
سورة المائدة
فيها أربع وثلاثون آية
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ
اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ).
فيها عشرون مسألة
:
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : قال علقمة : إذا سمعت (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) فهي مدنيّة ، وإذا سمعت (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهي مكّية ؛ وهذا ربما خرج على الأكثر.
المسألة الثانية ـ
روى أبو سلمة
أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم [كان] لما رجع من الحديبية قال لعلىّ : يا عليّ ؛ أشعرت أنه نزلت
علىّ سورة المائدة ، وهي نعمت الفائدة.
قال [الإمام] القاضي : هذا حديث موضوع لا يحلّ لمسلم اعتقاده ، أما أنّا
نقول : سورة المائدة نعمت الفائدة فلا نؤثره عن أحد ، ولكنه كلام حسن.
المسألة الثالثة ـ
قال أبو ميسرة : في المائدة ثماني عشرة فريضة. وقال غيره : فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في ستة عشر موضعا ؛ فأما قول أبى ميسرة : إنّ فيها ثماني
عشرة فريضة فربما كان ألف فريضة ، وقد ذكرناها نحن في هذا المختصر للأحكام .
المسألة الرابعة ـ
شاهدت المائدة بطور زيتا مرارا ، وأكلت عليها ليلا ونهارا ، وذكرت الله سبحانه فيها
سرّا وجهارا ، وكان ارتفاعها أسفل من القامة بنحو الشّبر ، وكان لها درجتان قلبيا وجوفيا ،
وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول ، فكان الناس يقولون : مسخت صخرة إذ مسخ
أربابها قردة وخنازير.
__________________
والذي عندي أنها
كانت في الأصل صخرة قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من من السماء ، وكلّ ما
حولها حجارة مثلها ، وكان ما حولها محفوفا بقصور ، وقد نحت في ذلك الحجر الصلد
بيوت ، أبوابها منها ، ومجالسها منها مقطوعة فيها ، وحناياها في جوانبها ، وبيوت
خدمتها قد صوّرت من الحجر ، كما تصوّر من الطين والخشب ، فإذا دخلت في قصر من
قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة كثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه
بالأرض ؛ فإذا هبّت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح [إلا] بعد صبّ الماء تحته والإكثار منه ، حتى يسيل بالتراب
وينفرج منعرج الباب ، وقد مات بها قوم بهذه العلة ، وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس ، ولكني كنت في كل حين
أكنس حول الباب مخافة مما جرى لغيري فيها ، وقد شرحت أمرها في كتاب ترتيب الرحلة
بأكثر من هذا.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (أَوْفُوا) :
يقال : وفي وأوفى.
قال أهل العربية : واللغتان في القرآن ؛ قال الله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ). وقال شاعر العرب :
أمّا ابن طوق
فقد أوفى بذمّته
|
|
كما وفى بقلاص
النجم حاديها
|
فجمع بين اللغتين.
وقال الله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من وفّى منكم فأجره على الله.
المسألة السادسة ـ
العقود : واحدها عقد ، وفي ذلك خمسة أقوال :
القول الأول :
العقود : العهود ؛ قاله ابن عباس .
الثاني : حلف
الجاهلية ؛ قاله قتادة. وروى عن ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد ، والثوري.
__________________
الثالث : الذي عقد
الله عليكم وعقدتم بعضكم على بعض ؛ قاله الزجاج.
الرابع : عقد
النكاح والشركة واليمين والعهد والحلف ، وزاد بعضهم البيع ؛ قاله زيد ابن أسلم.
الخامس : الفرائض
؛ قاله الكسائي ؛ وروى الطبري أنه أمر بالوفاء بجميع ذلك.
قال ابن العربي :
وهذا الذي قاله الطبري صحيح ، ولكنه يحتاج إلى تنقيح ـ وهي :
المسألة السابعة ـ
قال : وذلك أن أصل (ع ه د) في اللغة الإعلام بالشيء ، وأصل العقد الربط والوثيقة ، قال الله سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).
وقال عبد الله بن
عمر : الدينار بالدينار والدّرهم بالدرهم لا فضل بينهما ، هذا عهد نبيّنا إلينا
وعهدنا إليكم.
وتقول العرب :
عهدنا أمر كذا وكذا ؛ أي عرفناه ، وعقدنا أمر كذا وكذا ؛ أى ربطناه بالقول كربط
الحبل بالحبل ؛ قال الشاعر :
قوم إذا عقدوا
عقدا لجارهم
|
|
شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا
|
وعهد الله إلى
الخلق إعلامه بما ألزمهم وتعاهد القوم : أي أعلن بعضهم لبعض بما التزمه له وارتبط
معه إليه وأعلمه به ؛ فهذا دخل أحد اللفظين في الآخر ، فإذا عرفت هذا علمت أن الذي
قرطس على الصواب هو أبو إسحاق الزجاج ، فكلّ عهد لله سبحانه أعلمنا به ابتداء ، والتزمناه
نحن له ، وتعاقدنا فيه بيننا ، فالوفاء به لازم بعموم هذا القول المطلق الوارد منه
سبحانه علينا في الأمر بالوفاء به.
__________________
وأما من خصّ حلف الجاهلية فلا قوّة له إلا أن يريد أنه إذا لزم الوفاء به ،
وهو من عقد الجاهلية ؛ فالوفاء بعقد الإسلام أولى ، وقد أمر الله سبحانه بالوفاء
به ؛ قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ؛ قال ابن عباس : يعنى من النصيحة والرفادة والنصرة ، وسقط
الميراث خاصة بآية الفرائض وآية الأنفال. وقد قال النبي [صلى الله عليه وسلم : المؤمنون عند شروطهم] .
وأما من قال عقد
البيع وما ذكر معه فإنما أشار إلى عقود المعاملات وأسقط غيرها وعقود الله والنذور
؛ وهذا تقصير.
وأما قول الكسائي
الفرائض فهو أخو قول الزجاج ، ولكن قول الزجاج أوعب ؛ إذ دخل فيه الفرض المبتدأ
والفرض الملتزم والندب ، ولم يتضمّن قول الكسائي ذلك كله.
المسألة الثامنة ـ
إذا ثبت هذا فربط العقد تارة يكون مع الله ، وتارة يكون مع الآدمي ، وتارة يكون بالقول
، وتارة بالفعل ، فمن قال : «لله علىّ صوم يوم» فقد عقده بقوله مع ربّه ؛ ومن قام
إلى الصلاة فنوى وكبّر فقد عقدها لربه بالفعل ، فيلزم الأول ابتداء الصوم ، ويلزم
هذا تمام الصلاة ؛ لأن كل واحد منها قد عقدها مع ربه ، والتزم. والعقد بالفعل أقوى
منه بالقول. وكما قال سبحانه : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً). كذلك قال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ). وما قال القائل : على صوم يوم أو صلاة ركعتين إلّا ليفعل
، فإذا فعل كان أقوى من القبول ؛ فإن القول عقد وهذا نقد ؛ وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وشرح الحديث على
الشافعى تمهيدا بليغا ، فلينظر هنالك.
فإن قيل : فكيف
يلزم الوفاء بعقد الجاهلية حين كانوا يقولون : هدمي هدمك ، ودمى دمك ، وهم إنما
كانوا يتعاقدون على النصرة في الباطل.
__________________
قلنا : كذبتم ؛
إنما كانوا يتعاقدون على ما كانوا يعتقدونه حقّا ، وفيما كانوا يعتقدونه حقّا ما
هو حق كنصرة المظلوم ، وحمل الكلّ ، وقرى الضيف ، والتعاون على نوائب الحق. وفيه
أيضا باطل ؛ فرفع الإسلام من ذلك الباطل بالبيان ، وأوثق عرى الجائز ، وألحق منه
بالأمر بالوفاء بإتيانهم نصيبهم فيه ، كما تقدم من النصيحة والرفادة والنصرة ،
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : المؤمنون
عند شروطهم. معناه إنما تظهر
حقيقة إيمانهم عند الوفاء بشروطهم.
وقال صلى الله
عليه وسلم : أحق
الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج. ثم قال : ما بال أقوام يشترطون شروطا
ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن [كان] اشترط مائة شرط.
