الآية الخامسة (١٥٤) فقد تضمنت الإخبار عن موسى عليه‌السلام وانه لما سكت عنه الغضب أي ذهب أخذ الألواح التي ألقاها من شدة الغضب وأخبر تعالى أن في نسخة (١) تلك الألواح (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) وهم المؤمنون المتقون وخصوا بالذكر لأنهم الذين يجدون الهدى والرحمة في نسخة الألواح ، لأنهم يقرأون ويفهمون ويعلمون وذلك لإيمانهم وتقواهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الغضب من طباع البشر فلا يلام عليه المرء ومهما بلغ من الكمال كالأنبياء ، ولكن أهل الكمال لا يخرج بهم الغضب إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بخير وصلاح.

٢ ـ مشروعية الاعتذار وقبول العذر من أهل المروءات.

٣ ـ مشروعية التوسل بأسماء الله وصفاته.

__________________

(١) النسخة : بمعنى المنوسخ ، والنسخ : النقل للمكتوب في لوح أو غيره ، ويسمى المنوسخ نسخة.

٤ ـ كل وعيد لله تعالى توعد به عبدا من عباده مقيد بعدم توبة المتوعد.

٥ ـ كل رحمة وهدى ونور في كتاب الله لا ينتفع به إلا أهل الإيمان والتقوى.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧))

شرح الكلمات :

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) : أي أخذ خيار قومه وهم سبعون رجلا.

(لِمِيقاتِنا) : أي للوقت الذي حددناه له ليأتينا مع سبعين رجلا.

(أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) : الصاعقة التي رجفت لها القلوب.

(السُّفَهاءُ) : جمع سفيه : وهو الذي لا رشد له في سائر تصرفاته.

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) : أي ما هي إلا فتنتك أي اختبارك لأهل الطاعة من عبادك.

(أَنْتَ وَلِيُّنا) : أي المتولي أمرنا وليس لنا من ولي سواك.

(هُدْنا إِلَيْكَ) : أي رجعنا إليك وتبنا.

(الْأُمِّيَ) : الذي لا يقرأ ولا يكتب.

المعروف ، والمنكر : ما عرفه الشرع والمنكر : ما أنكره الشرع.

(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) : أي بإذن الله والخبائث جمع خبيثة : كالميتة مثلا.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ) : الإصر : العهد والأغلال : الشدائد في الدين.

(عَزَّرُوهُ) : أي وقروه وعظموه

(وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) : القرآن الكريم.

(هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : الفائزون أي الناجون من النار الداخلون الجنة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث موسى مع بني إسرائيل فإنه بعد الحدث الجلل الذي حصل في غيبة موسى وذلك هو عبادة جل بني إسرائيل العجل واتخاذهم له إلها فإن الله تعالى وقت لموسى وقتا يأتيه فيه مع خيار بني إسرائيل يطلب لهم التوبة من الله سبحانه وتعالى. قال تعالى (وَاخْتارَ (١) مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) ولما انتهى بهم إلى جبل الطور وغشيت الجبل غمامة وأخذ موسى يناجي ربه تعالى وهم يسمعون قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن

__________________

(١) اختار مزيد من خار : إذا طلب ما هو خير من غيره ، وقومه منصوب على نزع الخافض إذ الأصل من قومه ، ومنه قول الشاعر :

اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم

واختل من كان يرجى عنده السّول

السّول بمعنى السؤل أي الطلب

الذي كان يكلمك الرب تعالى حتى نرى الله جهرة أي عيانا وهنا غضب الله تعالى عليهم فأخذتهم صيحة رجفت لها قلوبهم والأرض من تحتهم فماتوا كلهم ، وهو معنى قوله تعالى (أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وهنا أسف موسى عليه‌السلام لموت السبعين رجلا وقد اختارهم الخير فالخير فإذا بهم يموتون أجمعون فخاطب ربه قائلا (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيئنا إليك (وَإِيَّايَ) وذلك في منزل بني إسرائيل حيث عبدوا العجل (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (١) أي بسبب فعل السفهاء الذين لا رشد لهم ، وهم من عبدوا العجل كمن سألوا رؤية الله تعالى ، وقوله عليه‌السلام (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي إلا اختبارك وبليتك (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ، أَنْتَ وَلِيُّنا) فليس لنا سواك (فَاغْفِرْ لَنا) أي ذنوبنا (وَارْحَمْنا) برفع العذاب عنا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) بأن توفقنا لعمل الصالحات وتتقبلها منا ، (وَفِي الْآخِرَةِ) تغفر ذنوبنا وتدخلنا جنتك مع سائر عبادك الصالحين ، وقوله (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي إنا قد تبنا إليك فأجابه الرب تعالى بقوله (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي من عبادي وهم الذين يفسقون عن أمري ويخرجون عن طاعتي (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ (٢) كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وبهذا القيد الوصفي ، وبما بعده خرج إبليس واليهود وسائر أهل الملل ودخلت أمة الإسلام وحدها إلا من آمن من أهل الكتاب واستقام على دين الله وهو الإسلام. وقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الَّذِي يَجِدُونَهُ (٣) مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) وذلك بذكر صفاته والثناء عليه وعلى أمته ، وقوله (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) أي التي كانت قد حرمت عليهم بظلمهم (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) الخمر ولحم الخنزير والربا وسائر المحرمات في الإسلام ، وقوله (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي ويحط عنهم تبعة العهد الذي أخذ عليهم بالعمل فيما في التوراة والإنجيل بأن يعملوا بكل ما جاء في

__________________

(١) الاستفهام هنا للتحجج والجحد أي إنك لا تفعل ذلك ، وهو كما قال الشعر :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

(٢) أي لم تضق عن مخلوق من المخلوقات التيّ أراد الله رحمتها. يحكى أنّ ابليس عليه لعائن الله لماّ سمع هذه الآية قال : أنا شيء فقال الله تعالى : سأكتبها للذين يتقون فقالت اليهود والنصارى نحن : متقون فقال تعالى : الذين يتّبعون الرسول النبي الأمي فخرجوا وبقيت لهذه الأمّة وحدها.

(٣) قال كعب في ذكر صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة : مولده مكة وهجرته بطابة وملكه بالشام ، وأمته الحمّادون يحمدون الله على كل حال .. إلى أن قال : يصلّون حيثما أدركتهم الصلاة ، صفهم في الصلاة كصفهم في القتال.

التوراة والإنجيل ، وقوله (وَالْأَغْلالَ (١) الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي الشدائد المفروض عليهم القيام بها وذلك كقتل النفس بالنفس إذ لا عفو ولا دية وكقطع الثوب للنجاسة تصيبه وغير ذلك من التكاليف الشاقة كل هذا يوضع عليهم إذا أسلموا بدخولهم في الإسلام وقوله تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَزَّرُوهُ) (٢) أي وقروه وعظموه (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه من المشركين والكافرين والمنافقين (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) وهو القرآن الكريم (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي وحدهم دون سواهم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب التوبة من كل ذنب ، ومشروعية صلاة ركعتين وسؤال الله تعالى عقبها أن يقبل توبة التائب ويغفر ذنبه.

٢ ـ كل سلوك ينافي الشرع فهو من السفه المذموم ، وصاحبه قد يوصف بأنه سفيه.

٣ ـ الهداية والإضلال كلاهما بيد الله تعالى فعلى العبد أن يطلب الهداية من الله تعالى ويسأله أن لا يضله.

٤ ـ رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تنال اليهود ولا النصارى ولا غيرهم.

٥ ـ بيان شرف النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

٦ ـ بيان فضل تزكية النفس بعمل الصالحات وإبعادها عن المدسيات من الذنوب.

٧ ـ بيان فضل التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٨ ـ وجوب توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيمه ونصرته واتباع الكتاب الذي جاء به والسنن التي سنها لأمته.

__________________

(١) تقدّم لفظ الإصر وهو دال على جمع لأنّه مصدر يقع على الواحد والجمع ولذا عطف عليه الأغلال ، وجمع الإصر : آصار ، ومعناه الثقل الذي يصعب معه التحرّك والأغلال جمع غلّ ، وهو إطار من حديد يجعل في عنق الأسير ، والمراد من الآصار والأغلال التكاليف الشرعية الشاقة التي اشتملت عليها التوراة منها : ترك العمل يوم السبت قيل : ومن أشدّها عدم مشروعية التوبة من الذنوب ، وعدم استتابة المجرم.

(٢) عزّروه : أيّدوه مع توقيره وتعظيمه.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))

شرح الكلمات :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق إلا الله.

(النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) : المنبىء عن الله والمنبأ من قبل الله تعالى ، والأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب. نسبة إلى الأم كأنه ما زال لم يفارق أمه فلم يتعلم بعد.

(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) : الذي يؤمن بالله ربا وإلها ، وبكلماته التشريعية والكونية القدرية.

(تَهْتَدُونَ) : ترشدون إلى طريق كمالكم وسعادتكم في الحياتين.

(أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) : أي جماعة يهدون أنفسهم وغيرهم بالدين الحق وبه يعدلون في قضائهم وحكمهم على أنفسهم وعلى غيرهم انصافا وعدلا لا جور ولا ظلم.

(أَسْباطاً) : جمع سبط : وهو بمعنى القبيلة عند العرب.

(اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) : أي طلبوا منه الماء لعطشهم.

(فَانْبَجَسَتْ) : فانفجرت.

(الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : المن : حلوى كالعسل تنزل على أوراق الأشجار ، والسلوى : طائر لذيذ لحمه.

(اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) : هي حاضرة فلسطين.

وقوله (حِطَّةٌ) : أي احطط عنا خطايانا بمعنى الإعلان عن توبتهم.

(رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) : أي عذابا من عند الله تعالى.

معنى الآيات :

بعد الإشادة بالنبي الأمي وبأمته ، وقصر الفلاح في الدارين على الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه قد يظن ظان أن هذا النبي شأنه شأن سائر الأنبياء قبله هو نبي قومه خاصة وما ذكر من الكمال لا يتعدى قومه فرفع هذا الوهم بهذه الآية (١٥٨) حيث أمر الله تعالى رسوله أن يعلن عن عموم رسالته بما لا مجال للشك فيه فقال

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) وقوله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وصف لله تعالى وقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير لألوهية الله تعالى بعد ذكر قدرته وسلطانه وملكه وتدبيره لذا وجب أن لا يكون معبود إلا هو وهو كذلك إذ كل معبود غيره هو معبود عن جهل وعناد وظلم. وقوله (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) أمر الإله الحق إلى الناس كافة بالإيمان به تعالى ربا وإلها ، وبرسوله النبي الأمي نبيا ورسولا ، وقوله (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) صفة للنبي الأمي إذ من صفات النبي الأمي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يؤمن بالله حق الإيمان وأوفاه ويؤمن بكلماته أي بكلمات الرب التشريعية (١) وهي آيات القرآن الكريم ، والكونية التي يكوّن الله بها ما شاء من الأكوان إذ بها يقول للشيء كن فيكون كما قال لعيسى بتلك الكلمة كن فكان عيسى عليه‌السلام وقوله (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) هذا أمر الله إلى الناس كافة بعد الأمر بالإيمان به وبرسوله النبي الأمي أمر باتباع نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) رجاء هداية من (٢) يتبعه فيما جاء به فيهتدي إلى سبيل الفوز في الدارين هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٨) أما الآية الثانية (١٥٩) فقد تضمنت الإخبار الإلهي بأن قوم موسى وإن ضلوا أو أجرموا وفسقوا ليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم أو بينهم من هم على هدى الله فهذه الآية كانت كالاحتراس من مثل هذا الفهم ، إذ أخبر تعالى أن (مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) أي جماعة تكثر أو تقل (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) (٣) أي يعملون بالحق في عقائدهم وعباداتهم ويدعون إلى ذلك وبالحق يعدلون فيما بينهم وبين غيرهم فهم يعيشون على الإنصاف والعدل ، ولم يذكر تعالى أين هم ولا متى كانوا هم؟ فلا يبحث ذلك ، إذ لا فائدة فيه ، ثم عاد السياق إلى قوم موسى يذكر احداثهم للعظة والاعتبار وتقرير الحق في توحيد الله تعالى وإثبات نبوة رسوله وتقرير عقيدة البعث والجزاء أو اليوم الآخر. فقال تعالى في الآية الثالثة (١٦٠) (وَقَطَّعْناهُمُ) (٤) أي بني إسرائيل (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً

__________________

(١) وبكلماته التنزيلية كالتوراة والانجيل والزبور.

(٢) هذا الرجاء بالنسبة إلى المأمورين بالاتباع لا إلى الله تعالى ، لأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير.

(٣) يهدون إلى الله تعالى عباده بواسطة ما شرع لهم وهداهم به من الوحي الذي أنزل على رسله وأنزل به كتبه.

(٤) التقطيع : الشدة في القطع والمراد به التقسيم إلى اثنتى عشرة فرقة كل فرقة بمنزلة القبيلة العربية حيث تنتسب إلى أبيها الأعلى أي الأوّل.

أُمَماً) (١) أصل السبط ابن البنت وأريد به هنا أولاد كل سبط من أولاد يعقوب عليه‌السلام. فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب كل قبيلة تنتسب إلى أبيها الأول ، وأتت لفظ اثنتي عشرة لأن معنى الأسباط الفرق والفرقة مؤنثة ، وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) أعلمناه بطريق الوحي وهو الإعلام الخفي السريع ، ومعنى (اسْتَسْقاهُ) طلبوا منه السقيا لأنهم عطشوا لقلة الماء في صحراء سينا. (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) هذا الموحى به ، فضرب (فَانْبَجَسَتْ) (٢) أي انفجرت (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) ليشرب كل سبط من عينه الخاصة حتى لا يقع اصطدام أو تدافع فينجم عنه الأذى وقوله تعالى (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) يريد عرف كل جماعة ماءهم الخاص بهم وقوله تعالى (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) هذا ذكر لإنعامه تعالى على بني إسرائيل وهم في معية موسى وهارون في حادثة التيه ، حيث أرسل تعالى الغمام وهو سحاب ابيض بارد يظلهم من الشمس حتى لا تلفحهم ، وأنزل عليهم المن (٣) وهي حلوى كالعسل سقط ليلا كالطل على الأشجار ، وسخر لهم طائرا لذيذ اللحم يقال له السلوى وهو طائر السمانى المعروف وقلنا لهم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وقوله تعالى (وَما ظَلَمُونا) بتمردهم على أنبيائهم وعدم طاعتهم (٤) لربهم حتى نزل بهم ما نزل من البلاء ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). (٥) هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (١٦١) فقد تضمنت حادثة بعد أحداث التيه في صحراء سيناء وذلك أن يوشع بن نون بعد أن تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاة موسى وهارون وانقضاء مدة التيه وكانت أربعين سنة غزا يوشع ببني إسرائيل العمالقة في أرض القدس وفتح الله تعالى عليه فقال لبني إسرائيل ادخلوا باب المدينة ساجدين أي منحنين خضوعا لله وشكرا على نعمة الفتح بعد النصر والنجاة من

__________________

(١) (أُمَماً) بدل من (أَسْباطاً) وفائدته : الإخبار بأنهم باركهم الله تعالى فأصبح أهل كل سبط أمة كاملة والسبط أصله شجر يقال له السبط تعلفه الإبل.

(٢) أصل الفعل بجس يقال : بجسته أي : شققته فانبجس مطاوع بجس الشيء إذا شقّة.

(٣) المنّ : مادّة بيضاء تنزل من السماء كالطّل حلوة الطعم تشبه العسل ، وإذ جفّت كانت الصمغ ، والسلوى : طائر معروف يقال له السمّانى بضم السين وفتح النون على وزن حبارى.

(٤) وبعدم شكرهم لهذه النعم أيضا إذا كفران النعم يسبب زوالها بعقوبة تنزل بمن لم يشكر نعم الله تعالى عليه.

(٥) أي ظلموا أنفسهم فعرضوها للبلاء ، أمّا الله تعالى فمحال أن يبلغ العبد ظلمه أو ضرّه. روى مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (إنّ الله تعالى قال : يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا .. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).

التيه ، وقوله اثناء دخولكم الباب كلمة «حطة» الدالة على توبتكم واستغفاركم ربكم لذنوبكم فإن الله تعالى يغفر لكم خطئياتكم ، وسيزيد الله المحسنين منكم الإنعام والخير الكثير مع رضاه عنكم وادخالكم الجنة ، هذا معنى قوله تعالى (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي مدينة فلسطين (١) (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) لما فيها من الخيرات (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). أما الآية الرابعة (١٦٢) فهي قد تضمنت الإخبار عن الذين ظلموا من بني إسرائيل الذين أمروا بدخول القرية ودخول الباب سجدا. حيث بدلوا (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فبدل حطة قالوا حنطة ، وبدل الدخول منحنين ساجدين دخلوا يزحفون على أستاههم ، فلما رأى تعالى ذلك التمرد والعصيان وعدم الشكران أنزل عليهم وباء من السماء كاد يقضي على آخرهم هذا معنى قوله تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عموم رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكافة الناس عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم. (٢)

٢ ـ هداية الإنسان فردا أو جماعة أو أمة إلى الكمال والإسعاد متوقفة على اتباع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ إنصاف القرآن للأمم والجماعات فقد صرح أن في بني إسرائيل أمة قائمة على الحق ، وذلك بعد فساد بني إسرائيل ، وقبل مبعث النبي الخاتم أما بعد البعثة المحمدية فلم يبق أحد على الحق ، إلا من آمن به واتبعه لنسخ سائر الشرائع بشريعته.

٤ ـ إذا أنعم الله على عبد أو أمة نعمة ثم لم يشكرها تسلب منه أحب أم كره وكائنا من كان.

__________________

(١) اسم القرية : أريحا ، وكلمة فلسطين عامة في القطر كلّه.

(٢) عموم الرسالة المحمدية يستوجب القيام بها ودعوة الناس إليها ، والمسلمون هم المطالبون بذلك وإلّا فهم آثمون بتفريطهم وتقصيرهم.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

شرح الكلمات :

(حاضِرَةَ الْبَحْرِ) : أي على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس.

(يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) : أي يعتدون وذلك بالصيد المحرم عليهم فيه.

(يَوْمَ سَبْتِهِمْ) : أي يوم راحتهم من أعمال الدنيا وهو يوم السبت.

(شُرَّعاً) : جمع شارع أي ظاهرة بارزة تغريهم بنفسها.

(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) : أي نمتحنهم ونختبرهم.

(بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) : أي بسبب ما أعلنوه من الفسق وهو العصيان.

(مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) : أي ننهاهم فإن انتهوا فذاك وإلا فنهينا يكون عذرا لنا عند ربنا.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) : أي أهملوه وتركوه فلم يمتثلوا ما أمروا به ولا ما نهوا عنه.

(عَنِ السُّوءِ) : السوء هو كل ما يسيء إلى النفس من سائر الذنوب والآثام.

(بِعَذابٍ بَئِيسٍ) : أي ذا بأس شديد.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) : أي ترفعوا وطغوا فلم يبالوا بالنهي.

(قِرَدَةً خاسِئِينَ) : القردة جمع قرد معروف وخاسئين ذليلين حقيرين اخساء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بني إسرائيل إلا أنه هنا مع رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويهود المدينة فالله تعالى يقول لنبيه محمد عليه الصلاة والسّلام أسألهم (١) أي اليهود (عَنِ الْقَرْيَةِ (٢) الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي قريبة منه على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس والشام ، (٣) أي أسألهم عن أهلها كيف كان عاقبة أمرهم ، إنهم مسخوا قردة وخنازير جزاء فسقهم عن أمر ربهم ، وفصل له الحادث تفصيلا للعبرة والاتعاظ فقال (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) (٤) أي يعتدون ما أذن لهم فيه إلى ما حرم عليهم ، اذن لهم أن يصيدوا ما شاءوا إلا يوم السبت فإنه يوم عبادة ليس يوم لهو وصيد وطرب ، (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) أي أسماكهم (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) ظاهرة على سطح الماء تغريهم بنفسها (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أي في باقي أيام الأسبوع (لا تَأْتِيهِمْ) إذا هم مبتلون ، قال تعالى (كَذلِكَ) أي كهذا الابتلاء والاختبار (نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم عن طاعة ربهم ورسله ، إذ ما من معصية إلا بذنب هكذا سنة الله تعالى في الناس. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٣) وهي قوله تعالى (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ (٥) حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ (٦) بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

وأما الآية الثانية (١٦٤) فالله تعالى يقول لرسوله اذكر لهم أيضا إذ قالت طائفة منهم أي من أهل القرية لطائفة أخرى كانت تعظ المعتدين في السبت أي تنهاهم عنه لأنه

__________________

(١) هذا سؤال توبيخ وتقرير ، إذ كانوا يتبجّحون بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم من سبط خليل الرحمن ابراهيم ، ومن سبط اسرائيل ، فالسؤال عن القرية السؤال عن أهلها.

(٢) هذه القرية هي أيلة ، والمسماة اليوم بالعقبة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر

(٣) وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر.

(٤) السبت : اليوم الذي بين الجمعة والأحد ، ويجمع السبت على أسبت وسبوت وأسبات.

(٥) قيل للحسين بن الفضل : هل تجد في كتاب الله تعالى أنّ الحلال لا يأتيك إلّا قوتا وإن الحرام يأتيك جزفا جزفا يعني : بكثرة كاثرة قال : نعم في قصة داود وأيلة (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ...) الآية.

(٦) (نَبْلُوهُمْ) : أي بالتشديد عليهم فيما يشرع لهم عقوبة لهم.

معصية وتحذرهم من مغبة الاعتداء على شرع الله تعالى قالت (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) وهذا القول من هذه الطائفة دال على يأسهم من رجوع إخوانهم عن فسقهم وباطلهم ، فأجابتهم الطائفة الواعظة (مَعْذِرَةً (١) إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي وعظنا لهم هو معذرة لنا عند الله تعالى من جهة ومن جهة أخرى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فيتوبوا ويتركوا هذا الاعتداء ، قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) وخوفوا منه وهو تحريم الله تعالى عليهم الصيد يوم السبت ، ومعنى نسوا تركوا ولم يلتفتوا الى وعظ إخوانهم لهم وواصلوا اعتداءهم وفسقهم ، قال تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهم الواعظون لهم ممن ملّوا ويئسوا فتركوا وعظهم ، وممن واصلوا نهيهم ووعظهم (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا (٢) بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد البأس (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) عن طاعة الله ربهم ، إذ قال تعالى لهم (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٣) فكانوا قردة خاسئين ذليلين صاغرين حقيرين ، ثم لم يلبثوا (مسخا) (٤) إلا ثلاثة أيام وماتوا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير الوحي والنبوة لرسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذا القصص الذي يذكر لبني إسرائيل لن يتم إلا عن طريق الوحي ، وإلا فكيف علمه وذكر به اليهود أصحابه وأهله ، وقد مضى عليه زمن طويل.

٢ ـ إذا أنعم الله على أمة نعمة ثم اعرضت عن شكرها تعرضت للبلاء أولا ثم العذاب ثانيا.

٣ ـ جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نجى الله تعالى الناهين عن المنكر وأهلك الذين باشروه ولم ينتهوا منه دون غيرهم.

__________________

(١) المعذرة : مصدر ميمي فعله اعتذر على غير قياس ، والعذر : السبب الذي تبطل به المؤاخذة بسبب ذنب أو تقصير.

(٢) اختلف في هل الفرقة القائلة : لم تعظون قوما .. الخ نجت من العذاب أو لا؟ وقد روي أن ابن عباس كان يرى أنها لم تنج حتى أقنعه تلميذه عكرمة فقال بنجاتها مع الفرقة الناهية ، لأنّ ترك النهي من الفرقة التي لم تنه كان ليأسهم من استجابة الظالمين.

(٣) يقال : خسأته فخسا أي ، باعدته وطردته ، وفي هذا دليل على أنّ المعاصي سبب النقم كما أن الطاعات سبب النعم

(٤) أي لم يلبثوا ممسوخين حتى هلكوا والعياذ بالله.

٤ ـ إطلاق لفظ السوء على المعصية مؤذن بأن المعصية مهما كانت صغيرة تحدث السوء في نفس فاعلها.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))

شرح الكلمات :

(تَأَذَّنَ) (١) : أعلم وأعلن.

(لَيَبْعَثَنَ) : أي ليسلطن

(مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) : أي يذيقهم ويوليهم سوء العذاب كالذلة والمسكنة.

(وَقَطَّعْناهُمْ) : أي فرقناهم جماعات جماعات.

(بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) : اختبرناهم بالخير والشر أو النعم والنقم.

__________________

(١) آذن وأذن بمعنى واحد ، وهو أعلم ومنه قول الشاعر :

فقلت تعلّم إنّ للصيد غرّة

فإلّا تضيّعها فإنك قاتله

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) : الخلف بإسكان اللام خلف سوء وبالتحريك خلف خير.

(وَرِثُوا الْكِتابَ) : أي التوراة.

(عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) : أي حطام الدنيا الفاني وهو المال.

(يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) : أي يتمسكون بما في التوراة فيحلون ما أحل الله فيها ويحرمون ما حرم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في شأن اليهود فقد أمر تعالى رسوله أن يذكر إعلامه تعالى بأنه سيبعث بكل تأكيد على اليهود إلى يوم القيامة من يذلهم ويضطهدهم عقوبة منه تعالى لهم على خبث طواياهم وسوء أفعالهم ، وهذا الإطلاق في هذا الوعيد الشديد يقيد بأحد أمرين الأول بتوبة من تاب منهم ويدل على هذا القيد قوله تعالى في آخر هذه الآية (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب والثاني بجوار دولة قوية لهم وحمايتها وهذا مفهوم قوله تعالى من سورة آل عمران (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) وهو الإسلام (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) ، وهو ما ذكرناه آنفا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (١٦٧) وهي قوله تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ (١) سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وأما الآية الثانية (١٦٨) فقد تضمنت بيان فضل الله تعالى على اليهود وهو أن الله تعالى قد فرقهم في الأرض جماعات جماعات ، وأن منهم الصالحين ، وأن منهم دون ذلك وأنه اختبرهم بالحسنات وهي النعم ، والسيئات وهي النقم تهيئة لهم وإعدادا للتوبة إن آثروا التوبة على الاستمرار في الإجرام والشر والفساد. هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ (٢) وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ، وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ

__________________

(١) يسومهم سوء العذاب : يجعل أسوأ العذاب وأشدّه كالقيمة لهم إذ هو حظهم المفروض عليهم ، أوّل من تسلط عليهم فسامهم سوء العذاب بختنصر البابلي.

(٢) أي شتتناهم في البلاد بعد تسلط البابليين عليهم وتمزيق ملكهم فعاشوا مشتتين فلم ينتظم ملكهم مدّة طويلة وهم إذ ذاك ما بين صالح وفاسد وانتظم أمرهم مرّة أخرى ثمّ فسقوا فسلّط عليهم أطيطوس الروماني فتفرّقوا مرّة أخرى وما زالوا مفرقين إلى هذه الأيام ، باجتماعهم في فلسطين وتكوينهم دولة اسرائيل وعمّا قريب تزول.

وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وأما الآية الثالثة (١٦٩) فقد أخبر تعالى أنه قد خلف من بعد تلك الأمة خلف (١) سوء ورثوا الكتاب الذي هو التوراة ورثوه عن أسلافهم ولم يتلزموا بما أخذ عليهم فيه من عهود على الرغم من قراءتهم له فقد آثروا الدنيا على الآخرة فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات ، ويدعون أنهم سيغفر لهم ، وكلما أتاهم مال حرام أخذوه ومنوا أنفسهم بالمغفرة (٢) كذبا على الله تعالى قال تعالى موبخا لهم (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وقد قرأوا هذا في الكتاب وفهموه ومع هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم ، ثم يواجههم تعالى بالخطاب مذكرا لهم واعظا فيقول (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ويفتح الله تعالى باب الرجاء لهم في الآية الرابعة في هذا السياق فيقول (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) (٣) أي يعملون بحرص وشدة بما فيه من الأحكام والشرائع ولا يفرطون في شيء من ذلك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) ، ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب وأقاموا الصلاة ، وان الله تعالى سيجزيهم على إصلاحهم لأنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره ، لأنه تعالى لا يضيع أجر المصلحين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان موجز لتاريخ اليهود في هذه الآيات الأربع.

٢ ـ من أهل الكتاب الصالحون ، ومنهم دون ذلك.

٣ ـ التنديد بإيثار الدنيا على الآخرة ، وبتمني المغفرة مع الإصرار على الإجرام.

٤ ـ تفضيل الآخرة على الدنيا بالنسبة للمتقين.

٥ ـ الحث على التمسك بالكتاب قراءة وتعلما وعملا بإحلال حلاله وتحريم حرامه.

__________________

(١) الخلف بسكون اللّام : الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء والخلف : بفتح اللام البدل ولدا كان أو غيره ، وقيل الخلف بالفتح : الصالح وبالجزم : الطالح قال لبيد :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

(٢) روى الدارمي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه الرواية التالية وهي منطبقة على واقعنا اليوم ومن قبل اليوم قال : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصّروا قالوا سنبلغ وإن أساءوا قالوا : سيغفر لنا إنّا لا نشرك بالله شيئا.

(٣) مسك وتمسّك بمعنى واحد.

٦ ـ فضل اقام الصلاة.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) : أي رفعناه من أصله فوق رؤوسهم.

(واقِعٌ بِهِمْ) : أي ساقط عليهم.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) : أي التزموا بالقيام بما عهد إليكم من أحكام التوراة بقوة.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) : أي لا تنسوا ما التزمتم به من النهوض بأحكام التوراة.

(مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) : أي أخذهم من ظهر آدم عليه‌السلام بأرض نعمان (١) من عرفات.

(أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي بأنه تعالى ربهم وإلههم ولا رب لهم غيره ولا إله لهم سواه.

(الْمُبْطِلُونَ) : العاملون بالشرك والمعاصي إذ كلها باطل لا حق فيه.

(نُفَصِّلُ الْآياتِ) : نبينها ونوضحها بتنويع الأساليب وتكرار الحجج وضرب الامثال وذكر القصص.

__________________

(١) قال ابن عباس : ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة

معنى الآيات :

الآية الأولى في هذا السياق هي خاتمة الحديث على اليهود إذ قال تعالى لرسوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (١) أي اذكر لهم ايها الرسول إذ نتقنا أي رفعنا فوقهم جبل الطور من أصله وصار فوقهم كأنه ظلة (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي ساقط عليهم وقلنا لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ (٢) بِقُوَّةٍ) والمراد مما آتاهم أحكام التوراة وما تحمل من الشرائع وأخذها العمل بها والالتزام بكل ما أمرت به ونهت عنه وقوله تعالى (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي في الذي آتيناكم من الأوامر والنواهي ، ولا تنسوه فإن ذكره من شأنه أن يعدكم للعمل به فتحصل لكم بذلك تقوى الله عزوجل ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي خاتمة سياق الحديث عن اليهود. أما الآية الثانية (١٧٢) وهي قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي (٣) آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٤) فإنها حادثة جديرة بالذكر والاهتمام لما فيها من الاعتبار ، إن الله تعالى أخرج من صلب آدم ذريته فأنطقها بقدرته التي لا يعجزها شيء فنطقت وعقلت الخطاب واستشهدها فشهدت ، وخاطبها ففهمت وأمرها فالتزمت وهذا العهد العام الذي أخذ على بني آدم ، وسوف يطالبون به يوم القيامة ، وهو معنى قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي أنك ربنا (أَنْ تَقُولُوا) يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ (٥) بَعْدِهِمْ ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) والعبرة من هذا أن الإنسان سرعان ما ينسى ، ويعاهد ولا يفي ، وما وجد من بني اسرائيل من عدم الوفاء هو عائد إلى أصل الإنسان ، وهناك عبرة أعظم وهى أن التوحيد أخذ به العهد على كل آدمي ، ومع الأسف أكثر بني آدم ينكرونه ، ويشركون بربهم وقوله تعالى (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة وهذا

__________________

(١) أي : كأنّه لارتفاعه سحابة تظلّ.

(٢) أي : بجدّ وعزم.

(٣) الآثار والأحاديث المثبتة لاستخراج الرب تعالى الذريّة من ظهر آدم كثيرة منها في الموطأ والسنن ونكتفي برواية الشيخين الآتية : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفديا؟ فيقول : نعم ، فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلّا أن تشرك).

(٤) وجّه نظم الآية هكذا : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريّتهم ولم يذكر ظهر آدم عليه‌السلام لأنه من المعلوم أن كل بني آدم منه وأخرجوا يوم الميثاق من ظهره. وقوله : ظهورهم : بدل اشتمال من بين آدم.

(٥) في الآية دليل على أنه لا عذر لأحد في تقليده آباءه وأجداده وأهل بلاده في الشرك والمعاصي كما لا عذر بالجهل أيضا.

السياق وهو تفصيل عجيب نفصل الآيات تذكيرا للناس وتعليما ولعلهم يرجعون إلى الحق بعد إعراضهم عنه ، وإلى الإيمان والتوحيد بعد انصرافهم عنهما تقليدا واتباعا لشياطين الجن والإنس.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان نفسيات اليهود وأنها نفسية غريبة وإلا كيف وهم بين يدي الله يتمردون عليه ويعصونه برفضهم الالتزام بما عهد إليهم من أحكام حتى يرفع فوقهم الطور تهديدا لهم ، وعندئذ التزموا ولم يلبثوا إلا قليلا حتى نقضوا عهدهم وعصوا ربهم.

٢ ـ عجيب تدبير الله تعالى في خلقه.

٣ ـ الكافر كفر مرتين كفر بالعهد الذي أخذ عليه وهو في عالم الذّر ، (١) وكفر بالله وهو في عالم الشهادة ، والمؤمن آمن مرتين ، فلذا يضاعف للأول العذاب ويضاعف للثاني الثواب.

٤ ـ تقرير مبدأ الخليقة ، ومبدأ المعاد الآخر.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ

__________________

(١) لقد حاول كثيرون التخلص من قضية أخذ الرب تعالى من ظهر ادم ذريته وإشهادهم على انفسهم ، ونطق الأرواح وشهادتها ، ولا داعي لهذا أبدا ما دامت الأحاديث والآثار كثيرة وقدرة الله صالحة لكل شيء ولا يعجزها شيء ـ ما هي النملة؟

وقد أنطقها الله فنطقت وأفصحت. إن الحيوان المنوي الذي منه تكون الذرية قال العلماء لو جمعت الحيوانات المنوية كلها من آدم إلى اليوم ووضعت في فنجان ما ملأته. أمع هذا يحاول إبطال الأحاديث وتأويل الآية على غير ظاهرها رجل من أهل العلم؟

كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨))

شرح الكلمات :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ) : إقرأ عليهم.

(فَانْسَلَخَ مِنْها) : كفر بها وتركها وراء ظهره مبتعدا عنها.

(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) : لحقه وأدركه.

(مِنَ الْغاوِينَ) : من الضالين غير المهتدين الهالكين غير الناجين.

(أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) : مال إلى الدنيا وركن إليها وأصبح لا هم له إلا الدنيا.

(يَلْهَثْ) : اللهث : التنفس الشديد مع إخراج اللسان من التعب والإعياء.

(ساءَ) : قبح.

(مَثَلاً) : أي صفة.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي اقرأ على قومك وعلى كل من يبلغه هذا الكتاب من سائر الناس (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي خبر الرجل (١) الذي اعطيناه آيتنا تحمل الأدلة والحجج والشرائع والأحكام والآداب فتركها وابتعد عنها فلم يتلها ولم يفكر فيها ولم يعمل بها لا استدلالا ولا تطبيقا (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي لحقه وأدركه وتمكن منه إبليس ، لأنه بتخليه عن الآيات وجد الشيطان له طريقا إليه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي الضالين الفاسدين الهالكين (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) (٢) أي بالآيات إلى قمم

__________________

(١) ذكر أهل التفسير ثلاثة رجال قيل إنها نزلت في واحد منهم وهم : بلعم بن باعوراء الكنعاني وكان على زمن موسى ، وقيل إنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت الثقفي ، وقيل في أبي عامر بن صيفي ، وأقرب الأقوال أنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت إذ هو الذي قال فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (آمن شعره وكفر قلبه) إذ شعره كان يفيض بالإيمانيات من عقيدة البعث والجزاء ، والتوحيد ، والعدل والرحمة ومن شعره قوله :

كل دين يوم القيامة عند الله

إلا دين الحنيفية زور

(٢) أي أنّ تلك الآيات التي أعطاه الله إياها من شأنها أن تكون سببا للهداية ، وهذا شأن آيات الله فإنها ترفع كل من يؤمن بها ويعمل بما فيها ترفعه في الدنيا والآخرة فهي آلة الرفع الحقيقية لا المذاهب والنظريات المادية.

المجد والكمال ، والى الدرجات العلا في الدار الآخرة ، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي مال إليها وركن فأكب على الشهوات والسرف في الملذات ، وأصبح لا هم له إلا تحصيل ذلك (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وترك عقله ووحي ربه عنده ، فصار مثله أي صفته الملائمة له (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي في اللهث والإعياء ، والتبعية وعدم الاستقلال الذاتي (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) فحيرته وتعبه لا ينقطعان أبدا. وقوله تعالى (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي هذا المثل الذي ضربناه لذلك الرجل الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها وكان من أمره ما قصصنا عليك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا في كل زمان ومكان ، وعليه (فَاقْصُصِ) يا رسولنا (الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي لعل قريشا تتفكر فتعتبر وترجع إلى الحق فتكمل وتسعد ، وقوله تعالى (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي قبح مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فجحدوا بها حتى لا يوحدوا الله تعالى ولا يسلموا اليه ، (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) بتدنيسها بآثار الشرك والمعاصي وقوله تعالى (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أي من وفقه الله تعالى للهداية (١) فآمن وأسلم واستقام على منهاج الحق فهو المهتدي بحق ومن خذله الله لشدة إعراضه عن الحق وتكبره عنه فضل بإضلال الله تعالى له فأولئك هم الخاسرون الخسران الحق المبين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ خطر شأن هذا الخبر الذي أمر تعالى رسوله أن يتلوه على الناس.

٢ ـ ترك القرآن الكريم بعدم تلاوته والتدبر فيه ، وترك العمل به مفض بالعبد الى أن يكون هو صاحب المثل في هذه الآية ، فأولا يتمكن منه الشيطان فيصبح من الغواة وثانيا يخلد إلى الأرض كما هو حال الكثيرين فلا يكون لأحدهم هم إلا الدنيا. ثم يتبع هواه لا عقله ولا شرع الله ، فإذا به صورة لكلب يلهث لا تنقطع حيرته واتباعه لغيره كالكلب سواء بسواء وهذه حال من أعرضوا عن كتاب الله تعالى في هذه الآية فليتأملها العاقل.

٣ ـ لا رفعة ولا سيادة ولا كمال إلا بالعمل بالقرآن فهي الآية الرافعة لقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا

__________________

(١) الهداية : هي إبانة الطريق الموصل إلى السعادة والكمال.

لَرَفَعْناهُ بِها) أي بالآيات (١) التي انسلخ منها والعياذ بالله.

٤ ـ الهداية بيد الله ألا فليطلبها من أرادها من الله بصدق القلب وإخلاص النية فإن الله تعالى لا يحرمه منها ، ومن أعرض عن الله اعرض الله عنه.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))

شرح الكلمات :

(ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) : خلقنا لجهنم أي للتعذيب بها والاستقرار فيها.

(لا يَفْقَهُونَ بِها) : كلام الله ولا كلام رسوله.

(لا يُبْصِرُونَ بِها) : آيات الله في الكون.

(لا يَسْمَعُونَ بِها) : الحق والمعروف.

(كَالْأَنْعامِ) : البهائم في عدم الانتفاع بقلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.

(الْغافِلُونَ) : أي عن آيات الله ، وما خلقوا له وما يراد لهم وبهم.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : الأسماء جمع اسم والحسنى مؤنث الأحسن ، والأسماء الحسنى لله خاصة دون غيره فلا يشاركه فيها أحد من مخلوقاته.

__________________

(١) لقد جرب أتباع أتاتورك العثماني العلمانية وجرّب العرب القومية ثم جربوا الاشتراكية حتى قال قائلهم : اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها ، وجرّب بعضهم الشيوعية فهل غنوا هل عزّوا هل كملوا هل شبعوا؟ اللهم لا ، لا ، لا فلم إذن لا يعملون بالقرآن.

(وَذَرُوا) : اتركوا.

(يُلْحِدُونَ) : يميلون بها إلى الباطل.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا) : أي من الناس.

معنى الآيات :

على إثر ذكر الهدى والضلال وإن المهتدى من هداه الله ، والضال من اضله الله أخبر تعالى أنه قد خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس ، علما منه تعالى بانهم يرفضون هدايته ويتكبرون عن عبادته ، ويحاربون أنبياءه ورسله ، وإن رفضهم للهداية وتكبرهم عن العبادة عطل حواسهم فلا القلب يفقه ما يقال له ، ولا العين تبصر ما تراه ، ولا الأذن تسمع ما تخبر به وتحدث عنه فأصبحوا كالأنعام (١) بل هم أضل لأن الأنعام ما خرجت عن الطريق الذى سيقت له وخلقت لأجله ، (٢) وأما أولئك فقد خرجوا عن الطريق الذي امروا بسلوكه ، وخلقوا له ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له لينجوا من العذاب ويسعدوا في دار النعيم ، وقوله تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) تقرير لحقيقة وهي أن استمرارهم في الضلال كان نتيجة غفلتهم عن آيات الله الكونية فلا يتأملوها فيعرفوا أن المعبود الحق هو الله وحده ويعبدوه وعن آيات الله التنزيلية فلا يتدبروها فيعلموا أن الله هو الحق المبين فيعبدوه وحده بما شرع لهم في كتابه وسنة نبيه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٧٩) وأما الآية الثانية في هذا السياق (١٨٠) وهي قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ) (٣) (بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فقد أخبر تعالى فيها بأن الأسماء الحسنى له تعالى خاصة لا يشاركه فيها أحد من خلقه ، وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها مائة (٤) اسم إلا اسما أي تسعة وتسعون إسما ووردت مفرقة في القرآن الكريم ، وأمر تعالى عباده أن

__________________

(١) قال عطاء : الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه ، وقيل : الأنعام مطيعة لله ، والكافر غير مطيع.

(٢) أي : لا همّة لهم إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح ، وهم أضل من الأنعام لأنّ الأنعام تبصر مضارها ومنافعها وتتبع مالكها وهم على خلاف ذلك.

(٣) روى أحمد رحمه‌الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (ما أصاب أحدا قط هم ولا حزم فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همّي إلّا أذهب الله حزنه وهمّه وأبدل مكانه فرحا).

(٤) روى الشيخان عن أبي هريرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحبّ الوتر).

يدعوه (١) بها يا الله ، يا رحمن يا رحيم يا رب ، يا حي يا قيوم ، وذلك عند سؤالهم اياه وطلبهم منه ما لا يقدرون عليه ، (٢) كما أمرهم ان يتركوا أهل الزيغ والضلال الذين يلحدون في أسماء الله فيؤلونها ، أو يعطلونها ، أو يشبهونها ، أمر عباده المؤمنين به أن يتركوا هؤلاء له ليجزيهم الجزاء العادل على ما كانوا يقولون ويعملون. لأن جدالهم غير نافع فيهم ولا مجد للمؤمنين ولا لهم.

هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (١٨١) وهي قوله تعالى (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) إنه لما ذكر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس ذكر هنا أنه خلق للجنة خلقا آخر من الإنس والجن فذكر صفاتهم التي يستوجبون بها الجنة كما ذكر صفات أهل جهنم التي استوجبوا بها جهنم ، فقال (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) من الناس (أُمَّةٌ) كبيرة (يَهْدُونَ) أنفسهم وغيرهم (بِالْحَقِ) الذي هو هدى الله ورسوله وبالحق يعدلون في قضائهم وأحكامهم فينصفون ويعدلون ولا يجورون ، ومن هذه الأمة كل صالح في أمة الإسلام يعيش على الكتاب والسنة اعتقادا وقولا وعملا وحكما وقضاء وأدبا وخلقا جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقيرير مبدأ ان السعادة والشقاء سبق بها قلم القضاء والقدر فكل ميسر لما خلق له.

٢ ـ هبوط الآدمي إلى درك أهبط من درك الحيوان ، وذلك عند ما يكفر بربه ويعطل حواسه عن الانتفاع بها ، ويقصر همه على الحياة الدنيا.

٣ ـ بيان أن البلاء كامن في الغفلة عن آيات الله والإعراض عنها.

٤ ـ الأمر بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى نحو يا رب يا رحمن ، يا عزيز يا جبار.

__________________

(١) ذكر أهل العلم كيفية الدعاء بها وهي ؛ : أن يسأل باسم الله ما يناسب حاجته فيقول مثلا : يا رحمن ارحمني ، يا رزاق ارزقني ، يا حكيم احكم لي ، يا قوي يا قدير. قوّني واقدرني على كذا .. يا لطيف ألطف بي ، يا عليم علّمني وانفعني بما تعلمني وهكذا ..

(٢) قال مقاتل وغيره في سبب نزول هذه الآية (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الخ أنّ مشركا سمع مسلما يدعو : يا رحمن يا رحيم فقال : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا؟ فما بال هذا يدعو ربّين اثنين ، فأنزل الله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الخ.

٥ ـ حرمة تأويل أسماء الله وصفاته وتحريفها كما قال المشركون في الله ، اللات ، وفي العزيز العزى سموا بها آلهتهم الباطلة ، وهو الإلحاد (١) الذي توعد الله أهله بالجزاء عليه.

٦ ـ أهل الجنة الذين خلقوا لها هم الذين يهدون بالكتاب والسنة ويقضون بهما.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

شرح الكلمات :

(كَذَّبُوا بِآياتِنا) : أي بآيات القرآن الكريم.

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) : (٢) أي نستميلهم وهم هابطون إلى هوة العذاب درجة بعد درجة حتى ينتهوا إلى العذاب ، وذلك بإدرار النعم عليهم مع تماديهم في التكذيب والعصيان حتى يبلغوا الأجل المحدد لهم ثم يؤخذوا أخذة واحدة.

__________________

(١) الإلحاد لغة : الميل عن وسط الشيء إلى جانبه والإلحاد للميت دفنه في جانب القبر وكان من إلحاد العرب في أسماء الله تعالى أن اشتقوا العزّى من العزيز واللات من الله ، ومناة من المنان فألحدوا في أسماء الله تعالى ، ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى ما يفعله جهال المتصوّفة من وضع أسماء لله تعالى لا توجد في كتاب ولا سنة.

(٢) الاستدراج : هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة ، والدّرج : لف الشيء ومنه ادراج الميت في كفنه أي : لفه فيه. واستدراج الله تعالى لأهل الغواية كلّما جددوا لله معصية جدد لهم نعمة حتى يأخذهم بذنوبهم وهم لا يشعرون وأحسن من أنشد :

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها

وعند صفو الليالي يحدث الكدر

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) : أي أمهلهم فلا أعجل بعقوبتهم حتى ينتهوا إليها بأعمالهم الباطلة وهذا هو الكيد لهم وهو كيد متين شديد.

(ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) : صاحبهم هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجنة الجنون والمتحدث عنهم كفار قريش.

(مَلَكُوتِ السَّماواتِ) : أي ملك السموات إلا أن لفظ الملكوت أعظم من لفظة الملك.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) : أي بعد القرآن العظيم.

ونذرهم في طغيانهم : أي نتركهم في كفرهم وظلمهم.

(يَعْمَهُونَ) : حيارى يترددون لا يعرفون مخرجا ولا سبيلا للنجاة.

معنى الآيات

يخبر تعالى أن الذين كذبوا بآياته التي أرسل بها رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يؤمنوا بها وأصروا على الشرك والضلال معرضين عن التوحيد والهدى يخبر تعالى أنه سيستدرجهم بالأخذ شيئا فشيئا ودرجة بعد درجة حتى يحق عليهم العذاب فينزله بهم فيهلكون ويخبر أنه يملى لهم أيضا كيدا بهم ومكرا ، أى يزيدهم في الوقت ويطول لهم زمن كفرهم وضلالهم فلا يعاجلهم بالعقوبة بل إنه يزيد في إرزاقهم وأموالهم حتى يفقدوا الاستعداد للتوبة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، ولذا قال (وَأُمْلِي (١) لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٢) أي قوي شديد. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٨٣) أما الثانية فإنه تعالى يوبخهم على إعراضهم عن التفكير والتعقل فيقول (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) في سلوك الرسول (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصرفاته الرشيدة الحكيمة فيعلموا أنه ما به من جنة وجنون كما يزعمون ، وإنما هو نذير لهم من عذاب يوم أليم إن هم استمروا على سلوك درب الباطل والشر من الشرك والمعاصي ، ونذارته بينه لا لبس فيها ولا غموض لو كانوا يتفكرون. وفي الآية الثالثة (١٨٥) يوبخهم

__________________

(١) قيل نزلت هذه الآية : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) إلى قوله : (مَتِينٌ) نزلت في المستهزئين من قريش وقد أخذوا بعد الإملاء لهم زمنا زاد على العشر سنين ، أخذهم في بدر وألقوا في القليب ووبخهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما هم أهله من الخزي والهوان.

(٢) المتين : مأخوذ من المتن وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب أي : الظهر.

(٣) هو المراد بالصاحب في قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) وهي الجنون ، دعا الله تعالى قريشا للتفكر.

على عدم نظرهم (١) في ملكوت السماوات والأرض وفي ما خلق الله من شيء وفي أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، إذ لو نظروا في ملكوت السموات والأرض وما في ذلك من مظاهر القدرة والعلم والحكمة لعلموا أن المستحق للعبادة هو خالق هذا الملكوت ، لا الأصنام والتماثيل ، كما أنهم لو نظروا فيما خلق الله من شيء من النملة إلى النخلة ومن الحبة الى القبة لأدركوا أن الله هو الحق وأن ما يدعون هو الباطل كما أنه حرى بهم أن ينظروا في ما مضى من أعمارهم فيدركوا أنه من الجائز أن يكون قد اقترب أجلهم ، وقد اقترب فعلا فليعجلوا بالتوبة حتى لا يؤخذوا وهم كفار أشرار فيهلكون ويخسرون خسرانا كاملا. ثم قال تعالى في ختام الآية (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) (٢) بعد القرآن يؤمنون فالذي لا يؤمن بالقرآن وكله حجج وشواهد وبراهين وأدلة واضحة على وجوب توحيد الله والايمان بكتابه ورسوله ولقائه ووعده ووعيده فبأي كلام يؤمن ، اللهم لا شيء ، فالقوم إذا أضلهم الله ، ومن أضله الله فلا هادي له ويزرهم في طغيانهم يعمهون حيارى يترددون لا يدرون ما يقولون ، ولا أين يتجهون حتى يهلكوا كما هلك من قبلهم. وما ربك بظلام للعبيد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عظم خطر التكذيب بالقرآن الكريم حتى أن المكذب ليستدرج حتى يهلك وهو لا يعلم.

٢ ـ أكبر موعظة وهي أن على الإنسان أن يذكر دائما أن أجله قد يكون قريبا وهو لا يدري فيأخذ بالحذر والحيطة حتى لا يؤخذ على غير توبة فيخسر.

٣ ـ من لا يتعظ بالقرآن وبما فيه من الزواجر ، والعظات والعبر ، لا يتعظ بغيره.

٤ ـ من أعرض عن كتاب الله مكذبا بما فيه من الهدى فضل ، لا ترجى له هداية أبدا.

__________________

(١) استدل العلماء بهذه الآية : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ونظائر هذه الآية وهي كثيرة على وجوب النظر في الآيات والاعتبار بالمخلوقات وهو كذلك ، واختلف العلماء في : هل الإيمان يثبت بالتقليد أو لا بد من النظر حتى يؤمن ، والصحيح : أنّ الإيمان يصح بالتقليد المفيد لليقين كإيمان عوام المسلمين ، وأفضل منه ما كان عن نظر واستدلال وهو إيمان العالمين.

(٢) قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) الخ : الاستفهام لتوقيفهم على ما يجب أن يفكروا فيه وينظروا إليه وتوبيخهم على ترك ذلك.

(يَسْئَلُونَكَ(١) عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

شرح الكلمات :

(السَّاعَةِ) : أي الساعة بمعنى الوقت الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا بالفناء التام.

(أَيَّانَ مُرْساها) (٢) : أي متى وقت قيامها.

(لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) : أي لا يظهرها في وقتها المحدد لها إلا هو سبحانه وتعالى.

(بَغْتَةً) : أي فجأة بدون توقع أو انتظار.

(حَفِيٌّ عَنْها) : أي ملحف مبالغ في السؤال عنها حتى أصبحت تعرف وقت مجيئها.

(الْغَيْبَ) : الغيب ما غاب عن حواسنا وعن عقولنا فلم يدرك بحاسة ولا بعقل. والمراد به هنا ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد.

(السُّوءُ) : كل ما يسوء العبد في روحه أو بدنه.

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) : أي ما أنا إلا نذير وبشير فلست بإله يدبر الأمر ويعلم الغيب.

__________________

(١) السائلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة كثيرون بعضهم مشركون يسألون للتعجيز وبعضهم يهود يسألون اختبارا وامتحانا.

(٢) اسم يسأل به عن الزمان لا غير ، قال الراجز :

أيّان تقضي حاجتي أيّان

أما ترى لنجحها أوانا

معنى الآيات :

لا شك أن أفرادا من قريش أو من غيرهم سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة متى قيامها فأخبره تعالى بسؤالهم وعلمه الجواب فقال عزوجل وهو يخاطب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) (١) أي متى وقت وقعوها وقيامها؟ قل لهم (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي علم وقت قيامها عند ربي خاصة (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) أي لا يظهرها لأول وقتها إلا هو (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل أمر علمها عند أهل السموات والأرض (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة ، ثم قال له يسألونك هؤلاء الجهال عن الساعة (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي كأنك ملحف في السؤال مبالغ في طلب معرفتها حتى عرفتها ، قل لهم (إِنَّما عِلْمُها) (٢) (عِنْدَ اللهِ) خاصة ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، ولذا هم يسألونه ، إذ إخفاؤه لحكم عالية لو عرفها الناس ما سألوا ولن يسألوا ولكن الجهل هو الذي ورطهم في مثل هذه الأسئلة وهذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٨٧) أما الآية الثانية (١٨٨) فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك السائلين عن الساعة متى وقت مجيئها (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) خيرا ولا شرا (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) شيئا من ذلك فإنه يعينني على جلبه أو على دفعه فكيف إذا أعلم وقت مجىء الساعة حتى تسألوني عنها (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (٣) كما تظنون لاستكثرت من الخيرات وما مسنى السوء. وذلك أني إذا عرفت متى الخصب ومتى الجدب ، ومتى الغلاء ومتى الرخاء يمكنني بسهولة أن استكثر من الخير عند وجوده ، وأتوقى الشر وأدفعه قبل حصوله ، يا قوم إنما أنا نذير بعواقب الشرك والمعاصي بشير بنتائج الإيمان والتوحيد والعمل الصالح فلست بإله أعلم الغيب ، ووظيفتي هذه صراحة هي البشارة والنذارة ينتفع بها المؤمنون خاصة وهو معنى قوله تعالى (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) (أَيَّانَ مُرْساها) : مرساها مبتدأ ، والخير أيّان ، وقدّم لأنه اسم استفهام له الصدارة ومعنى مرساها : مثبتها ، من قولهم أرسى كذا إذا أثبته ، أي : متى وقوعها.

(٢) أي علم الساعة إذ إخفاء علم الساعة كان لحكم عالية لو عرفها السائلون عن الساعة ما سألوا ولكنهم لجهلهم يسألون.

(٣) الغيب : قسمان ، حقيقي : وهو ما استأثر الله تعالى به ومن علّمه تعالى منه شيئا علمه. وإضافي : يعلمه بعض ويخفي عن بعض ، ومن ادعى علم الغيب فقد كذّب الله ونازعه فيما استأثر به فهو بذلك كافر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مرد علم الساعة إلى الله وحده فكل مسؤول عنها غير الله ليس أعلم من السائل. (١)

٢ ـ للساعة أشراط بعضها في الكتاب وبعضها في السنة وليس معنى ذلك أنه تحديد لوقتها وإنما هي مقدمات تدل على قربها فقط.

٣ ـ استأثر الله بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله ، ومن علّمه الله شيئا منه علم كما علم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض المغيبات ، والمعلم بالشيء لا يقال فيه يعلم الغيب وإنما يقال علّمه ربه غيب كذا وكذا فعلمه.

٤ ـ إذا كان الرسول لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يطلب منه ذلك وإذ كان الرسول لا يملك فهل من دونه من العباد يملك؟ إذا عرفت هذا ظهر لك ضلال أقوام يدعون الموتى سائلين ضارعين عند قبورهم ويقولون أنهم لا يدعونهم ولكن يتوسلون بهم فقط.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣))

__________________

(١) لحديث مسلم : فقد سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فبيّن له ذلك فصدقه جبريل وسأله عن الساعة فقال له : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.

شرح الكلمات :

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : هي نفس آدم عليه‌السلام.

(وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) : أي خلق منها زوجها وهي حواء خلقها من ضلع آدم الأيسر.

(لِيَسْكُنَ إِلَيْها) : أي ليألفها ويأنس بها لكونها من جنسه.

(فَلَمَّا تَغَشَّاها) : أي وطئها.

(فَمَرَّتْ بِهِ) : أي ذاهبة جائية تقضى حوائجها لخفت الحمل في الأشهر الأولى.

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) (١) : أي أصبح الحمل ثقيلا في بطنها.

(لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) : أي ولدا صالحا ليس حيوانا بل إنسانا.

(جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) : أي سموه عبد الحارث وهو عبد الله جل جلاله.

(فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي أهل مكة حيث أشركوا في عبادة الله أصناما.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) : أي الأصنام لا يتبعوكم.

معنى الآيات :

يقول تعالى لأولئك السائلين عن الساعة عنادا ومكابرة من أهل الشرك هو أي الله (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) الإله المستحق للعبادة لا الأصنام والأوثان ، فالخالق لكم من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها حواء هو المستحق للتأليه والعبادة. دون غيره من سائر خلقه. وقوله (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) : علة لخلقه زوجها منها ، إذ لو كانت من جنس آخر لما حصلت الألفة والأنس بينهما وقوله (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي للوطء ووطئها (حَمَلَتْ (٢) حَمْلاً خَفِيفاً ، فَمَرَّتْ (٣) بِهِ) لخفته (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي أثقلها الحمل

__________________

(١) قال الفقهاء كمالك : إذا بلغ الحمل ستة أشهر أصبحت الحامل مريضة فلا يصح لها أن تهب من مالها أكثر من الثلث ، ومثلها من دخل معركة القتال ، وكذا المريض الشديد المرض ، والمحبوس للقتل ليس لهم من هبة إلّا ما كان الثلث فأقل.

(٢) كل ما كان في البطن أو على رأس النخلة أو الشجرة فهو حمل بفتح الحاء وكل ما كان على رأس أو ظهر إنسان أو حيوان فهو حمل بكسر الحاء.

(٣) فمرت به لخفّته فلم تتفطّن له ولم تفكر في شأنه ومعنى أثقلت أي صارت ذات ثقل من أثقل المريض فهو مثقل فأثقلت صارت مثقلة.

(دَعَوَا اللهَ) أي آدم (١) وحواء ربهما تعالى أي سألاه قائلين (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي غلاما صالحا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي لك. واستجاب الرب تعالى لهما وآتاهما صالحا. وقوله تعالى (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) حيث سمته حواء عبد الحارث بتغرير من إبليس ، إذ اقترح عليهما هذه التسمية ، وهي من الشرك الخفي المعفو عنه نحو لو لا الطبيب هلك فلان ، وقوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عائد إلى كفار قريش الذين يشركون في عبادة الله أصنامهم وأوثانهم ، بدليل قوله بعد (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) أي من المخلوقات (وَهُمْ) أي الأوثان وعبادها (يُخْلَقُونَ ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) إذا طلبوا منهم ذلك. (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) لأنهم جمادات لا حياة بها ولا قدرة لها وقوله (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي وإن تدعوا أولئك الأصنام (إِلَى الْهُدى) وقد ضلوا الطريق (لا يَتَّبِعُوكُمْ) (٢) لأنهم لا يعقلون الرشد من الضلال ولذا فسواء عليكم (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي لم تدعوهم فإنهم لا يتبعونكم ومن هذه حاله وهذا واقعه فهل يصح أن يعبد فتقرب له القرابين ويحلف به ، ويعكف عنده ، وينادى ويستغاث به؟؟ اللهم لا ، ولكن المشركين لا يعقلون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أصل خلق البشر وهو آدم وحواء عليهما‌السلام.

٢ ـ بيان السر في كون الزوج من جنس الزوج وهو الألفة والأنس والتعاون.

٣ ـ بيان خداع إبليس وتضليله للإنسان حيث زين لحواء تسمية ولدها بعبد الحارث وهو عبد الله.

٤ ـ الشرك في التسمية (٣) شرك خفي معفو عنه وتركه أولى.

٥ ـ التنديد بالشرك والمشركين ، وبيان جهل المشركين وسفههم إذ يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يجيب ولا يتبع.

__________________

(١) ما ذهبت إليه في التفسير هو ما ذهب إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري وهو مؤيد بقراءة تشركون بالتاء وبحديث خدعهما مرتين خدعهما فى الجنة وخدعهما فى الأرض وذهب آخرون إلى أن الكلام على جنس الآدميين تبينا لحال المشركين من ذرية ادم ودل على قولهم قراءة يشركون بالياء والله أعلم.

(٢) يقول بعضهم : اتبعه : إذا مشى وراءه ولم يدركه ، واتّبعه مشددا إذا مشى وراءه وأدركه.

(٣) نحو : عبد النبي ، وعبد الرسول ، وعبد الضيف كما قال حاتم الطائي :

وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا

وما في إلّا تيك من شيمة العبد

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

شرح الكلمات :

(عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) : أي مملوكون مخلوقون أمثالكم لمالك واحد هو الله رب العالمين.

(شُرَكاءَكُمْ) : أصنامكم التى تشركون بها.

(ثُمَّ كِيدُونِ) : بما استطعتم من أنواع الكيد.

(فَلا تُنْظِرُونِ) : أي فلا تمهلون لأني لا أبالي بكم.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) : أي المتولي أموري وحمايتي ونصرتي الله الذي نزل القرآن.

(وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ) : أي وترى الأصنام المنحوتة على شكل رجال ينظرون إليك وهم لا يبصرون.

معنى الآيات :

هذه الآيات الخمس في سياق ما قبلها جاءت مقررة لمبدأ التوحيد مؤكدة له منددة

بالشرك مقبحة له ، ولأهله فقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) (١) أي دعاء عبادة أيها المشركون هم (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) (٢) أي مملوكون لله ، الله مالكهم كما أنتم مملوكون لله مربوبون. فكيف يصح منكم عبادتهم وهم مملكون مثلكم لا يملكون لكم ولا لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، وإن شككتم في صحة هذا فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم آلهة يستحقون العبادة. إنكم لو دعوتموهم ما استجابوا ، وكيف يستجيبون وهم جماد ولا حياة لهم (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ (٣) يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) إنه لا شيء لهم من ذلك فكيف إذا يستجيبون ، وبأي حق يعبدون فيدعون ويرجون وهم فاقدوا آثار القدرة والحياة بالمرة.

ثم أمر الله تعالى رسوله أن يعلن لهم أنه لا يخافهم ولا يعدهم شيئا إذا كانوا هم يعبدونهم ويخافونهم فقال له قل لهؤلاء المشركين (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) (٤) أنتم وإياهم (فَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تمهلونى ساعة ، وذلك لأن (وَلِيِّيَ (٥) اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أي القرآن (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) فهو ينصرني منكم ويحميني من كيدكم إنه ولي ووليّ المؤمنين. أما أنتم (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله من هذه الأوثان (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) وشيء آخر وهو أنكم (إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) فضلا عن إن تدعوهم إلى الضلال فكيف تصح عبادة من لا يجيب داعيه في الرخاء ولا في الشدة. وأخيرا يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَتَراهُمْ) أي ترى أولئك الآلهة وهي تماثيل من حجارة (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) (٦) إذا قابلتهم لأن أعينهم مفتوحة دائما ، والحال أنهم لا يبصرون ، وهل تبصر الصور والتماثيل؟.

__________________

(١) تدعون : بمعنى تعبدون لأنّ الدعاء هو العبادة أو تدعون : بمعنى تدعونها عبادة فحذف المفعول ليشمل التعبير المعنيين وهو من بلاغة القرآن.

(٢) أطلق لفظ عباد على الأوثان لأنها مملوكة لله تعالى كعابديها مخلوقة كما هم مخلوقون ، ولما اعتقد المشركون أنّ أصنامهم تنفع وتضر عاملها معاملة العقلاء فقال : عباد أمثالكم وقال : (فَادْعُوهُمْ) بدل فادعوهن.

(٣) اليد والرجل والأذن مؤنثات ولذا يصغّرن بالهاء ويقال : يدية ورجلية وأذنية وشدّدت الهاء من : يدية لأنّ الياء المحذوفة من يد ، ردّت في التصغير.

(٤) أصل كيدون : كيدوني بالياء فحذفت تخفيفا ، والكيد : المكر ، والحرب أيضا يقال : غزا فلم يلق كيدا أي : حربا.

(٥) وليّ الشيء : هو الذي يحفظه ويمنع الضرر عنه وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (ألا إن آل فلان ليسوا لي بأولياء إنّما وليي الله وصالح المؤمنين).

(٦) النظر : فتح العينين إلى المنظور إليه ، وجملة وتراهم مستأنفة وينظرون في محل نصب على الحال ، وجائز أن يكون المراد ب تراهم ينظرون إليك المشركون أنفسهم وكونهم لا يبصرون لأنهم لم ينتفعوا بأبصارهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات

١ ـ إقامة الحجة على المشركين بالكشف عن حقيقة ما يدعون أنها آلهة فإذا بها أصنام لا تسمع ولا تجيب لا أيد لها ولا أرجل ولا آذان ولا أعين.

٢ ـ وجوب التوكل على الله تعالى ، وطرد الخوف من النفس والوقوف أمام الباطل وأهله في شجاعة وصبر وثبات اعتمادا على الله تعالى وولايته إذ هو يتولى الصالحين.

٣ ـ جواز المبلاغة في التنفير من الباطل والشر بذكر العيوب والنقائص.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢))

شرح الكلمات :

(الْعَفْوَ) : ما كان سهلا لا كلفة فيه وهو ما يأتي بدون تكلف.

(بِالْعُرْفِ) : أي المعروف في الشرع بالأمر به أو الندب إليه.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) : الجاهلون : هم الذين لم تستنر قلوبهم بنور العلم والتقوى ، والإعراض عنهم بعدم مؤاخذتهم على سوء قولهم أو فعلهم.

نزغ الشيطان : أي وسوسته بالشر.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) : أي قل أعوذ بالله يدفعه عنك إنه أي الله سميع عليم.

(اتَّقَوْا) : أي الشرك والمعاصي.

(طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) : أي ألم بهم شيء من وسوسته.

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) : أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي يمدونهم في الغي.

(ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) : أي لا يكفون عن الغي الذي هو الضلال والشر والفساد.

معنى الآيات :

لما علّم تعالى رسوله كيف يحاج المشركين لإبطال باطلهم في عبادة غير الله تعالى والإشراك به عزوجل علمه في هذه الآية أسمى الآداب وأرفعها ، وأفضل الأخلاق وأكملها فقال له : (خُذِ الْعَفْوَ (١) وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (٢) (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي خذ من أخلاق الناس ما سهل عليهم قوله وتيسر لهم فعله ، ولا تطالبهم بما لا يملكون أو بما لا يعلمون وأمرهم بالمعروف ، وأعرض (٣) عن الجاهلين منهم فلا تعنفهم ولا تغلظ القول لهم فقد سأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى هذه الآية جبريل عليه‌السلام فقال له : (تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك (٤)) وقوله (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) (٥) أي أثار غضبك حتى لا تلتزم بهذا الأدب الذي أمرت به (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) بدفعه عنك إنه سميع لأقوالك عليم بأحوالك. ثم قال تعالى مقررا حكم الاستعاذة مبينا جدواها ونفعها لمن يأخذ بها. (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي ربهم فلم يشركوا به أحدا ولم يفرطوا في الواجبات ولم يغشوا المحرمات هؤلاء (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ (٦) مِنَ الشَّيْطانِ) بأن نزغهم بإثارة الغضب أو الشهوة فيهم تذكروا

__________________

(١) قال ابن الزبير هذه الآية : (خُذِ الْعَفْوَ ..) الخ ما أنزلها الله تعالى إلّا في أخلاق الناس ، وقال جعفر الصادق أمر الله رسوله بمكارم الأخلاق في هذه الآية ، وليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.

(٢) العرف : المعروف وقرىء العرف : العرف بضم العين والراء مثل : الحلم والعرف : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس : قال الشاعر :

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس

(٣) الإعراض عن الجاهلين يكون بعد دعوتهم إلى الحق وإقامة الحجة عليهم فإن لم يستجيبوا يعرض عنهم آذوه أو لم يؤذوه.

(٤) من أحاديث مكارم الأخلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق.

(٥) النزغ ، والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد ، والنزغ : الإفساد والإغواء والإغراء وعلاج الوسوسة ، الاستعاذة بالله تعالى.

(٦) الطيف ، والطائف ، بمعنى ، وقيل : الطيف : الخيال ، والطائف : الشيطان. وهو صحيح أيضا.

أمر الله ونهيه ووعده ووعيده (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) يرون قبح المعصية وسوء عاقبة فاعلها فكفوا عنها ولم يرتكبوها. وقوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ) أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي (يَمُدُّونَهُمْ) أي الشياطين (فِي الغَيِ) أي في المعاصي والضلالات ويزيدونهم في تزيينها لهم وحملهم عليها ، (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) عن فعلها ويكفون عن ارتكابها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الأمر بالتزام الآداب والتحلي بأكمل (١) الأخلاق ومن أرقاها العفو عمن ظلم وإعطاء من حرم ، وصلة من قطع.

٢ ـ وجوب الاستعاذة بالله عند (٢) الشعور بالوسوسة أو الغضب أو تزيين الباطل. (٣)

٣ ـ فضيلة التقوى وهي فعل الفرائض وترك المحرمات.

٤ ـ شؤم أخوة الشياطين حيث لا يقصر صاحبها بمد الشياطين له عن الغي الذي هو الشر والفساد.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ

__________________

(١) روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (أمرني ربي بتسع : الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وأن أعفو عمّن ظلمني وأصل من قطعني ، وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرة).

(٢) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له : من خلق ربّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته) فقوله : فليستعذ : الأمر للوجوب إذ لا يدفع الشيطان إلا الله تعالى فهو الذي ينجي منه ويجير.

(٣) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت آية (خُذِ الْعَفْوَ) الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كيف يا رب والغضب) فنزلت : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ...) الخ.

فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

شرح الكلمات :

(قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) : أي اخترعتها واختلقتها من نفسك وأتيتنا بها.

(هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي هذا القرآن حجج وبراهين وأدلة على ما جئت به وادعوكم إليه فهو أقوى حجة من الآية التي تطالبون بها.

(فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) : أي اطلبوا سماعه وتكلفوا له ، وانصتوا عند ذلك أي اسكتوا حتى تسمعوا سماعا ينفعكم.

(وَخِيفَةً) : أي خوفا.

(بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) : الغدو : أول النهار ، والآصال : أواخره.

(مِنَ الْغافِلِينَ) : أي عن ذكر الله تعالى.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) : أي الملائكة.

(يُسَبِّحُونَهُ) : ينزهونه بألسنهم بنحو سبحان الله وبحمده.

معنى الآيات :

ما زال السياق في توجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليمه الرد على المشركين خصومه فقال تعالى عن المشركين من أهل مكة (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) يا رسولنا (بِآيَةٍ) (١) كما طلبوا (قالُوا) لك (لَوْ لا) أي هلا (اجْتَبَيْتَها) أي اخترعتها وأنشأتها من نفسك ما دام ربك لم يعطها قل لهم إنما أنا عبد الله ورسوله لا أفتات عليه و (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) وهذا القرآن الذي يوحى إلي بصائر (٢) من حجج وبراهين على صدق دعواي وإثبات رسالتي ،

__________________

(١) وجائز أن يكون المراد من الآية : آية قرآنية يمدحهم فيها ويمدح أصنامهم ولو لا هنا أداة تحضيض مثل هلّا ولا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا.

(٢) البصائر : جمع بصيرة وهي ما به يتضح الحق ، وفي هذا تنويه بشأن القرآن العظيم وأنه : أعظم من الآيات أي : الخوارق التي يطالبون بها في الدلالة على الحق الذي ضلّوا عنه.

وصحة ما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد وترك الشرك والمعاصي ، فهلا آمنتم واتبعتم أم الآية الواحدة تؤمنون عليها والآيات الكثيرة لا تؤمنون عليها أين يذهب بعقولكم؟ وعلى ذكر بيان حجج القرآن وأنواره أمر الله تعالى عباده المؤمنين إذا قرىء عليهم القرآن أن يستمعوا وينصتوا وسواء كان يوم الجمعة على المنبر أو كان في غير ذلك (١) فقال تعالى (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي تكلفوا السماع وتعمدوه (وَأَنْصِتُوا) بترك الكلام (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن ينالكم من هدى القرآن رحمته فتهتدوا وترحموا لأن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين.

ثم أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له في هذا الكمال فقال تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أي سرا (تَضَرُّعاً) أي تذللا وخشوعا ، (وَخِيفَةً) (٢) أي وخوفا وخشية (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو السر بأن يسمع نفسه فقط أو من يليه لا غير وقوله (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي أوائل النهار وأواخره ، ونهاه عن ترك الذكر وهو الغفلة فقال (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) وذكر له تسبيح (٣) الملائكة وعبادتهم ليتأسى بهم ، فيواصل العبادة والذكر ليل نهار فقال (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الملائكة في الملكوت الأعلى (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي طاعته بما كلفهم به ووظفهم فيه (وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٤) فتأس بهم ولا تكن من الغافلين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن أكبر آية بل هو أعظم من كل الآيات التي أعطيها الرسل عليهم‌السلام.

٢ ـ وجوب الإنصات عند تلاوة القرآن وخاصة في خطبة الجمعة على المنبر وعند قراءة الامام في الصلاة الجهرية.

__________________

(١) أي : كيومي العيدين مثلا ، وهذا الأمر بالاستماع والانصات للقرآن عام يشمل المشركين إذ كانوا يأمرون بعدم الاستماع إليه كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ...) كما يشمل المؤمنين ، إذ سماع القرآن سبيل الهداية ، والإنصات : سماع مع عدم التكلم حال الاستماع.

(٢) الخيفة : أصلها خوفة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وهي مصدر خاف المرء يخاف خوفا وخيفة ومخافة فهو خائف.

(٣) تسبيح الملائكة معناه : تعظيمهم لله تعالى وتنزيههم له عزوجل عن الشريك والولد.

(٤) صيغة المضارع في (يُسَبِّحُونَهُ) و (يَسْجُدُونَ) لحصر السجود في الله تعالى وعدم جوازه لغيره عزوجل.

٣ ـ وجوب ذكر الله بالغدو والآصال.

٤ ـ بيان آداب الذكر وهي :

١ ـ السرية.

٢ ـ التضرع والتذلل.

٣ ـ الخوف والخشية.

٤ ـ الإسرار به وعدم رفع الصوت به ، لا كما يفعل المتصوفة.

٥ ـ مشروعية الأئتساء بالصالحين والاقتداء بهم في فعل الخيرات وترك المنكرات.

٦ ـ عريمة السجود عند قوله (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (١) وهذه أول سجدات القرآن ويسجد القارىء والمستمع له ، أما السامع فليس عليه سجود ، ويستقبل بها القبلة ويكبر عند السجود وعند الرفع منه ولا يسلم وكونه متوضأ أفضل.

سورة الأنفال

مدنية

وآياتها خمس وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ

__________________

(١) ولو سلم منها في غير الصلاة جاز فقد روي عن بعض السلف ، ويستحب لمن سجد أن يقول : (اللهم احطط عني بها وزرا واكتب لي بها اجرا واجعلها لي عندك ذخرا) رواه ابن ماجه. عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

شرح الكلمات :

(الْأَنْفالِ) : جمع نفل (١) بتحريك الفاء : ما يعطيه الإمام لأفراد الجيش تشجيعا لهم.

(ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي حقيقة بينكم ، والبين الوصلة والرابطة التي تربط بعضكم ببعض من المودة والإخاء.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) : أي الكاملون في إيمانهم.

(وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : أي خافت إذ الوجل : (٢) هو الخوف لا سيما عند ذكر وعيده ووعده.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : على الله وحده يعتمدون وله أمرهم يفوضون.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) : أي أعطيناهم.

(أُولئِكَ) : أي الموصوفون بالصفات الخمس السابقة.

(لَهُمْ دَرَجاتٌ) : منازل عالية في الجنة.

(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : أي عطاء عظيم من سائر وجوه النعيم في الجنة.

معنى الآيات :

هذه الآيات نزلت في غزوة بدر وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نفل (٣) بعض المجاهدين لبلائهم

__________________

(١) النفل : بسكون الفاء : اليمين وفي الحديث : (فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم) وهو أيضا الانتفاء من الشيء وفي الحديث : (فانتفل من ولدها) والنفل : نبت معروف ، والنفل : الزيادة على الفرائض في الصلاة.

(٢) قيل لبعضهم : متى تعرف أنه استجيب دعاؤك؟ قال : إذا اقشعرّ جلدي ووجل قلبي ، وفاضت عيناي بالدموع ، وقالت عائشة رضي الله عنها : ما الوجل في القلب إلا كضرمة السعفة ، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك.

(٣) هذا ما ذهب إليه ابن جرير ورجحه محتجا عليه بشواهد اللغة والتاريخ والجمهور على أن المراد بالأنفال هنا غنائم بدر ، والكل محتمل إذ حصل النفل ، وحصلت الغنيمة ، ولما اختلفوا ردت إلى الله ورسوله ثم حكم الله تعالى فيها بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ..) الآية.

وتخلف آخرون فحصلت تساؤلات بين المجاهدين لم يعطي هذا ولم لا يعطي ذاك فسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (يَسْئَلُونَكَ (١) عَنِ الْأَنْفالِ؟) (٢) فأخبرهم أنها (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فالله يحكم فيها بما يشاء والرسول يقسمها بينكم كما يأمره ربه (٣) وعليه فاتقوا الله تعالى بترك النزاع والشقاق ، (وَأَصْلِحُوا) ذات بينكم بتوثيق عرى المحبة بينكم وتصفية قلوبكم من كل ضغن أو حقد نشأ من جراء هذه الأنفال واختلافكم في قسمتها ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل ما يأمرانكم به وينهيانكم عنه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي. وقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في إيمانهم الذين يستحقون هذا الوصف وصف المؤمنين هم (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) أي اسمه أو وعده أو وعيده (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (٤) أي خافت فأقلعت عن المعصية ، وأسرعت إلى الطاعة ، (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي قوي إيمانهم وعظم يقينهم ، (وَعَلى رَبِّهِمْ) لا على غيره (يَتَوَكَّلُونَ) وفيه تعالى يثقون. وإليه تعالى أمورهم يفوضون ، (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بأدائها بكامل شروطها وكافة أركانها وسائر سننها وآدابها ، (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي اعطيناهم (يُنْفِقُونَ) من مال وعلم ، وجاه وصحة بدن من كل هذا ينفقون في سبيل الله (أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات الخمس (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وصدقا ، (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي منازل عالية متفاوتة العلو والارتفاع في الجنة ، ولهم قبل ذلك (مَغْفِرَةٌ) كاملة لذنوبهم ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٥) طيب واسع لا تنقيص فيه ولا تكدير ، وذلك في الجنة دار المتقين.

__________________

(١) السؤال معناه : الطلب فإن عدي بعن : كان لطلب معرفة شيء نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وإن عدي بنفسه نحو :

(سأله ما لا فهو : لطلب إعطاء الشيء المطلوب).

(٢) الأنفال : جمع نفل بفتح النون والفاء معا كعمل وهو مشتق من النافلة التي هي الزيادة في العطاء ، وقد أطلق العرب لفظ النفل على الغنائم في الحرب اعتبارا منهم لها على أنها زيادة عن المقصود الأهم الذي هو إبادة العدو ، ولذا كان بعض صناديدهم لا يأخذونها وهذا عنترة يقول :

يخبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم

(٣) اختلف في النفل هل يكون من الخمس أو هو خمس الخمس من الغنيمة؟ والصحيح أنه ما يعطيه الإمام من شاء من المقاتلين لبلائه من الخمس.

(٤) وجل : كضرب ، يوجل كيضرب ويجل كيلد باسقاط فاء الكلمة والمصدر : الوجل كالعسل ، وموجل كموعد.

(٥) لفظ (الكريم) يصف به العرب كل شيء حسن في بابه لا قبح فيه ولا شكوى منه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الأمر بتقوى الله عزوجل وإصلاح ذات البين.

٢ ـ الإيمان يزيد (١) بالطاعة وينقص بالعصيان.

٣ ـ من المؤمنين من هو كامل الإيمان ، ومنهم من هو ناقصه.

٤ ـ من صفات أهل الإيمان الكامل ما ورد في الآية الثانية من هذه السورة (٢) وما بعدها

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ (٣) وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

شرح الكلمات :

(مِنْ بَيْتِكَ) : أي المدينة المنورة.

(لَكارِهُونَ) : أي الخروج للقتال.

(إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) : العير «القافلة» أو النفير : نفير قريش وجيشها.

__________________

(١) سئل الحسن البصري فقيل له : يا أبا سعيد أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر فأنا به مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فو الله ما أدري أنا منهم أم لا؟

(٢) وهما الآية الثالثة والرابعة.

(٣) الباء للمصاحبة أي : أخرجه إخراجا مصاحبا للحق ليس فيه من الباطل شيء قط.

(الشَّوْكَةِ) (١) : السلاح في الحرب.

(يُبْطِلَ الْباطِلَ) : أي يظهر بطلانه بقمع أهله وكسر شوكتهم وهزيمتهم.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) : كفار قريش المشركون.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) أيها الرسول (مِنْ بَيْتِكَ) بالمدينة (بِالْحَقِ) متلبسا به حيث خرجت بإذن الله (وَإِنَ (٢) فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) لما علموا بخروج قريش لقتالهم ، وكانت العاقبة خيرا عظيما ، هذه الحال مثل حالهم لما كرهوا نزع الغنائم من أيديهم وتوليك قسمتها بإذننا ، على أعدل قسمة وأصحها وأنفعها فهذا الكلام في هذه الآية (٥) تضمنت تشبيه حال حاضرة بحال ماضيه حصلت في كل واحدة كراهة بعض المؤمنين ، وكانت العاقبة في كل منهما خيرا والحمد لله ، وقوله تعالى (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي يجادلونك في القتال بعد ما اتضح لهم أن العير (٣) نجت وأنه لم يبق إلا النفير (٤) ولا بد من قتالها. وقوله تعالى (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي إلى الموت عيانا يشاهدونه أمامهم وذلك من شدة كراهيتهم لقتال لم يستعدوا له ولم يوطنوا أنفسهم لخوض معاركه. وقوله تعالى (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) أي اذكر يا رسولنا لهم الوقت الذي يعدكم الله تعالى فيه إحدى الطائفتين العير والنفير ، وهذا في المدينة وعند السير أيضا (أَنَّها لَكُمْ) أي تظفرون بها ، (وَتَوَدُّونَ) أي تحبون أن تكون (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) وهي غير أبي سفيان (تَكُونُ لَكُمْ) ، وذلك لأنها مغنم بلا مغرم لقلة عددها وعددها ، والله يريد (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي يظهره بنصر أوليائه وهزيمة أعدائه ، وقوله (بِكَلِماتِهِ) أي التي تتضمن أمره تعالى إياكم بقتال الكافرين ، وأمره الملائكة بالقتال معكم ، وقوله (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي بتسليطكم عليهم فتقتلوهم حتى لا

__________________

(١) وكلّ نبت له حدّ يقال له : شوك واحده : شوكة.

(٢) هذه الجملة حالية : والعامل فيها : أخرجك ربّك.

(٣) هي قافلة أبي سفيان التجارية التي يصحبها زهاء ثلاثين رجلا من قريش.

(٤) النفير : جيش قريش الذي استنفرت فيه قرابة ألف مقاتل.

تبقوا منهم غير من فر وهرب ، وقوله (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي لينصره ويقرره وهو الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) وهو الشرك (وَلَوْ كَرِهَ) ذلك (الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك ، وعلى غيرهم أيضا حيث منعوهم من قبول الإسلام وصرفوهم عنه بشتى الوسائل.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قاعدة (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وذكر نبذة عن غزوة بدر الكبرى وبيان ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن عيرا لقريش تحمل تجارة قادمة من الشام في طريقها إلى مكة وعلى رأسها أبو سفيان بن حرب فانتدب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض أصحابه للخروج إليها عسى الله تعالى أن يغنمهم إياها ، لأن قريشا صادرت أموال بعضهم وبعضهم ترك ماله بمكة وهاجر. فلما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثناء مسيره أخبرهم أن الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين ، لا على التعيين جائز أن تكون العير ، وجائز أن تكون النفير الذي خرج من مكة للذب عن العير ودفع الرسول وأصحابه عنها حتى لا يستولوا عليها ، فلما بلغ الرسول نبأ نجاة العير (١) وقدوم النفير استشار أصحابه فوافقوا على قتال المشركين ببدر وكره بعضهم ذلك ، وقالوا : انا لم نستعد للقتال فأنزل الله تعالى هذه الآيات (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) إلى قوله (... وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

٢ ـ بيان ضعف الإنسان في رغبته في كل مالا كلفة فيه ولا مشقة.

٣ ـ إنجاز الله تعالى وعده للمؤمنين إذ أغنمهم طائفة النفير وأعزهم بنصر لم يكونوا مستعدين له.

__________________

(١) لأنّ أبا سفيان لما بلغه بواسطة بعض الركبان أنّ محمدا قد خرج برجاله يطلب عيره استأجر ضمضم الغفاري فبعثه إلى أهل مكة يخبرهم بخروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمرهم أن ينفروا لإنقاذ قافلتهم ، وأما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فإنهم لما بلغوا في مسيرهم وادي ذفران وخرجوا منه أتاهم نبأ خروج قريش ليمنعوا قافلتهم فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فقام أبو بكر وقال فأحسن ثم قال عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله : امض لما أمرك الله به فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قال بنو اسرائيل لموسى : (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس ، وهو يريد الأنصار فقال له سعد بن معاذ : كأنك تعنينا يا رسول الله قال : أجل ، فقال سعد كلمة سرّت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندها قال : سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين.

٤ ـ ذكر نبذة عن وقعة بدر وهي من أشهر الوقائع وأفضلها وأهلها من أفضل الصحابة وخيارهم إذ كانت في حال ضعف المسلمين حيث وقعت في السنة الثانية من الهجرة وهم أقلية والعرب كلهم أعداء لهم وخصوم.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

شرح الكلمات :

(تَسْتَغِيثُونَ) (١) : أي تطلبون الغوث من الله تعالى وهو النصر على

__________________

(١) روى مسلم عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوم بدر نظر إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر ، فاستقبل القبلة ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم ائتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربّه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجزلك ما وعدك فأنزل الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ...) الآية.

أعدائكم.

(مُرْدِفِينَ) : أي متتابعين بعضهم ردف بعض أي متلاحقين.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) : أي الإمداد بالملائكة إلا بشرى لكم بالنصر.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) : أي يغطيكم به والنعاس : نوم خفيف جدا.

(أَمَنَةً) : أي أمنا من الخوف الذي أصابكم لقلتكم وكثرة عدوكم.

(أَمَنَةً) : أي من الله تعالى.

(رِجْزَ الشَّيْطانِ) : وسواسه لكم بما يؤلمكم ويحزنكم.

(وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) : أي يشد عليها بالصبر واليقين.

(وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) : أي بالمطر أقدامكم حتى لا تسوخ في الرمال.

(الرُّعْبَ) : الخوف والفزع.

فاضربوا كل بنان : أي أطراف اليدين والرجلين حتى يعوقهم عن الضرب والمشي.

(شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي خالفوه في مراده منهم فلم يطيعوه وخالفوا رسوله.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) : أي العذاب فذوقوه.

(عَذابَ النَّارِ) : أي في الآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث غزوة بدر ، وبيان منن الله تعالى على رسوله والمؤمنين إذ يقول تعالى لرسوله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي اذكر يا رسولنا حالكم لما كنتم خائفين لقلتكم وكثرة عدوكم فاستغثتم ربكم قائلين : اللهم نصرك ، اللهم أنجز لي ما وعدتني (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي متتالين يتبع بعضهم بعضا (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) أي لم يجعل ذلك الإمداد إلا مجرد بشرى لكم بالنصر على عدوكم (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) أي تسكن ويذهب منها القلق والاضطراب ، أما النصر فمن عند الله ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عزيز غالب لا يحال بينه وبين ما يريده ، حكيم بنصر من هو أهل للنصر ، هذه نعمة ، وثانية : اذكروا (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) ربكم

(النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) (١) أي أمانا منه تعالى لكم فإن العبد إذا خامره النعاس هدأ وسكن وذهب الخوف منه ، وثبت في ميدان المعركة لا يفر ولا يرهب ولا يهرب ، (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) وهذه نعمة أخرى ، فقد كانت الأرض رملية تسوح فيها أقدامهم لا يستطيعون عليها كرا ولا فرا ، وقل ماؤهم فصاروا ظماء عطاشا ، محدثين ، لا يجدون ما يشربون ولا ما يتطهرون به من احداثهم ووسوس الشيطان لبعضهم بمثل قوله : تقاتلون محدثين كيف تنصرون ، تقاتلون وأنتم عطاش وعدوكم ريان إلى أمثال هذه الوسوسة ، فأنزل الله تعالى على معسكرهم خاصة مطرا غزيرا شربوا وتطهروا وتلبدت به التربة فأصبحت صالحة للقتال عليها ، هذا معنى قوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسواسه (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي يشد عليها بما أفرغ عليها من الصبر وما جعل فيها من اليقين لها (وَيُثَبِّتَ بِهِ (٢) الْأَقْدامَ) ونعمة أخرى واذكر (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) بتأييدي ونصري (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي قولوا لهم من الكلام تشجيعا لهم ما يجعلهم يثبتون في المعركة (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف أيها المؤمنون (فَاضْرِبُوا فَوْقَ (٣) الْأَعْناقِ) أي اضربوا المذابح (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (٤) أي اطراف اليدين والرجلين حتى لا يستطيعوا ضربا بالسيف ، ولا فرارا بالأرجل وقوله تعالى (ذلِكَ (٥) بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي عادوهما وحاربوهما (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ينتقم منه ويبطش به (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، وقوله تعالى (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) أي ذلكم العذاب القتل والهزيمة فذوقوه في الدنيا وأما الآخرة فلكم فيها عذاب النار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

__________________

(١) أمنة : مصدر أمن أمنة وأمنا وأمانا وهو منصوب على الحال ، أو المصدرية.

(٢) هذا عائد على الماء الذي شدّ دهس أرض الوادي ، ويصح أن يكون عائدا إلى ربط القلوب ، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في الحرب.

(٣) هذا الأمر ارشادي للملائكة وللمؤمنين معا.

(٤) واحد البنان : بنانة ، والمراد بها هنا الأصابع الممسكة بالسيف والرمح حتى تعجز عن قتال المسلمين وضربهم.

(٥) ذلك : مبتدأ والخبر محذوف تقدير الكلام : الأمر ذلك ، والجملة تعليلية لأنّ الباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ) سببية.

١ ـ مشروعية الاستغاثة بالله تعالى وهي عبادة فلا يصح أن يستغاث بغير الله تعالى.

٢ ـ تقرير عقيدة أن الملائكة عباد لله يسخرهم في فعل ما يشاء ، وقد سخرهم للقتال مع المؤمنين فقاتلوا ، ونصروا وثبتوا وذلك بأمر الله تعالى لهم بذلك.

٣ ـ تعداد نعم الله تعالى على المؤمنين في غزوة بدر وهي كثيرة.

٤ ـ مشاقة (١) الله ورسوله كفر يستوجب صاحبها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

٥ ـ تعليم الله تعالى عباده كيف يقاتلون ويضربون أعداءهم ، وهذا شرف كبير للمؤمنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

شرح الكلمات :

(زَحْفاً) (٢) : أي زاحفين لكثرتهم ولبطىء سيرهم كأنهم يزحفون على

__________________

(١) أصل المشاقة : العداوة بعصيان وعناد ، مشتقة من الشق بكسر السين الذي هو الجانب ، فالمشاق يقف عن مشاقه موقف العداء والعصيان ، والتمرّد في جانب لا يلتقي معه.

(٢) الزّحف : الدنوّ قليلا قليلا ، وأصله ، الاندفاع على الإلية ، ثم سمي كل ماش إلى حرب آخر زاحفا ، وازدحف القوم : إذا مشى بعضهم إلى بعض والزحاف : من علل الشعر وهو : أن يسقط من الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر.

الأرض.

(فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) : أي لا تنهزموا فتفروا أمامهم فتولونهم أدباركم.

(مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) : أي مائلا من جهة إلى أخرى ليتمكن من ضرب العدو وقتاله.

(أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) : أي يريد الانحياز إلى جماعة من المؤمنين تقاتل.

(فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ) : أي رجع من المعركة مصحوبا بغضب من الله تعالى لمعصيته إياه.

(وَلِيُبْلِيَ) : أي لينعم عليهم بنعمة النصر والظفر على قلة عددهم فيشكروا.

(فِئَتُكُمْ) : مقاتلتكم من رجالكم الكثيرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن غزوة بدر وما فيها من جلائل النعم وخفى الحكم ففي أولى هذه الآيات ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا (١) لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي وأنتم وإياهم زاحفون إلى بعضكم البعض (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (٢) أي لا تنهزموا أمامهم فتعطوهم أدباركم فتمكنوهم من قتلكم ، إنكم أحق بالنصر منهم ، وأولى بالظفر والغلب إنكم مؤمنون وهم كافرون فلا يصح منكم انهزام أبدا (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) اللهم (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي مائلا من جهة إلى أخرى ليكون ذلك أمكن له في القتال (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي منحازا إلى جماعة من المؤمنين تقاتل فيقاتل معها ليقويها أو يقوى بها ، من ولى الكافرين دبره في غير هاتين الحالتين (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجع من جهاده مصحوبا بغضب من الله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٣)

__________________

(١) هذه الجملة اعتراضية بين قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) وبين قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) ومن فوائدها تدريب المؤمنين على الشجاعة ، والإقدام والثبات عند اللقاء ، وهي خطة محمودة عند العرب فزادها الإسلام تقوية ، قال شاعرهم وهو الحصين بن الحمام :

تأخرت أستبقي الحياة فلم

أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما

(٢) (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) فيه استبشاع الهزيمة بذكر لفظ الدبر ، وهو كذلك.

(٣) الحمد لله أنه لم يقل خالدا فيها بل قال : (مَأْواهُ جَهَنَّمُ) ولذا ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من قال : استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف).

وذلك بعد موته وانتقاله إلى الآخرة ، وقوله تعالى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) يخبر تعالى عباده المؤمنين الذين حرم عليهم التولي ساعة الزحف وتوعدهم بالغضب وعذاب النار يوم القيامة أنهم لم يقتلوا المشركين على الحقيقة وإنما الذي قتلهم هو الله فهو الذي أمرهم وأقدرهم وأعانهم ، ولولاه ما قتل أحد ولا مات فليعرفوا هذا حتى لا يخطر ببالهم أنهم هم المقاتلون وحدهم. وحتى رمي رسوله المشركين بتلك التي وصلت إلى جل أعين المشركين في المعركة فأذهلتهم وحيرتهم بل وعوقتهم عن القتال وسببت هزيمتهم كان الله تعالى هو الرامى الذي أوصل التراب الى أعين المشركين ، إذ لو ترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوته لما وصلت حثية التراب إلى أعين الصف الأول من المقاتلين المشركين ، ولذا قال تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١) وقوله تعالى (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي فعل تعالى ذلك القتل بالمشركين والرمي بإيصال التراب إلى أعينهم ليذل الكافرين ويكسر شوكتهم (وَلِيُبْلِيَ (٢) الْمُؤْمِنِينَ) أي ولينعم عليهم الأنعام الحسن بنصرهم وتأييدهم في الدنيا وإدخالهم الجنة في الآخرة. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) بمقتضى هاتين الصفتين كان الإبلاء الحسن ، فقد سمع تعالى أقوال المؤمنين واستغاثتهم به ، وعلم ضعفهم وحاجتهم فأيدهم ونصرهم فكان ذلك منه إبلاء حسنا ، وقوله تعالى (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي ذلكم القتل والرمي والإبلاء كله حق واقع بقدرة الله تعالى (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ) أي مضعف (كَيْدِ الْكافِرِينَ) فكلما كادوا كيدا بأوليائه وأهل طاعته أضعفه وأبطل مفعوله ، وله الحمد والمنة. وقوله تعالى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) هذا خطاب للمشركين حيث قال أبو جهل وغيره من رؤساء المشركين (٣) «اللهم أينا كان أفجر لك واقطع للرحم فأحنه اليوم ، اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة» أي أهلكه الغداة يوم بدر فأنزل الله تعالى (إِنْ

__________________

(١) حصل الرمي من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدّة مرات منها يوم حنين ومنها يوم أحد ومنها يوم خيبر إذ رمى سهما في حصن فسقط السهم على ابن أبي الحقيق فقتله وهو نائم في فراشه ، ومنها يوم بدر ، وهو المراد هنا إذ السورة مدنية ولم يسبق هذا الرمي إلّا الذي رمى به الواقفين على بابه في مكة يريدون انفاذ القتل الذي حكمت به قريش عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد روي أنه رماهم بحثية من تراب ، فاشتغلوا بمسح أعينهم من التراب حتى نجا منهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) (وَلِيُبْلِيَ) الجملة متعلقة بمحذوف تقديره : فعل ذلك أي النصر ، والهزيمة للكفار ليبلي المؤمنين ... الخ.

(٣) قالوا هذا وهم يتجهّزون للقتال في مكة ، وقالوه في ساحة بدر قبل القتال.

تَسْتَفْتِحُوا) أي تطلبوا الفتح وهو القضاء بينكم وبين نبينا محمد (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وهي هزيمتهم في بدر (وَإِنْ تَنْتَهُوا) تكفوا عن الحرب والقتال وتنقادوا لحكم الله تعالى فتسلموا (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) للحرب والكفر (نَعُدْ) فنسلط عليكم رسولنا والمؤمنين لنذيقكم على أيديهم الذل والهزيمة (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) وبلغ تعداد المقاتلين منكم عشرات الآلاف ، هذا وأن الله دوما مع المؤمنين فلن يتخلى عن تأييدهم ونصرتهم ما استقاموا على طاعة ربهم ظاهرا وباطنا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الفرار من العدو الكافر عند (١) اللقاء لما توعد الله تعالى عليه من الغضب والعذاب ولعد الرسول له من الموبقات السبع في حديث مسلم «والتولي يوم الزحف».