فبيّن أن الشرط
الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله تعالى ، أى دين الله تعالى ، كذلك لا يلزم
الوفاء بعقد إلا أن يعقد على ما في كتاب الله. وعلى المسلمين أن يلتزموا الوفاء
بعهودهم وشروطهم إلّا أن يظهر فيها ما يخالف كتاب الله ، فيسقط. ولا يمنع هذا
التعلّق بعموم القولين ؛ ولذلك حثّ على فعل الخير ، فقال : (وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وأمر بالكفّ عن الشر ، فقال : لا ضرر ولا ضرار. فهذا حثّ على فعل كل خير واجتناب كل شر. فأما اجتناب الشر
فجميعه واجب. وأمّا فعل الخير فينقسم إلى ما يجب وإلى ما لا يجب ؛ وكذلك الوفاء
بالعقود ، ولكنّ الأصل فيها الوجوب ، إلّا ما قام الدليل على ندبه ؛ وقد جهل بعضهم
فقال : لما كانت العقود الباطلة والشروط الباطلة لا نهاية لها والجائز منها محصور
فصار مجهولا فلا يجوز الاحتجاج على الوفاء بالعقود ولا بالشروط لأجل ذلك وهي عبارة عظيمة ، وهي :
المسألة التاسعة :
قلنا : وما لا يجوز [كيف] يدخل تحت مطلق أمر الله سبحانه حتى يجعله مجملا. والله لا
يأمر بالفحشاء ولا بالباطل : لقد ضلّت إمامتك وخابت أمانتك ، وعلى هذا لا دليل في
الشرع لأمر يفعل ؛ فإن منه كله ما لا يجوز ، ومنه ما يجوز ،
__________________
فيؤدى إلى تعطيل
أدلّة الشرع وأوامره. والذين قالوا بالوقف لم يرتكبوا هذا الخطر ، ولا سلكوا هذا
الوعر ، فدع هذا وعدّ القول إلى العلم إن كنت من أهله.
فإن قيل : محمول
قوله : أوفوا بالعقود على المقيّد لما بيّنا ، وهي :
المسألة العاشرة ـ
قلنا : فقد أبطلنا ما يثبت محمول قوله : أوفوا بالعقود على كل عقد مطلق ومقيّد.
وماذا تريد بقولك مقيّدا؟ تريد قيّد بالجواز أم قيّد بقربة ، أو قيّد بشرط؟ فإن
أردت به قيّد بشرط لزمك فيه ما لزمك في المطلق من أنّ الشرط منه ما لا يجوز كما
تقدم لك ، وإن قلت مقيّد بقربة فيبطل بالمعاملات ، وإن قلت مقيّد
بالدليل فالدليل هو قول الله سبحانه ، وقد قال : (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ).
فإن قيل : هذا عقد
اليمين لا يجب الوفاء به ، وهي :
المسألة الحادية
عشرة ـ قلنا : لا يجب الوفاء بشيء أكثر مما يجب الوفاء باليمين ، وكيف لا يجب
الوفاء به وهو عقد أكّد باسم الله سبحانه؟ حاشا لله أن نقول هذا ، ولكنّ الشرع أذن
رحمة ورخصة في إخراج الكفّارة بدلا من البر ، وخلفا من المعقود عليه الذي فوّته
الحنث. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ، وستراه في آية الكفّارة من هذه السورة إن
شاء الله تعالى.
فإن قيل : فقد قال
الشافعى : إذا نذر قربة لا يدفع بها بلية ولا يستنجح بها طلبة فإنه لا يلزم الوفاء
بها.
قلنا : من قال
بهذا فقد خفيت عليه دلائل الشرع ؛ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر :
أوف بنذرك. وقد
بينا قول الله عز وجل فيه وما ذا على الشريعة أو ما [ذا] يقدح في الأدلة من رأى الشافعى وأمثاله من العلماء.
وأما نذر المباح
فلم يلزم بإجماع الأمة ونصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصحيح ، وهي شيء جهلته
يا هذا العالم ، فادرج عن هذه الأغراض ، فليس بوكر إلّا لمن أمّنته
__________________
معرفة أحاديث
النبيّ صلى الله عليه وسلم من المكر ، ولم يتكلم برأيه وحده ، ولا أعجب بطرق من
النظر حصّلها ، ولم يتمرّس فيها بكتاب الله عز وجلّ ولا بسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم ؛ فافهم هذا ، والله يوفقكم وإيانا بتوفيقه لتوفية عهود الشريعة
حقّها.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) :
اختلف فيها على
ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه كلّ
الأنعام ؛ قاله السّدّى ، والربيع ، والضحاك.
الثاني ـ أنه الإبل
، والبقر ، والغنم ؛ قاله ابن عباس ، والحسن.
الثالث ـ أنه
الظباء ، والبقر ، والحمر الوحشيان.
المسألة الثالثة
عشرة ـ في المختار :
أما من قال : [إن
النّعم] هي الإبل والبقر والغنم فقد علمت صحة ذلك دليلا ، وهو أنّ
النّعم عند بعض أهل اللغة اسم خاصّ للإبل يذكّر ويؤنّث ؛ قاله ابن دريد وغيره ،
وقد قال الله تعالى : (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ). وقال تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ
حَمُولَةً وَفَرْشاً ، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ
الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ). وقال : (وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ).
فهذا مرتبط بقوله
: ومن الأنعام حمولة وفرشا ، أى خلق جنات وخلق من الأنعام حمولة وفرشا ، يعنى
كبارا وصغارا ، ثم فسّرها فقال : ثمانية أزواج ... إلى قوله : (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا).
وقال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ
__________________
إِقامَتِكُمْ
، وَمِنْ أَصْوافِها) ـ وهي الغنم ـ (وَأَوْبارِها) ـ وهي الإبل ـ (وَأَشْعارِها) ـ وهي المعزى ، (أَثاثاً وَمَتاعاً
إِلى حِينٍ.)
فهذه ثلاثة أدلّة
تنبئ عن تضمّن اسم النّعم لهذه الأجناس الثلاثة : الإبل والبقر والغنم ، لتأنيس
ذلك كله ، فأما الوحشية فلم أعلمه إلى الآن إلا اتباعا لأهل اللغة.
أما أنه قد قال
بعض العلماء : إنّ قوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يقتضى دخول البقر والحمر والظباء تحت قوله : بهيمة الأنعام
؛ فصار تقدير الكلام : أحلّت لكم بهيمة الأنعام إنسيّها ووحشيّها غير محلّى الصّيد
وأنتم حرم ؛ أى ما لم تكونوا محرمين. فإن كان هذا متعلقا فقد قال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).
فجعل الصيد والنعم
صنفين. وأيضا فإن من أراد أن يدخل الظباء والبقر والحمر الوحشية فيه ليعمّ ذلك كله
في الإحلال ماذا يصنع بصنف الصّيد الطائر كله؟
فالدليل الذي
أحلّه ولم يدخل في هذه الآية محلّ الظباء والبقر والحمر الوحشية وإن لم يدخل في
الآية.
وقد ينتهى العىّ
ببعضهم إلى أن يقول : إنّ الأنعام هي الإبل لنعمة أخفافها في الوطء ، ولا يدخل فيه
الحافر ولا الظلف لجساوته وتحدّده. ويقال له : إن الأنعام إنما سميت به لما يتنعّم
به من لحومها وأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
وبهذه الآية كان
يدخل صنف الوحشي فيها ؛ لأنها ذات أشعار من جهة أنه يتأتّى ذلك فيه حسّا وإن لم [يكن]
يتناول ذلك [منها] عرفا.
فإن قلنا : إن
اللفظ يحمل على الحقيقة الأصلية ، فيدخل في هذا اللفظ في النحل ويتناولها اللفظ في
سورة المائدة. وإن قلنا : إن الألفاظ تحمل على الأحوال المعتادة العرفية لم يدخل
فيها ؛ إذ لا يعتاد ذلك من أوبارها.
وهاهنا انتهى
تحقيق ذلك في هذا المختصر.
__________________
المسألة الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) :
قالوا : من قوله
تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ). وقيل من قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ) ؛ والصحيح أنه من قوله في كل محرّم في كتاب الله تعالى أو
سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : فقد قال
: (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ). والذي يتلى هو القرآن ، ليس السنة. قلنا : كلّ كتاب يتلى
، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ). وكلّ سنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فهي من كتاب
الله.
والدليل عليه
أمران : أحدهما قوله صلّى الله عليه وسلم في قصة العسيف : لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك
، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام.
وليس هذا في
القرآن ، ولكنه في كتاب الله الذي أوحاه إلى رسوله علما من كتابه المحفوظ عنده.
والدليل الثاني في
حديث عبد الله بن مسعود ؛ قال :
لعن الله الواشمات
، والمستوشمات ، والمتنّمصات ، والمتفلّجات للحسن ، والمغيّرات لخلق الله فبلغ ذلك
امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت.
فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ أليس هو في كتاب الله؟
فقالت : لقد قرأت ما بين اللّوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال : لئن كنت قرأتيه
لقد وجدتيه. أو ما قرأت : (وَما) (آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإنى أرى أهلك
يفعلونه. قال : فاذهبي فانظرى ، فذهبت [فنظرت] فلم تر من حاجتها شيئا. فقال : لو كانت كذلك ما جامعتها.
__________________
المسألة الخامسة
عشرة ـ يحتمل قوله : إلّا ما يتلى عليكم الآن ، أو إلّا ما يتلى عليكم فيما بعد من
مستقبل الزمان. وفي هذا دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل
الحاجة ، وهي مسألة أصولية ، وقد بيناها في المحصول ، ومعناه أن الله سبحانه أباح
لنا شيئا وحرّم علينا شيئا استثناه منه. فأما الذي أباح لنا فسماه [وبيّنه] . وأما الذي استثناه فوعد بذكره في حين الإباحة ، ثم بيّنه
بعد ذلك في وقت واحد أو في أوقات متفرقة على اختلاف التأويلين المتقدّمين ، وكلّ
ذلك تأخير للبيان ، والله أعلم.
المسألة السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ) :
فيه ثلاثة أقوال :
الأوّل ـ معناه
أوفوا بالعقود غير محلّى الصّيد.
الثاني ـ أحلت لكم
بهيمة الأنعام الوحشية غير محلّى الصيد وأنتم حرم.
الثالث ـ أحلّت
لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل لكم وأنتم حرم.
المسألة السابعة
عشرة ـ في تنقيحها :
أما قوله : إن
معناه أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأنتم حرم فاختاره الطبري والأحفش ، وقالا :
فيه تقديم وتأخير ، وهو جائز في نظام الكلام وإعرابه ؛ وهذا فاسد ؛ إذ لا خلاف أن
الاستثناء إذا كان باسم الفاعل فإنه حال ؛ فيكون تقدير الآية أوفوا بالعقود لا
محلّين للصيد في إحرامكم. ونكث العهد ونقض العقد محرم ، والأمر بالوفاء مستمر في
هذه الحال وفي كل حال. ولو اختص الوفاء بها في هذه الحال لكان ما عداها بخلاف على
رأى القائلين بدليل الخطاب. وذلك باطل أو يكون مسكوتا عنه. وإنما ذكر الأقل من
أحوال الوفاء وهو مأمور به في كل حال ، وهذا تهجين للكلام وتحقير للوفاء بالعقود.
وأما من قال :
أحلّت لكم الوحشية فهو خطأ من وجهين :
أحدهما ـ أن فيه
تخصيص بعض المحللات ، وهو تخصيص للعموم بغير دليل لا سيما عموم متفق عليه.
__________________
والثاني ـ أنه حمل
للفظ بهيمة الأنعام على الوحشية دون الإنسية ، وذلك تفسير للّفظ بالمعنى التابع
لمعانيه المختلف منها فيه.
وأما من قال :
معناه أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد
، ولا يحلّ لكم الصيد وأنتم حرم. وهذا أشبهها معنى ، إلا أن نظام تقديره ليس بجار
على قوانين العربية ؛ فإنه أضمر فيه ما لا يحتاج إليه ، وإنما ينبغي أن يقال ؛
[تقديره] : أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، غير محلين
صيدها وأنتم حرم ؛ فيصح المعنى ، ويقلّ فضول الكلام ، ويجرى على قانون النحو.
وفيها مسألة بديعة ؛ وهي :
المسألة الثامنة
عشرة ـ وهي تثنية الاستثناء في الجملة الواحدة ، وهي ترد على قسمين:
أحدهما ـ أن يتكرر
، ويكون الثاني من الأول ، كقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ).
الثاني ـ أن يكونا
جميعا من الأول ، كقوله هاهنا : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، فقوله
: (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) استثناء من بهيمة الأنعام على أحد القولين وأظهرهما ،
وقوله : إلا الصيد استثناء آخر أيضا معه . وقد مهدنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض
النحويين.
المسألة التاسعة
عشرة ـ في تمثيل لهذا التقدير من حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلم : وذلك ما روى
أنّ أبا قتادة الحارث بن ربعي الأنصارى قال : كنّا
مع النبي صلّى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة وهم محرمون وأنا حلّ على فرس لي ،
فكنت أرقى على الجبال ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت الناس مشرفين لشيء ، فذهبت لأنظر ، فإذا هو حمار وحشي ، فقلت لهم : ما
هذا؟ فقالوا : لا ندري. فقلت : هو حمار وحشي. قالوا : هو ما رأيت. وكنت نسيت سوطى.
فقلت لهم : ناولوني سوطى. فقالوا : لا نعينك عليه ، فنزلت وأخذته ثم
__________________
صرت
في أثره ، فلم يكن إلا ذاك حتى عقرته ؛ فأتيت إليهم فقلت : قوموا فاحتملوا. فقالوا : لا نمسّه ، فحملته حتى جئتهم به ، فأبى
بعضهم ، وأكل بعضهم. قلت : أنا أستوقف لكم النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، فأدركته ،
فحدّثته الحديث ، فقال لي : أبقى معكم منه شيء؟ قلت : نعم. قال : فكلوا فهو طعمة
أطعمكموها الله ؛ فأحلّ لهم الحمر مطلقا إلّا ما يتلى عليهم ، إلا ما صادره وهم
محرمون منها ؛ وما صاده غيرهم فهو حلال لهم
، فإنما حرّم
عليهم منه ما وقع إليهم بصيدهم ، إلى تفصيل يأتى بيانه إذا صيد لهم ، فإن حرم
فإنما هو بدليل آخر غير هذه الآية.
المسألة الموفية
عشرين ـ مضى في سرد هذه الأقوال أنّ من الصحابة من قال في جنين الناقة أو الشاة أو
البقرة أو نحوها : إنها من بهيمة الأنعام المحلّلة. وللعلماء فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه حلال
بكلّ حال ؛ قاله الشافعى.
الثاني ـ أنه حرام
بكل حال ، إلا أن يذكى ؛ قاله أبو حنيفة.
الثالث ـ الفرق
بين أن يكون قد استقل ونبت شعره وبين أن يكون بضعة كالكبد والطحال ؛ قاله مالك. وتعلق بعضهم بالحديث المشهور
: ذكاة الجنين ذكاة أمه. ولم يصح عند الأكثر ، وصححه الدّارقطنيّ ؛ واختلفوا في
ذكر «ذكاة» الثانية هل هي يرفع التاء فيكون الأول الثاني ولا يفتقر الجنين إلى
ذكاة ، أو هو بنصب التاء فيكون الأول غير الثاني ، ويفتقر إلى الذكاة ، وقد مهدناه
في الرسالة الملجئة ، وبيّنا في مسائل الخلاف أنّ المعوّل فيه على اعتبار الجنين
بجزء من أجزائها ، أم يعتبر مستقلا بنفسه ، وقد بينا في كتاب الإنصاف الحقّ فيها ،
وأنه في مذهبنا باعتبار ذكاة المستقبل ؛ والله أعلم. وسنشير إلى شيء من ذلك في
الآية بعدها إن شاء الله.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا
الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ، وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ
تَعْتَدُوا ، وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (شعائر) :
وزنها فعائل ،
واحدتها شعيرة ؛ فيها قولان : أحدهما ـ أنه الهدى. الثاني ـ أنه كلّ متعبد ؛ منها
الحرام في قول السدّى ، ومنها اجتناب سخط الله في قول عطاء. ومنها مناسك الحج في
قول ابن عباس ومجاهد . وقال علماء النحويين : هو من أشعر ـ أى أعلم ؛ وهذا فيه
نظر ؛ فإن فعيلا بمعنى مفعول بأن يكون من فعل لا من أفعل ، ولكنه جرى على غير فعله كمصدر
جرى على غير فعله ، وقد بيناه في رسالة الملجئة.
والصحيح من
الأقوال هو الثاني ، وأفسدها من قال : إنه الهدى ؛ لأنه قد تكرر فلا معنى لإبهامه
والتصريح بعد ذلك به.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَلَا الشَّهْرَ
الْحَرامَ) :
قد بينا في كل
مصنّف أن الألف واللام تأتى للعهد وتأتى للجنس ؛ فهذه لام الجنس ، وهي أربعة أشهر
يأتى بيانها مفصّلة في سورة «براءة» إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ) : وهو كلّ حيوان يهدى إلى الله في بيته ، والأصل فيه عمومه
في كلّ مهدى ، كان حيوانا أو جمادا. وحقيقه الهدى كلّ معطى لم يذكر
__________________
معه عوض ، وقد جاء في الحديث الصحيح : من راح في الساعة الأولى إلى الجمعة
فكأنما قرّب بدنة ، ومن راح في الساعة السادسة فكأنما قرّب بيضة ، وفي بعض الألفاظ ؛ فكأنما أهدى بدنة ، وكأنما أهدى بيضة.
وقد اتفق الفقهاء على أن من قال : ثوبي هدى أنه يبعث بثمنه إلى مكة في اختلاف يأتى
بيانه.