٢ ـ تقرير مبدأ أن الله تعالى خالق كل شيء وأنه خلق العبد وخلق فعله ، إذ لما كان العبد مخلوقا وقدرته مخلوقة ، ومأمورا ومنهيا ولا يصدر منه فعل ولا قول إلا بإقدار الله تعالى له كان الفاعل الحقيقي هو الله ، وما للعبد إلا الكسب بجوارحه (٢) وبذلك يجزى الخير بالخير والشر بمثله. عدل الله ورحمته.

٣ ـ آية وصول حثية التراب من كف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أغلب عيون المشركين في المعركة.

٤ ـ إكرام الله تعالى وإبلاؤه لأولياءه البلاء الحسن فله الحمد وله المنة.

٥ ـ ولاية الله للمؤمنين الصادقين هى أسباب نصرهم وكمالهم وإسعادهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ

__________________

(١) هذا التحريم مقيّد بما في آخر السورة من أنّ ما زاد على المثلين يجوز الفرار معه كالواحد مع أكثر من اثنين ، والمائة مع أكثر من مائتين ، وألفين مع أكثر من أربعة آلاف.

(٢) مع ما وهبه الله من حرية الإرادة والقدرة على الاختيار ومع هذا فإنه لا يريد إلا ما أراده الله ولا يقع اختياره إلا على ما كتبه الله له أو عليه وقضى به أزلا وهنا تتجلى عظمة الرب تبارك وتعالى.

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) : أي لا تعرضوا عن طاعته إذا أمركم أو نهاكم كأنكم لا تسمعون.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) : أى شر ما يدب على الأرض الكافرون

(لَأَسْمَعَهُمْ) : لجعلهم يسمعون أو لرفع المانع عنهم فسمعوا واستجابوا.

معنى الآيات :

ينادي الله تعالى عباده المؤمنين (١) الذين آمنوا به وبرسوله وصدقوا بوعده ووعيده يوم لقائه فيأمرهم بطاعته وطاعة رسوله ، وينهاهم عن الإعراض عنه وهم يسمعون الآيات تتلى والعظات تتوالى في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن نصركم وتأييدكم كان ثمرة لإيمانكم وطاعتكم فإن أنتم أعرضتم وعصيتم فتركتم كل ولاية لله تعالى لكم أصبحتم كغيركم من أهل الكفر والعصيان هذا معنى قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) وقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ينهاهم عزوجل أن يسلكوا مسلك الكافرين المشركين (٢) في التصامم عن سماع الآيات الحاملة للحق والداعية إليه ، والتعامي عن رؤية آيات الله الدالة على توحيده الذين قالوا إنا عما يقوله محمد في صمم ، وفيما يذكر ويشير إليه في عمى ، فهم يقولون سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون بقلوبهم لأنهم لا يتدبرون ولا يفكرون فلذا هم في سماعهم كمن لم يسمع إذ العبرة بالسماع الانتفاع به (٣) لا مجرد سماع صوت وقوله تعالى (إِنَّ شَرَّ (٤) الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) يعني بهم المشركين وكانوا شر الدواب لأنهم كفروا بربهم وأشركوا به فعبدوا غيره ، وضلوا عن سبيله ففسقوا وظلموا وأجرموا الأمر الذي جعلهم حقا شر الدواب في الأرض فهذا تنديد بالمشركين ، وفي نفس الوقت هو تحذير للمؤمنين من

__________________

(١) لا يجب الالتفات لمن قال : هذا الخطاب هو للمنافقين كأنما قال : يا من آمنتم بألسنتكم ولم تؤمن قلوبكم ، إذ الآية في المؤمنين الصادقين بلا شك ولا ريب.

(٢) واليهود والمنافقين أيضا ، إذ الكل كان هذا موقفهم مما يدعوهم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) في الآية دليل على أن المؤمن إذ أمر أو نهي فقال سمعا وطاعة أي : سمعت وأطعت ولم يفعل ولم يترك لا وزن ولا عبرة بقوله بل لا بد من الفعل والترك.

(٤) شرّ أصلها : أشر اسم تفضيل ، ولكثرة الاستعمال اكتفوا بلفظ شرّ لأنه أخف على اللسان بنقص حرف الهمزة.

معصية الله ورسوله والإعراض عن كتابه وهدي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لجعلهم يسمعون آيات الله وما تحمله من بشارة ونذارة وهذا من باب الفرض لقوله تعالى (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) هؤلاء طائفة من المشركين (١) توغلوا في الشر والفساد والظلم والكبر والعناد فحرموا لذلك هداية الله تعالى فقد هلك بعضهم في بدر وبعض في أحد ولم يؤمنوا لعلم الله تعالى أنه لا خير فيهم وكيف لا وهو خالقهم وخالق طباعهم ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما ، وحرمة معصيتهما.

٢ ـ حرمة التشبه بالمشركين والكافرين وسائر أهل الضلال وفي كل شيء من سلوكهم.

٣ ـ بيان أن من الناس من هو شر من الكلاب والخنازير فضلا عن الإبل والبقر والغنم أولئك البعض كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

__________________

(١) في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قال : هم نفر من بني عبد الدار ، والآية عامة في كل من تلك حالهم.

شرح الكلمات :

(اسْتَجِيبُوا) (١) : اسمعوا وأطيعوا.

(لِما يُحْيِيكُمْ) (٢) : أي لما فيه حياتكم ولما هو سبب في حياتكم كالإيمان والعمل الصالح والجهاد.

(فِتْنَةً) : أي عذابا تفتنون به كالقحط أو المرض أو تسلط عدو.

(مُسْتَضْعَفُونَ) : أي ضعفاء أمام أعدائكم يرونكم ضعفاء فينالون منكم.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : جمع طيب من سائر المحللات من المطاعم والمشراب وغيرها.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : رجاء أن تشكروه تعالى بصرف النعمة في مرضاته.

معنى الآيات :

هذا هو النداء الثالث بالكرامة للمؤمنين الرب تعالى يشرفهم بندائه ليكرمهم بما يأمرهم به أو ينهاهم عنه تربية لهم وإعدادا لهم لسعادة الدارين وكرامتهما فيقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) وهو بمعنى النداء الأول أطيعوا الله ورسوله. وقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) إشعار بأن أوامر الله تعالى ورسوله كنواهيهما لا تخلوا أبدا مما يحيي المؤمنين (٣) أو يزيد في حياتهم أو يحفظها عليهم ، ولذا وجب أن يطاع الله ورسوله ما أمكنت طاعتهما. وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تنبيه عظيم للمؤمنين إذا سنحت لهم فرصة للخير ينبغي أن يفترصوها قبل الفوات لا سيما إذا كانت دعوة من الله أو رسوله ، لأن الله تعالى قادر على أن يحول بين المرء وما يشتهي وبين المرء وقلبه (٤) فيقلب القلب ويوجهه إلى وجهة أخرى فيكره فيها الخير ويرغب في الشر وقوله (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ

__________________

(١) هذا بمعنى أجيبوا : الإجابة معناها : إعطاء المطلوب ، وإن كان أمرا ونهيا فهو الطاعة بفعل الأمر وترك النهي ، ويعبر عنهما بالسمع والطاعة ، وفعل استجاب : يعدّى باللّام يقال : استجاب له ، وفعل أجاب : يتعدى بنفسه ، يقال : أجابه ، إلّا أنّ استجاب قد يتعدى بنفسه ولكن بقلة ومنه قول الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

(٢) (يُحْيِيكُمْ) أصلها يحييكم بضم الياء الثانية إلّا أن حركتها حذفت فسكنت تخفيفا.

(٣) في الآية دليل على أن الكفر والجهل موت معنوي للإنسان ، إذ بالإيمان والعلم تكون الحياة وبضدهما تكون الممات.

(٤) روى غير واحد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك) وروى مسلم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا إلى طاعتك).

تُحْشَرُونَ) فالذي يعلم أنه سيحشر رغم أنفه إلى الله تعالى كيف يسوغ له عقله أن يسمع نداءه بأمره فيه أو ينهاه فيعرض عنه ، وقوله (وَاتَّقُوا (١) فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ (٢) الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) تحذير آخر عظيم للمؤمنين من أن يتركوا طاعة الله ورسوله ، ويتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينتشر الشر ويعم الفساد ، وينزل البلاء فيعم الصالح والطالح ، والبار والفاجر ، (٣) والظالم والعادل ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وهو تأكيد للتحذير بكونه تعالى إذا عاقب بالذنب والمعصية فعقابه قاس شديد لا يطاق فليحذر المؤمنون ذلك بلزوم طاعة الله ورسوله. وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه موعظة ربانية لأولئك المؤمنين الذين عايشوا الدعوة الإسلامية من أيامها الأولى يذكرهم ربهم بما كانوا عليه من قلة وضعف يخافون أن يتخطفهم الناس لقلتهم وضعفهم ، فآواهم عزوجل إلى مدينة نبيه المنورة ونصرهم بجنده فعزوا بعد ذلة واستغنوا بعد عيلة وفاقة ، ورزقهم من الطيبات من مطعم ومشرب وملبس ومركب ، ورزقهم من الطيبات إكراما لهم ، ليعدهم بذلك للشكر إذ يشكر النعمة من عاشها ولابسها ، والشكر حمد المنعم والثناء عليه وطاعته ومحبته وصرف النعمة في سبيل مرضاته ، والله يعلم أنهم قد شكروا فرضي الله عنهم وأرضاهم والحقنا بهم صابرين شاكرين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

__________________

(١) قال ابن عباس في هذه الآية أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم العذاب ، وفي صحيح مسلم عن زينبت بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث).

(٢) اعراب هذه الجملة مشكل نكتفي بعرض صورتين : الأولى أنها كقوله : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي : إن تدخلوا لا يحطمنّكم فيكون معنى الآية : إن تتقوا ... لا تصيبنّ فدخلت نون التوكيد لما في التركيب من معنى الجزاء ، والثانية : تكون على حذف القول أي : اتقوا فتنة مقول فيها : لا تصيبنّ الذين ظلموا ... كقول الشاعر :

حتى إذا جنّ الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

أي مقول فيه : هل رأيت .. الخ فقوله فتنة موصوف بجملة مقول فيها : لا تصيبنّ.

(٣) روى أحمد عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده قالت. قلت : يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال بلى. قالت : كيف يصنع أولئك؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان).

١ ـ وجب الاستجابة لنداء الله ورسوله (١) بفعل الأمر وترك النهي لما في ذلك من حياة الفرد المسلم.

٢ ـ نعين اغتنام فرصة الخير قبل فواتها فمتى سنحت للمؤمن تعين عليه اغتنامها.

٣ ـ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء للفتن العامة التي يهلك فيها العادل والظالم.

٤ ـ وجوب ذكر النعم لشكرها بطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ وجوب شكر النعم بحمد الله تعالى والثناء عليه والاعتراف بالنعمة له والتصرف فيها حسب مرضاته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

شرح الكلمات :

(لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) : أي بإظهار الإيمان والطاعة ومخالفتهما في الباطن.

(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) : أي ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن عليها بعضكم بعضا.

(أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) : أي الاشتغال بذلك يفتنكم عن طاعة الله ورسوله.

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) : أي بامتثال أمره واجتناب نهيه في المعتقد والقول والعمل.

__________________

(١) روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله عزوجل (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)؟ وذكر الحديث.

قال العلماء : في هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتى به في الصلاة لا تبطل.

(يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) : نورا في بصائركم تفرقون به بين النافع والضار والصالح والفاسد.

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) : أي يمحوا عنكم ما سلف من ذنوبكم التي بينكم وبينه.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم : أي يغطيها فيسترها عليكم فلا يفضحكم بها ولا يؤاخذكم عليها.

معنى الآيات :

هذا نداء رباني آخر يوجه إلى المؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من آمنتم بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا. (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بأن يظهر أحدكم الطاعة لله ورسوله ، ويستسر المعصية ، ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن بعضكم بعضا عليها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عظيم جريمة الخيانة وآثارها السيئة على النفس والمجتمع ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا (١) اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما (٢) أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فيه إشارة إلى السبب الحامل على الخيانة غالبا وهو المال والأولاد فأخبرهم تعالى أن أموالهم وأولادهم فتنة تصرفهم عن الأمانة والطاعة ، وأن ما يرجوه من مال أو ولد ليس بشيء بالنسبة الى ما عند الله تعالى إن الله تعالى عنده أجر عظيم لمن أطاعه واتقاه وحافظ على أمانته مع الله ورسوله ومع عباد الله وقوله تعالى في الآية الثالثة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ (٣) يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) هذا حض على التقوى وترغيب فيها بذكر أعظم النتائج لها وهي أولا اعطاء الفرقان وهو النصر والفصل بين كل مشتبه ، والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع ، والصحيح والفاسد ، وثانيا تكفير السيئآت ، وثالثا مغفرة الذنوب ورابعا الأجر العظيم الذي هو الجنة ونعيمها إذ قال تعالى

__________________

(١) لفظ الآية عام في كل ذنب صغير وكبير ، وما روي أنها نزلت في أبي لبابة حيث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ، لا ينافيه.

(٢) وهذه الآية عامّة أيضا وإن قيل إنها نزلت في أبي لبابة إذ كان له مال وولد في بني قريظة فلا يتهم لأجل ذلك.

(٣) قال بعضهم واصفا للتقوى المورثة للفرقان فقال : هي امتثال الأوامر واجتناب المناهي ، وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وشحن القلب بالنية الخالصة ، والجوارح بالأعمال الصالحة ، والتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر.

في ختام الآية (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إشارة الى ما يعطيه الله تعالى أهل التقوى في الآخرة وهو الجنة ورضوانه على أهلها ، ولنعم الأجر الذي من أجله يعمل العاملون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تحريم الخيانة مطلقا وأسوأها ما كان خيانة لله ورسوله.

٢ ـ في المال والأولاد فتنة قد تحمل على خيانة الله ورسوله ، فيلحذرها المؤمن.

٣ ـ من ثمرات التقوى تكفير السيآت وغفران الذنوب ، والفرقان وهو نور في القلب يفرق به المتقى بين الأمور المتشابهات والتي خفي فيها وجه الحق والخير.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) : أي يبيتون لك ما يضرك.

(لِيُثْبِتُوكَ) : أي ليحبسوك مثبتا بوثاق حتى لا تفر من الحبس.

(أَوْ يُخْرِجُوكَ) : أي ينفوك بعيدا عن ديارهم.

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) : أي يدبرون لك السوء ويبيتون لك المكروه ، والله تعالى يدبر لهم ما يضرهم أيضا ويبيت لهم ما يسوءهم.

(آياتُنا) : آيات القرآن الكريم.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : الأساطير جمع أسطوره ما يدون ويسطر من أخبار الأولين.

معنى الآيات :

يذكر تعالى رسوله والمؤمنين بنعمة من نعمه تعالى عليهم فيقول لرسوله واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) إذا اجتمعت قريش في دار الندوة وأتمرت في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفكرت ومكرت فأصدروا (١) حكما بقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثوا من ينفذ جريمة القتل فطوقوا منزله فخرج النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن رماهم بحثية من تراب قائلا شاهت الوجوه ، فلم يره أحد ونفذ وهاجر إلى المدينة وهذا معنى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) فكان في نجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يد قريش نعمة عظمى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى سائر المؤمنين والحمد لله رب العالمين.

وقوله تعالى في الآية الثانية (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا (٣) مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) هذا الخبر تنديد بموقف المشركين ذكر بعد ذكر مؤامراتهم الدنية ومكرهم الخبيث حيث قرروا قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر تعالى أنهم إذا قرأ عليهم الرسول آيات الله المبينة للحق والمقررة للايمان به ورسالته بذكر قصص الأولين قالوا (سَمِعْنا) ما تقرأ علينا ، (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي الذي تقول (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أخبار السابقين من الأمم سطرت وكتبت فهي تملى عليك فتحفظها وتقرأها علينا وكان قائل هذه المقالة الكاذبة النضر بن الحارث عليه لعائن الله ، إذ مات كافرا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ التذكير بنعم الله تعالى على العبد ليجد العبد في نفسه داعية الشكر فيشكر.

٢ ـ بيان مدى ما قاومت به قريش دعوة الإسلام حتى إنها أصدرت حكمها بقتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ بيان موقف المشركين من الدعوة الإسلامية ، وانهم بذلوا كل جهد في سبيل انهائها والقضاء عليها.

__________________

(١) كان حكم القتل باقتراح ابليس إذ جاءهم وهم يتشاورون في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار عليهم وهو في صورة شيخ نجدي فقبلوا ما أشار به عليهم من القتل فأخذوا برأيه وتركوا ما أشار به بعضهم من النفي والحبس.

(٢) بعد أن ترك عليا نائما على فراشه مسجى ببرد أخضر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) من بين القائلين : النضر بن الحارث إذ كان قد خرج إلى الحيرة في تجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة وكسرى ، وقيصر ، وأخذ يقصّ تلك الأخبار ويقول : هذه مثل الذي يقصّ محمد من أخبار الماضين. وكذب فأين ما يقصه القرآن وما يوسوس به الشيطان.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(اللهُمَ) : أي يا الله حذفت ياء النداء من أوله وعوض عنها الميم من آخره.

(إِنْ كانَ هذا) : أي الذي جاء به محمد ويخبر به.

(فَأَمْطِرْ) : أنزل علينا حجارة.

(يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : يمنعون الناس من الدخول إليه للاعتمار.

(مُكاءً وَتَصْدِيَةً) : المكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق.

معنى الآيات :

ما زال السياق في التنديد ببعض أقوال المشركين وأفعالهم فهذا النضر (١) بن الحارث القائل في الآيات السابقة (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يخبر تعالى عنه أنه قال (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) أي القرآن (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ

__________________

(١) وقاله أيضا أبو جهل وهو دال على مدى عناد المشركين في مكة ومكابرتهم وحسدهم أيضا.

السَّماءِ) فنهلك بها ، ولا نرى محمدا ينتصر (١) دينه بيننا. (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) حتى نتخلص من وجودنا. فقال تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ (٢) وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٣) فوجودك بينهم أمان لهم (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إذ كانوا إذا طافوا يقول بعضهم غفرانك ربنا غفرانك ، ثم قال تعالى (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أيّ شيء يصرف العذاب عنهم وهم يرتكبون أبشع جريمة وهي صدهم الناس عن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت الحرام ، فقد كانوا يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت والصلاة في المسجد الحرام. (٤) وقوله تعالى (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) رد على مزاعمهم بأنهم ولاة الحرم والقائمون عليه فلذا لهم أن يمنعوا من شاءوا ويأذنوا لمن شاءوا فقال تعالى ردا عليهم (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي أولياء المسجد الحرام ، كما لم يكونوا أيضا أولياء الله إنّما أولياء الله والمسجد الحرام المتقون الذين يتقون الشرك والمعاصي (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) هذا لجهل بعضهم وعناد آخرين. وقوله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) إذ كان بعضهم إذا طافوا يصفقون ويصفرون كما يفعل بعض دعاة التصوف حيث يرقصون وهم يصفقون ويصفرون ويعدون هذا حضرة أولياء الله ، والعياذ بالله من الجهل والضلال وقوله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أذاقهموه يوم بدر إذ أذلهم فيه وأخزاهم وقتل رؤساءهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للحق وكراهية له حتى سألوا العذاب العام ولا يرون راية الحق تظهر ودين الله ينتصر.

__________________

(١) ذكر القرطبي الحكاية التالية قال : حكي أن ابن عباس لقيه يهودي فقال له من أنت؟ قال : من قريش. فقال أنت من القوم الذين قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) الآية فهلّا عليهم أن يقولوا : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له إنّ هؤلاء قوم يجهلون قال ابن عباس : وأنت يا اسرائيلي من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه ، وانجى موسى وقومه حتى قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) فقال لهم موسى (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) فأطرق اليهودي ملجما.

(٢) روى مسلم أنه لما قال أبو جهل. اللهم إن كان هذا هو الحق .. الآية نزلت هذه الآية : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ).

(٣) دليله أنهم لما خرج من بينهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عذبهم الله بالقتل في بدر وسني القحط الجدب.

(٤) أي انهم مستحقون العذاب ولكن لكل أجل كتاب فإذا حان أوانه عذّبوا.

٢ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمان أمته من العذاب فلم تصب هذه الأمة بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة.

٣ ـ فضيلة الاستغفار وأنه ينجى من عذاب الدنيا والآخرة.

٤ ـ بيان عظم جرم من يصد عن المسجد الحرام للعبادة الشرعية فيه.

٥ ـ بيان أولياء الله تعالى والذين يحق لهم أن يلوا المسجد الحرام وهو المتقون.

٦ ـ كراهية الصفير (١) والتصفيق ، وبطلان الرقص في التعبد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي كذبوا بآيات الله ورسالة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش

(ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) : أي شدة ندامة.

(ثُمَّ يُغْلَبُونَ) : أي يهزمون.

(لِيَمِيزَ) : أي ليميز كل صنف من الصنف الآخر.

(الْخَبِيثَ) : هم أهل الشرك والمعاصي.

(مِنَ الطَّيِّبِ) : هم أهل التوحيد والأعمال الصالحة.

(فَيَرْكُمَهُ) : أي يجعل بعضه فوق بعض في جهنم.

__________________

(١) الصفير : تفسير للمكاء في الآية وهو مأخوذ من صوت طائر يسمى المكاء قال الشاعر :

إذا غرّد المكاء في غير روضة

فويل لأهل الشاء والحمرات

معنى الآية الكريمة :

ما زال السياق في التنديد بالمشركين وأعمالهم الخاسرة يخبر تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أهل مكة من زعماء قريش (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) فى (١) حرب رسول الله والمؤمنين للصد عن الإسلام المعبر عنه بسبيل الله يقول تعالى (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) (٢) أي ندامة شديدة لسوء العاقبة التي كانت لهم في بدر وأحد والخندق إذ أنفقوا على هذه الحملات الثلاث من الأموال ما الله به عليم ، ثم خابوا فيها وخسروا وبالتالي غلبوا وانتهى سلطانهم الكافر وفتح الله على رسوله والمؤمنين مكة وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي من مات منهم على الكفر (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون ، وعلة هذا الجمع أن يميز الله تعالى الخبيث من الطيب فالطيبون وهم المؤمنون الصالحون يعبرون الصراط الى الجنة دار النعيم ، وأما الخبيث وهم فريق المشركين فيجعل بعضه إلى بعض فيركمه جميعا كوما واحدا فيجعله في جهنم. وقوله تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) إشارة الى الذين أنفقوا أموالهم للصد عن سبيل الله وماتوا على الكفر فحشروا إلى جهنم وجعل بعضهم الى بعض ثم صيروا كوما واحدا ثم جعلوا في نار جهنم هم الخاسرون بحق حيث خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم وكل شيء وأمسوا في قعر جهنم مبلسين والعياذ بالله من الخسران المبين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كل نفقة ينفقها العبد للصد عن سبيل الله بأي وجه من الوجوه تكون عليه حسرة عظيمة يوم القيامة.

٢ ـ كل كافر خبيث وكل مؤمن طيب.

٣ ـ صدق وعد الله تعالى لرسوله والمؤمنين بهزيمة المشركين وغلبتهم وحسرتهم على ما أنفقوا في حرب الإسلام وضياع ذلك كله وخيبتهم فيه.

__________________

(١) لمّا هزمت قريش في بدر قام أبو سفيان بحملة جمع فيها الأموال لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانتقام لمن مات من صناديد قريش فجمع المال وشنّ حرب أحد إلّا أنه خاب وخسر كما أخبر تعالى : ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.

(٢) والآية يدخل فيها المطعمون ببدر إذ كانوا اثني عشر رجلا فكان الواحد منهم يطعم جيش قريش عشرة من الإبل يوميا طيلة ما هم في بدر ، فخابوا في نفقاتهم وهلكوا.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

شرح الكلمات :

(إِنْ يَنْتَهُوا) : عن الكفر بالله ورسوله وحرب الرسول والمؤمنين.

(ما قَدْ سَلَفَ) : أي مضى من ذنوبهم من الشرك وحرب الرسول والمؤمنين.

(مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) : في إهلاك الظالمين.

(لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : أي شرك بالله واضطهاد وتعذيب في سبيل الله.

(وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) : أي حتى لا يعبد غير الله.

(مَوْلاكُمْ) : متولي أمركم بالنصر والتأييد.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في بيان الإجراءات الواجب اتخاذها إزاء الكافرين فيقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (١) مبلغا عنا (إِنْ يَنْتَهُوا) أي عن الشرك والكفر والعصيان وترك حرب الإسلام وأهله (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) يغفر الله لهم ما قد مضى (٢) من ذنوبهم العظام وهي الشرك والظلم ، وهذا وعد صدق ممن لا يخلف الوعد سبحانه وتعالى. (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى الظلم والاضطهاد والحرب فسوف يحل بهم ما حل بالأمم السابقة قبلهم لما ظلموا فكذبوا الرسل وآذوا المؤمنين وهو معنى قوله تعالى (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ

__________________

(١) نزلت في أبي سفيان ورجاله المشركين في مكة قبل الفتح.

(٢) في الصحيح : (الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها).

الْأَوَّلِينَ) أي سنة الله والطريقة المتبعة فيهم وهي أخذهم (١) بعد الإنذار والإعذار. ثم في الآية الثانية من هذا السياق يأمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين قتالا يتواصل بلا انقطاع إلى غاية هي : أن لا تبقى فتنة أي شرك ولا اضطهاد لمؤمن (٢) أو مؤمنة من أجل دينه ، وحتى يكون الدين كله لله فلا يعبد (٣) مع الله أحد سواه (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي عن الشرك والظلم فكفوا عنهم وإن انتهوا في الظاهر ولم ينتهوا في الباطل فلا يضركم ذلك (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وسيظهرهم لكم ويسلطكم عليهم. وقوله في ختام السياق (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي نكثوا العهد وعادوا إلى حربكم بعد الكف عنهم فقاتلوهم ينصركم الله عليهم واعلموا ان الله مولاكم فلا يسلطهم عليكم ، بل ينصركم عليهم إنه (نِعْمَ الْمَوْلى) لمن يتولى (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن ينصر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سعة فضل الله ورحمته.

٢ ـ الإسلام يجبّ أي يقطع ما قبله ، فيغفر لمن أسلم كل ذنب قارفه من الكفر وغيره.

٣ ـ بيان سنة الله في الظالمين وهي إهلاكهم وإن طالت مدة الإملاء والإنظار.

٤ ـ وجوب قتال المشركين على المسلمين ما بقي في الأرض مشرك.

٥ ـ نعم المولى الله جل جلاله لمن تولاه ، ونعم النصير لمن نصره.

__________________

(١) أخذهم : أي بالعذاب العاجل والعقوبة الشديدة.

(٢) الاضطهاد : هو فتنة قريش للمؤمنين حيث فتنوهم حتى هاجروا إلى الحبشة وفتنوهم حتى هاجروا إلى المدينة ومعنى : فتنوهم : عذّبوهم ليردّوهم إلى الشرك والكفر.

(٣) يشهد له قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله عزوجل) في الصحيحين.

الجزء العاشر

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

شرح الكلمات :

(أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي ما أخذتموه من مال الكافر قهرا لهم وغلبة قليلا كان أو كثيرا.

(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) : أي خمس الخمسة أقسام ، يكون لله والرسول ومن ذكر بعدهما.

(وَلِذِي الْقُرْبى) : هم قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني هاشم وبني المطلب.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) : أي من الملائكة والآيات.

(يَوْمَ الْفُرْقانِ) : أي يوم بدر وهو السابع عشر من رمضان ، إذ فرق الله فيه بين الحق والباطل.

(الْتَقَى الْجَمْعانِ) : جمع المؤمنين وجمع الكافرين ببدر.

(بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) : العدوة حافة الوادي ، وجانبه والدنيا أي القريبة إلى المدينة.

(بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) : أي البعيد من المدينة إذ هي حافة الوادي من الجهة الأخرى.

(وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) : أي ركب أبي سفيان وهي العير التي خرجوا من أجلها. أسفل منكم مما يلي البحر.

(عَنْ بَيِّنَةٍ) : أي حجة ظاهرة.

(لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) : أي اختلفتم.

(وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) : هذا قبل الالتحام أما بعد فقد رأوهم مثليهم حتى تتم الهزيمة لهم.

معنى الآيات :

هذه الآيات لا شك أنها نزلت في بيان قسمة الغنائم بعد ما حصل فيها من نزاع فافتكها الله تعالى منهم ثم قسمها عليهم فقال الأنفال لله وللرسول في أول الآية ثم قال هنا (وَاعْلَمُوا) أيها المسلمون (أَنَّما غَنِمْتُمْ) (١) (مِنْ شَيْءٍ) (٢) حتى الخيط والمخيط ، ومعنى غنمتم أخذتموه من المال من أيدي الكفار المحاربين لكم غلبة وقهرا لهم فقسمته هي أن (لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى (٣) وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، والأربعة أخماس (٤) الباقية هي لكم أيها المجاهدون للراجل قسمة وللفارس قسمتان لما له من تأثير

__________________

(١) الغنيمة : ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي وهو قتال الكافرين لغرض هدايتهم إلى الإسلام ليكملوا ويسعدوا ، قال الشاعر :

وقد طوّفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالاياب

(٢) الإجماع على أن هذا الحكم ليس على عمومه بل هو مخصص بقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه ، وكذا الرقاب ، فالإمام مخيّر فيها بين القتل والفداء والمنّ وليس هذا للغانمين ، وكذا السلب فإن من سلب مقاتلا شيئا كسلاحه وفرسه فهو له أيضا.

(٣) المراد بذي القربى : قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم بنو هاشم ، وهو مذهب مالك ، وزاد الشافعي وأحمد : بني المطلب لأن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد ، ولأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قسم سهم ذي القربي بين بني هاشم وبين عبد المطلب قال إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ، إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه) رواه البخاري.

(٤) من باب الاطلاع لا غير أذكر أنّ بعضا قال : الغنيمة خمسها لله والأربعة أخماس للإمام إن شاء حبسها وإن شاء قسمها على الغانمين وهو قول مخالف لما عليه جمهور الفقهاء.

في الحرب ولأن فرسه يحتاج إلى نفقة علف. والمراد من قسمة الله أنها تنفق في المصالح العامة ولو أنفقت على بيوته لكان أولى وهي الكعبة وسائر المساجد ، وما للرسول فإنه ينفقه على عائلته ، وما لذي القربى فإنه ينفق على قرابة الرسول الذين يحرم عليهم أخذ الزكاة لشرفهم وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، وما لليتامى ينفق على فقراء المسلمين ، وما لابن السبيل ينفق على المسافرين المنقطعين عن بلادهم إذا كانوا محتاجين إلى ذلك في سفرهم وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أي ربا (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) أي محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) وهو يوم بدر حيث التقى المسلمون بالمشركين ، والمراد بما أنزل تعالى على عبده ورسوله الملائكة والآيات منها الرمية التي رمى بها المشركين فوصلت إلى أكثرهم فسببت هزيمتهم. وقوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي كما قدر على نصركم على قلتكم وقدر على هزيمة عدوكم على كثرتهم هو قادر على كل شيء يريده وقوله تعالى (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ (١) أَسْفَلَ مِنْكُمْ) تذكير لهم بساحة المعركة التي تجلت فيها آيات الله وظهر فيها إنعامه عليهم ليتهيئوا للشكر. وقوله تعالى (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لو تواعدتم أنتم والمشركون على اللقاء في بدر للقتال لاختلفتم لأسباب تقتضي ذلك منها أنكم قلة وهم كثرة (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي محكوما به في قضاء الله وقدره ، وهو نصركم وهزيمة عدوكم وجمعكم من غير تواعد ولا اتفاق سابق. وقوله تعالى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) هذا تعليل لفعل الله تعالى يجمعكم في وادي بدر للقتال وهو فعل ذلك ليحيا بالإيمان من حيى على بينة وعلم أن الله حق والإسلام حق والرسول حق والدار الآخرة حق حيث أراهم الله الآيات الدالة على ذلك ، ويهلك من هلك بالكفر على بينة إذ اتضح له أن ما عليه المشركون كفر وباطل وضلال ثم رضي به واستمر عليه. وقوله تعالى (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) تقرير لما سبق وتأكيد له حيث أخبر تعالى أنه سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم فما أخبر به وقرره هو كما أخبر وقرر.

وقوله تعالى (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) أي فأخبرت أصحابك ففرحوا بذلك

__________________

(١) ركب أبي سفيان ، ولفظ الركب لا يطلق إلّا على الراكبين ، والركب مبتدأ ، والخبر متعلّق أسفل الظرف أي : كائن أسفل منكم.

وسّروا ووطنوا أنفسهم للقتال ، وقوله : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) أي في منامك وأخبرت به أصحابك لفشلتم أي جبنتم عن قتالهم ، ولتنازعتم في أمر قتالهم (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) من ذلك فلم يريكهم كثيرا إنه تعالى عليم بذات الصدور ففعل ذلك لعلمه بما يترتب عليه من خير وشر. وقوله تعالى (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) أي اذكروا أيها المؤمنون إذ يريكم الله الكافرين عند التقائكم بهم قليلا في أعينكم كأنهم سبعون رجلا أو مائة مثلا ويقللكم سبحانه وتعالى في أعينهم حتى (١) لا يهابوكم. وهذا كان عند المواجهة وقبل الالتحام أما بعد الالتحام فقد أرى الله تعالى الكافرين أراهم المؤمنين ضعفيهم في الكثرة وبذلك انهزموا كما جاء ذلك في سورة آل عمران في قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) وقوله تعالى (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) تعليل لتلك التدابير الإلهية لأوليائه لنصرتهم وإعزازهم وهزيمة أعدائهم وإذلالهم وقوله تعالى (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) إخبار منه تعالى بأن الأمور كلها تصير إليه فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن خبرا كان أو غيرا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان قسمة الغنائم على الوجه الذي رضيه الله تعالى.

٢ ـ التذكير بالإيمان ، إذ هو الطاقة الموجهة باعتبار أن المؤمن حي بإيمانه يقدر على الفعل والترك ، والكافر ميت فلا يكلف.

٣ ـ فضيلة غزوة بدر وفضل أهلها.

٤ ـ بيان تدبير الله تعالى في نصر أوليائه وهزيمة اعدائه.

٥ ـ بيان أن مرد الأمور نجاحا وخيبة لله تعالى ليس لأحد فيها تأثير إلا بإذنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)

__________________

(١) قال أبو جهل : إنهم أكلة جزور خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال فلمّا أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعين الكفار وكثروا حتى انهم يرونهم مثليهم.

وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

شرح الكلمات :

(فِئَةً) : طائفة مقاتلة.

(فَاثْبُتُوا) : لقتالها واصمدوا.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) : مهللين مكبرين راجين النصر طامعين فيه سائلين الله تعالى ذلك.

(تُفْلِحُونَ) : تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة في الدنيا والنار في الآخرة.

(وَلا تَنازَعُوا) : أي لا تختلفوا وأنتم في مواجهة العدو أبدا.

(وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (١) : أي قوتكم بسبب الخلاف.

__________________

(١) يرى بعضهم أن الريح ريح الصبا التي قال فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نصرت بالصبا ، واهلكت عاد بالدبور) يريد أنهم بعدم طاعتهم يحرمون الريح التي بها نصرهم وهو معنى لا بأس به.

(خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) : أي للبطر الذي هو دفع الحق ومنعه.

وقال إني جار لكم : أي مجير لكم ومعين على عدوكم.

(تَراءَتِ الْفِئَتانِ) : أي التقتا ورأت كل منهما عدوها.

(نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) : أي رجع إلى الوراء هاربا ، لأنه جاءهم في صورة سراقة بن مالك.

(إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) : من الملائكة.

(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي ضعف في إيمانهم وخلل في اعتقادهم.

معنى الآيات :

هذا النداء الكريم موجه إلى المؤمنين وقد أذن لهم في قتال الكافرين ، وبدأ بسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وثنى بهذه الغزوة غزوة بدر الكبرى فلذا هم في حاجة إلى تعليم رباني وهداية إلهية يعرفون بموجبها كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها وفي هذه الآيات الأربع تعليم عال جدا لخوض المعارك والانتصار فيها وهذا بيانها :

١ ـ الثبات في وجه العدو والصمود في القتال حتى لكأن المجاهدين جبل شامخ لا يتحرك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أي جماعة مقاتلة (فَاثْبُتُوا).

٢ ـ ذكر الله تعالى تهليلا وتكبيرا وتسبيحا ودعاء (١) وضراعة ووعدا ووعيدا. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في الدنيا ، والنار والعذاب في الآخرة.

٣ ـ طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما ومنه طاعة قائد المعركة ومديرها وهذا من أكبر عوامل النصر حسب سنة الله تعالى في الكون (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

٤ ـ عدم التنازع والخلاف عند التدبير للمعركة وعند دخولها وأثناء خوضها.

٥ ـ بيان نتائج التنازع والخلاف وأنها : الفشل الذريع ، وذهاب القوة المعبر عنها بالريح

__________________

(١) الذكر المطلوب هو : ما كان باللسان والقلب معا ، في الآية دليل على أنّ ذكر الله تعالى لا يترك في حال إلّا في حال التغوّط ، قال محمد القرطبي : لو رخّص لأحد في ترك الذكر لرخّص لزكريا إذ قال له تعالى : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) ولرخص لرجل في الحرب لقوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) وحكم هذا الذكر أن يكون خفيّا إلا أن يكون في بداية الحملة بصوت واحد : الله أكبر فإن ذلك محمود لأنه يرعب العدو ويفتّ في أعضاده.

(وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). (١)

٦ ـ الصبر على مواصلة القتال والإعداد له وتوطين النفس واعدادها لذلك. (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

٧ ـ الإخلاص في القتال والخروج له لله تعالى فلا ينبغي أن يكون لأي اعتبار سوى مرضاة الله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ) (٢) (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

هذه عوامل النصر وشروط الجهاد في سبيل الله. تضمنتها ثلاث آيات من هذه الآيات الخمس وقوله تعالى في الآية الرابعة (٤٨) (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ : لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يذكّر تعالى المؤمنين بحادثة حدثت يوم بدر من أغرب الحوادث لتكون عبرة وموعظة للمؤمنين فيقول عزوجل واذكروا إذ زين الشيطان للمشركين الذين نهيتكم أن تتشبهوا بهم في سيرهم وقتالهم وفي كل حياتهم ، فقال لهم : أقدموا على قتال محمد والمؤمنين ، ولا ترهبوا ولا تخافوا إنه لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم أي مجير لكم وناصر ومعين. وكان الشيطان في هذه الساعة فى صورة رجل من أشراف قبيلته يقال له سراقة بن مالك (٣) فلما تراءت الفئتان لبعضهما البعض وتقدموا للقتال رأى الشيطان جبريل في صفوف الملائكة ، فنكص على عقبيه ، وكان آخذا بيد الحارث بن هشام يحدثه يعده ويمنيه بعد ما زين لهم خوض المعركة وشجعهم على ذلك ، وولى هاربا فقال له الحارث : ما بك ما أصابك تعال فقال وهو هارب (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يعني الملائكة (إِنِّي أَخافُ (٤) اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)

__________________

(١) المراد بالريح هنا : القوة والنصر ، كما يقال : الريح لفلان إذا كان غالبا في أمره ومنه قول الشاعر :

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإنّ لكل خافتة سكون

جملة : لكل خافتة سكون : خبر إن واسمها : ضمير شأن.

(٢) هم أبو جهل وأصحابه الخارجون يوم بدر لنصرة العير حيث خرجوا بالقينات والمغنيات والمعازف.

(٣) هو سراقة بن مالك بن جعشم من بني بكر بن كنانة ، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم لأنهم قتلوا رجلا منهم فلّما تمثّل لهم الشيطان في صورة سراقة سكنوا لذلك

(٤) قيل : إن الشيطان خاف أن يكون يوم بدر هو اليوم الذي انظر إليه ، وقيل : كذب وهو كذوب.

وصدق وهو كذوب وقوله تعالى في نهاية الآية (٤٩) (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي واذكروا أيها المؤمنون للعبرة والاتعاظ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم (١) مرض أي ضعف في الإيمان وتخلخل في العقيدة : غر هؤلاء دينهم وإلا لما خرجوا لقتال قريش وهي تفوقهم عددا وعدة ، ومثل هذا الكلام يعتبر عاديا من ضعاف الإيمان والمنافقين المستترين بزيف إيمانهم ، فاذكروا هذا ، ولا يفت في اعضادكم مثل هذا الكلام ، وتوكلوا على الله واثقين في نصره فإنه ينصركم لأنه عزيز لا يغالب ولا يمانع في ما يريده أبدا. حكيم يضع النصر في المتأهلين له بالإيمان والصبر والطاعة له ولرسوله ، والإخلاص له في العمل والطاعة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أسباب النصر وعوامله ووجوب الأخذ بها في كل معركة وهي : الثبات وذكر الله تعالى ، وطاعة الله ورسوله وطاعة القيادة وترك النزاع والخلاف والصبر والإخلاص.

٢ ـ بيان عوامل الفشل والخيبة وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار.

٣ ـ بيان عمل الشيطان في نفوس الكافرين بتزيينه لهم الحرب ووعده وتمنيته لهم.

٤ ـ بيان حال المنافقين وضعفة الإيمان عند وجود (٢) القتال ونشوب الحروب.

٥ ـ وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه مهما كانت دعاوى المبطلين والمثبطين والمنهزمين.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)

__________________

(١) لقد اختلف في المراد بالمنافقين هنا ، وكذا الذين في قلوبهم مرض إذ يبعد أن يكون في المشركين منافقون ، كما يبعد أن يكون في أهل بدر منافقون ، والذي يبدو أنّه الراجح : أنّ القائلين هذه المقالة هم منافقون وضعفة إيمان بالمدينة لما رأوا خروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى بدر قالوا هذه القولة القبيحة ويكون الظرف «إذ» متعلّق بشديد العقاب لا بزين».

(٢) لا يتعارض هذا القول مع ما رجحناه من أن القائلين هذه المقولة هم منافقون وضعاف إيمان بالمدينة ، إذ هذه الحال تنطبق عليهم.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

شرح الكلمات :

(إِذْ يَتَوَفَّى) : أي يقبض أرواحهم لإماتتهم.

(وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) : أي يضربونهم من أمامهم ومن خلفهم.

(بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) : أي ليس بذي ظلم للعبيد كقوله (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) : أي دأب كفار قريش كدأب آل فرعون في الكفر والتكذيب والدأب العادة.

(لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً) : تغيير النعمة تبديلها بنقمة بالسلب لها أو تعذيب أهلها.

(آلِ فِرْعَوْنَ) : هم كل من كان على دينه من الأقباط مشاركا له في ظلمه وكفره.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس فيقول تعالى لرسوله (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ (١) كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢) وهم يقولون لهم (وَذُوقُوا عَذابَ (٣) الْحَرِيقِ) وجواب لو لا محذوف تقديره (لرأيت أمرا فظيعا) وقوله تعالى

__________________

(١) جائز أن يكون المراد من هؤلاء قتلى بدر المشركين وجائز أن يكونوا ممن لم يقتلوا ببدر ، وماتوا بمكة وغيرها.

(٢) قال الحسن البصري : المراد من أدبارهم : ظهورهم وقال : (إن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله : إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك «أي : سير النعل»؟ قال : ذلك ضرب الملائكة).

(٣) يقال لهم عند قبض أرواحهم ، إذ بمجرد أن تقبض الروح يلقى بها في جهنم ، كما يقال لهم يوم القيامة ذلك من قبل الملائكة.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) هو قول الملائكة لمن يتوفونهم من الذين كفروا. أي ذلكم الضرب والتعذيب بسبب ما قدمت أيديكم من الكفر والظلم والشر والفساد وأن الله تعالى ليس بظالم لكم فإنه تعالى لا يظلم أحدا. وقوله تعالى (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ (١) وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي دأب هؤلاء المشركين من كفار قريش في كفرهم وتكذيبهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) وكفر هؤلاء فأخذهم الله بذنوبهم ، وقوله (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) يشهد له فعله بآل فرعون والذين من قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات وأخيرا أخذه تعالى كفار قريش في بدر أخذ العزيز المقتدر ، وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ (٢) لَمْ يَكُ (٣) مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) إشارة إلى ما أنزله من عذاب على الأمم المكذبة الكافرة الظالمة ، وإلى بيان سنته في عباده وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن يغير نعمة أنعمها على قوم كالأمن والرخاء ، أو الطهر والصفاء حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن يكفروا ويكذبوا ، ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا ، وعندئذ يغير تلك النعم بنقم فيحل محل الأمن والرخاء الخوف والغلاء ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد. هذا إن لم يأخذهم بالإبادة الشاملة والاستئصال التام. وقوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي لأقوال عباده وأفعالهم فلذا يتم الجزاء عادلا لا ظلم فيه. وقوله تعالى (كَدَأْبِ آلِ (٤) فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا (٥) بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) هذه الآية تشبه الآية السابقة إلا أنها تخالفها فيما يلي : في الأولى الذنب الذي أخذ به الهالكون كان الكفر ، وفي هذه : كان التكذيب ، في الأولى : لم يذكر نوع العذاب ، وفي الثانية انه الإغراق ، في الأولى لم يسجل عليهم سوى الكفر فهو ذنبهم لا غير. وفي الثانية سجل على الكل ذنبا آخر وهو الظلم إذ قال (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي بكفرهم وتكذيبهم ، وصدهم عن سبيل الله وفسقهم عن طاعة الله ورسوله مع زيادة التأكيد

__________________

(١) الباء في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) سببية والجملة مسوقة للتعليل.

(٢) (لَمْ يَكُ) أي : لم ينبغ له ، ولم يصحّ منه لبالغ حكمته وعدله ورحمته.

(٣) (كَدَأْبِ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : دأب هؤلاء كدأب آل فرعون ، والدأب : العادة المستمرة.

(٤) (كَذَّبُوا) الخ .. تفسير دأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم.

(٥) وجائز أن يكون المراد : كدأب آل فرعون أي : في تعذيبهم عند قبض أرواحهم ، وفي قبورهم ويوم القيامة.

والتقرير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عذاب القبر بتقرير العذاب عند النزع.

٢ ـ هذه الآية نظيرها آية الانعام (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب.

٣ ـ تنزه الخالق عزوجل عن الظلم لأحد. (١)

٤ ـ سنة الله تعالى في أخذ الظالمين وإبدال النعم بالنقم.

٥ ـ لم يكن من سنة الله تعالى في الخلق تغيير ما عليه الناس من خير أو شر حتى يكونوا هم البادئين.

٦ ـ التنديد بالظلم وأهله ، وأنه الذنب الذي يطلق على سائر الذنوب.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

شرح الكلمات :

(شَرَّ الدَّوَابِ) (٢) : من إنسان أو حيوان الذين ذكر الله وصفهم وهم بنو قريظة.

__________________

(١) شاهده حديث مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى يقول : يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

(٢) الدواب : كل ما يدب على وجه الأرض من حيوان ، و (عِنْدَ اللهِ) : أي : في علمه وحكمه.

(فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : لما علم الله تعالى من حالهم أخبر أنهم يموتون على الكفر.

(يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) : أي يحلونه ويخرجون منه فلا يلتزموا بما فيه.

(فِي كُلِّ مَرَّةٍ) : أي عاهدوا فيها.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) : أي ان تجدنّهم ، وما مزيدة أدغمت في إن الشرطية.

(فَشَرِّدْ) : أي فرق وشتت.

(يَذَّكَّرُونَ) : أي يتعظون.

(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) : أي اطرح عهدهم.

(عَلى سَواءٍ) (١) : أي على حال من العلم تكون أنت وإياهم فيها سواء ، أي كل منكم عالم بنقض المعاهدة.

(الْخائِنِينَ) : الغادرين بعهودهم.

(سَبَقُوا) : أي فاتوا الله ولم يتمكن منهم.

معنى الآيات :

بمناسبة ذكر خصوم الدعوة الإسلامية والقائم عليها وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر تعالى خصوما لها آخرين غير المشركين من كفار قريش وهم بنو (٢) قريظة من اليهود. فأخبر تعالى عنهم أنهم شر الدواب من الإنسان والحيوان ووصفهم محددا لهم ليعرفوا ، وأخبر أنهم لا يؤمنون لتوغلهم في الشر والفساد ، فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه وعلمه (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وخصصهم بوصف آخر خاص بهم فقال : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهدهم أول مرة على أن لا يحاربوه ولا يعينوا أحدا على حربه فإذا بهم يعينون قريشا بالسلاح ، ولما انكشف أمرهم اعتذروا معترفين بخطإهم ، وعاهدوا مرة أخرى على أن لا يحاربوا الرسول ولا يعينوا من يحاربه فإذا بهم ينقضون عهدهم مرة أخرى ويدخلون في حرب ضده حيث انضموا الى الأحزاب في غزوة الخندق هذا ما دل عليه قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ

__________________

(١) أي : جهرا لا سرا حتى يكونوا وأنتم بالعلم بنبذ المعاهدة على حد سواء.

(٢) وبنو النضير كذلك إذ أعانوا قريشا بالسلاح ثم لمّا انكشف أمرهم اعتذروا ، وأما قريظة ، فقد نقضوا عهدهم مرتين إذ انضموا إلى الأحزاب في حربهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) (١) أي يعاهدون فيها (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي لا يخافون عاقبة نقض المعاهدات والتلاعب بها حسب أهوائهم. وقوله تعالى (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ (٢) مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) يرشد رسوله آمرا إياه بما يجب أن يتخذه إزاء هؤلاء الناكثين للعهود المنغمسين في الكفر. بحيث لا يخرجون منه بحال من الأحوال ويشهد لهذه الحقيقة أنهم لما حوصروا في حصونهم ونزلوا منها مستسلمين كان يعرض على أحدهم الإسلام حتى لا يقتل فيؤثر باختياره القتل على الإسلام وماتوا كافرين وصدق الله إذ قال (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فهؤلاء إن ثقفتهم في حرب أي وجدتهم متمكنا منهم فاضربهم بعنف وشدة وبلا هوادة حتى تشرد أي تفرق بهم من خلفهم من أعداء الإسلام المتربصين بك الدوائر من كفار قريش وغيرهم لعلهم يذكرون أي يتعظون فلا يفكروا في حربك وقتالك بعد ، وقوله (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً (٣) فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) هذا إرشاد آخر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعلق بالخطط الحربية الناجحة وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن خاف من قوم معاهدين له خيانة ظهرت أماراتها وتأكد لديك علاماتها فاطرح تلك المعاهدة ملغيا لها معلنا ذلك لتكون وإياهم على علم تام بإلغائها ، وذلك حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة ، والله لا يحب الخائنين. وقاتلهم مستعينا بالله عليهم وستكون الدائرة على الناكث الخائن ، وهذا ضرب من الحزم وصحة العزم إذ ما دام قد عزم العدو على النقض فقد نقص فليبادر لافتكاك عنصر المباغتة من يده ، وهو عنصر مهم في الحروب. وقوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم من هرب من بدر من كفار قريش (سَبَقُوا) (٤) أي فاتوا فلم يقدر الله تعالى عليهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون الله بحال فإنه

__________________

(١) سبحان الله ، هذا الوصف الخسيس ما زال ملازما لليهود إلى اليوم فلا يوفون بعهد ولا ذمّة أبدا ، وصدق الله العظيم إذ قال عنهم. (كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ).

(٢) يقال : شرد البعير أو الدابة إن فارقت صاحبها ، وشرّده إذا عمل على تشريده بسبب ، وشردت بني فلان : إذا حملتهم على مفارقة منازلهم قال الشاعر :

أطوّف في الأباطح كل يوم

مخافة أن يشرّد بي حكيم

(٣) غشا ونقضا للعهد والآية عامة ، فهي مبدأ حربي يأخذ به المسلمون إلى يوم القيامة ، ولا وجه لذكر الخلاف هل هي في بني قريظة أو بني النضير؟ وخوف الخيانة هنا معناه : الظن الغالب وذلك بظهور علامات خيانة العدو واضحة.

(٤) أي : من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي : في الدنيا حتى يظفرك الله بهم.

تعالى لا يفوته هارب ، ولا يغلبه غالب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن شر الدواب هم الكفار من أهل الكتاب والمشركين بل هم شر البرية.

٢ ـ سنة الله فيمن توغل في الظلم والشر والفساد يحرم التوبة فلا يموت إلا كافرا.

٣ ـ من السياسة الحربية النافعة أن يضرب القائد عدوه بعنف وشدة ليكون نكالا لغيره من الأعداء.

٤ ـ حرمة الغدر والخيانة.

٥ ـ جواز إعلان إلغاء المعاهدة وضرب العدو فورا إن بدرت منه بوادر واضحة بأنه عازم على نقض المعاهدة (١) وذلك لتفويت عنصر المباغتة عليه.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

__________________

(١) روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة) وروى أبو داود والترمذي أن معاوية رضي الله عنه كان بينه وبين الروم عهد ، فلما قارب تاريخ العهد الانقضاء سار إليهم بجيشه فجاء عمرو بن عنبسة فقال له سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء) فرجع معاوية بالناس.

شرح الكلمات :

(أَعِدُّوا) : هيئوا وأحضروا.

(مَا اسْتَطَعْتُمْ) : ما قدرتم عليه.

(مِنْ قُوَّةٍ) : أي حربية من سلاح على اختلاف أنواعه.

(يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) : أي أجره وثوابه.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) : أي مالوا إلى عدم الحرب ورغبوا في ذلك.

(فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) : أي يكفيك شرهم ، وينصرك عليهم.

(أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) : أي جمع بين قلوب الأنصار بعد ما كانت متنافرة مختلفة.

(إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : أي غالب على أمره ، حكيم في فعله وتدبير أمور خلقه.

معنى الآيات :

بمناسبة انتهاء معركة بدر وهزيمة المشركين فيها ، وعودتهم إلى مكة وكلهم تغيظ على المؤمنين وفعلا أخذ أبو سفيان يعد العدة للانتقام. وما كانت غزوة أحد إلا نتيجة لذلك هنا أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بإعداد القوة وبذل ما في الوسع والطاقة لذلك فقال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ (١) مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القوة بالرمي بقوله «ألا إن القوة (٢) الرمي» قالها ثلاثا وقوله تعالى (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) يخبر تعالى عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بإعداد القوة على اختلافها بأن رباطهم للخيل وحبسها أمام دورهم معدة للغزو والجهاد عليها يرهب أعداء الله من الكافرين والمنافقين أي يخوفهم حتى لا يفكروا في غزو المسلمين وقتالهم ، وهذا ما يعرف بالسلم المسلح ، وهو أن الأمة إذا كانت مسلحة قادرة على القتال يرهبها أعداؤها فلا يحاربونها ، وإن رأوها لا عدة لها ولا عتاد ولا قدرة على رد أعدائها أغراهم ذلك بقتالها فقاتلوها. وقوله تعالى (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي من دون كفار

__________________

(١) روى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر يقول : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي) وعن عقبة أيضا قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجزه أحدكم أن يلهو بأسهمه) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنه من الحق).

(٢) ومما يدل على فضل الرمي في سبيل الله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي داود والترمذي والنسائي : (إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومنبله).

قريش ، وقوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) من الجائز أن يكونوا اليهود أو المجوس أو المنافقين ، وأن يكونوا الجن أيضا ، وما دام الله عزوجل لم يسمهم فلا يجوز أن يقال هم كذا .. بصيغة الجزم ، غير أنا نعلم أن أعداء المسلمين كل أهل الأرض من أهل الشرك والكفر من الإنس والجن ، وقوله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) إخبار منه تعالى أن ما ينفقه المسلمون من نفقة قلت أو كثرت في سبيل الله التي هي الجهاد يوفّيهم الله تعالى إياها كاملة ولا ينقصهم منها شيئا فجملة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) جملة خالية ومعناها لا يظلمكم الله تعالى بنقص ثواب نفقاتكم في سبيله هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٠) أما الآية الثانية وهي قوله تعالى (وَإِنْ (١) جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فإن الله تعالى يأمر رسوله وهو قائد الجهاد يومئذ بقبول السلم متى طلبها (٢) أعداؤه ومالوا إليها ورغبوا بصدق فيها ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول رحمة لا رسول عذاب وأمره أن يتوكل على الله في ذلك أي يطيعه في قبول السلم ويفوض أمره إليه ويعتمد عليه فإنه تعالى يكفيه شرّ أعدائه لأنه سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم وأحوالهم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فلذا سوف يكفي رسوله شر خداعهم إن أرادوا خداعه بطلب السلم والمسالمة ، وهذا معنى قوله تعالى في الآيتين (٦٢) و (٦٣) (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) أي بالميل إلى السلم والجنوح (٣) إليها (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي كافيك إنه (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) أي في بدر (وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي جمع بين تلك القلوب المتنافرة المنطوية على الإحن والعداوات ولأقل الأسباب وأتفهها ، لقد كان الأنصار يعيشون على عداوة عظيمة فيما بينهم حتى إن حربا وقعت بينهم مائة وعشرين سنة فلما دخلوا في الإسلام اصطلحوا وزالت كل آثار العداوة والبغضاء وأصبحوا جسما واحدا من فعل هذا سوى الله تعالى؟ اللهم لا أحد ، ولذا قال تعالى لرسوله (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي من مال

__________________

(١) (جَنَحُوا) : مالوا ، والجنوح : الميل أي : إذا مالوا إلى المسالمة التي هي الصلح فمل إليها ، اختلف هل هذه الآية منسوخة بآية : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والصحيح ، والذي به العمل أن الآية محكمة غير منسوخة ، وأنّ المسلمين إذا كانوا في حالة ضعف يحتاجون فيها إلى تقوية بعقد هدنة أو مصالحة لدفع ضرر أو تحصيل نفع ظاهر وهم في حاجة إلى ذلك فإن لهم أن يجنحوا للسلم وإن كانوا أقوياء قادرين فلا يحلّ لهم إلّا إنفاذ أمر الله تعالى بقتال العدو حتى يسلم أو يستسلم لحكم الإسلام.

(٢) السلم : مؤنثه ولذا عاد الضمير إليها مؤنثا في قوله : (فَاجْنَحْ لَها).

(٣) وهم يضمرون في نفوسهم نية الغدر بك والمكر ليخدعوك بذلك فامض في صلحك والله حسبك.

صامت وناطق (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب إعداد القوة وهي في كل زمان بحسبه إن كانت في الماضي الرمح والسيف ورباط الخيل فهي اليوم النفاثة المقاتلة والصاروخ ، والهدروجين والدبابة والغواصة ، والبارجة.

٢ ـ تقرير مبدأ : السلم المسلح ، إرجع إلى شرح الآيات.

٣ ـ لا يخلو المسلمون من أعداء ما داموا بحق مسلمين ، لأن قوى الشر من إنس وجن كلها عدو لهم.

٤ ـ نفقة الجهاد خير نفقة وهي مضمونة التضعيف.

٥ ـ جواز قبول (١) السلم في ظروف معينة ، وعدم قبوله في أخرى وذلك بحسب حال المسلمين قوة وضعفا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

__________________

(١) المراد بالسلم : المهادنة ، والموادعة ، والصلح المؤقت ، وقد تقدم بيانه ، والإمام الشافعي يرى أن لا تزيد مدّة المسالمة على عشر سنين قياسا على صلح الحديبية إذ كانت المدة عشر سنين لا غير.

شرح الكلمات :

(حَسْبُكَ اللهُ) (١) : أي كافيك الله كل ما يهمك من شأن أعدائك وغيرهم.

(وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : أي الله حسبهم كذلك أي كافيهم ما يهمهم من أمر أعدائهم.

(حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) : أي حثهم على القتال مرغبا لهم مرهبا.

(صابِرُونَ) : أي على القتال فلا يضعفون ولا ينهزمون بل يثبتون ويقاتلون.

(لا يَفْقَهُونَ) : أي لا يعرفون أسرار القتال ونتائجه بعد فنونه وحذق أساليبه.

معنى الآيات :

ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله بعنوان النبوة التي شرفه الله بها على سائر الناس فيقول (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ويخبره بنعم الخبر مطمئنا إياه وأتباعه من المؤمنين بأنه كافيهم أمر أعدائهم فما عليهم إلا أن يقاتلوهم ما دام الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم عليهم ، فيقول : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ثم يناديه ثانية قائلا (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ليأمره بالأخذ بالأسباب الموجبة للنصر بإذن الله تعالى وهي تحريض المؤمنين على القتال وحثهم عليه وترغيبهم فيه فيقول (حَرِّضِ (٢) الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) ويخبره آمرا له ولأتباعه المؤمنين بأنه (إِنْ يَكُنْ) أي يوجد منهم في المعركة (عِشْرُونَ (٣) صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، وإن يكن منهم مائة صابرة يغلبوا ألفا من الكافرين ، ويعلل لذلك فيقول (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفقهون أسرار القتال وهي أن يعبد الله تعالى ويرفع الظلم من الأرض ويتخذ الله من المؤمنين شهداء فينزلهم منازل الشهداء عنده ، فالكافرون لا يفقهون هذا فلذا

__________________

(١) (حَسْبُكَ) خبر مقدم ولفظ الجلالة مبتدأ أي : الله حسبك بمعنى كافيك : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) يصح أن يكون في موضع نصب عطفا على الكاف في (حسبك) ، والصواب أنها في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف والتقدير : ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله أيضا.

(٢) يقال : حرّضه على كذا : حثه وحضّه وحارض على الأمر وواظب وواصب وأكب بمعنى ، والحارض : الذي أشرف على الهلاك ومنه : (حتى تكون حرضا) أي : تذوب عمّا فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين.

(٣) (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ...) الخ لفظ مضمّن وعدا إلهيا مشروط بشرط الصبر ، إذ تقدير الكلام : إن يصبر منكم عشرون صابرون الخ.

هم لا يصبرون على القتال لأنهم يقاتلون لأجل حياتهم فقط فإذا خافوا عنها تركوا القتال طلبا للحياة زيادة على ذلك أنهم جهال لا يعرفون أساليب الحرب ولا وسائلها الناجعة بخلاف المؤمنين فإنهم علماء ، علماء بكل شيء هذا هو المفروض ، وإن ضعف الإيمان ضعف تبعا له الفقه والعلم وحل الجهل والضعف كما هو مشاهد اليوم في المسلمين وقوله تعالى (الْآنَ خَفَّفَ (١) اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً (٢) فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الآن بعد علمه تعالى بضعفكم حيث لا يقوى الواحد على قتال عشرة ، ولا العشرة على قتال مائة ولا المائة على قتال الألف خفف تعالى رحمة بكم ومنّة عليكم ، فنسخ (٣) الحكم الأول بالثاني الذي هو قتال الواحد للإثنين ، والعشرة للعشرين والمائة للمائتين ، والألف للألفين ، ومفاده أن المؤمن لا يجوز له أن يفر من وجه اثنين ولكن يجوز له أن يفر إذا كانوا أكثر من اثنين وهكذا سائر النسب فالعشرة يحرم عليهم ان يفروا من عشرين ولكن يجوز لهم أن يفروا من ثلاثين أو أربعين مثلا. وهذا من باب رفع الحرج فقط وإلا فإنه يجوز للمؤمن ان يقاتل عشرة أو أكثر ، فقد قاتل ثلاثة آلاف صحابي يوم مؤتة مائة وخمسين ألفا من الروم والعرب المتنصرة وقوله تعالى (بِإِذْنِ اللهِ) أي بمعونته وتأييده إذ لا نصر بدون عون من الله تعالى وإذن ، وقوله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي بالتأييد والنصر ، والصبر شرط في تأييد الله وعونه فمن لم يصبر على القتال فليس له على الله وعد في نصره وتأييده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا كافي إلا الله تعالى ، ومن زعم أن هناك من يكفي سوى الله تعالى فقد أشرك.

٢ ـ وجوب تحريض المؤمنين على الجهاد وحثهم عليه في كل زمان ومكان.

٣ ـ حرمة هزيمة الواحد من الواحد والواحد من الاثنين ، ويجوز ما فوق ذلك.

__________________

(١) لما شق على المؤمنين ثبات العشرة للمائة والعشرين للمائتين وثبات المائة للألف ، خفّف الله تعالى عنهم وأنزل قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ..) فرخّص للواحد أن يفر من أكثر من اثنين وهكذا إن شاء فإنه لا حرج.

(٢) قرىء ضعفا بفتح الضاد وضمها ، وقيل إن الفتح في ضعف العقول والضم في ضعف الأجسام ، والصحيح أنهما لغتان فصيحتان.

(٣) لا بأس أن يسمى هذا نسخا لأنه حكم جديد غاير الأوّل ويسمى تخفيفا وهو حسن أيضا.

٤ ـ وجوب تثقيف المجاهدين عقلا وروحا وصناعة.

٥ ـ وجوب الصبر في ساحة المعارك ويحرم الهزيمة إذا كان عدد المؤمنين اثني عشر ألف مقاتل أو أكثر إذ هذا العدد لا يغلب (١) من قلة بإذن الله تعالى.

٦ ـ معية الله بالعلم والتأييد والنصر للصابرين دون الجزعين.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

شرح الكلمات :

(أَسْرى) : جمع أسير وهو من أخذ في الحرب يشد عادة بإسار وهو قيد من جلد فاطلق لفظ الأسير (٢) على كل من أخذ في الحرب.

(حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) : أي تكون له قوة وشدة يرهب بها العدو.

(عَرَضَ الدُّنْيا) : أي المال لأنه عارض ويزول فلا يبقى.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) : وهو كتاب المقادير بأن الله تعالى أحل لنبيّ هذه الأمة الغنائم.

(فِيما أَخَذْتُمْ) : أي بسبب ما أخذتم من فداء أسرى بدر.

(حَلالاً طَيِّباً) : الحلال هو الطيب فكلمة طيبا تأكيد لحليّة اقتضاها المقام.

(وَاتَّقُوا اللهَ) : أي بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث غزوة بدر من ذلك أن أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عمر وسعد

__________________

(١) روى أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة) والمراد أن الغلب إن حصل لن يكون سببه قلة العدد وإنما يكون لأمر آخر كعدم الصبر أو عدم الأخذ بأسباب النصر التي يتم بها النصر حسب سنّة الله.

(٢) أسير : كقتيل وجريح ، ويجمع على أسرى كقتلى وجرحى ، وعلى أسارى بضم الهمزة وفتحها ، والضم أشهر.

بن معاذ رضي الله عنهما رغبوا في مفاداة الأسرى بالمال للظروف المعاشية القاسية التي كانوا يعيشونها ، وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها أو تحريمها أما عمر فكان لا يعثر على أسير إلا قتله وأما سعد فقد قال (الاثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال) ولما تم الفداء نزلت هذه الآية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب فيقول تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍ) (١) أي ما صح منه ولا كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم مجانا (حَتَّى يُثْخِنَ (٢) فِي الْأَرْضِ) أرض العدو قتلا وتشريدا فإذا عرف بالبأس والشدة وهابه الأعداء جاز له الأسر أي الإبقاء على الأسرى أحياء ليمن عليهم بلا مقابل أو ليفاديهم بالمال ، وقوله تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) هذا من (٣) عتابه تعالى لهم ، إذ ما فادوا الأسرى إلا لأنهم يريدون حطام الدنيا وهو المال ، وقوله (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم لكم تريدون العرض الفاني والله يريد لكم النعيم الباقي ، وقوله تعالى (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب على أمره ينصر من توكل عليه وفوّض أمره إليه ، حكيم فى تصرفاته فلا يخذل أولياءه وينصر أعداءه فعليكم أيها المؤمنون بطلب مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى ، وقوله تعالى (لَوْ لا كِتابٌ (٤) مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي لو لا أنه مضى علم الله تعالى بحلية الغنائم لهذه الأمة وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم.

وقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ (٥) حَلالاً طَيِّباً) إذن منه تعالى لأهل بدر أن يأكلوا مما

__________________

(١) هذه الآية نزلت يوم بدر عتابا من الله تعالى لأصحاب نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لم يثخنوا في قتل المشركين حتى يوجد منهم أسرى رغبوا في مفاداتهم منا بالمال.

(٢) الإثخان في الشيء : المبالغة فيه والإكثار منه والمراد به هنا : المبالغة في قتل المشركين حتى لا يبقى منهم أسير في ساحة المعركة.

(٣) روى مسلم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبعض أصحابه ومن بينهم أبو بكر وعمر (ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن يؤخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال : لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم ، فتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت وإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان .. إلى أن قال : وأنزل الله عزوجل : (ما كانَ لِنَبِيٍ) إلى قوله : (حَلالاً طَيِّباً).

(٤) من ذلك أن الله تعالى لا يعذب قوما حتى يبيّن لهم ما يتقون.

(٥) هذا الإذن واقع بعد تخميس الغنيمة لا على إطلاقه.

غنموا ، وحتى ما فادوا به الأسرى وهي منة منه سبحانه وتعالى ، وقوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر منه عزوجل لهم بتقواه بفعل أوامره وأوامر رسوله وترك نواهيهما ، وقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إخبار منه تعالى أنه غفور لمن تاب من عباده رحيم بالمؤمنين منهم ، وتجلى ذلك في رفع العذاب عنهم حيث غفر لهم وأباح لهم ما رغبوا فيه وأرادوه. وفي الحديث : «لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم».

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية في الجهاد أن لا يفادوا الأسرى وأن لا يمنوا عليهم بإطلاقهم إلا بعد أن يخنثوا في أرض العدو قتلا وتشريدا فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذ يمكنهم أن يفادوا الأسرى أو يمنوا عليهم.

٢ ـ التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها ، والترغيب في الآخرة لعظم أجرها.

٣ ـ إباحة الغنائم.

٤ ـ وجوب تقوى الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

شرح الكلمات :

(مِنَ الْأَسْرى) : أسرى بدر الذين أخذ منهم الفداء كالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

(إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) : أي إيمانا صادقا وإخلاصا تاما.

(مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) : من مال الفداء.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) : أي الأسرى

(فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل وقوعهم في الأسر وذلك بكفرهم في مكة.

(فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) : أي أمكنكم أنتم أيها المؤمنون منهم فقتلتموهم وأسرتموهم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : عليم بخلقه حكيم في صنعه وتدبيره.

معنى الآيتين :

هذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إذ كان يقول هذه الآية نزلت في وذلك أنه بعد أن وقع في الأسر (١) أسلم وأظهر إسلامه وطلب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليه ما أخذ منه من فدية فأبى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فأنزل الله تعالى قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي اسلاما حقيقيا (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) أي مالا خيرا (مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ، (٢) وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم التي كانت كفرا بالله ورسوله ، ثم حربا على الله ورسوله ، (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر ذنوب عباده التائبين (رَحِيمٌ) بعباده المؤمنين فلا يؤاخذهم بعد التوبة عليها بل يرحمهم برحمته في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى (وَإِنْ يُرِيدُوا (٣) خِيانَتَكَ) أي وإن يرد هؤلاء الأسرى الذين أخذ منهم الفداء ونطقوا بالشهادتين مظهرين إسلامهم خيانتك والغدر بك بإظهار إسلامهم ثم إذا عادوا إلى ديارهم عادوا إلى كفرهم ، فلا تبال (٤) بهم ولا ترهب جانبهم فإنهم قد خانوا الله من قبل بكفرهم وشركهم (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) المؤمنين وجعلهم في قبضتهم وتحت إمرتهم ، ولو عادوا لعاد الله تعالى فسلطكم عليهم وأمكنكم منهم وقوله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بنيات القوم وتحركاتهم حكيم فيما يحكم به عليهم ألا فليتقوه عزوجل وليحسنوا

__________________

(١) أسره رضي الله عنه أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وكان رجلا قصيرا والعباس رضي الله عنه ضخما طويلا فلما جاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : (لقد أعانك عليه ملك) وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس : (افد نفسك فقال : لقد كنت مسلما يا رسول الله فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (والله أعلم بإسلامك فإن تكن كما تقول فالله يجزيك بذلك ، فأمّا ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل وعقيل) ففعل وفيه نزلت هذه الآية. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ...) الخ.

(٢) روى مسلم أنه لما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال من البحرين قال له العباس إني فاديت نفسي وفاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خذ فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله ، وقال : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر الله لي).

(٣) في هذه الآية تطمين لنفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليبلغ مضمونه إلى الأسرى فيعلموا أنهم لا يغلبون الله ورسوله. والخيانة : نقض العهد ، وما في معنى العهد كالأمانة ونحوها.

(٤) هذا هو جواب إن الشرطية المحذوف ، وقد دلّ عليه : (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ).

إسلامهم ويصدقوا في إيمانهم فذلك خير لهم.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ فضل العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنزول الآية في حقه وشأنه.

٢ ـ فضل إضمار الخير والنيات الصالحة.

٣ ـ إطلاق لفظ الخير على الإسلام والقرآن وحقا هما الخير والخير كله.

٤ ـ ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه.

٥ ـ الله جل جلاله : لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب ألا فليتق وليتوكل عليه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا) : صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله وصدقوا بوعده ووعيده.

(وَهاجَرُوا) : أي تركوا ديارهم والتحقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة المنورة.

(فِي سَبِيلِ اللهِ) : أي من أجل ان يعبد الله ولا يعبد معه غيره وهو الإسلام.

(آوَوْا) : أي آووا المهاجرين فضموهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم.

(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) : أي طلبوا منكم نصرتهم على أعدائهم.

(مِيثاقٌ) : عهد أي معاهدة سلم وعدم اعتداء.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ) : أي إن لم توالوا المسلمين ، وتقاطعوا الكافرين تكن فتنة. (١)

(أُولُوا الْأَرْحامِ) : أي الأقارب من ذوي النسب.

(بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) : في التوارث أي يرث بعضهم بعضا.

معنى الآيات :

بمناسبة انتهاء الحديث عن أحداث غزوة بدر الكبرى ذكر تعالى حال المؤمنين في تلك الفترة من الزمن وأنهم مختلفون في الكمال ، فقال وقوله الحق (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) فهذا صنف : جمع أهله بين الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس ، والصنف الثاني في قوله تعالى (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) (٢) أي آووا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين في ديارهم ونصروهم. فهذان صنفا المهاجرين والأنصار وهما أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة ، وسيذكرون في آخر السياق مرة أخرى ليذكر لهم جزاؤهم عند ربهم ، وقوله تعالى فيهم (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي في النصرة والموالاة والتوارث إلا أن التوارث نسخ بقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) والصنف الثالث من أصناف المؤمنين المذكور في قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) أي آمنوا بالله ورسوله والدار الآخرة ثم رضوا بالبقاء بين

__________________

(١) محنة الحرب وما يتبع ذلك من الغارات والجلاء والأسر ، وما إلى ذلك من ويلات الحروب ، والفساد الكبير : هو ظهور الشرك.

(٢) قوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) معطوف على اسم إنّ والخبر : جملة (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

ظهراني الكافرين فلم يهجروا ديارهم وأموالهم ويلتحقوا بدار الهجرة بالمدينة النبوية ، فهؤلاء الناقصون في إيمانهم بتركهم الهجرة ، يقول تعالى فيهم لرسوله والمؤمنين (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) فلا توارث ولا موالاة تقتضي النصرة والمحبة حتى يهاجروا إليكم ويلتحقوا بكم ، ويستثني تعالى حالة خاصة لهم وهي أنهم إذا طلبوا نصرة المؤمنين في دينهم فإن على المؤمنين أن ينصروهم وبشرط أن لا يكون الذي اعتدى عليهم وآذاهم فطلبوا النصرة لأجله أن لا يكون بينه وبين المؤمنين معاهدة سلم وترك الحرب ففي هذه الحال على المؤمنين أن يوفوا بعهدهم ولا يغدروا فينصروا أولئك القاعدين عن الهجرة هذا ما دل عليه قوله تعالى (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ذيل الكلام بهذه الجملة لإعلام المؤمنين الكاملين كالناقصين بأن الله مطلع على سلوكهم خبير بأعمالهم وأحوالهم فليراقبوه في ذلك حتى لا يخرجوا عن طاعته وقوله تعالى في الآية (٧٣) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) يتناصرون ويتوارثون. وبناء على هذا يقول تعالى (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لا تفعلوا ما أمرتم به من مولاة المؤمنين محبة ونصرة وولاء ، ومن معاداة الكافرين بغضا وخذلانا لهم وحربا عليهم تكن فتنة عظيمة لا يقادر قدرها وفساد كبير لا يعرف مداه ، والفتنة الشرك والفساد المعاصي وقوله تعالي في الآية (٧٤) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) هذا هو الصنف الأول أعيد ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده فقال تعالى فيهم (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم بسترها وعدم المؤاخذة عليها (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ألا وهو نعيم الجنة في جوار ربهم سبحانه وتعالى والصنف الرابع من أصناف المؤمنين ذكره تعالى بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الأول والثاني ، إذ الأول والثاني فازوا بالسبق ، وهؤلاء جاءوا من بعدهم ولكن لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ألحقهم الله تعالى

__________________

(١) الولاية : بكسر الواو وفتحها لغتان ، وقرىء بهما معا وهي هنا بمعنى النسب والنصرة ، وتكون الولاية بالكسرة والفتح أيضا بمعنى الإمارة وفي الآية دليل على أن المسلم لا يلي عقد نكاح أخته الكافرة لانعدام الموالاة بينهما ، والكافر لا يلي عقد نكاح أخته المسلمة.

(٢) روى الترمذي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالها ثلاثا) وقال الترمذي هو حديث غريب.

بالسابقين فقال (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (وَأُولُوا (١) الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي في الارث وبها نسخ التوارث بالهجرة والمعاقدة ، واستقر الإرث بالمصاهرة والولاء ، والنسب إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى (فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكمه وقضائه المدون في اللوح المحفوظ ، وقوله (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذه الجملة تحمل الوعد والوعيد الوعد لأهل الإيمان والطاعة ، والوعيد لأهل الشرك والمعاصي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم.

٢ ـ أكمل المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد وسبقوا لذلك وهم المهاجرون الأولون والذين جمعوا بين الإيمان والإيواء والنصرة والجهاد وهم الأنصار.

٣ ـ دون ذلك من آمنوا وهاجروا وجاهدوا ولكن بعد صلح الحدبيبة.

٤ ـ وأدنى أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلاء على خطر عظيم.

٥ ـ وجوب نصرة المؤمنين بموالاتهم ومحبتهم ووجوب معاداة الكافرين وخذلانهم وبغضهم.

٦ ـ نسخ التوارث بغير المصاهرة والنسب والولاء.

سورة التّوبة

مدنية

وآياتها مائة وثلاثون آية

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)

__________________

(١) أولوا : واحدها ذو ، والرحم مؤنثة والجمع أرحام وهي مقر الولد في البطن والمراد بأولي الأرحام هنا : العصبات كالآباء والأبناء والإخوة والأعمام وأصحاب الفروض وهم الجد والأب والأم والبنت والأخت والزوجة يشهد لهذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر) أما أولوا الأرحام المختلف في إرثهم فهم : أولاد البنات وأولاد الاخوات وبنات الأخ ، والعمة والخالة والعم أخو الأب لأم والجد أبو الأم والجدة أم الأم. هذا ومن أهل العلم كابن كثير وغيره من أبقى اللفظ على ظاهره فجعل المراد من أولي الأرحام : القرابة الناشئة عن الأمومة على خلاف ما قدّمناه عن القرطبي من أنّ المراد بأولي الأرحام العصبات دون المولودين بالرحم ، وعلى رأي ابن كثير أن الآية ليست واردة في التوارث كما هو رأي مالك وإنما هي في الموالاة والنصرة.

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

شرح الكلمات :

(بَراءَةٌ) (١) : أي هذه براءة بمعنى تبرؤ وتباعد وتخلص

(عاهَدْتُمْ) : أي جعلتم بينكم وبينهم عهدا وميثاقا.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) (٢) : أي سيروا في الأرض طالبين لكم الخلاص.

(مُخْزِي الْكافِرِينَ) : مذل الكافرين ومهينهم.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ) : إعلام منه تعالى.

(يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) : أي يوم عيد النحر.

(لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) : أي من شروط المعاهدة وبنود الاتفاقية.

(وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) : أي لم يعينوا عليكم أحدا.

__________________

(١) يقال : برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا بريء منه إذا أزلته عن نفسي وقطعت سبب ما بيني وبينه. وبراءة هنا : مبتدأ ، وجوّز الابتداء به وهو نكرة : الوصف. والخبر (إِلَى الَّذِينَ) ويصح أن تكون براءة خبر ، والمبتدأ محذوف تقديره : هذه براءة.

(٢) أي قل لهم : سيحوا في الأرض أي : سيروا في الأرض آمنين غير خائفين ، يقال : ساح يسيح سياحة ، وسيوحا وسيحانا ومنه السّيح في الماء الجاري المنبسط.

معنى الآيات :

هذه السورة القرآنية الوحيدة التي خلت من البسملة (١) لأنها مفتتحة بآيات عذاب فتنافى معها ذكر الرحمة ، وهذه السورة من آخر ما نزل من سور القرآن الكريم وقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وبعض الصحابة في حج سنة تسع يقرأون هذه الآيات في الموسم ، وهي تعلم المشركين أن من كان له عهد مطلق بلا حد شهر أو سنة مثلا أو كان له عهد دون أربعة أشهر ، أو كان له عهد فوق أربعة أشهر ونقضه تعلمهم بأن عليهم أن يسيحوا في الأرض بأمان كامل مدة أربعة أشهر فإن أسلموا فهو خير لهم وإن خرجوا من الجزيرة فإن لهم ذلك وإن بقوا كافرين فسوف يؤخذون ويقتلون حيثما وجدوا في ديار الجزيرة التي أصبحت دار إسلام بفتح مكة ودخول أهل الطائف في الإسلام هذا معنى قوله تعالى (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي واصلة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ (٢) مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) تبدأ من يوم الإعلان عن ذلك وهو يوم العيد عيد الأضحى. وقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي غير فائتيه ولا هاربين من قهره وسلطانه عليكم هذا أولا ، وثانيا (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي مذلهم وقوله تعالى (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأذان الإعلان والإعلام ، (إِلَى النَّاسِ) وهم المشركون (يَوْمَ الْحَجِ (٣) الْأَكْبَرِ) (٤) أي يوم عيد الأضحى حيث تفرّغ الحجاج للاقامة بمنى للراحة والاستجمام قبل العودة إلى ديارهم ، وصورة الإعلان عن تلك البراءة هي قوله تعالى (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ (٥) مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي كذلك بريء من المشركين وعليه (فَإِنْ تُبْتُمْ) أيها المشركون الى الله تعالى بتوحيده والإيمان برسوله وطاعته وطاعة رسوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من الإصرار على الشرك

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سألت عليا رضي الله عنه : لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال : لأنّ بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. هذا أحد خمسة أوجه في عدم كتابة البسملة في براءة وهو أوجهها ، وهو ما ذكرناه في التفسير.

(٢) نسبت المعاهدة إلى المؤمنين كافة ، والمعاهد هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه المتولي لها ولسائر العقود. وكان رضاهم بها واجبا عليهم فلذا نسبت إليهم.

(٣) وقيل إنه يوم عرفة ، والصحيح ما ذكرناه في التفسير وأنه يوم النحر لحديث ابن عمر عن أبي داود إذ قال : (وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر في الحجة التي حجّ فيها فقال : أي يوم هذا؟ فقالوا : يوم النحر فقال : هذا يوم الحج الأكبر).

(٤) اختلف في العلة في تسمية الحج بالأكبر ، وأحسن الأقوال أنه قيل فيه الأكبر : لأنه حج حضره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحضرت فيه أمة الإسلام التي وجدت في تلك السنة فحجّ أكبر عدد في ذلك العام.

(٥) قالت العلماء : في الآية بيان جواز قطع المعاهدة بين المسلمين والكافرين لأحد أمرين : الأول : أن تنقضي المدة المعاهد عليها فنعلمهم بانقضائها وبالحرب عليهم. والثاني : أن نخاف غدرهم لظهور علامات تدلّ عليه.

والكفر والعصيان ، (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الإيمان والطاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) بحال من الأحوال فلن تفوتوه ولن تهربوا من سلطانه فإن الله تعالى لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ثم قال تعالى لرسوله (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم به فإنه واقع بهم لا محالة إلا أن يتوبوا وقوله تعالى في الآية الرابعة (٤) (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) من شروط المعاهدة (شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) لا برجال ولا بسلاح ولا حتى بمشورة ورأي فهؤلاء لم يبرأ الله تعالى منهم ولا رسوله ، وعليه (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ (١) إِلى مُدَّتِهِمْ) أي مدة أجلهم المحدد بزمن معين فوفوا لهم ولا تنقضوا لهم عهدا إلى أن ينقضوه هم بأنفسهم ، أو تنتهي مدتهم وحينئذ إما الإسلام وإما السيف إذ لم يبق مجال لبقاء الشرك في دار الإسلام وقبته.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جواز عقد المعاهدات بين المسلمين والكافرين إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق عن المسلمين ، أو جلب نفع للإسلام والمسلمين محققا كذلك.

٢ ـ تحريم الغدر والخيانة ، ولذا كان إلغاء المعاهدات علنيا وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون في أمرهم ويطلبون الأصلح لهم.

٣ ـ وجوب الوفاء بالمعاهدات ذات الآجال إلى أجلها إلا أن ينقضها المعاهدون.

٤ ـ فضل التقوى وأهلها وهو اتقاء سخط الله بفعل المحبوب له تعالى وترك المكروه.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

__________________

(١) في الآية إشارة إلى أن هناك من خاس بعهده أي : نقضه ، ومنهم من ثبت عليه.

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))

شرح الكلمات :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ (١) الْحُرُمُ) : انقضت وخرجت الأشهر الأربعة التي أمنتم فيها المشركين.

(حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) : أي في أي مكان لقيتموهم في الحل أو الحرم.

(وَخُذُوهُمْ) : أي أسرى.

(وَاحْصُرُوهُمْ) : أي حاصروهم حتى يسلموا أنفسهم.

(وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (٢) : أي اقعدوا لهم في طرقاتهم وارصدوا تحركاتهم.

(فَإِنْ تابُوا) : أي آمنوا بالله ورسوله.

(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) : أي اتركوهم فلا حصار ولا مطاردة ولا قتال.

(اسْتَجارَكَ) : أي طلب جوارك أي حمايتك.

(مَأْمَنَهُ) : أي المكان الذي يأمن فيه.

(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) : أي لم ينقضوا عهدهم ولم يخلوا بالاتفاقية.

__________________

(١) انسلخ : مطاوع سلخ ، وهو مأخوذ من سلخ الجلد : إذا أزاله عن لحم الحيوان.

(٢) المرصد : مكان الرصد والرصد : المراقبة وتتبع النظر ، قال الشاعر :

ولقد علمت وما إخالك ناسيا

أنّ المنيّة للفتى بالمرصد

(وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) : أي يغلبوكم.

(لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) : أي لا يراعوا فيكم ولا يحترموا.

(إِلًّا وَلا ذِمَّةً) : أي لا قرابة ، ولا عهدا فالإلّ : القرابة والذمة : العهد.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إعلان الحرب العامة على المشركين تطهيرا لأرض الجزيرة التي هي دار الإسلام وحوزته من بقايا الشرك والمشركين ، فقال تعالى لرسوله والمؤمنين (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) (١) أي إذا انقضت وخرجت الأشهر الحرم التي أمنتم فيها المشركين الذين لا عهد لهم أولهم عهد ولكن دون أربعة أشهر أو فوقها وبدون حد محدود (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (٢) حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الحل والحرم سواء (وَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاحْصُرُوهُمْ) حتى يستسلموا ، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي سدوا عليهم الطرق حتى يقدموا أنفسهم مسلمين أو مستسلمين وقوله تعالى (فَإِنْ تابُوا) أي من الشرك وحربكم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ (٣) وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (٤) إذ أصبحوا مسلمين مثلكم. وقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أن الله سيغفر لهم ويرحمهم بعد إسلامهم ، لأنه تعالى غفور رحيم ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥) أما الآية الثانية (٦) فقد أمر تعالى رسوله أن يجير من طلب جواره من المشركين حتى يسمع كلام الله منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتفهم دعوة الإسلام ثم هو بالخيار إن شاء أسلم وذلك خير له وإن لم يسلم رده (٥) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكان يأمن فيه من المسلمين أن يقتلوه.

__________________

(١) ليس المراد بالأشهر الحرم الثلاثة السرد ، والواحد الفرد التي هي القعدة والحجة والمحرم ورجب بل المراد منها ما هو مبين في التفسير ومعنى كونها حرما أنه يحرم قتال المشركين فيها والتعرض لهم بالسوء والأذى.

(٢) لفظ المشركين عام في كل مشرك وهو مخصوص بالسنة إذ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل المرأة والصبي والراهب.

(٣) شاهده حديث الصحاح : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله) وقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال.

(٤) مالك والشافعي وأحمد على أن تارك الصلاة استحلالا لها أو غير استحلال يؤخر إلى أن يبقى من الوقت الضروري قدر ما يصلي ركعة قبل خروج الوقت ويقتل ، وأبو حنيفة والظاهرية يقولون : يسجن ويضرب حتى يصلي ولا يقتل.

(٥) إمام المسلمين هو الذي يتولى أمر التأمين لمن طلب ذلك من المشركين إذ هو نائب عن سائر المسلمين ، ويجوز للمسلم ذكرا كان أو انثى أن يؤمن شخصا ما لما له من حرمة لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد واحدة على من سواهم). وخالف بعضهم في المرأة فقالوا : لا بد من موافقة الإمام لها على تأمينها وخالف أبو حنيفة في العبد.

وهو معنى قوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ (١) الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ (٢) كَلامَ اللهِ ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) فلذا قبل منهم ما طلبوه من الجوار حتى يسمعوا كلام الله تعالى إذ لو علموا ما رغبوا عن التوحيد إلى الشرك. وقوله تعالى في الآية الثالثة (٧) (كَيْفَ (٣) يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) هذا الاستفهام للنفي مع التعجب أي ليس لهم عهد أبدا وهم كافرون غادرون ، وقوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) هؤلاء بعض بني بكر بن كنانة عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام صلح الحديبية وهم عند الحرم فهؤلاء لهم عهد وذمة ما استقاموا على عهدهم فلم ينقضوه. فإن استقاموا استقام لهم المسلمون ولم يقتلوهم وفاء بعهدهم وتقوى لله تعالى لأنه تعالى يكره الغدر ويحب المتقين لذلك. وقوله تعالى (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) الاستفهام للتعجب أي كيف يكون للمشركين عهد يفون به لكم وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم في معركة ، (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) أي لا يراعوا الله تعالى ولا القرابة ولا الذمة بل يقتلوكم قتلا ذريعا ، وقوله تعالى (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) إخبار من الله تعالى عن أولئك المشركين الناكثين للعهد الغادرين بأنهم يحاولون إرضاء المؤمنين بالكذب بأفواههم ، وقلوبهم الكافرة تأبى ذلك الذي يقولون بألسنتهم أي فلا تعتقده ولا تقره ، (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) لا يعرفون الطاعة ولا الالتزام لا بعهد ولا دين ، والجملة فيها تهييج للمسلمين على قتال المشركين ومحاصرتهم وأخذهم تطهيرا لأرض الجزيرة منهم قبل وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهود ما لم ينقضها المعاهدون.

__________________

(١) أحد ، مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده والتقدير : وإن استجارك أحد من المشركين فأجره.

(٢) الآية دليل على أن ما يسمع من صوت القارىء للقرآن هو كلام الله تعالى فيقول العبد : سمعت كلام الله حقا وصدقا.

(٣) (كَيْفَ يَكُونُ) الخ كيف : للتعجب نحو قولك : كيف يسبقني فلان؟! في الآية إضمار كلمة غدر أي كيف يكون لهم عهد مع إضمارهم الغدر بكم.

٢ ـ تقرير مبدأ الحزم في القتال والضرب بشدة.

٣ ـ وجوب تطهير الجزيرة من كل شرك وكفر لأنها دار الإسلام.

٤ ـ إقام الصلاة شرط في صحة الإيمان فمن تركها فهو كافر غير مؤمن.

٥ ـ احترام الجوار ، والإقرار به ، وتأمين السفراء والممثلين لدولة كافرة.

٦ ـ قبول طلب كل من طلب من الكافرين الإذن له بدخول بلاد الإسلام ليتعلم الدين الإسلامي.

٧ ـ القرآن كلام الله تعالى حقا بحروفه ومعانيه لقوله (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) الذي يتلوه عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٨ ـ وجوب مراقبة الله تعالى ومراعاة القرابة واحترام العهود.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

شرح الكلمات :

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) : (١) أي باعوا آيات الله وأخذوا بدلها الكفر.

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) : أي أعرضوا عن سبيل الله التي هي الإسلام كما صدوا غيرهم أيضا.

__________________

(١) روي أنهم نقضوا عهدهم من أجل أكلة أطعمهم إيّاها أبو سفيان ومال صرفه لهم ليقفوا معه ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

(ساءَ) : أي قبح.

(لا يَرْقُبُونَ) : أي لا يراعون.

(إِلًّا) : الإل : الله ، والقرابة والعهد وكلها صالحة هنا.

(فَإِنْ تابُوا) : أي من الشرك والمحاربة.

(نَكَثُوا) : أي نقضوا وغدروا.

(وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) (١) : أي انتقدوا الإسلام في عقائده أو عباداته ومعاملاته.

(أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) : أي رؤساء الكفر المتبعين والمقلدين في الشرك والشر والفساد.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المشركين ، وبيان ما يلزم اتخاذه حيالهم فأخبر تعالى عنهم بقوله في الآية (٩) (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي باعوا الإيمان بالكفر فصدوا أنفسهم كما صدوا غيرهم من أتباعهم عن الإسلام الذي هو منهج حياتهم وطريق سعادتهم وكمالهم. فلذا قال تعالى مقبحا سلوكهم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يراعون في أي مؤمن يتمكنون منه الله عزوجل ولا قرابة بينه وبينهم ، ولا معاهدة تربطهم مع قومه ، فقال تعالى (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) ووصفه تعالى إياهم بالاعتداء دال على أنهم لا يحترمون عهودا ولا يتقون الله تعالى فى شيء ، وذلك لظلمة نفوسهم من جراء الكفر والعصيان ، فلذا على المسلمين قتلهم حيث وجدوهم وأخذهم أسرى وحصارهم وسد الطرق عنهم حتى يلقوا السلاح ويسلموا لله ، أو يستسلموا للمؤمنين اللهم إلا أن يتوبوا بالإيمان والدخول في الإسلام كما قال تعالى (فَإِنْ (٢) تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) وقوله تعالى

__________________

(١) الطعن في الدين هو : استنقاصه ، وأصل الطعن : الضرب في الجسم بالرمح لا فساده ، واستعمل في الانتقاص للشخص والدين لإفساده. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طعن في إمارة أسامة لصغر سنة : (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة) في الصحيح والطاعنون : المنافقون ، واستدل بهذه الآية على كفر من طعن في الدين ، ووجوب قتله وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد ، وأنّ الذمي إذا طعن في الدين انتقضّ عهده ووجب قتله هذا مذهب الجمهور ، وأبو حنيفة يرى استتابته فإن تاب وإلّا قتل.

(٢) من فرّق بين ثلاثة فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة. من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول فإن الله تعالى قال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ومن قال : أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ومن قال : أشكر الله ولا أشكر لوالدي فإن الله قال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ).

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي نبين الآيات القرآنية المشتملة على الحجج والبراهين على توحيد الله تعالى وتقرير نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى الأحكام الشرعية في الحرب والسلم كما في هذا السياق وقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأن الذين لا يعلمون من أهل الجهالات لا ينتفعون بها لظلمة نفوسهم وفساد عقولهم بضلال الشرك والأهواء وقوله تعالى في الآية الرابعة (١٢) (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ (١) مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) يريد تعالى أولئك المعاهدين من المشركين إذ هم نكثوا أيمانهم التي أكدوا بها عهودهم فحلوا ما أبرموا ونقضوا ما أحكموا من عهد وميثاق وعابوا الإسلام وطعنوا فيه فهم إذا أئمة الكفر ورؤساء الكافرين فقاتلوهم بلا هوادة ، ولا تراعوا لهم أيمانا حلفوها لكم فإنهم لا أيمان لهم. قاتلوهم رجاء أن ينتهوا من الكفر والخيانة والغدر فيوحدوا ويسلموا ويصبحوا (٢) مثلكم أولياء الله لا أعداءه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ذم سلوك الكافرين وتصرفاتهم في الحياة وحسبهم أن باعوا الحق بالباطل ، واشتروا الضلالة بالهدى.

٢ ـ من كان الاعتداء وصفا له لا يؤمن على شيء ، ولا يوثق فيه في شيء ، لفساد ملكته النفسية.

٣ ـ أخوة الإسلام تثبت بثلاثة أمور التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. (٣)

٤ ـ الطعن في الدين ردة وكفر موجب للقتل والقتال.

__________________

(١) النكث : النقض وأصله في كل ما فتل أو أبرم ثم حل ، واستعملت في الأيمان والعهود ، قال الشاعر :

وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

(٢) نعم ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لم يبق منهم إلّا ثلاثة ، ولم يبق من المنافقين إلا أربعة : روى البخاري عن زيد بن وهب قال : كنا عند حذيفة فقال : ما بقي من أصحاب هذه الآية يعني : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ...) إلا ثلاثة ولا يبقى من المنافقين إلا اربعة فقال أعرابي : إنكم أصحاب محمد تخبرون أخبارا لا ندري ما هي؟ تزعمون ألّا منافق إلّا اربعة ، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلاقنا ـ نفائس أموالنا ـ قال حذيفة رضي الله عنه : أولائك الفساق ، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده ، أي : لذهاب شهوته وفساد معدته.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية حرّمت دماء أهل القبلة يعني قوله تعالى (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ).

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(أَلا) : أداة تحضيض.

(نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) : نقضوها وحلوها فلم يلتزموا بها.

(هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) : من دار الندوة إذ عزموا على واحدة من ثلاث الحبس أو النفي أو القتل.

(أَوَّلَ مَرَّةٍ) : أي في بدر أو في ماء الهجير (١) حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة.

(وَيُخْزِهِمْ) : أي يذلهم ويهينهم.

(وَيَشْفِ صُدُورَ) : أي يذهب الغيظ الذي كان بها على المشركين الظالمين.

(أَنْ تُتْرَكُوا) : أي بدون امتحان بالتكاليف كالجهاد.

__________________

(١) حوض من ماء واسع كبير يسقون منه تقاتلت عنده خزاعة حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنو بكر حلفاء قريش وأعانت قريش حلفاءها بني بكر وبذلك نقضت عهدها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذا يقول الخزاعي وافد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيّتونا بالهجير هجّدا

وقتلونا ركعا وسجدا

(وَلِيجَةً) : أي دخيله وهي الرجل يدخل في القوم وهو ليس منهم ويطلعونه على أسرارهم وبواطن أمورهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المشركين وما يلزم إزاءهم من إجراءات فإنه بعد أن أعطاهم المدة المذكورة وأمنهم فيها وهي أربعة أشهر ، وقد انسلخت فلم يبق إلا قتالهم وأخذهم وإنهاء عصبة المشركين وآثارها في ديار الله فقال تعالى حاضا المؤمنين مهيجا لهم (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) وهذه خطيئة كافية في وجوب قتالهم ، وثانية همهم بإخراج الرسول من بين أظهرهم من مكة وثالثة بدؤهم إياكم بالقتال في بدر ، إذ عيرهم نجت وأبوا إلا أن يقاتلوكم ، إذا فلم لا تقاتلونهم؟ أتتركون قتالهم خشية منهم وخوفا إن كان هذا (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، لأن ما لدى الله تعالى من العذاب ليس لدى المشركين فالله أحق أن يخشى ، هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٣) وهي قوله تعالى (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ) (١) (الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وفي الآية الثانية (١٤) يقول تعالى : (قاتِلُوهُمْ) وهو أمر صريح بالقتال ، وبذكر الجزاء المترتب على قتالهم فيقول (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) وهم خزاعة تشفى صدورهم من الغيظ على بني بكر الذين قاتلوهم وأعانتهم قريش عليهم بعد صلح الحديبية ، (٢) وقوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) هذه وإن لم تكن جزاء للأمر بالقتال كالأربعة التي قبلها. ولكن سنة الله تعالى أن الناس إذا رأوا انتصار أعدائهم عليهم في كل معركة يميلون إليهم ويقبلون دينهم وما هم عليه من صفات فقتال المؤمنين للكافرين وانتصارهم عليهم يتيح الفرصة لكثير من الكافرين فيسلمون وهو معنى قوله تعالى (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تقرير للأمر بالقتال والنتائج الطيبة المترتبة عليه آخرها أن يتوب الله على من يشاء. وقوله تعالى في الآية (١٦) الأخيرة (أَمْ

__________________

(١) إذ كانوا السبب في خروجه من مكة مهاجرا كما أخرجوه من المدينة لقتالهم في بدر ولفتح مكة كما همّوا بإخراجه من المدينة هو وأصحابه في أحد والخندق وغير ذلك.