المسألة الرابعة ـ
وأما القلائد فهي كل ما علّق على أسنمة الهدايا علامة على أنها لله سبحانه ، من نعل
أو غيره ، وهي سنّة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرّها الإسلام في الحج. وأنكرها
أبو حنيفة. وقد ثبت في الصحيح ، وذلك مبين في مسائل الخلاف إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة ـ
(وَلَا آمِّينَ
الْبَيْتَ الْحَرامَ) : يعنى قاصدين له ، من قولهم : أممت كذا ، أى قصدته ، وهذا
عامّ في كل من قصده باسم العبادة ، وإن لم يكن من أهلها ، كالكافر ، وهذا قد نسخ
بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في قول المفسرين ، وهو تخصيص غير نسخ على ما بيناه في
القسم الثاني ، فإنه إن كان أمر بقتل الكفار فقد بقيت الحرمة للمؤمنين.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) ، وكان سبحانه حرّم الصيد في حال الإحرام بقوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ) ، ثم أباحه بعد الإحلال ، وهو زيادة بيان ؛ لأنّ ربطه
التحريم بالإحرام يدلّ على أنه إذا زال الإحرام زال التحريم ، ولكن يجوز أن يبقى
التحريم لعلة أخرى غير الإحرام ؛ فبين الله سبحانه عدم العلة بما صرّح به من
الإباحة ؛ فكان نصّا في موضع الاستثناء ، وهو محمول على الإباحة اتفاقا ، وقد توهم
قوم أنّ حمله على الإباحة إنما كان لأجل تقديم الحظر عليه ، وقد بيناه في أصول
الفقه.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ) على العدوان على آخرين.
__________________
نزلت
هذه الكلمة في الحكم رجل من ربيعة قدم على رسول الله صلّى الله عليه
وسلم فقال : بم تأمرنا؟ فسمع منه. وقال : أرجع إلى قومي فأخبرهم. فقال النبيّ صلّى
الله عليه وسلم : لقد جاء بوجه كافر ورجع بقفا غادر. ورجع فأغار على سرح من سروح المدينة ، فانطلق به ، وقدم بتجارة أيام الحجّ
يريد مكة ، فأراد ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أن يخرجوا إليه ، فنزلت
هذه [الآية] ؛ أي لا تعتدوا [إنّ الله لا يحبّ المعتدين] بقطع سبل الحج ، وكونوا ممن يعين في التقوى ، لا في
التعدّى ، وهذا من معنى الآية منسوخ ، وظاهر عمومها باق في كل حال ، ومع كل أحد ،
فلا ينبغي لمسلم أن يحمله بغض آخر على الاعتداء عليه إن كان ظالما ، فالعقاب معلوم
على قدر الظلم ، ولا سبيل إلى الاعتداء عليه إن ظلم غيره ؛ فلا يجوز أخذ أحد عن
أحد. قال الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى). وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما
أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ؛ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ، فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ).
فيها إحدى وعشرون
مسألة :
المسألة الأولى ـ أما
قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) ـ فقد تقدم بيان ذلك في سورة البقرة.
وأما قوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فسيأتى في سورة الأنعام إن شاء الله.
__________________
المسألة الثانية ـ
وهو قوله : (الْمُنْخَنِقَةُ) ، فهي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد ، أو بغير حبل.
المسألة الثالثة ـ
الموقوذة : التي تقتل ضربا بالخشب أو بالحجر ، ومنه المقتولة بقوس البندق.
المسألة الرابعة ـ
المتردّية ، وهي الساقطة من جبل أو بئر. وأما المتندية وهي :
المسألة الخامسة ـ
فيقال : ندت الدابة إذا انفلتت من وثاق فندّت فخرج وراءها فرميت برمح أو سيف فماتت
، فهل يكون رميها ذكاة أم لا؟
فاختلف العلماء في
ذلك ؛ فذهب بعضهم إلى أنه يكون ذلك ذكاة فيه ، وهو اختيار الشافعى وابن حبيب.
وقال آخرون : لا
يذكى به ، وهو اختيار مالك.
وقد روى البخاري
وغيره عن رافع بن خدبح قال : كنّا
مع النبي صلّى الله عليه وسلم بذي الخليفة ، وأصاب الناس جوع ، فأصبنا إبلا وغنما
، فندّ منها بعير فصلبوه فلم يقدروا عليه ، فأهوى إليه رجل بسهم
فحبسه الله ؛ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش
، فما ندّ عليكم فاصنعوا به هكذا .
فقال الشافعى
وغيره : إن تسليط النبي صلّى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة له.
وقال الآخرون :
إنما هو تسليط على حبسه لا على ذكاته ؛ فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال ، فلا
يراعى النادر منه ، وإنما يكون ذلك في الصيد حسبما يأتى بيانه إن شاء الله.
وقد روى أبو
العشراء عن أبيه قال : قلت
: يا رسول الله ؛ أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللّبة؟ قال : لو طعنت فخذها
لأجزأ عنك.
قال يزيد بن هارون
: هذا في الضرورة ، وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ، ورواه عن أبي داود ، وأشار
على من دخل عليه من الحفّاظ أن يكتبه.
المسألة السادسة ـ
النّطيحة ، وهي الشاة تنطحها الأخرى بقرونها. وقرأ أبو ميسرة : المنطوحة ، وهي
فعيلة بمعنى مفعولة.
__________________
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (وَما أَكَلَ
السَّبُعُ) :
وكان أهل الجاهلية
إذا أكل السبع شاة أكلوا بقيّتها ؛ قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) :
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه
استثناء مقطوع عما قبله غير عائد إلى شيء من المذكورات ، وذلك مشهور في لسان العرب
، يجعلون إلا بمعنى لكن ، من ذلك قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) : معناه لكن إن قتله خطأ ، وقد تقدم كلامنا عليه ، وأنشد
بعضهم لأبى خراش الهذلي :
أمسى سقام خلاء
لا أنيس به
|
|
إلّا السباع
ومرّ الريح بالغرف
|
أراد إلا أن يكون
به السباع ، أو لكن به السباع. وسقام : واد لهذيل.
ومنه قول الشاعر :
وبلدة ليس بها
أنيس
|
|
إلا اليعافير
وإلّا العيس
|
وقال النابغة :
وما بالرّبع من
أحد
|
|
إلّا الأوارىّ
|
ومن أبدعه قول
جرير :
من البيض لم
تظعن بعيدا ولم تطأ
|
|
من الأرض إلا
ذيل برد مرحّل
|
كأنه قال : لم تطأ
على الأرض إلّا أن تطأ ذيل برد مرحّل. أخبرنا بذلك كله أبو الحسن الطيوري ، عن
البرمكي ، والقزويني ، عن أبي عمر بن حيوة ، عن أبي عمر محمد ابن عبد الواحد ، ومن
أصله نقلته.
__________________
الثاني ـ أنه
استثناء متصل ، وهو ظاهر الاستثناء ، ولكنه يرجع إلى ما بعد قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ـ وَالْمُنْخَنِقَةُ) إلى (... ما أَكَلَ
السَّبُعُ).
الثالث ـ أنه يرجع
الاستثناء إلى التحريم لا إلى المحرم ، ويبقى على ظاهره.
المسألة التاسعة
في المختار :
وذلك أنّا نقول :
إن الاستثناء المنقطع لا ينكر في اللغة ولا [في الشريعة] في القرآن ولا في الحديث حسبما أشرنا إليه في سورة النساء
، كما أنه لا يخفى أنّ الاستثناء المتصل هو أصل اللغة ، وجمهور الكلام ، ولا يرجع
إلى المنقطع إلا إذا تعذّر المتصل. وتعذّر المتصل يكون من وجهين : إما عقليا وإما
شرعيا ؛ فتعذّر الاتصال العقلي هو ما قدمناه من الأمثلة قبل هذا في الأول. وأما
التعذّر الشرعي فكقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ). فإنّه قوله : (إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ) ليس رفعا لمتقدم ، وإنما هو بمعنى لكن. وقوله : (طه. ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى). وقوله : (إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ).
عدنا إلى قوله : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، قلنا : فأما الذي يمنع أن يعود إلى ما يمكن إعادته إليه
، وهو قوله : (الْمُنْخَنِقَةُ) إلى آخرها كما قال علىّ رضى الله عنه : إذا أدركت ذكاة الموقوذة وهي تحرك يدا
أو رجلا فكلها ، وبه قال ابن
عباس وزيد بن ثابت ؛ وهو خال عن مانع شرعىّ يردّه ؛ بل قد أحلّه الشرع ؛ فقد ثبت
أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بالجبل الذي بالسوق ، وهو سلع ، فأصيبت منها شاة فكسرت حجرا فذبحتها ، فذكروا ذلك للنبي
صلّى الله عليه وسلم فأمر بأكلها.
وروى النسائي عن
زيد بن ثابت ـ أن
ذئبا نيّب شاة فذبحوها بمروة ، فرخّص النبي صلّى الله عليه وسلم في أكلها.
__________________
المسألة العاشرة ـ
اختلف قول مالك في هذه الأشياء ؛ فروى عنه أنه لا يؤكل إلا ما كان بذكاة صحيحة.
والذي في الموطأ عنه أنه إن كان ذبحها ونفسها يجرى وهي تطرف فليأكلها ، وهذا هو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده ، وقرأه على
الناس من كل بلد عمره ، فهو أولى من الروايات الغابرة ، لا سيما والذكاة عبادة
كلفها الله سبحانه عباده للحكمة التي [يأتى] بيانها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
وهذا هو أحد
متعلقات الذكاة ، وهو القول في الذكاة ، وهو يتعلق بأربعة أنواع : المذكّى ،
والمذكّى ، والآلة ، والتذكية نفسها. فأما المذكّى فيتعلق القول فيه بأنواع
المحلات والمحرمات ، وسيأتى ذلك في سورة الأنعام إن شاء الله.
وأما المذكّى وهو
الذابح فبيانه فيها إن شاء الله.
وأما التذكية
نفسها والآلة فهذا موضع ذلك :
المسألة الحادية
عشرة ـ في التذكية ، وهي في اللغة عبارة عن التمام ، ومنه ذكاء السنّ ، ويقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها ، فقال بعضهم :
لا بد أن تبقى في المذكّاة بقية تشخب معها الأوداج ويضطرب اضطراب المذبوح.
وقد تقدم قوله في
الحديث المتقدم الذي صرح فيه بأنّ الشاة أدركها الموت ، وهذا يمنع من شخب أوداجها
، وإنما أصاب الغرض مالك في قوله : إذا ذبحها ونفسها تجرى وهي تضطرب ـ إشارة إلى أنها وجد فيها قتل صار باسم الله المذكور عليها ذكاة ، أى تمام يحلّها وتطهير
لها ، كما جاء في الحديث في الأرض النجسة : ذكاة الأرض يبسها.
وهي في الشرع
عبارة عن انهار الدم ، وفرى الأوداج في المذبوح ، والنّحر في المنحور ، والعقر في غير المقدور
عليه كما تقدّم ؛ مقرونا ذلك بنيّة القصد إليه. وذكر الله تعالى عليه كما يأتى
بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
والأصل في ذلك الحديث
الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه
قيل له : إنا لاقو
__________________
العدوّ
غدا ، وليس معنا مدى ، أفنذبح بالقصب؟ فقال : ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه
فكلوه ، ليس السنّ والظفر. وسأخبركم : أما السنّ فعظم ، وأما الظّفر فمدى الحبشة.
وروى النسائي وأبو
داود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن عدىّ بن حاتم قال [له] :
أرأيت إن أصاب
أحدنا صيدا وليس معه سكين ، أنذبح بالمروة وشقة العصا؟ قال : أنهر الدم بما شئت ، واذكر اسم الله تعالى.
وقد تقدم في حديث جارية كعب بن مالك.
والصحيح أنها ذبحت
بمروة ، وأجازه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية
عشرة ـ ليس في الحديث الصحيح ذكر الذكاة بغير انهار الدم ، فأما فرى الأوداج وقطع
الحلقوم والمريء فلم يصحّ فيه شيء.
وقال مالك وجماعة
: لا تصحّ الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين.
وقال الشافعى :
يصحّ بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين بتفصيل قد ذكرناه في المسائل.
وتعلّق علماؤنا بحديث
رفع بن خديج أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال : أفر
الودجين واذكر اسم الله.
ولم يصحّ عن
النبيّ صلّى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء لا لنا ولا لهم ، وإنما المعوّل على
المعنى ؛ فالشافعي اعتبر قطع مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معه حياة ، وهو
الغرض من الموت. وعلماؤنا اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ، ويفترق فيه
الحلال ـ وهو اللّحم ، من الحرام ، وهو الدم ـ بقطع الأوداج ، وهو مذهب أبى حنيفة.
وعليه يدل صحيح الحديث في قوله صلّى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم . وهذا بيّن لا غبار عليه.
__________________
المسألة الثالثة
عشرة : لا تصح الذكاة إلا بنيّة ؛ ولذلك قلنا : لا تصح من المجنون ومن لا يعقل ؛
لأنّ الله تعالى منعها من المجوسىّ ؛ وهذا يدلّ على اعتبار النية ، ولو لم يعتبر
القصد لم يبال ممن وقعت ، وسنكمّل القول فيه في سورة الأنعام.
المسألة الرابعة
عشرة ـ ولو ذبحها من القفا ، ثم استوفى القطع ، وأنهر الدم ، وقطع الحلقوم
والودجين ، لم تؤكل عند علمائنا.
وقال الشافعي :
تؤكل ؛ لأنّ المقصود قد حصل ، وهذا ينبنى على أصل نحققه لكم ؛ وهو أنّ الذكاة وإن
كان المقصود بها انهار الدم ، ولكن فيها ضرب من التعبّد والتقرّب إلى الله سبحانه
؛ لأنّ الجاهلية كانت تتقرّب بذلك لأصنامها وأنصابها ، وتهلّ لغير الله فيها ،
وتجعلها قربتها وعبادتها ، فأمر الله تعالى بردّها إليه والتعبد بها له ، وهذا
يقتضى أن يكون لها نيّة ومحل مخصوص. وقد
ذبح النبي صلّى الله عليه وسلم في الحلق ، ونحر في اللّبة ؛ وقال : إنما الذكاة في
الحلق واللبّة ، فبيّن محلها ، وقال مبينا لفائدتها : ما أنهر الدم ، وذكر اسم
الله عليه ، فكل. فإذا أهمل ذلك ، ولم يقع بنية ولا شرط ولا صفة مخصوصة زال منها حظّ التعبّد.
المسألة الخامسة
عشرة ـ في الآلة ، وقد بينها النبيّ صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في قوله
: ما أنهر الدم. وتجويزه الذبح بالقصب والحجر إذا وجد ذلك بصفة الحدّة يقطع
ويريح الذبيحة ، ولا يكون معراضا يخنق ولا يقطع ، أو يجرح ولا يفصل ؛ فإن كان كذلك لم يؤكل.
وأما السنّ والظفر
ففيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ يجوز
بالعظم ؛ قاله في المدوّنة.
والثاني ـ لا يجوز
بالعظم والسنّ ، قاله في كتاب محمد ، وبه قال الشافعى.
الثالث ـ إن كانا
مركبين لم يذبح بهما ، وإن كان كلّ واحد منهما منفصلا ذبح بهما ؛ قاله ابن حبيب ، [وأبو
حنيفة] .
__________________
فأما الشافعىّ
فأخذ بمطلق النهى ، وجعله عامّا في حال الانفصال والاتصال ، وأما ابن حبيب وأبو
حنيفة فأخذا بالمعنى ، وذلك أنه إذا كانا متصلين كان الذبح بهما خنقا ، وأما إذا
كانا منفصلين كانا بمنزلة الحجر والقصب ، وهذا أشبه بمذهب الشافعى ، كما أن مذهبنا
أولى بمذهب الشافعى ؛ لأنّ الذكاة عندنا عبادة ، فكانت باتباع النصّ في الآلة أولى
، وعنده أنها معقولة المعنى ، فكان بإنهار الدم بكل شيء أولى ، ولكن معنى ذلك أنّ
النبىّ صلّى الله عليه وسلم لما نصّ على السنّ والظفر وقف الشافعىّ عنده وقفة قاطع
للنظر حين قطع الشرع به عنه.
ورأى علماؤنا أن
النهى عن السنّ والظفر ، إنما هو لأجل أنّ من كان يفعله لم يبال أن تخلط الذكاة
بالخنق ، فإذا كانت على يدي من يفصلهما جاز ذلك إذا انفصلا.
المسألة السادسة
عشرة ـ أطلق علماؤنا على المريضة أنّ المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا
كانت فيها بقية حياة. وليت شعري أى فرق بين بقية حياة من مرنس أو بقية حياة من سبع
لو اتسق النظر وسلمت عن الشّبه الفكر. وقد بينا ذلك في المسائل.
المسألة السابعة
عشرة ـ قولهم : إن الاستثناء يرجع إلى التحريم لا إلى المحرم ، وهو كلام من لم
يفهم ما التحريم. وقد ثبت أنّ التحريم حكم من أحكام الله تعالى ، وقد شرحنا في غير
موضع أنّ الأحكام ليست بصفات للأعيان ، وإنّما هي عبارة عن قول الله سبحانه ، وليس
في القول استثناء ، إنما الاستثناء في المقول [فيه] وهو المخبر عنه .