(٢) إذ قريش أعانت بني بكر على خزاعة التي هي حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنّ رجلا من بني بكر أنشد شعرا في هجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له بعض رجال خزاعة لئن أعدته لأكسرنّ فمك فأعاده فكسر فمه ، واندلعت الحرب بينهم فأعانت قريش بني بكر فجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب النصرة فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجاله وكان فتح مكة.

حَسِبْتُمْ (١) أَنْ تُتْرَكُوا) أي بدون امتحان. وأنتم خليط منكم المؤمن الصادق ومنكم المنافق الكاذب ، من جملة ما كان يوحى به المنافقون التثبيط عن القتال بحجة ان مكة فتحت وأن الإسلام عز فما هناك حاجة الى مطاردة فلول المشركين ، وهم يعلمون أن تكتلات يقودها الساخطون على الإسلام حتى من رجالات قريش يريدون الانقضاض على المسلمين وإهدار كل نصر تحقق لهم ، وهذا المعنى ظاهر من سياق الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) (٢) إذ هناك من اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يطلعونها على أمور المسلمين ، ويسترون عليهم وهي بينهم دخلية ، ويقرر هذه الجملة التي ختمت بها الآية وهي قوله تعالى (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية استعمال أسلوب التهييج والإثارة للجهاد.

٢ ـ وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته.

٣ ـ لازم الإيمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه.

٤ ـ من ثمرات القتال دخول الناس في دين الله تعالى.

٥ ـ الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضا.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)

__________________

(١) (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم : هي المنقطعة بمعنى بل إضرابا عما سبق من الكلام وانتقالا إلى آخر ، والاستفهام للإنكار ، والحسبان بمعنى الظن والمعنى كيف تظنون أنكم تتركون بعد فتح مكة دون جهاد لأعداء الله ورسوله ، وهم ما زالوا يتآمرون ويتجمعون لقتالكم.

(٢) الوليجة : البطانة من الولوج في الشيء وهو الدخول فيه ، والمراد من هذا الرجل يتخذ من أعداء الإسلام صديقا يدخل عليه ويدخله عليه فيطلعه على أسرار المسلمين للنكاية بهم والتسلط عليهم لإضرارهم وإفسادهم وهلاكهم.

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

شرح الكلمات :

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) : أي ليس من شأنهم أو مما يتأتى لهم.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : أي بطلت فلا يثابون عليها ولا ينجحون فيها.

(يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) : أي بالعبادة فيها ، وصيانتها وتطهيرها.

(وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) : أي لم يخف أحدا غير الله تعالى.

(فَعَسى) : عسى من الله تعالى كما هي هنا تفيد التحقيق أي هدايتهم محققة.

(الْمُهْتَدِينَ) : أي إلى سبيل النجاة من الخسران والظفر بالجنان.

معنى الآيتين :

لا شك أن هناك من المشركين من ادعى أنه يعمر المسجد الحرام بالسدانة والحجابة والسقاية وسواء كان المدعى هذا العباس يوم بدر أو كان غيره فإن الله تعالى أبطل هذا الادعاء وقال (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) (١) أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يصح منهم ، وكيف وهم كفار شاهدون (٢) على أنفسهم بالكفر ، وهل الكافر بالله يعمر بيته وبما ذا يعمره؟ وإذا سألت اليهودي ما أنت؟ يقول يهودي ، وإذا سألت النصراني ، ما أنت؟ يقول نصراني ، وإذا سألت الوثني ما أنت؟ يقول مشرك فهذه شهادتهم على أنفسهم (٣) بالكفر ، وقوله تعالى (أُولئِكَ) أي البعداء في الكفر والضلال (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي

__________________

(١) قيل : إنّ العباس لما أسر في بدر عيّر بالكفر وقطيعة الرحم قال لمن عيّره ، تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا! فقال علي : ألكم محاسن؟ قال : نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الآية ردّا عليه. فوجب على المسلمين تولي أحكام المساجد.

(٢) قيل الأصل : وهم شاهدون فحذف «وهم» فنصب (شاهِدِينَ) على الحال.

(٣) قال ابن عباس : شهادتهم بالكفر هي : سجودهم للأصنام مع إقرارهم بأنها مخلوقة والله خالقها.

بطلت وضاعت لفقدها الإخلاص فيها لله تعالى (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) لا يخرجون منها متى دخولها أبدا ، إذ ليس لهم من العمل ما يشفع لهم بالخروج منها. ثم قرر تعالى الحقيقة وهى أن الذين يعمرون (١) مساجد الله حقا وصدقا هم المؤمنون الموحدون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويخشون الله تعالى ولا يخشون سواه هؤلاء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلاة والذكر والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلاء جديرون بالهداية لكل كمال وخير يشهد لهذا قوله تعالى (فَعَسى (٢) أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) إلى ما هو الحق والصواب ، وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة دخول الكافر المساجد إلا لحاجة وبإذن من المسلمين.

٢ ـ فضيلة عمارة المساجد بالعبادة فيها وتطهيرها وصيانتها.

٣ ـ فضيلة المسلم وشرفه ، إذ كل من يسأل عن دينه يجيب بجواب هو الكفر إلا المسلم فإنه يقول : مسلم أي لله تعالى فهو إذا المؤمن وغيره الكافر.

٤ ـ وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشية (٣) من الله تعالى.

٥ ـ أهل الأمن والنجاة من النار هم أصحاب الصفات الأربع المذكورة في الآية.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

__________________

(١) وردت أحاديث في فضل عمارة المساجد منها القوي ومنها الضعيف مجموعها يدل على المراد منها وهو حسن الظن بمن يعمر مساجد الله وأظهر حديث إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان.

(٢) قالت العلماء : «عسى من الله واجبة أي : ما يرجى بها واجب الوقوع ، وقيل : هي هنا بمعنى : خليق أي : فخليق أن يكونوا من المهتدين.

(٣) تساءل البعض وقالوا : قوله تعالى : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) دال على أن المؤمن الكامل الإيمان لا يخشى إلا الله وإذا بالواقع أن الأنبياء يخشون الأعداء فضلا عن غيرهم فقال بعضهم معناه : أنهم لا يخشون إلا الله مما يعبد ، وقال بعضهم : أي لم يخف إلا الله في باب الدين. والجواب الصحيح أنّ الإنسان نبيا كان أو غيره من المؤمنين العاملين لا يخشون إلا الله تعالى فإذا خافوا عدوا ، ليس معناه أنهم خافوه لذاته وإنما خافوا من الله أن يكون سلطة عليهم فخوفهم عائد في الحقيقة إلى الله تعالى فهو الذي بيده الأمر ، والخوف منه لا من غيره.

وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

شرح الكلمات :

(سِقايَةَ الْحاجِ) : مكان يوضع فيه الماء في المسجد الحرام ويسقى منه الحجاج مجانا.

(وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : هنا عبارة عن بنائه وصيانته وسدانة البيت فيه.

(لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) : إذ عمارة المسجد الحرام مع الشرك والكفر لا تساوى شيئا.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : أي المشركين لا يهديهم لما فيه كمالهم وسعادتهم.

(وَرِضْوانٍ) : أي رضا الله عزوجل عنهم.

(نَعِيمٌ مُقِيمٌ) : أي دائم لا يزول ولا ينقطع.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الرد على من رأى تفضيل عمارة المسجد (١) الحرام بالسقاية والحجابة

__________________

(١) روي عن السدي أنه قال : افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة وعلي بالإسلام والجهاد فصدق الله عليا وكذبهما أي بهذه الآية : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ...) الخ فأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.

وقيل أيضا : إن المشركين سألوا اليهود وقالوا : نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود مكرا وعنادا : أنتم أفضل وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته عما اختلفتم فيه. فأنزل الله عزوجل : (أَجَعَلْتُمْ ..) الآية. وحل الإشكال في هذه الأخبار : أن الآية تذكر دليلا لا أنها نزلت في ذلك الوقت.

والسدانة على الإيمان والهجرة والجهاد فقال تعالى موبخالهم (أَجَعَلْتُمْ (١) سِقايَةَ الْحاجِ (٢) وَعِمارَةَ (٣) الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ) في حكم الله وقضائه بحال من الأحوال ، والمشركون ظالمون كيف يكون لعمارتهم للمسجد الحرام وزن أو قيمة تذكر (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد هذا التوبيخ والبيان للحال أخبر تعالى أن (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) هم (أَعْظَمُ دَرَجَةً) ممن آمنوا ولم يستكملوا هذه الصفات الأربع ، وأخبر تعالى أنهم هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة ، وأعظم من هذا ما جاء في قوله (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) وهي الجنة (وَرِضْوانٍ) منه تعالى وهو أكبر نعيم (وَجَنَّاتٍ) أي بساتين في الملكوت الأعلى (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) لا يحول ولا يزول وأنهم خالدون فيها لا يخرجون منها أبدا ، و (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة ، وأقربهم من الله منزلة من جمع الصفات الثلاث المذكورة في الآية (٢٠) وهي الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.

٢ ـ فضل الهجرة والجهاد.

٣ ـ تفاوت أهل الجنة في علو درجاتهم.

٤ ـ حرمان الظالمين المتوغّلين في الظلم من هداية الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ

__________________

(١) أي : أجعلتم أهل سقاية الحاج ، أو أصحاب سقاية الحاج ، إذ حذف المضاف وهو : أهل أو أصحاب وبقي المضاف إليه وهو : سقاية فنصب انتصابه.

(٢) (الْحاجِ) : اسم جنس ناب مناب الحجاج جمع حاج.

(٣) وقرىء : سقاة بضم السين جمع ساق وعمرة : جمع عامر ككتبة جمع كاتب.

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

شرح الكلمات :

(أَوْلِياءَ) : جمع وليّ وهو من تتولاه بالمحبة والنصرة ويتولاك بمثل ذلك.

(اسْتَحَبُّوا) : أي أحبوا الكفر على الإيمان.

(الظَّالِمُونَ) : الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ومن أحب من لا تجوز محبته فقد وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم.

(وَعَشِيرَتُكُمْ) : أي قرابتكم من النسب كالأعمام الأباعد وأبنائهم.

(اقْتَرَفْتُمُوها) : أي اكتسبتموها.

(كَسادَها) : بوارها وعدم رواجها.

(فَتَرَبَّصُوا) : أي انتظروا.

(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) : أي بعقوبة هذه المعصية يوم فتح مكة.

معنى الآيتين :

هذا إنذار الله تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ من كفر من آبائهم وإخوانهم أولياء لهم يوادونهم ويناصرونهم ويطلعونهم على أسرار المسلمين وبواطن أمورهم. فيقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ (١)

__________________

(١) هذه الآية ما تضمنته من حكم حرمة موالاة الكافرين ولو كانوا من أقرب الأقرباء وهو عام في الأمة إلى يوم القيامة ، وإن فهم منها بعضهم أنها للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها يدعوهم إلى الهجرة والتخلى عن بلاد الكفر.

وَإِخْوانَكُمْ (١) أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا (٢) الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي اثروا الكفر والإصرار عليه على الإيمان بالله ورسوله ثم يهددهم إن لم يمتثلوا أمره ويفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإيمان فيقول (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٣) ووجه الظلم ظاهر وهو أنهم وضعوا المحبة موضع البغضاء ، والنصرة موضع الخذلان. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم ، وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعر بالغضب وعدم الرضى ، والتهديد والوعيد (قُلْ إِنْ كانَ (٤) آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) فتركتم الهجرة والجهاد لذلك (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي انتظروا أمر الله وهو فتح مكة عليكم وإنزال العقوبة بكم ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يوفقهم لسبل نجاتهم وسعادتهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة اتخاذ الكافرين أولياء يوادون ولو كانوا من أقرب الأقرباء كالأب والابن والأخ.

٢ ـ من الظلم الفظيع موالاة من عادى الله ورسوله والمؤمنين.

٣ ـ فرضية محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، ومحبة سائر محاب الله تعالى وكره سائر مكاره الله تعالى من العقائد والأحوال والأعمال والذوات والصفات.

٤ ـ حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ

__________________

(١) لم يذكر الأبناء لأنّ العادة أنّ الأبناء تبع لآبائهم وذكر الآباء والإخوان ذكر لأقوى القرابة.

(٢) استحبوا : بمعنى أحبوا نحو : استجاب بمعنى : أجاب.

(٣) قال ابن عباس : من تولاهم هو مشرك مثلهم لأنّ الرضا بالشرك شرك ويستثنى من هذه المقاطعة الإحسان والهبة للأقارب الكفرة لحديث أسماء إذ قالت : يا رسول الله إنّ أمي قدمت عليّ راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال : صلي أمك. رواه البخاري.

(٤) هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة إيثارا لما ذكر تعالى على حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله تعالى إذ توعدهم تعالى بقوله : (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا ما سيحل بكم إن لم تتوبوا فتهاجروا وتجاهدوا.

تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

شرح الكلمات :

(فِي مَواطِنَ) : المواطن جمع موطن بمعنى الوطن وهو محل إقامة الإنسان.

(حُنَيْنٍ) : واد على بعد أميال يسيرة من الطائف.

(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) : أي كثرة عددكم حتى قال من قال : لن نغلب اليوم من قلة.

(فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) : أي لم تجز عنكم شيئا من الإجزاء إذ انهزمتم في أول اللقاء.

(وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) : أي لم تعرفوا أين تذهبون ، وكيف تتصرفون كأنكم محصورون في مكان ضيق.

(بِما رَحُبَتْ) : أي على رحابتها وسعتها.

(أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) : أي الطمأنينة في نفوسهم ، فذهب القلق والاضطراب.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً) : أي من الملائكة.

(نَجَسٌ) : أي ذوو نجس وذلك لخبث أرواحهم بالشرك.

(بَعْدَ عامِهِمْ هذا) : عام تسعة من الهجرة.

(عَيْلَةً) : أي فقرا وفاقة وحاجة.

معنى الآيات :

لما حرم الله على المؤمنين موالاة الكافرين ولو كانوا اقرباءهم وحذرهم من القعود عن الهجرة والجهاد ، وكان الغالب فيمن يقعد عن ذلك إنما كان لجبنه وخوفه أخبرهم تعالى في هذه الآيات الثلاث أنه ناصرهم ومؤيدهم فلا يقعد بهم الجبن والخوف عن أداء الواجب من الهجرة والجهاد فقال تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) (١) كبدر والنضير وقريظة والفتح وغيرها (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) (٢) حين قاتلوا قبيلة هوازن مذكرا إياهم بهزيمة أصابت المؤمنين نتيجة خطأ من بعضهم وهو الاغترار بكثرة العدد إذ قال من قال منهم : لن نغلب اليوم من قلة إذ كانوا اثني عشر (٣) ألفا وكان عدوهم أربعة آلاف فقط ، إنهم ما إن توغلوا بين جنبتي الوادي حتى رماهم العدو بوابل من النبل والسهام فلم يعرفوا كيف يتصرفون حتى ضاقت عليهم الأرض على سعتها وولوا مدبرين هاربين ولم يثبت إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان على بغلته البيضاء المسماة (بالدلدل) والعباس إلى جنبه وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه ، ثم نادى منادي رسول الله : أن يا أصحاب سورة البقرة هلموا أصحاب السمرة (شجرة بيعة الرضوان) هلموا. فتراجعوا إلى المعركة ودارت رحاها و (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً) تلامس القلوب وتنفخ فيها روح الشجاعة والصبر والثبات ، فصبروا وقاتلوا وما هى إلا ساعة وإذا بالعدو سبي بين أيديهم ولم يحصل لهم أن غنموا يوما مثل ما غنموا هذا اليوم إذ بلغ عدد الإبل اثني عشر ألف بعير ، ومن الغنم مالا يحصى ولا يعد. بهذا جاء قوله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٤) أي هاربين من العدو (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً) أي من الملائكة (لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي هوازن (وَذلِكَ) أي القتل والسبي (جَزاءُ الْكافِرِينَ) بالله ورسوله.

__________________

(١) المواطن : جمع موطن وهو مكان التوطّن أي : الإقامة ويطلق على موضع الحرب وموقعها.

(٢) خص يوم حنين بالذكر لما وقع فيه من الهزيمة في أوّل المعركة.

(٣) عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء وهزموا من أجل قول بعضهم : لن نغلب اليوم عن قلة وهو ما يسمى بالعجب وهو محبط للعمل.

(٤) روى مسلم عن ابن اسحق قال : جاء رجل إلى البراء فقال : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال : أشهد على نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفّاء من الناس وحسّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول : (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزل نصرك) قال البراء : كنا والله إذا احمّر البأس نتقي به.

وقوله تعالى (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) على من يشاء (١) أي بعد قتالكم للكافرين وقتلكم من تقتلون يتوب الله على من يشاء ممن بقوا أحياء بعد الحرب (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لمن يتوب عليه من المشركين ماضى ذنوبه من الشرك وسائر الذنوب ويرحمه بأن يدخله الجنة مع من يشاء من المؤمنين الصادقين في إيمانهم هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث. أما الآية الرابعة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (٢) فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (٣) فإنه تعالى أمر المؤمنين بأن يمنعوا من دخول المسجد الحرم كل مشرك ومشركة لأن المشرك نجس الظاهر والباطن فلا يحل دخولهم إلى المسجد الحرام وهو مكة والحرم حولها ، ومن يومئذ لم يدخل مكة مشرك ، وقوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (٤) أي فقرا لأجل انقطاع (٥) المشركين عن الموسم حيث كانوا يجلبون التجارة يبيعون ويشترون فيحصل نفع للمسلمين (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فامنعوا المشركين ولا تخافوا الفقر وقوله تعالى (إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) استثناء منه تعالى حتى تبقى قلوب المؤمنين متعلقة به سبحانه وتعالى راجية خائفة غير مطمئنة غافلة ، وكونه تعالى عليما حكيما يرشح المعنى المذكور فإن ذا العلم والحكمة لا يضع شيئا إلا في موضعه فلا بد لمن أراد رحمة الله أو فضل الله أن يجتهد أن يكون أهلا لذلك ، بالإيمان والطاعة العامة والخاصة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة العجب بالنفس والعمل إذ هو أي العجب من العوائق الكبيرة عن النجاح.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى وإكرامه لعباده المؤمنين.

٣ ـ بيان الحكمة من القتال في سبيل الله تعالى.

٤ ـ تقرير نجاسة الكافر المعنوية.

__________________

(١) كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه.

(٢) قيل : وصف المشرك بالنجس : لأنه جنب لا يغتسل من جنابة غسلا شرعيا فهو لذلك نجس ، وقيل : الشرك هو الذي جعله نجسا إذ لو أسلم زال عنه الوصف.

(٣) هو عام حجة الوداع وليس عام تسعة كما قال بعضهم.

(٤) قال الشاعر :

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

يقال : عال يعيل عيلة : إذا افتقر.

(٥) في الآية دليل على مشروعية الأخذ بالأسباب إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اعقلها وتوكل) قال بعضهم : الأسباب التي يطلب بها الرزق هي الجهاد وأكل الرجل من عمل يده التجارة ، الحرث ، والغرس ، التعليم للعلوم بالأجرة ، الاستدانة بنيّة رد الدين.

٥ ـ منع دخول المشرك الحرم المكي كائنا من كان بخلاف باقي المساجد فقد يؤذن للكافر لمصلحة أن يدخل بإذن المسلمين.

٦ ـ لا يمنع المؤمن من امتثال أمر ربّه الخوف من الفاقة والفقر فإن الله تعالى تعهد بالإغناء إن شاء.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) : أي إيمانا صحيحا يرضاه الله تعالى لموافقة الحق والواقع.

(وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) : أي كالخمر والربا وسائر المحرمات.

(وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) : أي الإسلام إذ هو الدين الذي لا يقبل دينا سواه.

(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : أي اليهود والنصارى.

(الْجِزْيَةَ) : أي الخراج المعلوم الذي يدفعه الذمي كل سنة.

(عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (١) : أي يقدمونه بأيديهم لا ينيبون فيه غيرهم ، وهم صاغرون : أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام هذا.

معنى الآية الكريمة :

لما أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك ويوحدوا ويعبدوا الله تعالى بما شرع أمر رسوله في هذه الآية والمؤمنين بقتال أهل الكتاب وهم

__________________

(١) وفسّر قوله : (عَنْ يَدٍ) بالقوة على دفع الجزية بأن يكون المطالب بها قادرا على أدائها لغناه وعدم فقره. وهو تفسير حق لأنّ الفقير منهم لا يطالب بالجزية في حال فقره ، وما في التفسير أصحّ.

اليهود والنصارى إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وجعل إعطاء الحزية غاية لنهاية القتال ، لا الإسلام ، لأن الإسلام يعرض أولا على أهل الكتاب فإن قبلوه فذاك وإن رفضوه يطلب منهم الدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم تحت شعار الجزية وهي رمز دال على قبولهم حماية المسلمين وحكمهم بشرع الله تعالى فإذا أعطوها حقنوا دماءهم وحفظوا أموالهم ، وأمنوا في حياتهم المادية والروحية ، هذا ما تضمنته الآية الكريمة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١) بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (٢) حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) وإن قيل اليهود والنصارى يؤمنون بالله وباليوم الآخر فكيف نفت الآية عنهم ذلك؟ والجواب أن اليهود في إيمانهم بالله مشبهة مجسمة يصفون الله تعالى بصفات تعالى الله عنها علوا كبيرا ، والنصارى يعتقدون أن الله حلّ في المسيح ، وإن الله ثالث ثلاثة والله ليس كذلك فهم إذا لا يؤمنون بالله تعالى كما هو الله الإله الحق ، فلذا إيمانهم باطل وليس بإيمان يضاف إلى ذلك أنهم لو آمنوا بالله لآمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو آمنوا باليوم الآخر لأطاعوا الله ورسوله لينجوا من عذاب اليوم الآخر وليسعدوا فيه بدخول الجنة فلما لم يؤمنوا ولم يعملوا كانوا حقا كافرين غير مؤمنين ، وصدق الله العظيم حيث نفى عنهم الإيمان به وباليوم الآخر ، والله أعلم بخلقه من أنفسهم.

هداية الآية الكريمة :

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ وجوب قتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يدخلوا في حكم الإسلام وذلك من أجل إعدادهم للإسلام ليكملوا عليه ويسعدوا به.

٢ ـ الإيمان غير الصحيح لا يعتبر إيمانا منجيا ولا مسعدا.

٣ ـ استباحة ما حرم الله من المطاعم والمشارب والمناكح كفر صريح.

__________________

(١) الآية صريحة في عدم اعتبار إيمان اليهود والنصارى بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا يزكى النفس ويؤهل لدخول الجنة ، وهذا لأمرين : الأول : لما داخل إيمانهم من التحريف والتغيير فلم يكن إيمانهم بركني الإيمان العظيمين الإيمان بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا مقبولا شرعا فلذا عد كلا إيمان. والثاني : لأنهم لو آمنوا بالله ولقائه حق الإيمان لآمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من الهدى ، ولا ستقاموا على شرع الله فأحلوا ما أحل وحرموا ما حرم.

(٢) المجوس والصابئة لم يذكرا في الآية ، والذي به العمل عند عامة الفقهاء أنهم يسنّ بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإدخالهم في ذمة المسلمين.

٤ ـ مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي مقدّرة (١) في كتب الفقه مبينة وهي بحسب غنى المرء وفقره وسعته وضيقه.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

شرح الكلمات :

(عُزَيْرٌ) : هو الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه ، واليهود يسمونه : عزرا.

(الْمَسِيحُ) : هو عيسى بن مريم عليهما‌السلام.

(يُضاهِؤُنَ) : أي يشابهون.

(قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي من آبائهم وأجدادهم الماضين.

(قاتَلَهُمُ اللهُ) : أي لعنهم الله لأجل كفرهم.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق.

__________________

(١) تقدّر بدينار من الذهب ، وإن صالحهم الإمام عن أكثر فهم على ما صالحهم عليه.

(أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) : الأحبار جمع حبر : علماء اليهود ، والرهبان جمع راهب عابد النصارى.

(أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) : أي آلهة يشرعون لهم فيعملون بشرائعهم من حلال وحرام.

(نُورَ اللهِ) : أي الإسلام لأنه هاد إلى الإسعاد والكمال في الدارين.

(بِأَفْواهِهِمْ) : أي بالكذب عليه والطعن فيه وصرف الناس عنه.

(رَسُولَهُ) : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

معنى الآيات :

لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب لكفرهم وعدم إيمانهم الإيمان الحق المنجي من النار ذكر في هذه الآيات الثلاث ما هو مقرر لكفرهم ومؤكد له فقال (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ (١) ابْنُ اللهِ) ونسبة الولد إلى الله تعالى كفر بجلاله وكماله (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ (٢) اللهِ) ونسبه الولد إليه تعالى كفر به عزوجل وبماله من جلال وكمال وقوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي ليس له من الواقع شيء إذ ليس لله تعالى ولد ، وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة ، وإنما ذلك قولهم بأفواههم فقط (يُضاهِؤُنَ) به (٣) أي يشابهون به (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) (٤) وهم اليهود الأولون وغيرهم وقوله تعالى (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) دعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله تعالى وقوله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق ويبعدون عنه بهذه الصورة العجيبة وقوله (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ (٥) وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٦) هذا دليل آخر على كفرهم وشركهم إذ قبولهم قول علمائهم وعبادهم والإذعان

__________________

(١) قرأ عاصم (عزير) بالتنوين ، وقرأ نافع بغير تنوين ، وقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ) هو كقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ..) فهو لفظ عام ، والمراد به الخصوص إذ ما كلّ اليهود قالوا بهذه القولة ولا كل الناس وإنما بعضهم.

(٢) في الآية دليل على أن حاكي الكفر ، وهو منكر له بقلبه ولسانه لا يكفر.

(٣) يقال : امرأة ضهيأ : للتي لا تحيض ولا ثدي لها كأنها أشبهت الرجل.

(٤) أي : شابه قولهم قول الكافرين من قبلهم وهم أسلافهم الذين قلدوهم أو قول العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله. تعالى الله عن البنت والولد علوا كبيرا.

(٥) الحبر بكسر الحاء : المداد ، وبفتحها العالم ، والرهبان : جمع راهب مأخوذ من الرهبة ، والراهب الحق. هو من حمله خوف الله على أن يخلص له النية في القول والعمل ويجعل زمانه له وعمله له وأنسه به.

(٦) روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : (ما هذا يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) وسئل حذيفة رضي الله عنه عن قول الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) هل عبدوهم؟ قال : لا ولكن أحلّوا لهم الحرام فاستحلوه وحرموا عليهم الحلال فحرموه.

له والتسليم به حتى أنهم ليحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه ، شرك وكفر والعياذ بالله. وقوله (وَالْمَسِيحَ (١) ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتخذه النصارى ربا وإلها ، وقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي لم يأمرهم أنبياؤهم كموسى وعيسى وغيرهما إلا بعبادة الله تعالى وحده لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه تعالى نفسه عن شركهم. وقوله تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي هو الإسلام بأفواههم بالكذب والافتراء ، والعيب والانتقاص ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٢) ، وقد فعل فله الحمد وله المنة ، وأصبح الإسلام الظاهر على الأديان كلها ، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة (٣٣) فقد أخبر تعالى أنه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي محمدا (بِالْهُدى) وهو القرآن (وَدِينِ الْحَقِ) الذي هو الإسلام. وقوله (لِيُظْهِرَهُ) أي الدين الحق الذي هو الإسلام (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣). وقد فعل فالإسلام ظاهر في الأرض كلها سمع به أهل الشرق والغرب ودان به أهل الشرق والغرب وسيأتي يوم يسود فيه المسلمون أهل الدنيا قاطبة بإذن الله تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير كفر اليهود والنصارى بذكر عقائدهم الكفرية.

٢ ـ طاعة العلماء ورجال الدين طاعة عمياء حتى يحلوا ويحرموا فيتبعوا شرك.

٣ ـ بيان عداء اليهود والنصارى للإسلام وتعاونهم على إفساده وإفساد أهله.

٤ ـ بشرى المسلمين بأنهم سيسودون العالم في يوم من الأيام ويصبح الإسلام هو الدين الذي يعبد الله به في الأرض لا غيره ، ويشهد لهذا آية (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) فلو لم يعلم الله أن ذلك كائن لم يجعله غاية وطالب بالوصول اليها.

__________________

(١) يطلق لفظ المسيح على العرق لأنه إذا سال يمسح من الجبين قال أحدهم شعرا :

افرح فسوف تألف الأحزانا

إذا شهدت الحشر والميزانا

وسال من جبينك المسيح

كأنّه جداول تسيح

(٢) صحّ دخول «إلّا» على الإثبات هنا لأنّ أبى يحذف معها الكلام فيقال : يأبي فلان كل شيء إلا أن يطاع مثلا. فمعنى الآية : يأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره.

(٣) شاهده : رواية أحمد : عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو بذل ذليل إمّا يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها وإمّا يذلهم فيدينون لها).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(بِالْباطِلِ) : أي بدون حق أباح لهم أكلها.

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الإسلام الذي هو السبيل المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى.

(يَكْنِزُونَ) : يجمعون المال ويدفنونه حفاظا عليه ولا يؤدون حقه.

(الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) : هما النقدان المعروفان.

(فِي سَبِيلِ اللهِ) : أي حيث رضا الله كالجهاد وإطعام الفقراء والمساكين.

(فَبَشِّرْهُمْ) : أي أخبرهم بعذاب أليم : أي موجع.

(يُحْمى عَلَيْها) : لأنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها ثم تكوى بها جباههم.

(هذا ما كَنَزْتُمْ) : أي يقال لهم عند كيهم بها : هذا ما كنزتم لأنفسكم توبيخا لهم وتقريعا.

معنى الآيتين :

بمناسبة ذكر عداء اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين ، وأنهم يريدون دوما وأبدا

إطفاء نور الله بأفواههم ، ذكر تعالى ما هو إشارة واضحة إلى أنهم ماديون لا همّ لهم إلا المال والرئاسة فأخبر المسلمين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) (١) وهم علماء اليهود (وَالرُّهْبانِ) وهم رجال الكنائس من النصارى (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) كالرشوة ، وكتابة صكوك الغفران يبيعونها للسفلة منهم ، إلى غير ذلك من الحيل باسم (٢) الدين ، وقوله تعالى عنهم (وَيَصُدُّونَ عَنْ (٣) سَبِيلِ اللهِ) دليل واضح على أنهم يحاربون الإسلام باستمرار للإبقاء على مناصبهم الدينية يعيشون عليها يترأسون بها على السفلة والعوام من اليهود والنصارى ، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) (٤) لفظ (٥) عام يشمل الأحبار والرهبان وغيرهم من سائر الناس من المسلمين ومن أهل الكتاب إلا أن الرهبان والأحبار يتناولهم اللفظ أولا ، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل الله أقرب إلى أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله ، وقوله تعالى لرسوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم معجلا لهم الخبر في صورة بشارة ، وبين نوع العذاب الأليم بقوله (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) أي صفائح الذهب والفضة بعد تحويلها إلى صفائح (فِي نارِ جَهَنَّمَ ، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) أي من كل الجهات الأربع من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال ويقال لهم تهكما بهم وازدراء لهم وهو نوع عذاب أشد على النفس من عذاب الجسم (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ).

__________________

(١) الآية نزلت في أهل الكتاب كشفا عن عوراتهم المادية ، وأما قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ..) الخ فهو حكم عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب.

(٢) قيل كانوا يأخذون من غلات أتباعهم ومن أموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع ، وقلدهم الروافض ، فإن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا الدخل أخبرني بهذا أحد رجالهم في الكويت.

(٣) من صدّهم عن سبيل الله انهم كانوا يمنعون أتباعهم من الدخول في الإسلام ومن اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) دلت الآية على زكاة العين : الذهب والفضة وهي تجب بأربعة شروط الحرية ، والإسلام ، والحول ، والنصاب السليم من الدين ، والنصاب مائتا درهم فضة أو عشرون دينارا من الذهب ، ويكمل أحدهما من الآخر ، ومن السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) رواه أبو داود. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ليس في أقل من مائتي درهم زكاة ، وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة) في الصحيح.

(٥) روى أبو داود عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) قال كبر ذلك على المسلمين فقال عمر : أنا أفرج عنكم فانطلق قال : يا نبي الله إنّه كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال : (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب ما بقى من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموالكم لتكون لمن بعدكم فكبّر عمر فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء : المرأة الصالحة : إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته).

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى ، وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون الإسلام ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام.

٢ ـ حرمة أكل أموال الناس بالباطل.

٣ ـ حرمة جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق منه.

٤ ـ المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض.

٥ ـ بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه في سبيل الله وهي عقوبة شديدة.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(عِدَّةَ) : أي عدد.

(الشُّهُورِ) (١) : جمع شهر والشهر تسعة وعشرون يوما ، أو ثلاثون يوما.

(فِي كِتابِ اللهِ) : أي كتاب المقادير : اللوح المحفوظ.

(أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) : هي رجب ، والقعدة ، والحجة ، ومحرم ، الواحد منها حرام والجمع حرم.

(الدِّينُ الْقَيِّمُ) (٢) : أي الشرع المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) : أي لا ترتكبوا في الأشهر الحرم المعاصي فإنها أشد حرمة.

(كَافَّةً) : أي جميعا وفي كل الشهور حلالها وحرامها.

(مَعَ الْمُتَّقِينَ) : أي بالتأييد والنّصر ، والمتقون هم الذين لا يعصون الله تعالى.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ) : أي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر.

(يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) : أي النسيء عاما يحلونه وعاما يحرمونه.

(لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) : أي ليوافقوا عدد الشهور المحرمة وهي أربعة.

زين لهم سوء عملهم : أي زين لهم الشيطان هذا التأخير للشهر الحرام وهو عمل سيء لأنه إفتيات على الشارع واحتيال على تحليل الحرام.

معنى الآيتين

عاد السياق للحديث على المشركين بعد ذلك الاعتراض الذي كان للحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) لا تزيد ولا تنقص ، وأنها هكذا في اللوح المحفوظ (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). (٣) وأن منها أربعة أشهر حرم أي محرمات وهي رجب ، والقعدة والحجة ومحرم ، وحرمها الله تعالى أي حرم القتال فيها لتكون هدنة يتمكن العرب معها من السفر للتجارة وللحج والعمرة ولا يخافون أحدا ، ولما

__________________

(١) المراد بالشهور : ما تتألف منه السنة القمرية ، واحدها : شهر ، مشتق من الشهرة سميت به الأيام من أوّل ظهور الهلال إلى سراره.

(٢) أي : الصحيح ، والإشارة في قوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) إلى عدة الشهور ، وتقسيمها إلى حرم وغيرها وإلى عدم ارتكاب الذنوب فيها.

(٣) قوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) قاله ليبيّن أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك وأنه سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها يوم خلق السماوات والأرض.

جاء الإسلام وأعز الله أهله ، نسخ حرمة القتال فيها. وقوله تعالى (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي تحريم هذه الأشهر واحترامها بعدم القتال فيها هو الشرع المستقيم وقوله تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي لا ترتكبوا الذنوب والمعاصي في الأشهر الحرم فإن ذلك يوجب غضب الله تعالى وسخطه عليكم فلا تعرضوا أنفسكم له ، وقوله تعالى (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) هذا خطاب للمؤمنين يأمرهم تعالى بقتال المشركين بعد انتهاء المدة التي جعلت لهم وهي أربعة أشهر وقوله (كَافَّةً) (١) أي جميعا لا يتأخر منكم أحد كما هم يقاتلونكم مجتمعين على قتالكم فاجتعموا أنتم على قتالهم ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي ومعناه أن الله معكم بنصره وتأييده على المشركين العصاة وقوله عزوجل (إِنَّمَا النَّسِيءُ (٢) زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أي إنما تأخير حرمة محرم إلى صفر كما يفعل أهل الجاهلية ليستبيحوا القتال في الشهر الحرام بهذه الفتيا الشيطانية هذا التأخير زيادة في كفر الكافرين ، (٣) لأنه محاربة لشرع الله وهي كفر قطعا لقوله تعالى (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالنسيء يزدادون ضلالا فوق ضلالهم. وقوله (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) يعني النسيء وهو الشهر الذي أخروه أي أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده ليتمكنوا من القتال في الشهر الحرام ، فعاما يحلون وعاما يحرمون حتى يوافقوا عدة الأشهر الحرم بلا زيادة ولا نقصان ، ظنا منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا الإبليسية كما قال تعالى (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) والمزين للباطل قطعا هو الشيطان. وقوله تعالى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) يخبر تعالى أنه عزوجل لا يهدي القوم الكافرين لما هو الحق والخير وذلك عقوبة لهم على كفرهم به وبرسوله ، وإصرارهم على ذلك.

__________________

(١) كافة : معناه جميعا ، وهو مصدر في موضع الحال أي : محيطين بهم ومجتمعين. قالوا : نظير كافة : في كونه لا يبني ولا يجمع : عاقبة وعامة وخاصة.

(٢) قرأ الجمهور : (النَّسِيءُ) مهموزا وقرأ ورش : النسيّ بالياء المشددة ، وهو فعيل بمعنى مفعول في قولك : نسأت الشيء أنسأه إذا أخّرته ، فنقل من منسوء إلى نسيء كما نقل مفتول إلى فتيل لأنّه أخف ، وأصل هذا التشريع الجاهلي : أنّ العرب قبل الإسلام كانوا أهل حروب فإذا احتاجوا إلى القتال في الشهر الحرام طلبوا من زعيمهم أن ينسيء المحرّم أي : يؤخره إلى صفر حتى يمكنهم الحرب في المحرم بعد الحج وما زالوا يؤخرون ويقدمون حتى اختلطت الشهور وأصبح رجب جمادى ورمضان شوال وهكذا ، ودارت الشهور دورتها ، وفي عام حجة الوداع أعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك بقوله : (إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) يريد أن الشهور قد رجعت إلى مواضعها ، وأصبح كل شهر في موضعه فوقع حجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موضعه.

(٣) إذ كفروا بالشرك وانكار المعاد وتكذيب الرسل ، ونسبة الولد لله تعالى. ثم بالنسيء ازدادوا كفرا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر (١) شهرا وأيامها ثلثمائة (٢) وخمسة وخمسون يوما.

٢ ـ بيان أن الأشهر الحرم أربعة وقد بينها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي رجب ، والقعدة والحجة ومحرم.

٣ ـ حرمة الأشهر الحرم ، ومضاعفة السيآت فيها أي قبح الذنوب فيها.

٤ ـ صفة المعيّة لله تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لأهل تقواه.

٥ ـ حرمة الاحتيال على (٣) الشرع بالفتاوى الباطلة لا حلال الحرام ، وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإثم.

٦ ـ تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان.

٧ ـ حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالا ومآلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨)

__________________

(١) وهي : محرّم ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم ، وصفر ويجمع على أصفار وربيع الأول ويجمع على أربعاء وأربعة وربيع الثاني وجمادى الأولى ويجمع على جماديات وتذكر وتؤنث فيقال : الأولى والأول ، وجمادى الآخرة والآخر ، ورجب ويجمع على أرجاب ورجاب ، وشعبان ويجمع على شعابين وشعبانات ، ورمضان ويجمع على رمضانات ، ورماضين وأرمضة وشوال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات ، القعدة ويجمع على ذوات القعدة والحجة بكسر الحاء وفتحها ويجمع على ذوات الحجة.

(٢) وهي : الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووحود ، والاثنين ويجمع على أثانين ، والثلاثاء يذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث والأربعاء ويجمع على أربعاوات وأرابيع ، والخميس ويجمع على أخمسة وأخامس ، والجمعة بضم الميم واسكانها وفتحها ويجمع على جمع وجمعات ، والسبت ويجمع على سبوت كفتح وفتوح وأسبات كقمع وأقماع.

(٣) اختلف فيمن كان أوّل من نسأ فقيل عمرو بن لحي ، وقيل : رجل من كنانة يقال له القلمّس قال شاعرهم :

ومنا ناسىء الشهر القلمّس وقال الكميت :

ألسنا الناسئين على معد

شهور الحل نجعلها حراما

إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

شرح الكلمات :

(ما لَكُمْ؟) (١) : أي أي شيء ثبت لكم من الأعذار.

(انْفِرُوا) : أي اخرجوا مستعجلين مندفعين.

(اثَّاقَلْتُمْ) : أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالا.

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ) : أي الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ثانِيَ اثْنَيْنِ) : أي هو وأبو بكر رضي الله عنه.

(فِي الْغارِ) : غار ثور أي في جبل يقال له ثور بمكة.

(لِصاحِبِهِ) : هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

(سَكِينَتَهُ) : أي طمأنينته

(كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : هي الدعوة إلى الشرك.

(السُّفْلى) : أي مغلوبه هابطة لا يسمع لها صوت.

(وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) : أي دعوة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هي العليا الغالبة الظاهرة.

__________________

(١) (ما) : حرف استفهام ومعناه التقرير والتوبيخ.

معنى الآيات :

هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك فقد بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه لحرب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التعبئة العامة ، وكان الزمن صيفا حارا وبالبلاد جدب ومجاعة ، وكان ذلك في شوال من سنة تسع ، وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة فاستحثّ الربّ تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل تعالى قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) والقائل هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي اخرجوا للجهاد (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل رضاه سبحانه وتعالى وما عنده من نعيم مقيم. وقوله (ما لَكُمْ) أي أي شيء يجعلكم لا تنفرون؟ وأنتم المؤمنون طلاب الكمال والإسعاد في الدارين. وقوله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (١) أي تباطأتم عن الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبلادكم. (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ (٢) الْآخِرَةِ؟) ينكر تعالى على من هذه حاله منهم ، ثم يقول لهم (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ماكل ما يوجد فيها من متع على اختلافها بالنسبة إلى ما في الآخرة من نعيم مقيم في جوار رب العالمين (إِلَّا قَلِيلٌ) تافه لا قيمة له ، فكيف تؤثرون القليل على الكثير والفاني على الباقي. ثم قال لهم (إِلَّا تَنْفِرُوا) أي إن تخليتم عن نصرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركتموه يخرج إلى قتال الروم وحده (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (٣) (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وفي هذا الخبر وعيد شديد اهتزت له قلوب المؤمنين.

وقوله تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) (٤) أي إن خذلتموه ولم تخرجوا معه في هذا الظرف الصعب فقد نصره الله تعالى في ظرف أصعب منه نصره في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا (ثانِيَ اثْنَيْنِ) (٥) أي هو وأبو بكر لا غير ، (إِذْ هُما فِي الْغارِ) أي غار ثور ، (إِذْ يَقُولُ

__________________

(١) أصل (اثَّاقَلْتُمْ) : تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء لقرب مخرجهما وزيدت همزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن ومثله : اداركوا وادّارأتم ، واطيرنا ، وازينت.

(٢) أي : أرضيتم بنعيم الدنيا وراحتها بدلا من نعيم الآخرة وسعادتها.

(٣) أي : لا يقعدون عند استنفارهم للجهاد والخروج معه ، وأنتم بتخلفكم لا تضرونه شيئا ، في الآية دليل على حرمة التثاقل عن الجهاد إذا كان مع كراهته ولا حرمة مع عدم الكراهة إلّا أن يعيّنه الإمام فيجب.

(٤) أصلها إن الشرطية ادغمت فيها لا النافية ، والآية تحمل عتابا شديدا ، ومعنى الآية : إن تركتم نصرته فقد تكفّل الله بها.

(٥) أي : أحد اثنين كثالث ثلاثة ورابع أربعة.

لِصاحِبِهِ) : لما قال لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله ، (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) فسكنت نفسه واطمأن وذهب الخوف من قلبه ، (١) (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي دعوتهم إلى الشرك جعلها (السُّفْلى) مغلوبة هابطة (وَكَلِمَةُ اللهِ) كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله (هِيَ الْعُلْيا) الغالبة الظاهرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب (٢) لا يغالب (حَكِيمٌ) في تصرفه وتدبيره ، ينصر من أراد نصره بلا ممانع ويهزم من أراد هزيمته بلا مغالب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير العام.

٢ ـ يجب أن يكون النفير في سبيل الله لا في سبيل غير سبيله تعالى.

٣ ـ بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الآخرة.

٤ ـ وجوب نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دينه في أمته في سنته.

٥ ـ شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله.

٦ ـ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ

__________________

(١) أي : قلب أبي بكر رضي الله عنه.

(٢) إذ أحبط تعالى أعمال قريش في طلبها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقتله حيث جعلت مائة ناقة لمن يأتيها برأسه وأنجى الله رسوله منهم وانتهى إلى المدينة ونصره عليهم.

صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣))

شرح الكلمات :

(خِفافاً وَثِقالاً) : الخفاف جمع خفيف : وهو الشاب القوي البدن ذا الجدة من زاد ومركوب. والثقال جمع ثقيل : وهو الشيخ الكبير والمريض والفقير الذي لا جدة عنده.

(ذلِكُمْ) : أي الجهاد بالمال والنفس خير من التثاقل إلى الأرض وترك الجهاد حالا ومآلا.

(عَرَضاً قَرِيباً) : غنيمة في مكان قريب غير بعيد.

(وَسَفَراً قاصِداً) : أي معتدلا لا مشقة فيه.

(الشُّقَّةُ) : الطريق الطويل الذي لا يقطع إلا بمشقة وعناء.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) : لم يؤاخذك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحث على الخروج إلى قتال الروم بالشام ففي هذه الآيات يأمر تعالى المؤمنين بالخروج إلى الجهاد على أي حال كان الخروج من قوة وضعف فليخرج الشاب القوى كالكبير العاجز الضعيف والغني كالفقير فقال تعالى (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا (١) بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أعداء الله الكافرين به وبرسوله حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويقبلوا أحكام الإسلام (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي نفوركم للجهاد وقتالكم الكافرين إلى الانتهاء بهم إلى إحدى الغايتين خير لكم من الخلود إلى الأرض والرضا بالحياة الدنيا وهي متاع قليل ، إن كنتم تعلمون ذلك ، وقوله تعالى (لَوْ كانَ عَرَضاً (٢) قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) (٣) يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان

__________________

(١) الآية محكمة ولم تنسخ ، والمراد منها : أن الإمام إذا أعلن عن النفير العام ، وجب الإسراع إلى الخروج معه على أي حال من كبر وصغر وغنى وفقر.

(٢) العرض : ما يعرض من منافع الدنيا ، والمراد به هنا : الغنيمة أي : لو كان الذي دعوا إليه عرضا قريبا أو كان الذي دعوا إليه سفرا قاصدا أي : سهلا معلوم الطرق لاتبعوك.

(٣) الشقة : بالضم : السفر إلى أرض بعيدة وهي هنا تبوك ، نظير هذه الآية من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ..) المرماة : ظلف الشاة.

أولئك المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وضعفة الإيمان قد دعوتهم إلى عرض قريب أي غنيمة حاضرة أو إلى سفر سهل قاصد معتدل لاتبعوك وخرجوا معك ، ولكن دعوتهم إلى تبوك وفي زمن الحر والحاجة فبعدت عليهم الشقة فانتحلوا الأعذار إليك وتخلفوا. وقوله تعالى (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي لكم قائلين : لو استطعنا أي الخروج لخرجنا معكم. قال تعالى (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) حيث يجلبون لها سخط (١) الله وعقابه (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في كل ما اعتذروا به. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (٤١ ـ ٤٢) وأما الآية الثالثة فقد تضمنت عتاب الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أذن لمن طلب منه التخلف عن النفور والنهوض إلى تبوك وكان من السياسة الرشيدة عدم الإذن لأحد حتى يتميز بذلك الصادق من الكاذب قال تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ) (٢) أي تجاوز عنك ولم يؤاخذك وقدم هذا اللفظ على العتاب الذي تضمنه الاستفهام (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) تعجيلا للمسرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لو أخر عن جملة العتاب لأوجد خوفا وحزنا ، وقوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) علة للعتاب على الإذن للمنافقين (٣) بالتخلف عن الخروج إلى تبوك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إذا أعلن الإمام التعبئة العامة يحرم التخلف عن الجهاد ولا يقعد أحد ، إلا بإذن لأجل علة قامت به فاستأذن فأذن له.

٢ ـ الجهاد كما يكون بالنفس يكون بالمال وهو خير من تركه حالا ومآلا.

٣ ـ الأيمان الكاذبة لإبطال حق أو إحقاق باطل توجب سخط الله تعالى وعذابه.

٤ ـ مشروعية العتاب للمحب.

٥ ـ جواز مخالفة الأولى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدم علمه ما لم يعلّمه الله تعالى.

__________________

(١) بسبب كذبهم ونفاقهم وأيمانهم الكاذبة.

(٢) أخبره بالعفو قبل العتاب رحمة به وإكراما له ، إذ لو قال له لم أذنت لهم أوّلا لكان يطير قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفرق أي : الخوف.

(٣) هؤلاء قوم منافقون قالوا نستأذنه في القعود فإن أذن لنا قعدنا ، وإن لم يأذن لنا قعدنا. أمّا غير هؤلاء فقد رخّص له في الإذن لمن شاء في قوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) من سورة النور.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦))

شرح الكلمات :

(لا يَسْتَأْذِنُكَ) : أي لا يطلبون منك إذنا بالتخلف عن الجهاد.

(وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) : أي شكت في صحة ما تدعو إليه من الدين الحق.

(فِي رَيْبِهِمْ) : أي في شكهم.

(يَتَرَدَّدُونَ) : حيارى لا يثبتون على شيء.

(لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) : لهيأوا له ما يلزم من سلاح وزاد ومركوب.

(انْبِعاثَهُمْ) : أي خروجهم معكم.

(فَثَبَّطَهُمْ) : ألقي في نفوسهم الرغبة في التخلف وحببه إليهم فكسلوا ولم يخرجوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن غزوة تبوك وأحوال المأمورين بالنفير فيها فبعد أن عاتب الله تعالى رسوله في إذنه للمتخلفين أخبره أنه لا يستأذنه (١) المؤمنون الصادقون في أن يتخلفوا عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم وإنما يستأذنه (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

__________________

(١) لا يستأذنه المؤمنون لا في القعود ولا في الخروج وإنما هم مع مراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا أمر بأمر ابتدروه طاعة ومحبة ورغبة في رضا الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) في الإيمان بالله ورسوله ووعده ووعيده ، فهم حيارى مترددون لا يدرون أين يتجهون وهي حالة المزعزع العقيدة كسائر المنافقين ، وأخبره تعالى أنهم كاذبون في اعتذاراتهم إذ لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته أي احضروا له أهبته من سلاح وزاد وراحلة ولكنهم كانوا عازمين على عدم الخروج بحال من الأحوال ، ولو لم تأذن لهم بالتخلف لتخلفوا مخالفين قصدك متحدين أمرك. وهذا عائد إلى ان الله تعالى كره خروجهم لما فيه من الضرر والخطر فثبطهم بما ألقى في قلوبهم من الفشل وفي أجسامهم من الكسل كأنما قيل لهم اقعدوا مع القاعدين. هذا ما دلت عليه الآية (٤٤) (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) (١) (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٢) وقوله تعالى في ختام الآية الأولى (٤٤) (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٣) فيه تقرير لعلمه تعالى بأحوال ونفوس عباده فما أخبر به هو الحق والواقع ، فالمؤمنون الصادقون لا يطلبون التخلف عن الجهاد لإيمانهم وتقواهم ، والمنافقون هم الذين يطلبون التخلف لشكهم وفجورهم والله أعلم بهم ، ولا ينبئك مثل خبير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة الإيمان والتقوى إذ صاحبهما لا يمكنه أن يتخلف عن الجهاد بالنفس والمال.

٢ ـ خطر الشك في العقيدة وأنه سبب الحيرة والتردد ، وصاحبه لا يقدر على أن يجاهد بمال ولا نفس.

٣ ـ سوابق الشر تحول بين صاحبها وبين فعل الخير.

__________________

(١) (انْبِعاثَهُمْ) : أي : خروجهم معك ، ومعنى ثبّطهم : حبسهم عنك وخذلهم لأنهم قالوا : إن لم يأذن لنا في القعود أفسدنا بين صفوف المؤمنين.

(٢) القاعدون : هم أولوا الضرر ، والعميان والزمنى ، والنساء والأطفال. والقائل لهم اقعدوا هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طلبوا منه الإذن بالقعود وجائز أن يكون قاله بعضهم لبعض أو قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال غضبه عليهم ، أو هو تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود في قلوبهم حتى لا يخرجوا فيفسدوا.

(٣) فيه شهادة للمؤمنين الصادقين بالتقوى وهي دعامة الولاية الحقة لله تعالى ، فالإيمان والتقوى بهما تثبت ولاية الله للعبد ومن والاه الله فلا خوف عليه ولا حزن.

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨))

شرح الكلمات :

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) : أي مندسين بين رجالكم.

(إِلَّا خَبالاً) : الفساد في الرأى والتدبير.

(وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) : أي لأسرعوا بينكم بالنميمة والتحريش والإثارة لإبقائكم في الفتنة.

(وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) : أي بينكم من يكثر السماع لهم والتأثر بأقوالهم المثيرة الفاسدة.

(مِنْ قَبْلُ) : أي عند مجئيك المدينة مهاجرا.

(وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) : بالكيد والمكر والاتصال باليهود والمشركين والتعاون معهم.

(وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) : بأن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا.

(وَهُمْ كارِهُونَ) : أي لمجيء الحق وظهور أمر الله بانتصار دينه.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في فضح نوايا المنافقين وكشف الستار عنهم فقال تعالى (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) (١) أيها الرسول والمؤمنون أي إلى غزوة تبوك (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) (٢) أي ضررا وفسادا وبلبلة لأفكار المؤمنين بما ينفثونه من سموم القول للتخذيل والتفشيل ،

__________________

(١) في هذا الإخبار الإلهي تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من أجل تخلف المنافقين عنهم.

(٢) الاستثناء منقطع أي : ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال لكم. والعادة : أنّ الاستثناء المنقطع يكون : بمعنى لكن إذ ليس هو جزء من المستثنى منه.

(وَلَأَوْضَعُوا) (١) أي أسرعوا ركائبهم (خِلالَكُمْ) أي بين صفوفكم بكلمات التخذيل والتثبيط (يَبْغُونَكُمُ) بذلك (الْفِتْنَةَ) وهي تفريق جمعكم وإثارة العداوة بينكم بما يحسنه المنافقون في كل زمان ومكان من خبيث القول وفاسده وقوله تعالى (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وبينكم أيها المؤمنون ضعاف الإيمان يسمعون منكم وينقلون لهم أخبار أسراركم كما أن منكم من يسمع لهم ويطيعهم ولذا وغيره كره الله انبعاثهم وثبطهم فقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والعجز والمرضى ، وقوله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الذين يعملون على إبطال دينه وهزيمة أوليائه. فلذا صرفهم عن الخروج معكم إلى قتال أعدائكم من الروم والعرب المتنصرة بالشام. وقوله تعالى في الآية الثانية (٤٨) (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) بل من يوم هاجرت إلى المدينة ووجد بها الإسلام وهم يثيرون الفتن بين أصحابك للإيقاع بهم ، وفي أحد رجع ابن أبي بثلث الجيش وهم بنو سلمة وبنو حارثة بالرجوع عن القتال لو لا أن الله سلم (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) (٢) وصرفوها في وجوه شتى بقصد القضاء على دعوتك فظاهروا المشركين واليهود في مواطن كثيرة وكان هذا دأبهم (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) بفتح مكة (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) بدخول أكثر العرب في دين الله (وَهُمْ كارِهُونَ) لذلك بل أسفون حزنون ، ولذا فلا تأسفوا على عدم خروجهم معكم ، ولا تحفلوا به أو تهتموا له ، فإن الله رحمة بكم ونصرا لكم صرفهم عن الخروج معكم. فاحمدوا الله وأثنوا عليه بما هو أهله ، ولله الحمد والمنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجود منافقين في صفوف المؤمنين خطر عليهم وضرر كبير لهم فلذا ينبغي أن لا يشركوا في أمر ، وأن لا يعول عليهم في مهمة.

٢ ـ وجوب الأخذ بالحيطة في الأمور ذات البال والأثر على حياة الإسلام والمسلمين.

__________________

(١) الإيضاع : سرعة السير ، يقال : أوضع يوضع إيضاعا إذا أسرع في سيره. قال دريد بن الصمة :

يا ليتني فيها جذع

أخبّ فيها وأضع

(٢) الأمور : جمع أمر وهو اسم مبهم كشيء ، قال الشاعر :

ولكن مقادير جرت وأمور

والألف واللام للجنس : أي : أمور تعرفونها وأمور تنكرونها ، وحتى : غائية لتقليبهم الأمور.

٣ ـ المنافق يسوءه عزة الإسلام والمسلمين ويحزن لذلك.

٤ ـ تدبير الله تعالى لأوليائه خير تدبير فلذا وجب الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم به.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(وَمِنْهُمْ) : أي من المنافقين وهو الجد بن قيس.

(ائْذَنْ لِي) : أي في التخلف عن الجهاد.

(وَلا تَفْتِنِّي) : أي لا توقعني في الفتنة بدعوى أنه إذا رأى نساء الروم لا يملك نفسه.

(حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) : الحسنة كل ما يحسن من نصر وغنيمة وعافية ومعنى تسؤهم أي يكربون لها ويحزنون.

(قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) : أي احتطنا للأمر ولذا لم نخرج معهم.

(إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) : الأولى الظفر بالعدو والانتصار عليه والثانية الشهادة المورثة للجنة.

(فَتَرَبَّصُوا) : أي انتظروا فإنا معكم من المنتظرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك فيقول تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) أي في التخلف عن الجهاد ، (وَلا تَفْتِنِّي) بإلزامك لي بالخروج أي لا توقعني في الفتنة ، فقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : هل لك في (١) بلاد بني الأصفر؟ فقال إني مغرم بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر (٢) (وهم الروم) لا أصبر عنهن فأفتن ، والقائل هذا هو الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة فقال تعالى دعاء عليه وردا لباطله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) به وبأمثاله من أهل الكفر والنفاق ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (٥٠) فقد تضمنت الكشف عما يقوله المنافقون في أنفسهم أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة يسؤهم ذلك أي يكربهم ويحزنهم ، وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) أي احتطنا للأمر فلم نخرج معهم (وَيَتَوَلَّوْا) راجعين إلى بيوتهم وأهليهم (وَهُمْ فَرِحُونَ). هذا ما تضمنته الآية التي هي قوله تعالى (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ (٣) تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (٤) أما الآيتان الثالثة والرابعة (٥١ ـ ٥٢) فقد علم الله سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لأولئك المنافقين وإخبارا لهم بما يسؤهم فقال (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا) أي من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله (٥) لنا وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إلا خيرا لأنه مولانا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ونحن مؤمنون وعلى

__________________

(١) في رواية يا جدّ هل لك في جلاد بني الأصفر لتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال الجد الخ ..

(٢) قيل : سمي الروم بني الأصفر : لأنّ الحبشة غزتهم وسبتهم فنشأ جيل أصفر اللون بين البياض والسواد ، وهو اللون الأصفر.

(٣) (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) جملة شرطية وجملة (تَسُؤْهُمْ) جواب وجزاء لها كما أن جملة (وَإِنْ تُصِبْكَ) شرط ، والجزاء (يَقُولُوا) الخ.

(٤) (وَيَتَوَلَّوْا) أي : راجعين إلى بيوتهم ومجالسهم وهم كافرون ، فهم متولون في الحقيقة عن الإيمان (فَرِحُونَ) أي : معجبون بنجاحهم المؤقت.

(٥) أي : في اللوح المحفوظ الذي هو كتاب المقادير ، أو هو ما أخبرنا به كتابه القرآن الكريم من أنّا إمّا نظفر فيكون الظفر حسنى لنا وإمّا أن نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا.

ربنا متوكلون ، وقال له : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) (١) أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين : (٢) النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق أو الاستشهاد في سبيل الله ، ثم النعيم المقيم في جوار رب العالمين وعليه (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٣) ، وسوف لا نشاهد إلا ما يسرنا ويسوءكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم.

٢ ـ بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين ، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين وهي علامة النفاق البارزة في كل منافق.

٣ ـ وجوب التوكل على الله وعدم الاهتمام بأقوال المنافقين.

٤ ـ بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم : النصر أو الشهادة.

٥ ـ مشروعية القول الذي يغيط العدو ويحزنه.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥))

__________________

(١) التربص : الانتظار ، والاستفهام للتوبيخ.

(٢) الحسنيان : هما الغنيمة والشهادة.

(٣) (فَتَرَبَّصُوا) هذا الأمر للتهديد والوعيد ، كأنما يقول لهم : انتظروا مواعد الشيطان فإنا منتظرون مواعد الرحمن ، وشتان بين ما ننتظر وما تنتظرون!!

شرح الكلمات :

(طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) : أي وأنتم طائعون أو أنتم مكرهون على الانفاق.

(إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) : الجملة علة لعدم قبول نفقاتهم.

(كُسالى) : متثاقلون لعدم إيمانهم في الباطن بفائدة الصلاة.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) : أي لا تستحسنوا أيها المسلمون ما عند المنافقين من مال وولد.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) : أي تفيض وتخرج من أجسامهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تعليم الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يرد على المنافقين فقال له قل لهم أيها الرسول (أَنْفِقُوا) (١) حال كونكم طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) ، أي أخبرهم أن ما ينفقونه في هذا الخروج إلى تبوك وفي غيره سواء أنفقوه باختيارهم أو كانوا مكرهين عليه لن يتقبله الله منهم لأنهم (٢) كانوا قوما فاسقين بكفرهم بالله وبرسوله وخروجهم عن طاعتهما. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٣) أما الآية الثانية (٥٤) فقد أخبر تعالى عن الأسباب الرئيسية التي حالت دون قبول نفقاتهم وهي أولا الكفر بالله وبرسوله ، وثانيا اتيانهم الصلاة وهم كسالى كارهون ، وثالثا كراهيتهم الشديدة لما ينفقونه قال تعالى (وَما مَنَعَهُمْ (٣) أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى (٤) وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٥) هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (٥٥) فإن الله تعالى ينهى رسوله والمؤمنين عن أن تعجبهم أموالهم وأولادهم مهما بلغت في الكثرة والحسن فيقول (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي لا تستحسنوها ولا تخبروهم بذلك. وبين تعالى لرسوله

__________________

(١) روي أن هذه الآية نزلت في الجد بن قيس إذ هو الذي قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إئذن لي في القعود عن الخروج إلى قتال الروم وهذا مالي أعينك به والأمر في قوله : (أَنْفِقُوا) للتسوية أي : انفقوا أولا تنفقوا فكلا الأمرين سواء ، في عدم قبول ما تنفقون.

(٢) الجملة تعليلية أي : قوله : (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) الخ ذكرت تعليلا لعدم قبول ما ينفقون.

(٣) هذا بيان للتعليل السابق في عدم قبول نفقاتهم مع ذكر أسباب أخرى حالت دون قبول ما ينفقون.

(٤) قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا كان في جماعة صلى وإذا انفرد لم يصل. أي : المنافق لأنه لا يرجو على الصلاة ثوابا ، ولا يخشى على تركها عقابا وهذا منشأ الكسل في الصلاة وغيرها من سائر العبادات.

(٥) هنا مسألتان : الأولى : أنّ من مات على الكفر لا ينفعه ما عمله في الدنيا من خير إلّا انه يخفف عنه العذاب لحديث أبي طالب ، وأنه في صحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه. كما أنه قد يكون سببا في سعة رزقه في الدنيا للحديث ، وأما الكافر فيطعم. الثانبة أنّ من أسلم منهم يثاب على ما عمله من الخير أيام كفره.

علة اعطائهم ذلك وتكثيره لهم فقال (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ (١) بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد يشعرون معه بألم لا نظير له لأنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم ، إذ لا يريدون نصر الإسلام ولا ظهوره ، وأما أولادهم فالتعذيب بهم هو أنهم يشاهدونهم يدخلون في الإسلام ويعملون به ولا يستطيعون أن يردوهم عن ذلك ، أي ألم نفسي أكبر من أن يكفر ولد الرجل بدينه ويدين بآخر من شروطه أن يبغض الكافر به ولو كان أبا أو أما أو أخا أو أختا أو أقرب قريب؟ وزيادة على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد ، وبهذا سلى الرب تعالى رسوله والمؤمنين بيان علة ما أعطى المنافقين من مال وولد ليعذبهم بذلك لا ليسعدهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدإ أن الرياء مبطلة للعمل كالشرك محبط للعمل. (٢)

٢ ـ إطلاق الفسق على الكفر فكل كافر فاسق على الإطلاق.

٣ ـ حرمة التكاسل في الصلاة وأن ذلك من صفات المنافقين.

٤ ـ وجوب رضا النفس بما ينفق العبد في سبيل الله زكاة أو غيرها.

٥ ـ كراهية استحسان المسلم لما عند أهل الفسق والنفاق من مال ومتاع.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ

__________________

(١) فعل الإرادة يعدي بنفسه تقول : أردت خيرا ، وعدي هنا باللام لأجل التعليل كقول الشاعر :

أريد لأنسى حبها فكأنما

تمثل لي ليلي بكل مكان

(٢) لقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية ، وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عبد الله بن جدعان وقد قالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال : (لا ينفعه لأنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين) رواه مسلم.

فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩))

شرح الكلمات :

(وَما هُمْ مِنْكُمْ) : أي في باطن الأمر لأنهم كافرون ووجوههم وقلوبهم مع الكافرين.

(يَفْرَقُونَ) : أي يخافون خوفا شديدا منكم.

(مَلْجَأً) : أي مكانا حصينا يلجأون إليه.

(أَوْ مَغاراتٍ) : جمع مغارة وهي الغار في الجبل.

(أَوْ مُدَّخَلاً) : أي سربا في الأرض يستتر فيه الخائف الهارب.

(يَجْمَحُونَ) : يسرعون سرعة تتعذر مقاومتها وإيقافها.

(يَلْمِزُكَ) : أي يعيبك في شأن توزيعها ويطعن فيك.

(إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) : أي غير راضين

(حَسْبُنَا اللهُ) : أي كافينا الله كل ما يهمنا.

(إِلَى اللهِ راغِبُونَ) : إلى الله وحده راغبون أي طامعون راجون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وإظهار عيوبهم وكشف عوراتهم ليتوب منهم من أكرمه الله بالتوبة فقال تعالى عنهم (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) (١) أي من أهل ملتكم ودينكم ، (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي في واقع الأمر إذ هم كفار منافقون (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي يخافون منكم خوفا شديدا فلذا يحلفون لكم إنهم منكم لتؤمنوهم على أرواحهم وأموالهم ، ولبيان شدة فرقهم منكم وخوفهم من سيوفكم قال تعالى : (لَوْ يَجِدُونَ

__________________

(١) لأنهم يتخذون أيمانهم الكاذبة وقاية يتقون بها ما يخافونه من بطش المؤمنين بهم إذا عرفوا أنهم كافرون كما قال تعالى من سورتهم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً).

مَلْجَأً) (١) أي حصنا (أَوْ مَغاراتٍ) أي غيرانا في جبال (أَوْ مُدَّخَلاً) (٢) أي سربا في الأرض (لَوَلَّوْا) أي أدبروا اليها (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٣) أي مسرعين ليتمنعوا منكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية أما الآية الثالثة والرابعة (٥٨ ـ ٥٩) فقد أخبر تعالى أن من المنافقين من يلمز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي يطعن فيه ويعيبه في شأن قسمة الصادقات وتوزيعها فيتهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه لا يعدل في القسمة فقال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ (٤) فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) أي عن الرسول وقسمته (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) هذا ما تضمنته الآية (٥٨) وأما الآية الأخيرة (٥٩) فقد أرشدهم الله تعالى إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه فقال عزوجل (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا) (٥) (ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، أي من الصدقات (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي كافينا الله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الواسع العظيم ورسوله بما يقسم علينا ويوزعه بيننا (إِنَّا إِلَى اللهِ) وحده (راغِبُونَ) طامعون راجعون أي لكان خيرا لهم وأدرك لحاجتهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الأيمان الكاذب شعار المنافقين وفي الحديث آية المنافق ثلاث :

(إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أتمن خان).

٢ ـ الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق.

٣ ـ عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك

٤ ـ مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في إرشاد المنافقين إلى أحسن ما يكونوا عليه ليكملوا

__________________

(١) الملجأ مكان اللجأ يقال لجأت إلى كذا : إذا أويت إليه واعتصمت به وألجأت أمري إليه أي : أسندته.

(٢) المدخل : مفتعل اسم كان للادّخال الذي هو افتعال من الدخول قلبت فيه تاء الافتعال دالا لوقوعها بعد الدال فصارت مدخلا بدل متدخل ، ونظيره : إدّان أصلها إتدان ، وقرأها يعقوب وحده أو مدخلا بفتح الميم وإسكان الدال اسم مكان من دخل.

(٣) الجموح : نفور في إسراع.

(٤) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى بعض رعاة الغنم شيئا لفقرهم فطعن أبو الحواظ المنافق فقال : ما هذا بالعدل كيف يضع صدقاتكم في رعاء الغنم إعانة لهم. كما أنّ ذا الخويصرة التميمي واسمه حرفوص بن زهير وهو أصل الخوارج قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعدل يا رسول الله فقال له : (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل) فنزلت الآية وقال عمر دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي).

(٥) جواب لو محذوف تقديره : لكان خيرا لهم ، وهو مذكور في التفسير في آخر الحديث.

ويسعدوا في الدارين.

٥ ـ لا كافي إلا الله ، ووجوب انحصار الرغبة فيه تعالى وحده دون سواه.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

شرح الكلمات :

(الصَّدَقاتُ) : جمع صدقة وهي هنا الزكاة المفروضة في الأموال.

(لِلْفُقَراءِ) : جمع فقير وهو من ليس له ما يكفيه من القوت ولا يسأل الناس.

(وَالْمَساكِينِ) : جمع مسكين وهو فقير ليس له ما يكفيه ويسأل الناس ويذل نفسه بالسؤال.

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) : أي على جمعها وجبابتها وهم الموظفون لها.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) : هم أناس يرجى إسلامهم أو بقاؤهم عليه إن كانوا قد أسلموا وهم ذوو شأن وخطر ينفع الله بهم إن أسلموا وحسن إسلامهم.

(وَفِي الرِّقابِ) : أي في فك الرقاب أي تحريرها من الرق ، فيعطى المكاتبون ما يسددون به نجوم أو أقساط كتابتهم.

(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) : أي الجهاد لإعداد العدة وتزويد المجاهدين بما يلزمهم من نفقة.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) : أي المسافر المنقطع عن بلاده ولو كان غنيا ببلاده.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) : أي فرضها الله تعالى فريضة على عباده المؤمنين.

معنى الآية الكريمة :

بمناسبة لمز المنافقين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والطعن في قسمته الصدقات بين تعالى في هذه الآية الكريمة أهل الصدقات المختصين بها. والمراد بالصدقات الزكوات وصدقة التطوع

فقال عزوجل (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) محصورة في الأصناف الثمانية التي تذكر وهم :

(١) الفقراء (١) وهم المؤمنون الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى.

(٢) المساكين (٢) وهم الفقراء الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم ولم يتعففوا (٣) فكانوا يسألون الناس ويظهرون المسكنة (٤) لهم والحاجة.

(٣) الموظفين فيها من سعاة جباة وأمناء وكتاب وموزعين يعطون على عملهم فيها أجرة أمثالهم في العمل الحكومي.

(٤) المؤلفة قلوبهم وهم من يرجى نفعهم للإسلام والمسلمين لمناصبهم وشوكتهم في أقوامهم ، فيعطون من الزكاة تأليفا أي جمعا لقلوبهم على الإسلام ومحبته ونصرته ونصرة أهله ، وقد يكون أحدهم لم يسلم بعد فيعطى ترغيبا له في الإسلام ، وقد يكون مسلما لكنه ضعيف الإسلام فيعطى تثبيتا له وتقوية على الإسلام.

(٥) في الرقاب وهو مساعدة المكاتبين على تسديد أقساطهم ليتحرروا أما شراء عبد بالزكاة وتحريره فلا يجوز لأنه يعود بالنفع على دافع الزكاة لأن ولاء المعتوق له.

(٦) الغارمين جمع غارم وهو من ترتبت عليه ديون بسبب ما أنفقه في طاعة الله تعالى على نفسه وعائلته ، ولم يكن لديه مال لا نقد ولا عرض يسدد به ديونه.

(٧) في سبيل الله وهو تجهيز الغزاة والإنفاق عليهم تسليحا وإركابا وطعاما ولباسا.

(٨) ابن السبيل وهم المسافرون ينزلون ببلد وتنتهي نفقتهم فيحتاجون فيعطون من الزكاة

__________________

(١) قيل : الفقير هو صفة مشبهة من الفقر أي المتصف بالفقر وهو : عدم امتلاك ما به الكفافة لحاجته المعاشية وضده الغنى ، والمسكين : ذو المسكنة وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر ، والفقير والمسكين يغني ذكر أحدهما عن الآخر ، أمّا إذا ذكرا معا فلكلّ واحد حقيقة كما تقدم ، وفي أيّهما أشدّ فقرا خلاف ، وأحسن ما قيل هو أنّ الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه ، والمسكين : الذي لا شيء له.

(٢) قال القرطبي : فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال هما صنف واحد يكون الثلث الموصى به نصفه لفلان ونصفه الآخر للفقراء ، ومن قال : هما صنفان يقسم الثلث الموصى به بينهم أثلاثا.

(٣) اختلف في حالة الفقر التي يصح للفقير أن يأخذ معها الزكاة ، فمن قائل إن لم يكن له مائتا درهم جاز له أخذ الزكاة ، ومن قائل : خمسون درهما ومن قائل : أربعون درهما. ومن قائل : من كان قويا على الكسب لقوة بدنه فلا يعطى الزكاة لحديث : (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي).

(٤) ورد الوعيد الشديد فيمن يطلب الصدقة وهو غني عنها من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار) رواه أبو داود. قالت العلماء : إنّ الذي له شبع يوم وليلة لا يحل له أن يسأل. اختلف في نقل الزكاة من بلد إلى بلد ، والراجح : الجواز لضرورة الفقر وشدته.

ولو كانوا أغنياء ببلادهم.

وقوله تعالى (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (١) أي هذه الصدقات وقسمتها على هذا النحو جعله الله تعالى فريضة لازمة على عباده المؤمنين. وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بخلقه وأحوالهم (حَكِيمٌ) في شرعه وقسمته ، فلذا لا يجوز أبدا مخالفة هذه القسمة فلا يدخل أحد فيعطى من الزكاة وهو غير مذكور في هذه الآية وليس شرطا أن يعطى كل الأصناف فقد يعطى المرء زكاته كلها في الجهاد أو في الفقراء والمساكين ، أو في الغارمين أو المكاتبين وتجزئة وإن كان الأولى أن يقسمها بين الأصناف المذكورة من وجد منها ، إذ قد لا توجد كلها في وقت واحد.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ تقرير فرضية الزكاة.

٢ ـ بيان مصارف الزكاة.

٣ ـ وجوب التسليم لله تعالى في قسمته بعدم محاولة الخروج عنها.

٤ ـ إثبات صفات الله تعالى وهي هنا : العلم والحكمة ، ومتى كان الله تعالى عليما بخلقه وحاجاتهم حكيما في تصرفه وشرعه وجب التسليم لأمره والخضوع له بالطاعة والانقياد.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ

__________________

(١) (فَرِيضَةً) منصوب على المصدر المؤكد إذ تقدير الكلام : إنما فرض الله الصدقات للفقراء والمساكين الخ .. فريضة منه تعالى وهو العليم بخلقه الحكيم في تدبيره وصنعه.

مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

شرح الكلمات :

(يُؤْذُونَ النَّبِيَ) : أي الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأذى المكروه يصيب الإنسان كثيرا أو يسيرا.

(هُوَ أُذُنٌ) : أي يسمع من كل من يقول له ويحدثه وهذا من الأذى.

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) : أي هو يسمع من كل من يقول له لا يتكبر ولكن لا يقر إلا الحق ولا يقبل إلا الخير والمعروف فهو أذن خير لكم لا أذن شر مثلكم أيها المنافقون.

(وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي يصدق المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار أما غيرهم فإنه وإن يسمع منهم لا يصدقهم لأنهم كذبة فجرة.

(وَاللهُ) : أحق أن يرضوه ورسورله أحق أن يرضوه.

(مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي يعاديهما ، ويقف دائما في حدّ وهما في حد فلا ولاء ولا موالاة أي لا محبة ولا نصرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وبيان فضائحهم قال تعالى : (وَمِنْهُمُ (١) الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) أي من المنافقين أفراد يؤذون النبي بالطعن فيه وعيبه بما هو براء منه ، ويبين تعالى بعض ذلك الأذى فقال (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي يسمع كل ما يقال له ، وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقر سماع الباطل أو الشر أو الفساد ، وإنما يسمع ما كان خيرا ولو كان من منافق يكذب ويحسن القول. وأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ (٢) لَكُمْ) يسمع ما فيه خير لكم ، ولا يسمع ما هو شر لكم. إنه لما كان لا يواجههم بسوء صنيعهم ،

__________________

(١) قيل هذه الآية نزلت في عتّاب بن قشير إذ قال : إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل : نزلت في نبتل بن الحارث الذي قال فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث) وكان ماكرا خبيثا مشوّه الخلقة.

(٢) قرىء بالرفع والتنوين أذن خير لكم وقرأ الجمهور بالإضافة : اذن خير.

وقبح أعمالهم حملهم هذا الجميل والإحسان على أن قالوا : (هُوَ أُذُنٌ) طعنا فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعيبا له. وقوله تعالى (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) هذا من جملة ما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمنافقين ردا على باطلهم. أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمن بالله ربا وإلها ، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي بصدقهم فيما يقولون وهذا من خيريّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (وَرَحْمَةٌ) (١) (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أيضا من خيريّته فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة لمن آمن به واتبع النور الذي جاء به فكمل عليه وسعد به في حياتيه. وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) أي بأي نوع من الأذى قل أو كثر توعدهم الله تعالى بقوله (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو لا محالة نازل بهم وهم ذائقوه حتما هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦١) أما الآية الثانية (٦٢) فقد أخبر تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون للمؤمنين بأنهم ما طعنوا في الرسول ولا قالوا فيه شيئا يريدون بذلك إرضاء المؤمنين حتى لا يبطشوا بهم انتقاما لكرامة نبيهم قال تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللهِ (٢) لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُ (٣) أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي فبدل أن يرضوا المؤمنين كان الواجب أن يرضوا الله تعالى بالتوبة إليه ويرضوا الرسول بالإيمان ومتابعته إن كانوا كما يزعمون أنهم مؤمنون. وقوله في الآية الثالثة (٦٣) (أَلَمْ يَعْلَمُوا (٤) أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يشاقهما ويعاديهما فإن له جزاء عدائه ومحاربته نار جهنم خالدا فيها (ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي كونه في نار جهنم خالدا فيها لا يخرج منها هو الخزي العظيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

__________________

(١) أي : وهو رحمة. على أنّ رحمة : خبر لمبتدأ محذوف وقرىء : ورحمة بالجر عطفا على (خَيْرٍ لَكُمْ) وفيه بعد كبير.

(٢) روي أنّ نفرا من المنافقين منهم الجلاس بين سويد ووديعة بن ثابت فقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شرّ من الحمير وبينهم غلام فغضب لقولهم هذا وأخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذبوه في قوله فأنزل الله تعالى هذه الآية : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ ..) الخ.

(٣) قال سيبويه : تقدير الكلام ، والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ثم حذف طلبا للإيجاز كما قال الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

والحامل على هذا التقدير لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرض بقول الرجل : ما شاء الله وشئت فقال له : (قل ما شاء الله وحده) لأنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب.

(٤) الاستفهام للانكار والتوبيخ والمعنى : ألم يعلموا شأنا عظيما هو من يجادل الله ورسوله له نار جهنم ، والسحادة : المعاداة والمشاقة كأنّ كل واحد واقف في حدّ لا يتصل بالآخر ، والفاء في (فَأَنَّ لَهُ) لربط جواب شرط (مَنْ) وأعيدت أنّ في الجواب لتوكيد أنّ المذكورة قبل الشرط توكيدا لفظيا.

١ ـ حرمة أذية رسول الله بأي وجه من الوجوه.

٢ ـ كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للمؤمنين دعوة للإيمان والإسلام.

٣ ـ توعد الله تعالى من يؤذى رسوله بالعذاب الأليم دليل على كفر من يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ بيان كذب المنافقين وجبنهم حيث يحلفون (١) للمؤمنين أنهم ما طعنوا في الرسول وقد طعنوا بالفعل ، وإنما حلفهم الكاذب يدفعون به غضب المؤمنين والانتقام منهم.

٥ ـ وجوب طلب رضا الله تعالى بفعل محابه وترك مساخطه.

٦ ـ توعد من يحادد الله ورسوله بالعذاب الأليم.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

شرح الكلمات :

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) : أي يخافون ويحترسون.

(تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) : أي في شأنهم فتفضحهم بإظهار عيبهم.

__________________

(١) في الآية دليل جواز الحلف بالله وعدم جواز الحلف بغيره لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق).

(تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) : أي تخبرهم بما يضمرونه في نفوسهم.

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا) : الأمر هنا للتهديد.

(مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) : أي مخرجه من نفوسكم مظهره للناس أجمعين.

(نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) : أي نخوض في الحديث على عادتنا ونلعب لا نريد سبا ولا طعنا.

(تَسْتَهْزِؤُنَ) : أي تسخرون وتحتقرون.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المنافقين لكشف الستار عنهم وإظهارهم على حقيقتهم ليتوب منهم من تاب الله عليه قال تعالى مخبرا عنهم (يَحْذَرُ (١) الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ (٢) سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يخشى المنافقون أن تنزل في شأنهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ) أي تخبرهم بما في قلوبهم فتفضحهم ، ولذا سميت هذه السورة بالفاضحة (٣) وقوله تعالى لرسوله (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) يهددهم تعالى بأن الله مخرج ما يحذرون إخراجه وظهوره مما يقولونه في خلواتهم من الطعن في الإسلام وأهله. وقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي عما قالوا من الباطل. لقالوا (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (٤) لا غير. قل لهم يا رسولنا (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) وذلك أن نفرا من المنافقين في غزوة تبوك قالوا في مجلس لهم : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء!. فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلت هذه الآيات : وجاءوا يعتذرون لرسوله الله فأنزل الله (لا تَعْتَذِرُوا (٥) قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي الذي كنتم تدعونه ، لأن الاستهزاء بالله والرسول والكتاب كفر مخرج من الملة ، وقوله تعالى (إِنْ

__________________

(١) يروى أن أحد المنافقين قال : والله وددت لو أني قدّمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا فنزلت الآية : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ ..) وهي خبر وإن قال بعضهم هي إنشاء بمعنى : ليحذر المنافقون.

(٢) معلوم أن القرآن ينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : (عَلَيْهِمْ) بمعنى المؤمنين لأنهم والرسول في جانب والمنافقون في آخر ، فصحّ أن يقال : تنزل على المؤمنين ، والرسول معهم ، وهو المختص بالوحي.

(٣) وسميت أيضا : المثيرة ، والمبعثرة والحفارة لأنها أثارت كامن المنافقين وبعثرته وحفرت ما في قلوبهم وأخرجته.

(٤) ذكر الطبري أنّ قائل هذه المقالة : وديعة بن ثابت قال ابن عمر : رأيته معلقا بحقب ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول : إنّما كنّا نخوض ونلعب والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون.

(٥) (لا تَعْتَذِرُوا) نهاهم عن الاعتذار لأنه غير نافع لهم ولا مجد واعتذر بمعنى : اعذر أي صار ذا عذر ، والاعتذار محو أثر الموجدة أو هو القطع ، أي : قطع ما في القلب من الموجدة ، ومنه قيل : عدرة الغلام : وهو ما يقطع منه عند الختان.

نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) لأنهم يتوبون كمخشي بن حمير ، (١) (نُعَذِّبْ طائِفَةً) أخرى لأنهم لا يتوبون وقوله تعالى (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) علة للحكم بعذابهم وهو إجرامهم بالكفر والاستهزاء بالمؤمنين إذ من جملة ما قالوه : قولهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظن هذا يشيرون إلى النبي وهم سائرون ـ يفتح قصور الشام وحصونها فأطلع الله نبيه عليهم فدعاهم فجاءوا واعتذروا بقولهم إنا كنا نخوض (٢) أي في الحديث ونلعب تقصيرا للوقت ، ودفعا للملل عنا والسآمة فأنزل تعالى (قُلْ أَبِاللهِ) الآية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الكشف عن مدى ما كان يعيش عليه المنافقون من الحذر والخوف.

٢ ـ كفر من استهزأ بالله أو آياته أو رسوله.

٣ ـ لا يقبل اعتذار (٣) من كفر بأي وجه وإنما التوبة أو السيف فيقتل كفرا.

٤ ـ مصداق ما أخبر به تعالى من أنه سيعذب طائفة فقد هلك عشرة بداء الدبيلة «خراج يخرج من الظهر وينفذ ألمه إلى الصدر فيهلك صاحبه حتما».

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ

__________________

(١) هو مخشي بن حمير الأشجعي وقد تاب عند سماعه هذه الآية وحسن إسلامه.

(٢) الخوض : الدخول في الماء ، ثم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى.

(٣) اختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال لا يلزم مطلقا ، يلزم مطلقا ، التفرقة بين البيع وغيره ، وهذا الراجح ، لأنّ النكاح والطلاق والعتاق ورد فيها النص من السنة لحديث الترمذي وحسنه مع وصفه بالغرابة وبه العمل عند جماهير الصحابة والتابعين والفقهاء وهو : (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) وحديث الموطأ : (ثلاث ليس فيهن لعب : النكاح والطلاق والعتق).

فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

شرح الكلمات :

(الْمُنافِقُونَ) : أي الذين يظهرون للمؤمنين الإيمان بألسنتهم ويسترون الكفر في قلوبهم.

(بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (١) : أي متشابهون في اعتقادهم وقولهم وعملهم فأمرهم واحد.

(بِالْمُنْكَرِ) : أي ما ينكره الشرع لضرره أو قبحه وهو الكفر بالله ورسوله.

(عَنِ الْمَعْرُوفِ) : أي ما عرفه الشرع نافعا فأمر به من الإيمان والعمل الصالح.

(يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) : أي يمسكونها عن الإنفاق في سبيل الله.

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) : أي تركوا الله فلم يؤمنوا به وبرسوله فتركهم وحرمهم من توفيقه وهدايته.

(عَذابٌ مُقِيمٌ) : أي دائم لا يزول ولا يبيد.

__________________

(١) (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) : أي : هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين ، أو هم متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

(بِخَلاقِهِمْ) : أي بنصيبهم وحظهم من الدنيا.

(وَخُضْتُمْ) : أي في الكذب والباطل.

(وَالْمُؤْتَفِكاتِ) : أي المنقلبات حيث صار عاليها سافلها وهي ثلاث مدن. (١)

(بِالْبَيِّناتِ) : الآيات الدالة على صدقهم في رسالاتهم إليهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في هتك استار المنافقين وبيان فضائحهم لعلهم يتوبون. قال تعالى (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي كأبعاض الشيء الواحد وذلك لأن أمرهم واحد لا يختلف بعضهم عن بعض في المعتقد والقول والعمل بيّن تعالى حالهم بقوله (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) وهذا دليل على انتكاسهم وفساد قلوبهم وعقولهم ، إذ هذا عكس ما يأمر به العقلاء ، والمراد من المنكر الذي يأمرون به هو الكفر والعصيان ، والمعروف الذي ينهون عنه هو الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما. وقوله تعالى (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) كناية عن الإمساك وعدم البذل في الإنفاق في سبيل الله. (٢) وقوله (نَسُوا اللهَ) فلم يؤمنوا به ولم يؤمنوا برسوله ولم يطيعوا الله ورسوله (فَنَسِيَهُمْ) الله بأن تركهم محرومين من كل هداية ورحمة ولطف. وقوله (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تقرير لمعنى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ، إذ كفرهم بالله وبرسوله هو الذي حرمهم هداية الله تعالى ففسقوا سائر أنواع الفسق فكانوا هم الفاسقين الجديرين بهذا الوصف وهو الفسق والتوغل فيه. وقوله تعالى في الآية (٦٨) (وَعَدَ (٣) اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) (٤) أي كافيهم (وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم لا يزول ولا يبيد ولا يفنى فقد حملت هذه الآية أشد وعيد لأهل النفاق والكفر إذ توعدهم الرب تعالى بنار جهنم خالدين فيها وبالعذاب المقيم الذي لا يبارحهم ولا يتركهم لحظة أبد الأبد وذلك بعد أن لعنهم الله فأبعدهم وأسحقهم من كل رحمة وخير. وفي الآية الثالثة (٦٩) يأمر

__________________

(١) هي : سدوم ، وعمورة ، وأرمة ، وكانت مدنا متتاخمة بعضها قريب من بعض.

(٢) أي : وصفهم بالبخل والشح كما قال تعالى : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) كما أن امتناعهم عن الخروج إلى الجهاد يعتبر قبضا لأيديهم.

(٣) الأصل أن الوعد يكون في الخير والإيعاد يكون في الشر ، وإطلاق الوعد على الوعيد كما هو هنا تهكم بهم.

(٤) (هِيَ حَسْبُهُمْ) مبتدأ وخبر ومعناه : أنها كافية ووفاء لجزاء أعمالهم.

تعالى رسوله أن يقول للمنافقين المستهزئين بالله وآياته ورسوله : أنتم أيها المنافقون كأولئك الذين كانوا من قبلكم في الاغترار بالمال والولد والكفر بالله والتكذيب لرسله حتى نزل بهم عذاب الله ومضت فيهم سنته في إهلاكهم هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (١) كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم الذي كتب لهم في الدنيا (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ) أي بما كتب لكم في هذه الحياة الدنيا (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي سواء بسواء (وَخُضْتُمْ) في الباطل والشر وبالكفر والتكذيب (كَالَّذِي خاضُوا) (٢) أي كخوضهم سواء بسواء أولئك الهالكون (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي تلاشت وذهبت ولم ينتفعوا منها بشيء ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). وبما أنكم أيها المنافقون تسيرون على منهجهم في الكفر والتكذيب والاغترار بالمال والولد فسوف يكون مصيركم كمصيرهم وهو الخسران المبين. وقوله تعالى في الآية الرابعة (٧٠) (أَلَمْ يَأْتِهِمْ (٣) نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ (٤) رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الآيات الدالة على توحيد الله وصدق رسوله وسلامة دعوتهم كما جاءكم أيها المنافقون رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبينات فكذبتم كما كذب الذين من قبلكم فنزل بهم عذاب الله فهلك قوم نوح بالطوفان وعاد بالريح العاتية ، وثمود بالصاعقة ، وقوم إبراهيم (٥) بسلب النعم وحلول النقم ، وأصحاب مدين بالرجفة وعذاب الظلمة ، والمؤتفكات (٦) بالمطر والإئتفاك أي القلب بأن أصبح أعالي مدنهم الثلاث (٧) أسافلها ، وأسافلها أعاليها ، وما ظلمهم الله تعالى بما أنزل عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، وأنتم أيها المنافقون إن لم تتوبوا إلى ربكم سيحل بكم ما حل بمن قبلكم أو أشد لأنكم لم تعتبروا بما سبق.

__________________

(١) الكاف : في محل نصب أي : وعدكم الله أيها المنافقون والمنافقات كما وعد الذين من قبلكم نار جهنم تخلدون فيها.

(٢) الكاف : في محل نصب نعت لمصدر محذوف أي : وخضتم خوضا كالذي خاضوا أي : في الباطل والشر والفساد.

والذي بمعنى الجمع ، ويجوز أن يكون الذين محذوف النون على لغة هذيل قال شاعرهم :

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم خالد

(٣) الاستفهام للتقرير ، والتحذير بمعنى : ألم يسمعوا بإهلاكنا الكفار من قبلهم؟

(٤) أي بدلائل الحق والصدق ، والجملة تعليلية.

(٥) هم نمرود بن كنعان وقومه.

(٦) قوم لوط عليه‌السلام.

(٧) تقدمت أسماء هذه المدن قريبا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إن المنافقين لما كان مرضهم واحد وهو الكفر الباطني كان سلوكهم متشابها.

٢ ـ الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف علامة النفاق وظاهرة الكفر وانتكاس الفطرة.

٣ ـ الاغترار بالمال والولد من عوامل عدم قبول الحق والإذعان له والتسليم به.

٤ ـ تشابه حال البشر واتباع بعضهم لبعض في الباطل والفساد والشر.

٥ ـ حبوط الأعمال بالباطل وهلاك أهلها أمر مقضى به لا يتخلف.

٦ ـ وجوب الاعتبار بأحوال السابقين والاتعاظ بما لاقاه أهل الكفر منهم من عذاب.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

شرح الكلمات :

(وَالْمُؤْمِنُونَ) : أي الصادقون في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.

(أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي يتولّى بعضهم بعضا في النّصرة والحماية والمحبة والتأييد.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : أي يؤدونها في خشوع وافية الشروط والأركان والسنن والآداب.

(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) : أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالدراهم والدنانير والمعشرات ، والناطقة كالأنعام : الإبل والبقر والغنم.

(فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) : أي إقامة دائمة لا يخرجون منها ولا يتحولون (١) عنها.

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) : أي رضوان الله الذي يحله عليهم أكبر من كل نعيم في الجنة.

معنى الآيتين :

بمناسبة ذكر المنافقين وبيان سلوكهم ونهاية أمرهم ذكر تعالى المؤمنين وسلوكهم الحسن ومصيرهم السعيد فقال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) أي المؤمنون بالله ورسوله ووعده ووعيده والمؤمنات بذلك (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يوالي بعضهم بعضا محبة (٢) ونصرة وتعاونا وتأييدا (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما عرفه الشرع حقا وخيرا من الإيمان وصالح الأعمال ، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو ما عرفه الشرع باطلا ضارا فاسدا من الشرك وسائر الجرائم فالمؤمنون والمؤمنات على عكس المنافقين والمنافقات في هذا الأمر وقوله تعالى (وَيُقِيمُونَ) (٣) (الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) والمنافقون لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى فهم مضيعون لها غير مقيمن لها ، ويقبضون أيديهم فلا ينفقون ، والمؤمنون يطيعون الله ورسوله ، (٤) والمنافقون يعصون الله ورسوله ، المؤمنون سيرحمهم‌الله ، (٥) والمنافقون سيعذبهم الله ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب سينجز وعده ووعيده (حَكِيمٌ) يضع كل شيء في موضعه اللائق به فلا يعذب المؤمنين وينعّم المنافقين بل ينعّم المؤمنين ويعذب المنافقين.

وقوله تعالى في الآية الثانية (٧٢) (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من خلال قصورها وأشجارها (خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ) أي قصورا طيبة في غاية النظافة وطيب الرائحة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) (٦) أي إقامة ، وقوله (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ)

__________________

(١) قال تعالى من سورة الكهف : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي : تحولا لأنّ نعيمها لا يمل ولا تتشوق النفس لغيره أبدا.

(٢) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبّك بين أصابعه وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

(٣) يشمل اللفظ : الصلوات الخمس والنوافل كما شمل الزكوات المفروضة والصدقات إذ المدح يحصل بهما معا فرضا ونفلا.

(٤) أي : يؤدون الفرائض والسنن فعلا ويجتنبون المنهيات والمكروهات تركا.

(٥) السين في (سَيَرْحَمُهُمُ) للتأكيد وتحمل معنى الخوف والرجاء وهما جناحا المؤمنين لا يطيرون في سماء الكمالات إلا بهما.

(٦) شاهده في الصحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن) وقوله أيضا في الصحيح : (إنّ للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في السماء ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهن لا يرى بعضهم بعضا).

أي يحله عليهم أكبر من الجنات والقصور وسائر أنواع النعيم. وقوله (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك المذكور من الجنة ونعيمها ورضوان الله فيها هو الفوز العظيم. والفوز هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب. هذا الوعد الإلهي الصادق للمؤمنين والمؤمنات يقابله وعيد الله تعالى للمنافقين والكفار في الآيات السابقة ، ونصه (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ).

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان صفات المؤمنين والمؤمنات والتي هي مظاهر إيمانهم وأدلته.

٢ ـ أهمية صفات أهل الإيمان وهي الولاء لبعضهم بعضا ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إقامة الصلاة ، إيتاء الزكاة ، طاعة الله ورسوله.

٣ ـ بيان جزاء أهل الإيمان في الدار الآخرة وهو النعيم المقيم في دار الإسلام.

٤ ـ أفضلية رضا (١) الله تعالى على سائر النعيم.

٥ ـ بيان معنى الفوز وهو النجاة من النار ، ودخول الجنة.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ

__________________

(١) أخرج الشيخان البخاري ومسلم ، ومالك في الموطأ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنّ الله عزوجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟

فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا).

اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

شرح الكلمات :

(جاهِدِ الْكُفَّارَ) : ابذل غاية جهدك في قتال الكفار والمنافقين.

(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) : أي في القول والفعل أي شدد عليهم ولا تلن لهم.

(كَلِمَةَ الْكُفْرِ) : أي كلمة يكفر بها من قالها وهي قول الجلاس بن سويد : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شرّ من الحمير.

(وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) : أي هموا بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مؤامرة دنيئة (١) وهم عائدون من تبوك.

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ) : أي ما أنكروا أو كرهوا من الإسلام ورسوله إلا أن أغناهم الله بعد فقر أعلى مثل هذا يهمون بقتل رسول الله؟

معنى الآيتين :

يأمر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار والمنافقين فيقول (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) (٢) (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) وجهاد الكفار يكون بالسلاح وجهاد المنافقين يكون باللسان ، (٣) وقوله تعالى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (٤) أي شدد عملك وقولك ، فلا هوادة مع من كفر بالله ورسوله ، ومع من نافق الرسول والمؤمنين فأظهر الإيمان وأسر الكفر وقوله تعالى (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي جهنم يريد ابذل ما في وسعك في جهادهم قتلا وتأدييا هذا لهم في الدنيا ، وفي الآخرة مأواهم جهنم وبئس المصير ، وقوله تعالى في الآية الثانية (٧٤) (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) هذا الكلام علّة للأمر بجهادهم والإغلاظ عليهم لقول الجلاس بن سويد المنافق : لئن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير سمعه منه أحد المؤمنين فبلغه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء

__________________

(١) اقرأ نصها في التفسير فإنها واضحة ومختصرة.