المسألة الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) :
معناه تطلبوا ما
قسم لكم ، وجعله من حظوظكم وآمالكم ومنافعكم ، وهو محرم فسق ممن فعله ؛ فإنه تعرّض
لعلم الغيب ، ولا يجوز لأحد من خلق الله أن يتعرض للغيب ولا يطلبه ؛ فإن الله
سبحانه قد رفعه بعد نبيه إلّا في الرؤيا.
__________________
فإن قيل : فهل
يجوز طلب ذلك في المصحف ؛ قلنا : لا يجوز فإنه لم يكن المصحف ليعلم به الغيب ؛ إنما بينت آياته ، ورسمت كلماته
ليمنع عن الغيب ؛ فلا تشتغلوا به ، ولا يتعرض أحدكم له.
المسألة التاسعة
عشرة ـ فإن قيل : فالفأل والزّجر كيف حالهما عندك؟ قلنا : أما الفأل فمستحسن
باتفاق. وأما الزّجر فمختلف فيه ؛ والفرق بينهما أنّ الفأل فيما يحسن ، والزجر
فيما يكره. وإنما نهى الشارع عن الزجر لئلا تمرض به النفس ويدخل على القلب منه
الهمّ ، وإلا فقد ورد ذلك [في الشرع] عن النبي صلّى الله عليه وسلم في الأسماء والأفعال. وقد
بينا ذلك في شرح الحديث حيث ورد ذكره فيه.
المسألة الموفية
عشرين ـ الأزلام : كانت قداحا لقوم وحجارة لآخرين ، وقراطيس لأناس ، يكون أحدها
غفلا ، وفي الثاني «افعل» أو ما في معناه ، وفي الثالث «لا تفعل» أو ما في معناه ،
ثم يخلطها في جعبة أو تحته ثم يخرجها مخلوطة مجهولة ، فإن خرج الغفل أعاد الضّرب حتى يخرج له «افعل» أو «لا
تفعل» ؛ وذلك بحضرة أصنامهم ؛ فيمتثلون ما يخرج لهم ، ويعتقدون أن ذلك هداية من
الصنم لمطلبهم.
وكذا روى ابن
القاسم عن مالك كما سردناه لكم.
المسألة الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ) ، وقدم تقدّم ذكره في سورة البقرة.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ ؛ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ ، فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).
فيها خمس عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (الطَّيِّباتُ) :
روى أبو رافع قال
: جاء جبريل إلى النبيّ
صلّى الله عليه وسلم يستأذن عليه فأذن له وقال :
__________________
قد
أذنّا لك يا رسول الله. قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، قال أبو رافع :
فأمر أن نقتل الكلاب بالمدينة ، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها
، فتركته وجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأمرنى فرجعت إلى
الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ؛ ما يحلّ لنا من هذه الأمة التي
أمرت بقتلها ، فسكت فأنزل الله هذه الآية.
المسألة الثانية ـ
في قوله تعالى : (الطَّيِّباتُ) :
وهي ضدّ الخبيثات
، وقد أشرنا إليه في سورة البقرة ، والطيب ينطلق على معنيين :
أحدهما ـ ما يلائم
النفس ويلذّها.
والثاني ـ ما أحلّ
الله. والخبيث ضده ، وسيأتى تحقيقه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (مِنَ الْجَوارِحِ
مُكَلِّبِينَ) قيل : معناه الكواسب ، يقال: جرح إذا كسب ، ومنه قوله
تعالى : (وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ؛ فكلّ كاسب جارح إذا كسب كيفما كان ، وممن كان ، إلا أنّ
هاهنا نكتة ، وهي أنّ الله تعالى قال : (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ). فنحن فريق والطيبات فريق ، وما علمتم من الجوارح فريق غير
الاثنين ، وذلك من البهائم التي يعلمها بنو آدم ، وقد كانت عندهم معلومة وهي
الكلاب المعلمة ؛ فأذن الله سبحانه وتعالى لهم في أكل ما صيد بها على ما بيّناه آنفا إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة ـ
فإن قيل : فما يبين ذلك تحقيقا؟ قلنا : يبيّنه ظاهر القرآن والسنة ؛ أما ظاهر
القرآن فقوله : مكلّبين. كلّب الرجل وأكلب إذا اقتنى كلبا. وأما السنّة فالحديث
الصحيح لجميع الأئمة ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلم : من اقتنى كلبا ليس بكلب ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان. والضاري : هو الذي ضرى الصيد
في اللغة.
وروى جميعهم عن
عدى بن حاتم قال :
قلت : يا رسول
الله ؛ إنّى أرسل الكلاب المعلّمة
__________________
فيمسكن
علىّ ، وأذكر الله تعالى. فقال : إذا أرسلت كلبك [المعلم] وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك ؛ فإنّ ذكاته أخذه وإن
قتل ، ما لم يشركه كلب آخر. قال : وإن
أدركته حيّا فاذبحه ، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل [منه] ؛ فإنك لا تدرى أيهما قتله. وعند جميعهم : فإن أكل فلا
تأكل فإنى أخاف أن يكون أمسك على نفسه.
وروى أبو داود عن
أبى ثعلبة أنه قال : وإن أكل منه؟ قال : وإن أكل منه. وروى جميعهم عنه نحو الأول
عن عدىّ. وفيه : فإن صدت بكلب غير معلم فأدركت ذكاته فكلّ. فقد فسرت هذه الأحاديث
التكليب والتعليم ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
فإنه قال فيه : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك.
والمعلم : هو الذي إذا أشليته انشلى ، وإذا زجرته انزجر ، فهذا ركن التعليم ، وقد حققناه
في المسائل. فلو استرسل على الصيد بنفسه ، ثم أغراه صاحبه ففيها روايتان : إحداهما
ـ يؤكل ؛ وبه قال أبو حنيفة. والثانية ـ لا يؤكل. والصحيح جواز أكلها ؛ لأنه قد
أثر فيه الإنشاء وانزجار عند الانزجار ، والقول الأول ضعيف.
المسألة السادسة ـ
النية شرط في الصيد ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم : إذا
أرسلت كلبك المعلّم ، وذكرت اسم الله عليه. فاعتبر الاسترسال منه والذّكر ؛ ولذلك قلنا : إنه إذا
استرسل بنفسه ثم أغراه فغرى في سيره : إنها نية أثّرت في الكلب ، فإنه عاد إلى رأى
صاحبه بعد أن كان خرج لنفسه.
المسألة السابعة ـ
إن أكل الكلب ففيها روايتان :
إحداهما ـ أنها لا
تؤكل ، وبه قال أبو حنيفة . وللشافعي قولان : أحدهما ـ مثله ، والثاني ـ يؤكل.
والروايتان مبنيتان على حديثي عدىّ وأبى ثعلبة. وحديث عدىّ أصح ، وهو الذي يعضّده
ظاهر القرآن ، لقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).
__________________
وفي المسألة معان
كثيرة ؛ منها أن قول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عدى يحمل على الكراهية ،
بدليل قوله فيه : فإنى
أخاف أن يكون أمسك على نفسه. فجعله خوفا ، وذلك لا يستقل بالتحريم.
وقال علماؤنا :
الأصل في الحيوان التحريم ، لا يحل إلا بالذكاة والصيد ، وهو مشكوك فيه ؛ فبقى على
أصل التحريم.
وقال آخرون منهم
القول الثاني ؛ لأنّ ذلك لو كان معتبرا لما جاز البدار إلى هجم الصيد من فم الكلب
، فإنا نخاف أن يكون أمسك على نفسه ليأكل ، فيجب إذا التوقف حتى نعلم حال فعل
الكلب به ، وذلك لا يقول به أحد. وأيضا فإن الكلب قد يأكل لفرط جوع أو نسيان ، وقد
يذهل العالم النحرير عن المسألة فكيف بالبهيمة العجماء أن تستقصى عليها هذا
الاستقصاء! وقد أخذنا أطراف الكلام في مسائل الخلاف على المسألة فلينظر هناك.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) :
عام في الكلب
الأسود والأبيض. وقال من لا يعرف : إنّ صيد الكلب الأسود لا يؤكل ؛ لقول النبي
صلّى الله عليه وسلم :
فإن الكلب الأسود
شيطان. وهذا إنما قاله النبيّ صلّى الله عليه وسلم في قطع الصلاة ، فلو كان الصيد
مثله لقاله ، ونحن على العموم حتى يأتى من النبي صلّى الله عليه وسلم لفظ يقتضى
صرفنا عنه.