(٢) يدخل في هذا الخطاب أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) بأن يقول لهم الكلمة الغليظة الشديدة ويكفهر في وجوههم أي : يعبس ولا يبسط وجهه فيهم.

(٤) هذه الآية نسخت كل شيء من العفو ، والصفح الذين كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمر بهما إزاء المشركين والمنافقين.

الجلاس يعتذر ويحلف بالله ما قال الذي قال فأكذبه الله تعالى في قوله في هذه الآية (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) والسياق دال على تكرر مثل هذا القول الخبيث وهو كذلك. وقوله تعالى (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (١) يعني المنافقين الذين تآمروا على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند عودته من تبوك في عقبة في الطريق إلا أن الله فضحهم وخيّب مسعاهم ونجى رسوله منهم حيث بعث عمار بن ياسر يضرب وجوه الرواحل لما غشوه فردوا وتفرقوا بعد أن عزموا على أن يزاحموا رسول الله وهو على ناقته بنوقهم حتى يسقط منها فيهلك أهلكهم الله. وقوله تعالى (وَما نَقَمُوا) (٢) أي وما كرهوا من رسول الله ولا من الإسلام شيئا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وهل الغنى بعد الفقر مما ينقم منه ، والجواب لا ولكنه الكفر والنفاق يفسد الذوق والفطرة والعقل أيضا.

ومع هذا الذي قاموا به من الكفر والشر والفساد يفتح الرب الرحيم تبارك وتعالى باب التوبة في وجوههم ويقول (فَإِنْ يَتُوبُوا) (٣) من هذا الكفر والنفاق والشر والفساد يك (٤) ذلك (خَيْراً لَهُمْ) حالا ومآلا أي في الدنيا والآخرة ، (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) عن هذا العرض ويرفضوه فيصرون على الكفر والنفاق (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً) أي موجعا في الدنيا بالقتل والخزي ، وفي الآخرة بعذاب النار ، (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍ) (٥) يتولاهم ولا ناصر ينصرهم ، أي وليس لهم في الدنيا من ولي يدفع عنهم ما أراد الله أن ينزله بهم من الخزي والعذاب وما لهم من ناصر ينصرهم بعد أن يخذلهم الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) أخرج مسلم عن حذيفة : (أن اثني عشر رجلا سمّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعدهم حذيفة واحدا واحدا قال قلت : يا رسول الله ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال : أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ، بل يكفيهم الله بالدّبلة) وهي خراج يظهر في الظهر وينصب على الصدر يقتل صاحبه فورا.

(٢) أي : ليس بنقمون شيئا إلا أنهم كانوا فقراء فأغناهم الله بما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطيهم من الغنائم ، قيل لأحدهم : هل تجد في القرآن نظير قولهم اتق شر من أحسنت إليه؟ قال : نعم هو قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).

(٣) هذه الجملة متفرعة عن الكلام السابق وهي من باب ذكر الوعد بعد الوعيد والترغيب بعد الترهيب ، وهو أسلوب القرآن الكريم.

(٤) حذفت نون (يَكُ) تخفيفا إذ الأصل يكن.

(٥) هذه الجملة معطوفة على جملة : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) وهي وإن كانت اسمية لا يمتنع أن تكون جوابا ثانيا معطوفا على جملة الجزاء ، لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، فالجزاء جزاءان ، الأول : تعذيبهم والثاني : انعدام الولي والنصير لهم في الأرض كلها.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان آية السيف (١) وهي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ).

٢ ـ تقرير مبدأ الردة وهي أن يقول المسلم كلمة الكفر فيكفر بها وذلك كالطعن في الإسلام أو سب الله أو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو التكذيب بما أمر الله تعالى بالإيمان به والتصديق بضده أي بما أمر الله بتكذيبه.

٣ ـ تقرير مبدأ التوبة من كل الذنوب ، وأن من تاب تقبل توبته.

٤ ـ الوعيد الشديد لمن يصر على الكفر ويموت عليه.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

شرح الكلمات :

(وَمِنْهُمْ) : أي من المنافقين.

(لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) : أي مالا كثيرا.

(بَخِلُوا بِهِ) : أي منعوه فلم يؤدوا حقه من زكاة وغيرها.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) : أي فأورثهم البخل نفاقا ملازما لقلوبهم لا يفارقها إلى يوم يلقون

__________________

(١) يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : سيوف الله أربعة : واحد على المشركين قال تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ..) وثان على الكافرين قال تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ..) وثالث على المنافقين : قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ..) ورابع على البغاة. قال تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ).

الله تعالى.

(بِما أَخْلَفُوا اللهَ) : أي بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى به.

(سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) : أي ما يسرونه في نفوسهم ويخفونه ، وما يتناجون به فيما بينهم.

(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) : يعلم كل غيب في الأرض أو في السماء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في المنافقين وهم أصناف وهذا صنف (١) آخر منهم قد عاهد الله تعالى لئن أغناهم من فضله وأصبحوا ذوي ثروة ومال كثير ليصدقن منه ولينفقّنه في طريق البر والخير ، فلما أعطاهم الله ما سألوا وكثر مالهم شحوا به وبخلوا ، وتولوا عما تعهدوا به وما كانوا عليه من تقوى وصلاح ، وهم معرضون. فأورثهم هذا البخل وخلف الوعد والكذب (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) (٢) لا يفارقهم حتى يلقوا ربهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ (٣) اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ (٤) مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ). أما الآية الأخيرة (٧٨) وهي قوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؟؟) فإنها تضمنت توبيخ الله تعالى للمنافقين الذين عاهدوا الله وأخلفوه بموقفهم الشائن كأنهم لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه تعالى علام الغيوب ، وإلا كيف يعدونه ويحلفون له أم يحسبون أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم فموقفهم هذا موقف مخز لهم شائن ، وويل لهم حيث لازمهم ثمرته وهو النفاق حتى الموت وبهذا أغلق باب التوبة في وجوههم وهلكوا مع الهالكين.

__________________

(١) قال قتادة : هذا رجل من الأنصار قال : لئن رزقني الله شيئا لأدين فيه حقه ولأتصدقن فلما آتاه الله ذلك فعل ما قصّ عليكم فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور.

(٢) (نِفاقاً) نكرة أي : نفاقا ما من نوع من أنواع النفاق وليس هو نفاق الكفر وإنّما هو نفاق العمل.

(٣) الآية صريحة ودلالتها واضحة في أنّ أحد أفراد المؤمنين سأل الله المال سواء بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأن قال له ادع الله لي ، أو سأل بنفسه وقطع عهدا لربه بما ذكر في الآية ، ولما أخلف ما عاهد الله عليه أصيب بمرض النفاق في قلبه ـ والعياذ بالله تعالى ـ وهل هو ثعلبة بن حاطب أو غيره أما ثعلبة فقد شهد بدرا ، وأهل بدر ذكر لهم وعد عظيم ، فلا يصح أن يكون أحدهم وقع في هذه الفتنة وإن كان غيره فهو حق ، وجائز أن يكون هذا الغير اسمه ثعلبة فتشابه الاسم بالاسم فظن أنه البدري وليس هو والله أعلم. هذا والله إني لخائف من هذه الآية أن تنطبق عليّ فاللهم عفوك وغفرانك لي.

(٤) صيغة الجمع تدل على أن من عاهد الله لم يكن فردا واحدا بل كان جماعة ولذا قال الضحاك : إن الآية نزلت في رجال من المنافقين : نبتل بن الحارث والجد بن قيس ومعتب بن قشير إلّا أن قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) يتنافى مع كونهم منافقين ، إلّا أن يقال : زادهم نفاقا خلفهم هذا على نفاقهم الأول. والله أعلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود (١) الله تعالى.

٢ ـ ذم البخل وأهله.

٣ ـ تقرير مبدأ أن السيئة يتولد عنها سيئة.

٤ ـ جواز تقريع وتأنيب أهل الباطل.

٥ ـ وجوب مراقبة الله تعالى إذ لو راقب هؤلاء المنافقون (٢) الله تعالى لما خرجوا عن طاعته.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

شرح الكلمات :

(يَلْمِزُونَ) : أي يعيبون ويطعنون.

__________________

(١) اختلف في نية الطلاق أو الصدقة بدون أن يلفظ هل يلزمه ما نواه بقلبه أو لا يلزمه ، الراجح : أنه لا يلزمه ما لم يتلفظ به والدليل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنّ الله تجاوز لأمتى عمّا حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به) رواه الترمذي وقال فيه حسن صحيح ، والشاهد في قوله : (أو تتكلم به) والعمل بهذا عند أهل العلم.

(٢) جاء في الصحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) وفي حديث آخر : (أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) واختلف العلماء في تأويل هذين الحديثين ، وقسموا النفاق إلى اعتقادي وعملي ، فالاعتقادي : ما كان صاحبه كافرا بالله ورسوله مكذبا لهما ، والعملي : ما كان صاحبه مؤمنا مصدقا ولكن يأتي هذه المحظورات جهلا وفسقا. وهذا صحيح. ولكن لا يتأتى لعبد يؤمن بالله ورسوله أن يتعمد الكذب على المسلمين وإخلاف الوعد لهم ، والغدر بهم ، وخيانتهم في أماناتهم والفجور في التخاصم معهم ، ومن هنا كان المطلوب اجراء الخبر على ظاهره ما دام العبد يتعمد هذه المحظورات نكاية بالمسلمين وبغضا لهم وعدم اعتراف بحقوقهم وظلما واعتداء عليهم ، إذ مثل هذا لا يكون معه إيمان بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(الْمُطَّوِّعِينَ) : أي المتصدقين بأموالهم زيادة على الفريضة.

(إِلَّا جُهْدَهُمْ) : إلا طاقتهم وما يقدرون عليه فيأتون به.

(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) : أي يستهزئون بهم احتقارا لهم.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) : أي اطلب لهم المغفرة أو لا تطلب.

(لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) : أي إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وذلك لتوغلهم في العصيان.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في التنديد بالمنافقين وكشف عوارهم فقد أخبر تعالى أن (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ (١) الْمُطَّوِّعِينَ (٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ (٣) فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). أخبر تعالى أنه سخر منهم جزاء سخريتهم بالمتصدقين وتوعدهم بالعذاب الأليم. وكيفية لمزهم المتطوعين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى الصدقة فإذا جاء الرجل بمال كثير لمزوه وقالوا مراء ، وإذا جاء الرجل بالقليل لمزوه وقالوا : الله غني عن صاعك هذا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ففضحهم وسخر منهم وتوعدهم بأليم العذاب وأخبر نبيه أن استغفاره لهم وعدمه سواء فقال (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ (٤) أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وبين علة ذلك بقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ،) وهذه العلة كافية في عدم المغفرة لهم لأنها الكفر والكافر مخلد في النار. وأخبر تعالى أنه حرمهم الهداية فلا يتوبوا فقال (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لأن الفسق قد أصبح وصفا لازما لهم فلذا هم لا يتوبون ، وبذلك حرموا هداية الله تعالى.

__________________

(١) أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أمرنا بالصدقة فكنا نحامل على ظهورنا فتصدق أبو عقيل بنصف صاع ، قال : وجاء انسان بشيء أكبر منه فقال المنافقون إنّ الله لغني عن صدقة هؤلاء ، وما فعل هذا الآخر إلّا رياء فنزلت : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ..) الآية.

(٢) أصل المطوّعين : المتطوعين ادغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما وهم : الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم.

(٣) الجهد : شيء قليل يعيش به المقل والجهد والجهد بالفتح أيضا : الطاقة والسخرية : الاستهزاء ، وعاملهم الله تعالى بالمثل فسخر منهم وهم لا يشعرون.

(٤) بيد أنه لما نزلت الآيات الفاضحة للمنافقين جاء بعضهم يعتذرون ويطلبون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لهم فاستغفر لهم رحمة بهم فأعلمه ربّه تعالى أنّ استغفاره لهؤلاء المنافقين مهما بلغ من الكثرة لا ينفعهم وذلك لكفرهم ونفاقهم وفسقهم.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة لمز المؤمن والطعن فيه.

٢ ـ حرمة السخرية بالمؤمن.

٣ ـ غيرة الله على أوليائه حيث سخر الله ممن سخر من المطوعين.

٤ ـ من مات على الكفر لا ينفعه الاستغفار له ، بل ولا يجوز الاستغفار له.

٥ ـ التوغل في الفسق أو الكفر أو الظلم يحرم صاحبه الهداية.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

شرح الكلمات :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) : أي سرّ الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقالُوا : لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) : أي قال المنافقون لبعضهم بعضا لا تخرجوا للغزو في الحر.

(لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) : أي لو كانوا يفقهون أسرار الأمور وعواقبها ونتائجها لما قالوا : لا تنفروا في الحر ولكنهم لا يفقهون.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا) : أي في الدنيا ، وليبكوا كثيرا في الدار الآخرة.

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) : أي من المنافقين.

(فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) : أي المتخلفين عن تبوك من النساء والأطفال وأصحاب الأعذار.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المنافقين فقال تعالى مخبرا عنهم (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) (١) أي سر المتخلفون (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ (٢) رَسُولِ اللهِ) أي بقعودهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في سبيله ، وكرههم هذا للجهاد هو ثمرة نفاقهم وكفرهم وقولهم (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر ، قالوا هذا لبعضهم بعضا وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قولهم هذا فقال (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) فلماذ لا يتّقونها بالخروج في سبيل الله كما يتقون الحر بعدم الخروج ، وقوله تعالى (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي لما تخلفوا عن الجهاد لأن نار جهنم أشد حرا ، ولكنهم لا يفقهون وقوله تعالى (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) أي (٣) في هذه الحياة الدنيا بما يحصل لهم من المسرات (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) أي يوم القيامة لما ينالهم من الحرمان والعذاب ، وذلك كان (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الشر والفساد ، وقوله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) (٤) أي فإن ردك الله سالما من تبوك إلى المدينة إلى طائفة من المنافقين (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك لغزو وجهاد (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وعلة ذلك (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٥) أي من النساء

__________________

(١) (الْمُخَلَّفُونَ) هم المتركون في المدينة تركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون لأنهم غير أهل لصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذا كره الله انبعاثهم فثبظهم أما هم فإنهم فرحوا بتخلفهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفاقهم وفسقهم.

(٢) (خِلافَ) لغة في خلف ، واختير لفظ خلاف إشارة إلى أنّ المنافقين يحبّون مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وقعودهم وإن كان بإذن فإنه مخالف لإرادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالنفير العام وجاءوا هم يستأذنون في القعود.

(٣) (فَلْيَضْحَكُوا) أمر ، ومعناه التهديد أي : فليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في الآخرة كثيرا ، أو هو أمر بمعنى الخبر وهو صحيح إذ هذا هو حالهم ومنتهى أمرهم.

(٤) قوله : (إِلى طائِفَةٍ) دليل على أن من المتخلفين ما كانوا منافقين ككعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع العامري.

(٥) (الْخالِفِينَ) جمع خالف ، كأنهم خلفوا الخارجين في ديارهم ، واختيار لفظ الخالفين يحمل سبّا لهم وعيبا ، إذ الخالفون النساء ، وخلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم ، ومنه خلف اللبن : إذا فسد بطول المكث في الإناء ، وفي هذا دليل على أن استصحاب المخذل الفاسد في الغزوات لا يليق.

والأطفال فإن هذا يزيد في همهم ويعظم حسرتهم جزاء تخلفهم عن رسول الله وكراهيتهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من علامات النفاق الفرح بترك طاعة الله ورسوله.

٢ ـ من علامات النفاق كراهية طاعة الله ورسوله.

٣ ـ كراهية الضحك والإكثار منه. (١)

٤ ـ تعمد ترك الطاعة قد يسبب الحرمان منها.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))

شرح الكلمات :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ) : أي صلاة الجنازة.

(وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) : أي لا تتول دفنه والدعاء له كما تفعل مع المؤمنين.

(وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) : أي خارجون عن طاعة الله ورسوله.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) : أي تخرج أرواحهم بالموت وهم كافرون.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في شأن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك ، وإن كانت هذه الآية

__________________

(١) صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى) وورد أن كثرة الضحك تميت القلب وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جل ضحكه الابتسام.

نزلت في (١) شأن عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين وذلك أنه لما مات طلب ولده الحباب الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله وقال له الحباب اسم الشيطان وسماه عبد الله جاءه فقال يا رسول الله إن أبي قد مات فأعطني قميصك (٢) أكفنه فيه «رجاء بركته» وصل عليه واستغفر له يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القميص وقال له إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر وقال له : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين فقال بل خيرني فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم. فصلى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ (٣) ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي لا تتول دفنه والدعاء له بالتثيبت عند المسألة. وعلل تعالى لهذا الحكم بقوله (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) ، وقوله (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) أي لا تصل (٤) على أحد منهم مات يا رسول الله (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) فتصلي عليهم إني إنما أعطيتهم ذلك لا كرامة لهم وإنما لأعذبهم بها في الدنيا بالغموم والهموم (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي ويموتوا (وَهُمْ كافِرُونَ) فسينقلون إلى عذاب أبدي لا يخرجون منه ، وذلك جزاء من كفر بالله ورسوله.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة الصلاة على الكافر مطلقا.

٢ ـ حرمة غسل الكافر والقيام على دفنه والدعاء له.

__________________

(١) روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) وما في التفسير من خبر ابن أبيّ رواه مسلم.

(٢) فإن قيل : كيف يعطي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قميصه ليكفن فيه رئيس المنافقين وكيف صلى عليه واستغفر له وهو يعلم أنّه منافق؟ والجواب : أما اعطاؤه ثوبه ليكفن فيه فقد سبق أن أعطى عبد الله بن أبي ثوبا للعباس عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحفظ له هذه اليد فأعطاه ثوبه وأما الصلاة عليه فقد كانت قبل نهي الله تعالى عنها ، وأما الاستغفار فقد خير فيه بقوله (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فرأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استغفاره استئلافا للقلوب ففعل.

(٣) في الآية دليل على فرضية الصلاة على أموات المسلمين ، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم ، وفي الآية إحدى موافقات عمر رضي الله عنه إذ أنزل الله تعالى هذا الحكم وهو ترك الصلاة على المنافقين بعد أن قال عمر : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ، فالصلاة هنا هي الدعاء والاستغفار فلما صلى عليه نزلت الآية (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ ..) الخ فترك الصلاة على المنافقين.

(٤) صلاة الجنازة هي : أن يكبر ثم يقرأ الفاتحة ثم يكبر ويصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يكبر ويدعو للميت ، ثم يكبر الرابعة ويسلم لفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وقوله : (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود ، ويستحب أن يقف الإمام عند رأس الرجل ، وعجيزة المرأة ، لورود الحديث بذلك في مسلم وأبي داود.

٣ ـ كراهة الصلاة على أهل الفسق دون الكفر.

٤ ـ حرمة الإعجاب بأحوال الكافرين المادية.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

شرح الكلمات :

(اسْتَأْذَنَكَ) : أي طلبوا إذنك لهم بالتخلف.

(أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) : أي أولو الثروة والغنى.

(ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) : أي اتركنا مع المتخلفين من العجزة والمرضى والأطفال والنساء.

(مَعَ الْخَوالِفِ) : أي مع النساء جمع خالفة المرأة تخلف الرجل في البيت إذا غاب.

(طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي توالت ذنوبهم على قلوبهم فأصبحت طابعا عليها فحجبتها المعرفة.

(لَهُمُ الْخَيْراتُ) : أي في الدنيا بالنصر والغنيمة. وفي الآخرة بالجنة والكرامة فيها.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بالسلامة من المخوف والظفر بالمحبوب.

(الْمُعَذِّرُونَ) : أي المعتذرون.

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ) : أي ولم يأت الى طلب الإذن بالقعود عن الجهاد منافقوا الأعراب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في كشف عورات المنافقين وبيان أحوالهم فقال تعالى (وَإِذا أُنْزِلَتْ (١) سُورَةٌ) أي قطعة من القرآن آية أو آيات (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ (٢) رَسُولِهِ) أي تأمر بالإيمان بالله والجهاد مع رسوله (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) (٣) أي من المنافقين (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي المتخلفين عن الجهاد للعجز كالمرضى والنساء والأطفال قال تعالى : في عيبهم وتأنيبهم (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي مع النساء وذلك لجبنهم وهزيمتهم النفسية وقوله تعالى (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي طبع الله على قلوبهم بآثار ذنوبهم التي رانت على قلوبهم فلذا هم لا يفقهون معنى الكلام وإلا لما رضوا بوصمة العار وهي أن يكونوا في البيوت مع النساء هذه حال المنافقين وتلك فضائحهم إذا أنزلت سورة تأمر بالإيمان والجهاد يأتون في غير حياء ولا كرامة يستأذنون في البقاء مع النساء (لكِنِ (٤) الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ولم يستأذنوا ففازوا بكرامة الدنيا

__________________

(١) السورة. طائفة من آيات القرآن لها مبدأ ومختم ، والمراد بالسورة هنا : هذه السورة (التوبة) أو بعض آياتها الآمرة بالجهاد والإيمان.

(٢) (أَنْ آمِنُوا) أن : تفسيرية فسرت مضمون السورة وهو الإيمان والجهاد.

(٣) أي : في القعود والتخلف عن الجهاد وهم أصحاب القدرة على الجهاد لصحة أجسامهم وكثرة أموالهم أما العجزة فإنهم غير مأمورين بالجهاد ، والطول معناه : الغنى والقدرة المالية.

(٤) قوله : (لكِنِ) الخ استدراك بيّن فيه تعالى حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وأنها أكمل الأحوال بعد ذكر حال المنافقين وما هم عليه من صفات النقص إذ أخبر أنهم لجبنهم يطلبون القعود عن الجهاد وأنهم لما ران على قلوبهم من أوضار الكفر والفسق لا يفقهون الكلام ولا يعرفون ما يضرهم ولا ما ينفعهم بخلاف الرسول والمؤمنين فقد ذكر صفاتهم الكمالية ، وهي الجهاد بالمال والنفس وما فازوا به من عظيم الخيرات ، وما آلوا إليه من الفلاح وهو النجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب.

والآخرة قال تعالى (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) (١) أي في الدنيا بالانتصارات والغنائم وفي الآخرة بالجنة ونعيمها ورضوان الله فيها. وقال (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالسلامة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب وفسر تعالى تلك الخيرات وذلك الفلاح بقوله في الآية (٨٩) فقال (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وأخبر عما أعد لهم من ذلك النعيم المقيم بأنه الفوز فقال (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). هذا ما دلت عليه الآيات الأربع أما الآية الخامسة (٩٠) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن منافقي الأعراب أي البادية ، فقال تعالى (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) (٢) أي المعتذرون ادغمت التاء في الذال فصارت المعذرون من الأعراب أي من سكان البادية كأسد وغطفان ورهط عامر بن الطفيل جاءوا يطلبون الإذن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتخلف بدعوى الجهد والمخمصة ، وقد يكونون معذورين حقا وقد لا يكونون كذلك. وقوله (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في دعوى الإيمان بالله ورسوله وما هم بمؤمنين بل هم كافرون منافقون ، فلذا قال تعالى فيهم (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا وفي الآخرة ، إن ماتوا على كفرهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن هو مصدر التشريع الإلهي الأول والسنة الثاني.

٢ ـ مشروعية الاستئذان للحاجة الملحة.

٣ ـ حرمة الاستئذان للتخلف عن الجهاد مع القدرة عليه.

٤ ـ حرمة التخلف عن الجهاد بدون إذن من الإمام.

٥ ـ فضل الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.

٦ ـ بيان عظم الأجر وعظيم الجزاء لأهل الإيمان والجهاد.

__________________

(١) الخيرات : جمع خير على غير قياس كسرادقات ، وحمامات جمع سرادق وحمام.

(٢) (الْمُعَذِّرُونَ) هذا اللفظ صالح لأن يكون المراد به المعتذرون لعلل قامت بهم وصالح لأن يكون المراد به المعذرون وهم الذين لا عذر لهم ويعتذرون بغير حق موجب للعذر يقال : عذر فلان : إذا قصّر في الواجب واعتذر بدون عذر قام به. وهذا من بلاغة القرآن ، اللفظ الواحد منه يحتمل وجهين وكلاهما حق ومراد.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢))

شرح الكلمات :

(عَلَى الضُّعَفاءِ) : أي كالشيوخ. ولا على المرضى : كالعمى والزمنى

(حَرَجٌ) : أي إثم على التخلف.

(إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) : أي لا حرج عليهم في التخلف إذا نصحوا لله ورسوله وذلك بطاعتهم لله ورسوله مع تركهم الإرجاف والتثبيط.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) : أي من طريق إلى مؤاخذتهم.

(لِتَحْمِلَهُمْ) : أي على رواحل يركبونها.

(تَوَلَّوْا) : أي رجعوا الى بيوتهم.

(تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) : أي تسيل بالدموع الغزيرة حزنا على عدم الخروج.

معنى الآيتين :

لما ندد تعالى بالمتخلفين وتوعد بالعذاب الأليم الذين لم يعتذروا منهم ذكر في هذه الآيات أنه لا حرج على أصحاب الأعزار وهم الضعفاء ، كالشيوخ والمرضى والعميان وذوو العرج (١) والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ولكن بشرط نصحهم لله ورسوله فقال عز

__________________

(١) شاهده من سورة الفتح : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

وجل (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) أي إثم (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (١) ومعنى النصح لله ورسوله طاعتهما في الأمر والنهي وترك الإرجاف والتثبيط والدعاية المضادة لله ورسوله والمؤمنين والجهاد في سبيل الله وقوله تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس على من أحسنوا في تخلفهم لأنه أولا بعذر شرعي (٢) وثانيا هم مطيعون لله ورسوله وثالثا قلوبهم ووجوههم مع الله ورسوله وإن تخلفوا بأجسادهم للعذر فهؤلاء ما عليهم من طريق إلى انتقاصهم أو أذيتهم بحال من الأحوال ، كما ليس من سبيل (عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) إلى الجهاد معك في سيرك (قُلْتَ) معتذرا إليهم (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) أي رجعوا إلى منازلهم وهم يبكون والدموع تفيض من أعينهم (٣) حزنا (أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) في سيرهم معكم وهم نفر منهم العرباص بن سارية وبنو مقرن وهم بطن من مزينة. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ لا حرج على أصحاب الأعذار الذين ذكر الله تعالى في قوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وفي هذه الآية (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) حرج وبشرط طاعة الله والرسول فيما يستطيعون والنصح (٤) لله والرسول بالقول والعمل وترك التثبيط والتخذيل والإرجاف من الإشاعات المضادة للإسلام والمسلمين.

__________________

(١) قال القرطبي : (نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) إذا عرفوا الحق وأحبّوا أولياءه وأبغضوا أعداءه ، ومع قبول أعذار أصحاب الأعذار فقد خرج ابن ام مكتوم إلى أحد وهو رجل أعمى ، وطلب أن يعطى الراية ليحملها ، وخرج عمرو بن الجموح وهو أعرج خرج إلى أحد فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنّ الله قد عذرك) فقال : والله لأحفرنّ بعرجتي هذه في الجنة.

(٢) روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلّا وهم معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال : حبسهم العذر؟)

(٣) (حَزَناً) منصوب على أنه مفعول لأجله ، وجملة : (وَأَعْيُنُهُمْ) : حال من (تَوَلَّوْا).

(٤) النصح : إخلاص العمل من الغش يقال : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (الدين النصيحة ـ ثلاثا ـ قلنا لمن يا رسول الله قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) ذكر القرطبي معاني هذه النصائح بالتفصيل عند تفسير هذه الآية فليرجع إليها من طلب ذلك.

٢ ـ مظاهر الكمال المحمدي في تواضعه ورحمته وبره وإحسانه إلى المؤمنين

٣ ـ بيان ما كان عليه أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار من الإيمان واليقين والسمع والطاعة والمحبة والولاء ورقة القلوب وصفاء الأرواح.

اللهم إنا نحبهم بحبك فأحببنا كما أحببتهم واجمعنا معهم في دار كرامتك.

الجزء الحادي عشر

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) : أي الطريق إلى المعاقبة.

(أَغْنِياءُ) : واجدون لأهبة الجهاد مع سلامة أبدانهم.

(الْخَوالِفِ) : أي النساء والأطفال والعجزة.

(إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) : أي إذا عدتم إليهم من تبوك ، وكانوا بضعا وثمانين رجلا.

(لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) : أي لن نصدقكم فيما تقولون.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ) : أي يوم القيامة.

(إِذَا انْقَلَبْتُمْ) : أي رجعتم من تبوك.

(لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) : أي لا تعاقبوهم.

(رِجْسٌ) : أي نجس لخبث بواطنهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في المخلّفين من المنافقين وغير المنافقين فقال تعالى (إِنَّمَا (١) السَّبِيلُ) أي الطريق إلى عقاب المخلّفين على الذين يستأذنونك في التخلّف عن الغزو وهم أغنياء أي ذوو قدرة (٢) على النفقة والسير (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي النساء (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بسبب ذنوبهم فهم لذلك لا يعلمون أن تخلفهم عن رسول الله لا يجديهم نفعا وأنه يجرّ عليهم البلاء الذي لا يطيقونه. هؤلاء هم الذين لكم سبيل على عقابهم ومؤاخذتهم ، لا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، وطلبوا منك حملانا فلم تجد ما تحملهم عليه فرجعوا إلى منازلهم وهم يبكون حزنا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٣) أما الآيات الثلاث بعدها فهي في المخلّفين من المنافقين يخبر تعالى عنهم فيقول (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) يطلبون العذر منكم إذا رجعتم إلى المدينة من غزوكم. قل لهم يا رسولنا لا تعتذروا لأننا لا نؤمن لكم أى لا نصدقكم فيما تقولونه ، لأن الله تعالى قد نبّأنا من أخباركم (٣) وسيرى الله عملكم (٤) ورسوله. إن أنتم تبتم فأخلصتم دينكم لله ، أو أصررتم على كفركم ونفاقكم ، وستردّون بعد موتكم إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى فينبئكم يوم القيامة بعد بعثكم بما كنتم تعملون من حسنات أو سيئآت ويجزيكم بذلك الجزاء العادل. وقوله تعالى (سَيَحْلِفُونَ (٥) بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين فيقول سيحلف لكم هؤلاء المخلّفون إذا رجعتم إليهم أي إلى المدينة من أجل أن تعرضوا عنهم فأعرضوا (٦) عنهم أي لا تؤاخذوهم ولا تلتفوا إليهم إنهم رجس أي نجس ، ومأواهم جهنم جزاء لهم بما كانوا يكسبونه من

__________________

(١) أي : العقوبة والإثم.

(٢) هؤلاء هم المنافقون تردد ذكرهم تنديدا بهم وكشفا لحالهم وتحذيرا من سلوكهم.

(٣) أي : أطلعنا على سرائركم وما تخفي نفوسكم.

(٤) أي : ما تستأنفونه من أعمال بعد اليوم صالحة أو طالحة.

(٥) أي : بأنهم ما قدروا على الخروج لأعذار لهم يدّعونها كذبا لتصفحوا عنهم ، وتتركوا لومهم وعتابهم.

(٦) الفاء تفريعية أي : إذا كانوا يريدون الإعراض عنكم فأعرضوا عنهم وجملة : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) : تعليلية أي علة للإذن لهم بالإعراض عنهم يريد : إنهم ذوو رجس.

الكفر والنفاق والمعاصي. وقوله تعالى (يَحْلِفُونَ لَكُمْ) (١) معتذرين بأنواع من المعاذير لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فلن ينفعهم رضاكم شيئا لأنهم فاسقون والله لا يرضى عن القوم الفاسقين وما دام لا يرضى عنهم فهو ساخط عليهم ، ومن سخط الله عليه أهلكه وعذبه فلذا رضاكم عنهم وعدمه سواء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا سبيل إلى أذيّة المؤمنين الصادقين إذا تخلّفوا فإنهم ما تخلفوا إلا لعذر. وإنما السبيل على الأغنياء القادرين على السير إلى الجهاد وقعدوا عنه لنفاقهم.

٢ ـ مشروعية الاعتذار على شرط أن يكون المرء صادقا في اعتذاره.

٣ ـ المنافقون كالمشركين رجس أي نجس لأن بواطنهم خبيثة بالشرك والكفر وأعمالهم الباطنة خبيثة أيضا إذ كلها تآمر على المسلمين ومكر بهم وكيد لهم.

٤ ـ حرمة الرضا على الفاسق المجاهر بفسقه ، إذ يجب بغضه فكيف يرضى عنه ويحب؟

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

شرح الكلمات :

__________________

(١) المراد به : عبد الله بن أبيّ إذ حلف أن لا يتخلّف بعد اليوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب أن يرضى عنه.

(الْأَعْرابُ) (١) : جمع أعرابي وهو من سكن البادية.

(أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) : أي من كفار ومنافقي الحاضرة.

(وَأَجْدَرُ) (٢) : أي أحق وأولى.

(حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) : أي بشرائع الإسلام.

(مَغْرَماً) : أي غرامة وخسرانا.

(وَيَتَرَبَّصُ) : أي ينتظر.

(الدَّوائِرَ) : جمع دائرة : ما يحيط بالإنسان من مصيبة أو نكبة.

(دائِرَةُ السَّوْءِ) : أي المصيبة التي تسوءهم ولا تسرهم وهي الهلاك.

(قُرُباتٍ) : جمع قربة وهي المنزلة المحمودة.

(وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) : أي دعاؤه لهم بالخير.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الكشف عن المنافقين وإعدادهم للتوبة أو للقضاء عليهم ففي الآية الأولى (٩٧) يخبر تعالى أن الأعراب (٣) وهم سكان البادية من العرب أشد كفرا ونفاقا من كفار الحضر ومنافقيهم. وإنهم أجدر أي أخلق وأحق أي بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي من الأحكام (٤) والسنن وذلك لبعدهم عن الاتصال بأهل الحاضرة وقوله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بخلقه حكيم في شرعه فما أخبر به هو الحق الواقع ، وما قضى به هو العدل الواجب. وقوله تعالى في الآية الثانية (٩٨) (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) (٥) أي من بعض الأعراب من يجعل ما ينفقه في الجهاد غرامة لزمته وخسارة لحقته في ماله وذلك لأنه لا يؤمن بالثواب والعقاب الأخروي

__________________

(١) والعرب : جيل من الناس واحدهم عربي وهم أهل الأمصار ، والعرب العاربة : هم الخلص ، والمستعربة هم الذين ليسوا بخلّص كأولاد اسماعيل عليه‌السلام ، ويعرب بن قحطان هو أوّل من تكلّم بالعربية وهو أبو اليمن كلها.

(٢) (أَجْدَرُ) مأخوذ من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء.

(٣) لمّا ذكر تعالى حال منافقي الحضر ذكر هنا حال منافقي البادية ليعرف الجميع.

(٤) وكذلك لا يعلمون حجج الله تعالى في ألوهيته وبعثة رسوله لقلّة نظرهم وسوء فهمهم ، ولذا لا حق لهم في الفيء ، والغنمية إلا أن يجاهدوا أو يتحولوا إلى الحواضر ويتركوا البادية لحديث مسلم. واختلف في صحة شهادة البادي على الحاضر ، والراجح أنها تصح إذا كان عدلا. وتكره إمامتهم لأهل الحضر عند مالك ، وذلك لجهلهم بالشريعة وتركهم الجمعة.

(٥) أي غرما وخسرانا ، وأصله لزوم الشيء ، ومنه (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي : لازما.

لأنه كافر بالله ولقاء الله تعالى. وقوله عزوجل (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي وينتظر بكم أيها المسلمون الدوائر متى تنزل بكم فيتخلص منكم ومن الانفاق لكم والدوائر جمع دائرة المصيبة والنازلة من الأحداث وقوله تعالى (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (١) هذه الجملة دعاء عليهم. جزاء ما يتربصون بالمؤمنين. وقوله (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لأقوالهم عليم بنياتهم فلذا دعا عليهم بما يستحقون. وقوله تعالى في الآية الثالثة (٩٩) (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (٢) وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) (٣) إخبار منه تعالى بأن الأعراب ليسوا سواء بل منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلذا هو يتخذ ما ينفق من نفقة في الجهاد قربات عند الله أي قربا يتقرب بها إلى الله تعالى ، ووسيلة للحصول على دعاء الرسول له ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أتاه المؤمن بزكاته أو صدقته يدعو له بخير ، كقوله لعبد الله بن أبي أوفى : اللهم صل على آل أبي أوفى ، وقوله تعالى (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) إخبار منه تعالى بأنه تقبلها منهم وصارت قربة (٤) لهم عنده تعالى ، وقوله تعالى (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) بشرى لهم بدخول الجنة ، وقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يؤكد وعد الله تعالى لهم بإدخالهم في رحمته التي هي الجنة فإنه يغفر ذنوبهم أولا ، ويدخلهم الجنة ثانيا هذه سنته تعالى في أوليائه ، يطهرهم ثم ينعم عليهم بجواره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن سكان البادية يحرمون من كثير من الآداب والمعارف فلذا سكن البادية غير محمود إلا إذا كان فرارا من الفتن.

٢ ـ من الأعراب المؤمن والكافر والبر والتقي والعاصي والفاجر كسكان المدن إلا أن كفار البادية ومنافقيها أشد كفرا ونفاقا لتأثير البيئة.

٣ ـ فضل النفقة في سبيل الله والإخلاص فيها لله تعالى.

__________________

(١) قرىء السّوء بالفتح والضم إلا قوله : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) فإنه بالفتح لا غير ، إذ السوء بالضم : المكروه ، والسوء بالفتح : الفساد. امرؤ سوء : أي : فاسد.

(٢) قيل : هم بنو مقرّن من مزينة.

(٣) صلوات الرسول هي استغفاره ودعاؤه لهم بالخير والبركة.

(٤) أي : تقرّبهم من الله تعالى.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

شرح الكلمات :

(وَالسَّابِقُونَ) : أي إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد.

(اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) : أي في أعمالهم الصالحة.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : بسبب طاعتهم له وإنابتهم إليه وخشيتهم منه ورغبتهم فيما لديه.

(وَرَضُوا عَنْهُ) : بما أنعم عليهم من جلائل النعم وعظائم المنن.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) : أي حول المدينة من قبائل العرب.

(مَرَدُوا) : مرقوا وحذقوه وعتوا فيه.

(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) : الأولى قد تكون فضيحتهم بين المسلمين والثانية عذاب القبر.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ (١) الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢) وهم الذين سبقوا غيرهم

__________________

(١) (السَّابِقُونَ) هم الذين صلّوا إلى القبلتين وأفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون من المبشرين بالجنة ثم أهل بدر ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوات بالحديبية ، وأفضلهم أبو بكر على الإطلاق.

(٢) (الْأَنْصارِ) : هم من أسلم من الأوس والخزرج بالمدينة ولم يعرفوا في الجاهلية بهذا الاسم وإنما سماهم الله تعالى به في الإسلام.

إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد ، والذين اتبعوهم (١) في ذلك وأحسنوا أعمالهم فكانت موافقة لما شرع الله وبين رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ الجميع رضي الله عنهم بإيمانهم وصالح أعمالهم ، ورضوا عنه بما أنالهم من إنعام وتكريم ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا أي وبشرهم بما أعد لهم من جنات وقوله (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك المذكور من رضاه تعالى عنهم ورضاهم عنه وإعداد الجنة لهم هو الفوز العظيم ، والفوز السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب فالنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم ، هذا ما دلت عليه الاية الأولى (١٠٠) وأما الآية الثانية فقد تضمنت الإخبار بوجود منافقين في الأعراب (٢) حول المدينة ، ومنافقين في داخل المدينة ، إلا أنهم لتمرسهم وتمردهم في النفاق أصبحوا لا يعرفون ، لكن الله تعالى يعلمهم هذا معنى قوله تعالى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا (٣) عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ، وقوله تعالى (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وعيد لهم نافذ فيهم لا محالة وهو أنه تعالى سيعذبهم في الدنيا مرتين مرة بفضحهم أو بما شاء من عذاب ومرة في قبورهم ، ثم بعد البعث يردهم إلى عذاب النار وهو العذاب العظيم ، وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٠٢) (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٤) هؤلاء أناس آخرون تخلفوا عن الجهاد بغير عذر وهم أبو لبابة ونفر معه ستة أو سبعة أنفار ربطوا أنفسهم في سواري المسجد لما سمعوا ما نزل في المتخلفين وقالوا لن نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلطوا عملا صالحا وهو إيمانهم وجهادهم وإسلامهم وعملا سيئا وهو تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر ، فقوله تعالى (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إعلامهم بتوبة الله تعالى عليهم فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحل رباطهم وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها واستغفر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا.

__________________

(١) التابعون : جمع تابع أو تابعي ، وهم الذين صحبوا الصحابة ، وأكبر التابعين : الفقهاء السبعة وهم : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير ، وخارجة بن زيد ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، وسليمان بن يسار. وكلهم من المدينة النبوية وأفضل نساء التابعين حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن وأم الدرداء.

(٢) الأحياء الذين كانوا حول المدينة هم : مزينة وجهينة وأسلم ، وغفار وأشجع ولحيان وعصيّة وكان منهم منافقون.

(٣) يقال : مرد على الأمر : إذا مرن عليه ودرب به ، ومنه الشيطان المارد سئل حذيفة عن المنافقين فأخبر أنهم اثنا عشر. ستة ماتوا بالدبيلة وأربعة ماتوا موتا عاديا.

(٤) (خَلَطُوا) يريد خلطوا حسنات أعمالهم الصالحة بسيئات التخلف عن الغزو والإنفاق في الجهاد والسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك. وعسى : فعل رجاء وهي في كلام الله تعالى كناية عن وقوع المرجو لا محالة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل السبق للخير والفوز بالأولية فيه.

٢ ـ فضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غيرهم ممن جاء بعدهم.

٣ ـ فضل التابعين لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أحسنوا المتابعة.

٤ ـ علم ما في القلوب إلى الله تعالى فلا يعلم أحد من الغيب إلا ما علّمه الله عزوجل.

٥ ـ الرجاء لأهل التوحيد الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا بأن يغفر الله لهم ويرحمهم.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

شرح الكلمات :

(صَدَقَةً) : مالا يتقرب به إلى الله تعالى.

(تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) : أي تطهرهم من ذنوبهم ، وتزكيهم أنت أيها الرسول بها بدعائك لهم وثنائك عليهم.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) : أي ادع لهم بالخير.

(إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) : أي دعاءك رحمة.

(وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) : يتقبلها.

(مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) : مؤخرون لحكم الله وقضائه.

(عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : أي بخلقه نيات وأموالا وأعمالا حكيم في قضائه وشرعه.

معنى الآيات :

لقد تقدم في الآية قبل هذه أن المتخلفين التائبين قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه أموالنا (١) التي تخلفنا بسببها صدقة فخذها يا رسول الله فقال لهم إني لم أؤمر بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية (خُذْ مِنْ) (٢) (أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ، وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فأمر تعالى رسوله أن يأخذ صدقة هؤلاء التائبين لأنها تطهرهم من ذنوبهم ومن أوضار الشّح في نفوسهم وتزكيهم أيها الرسول بها بقبولك لها وصل عليهم أي ادع لهم بخير ، إن صلاتك سكن (٣) لهم أي رحمة وطمأنينة في نفوسهم والله سميع لأقوالهم لمّا قدموا صدقتهم وقالوا خذها يا رسول الله عليم بنياتهم وبواعث نفوسهم فهم تائبون توبة صدق وحق. وقوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الاستفهام للتقرير أي هم يعلمون ذلك قطعا ، ويأخذ الصدقات (٤) أي يقبلها ، وأن الله هو التواب أي كثير قبول التوبة من التائبين الرحيم بعباده المؤمنين ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم حاضا لهم على العمل الصالح تطهيرا لهم وتزكية لنفوسهم (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (٥) فيشكر لكم ويثني به عليكم (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وهو الله عزوجل (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجزيكم به الحسن بالحسن والسيء بمثله. وقوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ. إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ

__________________

(١) المال في فصيح اللغة : هو كل ما تموّل وتملك فهو مال. والمراد من قولهم هذه أموالنا يعنون ما لديهم من سائر أنواع المال. وأما في الزكوات فإنها خاصة بالعين والمواشي والثمار والحبوب بشروطها التي هي النصاب والحول في العين والحصاد في الحبوب والتمر بلوغ خمسة أوسق ، والوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد.

(٢) هذه الآية وإن نزلت في الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فإنها عامة في الأمة فعلى ولاة أمور المسلمين أن يجبوا الزكوات ويأخذوها من الأمة فريضة الله تعالى على المسلمين للقيام بمصالح المسلمين ، والذين قدّموا أموالهم كلها أخذ منها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثلث ، وردّ عليهم الباقي. فقال مالك من تصدق بجميع ماله يجزئه منه الثلث أخذا من هذه الحادثة.

(٣) معناه أنه إذا دعا لهم سكنت قلوبهم وفرحوا ، واختلف هل هذه الصلاة على المتصدق باقية أو انتهت بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والصحيح أنها باقية. فمن أخذ صدقة متصدق يصلي عليه اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) أخرج مسلم : (لا يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل).

(٥) روى أبو داود وأحمد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا به وان كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا).

عَلَيْهِمْ) هذا هو الصنف الثالث من أصناف المتخلفين فالأول هم المنافقون والثاني هم التائبون والثالث هو المقصود بهذه الآية وهم ثلاثة أنفار كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فهؤلاء لم يأتوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعتذروا إليه كما فعل التائبون المتصدقون بأموالهم منهم أبو لبابة حيث ربطوا أنفسهم في سواري المسجد فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقاطعتهم (١) حتى يحكم الله فيهم ، وهو معنى قوله تعالى (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فإن عذبهم أو تاب عليهم فذلك لعلمه وحكمته. وبقوا كذلك حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ثم تاب الله تعالى عليهم كما جاء ذلك بعد كذا آية من آخر هذه السورة (أَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الصدقة تكفر الذنوب وتطهر الأرواح من رذيلة الشّح والبخل.

٢ ـ يستحب لمن يأخذ صدقة امرىء مسلم أن يدعو له بمثل : آجرك الله (٢) على ما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت.

٣ ـ ينبغي للتائب من الذنب الكبير أن يكثر بعده من الصالحات كالصدقات والصلوات ونحوها.

٤ ـ فضيلة الخوف والرجاء فالخوف يحمل على ترك المعاصي والرجاء يحمل على الإكثار من الصالحات.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ

__________________

(١) هؤلاء هم : كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع.

(٢) هو معنى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) إذ الصلاة الدعاء لغة.

يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

شرح الكلمات :

(ضِراراً) : أي لأجل الإضرار.

(وَإِرْصاداً) : انتظارا وترقبا.

(إِلَّا الْحُسْنى) : أي إلا الخير والحال الأحسن.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) : أي لا تقم فيه للصلاة أبدا.

(أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) : أي بني على التقوى وهو مسجد قبا.

(فِيهِ رِجالٌ) : هم بنو عمرو بن عوف.

(عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ) : أي على خوف.

(وَرِضْوانٍ) : أي رجاء رضوان الله تعالى.

(عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) : أى على طرف جرف مشرف على السقوط ، وهو مسجد الضرار.

(رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) : أي شكا في نفوسهم.

(إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) : أي تفصل من صدورهم فيموتوا.

معنى الآيات

ما زال السياق في فضح المنافقين وإغلاق أبواب النفاق في وجوههم حتى يتوبوا الى الله تعالى أو يهلكوا وهم كافرون فقال تعالى ذاكرا فريقا منهم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً (١)

__________________

(١) روي أن رأس الفتنة كان أبا عامر الراهب الذي ذهب يستعدي الروم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً (١) بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ (٢) حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) إن المراد من هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا اثنا عشر رجلا من أهل المدينة كانوا قد أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو شاخص إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا للعاجز منا والمريض وللّيلة المطيرة فصلّ لنا فيه فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا الآن على جناح سفر وإن عدنا نصلي لكم فيه إن شاء الله أو كما قال. فلما عاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك ووصل الى مكان قريب من المدينة يقال له ذواوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار نزل عليه الوحي بشأن مسجد الضرار فبعث مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عاصما أخا بني العجلان فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال لمعن انظرني حتى أخرج إليك بنار فخرج بسعف نخل قد أضرم فيه النار واتيا المسجد وأهله فيه فأضرما فيه النار وهدماه وتفرق أهله ونزل فيهم قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) أي لأجل الإضرار بالمسجد النبوي ومسجد قباء حتى يأتيهما أهل الحى وقوله (وَكُفْراً) أي لأجل الكفر بالله ورسوله وقوله (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) علة ثالثة لبناء مسجد الضرار إذ كان أهل الحي مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا تفرقتهم في مسجدين حتى يجد هؤلاء المنافقون مجالا للتشكيك والطعن وتفريق صفوف المؤمنين على قاعدة : (فرق تسد) (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) وهو أبو عامر الراهب الفاسق لأنه عليه لعائن الله هو الذي أمرهم أن يبنوه ليكون وكرا للتآمر والكيد وهذا الفاسق قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما وجدت قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فكان مع المشركين فى حروبهم كلها إلى أن انهزم المشركون في هوازن وأيس اللعين ذهب إلى بلاد الروم يستعديهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن هنا أمر المنافقين ببناء مسجد الضرار ليكون كما ذكر تعالى حتى ينزل به مع جيوش الروم التي قد خرج يستعديها ويؤلّبها إلا أنه خاب في مسعاه وهلك بالشام إلى جهنم وبئس المصير فهذا معنى قوله تعالى (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل بناء مسجد الضرار الذي هدم وحرق وأصبح موضع قمامة تلقى فيه الجيف والقمائم.

__________________

(١) (ضِراراً) مفعول لأجله أي : لأجل مضارة أهل الإسلام بتفرقة المسلمين وإيجاد عداوات بينهم.

(٢) هو أبو عامر الراهب ، وسمي الراهب : لأنه تنصّر وتعبد على دين النصارى ولما انهزمت ثقيف التحق بالروم ومات كافرا.

نالته دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) هذا قولهم لما حرق عليهم المسجد وهدم وانفضح أمرهم حلفوا ما أرادوا ببنائه إلا الحالة التي هي حسنى لا سوء فيها إذ قالوا بنيناه لأجل ذي العلة ولليلة المطيرة. وقوله تعالى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تفنيد لقولهم وتقرير لكذبهم. وقوله تعالى (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) (١) نهي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلى لهم فيه كما واعدهم وهو ذاهب إلى تبوك. وقوله تعالى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ (٢) عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) وهو مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسجد قباء إذ كل منهما أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان أي على خوف من الله وطلب رضاه ، وقوله تعالى (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ثناء على أهل قباء بخير واخبار أنهم يحبون أن يتطهروا (٣) من الخبث الحسّى والمعنوى فكانوا يجمعون فى الاستنجاء بين الحجارة والماء فأثنى الله تعالى عليهم بذلك ، وقوله تعالى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) أى على مخافة من الله وطلب لرضاه خير أمن أسس بنيانه على شفا أي طرف جرف هار أي مشرف على السقوط ، والجرف (٤) ما يكون في حافة الوادي من أرض يجرف السيل من تحتها التراب وتبقى قائمة ولكنها مشرفة على السقوط ، وقوله تعالى (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي سقط به ذلك الجرف في نار جهنم والعياذ بالله تعالى ، هذا حال أولئك المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار. وقوله تعالى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يهديهم إلى ما يكملون به ويسعدون أي يحرمهم هدايته فيخسرون دنيا وأخرى وقوله تعالى (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) (٥) أي شكا واضطرابا في نفوسهم (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ (٦) قُلُوبُهُمْ) فيهلكوا والشك في قلوبهم أي فكان هذا البناء الظالم سببا في تأصل النفاق

__________________

(١) أي : (لا تَقُمْ فِيهِ) للصلاة. يقال : فلان قائم يصلي. و (أَبَداً) معناه في أي وقت من الأوقات مطلقا. فأبدا : لفظ يفيد التأبيد المطلق.

(٢) (أُسِّسَ) أي : وضعت أسسه وبنيت جدره ورفعت قواعده إذ الأس : أصل البناء ، وكذلك الأساس ، والجمع أسس وآساس جمع إساس. قال الشاعر :

أصح الملك ثابت الآساس

في البهاليل من بني العباس

(٣) لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أهل قباء إن الله سبحانه قد أحسن الثناء عليكم فى التطهر فما تصنعون؟ قالوا : إنّا نغسل أثر الغائط والبول بالماء). رواه أبو داود. فكانوا يجمعون بين الاستجمار والاستنجاء مبالغة في التطهر ، وإن كان الاستجمار مجزئا تخفيفا على الأمة المسلمة.

(٤) الجرف : بالضم والإسكان كالرسل والرسل ، وأصله من الجرف والإجتراف وهو اقتلاع الشيء من أصله.

(٥) وقيل : الريبة هنا : الحسرة والندامة ، وحزازة وغيظا والكل صالح لدلالة اللفظ عليه.

(٦) أي : إلى أن تقطع قلوبهم بالموت أي : إلا أن يموتوا.

والكفر في قلوبهم حتى يموتوا كافرين وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل للكلام بما يقرر مضمونه ويثبته فكونه تعالى علميا حكيما يستلزم حرمان أولئك الظلمة المنافقين من الهداية حتى يموتوا وهم كافرون إلى جهنم وذلك لتوغلهم في الظلم والشر والفساد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أكبر مؤامرة ضد الإسلام قام بها المنافقون بارشاد الفاسق أبي عامر الراهب.

٢ ـ بيان أن تنازع الشرف هو سبب البلاء كل البلاء فابن أبيّ حارب الإسلام لأنه كان يؤمّل في السّلطة على أهل المدينة فحرمها بالإسلام. وأبو عامر الراهب ترهّب لأجل الشرف على أهل المدينة والسلطان الروحى فلذا لما فقدها حارب من كان سبب حرمانه وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال له مواجهة : ما قاتلك قوم إلا قاتلتك معهم. بل ذهب إلى الروم يؤلّبهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليهود ما حاربوا الإسلام إلا من أجل المحافظة على أملهم في مملكة إسرائيل.

٣ ـ لا يصح الإغترار بأقوال أهل النفاق فإنها كذب كلها.

٤ ـ أيما مسجد بني للإضرار والتفرقة بين المسلمين إلا ويجب هدمه وتحرم الصلاة فيه.

٥ ـ فضل التطهر والمبالغة في الطهارتين الروحية والبدنية.

٦ ـ التحذير من الظلم والإسراف فيه فإنه يحرم صاحبه هداية الله فيهلك وهو ظالم فيخسر دنيا وأخرى.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ

الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

شرح الكلمات :

(الْجَنَّةَ) : هي دار السّلام التي أعدها الله تعالى للمتقين.

(يُقاتِلُونَ) : أي الكفار والمشركين.

(وَعْداً) : أي وعدهم وعدا حقا.

(فِي التَّوْراةِ) : أي مذكورا في التوراة والإنجيل والقرآن.

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) : أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : أي ذلك البيع هو الفوز العظيم.

(التَّائِبُونَ) : أي من الشرك والنفاق والمعاصي.

(الْعابِدُونَ) : أي المطيعون لله في تذلل وخشوع مع حبهم لله وتعظيمهم له.

(السَّائِحُونَ) : أي الصائمون والخارجون في سبيل الله لطلب علم أو تعليمه أو جهاد لأعدائه.

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : أي بعبادة لله الله تعالى وتوحيده فيها.

(النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : أي عن الشرك والمعاصي.

(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) : أي القائمون عليها العاملون بها.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي بالجنة دار السّلام.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى حال المتخلفين عن الجهاد ذكر فضل الجهاد ترغيبا فيه وفيما أعد لأهله

فقال (إِنَّ اللهَ اشْتَرى (١) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٢) وهذا هو المثّمن الذي أعطى الله تعالى فيه الثمن وهو الجنة ، وقوله (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ) أي أعداء الله المشركين (وَيُقْتَلُونَ) (٣) أي يستشهدون في معارك القتال وقوله (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا (٤) فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي وعدهم بذلك وعدا وأحقه حقا أي أثبته في الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن تقريرا له وتثبيتا وقوله (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) استفهام بمعنى النفي أي لا أحد مطلقا أوفى بعهده إذا عاهد من الله تعالى وقوله (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فبناء على ذلك فاستبشروا (٥) أيها المؤمنون ببيعكم الذى بايعتم الله تعالى به أي فسروا (٦) بذلك وافرحوا وذلك البيع والاستبشار هو الفوز العظيم الذي لا فوز خير ولا أعظم منه.

وقوله (التَّائِبُونَ) (٧) إلى قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) هو ذكر لأوصاف أهل البيع وتحديد لهم فهم الموصوفون بتسع صفات الأولى التائبون أي من الشرك والمعاصي والثانية العابدون وهم المطيعون لله طاعة ملؤها المحبة لله تعالى والتعظيم له والرهبة منه والثالثة الحامدون لله تعالى في السراء والضراء وعلى كل حال والرابعة السائحون وهم الصائمون كما في الحديث (٨) والذين يخرجون في سبيل الله لطلب علم أو غزو أو تعليم أو دعوة إلى الله تعالى ليعبد ويوحّد ويطاع في أمره ونهيه والخامسة والسادسة الراكعون الساجدون أي المقيمون الصلاة المكثرون من نوافلها كأنهم دائما في ركوع وسجود والسابعة والثامنة الآمرون بالمعروف وهو الإيمان بالله وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله

__________________

(١) حصل هذا البيع لبعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيعة العقبة ، إذ قال عبد الله بن رواحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالو : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة. قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل).

(٢) الباء في الشراء تدخل على الثمن تقول : بعتك الدار بكذا ألفا ، ولذا قال هنا : (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فالجنة هي الثمن المشترى به الأنفس والأموال.

(٣) قوله تعالى (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) بيّن فيه مكان تسليم البضاعة المشتراه وهي الأنفس.

(٤) (وَعْداً) و (حَقًّا) مصدران مؤكدان.

(٥) أي : أظهروا السرور على بشرة وجوهكم.

(٦) فسرّوا : أي أظهروا السرور.

(٧) (التَّائِبُونَ) هم الراجعون من الحالة المذمومة إلى الحالة المحمودة ، والتائب : الراجع ، والراجع إلى الطاعة أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين.

(٨) روى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ، ورواه أبو هريرة مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (سياحة أمتي الصيام) وروي أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله).

والناهون عن المنكر وهو الكفر به تعالى والشرك في عبادته ومعصية رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتاسعة الحافظون لحدود الله بالقيام عليها (١) وعملها بعد العلم بها وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) وهم أهل الإيمان الصادق الكامل المستحقون لبشرى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر والتأييد في الدنيا والنجاة من النار ودخول الجنة يوم القيامة اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل الله تعالى ومننه على عباده المؤمنين حيث وهبهم أرواحهم وأموالهم واشتراها منهم.

٢ ـ فضل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله.

٣ ـ على المؤمن أن يشعر نفسه أن بدنه وماله لله تعالى وأن عليه رعايتهما وحفظهما حتى ترفع راية الجهاد ويطالب إمام المسلمين بالنفس والمال فيقدم نفسه وماله إذ هما وديعة الله تعالى عنده.

٤ ـ على المؤمن أن لا يدخل الضرر على نفسه ولا على ماله بحكم أنهما لله تعالى.

٥ ـ على المؤمن أن يتعاهد نفسه ليرى هل هو متصف بهذه الصفات التسع أولا فإن رأى نقصا كمله وإن رأى كمالا حمد الله تعالى عليه وحفظه وحافظ عليه.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى

__________________

(١) أي : القائمون بما أمر الله به ، والمنتهون عمّا نهى عنه فحدود الله شرعه وهو فعل وترك ، ففعل الأمر وترك النهى هو الحفظ.

يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

شرح الكلمات :

(أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) : أي يسألون الله تعالى لهم المغفرة.

(أُولِي قُرْبى) : أصحاب قرابة كالأبّوة والبنوّة والأخوة.

(مَوْعِدَةٍ) : أي وعد وعده به.

(تَبَرَّأَ مِنْهُ) : أي قال : إني برىء منك.

(لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) : الأواه : كثير الدعاء والشكوى إلى الله تعالى والحليم الذي لا يغضب ولا يؤاخذ بالذنب.

(ما يَتَّقُونَ) : أي ما يتقون الله تعالى فيه فلا يفعلوه أو لا يتركوه.

(مِنْ وَلِيٍ) : الولي من يتولى أمرك فيحفظك ويعينك.

معنى الآيات :

لما مات أبو طالب (١) على الشرك بعد أن عرض عليه الرسول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فأبى أن يقولها وقال هو على ملة عبد المطلب قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك ، واستغفر بعض المؤمنين أيضا لأقربائهم الذين ماتوا على الشرك ، أنزل الله تعالى قوله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) إذ ماتوا على الشرك ومن مات على الشرك قضى الله تعالى بأنه في النار أي ما صح ولا انبغى (٢) للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا أي ما صح

__________________

(١) روى مسلم أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا عم قل (لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما تكلم به : هو على ملّة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك).

(٢) فإن قيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم أحد (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وهو طلب مغفرة ، وطلب المغفرة هو الاستغفار. فالجواب : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما قاله على سبيل الحكاية لا غير. إذ ذكر البخاري أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر عنه بأنّه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

ولا انبغى استغفارهم. ولما قال بعض إن ابراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك قال تعالى جوابا (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) وهي قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) لكنه عليه‌السلام لما تبين له أن أباه عدو لله أي مات على الشرك تبرأ منه ولم يستغفر له ، وقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١) تعليل لمواعدة إبراهيم أباه بالاستغفار له لأن إبراهيم كان كثير الدعاء والتضرع والتأسف والتحسر فلذا واعد أباه بالاستغفار له وقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) هذه الآية نزلت ردا على تساؤلات الذين قالوا متندمين لقد كنا استغفرنا لأقاربنا المشركين فخافوا فأخبرهم تعالى أنه ليس من شأنه تعالى أن يضل قوما بعد إذ هداهم إلى الصراط المستقيم حتى يبين لهم ما يتقون وأنتم استغفرتم لأقربائكم قبل أن يبين لكم أنه حرام. ولكن إذا أراد الله أن يضل قوما بين (٢) لهم ما يجب أن يتقوه فيه فإذا لم يتقوه أضلهم. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يضل إلا من يستحق الضلال كما أنه يهدي من يستحق الهداية وذلك لعلمه بكل شيء وقوله تعالى (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وتصرفا فهو يضل من يشاء ويهدي من يشاء يحيي ويميت يحيي بالإيمان ويميت بالكفر ويحيى الأموات ويميت الأحياء لكامل قدرته وعظيم سلطانه وقوله (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ليس لكم من يتولاكم إذا تخلى عنكم وليس لكم من ينصركم إذا خذلكم فلذا وجبت طاعته والاتكال عليه ، وحرم الالتفات الى غيره من سائر خلقه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الاستغفار لمن مات على الشرك لأن الله لا يغفر أن يشرك به فلذا لا يطلب منه شيء أخبر أنه لا يفعله.

٢ ـ وجوب الوفاء بالوعود والعهود.

__________________

(١) ذكروا لكملة أواه عشرة تأويلات وما ذكر في التفسير أولى بها كلها ولو قلنا إن الأواه كثير قول : أوّاه تأسفا وتحسرا وشفقة ورحمة لكان أولى بدلالة اللفظ عليه.

(٢) شاهد هذا قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) : فإنه يأمرهم أولا وينهاهم فإن لم يمتثلوا استحقوا العذاب.

٣ ـ ليس من سنة الله تعالى في الناس أن يضل عباده قبل أن يبين لهم ما يجب عليهم عمله أو اتقاؤه.

٤ ـ ليس للعبد من دون الله من ولي يتولاه ولا نصير ينصره ولذا وجبت ولاية الله بطاعته واللجوء إليه بالتوكل عليه.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

شرح الكلمات :

(الْمُهاجِرِينَ) : الذين هجروا ديارهم من مكة وغيرها ولحقوا برسول الله بالمدينة.

(الْأَنْصارِ) : هم سكان المدينة من الأوس والخزرج آمنوا ونصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ساعَةِ الْعُسْرَةِ) (١) : هي أيام الخروج إلى تبوك لشدة الحر والجوع والعطش.

(يَزِيغُ قُلُوبُ) : أي تميل عن الحق لشدة الحال وصعوبة الموقف.

(الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) : هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.

__________________

(١) لفظ الساعة يطلق على ظرف الزمان يطول ويقصر فقد أطلق على يوم القيامة وأطلق على ستين دقيقة ، والمراد بالساعة : أيام غزوة تبوك.

(بِما رَحُبَتْ) : أي على اتساعها ورحابتها.

(أَنْ لا مَلْجَأَ) : أي إذ لا مكان للّجوء فيه والهرب إليه.

(الصَّادِقِينَ) : في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم والصدق ضد الكذب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة تبوك وفي هذه الآيات الثلاث إعلان عن شرف وكرامة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه البررة من الأنصار والمهاجرة إذ قال تعالى (لَقَدْ تابَ اللهُ (١) عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أي أدامها (التوبة) وقبلها وقوله (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) (٢) أي عند خروجه إلى تبوك في الحر الشديد والفاقة الشديدة وقوله (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ (٣) فَرِيقٍ مِنْهُمْ) وذلك لصعوبة الحال وشدة الموقف لقد عطشوا يوما كما قال عمر رضي الله عنه كان أحدنا يذبح بعيره ويعصر فرثه فيشرب ماءه ويضع بعضه على كبده فخطر ببعض القوم خواطر كادت القلوب تزيغ أي تميل عن الحق ولكن الله تعالى ثبتهم فلم يقولوا سوءا ولم يعملوه لأجل هذا أعلن الله تعالى في هذه الآيات عن كرامتهم وعلو مقامهم ثم تاب عليهم إنّه هو التواب الرحيم وقوله (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ومعنى خلفوا أرجئوا في البت في توبتهم إذ تقدم قوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) فقد تخلفت توبتهم خمسين يوما (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ (٤) وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ (٥) وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) فصبروا على شدة ألم النفس من جراء المقاطعة التي أعلنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم انتظارا لحكم الله لأنهم تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ولم يكن لهم عذر ، فلذا لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقدم المخلفون فاعتذروا فقبل منهم رسول الله وتاب الله على المؤمنين منهم ولم يتقدم هؤلاء الثلاثة ليعتذروا خوفا من الكذب فآثروا جانب

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت التوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.

(٢) (العسرة) صعوبة الأمر ، قال جابر : اجتمع عليهم عسرة الظهر أي : (المركوب) وعسرة الزاد وعسرة الماء قال ابن عرفة : سمي جيش غزوة تبوك جيش العسرة : لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة الغيظ فغلظ عليهم وعسر.

(٣) تدارك قلوبهم حتى لم تزغ ، وتلك سنته مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب أمطر عليهم سحائب رحمته فأحيا قلوبهم.

(٤) (رَحُبَتْ) بمعنى : اتسعت ، وما : مصدرية ، أي ضاقت عليهم الأرض برحبها : أي : على رحبها لأنهم كانوا مهجورين لا يكلمون ولا يعاملون حتى من أقرب الناس إليهم ، وفي هذا دليل على مشروعية هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا.

(٥) أي : ضاقت صدورهم بالهمّ.

الصدق فأذاقهم الله ألم المقاطعة ثم تاب عليهم وجعلهم مثلا للصدق فدعا المؤمنين أن يكونوا معهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي اتقوا الله باتباع اوامره واجتناب نواهيه وكونوا من الصادقين (١) في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم تكونوا مع الصادقين في الآخرة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان فضل غزوة العسرة على غيرها من الغزوات «وهي غزوة تبوك»

٣ ـ بيان فضل الله على المؤمنين بعصمة قلوبهم من الزيغ في حال الشدة.

٤ ـ بيان فضل كعب بن مالك وصاحبيه في صبرهم وصدقهم ولجوئهم إلى الله تعالى حتى فرج عليهم وتاب عليهم وكانوا مثالا للصدق.

٥ ـ وجوب التقوى والصدق في النيات والأقوال والأحوال والأعمال.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ

__________________

(١) فسّر (الصَّادِقِينَ) : بأنهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم قال ابن العربي : هذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى.

وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) : وهم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم.

(وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) : أي يطلبون لأنفسهم الراحة ولنفس رسول الله التعب والمشقة.

(ظَمَأٌ) : أي عطش.

(وَلا نَصَبٌ) : أي ولا تعب.

(وَلا مَخْمَصَةٌ) : أي مجاعة شديدة.

(يَغِيظُ الْكُفَّارَ) : أي يصيبهم بغيظ في نفوسهم يحزنهم.

(نَيْلاً) : أي منالا من أسر أو قتل أو هزيمة للعدو.

(وادِياً) : الوادي : مسيل الماء بين جبلين أو مرتفعين.

(لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) : أي يخرجوا للغزو والجهاد جميعا.

(طائِفَةٌ) : أي جماعة معدودة.

(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) : أي ليعلموا أحكام الدين وأسرار شرائعه.

(وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) : أي ليخوفوهم عذاب النار بترك العمل بشرع الله.

(لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) : أي عذاب الله تعالى بالعلم والعمل.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في آثار أحداث غزوة تبوك فقال تعالى (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) (١)

__________________

(١) هذه الآية نزلت تحمل العتاب للمؤمنين من أهل المدينة والأحياء المجاورة لها كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك.

أي سكانها من المهاجرين والأنصار (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) أي ومن النازلين حول المدينة من الأعراب كمزينة وجهينة وغفار وأشجع وأسلم (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إذا خرج إلى جهاد ودعا بالنفير العام وفي هذا عتاب ولوم شديد لمن تخلفوا عن غزوة تبوك وقوله (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي بأن يطلبوا لأنفسهم الراحة دون نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (ذلِكَ) أي النهي الدال عليه بصيغة ما كان لأهل المدينة وهي أبلغ من النهي بأداته (لا) لأنه نفي للشأن أي هذا مما لا ينبغي أن يكون أبدا. وقوله (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ) بسبب أنهم لا يصيبهم (ظَمَأٌ) أي عطش (وَلا نَصَبٌ) أي تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) (١) أي جوع شديد في سبيل الله أي في جهاد أهل الكفر لإعلاء كلمة الإسلام التي هى كلمة الله (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) أي ولا يطأون أرضا من أرض العدو يغتاظ لها العدو الكافر ويحزن (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ) (٢) أي لله تعالى (نَيْلاً) أي منالا أي أسرى أو قتلى أو غنيمة منه أو هزيمة له (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) فلهذا لا ينبغي لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يفوتهم هذا الأجر العظيم. وقوله (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) تعليل لتقرير الأجر وإثباته لهم إن هم خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحسنوا الصحبة والعمل وقوله تعالى (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً) أي في سبيل الله الذي هو هنا الجهاد (صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي قليلة ولا كثيرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) ذاهبين إلى العدو أو راجعين (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) (٣) أي ذلك المذكور من النفقة والسير (٤) في سبيل الله. وقوله تعالى (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه قبل خروجهم في سبيل الله. وقوله تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) (٥) أي قبيلة منهم طائفة أي جماعة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) بما

__________________

(١) أصل المخمصة : ضمور البطن يقال : رجل خمص الباطن أي : ضامره وامرأة خمصانة.

(٢) يقال : نال الشيء يناله : إذا أصابه ، فينالون : بمعنى يصيبون.

(٣) قال ابن عباس بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. وجاء في الصحيح في شأن الخيل وفيه : (وأمّا التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب عدد ما أكلت حسنات ، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات).

(٤) روى مسلم وأبو داود أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم فيه قالوا يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم في المدينة؟ قال حبسهم العذر).

(٥) هذه الآية دليل على أن الجهاد فرض كفاية ولا يتعين إلا إذا عيّنة الإمام أو هاجم العدو دار قوم مؤمنين فيجب عليهم قتاله كافة كما هي نص في وجوب طلب العلم وهو بالرحلة الطويلة إليه. وفي الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهذا الحديث دليل على أن طلب العلم يكون فرض عين ويكون فرض كفاية.

يسمعون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتعلمونه منه (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) عواقب الشرك والشر والفساد (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ذلك فينجون من خزى الدنيا وعذاب الآخرة هذه الآية نزلت لما سمع المسلمون ورأوا نتائج التخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لن نتخلف بعد اليوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا ولا نتخلف عن غزو ما حيينا فأنزل الله تعالى هذه الآية يرشدهم إلى ما هو خير وأمثل فقال (فَلَوْ لا) أي فهلا نفر من كل فرقة منهم أي قبيلة أو حيّ من أحيائهم طائفة فقط وتبقى طائفة منهم بدل أن يخرجوا كلهم ويتركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده فإن خروجهم على هذا النظام أنفع لهم فالذين يبقون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يخرجون معه إذا خرج يتفقهون في الدين لصحبتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والباقون هم في مهام دينهم أيضا ودنياهم فإذا رجع أولئك المتفقهون علموا إخوانهم ما فاتهم من العلم وأسرار الشرع كما أن الذين ينفرون إلى الجهاد قد يشاهدون من نصر الله لأوليائه وهزيمته لأعدائه ويشاهدون أيضا ضعف الكفار وفساد قلوبهم وأخلاقهم وسوء حياتهم فيعودون إلى إخوانهم فينذرونهم ما عليه أهل الكفر والفساد فيحذرون منه ويتجنبونه وفي هذا خير للجميع وهو معنى قوله تعالى (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب إيثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النفس بكل خير بل بالحياة كلها.

٢ ـ بيان فضل السير في سبيل الله ، وما فيه من الأجر العظيم.

٣ ـ فضل الإحسان وأهله.

٤ ـ تساوي فضل طلب العلم والجهاد على شرط النية الصالحة في الكل وطالب العلم لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان يتعلم ليعلم فيعمل فيعلم مجانا في سبيل الله والمجاهد لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان لإعلاء كلمة الله خاصة.

٥ ـ حاجة الأمة إلى الجهاد والمجاهدين كحاجتها إلى العلم والعلماء سواء بسواء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا) : أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.

(الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) : أي يلون بلادكم وحدودها.

(مِنَ الْكُفَّارِ) : من : بيانيّة ، أي الكافرين.

(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) : أي قوة بأس وشدة مراس ليرهبوكم وينهزموا أمامكم.

(مَعَ الْمُتَّقِينَ) : أي بنصره وتأييده والمتقون هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والخروج عن السنن الإلهية في النصر والهزيمة.

معنى الآية الكريمة :

لما طهرت الجزيرة من الشرك وأصبحت دار إسلام وهذا في أخريات حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بعد غزوة تبوك أمر الله تعالى المؤمنين بأن يواصلوا الجهاد في سبيله بعد وفاة نبيه وأرشدهم إلى الطريقة التي يجب أن يتبعوها في ذلك وهي : أن يبدأوا بدعوة وقتال أقرب كافر منهم والمراد به الكافر المتاخم لحدودهم كالأردن أو الشام أو العراق مثلا فيعسكروا على مقربة منهم ويدعونهم إلى خصلة من ثلاث : الدخول في دين الله الإسلام أو قبول حماية المسلمين لهم بدخولهم البلاد وضرب الجزية على القادرين منهم مقابل حمايتهم وتعليمهم وحكمهم بالعدل والرحمة الإسلامية أو القتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم فإذا ضمت أرض هذا العدو إلى بلادهم وأصبحت لهم حدود أخرى فعلوا كما فعلوا أولا وهكذا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فتسعد البشرية في دنياها وآخرتها. وأمرهم أن يعلموا أن الله ما كلفهم بالجهاد إلا وهو معهم وناصرهم ولكن على شرط أن يتقوه في أمره ونهيه فهذا ما دلت عليه الآية الكريمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (١) قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (٢) أي قوة بأس وشدة مراس في الحرب (وَاعْلَمُوا (٣) أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي بنصره وتأييده.

__________________

(١) توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه إيماء إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يغزو لله بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب ، وفعلا فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما غزا بعد تبوك وإنّما حجّ حجة الوداع وبعدها بواحد وثمانين يوما استأثر الله تعالى بروحه الطاهرة الشريفة.

(٢) (غِلْظَةً) مثلثة الغين غلظة الكسر لغة الحجاز ، والضم لغة بني تميم ، والمراد الجرأة على القتال والصبر عليه مع العنف والشدة في القتل والقصد من هذا إلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يخشوا قتال المسلمين.

(٣) افتتاح الجملة ب اعلموا : للاهتمام بما يراد العلم به ، وفي الجملة تسلية للمؤمنين بعد فقد نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الله معهم بالنصر والتأييد فاتقوه بلزوم طاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمرهما ونهيهما في السلم والحرب.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة

١ ـ وجوب الجهاد واستمراريته إلى أن لا تبقى فتنة أو شرك أو اضطهاد لمؤمن ويكون الدين والحكم كلاهما لله تعالى.

٢ ـ مشروعية البداءة في الجهاد بأقرب الكفار إلى بلاد المسلمين من باب (الأقربون أولى بالمعروف).

٣ ـ إذا اتسعت بلاد الإسلام تعين على أهل كل ناحية قتال من يليهم الأقرب فالأقرب.

٤ ـ وعد الله بالنصر والتأييد لأهل التقوى العامة والخاصة.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

شرح الكلمات :

(سُورَةٌ) : أي قطعة من القرآن وسواء كانت آيات من سورة أو سورة بكاملها وحدها.

زادته إيمانا : أي السورة قوّت إيمانه وزادت فيه لأنها كالغيث النافع.

(يَسْتَبْشِرُونَ) : فرحين بفضل الله تعالى عليهم.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي شك ونفاق وشرك.

(فَزادَتْهُمْ رِجْساً) : أي نجسا إلى نجس قلوبهم ونفوسهم.

(يُفْتَنُونَ) : أي يمتحنون.

(وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) : أي لا يتعظون لموات قلوبهم.

(صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) : دعاء عليهم بأن لا يرجعوا إلى الحق بعد انصرافهم عنه.

(لا يَفْقَهُونَ) : أي لا يفهمون أسرار الخطاب لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.

معنى الآيات :

هذا آخر حديث عن المنافقين فى سورة براءة الفاضحة للمنافقين يقول تعالى (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) (١) أي من سور القرآن التي بلغت ١١٤ سورة نزلت وتليت وهم غائبون عن المجلس الذي تليت فيه ، فمنهم أي من المنافقين من يقول : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) (٢) وقولهم هذا تهكم منهم وازدراء قال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بحق وصدق (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأنها نزلت بأحكام أو أخبار لم تكن عندهم فآمنوا بها لما نزلت فزاد بذلك إيمانهم وكثر كما كان أن إيمانهم يقوى حتى يكون يقينا بما يتنزل من الآيات وقوله (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي فرحون مسرورون بالخبر الذي نزل والقرآن كله خير كما هم أيضا فرحون بإيمانهم وزيادة يقينهم (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق (فَزادَتْهُمْ رِجْساً) (٣) أي شكا ونفاقا (إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ). وقوله تعالى (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (٤) أي أيستمر هؤلاء المرضى بالنفاق على نفاقهم ولا يرون أنهم يفتنون أي من أجل نفاقهم مرة أو مرتين أي يختبرون بالتكاليف والفضائح وغيرها (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيتعظون فيتوبون هذا ما دلت عليه الآيات الأولى (١٢٤) والثانية (١٢٥) والثالثة (١٢٦) أما الآية الرابعة (١٢٧) فقد تضمنت سوء حال هؤلاء المنافقين وقبح سلوكهم فسجّلت عليهم وصمة عار وخزي إلى يوم القيامة إذ قال

__________________

(١) (ما) صلة لتقوية الكلام حسب الأسلوب العربي البليغ.

(٢) الإيمان لغة : التصديق. وشرعا : تصديق الله ورسوله في كل ما أخبرا به وأركانه ستة ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.

(٣) شكّا إلى شكّهم ، وكفرا إلى كفرهم ، وإثما إلى إثمهم إذ الشك والكفر من أعظم الآثام.

(٤) قال قتادة والحسن ومجاهد : بالغزو والجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرون ما وعد الله من النصر يريد يتحقق أمامهم وكأنهم لا يعقلون.

تعالى (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) (١) أي وهم في المجلس وقرئت على الجالسين وهم من بينهم. (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) وقال في سرية ومخافته هيا نقوم من هذا المجلس الذي نعير فيه ونشتم (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان الجواب : لا يرانا أحد انصرفوا متسللين لواذا قال تعالى في دعاء عليهم : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٢) أي عن الهدى (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفقهون أسرار الآيات وما تهدي إليه ، فعلتهم سوء فهمهم وعلة سوء فهمهم ظلمة قلوبهم وعلة تلك الظلمة الشك والشرك والنفاق والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ زيادة الإيمان ونقصانه زيادته بالطاعة ونقصانه بالعصيان.

٢ ـ جواز الفرح بالإيمان وصالح الأعمال.

٣ ـ مريض القلب يزداد مرضا وصحيحه يزداد صحة سنة من سنن الله في العباد.

٤ ـ كشف أغوار المنافقين وفضيحتهم في آخر آية من سورة التوبة تتحدث عنهم.

٥ ـ يستحب أن لا يقال انصرفنا (٣) من الصلاة أو الدرس ولكن يقال انقضت الصلاة أو انقضى الدرس ونحو ذلك.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

__________________

(١) (ما) صلة لتقوية الكلام.

(٢) هذه الجملة خبرية أخبر تعالى أنه جزاهم على انصرافهم من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصرف قلوبهم عن الهدى فهم لا يهتدون إذا أبدا وضمّن الخبر الدعاء عليهم ، وقد تحقق معناه وهو صرف قلوبهم.

(٣) لأنّ الله ذمّ المنافقين لانصرافهم ودعا عليهم بصرف قلوبهم وصرفها ولو قيل انقلبنا من الصلاة أو من الجنازة لكان خيرا لقوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) الآية من سورة آل عمران.

شرح الكلمات :

(رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : أي محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جنسكم عربي.

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ) : أي شاق صعب.

(ما عَنِتُّمْ) : أي ما يشق عليكم ويصعب تحمله.

(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) : أي حريص على هدايتكم وما فيه خيركم وسعادتكم.

(رَؤُفٌ) : شفيق.

(رَحِيمٌ) : يرق ويعطف ويرحم.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي أعرضوا عن دين الله وما جئت به من الهدى

(حَسْبِيَ اللهُ) : أي كافيّ الله.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق إلا هو.

(تَوَكَّلْتُ) : أي فوضت أمري إليه واعتمدت عليه.

(رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) : عرش الله تعالى لا أعظم منه إلا خالقه عزوجل إذ كرسية تعالى وسع السموات والأرض ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة.

معنى الآيتين الكريمتين :

في ختام سورة التوبة يقول الله تعالى لكافة العرب : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) (١) أي كريم عظيم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٢) عدناني قرشي هاشمي مطّلبي تعرفون نسبه وصدقه وأمانته. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) (٣) أي يشق عليه ما يشق عليكم ويؤلمه ما يؤلمكم لأنه منكم ينصح لكم نصح القوميّ لقومه. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على هدايتكم واكمالكم واسعادكم

__________________

(١) روي عن أبي أنه قال : هاتان الآيتان أقرب القرآن بالسماء عهدا وهذا لا ينافي أنّ آخر ما نزل من القرآن : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ).

(٢) قرىء : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي : أشرفكم وأفضلكم إذ هو من النفاسة وهي تعلّق نفوس البشر بما هو أجمل وأكمل. وقراءة الجمهور أولى وهي الضم أي : من أنفسكم إذ ما من قبيلة من قبائل العرب إلا وولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وشاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية مسلم : (إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم) وفي لفظ : (فأنا خيار من خيار) وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك.

(٣) (ما) مصدرية تسبك مع الفعل بمصدر فيكون الكلام عزيز عليه عنتكم والعنت : التعب ، وهو مصدر عنت يعنت عنتا.

كأنّه يشير إلى أنّ ما لاقاه أصحابه من عنت أيام كانوا يحاربون أهليهم ، وذويهم وما نالهم من الغربة والفاقة ، والحرب كل ذلك كان يعزّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويألم له فصلّى الله وسلم عليه ما أرحمه وأوفاه!!

(بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم من سائر الناس (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي شفوق عطوف يحب رحمتهم وإيصال الخير لهم. إذا فآمنوا به واتبعوا النور الذي جاء به تهتدوا وتسعدوا ولا تكفروا فتضلوا وتشقوا. وقوله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن دعوتك فلا تأس وقل حسبي الله أي يكفيني ربي كل ما يهمني (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق سواه لذا فإني أعبده وأدعو إلى عبادته ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) (١) أي في شأني كله (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان منّة الله تعالى على العرب خاصة وعلى البشرية عامة ببعثه خاتم أنبيائه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان كمال أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ وجوب التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في كل شيء يقوم به العبد.

٤ ـ عظمة عرش الرحمن عزوجل.

سورة يونس

مكية (٢)

وآياتها مائة وتسع آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

__________________

(١) عن أبي الدرداء أنّ من قال : إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم : سبع مرات كفاه الله ما أهمّه صادقا كان أو كاذبا).

(٢) ذكر بعضهم أن منها آيات قليلة مدنية ، والظاهر أنها كلها مكية ومن تدبر آياتها من أوله إلى آخره لم ير ما يدعو إلى خلافه.

شرح الكلمات :

(الر) : هذه السورة الرابعة من السور المفتتحة بالحروف المقطعة تكتب الر وتقرأ ألف لام. را.

(الْكِتابِ) : أي القرآن العظيم.

(الْحَكِيمِ) : القائل بالحكمة والقرآن مشتمل على الحكم فهو حكيم ومحكم أيضا.

(عَجَباً) : العجب ما يتعجب منه.

(رَجُلٍ مِنْهُمْ) : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قَدَمَ صِدْقٍ) : أي أجرا حسنا بما قدموا في حياتهم من الإيمان وصالح الأعمال.

(إِنَّ هذا) : أي القرآن.

لسحر (١) مبين : أي بين ظاهر لا خفاء فيه في كذبهم وادعائهم الباطل.

معنى الآيتين :

مما تعالجه السور المكية قضايا التوحيد والوحي والبعث الآخر وسورة يونس افتتحت بقضية الوحي أي إثباته وتقريره من الله لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى (الر تِلْكَ آياتُ) (٢) (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٣) أي هذه آيات القرآن الكريم المحكم آياته المشتمل على الحكم الكثيرة حتى لكأنه الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه وقوله تعالى (أَكانَ لِلنَّاسِ) (٤) (عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي أكان ايحاؤنا إلى محمد عبدنا ورسولنا وهو رجل من قريش عجبا لأهل مكة يتعجبون منه؟ والموحى به هو : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ، أي خوفهم عاقبة الشرك والكفر والعصيان (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بأن لهم قدم (٥) صدق عند ربهم وهو

__________________

(١) هذه قراءة نافع.

(٢) يذكر المفسرون عن السلف توجيهات عدة لهذه الحروف منها : ما رووه عن ابن عباس أن الر : معناها : أنا الله .. وكل ما ذكروه قول بالظن وإنّ الظن أكذب الحديث ، ومن الخير تفويض أمر معناها إلى من أنزلها وقد ذكرنا في التفسير ، فائدتين عظيمتين فلنكتف بهما.

(٣) قال مقاتل : الحكيم بمعنى : المحكم من الباطل لا يدخله ففعيل بمعنى مفعل واستشهد بقول الأعشى بذكر قصيدته التي قالها

وغريبة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها

(٤) (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) : الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وعجبا : خبر كان والاسم : أن أوحينا ، والتقدير : أكان عجبا للناس إيحاؤونا.

(٥) ذكر القرطبي في تفسير (قَدَمَ صِدْقٍ) أقوالا متعددة منها : سبق السعادة في الأزل ، ومنها : أجر حسن ، ومنها : منزل صدق ، ومنها : ولد صالح قدّموه ومنها : يؤثر ذلك عن السلف ، وما في التفسير هو الراجح إذ رجّحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه‌الله تعالى.

الجزاء الحسن لما قدموا من الإيمان وصالح الأعمال يتلقونه يوم يلقون ربهم في الدار الآخرة فلما أنذر وبشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الكافرون هذا سحر مبين ومرة قالوا : ساحر مبين وقولهم هذا لمجرد دفع الحق وعدم قبوله لا أن ما أنذر به وبشر هو سحر ، ولا المنذر المبشر هو ساحر وإنما هو المجاحدة والعناد والمكابرة من أهل الشرك والكفر والباطل والشر والفساد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة الوحي بشهادة الكتاب الموحى به.

٢ ـ إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقريرها بالوحي إليه.

٣ ـ بيان مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي النذارة والبشارة.

٤ ـ بشرى أهل الإيمان والعمل الصالح بما أعد لهم عند ربهم.

٥ ـ عدم تورع أهل الكفر عن الكذب والتضليل.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ

اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) : أي معبودكم الحق الذي يجب أن تعبدوه وحده هو الله.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أي أوجدها من العدم حيث كانت عدما فأصبحت عوالم.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : هي الأحد والأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : أي استوى استواء يليق به عزوجل فلا يقال كيف؟

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) : أي لا يشفع أحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي أتستمرون في جحودكم وعنادكم فلا تذكرون.

(ثُمَّ يُعِيدُهُ) : أي بعد الفناء والبلى وذلك يوم القيامة.

(شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) : أي من ماء أحمي عليه وغلى (١) حتى أصبح حميما يشوي الوجوه.

(جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) (٢) : أي جعلها تضيء على الأرض.

(وَالْقَمَرَ نُوراً) : أي جعل القمر بنور الأرض وهو الذي خلق ضوء الشمس ونور القمر.

(وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) : أي قدر القمر منازل والشمس كذلك.

(لِتَعْلَمُوا) : أي قدرهما منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب.

(يَتَّقُونَ) : أي مساخط الله وعذابه وذلك بطاعته وطاعة رسوله.

معنى الآيات :

هذه الآيات في تقرير الألوهية بعد تقرير الوحي واثباته في الآيتين السابقتين فقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) إخبار منه تعالى أنه عزوجل هو رب أي معبود أولئك المشركين به آلهة أصناما

__________________

(١) غلى الماء يغلي غليانا إذا اشتدت حرارته ففار دخانا.

(٢) الضياء : نور ساطع يضيء للرائي الأشياء وهو اسم مشتق من الضوء فالضياء أقوى من الضوء.

يعبدونها معه وهي لم تخلق شيئا أما الله فإنه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام بمقدار أيامنا هذه إذ لم تكن يومئذ أياما كأيام الدنيا هذه ، ثم استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله يدبر (١) أمر السماء والأرض. هذا هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويتقرب إليه. وقوله : (ما مِنْ) (٢) (شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي وأنه لعظمته وعزة سلطانه لا يقدر أحد أن يشفع لآخر إلا بعد إذنه له فكيف إذا تعبد هذه الأصنام رجاء شفاعتها لعابديها ، والله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؟ وقوله تعالى (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي هذا الموصوف بهذه الصفات المعرّف بهذه النعوت من الجلال والكمال هو ربكم الحق فاعبدوه بما شرع لكم من أنواع العبادات تكملوا وتسعدوا وقوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هو توبيخ للمشركين لهم لم لا تتعظون بعد سماع الحق. وقوله تعالى (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بعد موتكم (جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) (٣) تقرير لمبدأ البعث الآخر أي إلى الله تعالى ربكم الحق مرجعكم بعد موتكم جميعا إذ وعدكم وعد الحق بالرجوع إليه والوقوف بين يديه وقوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) (٤) أي بالعدل : بيان لعلة الحياة بعد الموت إذ هذه الدار دار عمل والآخرة دار جزاء على هذا العمل فلذا كان البعث واجبا حتما لا بد منه ولا معنى لإنكاره لأن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى وأحرى وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي ماء حار قد بلغ المنتهى في حرارته وعذاب أليم أي موجع اخبار منه تعالى بجزاء أهل الكفر يوم القيامة وهو علة أيضا للحياة بعد الموت والبعث بعد الفناء وبهذا تقرر مبدأ البعث كما تقرر قبله مبدأ التوحيد ومن قبل مبدأ الوحى إذ على هذه القضايا تدور السور المكية وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) أي ذات ضياء والقمر نورا ذا نور وقدر القمر منازل (٥) وهي ثمانية وعشرون منزلة يتنقل فيها القمر ، فعل ذلك (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (٦) فتعرفون

__________________

(١) قال مجاهد : يقضيه ويقدره وحده ، وقيل : يأمر به ويمضيه. قال القرطبي : والمعنى متقارب

(٢) (ما مِنْ شَفِيعٍ) أي : لا شفيع يشفع إلا بعد إذنه له بالشفاعة.

(٣) (وعدا) و (حَقًّا) : مصدران بمعنى وعدكم وعدا وأحقه حقا. أي : صدقا لا خلف فيه.

(٤) الجملة : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) : واقعة موقع الدليل على إنجاز وعده تعالى لأنّ الذي خلق من تراب وماء قادر على البعث والجزاء.

(٥) المنازل : جمع منزل ، وهو مكان النزول والمراد بها سموت بلوغ القمر فيها للناس كل ليلة في سمت منها كأنه ينزل بها ، وللشمس منازل تسمى بروجا وهي اثنا عشر برجا تحل فيها الشمس في فصول السنة لكل برج منزلتان وثلث.

(٦) (الْحِسابَ) مصدر حسب يحسب بضم السين حسابا بمعنى عدّ أما حسب بكسر السين فهو بمعنى ظن ومضارعه يحسب بفتح السين وكسرها لغتان فصيحتان. وبهما قرىء : أيحسب الإنسان وكل يحسب بمعنى يظن.

عدد السنوات والشهور والأيام والساعات إذ حياتكم تحتاج إلى ذلك فهذا الرب القادر على هذا الخلق والتدبير هو المعبود الحق الذي يجب أن تعبدوه ولا تعبدوا سواه فهذا تقرير للتوحيد وتأكيد له. وقوله (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي لم يخلق هذه الحياة الدنيا وهذه العوالم فيها عبثا فتفنى وتبلى بعد حين ولا شيء وراء ذلك بل ما خلق ذلك إلا بالحق أي من أجل أن يأمر وينهى ثم يجزي المطيع بطاعته والعاصي بعصيانه وفي هذا تأكيد لقضية البعث والجزاء أيضا وقوله (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي هذا التفصيل المشاهد في هذا السياق (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إذ هم الذين ينتفعون به أما الجهلة فلا ينتفعون بهذا التفصيل والبيان وقوله تعالى في الآية الأخيرة (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي بالطول والقصر والضياء والظلام (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) من أفلاك وكواكب ورياح وأمطار وما خلق في الأرض من إنسان وحيوان وبر وبحر وأنهار وأشجار وجبال ووهاد (لَآياتٍ) أي علامات واضحة دالة على الخالق المعبود بحق وعلى جلاله وجماله وكماله وعظيم قدرته وقوة سلطانه فيعبد لذلك بحبه غاية الحب وبتعظيمه غاية التعظيم وبرهبته والخشية منه غاية الرهبة والخشية ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى وقوله تعالى (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٢) خص أهل التقوى بالآيات فيما ذكر من مظاهر خلقه وقدرته لأنهم هم الذين حقا يبصرون ذلك ويشاهدونه لصفاء أرواحهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم أما أهل الشرك والمعاصي فهم في ظلمة لا يشاهدون معها شيئا والعياذ بالله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ألوهية الله تعالى وأنه الإله الحق.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.

٣ ـ بيان الحكمة في خلق الشمس والقمر وتقدير منازلهما.

٤ ـ مشروعية تعلم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين.

__________________

(١) قوله : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) شمل الأجسام والأحوال معا أي : الذوات والصفات ، والأقوال والأعمال أيضا إذ قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

(٢) خصهم بالآيات لأنهم هم الذين ينتفعون بها أما أهل الشرك والفجور والمعاصي فلا ينتفعون بها فهي إذا ليست لهم بل هي لغيرهم ممن ينتفعون بها.

٥ ـ فضل العلم والتقوى وأهلهما من المؤمنين.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

شرح الكلمات :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) : أي لا ينتظرون ولا يؤملون في لقاء الله تعالى يوم القيامة.

(وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : أي بدلا عن الآخرة فلم يفكروا في الدار الآخرة.

(وَاطْمَأَنُّوا بِها) : أي سكنوا إليها وركنوا فلم يروا غيرها حياة يعمل لها.

(غافِلُونَ) : لا ينظرون إليها ولا يفكرون فيها.

(مَأْواهُمُ النَّارُ) : أي النار هي المأوى الذي يأوون إليه وليس لهم سواها.

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) (١) : أي بأن يجعل لهم بإيمانهم نورا يهتدون به إلى الجنة.

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) (٢) : أي يطلبون ما شاءوا بكلمة سبحانك اللهم.

(وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي آخر دعائهم : الحمد لله رب العالمين.

معنى الآيات :

بعد تقرير الوحي والألوهية في الآيات السابقة ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث

__________________

(١) قال مجاهد : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) بالنور على الصراط إلى الجنة بأن يجعل لهم نورا يمشون به ، وشاهده قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) الخ.

(٢) الدعوى هنا : بمعنى الدعاء يقال : دعوة بالهاء ودعوى بألف التأنيث وسبحان : مصدر بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه.

الكريمة بيان جزاء كل ممن كذب بلقاء الله فلم يرج ثوابا ولم يخش عقابا ورضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ، وممن آمن بالله ولقائه ووعده ووعيده فآمن بذلك وعمل صالحا فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ (١) لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) (٢) أي سكنت نفوسهم إليها وركنوا فعلا إليها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) أي آياته الكونية في الآفاق والقرآنية وهي حجج الله تعالى وأدلته الدالة على وجوده وتوحيده ووحيه وشرعه غافلون عنها لا ينظرون فيها ولا يفكرون فيما تدل لإنهماكهم في الدنيا حيث أقبلوا عليها وأعطوها قلوبهم ووجوههم وكل جوارحهم. هؤلاء يقول تعالى في جزائهم (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من الظلم والشر والفساد. ويقول تعالى في جزاء من آمن بلقائه ورجا ما عنده (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) أي إلى طريق الجنة (بِإِيمانِهِمْ) أي بنور إيمانهم فيدخلونها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ (٣) الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). ونعيم الجنة روحاني وجسماني فالجسماني يحصلون عليه بقولهم : سبحانك اللهم ، فإذا قال أحدهم هذه الجملة «سبحانك اللهم» (٤) حضر لديه كل مشتهى له. والروحاني يحصلون عليه بسلام الله تعالى عليهم وملائكته (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). وإذا فرغوا من المآكل والمشارب قالوا : الحمد لله رب العالمين. وهذا معنى قوله (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي دعاؤهم أي صيغة طلبهم (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي دعائهم (أَنِ) أي أنه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). (٥)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من نسيان الآخرة والإقبال على الدنيا والجري وراء زخارفها.

__________________

(١) (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) معناه أنهم لا يطلبونه ولا يتوقعونه ، ولازم ذلك أنهم لا يخافون عقابا أخرويا ولا ثوابا.

(٢) أي : سكنت نفوسهم إليها وصرفوا كل همهم لها طلبا لتحصيل منافعها فلم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الآخرة لأنهم سكنوا إلى الدنيا ، والساكن لا يتحرّك ووصف بأنه لها يرضى ولها يغضب ولها يفرح ولها يهتم ويحزن.

(٣) (مِنْ تَحْتِهِمُ) من تحت بساتنهم ومن تحت أسرّتهم كذلك وهو أحسن في النزهة والفرجة.

(٤) إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة النعيم من طعام وشراب وهو كما قال ابن أبي الصلت :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرّضه الثناء

(٥) في الآية دليل على اطلاق لفظ التسبيح على الدعاء وشاهده : دعوة ذي النون : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وفيها دليل على مشروعية بل سنية بدء الطعام والشراب ببسم الله. وإنهائه بحمد الله تعالى كما هي السنة في ذلك.

٢ ـ التحذير من الغفلة بعدم التفكر بالآيات الكونية والقرآنية إذ هذا التفكير هو سبيل الهداية والنجاة من الغواية.

٣ ـ الإيمان والعمل الصالح مفتاح الجنة والطريق الهادي إليها.

٤ ـ نعيم الجنة روحاني وجسماني وهو حاصل ثلاث كلمات هي :

سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(الشَّرَّ) : كل ما فيه ضرر في العقل أو الجسم أو المال والولد ، والخير عكسه : ما فيه نفع يعود على الجسم أو المال أو الولد.

(لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) : لهلكوا وماتوا.

(فَنَذَرُ) : أي نترك.

(فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : أي في ظلمهم وكفرهم يترددون لا يخرجون منه كالعميان.

(الضُّرُّ) : المرض وكل ما يضر في جسمه ، أو ماله أو ولده.

(مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) : مضى في كفره وباطله كأن لم يكن ذاك الذي دعا بكشف ضره.

(كَذلِكَ زُيِّنَ) (١) : مثل ذلك النسيان بسرعة لما كان يدعو لكشفه ، زين للمسرفين إسرافهم في الظلم والشر.

(الْقُرُونَ) : أي أهل القرون.

(بِالْبَيِّناتِ) : بالحجج والآيات على صدقهم في دعوتهم.

(خَلائِفَ) : أي لهم ، تخلفونهم بعد هلاكهم.

معنى الآيات :

هذه الفترة التي كانت تنزل فيها هذه السورة المكية كان المشركون في مكة في هيجان واضطراب كبيرين حتى إنهم كانوا يطالبون بنزول العذاب عليهم إذ ذكر تعالى ذلك عنهم في غير آية من كتابه منها (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) ومنها (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) وفي هذا الشأن نزل قوله تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) (٢) أي عند سؤالهم إياه ، (٣) أو فعلهم ما يقتضيه كاستعجاله الخير لهم (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لهلكوا الهلاك العام وانتهى أجلهم في هذه الحياة ، وقوله تعالى (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي لم نعجل لهم العذاب فنذر الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يؤمنون بلقائنا وما عندنا من نعيم وجحيم نتركهم في طغيانهم في الكفر والظلم والشر والفساد يعمهون حيارى يترددون لا يعرفون متجها ولا مخرجا لما هم فيه من الضلال والعمى.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١١) أما الآية الثانية (١٢) فقد تضمنت بيان حقيقة وهي أن الإنسان الذي يعيش في ظلمة الكفر ولم يستنر بنور الإيمان إذا مسه الضر وهو

__________________

(١) قال القرطبي وهو صادق ، كما زيّن لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء زيّن للمسرفين في الشرك والمعاصي أعمالهم في ذلك.

(٢) فسّر الشرّ بالعقوبة إذ الشر كل ما يلحق الضرر بالإنسان عاجلا أو آجلا ، والعقوبة كلها شر إذ هي عذاب انتقام ينزل بصاحبه.

(٣) قال مجاهد : هذه الآية نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب. اللهم أهلكه اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضى إليهم أجلهم. ولا أحسب أنّ الآية نزلت في هذا وإنما هي شاهد لما قال فقط ، وشاهد آخر رواه البزار وأبو داود وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم).

المرض والفقر وكل ما يضر دعا ربه على الفور لجنبه أو قاعدا أو قائما يا رباه يا رباه فإذا استجاب الله له وكشف ما به من ضر مرّ كأن لم يكن مرض ولا دعا واستجيب له واستمر في كفره وظلمه وغيّه. وقوله تعالى (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي كما أن الإنسان الكافر سرعان ما ينسى ربه الذي دعاه ففرج ما به كذلك حال المسرفين في الظلم والشر فإنهم يرون ما هم عليه هو العدل والخير ولذا يستمرون في ظلمهم وشرهم وفسادهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقوله تعالى في الآية الثالثة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) هذا خطاب لأهل مكة يخبرهم تعالى مهددا إياهم بإمضاء سنته فيهم بأنه أهلك أهل القرون من قبلهم لمّا ظلموا أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات (١) أي بالآيات والحجج ، وأبوا أن يؤمنوا لما ألفوا من الشرك والمعاصي فأهلكهم كعاد وثمود وأصحاب مدين وقوله تعالى (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك الجزاء بالإهلاك العام نجزي القوم المجرمين في كل زمان ومكان إن لم يؤمنوا ويستقيموا. وقوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي يقول لمشركي العرب من أهل مكة وغيرها ، ثم جعلناكم خلائف (٢) في الأرض بعد إهلاك من قبلكم لننظر (٣) كيف تعملون فإن كان عملكم خيرا جزيناكم به وإن كان سوءا جزيناكم به وتلك سنتنا في عبادنا وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر رحمة الله بعباده إذ لو عجل لهم ما يطلبون من العذاب كما يعجل لهم الخير عند ما يطلبونه لأهلكهم وقضى إليهم أجلهم فماتوا.

٢ ـ يعصي الله العصاة ويكفر به الكافرون ويتركهم في باطلهم وشرهم فلا يعجل لهم العذاب لعلهم يرجعون.

__________________

(١) أي : بالمعجزات الواضحات كالتي آتى بها موسى وعيسى عليهما‌السلام.

(٢) الخلائف : جمع خليفة وحرف ثم مؤذن ببعد ما بين الزمانين ، والأرض : هي أرض العرب إذ هم الذين خلفوا عادا وثمودا وقبلهما طسما وجديسا.

(٣) هذا التعليل كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) إذ علّة الوجود هي أن يذكر الله ويشكر ، فمن ذكره وشكره أكرمه وأسعده ومن كفره ونساه عذّبه وأشقاه.

٣ ـ بيان أن الإنسان الكافر يعرف الله عند الشدة ويدعوه ويضرع إليه فإذا نجاه عاد إلى الكفر به كأن لم يكن يعرفه.

٤ ـ استمرار المشركين على إسرافهم في الكفر والشر والفساد مزين لهم (١) حسب سنة الله تعالى. فمثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة وينسى عند الفرج.

٥ ـ وعيد الله لأهل الإجرام بالعذاب العاجل أو الآجل إن لم يتوبوا.

٦ ـ كل الناس أفرادا وأمما ممهلون مراقبون في أعمالهم وسلوكهم ومجزيون بأعمالهم خيرها وشرها لا محالة.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) من سورة الأنعام.

شرح الكلمات :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) : أي لا يؤمنون بالبعث والدار الآخرة.

(مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) : أي من جهة نفسي.

(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) : أي لا أعلمكم به.

(عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) : أي أربعين سنة قبل أن يوحى إليّ.

(الْمُجْرِمُونَ) : المفسدون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.

(ما لا يَضُرُّهُمْ) : أي إن لم يعبدوه.

وما لا ينفعهم : أي إن عبدوه.

(أَتُنَبِّئُونَ) : أي أتعلّمون وتخبرون الله.

(سُبْحانَهُ) : أي تنزيها له.

(عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي به معه من الأصنام.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير قضايا أصول الدين الثلاث : التوحيد والوحي والبعث فقوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي إذا قرئت عليهم آيات الله عزوجل (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) (١) وهم المنكرون للبعث إذ به يتم اللقاء مع الله تعالى للحساب والجزاء. (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أي بأن يكون خاليا من عيب آلهتنا وانتقاصها. أو أبقه ولكن بدل كلماته بما لا يسوءنا فاجعل مكان آية فيها ما يسوءنا آية أخرى لا إساءة فيها لنا وقولهم هذا إما أن يكون من باب التحدي أو الاستهزاء والسخرية (٢) ولكن الله تعالى علّم رسوله طريقة الرد عليهم بناء على ظاهر قولهم فقال له (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي إنه لا يتأتّى لي بحال أن أبدله من جهة نفسي لأني عبد الله ورسوله ما اتبع إلا ما يوحى

__________________

(١) عن مجاهد : أن المطالبين بهذا هم خمسة أنفار : عبد الله بن أميّة والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس والعاصي بن عامر قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إئت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللّات والعزّى ومناة وهبل وليس فيه عيبها.

(٢) وإمّا أن يكون من باب توهمهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي به من تلقاء نفسه إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف.

إلي (إِنِّي (١) أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بتبديل كلامه (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عذاب يوم القيامة وقوله (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي قل لهم ردا على طلبهم : لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته عليكم ، ولا أدراكم هو به أي ولا أعلمكم فالأمر أمره وأنا لا أعصيه ويدل لكم على صحة ما أقول : إني لبثت فيكم عمرا (٢) أي أربعين سنة قبل أن آتيكم به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) : معنى ما أقول لكم من الكلام وما أذكر لكم من الحجج؟.

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (١٥ ـ ١٦) أما الآية الثالثة فقد تضمنت التنديد بالمجرمين الذين يكذبون على الله تعالى بنسبة الشريك إليه ويكذّبون بآياته ويجحدونها فقال تعالى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٣) أي لا أحد أظلم منه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) بعد ما جاءته أي لا أحد أظلم من الأثنين ، وقوله تعالى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) دل أولا على أن المذكورين مجرمون وأنهم لا يفلحون شأنهم شأن كل المجرمين. وإذا لم يفلحوا فقد خابوا وخسروا. وقوله تعالى في الآية الرابعة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي من الأصنام (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٤) وهم في ذلك كاذبون مفترون فلذا أمر الله أن يرد عليهم بقوله (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) إذ لو كان هناك من يشفع عنده لعلمهم وأخبر عنهم فلم الكذب على الله والافتراء عليه ثم نزه الله تعالى نفسه عن الشرك به والشركاء له فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من الدعوة إلى الله تعالى تلاوة آياته القرآنية على الناس تذكيرا وتعليما.

__________________

(١) جملة : (إِنِّي أَخافُ) جملة تعليلية لجملة : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

(٢) العمر : الحياة مشتق من العمران ، لأنّ مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الأرضي ، ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش الإنسان مقدارها لكان أخذ حظه من البقاء. والمراد من قوله (عُمُراً) أي : لبثت بينكم مدة عمر كامل. إذ هي أربعون سنة.

(٣) في هذه الآية زيادة ردّ على المطالبين بتبديل القرآن إذ تبديله ظلم والزيادة فيه كذب على الله تعالى ولا أحد أظلم ممن يفترى على الله الكذب ، فكيف يسوغ لي أن افتري على الله الكذب أو أبدل كلامه.

(٤) إن قولهم : هؤلاء (شُفَعاؤُنا) لأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر هو غاية الجهل ، ومرادهم من شفاعتها أنها تشفع لهم عند الله في إصلاح معاشهم في الدنيا.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون من تعنت وجحود ومكابرة.

٣ ـ كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش أربعين سنة لم يعرف فيها علما ولا معرفة ثم برز في شيء من العلوم والمعارف فتفوق وفاق كل أحد دليل على أنه نبي يوحى إليه قطعا.

٤ ـ لا أحد أظلم من أحد رجلين رجل يكذب على الله تعالى وآخر يكذّب الله تعالى.

٥ ـ إبطال دعوى المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله يوم القيامة.

٦ ـ بيان سبب عبادة المشركين لآلهتهم وهو رجاؤهم شفاعتها لهم.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(أُمَّةً واحِدَةً) : أي على دين واحد هو الإسلام.

(فَاخْتَلَفُوا) : أي تفرقوا بأن بقى بعض على التوحيد وبعض على الشرك.

(كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) : بإبقائهم إلى آجالهم ومجازاتهم يوم القيامة.

(آيَةٌ) : خارقة كناقة صالح عليه‌السلام.

(إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) : أي إن علم الآية متى تأتي من الغيب والغيب لله وحده فلا أنا ولا أنتم تعلمون إذا فانتظروا إنا معكم من المنتظرين.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى رسوله بحقيقة علمية تاريخية من شأن العلم بها المساعدة على الصبر والتحمل فيقول (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي في زمن سابق أمة واحدة على دين التوحيد دين الفطرة ثم حدث أن أحدثت لهم شياطين الجن والإنس البدع والأهواء

والشرك فاختلفوا فمنهم من ثبت على الإيمان والتوحيد ومنهم من كفر بالشرك والضلال. وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) (١) وهي أنه لا يعجل العذاب للأمم والأفراد بكفرهم وإنما يؤخرهم إلى آجالهم ليجزيهم في دار الجزاء بعذاب النار يوم القيامة لو لا كلمته والتي هي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) لعجل لهم العذاب فحكم بينهم بأن أهلك الكافر وأنجى المؤمن.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٩) أما الآية الثانية (٢٠) فيخبر تعالى عن المشركين أنهم قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (٢) أي هلّا أنزل على محمد آية خارقة من ربه لنعلم ونستدل بها على أنه رسول الله وقد يريدون بالآية عذابا فلذا أمر الله رسوله أن يرد عليهم بقوله (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) فهو وحده يعلم متى يأتيكم العذاب وعليه (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ (٣) مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ولم تطل مدة الانتظار ونزل بهم العذاب ببدر فهلك رؤساؤهم وأكابر المستهزئين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الأصل هو التوحيد والشرك طارىء.

٢ ـ الشر والشرك هما اللذان يحدثان الخلاف في الأمة والتفرق فيها أما التوحيد والخير فلا يترتب عليهما خلاف ولا حرب ولا فرقة.

٣ ـ بيان علة بقاء أهل الظلم والشرك يظلمون ويفسدون إلى آجالهم.

٤ ـ الغيب كله لله فلا أحد يعلم الغيب إلا الله ومن علّمه الله شيئا منه وهذا خاص بالرسل لإقامة الحجة على أممهم.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ

__________________

(١) في الآية إشارة إلى القضاء والقدر أي : لو لا ما سبق في حكمه أنه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة.

(٢) يريدون معجزة كمعجزات صالح وموسى وعيسى عليهم‌السلام أو اية غير القرآن كأن يحيي لهم الموتى أو يجعل الجبل ذهبا أو يكون له بيت من زخرف.

(٣) في الجملة تعريض بتهديدهم على جراءتهم على الله ومطالبتهم بالآيات ، والآيات القرآنية معرضون عنها وهي أعظم مما يطلبون.

(٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(رَحْمَةً) : أي مطر بعد قحط أو صحة بعد مرض أو غنى بعد فاقة.

(ضَرَّاءَ) : حالة من الضر بالمرض والجدب والفقر.

(مَكْرٌ فِي آياتِنا) : أي استهزاء بها وتكذيب.

(إِنَّ رُسُلَنا) : أي الحفظة من الملائكة.

(يُسَيِّرُكُمْ) (١) : أي يجعلكم تسيرون بما حولكم من مراكب وما يسر لكم من أسباب.

(بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) : أي مناسبة لسير السفن موافقة لغرضهم.

(رِيحٌ عاصِفٌ) : أي شديدة تعصف بالشجر فتقتلعه والبناء فتهدمه.

(أُحِيطَ بِهِمْ) : أي أحدق بهم الهلاك من كل جهة.

يبغون بغير الحق (٢) : أي يظلمون مجانبين للحق والاعتدال.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة أهل مكة إلى توحيد الله والإيمان برسوله والدار الآخرة فيقول

__________________

(١) قرأ ابن عامر ينشركم بالنون والشين أي يبثكم ويفرقكم والفلك : يطلق على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث.

(٢) البغي : الاعتداء والظلم مأخوذ من بغا الجرح إذا فسد فهو من الفساد.

تعالى (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) أي كفار مكة (رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أي أذقناهم طعم الرحمة التي هي المطر بعد الجفاف والغنى بعد الفاقة والصحة بعد المرض وهي الضراء التي مستهم فترة من الزمن. يفاجئونك (١) بالمكر بآيات الله وهو استهزاؤهم بها والتكذيب بها وبمن أنزلت عليه. وقوله تعالى (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي قل يا رسولنا لهؤلاء الماكرين من المشركين الله عزوجل أسرع مكرا منكم فسوف يريكم عاقبة مكره بكم وهي إذلالكم وخزيكم في الدنيا وعذابكم في الآخرة إن متم على كفركم وقوله (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) تقرير لما أعلمهم به من مكر الله تعالى بهم إذ كتابة الملائكة ما يمكرون دليل على تبييت الله تعالى لهم المكروه الذي يريد أن يجازيهم به على مكرهم.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢١) أما الآية الثانية (٢٢) فهي تري المشركين ضعفهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله تعالى ، ومن كان كذلك فكيف يستهزىء بربه ويسخر من آياته ويكذب رسوله إن أمرهم لعجب فيقول تعالى هو أي الله الذي تمكرون بآياته الذي يسيركم في البر بما خلق لكم من الظهر الإبل والخيل والحمير ، وفي البحر بما سخر لكم من الفلك تجري في البحر بأمره. حتى إذا كنتم في البحر وجرين (٢) أي السفن بهم أي بالمشركين بريح طيبة مناسبة لسير السفن وفرحوا بها على عادة ركاب (٣) البحر يفرحون بالريح المناسبة لسلامتهم من الميدان و (٤) القلق والاضطراب. جاءتها أي السفن ريح عاصف أي شديدة الهبوب تضطرب لها السفن ويخاف ركابها الغرق ، وجاءهم أي الكفار الراكبين عليها الموج من كل مكان من جهات البحر والموج هو ارتفاع ماء البحر وتموجه كزوابع الغبور في البر. وظنوا أي أيقنوا أو كادوا أنهم أحيط بهم أي هلكوا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ

__________________

(١) قيل : إنّ أبا سفيان قال : قحطنا بدعائك فإن سقيتنا صدّقناك فسقوا باستسقائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يؤمنوا وهذا من مكرهم.

(٢) وجرين بهم : فيه خروج من الخطاب إلى الغيبة وهو ضرب من الأساليب البلاغية وهو في القرآن كثير ، وكذا في أشعار العرب قال النابغة :

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

ويقال له : التفات من كذا إلى كذا.

(٣) في الآية دليل على جواز ركوب البحر مطلقا ، وشاهده من السنة حديث : (إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وحديث أم حرام يدلّ على جواز ركوبه في الغزو.

(٤) الميدان : دوّار أو غشيان يصيب راكب البحر.

لَهُ الدِّينَ) أي الدعاء يا رب يا رب (١) نجنا ويعدونه قائلين (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) أي الهلكة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك أي المطيعين المعترفين بنعمتك علينا الموحدين لك بترك الآلهة لعبادتك وحدك لا شريك لك. فلما أنجاهم من تلك الشدة يفاجئونك ببغيهم في الأرض بغير الحق شركا وكفرا وظلما وفسادا فعادوا لما كانوا وإنهم لكاذبون وقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يخبرهم تعالى بقوله يا أيها الناس الباغون في الأرض بغير الحق في أي زمان كنتم وفي أي مكان وجدتم إنما بغيكم (٢) أي عوائده عائدة على أنفسكم إذ هي التي تتأثم وتخبث في الدنيا وتفسد وتصبح أهلا لعذاب الله يوم القيامة وقوله (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ذلك متاع (٣) الحياة الدنيا شقاء كان أو سعادة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي لا إلى غيرنا وذلك بعد الموت يوم القيامة (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر ونجزيكم به الجزاء العادل في دار الجزاء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من مكر مكر الله به والله أسرع مكرا وأكبر أثرا وضررا.

٢ ـ بيان ضعف الإنسان وفقره إلى الله وحاجته إليه عزوجل في حفظ حياته وبقائه إلى أجله.

٣ ـ إخلاص العبد الدعاء في حال الشدة آية أن التوحيد أصل والشرك طارىء.

٤ ـ المشركون الأولون أحسن حالا من جهلة هذه الأمة إذ يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة أما جهال المسلمين اليوم فشركهم دائم في الرخاء والشدة على السواء.

٥ ـ بغي الإنسان عائد على نفسه كمكره ونكثه وفي الحديث (ثلاث على أصحابها رواجع : البغي والمكر والنكث).

٦ ـ تقرير مبدأ البعث والجزاء يوم القيامة.

__________________

(١) روي أنهم قالوا في دعائهم هذا يا حي يا قيوم.

(٢) مصداقه من الحديث الشريف : (ما من ذنب أحق أن يعجّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم).

(٣) المتاع : ما يتمتع به انتفاعا غير دائم.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))

شرح الكلمات :

(مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي صفتها المنطبقة عليها المتّفقة معها.

(كَماءٍ) : أي مطر.

(فَاخْتَلَطَ (١) بِهِ) : أي بسببه نبات الأرض أي اشتبك بعضه ببعض.

(مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) : كالبر وسائر الحبوب والفواكه والخضر.

(وَالْأَنْعامُ) : أي من الكلأ والعشب عادة وإلا قد يعلف الحيوان الشعير.

(زُخْرُفَها) (٢) : أي نضرتها وبهجتها.

(وَازَّيَّنَتْ) (٣) : أي تجملت بالزهور.

(وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) : أي متمكنون من تحصيل حاصلاتها الزراعية.

(أَتاها أَمْرُنا) : أي قضاؤنا بإهلاكها وتدميرها عقوبة لأصحابها.

(حَصِيداً) : أي كأنها محصودة بالمنجل ليس فيها شيء قائم.

__________________

(١) أي : اختلط النبات بالمطر أي : شرب منه فتندى وحسن واخضر والاختلاط هو : تداخل الشيء في الشيء.

(٢) الزخرف : اسم للذهب ، ويطلق على كل ما يزيّن به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي وأنواع الزينة.

(٣) (وَازَّيَّنَتْ) أصلها : تزينت فقلبت التاء زايا وادغمت في الزاء لقرب مخرجيهما وجلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.

(كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) (١) : أي كأن لم تكن موجودة غانية بالأمس.

(نُفَصِّلُ الْآياتِ) : أي نبينها.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (٢) : دار السّلام : الجنة والله يدعو إليها عباده ليأخذوا بالأهبة لدخولها وهي الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم يعرض الهدايات الإلهية على الناس لعلهم يهتدون ففي هذه الآية يضرب تعالى (٣) مثلا للحياة الدنيا التي يتكالب الغافلون عليها ويبيعون آخرتهم بها فيكذبون ويظلمون من أجلها إنما مثلها في نضارتها الغارة بها وجمالها الخادعة به كمثل ماء نزل من السماء فاختلط بالماء نبات الأرض فسقى به ونما وازدهر وأورق وأثمر وفرح به أهله وغلب على ظنهم أنهم منتفعون به فائزون به وإذا بقضاء الله فيه تأتيه فجأة في ساعة من ليل أو نهار فإذا هو حصيد ليس فيه ما هو قائم على ساق ، هشيم تذروه الرياح كأن لم لم يغن بالأمس أي كأن لم يكن موجودا أمس قائما يعمر مكانه أتاه أمر الله لأن أهله ظلموا فعاقبهم بجائحة أفسدت عليهم زرعهم فأمسوا يائسين حزينين. هذه الصورة المثالية للحياة الدنيا فهلا يتنبه الغافلون أمثالي!! أو هلا يستيقظ النائمون من حالهم كحالي؟؟

وقوله تعالى في الآية الثانية (٢٥) (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (٤) أي بترك الشرك والمعاصي والإقبال على الطاعات والصالحات ودار السّلام الجنة إذ هي الخالية من الكدر والتنغيص فلا مرض ولا هرم ، ولا موت ولا حزن. ودعاة الضلالة يدعون إلى الدنيا

__________________

(١) كأن لم تكن عامرة يقال غني بالمكان إذا قام به وعمره والمغاني المنازل التي يعمرها الناس قال لبيد

وغنيت سبتا قبل مجرى داحس

لو كان للنفس اللجوج خلود.

(٢) وقيل المعنى والله يدعو إلى دار السّلام إذ السّلام والسلامة بمعنى كالرضاعة والرضاع قال الشاعر :

تحيي بالسلامة أم بكر

وهل لك بعد قومك من سلام

(٣) المثل الصفة وعليه فصفة الحياة الدنيا المنطبقة عليها أنها في سرعة انقضائها وزوال نعيمها بعد البهجة والنضرة الحسنة كنبات أخضر وازدهر ثم يبس فصار هشيما تذروه الرياح.

(٤) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يوما على أصحابه فقال رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل عقلك انما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ثم تلا : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) إلى قوله (مُسْتَقِيمٍ).

والتي صورتها ومآلها. أنها دار الكدر والتنغيص. والهم والحزن فأي الدعوتين تجاب؟ (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فلتطلب هدايته بصدق فإنه لا يهدي إلا هو والصراط المستقيم هو الإسلام طريق الجنة وسلّم الوصول إليها رزقنا الله تعالى السير فيه والثبات عليه.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان الصورة الحقيقة للحياة الدنيا في نضرتها وسرعة زوالها.

٢ ـ التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها.

٣ ـ التحذير من الذنوب فإنها سبب الشقاء وسلب النعم.

٤ ـ فضيلة التفكر وأهله.

٥ ـ فضل الله على عباده ورحمته بهم إذ يدعوهم إلى داره لإكرامهم والإنعام عليهم.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ (١) وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩)

__________________

(١) القول بأن الزيادة هما النظر إلى وجه الله الكريم هو قول أنس بن مالك وأبي بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وحذيفة وابن عباس وعامة الصحابة وروى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزوجل.

هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) : الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) : أي لا يغشى وجوههم.

(قَتَرٌ) : غبرة من الكآبة والحزن.

(السَّيِّئاتِ) : جمع سيئة ما يسيء إلى النفس من ذنوب الشرك والمعاصي.

(مَكانَكُمْ) : أي الزموا مكانكم لا تفارقوه.

(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) : فرقنا بينهم.

(هُنالِكَ) : أي ثمّ.

(تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ) : أي تختبر.

(ما أَسْلَفَتْ) : أي ما قدمت.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة أنه يدعو إلى دار السّلام ذكر جزاء من أجاب الدعوة ومن لم يجبها فقال للذين أحسنوا فآمنوا وعبدوا الله بما شرع ووحدوه تعالى في عبادته وربوبيته وأسمائه وصفاته فهؤلاء جزاؤهم الحسنى وهي الجنة وزيادة وهي النظر إلى وجهه الكريم في دار السّلام ، وأنهم إذا بعثوا لا يرهق (١) وجوههم قتر ولا ذلة كما يكون ذلك لمن لم يجب دعوة الله تعالى ، وقرر جزاءهم ووضحه بقوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢) (هُمْ فِيها خالِدُونَ) وذكر جزاء من أعرض عن الدعوة ورفضها فأصر على الكفر والشرك والعصيان

__________________

(١) الرهق : الغشيان ، يقال رهقه يرهقه رهقا : إذا غشيه من باب خرج.

(٢) اسم الإشارة عائد إلى الذين أحسنوا.

فقال (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) فالذين كسبوا سيآت الشرك (١) والمعاصي فأساء ذلك إلى نفوسهم فدساها وخبثها جزاؤهم جهنم وترهقهم ذلة في عرصات القيامة وليس لهم من الله من عاصم يعصمهم من عذاب الله. كأنما وجوههم لسوادها قد أغشيت قطعا من (٢) الليل مظلما وقوله تعالى (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تقرير لمصيرهم والعياذ بالله وهو ملازمة النار وعدم الخروج منها بخلودهم فيها.

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٢٦) والثانية (٢٧) أما الآيات الثالثة والرابعة والخامسة فإنها تضمنت عرضا سريعا لحشر الناس يوم القيامة ، والمراد بذلك تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر فقال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) (٣) أي في عرصات القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي بنا آلهة عبدوها دوننا (مَكانَكُمْ) أي قفوا لا تبرحوا مكانكم (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) ، ثم يزايل الله تعالى أي يفرق بينهم وهو معنى قوله تعالى (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) ولا شك أنهم يقولون ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين ندعو من دونك فلذا ذكر تعالى ردهم عليهم في قوله (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ (٤) ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي لأننا ما كنا نسمعكم ولا نبصركم ولا أمرناكم بعبادتنا وهذا قول كل من عبد من دون الله من سائر الأجناس (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا) أي والله (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) غير شاعرين بحال من الأحوال بعبادتكم. قال تعالى (هُنالِكَ) أي في ذلك الموقف الرهيب (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي تختبر ما قدمت في دنياها وتعرفه هل هو ضار بها أو نافع لها (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ (٥) الْحَقِ (٦) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) هكذا يجدون أنفسهم أمام مولاهم ومالك

__________________

(١) ذكرنا في التفسير : كسبوا الشرك والمعاصي لأنّ الشرك هو الموجب للخلود في النار لا المعاصي ، بدليل الحكم عليهم بالخلود في النار في آخر السياق.

(٢) جمع قطعة ، وهي الجزء من الشيء فهي فعلة بمعنى مفعولة إذ هي مقطوعة من شيء كامل. والمظلم : الإظلام لا كواكب فيه ولا قمر.

(٣) أي : سعداء وأشقياء أهل الحسن وأهل الذلة ، إذ الحشر يكون لسائر الخلائق لا يتخلف أحد من الخلق.

(٤) الشركاء : يكونون من الأصنام والأوثان والملائكة والإنس والجنّ والتبرؤ حاصل إذ ليس هناك من يقوى على الاعتراف بجريمة الشرك ، أمّا الملائكة والأنبياء والصالحون فإنهم لم يكونوا راضين بعبادة المشركين لهم فتبرّؤهم صحيح ، وأمّا الأصنام والأوثان فإنها لم تأمر بعبادتها وإنما الذي أمر بعبادتها الشياطين فتبرؤها صحيح.

(٥) (مَوْلاهُمُ) : الخالق ، الرازق ، المدبر لأمورهم وشؤون حياتهم والمستوجب لعبادتهم هو الله جل جلاله ، فهو مولاهم الحق ، لا الذي اختلقوه كذبا وعبدوه من دون الله فذاك مولى باطل وإله مكذوب.

(٦) (الْحَقِ) : هو الموافق للواقع والصدق ، فالمولوية الحقة لله تعالى لا لمخلوقاته ، وكلها مخلوقة له مربوبة.

أمرهم ومعبودهم الحق والذي طالما كفروا به وتنكروا له وجحدوا آياته ورسله وضل (١) أي غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الأكاذيب والترهاب والأباطيل من تلك الأصنام التي سموها آلهة وعبدوها وندموا يوم لا ينفع الندم وجزاهم بما لم يكونوا يحتسبون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل الحسنة وما تعقبه من نيل الحسنى.

٢ ـ بيان سوء السيئة وما تورثه من حسرة وندامة وما توجبه من خسران.

٣ ـ تقرير معتقد البعث والجزاء بعرض صادق واضح له.

٤ ـ تبرؤ ما عبد من دون الله من عابديه وسواء كان المعبود ملكا أو إنسانا أو جانا أو شجرا أو حجرا الكل يتبرأ من عابديه ويستشهد الله تعالى عليه.

٥ ـ في عرصات القيامة تعلم كل نفس ما أحضرت ، وما قدمت وأخرت وتبلو ما أسلفت فتعرف وأنى لها أن تنتفع بما تعرف؟.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

شرح الكلمات :

(مِنَ السَّماءِ) : أي بالغيث والمطر.

(وَالْأَرْضِ) : أي بالنبات والحبوب والثمار.

__________________

(١) (ضَلَ) : بمعنى ضاع وغاب ولم يجدوه ولم ينتفعوا به ، فما كانوا يختلقونه من الآلهة الباطلة وما كانوا يقدّمونه لها من أنواع العبادات قد ضاع وغاب عنهم فلم يروه.

(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) : أي يملك أسماعكم وأبصاركم إن شاء أبقاها لكم وإن شاء سلبها منكم.

(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) : أي الجسم الحي من جسم ميت والعكس كذلك.

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : أي أمر الخلائق كلها بالحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع.

(أَفَلا تَتَّقُونَ) : أي الله فلا تشركوا به شيئا ولا تعصوه في أمره ونهيه.

(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) : أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته والحق هو أنه لا إله إلا الله.

(حَقَّتْ) : أي وجبت.

(أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : وذلك لبلوغهم حدا لا يتمكنون معه من التوبة البتة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد فيقول تعالى لرسوله (قُلْ) يا رسولنا لأولئك المشركين مستفهما إياهم (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بإنزال المطر وبانبات الحبوب والثمار والفواكه والخضر التي ترزقونها ، وقل لهم (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي أسماعكم وأبصاركم بحيث إن شاء أباقاها لكم وأمتعكم بها ، وإن شاء أخذها منكم وسلبكم إياها فأنتم عمي لا تبصرون وصم لا تسمعون (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالفرخ من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالبيضة من الدجاجة ، والنخلة من النواة ، والنواة من (١) النخلة. (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في السماء والأرض كتعاقب الليل والنهار ونزول الأمطار ، وكالحياة والموت والغنى والفقر والحرب والسلم والصحة والمرض إلى غير ذلك مما هو من مظاهر التدبير الإلهي في الكون. (فَسَيَقُولُونَ اللهُ ،) إذ لا جواب لهم إلا هذا إذا فما دام الله هو الذي يفعل هذا ويقدر عليه دون غيره كيف لا يتّقى عزوجل بتوحيده وعدم الإشراك به ، فلم لا تتقونه؟ (٢)

__________________

(١) وكالنطفة من الإنسان ، والإنسان من النطفة ، ومثلها نطفة الحيوان مخرجها من حيوان حي ، ومن الحيوان الحي تخرج نطفة ميتة.

(٢) أي : فقل لهم يا رسولنا : (أَفَلا تَتَّقُونَ) : أي : أفلا تخافون عقابه ونقمه في الدنيا والآخرة.

وقوله تعالى (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) (١) أي فذلكم الذي يرزقكم من السماء والأرض ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر الأمر هو ربكم (٢) الحق الذي لا رب لكم سواه إذا (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ، (٣) فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال؟ إنه أمر يدعو إلى الاستغراب والتعجب!

وقوله تعالى (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي مثل ذلك الصرف الذي يصرفه المشركون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال أي كما حق ذلك حقت كلمة ربك وهي أن الله لا يهدي القوم الفاسقين فهم لا يهتدون ، وذلك أن العبد إذا توغل في الشر والفساد بالإدمان والاستمرار عليه يبلغ حدا لا يتأتّى له الرجوع منه والخروج بحال فهلك على فسقه لتحق عليه كلمة العذاب وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشركوا العرب كانوا يشركون في الألوهية ويوحدون في الربوبية.

٢ ـ وليس بنافع أن يوحد العبد في الربوبية ويشرك في الألوهية.

٣ ـ ليس بعد الحق (٤) إلا الضلال فلا واسطة بينهما فمن لم يكن على حق فهو على ضلال.

٤ ـ التوغل في الشر والفساد يصبح طبعا لصاحبه فلا يخرج منه حتى يهلك به.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ

__________________

(١) في الصحيح من دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من جوف الليل يقول (اللهم أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق ..) في حديث طويل هذا من وسطه ، والشاهد في قوله : (أنت الحق).

(٢) أي : إلهكم ومعبودكم الحق لا ما تعبدون من أصنام وأوثان فإذا عرفتم إلهكم الحق فإنّ ما بعده من آلهة هو الضلال.

(٣) روي عن مالك في قوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) قال : اللعب بالشطرنج والنرد : هو الضلال ، وسئل عن الغناء فقال : هل هو حق؟ قالوا : لا. قال فما بعد الحق إلّا الضلال. وفي صحيح مسلم : (من لعب بالنرد شير فكأنّما غمس يده في لحم خنزير ودمه).

(٤) روي عن عمر رضي الله عنه أنه رخّص فيما كان فيه دربة على الحرب من أنواع اللعب ، إذ الغرض صحيح ، وهو تعلم فنون الحرب ، وحذق أساليبها.

يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

شرح الكلمات :

(مِنْ شُرَكائِكُمْ) (١) : جمع شريك وهو من أشركوه في عبادة الله تعالى.

(مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) : أي ينشيء الإنسان والحيوان أول ما ينشئه فذلك بدء خلقه.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته.

(أَمَّنْ لا يَهِدِّي) : أي لا يهتدي.

(كَيْفَ تَحْكُمُونَ) : أي هذا الحكم الفاسد وهو اتباع من لا يصح اتباعه لأنه لا يهدي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في حجاج المشركين لبيان الحق لهم ودعوتهم إلى اتباعه فيقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لهؤلاء المشركين (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) (٢) (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟) أي هل يوجد من بين آلهتكم التي تعبدونها من يبدأ خلق إنسان من العدم ثم يميته ، ثم يعيده؟ وجوابهم معروف وهو لا يوجد إذا فكيف تؤفكون أي تصرفون عن الحق بعد معرفته والإقرار به؟ وقل لهم أيضا (قُلْ هَلْ مِنْ) (٣) (شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي يوجد من آلهتكم من يهدي إلى الحق؟ والجواب لا يوجد لأنها لا تتكلم ولا تعلم إذا فقل لهم الله يهدي إلى الحق أي بواسطة نبيه ووحيه وآياته.

وقل لهم (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى (٤) الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (٥) والجواب معروف الذي يهدي إلى الحق أحق بأن يتبع ممن لا يهتدي إلا أن يهدى ، إذا لم لا تتقون

__________________

(١) أي : آلهتكم ومعبوداتكم من الأصنام والأوثان.

(٢) يقول لهم : (هَلْ) على جهة التوبيخ والتقرير ، فإن أجابوك فذاك وإلّا فقل الله يبدأ الخلق.

(٣) هذا الاستفهام كالأول للتوبيخ والتقرير فإن أجابوا فذاك المطلوب وإن لم يجيبوا فأجب أنت بقولك : الله يبدأ الخلق.

(٤) هذا الاستفهام كسابقيه للتوبيخ والتقرير ثم إقامة الحجة.

(٥) في : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) قراءات منها : (لا يهدي) ، بالتخفيف. (لا يهدّي) بتشديد الدال ، وفتح الهاء وهي قراءة ورش ، و (لا يهدي) بكسر الهاء ، وتشديد الدال وهي قراءة حفص.

الله فتوحدوه وتؤمنوا برسوله وكتابه فتهتدوا ، وتتركوا آلهتكم التي لا تهدي إلى الحق؟ (فَما لَكُمْ) أي أيّ شيء ثبت لديكم في ترك عبادة الله لعبادة غيره من هذه الأوثان ، (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي حكم هذا تحكمون به وهو اتباع من لا يهدي وترك عبادة من يهدي إلى الحق. وقوله تعالى (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) (١) أي أن أكثر هؤلاء المشركين لا يتبعون في عبادة أصنامهم إلا الظن فلا يقين عندهم في أنها حقا آلهة تستحق العبادة ، (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي إن الظن لا يكفي عن العلم ولا يغني عنه أي شيء من الإغناء ، والمطلوب في العقيدة العلم لا الظن. (٢) وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) هذه الجملة تحمل الوعيد الشديد لهم على إصرارهم على الباطل وعنادهم على الحق فسيجزيهم بذلك الجزاء المناسب لظلمهم وعنادهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد بإبطال الآلهة المزعومة حيث اعترف عابدوها بأنها لا تبدأ خلقا ولا تعيده بعد موته ، ولا تهدي إلى الحق ، والله يبدأ الخلق ثم يعيده ويهدي إلى الحق.

٢ ـ إبطال الأحكام الفاسدة وعدم إقرارها ووجوب تصحيحها.

٣ ـ لا يقبل الظن في العقائد بل لا بد من العلم اليقيني فيها.

٤ ـ كراهية القول بالظن والعمل به وفي الحديث (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ

__________________

(١) في الآية دليل على أن عابدي غير الله تعالى ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها بل أكثرهم لا يتبعون في عبادتها إلا مجرّد الظن ، والبعض الآخر القليل لا اعتقاد لهم إلا اتباع غيرهم وتقليد سواهم من رؤسائهم ، وأهل الكلمة فيهم ، فكلا الفريقين هالك.

(٢) الظن يطلق على مراتب الإدراك ، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا شك فيه كقوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) ويطلق على الاعتقاد المشكوك فيه كقول قوم نوح لنوح : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) ويطلق على الاعتقاد المخطىء كآية : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وحديث : (فإن الظن أكذب الحديث).

مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

شرح الكلمات :

(أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) : أي افتراء أي لم يكن هذا القرآن افتراء.

(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) : أي بيان ما فرض الله تعالى على هذه الأمة وما أحل لها وما حرم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي اختلقه من نفسه وتقوّله من عنده.

(بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) : أي بما توعدهم الله تعالى به من العذاب.

(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) : أي ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه ذلك الوعيد من العذاب.

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي كتكذيب هؤلاء بوعد الله لهم كذب الذين من قبلهم.

معنى الآيات :

هذه الآيات في تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى : (وَما كانَ هذَا (١) الْقُرْآنُ) أي لم يكن من شأن هذا القرآن العظيم (أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أي يختلق من غير الله تعالى من سائر خلقه ، (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (٢) أي ولكنه كلام الله ووحيه أوحاه إلى رسوله وأنزله تصديق الذي بين يديه أي من الكتب التي سبقت نزوله وهي التوراة والإنجيل (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) الذي كتبه الله تعالى على أمة الإسلام من الفرائض والشرائع والأحكام. وقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في أنه وحي الله وكلامه نزل من رب العالمين ، وهو الله مربي الخلائق أجساما وعقولا وأخلاقا وأرواحا ومن مقتضى ربوبيته إنزال كتاب فيه تبيان كل شيء يحتاج إليه العبد في تربيته وكماله البدني والروحي والعقلي والخلقي.

__________________

(١) علم الله تعالى أنّ غيره تعالى لا يتأتى له الإتيان بمثل هذا القرآن كما قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

(٢) أي : أنزله مصدقا لما بين يديه أي : لما تقدمه من الكتب الإلهية. هذا كقوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ). ونصب (تصديق) على أنه اسم كان ، والتقدير : ولكن كان تصديق الذي

وقوله تعالى في الآية الثانية (٣٨) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) (١) أي بل يقول هؤلاء المشركون المجاحدون وهو قول في غاية السّخف والقباحة يقولون القرآن افتراه محمد ولم يكن بوحي أنزل عليه ، قل يا رسولنا متحديا إياهم أن يأتوا بسورة مثله. (٢) فإنهم لا يستطيعون وبذلك تبطل دعواهم ، وقل لهم ادعوا لمعونتكم على الإتيان بسورة مثل سور القرآن من استطعتم الحصول على معونتهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن لم يكن وحيا من الله ، وإنما هو اختلاق اختلقه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (٣) وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي إن القضية ليست قضية أنهم ما استطاعوا أن يدركوا أن القرآن كلام الله ، وإنما القضية هي أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه من وعيد الله تعالى لهم بالعذاب ، ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه الوعيد إذ لو رأوا العذاب ما كذبوا ، ولذا قال تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) كما في آية الأنعام. وهنا قال تعالى (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فقد أهلك تعالى الظلمة من قوم نوح بالغرق ومن قوم هود بريح صرصر ومن قوم صالح بالصيحة ومن قوم شعيب بالرجفة ومن أمم أخرى بما شاء من أنواع العذاب فهؤلاء إن لم يتوبوا واستمروا في تكذيبهم فسوف يحل بهم ما حل بغيرهم وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ من أدلة أن القرآن كلام الله تصديقه للكتب السالفة وعدم التناقض معها إذ هما من مصدر واحد وهو الله رب العالمين.

٣ ـ من أدلة القرآن على أنه وحي الله تحدى الله العرب بالإتيان بسورة واحدة في فصاحته

__________________

(١) (أَمْ يَقُولُونَ) أم هنا : هي المنقطعة التي تفسّر ببل ، والهمزة. أي : بل أيقول افتراه ، والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ.

(٢) هذا دليل على أن القرآن الكريم معجز ، وهو كذلك معجز بألفاظه ومعانيه معا.

(٣) (بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله). هذا الكلام الإلهي يحتمل معنيين صحيحين. الأول : هو ما في التفسير ، والثاني : المراد بما لم يحيطوا بعلمه : القرآن الكريم ، فهم لم يتدبروه ، ولم يفهموا ما يدعو إليه وكذبوا به عن جهل مع العناد والمكابرة فما في قوله : (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) اسم موصول المراد به : القرآن الكريم أمّا على المعنى الأول فإن المراد به العذاب الذي كذّبوا به ، ولم يحل بهم بعد.

وبلاغته وإعجازه وعجزهم عن ذلك.

٤ ـ استمرار المشركين في العناد والمجاحدة علته أنهم لم يذوقوا ما توعدهم الله به من العذاب إذ لو ذاقوا لآمنوا ولكن لا ينفعهم حينئذ الإيمان.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) : أي من أهل مكة المكذبين بالقرآن من يؤمن به مستقبلا.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) : وهم دعاة الضلالة الذين يفسدون العقول والقلوب والجملة تهديد لهم.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) : أي استمروا على تكذيبك.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) : أي إذا قرأت القرآن.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) : أي يبصر ويشاهد آيات النبوة وأعلام صدقك ، ولا يهتدي إلى معرفة أنك رسول الله لأن الله تعالى حرمه ذلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى في خطاب رسوله ليسلّيه ويصبّره على عدم إيمان قومه مع ظهور الأدلة وقوة البراهين (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالقرآن وبالنبي

أيضا إذ الإيمان بواحد يستلزم الإيمان بالثاني ، (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) (١) ، وهذا إخبار غيب فتم كما أخبر تعالى فقد آمن من المشركين عدد كبير ولم يؤمن عدد آخر. وقوله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي الذين لا يؤمنون وفي الجملة تهديد لأولئك الذين يصرفون الناس ويصدونهم عن الإيمان والتوحيد. وقوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي استمروا في تكذيبهم لك فلا تحفل بهم وقل (لِي عَمَلِي (٢) وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) فإذا كان هناك عقاب دنيوي فإنك تسلم منه ويهلكون هم به.

وقوله تعالى في الآية (٤٢) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) (٣) إلى قراءتك القرآن وإلى قولك إذا قلت داعيا أو آمرا أو ناهيا ، ومع هذا فلا يفهم ولا ينتفع بما يسمع ، ولا لوم عليك في ذلك لأنك لا تسمع الصم ، وهؤلاء صم لا يسمعون ، ومنهم من ينظر إليك بأعين مفتحة ويرى علامات النبوة وآيات الرسالة ظاهرة فى حالك ومقالك ومع هذا لا يهتدي ولا لوم عليك فإنك لا تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون. (٤) وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بيان لسنة الله تعالى في أولئك الذين يسمعون ولا ينتفعون بسماعهم ، ويبصرون ولا ينتفعون بما يبصرون ، وهي أن من توغل في البغض والكراهية لشيء يصبح غير قادر على الانتفاع بما يسمع منه ولا بما يبصر فيه. ولذا قيل حبك الشيء يعمي ويصم ، والبغض كذلك كما أن الاسترسال في الشر والفساد مدة من الزمن يحرم صاحبه التوبة إلى الخير والصلاح ، ومن هنا قال تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ (٥) النَّاسَ شَيْئاً ، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.

٢ ـ تقرير معنى آية (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

__________________

(١) كأبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وغيرهم

(٢) أي لي ثواب عملي على التبليغ والطاعة لله تعالى ولكم جزاء عملكم الذي هو الشرك والكفر والتكذيب.

(٣) أي : في ظواهرهم أمّا قلوبهم فلا تعي شيئا مما تقول من الحق وتتلوه من القرآن.

(٤) أي : ولو انضمّ إلى عدم البصر عدم البصيرة.

(٥) في هذا إشارة إلى أنّ عدم هدايتهم لم يكن خارجا عن إرادتهم ولكن كان باستحبابهم العمى على الهدى وإيثارهم للدنيا على الآخرة.

٣ ـ تعليم رسول الله طريق الحجاج والرد على الخصوم المشركين.

٤ ـ انتفاء الظلم عن الله تعالى ، وإثباته للإنسان لنفسه.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨))

شرح الكلمات :

(يَحْشُرُهُمْ) : أي نبعثهم من قبورهم ونجمعهم لساحة فصل القضاء.

(كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) : أي في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتا في قبورهم.

(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) : أي نميتك قبل ذلك.

(فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) : أي في عرصات القيامة.

(بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي بالعذاب يوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي اذكر لهم يوم نحشرهم من قبورهم بعد بعثهم أحياء (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) (١) في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتا في قبورهم. (إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (٢) أي ليرى بعضهم بعضا

__________________

(١) أصلها : كأنهم ثم خففت : أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم.

(٢) الجملة في موضع نصب على الحال. وتعارفهم هذا في عرصات القيامة إنما هو تعارف توبيخ وافتضاح فيقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وحملتني على الكفر ، ثم تنقطع المعرفة عند معاينتهم العذاب يوم القيامة.

ساعة ثم يحول بينهم هول الموقف ، وقوله تعالى (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ (١) وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) يخبر تعالى أن الذين كذبوا بالبعث الآخر والحساب والجزاء الأخروي فلم يرجوا لقاء الله فيعملوا بمحابه وترك مساخطه قد خسروا في ذلك اليوم أنفسهم وأهليهم في جهنم ، وقوله (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي في حياتهم حيث انتهوا إلى خسران وعذاب أليم.

وقوله تعالى (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) (٢) أي إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل ذلك فعلى كل حال مرجعهم إلينا جميعا بعد موتهم ، فنحاسبهم ونجازيهم بحسب سلوكهم في الدنيا الخير بالخير والشر بمثله ، وقوله تعالى (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (٣) تقرير وتأكيد لمجازاتهم يوم القيامة لأن علم الله تعالى بأعمالهم وشهادته عليها كاف في وجوب تعذيبهم. وقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل أمة من الأمم رسول أرسل إليها وبلغها فأطاع من أطاع وعصى من عصى فإذا جاء رسولها في عرصات القيامة قضي بينهم أي حوسبوا أو جوزوا بالقسط أي بالعدل وهم لا يظلمون بنقص حسنات المحسنين ولا بزيادة سيئآت المسيئين. وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ) أي المشركون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، (مَتى هذَا الْوَعْدُ) (٤) أي بالعذاب يوم القيامة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يقولون هذا استعجالا للعذاب لأنهم لا يؤمنون به. والجواب في الآية التالية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.

٢ ـ الإعلان عن خسران منكري البعث يوم القيامة.

__________________

(١) أي : يوم العرض عليه بين الخلائق.

(٢) وإما أصلها إن الشرطية وما الزائدة لتقوية الكلام و (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) هو عذاب الدنيا كما هو إظهار الدين ونصرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) أي : بعد وفاتك ، فالله عزوجل خليفتك فيهم وسوف يجزيهم بحسب كسبهم خيرا وشرا.

(٤) أي : متى العذاب ، أو متى القيامة التي يعدنا بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر حتى يؤدي رسالته بإعلامه بأنه سيعذب أعداءه.

٤ ـ بيان كيفية الحساب يوم القيامة بأن يأتى الرسول وأمته ثم يجري الحساب بينهم فينجي الله المؤمنين ويعذب الكافرين.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣))

شرح الكلمات :

(لِنَفْسِي ضَرًّا) : أي لا أقدر على دفع الضر إذا لم يعنّي الله تعالى.

(وَلا نَفْعاً) : أي لا أقدر على أن أجلب لنفسي نفعا إذا لم يرده الله تعالى لي.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) : أي وقت معين لهلاكها.

(فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) : أي عن ذلك الأجل.

(وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) : أي عليه ساعة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : أي قل لهم أخبروني.

(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) : أي حل العذاب.

(عَذابَ الْخُلْدِ) : أي الذي يخلدون فيه فلا يخرجون منه.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) : أي ويستخبرونك.

(قُلْ إِي) : أي نعم.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) : أي بفائتين العذاب ولا ناجين منه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين فقد طالبوا في الآيات السابقة بالعذاب فقالوا (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي بالعذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فأمر الله تعالى رسوله في هذه الآيات أن يقول لهم إني (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) أي لا أملك دفع الضر عني ، ولا جلب النفع لي إذا لم يشأ الله تعالى ذلك ، فكيف أعلم الغيب وأعرف متى يأتيكم العذاب كما لا أقدر على تعجيله إن كان الله يريد تأجيله ، واعلموا أنه لكل أمة من الأمم أجل أي وقت محدد لهلاكها وموتها فيه ، فلا يتأخرون عنه ساعة ولا يتقدمون عليه بأخرى فلذا لا معنى لمطالبتكم بالعذاب. وشيء آخر أرأيتم أي أخبروني إن أتاكم العذاب الذي تستعجلونه بياتا (١) أي ليلا أو نهارا أتطيقونه وتقدرون على تحمله إذا فما ذا تستعجلون منه أيها المجرمون (٢) إنكم تستعجلون أمرا عظيما. وقوله تعالى (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟) (٣) أي اتستمرون على التكذيب والعناد ، ثم إذا وقع آمنتم به ، وهل ينفعكم إيمانكم يومئذ؟ فقد يقال لكم توبيخا وتقريعا آلآن تؤمنون به ، وقد كنتم به تستعجلون.

وقوله تعالى (ثُمَ (٤) قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)؟ يخبر تعالى أنه إذا دخل المجرمون النار وهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي ذوقوا ـ تهكما بهم ـ عذاب الخلد أي العذاب الخالد الذي لا يفني ولا يبيد إنكم ما تجزون أي ما تثابون إلا بما كنتم تكسبونه من الشرك والمعاصي. وقوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟) أي ويستخبرك المشركون المعاندون قائلين لك أحق ما تعدنا به من العذاب يوم القيامة؟ أجبهم بقولك (قُلْ إِي وَرَبِّي (٥) إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) الله ولا فائتينه بل لا بد وأن يلجئكم إلى العذاب إلجاء ، ويذيقكموه عذابا أليما دائما وأنتم صاغرون.

__________________

(١) البيات : اسم مصدر ليلا كالسلام للتسليم.

(٢) المجرمون : أصحاب الجرم الذي هو الشرك والقائلون متى هذا الوعد من كفار مكة.

(٣) (أَثُمَ) الهمزة للاستفهام وقدمت على ثم العاطفة ، لأنّ لها حق الصدارة والتقدير : ثم إذا وقع ، والمستفهم عنه هو حصول الإيمان في وقت وقوع العذاب ، وهو غير نافع لصاحبه فكيف ترضونه أنتم لأنفسكم.

(٤) (ثُمَ) : حرف عطف ، وهي هنا للتراخي الرتبي فهذا يقال للمشركين عند دخولهم النار وهو من باب التهكم بهم والتقريع لهم ، وإعلامهم بما لا يستطيعون دفعه بحال : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والقائلون هم خزنة جهنم.

(٥) (إِي) : كلمة تحقيق وايجاب ، وتأكيد هي بمعنى «نعم» (وَرَبِّي) قسم جوابه : (إِنَّهُ لَحَقٌ) أي : هو كائن لا شك فيه ولا محالة من وقوعه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا يملك أحد من الخلق لنفسه فضلا عن غيره ضرا يدفعه ولا نفعا يجلبه إلا بإذن الله تعالى ومشيئته ، وخاب الذين يعولون على الأولياء في جلب النفع لهم ودفع الشر عنهم.

٢ ـ الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر فلذا لا معنى للجبن من العبد.

٣ ـ لا ينفع الإيمان ولا التوبة عند معاينة العذاب أو ملك الموت.

٤ ـ جواز الحلف بالله إذا أريد تأكيد الخبر.

٥ ـ إي حرف إجابة وتقترن دائما بالقسم نحو إي والله ، إي وربي.

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

شرح الكلمات :

(لَافْتَدَتْ بِهِ) : لقدمته فداء لها.

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) : أخفوها في أنفسهم على ترك الإيمان والعمل الصالح.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) : أي حكم الله بينهم بالعدل.

(وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي ما يعدهم الله به هو كائن حقا.

(مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي وصية من ربكم بالحق والخير ، وباجتناب الشرك والشر.

(وَهُدىً) : أي بيان لطريق الحق والخير من طريق الباطل والشر.

فضل الله ورحمته : ما هداهم إليه من الإيمان والعمل الصالح ، واجتناب الشرك والمعاصي.

(فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) : أي فبالإيمان والعمل الصالح بعد العلم والتقوى فليسروا وليستبشروا.

(هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) : أي من المال والحطام الفاني.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان أن ما وعد الله تعالى به المشركين من العذاب هو آت لا محالة إن لم يؤمنوا وإنه عذاب لا يطاق فقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) أي نفسها بالشرك والمعاصي ، لو أن لها ما في الأرض من مال صامت وناطق وقبل منها لقدمته فداء (١) لها من العذاب ، وذلك لشدة العذاب. وقال تعالى عن الكافرين وهم في عرصات القيامة وقد رأوا النار (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) (٢) أي أخفوها في صدورهم ولم ينطقوا بها وهي ندمهم الشديد على عدم إيمانهم واتباعهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وقضى الله تعالى أي حكم بين الموحدين والمشركين والظالمين والمظلومين (٣) بالقسط الذي هو العدل الإلهي والحال أنهم لا يظلمون بأن يؤاخذوا بما لم يكتسبوا. وقوله تعالى (أَلا إِنَ (٤) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي انتبهوا واسمعوا أيها المشركون إن لله ما في السموات والأرض من سائر المخلوقات ملكا حقيقيا لا يملك معه أحد شيئا من ذلك فهو يتصرف في ملكه كما يشاء يعذب ويرحم يشقي ويسعد لا اعتراض عليه ألا أن وعد الله حق أي تنبهوا مرة أخرى واسمعوا إن وعد الله أي ما وعدكم به من العذاب حق ثابت لا يتخلف. وقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

__________________

(١) ولكن لا يقبل منها كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ).

(٢) إسرارهم الندامة كان عند معاينة العذاب ، وقبل الدخول فيه ، والندامة : الحسرة على وقوع مكروه أو فوات محبوب.

(٣) وبين الرؤساء والمرؤوسين ، أي : بين المتبوعين والتابعين لهم.

(٤) (أَلا) : كلمة استفتاح وتنبيه يؤتى بها في أوّل الكلام ، معناها : انتبهوا لما أقول لكم.

إذ لو علموا أن العذاب كائن لا محالة وعلموا مقدار هذا العذاب ما كفروا به وقوله تعالى (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يخبر تعالى عن نفسه أنه يحيي ويميت ومن كان قادرا على الإحياء والإماتة فهو قادر على كل شيء ، ومن ذلك إحياء الكافرين بعد موتهم وحشرهم إليه ومجازاتهم على ما كسبوا من شر وفساد وقوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تقرير مبدأ المعاد الآخر. بعد هذه التقريرات لقضايا العقيدة الثلاث : التوحيد ، والنبوة ، والبعث والجزاء نادى الله تعالى العرب والعجم سواء قائلا (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ (١) مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وكل من الموعظة التي هي الأمر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب والشفاء والهدى والرحمة قد حواها القرآن الكريم كأنه قال يا أيها الناس وفيكم الجاهل والفاسق والمريض بالشرك والكفر والضال عن الحق ، والمعذب في جسمه ونفسه قد جاءكم القرآن يحمل كل ذلك لكم فآمنوا به واتبعوا النور الذي يحمله وتداووا به واهتدوا بنوره تشفوا وتكملوا عقلا وخلقا وروحا وتسعدوا في الحياتين معا.

وقوله تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ (٢) فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي بلّغهم يا رسولنا آمرا إياهم بأن يفرحوا (٣) بالإسلام وشرائعه والقرآن وعلومه فإن ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني ، وما يعقب من آثار سيئة لا تحتمل ولا تطاق.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عظم عذاب يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن يفتدى منه بما في الأرض جميعا.

٢ ـ تقرير ربوبية الله تعالى لسائر المخلوقات في العالمين العلوي والسفلي.

٣ ـ الإشادة بفضل القرآن وعظمته لما يحمله من المواعظ والهدى والرحمة والشفاء.

٤ ـ يستحب الفرح بالدين ويكره الفرح بالدنيا.

__________________

(١) المراد بالموعظة وما بعدها من الصفات القرآن الكريم إذ هو الجامع لكل ما ذكر ، وإنّما عطفت المذكورات لتأكيد المدح. كقول الشاعر :

إلى الملك القوم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

(٢) قال أبو سعيد الخدري وابن عباس : فضل الله : القرآن ، ورحمته الإسلام ، وصحّت الإشارة بذلك إلى الاثنين لأنّ العرب تشير بذلك إلى المفرد والمثنى والجمع.

(٣) روي أن من هداه الله للإسلام وعلمه القران ثم شكا الفاقة (الفقر) كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) الآية.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) : أي الذي خلق لكم من رزق كلحوم الأنعام.

(آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) : أي في التحريم حيث حرمتم البحيرة والسائبة وفي التحليل حيث أحللتم الميتة.

(يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) : أي يختلقون الكذب تزويرا له وتقديرا في أنفسهم.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) : أي في أمر عظيم.

(شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي تأخذون في القول أو العمل فيه.

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) : أي يغيب.

(مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) : أي وزن ذرة والذرة أصغر نملة.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : أي اللوح المحفوظ ومبين أي واضح.

معنى الآيات :

سياق الآيات في تقرير الوحي وإلزام المنكرين له من المشركين بالدليل العقلي قال

تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لهؤلاء المشركين (١) (أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي أخبروني عما خلق الله لكم من نبات وطعام وحرث فجعلتم منه حراما كالبحيرة والسائبة والثياب التى تحرّمون الطواف بها والحرث الذي جعلتموه لالهتكم ، وحلال كالميتة التي تستبيحونها (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) (٢) (في هذا التشريع بوحي منه (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) فإن قلتم الله أذن لنا بوحي فلم تنكرون الوحي وتكذبون به ، وإن قلتم لا وحي ولكننا نكذب على الله فموقفكم إذا شر موقف إذ تفترون على الله الكذب والله تعالى يقول : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي إذا هم وقفوا بين يديه سبحانه وتعالى ما ظنهم أيغفر لهم ويعفى عنهم لا بل يلعنون وفي النار هم خالدون وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) في كونه لا يعجل لهم العقوبة وهم يكذبون عليه ويشركون به ويعصونه ويعصون رسوله ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٣) وذلك لجهلهم وسوء التربية الفاسدة فيهم ، وإلا العهد بالإنسان أن يشكر لأقل معروف وأتفه فضل.

وقوله تعالى (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ (٤) وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي وما تكون يا رسولنا في أمر من أمورك الهامة وما تتلو من القرآن من آية أو آيات في شأن ذلك الأمر (إِلَّا كُنَّا) أي نحن رب العزة والجلال (عَلَيْكُمْ شُهُوداً) أي حضورا (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) (٥) أي في الوقت الذي تأخذون فيه ، وقوله تعالى (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي (٦) الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يخبر تعالى عن سعة علمه تعالى وإحاطته بسائر مخلوقاته بحيث لا يعزب أي لا يغيب عن علمه تعالى مثقال ذرة أي وزن ذرة وهي النملة الصغيرة وسواء كانت في الأرض أو في السماء ، وسواء كانت أصغر من النملة أو

__________________

(١) من كفّار قريش.

(٢) الاستفهام تقريري مشوب بالإنكار عليهم أيضا. وعبر عن إعطائهم الرزق بإنزاله لهم ، لأنّ أرزاقهم من حبوب وثمار وأنعام كلها متوفقة على المطر النازل من السماء حتى سمى العرب ببني ماء السماء. وشاهده قوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ..) الآية.

(٣) بذكره وعبادته وحده بما شرع أن يعبد به ، وعلّة عدم الشكر ، انظرها في التفسير.

(٤) الشأن والجمع شؤون : الخطب والأمر الهام ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمّة معه وقدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلو شأنه وسمو مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) الإفاضة في العمل : الشروع والدخول فيه.

(٦) الذرّة : النملة الصغيرة ، أو الهباءة التي ترى في ضوء الشمس.

أكبر منها. بالإضافة إلى أن ذلك كله في كتاب مبين أي في اللوح المحفوظ. لهذا العلم والقدرة والرحمة استوجب التأليه والعبادة دون سائر خلقه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير الوحي وإثباته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ التحريم والتحليل من حق الله تعالى دون سائر خلقه.

٣ ـ حرمة الكذب على الله ، وإن صاحبه مستوجب للعذاب.

٤ ـ ما أعظم نعم الله تعالى على العباد ومع هذا فهم لا يشكرون إلا القليل منهم

٥ ـ وجوب مراقبة الله تعالى ، وحرمة الغفلة في ذلك.

٦ ـ إثبات اللوح المحفوظ وتقريره كما صرحت به الآيات والأحاديث.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

شرح الكلمات :

(أَلا) : أداة استفتاح وتنبيه.

(إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) : جمع وليّ وهو المؤمن التقي بشرط أن يكون إيمانه وتقواه على نور من الله.

(لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) : أي لا يخافون عند الموت ولا بعده ، ولا هم يحزنون على ما تركوا بعد موتهم.

(آمَنُوا) : أي صدقوا بالله وبما جاء عن الله وبرسول الله وبما أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يَتَّقُونَ) : أي ما يسخط الله تعالى من ترك واجب أو فعل حرام.

(لَهُمُ الْبُشْرى) : أي بالجنة في القرآن الكريم وعند الموت وبالرؤيا الصالحة يراها أو ترى له.

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) : أي لوعده الذي يعده عباده الصالحين ، لأن الوعد بالكلمة وكلمة الله لا تبدل.

(الْفَوْزُ) : النجاة من النار ودخول الجنة.

معنى الآيات :

يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأداة التنبيه (أَلا) وأداة التوكيد (إِنَ) فيقول : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ (١) اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يخافون عند الموت ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم بعد موتهم ولا في الدار الآخرة وبين تعالى أولياءه وعرف بهم فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٢) أي آمنوا به وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله عن ربه ، وكانوا يتقون طوال حياتهم وسائر ساعاتهم سخط الله تعالى فلا يتركون واجبا هم قادرون على القيام به ، ولا يغشون محرما لم يكرهوا عليه. وقوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى) في الحياة الدنيا وفي (٣) الآخرة : أي لهم بشرى ربهم فى كتابه برضوانه ودخول الجنة ولهم البشرى بذلك عند الاحتضار تبشرهم الملائكة برضوان الله وجنته وفي الآخرة عند قيامهم من قبورهم تتلقاهم الملائكة بالبشرى.

وقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) (٤) وهو تأكيد لما بشرهم ، إذ تلك البشرى كانت بكلمات الله وكلمات الله لا تتبدل فوعد الله إذا لا يتخلف.

__________________

(١) الولي : مشتق من الولي بسكون اللام الذي هو القرب ، ومتى زكت نفس المؤمن بالإيمان والعمل الصالح ، وتخلّيها عن الشرك ، والمعاصي قرب من الله تعالى فوالاه ، ومن آيات الولاية : استجابة الدعاء وهو من الكرامات التي يكرم الله تعالى بها أولياءه وفي الحديث : (الذين يذكر الله برؤيتهم) وفي لفظ : (الذين إذا رؤوا ذكر الله) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء ، والشهداء. قيل من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبّهم؟ قال : هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) الآية.

(٢) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أي : كأنّما سائل قال : من هم أولياء الله؟ فأجيب : الذين آمنوا وكانوا يتقون).

(٣) لحديث : (انقطع الوحي ولم يبق إلّا المبشرات قالوا : وما المبشرات يا رسول الله؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن أو ترى له).

(٤) كلمات الله هي : التي بها مواعيده ولذا فما يباشر الله تعالى به أولياءه هو كائن لا محالة إذ مواعيده لا تتبدل ووعوده لا تخلف.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ولاية الله تعالى بطاعته وموافقته في محابه ومكارهه فمن آمن إيمانا يرضاه الله ، واتقى الله في أداء الفرائض واجتناب المناهي فقد صار ولي الله والله وليه.

٢ ـ البشرى هي ما يكرم الله به برؤيا صالحة يراها الولي أو ترى له.

٣ ـ الأولياء هم أهل الإيمان والتقوى فالكافر والفاجر لا يكون وليا أبدا ، إلا إذا آمن الكافر ، وبرّ الفاجر بفعل الصالحات وترك المنهيات.

٤ ـ صدق إخبار الله تعالى وعدالة أحكامه ، وسر ولايته إذ هي تدور على موافقة الرب تعالى فيما يجب من الاعتقادات والأعمال والأقوال والذوات والصفات وفيما يكره من ذلك فمن وافق ربه فقد والاه ومن خالفه فقد عاداه.

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

شرح الكلمات :

(لا يَحْزُنْكَ) : أي لا يجعلك قولهم تحزن.

(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) : العزة الغلبة ولقهر.

(شُرَكاءَ) : أي شركاء بحق يملكون مع الله لعابديهم خيرا أو يدفعون عنهم ضرا.

(إِلَّا الظَّنَ) : الظن أضعف الشك.

(يَخْرُصُونَ) : أي يحزرون ويكذبون.

(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : أي تخلدوا فيه إلى الراحة والسكون عن الحركة.

(مُبْصِراً) : أي مضيئا ترى فيه الأشياء كلها.

(فِي ذلِكَ) : أي من جعله تعالى الليل سكنا والنهار مبصرا لآيات.

(يَسْمَعُونَ) : أي سماع إجابة وقبول.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير قضايا التوحيد الثلاث التوحيد والنبوة والبعث قال تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا يجعلك قول المشركين المفترين (لَسْتَ مُرْسَلاً) وأنك (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) تحزن فإن قولهم هذا لا ينتج لهم إلا سوء العاقبة والهزيمة المحتمة ، (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١) فربك القوى القادر سيهزمهم وينصرك عليهم. إذا فاصبر على ما يقولون ولا تأس ولا تحزن. إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم ولا يخفى عليه شيء من أمرهم. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرفا ، كل شيء في قبضته وتحت سلطانه وقهره فكيف تبالي بهم يا رسولنا فتحزن لأقوالهم (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي آلهة حقا بحيث تستحق العبادة لكونها تملك نفعا أو ضرا ، موتا أو حياة لا بل ما هم في عبادتها متبعين إلا الظن (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يتقولون ويكذبون. وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي (٢) جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي الإله الحق الذي يجب أن يدعى ويعبد الله الذي جعل لكم أيها الناس ليلا مظلما لتسكنوا فيه فتستريحوا من عناء العمل في النهار. وجعل لكم النهار مبصرا (٣) أي مضيئا لتتمكنوا من العمل فيه فتوفروا لأنفسكم ما تحتاجون إليه في حياتكم من غذاء وكساء. وليست تلك الآلهة من أصنام وأوثان بالتي تستحق الألوهية فتدعى وتعبد. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٤) أي إن فيما

__________________

(١) أي : القوة الكاملة ، والغلبة الشاملة ، والقدرة التامة لله وحده ، والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب ، والقوي الذي لا يحال بينه وبين مراده. و (جَمِيعاً) منصوب على الحال ، وعزّة المؤمنين هي بعزّة الله فلا منافاة إذا.

(٢) في الآية استدلال على عزّته تعالى وملكه لكل شيء وقدرته وتصرفه في كل شيء وهو ما أوجب له العبادة دون ما سواه.

(٣) يقال أبصر النهار ، إذا صار ضياء ، وأظلم الليل إذا صار ذا ظلام.

(٤) الجملة مستأنفة ، والآيات : الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته ، والدلالة تكون مرئية ومسموعة ومعقولة ، وعليه فالأعمى والأصم وغير العاقل لا يستفيدون منها فهذه علّة عدم استفادة المشركين من الآيات لفقدهم آلات العقل والسمع والبصر ، إذ فسدت بالجهل والتقليد والعناد والمكابرة والجحود.

ذكر تعالى من كماله وعزته وقدرته وتدبيره لأمور خلقه آيات علامات واضحة على أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره ، ولكن يرى تلك الآيات من يسمع سماع قبول واستجابة لا من يسمع الصوت ولا يفكر فيه ولا يتدبر معانيه فإن مثله أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ على المؤمن الداعي إلى الله تعالى أن لا يحزنه أقوال أهل الباطل وأكاذيبهم حتى لا ينقطع عن دعوته ، وليعلم أن العزة لله جميعا وسوف يعزه بها ، ويذل أعداءه.

٢ ـ ما يعبد من دون الله لم يقم عليه عابدوه أي دليل ولا يملكون له حجة وإنما هم مقلدون يتبعون الظنون والأوهام.

٣ ـ مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والتدبير كافية في إثبات العبادة له ونفيها عما سواه.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

شرح الكلمات :

(سُبْحانَهُ) : أي تنزه عن النقص وتعالى أن يكون له ولد.

(الْغَنِيُ) : أي الغنى المطلق بحيث لا يفتقر إلى شيء.

(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أي ما عندكم من حجة ولا برهان.

(بِهذا) : أي الذي تقولونه وهو نسبة الولد إليه تعالى.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) : أي ما هم فيه اليوم هو متاع لا غير وسوف يموتون ويخسرون

كل شيء.

(يَكْفُرُونَ) : أي بنسبة الولد إلى الله تعالى ، وبعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تحقيق التوحيد وتقريره بإبطال الشرك وشبهه فقال تعالى : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) أي قال المشركون أن الملائكة بنات الله (١) وهو قول مؤسف محزن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقولهم له (لَسْتَ مُرْسَلاً) ، وقد نهي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن من جراء أقوال المشركين الفاسدة الباطلة. ونزه الله تعالى نفسه عن هذا الكذب فقال سبحانه ، وأقام الحجة على بطلان قول المشركين بأنه هو الغنيّ الغنى الذاتي الذي لا يفتقر معه إلى غيره فكيف إذا يحتاج إلى ولد أو بنت فيستغني به وهو الغني الحميد ، وبرهان آخر على غناه أن له ما في السموات وما في الأرض الجميع خلقه وملكه فهل يعقل أن يتخذ السيد المالك عبدا من عبيده ولدا له. وحجة أخرى هل لدى الزاعمين بأن لله ولدا حجة تثبت ذلك والجواب لا ، لا. قال تعالى مكذبا إياهم : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) (٢) أي ما عندكم من حجة ولا برهان بهذا الذي تقولون ثم وبخهم وقرعهم بقوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى (٣) اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول معلنا عن خيبة الكاذبين وخسرانهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (٤) وإن قيل كيف لا يفلحون وهم يتمتعون بالأموال والأولاد والجاه والسلطة أحيانا فالجواب في قوله تعالى (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) (٥) أي ذلك متاع في الدنيا ، يتمتعون به إلى نهاية أعمارهم ، ثم إلى الله تعالى مرجعهم جميعا ، ثم يذيقهم العذاب الشديد الذي ينسون معه كل ما تمتعوا به في الحياة الدنيا ، وعلل

__________________

(١) وقال اليهود : عزير بن الله وقال النصارى عيسى بن الله والكل مفتر كذّاب ، ولا شك أن الشيطان هو الذي زيّن لهم هذا الباطل ليغويهم فيضلهم ويهلكهم.

(٢) (إِنْ) نافية بمعنى : (ما) كما هي في التفسير أي : ما عندكم من حجة تثبت ما ادعيتموه وتلزم به لقوتها كقوة ذي السلطان.

(٣) الاستفهام للتوبيخ والتقريع بجهلهم وكذبهم إذ الولد يتطلب المجانسة والمشابهة بينه وبين من ينسب إليه وأين ذلك؟ والله ليس كمثله شيء إذ هو خالق كل شيء.

(٤) الفلاح : الفوز ، والفوز هي السلامة من المرهوب والظهر بالمحبوب المرغوب ، والمفترون على الله الكذب لا ينجون من النار ولا يدخلون الجنة فهم إذا خاسرون غير مفلحين.

(٥) هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب سؤال هو : كيف لا يفلحون وهم في عزّة وقدرة وسلطان فيجاب السائل : بأن هذا متاع في الدنيا زائل لا قيمة له ، بالمقابلة بالفلاح المنتفي عنهم وهو فلاح الآخرة.

تعالى ذلك العذاب الشديد الذي أذاقهم بكفرهم فقال : (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (١) أي يجحدون كمال الله وغناه فنسبوا إليه الولد والشريك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كفر من ينسب إلى الله تعالى أي نقص كالولد والشريك أو العجز مطلقا.

٢ ـ كل دعوى لا يقيم لها صاحبها برهانا قاطعا وحجة واضحة فلا قيمة لها ولا يحفل بها.

٣ ـ أهل الكذب على الله كالدجالين والسحرة وأهل البدع والخرافات لا يفلحون ونهايتهم الخسران.

٤ ـ لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بما يرى عليه أهل الباطل والشر من المتع وسعة الرزق وصحة البدن فإن ذلك متاع الحياة الدنيا ، ثم يؤول أمرهم إلى خسران دائم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

شرح الكلمات :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) : أي اقرأ على المشركين نبأ نوح أي خبره العظيم الخطير.

__________________

(١) الباء في (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) للتعليل الذي هو السببيّة أي : بسبب كفرهم ، إذ الكفر خبث نفوسهم فاستوجبوا النار وعذابها.

(كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) : أي عظم عليكم مقامي بينكم ادعوا الى ربي.

(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) : أي اعزموا عزما أكيدا.

(غُمَّةً) : أي خفاء ولبسا لا تهتدون منه إلى ما تريدون.

(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) : أي انفذوا أمركم.

(وَلا تُنْظِرُونِ) : أي ولا تمهلون رحمة بي أو شفقة علي.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : أي أعرضتم عما أدعوكم إليه من التوحيد.

(فِي الْفُلْكِ) : أي في السفينة.

(خَلائِفَ) : أي يخلف الآخر الأول جيلا بعد جيل.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في طلب هداية المشركين بالرد على دعاواهم وبيان الحق لهم وفي هذه الآيات يأمر الله تعالى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ عليهم طرفا من قصة نوح مع قومه المشركين الذين كانت حالهم كحال مشركي العرب سواء بسواء وفي قراءة هذا القصص فائدتان الأولى تسلية الرسول وحمله على الصبر ، والثانية تنبيه المشركين إلى خطإهم ، وتحذيرهم من الاستمرار على الشرك والعصيان فيحل بهم من العذاب ما حل بغيرهم قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) (١) أي خبره العظيم الشأن وهو قوله لهم (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) (٢) أي عظم وشق عليكم وجودي بينكم أدعوكم إلى الله ، وتذكيري إياكم بآيات الله ، فإني (٣) توكلت على الله فأجمعوا أمركم أي اعزموا عزما أكيدا وادعوا أيضا شركاءكم للاستعانة بهم ، ثم أحذركم أن يكون أمركم عليكم غمة أي (٤) خفيا ملتبسا عليكم فيجعلكم تترددون في إنفاذ ما عزمتم عليه ، ثم اقضوا (٥) إليّ ما تريدون من قتلي أو نفيي ولا

__________________

(١) (اتْلُ) فعل أمر حذفت منه الواو لبنائه على حذفها إذ ماضيه تلا ومضارعه يتلو ، والأمر : اتل بمعنى اقرأ ، والتلاوة : موالاة الكلمات والقراءة جمعها.

(٢) المقام : بفتح القاف ، موضع القيام ، والمقام بالضمّ الإقامة ، ومعنى كبر : ثقل وعظم.

(٣) هذه الجملة (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) هي جواب الشرط الذي هو : فإن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله التي هي دلائل فضله ودلائل وحدانيته تعالى.

(٤) الغمّة والغمّ بمعنى واحد ، ومعناه التغطية والستر ومنه : غم الهلال إذا استتر ، قال الشاعر :

لعمرك ما أمري عليّ بغمّة

نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

وأصل الغمّ : مشتق من الغمامة ، وكل أمر مبهم ملتبس فهو غمّة.

(٥) أي : أنفذوا ما حكمتم به عليّ من قتلي إن أردتم ذلك.

تنظرون أي لا تؤخروني أي تأخير. وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن دعوتي وتذكيري ولم تقبلوا ما أدعوكم إليه من عبادة الله تعالى وحده ، فما سألتكم عليه من أجر أي ثواب ، حتى تتولوا. إن أجري إلا على ربي الذي أرسلني وكلفني. وقد أمرني أن أكون من المسلمين له قلوبهم ووجوههم وكل أعمالهم فأنا كذلك كل عملي له فلا أطلب أجرا من غيره قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ) أي دعاهم واستمر في دعائهم إلى الله زمنا غير قصير وكانت النهاية : أن كذبوه ، ودعانا لنصرته فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة وجعلناهم خلائف (١) لبعضهم بعضا أي يخلف الآخر الأول ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها عبدنا نوحا فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبة المنذرين الذين لم يقبلوا النصح ولم يستجيبوا للحق إنها عاقبة وخيمة إذ كانت إغراقا في طوفان ونارا في جهنم وخسرانا قال تعالى في سورة نوح : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الدعاة بمثل موقف نوح العظيم إذ قال لقومه : أجمعوا أمركم ونفذوا ما تريدون إني توكلت على الله.

٢ ـ ثمرة التوكل شجاعة واطمئنان نفس وصبر وتحمل مع مضاء عزيمة.

٣ ـ دعوة الله لا ينبغي أن يأخذ الداعي عليها أجرا إلا للضرورة.

٤ ـ بيان سوء عاقبة المكذبين بعد إنذارهم وتحذيرهم.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)

__________________

(١) جمع خليفة وهو اسم لمن يخلف غيره.

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

شرح الكلمات :

(بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم ، وما يدعون إليه من توحيد الله تعالى.

(نَطْبَعُ) : الطبع على القلب عبارة عن تراكم الذنوب على القلب حتى لا يجد الإيمان إليه طريقا.

(الْمُعْتَدِينَ) : الذين تجاوزوا الحد في الظلم والاعتداء على حدود الشرع.

(الْحَقُ) : الآيات التي جاء بها موسى عليه‌السلام وهي تسع.

(لِتَلْفِتَنا) : لتصرفنا وتحول وجوهنا عما وجدنا عليه آباءنا.

(الْكِبْرِياءُ) : أي العلو والسيادة والملك على الناس.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى طرفا من قصة نوح عليه‌السلام وأبرز فيها مظهر التوكل على الله تعالى من نوح ليقتدى به ، ومظهر نصرة الله تعالى لأوليائه وهزيمته أعدائه ذكر هنا سنة من سننه في خلقه وهي أنه بعث من بعد نوح رسلا كثيرين (١) إلى أممهم فجاؤوهم بالبينات أي بالحجج والبراهين على صدقهم وصحة ما جاءوا به ودعوا إليه من توحيد الله ، فما كان أولئك الأقوام ليؤمنوا بما كذب به من سبقهم من أمة نوح. قال تعالى : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى (٢)

__________________

(١) كهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب وغيرهم.

(٢) (نَطْبَعُ) نختم ، إذ الختم والطبع واحد ، والطبع يكون بالخاتم.

قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) هذا بيان سنة الله تعالى في البشر وهي أن العبد إذا أذنب وواصل الذنب بدون توبة يصبح الذنب طبعا من طباعه لا يمكنه أن يتخلى عنه ، وما الذنب إلا اعتداء على حدود الشارع فمن اعتدى واعتدى وواصل الاعتداء حصل له الطبع وكان الختم على القلب فيصبح لا يقبل الإيمان ولا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر. وقوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ) (١) أي من بعد الأمم الهالكة بعثنا رسولينا موسى وهرون ابني عمران إلى فرعون وملئه بآياتنا المتضمنة الدليل على صحة مطلب رسولينا وهو توحيد الله وإرسال بني اسرائيل معهما ، (فَاسْتَكْبَرُوا) أي فرعون وملؤه (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) حيث أفسدوا القلوب (٢) والعقول وسفكوا الدماء وعذبوا الضعفاء يقول تعالى عنهم (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي لما بهرتهم المعجزات وهي آيات موسى وأبطلت إفكهم قالوا إن هذا لسحر مبين تخلصا من الهزيمة التي لحقتهم ، فرد موسى عليهم بقوله (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) هذا سحر (٣) ثم بعد توبيخهم استدل على بطلان قولهم بكونه انتصر عليهم فأفلح بينهم وفاز عليهم فقال : (أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) فلو كان ما جئت به سحرا فكيف أفلحت في إبطال سحركم وهزيمة سحرتكم. فلما أفحمهم بالحجة قالوا مراوغين : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) أي تصرفنا (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) أي وتكون لكما السيادة والملك في أرض مصر فسلكوا مسلك الاتهام السياسي. وقالوا (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين ولا متبعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله في البشر وهي أن التوغل في الشر والفساد والظلم يوجب الختم على

__________________

(١) أي : من بعد الرسول والأمم إذ لكل أمّة رسول.

(٢) أفسدوا القلوب بالشرك والكفر والعقول بالسحر والأباطيل وسفكوا الدماء بقتل ذكران بني اسرائيل الصغار (المواليد).

(٣) مفعول (أَتَقُولُونَ) محذوف لدلالة الكلام عليه وهو : إن هذا لسحر مبين وتقدير الكلام أنهم لما قالوا في الآيات لسحر مبين رد عليهم موسى بقوله : أتقولون للحق لما جاءكم هذا. أسحر هذا؟ أي كيف يكون هذا الذي جئتكم به من الآيات سحرا؟ والساحر لا يفلح وقد أفلحت فبطل أن يكون ما جئتكم به من الآيات سحرا للحق : اللام يسميها بعضهم لام المجاوزة فهي بمعنى عن أي : تقولون عن الحق كذا. والظاهر أنها لام التعليل.

القلوب فيحرم العبد الإيمان والهداية.

٢ ـ ذم الاستكبار وأنه سبب كثير من الإجرام.

٣ ـ تقرير أن السحر صاحبه لا يفلح أبدا ولا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مرهوب.

٤ ـ الاتهامات الكاذبة من شأن أهل الباطل والظلم والفساد.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

شرح الكلمات :

(ساحِرٍ عَلِيمٍ) : أي ذو سحر حقيقي له تأثير عليم بالفن.

(أَلْقُوا) : أي ارموا في الميدان ما تريدون إلقاءه من ضروب السحر.

(إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) : أي يظهر بطلانه أمام النظارة من الناس.

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) : أي يقرر الحق ويثبته.

(بِكَلِماتِهِ) : أي بأمره إذ يقول للشيء كن فيكون.

(الْمُجْرِمُونَ) : أهل الإجرام على أنفسهم وعلى غيرهم وهم الظلمة المفسدون.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر قصة موسى بعد قصة نوح عليهما‌السلام في الآيات السابقة لما غلب موسى فرعون وملأه بالحجة اتهم فرعون موسى وأخاه هارون بأنهما سياسيان يريدان الملك والسيادة على البلاد لا همّ لهما إلا ذاك وكذب فرعون وهو من الكاذبين وهنا أمر

رجال دولته أن يحضروا له علماء السحر (١) ليبارى موسى في السحر فجمع سحرته فقال لهم موسى (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٢) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ، فنظر إليه موسى وقال : (ما جِئْتُمْ) (٣) بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ (٤) إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٥) وألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ للسحر طرق يتعلم بها وله علماء به وتعلمه حرام واستعماله حرام.

٢ ـ حد الساحر القتل لأنه إفساد في الأرض.

٣ ـ جواز المبارزة للعدو والمباراة له إظهارا للحق وإبطالا للباطل.

٤ ـ عاقبة الفساد وعمل أصحابه الخراب والدمار.

٥ ـ متى قاوم الحق الباطل انهزم الباطل وانتصر الحق بأمر الله تعالى ووعده الصادق.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ

__________________

(١) طلب فرعون بإتيانه بالسحرة إذ قال : أئتوني بكل ساحر عليم قال هذا لما شاهد العصا واليد البيضاء فاعتقد أنها سحر فأراد أن يقابله بسحر قومه.

(٢) أي : اطرحوا ما معكم من حبالكم وعصيّكم.

(٣) أي : ما أظهرتموه لنا من هذه الحبال والعصي ، وقد تراءت وكأنها حيّات وثعابين هو السحر وعلّل لذلك بقوله إنّ الله سيبطله وعلة أخرى وهو أن الله لا يصلح عمل المفسدين ، وإظهار اسم الجلالة في التعليلين : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لإلقاء الروع وتربية المهابة في النفوس.

(٤) قال ابن عباس رضي الله عنه من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية. (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لم يضرّه كيد ساحر.

(٥) أراد بالمجرمين : فرعون وملأه ، وفي الكلام تعريض بهم ، وعدل عن وصفهم بالإجرام لأنّه مأمور أن يقول قولا ليّنا فاستغنى بالتعريض بدل التصريح

تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

شرح الكلمات :

(فَما آمَنَ لِمُوسى) : أي لم ينقد له ويتبعه.

(إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) : أي طائفة قليلة من أولاد بني إسرائيل.

(وَمَلَائِهِمْ) : أي أشرافهم ورؤسائهم.

(أَنْ يَفْتِنَهُمْ) : أن يضطهدهم ويعذبهم.

(لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) : قاهر مستبدّ.

(مُسْلِمِينَ) : مذعنين منقادين لأمره ونهيه.

(فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : أي لا تفتنهم بنا بأن تنصرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا كفرا.

(أَنْ تَبَوَّءا) : اتخذ القومكما بمصر بيوتا تبوءون إليها وترجعون.

(قِبْلَةً) : أي مساجد تصلون فيها.

معنى الآيات :

بعد ذلك الانتصار الباهر الذي تم لموسى على السحرة ، والهزيمة المرة التي لحقت فرعون ولم يؤمن لموسى ويتابعه إلا ذرّيّة من بني إسرائيل ، وعدد قليل من آل فرعون كامرأته ومؤمن آل فرعون والماشطة قال تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ (١) مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) أي مع خوف من فرعون أن يفتنهم وقوله : (وَمَلَائِهِمْ) عائد إلى مؤمنى آل فرعون أي مع خوف من ملائهم أي رؤسائهم وأشرافهم أن يفتنوهم أيضا ، وقوله تعالى (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي إنه قاهر متسلط مستبد ظالم ، (وَإِنَّهُ لَمِنَ

__________________

(١) المراد بالذرية أولاد بني اسرائيل الشبان الذين آمنوا عند مشاهدة المباراة وانتصار موسى فيها.

الْمُسْرِفِينَ) (١) في الظلم فلذا خافوه لما آمنوا ، ولما ظهر الخوف على بني إسرائيل قال لهم موسى (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (٢) ففوضوا أمركم إليه إن كنتم حقا مسلمين لله منقادين لأمره ونهيه ، فأجابوا قائلين : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) وسألوا الله تعالى أن لا يفتن قوم فرعون بهم بأن ينصرهم عليهم فيزدادوا كفرا وظلما ، وضمن ذلك أن لا تسلط الظالمين علينا فيفتنونا في ديننا بصرفنا عنه بقوة التعذيب (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وهذا حسن توسل منهم إذا قالوا برحمتك فتوسلوا إلى الله برحمته ليستجيب دعاءهم ، والمراد من القوم الكافرين هنا فرعون وملأه. وقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ) أي هارون (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) (٣) أي من بني إسرائيل (بِمِصْرَ) أي بأرض مصر (٤) (بُيُوتاً ، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (٥) أي متقابلة ومساجد (٦) تصلون فيها (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) على الوجه الذي شرع لكم. وهذا بناء على أن بني إسرائيل بعد الانتصار على فرعون أخذوا ينحازون من مجتمع فرعون فأمروا أن يكونوا حيا مستقلا استعدادا للخروج من أرض مصر فأمرهم الرب تبارك وتعالى أن يجعلوا بيوتهم قبلة أي متقابلة ليعرفوا من يدخل عليهم ومن يخرج منهم وليصلوا فيها كالمساجد حيث منعوا من المساجد إما بتخريبها وإما بمنعهم منها ظلما وعدوانا وقوله تعالى (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر يا رسولنا (٧) المؤمنين الصادقين في إيمانهم الكاملين فيه بحسن العاقبة بكرامة الدنيا وسعادة الآخرة بدخول دار السّلام.

__________________

(١) (الْمُسْرِفِينَ) : أي المجاوزين الحد في الكفر لأنه كان عبدا فادعى الربوبية.

(٢) كرر جملة الشرط تأكيدا ، مبيّنا أنّ كمال الإيمان يقتضي التوكل على الله تعالى.

(٣) أي : اتخذا ، يقال : بوّأه الدار : أنزله إيّاها وأسكنه فيها. وفي الحديث (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) أي : فلينزله ملازما له.

(٤) قيل : المراد بمصر : الأسكندرية.

(٥) في الآية دليل على جواز صلاة الخائف المكتوبة في بيته ، أمّا النافلة فهي في البيوت أفضل لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة).

(٦) في هذا جمع بين رأيين. الأول : أن المراد من كلمة قبلة : أنها مساجد والثاني : أنها متقابلة ليتم لهم بذلك حمايتهم من عدوهم بعد أن استقلوا عنه.

(٧) هو موسى عليه‌السلام ، بدليل السياق الكريم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أراه كيف انتصر موسى بالمعجزات ومع ذلك لم يتابعه إلا القليل من قومه.

٢ ـ التنديد بالعلو في الأرض والإسراف في الشر والفساد وبأهلهما.

٣ ـ وجوب التوكل على الله تعالى لتحمل عبء الدعوة إلى الله تعالى والقيام بطاعته.

٤ ـ مشروعية الدعاء والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته.

٥ ـ اتخاذ المساجد في المنازل للصلاة فيها عند الخوف.

٦ ـ وجوب إقام الصلاة

٧ ـ بشرى الله تعالى للمؤمنين والمقيمين للصلاة بحسن العاقبة في الدارين.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

شرح الكلمات :

(زِينَةً) : أي حليا وحللا ورياشا ومتاعا.

(أَمْوالاً) : أي كثيرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.

(اطْمِسْ) : أي أزل أثرها من بينهم بإذهابها.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) : اربط عليها حتى لا يدخلها إيمان ليهلكوا وهم كافرون.

(أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) : أي استجابها الله تعالى.

(فَاسْتَقِيما) : على طاعة الله بأداء رسالته والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.

(سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) : أي طريق الجهلة الذي لا يعرفون محاب الله ومساخطه ولا يعلمون شرائع الله التى أنزل لعباده.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل فبعد أن لج فرعون في العناد والمكابرة بعد هزيمته سأل موسى ربه قائلا (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) أي أعطيتهم (زِينَةً) أي ما يتزين به من الملابس والفرش والأثاث وأنواع الحلي والحلل وقوله (وَأَمْوالاً) (١) أي الذهب والفضة والأنعام والحرث (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي في هذه الحياة الدنيا وقوله : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) (٢) أي فيسبب ذلك لهم الضلال إذا (رَبَّنَا اطْمِسْ) (٣) (عَلى أَمْوالِهِمْ) أي أذهب أثرها بمسحها وجعلها غير صالحة للانتفاع بها ، (وَاشْدُدْ عَلى (٤) قُلُوبِهِمْ) أي اطبع على قلوبهم واستوثق منها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الموجع أشد الإيجاع ، قال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ، فَاسْتَقِيما) (٥) على طاعتنا بالدعوة إلينا وأداء عبادتنا والنصح لعبادنا والعمل على إنقاذ عبادنا من ظلم الظالمين ، (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي فتستعجلا وقوع العذاب فإن الذين لا يعلمون ما لله من حكم وتدابير وقضاء وقدر يستعجلون الله تعالى في وعده لهم فلا تكونوا مثلهم بل انتظروا وعدنا واصبروا حتى يأتي وعد الله. وما الله بمخلف وعده.

__________________

(١) قيل : إنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد ، والياقوت.

(٢) في هذه اللّام أقوال : أصحها : أنها لام العاقبة ، والصيرورة. أي : يا رب إنك آتيت فرعون وقومه أموالا ليؤول أمرهم بسبب تلك الأموال إلى ضلالهم.

(٣) أي : عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم. وفعلا أصبحت حجارة لا ينتفع بها وكان ذلك عقوبة منه تعالى لهم على كفرهم وعنادهم.

(٤) قد استشكل العلماء وجه دعاء موسى على فرعون وقومه بالهلاك إذ المفروض أن يدعو لهم بالهداية. وأجيب بأنه قد علم بإعلام الله تعالى له أنهم لا يؤمنون فلذا دعا عليهم ، كما أعلم الله تعالى نوحا بعدم إيمان قومه فلذا دعا عليهم ، إذ قال له ربّه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) وهنا دعا عليهم قائلا : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً).

(٥) كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن أي : يقول : آمين فاعتبر داعيا مع أخيه. لأنّ قول آمين معناه : اللهم استجب دعاءنا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ مشروعية الدعاء بالهلاك على أهل الظلم.

٢ ـ كثرة المال وأنواع الزينة ، والانغماس في ذلك والتلهي به يسبب الضلال لصاحبه.

٣ ـ الذين بلغوا حدا من الشر والفساد فطبع على قلوبهم لا يموتون إلا على الكفر فيخسرون.

٤ ـ المؤمّن داع فهو شريك في الدعاء (١) فلذا أهل المسجد يؤمّنون على دعاء الإمام في الخطبة فتحصل الإجابة للجميع ، ومن هنا يخطيء الذين يطوفون أو يزورون إذ يدعون بدعاء المطوف ولا يؤمّنون.

٥ ـ حرمة اتباع طرق أهل الضلال ، وتقليد الجهال والسير وراءهم.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

شرح الكلمات :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه.

(الْبَحْرَ) : بحر القلزم.

__________________

(١) روى الترمذي الحكيم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم : السّلام ، وهي تحية أهل الجنة ، وصفوف الملائكة وآمين إلّا ما كان من موسى وهارون) وعلى هذا فموسى كان يدعو وهارون يؤمن فاعتبر داعيا.

(بَغْياً وَعَدْواً) (١) : أي بغيا على موسى وهرون واعتداء عليهما.

(آلْآنَ) : أي أفي هذا الوقت تقر بالوحدانية وتعترف له بالذلة؟!.

(بِبَدَنِكَ) : أي بجسدك لا روح فيه.

(آيَةً) : علامة على أنك عبد وليس برب فيعتبروا بذلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة موسى وهرون مع فرعون وبني إسرائيل قال تعالى : (وَجاوَزْنا (٢) بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) وذلك بداية استجابة الله تعالى دعوة موسى وهرون ومعنى (جاوَزْنا) أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه ، وذلك بأن أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم ويبست الأرض ودخل موسى مع بني إسرائيل يتقدمهم جبريل عليه‌السلام على فرس حتى تجاوزوا البحر إلى الشاطىء ، وجاء فرعون على فرسه ومعه ألوف (٣) الجنود فتبعوا (٤) موسى وبني إسرائيل فدخلوا البحر فلما توسطوه أطبق (٥) الله تعالى عليهم البحر فغرقوا أجمعين إلا ما كان من فرعون فإنه لما أدركه الغرق أي لحقه ووصل الماء إلى عنقه أعلن عن توبته فقال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) ولكبريائه لم يقل لا إله إلا الله ولو قالها لتاب الله عليه فأنجاه بل قال : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وهو يعرف أنه الله. وقوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) مبالغة في طلب النجاة من الغرق بالتوبة حيث أعلن أنه من المسلمين أي المستسلمين المنقادين لأمره. فرد الله تعالى بقوله : (آلْآنَ) أي وقت التوبة (٦) والإسلام بعد الإيمان ،

__________________

(١) (بَغْياً) منصوب على الحال. و (عَدْواً) معطوف عليه ، وكان اتباع فرعون بني اسرائيل بغيا وعدوا لأنه ليس له شائبة حق في منعهم من الخروج من بلاده إلى بلادهم.

(٢) جاوزنا وجوّزنا : بمعنى واحد.

(٣) قال القرطبي : كان بنو اسرائيل ستمائة وعشرين ألفا ، وكان جيش فرعون ألفي ألف وستمائة ألف. أي مليونين ونصفا وزيادة.

(٤) تبع واتبع بمعنى واحد إذا لحقه وأدركه ، وأمّا اتبع بالتشديد فإن معناه : سار خلفه.