المسألة التاسعة ـ
إن أدركت ذكاة الصيد فذكّه دون تفريط ، فإن فرّطت لم يؤكل ، لأن النبيّ صلّى الله
عليه وسلم شرط ذلك عليك ، وفي قوله :
إن وجدت معه كلبا
آخر فلا تأكله ، فإنك لا تدرى من قتله ـ نصّ على اعتبار النية في الذكاة إلّا أن
يظهر صاحبه إليك وتجتمعا فيقول كل واحد منكما : قد سميت ؛ فيكونان شريكين فيه.
المسألة العاشرة ـ
في قول النبىّ صلّى الله عليه وسلم : فإن
أرسلت كلبا غير معلّم فأدركت ذكاته فكل ـ دليل على أن الحديث بنهي النبىّ صلّى الله عليه وسلم عن
ذبح الحيوان لغير
__________________
مأكلة إنما هو على
معنى العبث لا على معنى طلب الأكل ؛ فإنه لا ندري أنا إذا أرسلنا غير المعلم هل
يدرك ذكاته أم يعقره.
المسألة الحادية
عشرة ـ أما الفهد ونحوه إذا علّم فيجوز الاصطياد به. قال ابن عباس: لو صاد علىّ
ابن عرس لأكلته ، وذلك لأنه كلب [كله] في مطلق اللغة ، وقد بيناه في ملجئة المتفقهين ، فأما
جوارح الطير ـ وهي :
المسألة الثانية
عشرة ـ فقد روى أشهب وغيره عن مالك أن البازي والصقر والعقاب وما أشبه ذلك من
الطير إذا كان معلما يفقه ما يفقه الكلب فإنه يجوز صيده ، وبه قال عامة العلماء.
وفيه خلاف عن علىّ لا نبالى به.
واختلف علماؤنا ؛
هل يؤخذ صيدها من ظاهر القرآن أو من الحديث؟ فقالت طائفة : يؤخذ من ظاهر القرآن من
قوله : (مُكَلِّبِينَ). والتكليب هو التّضرية بالشيء والتسليط عليه لغة ، وهذا
يعمّ كل معلم مكلّب ضار.
وقال : أخذ من
الحديث ، وروى عدى بن حاتم عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سأل عن صيد البازي ، فقال : ما أمسك
عليك فكل. رواه الترمذي وغيره
، فعلق النبي صلى
الله عليه وسلم الأكل في صيد البازي على ما علق الله سبحانه الأكل في صيد الكلب ،
وهو الأكل مما أمسك عليك حسبما بيناه.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) :
اتفقت الأمة على
أن الآية لم تأت لبيان التحليل في المعلّم من الجوارح الأكل ، وإنما مساقها تحليل
صيده ، وقالوا في تأويله : أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح. فحذف «صيد»
وهو المضاف ، وأقام ما بعده وهو المضاف إليه مقامه.
ويحتمل أن يكون
معناه أحل لكم الطيبات ، والذي علمتم من الجوارح مبتدأ ، والخبر في قوله : فكلوا
مما أمسكن عليكم. وقد تدخل الفاء في خبر المبتدأ كما قال الشاعر :
وقائلة خولان
فانكح فتاتهم
|
|
وأكرومه الحيين
خلو كماهيا
|
وقد حققنا ذلك في
رسالة ملجئة المتفقهين.
__________________
المسألة الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) :
عام بمطلقه في كل
ما أمسك الكلب عليه ، إلا أنه خاص بالدليل في كل ما أحله الله من جنس كالظباء
والبقر والحمر ، أو من جزء كاللحم والجلد دون الدم. وهذا عموم دخله التخصيص بدليل
سابق له.
المسألة الخامسة عشرة
ـ قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) :
هل يتضمن ما إذا
غاب عنك الصيد أم لا؟ فقال مالك : إذا غاب عنك فليس يمسك عليك ، وإذا بات فلا
تأكله في أشهر القولين.
وقال الشافعى :
يؤكل. وتعلّق علماؤنا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم : كل ما أصميت ودع ما أنميت. فالإصماء في اللغة : الإسراع ؛ أى كل ما قتل مسرعا ، وأنت
تراه ، ودع ما أنميت : أى ما مضى من الصيد وسهمك فيه ؛ قال امرؤ القيس :
فهو لا تنمى
رميّته
|
|
ما له لاعدّ من
نفره
|
والصحيح أكله وإن
غاب مالا تجده غريقا في الماء أو عليه أثر غير أثر سهمك.
والأصل في ذلك حديث
عدى بن حاتم أنّ
رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: كله ما لم تجده غريقا في الماء ، فإنك لا تدرى أسهمك قتله
أم لا ، كما أخرجه مسلم والبخاري وغيرهما. وفي حديث أبى ثعلبة الخشني :
إذا رميت بسهمك
فغاب عنك فأدركته فكله بعد ثلاث ما لم ينتن. رواه البخاري ومسلم وغيرهما. زاد
النسائي : ولم يأكل سنه سبع فكله.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ،
وَالْمُحْصَناتُ
__________________
مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ، وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ) :
قد تكرر ذلك اليوم
ثلاث مرات ، وفي تأويل ذلك ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه يوم
الاثنين بالمدينة.
الثاني ـ أنه
بمعنى الآن ، لأن العرب تقول اليوم كذا بمعنى الآن ، كأنه وقت الزمان.
الثالث ـ أنه يوم
عرفة.
المسألة الثانية ـ
في تنخيل هذه الأقوال :
وبيانه أنّ كونه
يوم الاثنين ضعيف. وأما كونه بمعنى الزمان فصحيح محتمل ، لأن ذلك لا يناقض غيره.
والصحيح أن قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) هو يوم عرفة ، لما ثبت في الصحاح أنّ يهوديّا قال لعمر :
لو نزلت علينا هذه الآية لاتخذنا ذلك عيدا. فقال عمر : قد علمت في أى يوم نزلت هذه
الآية ، نزلت بعرفة يوم جمعة.
وثبت في صحيح
الترمذي أنّ يهوديا قال لابن عباس ذلك ، فراجعه ابن عباس بمثل ما
راجعه عمر. فيحتمل أن يكون اليومان قبله وبعده راجعة إليه ، ويحتمل أن يكون أياما
سواها ، والظاهر أنها هي بعينها.
المسألة الثالثة ـ
في معنى كمال الدين وتمام النعمة فيه :
وفي ذلك كلام طويل
لبابه في سبعة أقوال :
الأول ـ أنه معرفة
الله ، أراد : اليوم عرفتكم بنفسي بأسمائى وصفاتي وأفعالى فاعرفونى.
__________________
الثاني ـ اليوم
قبلتكم وكتبت رضائى عنكم لرضائى لدينكم ، فإنّ تمام الدين إنما يكون بالقبول.
الثالث ـ اليوم
أكملت لكم دعاءكم ، أى استجبت لكم دعاءكم ، ودعاء نبيكم لكم. ثبت في الصحاح أنّ
النبي صلّى الله عليه وسلم قال : أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة.
الرابع ـ اليوم
أظهرتكم على العدوّ بجمع الحرمين له أو بتعريف ذلك فيه.
الخامس ـ اليوم
طهّرت لكم الحرم عن دخول المشركين فيه معكم ، فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك ، ولا
طاف بالبيت عريان ، ولا كان الناس صنفين في موقفهم ، بل وقفوا كلهم في موقف واحد.
السادس ـ اليوم
أكملت لكم الفرائض وانقطع النسخ.
السابع ـ أنه بكمال الدين لم ينزل بعد هذه الآية شيء ، وذلك أنّ الله
سبحانه لم يزل يصرّف نبيّه وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة حتى أكمل شرائعه
ومعالمه وبلغ أقصى درجاته ، فلما أكمله تمّت به النعمة ورضيه دينا ، كما هو عليه
الآن ، يريد : فالزموه ولا تفارقوه ولا تغيّروه ، كما فعل سواكم بدينه.
المسألة الرابعة ـ
في المختار من هذه الأقوال :
كلّها صحيحة ، وقد
فعلها الله سبحانه فلا يختص بعضها دون بعض ، بل يقال إنّ جميعا مراد الله سبحانه
وما تعلّق بها مما كان في معناها ، إلا أن قوله : إنه لم ينزل بعده آية ولا ذكر
بعده حكم لا يصح ، قد ثبت عن البراء في الصحيح أنّ البراء قال : آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ) ، وآخر سورة نزلت «براءة».
وفي الصحيح ، عن
ابن عباس ، قال : آخر آية نزلت آية الرّبا. وقد روى أنها نزلت قبل موت النبي صلّى
الله عليه وسلم بيسير.