(٥) روى الترمذي وحسّنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لما أغرق الله فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو اسرائيل ، قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من وحل البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمه) وحل البحر : الطين الأسود الذي يكون في أسفله ، ومعنى تدركه الرحمة : أي يقول لا إله إلا الله.

(٦) لأنّ التوبة تقبل من العبد ما لم ير علامات الموت بمشاهدة الملائكة ، وفي الحديث الصحيح : (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).

(وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) وتمردت على الله وشرعه وكفرت به وبرسوله (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) للبلاد والعباد بالظلم والشر والفساد ، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) أي نجعلك على نجوة من الأرض أي مرتفع منها (بِبَدَنِكَ) أي بجسمك دون روحك ، وبذلك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) أو بعدك من الناس (آيَةً) أي علامة على أنك عبد مربوب وليس كما زعمت أنك رب وإله معبود ، وتكون عبرة لغيرك فلا يطغى طغيانك ولا يكفر كفرانك فيهلك كما هلكت ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) إخبار منه بواقع الناس ومن أولئك الغافلين عن آيات الله وهي تتلى عليهم أهل مكة من كفار قريش وما سيق هذا القصص إلا لأجل هدايتهم. لو كانوا يهتدون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا تقبل التوبة عند معاينة العذاب وفي الحديث (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر).

٢ ـ أكمل الأديان وأفضلها الإسلام ولهذا أهل اليقين يسألون الله تعالى أن يتوفاهم مسلمين ولما أيقن فرعون بالهلاك زعم أنه من المسلمين.

٣ ـ فضل لا إله إلا الله فقد ورد أن جبريل كان يحول بين فرعون وبين أن يقول : لا إله إلا الله فينجو فلم يقلها فغرق وكان من الهالكين.

٤ ـ تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس في هذه الحياة غافلون عما يراد بهم ولهم ولم ينتبهوا حتى يهلكوا.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : أي أنزلناهم منزلا صالحا طيبا مرضيا.

(مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي من أنواع الأرزاق الطيبة الحلال.

(حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) : وهو معرفتهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو النبي المنتظر وأنه المنجي.

(يَقْضِي بَيْنَهُمْ) : يحكم بينهم.

(فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : أي في الذي اختلفوا من الحق فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار.

معنى الآية الكريمة

هذه خاتمة الحديث عن موسى وبني إسرائيل بعد أن نجاهم الله من عدوهم بإهلاكه في اليم قال تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي أنزلناهم مبوأ صالحا طيبا وهو بلاد فلسطين من أرض الشام المباركة ، (١) وذلك بعد نجاتهم من التيه ودخولهم فلسطين بصحبة نبي الله يوشع بن نون عليه‌السلام ، وقوله (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) إذ أرض الشام أرض العسل والسمن والحبوب والثمار واللحم والفحم وذكر هذا إظهار لنعم الله تعالى ليشكروها. وقوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يريد أن بني إسرائيل الذين أكرمهم ذلك الإكرام العظيم كانوا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متفقين على دين واحد منتظرين النبي المنتظر المبشر به في التوراة الذي سينقذ بني إسرائيل مما حل بهم من العذاب والاضطهاد على أيدي أعدائهم الروم ، فلما جاءهم وهو العلم وهو القرآن والمنزل عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا فمنهم من آمن به ، (٢) ومنهم من كفر. وقوله تعالى في خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي (٣) بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الإيمان لك واتباعك واتباع ما جئت به من الهدى ودين الحق ، فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لبني إسرائيل.

__________________

(١) وروي ان ابن عباس رضي الله عنهما قال : في المبوأ الصدق : هو بنو قريظة وبنو النضير ، وأهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرينة : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) الذي هو القرآن يحمله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرينة ما في التفسير هي أنّ الحديث كان في إنجاء بني اسرائيل وإهلاك فرعون وهو يناسبه أن يكون المبوأ : أرض فلسطين والشام.

(٢) كعبد الله بن سلام وأمثاله.

(٣) يقضي : معناه يحكم ، فيحكم لأهل الإيمان والاستقامة بدخول الجنة ويحكم لأهل الكفر والضلال بالنار.

٢ ـ الرزق الطيب هو ما كان حلالا لا ما كان حراما.

٣ ـ إذا أراد الله هلاك أمة اختلفت بسبب العلم الذي هو في الأصل سبب الوحدة والوئام.

٤ ـ حرمة الاختلاف في الدين إذ كان يؤدي إلى (١) الانقسام والتعادي والتحارب

٥ ـ يوم القيامة هو يوم الفصل الذي يقضي الله تعالى فيه بين المختلفين بحكمه العادل.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

شرح الكلمات :

(شَكٍ) : ما قابل التصديق فالشاك غير المصدق.

(مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) : أي في أن بني إسرائيل لم يختلفوا إلا من (٢) بعد ما جاءهم العلم.

(الْكِتابَ) : أي التوراة والإنجيل.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) : أي لا تكونن من الشاكين.

(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) : أي وجبت لهم النار بحكم الله بذلك في اللوح المحفوظ.

(حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ) : أي يستمرون على تكذيبهم حتى يروا العذاب فيؤمنوا حيث لا ينفع الإيمان. (٣)

__________________

(١) مثال الاختلاف الذي لا يؤدي إلى الانقسام والتعادي والتحارب. : الخلاف الفهقي بين الأئمة الأربعة ، ومثال الخلاف المفضي إلى التعادي والتحارب الخلاف بين أهل السنة والفرق الضالة كالخوارج والروافض وأمثالهما

(٢) هذا وجه من جملة أوجه فسّرت بها الآية.

(٣) لا خلاف في أن الإيمان كالتوبة لا يقبلان عند معاينة الموت ففي سورة النساء قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.

معنى الآيات :

يقرر تعالى نبوة رسوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ (١) الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) أحبار اليهود ورهبان النصارى فإنهم يعرفون نعوتك وصفاتك في التوراة والإنجيل وإنك النبي الخاتم والمنقذ وأن من آمن بك نجا ومن كفر هلك وهذا من باب الفرض وليكون تهييجا للغير ليؤمن وإلا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : (لا أشك ولا أسأل) وقوله (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) ، يقسم تعالى لرسوله بأنه قد جاءه الحق من ربه وهو الحديث الثابت بالوحي الحق وينهاه أن يكون من الممترين أي الشاكين في صحة الإسلام ، وأنه الدين الحق الذي يأبى الله إلا أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي وينهاه أيضا أن يكون من الذين كذبوا بوحي الله وشرعه ورسوله المعبر عنها بالآيات لأنها حاملة لها داعية إليها ، فتكون من الخاسرين يوم القيامة. وهذا كله من باب «إياك أعني واسمعي يا جاره» وإلا فمن غير الجائز أن يشك الرسول أو يكذب بما أنزل عليه من الآيات الحاملة من الشرائع والأحكام. وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) هو كما أخبر عزوجل فالذين قضى (٢) الله بعذابهم يوم القيامة فكتب ذلك في كتاب المقادير عنده هؤلاء لا يؤمنون أبدا مهما بذل في سبيل إيمانهم من جهد في تبيين الحق وإقامة الأدلة وإظهار الحجج عليهم وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جراء ما يألم له ويحزن من إعراض كفار قريش وعدم استجابتهم وقوله (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) تأكيد للحكم السابق وهو أن الذي حكم الله بدخولهم النار لا يؤمنون ولا يموتون إلا كافرين لينجز الله ما وعد ويمضي ما قضى وحكم. وقوله : (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي يستمرون على كفرهم بك وبما جئت به حتى يشاهدوا العذاب الأليم وحينئذ يؤمنون كما آمن فرعون عند ما أدركه الغرق ولكن لم ينفعه إيمانه فكذلك هؤلاء المشركون من

__________________

(١) لا حاجة إلى طلب حلول بعيدة لحلّ ما في ظاهر الآية من إشكال ، إذ لهذه الآية نظير وهو قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) معنى الآية : أنّ الله تعالى يوجه الخطاب إلى رسوله ، وأحبّ الخلق إليه ليكون غيره من باب أولى ألف مرة ومرّة وإلّا فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشك ولا يسأل وكيف يشك ويسأل وهو يتلقى الوحي من ربّه؟ وقد قال وقت ما نزلت الآية : (لا أشك ولا أسأل) ، وتوجيهنا للآية في التفسير في غاية الوضوح ، والحمد لله.

(٢) إن قيل : كيف يعذبهم لمجرد أن كتب ذلك عليهم؟ قلنا في الجواب إنه ما كتب شقوة نفس أو سعادة أخرى حتى علم ما ستفعله النفس باختيارها من كفر أو إيمان أو خير أو شر.

قومك الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم وعندئذ لا ينفعهم إيمانهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ سؤال من لا يعلم من يعلم.

٣ ـ التكذيب بآيات الله كفر وصاحبه من الخاسرين.

٤ ـ الشك والافتراء في أصول الدين وفروعه كفر.

٥ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر ، وإن الشقي من شقي في كتاب المقادير (١) والسعيد من سعد فيه.

٦ ـ عدم قبول توبة من عاين العذاب في الدنيا بأن رأى ملك الموت وفي الآخرة بعد أن يبعث ويشاهد أهوال القيامة.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

شرح الكلمات :

(فَلَوْ لا) : أداة تحضيض هنا بمعنى هلّا وفيها معنى التوبيخ والنفي.

__________________

(١) طالع النهر ، فقد أوردنا سؤالا عن هذه المسألة وأجبنا عنه تحت رقم (٣) بما يكفي ويغني بإذن الله تعالى.

(قَرْيَةٌ آمَنَتْ) : أي أهل قرية آمنوا.

(يُونُسَ) : هو يونس بن متّى نبي الله ورسوله. (١)

(إِلى حِينٍ) : أي إلى وقت انقضاء آجالهم.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) : أي إنك لا تستطيع ذلك.

(إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي بإرادته وقضائه.

(الرِّجْسَ) : أي العذاب

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى في الآيات السابقة أن الخسران لازم لمن كذب بآيات الله ، وأن الذين وجب لهم العذاب لإحاطة ذنوبهم بهم لا يؤمنون لفقدهم الاستعداد للإيمان ذكر هنا ما يحض به أهل مكة على الإيمان وعدم الإصرار على الكفر والتكذيب فقال : (فَلَوْ لا (٢) كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي فهلا أهل قرية آمنوا فانتفعوا بإيمانهم فنجوا من العذاب اللازم لمن لم يؤمن أي لم لا يؤمنون وما المانع من إيمانهم وهذا توبيخ لهم. وقوله (إِلَّا قَوْمَ (٣) يُونُسَ (٤) لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلم نهلكهم بعذاب استئصال وإبادة شاملة لأنهم لما رأوا أمارات العذاب بادروا إلى التوبة قبل نزوله بهم فكشف الله تعالى عنهم العذاب ، ومتعهم بالحياة إلى حين انقضاء آجالهم فما لأهل أم القرى لا يتوبون كما تاب أهل نينوى من أرض الموصل وهم قوم يونس عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يحمل دلالتين الأولى أن عرض الله تعالى الإيمان على أهل مكة وحضهم عليه وتوبيخهم على تركه لا ينبغي

__________________

(١) أحد أنبياء بني اسرائيل.

(٢) لو لا. حرف الأصل فيها أنها للتحضيض ، وهو طلب الفعل بحثّ ، ولكن إذا دخلت على ماض لم تصبح للتحضيض قطعا بل للتغليط والتنديم والتوبيخ ، وهي هنا لتغليط أهل مكة وتوبيخهم وتنديمهم على إصرارهم على الكفر وعدم توبتهم كما تاب قوم يونس حتى ينجوا من العذاب كما نجوا.

(٣) كان هؤلاء القوم خليطا من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر ، وكانت بعثة يونس عليه‌السلام إليهم في بداية القرن الثامن قبل المسيح عليه‌السلام.

(٤) إن قوم يونس كانوا بقرية تسمّى نينوي من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام ، أقام في قومه يدعوهم إلى التوحيد وترك الشرك تسع سنين فيئس من إيمانهم فتوعدهم بالعذاب وخرج من بين أظهرهم وتركهم فلمّا رأوا ذلك خافوا نزول العذاب بهم فجأروا الى الله تعالى بالاستغفار والدعاء والضراعة يا حي حين لا حي يا حى محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت ارفع عنا العذاب وقد ظهرت أماراته ، فكشف الله عنهم العذاب كما قال تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ).

أن يفهم منه أن الله تعالى عاجز عن جعلهم يؤمنون بل لو شاء إيمانهم لآمنوا كما لو شاء إيمان أهل الأرض جميعا لآمنوا والثانية تسلية الرسول والتخفيف عنه من ألم وحزن عدم إيمان قومه وهو يدعوهم بجد وحرص ليل نهار فأعلمه ربه أنه لو شاء إيمان كل من في الأرض لآمنوا ، ولكنه التكليف المترتب عليه الجزاء فيعرض الإيمان على الناس عرضا لا إجبار معه فمن آمن نجا ، ومن لم يؤمن هلك ويدل على هذا قوله له (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ (١) النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن هذا ليس لك ، ولا كلفت به ، وقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) تقرير وتأكيد لما تضمنه الكلام السابق من أن الإيمان لا يتم لأحد إلا بإرادة الله وقضائه ، وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ (٢) عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي إلا أنه تعالى يدعو الناس إلى الإيمان مبينا لهم ثمراته الطيبة ويحذرهم من التكذيب مبينا لهم آثاره السيئة فمن آمن نجاه وأسعده ومن لم يؤمن جعل الرجس الذي هو العذاب عليه محيطا به جزاء له لأنه لا يعقل إذ لو عقل لما كذب ربه وكفر به وعصاه وتمرد عليه وهو خالقه ومالك أمره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده دعوته إياهم إلى الإيمان به وحضهم عليه.

٢ ـ قبول التوبة قبل معاينة العذاب ، ورؤية العلامات لا تمنع من التوبة.

٣ ـ إرادة الله الكونية التي يكون بها الأشياء لا تتخلف أبدا ، وإرادته الشرعية التكليفية جائزة التخلف.

٤ ـ لا إيمان إلا بإذن الله وقضائه فلذا لا ينبغي للداعي أن يحزن على عدم إيمان الناس إذا دعاهم ولم يؤمنوا لأن الله تعالى كتب عذابهم أزلا وقضى به.

__________________

(١) الاستفهام : انكاري ينكر تعالى على رسوله شدّة حرصه على إيمان قومه ، حتى لكأنه يريد إكراههم على الإيمان به وبما جاء به من التوحيد.

(٢) (الرِّجْسَ) : بضم الراء وكسرها : العذاب.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

شرح الكلمات :

(ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي من عجائب المخلوقات ، وباهر الآيات.

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) : أي ما تغني أيّ إغناء إذا كان القوم لا يؤمنون.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) : أي ما ينتظرون.

(خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي مضوا من قبلهم من الأمم السابقة.

(قُلْ فَانْتَظِرُوا) : أي العذاب.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي من العذاب المنتظر.

(كَذلِكَ) : أي كذلك الإنجاء ننج المؤمنين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لهم : (قُلِ انْظُرُوا (١) ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من سائر المخلوقات وما فيها من عجائب الصنعة ، ومظاهر الحكمة والرحمة والقدرة فإنها تدعو إلى الإيمان بالله ربا وإلها لا إله غيره ولا رب سواه ، وتفند دعوى ألوهية الأصنام والأحجار. ثم قال تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) أي الرسل في هداية قوم قضى الله تعالى أزلا

__________________

(١) الفاء للتفريع فالكلام متفرّع على جملة ما تغني الآيات والنذر. والاستفهام إنكاري تهكمي ، وفيه معنى النفي أيضا ، والنكات لا تتزاحم.

أنهم لا يؤمنون حتى ينتهوا إلى ما قدر لهم وما حكم به عليهم من عذاب الدنيا والآخرة ولكن لما كان علم ذلك إلى الله تعالى فعلى النذر أن تدعو وتبلغ جهدها والأمر لله من قبل ومن بعد. وقوله : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ (١) خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إنهم ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلفوا من قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم دعتهم رسلهم وبلغتهم دعوة ربهم إليهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة فأعرضوا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب.

ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم (فَانْتَظِرُوا) (٢) أي ما كتب عليكم من العذاب إن لم تتوبوا إليه وتسلموا (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فإن كان العذاب فإن سنة الله فيه أن يهلك الظالمين المشركين المكذبين وينجي رسله والمؤمنين وهو معنى قوله تعالى (٣) في الآية الأخيرة (١٠٣) (ثُمَّ نُنَجِّي (٤) رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ) أي الإنجاء (حَقًّا عَلَيْنا (٥) نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا تنفع الموعظة مهما بولغ فيها عبدا كتب أزلا أنه من أهل النار.

٢ ـ ما ينتظر الظلمة في كل زمان ومكان إلا ما حل بمن ظلم من قبلهم من الخزي والعذاب.

٣ ـ وعد الله تعالى ثابت لأوليائه بإنجائهم من الهلاك عند إهلاكه الظلمة المشركين.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ

__________________

(١) المراد من الأيام : العذاب الذي يقع فيها ، ويقال فيها الوقائع وهو نحو قولهم : أيام العرب ، فلان عالم بأيام العرب أي : ما جرى فيها من أحداث ومنه قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي : بالعذاب الذي وقع فيها

(٢) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها واقعة موقع جواب سؤال تقديره : نحن أولاء منتظرون وأنت ما ذا تفعل؟

(٣) (حَقًّا عَلَيْنا) جملة معترضة لأن المصدر يدل على الفعل ، والتقدير أي : حق ذلك علينا حقا أي : أحققناه حقا علينا ،

(٤) (نُنَجِّي) قرىء بالتخفيف ، والتشديد ، والمعنى واحد ، وفي المصحف ننج بدون ياء لالتقاء الساكنين.

(٥) إن انتظار العذاب منذر بنزوله قريبا بديارهم والرسول معهم فمن هنا عطف جملة (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) فأعلمهم بنجاة الرسل فكانت بشرى للرسول والمؤمنين.

أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

شرح الكلمات :

(مِنْ دِينِي) : أي الإسلام في أنه حق.

(يَتَوَفَّاكُمْ) : أي يقبض أرواحكم فيميتكم.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) : أي أمرني ربي أن أقم وجهي للدين الإسلامي حنيفا أي مائلا

(حَنِيفاً) عن كل الأديان إليه دون غيره.

(ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) : أي آلهة لا تنفع ولا تضر وهي أصنام المشركين وأوثانهم.

(فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) : أي إنك إذا دعوتها من المشركين الظالمين لأنفسهم.

(فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) : أي لا مزيل للضّر ومبعده عمن أصابه إلا هو عزوجل.

(يُصِيبُ بِهِ) : أي بالفضل والرحمة.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : أي لذنوب عباده التائبين الرحيم بعباده المؤمنين.

معنى الآيات :

بعد أن بين تعالى طريق الهدى وطريق الضلال وأنذر وحذر وواعد وأوعد في الآيات السابقة بما لا مزيد عليه أمر رسوله هنا أن يواجه المشركين من أهل مكة وغيرهم بالتقرير التالي فقال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي مشركي مكة والعرب من حولهم (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍ) وريب (١) في صحة ديني الإسلام الذي أنا عليه وأدعو إليه ، (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ

__________________

(١) أي : إن كنتم في شك من صحة ديني فأنا غير شاك في صحته وبطلان دينكم فلذا لا أعبد الذين تعبدون. من دون الله.

دُونِ اللهِ) فمجرد شككم في صحة ديني لا يجعلني أعبد أوثانا وأصناما لا تنفع ولا تضر ، (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ) الذي ينفع ويضر ، يحيى ويميت ، الله الذي يتوفاكم أي يميتكم بقبض أرواحكم فهو الذي يجب أن يعبد ويخاف ويرهب (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي أمرني ربي أن أومن به فأكون من المؤمنين فآمنت وأنا من المؤمنين. وقوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وأوحى إليّ ربي آمرا إياي بأن أقيم وجهي لدينه (١) الحق فلا ألتفت إلى غيره من الأديان الباطلة ، ونهاني مشددا علي أن أكون من المشركين الذين يعبدون معه آلهة أخرى بعد هذا الإعلان العظيم والمفاصلة الكاملة والتعريض الواضح بما عليه أهل مكة من الضلال والخطأ الفاحش ، واجه الله تعالى رسوله بالخطاب وهو من باب «إياك أعني واسمعي يا جاره» فنهاه بصريح القول أن يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره وهو كل المعبودات ما سوى الله عزوجل فقال : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) أي لا يجلب لك نفعا ولا يدفع عنك ضرا ، ولا يضرك بمنع خير عنك ، ولا بإنزال شر بك فإن فعلت بأن دعوت غير الله فإنك إذا من الظالمين ، ولما كان دعاء النبي غير الله ممتنعا فالكلام إذا تعريض بالمشركين وتحذير للمؤمنين ، وقوله تعالى : في خطاب رسوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ) (٢) عنك (إِلَّا هُوَ) عزوجل ، (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) من الخيور عافية وصحة رخاء ونصر (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي ليس هناك من يرده عنك بحال من الأحوال ، وقوله : (يُصِيبُ) (٣) أي بالفضل والخير والنعمة (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) إذ هو الفاعل المختار ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقوله : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بيان لصفات الجلال والكمال فيه فإنه تعالى يغفر ذنوب التائبين إليه مهما بلغت في العظم ، ويرحم عباده المؤمنين مهما كثروا في العدد ، وبهذا استوجب العبادة بالمحبة والتعظيم والطاعة والتسليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ على المؤمن أن لا يترك الحق مهما شك وشكك فيه الناس.

__________________

(١) الأمر بإقامة الوجه لله كناية عن توجه النفس والإقبال بها على الله تعالى فلا تلتفت راغبة ولا راهبة إلى غير الله تعالى ، وهذا كإسلام الوجه لله تعالى في آية : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ولازمه ترك كل دين إلى دين الله عزوجل.

(٢) تنكير ضرّ ، كتنكير خير يراد به النوعية الصالحة للقلة والكثرة.

(٣) يقال : أصابه بكذا : إذا أورده عليه ومسّه به.

٢ ـ تحريم الشرك ووجوب تركه وترك أهله.

٣ ـ دعاء غير الله مهما كان المدعو شرك محرم فلا يحل أبدا ، وإن سموه توسلا.

٤ ـ لا يؤمن عبد حتى يوقن أن ما أراده الله له من خير أو شر لا يستطيع أحد دفعه ولا تحويله بحال من الأحوال ، وهو معنى حديث : (١) (ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) : أي يا أهل مكة.

قد جاء الحق : أي الرسول يتلو القرآن ويبين الدين الحق.

(فَمَنِ اهْتَدى) : أي آمن بالله ورسوله وعبد الله تعالى موحدا له.

(وَمَنْ ضَلَ) : أي أبى إلا الإصرار على الشرك والتكذيب والعصيان.

فعليها : أي وبال الضلال على نفس الضال كما أن ثواب الهداية لنفس المهتدي.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) : أي بمجبر لكم على الهداية وإنما أنا مبلغ ونذير.

(وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) : أي في المشركين بأمره.

(خَيْرُ الْحاكِمِينَ) : أي رحمة وعدلا وإنفاذا لما يحكم به لعظيم قدرته.

معنى الآيتين :

هذا الإعلان الأخير في هذه السورة يأمر الله تعالى رسوله أن ينادى المشركين بقوله :

__________________

(١) هذا الكلام مستأنف يحمل إعلانا عظيما لأهل مكة أوّلا ، وللناس كافّة ثانيا مفاده : مجيئهم الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق من ربهم وهو الدين الإسلامي فمن دخل فيه اهتدى إلى طريق سعادته ومن أعرض عنه ضل طريق نجاته وسعادته.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهو نداء عام يشمل البشرية كلها وإن أريد به ابتداء أهل مكة (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن يتلوه رسول الله وفيه بيان الدين الحق الذي لا كمال للإنسان له إلا بالإيمان به والأخذ الصادق بما تضمنه من هدى. وبعد فمن اهتدى بالإيمان والاتباع فإنما ثواب هدايته لنفسه إذ هي التي تزكو وتطهر وتتأهل لسعادة الدارين ، ومن ضل بالإصرار على الشرك والكفر والتكذيب فإنما ضلاله أي جزاء ضلاله عائد على نفسه إذ هي التي تتدسّى وتخبث وتتأهل لمقت الله وغضبه وأليم عقابه. وما على الرسول المبلغ من ذلك شيء ، إذ لم يوكل إليه ربه هداية الناس بل أمره أن يصرح لهم بأنه ليس عليهم بوكيل (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١) وقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) (٢) أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتزام الحق باتباع ما يوحى إليه من الأوامر والنواهي وعدم التفريط في شيء من ذلك ، ولازم هذا وهو عدم اتباع ما لا يوحى إليه به ربه وقوله : (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ (٣) وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على اتباع الوحي والثبات على الدعوة وتحمل الأذى من المشركين إلى غاية أن يحكم الله فيهم وقد حكم فأمره بقتالهم فقتلهم في بدر وواصل قتالهم حتى دانوا لله بالإسلام ولله الحمد والمنّة ، وقوله (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٤) ثناء على الله تعالى بأنه خير من يحكم وأعدل من يقضي لكمال علمه وحكمته ، وعظيم قدرته ، وواسع رحمته.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن القرآن والرسول حق والإسلام حق.

__________________

(١) هذه الجملة داخلة ضمن الإعلان ، وهي أن يعلم أهل مكة والناس من حولهم أن الرسول المبلّغ الإسلام لهم غير موكل بهدايتهم وأنّ أمر ذلك متروك لهم ، فمن شاء اهتدى ، ومن شاء ضلّ ، وما عليه إلا البلاغ. وقد بلّغ.

(٢) هذا ارشاد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يلزم المنهج الذي وضعه له بطريق الوحي ولا يخرج عنه بحال فإنه سبيل نجاته ونجاة المؤمنين معه.

(٣) هذا إرشاد آخر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على إبلاغ أهل مكة ومن حولهم دعوة الله حتى يحكم الله بينه وبينهم بنصر رسوله والمؤمنين ، وخذلان الكفر والكافرين.

(٤) خير هنا بمعنى أخير اسم تفضيل ، وإنما عدل عن أخير إلى خير لكثرة الاستعمال كاسم شرّ أيضا ، وقد يأتي لفظ شر وخير لغير تفضيل.

٢ ـ تقرير مبدأ أن المرء يشقى ويسعد بكسبه لا بكسب غيره. (١)

٣ ـ وجوب اتباع الوحي الإلهي الذي تضمنه القرآن والسنة الصحيحة.

٤ ـ فضيلة الصبر وانتظار الفرج من الله تعالى.

سورة هود

مكية (٢)

وآياتها مائة وثلاث وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

شرح الكلمات :

(الر) : هذا أحد الحروف المقطعة : يكتب آلر ويقرأ ألف ، لام ، را.

__________________

(١) شواهد هذه الحقيقة في القرآن كثيرة منها : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ومنها : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ومنها : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

(٢) واستثنى منها بعضهم آية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ..) الآية فإنها مدنية وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (شيبتني هود وأخواتها) ويذكر القرطبي فيقول : قال أبو عبد الله : فالفزع يورث الشيب ، وذلك أنّ الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد ، وتحت كل شعرة منبع ومنه يعرق فإذا نشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر فابيضّ ، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيضّ ، وإنما يبيضّ شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده.

(أُحْكِمَتْ) : أي نظمت نظما متقنا ورصفت ترصيفا لا خلل فيه.

(فُصِّلَتْ) : أي ببيان الأحكام ، والقصص والمواعظ ، وأنواع الهدايات.

(مِنْ لَدُنْ) : أي من عند حكيم خبير وهو الله جل جلاله.

(مَتاعاً حَسَناً) : أي بطيب العيش وسعة الرزق.

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي موت الإنسان بأجله الذي كتب له.

(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) : أي ويعط كل ذي عمل صالح فاضل جزاءه الفاضل.

(عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) : هو عذاب يوم القيامة.

(يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) : أي يطأطئون رؤوسهم فوق صدورهم ليستتروا عن الله في زعمهم.

(يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) : يغطون رؤوسهم ووجوههم حتى لا يراهم الله في نظرهم الباطل.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الر) هذا الحرف مما هو متشابه ويحسن تفويض معناه إلى الله فيقال :

الله أعلم بمراده بذلك. وإن أفاد فائدتين الأولى : أن القرآن الكريم الذي تحداهم الله بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله قد تألف من مثل هذه الحروف : آلم ، آلر ، طه ، طس حم ، ق ، ن ، فألفوا مثله فإن عجزتم فاعلموا أنه كتاب الله ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا به ، والثانية أنهم لما كانوا لا يريدون سماع القرآن بل أمروا باللغو عند قراءته ، (١) ومنعوا الاستعلان به جاءت هذه الحروف على خلاف ما ألفوه في لغتهم واعتادوه في لهجاتهم العربية فاضطرتهم إلى سماعه فإذا سمعوا تأثروا به وآمنوا ولنعم الفائدة أفادتها هذه الحروف المقطعة.

وقوله تعالى (كِتابٌ (٢) أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي المؤلف من هذه الحروف كتاب عظيم أحكمت آياته أي رصفت ترصيفا ونظمت تنظيما متقنا لا خلل فيها ولا في تركيبها ولا معانيها ، وقوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي بين ما تحمله من أحكام وشرائع ، ومواعظ وعقائد

__________________

(١) شاهده في قوله تعالى من سورة (فصلت) : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

(٢) التنكير في (كِتابٌ) للتفخيم والتعظيم ، والإحكام أصله : اتقان الصنعة مشتق من الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه فإحكام الآيات : سلامتها من الأخلال : التي تعرض لنوعها كمخالفة الواقع ، والخلل في اللّفظ أو في المعنى.

وآداب وأخلاق بما لا نظير له في أي كتاب سبق ، وقوله : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي تولى تفصيلها حكيم خبير ، حكيم في تدبيره وتصرفه ، حكيم في شرعه وتربيته وحكمه وقضائه ، خبير بأحوال عباده وشؤون خلقه ، فلا يكون كتابه ولا أحكامه ولا تفصيله إلا المثل الأعلى فى كل ذلك.

وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي أنزل الكتاب وأحكم آيه وفصّل أحكامه وأنواع هدايته بأن (١) لا تعبدوا إلا الله إذ لا معبود حق إلا هو ولا عبادة تنفع إلا عبادته. وقوله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) هذا قول رسوله المبلغ عنه يقول أيها الناس إنى لكم منه أي من ربكم الحكيم العليم نذير بين يدي عذاب شديد إن لم تتوبوا فتؤمنوا وتوحدوا. وبشير أي أبشر من آمن ووحد وعمل صالحا بالجنة في الآخرة (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا (٢) رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وبأن تستغفروا ربكم باعترافكم بخطأكم بعبادة غيره ، ثم تتوبوا إليه أي ترجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وطاعته في أمره ونهيه ، ولكم جزاء على ذلك وهو أن يمتعكم في هذه الحياة متاعا حسنا بالنعم الوفيرة والخيرات الكثيرة إلى نهاية آجالكم المسماة لكل واحد منكم. وقوله (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (٣) أي ويعط سبحانه وتعالى كل صاحب فضل في الدنيا من بر وصدقة وإحسان فضله تعالى يوم القيامة في دار الكرامة الجنة دار الأبرار. وقوله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن هذه الدعوة فتبقوا على شرككم وكفركم (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو عذاب يوم القيامة. وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) يخبرهم تعالى بعد أن أنذرهم عذاب يوم القيامة بأن مرجعهم إليه تعالى لا محالة فسوف يحييهم بعد موتهم ويجمعهم عنده ويجزيهم بعدله ورحمته (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن ذلك احياؤهم بعد موتهم ومجازاتهم السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها وهذا هو العدل والرحمة اللذان لا نظير لهما.

__________________

(١) فالباء سببية ، وأن : تفسيرية ، إذ لو سأل سائل فقال : لم أحكمت الآيات ثم فصلت؟ لكان الجواب : بأن لا يعبد إلا الله وأن يستغفر وان يتاب إليه تعالى.

(٢) إن قيل : لم قدّم الاستغفار عن التوبة؟ فالجواب : بأن العبد لا يستغفر إلّا إذا علم أنه أذنب ، ولا يتوب العبد حتى يعلم أنه مذنب وعندها يتوب فهذا سرّ تقديم الاستغفار عن التوبة.

(٣) هذا كقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) فالفضل الأوّل من العبد ، وهو العمل الصالح ، والفضل الثاني من الرّب وهو دخول الجنة.

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ (١) صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) هذا النوع من السلوك الشائن الغبي كان بعضهم يثني صدره أي يطأطىء رأسه ويميله على صدره حتى لا يراه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعضهم يفعل ذلك ظنا منه أنه يخفي نفسه عن الله تعالى وهذا نهاية الجهل ، وبعضهم يفعل ذلك بغضا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يراه فرد تعالى هذا بقوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يتغطون بها (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا معنى لاستغشاء الثياب استتارا بها عن الله تعالى فإن الله يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما تخفي صدورهم وإن كانوا يفعلون ذلك بغضا (٢) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبئس ما صنعوا وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مظهر من مظاهر إعجاز القرآن وهو أنه مؤلف من الحروف المقطعة ولم تستطع العرب الإتيان بسورة مثله.

٢ ـ بيان العلة في إنزال الكتاب وأحكام آيه وتفصيلها وهي أن يعبد الله تعالى وحده وأن يستغفره المشركون ثم يتوبون إليه ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة.

٣ ـ وجوب التخلي عن الشرك أولا ، ثم العبادة الخالصة ثانيا.

٤ ـ المعروف لا يضيع عند الله تعالى إذا كان صاحبه من أهل التوحيد (وَيُؤْتِ (٣) كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).

٥ ـ بيان جهل المشركين الذين كانوا يستترون عن الله برؤوسهم وثيابهم. (٤)

٦ ـ مرجع الناس إلى ربهم شاءوا أم أبوا والجزاء عادل ولا يهلك على الله إلا هالك.

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه ، ونزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء ، وقيل نزلت في بعض المنافقين كان أحدهم إذا مرّ به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطّى وجهه كي لا يراه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدعوه إلى الإيمان.

(٢) لا مانع من توجيه الآية إلى هذا إذ ما زال الناس إلى اليوم ، إذا كرهوا الداعية إلى الله تعالى لا يحبون أن يروه أو يسمعوا صوته وقد يثنون صدورهم ويغطون وجوههم حتى لا يروه بغضا له وكرها. والله عليم خبير.

(٣) الثني : الطيّ. طوى الثوب إذا ثناه ، وهو مأخوذ من جعل الواحد اثنين.

(٤) أي : يطأطئون رؤوسهم على صدورهم ويتغطون بثيابهم إذ روي أن المشرك كان يدخل بيته ويرخي الستر عليه ، ويستغشي ثوبه ويحنى ظهره ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك لجهلهم بعظمة الله تعالى وقدرته وعلمه.

الجزء الثاني عشر

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

شرح الكلمات :

(مِنْ دَابَّةٍ) : أي حيّ يدبّ على الأرض أي يمشي من إنسان وحيوان

(مُسْتَقَرَّها) : أي مكان استقرارها من الأرض.

(وَمُسْتَوْدَعَها) : أي مكان استيداعها قبل استقرارها كأصلاب الرجار وأرحام النساء.

(فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : أي اللوح المحفوظ.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : أي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) : إذ لم يكن قد خلق شيئا من المخلوقات سواه ، والماء على الهواء.

(لِيَبْلُوَكُمْ) : أي ليختبركم ليرى أيكم أحسن عملا.

(إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) : أي إلى طائفة من الزمن معدودة.

(وَحاقَ بِهِمْ) : أي نزل وأحاط بهم.

معنى الآيات :

لما أخبر تعالى في الآية السابقة انه عليم بذات الصدور ذكر في هذه مظاهر علمه وقدرته تقريرا لما تضمنته الآية السابقة فقال عزوجل (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (١) من إنسان يمشي على الأرض أو حيوان يمشي عليها زاحفا أو يمشي على رجلين أو أكثر أو يطير في السماء إلا وقد تكفّل الله برزقها أي بخلقه وإيجاده لها وبتعليمها كيف تطلبه وتحصل عليه ، وهو تعالى يعلم كذلك مستقرها أي مكان استقرار تلك الدابة في الأرض ، كما يعلم أيضا مستودعها بعد موتها إلى أن تبعث ليوم القيامة.

وقوله تعالى (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها قد دوّن قبل خلقه في كتاب المقادير اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى في الآية (٧) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي أوجد السموات السبع والأرض وما فيها في ظرف ستة أيام وجائز أن تكون كأيام الدنيا ، وجائز أن تكون كالأيام التي عنده وهي ألف سنة لقوله في سورة الحج (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وقوله (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٢) أي خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ، والعرش : سرير الملك ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه الحياة ، وقوله (عَلَى الْماءِ) إذ لم يكن أرض ولا سماء فلم يكن إلا الماء كالهواء. وقوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ (٣) عَمَلاً) أي خلقكم وخلق كل شيء لأجلكم ، ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن عملا أي بإخلاصه لله تعالى وحده وبفعله على نحو ما شرعه الله وبيّنه رسوله.

هذه مظاهر علمه تعالى وقدرته وبها استوجب العبادة وحده دون سواه وبها علم أنه لا يخفى عليه من أمر عباده شيء فكيف يحاول الجهلة إخفاء ما في صدورهم وما تقوم به جوارحهم بثني صدورهم واستغشاء ثيابهم. ألا ساء ما يعملون.

وقوله تعالى (وَلَئِنْ قُلْتَ) ـ أي أيها الرسول للمشركين ـ إنكم مبعوثون من بعد الموت ،

__________________

(١) (وَما مِنْ دَابَّةٍ) : ما : نافية ، ومن : مزيدة لتقوية النفي ليكون أكثر شمولا ، والتقدير : وما دابة في الأرض إلّا على الله رزقها أي : تكفّل الله برزقها فضلا منه ومنّة.

(٢) روى البخاري في حديث منه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء».

(٣) قال مقاتل : أيكم اتقى لله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه أيكم أعمل بطاعة الله عزوجل ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : أيّكم أحسن عقلا وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله) ولو صحّ هذا الخبر لكان أتمّ وأجمع ، وقال الفضيل : أحسن العمل : أخلصه وأصوبه. وهو كما قال.

أي مخلوقون خلقا جديدا ومبعوثون من قبوركم لمحاسبتكم ومجازاتكم بحسب أعمالكم في هذه الحياة الدنيا (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي عند سماع أخبار الحياة الثانية وما فيها من نعيم مقيم ، وعذاب مهين (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الكلام ما هو إلا سحر مبين يريد به صرف الناس عن ملذاتهم ، وجمعهم حوله ليترأس عليهم ويخدموه ، وهو كلام باطل وظن كاذب وهذا شأن الكافر ، وقوله تعالى في الآية (٨) (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) (١) أي ولئن أخرنا أي أرجأنا ما توعدناهم به من عذاب ألى أوقات زمانية معدودة الساعات والأيام والشهور والأعوام (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) أي شيء حبس العذاب يقولون هذا إنكارا منهم واستخفافا قال تعالى (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي ليس هناك من يصرفه ويدفعه عنهم بحال من الأحوال ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون بقولهم : ما يحبسه!!؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ سعة علم الله تعالى وتكفله بأرزاق (٢) مخلوقاته من إنسان وحيوان.

٢ ـ بيان خلق الأكوان ، وعلة الخلق.

٣ ـ تقرير مبدأ البعث الآخر بعد تقرير الألوهية لله تعالى.

٤ ـ لا ينبغي الاغترار بإمهال الله تعالى لأهل معصيته ، فإنه قد يأخذهم فجأة وهم لا يشعرون.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ

__________________

(١) (إلى أمّة) : أي : إلى أجل معدود وحين معلوم ، فالأمّة هنا : المدّة ، ولفظ الأمة يطلق على معان منها : الجماعة ، وسميت مجموعة السنين أمّة لاجتماعها. والأمّة : أتباع أحد الأنبياء والأمّة ، الملّة والدين ، والأمّة : الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به.

(٢) قيل لحاتم الأصمّ : من أين تأكل؟ فقال من عند الله ، فقيل له : الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال : كأنّ ما له إلّا السماء! يا هذا : الأرض له والسماء له ، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض ، وأنشد يقول :

وكيف أخاف الفقر والله رازقي

ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفّل بالأرزاق للخلق كلهم

وللضب في البيداء وللحوت في البحر

مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

شرح الكلمات :

(أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) : أي أنلناه رحمة أي غنى وصحة.

(ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) : أي سلبناها منه.

(لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) : أي كثير اليأس أي القنوط شديد الكفر.

(نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ) : أي خيرا بعد شر.

(السَّيِّئاتُ) : جمع سيئة وهي ما يسوء من المصائب.

(لَفَرِحٌ فَخُورٌ) : كثير الفرح والسرور والبطر.

(صَبَرُوا) : أي على الضراء والمكاره.

(مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم.

(وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : أي الجنة دار الأبرار.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أن الإنسان (١) الذي لم يستنر بنور الإيمان ولم يتحل بصالح الأعمال إن أذاقه الله تعالى رحمة منه برخاء وسعة عيش وصحة بدن ، ثم نزعها منه لأمر أراده الله تعالى (إِنَّهُ) أي ذلك الإنسان (لَيَؤُسٌ) (٢) أي كثير اليأس والقنوط (كَفُورٌ) لربه الذي أنعم عليه جحود لما كان قد أنعم به عليه.

وقوله (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ) أي أذقناه طعم نعمة ولذاذة رخاء وسعة عيش وصحة بدن بعد ضراء كانت قد أصابته من فقر ومرض (لَيَقُولَنَ) بدل أن يحمد الله ويشكره على إسعاده بعد شقاء وإغنائه بعد فقر وصحة بعد مرض يقول متبجحا (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي

__________________

(١) الإنسان هنا : اسم جنس يشمل كل انسان كافر ، وإن قيل : إن الآية في كافر معيّن ، وهو الوليد بن المغيرة ، أو عبد الله بن أبي أميّة ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(٢) هو من باب : فعل يفعل يئس ييأس يأسا فهو آيس ، وللمبالغة : يؤوس أي : كثير اليأس الذي هو : القنوط بانقطاع الرجاء ، وجملة : (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) : جواب القسم في قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) الخ.

إِنَّهُ لَفَرِحٌ) أي كثير السرور (فَخُورٌ) كثير الفخر والمباهاة ، وهذا علته ظلمة النفس بسبب الكفر والمعاصي ، أما الإنسان المؤمن المطيع لله ورسوله فعلى العكس من ذلك إن أصابته سراء شكر ، وإن أصابته ضراء صبر ، وذلك لما في قلبه من نور الإيمان وفي نفسه من زكاة الأعمال.

هذا ما تضمنه قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ (١) صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) (٢) أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) عند ربهم وهو الجنة دار السّلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ أن الإنسان قبل أن يطهر بالإيمان والعمل الصالح يكون في غاية الضعف والانحطاط النفسي.

٢ ـ ذم اليأس والقنوط (٣) وحرمتهما.

٣ ـ ذم الفرح بالدنيا والفخر بها.

٤ ـ بيان كمال المؤمن الروحي المتمثل في الصبر والشكر وبيان جزائه بالمغفرة والجنة.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

__________________

(١) يعني المؤمنين مدحهم بالصبر على الشدائد وهو استثناء من لفظ الإنسان الذي هو بمعنى الناس ، فالاستثناء متصل وليس بمنقطع.

(٢) (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) مبتدأ وخبر ، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أجر : معطوف وكبير : نعت.

(٣) لقول الله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

شرح الكلمات :

(فَلَعَلَّكَ) : للاستفهام الإنكاري أي لا يقع منك ترك ولا يضق صدرك.

(ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) : أي بتلاوته عليهم كراهية أن يقولوا كذا وكذا ..

(كَنْزٌ) : مال كثير تنفق منه على نفسك وعلى أتباعك.

(وَكِيلٌ) : أي رقيب حفيظ.

(افْتَراهُ) : اختلقه وكذبه.

(مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) : من قدرتم على دعائهم لإعانتكم.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : أي أسلموا لله بمعنى انقادوا لأمره وأذعنوا له.

معنى الآيات :

بعد أن كثرت مطالبة المشركين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحول لهم جبال مكة ذهبا في اقتراحات منها لو لا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) (١) أي لا تتلوه على المشركين ولا تبلغهم إياه لتهاونهم به وإعراضهم عنه (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي بالقرآن ، كراهة أن تواجههم به فيقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) (٢) أي مال كثير يعيش عليه فيدل ذلك على إرسال الله له (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يدعو بدعوته ويصدقه فيها ويشهد له بها فلا ينبغي أن يكون ذلك منك أي فبلغ ولا يضق صدرك (إِنَّما أَنْتَ (٣) نَذِيرٌ) أي محذر عواقب الشرك والكفر والمعاصي ، والله الوكيل على كل شيء أي الرقيب الحفيظ أما أنت فليس عليك من ذلك شيء.

وقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل يقولون افتراه أي افترى القرآن وقاله من نفسه بدون ما أوحي إليه ، قل في الرد عليهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) (٤) دعوتهم لإعانتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أني افتريته ، فإن لم تستطيعوا ولن

__________________

(١) (فَلَعَلَّكَ ..) الخ كلام معناه : الاستفهام أي : هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما سألوك؟ إذ ورد أنهم قالوا له : لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتبعناك.

(٢) أي : هلا فهي للتحضيض وليست للامتناع.

(٣) القصر هنا إضافي إذ معناه أنه مقصور على الإنذار وليس عليه هداية القلوب.

(٤) أي : كالكهنة والأعوان والأصنام إذ يعتقدون أنها تنصرهم وتدفع عنهم وإلّا لما عبدوها مع الله تعالى.

تستطيعوا فتوبوا إلى ربكم وأسلموا له.

وقوله (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) (١) أي قل لهم يا رسولنا فإن لم يستجب لنصرتكم من دعوتموه وعجزتم (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (٢) أي أنزل القرآن متلبسا بعلم الله وذلك أقوى برهان على أنه وحيه وتنزيله (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٣) أي وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق سواه ، وأخيرا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي أسلموا بعد قيام الحجة عليكم بعجزكم ، وذلك خير لكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ولاية الله لرسوله وتسديده له وتأييده.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة.

٣ ـ بيان أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكلّف هداية الناس وإنما كلف إنذارهم عاقبة كفرهم وعصيانهم ، وعلى الله تعالى بعد ذلك مجازاتهم.

٤ ـ تحدي الله تعالى منكري النبوة والتوحيد بالإتيان بعشر سور من مثل القرآن فعجزوا وقامت عليهم الحجة وثبت أن القرآن كلام الله ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله وأن الله لا إله إلا هو.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ (٤)

__________________

(١) الاستجابة هنا : بمعنى الإجابة والسين والتاء فيه للتأكيد.

(٢) العلم : الاعتقاد اليقيني ، أي : فأيقنوا أنّ القرآن ما أنزل إلّا بعلم الله أي : ملابسا له.

(٣) معطوف على جملة : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أي : واعلموا أيضا موقنين أنه لا إله إلا الله. حيث قامت الحجة عليهم بعجز آلهتهم عن الاتيان بعشر سور من مثل القرآن.

(٤) روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار).

مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

شرح الكلمات :

زينة الحياة الدنيا : المال والولد وأنواع اللباس والطعام والشراب.

(نُوَفِّ إِلَيْهِمْ) : نعطهم نتاج أعمالهم وافيا.

(لا يُبْخَسُونَ) : أي لا ينقصون ثمرة أعمالهم.

(وَحَبِطَ) : أي بطل وفسد.

(عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي على علم يقيني.

(وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : أي يتبعه.

(كِتابُ مُوسى) : أي التوراة.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) : أي بالقرآن.

(فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) : أي مكان وعد به فهو لا محالة نازل به.

(فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) : أي في شك منه.

معنى الآيات :

لما أقام الله تعالى الحجة على المكذبين بعجزهم عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن مفتريات حيث ادعوا أن القرآن مفترى وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد افتراه ولم يبق إلا أن يختار المرء أحد الطريقين طريق الدنيا أو الآخرة الجنة أو النار فقال تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ) (١) (الدُّنْيا وَزِينَتَها) من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والرياش.

(نُوَفِ (٢) إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) (٣) نعطهم نتاج عملهم فيها وافيا غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ولا يبخسهم عملهم لكفرهم وتركهم ، ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا

__________________

(١) أي : ممن رفضوا الإسلام وأبوه بعد قيام الحجة على بطلان ما هم عليه من الكفر ورضوا بالكفر بإرادة الحياة الدنيا.

(٢) التوفية : إعطاء الشيء وافيا ، وعدي نوف : بإلى لأنه مضمن معنى : نوصل.

(٣) لفظ (أَعْمالَهُمْ) يشمل الأعمال الخيرية والأعمال الدنيوية فالأعمال الخيرية كصلة الرحم ، وقرى الضيف ، والإحسان إلى الفقراء والمساكين ، فهذه لا يحرمها الكافر بل يجد جزاءها في الدنيا : بركة في ماله وولده وحياته ، وأمّا الأعمال الدنيوية كالصناعة والزراعة والتجارة فهذه يوفى قدر جهده فيها ، فبقدر ما يبذل من طاقة يحصل له من الكسب والربح والانتاج فكفره لا يمنعه نتاج عمله بقدر ما يبذل فيه.

إلى ربهم. هلكوا كافرين ليس لهم إلا النار (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا) (١) في هذه الدار من أعمال وبطل ما كانوا يعملون.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٥ والثانية ١٦) وهو قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٧) (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) (٢) بما أوحى إليه من القرآن وما حواه من الأدلة والبراهين على توحيد الله ونبوة رسوله ، وعلى المعاد الآخر ، وقوله (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي ويتبع ذلك الدليل دليل آخر وهو لسان الصدق الذي ينطق به وكمالاته الخلقيّة والروحية حيث نظر إليه اعرابي فقال والله ما هو بوجه كذّاب ، ودليل ثالث في قوله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً) شاهد له حيث حمل نعوت الرسول وصفاته ونعوت أمته وصفاتها في غير موضع منه أفمن هو على هذه البينات والدلائل والبراهين من صحة دينه ، كمن لا دليل له ولا برهان إلا التقليد للضلال والمشركين ، وقوله (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين ثبتت لديهم تلك البيّنات والحجج والبراهين (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن الحق والنبي الحق والدين الحق. وقوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي بالقرآن ونبيه ودينه من الأحزاب (٣) أي من سائر الطوائف والأمم والشعوب فالنار موعده ، وحسبه جهنم وبئس المصير. (٤)

وقوله تعالى (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) (٥) أي فلا تك في شك منه أي في أن موعد من يكفر به من الأحزاب النار. وقوله (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي (٦) القرآن الذي كذّب به المكذبون وما تضمنه من الوعد والوعيد ، والدين الحق كل ذلك هو الحق الثابت من ربك ، إلا أن (أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) وإن ظهرت الأدلة ولاحت الأعلام وقويت البراهين.

__________________

(١) أعمال الكفار في الدنيا خيرية كانت أو دنيوية تذهب في الدار الآخرة هباء كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).

(٢) اختلف في عود الضمائر في هذه الآية اختلافا كثيرا ، وقد اخترنا في التفسير عودها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا مانع من عودها على كل مؤمن صادق الإيمان ، بقرينة الخبر وهو قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) وهم الفريق الذين أسلموا لمّا شاهدوا الحجج والبراهين.

(٣) أظهرهم : المشركون واليهود ، والنصارى والصابئة والمجوس.

(٤) لأنهم لم يزكّوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح فلذا فلا مأوى لهم إلّا النّار.

(٥) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل مؤمن أي : لا يشكنّ مؤمن في أن القرآن حق وأنّ ما أخبر به عن الكافرين من أنّ مأواهم النار حق.

(٦) جملة : (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مستأنفة مؤكدة لجملة : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).

(٧) لما سبق في علم الله وما قضى به قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقيقة وهي أن الكفر غير مانع من أن ينتج الكافر بحسب جهده من كسب يده فيحصد إذ زرع ، ويربح إذا اتجر ، وينتج إذا صنع.

٢ ـ بيان أن الكافر لا ينتفع من عمله في الدنيا ولو كان صالحا وأن الخسران لازم له.

٣ ـ المسلمون على بينة من دينهم ، وسائر أهل الأديان الأخرى لا بينة لهم وهم في ظلام التقليد وضلال الكفر والجهل.

٥ ـ بيان سنة الله في الناس وهي أن أكثرهم لا يؤمنون.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : أي لا أحد فالاستفهام للنفي.

(يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) : أي يوم القيامة.

(الْأَشْهادُ) : جمع شاهد وهم هنا الملائكة.

(لَعْنَةُ اللهِ) : أي طرده وإبعاده.

(عَلَى الظَّالِمِينَ) : أي المشركين.

(سَبِيلِ اللهِ) : أي الإسلام.

(عِوَجاً) : أي معوجة.

(مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) : أي الله عزوجل أي فائتين بل هو قادر على أخذهم في أيّة لحظة.

(مِنْ أَوْلِياءَ) : أي أنصار يمنعونهم من عذاب الله.

(وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) : ذلك لفرط كراهيتهم للحق فلا يستطيعون سماعه ، ولا رؤيته.

معنى الآيات :

بعد أن قرر تعالى مصير المكذبين بالقرآن ومن نزل عليه وما نزل به من الشرائع ذكر نوعا من إجرام المجرمين الذين استوجبوا به النار فقال عزوجل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد في الناس أعظم ظلما من أحد افترى على الله كذبا ما من أنواع (١) الكذب وإن قل وقوله (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أي أولئك الكذبة يعرضون يوم القيامة على ربهم جل جلاله في عرصات القيامة ، ويقول الأشهاد من الملائكة شاهدين (٢) عليهم (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) ثم يعلن معلن قائلا (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى) (٣) (الظَّالِمِينَ) أي ألا بعدا لهم من الجنة وطردا لهم منها إلى نار جهنم.

ثم وضح تعالى نوع جناياتهم التي استوجبوا بها النار فقال (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٤) أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الدين الإسلامي ، (وَيَبْغُونَها) أي سبيل الله (عِوَجاً) أي معوجة كما يهوون ويشتهون فهم يريدون الإسلام أن يبيح لهم المحرمات من الربا والزنى والسفور ، ويريدون من الإسلام أن يأذن لهم في عبادة القبور والأشجار والأحجار إلى غير ذلك ، ويضاف إلى هذا ذنب أعظم وهو كفرهم بالدار الآخرة. قال تعالى (أُولئِكَ) أي المذكورون (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لم يكن من شأنهم

__________________

(١) من أنواع كذبهم على الله تعالى : زعمهم أنّ له شريكا وولدا ، وقولهم في الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وتحريمهم ما أحلّ الله ونسبة ذلك إليه تعالى.

(٢) ومن الأشهاد : الأنبياء والعلماء والمبلغون لدعوة الله تعالى لعباده وفي صحيح مسلم : (وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم).

(٣) (لَعْنَةُ اللهِ) : أي : بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.

(٤) يجوز أن يكون : (الَّذِينَ) مجرورا لمحل نعتا للظالمين ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر ، والمبتدأ محذوف. أي : هم الذين يصدّون.

ومهما رأوا أنفسهم أقوياء أن يعجزوا الله تعالى في الأرض فإنه مدركهم مهما حاولوا الهرب (١) ومنزل بهم عذابه متى أراد ذلك لهم ، وليس لهم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعونهم من العذاب متى أنزله بهم ، وقوله تعالى (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) إخبار منه بأن هؤلاء الظالمين يضاعف لهم العذاب يوم القايمة لأنهم صدوا غيرهم عن سبيل الله فيعذبون بصدهم أنفسهم عن الإسلام ، وبصد غيرهم عنه ، وهذا هو العدل وقوله تعالى فيهم (ما كانُوا (٢) يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) إخبار بحالهم في الدنيا انهم كانوا لشدة كراهيتهم للحق ولأهله من الداعين إليه لا يستطيعون سماعه ولا رؤيته ولا رؤية أهله القائمين عليه والداعين إليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عظم ذنب من يكذب على الله تعالى بنسبة الولد أو الشريك إليه أو بالقول عليه بدون علم منه.

٢ ـ عظم جرم من يصد عن الإسلام بلسانه أو بحاله ، أو سلطانه.

٣ ـ عظم ذنب من يريد إخضاع الشريعة الإسلامية لهواه وشهواته بالتأويلات الباطلة والفتاوى غير المسؤولة ممن باعوا آخرتهم بدنياهم.

٤ ـ بيان أن من كره قولا أو شخصا لا يستطيع رؤيته ولا سماعه. (٣)

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم ، وفي سورة سبأ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ).

(٢) (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ..) قال القرطبي ما : في موضع نصب على أن يكون المعنى بما كانوا يستطيعون السمع.

يريد أن الباء المحذوفة سببية أي : يضاعف لهم العذاب بسبب أنهم كانوا لا يستطيعون السمع لما ران على قلوبهم من الآثام فحجب الإثم أسماعهم وأبصارهم ، وفي المثل : حبّك الشيء يعمي ويصم ، فحبّهم للكفر والشرك والآثام عطّل حواسهم.

(٣) أقول : ما كنت أدرك المعنى الحقيقي لقوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) حتى كان صوت العرب على عهد بطل الاشتراكية «عبد الناصر» وأخذ يسبّ ويشتم ويعيّر ويقبّح سلوك كل من لم يوال الاشتراكيين فكنت ـ والله ـ لا أستطيع سماع ما يذيعه ، وثمّ فهمت معنى الآية على حقيقته.

الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

شرح الكلمات :

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : أي غاب عنهم ما كانوا يدعونه من شركاء لله تعالى.

(لا جَرَمَ) : أي حقا وصدقا أنهم في الآخرة هم الأخسرون.

(وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) : أي تطامنوا أو خشعوا لربهم بطاعته وخشيته.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) : أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون ، فتستغفروا ربكم ثم تتوبوا إليه.؟

معنى الآيات :

ما زال السياق في تحديد المجرمين وبيان حالهم في الآخرة فقال تعالى (أُولئِكَ) أي البعداء (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث استقروا في دار الشقاء فخسروا كل شيء حتى أنفسهم ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمون أن لهم شركاء ، وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم قال تعالى : (لا جَرَمَ) (١) أي حقا (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي في دار الآخرة (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي الأكثر خسرانا من غيرهم لأنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة تكفير غيرهم ممن كانوا يدعونهم إلى الضلال ، ويصدونهم عن الإسلام سبيل الهدى والنجاة من النار. ولما ذكر تعالى حال الكافرين وما انتهوا إليه من خسران. ذكر تعالى حال المؤمنين فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) أي آمنوا بالله وبوعده ووعيده. وآمنوا برسول الله وبما جاء به ، وعملوا الصالحات التي شرعها الله

__________________

(١) (لا جَرَمَ) كلمة : جزم ويقين ، واختلف في تركيبها وأظهر أقوالهم فيها : أن تكون لا : حرف نفي ، وجزم : بمعنى محالة. ويصح معنى الكملة. لا محالة أو : لا بدّ أن يكون كذا وكذا ، أو لتفسّر بحقا ، ولا محالة ولا بد ، إذ جرم مأخوذ من الجرم الذي هو القطع.

(٢) الموصول : اسم إنّ ، وآمنوا : صلة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) معطوفان على الاسم ، والخبر : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وجملة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) جملة بيانية أي مبيّنة لحال أهل الجنة.

تعالى لهم من صلاة وزكاة (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي أسلموا له وجوههم وقلوبهم وانقادوا له بجوارحهم فتطامنوا وخشعوا أؤلئك أي السامون أصحاب الجنة أي أهلها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لا يبرحون منها ولا يتحولون عنها ، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة (٢٤) وهي قوله تعالى (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى (١) وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً)؟ فقد ذكر تعالى مقارنة بين أهل الشرك وأهل التوحيد توضيحا للمعنى وتقريرا للحكم فقال (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي صفة الفريقين الموضحة لهما هي كالأعمى والأصم وهذا فريق الكفر والظلم والسميع والبصير. وهذا فريق أهل الإيمان والتوحيد فهل يستويان مثلا أي صفة الجواب لا ، لأن بين الأعمى والبصير تباينا كما بين الأصم والسميع تباينا فأي عاقل يرضى أن يكون العمى والصمم وصفا له ولا يكون البصر والسمع وصفا له؟ والجواب لا أحد إذا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتعظون بهذا المثل (٢) وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وتوحدوا وتؤمنوا برسوله وتتبعوه ، وبكتابه وتعملوا بما فيه؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان المقارنات بين الأشياء المتضادة للعبرة والاتعاظ.

٢ ـ الكافر ميت موتا معنويا فلذا هو لا يسمع ولا يبصر ، والمسلم حيّ فلذا هو سميع بصير.

٣ ـ بيان ورثة دار النعيم وهم أهل الإيمان والطاعة ، وورثة دار الخسران وهم أهل الكفر والظلم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ

__________________

(١) فريق الإيمان ، وفريق الكفر والشرك.

(٢) المثل الذي كشف الحقيقة وبيّن أنّ الكفار عمي صم ، وأنّ المؤمنين يبصرون ويسمعون ، فأي عاقل يرضى أسوأ الوصفين؟!

الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧))

شرح الكلمات :

(نُوحاً) : هو العبد الشكور أبو البشرية الثاني نوح عليه‌السلام.

(إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أي مخوف لكم من عذاب الله بيّن النذارة.

(عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) : هو عذابه يوم القيامة.

(الْمَلَأُ) : الأشراف وأهل الحل والعقد في البلاد.

(أَراذِلُنا) (١) : جمع أرذل وهو الأكبر خسة ودناءة.

(بادِيَ الرَّأْيِ) : أي ظاهر الرأي ، لا عمق عندك في التفكير والتصور للأشياء.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة نوح عليه‌السلام وهي بداية لخمس قصص (٢) جاءت في هذه السورة سورة هود عليه‌السلام قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً (٣) إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ (٤) مُبِينٌ) أي قال لهم إني لكم نذير مبين أي بين النذارة أي أخوفكم عاقبة كفركم بالله وبرسوله وشرككم في عبادة ربكم الأوثان والأصنام. وقوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا (٥) إِلَّا اللهَ) أي نذير لكم بأن لا تعبدوا إلا الله ، وتتركوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان وقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) علل لهم أمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك بأنه يخاف عليهم إن أصروا على كفرهم وتركهم عذاب يوم أليم (٦) وهو عذاب يوم القيامة (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي فرد على نوح ملأ قومه اشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم ممن كفروا بالله ورسوله فقالوا (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) (٧) أي لا فضل لك علينا فكيف تكون رسولا لنا ونحن مثلك هذا

__________________

(١) الأرذل : اسم تفضيل والمفضّل عنه يقال له : رذل ككلب ويجمع على أرذل كأكلب.

(٢) هذا العطف من باب عطف قصّة على قصّة : الواو : تسمى الواو الابتدائية.

(٣) كسرت : إنّ لأنّ الإرسال فيه معنى القول وإن تكسر بعد القول.

(٤) القصّة : بكسر القاف والجمع : قصص كحجّة وحجج : الخبر يروى وتتتّبع أجزاؤه بعناية ، والقصص بفتح القاف : مصدر قصّ الحديث يقصّه قصا.

(٥) هذه الجملة مفسّرة لجملة (أَرْسَلْنا نُوحاً) أو لقوله : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

(٦) وجائز أن يكون (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) في الدنيا وهو عذاب الطوفان وقد كان.

(٧) (مِثْلَنا) : منصوب على الحال.

أولا وثانيا (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أي سفلتنا من (١) أهل المهن المحتقرة كالحياكة والحجامة والجزارة ونحوها وقولهم (٢) بادي الرأي أي ظاهر الرأي لا عمق في التفكير ولا سلامة في التصور عندك وقولهم (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لكم علينا من أي فضل تستحقون به أن نصبح أتباعا لكم فنترك ديننا ونتبعكم على دينكم بل نظنكم كاذبين فيما تقولون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إن نوحا واسمه عبد الغفار أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشركوا بربهم وعبدوا غيره من الأوثان والآلهة الباطلة.

٢ ـ قوله أن لا تعبدوا إلا الله هو معنى لا إله إلّا الله

٣ ـ التذكير بعذاب يوم القيامة.

٤ ـ اتباع الرسل هم الفقراء والضعفاء وخصومهم الأغنياء والأشراف والكبراء.

٥ ـ احتقار أهل الكبر لمن دونهم. وفي الحديث «الكبر (٣) بطر الحق وغمط الناس».

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا

__________________

(١) قال القرطبي : اختلف في السفلة فقيل : هم الذين يتقلسون ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات ، وقال مالك : السفلة : الذين يسبون الصحابة. وقال آخر : الذين يأكلون على حساب دينهم.

(٢) ومنه البادية وهي الأراضي الظاهرة لا تحوطها مبان ولا بساتين ولا مصانع.

(٣) الحديث في الصحيح فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنّ الله لا يدخل الجنة منّ كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر) فسئل عن الكبر فقال : الكبر : بطر الحق وغمط الناس) وبطر الحق : عدم قبوله ، وغمط الناس : احتقارهم.

أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) : أي على علم علمنيه الله فعلمت أنه لا إله إلا الله.

(فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) : أي خفيت عليكم فلم تروها.

(أَنُلْزِمُكُمُوها) : أي أجبركم على قبولها.

(بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي بمبعدهم عني ومن حولي.

(خَزائِنُ اللهِ) : التي فيها الفضل والمال.

(تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) : تحتقر أعينكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة نوح مع قومه فأخبر تعالى أن نوحا قال لقومه أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بيّنة من ربي أي على علم يقيني تعالى وبصفاته وبما أمرنى به من عبادته وتوحيده والدعوة إلى ذلك. وقوله (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وهي الوحي والنبوة والتوفيق لعبادته. (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أنتم (١) فلم تروها. فما ذا أصنع معكم (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي (٢) أنجبركم أنا ومن آمن بي على رؤيتها والإيمان بها والعمل بهداها ، (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٣) أي والحال أنكم كارهون لها والكاره للشيء لا يكاد يراه ولا يسمعه ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٨) أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر أيضا عن قيل نوح لقومه : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) أي لا أطلب منكم أجرا على ابلاغكم هذه الرحمة التي عميت عليكم فلم تروها. (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما أجري إلا على الله إذ هو الذي كلفني

__________________

(١) قرىء : (عمّيت) بتشديد الميم ، وقرأ ورش بتخفيفها ، ومعناه : إنّ الرسالة عميت عليكم فلم تفهموها. يقال : عميت عن كذا ، وعمي عليّ كذا : أي : لم أفهمه.

(٢) (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي : الرحمة التي هي عبادة الله وحده وترك عبادة سواه والاستفهام انكاري. أي : ما كان لي ذلك والحال أنكم كارهون لها.

(٣) قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله نوح عليه‌السلام لألزمها قومه. ولكنّه لم يملك ذلك.

بالعمل بها والدعوة إليها وواعدني بالأجر عليها. وقوله (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بمطيعكم في طرد المؤمنين من حولي كما اقترحتم عليّ ، إنهم ملاقو ربهم ، ومحاسبهم ومجازيهم على أعمالهم فكيف يصح مني ابعادهم عن سماع الحق وتعلمه والأخذ به ليكملوا ويسعدوا إذ العبرة بزكاة النفوس وطهارة الأرواح بواسطة الإيمان والعمل الصالح لا بالشرف والمال والجاه كما تتصورون ولذا فأني أراكم قوما تجهلون هذا ما دلت عليه الآية الثانية (٢٩) ثم قال لهم في الآية الثالثة (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي (١) مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي من هو الذي يرد عني عذاب الله ويمنعني منه إن أنا عصيته فطردت أي أقصيت وأبعدت عباده المؤمنين عن سماع الهدى وتعلم الخير ولا علة لذلك إلا لأنهم فقراء ضعفاء تزدريهم أعينكم المريضة التي لا تقدر على رؤية الحق وأهله والداعين إليه. ثم قال لهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢) أي تتفكرون فتعلمون خطأكم وجهلكم فتثوبوا إلى رشدكم. وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وبرسوله وتعبدوه وحده لا شريك له ثم قال لهم في الآية الأخيرة (٣١) (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) (٣) ردا على قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) ولا أعلم الغيب فأعرف ما تخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأبقي هذا ، ولا أقول إني ملك حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) (٤) لفقرهم وضعفهم (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي من صدق أو نفاق ومن حب لي أو بغض كأنهم طعنوا في المؤمنين واتهموهم بأنهم ينافقون أولهم أغراض فاسدة أو أطماع مادية من أجلها التفوا حول نوح ، وقوله (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إني إذا قلت للمؤمنين من الضعفاء لن يؤتيكم الله خيرا كنت بعد ذلك من الظالمين (٥) الذين يعتدون على الناس بهضمهم حقوقهم وامتهان كرامتهم.

هداية الآيات :

__________________

(١) أي : من يرد عنّي عذابه إن استوجبته بطرد عباده المؤمنين؟ والجواب : لا أحد فكيف إذا يسوغ لي أن أطردهم كما ترغبون.

(٢) (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) قرىء : تذكّرون بحذف إحدى التائين وقرىء تذّكرون : بتشديد الذال ، بادغام إحدى التائين في الأخرى. والاستفهام للإنكار أي : ينكر عليهم غفلتهم وجهلهم وعدم تذكرهم ليتّعظوا.

(٣) أخبر عليه‌السلام بتذلله وتواضعه لربّه عزوجل فنفى عن نفسه القدرة على امتلاك خزائن الفضل والمال كما نفى عن نفسه علم الغيب وأن يكون ملكا من الملائكة.

(٤) أي : تحتقر أعينكم. والأصل : تزدريهم ، حذفت الهاء والميم لطول الاسم ، والازدراء : افتعال من الزري الذي هو الاحتقار ، وإلصاق العيب فالازدراء أصله الازتراء فقلبت فيه التاء دالا فصار : الازدراء كما قلبت في : الازدياد.

(٥) في قوله : (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) : تعريض بقومه ، فوصفهم بالظلم من حيث لا يشعرون.

من هداية الآيات :

١) كره الشيء يجعل صاحبه لا يراه ولا يسمعه ولا يفهم ما يقال له فيه.

٢) كراهية أخذ الأجرة على الدعوة والتربية والتعليم الديني.

٣) وجوب احترام الضعفاء وإكرامهم وحرمة احتقارهم وازدرائهم.

٤) علم الغيب استأثر الله تعالى به دون سائر خلقه إلا من علمه الله شيئا منه فإنه يعلمه.

٥) حرمة غمط الناس وازدرائهم والسخرية منهم.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))

شرح الكلمات :

(جادَلْتَنا) : أي خاصمتنا تريد إسقاطنا وعدم اعتبارنا في ديننا وما نحن عليه.

(بِما تَعِدُنا) : أي من العذاب إن لم نؤمن بما تدعونا إليه.

(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : أي في دعواك النبوة والإخبار عن الله عزوجل.

(بِمُعْجِزِينَ) : أي بغالبين ولا فائتين الله تعالى متى أراد الله عذابكم.

(نُصْحِي) : أي بتخويفي إياكم عذاب ربكم إن بقيتم على الكفر به وبلقائه ورسوله.

(أَنْ يُغْوِيَكُمْ) : أي يوقعكم في الضلال ويبقيكم فيه فلا يهديكم أبدا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة نوح عليه‌السلام مع قومه فأخبر تعالى عن قول قوم نوح له عليه

السّلام : فقال : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) (١) أي خاصمتنا وأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين أي فعجل العذاب وأنزله علينا إن كنت من الصادقين فيما تقول وتدعو وتعد. فأخبر تعالى عن قول نوح لهم ردا على مقالتهم وهو ما علمه ربه تعالى أن يقوله : فقال (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ) أي بالعذاب الله إن شاء ذلك. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فائتين الله ولا هاربين منه. وقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ (٢) هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أي إن نصحي لا ينفعكم بمعنى أنكم لا تقبلونه مهما أردت ذلك وبالغت فيه إن كان الله جل جلاله يريد أن يغويكم لما فرط منكم وما أنتم عليه من عناد وكفر ومجاحدة ومكابرة إذ مثل هؤلاء لا يستحقون هداية الله تعالى بل الأولى بهم الضلالة حتى يهلكوا (٣) ضالين فيشقوا في الدار الآخرة. وقوله تعالى : (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي فالأمر له ألستم عبيده وهو ربكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وإن كانت حكمته تنفي أن يعذب الصالحين ويرحم الغواة الظالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الجدال لإحقاق الحق وإبطال الباطل. بشرط الأسلوب الحسن.

٢ ـ إرادة الله تعالى قبل كل إرادة وما شاءه الله يكون وما لم يشأه لم يكن.

٣ ـ لا ينفع نصح الناصحين ما لم يرد الله الخير للمنصوح له.

٤ ـ ينبغي عدم إصدار حكم على عبد لم يمت فيعرف بالموت مآله. إلّا قول الله أعلم به.

(أَمْ يَقُولُونَ (٤) افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)

__________________

(١) (جادَلْتَنا) أي : خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها ، والجدل في لغة العرب : المبالغة في الخصومة. مأخوذ من الجدل : الذي هو شدّة الفتل ، وقالوا في الصقر أجدل : لشدته في الطيران.

(٢) فيه الرد على بطلان مذهب المعتزلة ، والقدرية إذ زعموا أن الله لا يريد أن يعصي العاصي ولا أن يكفر الكافر ولا أن يغوي الغاوي وتجاهلوا أنه لا يقع في ملك الله إلا ما يريد ، ولا يقع شيء إلّا بإذنه فهو الهادي لمن شاء هدايته ، والمضل لمن شاء إضلاله. ولكن كلا من هدايته وإضلاله يتمان حسب سنته في الهداية والإضلال فلا يظلم ربّك أحدا.

(٣) ومن فسّر (أَنْ يُغْوِيَكُمْ) : يهلككم : أراد أنّ الهلاك سبب للإغواء ، فمن أغواه أهلكه ، إذ لا يهلك إلّا الغاوي.

(٤) شرح هذه الآية في (ص ٥٤٥) وأخرت على أنها معترضة لقصة نوح عليه‌السلام.

وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))شرح الكلمات :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) : أي اعلم بطريق الوحي الذي هو الاعلام السريع الخفي.

(فَلا تَبْتَئِسْ) : لا تحزن ولا يشتد بك الحزن فإني منجيك ومهلكهم.

(الْفُلْكَ) : أي السفينة التي أمرناك بصنعها لحمل المؤمنين عليها.

(سَخِرُوا مِنْهُ) : أي استهزئوا به كقولهم : تحمل هذا الفلك إلى البحر أو تحمل البحر إليه.

(يُخْزِيهِ) : أي يذله ويهينه.

(وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) : أي وينزل به عذاب النار يوم القيامة فلا يفارقه.

معنى الآيات :

عاد السياق بعد الاعتراض بالآية (٣٥) إلى الحديث عن نوح وقومه فقال تعالى (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ (١) لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ (٢) قَدْ آمَنَ). وهذا بعد دعوة دامت قرابة ألف سنة إلا

__________________

(١) (أَنَّهُ) في موضع رفع نائب فاعل لأوحي أي : أوحي إلى نوح عدم إيمان قومه ومعنى الكلام : الإياس من إيمانهم ، واستدامة كفرهم تحقيقا للوعيد بنزول العذاب بهم.

(٢) روي أنّ رجلا من قوم نوح مرّ بنوح وهو يحمل طفله فلما رأى الطفل نوحا قال لأبيه ناولني حجرا فناوله إياها فرمى بها نوحا فأدماه ، فأوحى الله تعالى إلى نوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ..)

خمسين عاما أي فلم يؤمن بعد اليوم أحد من قومك وعليه فلا تبتئس (١) أي لا تغتم ولا تحزن بسبب ما كانوا يفعلون من الشر والفساد والكفر والمعاصي فإني منجيك ومن معك من المؤمنين ومهلكهم بالغرق. وقوله تعالى في الآية الثانية (٣٧) (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي وأمرناه أن يصنع الفلك أي السفينة تحت بصرنا وبتوجيهنا وتعليمنا. إذ لم يكن يعرف السفن ولا كيفية صنعها وقوله (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تسألني لهم صرف العذاب ولا تشفع لهم في تخفيفه عليهم ، لأنا قضينا بإهلاكهم بالطوفان فهم لا محالة مغرقون قوله تعالى (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ (٢) وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) يخبر تعالى عن حال نوح وهو يصنع الفلك بقطع الخشب ونجره وتركيبه وقومه يمرون عليه وكلما مرّ عليه أشراف القوم وعليتهم يسخرون منه كقولهم يا نوح أصبحت نجارا أو وهل تنقل البحر إليها ، أو تنقلها إلى البحر فيرد عليهم نوح عليه‌السلام بقوله (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي منا. فسوف تعلمون أي مستقبلا من يأتيه عذاب يخزيه أي يذله ويهينه ويكسر أنف كبريائه ، ويحل (٣) عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار يوم القيامة وهو عذاب دائم لا ينتهى أبدا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ كراهية الحزن والأسى والأسف على ما يقوم به أهل الباطل والشر والفساد.

٢ ـ بيان تاريخ صنع السفن وانها بتعليم الله لنوح عليه‌السلام.

٣ ـ بيان سنة البشر في الاستهزاء والسخرية بأهل الحق ودعاته لظلمة نفوسهم بالكفر والمعاصي.

٤ ـ بيان صدق وعد الله رسله.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها

__________________

(١) الابتئاس : افتعال من البؤس الذي هو الهمّ والحزن. قال الشاعر :

وكم من خليل أو حميم رزأته

فلم أبتئس والرزء فيه جليل

(٢) اختلفت الأقوال في مدّة صنع السفينة ، أكثرها أنها : أربعون سنة. وجائز أن تكون أكثر ، لأنّ عمل فرد واحد في صنع سفينة يتطلب وقتا طويلا أمّا حجمها فيدل على كبره ما حمل فيها ، إذ حمل فيها كل مؤمن ومؤمنة ومن كل زوجين اثنين ، فحجمها لا شك أنه واسع كبير ، وقيل : كانت السفينة ثلاث طبقات : السفلى للدواب والوحوش ، والوسطى للإنس ، والعليا للطيور. والله أعلم ، والحديث عن طول السفينة وعرضها ومادتها كله من باب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.

(٣) أي : يجب عليه وينزل به.

مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(فارَ التَّنُّورُ) : أي خرج الماء وارتفع من التنور وهو مكان طبخ الخبز.

(زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : أي من كل ذكر وأنثى من سائر أنواع المخلوقات اثنين.

(وَأَهْلَكَ) : أي زوجتك وأولادك.

(مَجْراها وَمُرْساها) : أي اجراؤها وإرساؤها.

(فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) : الموج ارتفاع ماء البحر وكونه كالجبال أي في الارتفاع.

(يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) : يمنعني من الماء أن يغرقني.

(وَغِيضَ الْماءُ) : أي نقص بنضوبه في الأرض.

(عَلَى الْجُودِيِ) : أي فوق جبل الجودي وهو جبل بالجزيرة غرب الموصل.

(بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : أي هلاكا لهم.

شرح الكلمات :

(أَمْ يَقُولُونَ) : أي بل يقولون افتراه.

(افْتَراهُ) : أي اختلقه وقال من نفسه ولم يوح به إليه.

(فَعَلَيَّ إِجْرامِي) (١) : أي عاقبة الكذب الذي هو الإجرام تعود عليّ لا على غيري.

(وَأَنَا بَرِيءٌ) : أي أتبرأ وأتنصل من إجرامكم فلا أتحمل مسؤوليته.

(مِمَّا تُجْرِمُونَ) : أى على أنفسكم بإفسادها بالشرك والكفر والعصيان.

معنى الآية :

هذه الآية الكريمة أوقعها الله منزلها سبحانه وتعالى بين أجزاء الحديث عن نوح وقومه ، وحسن موقعها هنا لأن الحديث عن نوح وقومه لا يتأتى لأحد إلا لنبي يوحى إليه ، وذلك لبعده في التاريخ فقصّ النبيّ له اليوم دليل على أنه نبي يوحى إليه ، فلذا قال أم يقولون افتراه (٢) أي يقولون افترى القرآن وكذبه ولم يوح إليه قل إن افتريته كما زعمتم فعلىّ إجرامي أي أثم كذبي وأنا بريء مما تجرمون أنتم بتكذيبكم إياي وكفركم بربكم ورسوله ووعده ووعيده.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الاعتراض في الكلام إذا حسن موقعه لإقامته حجة أو إبطال باطل أو تنبيه على أمر مهم.

٢ ـ قص القصص أكبر دليل على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوى النبوة ودعوته إلى الله تعالى.

٣ ـ تقرير مبدأ تحمل كل إنسان مسؤولية عمله وأن لا تزر وازرة وزر أخرى.

__________________

(١) الإجرام : مصدر أجرم يجرم إجراما : إذا اقترف السيئات وجرم الثلاثي كأجرم الرباعي ، قال الشاعر وهو أحد لصوص بني سعد :

طريد عشيرة ورهين جرم

بما جرمت يدي وجنى لساني

(٢) فسرت الآية في التفسير بالقول الراجح وهو : أنّ المراد بمن يقول افتراه : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والآية معترضة أحاديث قصة نوح وذهب بعضهم نقلا عن ابن عباس أنها من محاورة نوح عليه‌السلام مع قومه : واستظهروها من أجل السياق السابق واللاحق والله أعلم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي واصل صنع السفينة حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك المشركين ، وفار (١) التنور أي خرج الماء من داخل التنور وفار وتلك علامة بداية الطوفان فاحمل فيها أي في السفينة التي صنعت من كل زوجين (٢) اثنين أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين أي ذكرا وأنثى. وأهلك أي واحمل أهلك من زوجة وولد كسام وحام ويافث إلا من سبق عليه القول أي بالإهلاك كامرأته واعلة وولده كنعان. ومن آمن (٣) أي واحمل من آمن من سائر الناس ، (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) أي نحو من ثمانين رجلا وأمرأة هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٠) أما الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن نوحا قال لجماعة المؤمنين (ارْكَبُوا فِيها) أي في السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها (٤) وَمُرْساها) أي باسم الله تجري وباسم الله ترسو أي تقف (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) أي فهو لا يهلكنا بما قد يكون لنا من ذنب ويرحمنا فينجينا ويكرمنا.

وقوله تعالى في الآية الثالثة (٤٢) (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وصف للسفينة وهي تغالب الماء وتمخر عبابه وأمواج الماء ترتفع حتى تكون كالجبال في ارتفاعها وقبلها نادى نوح ابنه كنعان ، وهو في هذه الساعة في معزل (٦) اي من السفينة حيث رفض الركوب فيها لعقوقه وكفره (٧) فقال له (يا بُنَيَّ ارْكَبْ (٨) مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) فتغرق كما يغرقون فأجاب الولد قائلا

__________________

(١) الفوران : غليان القدر ، ويطلق على نبع الماء بشدّة تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلى ، والتنور : اسم لموقد النار للخبز.

(٢) قرأ حفص (مِنْ كُلٍ) بتنوين كل فالتنوين عوض عن مضاف إليه أي : من كل المخلوقات ، و (زَوْجَيْنِ) مفعول ل (احمل) ، واثنين : نعت له وقرأ الجمهور بإضافة كلّ إلى زوجين ، والمراد بالزوجين هنا : الذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوانات.

(٣) ومن آمن : أي : كل المؤمنين.

(٤) جائز أن يكون القائل : (ارْكَبُوا فِيها) الله جلّ جلاله ، وجائز أن يكون نوحا عليه‌السلام والركوب : العلو على ظهر شيء ، وقال : فيها ، ولم يقل عليها لأنها ظرف لهم يدخلون فيها.

(٥) قرأ الجمهور بضم الميم في كل من مجراها ، ومرساها ، وهما مصدران من : أجرى وأرسى ، وقرأ عاصم بفتح ميم مجراها ، وضم ميم مرساها كالجمهور ، ولم يفتح ميم مرساها لاشتباهه. حينئذ المرسى مكان الرسو ، وقرىء مجريها ، ومرسيها باسم الفاعل أي : بسم الله مجريها ومرسيها.

(٦) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

(٧) وقيل : في معزل أي : من دين أبيه.

(٨) قرأ حفص : (يا بُنَيَ) بفتح الياء المشددة وكسرها غير عاصم.

(سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي يمنعني منه حتى لا أغرق ، فأجابه نوح قائلا (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي بعذاب الكافرين (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي الله فهو المعصوم. قال تعالى (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي بين الولد العاق والوالد الرحيم (فَكانَ) أي الولد (مِنَ الْمُغْرَقِينَ). وقوله تعالى (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي اشربيه وابتلعيه ، ويا سماء اقلعي أي من الصب والإمطار ، والآمر للأرض والسماء هو الله تعالى. (وَغِيضَ الْماءُ) أي نقص ونضب. (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) (١) أي ورست السفينة بركابها على الجودي وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا لهم فلم يبق منهم أحدا إذ أخذهم الطوفان وهم ظالمون بدأ الطوفان أول يوم من رجب واستمر ستة أشهر حيث رست السفينة في أول محرم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الإيمان ينجي ، والكفر يهلك ويردي.

٢ ـ مشروعية التسمية عند الركوب في سفينة أو غيرها.

٣ ـ عقوق الوالدين كثيرا ما يسب الهلاك في الدنيا ، أما عذاب الآخرة فهو لازم له.

٤ ـ مظهر من مظاهر رحمة الوالد بولده.

٥ ـ مظاهر عظمه الرب تعالى وإطاعة الخلق أمره حتى الأرض والسماء.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ

__________________

(١) (الْجُودِيِ) أحد جبال ثلاثة أكرمهم الله تعالى ، الجودي بإرساء السفينة عليه ، وطور سينا : بمناجاة موسى عليه ، وحراء بتعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ونزول جبريل عليه فيه.

تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(مِنْ أَهْلِي) : أي من جملة أهلي من ازواج وأولاد.

(وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) : أي الثابت الذي لا يخلف.

(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) : أي إن سؤالك هذا إياي عمل غير صالح.

(أَعِظُكَ) : أي أنهاك وأخوفك من أن تكون من الجاهلين.

(مِنَ الْجاهِلِينَ) : أي من الذين لا يعرفون جلالي وصدق وعدي ووفائي فتسألني ما ليس لك به علم.

(سَنُمَتِّعُهُمْ) : أي بالأرزاق والمتع إلى نهاية آجالهم ثم يحل بهم عذابي وهم الكفرة.

(لِلْمُتَّقِينَ) : أي الذين يتقون الله فيعبدونه ولا يشركون به شيئا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى ، (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أي دعاه سائلا (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي (١) وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ،) وهذا كان منه حال الإركاب في الفلك ، وامتناع ولده كنعان من الركوب أي رب إن ولدي كنعان من زوجتي ومن جملة أولادي ، وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ومن معي من المؤمنين ، (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) أي الذي لا خلف فيه ابدا ، (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أعلمهم وأعدلهم ، وهذا ابني قد استعصى عنّي ولم يركب معي وسيهلك مع الهالكين إن لم ترحمه يا رب

__________________

(١) أي : الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق ، وسأل نوح ربّه نجاة ولده لقوله تعالى (وَأَهْلَكَ) وكان كنعان يظهر الإيمان ويبطن الكفر.

العالمين فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله الحق : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي الذين وعدتك بإنجائهم لأنه على غير دينك وعلى خلاف منهجك ، (إِنَّهُ عَمَلٌ (١) غَيْرُ صالِحٍ) أي إن سؤالك هذا إليّ بإنجاء ولدك وهو كافر على غير ملتك ، وقد أعلمتك إني مغرق الكافرين. سؤالك هذا عمل غير صالح يصدر عنك : (إِنِّي أَعِظُكَ) أي أنهاك وأخوفك (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فتسألني ما ليس لك به علم. قال نوح (رَبِ) أي يا رب إنّي أعوذ بك أي استجير وأتحصن بك أن أسألك بعد الآن ما ليس لي به علم. وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين أي الذين غبنوا أنفسهم حظوظها فهلكوا ، فأجابه الرب (٢) تعالى (يا نُوحُ اهْبِطْ) من السفينة أنت ومن ومعك من المؤمنين بسلام منا أي بأمن منا وتحيات ، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي من ذريّة من معك ، فلا تخافوا جوعا ولا شقاء ، وأمم من ذريّة من معك سنمتعهم متاع الحياة الدنيا بالأرزاق ثم يمسهم منا عذاب أليم يوم القيامة لأنهم ينحرفون عن الإسلام ويعيشون على الشرك والكفر. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله تعالى به فكان كما أخبر فقد نشأت أجيال وأجيال من ذريّة نوح منهم الكافر ومنهم المؤمن وفي الجميع ينفذ حكم الله ويتم فيهم وعده ووعيده. وقوله تعالى في الآية (٤٩) وهي الأخيرة في هذا السياق يقول تعالى (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) (٣) (نُوحِيها) أي هذه القصة التي قصصناها عليك من أنباء الغيب الذي لا يعلم تفصيله إلا الله نوحيها إليك ضمن آيات القرآن ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على وجه التفصيل من قبل هذا القرآن إذا فاصبر يا رسولنا على أذى قومك مبلغا دعوة ربك حتى يأتيك نصرنا فإن العاقبة (٤) الحسنى الحميدة دائما للمتقين ربهم بطاعته والصبر عليها حتى يلقوه مؤمنين صابرين محتسبين.

__________________

(١) قرأ ابن عباس ، وعروة وعكرمة ، ويعقوب ، والكسائي : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي : إن ابنك عمل عملا غير صالح ، وهو الكفر والتكذيب وقرأ الباقون (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي : ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف كقول الشاعر :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

أي : ذات إقبال وإدبار.

(٢) وجائز أن يكون القائل : (اهْبِطْ) : الملائكة عليهم‌السلام بإذن الله تعالى.

(٣) اشتملت الآية على ثلاثة أمور هي : الامتنان والصبر ، والتسلية ، فالامتنان في قوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) والموعظة في قوله (فَاصْبِرْ) الخ .. والتسلية في قوله ، (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

(٤) العاقبة في الدنيا بالظفر ، وفي الآخرة بالفوز وهو النجاة من النار ، ودخول الجنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ رابطة الإيمان والتقوى أعظم من رابطة النسب.

٢ ـ حرمة العمل بغير علم فلا يحل القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.

٣ ـ ذم الجهل وأهله.

٤ ـ شرف نوح عليه‌السلام وانه أحد أولى العزم من الرسل.

٥ ـ بيان العبرة من القصص القرآني وهي تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

٦ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثباتها ببرهان عقلي وهو الإخبار بالغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي.

٧ ـ بيان فضل الصبر ، وأن العاقبة الحميدة للمتقين وهم أهل التوحيد والعمل الصالح.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) : أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم في النسب لا في الدين أخاهم هودا. وهود من قبيلة عاد وعاد من ولد سام بن نوح عليه‌السلام.

(اعْبُدُوا اللهَ) : أي اعبدوه وحده ولا تعبدوا معه غيره.

(ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) : أي ليس لكم معبود بحق يستحق عبادتكم غيره.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) : أي ما أنتم في تأليه غير الله من الأوثان إلا كاذبون.

(لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) : أي لا أطلب منكم أجرا على إبلاغي دعوة التوحيد إليكم.

(فَطَرَنِي) : أي خلقني.

(مِدْراراً) : أي كثيرة الدرور للمطر النازل منها.

(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) : أي ولا تعرضوا عن دعوة التوحيد مجرمين على أنفسكم بالشرك بالله.

معنى الآيات :

هنا شروع في قصة هود مع قومه عاد بعد قصة نوح عليه‌السلام ومغزى القصة تقرير توحيد الله ونبوة رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ (١) هُوداً) أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد (٢) أخاهم هودا وهو أخوهم في النسب وأول من تكلم بالعربية فهو أحد أربعة أنبياء من العرب وهم هود ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي قال هود لقومه بعد أن أرسله الله إليهم يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه غيره فإنه ما لكم من إله غير (٣) الله سبحانه وتعالى. وقوله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي ما أنتم في عبادة غير الله من الأصنام والأوثان إلّا كاذبون ، إذ لم يأمركم الله تعالى ربكم بعبادتها ، وإنما كذبتم عليه في ذلك. وقوله (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) يريد لا أسألكم على دعوتي إياكم إلى توحيد ربكم لتكملوا بعبادته وتسعدوا أجرا أي مالا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) أي ما أجري إلا على الله الذي خلقني. وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤) أي أفلا تعقلون أنّي لو كنت أبغي بدعوتي إلى التوحيد أجرا لطلبت ذلك منكم ، غير أني لم أطلب من غير ربي أجرا فبان بذلك صدقي في دعوتكم ونصحي لكم.

وقوله تعالى عن قيل هود (يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) يخبر تعالى أن هودا نادى قومه فقال يا قوم استغفروا ربكم أي آمنوا به واطلبوا منه المغفرة لذنوبكم ، ثم توبوا إليه أي ارجعوا إلى عبادته وحده بما شرع لكم على لسان نبيكم ، واتركوا عبادة غيره يكافئكم بأن

__________________

(١) وجائز أن تكون أخوة بني آدم إذ الكل من آدم عليه‌السلام.

(٢) هما : عادان ، الأولى والثانية لقوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) فهؤلاء هم عاد الأولى ، وأمّا الأخرى فالله أعلم بها.

(٣) يصح في : غيرالجر والرفع والنصب ، فالجرّ على اللفظ ، والرفع على الموضع والنصب على الاستثناء.

(٤) وجائز أن يكون (أَفَلا تَعْقِلُونَ) لما جرى لقوم نوح لمّا كذّبوا الرسل ، وما في التفسير أولى وأكثر فائدة.

يرسل السماء عليكم مدرارا (١) أي بالأمطار المتتالية بعد الذي أصابكم من الجفاف والقحط والجدب ، ويزدكم قوة روحية إلى قوتكم المادية ، وقوله (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ينهاهم ناصحا لهم أن يرفضوا نصيحته ويرجعوا إلى عبادة الأوثان فيجرموا على أنفسهم بإفسادها بأوضار الشرك والعصيان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ دعوة الرسل من نوح إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدة وهي : أن يعبد الله وحده.

٢ ـ تقرير مبدأ لا إله إلا الله.

٣ ـ المشركون والمبتدعون الكل مفترون على الله كاذبون حيث عبدوه بما لم يشرع لهم.

٤ ـ وجوب الإخلاص في الدعوة.

٥ ـ فضل الاستغفار ووجوب التوبة.

٦ ـ تقديم الاستغفار على التوبة مشعر بأن العبد إذا لم يعترف أولا بذنبه لا يمكنه أن يتوب منه.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))

__________________

(١) أي : كثيرة المطر المتتابع الذي يتلو بعضه بعضا ، يقال : درّت السماء تدرّ فهي مدرار ، وكان قوم هود أهل بساتين وزروع حياتهم متوقفة على المطر.

شرح الكلمات :

(بِبَيِّنَةٍ) : أي بحجة وبرهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده.

(وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) : أي عبادة آلهتنا لأجل قولك إنها لا تستحق أن تعبد.

(إِلَّا اعْتَراكَ) : أي أصابك.

(بِسُوءٍ) : أي بخبل فأنت تهذي وتقول ما لا يقبل ولا يعقل.

(ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) : أي لا تمهلون.

(آخِذٌ بِناصِيَتِها) : أي مالكها وقاهرها ومتصرف فيها. فلا تملك نفعا ولا ضرا إلا بإذنه.

(إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي على طريق الحق والعدل.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أصلها تتولوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التائين ومعناه تدبروا.

(عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) : أي رقيب ولا بد انه يجزي كل نفس بما كسبت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة هود مع قومه إذ أخبر تعالى عن قيل قوم هود إلى هود فقال (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة أو برهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وترك عبادة آلهتنا والاعتراف بنبوتك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) أي عبادتها (عَنْ قَوْلِكَ) أي من أجل قولك انها لا تستحق أن تعبد لكونها لا تنفع ولا تضر ، (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي بمتابعين لك على دينك ولا مصدقين لك فيما تقول (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ (١) بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي ما نجد ما نقول فيك إلا أن بعض آلهتنا التي تسبها وتشتمها قد أصابتك بسوء بخبل وجنون فأنت تهذر وتهذي ولا تدري ما تقول. فأجابهم قائلا (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فأعلن براءته في وضوح من آلهتهم وأنه لا يخافها إبطالا لدعواهم أنّها أصابته بسوء ، وأعلمهم أنه يشهد الله على ذلك ، ثم أمرهم أن يشهدوا هم كذلك. (٢) وقوله (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله من سائر الآلهة والشركاء ثم تحداهم مستخفا

__________________

(١) عراه واعتراه بمعنى واحد ، وهو : أصابك ، يقال : اعتراني كذا ، أي ، أصابني ، كما يقال : عراني نعاس أو تفكير أي : أصابني.

(٢) ما أمرهم بالشهادة لكونهم أهلا لها ، وإنما زيادة في التقرير ، وخالف بين الفعلين حتى لا يسوي بين شهادة الله تعالى وشهادتهم.

بهم وبآلهتهم ، فقال (فَكِيدُونِي (١) جَمِيعاً) أي احتالوا على ضري ثم لا تنظرون أي لا تؤخرون ولا تمهلون ، ثم كشف لهم عن مصدر قوته وهو توكله على ربّه فقال (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي فوضت أمري إليه وجعلت كل ثقتي فيه فهو لا يسلمني إليكم ولا يخذلني بينكم. ثم أعلمهم بإحاطة قدرة الله بهم وقهره لهم فقال (ما مِنْ (٢) دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) (٣) أي قاهر لها متحكم فيها يقودها حيث شاء وينزل بها من العذاب ما يشاء ، ثم أعلمهم أن ربّه تعالى على طريق العدل والحق فلا يسلط أعداءه على أوليائه ، فقال (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فلذا أنا لست بخائف ولا وجل ثم قال لهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن تدبروا عن الحق وتعرضوا عنه فغير ضائري ذلك إذ أبلغتكم ما أرسلني به ربي إليكم وسيهلككم ويستخلف قوما غيركم ، (٤) ولا تضروه شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا ، (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي رقيب ، وسيجزي كلا بما كسب بعدله ورحمته. وله الحمد والمنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مدى مجاحدة ومكابرة المشركين في كل زمان ومكان.

٢ ـ تشابه الفكر الشركي وأحوال المشركين إذ قول قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ ..) الخ. يردده جهلة المسلمين وهو فلان ضربه الولي الفلاني.

٣ ـ مواقف أهل الإيمان واحدة فما قال نوح لقومه متحديا لهم قاله هود لقومه.

٤ ـ تقرير مبدأ أن كل شيء في الكون خاضع لتدبير الله لا يخرج عما أراده له أو به.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ

__________________

(١) في قوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) علم من أعلام النبوة ، إذ لا يقدر فرد أن يقول لأمّة بكاملها : افعلي بي من الشر والأذى ما تستطيعين إلّا أن يكون نبيّا عالما بقدرة الله تعالى على حفظه وحمايته ، وقد وقف هذا الموقف نوح من قبل ووقفه محمد بعد صلّى الله عليهم أجمعين وسلم تسليما.

(٢) كل ما فيه روح يقال له دابّ ، والتاء فيه : للمبالغة ، فيقال : دابة مبالغة في الدبيب.

(٣) الناصية : ما انسدل من شعر الرأس على الجبهة ، والأخذ : الإمساك ، وهذا كناية عن التمكن والقدرة الكاملة على التصرف في المخلوقات.

(٤) أي : يخلق من هم أطوع لله تعالى منكم فيعبدونه ويوحدّونه.

مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) : أي بعذابهم وهي الريح الصرر.

(بِرَحْمَةٍ مِنَّا) : أي بفضل منا ونعمة.

(جَبَّارٍ عَنِيدٍ) : أي مستكبر عن الحق لا يذعن له ولا يقبله.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي ولعنة في يوم القيامة.

(أَلا بُعْداً لِعادٍ) : أي هلاكا لعاد وإبعادا لهم من كل رحمة.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى هود وقومه قال تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (١) (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ (٢) مِنَّا) أي بلطف وفضل ونعمة (وَنَجَّيْناهُمْ (٣) مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) هو عذاب يوم القيامة فهما نجاتان نجاة في الدنيا من عذاب الريح العقيم الصرر التي دمرت كل شيء بأمر ربها ونجاة من عذاب النار يوم القيامة وهي أعظم. وقوله تعالى (وَتِلْكَ عادٌ) أي هذه عاد قوم هود جحدوا بآيات (٤) ربهم فلم يؤمنوا وعصوا رسله أي هودا وجمع لأن من كذب برسول كأنما كذب بكل الرسل (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٥) أي اتبعوا أمر دعاة الضلالة من أهل الكبر والعناد للحق فقادوهم إلى سخط الله وأليم عقابه وقوله (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي اتبعهم الله غضبه وسخطه وهلاكه ، ويوم القيامة كذلك وأشد. ويختم الحديث عن هذه القصة بقول الله تعالى (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي جحدوه فلم يعترفوا بألوهيته

__________________

(١) بهلاك عاد.

(٢) في صحيح مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة).

(٣) قيل : كانوا ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف نسمة ما بين رجل وامرأة.

(٤) المراد من الآيات : المعجزات وأنكروها.

(٥) العنيد والعنود ، والعاند والمعاند : المعارض ، المخالف.

وعبادته (أَلا بُعْداً) (١) أي هلاكا لعاد قوم هود. فهل يعتبر مشركو قريش بهذه القصة فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا ويفلحوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد إذ القصة كلها مسوقة لذلك.

٢ ـ بيان سنة الله في الأولين وهي انه يبعث الرسل مبشرين ومنذرين فإن استجاب المرسل إليهم سعدوا ، وإن لم يستجيبوا يمهلهم حتى تقوم الحجة عليهم ثم يهلكهم ، وينجي المؤمنين.

٣ ـ التنديد بالكبر والعناد إذ هما من شر الصفات الخلقية في الإنسان.

٤ ـ اتباع الطغاة والظلم والكفر والفساد لا تقود إلا إلى الدمار والخسار.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

شرح الكلمات :

(وَإِلى ثَمُودَ) : أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود.

(أَخاهُمْ صالِحاً) : أي في النسب لأنه من قبيلة ثمود ، بينه وبين ثمود أبي القبيلة خمسة أجداد.

__________________

(١) والبعد : التباعد عن الخير أيضا.

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ) : أي جعلكم عمارا فيها تعمرونها بالسكن والإقامة فيها.

(قَرِيبٌ مُجِيبٌ) : أي من خلقه ، إذ العوالم كلها بين يديه ومجيب أي لمن سأله.

(مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) : أي قبل أن تقول ما قلت كنا نرجو أن تكون سيدا فينا.

(أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) : أي على علم بربي علمنيه سبحانه وتعالى فهل يليق بي أن أعبد غيره.

(غَيْرَ تَخْسِيرٍ) : أي خسار وهلاك.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة صالح مع قومه إذ قال تعالى مخبرا عن إرساله إلى قومه (وَإِلى ثَمُودَ) (١) (أَخاهُمْ صالِحاً) أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود بالحجر بين الحجاز والشام أخاهم في القبيلة لا في الدين صالحا. فقال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فناداهم بعنوان القومية جمعا لقلوبهم على ما يقول لهم فقال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي آمنوا به ووحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه أحدا. إذ ليس لكم من إله غيره. إذ هو ربكم أي خالقكم ورازقكم ومدير أمركم. (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم منها (وَاسْتَعْمَرَكُمْ (٢) فِيها) أي جعلكم تعمرونها بالسكن فيها والعيش عليها ، إذا فاستغفروه بالاعتراف بألوهيته ثم توبوا إليه فاعبدوه وحده ولا تشركوا في عبادته أحدا. وقوله (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أخبرهم بقرب الربّ تعالى من عباده وإجابته لسائليه ترغيبا لهم في الإيمان والطاعة ، وترك الشرك والمعاصي. هذا ما تضمّنته الآية الأولى (٦١) أما الآية الثانية فقد تضمنت رد القوم عليه عليه‌السلام إذ قالوا بما اخبر تعالى عنهم (يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي كنا نأمل فيك الخير ونرجو أن تكون سيدا فينا حتى فاجأتنا بما تدعونا إليه من ترك آلهتنا لإلهك ثم أنكروا عليه دعوته فقالوا (أَتَنْهانا (٣) أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وأخبروه أنهم

__________________

(١) اختلف في صرف ثمود فمن القراء من صرفه ابدا وإلى ثمود بالجر والتنوين ومنهم من صرفه في موضع من القرآن ومنه في موضع آخر ولكل فيما رآه وجه صحيح.

(٢) استعمر بمعنى أعمر كاستجاب بمعنى أجاب أعمركم جعلكم تعمرونها فأنتم عمارها إلى نهاية آجالكم المحددة لكم ، وليس هذا من باب استسهل الشيء إذا وجده سهلا واستصعبه إذا وجده صعبا فإن الله تعالى لا يعجزه شيء وفي الآية دليل على العمرى وهو أن يقول مالك لآخر أعمرتك داري فتصبح له واختلف هل تبقى لذريته بعد موته أو هي له ما دام حيا فإذا مات عادت لمن أعمره إياها مذهبان مشهوران وفي الحديث العمرى جائزة والعمرى لمن وهبت له.

(٣) الاستفهام للإنكار.

غير مطمئنين إلى صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله تعالى فقالوا (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي موقع في الريب وهو اضطراب النفس وعدم سكونها إلى ما قيل لها أو أخبرت به هذا ما تضمنه الآية الثانية (٦٢) أما الآية الثالثة (٦٣) فقد تضمنت دعوة صالح لقومه بأسلوب رفيع رغبة منه في إقامة الحجة عليهم لعلهم يؤمنون ويوحدون إذ قال بما أخبر الله تعالى في قوله : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على علم يقيني بالإيمان بربي ووجوب عبادته وتوحيده وآتاني منه رحمة وهي النبوة والرسالة ، فمن ينصرني (١) من الله إن عصيته اللهم إنه لا أحد أبدا إذا فإنكم ما تزيدونني إن أنا أطعتكم في ترك عبادة ربّي والرضا بعبادة آلهتكم إلا خسارا (٢) وضلالا في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وحدة الوسيلة والغاية عند كافّة الرسل فالوسيلة عبادة الله وحده ، والغاية رضا الله والجنة.

٢ ـ تقديم الاستغفار على التوبة في الآية سره إن المرء لا يقلع عن ذنبه حتى يعترف به.

٣ ـ بيان سنة في الناس وهي أن المرء الصالح يرجى في أهله حتى إذا دعاهم إلى الحق وإلى ترك الباطل كرهوه وقد يصارحونه بما صارح به قوم صالح نبيّهم إذ قالوا (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا).

٤ ـ حرمة الاستجابة لأهل الباطل بأي نوع من الاستجابة ، إذ الاستجابة لا تزيد العبد إلا خسارا.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ

__________________

(١) الاستفهام للنفي أي لا أحد ينصرني.

(٢) اختلف في توجيه قوله عليه‌السلام فما تزيدونني غير تخسير فمن قائل : غير بصيرة بخسارتكم ومن قائل التخسير لهم لا له عليه‌السلام وأوجه الأقوال ما في التفسير وأشكل لفظ زيادة التخسير والخروج منه أنه يعرض بهم فأفهمهم أنهم في خسران كقوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ثم بشركهم يزدادون خسرانا وتخسيرا أعظم.

أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

شرح الكلمات :

(آيَةً) : أي علامة على صدقي فيما جئتكم به من أنه لا إله إلا الله.

(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) : أي اتركوها ترعى في المراعي غير المحميّة لآحد ،

(بِسُوءٍ) : أي كضربها أو قتلها ، أو منعها من الماء الذي تشرب منه.

(فَعَقَرُوها) : أي قتلوها بالعقر الذي هو قطع قوائمها بالسيف.

(تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) : أي ابقوا في دياركم تأكلون وتشربون وتتمتعون في الحياة ثلاثة أيام.

(وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) : أي صادق لم أكذبكم فيه ولم يكذبني ربي الذي وعدكم به.

(فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) : أي ساقطين على ركبهم ووجوههم.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) : أي كأن لم يكونوا بها أمس ولم تعمر بهم يوما.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن صالح وقومه. إنه لما دعاهم صالح إلى توحيد الله تعالى كذبوه وطالبوه بما يدل على صدق ما دعا إليه فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به في هذه الآية (وَيا قَوْمِ) (١) (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) وذلك أنهم سألوا أن يخرج لهم ناقة من جبل أشاروا

__________________

(١) هذه ناقة الله لكم آية مبتدأ وخبر وآية منصوب على الحال.

إليه فدعا صالح ربّه فاستجاب الله تعالى له وتمخض الجبل عن ناقة عشراء هي عجب في خلقتها وكمالها فقال عندئذ (يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ) أضافها إلى الله لأنها كانت بقدرته ومشيئته (لَكُمْ آيَةً) أي علامة لكم على صدق ما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان ، فذروها (١) تأكل في أرض الله أي خلّوها تأكل من نبات الأرض من المراعي العامة التي ليست لأحد ، ولا تمسوها بسوء كعقرها أو ذبحها وقتلها فيأخذكم عذاب قريب (٢) قد لا يتأخر أكثر من ثلاثة أيام. فكذبوه فعقروها فلما رأى ذلك قال لهم بأمر الله (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ (٣) ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي عيشوا فيها. (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي ذلك الوعد وعد صادق غير مكذوب فيه. هذا ما دلت عليه الآيتان (٦٤ ـ ٦٥) وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي لما اكتملت المدة التي حددت لهم وجاء أمر الله بعذابهم نجى الله تعالى رسوله صالحا والمؤمنين برحمة منه أي بلطف ونعمة منه عزوجل وقوله (وَمِنْ خِزْيِ (٤) يَوْمِئِذٍ) أي ونجاهم من ذل ذلك اليوم وعذابه ، وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي إن ربك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوي إذا بطش عزيز غالب لا يغلب على أمر يريده. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (٦٦) وأما الآيتان بعد فقد أخبر تعالى فيهما عن هلاك ثمود بقوله (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (٥) (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي إنّ الذين أشركوا بربهم وكذبوا بآياته أخذتهم الصيحة فانخلعت لها قلوبهم فهلكوا وأصبحوا في ديارهم جاثمين على ركبهم كأن لم يغنوا بديارهم ولم يعمروها قال تعالى (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أي هلاكا لثمود ، وبهذا التنديد والوعيد بعد الهلاك والعذاب المخزي انتهت قصة صالح مع قومه ثمود الذين آثروا الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إعطاء الله تعالى الآيات للمطالبين بها لا يستلزم الإيمان بها.

__________________

(١) ذروها أمر ، وماضيه وذر شاذ وكذا اسم الفاعل فلا يقال وذر فهو واذر ، والمستعمل منه المضارع والأمر لا غير. ومعناه ترك وبه استغنى عن وذر.

(٢) أي من يوم قتلها وهو كذلك فلم يتأخر.

(٣) ليتمتع كل واحد منكم في داره عن ثلاثة أيام إذ عقروا الناقة يوم الأربعاء فأصبحوا يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة وأصبحوا يوم الجمعة وهو اليوم الثاني من أيام التمتع في ديارهم ووجوههم محمرة وأصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة وأخذوا صباح الأحد.

(٤) من فضيحته وذلته وقرأ نافع بنصب يومئذ وقرأ غيره بكسرها على الإضافة.

(٥) جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فخروا على الأرض جاثمين جثوم الطير على الأرض إذا الصقت بطونها بها وسكنت لا تتحرك.

٢ ـ آية صالح عليه‌السلام من أعظم الآيات ولم يؤمن عليها قومه.

٣ ـ إقامة ثلاثة أيام لا يعد صاحبها مقيما وعليه أن يقصر الصلاة.

٤ ـ شؤم الظلم وسوء عاقبة أهله.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

شرح الكلمات :

(بِالْبُشْرى) : أي باسحاق ومن وراء اسحق يعقوب.

(فَما لَبِثَ) : أي ما أبطأ.

(بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) : أي مشوي على الحجارة.

(لا تَصِلُ إِلَيْهِ) : أي لم يتناولوه فيأكلوا منه.

(نَكِرَهُمْ) : أي لم يعرفهم.

(وَأَوْجَسَ) : أي أحس بالخوف وشعر به.

(لُوطٍ) : هو ابن هاران أخي ابراهيم عليه‌السلام.

(يا وَيْلَتى) : أي يا ويلتي احضري هذا أوان حضورك.

(وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) : إشارة إلى ابراهيم إذ هو بعلها أي زوجها.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) : أي أمر يتعجب منه استبعادا له واستغرابا.

معنى الآيات :

هذه بشارة ابراهيم عليه‌السلام التي بشره الله تعالى بها إذ قال تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) (١) والمراد بالرسل جبريل وميكائيل واسرافيل ، إذ دخلوا عليه داره فسلموا عليه فرد عليهم‌السلام وهو معنى قوله تعالى (قالُوا سَلاماً (٢) قالَ سَلامٌ) وقوله تعالى (فَما لَبِثَ أَنْ (٣) جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي لم يبطأ حتى جاء (٤) بعجل مشوي فحنيذ بمعنى محنوذ وهو المشوي على الحجارة. فقربه إليهم وعرض عليهم الأكل بقوله ألا تأكلون (٥) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي لم يتناولوه نكرهم بمعنى أنكرهم وأوجس منهم خيفة لأن العادة أن الضيف إذا نزل على أحد فقدم إليه طعاما فلم يأكل عرف انه ينوي شرا ولما رأت الملائكة ذلك منه قالوا له لا تخف وبينوا له سبب مجيئهم فقالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط أي لإهلاكهم وتدميرهم بسبب إجرامهم. وكانت امرأته قائمة وراء الستار تخدمهم مع ابراهيم. فلما سمعت بنبأ هلاك قوم لوط ضحكت فرحا بهلاك أهل الخبث فعندئذ بشرها الله تعالى على لسان الملائكة باسحق ومن بعده يعقوب أي بولد وولد ولد ، فلما سمعت البشرى صكت وجهها تعجبا على عادة النساء وقالت (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي) تشير إلى زوجها ابراهيم (شَيْخاً) أي كبير السن إذ كانت سنه يومئذ مائة سنة وسنها فوق التسعين. (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أي ولادتي في هذه السن أمر يتعجب منه. (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ (٦) اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي بيت ابراهيم ، (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي محمود بإفضاله وإنعامه عليكم (مَجِيدٌ) أي ذو مجد وثناء وكرم. وامرأة ابراهيم المبشرة هي سارة بنت عم إبراهيم عليه‌السلام ، والبشارة هنا لابراهيم وزوجه سارة معا وهي مزدوجة إذ هي بهلاك الظالمين ، وباسحاق ويعقوب.

__________________

(١) قيل ان البشرى كانت بإسحاق وقيل بإهلاك قوم لوط والظاهر أنها بإسحق.

(٢) سلاما نصب بوقوع فعل قالوا نحو قال فلان خيرا ويجوز عربيّة الرفع والنصب في قوله تعالى (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) ، والرفع يكون على تقدير مبتدأ أي هو سلام ، وسلام عليكم وجاز الابتداء بالنكرة لكثرة تكرار هذا اللفظ نظيره لا هم حيث حذفوا الألف واللام لكثرة استعمال اللهم.

(٣) إن هنا بمعنى حتى قاله كبراء النحو أي فما لبث حتى جاءهم.

(٤) في الآية دليل على فضل الضيافة ومشروعيتها والندب إليها إذ هي من خلق البشر وفي الحديث ، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه والضيافة ثلاثة أيام.

(٥) ذكر الطبري رحمه‌الله تعالى أن ابراهيم عليه‌السلام لما قدم العجل وقال للملائكة ألا تأكلون! قالوا لا نأكل طعاما إلا بثمن قال كلوه بثمنه قالوا وما ثمنه؟ قال أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل لاصحابه حق للرجل أن يتخذه ربه خليلا.

(٦) من أمر الله أي قضائه وقدره.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استحباب تبشير المؤمن بما هو خير له ولو بالرؤيا الصالحة.

٢ ـ مشروعية السّلام (١) لمن دخل على غيره أو وقف عليه أو مرّ به ووجوب رد السّلام.

٣ ـ مشروعية خدمة أهل البيت (٢) لضيوفهم ووجوب إكرام الضيف وفي الحديث الصحيح «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».

٤ ـ شرف أهل بيت ابراهيم عليه‌السلام.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

شرح الكلمات :

(الرَّوْعُ) (٣) : الفزع والخوف.

(الْبُشْرى) : أي الخبر السار المفرح للقلب.

(يُجادِلُنا) : أي يخاصمنا.

(فِي قَوْمِ لُوطٍ) : أي في شأن هلاك قوم لوط ، ولوط هو رسول الله لوط بن هاران بن عم ابراهيم.

(لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) : الحليم الذي لا يعامل بالعقوبة والأواه كثير التأوه مما يسيء ويحزن.

(أَعْرِضْ عَنْ هذا) : أي اترك الجدال في قوم لوط.

__________________

(١) في الآية دليل على أن لفظ السّلام ينتهي بكلمة وبركاته.

(٢) في الآية دليل على أن امرأة الرجل تعد من أهل بيته.

(٣) يقال ارتاع يرتاع من كذا إذا خاف قال النابغة.

فارتاع من صوت كلّاب فبات له

طوع الشوامت من خوف ومن ضرر

الشاعر يصف ثورا وحشيا والكلاب : صاحب الكلاب.

(غَيْرُ مَرْدُودٍ) : أي لا يستطيع أحد رده لأن الله تعالى قد قضى به فهو واقع لا محالة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن بشارة ابراهيم قال تعالى فلما ذهب عن ابراهيم الروع أي الفزع والخوف من الملائكة قبل أن يعرفهم وجاءته البشرى بالولد وبهلاك قوم لوط أخذ يجادل الملائكة في شأن هلاك قوم لوط لأجل ما بينهم من المؤمنين فقال إن فيها لوطا فأجابوه بقولهم الذي ذكر تعالى في سورة العنكبوت (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) وقوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (١) تعليل لمجادلة ابراهيم الملائكة في قوم لوط ، وذلك أن إبراهيم رقيق القلب حليم لا يعامل بالعقوبة فأراد تأخير العذاب عنهم لعلهم يتوبون ، وكان أواها ضارعا قانتا يكثر من قول آه إذا رأى أو سمع (٢) ما يسوء ومنيبا أي توابا رجاعا إلى ربّه في كل وقت. ولما الحّ ابراهيم في مراجعة الملائكة قالوا له يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال إنه قد جاء (٣) أمر ربك أي بهلاك القوم. (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي غير مدفوع من أحد وهو ما سيذكر في السياق بعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الجدال عمن يرجى له الخير من الناس ، وذلك في غير الحدود الشرعية إذا رفعت إلى الحاكم.

٢ ـ فضيلة خلق الحلم.

٣ ـ فضل الإنابة إلى الله تعالى.

٤ ـ قضاء الله لا يرد أي ما حكم الله به لا بد واقع.

__________________

(١) المنيب : الراجع يقال أناب إذا رجع وابراهيم كان راجعا إلى ربه في أموره كلها والأواه الكثير لقول أوّه وأواه اسم فعل. نائب مناب اتوجع.

(٢) جائز أن يكون هذا وحيا أوحاه الله تعالى إلى ابراهيم وجائز أن يكون قول الملائكة ، وأمر الله قضاؤه بإهلاك قوم لوط.

(٣) في هذا دليل على رحمة ابراهيم القلبية فما أن يرى أو يسمع ما يضر أو يسيء إلّا أخذ في التأوه والتحسر والتحزن ، وقيل اسم ابراهيم مركب من كلمتين : أب رحيم ، وظهر هذا في سلوكه ورحمته.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

شرح الكلمات :

(سِيءَ بِهِمْ) : أي حصل له غم وهم بمجيئهم إليه.

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) (١) : أي عجزت طاقته عن تحمل الأمر.

(يَوْمٌ عَصِيبٌ) : أي شديد لا يحتمل.

(يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) : أي مدفوعين بدافع الشهوة يمشون مسرعين في غير اتزان.

(السَّيِّئاتِ) : أي كبائر الذنوب بإتيان الذكور.

(وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) : أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض لضيفي.

(رَجُلٌ رَشِيدٌ) : أي ذو رشد وعقل ومعرفة بالأمور وعواقبها.

(أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) : أي إلى عشيرة قوية تمنعني منكم. ولم تكن له عشيرة لأنه من غير ديارهم.

معنى الآيات :

هذه فاتحة حديث لوط عليه‌السلام مع الملائكة ثم مع قومه قال تعالى (وَلَمَّا جاءَتْ

__________________

(١) أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه ، ويقال ضاق وسعه وطاقته وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا عمل عليه أكثر من طوقه ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع.

رُسُلُنا) وهم ضيف إبراهيم عليه‌السلام (لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي تضايق وحصل له هم وغم خوفا عليهم من مجرمي قومه. وقال هذا يوم عصيب أي شديد لما قد يحدث فيه من تعرض ضيفه للمذلة والمهانة وهو بينهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٧) أما الثانية (٧٨) فقد أخبر تعالى عن مجيء قوم لوط إليه وهو في ذلك اليوم الصعب والساعة الحرجة فقال عزوجل (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) (١) أي مدفوعين بدافع الشهوة البهيمية مسرعين ومن قبل (٢) كانوا يعملون السيئات أي من قبل مجيئهم كانوا يأتون الرجال في أدبارهم فأراد أن يصرفهم عن الضيف فقال (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (٣) أي هؤلاء نساء الأمة هن أطهر لكم فتزوجوهن. واتقوا الله أي خافوا نقمته ولا تخزوني في ضيفي أي لا تهينوني ولا تذلوني فيهم. أليس منكم رجل رشيد؟ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فأجابوه لعنهم الله قائلين : لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي من رغبة وحاجة ، (٤) وإنك لتعلم ما نريد أي من إتيان الفاحشة في الرجال. وهنا قال لوط عليه‌السلام : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي أنصارا ينصرونني وأعوانا يعينوني لحلت بينكم وبين ما تشتهون ، أو آوي إلى ركن شديد يريد عشيرة قوية يحتمي بها فتحميه وضيفه من قومه المجرمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة إكرام الضيف وحمايته من كل ما يسوءه.

٢ ـ فظاعة العادات السيئة وما تحدثه من تغير في الإنسان.

٣ ـ بذل ما يمكن لدفع الشر لوقاية لوط ضيفه ببناته. (٥)

٤ ـ أسوأ الحياة أن لا يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

٥ ـ إظهار الرغبة في القوة لدفع الشر وإبعاد المكروه ممدوح.

__________________

(١) الاهراع السرعة في المشي مع رعدة. يقال أهرع الرجل إهراعا إذا أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمّى فهو مهرع وفعله على صيغة المبني للمجهول دائما لأن أصله من مشى الأسير الذي يسرع به.

(٢) جائز أن يكون من قبل مجيء لوط إليهم ، وجائز أن يكون من قبل مجيء الضيف وهم الرسل عليهم‌السلام.

(٣) أراد نساء الأمة إذ نبي القوم أب لهم شاهده قراءة ابن مسعود ، وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم الآية من سورة الأحزاب.

(٤) قيل أنهم كانوا خطبوا بناته ولم يزوجهم بهن إذ سنتهم أن الرجل إذا خطب امرأة ثم لم يعطها لا تحل له بعد ولذا قالوا : لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وما في التفسير أوجه.

(٥) هذا بناء على أن المراد من قوله هؤلاء بناتي : إنهن بناته لصلبه لا بنات أمته وحتى ولو كان المراد بنات القوم فإن فيه معنى دفع الشر بشر أخف.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

شرح الكلمات :

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) : أي اخرج بهم من البلد ليلا.

(بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) : أي بجزء وطائفة من الليل.

(الصُّبْحُ) : هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

(جَعَلْنا عالِيَها) : أي عالى القرية سافلها.

(مِنْ سِجِّيلٍ) : أي من طين متحجر.

(مَنْضُودٍ) : أي منظم واحدة فوق أخرى بانتظام.

(مُسَوَّمَةً) : أي معلمة بعلامة خاصة.

(عِنْدَ رَبِّكَ) : أي معلمة من عند الله تعالى.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن ضيف لوط مع قومه إنه بعد أن اشتد بلوط الخوف وتأسف من عدم القدرة على حماية الضيف الكريم وقال متمنيا لو أنّ لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد. هنا قالت له الملائكة (١) (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) إليك لننجيّنّك ونهلك قومك (لَنْ

__________________

(١) أي بعد أن رأت حزنه واضطرابه.

يَصِلُوا إِلَيْكَ) أي بأي سوء أو بأدنى أذى فأسر (١) بأهلك أي فاخرج بهم بقطع من الليل أي بطائفة وجزء من الليل ولا يلتفت (٢) منكم أحد كراهة أن يرى ما ينزل بالقوم من العذاب فيصيبه كرب من ذلك إلا امرأتك وهي عجوز السوء فخلفها في القرية وإن خرجت دعها تلتفت فإنها مصيبها ما أصابهم. وسأل لوط عن موعد نزول العذاب بالقوم فقالوا إن موعدهم الصبح ، وكان لوط قد استبطأ الوقت فقالوا له : أليس الصبح بقريب؟ وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) (٣) أي فلما جاء أمر الله بعذاب القوم أمر جبريل عليه‌السلام فقلبها على أهلها فجعل عالي القرية سافلها ، وسافلها عاليها وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل فمن كان خارج القرية أصابه حجر فأهلكه وقوله تعالى (مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً) أي مركب بعضها فوق بعض معلمة كل حجر عليها اسم من يرمى به ، وقوله (عِنْدَ رَبِّكَ) أي معلمة من عند ربك يا رسول الله ، وما هي من الظالمين ببعيد أي وما تلك القرية الهالكة من الظالمين وهم مشركو العرب ببعيد ، أو وما تلك الحجارة التي أهلك بها قوم لوط ببعيد نزولها بالظالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استحباب السير في الليل لما فيه من البركة بقطع المسافات البعيدة بدون تعب.

٢ ـ كراهة التأسف لهلاك الظالمين.

٣ ـ مظاهر قدرة الله تعالى في قلب أربع مدن في ساعة فكان الأعلى أسفل (٤) والأسفل أعلى.

٤ ـ وعيد الظالمين في كل زمان ومكان بأشد العقوبات وأفظعها.

__________________

(١) فأسر بقطع الهمزة واسر بوصلها قراءتان سبعيتان وقيل يقال أسرى إذا مشى أول الليل ، وسرى يسري إذا مشى آخر الليل.

(٢) ألّا ينظر وراءه منكم أحد ، أولا يتخلف منكم أحد ، أولا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع وما في التفسير أوجه والا امرأتك بالنصب على الاستثناء أي فأسر بأهلك إلا امرأتك فاتركها فإنها من الغابرين أي الهالكين.

(٣) جعلنا عاليها سافلها قيل أن جبريل ادخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس ، سدوم وعامورا ودادوما وضعوه وقتم فرفعها من تخوم الأرض حتى ادناها من السماء بما فيها.

(٤) في الآية بيان عقوبة من عمل عمل قوم لوط وهي الارسال من أعلى جبل ثم الرمي بالحجارة وهذا مذهب أبي حنيفة. وعند الشافعي أن يقتل الفاعل والمفعول به سواء من احصن ومن لم يحصن ، وقيل غير المحصن يجلد ، وفي الحديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به).

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))

شرح الكلمات :

(وَإِلى مَدْيَنَ) : أي أرسلنا إلى مدين (١) إلى أهل مدين.

(الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) : أي إذا بعتم لأحد فلا تنقصوا المكيال والميزان.

(عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) : أي يحيط بكم من جميع جهاتكم فلا ينجو منه أحد منكم.

(بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل أي بالمساواة والتساوي في البيع والشراء على حد سواء.

(وَلا تَبْخَسُوا) : أي لا تنقصوهم حقوقهم التي هي لهم عليكم في الكيل والوزن وفي غير ذلك.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) : أي ولا تعثوا في الأرض بالفساد.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) : أي ما يبقى لكم بعد توفية المكيال والميزان خير لكم من الحرام الذي حرم الله عليكم.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) : أي رقيب أراقب وزنكم وكيلكم وإنما أنا واعظ لكم وناصح لا غير.

__________________

(١) مدين أبو القبيلة وهو مدين بن ابراهيم عليهما‌السلام وكان متزوجا بإحدى بنات لوط عليه‌السلام.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص شعيب عليه‌السلام مع قومه أهل مدين قال تعالى (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إلى قبيلة مدين أخاهم في النسب شعيبا. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما (١) لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي وحّدوا الله تعالى ليس لكم إله تعبدونه بحق إلا هو إذ هو ربكم الذي خلقكم ورزقكم ويدبر أمركم. وقوله (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي لا تنقصوا المكيال إذا كلتم لغيركم ، والميزان إذا وزنتم لغيركم. وقوله (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي في رخاء وسعة من الرزق ، (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٢) إن أصررتم على الشرك والنقص والبخس (٣) وهو عذاب يحيط بكم فلا يفلت منكم أحد. وقوله (يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أمر بتوفية المكيال والميزان بالعدل بعد أن نهاهم عن النقص تأكيدا لما نهاهم عنه وليعطف عليه نهيا آخر وهو النهي عن بخس الناس أشياءهم إذ قال (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي تنقصوهم حقوقهم وما هو لهم بحق من سائر الحقوق. ونهاهم عما هو أعم من ذلك فقال (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تسعوا في الأرض بالفساد وهو شامل لكل المعاصي والمحرمات. وقوله (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ (٤) مُؤْمِنِينَ) أي وما يبقى لكم بعد توفية الناس حقوقهم خير لكم مما تأخذونه بالنقص والبخس لما في الأول من البركة ولما في الثاني من المحق إن كنتم مؤمنين بشرع الله ووعده ووعيده وقوله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي بمراقب لكم حين تبيعون وتشترون ، ولا بحاسب محصر عليكم ظلمكم فأجازيكم به ، وإنما أنا واعظ لكم ناصح ليس غير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وحدة دعوة الرسل وهي البداية بتوحيد الله تعالى أولا ثم الأمر والنهي لإكمال الإنسان

__________________

(١) ناداهم بعنوان القومية ، لأنّ القومي عادة لا يخون قومه وأرشدهم إلى ما يلي :

أ ـ عبادة الله وحده وفيه إصلاح عقائدهم وبصلاح عقائدهم تصلح جميع أمورهم.

ب ـ صلاح أعمالهم في تصرفاتهم في أمور دنياهم.

(٢) جائز أن يكون عذاب إبادة واستئصال وهو ما تم لهم بعد اصرارهم على الشرك والعصيان وجائز أن يكون عذاب يوم القيامة وهو كائن لا محالة.

(٣) في الحديث : ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء

(٤) قال مجاهد : بقية الله خير لكم يريد طاعته ، وقال الربيع : وصية الله وقال الفراء : مراقبة الله وقال ابن زيد : رحمة الله ، وقال ابن عباس : رزق الله خير لكم ، وقال الحسن : حظكم من ربكم خير لكم. كل هذا بشرط الإيمان والتوحيد وأرجح هذه الأقوال ما في التفسير.

وإسعاده بعد نجاته من الخسران.

٢ ـ حرمة نقص الكيل والوزن أشد حرمة. (١)

٣ ـ وجوب الرضا بالحلال وإن قل ، وسخط الحرام وإن كثر.

٤ ـ حرمة بخس الناس حقوقهم كأجور العمال ، وأسعار البضائع ونحو ذلك.

٥ ـ حرمة السعي بالفساد في الأرض بأي نوع من الفساد وأعظمه تعطيل شرائع الله تعالى.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

شرح الكلمات :

(أَصَلاتُكَ) (٢) : أي كثرة الصلاة التي تصليها هي التي أثرت على عقلك فأصبحت تأمرنا بما لا ينبغي من ترك عبادة آلهتنا والتصرف في أموالنا.

__________________

(١) وشاهده من القرآن (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

(٢) قرىء بالافراد أصلاتك وبالجمع أصلواتك ، والمعنى واحد إذ الافراد اسم جنس شمل كل صلاة له فهو كالجمع.

(الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) : أي ذو الحلم والرشد ، والحلم ضد الطيش والرشد ضد السفه ولم يكن قولهم هذا مدحا له وإنما هو استهزاء به.

(أَنْ أُخالِفَكُمْ) : أي لا أريد أن أنهاكم عن الشيء لتتركوه ثم أفعله بعدكم.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) : أي ما أريد إلا الإصلاح لكم.

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) : أي وما توفيقي للعمل الإصلاحي والقيام به إلا بفضل الله عليّ

(وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) : أي ارجع في أمري كله.

(لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) : أي لا تكسبنكم مخالفتي أن يحل بكم من العذاب ما حل بقوم نوح والأقوام من بعدهم.

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) : أي في الزمن والمكان إذ بحيرة لوط قريبة من بلاد مدين التي هي بين معان والأردن.

(رَحِيمٌ وَدُودٌ) : أي رحيم بالمؤمنين ودود محب للمتقين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن شعيب عليه‌السلام مع قومه أهل مدين إنه لما أمرهم بعبادة الله تعالى وحده ونهاهم نقص الكيل والوزن وبخس الناس أشياءهم والسعي في الأرض بالفساد ، إذ كانوا يكسرون الدراهم وينشرونها ويقطعون الطريق. فردوا عليه قوله بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي (١) أَمْوالِنا ما نَشؤُا)؟ إنهم بهذا الخطاب ينكرون عليه نهيه لهم عن عبادة الأوثان والأصنام التي كان يعبدها آباؤهم من قبلهم كما ينكرون عليه نهيه لهم عن نقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأمره إياهم بالتزام الحق والعدل في ذلك ، ينكرون عليه نهيه لهم وأمره إياهم وينسبون ذلك إلى كثرة صلاته فهي التي في نظرهم قد أصابته بضعف العقل وقلة الادراك ، وقولهم له (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) إنما هو تهكم (٢)

__________________

(١) روي أنهم كانوا يحذفون الدراهم أي يقطعونها من أطرافها وهو تصرف فاسد ظالم حملهم عليه حب الدنيا والمال.

(٢) هو كقول خزنة جهنم لأبي جهل : ذق إنك أنت العزيز الكريم وقيل إنهم وصفوه بالحلم والرشد لمعرفتهم بحلمه ورشده ولم يكن تهكما واستهزاء منهم. وجائز أن يكون هذا وذاك إذ ما بعد الكفر ذنب كما يقال.

واستهزاء منهم لا انهم يعتقدون حلم شعيب ورشده وإن كان في الواقع هو كما قالوا حليم رشيد إذ الحليم هو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لا يفعله في حال الرضا والرشيد خلاف السفيه الذي لا يحسن التصرف في المال وغيره هذا ما تضمنته الآية الأولى (٨٧) وأما الآيات الثلاث بعدها فقد تضمنت رد شعيب عليه‌السلام على مقالتهم السابقة إذ قال (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على برهان وعلم يقيني بألوهيته ومحابه ومساخطه ووعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ، ورزقي منه رزقا حسنا أي حلالا طيبا أخبروني فهل يليق بي أن أتنكر لهذا الحق والخير وأجاريكم على باطلكم. اللهم لا ، وشيء آخر وهو أني ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فإني لا آمركم بتوفية الكيل والوزن وأنقصها ولا بترك عبادة الأوثان وأعبدها ، ولا أنهاكم عن كسر الدراهم (١) وأكسرها فأكون كمن يأمر بالشيء ولا يفعله ، وينهى عن الشيء ويفعله فيستحق اللوم والعتاب ونزع الثقة منه ، وعدم اعتباره فلا يؤخذ بقوله ولا يعمل برأيه. وأمر آخر هو أني ما أريد بما أمرتكم به ولا بما نهيتكم عنه إلا الإصلاح لكم ما استطعت ذلك وقدرت عليه. وما توفيقي في ذلك إلا بالله ربّي وربكم عليه توكلت في أمري كله وإليه وحده أنيب أي أقبل بالطاعة وأرجع بالتوبة. ثم ناداهم محذرا إياهم من اللجاج والعناد فقال : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم شقاقي أي خلافي على الاستمرار في الكفر والعصيان فيصيبكم عذاب مثل عذاب قوم نوح وهو الغرق أو قوم هود وهو الريح المدمرة أو قوم صالح وهو الصيحة المرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) في الزمن والمكان وقد علمتم ما حل بهم من دمار وخراب. أي لا يحملنكم شقاقي وعداوتي على أن ينزل بكم العذاب ، واستغفروا ربكم مما أنتم عليه من الشرك والمعاصي ، ثم توبوا إليه بالطاعة ، (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) لا يعذب من تاب إليه ودود (٢) يحب من أناب إليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التعريض القريب يعطي حكم القذف الصريح.

٢ ـ كراهية إتيان الشيء بعد النهي عنه ، وترك الشيء بعد الأمر به والحث عليه.

__________________

(١) لا خلاف في أن من كسر الدراهم أو بردها ليأخذ منها قد أفسد واقترف ما يستوجب العقوبة وهل هي ضرب وتعزير أو قطع يد خلاف وما يراه الحاكم كافيا في الردع اجزأ ولا فرق في الكسر والبرد بين الدنانير والدراهم.

(٢) مأخوذ من قول قوم شعيب له : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وهم يعنون الأحمق السفيه. فمن قال لرجل في حال النزاع أنت الطيب الطاهر فإنه يعرض به بأنه الخبيث الزاني فيحد حد القذف.

٣ ـ كراهية اللجاج والعناد لما يمنع من الاعتراف بالحق والالتزام به.

٤ ـ وجوب الاستغفار والتوبة من الذنوب

٥ ـ وصف الرب تعالى بالرحمة والمودة.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

شرح الكلمات :

(ما نَفْقَهُ) : أي ما نفهم بدقة كثيرا من كلامك.

(وَلَوْ لا رَهْطُكَ) : أي أفراد عشيرتك.

(وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) : أي بقوي ممتنع.

(ظِهْرِيًّا) (١) : أي لم تأبهوا به ولم تلتفتوا إليه كالشيء الملقى وراء الظهر.

__________________

(١) الظهري نسبة إلى الظهر على غير قياس وهو منصوب على الحال المؤكدة.

(عَلى مَكانَتِكُمْ) : أي على ما أنتم عليه من حال التمكن والقدرة.

(الصَّيْحَةُ) : أي صيحة العذاب التي أخذتهم.

(جاثِمِينَ) : أي على ركبهم.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) : أي كأن لم يقيموا بها يوما.

(أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) : أي هلاكا لمدين قوم شعيب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن شعيب وقومه إنه بعد الحوار الذي دار بين شعيب وقومه يقول ويقولون وكان عليه‌السلام فصيحا مؤيدا من الله تعالى فيما يقول فأفحمهم وقطع الحجة عليهم لجأوا إلى أسلوب القوة والتهديد بل والشتم والإهانة وكان هذا منهم إيذانا بقرب ساعة هلاكهم فقالوا فيما قص تعالى عنهم في هذه الآيات (يا شُعَيْبُ (١) ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) فقد نادوه ليسمع منهم ثم أعلموه أنهم لا يفقهون كثيرا من كلامه مع أنه يخاطبهم بلغتهم ، ولكنه الصلف والكبرياء فإن صاحبها لا يفهم ما يقوله الضعفاء. وقالوا له : وإنا لنراك فينا ضعيفا وهو احتقار منهم له ، وقالوا : ولو لا رهطك لرجمناك (٢) أي ولو لا وجود جماعة من عشيرتك نحترمهم لرجمناك أي لقتلناك رميا بالحجارة ، وأخيرا وما أنت علينا بعزيز أي بممتنع لو أردناك. وهنا رد شعيب عليه‌السلام عليهم بقوله فقال ما أخبر تعالى به عنه (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي (٣) أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي غير مبالين بأمره ولا نهيه كما جعلتموه وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تسمعون منه ولا تطيعونه ، يا ويلكم (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي علمه فأعمالكم معلومة له لا يخفى منها عليه شيء ولسوف يجزيكم بها عاجلا أو آجلا وقابل تهديدهم له بمثله فقال لهم (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على تمكنكم من عملكم (إِنِّي عامِلٌ) أي على تمكني من العمل الذي أعمله (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) بعد (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يذله ويهينه ومن هو كاذب منا فيعذب ويخزى ويذل ويهان أيضا وعليه فارتقبوا يومذاك (وَارْتَقِبُوا إِنِّي

__________________

(١) الاستفهام : انكاري.

(٢) إما أن يكون قولهم هذا استخفافا وتجاهلا منهم وإما أن يكون ثقل عليهم فهم البعث الآخر والحساب فيه والجزاء بالجنة والنار.

(٣) رهط الرجل عشيرته وقولهم لرجمناك جائز أن يراد به حقيقته وهو القتل رجما بالحجارة إذ كانوا يقتلون من أرادوا قتله كذلك ، وجائز أن يكون لرجمناك بالقول سبا وشتما كما قال الشاعر :

تراجمنا بمر القول حتى

نصير كأننا فرسا رهان

مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر قال تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي بالعذاب (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي بفضل منا ونعمة من عندنا ، (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي بالشرك والعصيان (الصَّيْحَةُ) أي صيحة العذاب (١) التي ارتجفت لها قلوبهم وانخلعت فبركوا على ركبهم جاثمين هلكي لا يتحركون. قال تعالى في بيان حالهم (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأن لم يقيموا في تلك الديار ويعمروها زمنا طويلا. ثم لعنهم فقال : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) بعدا لها من الرحمة وهلاكا ، كما بعدت (٢) قبلها ثمود وهلكت.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما أوتي نبي الله شعيب العربي من فصاحة وبيان حتى قيل فيه خطيب الأنبياء.

٢ ـ اشتداد الأزمات مؤذن بقرب انفراجها. (٣)

٣ ـ بيان فساد عقل من يهتم بتنفيذ أوامر الناس ويهمل أوامر الله تعالى ولا يلتفت إليها.

٤ ـ فضل انتظار الفرج من الله تعالى وهو الرجاء المأمور به.

٥ ـ صدق وعد الله رسله وعدم تخلفّه أبدا.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

__________________

(١) قيل كانت الصيحة صيحة جبريل عليه‌السلام والله أعلم.

(٢) قرأ السلميّ بعدت بضم العين ووجه بأنه لغة وتستعمل في الخير وفي الشر وأما بعدت بكسر العين فإنها في الشر خاصة يقال بعد يبعد بعدا كفرح يفرح فرحا إذا أبعد وهلك.

(٣) شاهده من القرآن (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).

شرح الكلمات :

(مُوسى) : هو موسى بن عمران كليم الله ورسوله إلى بني اسرائيل.

(بِآياتِنا) : هي التسع الآيات التي ذكر أكثرها في آية الأعراف.

(وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحجة قوية على عدو الله فرعون فهزمه بها.

(وَمَلَائِهِ) : أي أشرف رجال دولة فرعون.

(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) : أي بذي رشد بل هو السفه كله.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ) : أي تقدمهم إلى النار فأوردهم النار.

(بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) : أي قبح وساء وردا يورد النار.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً) : أي ألحقتهم في دار الدنيا لعنة وهي غرقهم.

(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) : أي قبح الرفد الذي هو العطاء المرفود به أي المعطى لهم. والمراد لعنة الدنيا ولعنة الآخرة.

معنى الآيات :

هذه لمحة خاطفة لقصة موسى عليه‌السلام مع فرعون تضمنتها أربع آيات قصار قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) أي بعد إرسالنا (١) شعيبا إلى أهل مدين أرسلنا موسى بن عمران مصحوبا بآياتنا الدالة (٢) على إرسالنا له وصدق ما يدعوا إليه ويطالب به وسلطان مبين (٣) أي أي وحجة قوية ظاهرة على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان أولوهية من عداه كفرعون عليه لعائن الله إذ قال (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقوله تعالى (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أرسلناه بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وأشراف جنده وزعماء دولته فأمرهم موسى باتباع الحق وترك الباطل فأبوا واتبعوا أمر فرعون فأضلهم. (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) حتى يهدي إلى الفلاح من اتبعه. قال تعالى (يَقْدُمُ قَوْمَهُ (٤) يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يتقدمهم إلى النار فيوردهم حياضها (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي نار جهنم قوله تعالى (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً) أي فرعون وقومه لعنوا في الدنيا ، ويوم القيامة يلعنون أيضا (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٥) وهما لعنة الدنيا ولعنة الآخرة ، والرفد العون والعطاء والمرفود به هو المعان به والمعطى لمن

__________________

(١) تابع الحق عزوجل إرسال الرسل بيانا للمحجة وإقامة للحجة.

(٢) التوراة والمعجزات أيضا إذ كلاهما آيات.

(٣) هي العصا فإنها أكبر برهان وأعظم حجة وأقوى سلطان.

(٤) يقال قدمه يقدمه إذا تقدمه وأما قدم يقدم فإنه بمعنى أتى وجاء ووفد.

(٥) رفده يرفده رفدا إذا أعانه وأعطاه واسم العطية الرفد بكسر الراء وسكون الفاء.

يرفد من الناس.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ من كتب الله شقاءه لا يؤمن بالآيات بل يردها ويكذب بها حتى يهلك.

٢ ـ قوة الحجج وكثرة البراهين لا تستلزم إذعان الناس وإيمانهم.

٣ ـ التحذير من اتباع رؤساء الشر وأئمة الفساد والضلال.

٤ ـ ذم موارد الباطل والشر والفساد.

٥ ـ شر المعذبين من جمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

شرح الكلمات :

(ذلِكَ) : الإشارة إلى قصص الأنبياء الذي تقدم في السورة.

(مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) : أي أخبار أهل القرى قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون.

(مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) : منها مدن بقيت آثارها كمدائن صالح ، ومنها مدن لم يبق منها شيء كديار عاد.

(الَّتِي يَدْعُونَ) : أي يعبدونها بالدعاء وغيره كالذبح لها والنذور والحلف بها.

(غَيْرَ تَتْبِيبٍ) : أي تخسير وهلاك.

(إِذا أَخَذَ الْقُرى) : أي عاقبها بذنوبها.

(أَلِيمٌ شَدِيدٌ) : أي موجع شديد الإيجاع.

معنى الآيات :

لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة ما قص من أخبار الأمم السابقة خاطبه قائلا (ذلِكَ) (١) أي ما تقدم في السياق (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي أهلها نقصه عليك تقريرا لنبوتك وإثباتا لرسالتك وتثبيتا لفؤادك وتسلية لك. وقوله تعالى (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (٢) أي ومن تلك القرى البائدة منها آثار قائمة من جدران وأطلال ، ومنها ما هو كالحصيد ليس فيه قائم ولا شاخص لاندراسها وذهاب آثارها. وقوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إياهم ولكن هم ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي والمجاحدة لآياتنا والمكابرة لرسولنا. وقوله تعالى (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٣) أي لم تغن عنهم أصنامهم التي اتخذوها آلهة فعبدوها بأنواع العبادات من دعاء ونذر وذبح وتعظيم إذ لم تغن عنهم شيئا من الإغناء (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بعذابهم (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (٤) أي تخسير ودمار وهلاك. ثم في الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) أي وكذلك الأخذ المذكور أخذ ربك (إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي العواصم والحواضر بمن فيها والحال (٥) أنها ظالمة بالشرك والمعاصي. (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي ذو وجع شديد لا يطاق فهل يعتبر المشركون والكافرون والظالمون اليوم فيترك المشركون شركهم والكافرون كفرهم والظالمون ظلمهم قبل أن يأخذهم الله كما أخذ من قبلهم؟.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشر رسالته وتسليته بما يقص الله عليه من أنباء السابقين.

__________________

(١) ذلك مبتدأ أي ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى ونقصه في محل رفع خبر ورجح أن يكون ذلك خبرا والمبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك.

(٢) شاهده من قول الشاعر :

والناس في قسم المنية بينهم

كالزرع منه قائم وحصيد

(٣) من شيء نكرة في سياق النفي ومؤكده بمن الزائدة فدل هذا على أن آلهتهم لم تدفع عنهم ما أراد الله بهم من الهلاك أدنى شيء.

(٤) شاهده في قول لبيد :

فلقد بليت وكل صاحب جدة

يبلى يعود وذاكم التتبيب

أي التخسير والتباب الهلاك والخسران.

(٥) قوله وهي ظالمة الجملة في محل نصب حال من المفعول.

٢ ـ تنزه الله تعالى عن الظلم في إهلاك أهل الشرك والمعاصي.

٣ ـ آلهة المشركين لم تغن عنهم عند حلول النقمة بهم شيئا.

٤ ـ التنديد بالظلم وسوء عاقبة الظالمين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

شرح الكلمات :

(لَآيَةً) : أي علامة على أن الذي عذّب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة.

(يَوْمٌ مَشْهُودٌ) : أي يشهد جميع الخلائق وهو يوم القيامة.

(إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) : أي أجل الدنيا المعدود الأيام والساعات.

(إِلَّا بِإِذْنِهِ) : أي إلا بإذن الله تعالى.

(شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) : أي فمن أهل الموقف من هو شقي أزلا وسيدخل النار ، ومنهم سعيد أزلا وسيدخل الجنة.

(زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) : أي صوت شديد وهو الزفير وصوت ضعيف وهو الشهيق.

(عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) : أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) : أي في شك من بطلان عبادة هؤلاء المشركين.

(نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) : ما قدر لهم من خير أو شر رحمة أو عذاب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن في أخذ الله تعالى للأمم الظالمة وتعذيبها بأشد أنواع العذاب آية أي علامة واضحة على أن من عذّب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة فالمؤمنون بلقاء الله تعالى يجدون فيما أخبر تعالى به من إهلاك الأمم الظالمة آية هي عبرة لهم فيواصلون تقواهم لله تعالى حتى يلاقوه وهم به مؤمنون ولأوامره ونواهيه مطيعون. وقوله تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ (١) لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي ذلك الذي فيه عذاب الآخرة هو يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس لفصل القضاء (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) إذ تشهده الخلائق كلها وقوله تعالى (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي وما يؤخر يوم القيامة إلا لإكمال عمر الدنيا المعدود السنين والأيام بل والساعات. وقوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ) أي (٢) يوم القيامة (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ (٣) إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي (٤) بإذن الله تعالى وقوله (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي والناس فيه ما بين شقي وسعيد ، وذلك عائد إلى ما كتب لكل إنسان من شقاوة أو سعادة في كتاب المقادير ، أولا ، ولما كسبوا من خير وشر ثانيا. وقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أي في حكم الله وقضائه ففي النار لهم فيها زفير وهو صوت شديد وشهيق (٥) وهو صوت ضعيف والصوتان متلازمان إذ هما كأول النهيق وآخره عند الحمار. وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها) أي في النار (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة دوامهما ، وقوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أن لا يخلد فيها وهم أهل التوحيد ممن ماتوا على كبائر الذنوب. وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي إن ربك أيها الإنسان فعال لما يريد إذا أراد شيئا فعله

__________________

(١) الجمع أصله لمّ الشتات والمتفرق منه يكون واحدا والجمع حشر الناس يوم القيامة في صعيد فصل القضاء.

(٢) قرىء يوم يأت بدون ياء لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة.

(٣) لا تكلم الأصل لا تتكلم بتائين وحذفت إحداهما للتخفيف وقرىء (يَأْتِ) بالياء وهو الأصل والحذف للتخفيف لا غير كقول الرجل لا أدر فيما لا يدري.

(٤) وردت آيات فيها نفي الكلام عن أهل الموقف إلا بإذن الله تعالى وأخرى تثبت ذلك والجمع أن للمحشر مواقف وأحوالا فيؤذن لهم فيها أحيانا ولا يؤذن لهم أحيانا أخرى ولا خلاف في أنه لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى له بالكلام.

(٥) اختلف في تحديد معنى كل من الزفير والشهيق وما في التفسير خلاصته وهما أصوات المحزونين والزفير مأخوذ من الزّفر وهو الحمل على الظهر لشدته ، والشهيق النفس الطويل مأخوذ من قولهم جبل شاهق طويل.

لا يحال بينه وبين فعله. (١) وقوله (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) أي حكم الله تعالى بسعادتهم لما وفقهم الله من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ (٢) وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إذ إرادة الله مطلقة لا تحد إلا بمشيئته العليا وقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي عطاء من ربك لأهل طاعته غير مقطوع أبدا وهذا دليل خلودهم فيها أبدا. وقوله تعالى (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) هو خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهاه ربه تعالى أن يشك في بطلان عبادة المشركين أصنامهم فإنهم لا دليل لهم على صحة عبادتها وإنما هم مقلدون لآبائهم يعبدون ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان وقوله تعالى (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) يخبر تعالى انه موفي المشركين ما كتب لهم من خير وشر أو رحمة وعذاب توفية كاملة لا نقص فيها بحال.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل وفضيلة الإيمان بالآخرة.

٢ ـ حتمية البعث الآخر وأنه لا شك فيه.

٣ ـ الشقاوة والسعادة مضى بهما القضاء والقدر قبل وجود الأشقياء والسعداء.

٤ ـ عجز كل نفس عن الكلام يوم القيامة حتى يؤذن لها به.

٥ ـ إرادة الله مطلقة ، لو شاء أن يخرج أهل النار لأخرجهم منها ولو شاء أن يخرج أهل الجنة لأخرجهم إلا أنه حكم بما أخبر به وهو العزيز الحكيم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) أي لا يرد قضاؤه ولا يوقف فعله ولا يحال بينه وبين مراده.

(٢) قيل إن هذا تعبير عربي معتاد المقصود منه التأييد كقولهم لا أكلمك ما طلع نجم أو ما نبح كلب وما إلى ذلك وما في التفسير أوجه وهو الذي عليه المحققون.

فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : أي التوراة.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) : أي لو لا ما جرى به قلم القدر من تأخير الحساب والجزاء إلى يوم القيامة.

(لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) : أي موقع في الريب الذي هو اضطراب النفس وقلقها.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : أي على الأمر والنهي كما أمرك ربك بدون تقصير.

(وَلا تَطْغَوْا) : أي لا تجاوزوا حدود الله.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي لا تميلوا إليهم بموادة أو رضا بأعمالهم.

(فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) : أي تصيبكم ولازم ذلك دخولها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر والثبات وهو يبلغ دعوة الله تعالى ويدعو إلى توحيده مواجها صلف المشركين وعنادهم فيقول له. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) (١) أي التوراة كما أنزلنا عليك القرآن. فاختلفت اليهود في التوراة فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كما اختلف قومك في القرآن فمنهم من آمن به ومنهم من كفر إذا فلا تحزن. وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي تأخير الجزاء على الأعمال في الدنيا إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فنجى المؤمنين وأهلك الكافرين. وقوله تعالى (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) وإن قومك من مشركي العرب لفي شك من القرآن هل هو وحي الله وكلامه أو هو غير ذلك مريب أي موقع في الريب الذي هو شك مع اضطراب النفس وقلقها وحيرتها وقوله تعالى (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ (٢) رَبُّكَ

__________________

(١) ظاهر البيان أن الله تعالى يبتلي رسوله ويخفف عنه ما يجده من ألم من جراء كفر قريش بما جاءها به من الهدى ودين الحق فقال تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة فاختلف الناس في ذلك فآمن بعض وكفر بعض واليهود ما زالوا مختلفين في التوراة أي فيما تحمله من أحكام فهذا يحلل وهذا يحرّم.

(٢) قرىء وإن كلا بتخفيف إن وأعمالها على أنها المخففة من الثقيلة وقالوا سمع من يقول إن زيدا لمنطلق وشددها آخرون ونصبوا بها كلا ، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر لما بالتشديد وقرأ نافع وغيره بالتخفيف بناء على أن ما صلة واللام هي لام الابتداء التي تدخل على الخبر واللام الثانية لام القسم وفصل بين اللامين بما كراهية توالي لامين وعلى قراءة تشديد لما فقد خرجوها على أن الأصل لمن ما فأدغمت النون في الميم فصارت لما فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا فصارت لمّا وتوجيه الكلام وإن جميعهم للاقون جزاء أعمالهم.

أَعْمالَهُمْ) أي وإن كل واحد من العباد مؤمنا كان أو كافرا بارا أو فاجرا ليوفينّه جزاء عمله يوم القيامة ولا ينقصه من عمله شيئا وقوله (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تقرير لما أخبر به من الجزاء العادل إذ العلم بالعمل والخبرة التامة به لا بد منهما للتوفية العادلة. وقوله تعالى (فَاسْتَقِمْ (١) كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي بناء على ذلك فاستقم كما أمرك ربك في كتابه فاعتقد الحق واعمل الصالح واترك الباطل ولا تعمل الطالح أنت ومن معك من المؤمنين ليكون جزاؤكم خير جزاء يوم الحساب والجزاء. وقوله (وَلا تَطْغَوْا) أي لا تتجاوزوا ما حد لكم في الاعتقاد والقول والعمل وقوله (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير لهم من الطغيان الذي نهوا عنه ، وتهديد لمن طغى فتجاوز منهج الاعتدال المأمور بالتزامه. وقوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا (٢) إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي لا تميلوا إلى المشركين بمداهنتهم أو الرضا بشركهم فتكونوا مثلهم فتدخلوا النار مثلهم فتمسكم النار كما مستهم ، وقوله تعالى (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ (٣) أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي إن أنتم ركنتم إلى الذين ظلموا بالشرك بربهم فكنتم في النار مثلهم فإنكم لا تجدون من دون الله وليّا يتولى أمر الدفاع عنكم ليخرجكم من النار ثم لا تنصرون بحال من الأحوال ، وهذا التحذير وإن وجه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء فإن المقصود به أمته إذ هي التي يمكنها فعل ذلك أما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو معصوم من أقل من الشرك فكيف بالشرك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف عنه مما يجده من جحود الكافرين.

٢ ـ بيان سبب تأخر العذاب في الدنيا ، وهو أن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا.

٣ ـ الجزاء الأخروي حتمي لا يتخلف أبدا إذ به حكم الحق عزوجل.

٤ ـ وجوب الاستقامة على دين الله تعالى عقيدة وعبادة وحكما وأدبا.

__________________

(١) قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية ولذا قال وقد سأله أبو بكر عن إسراع الشيب اليه شيبتني هود وأخواتها ، وليس الرسول وحده مأمورا بالاستقامة بل كل مؤمن ومؤمنة لقوله (ومن تاب معك) فاللهم أعنا على ذلك.

(٢) حقيقة الركون هي الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به قال قتادة معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم ولا ترضوا أعمالهم.

(٣) في الآية دليل على وجوب هجران أهل الكفر والمعاصي وأهل البدع والأهواء فإن صحبتهم كفر أو معصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة وقد قال حكيم :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

٥ ـ حرمة الغلو وتجاوز ما حد الله تعالى في شرعه.

٦ ـ حرمة مداهنة المشركين (١) أو الرضا بهم أو بعملهم ، لأن الرضا بالكفر كفر.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

شرح الكلمات :

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) : أي صل الصلاة المفروضة.

(طَرَفَيِ النَّهارِ) : أي الصبح ، وهي في الطرف الأول ، والظهر والعصر وهما في الطرف الثاني.

(وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : أي ساعات الليل والمراد صلاة المغرب وصلاة العشاء.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) : أي حسنات الصلوات الخمس يذهبن صغائر الذنوب التي تقع بينهن.

(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) : أي ذلك المذكور من قوله وأقم الصلاة عظة للمتعظين.

(الْمُحْسِنِينَ) : أي الذين يحسنون نياتهم وأقوالهم وأعمالهم بالإخلاص فيها لله وأدائها على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في توجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وهدايتهم إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم فقال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ (٢) النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) (٣) أقمها في

__________________

(١) المداهنة هي أن يتنازل العبد عن دينه لأجل دنياه وهي محرمة والمداراة جائزة وهي أن يتنازل العبد عن دنياه ليحفظ دينه.

(٢) طرف النهار ـ أوله ـ وهو من طلوع الفجر وآخره من العصر إلى غروب الشمس.

(٣) الزلف جمع زلفة كغرفة وغرف وهي الساعة القريبة من أختها والمراد بها صلاة المغرب والعشاء ، وهذه الآية إحدى ثلاث آيات ذكرت أوقات الصلوات الخمس. الثانية آية الإسراء (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) والثانية آية الروم (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).

هذه الأوقات الخمس وهي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ومعنى أقمها أدها على الوجه الأكمل لأدائها ، فيكون ذلك الاداء حسنات يمحو (١) الله تعالى بها السيئات ، (٢) وقوله تعالى (ذلِكَ) أي المأمور به وما يترتب عليه (ذِكْرى) أي عظة (لِلذَّاكِرِينَ) أي المتعظين وقوله (وَاصْبِرْ) أي على الطاعات فعلا وتركا وعلى أذي المشركين ولا تجزع (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي جزاءهم يوم القيامة ، والمحسنون هم الذين يخلصون أعمالهم لله تعالى ويؤدونها على الوجه الأكمل في أدائها فتنتج لهم الحسنات التي يذهب الله بها السيئات.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان أوقات الصلوات الخمس إذ طرفي النهار هما الصبح وفيها صلاة الصبح والعشيّ وفيها صلاة الظهر والعصر كما أن زلفا من الليل هي ساعاته فيها صلاة المغرب والعشاء.

٢ ـ بيان سنة الله تعالى في أن الحسنة تمحو السيئة وفي الحديث «الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر».

٣ ـ وجوب الصبر والإحسان وأنهما من أفضل الأعمال.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ

__________________

(١) قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) جملة تعليلية للأمر بإقام الصلاة وكون الحسنات يذهبن السيئات يتناول أمرين : الأول وهو الظاهر أن الحسنات يمحو الله تعالى بها السيئات وهي الصغائر والثاني أن فعل الحسنات يمنع من فعل السيئات وهو إذهابها.

(٢) روى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك فنزلت عليه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) الآية فقال الرجل ألي هذا؟ قال لمن عمل بها من أمتى.

(١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

شرح الكلمات :

(فَلَوْ لا) : لو لا كلمة تفيد الحض على الفعل والحث عليه.

(مِنَ الْقُرُونِ) : أي أهل القرون والقرن مائة سنة.

(أُولُوا بَقِيَّةٍ) : أي أصحاب بقيّة أي دين وفضل.

(ما أُتْرِفُوا فِيهِ) : أي ما نعموا فيه من طعام وشراب ولباس ومتع.

(وَكانُوا مُجْرِمِينَ) : أي لأنفسهم بارتكاب المعاصي ولغيرهم بحملهم على ذلك.

(بِظُلْمٍ) : أي منه لها بدون ما ذنب اقترفته.

(أُمَّةً واحِدَةً) : أي على دين واحد وهو الإسلام.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) : أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) من قبلكم أيها الرسول والمؤمنون (أُولُوا (١) بَقِيَّةٍ) من فهم وعقل وفضل ودين ينهون عن الشرك والتكذيب والمعاصي أي فهلّا كان ذلك إنه لم يكن اللهم إلا قليلا ممن أنجى الله تعالى من اتباع الرسل عند إهلاك أممهم وقوله تعالى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (٢) أي لم يكن بينهم أولو بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجى الله وما عداهم كانوا ظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي متبعين ما اترفوا فيه من ملاذ الحياة الدنيا وبذلك كانوا مجرمين فأهلكهم الله تعالى ونجى رسله والمؤمنين كما تقدم ذكره في قصة نوح وهود وصالح وشعيب

__________________

(١) أصحاب بقية والبقية أهل فضل ودين وصلاح يوجدون كبقية باقية في وسط أمة ضالة فاسدة غلب عليها الضلال والفساد فتوجد بقية صالحة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

(٢) أترفوا أي أترفهم الله بما وسع عليهم من الأرزاق ولم يشكروه هؤلاء المترفون اتبعوا ما أترفوا فيه وانقطعوا إليه فلا هم لهم إلا متاع الحياة الدنيا ، وبذلك أجرموا على أنفسهم وعقولهم فأصبحوا بذلك مجرمين ، في الآية ذم الترف إن اتبعه صاحبه وانقطع به عن طاعة الله ورسوله.

عليهم‌السلام. وقوله تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١) أي لم يكن من شأن ربّك أيها الرسول أن يهلك القرى بظلم منه وأهلها مصلحون ، ولكن يهلكهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك والتكذيب والمعاصي. وما تضمنته هذه الآية هو بيان لسنة الله تعالى في إهلاك الأمم السابقة ممن قص تعالى أنباءهم في هذه السورة. وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) (٢) أي على الإسلام بأن خلق الهداية في قلوبهم وصرف عنهم الموانع. ولما لم يشأ ذلك لا يزالون مختلفين على أديان شتى من يهودية ونصرانية ومجوسية وأهل الدين الواحد يختلفون إلى طوائف ومذاهب مختلفة وقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (٣) أيها الرسول فإنهم لا يختلفون بل يؤمنون بالله ورسوله ويعملون بطاعتهما فلا فرقة ولا خلاف بينهم دينهم واحد وأمرهم واحد. وقوله (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي وعلى ذلك خلقهم فمنهم كافر ومنهم مؤمن ، والكافر شقي والمؤمن سعيد ، وقوله (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ) أي حقت ووجبت وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ (٤) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٥) أَجْمَعِينَ) ولذا كان اختلاقهم مهيّئا لهم لدخول جهنم حيث قضى الله تعالى بامتلاء جهنم من الجن والإنس أجمعين فهو أمر لا بد كائن.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ما يزال الناس بخير ما وجد بينهم أولو الفضل والخير بأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن الفساد والشر.

٢ ـ الترف كثيرا ما يقود إلى الاجرام على النفس باتباع الشهوات وترك الصالحات.

٣ ـ متى كان أهل القرى صالحين فهم آمنون من كل المخاوف.

٤ ـ الاتفاق رحمة والخلاف عذاب.

__________________

(١) في الآية إشارة إلى مصداق مثل سائر بين الناس وهو قولهم يدوم الكفر ولا يدوم الظلم. فالأمة إذا كان افرادها مصلحين لا يفسدون ولا يرضون الفساد ولا يقرونه فتطول حياتها ويعظم شأنها ولو كانت كافرة.

(٢) في الآية تقرير مشيئة الله تعالى التي لا يقع في الكون شيء إلا بها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم على ملة الإسلام أو ملة الكفر أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت اختلاف الناس لتتجلى في ذلك قدرته ورحمته وعدله وعفوه ومغفرته.

(٣) اجتماع الأمة وعدم اختلافها مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى واختلافها مظهر من مظاهر عذابها وشقائها وحرمانها.

(٤) جملة لأملأن جهنم تفسير للكلمة التي أتمها الله تعالى وهي قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ..).

(٥) أي من الفريقين فمن تبعيضية فيدخل بعض الجن والإنس الجنة ويدخل بعض الجن والإنس النار.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

شرح الكلمات :

(وَكُلًّا نَقُصُ) : أي وكل ما تحتاج إليه من أنباء الرسل نقصه عليك تثبيتا لفؤادك.

(ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) : أي نقص عليك من القصص ما نثبت به قلبك لتصبر على دعوتنا وتبليغها.

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) : أي في هذه السورة الحق الثابت من الله تعالى كما جاءك في غيرها.

(وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى) : أي وجاءك فيها موعظة وذكرى للمؤمنين إذ هم المنتفعون بها.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ما غاب علمه فيهما فالله يعلمه وحده وليس لغيره فيه علم.

(فَاعْبُدْهُ) : أي وحّده في العباده ولا تشرك به شيئا.

(وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) : أي فوض أمرك إليه وثق تمام الثقة فيه فإنه يكفيك.

معنى الآيات :

لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة الشريفة ما قصه من أنباء الرسل مع أممهم مبيّنا ما لاقت الرسل من أفراد أممهم من تكذيب وعناد ومجاحدة وكيف صبرت الرسل

حتى جاءها النصر أخبر تعالى رسوله بقوله (وَكُلًّا) (١) (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ونقص عليك كل ما تحتاج إليه في تدعيم موقفك وقوة عزيمتك من أنباء الرسل أي من اخبارها مع أممها الشيء الذي نثبت به قلبك حتى تواصل دعوتك وتبلغ رسالتك. وقوله (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) أي السورة الحق (٢) من الأخبار كما جاءك في غيرها (وَمَوْعِظَةٌ) لك (٣) تعظ بها غيرك ، (وَذِكْرى) يتذكر بها المؤمنون فيثبتون على الحق ويصبرون على الطاعة والبلاء فلا يجزعوا ولا يملوا ، وقوله (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي وقل يا رسولنا للذين لا يؤمنون من قومك ممن هم مصرون على التكذيب والشرك والعصيان اعملوا على حالكم وما أنتم متمكنون منه إنا عاملون على حالنا كذلك ،

وانتظروا أيّنا ينتصر في النهاية أو ينكسر. وقوله ولله غيب (٤) السموات والأرض فهو وحده يعلم متى يجيء النصر ومتى تحق الهزيمة. وإليه يرجع الأمر كله أمر الانتصار والانكسار كأمر الهداية والاضلال والإسعاد والاشقاء ، وعليه فاعبده يا رسولنا وحده وتوكل عليه (٥) وحده ، فإنه كافيك كل ما يهمك من الدنيا والآخرة ، وما ربك بغافل عما تعملون أيها الناس وسيجزي كلّا بما عمل من خير أو غير وهو على كل شيء قدير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فائدة القصص القرآني وهي أمور منها :

أ) تثبيت قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ب) إيجاد مواعظ وعبر للمؤمنين.

ج) تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ علم الغيب لله وحده لا يعلمه غيره.

٣ ـ مرد الأمور كلها لله بدءا وعودا ونهاية.

__________________

(١) نصب (كُلًّا) بفعل نقص أي نقص عليك كلا والتنوين عوض عن كلمة محذوفة تقديرها كل ما تحتاج إليه من أنباء الرسل.

(٢) لاشتمالها على خمس قصص. قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب ، مع الإشارة إلى قصتي ابراهيم وموسى عليهما‌السلام.

(٣) الموعظة اسم مصدر الوعط وهي التذكير بما يصرف العبد عما يضره ويسيء إليه في سائر المحرمات فعلا وتركا.

(٤) أي له علمه وحده دون سواه أي غيره لا في السماء ولا في الأرض.

(٥) أي ثق فيه وفوض أمر نصرك إليه ولا تلتفت إلى غيره فإنه كافيك دون سواه.

٤ ـ وجوب (١) عبادة الله تعالى والتوكل عليه.

سورة يوسف

مكية

وآياتها مائة واحدى عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

شرح الكلمات :

(الر) : تكتب ألر وتقرأ : ألف ، لام ، را ، والله أعلم بمراده بذلك.

(الْكِتابِ الْمُبِينِ) : أي القرآن المظهر للحق في الاعتقادات والعبادات والشرائع.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) : أي بلغه العرب العدنانيّون والقحطانيون سواء.

(نَحْنُ نَقُصُ) : نحدثك متتبعين آثار الحديث على وجهه الذي كان عليه وتم به.

(بِما أَوْحَيْنا) : أي بإيحائنا إليك فالوحي هو أداة القصص.

(مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل نزوله عليك.

(لَمِنَ الْغافِلِينَ) : أي من قبل إيحائنا إليك غافلا عنه لا تذكره ولا تعلم منه شيئا.

__________________

(١) إذ لا جلها خلق الخلق كله ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية وفي الحديث القدسي : يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي. إذا فعله الحياة كلها ليعبد الله تعالى.

معنى الآيات :

إن المناسبة بين سورتي هود ويوسف عليهما‌السلام أن الثانية تتميم للقصص الذي اشتملت عليه الأولى إذ سورة يوسف اشتملت على أطول قصص في القرآن الكريم أوله (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) رابع آية وآخره (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) الآية الثانية بعد المائة وأما سبب نزول هذه السورة فقد قيل للرسول (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى قوله (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) فقص أحداث أربعين سنة تقريبا ، فقوله تعالى (الر) من هذه الحروف المقطعة تألفّت آيات القرآن الكريم ، فأشار إليها بقوله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي المبيّن للحق المظهر له ولكل ما الناس في حاجة إليه مما يصلح دينهم ودنياهم. وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٢) أي بلسان العرب ليفهموه ويعقلوا معانيه فيهتدوا عليه فيكملوا ويسعدوا. وقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) أي ليمكنكم فهمه ومعرفة ما جاء فيه من الهدى والنور. وقوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا رسول الله (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٤) أي أصحه وأصدقه وأنفعه وأجمله (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي بواسطة إيحائنا إليك هذا القرآن ، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل إيحائه إليك (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عنه لا تذكره ولا تعلمه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير اعجاز القرآن إذ هو مؤلف من مثل ألر ، وطس ، وق ، ومع هذا لم يستطع العرب أن يأتوا بسورة مثله.

٢ ـ بيان الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية وهي أن يعقله العرب ليبلغوه إلى غيرهم.

__________________

(١) روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما : قالوا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قصصت علينا فنزلت : نحن نقص عليك أحسن القصص الآية.

(٢) (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من الضمير في أنزلناه وعربيا صفة له فلم يكن على نهج الاشعار ـ والقصص التي تقص وإنما هو كتاب منظم يقرأ ويحفظ ويعلم ما فيه ويعمل به لسعادة الدارين.

(٣) أي جعلناه قرآنا عربيا بلغتكم التي تتخاطبون بها وتفهمون أساليبها الكلامية ومعانيها الإفرادية والتركيبية رجاء أن تتمكنوا من فهمه ومعرفة ما يدعو إليه من الحق والصراط المستقيم.

(٤) القصص منقول من قص الأثر إذا تتبع آثار الأقدم ليعرف منتهى سير صاحبها فالقصص تتبع الأخبار للمعرفة والعظة والاعتبار.

٣ ـ القرآن الكريم اشتمل على أحسن القصص فلا معنى لسماع (١) قصص غيره.

٤ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثباتها بأقوى برهان عقليّ واعظم دليل نقليّ.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

شرح الكلمات :

(لِأَبِيهِ) : أي يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليه‌السلام.

(إِنِّي رَأَيْتُ) : أي في منامي.

(أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) : أي من كواكب السماء.

(ساجِدِينَ) : أي نزل الكل من السماء وسجدوا ليوسف وهو طفل.

(فَيَكِيدُوا لَكَ) : أي يحتالوا عليك بما يضرك.

(عَدُوٌّ مُبِينٌ) : أي بين العداوة ظاهرها.

(يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) : أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.

(مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : أي تعبير الرؤيا.

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) : أي بأن ينبّئك ويرسلك رسولا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذْ قالَ يُوسُفُ) (٢) هذا بداية القصص أي اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف بن

__________________

(١) روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فغضب وقال أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيأ ما وسعه إلا أن يتبعني.

(٢) إذ ظرف في محل نصب والعامل فيه أذكر أي اذكر لهم حين قال يوسف الخ.

يعقوب لأبيه يعقوب (يا أَبَتِ) (١) أي يا أبي (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) أي من كواكب السماء (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢) أي نزلوا من السماء وسجدوا له تحيّة وتعظيما. وسيظهر تأويل هذه الرؤيا بعد أربعين سنة حيث يجمع الله شمله بأبويه وإخوته الأحد عشر ويسجد الكل له تحيّة وتعظيما. وقوله تعالى (قالَ يا بُنَيَ) أي قال يعقوب لولده يوسف (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) (٣) وهم إخوة له من أبيه دون أمه (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي يحملهم الحسد على أن يكيدوك بما يضرك بطاعتهم للشيطان حين يغريهم بك (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) إذ أخرج آدم وحواء من الجنة بتزيينه لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن الأكل منها. وقوله (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر ساجدين لك يجتبيك أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.

وقوله (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ويعلمك معرفة ما يؤول إليه أحاديث الناس ورؤياهم (٤) المنامية ، ويتم نعمته عليك بالنبوة وعلى آل يعقوب أي أولاده. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) اسحق جد يوسف الأدنى وابراهيم جده الأعلى حيث أنعم عليهما بانعامات كبيرة أعظمها النبوة والرسالة ، وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) أي بخلقه (حَكِيمٌ) أي في تدبيره فيضع كل شيء في موضعه فيكرم من هو أهل للاكرام ، ويحرم من هو أهل للحرمان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ثبوت الرؤيا شرعا ومشروعية تعبيرها. (٥)

__________________

(١) في يا أبت لغات كسر التاء وفتحها وضمها ، والأصل يا أبي فزيدت التاء عوضا عن الياء فلذا لا يجمع بينهما فلا يقال يا أبتي.

(٢) ساجدين جمع ساجد وهو للعاقل ، والشمس والقمر والنجوم من غير العقلاء. فلم ما قال ساجدة؟ والجواب لما كان السجود وهو طاعة لا يصدر إلا من عاقل ذكر الفعل فقال ساجدين

(٣) الرؤيا ما يراه المرء في منامه من أمور وأحوال ، وهي ثلاثة أنواع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ، ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا من الله والحلم من الشيطان.

(٤) قيل لمالك أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال : بالنبوة تلعب؟ لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها فإن رأى خيرا أخبر به وان رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت.

(٥) روى البخاري عن ابي قتادة أنه قال كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره) وروى : (أن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبّر فإذا عبرت وقعت).

٢ ـ قد تتأخر الرؤيا فلا يظهر مصداقها إلا بعد السنين العديدة.

٣ ـ مشروعية الحذر والأخذ بالحيطة في الأمور الهامة.

٤ ـ بيان إفضال الله على آل ابراهيم بما أنعم عليهم فجعلهم أنبياء آباء وأبناء وأحفادا

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

شرح الكلمات :

(آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (١) : عبر للسائلين عن أخبارهم وما كان لهم من أحوال غريبة.

(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : أي جماعة إذ هم أحد عشر رجلا.

(أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) : أي ألقوه في أرض بعيدة لا يعثر عليه.

(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) : أي من النظر إلى يوسف فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم.

(فِي غَيابَتِ الْجُبِ) : أي ظلمة البئر.

(بَعْضُ السَّيَّارَةِ) : أي المسافرين السائرين في الأرض.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة يوسف عليه‌السلام قال تعالى (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي

__________________

(١) الآيات : الدلائل على ما تطلب معرفته من الأمور الخفية ذات الشأن وهي مأخوذة من آيات الطريق وهي علامات توضع على جنبات الطريق ترشد السائرين.

في شأن يوسف وإخوته وما جرى لهم وما تم من أحداث جسام عبر وعظات للسائلين (١) عن ذلك المتطلعين إلى معرفته. (إِذْ قالُوا) أي إخوة يوسف (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) بنيامين وهو شقيقه (٢) دونهم (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة فكيف يفضل (٣) الاثنين على الجماعة (إِنَّ أَبانا) أي يعقوب عليه‌السلام (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في خطإ بيّن بإيثاره يوسف وأخاه بالمحبة دوننا. وقوله (اقْتُلُوا يُوسُفَ (٤) أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يخبر تعالى عما قاله إخوة يوسف وهم في خلوتهم يتآمرون على أخيهم للتخلص منه فقالوا (اقْتُلُوا يُوسُفَ) بإزهاق روحه ، (أَوِ اطْرَحُوهُ) في أرض بعيدة ألقوه فيها فيهلك وتتخلصوا منه بدون قتل منكم ، وبذلك (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) حيث كان مشغولا بالنظر إلى يوسف ، ويحبكم وتحبونه وتتوبوا إلى الله من ذنب إبعاد يوسف عن أبيه ، وتكونوا بعد ذلك قوما صالحين حيث لم يبق ما يورثكم ذنبا أو يكسبكم إثما. وقوله تعالى (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) يخبر تعالى عن قيل إخوة يوسف لبعضهم البعض وهم يتشاورون في شأن يوسف وكيف يبعدونه عن أبيهم ورضاه عنهم قال قائل منهم هو يهودا أو روبيل وكان أخاه وابن خالته وكان أكبرهم سنا وأرجحهم عقلا قال : لا تقتلوا يوسف ، لأن القتل جريمة لا تطاق ولا ينبغي ارتكابها بحال ، والقوه في غيابة الجب (٥) أي في ظلمة البئر ، وهي بئر معروفة في ديارهم بأرض فلسطين يلتقطه (٦) بعض السيارة من المسافرين إن كنتم فاعلين شيئا إزاء أخيكم فهذا أفضل السبل لذلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الميل إلى أحد الأبناء بالحب يورث العداوة بين الإخوة.

__________________

(١) السائلون : من يتوقع منهم السؤال عن المواعظ والعبر ، والحكم والعرب يستعملون هذا في أساليبهم للتشويق قال السمؤل :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

فليسوا سواء عالم وجهول

(٢) أمهما يقال لها راحيل بنت لابان وباقي الأخوة منهم الأشقاء لبعضهم ومنهم لأب إذا لم تكن أمهم واحدة.

(٣) نظرتهم هذه مادية بحتة إذ رأوا أن نفع الجماعة لأبيهم أكثر من نفع الواحد والاثنين وهو ما فضّل يوسف للمادة ولكن للكمال الروحي المهيأ له الدال عليه رؤياه .. والعصبة الجماعة ولا واحد لها من لفظها.

(٤) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا قال فما ذا قالوا في تآمرهم وتشاورهم فأجيب قالوا أقتلوا الخ ..

(٥) غيابة الجب والجمع غيابات وهي ما غاب عن البصر من شيء والمراد هنا قعر الجب وسمي الجب جبا لأنه مقطوع من الأرض ويجمع على جياب وجيبة.

(٦) في الآية دليل على مشروعية التقاط اللقطة وقد أذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يأذن في ضالة الإبل إذ قال في اللقطة. اعرف عقاصها (وعاءها) ووكاءها ثم عرّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها. وقال في ضالة الغنم هي لك أو لأخيك أو للذئب وقال في الإبل مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها.

٢ ـ الحسد (١) سبب لكثير من الكوارث البشرية.

٣ ـ ارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون.

٤ ـ الشفقة والمحبة في الشقيق أكبر منها في الأخ للأب.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(لَناصِحُونَ) : لمشفقون عليه نحب له الخير كما نحبه لأنفسنا.

(يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) (٢) : أي يأكل ويشرب ويلعب بالمسابقة والمناضلة.

(إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) : أي يوقعني في الحزن الذي هو ألم النفس أي ذهابكم به.

(الذِّئْبُ) : حيوان مفترس خداع شرس.

(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : أي جماعة قوية.

(لَخاسِرُونَ) : أي ضعفاء عاجزون عرضة للخسران بفقدنا أخانا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة يوسف إنهم بعد ائتمارهم واتفاقهم السري على إلقاء يوسف في غيابة الجب طلبوا من أبيهم أن يترك يوسف يخرج معهم إلى البر كعادتهم للنزهة والتنفه

__________________

(١) شاهدها حسد إبليس آدم فكانت كارثة الهبوط في الأرض والفتنة فيها وآخر حسد قابيل هابيل فقتله لذلك وثالث حسد اليهود للإسلام والمسلمين فجرّ حروبا وويلات لا حد لها على الإسلام والمسلمين.

(٢) قرأ نافع يرتع بكسر العين مجزوم في جواب الطلب بحذف الياء من ارتعى يرتعي الغنم ليتدرب بذلك وقرأها حفص بإسكان العين جزما من رتع يرتع في المكان إذا أكل كيف شاء قال الشاعر

ترتع ما غفلت حتى إذا ادّكرت

فإنما هي اقبال وادبار

وكأنهم لاحظوا عدم ثقة أبيهم فيهم فقالوا له (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا (١) عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي محبون له كل خير مشفقون عليه أن يمسه أدنى سوء. (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) أي يرتع في البادية يأكل الفواكه ويشرب الألبان ويأكل اللحوم ويلعب بما نلعب به من السباق والمناضلة ، والمصارعة ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من كل ما قد يضره أو يسيء إليه. فأجابهم عليه‌السلام قائلا (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي (٢) أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي إنه ليوقعني في الحزن وآلامه ذهابكم به. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) في رتعكم ولعبكم. فأجابوه قائلين (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي لا خير في وجودنا ما دمنا نغلب على أخينا فيأكله الذئب بيننا. ومع الأسف فقد اقنعوا بهذا الحديث والدهم وغدا سيذهبون بيوسف لتنفيذ مؤامرتهم الدنية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قاعدة : لا حذر مع القدر أي لا حذر ينفع (٣) في ردّ المقدور.

٢ ـ صدق المؤمن يحمله على تصديق من يحلف له ويؤكد كلامه.

٣ ـ جواز الحزن وأنه لا إثم فيه وفي الحديث «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

٤ ـ أكل الذئب (٤) للإنسان إن أصاب منه غفلة واقع وكثير أيضا.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ

__________________

(١) قرئت لا تأمنا بالإدغام وبدون إشمام وقرئت بالادغام مع الإشمام وقرئت لا تأمننا بنونين ظاهرتين وقرئت لا تمنّا بكسر التاء لغة تميم.

(٢) أي يشق على مفارقته مدة ذهابكم به وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة ومخائل الكمال.

(٣) وينفع في ما لم يقدر بإذن الله تعالى.

(٤) الذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وقرأ ورش عن نافع الذيب بدون همز لأن الهمزة ساكنة وقبلهما كسرة فحذفت تخفيفا.

بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

شرح الكلمات :

(وَأَجْمَعُوا) : أي أمرهم على إلقائه في غيابة الجب.

(فِي غَيابَتِ الْجُبِ) : أي في ظلمة البئر.

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) : أي أعلمناه بطريق خفي سريع.

(عِشاءً) : أي بعد غروب الشمس أول الليل.

(نَسْتَبِقُ) : أي بالمناضلة.

(عِنْدَ مَتاعِنا) : أي أمتعتنا من ثياب وغيرها.

(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) : أي بمصدّق لنا.

(بِدَمٍ كَذِبٍ) : أي بدم مكذوب أي دم سخلة وليس دم يوسف.

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) : أي زينت وحسنت.

(عَلى ما تَصِفُونَ) : أي من الكذب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الإخبار عما عزم عليه إخوة يوسف أن يفعلوه فقد أقنعوا والدهم يوم أمس على إرسال يوسف معهم إلى البر وها هم أولاء وقد أخذوه معهم وخرجوا به ، وما إن بعدوا به حتى تغيّرت وجوههم عليه وصار يتلقى الكلمات النابية والوكز والضرب أحيانا ، وقد أجمعوا أمرهم على إلقائه في بئر معلومة لهم في الصحراء ، ونفذوا مؤامرتهم وألقوا أخاهم وهو يبكي بأعلى صوته وقد انتزعوا منه قميصه وتركوه مكتوفا في قعر البئر. وهنا أوحى الله تعالى إليه أي أعلمه بما شاء من وسائط العلم انه سينبئهم في يوم من الأيام بعملهم الشنيع هذا وهو معنى قوله تعالى في السياق (وَأَوْحَيْنا (١) إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وبعد أن فرغوا من أخيهم ذبحوا سخلة ولطخوا بدمها قميصه ، وعادوا

__________________

(١) هذا دليل على نبوته وأنه نبىء وهو صغير إذ النبوة لا يشترط لها بلوغ الرشد كالرسالة. وقيل الهاء في إليه تعود إلى يعقوب وعليه فلا إشكال إذ هو نبي ورسول عليه‌السلام.

إلى أبيهم مساء يبكون يحملون الفاجعة إلى أبيهم الشيخ الكبير قال تعالى (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) أي ليلا (يَبْكُونَ) (١) وقالوا معتذرين (يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ (٢) وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا (٣) فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي بمصدق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) وقد دلت عباراتهم على كذبهم قال تعالى (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (٤) أي ذي كذب أو مكذوب إذ هو دم سخلة ذبحوها فأكلوها ولطخوا ببعض دمها قميص يوسف أخيهم ونظر يعقوب إلى القميص وهو ملطخ بالدم الكذب ولم يكن به خرق ولا تمزيق فقال إن هذا الذئب لحليم إذ أكل يوسف ولم يخرق ثوبه. ثم قال ما أخبر تعالى عنه بقوله (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي لم يكن الأمر كما وصفتم وادعيتم وإنما سولت لكم أنفسكم أمرا فنفذتموه. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (٥) أي فأمري صبر جميل والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى معه. (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ (٦) عَلى ما تَصِفُونَ) أي من الكذب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز صدور الذنب الكبير من الرجل المؤمن المهيء للكمال مستقبلا. (٧)

٢ ـ لطف الله تعالى بيوسف وإكرامه له بإعلامه إياه أنه سينّبىء إخوته بفعلتهم هذه وضمن ذلك بشره بسلامة الحال وحسن المآل.

٣ ـ اختيار الليل للاعتذار دون النهار لأن العين تستحي من العين كما يقال. وكما قيل «كيف يرجو الحياء منه صديق ... ومكان الحياء منه خراب. يريد عينيه لا تبصران.

٤ ـ فضيلة الصبر الجميل وهو الخالي من الجزع والشكوى معا.

__________________

(١) في الآية دليل على أن بكاء المرء لا يكون دليلا على صدق قوله لاحتمال أن يكون تصنعا كما حصل لأولاد يعقوب.

(٢) هو المسابقة وقيل ننتضل وهو نوع من المسابقة وهو في السهام لا في الأقدام وفي الآية دليل على مشروعية السباق وقد سابق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، والحفياء تبعد من ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة ، أجمع المسلمون أنه لا يجوز الرهان في السباق إلا في الخيل والإبل والنصل وهي الرماية بالسهام لإصابة الهدف.

(٣) أي ثيابنا وأمتعتنا.

(٤) استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الامارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها إذ يعقوب عليه‌السلام استدل على كذب بنيه بصحة القميص وعدم تمزقه بأنياب الذئب.

(٥) (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أولى به فصبر جميل مبتدأ وأولى به الخبر وهو محذوف وما في التفسير واضح كذلك.

(٦) (وَاللهُ) مبتدأ و (الْمُسْتَعانُ) خبر و (عَلى ما تَصِفُونَ) متعلق به ، والمعنى والله المستعان به على احتمال ما تصفون من الكذب.

(٧) لأن إخوة يوسف بعد فعلتهم تلك بأخيهم تاب الله عليهم ونجاهم ومن ألطافه بهم أنه حال بينهم وبين جريمة القتل ونجا يوسف وهم يعلمون.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(سَيَّارَةٌ) : رفقة من الناس تسير مع بعضها بعضا.

(وارِدَهُمْ) : أي الذي يرد لهم الماء.

(فَأَدْلى دَلْوَهُ) : أي دلى دلوه في البئر.

(وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) : أي أخفوه كبضاعة من البضائع.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) : أي باعوه بثمن ناقص.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ) : أي الرجل الذي اشتراه واسمه قطفير ولقبه العزيز.

(أَكْرِمِي مَثْواهُ) : أي أكرمي موضع إقامته بمعنى اكرميه وأحسني إليه.

(أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) : أي نتبناه فقال ذلك لأنه لم يكن يولد له.

(مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : أي تعبير الرؤيا.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : أي قوته البدنية والعقلية.

(حُكْماً وَعِلْماً) : أي حكمة ومعرفة أي حكمة في التدبير ومعرفة في الدين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته إنه لما ألقى يوسف في الجب وترك هناك جاءت قافلة من بلاد مدين تريد مصر فأرسلوا واردا لهم (١) يستقي لهم الماء فأدلى دلوه في البئر فتعلق به يوسف فخرج معه وما إن رآه المدلي حتى صاح قائلا يا بشراي (٢) هذا غلام وكان إخوة يوسف يترددون على البئر يتعرفون على مصير أخيهم فلما رأوه بأيدي الوارد ورفقائه قالوا لهم هذا عبد لنا أبق ، وإن رأيتم شراءه بعناه لكم فقالوا ذاك الذي نريد فباعوه لهم بثمن ناقص وأسره (٣) الذين اشتروا أي أخفوه عن رجال القافلة حتى لا يطالبوهم بالاشتراك فيه معهم ، وقالوا هذه بضاعة كلفنا أصحاب الماء بإيصالها إلى صاحبها بمصر. هذا ما دل عليه قوله تعالى (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ).

وكونها معدودة غير موزونة دال على قلتها (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي إخوته لا الذين اشتروه. (٤) ولما وصلوا به مصر باعوه من وزير يقال له قطفير العزيز فتفرس فيه الخير فقال لامرأته زليخا أكرمي مقامه بيننا رجاء أن ينفعنا في الخدمة أو نبيعه بثمن غال ، أو نتخذه ولدا حيث نحن لا يولد لنا. هذا معنى قوله تعالى (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) قال تعالى. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه العزيز مكّنا له في الأرض فيما بعد فصار ملك مصر بما فيها يحكمها ويسوسها بالعدل والرحمة. وقوله تعالى (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ولنعلمه (٥) تعبير الرؤا من أحاديث الناس وما يقصونه منه. وقوله تعالى (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (٦) أي على أمر يوسف فلم يقدر إخوته أن يبلغوا منه مرادهم

__________________

(١) الوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم.

(٢) قرأ ورش بشراي ، وقرأ حفص بشرى.

(٣) اختلف فيمن أسروا يوسف بضاعة. فقيل إنهم اخوة يوسف وقيل هم التجار الذين اشتروه وقيل هم الوارد وأصحابه وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنهم إخوة يوسف لما استخرج الوارد يوسف أدركهم إخوته وقالوا لهم هذا عبدنا أبق وإن شئتم بعناكموه فقالوا نود ذلك فباعوهم إياه كبضاعة لأنّ العبد يباع ويشترى كالبضاعة وما في التفسير وهو اختيار ابن جرير أصوب والله أعلم.

(٤) لفظ الزاهدين وصف للذين باعوا يوسف ومن هنا قيل هم إخوة يوسف وقيل الواردة وقيل السيارة فالخلاف عائد إلى الأول حيث اختلف فيمن أسروا يوسف بضاعة. واستدل مالك بالآية على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ويكون البيع لازما.

(٥) قال القرطبي : أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب ويعلمك من تأويل الأحاديث.

(٦) اختلف في عود الضمير في قوله (على أمره) هل هو عائد إلى الله تعالى فهو الغالب على أمره دون سواه ، إذ لا يغلب الله شيء بل هو الغالب على أمره وقيل الضمير يعود إلى يوسف أي أن الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره.

كما هو تعالى غالب على كل أمر أراده فلا يحول بينه وبين مراده أحد وكيف وهو العزيز الحكيم. وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إذ لو علموا لفوضوا أمرهم إليه وتوكلوا عليه ولم يحاولوا معصيته بالخروج عن طاعته. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يجد من أقربائه من أذى إذ يوسف ناله الأذى من إخوته الذين هم أقرب الناس إليه بعد والديه. وقوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً (١) وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ولما بلغ يوسف اكتمال قوته البدنية بتجاوز سن الصبا إلى سن الشباب وقوته العقلية بتجاوزه سن الشباب إلى سن الكهولة آتيناه حكما وعلما أي حكمة وهي الإصابة في الأمور وعلما وهو الفقه في الدين ، وكما آتينا يوسف الحكمة والعلم نجزي المحسنين (٢) طاعتنا بالصبر والصدق وحسن التوكل وفي هذا بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحسن العاقبة وأن الله تعالى سينصره على أعدائه ويمكن له منهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الفرح بما يسر (٣) والإعلان عنه.

٢ ـ جواز الاحتياط لأمر الدين والدنيا.

٣ ـ اطلاق لفظ الشراء على البيع.

٤ ـ نسخ التبنّي في الإسلام.

٥ ـ معرفة تعبير الرؤا كرامة لمن علّمه الله ذلك.

٦ ـ من غالب الله غلب.

٧ ـ بلوغ الأشد يبتدى بانتهاء الصبا والدخول في البلوغ.

٨ ـ حسن الجزاء مشروط بحسن القصد والعمل.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها

__________________

(١) أي وليناه حكم مصر فصار الحاكم فيها وآتيناه النبوة والعقل والفهم والعلم بالدين.

(٢) هذا الجزاء عام في كل مؤمن أحسن فبقدر إحسان العبد يكون جزاء الرب له فالخطاب يتناول يوسف ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتناول غيرهما لأن القرآن كتاب هداية فعمومه لا يخصص بالواحد والاثنين.

(٣) مأخوذ من قول الوارد. يا بشرى هذا غلام.

لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥))

شرح الكلمات :

(راوَدَتْهُ) : أي طالبته لحاجتها تريد أن ينزل عن إرادته لإرادتها وهو يأبى.

(الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) : أي زليخا امرأة العزيز.

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) : أغلقتها بالمغّاليق.

(هَيْتَ لَكَ) : أي تعال عندي.

(مَعاذَ اللهِ) : أي أعوذ بالله أي أتحصن وأحتمي به من فعل ما لا يجوز.

(أَحْسَنَ مَثْوايَ) : أي إقامتي في بيته.

(هَمَّتْ بِهِ) : أي لتبطش به ضربا.

(وَهَمَّ بِها) : أي ليدفع صولتها عليه.

(بُرْهانَ رَبِّهِ) : ألهمه ربّه أن الخير في عدم ضربها.

(السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) : السوء ما يسوء وهو ضربها ، والفحشاء الخصلة القبيحة.

(الْمُخْلَصِينَ) : أي الذين استخلصناهم لولايتنا وطاعتنا ومحبتنا.

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) : أي قطعته من وراء.

(وَأَلْفَيا سَيِّدَها) : أي وجدا العزيز زوجها وكانوا يطلقون على الزوج لفظ السيد لأنه يملك المرأة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وما جرى له من أحداث في بيت العزيز الذي اشتراه إنه ما إن أوصى العزيز امرأته بإكرام يوسف حتى بادرت إلى ذلك فأحسنت طعامه وشرابه ولباسه وفراشه ، ونظرا إلى ما تجلبه الخلوة بين الرجل والمرأة من إثارة

الغريزة الجنسية لا سيما إذا طالت المدة ، وأمن الخوف وقلت التقوى حتى راودته بالفعل عن نفسه أي طلبت منه نفسه ليواقعها بعد أن اتخذت الأسباب المؤمّنة حيث غلّقت أبواب الحجرة والبهو والحديقة ، وقالت تعال إليّ. وكان رد يوسف على طلبها حازما قاطعا للطمع وهذا هو المطلوب في مثل هذا الموقف قال تعالى مخبرا عما جرى في القصر حيث لا يعلم أحد من الناس ما جرى وما تم فيه من أحداث. (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ (١) الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ (٢) لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). إنها بعد أن اتخذت كل ما يلزم للحصول على رغبتها منه أجابها قائلا (إِنَّهُ رَبِّي (٣) أَحْسَنَ مَثْوايَ) يريد العزيز أحسن إقامتي فكيف أخونه في أهله. وفي نفس الوقت أن سيده الحق الله جل جلاله قد أحسن مثواه بما سخّر له فكيف يخونه فيما حرم عليه. وقوله إنه لا يفلح الظالمون تعليل ثان فالظالم بوضع الشيء في غير موضعه يخيب في سعيه ويخسر في دنياه وأخراه فكيف أرضى لنفسي ولك بذلك وقوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٤) أي همت بضربه لامتناعه عن إجابتها لطلبها بعد مراودات طالت مدتها ، وهم هو بها أي بضربها دفعا لها عن نفسه إلا إنه أراه الله برهانا في نفسه فلم يضربها وآثر الفرار إلى خارج البيت ، ولحقته تجري وراءه لترده خشية أن يعلم أحد بما صنعت معه. واستبقا الباب هو يريد الخروج وهي تريد رده إلى البيت خشية الفضيحة وأخذته من قميصه فقدته أى شقته من دبر أي من وراء لأنه أمامها وهي وراءه. وقوله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) (٥) أي هكذا نصرف عن يوسف السوء فلا يفعله والفحشاء فلا يقربها ، وعلل لذلك بقوله إنه من عبادنا المخلصين أي الذين استخلصناهم لعبادتنا ومحبتنا فلا نرضى لهم أن يتلوثوا بآثار الذنوب والمعاصي. وقوله تعالى (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) (٦) أي ووجدا زوجها عند الباب جالسا في حال هروبه منها

__________________

(١) أي أحكمت إغلاقها متحققة من ذلك وقد قيل إنها سبعة أبواب يقال غلق الباب وأغلقه وإذا أريد الكثرة قيل غلّق الأبواب.

(٢) أي هلم وأقبل وتعال ولا مصدر له ولا تصريف. كأنه اسم فعل أمر بمعنى أقبل وتعال وفيه سبع قراءات أفصحها وأجلها هيت لك بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء ونظيرها هيت بكسر الهاء وفتح التاء وهي قراءة نافع وروي أن عكرمة قال إنها لغة عربية تدعو بها إلى نفسها. قال الجوهري يقال هرّت وهيّت به إذا صاح به ودعاه. قال الشاعر :

قد رابني أن الكرىّ أسكتا

لو كان معنيا بها لهيّتا

(أي لصاح) ، وقال آخر : يحدو بها كل فتى هيّات

(٣) يعني بقوله ربي زوجها أي سيده.

(٤) جواب (لَوْ لا) محذوف لعلم السامع به وتقديره لضربها أو لكان ما كان.

(٥) السوء هو ضرب وقدم في الذكر عن الفحشاء لأنه الحادث الأخير وأما الفحشاء فكانت قبل.

(٦) في عرف لغتهم إطلاق السيد على الزوج.

وهي تجرى وراءه حتى انتهيا إلى الباب وإذا بالعزيز جالس عنده فخافت المعرة على نفسها فبادرت بالاعتذار قائلة ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أي يوما أو يومين ، أو عذاب أليم يكون جزاءا له كأن يضرب ضربا مبرحا.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) : أي ابن عمها.

(قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) : أي من قدام.

(قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) : أي من وراء أي من خلف.

(إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) : أي قولها ، ما جزاء من أراد بأهلك سوءا.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) : أي عن هذا الأمر ولا تذكره لكيلا يشيع.

(مِنَ الْخاطِئِينَ) : المرتكبين للخطايا الآثمين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن يوسف وأحداث القصة فقد ادعت زليخا أن يوسف راودها عن نفسها وطالبت بعقوبته فقالت (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهنا رد يوسف ما قذفته به ، ولو لا أنها قذفته ما أخبر عن مراودتها إياه فقال ما أخبر تعالى به في هذه الآيات (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وهنا انطق الله جل جلاله طفلا رضيعا (١)

__________________

(١) وقيل إنه كان رجلا حكيما ذا عقل كان الوزير يستشيره في أموره وكان من أهل المرأة ورجح هذا غير واحد وما في التفسير أصحّ لصحة الحديث الشريف : تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى بن مريم.

إكراما لعبده وصفيّه يوسف فقال هذا الطفل والذي سماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد يوسف (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هذا ما قضى به الشاهد الصغير. (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ). (إِنَّهُ) أي قولها (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَ) (١) أي من صنيع النساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ،) ثم قال ليوسف (٢) يا يوسف (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر ولا تذكره لأحد لكيلا يفشو فيضر. وقال لزليخا (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي اطلبي العفو من زوجك ليصفح عنك ولا يؤاخذك بما فرط منك من ذنب إنك كنت من الخاطئين أي الآثمين من الناس هذا ما تضمنته الآيات الأربع في هذا السياق الكريم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الدفاع عن النفس ولو بما يسيء إلى الخصم.

٢ ـ إكرام الله تعالى لأوليائه حيث أنطق طفلا في المهد فحكم ببراءة يوسف.

٣ ـ تقرير أن كيد النساء عظيم وهو كذلك.

٤ ـ استحباب الستر على المسيء وكراهية إشاعة الذنوب بين الناس.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً

__________________

(١) الكيد : المكر والاحتيال وقال إن كيدكن عظيم ، لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من الورطة.

(٢) القائل هو الشاهد وقيل الزوج ، والراجح حسب السياق والعادة أنه الشاهد الذي أصبح حكما بينهما.

مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤))

شرح الكلمات :

(فِي الْمَدِينَةِ) : أي عاصمة مصر يومئذ.

(تُراوِدُ فَتاها) : أي عبدها الكنعاني.

(قَدْ شَغَفَها حُبًّا) : أي دخل حبّه شغاف قلبها أي أحاط بقلبها فتملكه عليها.

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي في خطأ بيّن بسبب حبها إياه.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) : أي بما تحدثن به عنها في غيبتها.

(وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) : أي وأعدت لهن فراشا ووسائد للاتكاء عليها.

(أَكْبَرْنَهُ) : أي أعظمنه في نفوسهن.

(فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) : أي قلتن كيف تحب عبدا كنعانيا.

(فَاسْتَعْصَمَ) : أي امتنع مستمسكا بعفته وطهارته.

(الصَّاغِرِينَ) : الذليلين المهانين.

(أَصْبُ إِلَيْهِنَ) : أمل إليهن.

(وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) : أي المذنبين إذ لا يذنب إلا من جهل قدرة الله واطلاعه عليه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصة يوسف إنه بعد الحكم الذي أصدره شاهد يوسف عليه‌السلام انتقل الخبر إلى نساء بعض الوزراء فاجتمعن في بيت إحداهن وتحدثن بما هو لوم لامرأة العزيز حيث راودت عبدا لها كنعانيا عن نفسه وهو ما أخبر تعالى عنه في الآيات الآتية قال تعالى (وَقالَ نِسْوَةٌ (١) فِي الْمَدِينَةِ) أي عاصمة مصر يومئذ (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ

__________________

(١) (نِسْوَةٌ) بكسر النون وضمها والجمع الكثير نساء ولا واحدة من لفظه إذ مفرد النسوة امرأة من غير لفظه.

فَتاها) (١) أي عبدها (عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد بلغ حبها إياه شغاف قلبها أي غشاءه. (٢) (إِنَّا لَنَراها) أي نظنها (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي خطأ واضح : إذ كيف تحب عبدا وهي من هي في شرفها وعلوّ مكانتها. قوله تعالى (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) (٣) أي ما تحدثن به في غيبتها (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ (٤) وَأَعْتَدَتْ لَهُنَ (٥) مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي فقابلت مكرهن بمكر أعظم منه فأعدت لهن حفلة طعام وشراب فلما أخذن في الأكل يقطعن بالسكاكين الفواكه كالأترج وغيره أمرته أن يخرج عليهن ليرينه فيعجبن برؤيته فيذهلن عن أنفسهن ويقطعن (٦) أيديهن بدل الفاكهة التي يقطعنها للأكل وبذلك تكون قد دفعت عن نفسها المعرة والملامة ، وهذا ما جاء في قوله تعالى (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ (٧) ما هذا بَشَراً) أي إنسان من الناس. (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ) أي ما هذا إلا ملك (كَرِيمٌ) وذلك لجماله وما وهبه الله تعالى من حسن وجمال في خلقه وخلقه. وهنا قالت ما أخبر تعالى به في قوله (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي هذا هو الفتي الجميل الذي لمتنني في حبه ومراودته عن نفسه (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي راودته فعلا وامتنع عن إجابتي. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي به مما أريده منه (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي الذليلين المهانين. وهكذا اسمعته تهديدها أمام النسوة المعجبات به. ومن هنا فزع يوسف إلى ربّه ليخلصه من مكر هذه المرأة وكيدها فقال ما أخبر تعالى به عنه (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أي يا رب فلذا عد كلامه هذا سؤالا لربه ودعاء السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه من الإثم ، (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أي كيد النسوة (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي أمل إليهن (وَأَكُنْ) أي بفعل ذلك (مِنَ الْجاهِلِينَ) أي الآثمين بارتكاب معصيتك.

__________________

(١) (فَتاها) نسب إليها وهو لزوجها باعتبار أنه يخدمها بملك زوجها له فصحّ نسبته إليها ، وقيل : إن زوجها وهبه إيّاها كما وهبت سارة هاجر لإبراهيم عليه‌السلام.

(٢) شغاف القلب : غلافه ، وهو : جلدة عليه ، وقرىء : شعفها بالعين المهملة أي : أحرق حبّه قلبها ، يقال : ؛ شعفه الحب : إذا أحرق قلبه.

(٣) وجه مكرهن : أنهن لما سمعن بجمال يوسف وحسنه ، رغبن في النظر إليه فاحتلن لذلك بالحديث عن زليخا وانتقادها في حبها لخادمها.

(٤) في الكلام حذف تقديره : فأرسلت إليهن تدعوهنّ إلى وليمة لتوقعن فيما وقعت فيه. أعتدت : هذا من العتاد وهو ما جعل عدّة لشيء ومنه العتاد الحربي وهو ما أعدّ للحرب من أنواع السلاح.

(٥) أصل : (مُتَّكَأً) موتكأ ، حذفت منه الواو كمتزن من وزنت ، ومتّعدّ من وعدت وقرىء : متكا غير مهموز وهو الأترج وأمّا مهموزا فهو : كل ما اتكىء عليه عند الجلوس.

(٦) قال مجاهد : ليس قطعا تبين به اليد ، وإنما خدش وحزر وهو معروف في كلام العرب ، يقال قطع يده إذا جرحها.

(٧) قرىء : (حاشَ لِلَّهِ) وحاشا لله ، وفيه أربع لغات ، ويقال : حاشا زيد. وحاشا زيدا ، ومعناه هنا : معاذ الله.

وهذا ما لا أريده وهو ما فررت منه (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) أي أجابه في دعائه وصرف عنه كيدهن إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده ودعاء عبده وصفيه يوسف عليه‌السلام العليم بأحوال وأعمال عباده ومنهم عبده يوسف. ولذا استجاب له فطمأنه وأذهب الألم ألم الخوف من نفسه ، وله الحمد والمنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان طبيعة الإنسان في حب الاطلاع وتتبع الأخبار.

٢ ـ رغبة الإنسان في الثأر لكرامته ، وما يحميه من دم أو مال أو عرض.

٣ ـ ضعف النساء أمام الرجال ، وعدم قدرتهن على التحمل كالرجال.

٤ ـ إيثار يوسف عليه‌السلام السجن على معصية الله تعالى وهذه مظاهر الصديقية.

٥ ـ الجهل بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ووعده ووعيده وشرعه هو سبب كل الجرائم في الأرض.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

شرح الكلمات :

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ) : أي ظهر لهم.

(الْآياتِ) : أي الدلائل على براءة يوسف.

(أَعْصِرُ خَمْراً) : أي أعصر عنبا ليكون خمرا.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ) : أي دين.

(ما كانَ لَنا) : أي ما انبغى لنا ولا صح منّا.

(أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) : أي أن أشرك بالله شيئا من الشرك وإن قل ولا من الشركاء وإن عظموا أو حقروا.

(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) : أي ذلك التوحيد والدين الحق.

(وَعَلَى النَّاسِ) : إذ جاءتهم الرسل به ولكنهم ما شكروا فلم يتبعوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن يوسف عليه‌السلام وما حدث له بعد ظهور براءته من تهمة امرأة العزيز قال تعالى (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ثم ظهر للعزيز ومن معه من بعد ما رأوا الدلائل الواضحة على براءة يوسف وذلك كقدّ القميص من دبر ونطق الطفل وحكمه في القضية بقوله (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) الخ وهي أدلة كافية في براءة يوسف إلا أنهم رأوا سجنه إلى حين (١) ما ، أي ريثما تسكن النفوس وتنسى الحادثة ولم يبق لها ذكر بين الناس. وقوله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ (٢) فَتَيانِ) أي فقرروا سجنه وادخلوه السجن ودخل معه فتيان أي خادمان كانا يخدمان ملك البلاد بتهمة (٣) وجهت إليهما. وقوله تعالى (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وكان هذا الطلب منهما بعد أن أعجبا بسلوكه مع أهل السجن وحسن معاملته وسألاه عن معارفه فأجابهم

__________________

(١) ذكر للحين آماد مختلفة : فقد قيل : ستة أشهر ، وقيل : ثلاثة عشر شهرا وقيل : تسع سنين ، وما في التفسير أصح تلك الأقوال.

(٢) رضي بالسجن ولم يرض ارتكاب الفاحشة لعصمة الله تعالى له ، ومن هنا قال العلماء : لو أكره مؤمن على الفاحشة أو السجن لتعيّن عليه أن يدخل السجن ولا يرتكب الفاحشة.

(٣) هذه التهمة هي : تآمرهما على قتل الملك بوضع سمّ في طعامه أو شرابه ، وفعلا كان الطاهي قد وضع سما في الطعام وأعطى حيوانا فمات لفوره ، ومن ثمّ أدخلا السجن معا نظرا للحكم عليهما.

بأنه يعرف تعبير الرؤيا فعندئذ قالا هيا نجربه فندعي (١) أنا رأينا كذا وكذا وسألاه فأجابهما بما أخبر تعالى به في هذه الآيات : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ (٢) أَنْ يَأْتِيَكُما) واللفظ محتمل لما يأتيهما في المنام أو اليقظة وهو لما علمه الله تعالى يخبرهما به قبل وصوله إليهما وبما يؤول إليه. وعلل لهما مبيّنا سبب علمه هذا بقوله (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي (٣) تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وهم الكنعانيون والمصريون إذ كانوا مشركين يعبدون الشمس وغيرها ، تركت ملة الكفر واتبعت ملة الإيمان بالله واليوم الآخر ملة آبائي ابراهيم واسحق ويعقوب ، ثم واصل حديثه معهما دعوة لهما إلى الإيمان بالله والدخول في الإسلام فقال (ما كانَ لَنا) أي ما ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء فنؤمن به ونعبده معه ، ثم أخبرهما أن هذا لم يكن باجتهاد منهم ولا باحتيال ، وإنما هو من فضل الله تعالى عليهم ، فقال ذلك من فضل الله علينا ، (٤) وعلى الناس إذ خلقهم ورزقهم وكلأهم ودعاهم إلى الهدى وبيّنه لهم ولكن أكثر الناس لا يشكرون (٥) فهم لا يؤمنون ولا يعبدون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ دخول يوسف السجن بداية أحداث ظاهرها محرق وباطنها مشرق.

٢ ـ دخول السجن ليس دائما دليلا على أنه بيت المجرمين والمنحرفين إذ دخله صفي لله تعالى يوسف عليه‌السلام.

٣ ـ تعبير الرؤى تابع لصفاء الروح وقوة الفراسة وهي في يوسف علم لدني خاص.

٤ ـ استغلال المناسبات للدعوة إلى الله تعالى كما استغلها يوسف عليه‌السلام.

٥ ـ وجوب البراءة من الشرك وأهله.

٦ ـ اطلاق لفظ الآباء على الجدود إذ كل واحد هو أب لمن بعده.

__________________

(١) روي أنه قال لهما : فما رأيتما؟ فقال الخباز : رأيت كأنّي اختبزت في ثلاثة تنانير وجعلته في ثلاث سلال فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منهن ، وقال الآخر رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض فعصرتهن في ثلاث أوان ، ثمّ صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى هذا معنى قوله : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً).

(٢) أي : بتفسيره في اليقظة ، فقالا له : هذا من فعل العرّافين والكهنة فردّ عليهما قائلا : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)

(٣) لمّا ردّ عليهما بقوله : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) علّل له بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ.).

(٤) إذ جعلنا أنبيّاء ورسلا ندعوا الناس إلى عبادة ربهم ، وتوحيده فيها ليكملوا عليها ويسعدوا في الدارين.

(٥) أي : لا يعرفون نعمة الله تعالى عليهم بإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين فلذا هم لا يعبدون الله ولا يوحدونه فيها.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

شرح الكلمات :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) : أي يا صاحبي في السجن وهما الفتيان صاحب طعام الملك وصاحب شرابه.

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) : أي آلهة متفرقون هنا وهناك أي في ذواتهم وصفاتهم وأماكنهم.

(مِنْ دُونِهِ) : أي من دون الله سبحانه وتعالى.

(إِلَّا أَسْماءً) : أي مجرد اسم إله ، وإلا في الحقيقة هو ليس بإله إنما هو صنم.

(ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) : أي لم يأمر الله تعالى بعبادتها بأي نوع من أنواع العبادة.

(فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) : أي يسقي سيده الذي هو ملك البلاد شراب الخمر.

(فَيُصْلَبُ) : يقتل مصلوبا على خشبة كما هي عادة القتل عندهم.

(قُضِيَ الْأَمْرُ) : أي فرغ منه وبتّ فيه.

(ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) : أي أيقن إنه محكوم ببراءته.

(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) : أي أذكرني عند الملك بأني مسجون ظلما بدون جريمة.

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) : أي أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه تعالى.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في السجن لقد سبق أن استعبر الفتيان يوسف رؤياهما أي طلبا منه أن يعبرها لهما لما علما منه أنه يعبر الرؤى غير أن يوسف استغل الفرصة وأخذ يحدثهما عن أسباب علمه بتعبير الرؤى وأنه تركه لملّة الكفر وإيمانه بالله تعالى وحده وأنه في ذلك متّبع ملة آبائه ابراهيم واسحق ويعقوب ، وانه لا ينبغي لهم أن يشركوا بالله وفي هذا تعريض بما عليه أهل السجن من الشرك بالله تعالى بعبادة الأصنام ، وواصل حديثه داعيا إلى الله تعالى فقال ما أخبر به تعالى في هذا السياق (يا صاحِبَيِ (١) السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فخاطب صاحبيه يا صاحبي السجن أخبراني واصدقاني : آرباب أي آلهة متفرقون هنا وهناك ، هذا صنم وهذا كوكب ، وهذا إنسان ، وهذا حيوان ، وهذا لونه كذا وهذا لونه كذا خير أم الله الواحد في ذاته وصفاته القهار لكل ما عداه من سائر المخلوقات ، ولم يكن لهم من جواب سوى (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) إن العقل يقضي بهذا. ثم خاطب أهل السجن كافة فقال (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) (٢) أي من دون الله الواحد القهار (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) إنها مجرد أسماء لا غير إذ كونكم تطلقون لفظ إله أو رب على صنم أو كوكب مرسوم له صورة لا يكون بذلك ربّا وإلها إن الرب هو الخالق الرازق المدبر أما المخلوق المرزوق الذي لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه فضلا عن غيره فإطلاق الربّ والإله عليه كذب وزور ، إنّها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان (٣) حجة ولا برهانا فتعبد لذلك بحكم أن الله أمر بعبادتها. ثم قال لهم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم إلا لله ، وقد حكم بأن لا يعبد إلا هو ، إذا فكل عبادة لغيره

__________________

(١) أطلق لفظ الصحبة لطول مكثهما في السجن كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وأصحاب النار. وذلك لطول المقام فيهما.

(٢) بيّن بذلك عجز تلك الآلهة الباطلة.

(٣) أي : من حجّة تحكم بمشروعية عبادتها كما تفعلون.

هي باطلة يجب تركها والتخلي عنها ، ذلك الدين القيم أخبرهم أن عبادة الله وحده وترك عبادة غيره هي الدين القويم والصراط المستقيم إلا أن أكثر الناس لا يعلمون فجهلهم بمعرفة ربهم الحق الذي خلقهم ورزقهم ويدبر حياتهم وإليه مرجعهم هو الذي جعلهم يعبدون ما ينحتون ويؤلهون ما يصنعون. ولما فرغ من دعوته إلى ربّه التفت إلى من طلبا منه تعبير رؤياهما فقال : ما أخبر تعالى به عنه (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي سيطلق سراحه (١) ويعود إلى عمله عند الملك فيسقيه الخمر كما كان يسقيه من قبل ، وأما الآخر وهو طباخ الملك المتهم بأنه أراد أن يضع في طعام الملك السم ليقتله ، فيصلب فتأكل الطير من رأسه بعد صلبه. وهنا قالا : إننا لم نر شيئا وإنما سألناك لنجربك لا غير فرد عليهما قائلا (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي فرغ منه وبت فيه رأيتما أم لم تريا. ثم قال للذي ظن أنّه ناج منهما ما أخبر تعالى به عنه (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) (٢) أي عند سيدك وكانوا يطلقون على السيد المالك لفظ الربّ. فأنساه الشيطان ذكر ربّه (٣) أي أنسى الشيطان يوسف عليه‌السلام ذكر ربّه تعالى حيث التفت بقلبه إلى الخادم والملك ونسى الله تعالى فعاقبه ربّه الحق فلبث في السجن بضع سنين أي سبع سنوات عدا ،

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب اغتنام الفرص للدعوة إلى الله تعالى.

٢ ـ تقرير التوحيد عن طريق أحاديث السابقين.

٣ ـ لا حكم في شيء إلا بحكم الله تعالى فالحق ما أحقه الله والباطل ما أبطله والدين ما شرعه.

٤ ـ مشروعية الاستفتاء في كل مشكل من الأمور.

__________________

(١) أي : بعد ثلاثة أيام ، وكذلك كان.

(٢) إطلاق لفظ الربّ على السيد كان عند من قبلنا أمّا نحن أمّة الإسلام ، فقد نهينا عن ذلك ، روى مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يقل أحدكم : اسق ربّك أطعم ربّك وضىء ربك ، ولا يقل أحدكم : ربّي ، وليقل سيّدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل : فتاي فتاتي غلامي).

(٣) عجبا لبعض المفسرين كيف يرجعون الضمير في قوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) إلى الفتى الخادم ، ولم يرجعوه إلى يوسف عليه‌السلام كما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره ، إذ لو كان الضمير يصحّ رجوعه إلى الخادم لكان النظم القرآني هكذا : فأنساه الشيطان ذكر يوسف عند ربّه فلبث في السجن.

٥ ـ غفلة يوسف عليه‌السلام بإقباله على الفتى وقوله له اذكرني عند ربك ناسيا مولاه الحق ووليه الذي أنجاه من القتل وغيابة الجب ، وفتنة النساء جعلته يحبس في السجن سبع سنين.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦))

شرح الكلمات :

(الْمَلِكُ) : ملك مصر الذي العزيز وزير من وزرائه واسمه الريان بن الوليد.

(سَبْعٌ عِجافٌ) : هزال غير سمان.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) : أيها الأشراف والأعيان من رجال الدولة.

(أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) : أي عبروها لي.

(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : أي أخلاط أحلام كاذبة لا تعبير لها إلا ذاك.

(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) : أي وتذكر بعد حين من الزمن أي قرابة سبع سنين.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) : أي يا يوسف أيها الصديق أي يا كثير الصدق علم ذلك منه في السجن.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في محنته إنه لما قارب الفرج أوانه رأى

ملك مصر رؤيا أهالته وطلب من رجال دولته تعبيرها ، وهو ما أخبر تعالى به في هذه الآيات إذ قال عزوجل : (وَقالَ الْمَلِكُ) أي ملك البلاد (إِنِّي أَرى) أي في منامي (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) بقرات (عِجافٌ) (١) أي مهازيل في غاية الهزال. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ) أي سنبلات يابسات. ثم واجه رجال العلم والدولة حوله وقد جمعهم لذلك فقال (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي تؤولون. فأجابوه بما أخبر تعالى عنهم بقوله (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) (٢) أي رؤياك هذه هي من أضغاث الأحلام التي لا تعبر ، إذ قالوا (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) والمراد من الأضغاث الأخلاط وفي الحديث الصحيح «الرؤيا من الرحمن والحلم من الشيطان». وقوله تعالى (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي من صاحبي السجن ، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (٣) أي وتذكر ما أوصاه به يوسف وهو يودعه عند باب السجن إذ قال له (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) بعد حين من الزمن قرابة سبع سنوات. قال ما أخبر تعالى به عنه (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي إلى يوسف في السجن فإنه أحسن من يعبر الرؤى فأرسلوه فدخل عليه وقال ما أخبر به تعالى عنه في قوله (يُوسُفُ) أي يا يوسف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) وقوله (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أي الملك ورجاله (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ما تعبرها به أنت فينتفعون بذلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الرؤيا الصالحة يراها الكافر والفاسق.

٢ ـ الرؤى نوعان حلم من الشيطان ، ورؤيا من الرحمن.

٣ ـ النسيان من صفات البشر.

٤ ـ جواز وصف الإنسان بما فيه من غير إطراء كقوله أيها الصديق.

٥ ـ لعل تكون بمعنى كي التعليلية.

__________________

(١) (عِجافٌ) جمع عجفاء من عجف يعجف كعظم يعظم ، والعجاف ، المهاذيل والهزال في الحيوان : الضعف لقلة الشحم واللحم.

(٢) الأضغاث : جمع ضغث والضّغث في اللغة : الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ ، والأحلام : الرؤيا المختلطة ، وما لا تأويل له من الرؤى.

(٣) قرئ : وادّكر بعد أمة بفتح الهمزة وتخفيف الميم أي : بعد نسيان يقال : أمه أمها إذا نسي ، قال الشاعر :

أمهت وكنت لا أنسى حديثا

كذاك الدهر يودي بالعقول

(وَادَّكَرَ) اصلها : واذدكر ، فأبدلت التاء دالا ، ثم ادغمت الذال في الدال فصارت : وادكر ، وذلك لمناسبتين الأولى : لقرب مخرج التاء من الذال والثانية : رخاوة الدال ولينها فحصل الإدغام لذلك.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(دَأَباً) : أي متتابعة على عادتكم.

(فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) : أي اتركوه في سنبله لا تدرسوه.

(سَبْعٌ شِدادٌ) : أي صعاب قاسية لما فيها من الجدب.

(مِمَّا تُحْصِنُونَ) : أي تحفظونه وتدخرونه للبذر والحاجة.

(يُغاثُ النَّاسُ) : أي يغيثهم ربهم بالأمطار وجريان النيل.

(وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) : أي ما من شأنه أن يعصر كالزيتون والعنب وقصب السكر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قالَ تَزْرَعُونَ) إلى آخره هو جواب يوسف للذي استفتاه أي طلب منه تعبير رؤيا الملك قال له في بيان تأويل الرؤيا تزرعون بمعنى ازرعوا سبع سنين دأبا أي (١) متتالية كعادتكم في الزرع كل سنة وهي تأويل السبع البقرات السمان ، فما حصدتم من زروع فذروه في سنبله أي اتركوه بدون درس حتى لا يفسد (٢) إلا قليلا مما تأكلون أي فادرسوه لذلك. ثم يأتي بعد ذلك أي من بعد المخصبات سبع (٣) شداد أي مجدبات صعاب وهي

__________________

(١) (دَأَباً) : أي : متتالية متتابعة وهي مصدر على غير معناه لأنّ معنى تزرعون تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقرئ دأبا بسكون الهمزة وأصل الدأب : العادة ، ومنه قول الشاعر :

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل

(٢) أي : بأكل السوس له.

(٣) هذه الآية دليل على مشروعية المصالح الشرعية المرسلة ، التي هي حفظ الأديان ، والنفوس ، والعقول ، والأنساب ، والأموال ، فكل ما تضمّن تحصيل شيء من هذه الكليات الخمس فهو مصلحة ، وكل ما يفوّت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة ، ولا خلاف أن مقصود الشارع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية. على هذا أهل السنة والجماعة.

تأويل السبع البقرات العجاف يأكلن ما قدمتم لهن أي من الحبوب التي احتفظتم بها من السبع المخصبات يريد تأكلونه فيهن إلا قليلا مما تحصنون (١) أي تدخرونه للبذور ونحوه. ثم يأتي (بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ (٢) يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يأتي من بعد السبع السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس بالمطر وفيه يعصرون العنب والزيت وكل ما يعصر لوجود الخصب فيه. وقوله ثم يأتي من بعد ذلك عام الخ. هذا لم تدل عليه الرؤيا وإنما هو مما علّمه الله تعالى يوسف فأفادهم به من غير ما سألوه ذلك إحسانا منه ولحكمة عالية أرادها الله تعالى. وهو الحكيم العليم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ أرض مصر أرض فلاحة وزراعة من عهدها الأول.

٢ ـ الاحتفاظ بالفائض في الصوامع وغيرها مبدأ اقتصادي هام ومفيد.

٣ ـ كمال يوسف في حسن تعبير الرؤى شيء عظيم.

٤ ـ فضل يوسف عليه‌السلام على أهل مصر حيث أفادهم بأكثر مما سألوا.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢))

__________________

(١) (تُحْصِنُونَ) : أي : تحبسونه وتخزنونه لتزرعوه وفي هذه دليل على رؤيا الكافر وأنّه قد يرى ما هو حق ، وذلك بتدبير الله تعالى.

(٢) يقال : غوّث الرجل : إذا قال : واغوثاه ، والاسم الغوث ، والغواث واستغاثه فأغاثه إغاثة والاسم الغياث ، والغيث : المطر.

شرح الكلمات :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) : أي بيوسف.

(فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) : أي مبعوث الملك.

(ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) : أي سيدك.

(ما بالُ النِّسْوَةِ) : ما حالهن.

(ما خَطْبُكُنَ) : ما شأنكن.

(حاشَ لِلَّهِ) : أي تنزيها لله تعالى عن العجز أن يخلق بشرا عفيفا.

(حَصْحَصَ الْحَقُ) : وضح وظهر الحق.

معنى الآيات :

إن رؤيا الملك كانت تدبيرا من الله تعالى لإخراج يوسف من السجن إنه بعد أن رآى الملك الرؤيا وعجز رجاله عن تعبيرها وتذكّر أحد صاحبي السجن ما وصّاه به يوسف ، وطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف في السجن ليستفتيه في الرؤيا وأرسلوه واستفتاه فأفتاه وذهب به إلى الملك فأعجبه التعبير وعرف مدلوله أمر بإحضار يوسف لإكرامه لما ظهر له من العلم والكمال وهو ما أخبر تعالى به في قوله (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي يوسف (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) أي جاء يوسف رسول الملك وهو صاحبه الذي كان معه في السجن ونجا من العقوبة وعاد إلى خدمة الملك فقال له إن الملك يدعوك فقال له عد إليه (١) واسأله (ما بالُ النِّسْوَةِ (٢) اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي قل له يسأل عن حال النسوة اللائي قطعن أيديهن والمرأة التي اتهمتني فجمع الملك النسوة وسألهن قائلا ما خطبكن (٣) إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ فأجبن قائلات حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي ننزه الله تعالى أن يعجز أن يخلق بشرا عفيفا مثل هذا. ما علمنا عليه من سوء.

__________________

(١) أبى أن يخرج إلّا أن تصحّ براءته للملك مما قذف به وأنّ حبسه كان بلا جرم روى الترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم. قال : لو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت) وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ، ونحن أحق من ابراهيم إذ قال له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

(٢) ذكر النسوة جملة : حتى لا يؤذي امرأة العزيز لو خصها بالذكر إكراما منه وحلما ، وكمالا خلقيا وإلّا فالمراد زليخا.

(٣) قوله (ما خَطْبُكُنَ) : جرى فيه على سنّة يوسف إذ خاطب النسوة كافة ولم يفرد زليخا وهذا أيضا من باب الستر متى أمكن ولم تحوج الحال إلى التعيين والكشف.

وهنا قالت امرأة العزيز زليخا ما اخبر تعالى به عنها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) (١) أي وضح وبان وظهر (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وليس هو الذي راودني ، (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وقوله تعالى (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) هذا إخبار عن يوسف عليه‌السلام فإنه قال ذلك أي امتناعي من الخروج من السجن وعدم إجابتي الملك وطلبي إليه أن يسأل عن حال النسوة حتى تم الذي تم من براءتي على لسان النسوة عامة ، وامرأة العزيز خاصة حيث اعترفت قطعيا ببراءتي وقررت أنها هي التي راودتني عن نفسي فأبيت ورفضت فعلت هذا ليعلم زوجها العزيز أني لم أخنه في أهله في غيبته وأن عرضه مصان وشرفه لم يدنس لأنه ربي أحسن مثواي. وإن الله لا يهدي كيد الخائنين فلو كنت خائنا ما هداني لمثل هذا الموقف المشرف والذي أصبحت به مبرأ الساحة سليم العرض طاهر الثوب والساحة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل العلم وشرفه إذ به رفع الملك يوسف إلى حضرته وهو رفيع.

٢ ـ فضيلة الحلم والأناة وعدم التسرع في الأمور.

٣ ـ فضيلة الصدق وقول الحق ولو كان على النفس.

٤ ـ شرف زليخا (٢) بإقرارها بذنبها رفعها مقاما ساميا وأنزلها درجة عالية فقد تصبح بعد قليل زوجة لصفي الله يوسف الصديق بن الصديق زوجة له في الدنيا وزوجة له في الآخرة وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

__________________

(١) (حَصْحَصَ) أي : تبيّن وظهر ، وأصله : حصص فقيل : حصحص ، نحو : كفكف في كفف ، وأصل الحصّ :

استئصال الشيء من حص الشعر : إذا استأصله جزا ، قال الشعر :

قد حصّت البيضة رأسي فما

أطعم نوما غير تهجاع

أي : النوم الخفيف ، ومنه الحصّة : القطعة من الشيء ، فالمعنى إذا بانت حصة الحق من حصة الباطل.

(٢) ذهبت في التفسير مذهب إمام المفسرين ابن جرير رحمه‌الله تعالى وكثير من علماء السلف إلى أنّ القائل : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب إلى قوله غفور رحيم) هو يوسف عليه‌السلام : أي : إنه لما جاء الرسول يدعوه إلى حضرة الملك أبى أن يجيب الدعوة حتى يحقق الملك في قضيته التي سجن فيها ثمّ بعد ذلك يخرج. ودعا الملك النسوة وحقق معهن وبرأن يوسف بقولهن : ما علمنا عليه من سوء ، وقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين كأن سائلا قال ليوسف : لم لم تجب الداعي؟ فأجاب : ذلك أي : فعلت ذلك ليعلم أي : العزيز : أنّي لم أخنه بالغيب ، ثم قال تواضعا : وما أبرّئ نفسي إذ همّ بضرب زليخا لما ألحت عليه وأرادت ضربه.

وذهبت إلى هذا مرجحا له لأمرين الأول : ترجيح إمام المفسرين له والثاني : أنّى لتلك المرأة المشركة أن ترقى إلى هذا المستوى فتقول : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم. إنّ هذا الكلام لا يجري إلا على لسان الأنبياء والصالحين.

ومع هذا فمن رجّح أن يكون القول قول زليخا كابن القيم رحمه‌الله تعالى فلا بأس ، ويجب على الجميع أن يقول الله أعلم ، إذ قولنا مجرد ارتئاء رأيناه والعلم الحق لله وحده لا شريك له.

الجزء الثالث عشر

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

شرح الكلمات :

(لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) : أي كثيرة الأمر والسوء هو ما يسيء إلى النفس البشرية مثل الذنوب.

(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) : أي إلا من رحمه‌الله فإن نفسه لا تأمر بالسوء لطيبها وطهارتها.

(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) : أجعله من خلصائي من أهل مشورتي وأسراري.

(مَكِينٌ أَمِينٌ) : أي ذو مكانة تتمكن بها من فعل ما تشاء ، أمين مؤتمن على كل شيء عندنا.

(خَزائِنِ الْأَرْضِ) : أي خزائن الدولة في أرض مصر.

(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) : أي أحافظ على ما تسنده إليّ واحفظه ، عليم بتدبيره.

(يَتَبَوَّأُ) : أي ينزل ويحل حيث يشاء بعد ما كان في غيابة الجب وضيق السجن.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث على يوسف عليه‌السلام فقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا من قول يوسف عليه (١)

__________________

(١) على ما رجحته في التفسير. وعلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم فهو من قول امرأة العزيز.

السّلام ، إذ قال لما طلب إلى الملك أن يحقق في قضية النسوة اللاتي قطعن أيديهن وامرأة العزيز وتم التحقيق بالإعلان عن براءة يوسف مما اتهم به قال ذلك ، أي فعلت ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وهضما لنفسه من جهة ومن جهة أخرى فقد همّ بضرب زليخا كما تقدم ، قال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) وعلل لذلك فقال (إِنَّ النَّفْسَ) أي البشرية (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) (١) إلا نفسا رحمها ربي بتوفيقها إلى تزكيتها وتطهيرها بالإيمان وصالح الأعمال فإنها تصبح نفسا مطمئنة تأمر بالخير وتنهى عن الشر ، (٢) وقوله : (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ذكر هذه الجملة تعليلا لقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) فذكر وإن حصل منيّ هم بضرب وهو سوء فإني تبت إلى الله ، والله غفور أي يعفو ويصفح فلا يؤاخذ من تاب إليه ويرحمه فإنه رحيم بالمؤمنين من عباده. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٣) أما الآية الثانية (٥٤) والثالثة (٥٥) فقد تضمنت استدعاء الملك ليوسف وما دار من حديث بينهما إذ قال تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ) الريان بن الوليد (ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف بعد أن ظهر له علمه وكماله الروحي (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي أجعله خالصا لي استشيره في أمري واستعين به على مهام ملكي وجاء يوسف من السجن وجلس إلى الملك وتحدث معه وسأله عن موضوع سني الخصب والجدب فأجابه بما أثلج صدره من التدابير الحكيمة السديدة وهنا قال له ما أخبر تعالى به قال له : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي ذو مكانة عندنا تمكنك من التصرف في البلاد كيف تشاء أمين على كل شيء عندنا فأجابه يوسف بما أخبر به تعالى بقوله : (قالَ اجْعَلْنِي (٣) عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي أرض مصر ومعنى هذا أنه حل محل العزيز الذي قد مات في تلك الأيام. وعلل لطلبه وزارة المال والاقتصاد بقوله : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي حفيظ على ما أتولى تدبيره عليم بكيفية الإدارة وتدبير الشؤون. وقوله تعالى في الآية الرابعة (٥٦) : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي بمثل هذه الأسباب

__________________

(١) (ما رَحِمَ) ما : بمعنى : من ، وهي شائعة الاستعمال ، من ذلك : فانكحوا ما طاب لكم. أي : من طبن لكم من النساء.

(٢) وبذلك يتمّ عصمتها بإذن الله تعالى.

(٣) قال بعض أهل العلم : في الآية دليل على جواز عمل الرجل الصالح للرجل الكافر أو الفاجر إذا كان ذلك لا يضرّ بدينه. وهو كذلك ، وفيها دليل على جواز ذكر طالب العمل كفاءته العلمية حتى يسند إليه العمل على أن يكون صادقا في ذلك. وليس هذا من باب : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ولا هو من باب طلب الإمارة حيث قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن نستعمل على عملنا هذا من أراده» رواه مسلم.

والتدابير مكنا ليوسف في أرض مصر يتبوأ منها أي ينزل حيث يشاء يتقلب فيها أخذا وعطاء وإنشاء وتعميرا لأنه أصبح وزيرا مطلق التصرف. وقوله تعالى : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي رحمته من عبادنا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ، وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإحسان بتوفيتهم أجورهم ، ويوسف عليه‌السلام من شاء الله رحمتهم كما هو من أهل الإحسان الذين يوفيهم الله تعالى أجورهم في الدنيا والآخرة ، وأخبر تعالى أن أجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ، ترغيبا في الإيمان والتقوى إذ بهما تنال ولاية الله تعالى عزوجل إذ أولياؤه هم المؤمنون المتقون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة هضم النفس باتهامها بالنقص والتقصير.

٢ ـ تحقيق الحكمة القائلة : المرء مخبوء تحت لسانه.

٣ ـ جواز ذكر المرشّح للعمل كحذق الصنعة ونحوه ولا يعد تزكية للنفس.

٤ ـ فضيلة الإحسان في المعتقد والقول والعمل.

٥ ـ فضل الإيمان والتقوى.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

شرح الكلمات :

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) : من أرض كنعان لما بلغهم أن ملك مصر يبيع الطعام.

(وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) : أي غير عارفين أنه أخوهم.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) : أي أكرمهم وزودهم بما يحتاجون إليه في سفرهم بعد ما كال لهم ما ابتاعوه منه.

(بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) : هو بنيامين لأنه لم يجىء معهم لأن والده لم يقدر على فراقه.

(سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) : أي سنجتهد في طلبه منه.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) : أي غلمانه وخدمه.

(بِضاعَتَهُمْ) : أي دراهمهم التي جاءوا يمتارون بها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن قصة يوسف عليه‌السلام وتتبع أحداثها ، إنه بعد أن ولي يوسف أمر الوزارة ومرت سنوات الخصب وجاءت سنوات الجدب فاحتاج أهل أرض كنعان الى الطعام كغيرهم فبعث يعقوب عليه‌السلام بنيه يمتارون وكانوا عشرة رجال بعد أن علم أن ملك مصر يبيع الطعام ، قال تعالى مخبرا عن حالهم : (وَجاءَ إِخْوَةُ (١) يُوسُفَ) أي من أرض كنعان (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لم يعرفوه لتغيره بكبر السن وتغير أحواله (٢) وقوله تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) (٣) أي كال لهم وحمّل لكل واحد بعيره بعد أن أكرمهم غاية الإكرام (قالَ ائْتُونِي) (٤) (بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ولا شك أنه قد سألهم عن أحوالهم فأخبروه عن أبيهم وأولاده بالتفصيل فلذا قال لهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وهو بنيامين ورغبهم في ذلك يقوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي خير المضيفين لمن نزل عليهم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ). بعد هذا الإلحاح عليهم أجابوه بما أخبر تعالى به عنهم بقوله : (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي سنبذل جهدنا في طلبه

__________________

(١) جاءوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليميروا.

(٢) ولطول المدة إذ مضى عليهم يوم فارقوه أربعون سنة.

(٣) الجهاز بالفتح والكسر : ما يحتاج إليه المسافر والمراد به : الطعام الذي امتاروه من عنده.

(٤) سبب طلب يوسف أخاهم أنه كان معهم أحد عشر بعيرا وهم عشرة وقالوا ليوسف : إنّ لنا أخا تخلف عنا ، وبعيره معنا ، فسألهم لم تخلّف؟ فقالوا : لحب أبيه إيّاه وذكروا له القصة وما جرى فيها ، وهنا قال لهم : إن رجعتم للميرة مرّة أخرى فأتوني بأخ لكم من أبيكم ، ورغّبهم في ذلك وحذّرهم من أن يأتوا بدونه فإنه لا يبيعهم الطعام الذي هو حاجتهم.

حتى نأتي به ، (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) كما أخبرناك.

وقوله تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ (١) اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) يخبر تعالى عن قيل يوسف لغلمانه اجعلوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في رحالهم من حيث لا يشعرون (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها (٢) إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣) كل هذا كان رغبة من يوسف في إحضار أخيه الشقيق فجعل رد الدراهم وسيلة لذلك لأنهم إذا وجدوها تحرجوا من أخذها فرجعوا بها. وجاءوا بأخيهم معهم ، وهو مطلب يوسف عليه‌السلام حققه الله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عجيب تدبير الله تعالى إذ رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وظهورها كما عبرها كان تدبيرا لولاية يوسف ثم لمجيء إخوته يطلبون الطعام لأهليهم ولتتم سلسلة الأحداث الآتية ، فلا إله إلا الله ، ولا رب سواه.

٢ ـ حسن تدبير يوسف عليه‌السلام للإتيان بأخيه بنيامين تمهيدا للإتيان بالأسرة كلها.

٣ ـ أثر الإيمان في السلوك ، إذ عرف يوسف أن أخوته لا يستحلون أكل مال بغير حقه فجعل الدراهم في رحالهم ليرجعوا بها ومعهم أخوهم الذي يريد إحضاره.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا

__________________

(١) قرىء : (لِفِتْيانِهِ) ولفتيته قراءتان سبعيتان نحو : صبية وصبيان.

(٢) قال لعلهم يعرفونها : إذ من الجائز أن لا تسلم لهم بضاعتهم بأن تؤخذ منهم في الطريق مثلا.

(٣) من الجائز أن يكون ردّ البضاعة إلى إخوته لأنه كره أن يأخذها من أبيه وإخوته ، ومن الجائز أن يكون ردّها إليهم لعلمه أنهم لا يأكلون الطعام بغير حقّه فسيرجعون بها ، وهو المراد.

ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))

شرح الكلمات :

(مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) : أي منع الملك منا الكيل حتى نأتيه بأخينا.

(نَكْتَلْ) : أي نحصل على الكيل المطلوب.

(عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) : أي كما أمنتكم على يوسف من قبل وقد فرطتم فيه.

(ما نَبْغِي) : أي أي شيء نبغي.

(وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) : أي بدل ما كنا عشرة نصبح أحد عشر لكل واحد حمل بعير.

(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) : أي على الملك لغناه وطوله فلا يضره أن يزيدنا حمل بعير.

(مَوْثِقاً) : أي عهدا مؤكدا باليمين.

(إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) : أي تهلكوا عن آخركم.

(مِنْ شَيْءٍ) : أي أراد الله خلافه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته قال تعالى مخبرا عن رجوع إخوة يوسف من مصر إلى أرض كنعان بفلسطين : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ) أي يعقوب عليه

السّلام (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي منع (١) منا ملك مصر الكيل إلا أن نأتي بأخينا بنيامين (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ (٢) وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أن يناله مكروه بحال من الأحوال. فأجابهم يعقوب عليه‌السلام بما أخبر تعالى عنه بقوله : (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) أي ما آمنكم عليه (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) يعني يوسف لما ذهبوا به إلى البادية. (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٣) جرى هذا الحديث بينهم عند وصولهم وقبل فتح أمتعتهم ، وأما بعد فتحها فقد قالوا ما أخبر تعالى به في قوله : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) أي دراهمهم (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) أي فأرسل معنا أخانا نذهب به الى مصر (وَنَمِيرُ) (٤) (أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) لأن الملك المصري لا يبيع للنفر الواحد الا حمل بعير نظرا لحاجة الناس إلى الطعام في هذه السنوات الصعبة للجدب العام في البلاد. فأجابهم يعقوب بما قال تعالى عنه (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي حتى تعطوني عهدا مؤكدا باليمين على أن تأتوني به (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) (٥) بعدو ونحوه فتهلكوا جميعا فأعطوه ما طلب منهم من عهد وميثاق ، قال تعالى : (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي شهيد عليّ وعليكم ، أي فأشهد الله تعالى على عهدهم. ولما أرادوا السفر إلى مصر حملته العاطفة الأبوية والرحمة الإيمانية على أن قال لهم ما أخبر تعالى عنه : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أي لا تدخلوا وأنتم أحد عشر رجلا من باب واحد فتسرع إليكم العين ، (٦) وإنما ادخلوا من عدة أبواب فلا

__________________

(١) إذ قال لهم : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).

(٢) أصل (نَكْتَلْ) : نكتال فحذفت الألف لسكون اللام بالجازم وقرىء بالياء يكتل : أي أخوهم بنيامين.

(٣) وقرىء : خير حفظا قراءة سبعية.

(٤) (نَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب لهم الطعام قال الشاعر :

بعثتك مائرا فمكثت حولا

متى يأتي غياثك من تغيث

(٥) أي : تهلكوا أو تموتوا وإلّا أن تغلبوا عليه.

(٦) في الآية دليل على ما يلي :

أ ـ على التحرّز من العين ، والعين حق لحديث : (إنّ العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر) ولتعوذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها في غير حديث.

ب ـ على المسلم إن أعجبه شيء أن يبرّك ، لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ألا برّكت)!! والتبريك أن يقول : تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه.

ج ـ إذا أصاب العبد بعينه لأنّه لم يبرّك فإنه يؤمر بالاغتسال ويجبر عليه.

د ـ إذا عرف المرء بأذاه للناس بعينه يبعد عنهم وجوبا.

ترون جماعة واحدة أبناء رجل واحد فلا تصيبكم عين الحاسدين ثم قال : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهو كذلك (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فما شاءه كان. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي فوضت أمري إليه (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي فليفوض إليه المتوكلون أمورهم لأنه الكافي ولا كافي على الحقيقة إلا هو عز جاره وعظم سلطانه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مدى توكل يعقوب عليه‌السلام على الله وثقته في ربّه عزوجل ، ومعرفته بأسمائه وصفاته ، وكيف لا وهو أحد أنبياء الله ورسله عليهم‌السلام.

٢ ـ جواز أخذ العهد المؤكد في الأمور الهامة ولو على أقرب الناس كالأبناء مثلا.

٣ ـ لا بأس بتخوف المؤمن من إصابة العين وأخذ الحيطة للوقاية منها مع اعتقاد أن ذلك لا يغني من الله شيئا وأن الحكم لله وحده في خلقه لا شريك له في ذلك.

٤ ـ وجوب التوكل على الله تعالى وإمضاء العمل الذي تعيّن وتفويض أمر ما يحدث لله تعالى.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ

__________________

ـ ه ـ الاغتسال من العين : هو أن يغسل المعيان وجهه ويديه ، ومرفقيه وركبتيه ، وأطراف رجليه وداخل إزاره في إناء ثمّ يصب على المصاب بالعين فيشفى بإذن الله تعالى.

أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢))

شرح الكلمات :

(إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) : هي إرادة دفع العين عن أولاده شفقة عليهم.

(آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) : أي ضمه إليه أثناء الأكل وأثناء المبيت.

(فَلا تَبْتَئِسْ) : أي لا تحزن

(جَعَلَ السِّقايَةَ) : أي صاع الملك وهو من ذهب كان يشرب فيه ثم جعله مكيالا يكيل به.

(أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) : نادى مناد.

(أَيَّتُهَا الْعِيرُ) : أي القافلة.

(صُواعَ الْمَلِكِ) : أي صاع الملك. فالصاع والصواع بمعنى واحد.

(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) : أي بالحمل كفيل.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن إخوة يوسف فقد عهد إليهم إذا هم وصلوا إلى ديار مصر أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متعددة خشية العين عليهم ، وقد وصلوا وعملوا بوصية أبيهم فقد قال تعالى مخبرا عنهم (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) أي دخولهم من أبواب متفرقة (مِنَ اللهِ) أي من قضائه (مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً) أي لكن حاجة (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) وهي خوف العين عليهم (قَضاها) (١) أي لا غير.

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) ثناء على يعقوب أي إنه لصاحب علم وعمل لتعليمنا إياه وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) هو كما أخبر عزوجل أكثر

__________________

(١) (قَضاها) أي : أنفذها إذ القضاء : إنفاذ المحكوم به.

الناس لا يعلمون عن الله تعالى صفات جلاله وكماله ومحابه ومساخطه وأبواب الوصول إلى مرضاته والحصول على رضاه ومحبته ، وما يتقي مما يحرم على العبد من ذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٨).

أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى أن إخوة يوسف لما دخلوا عليه في منزله آواى إليه أخاه أي شقيقه وهو بنيامين ، وذلك لما جاء وقت النوم جعل كل اثنين فى غرفة وهم أحد عشر رجلا بقي بنيامين فقال هذا ينام معي ، وأنه لما آواه إليه في فراشه أعلمه أنه أخوه يوسف ، وأعلمه أن لا يحزن بسبب ما كان إخوته قد عملوه مع أبيهم ومع أخيهم يوسف وأعلمه أنه سيحتال على بقائه معه فلا يكترث بذلك ولا يخبر إخوته بشيء من هذا. هذا ما دلت عليه الآية الثانية وهي قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ (١) بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أما الآية الثالثة (٧٠) فقد تضمنت الإخبار عن تدبير (٢) يوسف لبقاء أخيه معه دونهم وذلك أنه لما جهزهم بجهازهم أي كال لهم الطعام وزودهم بما يحتاجون إليه بعد إكرامه لهم جعل بطريق خفيّ لم يشعروا به سقاية الملك وهي الصاع أو الصواع وهي عبارة عن إناء من ذهب كان يشرب فيه ثم جعل آلة كيل خاصة بالملك عرفت بصواع الملك أو صاعه. جعلها فى رحل أخيه بنيامين ، ثم لما تحركت القافلة وسارت خطوات نادى مناد قائلا أيتها العير (٣) أي يا أهل القافلة إنكم لسارقون. هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). قال تعالى إخبارا عنهم : (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) فأجابوا بقولهم : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ، وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي مكافأة له (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٤) أي وأنا بإعطائه حمل البعير كفيل.

هداية الآيات

__________________

(١) الابتئاس من البؤس الذي هو الحزن والكدر ، فالابتئاس مطاوع الابئاس أي : جعل المرء بائسا : صاحب بؤس.

(٢) قيل : إنّ بنيامين قال ليوسف : لا تردني إليهم فأجابه يوسف ودبّر كيفية إبقاء أخيه معه وكلّ ذلك بتدبير الله تعالى لهم.

(٣) العير : لفظ يطلق على ما امتير عليه من الإبل والخيل والبغال ، والحمير ، والمراد بها هنا : الإبل.

(٤) الزعيم : الكفيل ، والحميل ، والضمين ، والقبيل ، وهي بمعنى واحد سواء ، ويطلق الزعيم على الرئيس.

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل العلم وأهله.

٢ ـ تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس لا يعلمون.

٣ ـ حسن تدبير يوسف للإبقاء على أخيه معه بعد ذهاب إخوته.

٤ ـ مشروعية إعطاء المكافآت لمن يقوم بعمل معين وهي الجعالة في الفقه.

٥ ـ مشروعية الكفالة والكفيل غارم.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

شرح الكلمات :

(تَاللهِ) : أي والله.

(لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) : أي بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.

(وَما كُنَّا سارِقِينَ) : أي لم نسرق الصواع كما أنا لم نسرق من قبل متاع أحد.

(مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) : أي يأخذ بالسرقة رقيقا.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) : أي في شريعتنا.

فى وعاأ أخيه : أي فى وعاء أخيه الموجود في رحله.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) : أي يسرنا له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود.

(فِي دِينِ الْمَلِكِ) : أي في شرعه إذ كان يضرب السارق ويغرم بمثل ما سرق.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) : أي كما رفع يوسف عليه‌السلام.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن يوسف وإخوته ، إنه لما أعلن عن سرقة صواع الملك وأوقفت القافلة للتفتيش ، وأعلن عن الجائزة لمن يأتي بالصواع وأنها مضمونة هنا قال إخوة يوسف ما أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أي بالسرقة وغشيان الذنوب وإنما جئنا للميرة (١) (وَما كُنَّا سارِقِينَ) (٢) أي في يوم من الأيام. وهنا قال رجال الملك ردا على مقالتهم بما أخبر تعالى به : (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) فأجاب الإخوة بما أخبر تعالى عنهم بقوله : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) يريدون أن السارق يسترق أي يملك بالسرقة وقوله (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي في شريعتنا. وهنا أخذ يوسف بنفسه يفتش أوعية إخوته بحثا عن الصواع ، وبدأ بأوعيتهم واحدا بعد واحد وآخر وعاء وعاء أخيه بنيامين دفعا للتهمة والتواطؤ في القضية ، حتى استخرجها من وعاء أخيه الذي كان في رحله ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ (٣) وِعاءِ أَخِيهِ) وقوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي هكذا يسرنا (٤) له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود غير مذموم. وقوله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي لم يكن في شرع مصر أن يأخذ أخاه عبدا بالسرقة بل السارق يضرب ويغرم فقط ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أمرا فإنه يكون. وقوله

__________________

(١) الميرة : الطعام الذي يدّخره الإنسان.

(٢) إذ لو كانوا سارقين ما ردّوا البضاعة التي وضعت لهم في رحالهم من أجل أن يرجعوا إلى مصر ، فمن ردّ بضاعة بعد ما تمكن منها لا يكون سارقا.

(٣) الوعاء : ما يحفظ فيه الشيء ، وتضمّ واوه وتكسر ، والكسر أشهر قيل لمّا استخرج السقاية من وعاء بنيامين طأطأوا رؤوسهم حياء ، وقالوا لأخيهم بنيامين : ويلك يا بنيامين ما رأينا كاليوم قط.

(٤) قالت العلماء : يجوز للرجل أن يتصرف في ماله بالبيع والشراء والهبة والعطاء قبل حلول حول الزكاة ما لم ينو الفرار من الزكاة ، فإن حال الحول فلا يصح شيء إلا بعد إخراج الزكاة.

تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (١) أي في العلم كما رفعنا يوسف (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) (٢) من الناس (عَلِيمٌ) إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فهو العليم الذى لا أعلم منه بل العلم كله له ومنه ولولاه لما علم أحد شيئا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الحلف بالله تعالى للحاجة.

٢ ـ مشروعية دفع التهمة عن النفس البريئة.

٣ ـ معرفة حكم السرقة في شرعة يعقوب عليه‌السلام.

٤ ـ بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه.

٥ ـ بيان حكم السرقة في القانون المصري على عهد يوسف عليه‌السلام.

٦ ـ علوّ مقام يوسف عليه‌السلام في العلم.

٧ ـ تقرير قاعدة (وفوق كل ذي علم عليم) إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

__________________

(١) أي : بالإيمان والعلم شاهده : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ).

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما يكون ذا أعلم من ذا ، وذا أعلم من ذا ، والله فوق كل عليم وقرأ الجمهور : درجات من نشاء بإضافة درجات إلى من وقرأ حفص (دَرَجاتٍ) بالتنوين تمييز لتعلق فعل نرفع بمعفوله وهو : (مَنْ نَشاءُ).

شرح الكلمات :

(إِنْ يَسْرِقْ) : أي يأخذ الصواع خفية من حرزه.

(فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) : أي يوسف في صباه.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ) : أي أخفى هذه التهمة في نفسه.

(وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) : أي لم يظهرها لهم.

(أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) : أي منزلة ممن رميتموه بالسرقة.

(بِما تَصِفُونَ) : أي بحقيقة ما تصفون أي تذكرون

(أَباً شَيْخاً كَبِيراً) : أي يعقوب عليه‌السلام.

(مَعاذَ اللهِ) : أي نعوذ بالله من أن نأخذ من لم نجد متاعنا عنده.

(مَتاعَنا) : أي الصواع.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث مع يوسف عليه‌السلام وإخوته ، إنه بعد أن استخرج يوسف الصواع من متاع أخيه وتقرر ظاهرا أن بنيامين قد سرق ، قال إخوته ما أخبر به تعالى عنهم في قوله : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (١) أي إن يكن بنيامين قد سرق كما قررتم فلا عجب فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف أيام صباه ، كان يسرق الطعام ويعطيه للمساكين وسرق صنما لأبي أمه فكسره حتى لا يعبده ، وليس هذا من السرقة المحرمة ولا المذمومة بل هي محمودة. وقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ (٢) فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي أسر يوسف قولتهم (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ولم يظهرها لهم وقال ردا لقولتهم الخاطئة : (أَنْتُمْ شَرٌّ (٣) مَكاناً) أي شر منزلة ممن رميتموه بالسرقة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي بحقيقة ما تذكرون. ولما سمعوا قول يوسف وكان فيه نوع من الصرامة والشدة قالوا مستعطفين يوسف مسترحمينه بما حكى الله تعالى عنهم في قوله : (قالُوا يا

__________________

(١) وجائز أن يكون قولهم : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) : مجرد رد تهمة وجهت إليهم وألزموا بها فدفعوها بقولهم : فقد سرق أخ له من قبل. وهو مجرد بهتان وقول باطل.

(٢) وجائز أن يكون : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) : أي أسرّ كلمة : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي : أخفاها فلم يتلفظ بها إحسانا إليهم ثم جهر بقوله والله أعلم بما تصنعون.

(٣) (شَرٌّ) : اسم تفضيل بمعنى : أشرّ ، والمكان بمعنى : حالة أي : الحال التي أنتم عليها من أشر الأحوال.

أَيُّهَا الْعَزِيزُ (١) إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) (٢) أي لأخينا والدا كبير السن يعز عليه فراقه ولا يطيقه. (فَخُذْ أَحَدَنا (٣) مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي واحدا منا بدلا عنه ومثلك يفعل ذلك لأنه إحسان وأنت من المحسنين. فأجابهم بما أخبر تعالى به في قوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ) (٤) أي نعوذ بالله (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إذا أخذنا من لم يجن ونترك من جنى أي سرق فقد كنا بذلك ظالمين وهذا ما لا نرضاه ولا نوافق عليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الاعتذار عن الخطأ.

٢ ـ قد يضطر الحليم إلى أن يقول ما لم يكن يقوله لو لا ما ووجه به من السوء.

٣ ـ مشروعية الاسترحام والاستعطاف لمن احتاج الى ذلك رجاء أن يرحم ويعطف عليه.

٤ ـ حرمة ترك الجاني وأخذ غيره بدلا منه إذ هذا من الظلم المحرم.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ

__________________

(١) يبدو أن لفظ العزيز لقب لكل من يلي ولاية في تلك البلاد.

(٢) هذا اسلوب الاستعطاف والاسترحام ، اقتضاه موقف يوسف الحازم الصارم فنادوه بعنوان الحكم وذكروا له ضعف أبيهم وحالته النفسية إزاء ولده.

(٣) أي : خذه عبدا لتسترقه لأنّه سبق أن قيل : إن شريعة يعقوب عليه‌السلام أنّ السارق يسترق بالسرقة.

(٤) (مَعاذَ) : مصدر ميمي من العوذ الذي هو مصدر عاذ يعوذ عوذا إذا تحصّن واستجار فهو مصدر قام مقام الفعل.

(٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤))

شرح الكلمات :

(خَلَصُوا نَجِيًّا) : أي اعتزلوا يناجي بعضهم بعضا.

(أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) : أي عهدا وميثاقا لتأتن به إلا أن يحاط بكم.

(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ) : أي ومن قبل إضاعتكم لبنيامين فرطتم في يوسف كذلك.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) : أي لن أفارق الأرض ، أي أرض مصر.

(وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) : أي لما غاب عنا ولم نعرفه حافظين.

(الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) : أي أصحاب القافلة التي جئنا معها وهم قوم كنعانيون.

(سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) : أي زينت وحسنت لكم أمرا ففعلتموه.

(أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) : أي بيوسف وأخويه بنيامين وروبيل.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) : أي معرضا عن حديثهم.

(وَقالَ يا أَسَفى) : أي يا حزني أحضر هذا أوان حضورك.

(فَهُوَ كَظِيمٌ) : أي مغموم مكروب لا يظهر كربه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث على قصة يوسف وإخوته ، إنه بعد أن أخذ يوسف أخاه بالسرقة ولم يقبل استرحامهم له بأخذ غيره بدلا عنه انحازوا ناحية يفكرون في أمرهم وهو

ما أخبر به تعالى عنه في قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا) أي يئسوا (خَلَصُوا نَجِيًّا) (١) أي اعتزلوا يتناجون في قضيتهم (قالَ كَبِيرُهُمْ) وهو روبيل مخاطبا إياهم (٢) (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) يذكرهم بالميثاق الذي أخذه يعقوب عليهم لما طلبوا منه أن يرسل معهم بنيامين لأن عزيز مصر طلبه. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي (٣) يُوسُفَ) أي وذكرهم بتفريطهم في يوسف يوم ألقوه في غيابة الجب وباعوه بعد خروجه من الجب. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بما هو خير (٤) (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

ولما أقنعهم بتخلفه عنهم أخذ يرشدهم إلى ما يقولونه لوالدهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله عنه : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ (٥) وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) (٦) أي حيث رأينا الصواع يستخرج من رحل أخينا (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي ولو كنا نعلم أن أخانا يحدث له هذا الذي حدث ما أخذناه معنا. كما أننا ما شهدنا بأن السارق يؤخذ بالسرقة إلا بما علمنا منك (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (٧) وهي عاصمة مصر (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) إذ فيها كنعانيون من جيرانك (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في كل ما أخبرناك به. هذا ما أرشد به روبيل إخوته ، ولما ذهبوا به واجتمعوا بأبيهم وحدثوه بما علمهم روبيل أن يقولوه فقالوه لأبيهم. رد عليهم يعقوب عليه‌السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زينت لكم أنفسكم أمرا ففعلتموه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فصبري على ما أصابني صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد غير الله (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي يوسف

__________________

(١) لفظ نجي : يطلق على الواحد والجماعة كلفظ عدو ، ويجمع على أنجية قال الشاعر :

إني إذا ما القوم كانوا أنجية

واضطرب القوم اضطراب الأدشية.

هناك أوصيني ولا توصي بيه

(٢) قيل : هو شمعون إذ كان أكبرهم في الرأي ، وقيل : يهوذا وكان أعقلهم. وقيل : هو لاوى وهو أبو الأنبياء.

(٣) (فَلَمَّا) : مصدرية أي : تفريطكم في يوسف ، والجملة معترضة.

(٤) بأن يطلق سراح أخي فأمضي معه إلى أبينا ، أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب حتى أخلّص أخي ، أو أغلب فأعذر إذ قال والدي : إلّا أن يحاط بكم.

(٥) قرأ ابن عباس والضحّاك وأبو رزين سرّق بتشديد الراء والبناء للمجهول أي : نسب إلى السرقة ورمى بها ، السرق : بفتح السين والراء : مصدر سرق والسّرق والسرقة : اسم الشيء المسروق.

(٦) في الآية دليل على مشروعية الشهادة بأي وجه حصل العلم بالبصر ، بالسمع باللمس إذ الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا ، وفي الحديث : (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها).

(٧) المراد : أهل القرية إذ العادة أن القرية لا تنطق ، ولو قال : أحد كلّم هندا وهو يريد غلامها لما جاز.

وبنيامين وروبيل (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بفقري إليه وحاجتي عنده (الْحَكِيمُ) في تدبيره لأوليائه وصالحي عباده (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عن مخاطبتهم (وَقالَ يا أَسَفى) أي يا أسفي وشدة حزني أحضر فهذا أوان حضورك (عَلى يُوسُفَ) قال تعالى مخبرا عن حاله بعد ذلك (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) فغلب بياضهما على سوادهما ومعنى هذا أنه فقد الإبصار بما أصاب عينيه من البياض. (فَهُوَ كَظِيمٌ) (١) أي ممتلىء من الهم والكرب والحزن مكظوم لا يبثه لأحد ولا يشكوه لغير ربه تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية المناجاة للتشاور في الأمر الهام.

٢ ـ مشروعية التذكير بالالتزامات والعهود والمحافظة على ذلك.

٣ ـ قد يغلب الحياء على المؤمن فيمنعه من أمور هي خير له.

٤ ـ مشروعية النصح وتزويد المنصوح له بما يقوله ويعمله.

٥ ـ جواز اتهام البرىء لملابسات أو تهمة سابقة.

٦ ـ جواز إظهار التأسف والحزن والشكوى لله تعالى.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ

__________________

(١) الكظيم : مبالغة للكظم والكظم : الإمساك النفساني ، أي : كاظم للحزن لا يظهره للناس ، وكظيم : بمعنى مكظوم كمحزون.

وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))

شرح الكلمات :

(تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ) : أي والله لا تزال تذكر يوسف.

(حَرَضاً) : أي مشرفا على الهلاك لطول مرضك.

(أَشْكُوا بَثِّي) : أي عظيم حزني إذ البث الذي لا يصبر عليه حتى يبث الى الغير.

(فَتَحَسَّسُوا) : أي اطلبوا خبرهما بلطف حتى تصلوا إلى النتيجة.

(مِنْ رَوْحِ اللهِ) : أي من رحمة الله

(بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) : أي بدراهم مدفوعة لا يقبلها الناس لرداءتها.

(يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) : أي يثيب المتصدقين بثواب الدنيا والآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق فيما جرى من حديث بين يعقوب عليه‌السلام وبنيه أنه بعد ما ذكروا له ما جرى لهم في مصر اعرض عنهم وقال يا أسفى على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن وهو كظيم. قالوا له ما أخبر به تعالى في قوله : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) (١) أي والله لا تزال تذكر يوسف حتى تصبح حرضا مشرفا (٢) على الموت أو تكون من الهالكين أي الميتين. أجابهم بما أخبر تعالى به عنه : (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) (٣) أي همي (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يريد أن رجاءه فى الله كبير وأن الله لا يخيب رجاءه وأن رؤيا يوسف صادقة وأن الله تعالى سيجمع شمله به ويسجد له كما رأى. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) (٤) أي التمسوا أخبارهما

__________________

(١) حرف النفي مقدّر أي : تا الله لا تفتأ ، ومعنى : تفتأ : لا تفتر إذ فتىء بمعنى فتر ، وهذا القول إشفاق على يعقوب.

(٢) الحرض : شدة المرض المشفي بصاحبه على الهلاك ، وأصل الحرض : الفساد في الجسم أو العقل ، من الحزن أو العشق أو الهرم.

(٣) البث : الهم الشديد.

(٤) هذا اللفظ دال على أنه تيقن حياة يوسف وذلك إمّا بوحي إلهي أو إلهام أو هداية عقل ، وإلا كيف يطلب منهم التحسس على يوسف ، والتحسس : شدة التّطلب ، والتعّرف وهو أعم من التجسس.

بحواسكم بالسؤال عنهما والنظر إليهما ، (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من فرج الله ورحمته وعلل للنهي فقال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) (١) أي من فرجه ورحمته (إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

وامتثل الأبناء أمر الوالد وذهبوا إلى مصر وانتهوا إليها ونزلوا بها وأتوا الى دار العزيز (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا) ما أخبر تعالى به عنهم (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا (٢) وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي من الجدب والقحط والمجاعة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي دراهم رديئة مدفوعة لا تقبل كما تقبل الجيدة منها (فَأَوْفِ (٣) لَنَا الْكَيْلَ) بها (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بقبولها على رداءتها (إِنَّ اللهَ يَجْزِي (٤) الْمُتَصَدِّقِينَ) أي يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به خيرا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شدة الحزن تعرض صاحبها للحرض أو الموت.

٢ ـ تحرم الشكوى لغير الله عزوجل.

٣ ـ حرمة اليأس من الفرج عند الشدة والرحمة عند العذاب.

٤ ـ جواز الشكوى إذا كان المراد بها الكشف عن الحال للاصلاح أو العلاج كأن يقول المحتاج إني جائع أو عار مثلا وكأن يقول المريض للطبيب أشكو ألما في بطني أو رأسي مثلا.

٥ ـ فضل الصدقة وثواب المتصدقين.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ

__________________

(١) الجملة تعليلية للنهي المتقدم ، وهو اليأس من روح الله وهو رحمة الله وفرجه.

(٢) أي : أصابهم الضرّ.

(٣) جملة تعليلية لاستدعائهم التصدق عليهم.

(٤) قال مالك : في الآية دليل على أنّ أجرة الكيال والوزان على البائع ، إذ هو باع شيئا لا بد وأن يبرزه ويفصله لمن اشتراه.

عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) : أي لا تعلمون ما يؤول إليه أمر يوسف.

(قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) : أي أنعم علينا بأن جمع بيننا بعد افتراق طويل أنتم سببه.

(مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) : أي يتق الله فيخافه فلا يعصيه ويصبر على ما يناله من وصب ونصب.

(لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) : أي فضلك علينا بما منّ عليك من الإنعام والكمال.

(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) : أي لا عتب عليكم ولا لوم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث مع يوسف وإخوته ، إنه لما وصلوا إليه من أرض كنعان بأمر والدهم وشكوا إليه ما هم فيه من ضيق الحال إذ قالوا له : قد مسنا الضر (١) وجئنا ببضاعة (٢) مزجاة ، لما سمع منهم ذلك رق قلبه وارفضّت عيناه بالدموع وأراد أن ينهي التكتم الذي كان عليه وهو إخفاء حاله عليهم فقال لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) (٣) ذكرهم

__________________

(١) في الآية دليل على جواز الشكوى عند الضرّ بل يتعين على العبد إذا خاف على نفسه الضرر من جوع أو مرض أن يشكو ذلك لرفعه.

(٢) بضاعة مزجاة : البضاعة : القطعة من المال يقصد بها شراء شيء يقال : أبضعت الشيء واستبضعته أي : جعلته بضاعة ، والمزجاة : المدفوعة التي لا تقبل من الإزجاء الذي هو السوق بدفع ، ومنه قوله تعالى : (يُزْجِي سَحاباً) يريدون أنها بضاعة رديئة.

(٣) كأنه يقول : أنا يوسف أنا المظلوم أنا المراد قتله.

بما صنعوا به من إلقائه في الجب وبيعه عبدا وبذلك فرقوا بينه وبين والده وأخيه شقيقه وقوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي بما يصير إليه أمر يوسف وهنا قالوا في اندهاش وتعجب : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) فأجابهم قائلا بما أخبر تعالى به عنه (قالَ أَنَا يُوسُفُ (١) وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي أنعم علينا فجمع بيننا على أحسن حال ثم قال : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) أي يتق الله يخافه فيقيم فرائضه ويتجنب نواهيه ويصبر على ذلك وعلى ما يبتليه به (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٢) أي في طاعة ربهم والإسلام له ظاهرا وباطنا. وهنا قالوا له ما أخبر به تعالى عنهم : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) (٣) أي بالعلم والعمل والفضل (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) فيما فعلنا بك ، فكان هذا توبة منهم فقال لهم : (لا تَثْرِيبَ (٤) عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا عتب ولا لوم ولا ذكر لما صنعتم لأنه يؤذي (يَغْفِرُ (٥) اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) سأل الله تعالى له ولهم المغفرة وأثنى على الله تعالى بأنه أرحم الراحمين متعرضا لرحمته تعالى له ولإخوته. ثم سألهم عن والده فأخبروه أنه قد عمي من الحزن عليه فقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (٦) أي يرجع بصيرا كما كان (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٧) يريد أبويه والنساء والأطفال والأحفاد. وهو تحول كامل للأسرة الشريفة من أرض كنعان إلى أرض مصر تدبيرا من الله العزيز الحكيم.

هداية الآيات

__________________

(١) الجملة تعليلية ، والمعلل له محذوف هو جواب الشرط تقديره : ينعم الله تعالى عليه وينصره ويكرمه ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.

(٢) آثره بكذا : إذا فضّله به ، والمصدر : الإيثار ، واسم الفاعل مؤثر.

(٣) التثريب : التوبيخ ، والتقريع ، واللوم ، وفي الحديث الصحيح : (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها) أي : لا يعيّرها. قال الشاعر :

فعفوت عنهم غير مثرّب

وتركتهم لعقاب يوم سرمد

(٤) لا يصحّ تعليق اليوم بيغفر الله إذ لا يعلم الغفران متى يتم لهم فكيف يصح أن يقال : يغفر الله لكم اليوم أو غدا؟ بل يتعلق اليوم بكلمة لا تثريب.

(٥) قال عطاء الخرساني : طلب الحوائج من الشباب أسهل منها من الشيوخ ألم تر إلى قول يوسف : يغفر الله لكم. وقال يعقوب : سوف استغفر لكم ربي.

(٦) لا شك أنّ هذا العلم حصل ليوسف بوحي من الله تعالى ، ولعل يوسف نبىء ساعتئذ وأراد يوسف بإلقاء القميص على وجه أبيه المفاجأة السارة لتكون سببا في رجوع البصر.

(٧) قال مسروق : كانوا ثلاثة وتسعين نسمة ما بين رجل وامرأة.

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ أن المعاصي لن تكون إلا نتيجة للجهل بالله تعالى وجلاله وشرائعه ووعده ووعيده.

٢ ـ فضل التقوى والصبر وما لهما من حسن العاقبة.

٣ ـ فضل الصفح والعفو وترك عتاب القريب إذا أساء.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) : أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى أرض فلسطين.

(إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) : أشتمها لأن الريح حملتها إليه بأمر الله تعالى.

(لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) : أي تسفّهون ، لصدقتموني فإني وجدت ريح يوسف.

(إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) : أي خطإك بإفراطك في حب يوسف.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) (١) : هو يهودا الذي حمل إليه القميص الملطخ بالدم الكذب.

(فَارْتَدَّ بَصِيراً) : أي رجع بصيرا.

(سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) : أجّل الاستغفار لهم إلى آخر الليل أو إلى ليلة الجمعة.

(عَلَى الْعَرْشِ) : أي السرير.

(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) : أي سجدوا له تحية وتعظيما.

(مِنَ الْبَدْوِ) : أي البادية ، بادية الشام.

(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ) : أي أفسد.

(لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) : أي لطيف في تدبيره لمن يشاء من عباده كما لطف بيوسف.

معنى الآيات :

هذه أواخر قصة يوسف عليه‌السلام ، إنه بعد أن بعث بقميصه إلى والده وحمله أخوه يهودا ضمن القافلة المتجهة إلى أرض كنعان ، ولما فصلت (٢) العير من عريش مصر حملت ريح الصبا ريح يوسف إلى إبيه قال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ (٣) لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي تسفهون لصدقتموني (٤) فإني أجدها فقال الحاضرون مجلسه من أفراد الأسرة والذين لم يعلموا بخبر يوسف بمصر قالوا له : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٥) أي من خطإك بإفراطك

__________________

(١) (أَنْ) : مزيدة.

(٢) فصلت : بمعنى : انفصلت ، وبانت وبعدت من المكان الذي كانت فيه كقوله تعالى (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ).

(٣) الريح : الرائحة ، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسّة الشمّ.

(٤) لصدّقتموني : جواب لو لا ، وهو يخاطب أحفاده أي : أولاد أولاده ، والتفنيد النسبة إلى الفند محرّك الفاء والنون وهو اختلال العقل من الهرم ونحوه قال الشاعر :

يا عاذليّ دعا الملام وأقصرا

طال الهوى وأطلتما التفنيدا

(٥) أي : لفي ذهاب عن طريق الحق والصواب ، والقائلون ليعقوب هذا هم أحفاده أو بعض الأقارب لجهلهم بمقام يعقوب ، وهي عبارة فيها خشونة لكن من الجائز أن تكون في عرفهم لا خشونة فيها ولا إساءة أدب.

في حب يوسف. وواصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على وجه يعقوب فارتد بصيرا كما أخبر يوسف إخوته بمصر. وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذى أخبر تعالى به في قوله : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم من لطف الله وحسن تدبيره ورحمته وإفضاله ما لا تعلمون. وهنا طلبوا من والدهم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ربهم فقالوا ما أخبر تعالى به : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ، قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). أجّل لهم طلب المغفرة إلى ساعة الاستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة. وتنفيذا لأمر يوسف إخوته بأن يأتوه بأهلهم أجمعين تحملت الأسرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر. وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد في استقبالهم ، وكان يوسف قد ضربت له خيمة أو فسطاط ، ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي ضمّهما إلى موكبه (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا (وَرَفَعَ) يوسف (أَبَوَيْهِ) أمه وأباه (عَلَى الْعَرْشِ) سرير الملك (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) تحية وتشريفا. (١) وهنا قال يوسف (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم له ساجدين. وقوله (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي (٢) مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ (٣) مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) هذا ثناء على الله بنعمه وتذكير للحاضرين بالحادثة والطاف الله تعالى فيها. ومن كرم نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من السجن. ويعني بقوله وجاء بكم من البدو أي من أرض كنعان. ونسب الإساءة التي كانت من إخوته إلى الشيطان تلطيفا للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته ، وختم حديث النعمة في أعظم فرحة (إِنَّ رَبِّي (٤) لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي بخلقه

__________________

(١) على عادة أهل ذلك الزمان ، وهو سجود تحية لا عبادة.

(٢) أحسن بي وإليّ بمعنى واحد أي قدم أي صنع إليّ معروفا. بجلب خير أو دفع ضير.

(٣) أي : البادية ، والبدو ضدّ الحضر ، والاسم مشتق من البدوّ الذي هو الظهور والنزغ عبارة عن ادخال الفساد في النفس ، شبه بنزغ الراكب الدابة وهو يريدها تسرع.

(٤) اللطف : التدبير الملائم ، واللطيف : صاحب اللّطف.

(الْحَكِيمُ) في تدبيره وصنعه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ آية عظيمة هي حمل الريح ريح (١) يوسف على مسافات بعيدة.

٢ ـ آية أخرى هي ارتداد بصر يعقوب بعد العمى بمجرد أن ألقي القميص على وجهه.

٣ ـ كرم يعقوب وحسن عفوه وصفحه على أولاده إذ استغفر لهم ربهم فغفر لهم.

٤ ـ مشروعية الخروج خارج المدينة لاستقبال أهل الكمال والفضل كالحجاج مثلا.

٥ ـ صدق رؤيا يوسف عليه‌السلام إذ تمت حرفيا فجلس يوسف على عرشه وخر له أبواه وإخوته ساجدين.

٦ ـ قد يتأخر تأويل الرؤيا عشرات السنين إذ تأخرت رؤيا يوسف أربعين سنة.

٧ ـ تجليات الألطاف الإلهية والرحمات الربانية في هذه القصة في مظاهر عجيبة.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

شرح الكلمات :

(رَبِ) : أي يا رب خالقي ورازقي ومالك أمري ومعبودي الذي ليس لي معبود سواه.

(مِنَ الْمُلْكِ) : أي من بعض الملك إذ أصبح ملكا لمصر فقط.

(تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : تعبير الرؤا.

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالقهما على غير مثال سابق.

(أَنْتَ وَلِيِّي) : أي متولي أمري في الحياتين الدنيا والآخرة.

__________________

(١) أي : رائحته.

معنى الآية الكريمة :

هذا آخر الحديث عن قصة يوسف ، إنه بعد أن جمع الله تعالى شمله بكافة أفراد أسرته وفتح عليه من خزائن رحمته ما فتح ، وانقلبت الإحراقات : إحراقات الإلقاء في الجب ، والبيع رقيقا بثمن بخس ، وفتنة امرأة العزيز ، والسجن سبع سنين ؛ انقلبت إلى اشراقات ملكا ودولة ، عزا ورفعة ، مالا وثراء ، اجتماعا ووئاما ، وفوق ذلك العلم اللدنى والوحي الإلهي وتأويل الأحاديث. وبعد أن قبض الله تعالى والده وتاب على إخوته وهيأهم للنبوة ونبأهم. تاقت نفس يوسف إلى الملكوت الأعلى إلى الجيرة الصالحة إلى رفقة الأخيار آبائه الأطهار ابراهيم وإسحق ويعقوب رفع يديه إلى ربه وقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ (١) الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي (٢) مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) واستجاب الله تعالى دعاءه فلم يلبث إلا قليلا حتى وافاه الأجل فارتحل والتحق بأبائه وصالحي إخوانه فسلام عليه وعليهم وعلى كل صالح في الأرض والسماء ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ مشروعية دعاء الله تعالى والتوسل إليه بأسمائه وصفاته.

٢ ـ مشروعية العزوف عن الدنيا والرغبة عنها عند حصولها والتمكن منها.

٣ ـ فضل الشوق إلى الله والحنين إلى رفقة الصالحين في الملكوت الأعلى.

٤ ـ مشروعية سؤال الموت إن لم يكن لضر أو ملل من العبادة ، أو رغبة في الراحة لحديث «لا يسألن أحدكم (٣) الموت لضر نزل به» وهو صحيح. ولكن شوقا إلى الله تعالى والالتحاق بالصالحين ، (٤) عزوفا عن هذه الدار وشوقا إلى الأخرى دار السّلام.

__________________

(١) (مِنَ) : للتبعيض ، إذ ملك مصر محدود ، ولم يملك يوسف على غيره ، ومن في قوله : (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) للجنس أولى مما تكون للتبعيض.

(٢) قال قتادة : لم يتمن الموت أحد نبي ولا غيره إلّا يوسف عليه‌السلام حين تكاملت عليه النعّم ، وجمع له الشمل اشتياقا إلى لقاء ربه عزوجل ، وردّ الجمهور هذا وقالوا : إنّما تمنى الموت على الإسلام وما ذكرته في التفسير أرجح وأوضح.

(٣) في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم احيني ما كانت الحياة خير لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) رواه مسلم.

(٤) قيل : كان عمره يوم مات : مائة عام وسبع سنين ، وخلف من الولد ثلاثة : افراثيم ، ومنشا ، ورحمة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))

شرح الكلمات :

(ذلِكَ) : اشارة إلى ما قص تعالى على رسوله من قصة يوسف وإخوته.

(مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) : أي أخبار الغيب.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) : أي لدى إخوة يوسف.

(إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) : أي اتفقوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب.

(وَهُمْ يَمْكُرُونَ) : أي يحتالون على إخراجه وإلقائه في الجب.

(عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) : أي على القرآن وإبلاغه من ثواب أي مال.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) : أي ما هو إلا ذكر أي موعظة يتعظ بها المؤمنون.

معنى الآيات :

بعد ما قص تعالى على رسوله بواسطة الوحي قصة يوسف وإخوته وهي من الغيب المحض إذ لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا قومه من العرب يعرفون عن هذه الأحداث التاريخية شيئا ، لا سيما وأن بعض هذه الأنباء تم في ظلام الليل وبعضها فى ظلام البئر وبعضها وراء الستور ، وبعضها فى طبقات السجون وبعضها في قصور الملوك وبعضها في الحضر وبعضها في البدو ، وبعد تطاول الزمن وتقادم العصور. بعد أن قص ما قص قال لرسوله

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) (١) أي من أخبار الغيب (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نعلمك به بطريق الوحي (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ويؤكد وحيه إليه بذلك فيقول ، وما كنت لدى إخوة يوسف فى الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على التخلص من يوسف بأي ثمن وهم يحتالون على إخراجه من بين يدي أبويه ليلقوه في غيابة الجب تخلصا منه حيث رأوا أنه حجب عنهم وجه أبيهم وذهب بعطفه وحنانه دونهم. وقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (٢) يخبره تعالى أن الإيمان بك وبما جئت به من الوحي والتوحيد والبعث الآخر مثل هذا القصص كاف في التدليل على صحة نبوتك وعلى وجوب الإيمان بما جئت به وتدعو إليه ومع هذا فأكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم ما هم بمؤمنين ، ولذلك عوامل من أبرزها أن الإيمان يتعارض مع ما ألفوا من الباطل والشر والفساد ، لا سيما شهواتهم وأغراضهم الدنيوية ومن قبل ذلك أن من كتب الله شقاءه لا يؤمن بحال ، ولذا فلا تحزن ولا تكرب ، وقوله تعالى : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (٣) أي على هذا القرآن وإبلاغه إليهم من مال إذ لو كنت سائلهم أجرا على قراءتك عليهم وإبلاغك لهم لكان ذلك مانعا من قبول ما تدعوهم إليه ، ولكن ما دام ذلك يقدم لهم مجانا فلا معنى لعدم إيمانهم إلا ما كتب الله من خسرانهم فهم عاملون للوصول إليه.

وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن وما يحمله من هدى ونور وقراءتك له إلا ذكرى أي موعظة يتعظ بها من يسمعها من أهل البصيرة والإيمان من العالمين ممن هيأهم الله تعالى للسعادة والكمال ، وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي (٤) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وكثير من الآيات الدالة على الله وعلى وجوب عبادته وتوحيده فيها

__________________

(١) هذا الكلام تذييل للقصة بعد انتهائها. إتماما للفائدة منها ، والغيب ما غاب عن علم الناس ، وأصل الغيب مصدر غاب يغيب غيبا ، فسمي به الشيء الغائب

(٢) في الآية تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا آلمه عدم إيمان قريش بعد أن سألوه عن هذه القصة ليؤمنوا فلمّا قصها عليهم لم يؤمنوا فآلمه ذلك.

(٣) (مِنْ) صلة لتقوية النفي.

(٤) أصل : (كَأَيِّنْ) : أي. فدخلت عليها كاف التشبيه ، وبنيت معها فصار معناها (كم) قال القرطبي : قد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

في السموات كالشمس والقمر والكواكب والسحب والأمطار ، والأرض كالجبال والأنهار والأشجار والمخلوقات المختلفة يمرون عليها صباح مساء وهم معرضون غير ملتفتين إليها ولا متفكرين فيها فلذا هم لا يؤمنون ولا يهتدون. وقوله تعالى في الآية الأخيرة (١٠٦) (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١) يخبر تعالى رسوله أن من يدعوهم إلى الإيمان به وبما جاء به ما يؤمن أكثرهم بالله ربا خالقا رازقا إلا وهم مشركون به أصناما وأوثانا يعبدونها وهي حقيقة قائمة لو سئل يهودي أو نصراني عن الخالق الرازق المحيي المميت المدبر للكون لقال الله ، ولكن هو به مشرك يعبد معه غيره وكذلك حال المشركين الذين أخبر تعالى عنهم ، وكثير من أهل الجهل فى هذه الأمة القرآنية يدعون غير الله ويذبحون لغير الله وينذرون لغير الله وهم مؤمنون بالله وبما جاء به رسوله من التوحيد والبعث والجزاء والشرع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بأصدق برهان وأعظم حجة.

٢ ـ بيان حكم الله في الناس وهو أن أكثرهم لا يؤمنون فلا يحزن الداعي ولا يكرب.

٣ ـ دعوة الله ينبغي أن تقدم إلى الناس مجّانا ، وأجر الداعي على الله تعالى الذي يدعو إليه.

٤ ـ ذم الغفلة وعدم التفكر في الآيات الكونية.

٥ ـ بيان حقيقة ثابتة وهي أن غير أهل التوحيد وإن آمنوا بالله ربا خالقا رازقا مدبرا أكثرهم يشركون به غيره في بعض صفاته وعباداته.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في تلبية المشركين : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

شرح الكلمات :

(غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) : أي نقمة من نقمه تعالى تغشاهم (١) أي تحوط بهم.

(بَغْتَةً) : فجأة وهم مقيمون على شركهم وكفرهم.

(هذِهِ سَبِيلِي) : أي دعوتي وطريقتي التي أنا عليها.

(عَلى بَصِيرَةٍ) : أي على علم يقين مني.

(وَسُبْحانَ اللهِ) : أي تنزيها لله وتقديسا أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه.

(مِنْ أَهْلِ الْقُرى) : من أهل المدن والأمصار لا من أهل البوادي.

(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي الله تعالى بأداء فرائضه وترك نواهيه.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أي أفلا يعقل هؤلاء المشركون هذا الذي يتلى عليهم ويبين لهم فيؤمنوا ويوحدوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان بالوحي الإلهي والتوحيد والبعث والجزاء وهي أركان الدين العظمى ، فقال تعالى : أفأمن هؤلاء المشركون والذين لا يؤمن (أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والذين يمرون بالكثير من آيات الله وهم معرضون ، أفأمن هؤلاء (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أي عقوبة من عذاب تغشاهم وتجللهم بالعذاب الذي لا

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : مجلّلة ، وهو معنى تعظيمهم ، وتحوط بهم من كل جوانبهم بحيث لا ينجون منها.

يطاق (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة (بَغْتَةً) (١) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيئها فتعظم البلية وتشتد عليهم الرزية ، وكيف يأمنون وهل يوجد من يؤمنهم غير الله تعالى فما لهم إذا لا يؤمنون ولا يتقون حتى ينجوا مما يتوقع لهم؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٧) أما الثانية فقد أمر الله تعالى رسوله أن يواصل دعوته دعوة الخير هو والمؤمنون معه فقال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) أي قل أيها الرسول للناس هذه طريقتي في دعوتي إلى ربي بأن يؤمن به ويعبد وحده دون سواه. (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) (٢) أي على علم يقين بمن أدعو إليه وبما أدعو به وبالنتائج المترتبة على هذه الدعوة ، (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) من المؤمنين كلنا ندعو إلى الله على بصيرة.

وقوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ) أي وقل سبحان الله أي تنزيها له عن أن يكون له شريك أو ولد ، وقل كذلك معلنا براءتك من الشرك والمشركين (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). هذا ما دلت عليه الآية الثانية. أما الآية الثالثة فإن الله تعالى يخبر رسوله بأنه ما أرسل من قبله من الرسل وهم كثر إلا رجالا أي لا نساء ولا ملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (٣) أي الأمصار والمدن ، وهذا إبطال لإنكارهم أن يكون الرسول رجلا من الناس ، وقوله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء المكذبون من قريش وغيرهم (فِي الْأَرْضِ) للاعتبار (فَيَنْظُرُوا) (٤) كيف كان عاقبة من سبقهم من الأمم كعاد وثمود فإنا أهلكناهم ونجينا أهل الإيمان والتوحيد من بينهم مع رسلهم هذه النجاة ثمرة من ثمرات الإيمان والتقوى ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) (٥) (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) فإنها دار النعيم المقيم والسلامة من الآهات والعاهات والكبر والهرم والموت والفناء.

وقوله تعالى في نهاية الآية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦) يوبخ أولئك المشركين المصرين على

__________________

(١) (فَيَنْظُرُوا) إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم وما جاءوهم به من الهدى ودين الحق من أجل هدايتهم ، وسعادتهم.

(٢) (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) مبتدأ وخبر ، وهل الإضافة هنا كما هي في يوم الخميس وبارحة الأولى؟ خلاف ويرجح أحد الرأيين فقول الشاعر :

ولو أقوت عليك ديار عبس

عرفت الذل عرفان اليقين

أي : عرفانا يقينيا. قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال ، لأنّ الشيء يضاف إلى غيره ليعرّف به الأجود أن يقال : الصلاة الأولى.

(٣) قرىء : أفلا يعقلون : بالياء والتاء في السبع.

(٤) منصوب على الحال ، ومعناه إصابة من غير توقع (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : توكيد لمعنى بغتة. هذا كقوله تعالى (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).

(٥) أي : على يقين وحق كقولهم : فلان مستبصر بهذا الأمر.

(٦) قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ردّ على القائلين (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).

التكذيب والشرك على عدم تعقلهم وتفهمهم لما يتلى عليهم وما يسمعون من الآيات القرآنية وما يشاهدون من الآيات الكونية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من العقوبات المترتبة على الشرك والمعاصي.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر.

٣ ـ تعين الدعوة إلى الله تعالى على كل مؤمن تابع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ تعين العلم اليقيني للداعي إلى الله إذ هو البصيرة المذكورة في الآية.

٥ ـ وجوب توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.

٦ ـ الرسالة من خصوصيات الرجال وليس في النساء رسولة. (١)

٧ ـ بيان ثمرات التوحيد والتقوى في الدنيا والآخرة.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

شرح الكلمات :

(اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) : أي يئسوا من إيمان قومهم.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) : أي ظن الأمم المرسل إليهم أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به

__________________

(١) حديث : (إن في النساء أربع نبيّات حواء وآسية وأم موسى ومريم) حديث ضعيف لا يصح ، وهو معارض لهذه الآية وآيات أخرى.

من النصر.

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) : أي عذابنا الشديد.

(عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي وأجرموا على غيرهم بصرفهم عن الإيمان.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) : أي الرسل عليهم‌السلام.

(ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) : أي ما كان هذا القرآن حديثا يختلق.

(تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي ما قبله من الكتب الإلهية إذ نزل مصدقا لها في الإيمان والتوحيد.

معنى الآيتين

ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا) أي ما زال من أرسلنا من رسلنا يدعون إلينا ويواصلون دعوتهم ويتأخر نصرهم حتى يدب اليأس إلى قلوبهم (١) ويظن أتباعهم أنهم قد أخلفوا ما وعدوا به من نصرهم وإهلاك أعدائهم (جاءَهُمْ) بعد وجود اليأس نصرنا (٢) (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). هذا ما جاء في الآية الأولى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) وهم أهل الشرك والمعاصي.

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ (٣) عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي كان في قصص الرسل مع أممهم بذكر أخبارهم وتبيان أحوالهم من نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين المكذبين عبرة يعتبر (٤) بها المؤمنون فيثبتون على إيمانهم ويواصلون تقواهم لربهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه.

وأولوا الألباب هم أصحاب العقول ، وقوله تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي لم يكن هذا القرآن العظيم بالحديث الذي في إمكان الإنسان أن يكذب ويختلق مثله بحال من

__________________

(١) أي : من إيمان قومهم ، لأنّ الله تعالى لم يعلمهم أنّ قومهم سيؤمنون حتى لا يصح منه ظن عدم إيمانهم.

(٢) المراد بالنصر : العذاب ، فلما جاء العذاب بعد طول انتظار نجى الله تعالى رسله والمؤمنين ، وأهلك أعداءه وأعداءهم الكافرين.

(٣) يدخل أوّلا قصة يوسف ، وإخوته ثم باقي القصص.

(٤) فكرة وتذكرة وعظة.

الأحوال ولكنه أي القرآن هو (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي تقدم في النزول عليه كالتوراة والإنجيل فهو مصدق لهما في أصول الإيمان والتوحيد ولا يتنافى معهما وهذا أكبر دليل على أنه وحي إلهي مثلهما ، وليس بالكلام المختلق كما يقول المبطلون ، وقوله تعالى : (وَتَفْصِيلَ (١) كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي كما هو مصدق لما بين يديه هو أيضا يفصل كل شيء تحتاج إليه البشرية في دينها المزكي لأنفسها الموجب لها رحمة ربها ورضاه عنها وهدى ينير الطريق فيهدي من الضلالة ورحمة تنال المؤمنين به العاملين به المطبقين لشرائعه وأحكامه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في تأخر النصر على رسله وعباده المؤمنين زيادة في الإعداد والتمحيص ثم يأتي نصر الله فيعز أولياء الله ويذل أعداءه.

٢ ـ التنديد بالإجرام وهو الإفساد للعقائد والأخلاق والشرائع والأحكام.

٣ ـ بيان فضل القرآن وما فيه من الهدى والرحمة لمن طلب ذلك منه.

٤ ـ المؤمنون باعتبار أنهم أحياء هم الذين ينتفعون بهداية القرآن ورحمته.

__________________

(١) أي : مما يحتاج إليه البشر من الحلال والحرام ، والشرائع والأحكام.

فهرس المجلد الثاني

الجزء السابع................................................................... ٤

سورة المائدة من الآية (٨٢)..................................................... ٤

سورة الأنعام من الآية (١).................................................... ٣٤

الجزء الثامن................................................................ ١٠٥

سورة الأنعام من الآية (١١١)............................................... ١٠٥

سورة الأعراف من الآية (١)................................................. ١٥٠

الجزء التاسع................................................................ ٢٠٣

سورة الأعراف من الآية (٨٨)............................................... ٢٠٣

سورة الأنفال من الآية (١).................................................. ٢٨٢

الجزء العاشر................................................................ ٣٠٩

سورة الأنفال من الآية (٤١)................................................ ٣٠٩

سورة التوبة من الآية (١).................................................... ٣٣٥

الجزء الحادي عشر......................................................... ٤١٤

سورة التوبة من الآية (٩٣).................................................. ٤١٤

سورة يونس من الآية (١)................................................... ٤٤٤

سورة هود من الآية (١)..................................................... ٥١٨

الجزء الثاني عشر........................................................... ٥٢٢

سورة هود من الآية (٦)..................................................... ٥٢٢

سورة يوسف من الآية (١).................................................. ٥٩١

الجزء الثالث عشر.......................................................... ٦٢٢

سورة يوسف من الآية (٥٣)................................................. ٦٢٢

الفهرس..................................................................... ٦٥٩

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ٢

المؤلف: أبي بكر جابر الجزائري
الصفحات: 657
  • الجزء السابع 4
  • سورة المائدة من الآية (82) 4
  • سورة الأنعام من الآية (1) 34
  • الجزء الثامن 105
  • سورة الأنعام من الآية (111) 105
  • سورة الأعراف من الآية (1) 150
  • الجزء التاسع 203
  • سورة الأعراف من الآية (88) 203
  • سورة الأنفال من الآية (1) 282
  • الجزء العاشر 309
  • سورة الأنفال من الآية (41) 309
  • سورة التوبة من الآية (1) 335
  • الجزء الحادي عشر 414
  • سورة التوبة من الآية (93) 414
  • سورة يونس من الآية (1) 444
  • سورة هود من الآية (1) 518
  • الجزء الثاني عشر 522
  • سورة هود من الآية (6) 522
  • سورة يوسف من الآية (1) 591
  • الجزء الثالث عشر 622
  • سورة يوسف من الآية (53) 622
  • الفهرس 659