والذي ثبت في
تاريخه حديث عمر وابن عباس في قوله : اليوم أكملت لكم دينكم ـ أنه يوم عرفة ، فهذا
تاريخ صحيح لا غبار عليه ، ويأتى تمامه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) :
في ذكر الطعام
قولان :
أحدهما ـ أنه كلّ
مطعوم على ما يقتضيه مطلق اللفظ وظاهر الاشتقاق. وكان حالهم يقتضى ألّا يؤكل
طعامهم لقلة احتراسهم عن النجاسات ، لكن الشرع سمح في ذلك ، لأنهم أيضا يتوقّون
القاذورات ، ولهم في دينهم مروءة يوصلونها ، ألا ترى أنّ المجوس الذين لا تؤكل
ذبائحهم لا يؤكل طعامهم ويستقذرون ويستنجسون في أوانيهم ، روى عن أبي ثعلبة الخشني
أنه قال : سئل رسول الله صلّى
الله عليه وسلم عن قدور المجوس. فقال : أنقوها غسلا واطبخوا فيها. وهو حديث مشهور ، وذكره الترمذي وغيره عن أبي ثعلبة وصحّحه أنه قال: يا رسول الله ، إنّا
بأرض أهل الكتاب فنطبخ في قدورهم ونشرب في آنيتهم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم : إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء. قال : وهو صحيح ، خرّجه البخاري وغيره.
وغسل آنية المجوس
فرض ، وغسل آنية أهل الكتاب فضل وندب ، فإن أكل ما في آنيتهم يبيح الأكل بعد ذلك
فيها. والدليل على صحة ما روى الدارقطني أنّ عمر توضّأ من جرّة نصرانية ، وصححه وأدخله البخاري في التراجم.
وربما ظنّ بعضهم
أن أكل طعامهم رخصة ، فإذا احتجت إلى آنيتهم فغسلها عزيمة ، لأنه ليس بموضع
للرخصة.
قلنا : رخصة أكل
طعامهم حلّ تأصّل في الشريعة واستقر ، فلا يقف على موضعه ، بل يسترسل على محالّه
كلّها ، كسائر الأصول في الشريعة.
الثاني ـ أنّ
المراد به ذبائحهم ، وقد أذن الله سبحانه في طعامهم : قال لي شيخنا الإمام الزاهد
أبو الفتح نصر بن إبراهيم النابلسى في ذلك كلاما كثيرا ، لبابه أنّ الله سبحانه قد
أذن في طعامهم ، وقد علم أنّهم يسمّون غيره على ذبائحهم ، ولكنهم لما تمسكوا بكتاب
الله
__________________
وتعلقوا بذيل نبىّ جعلت لهم حرمة على أهل الأنصاب.
وقد قال مالك :
تؤكل ذبائحهم المطلقة إلا ما ذبحوا يوم عيدهم أو لأنصابهم.
وقال جماعة
العلماء : تؤكل ذبائحهم وإن ذكروا عليها اسم غير المسيح ، وهي مسألة حسنة نذكر لكم
منها قولا بديعا :
وذلك أن الله
سبحانه حرّم ما لم يسمّ الله عليه من الذبائح ، وأذن في طعام أهل الكتاب وهم
يقولون : [إن] الله هو المسيح ابن مريم ، وإنه ثالث ثلاثة. تعالى الله عن
قولهم علوّا كبيرا. فإن لم يذكروا اسم الله سبحانه أكل طعامهم ، وإن ذكروا فقد علم
ربّك ما ذكروا ، وأنه غير الإله ، وقد سمح فيه فلا ينبغي أن يخالف
أمر الله ، ولا يقبل عليه ، ولا تضرب الأمثال له.
وقد قلت لشيخنا
أبي الفتح المقدسي : إنهم يذكرون غير الله. فقال لي : هم من آبائهم ، وقد جعلهم
الله تبعا لمن كان قبلهم مع علمه بحالهم.
وبهذا استدل بعض
الشافعية على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط ، قال : لو سمّى النصرانىّ الإله
حقيقة لم تكن تسميتهم على شرط العبادة ، لأنهم لا يعرفون المعبود ، فليست تسميتهم
على طريق العبادة ، واشتراطهم التسمية على غير وجه العبادة لا يعقل.
قلنا : تعقل صورة
التسمية ، ولها حرمة ، وإن لم يعلم المسمى من يسمى. ولو شرطنا العلم بحقيقة
الإيمان ما جاز أكل كثير من ذبح من يسمّى من المسلمين ، وإنما حرّم الشرع ذبحا
يذكر عليه غير الله تصريحا. فأما من يقصد الله فيصيب قصده فهو الذي لا كلام فيه. وأما الذي يسميه فيخطئ
قصده فذلك الذي رخّص فيه ، فإذا قال «الله» وهو يقصد المسيح ، أو المسيح وهو يقصد
الله فيرجع أمره إلى الله سبحانه ، ولكنه ضلّ عن الطريق وسمح لك فيه الإله الذي
ضلّ أهل الكتاب عنه ، وخفّف حالهم بهذه الشعبة الخفيّة من القصد إليه ، فلا يعترض
عليه.
__________________
[فإن قيل : فما
أكلوه على غير وجه الذّكاة كالخنق وحطم الرأس؟
فالجواب : أنّ هذه
ميتة ، وهي حرام بالنص ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم ، ومن
طعامهم ، وهو حرام علينا ، فهذه أمثلة والله أعلم] .
وأما ذبائح
الكاتبيين فقد سئل أبو الدرداء عما يذبح لكنيسة اسمها سرجس ، فأمر بأكله ، ولذلك
قال عبادة بن الصامت وقال الشافعى وعطاء : تؤكل ذبائحهم ، وإن ذكر غير الله عليها
، وهذا ناسخ لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).
وقد بينا في القسم
الثاني أنه ليس بنسخ ، وسنشير إليه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
المسألة السادسة ـ
لما قال الله سبحانه : (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) تضمّن أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل ، فهل يدخل عليهم من دان بدينهم ، وإن لم يكن منهم؟ ينبنى
على أصل من أصول الفقه ـ وهو أنّ من لم يدعه النبي فاتبعه هل يكون له حكم من دعائه
أم لا؟ وقد بينا في موضعه أنه إن لم يكن على شرع دخل في حكمهم ، أو كان على شرع
درس عنه. إذا ثبت هذا فنصارى بنى تغلب من العرب مما اختلف فيه العلماء ، فروى عن
ابن عباس أنه تؤكل ذبائحهم ، وألحقهم بالكتابيّين ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، وبه قال الشعبي والشافعى. وقرأ الشعبي : (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا). وقاله ابن شهاب ، وقال : لأنهم يذكرون اسم الله سبحانه
إشارة إلى ما قلناه من تعلقهم باللفظ. وبهذا قال جماعة كثيرة. وعن علمائنا روايتان
: إحداهما ما تقدم. والثانية لا تؤكل ذبائحهم. وبه قال ابن عمر وعائشة وعلىّ. وقال
: لأنهم لا يحللون ما تحلل النصارى ولا يحرّمون ما يحرّمون . وهذا دليل أنه لم يلحقهم بهم ، لأنهم لم يتولّوهم ، ولا
دانوا بدينهم ، ولو تعلقوا به لوافق ابن عباس في حالهم وحكمهم لما قدّمناه من
الأدلة.
__________________
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ) إلى قوله : (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).
دليل قاطع على أنّ
الصيد وطعام أهل الكتاب من الطيبات التي أباحها الله عز وجل ، وهو الحلال المطلق ،
وإنما كرره الله سبحانه ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات ، [ولكن الخواطر الفاسدة هي
التي توجب الاعتراضات] ، ويخرج إلى تطويل القول. ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق
الدجاجة ثم يطبخها : هل يؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه؟ وهي :
المسألة الثامنة ـ
فقلت : تؤكل ، لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ،
ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا ، وكلّ ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في
ديننا ، إلّا ما كذّبهم الله سبحانه فيه.
ولقد قال علماؤنا
: إنهم يعطوننا أولادهم ونسائهم ملكا في الصلح فيحلّ لنا وطؤهنّ ، فكيف لا تحل
ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحلّ والحرمة.
المسألة التاسعة ـ
قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ) :
قد تقدم ذكر ذلك في سورة النساء ، وبيّنا اختلاف العلماء واحتمال
اللفظ لأن يكون المحصنات من المؤمنات الحرائر والعفائف.
وقد روى عن عمر في
ذلك روايات كثيرة في قصص مختلفة ، منها أن امرأة من همدان يقال لها نبيشة بغت ،
فأرادت أن تذبح نفسها فأدركوها فقدوها ، فذكروه أيضاً لعمر ابن الخطاب فقال : أنكحوها نكاح الحرة
العفيفة المسلمة.
وقال الشعبي :
إحصانها أن تغتسل من الجنابة وتحصن فرجها من الزنا.
وسئل ابن عباس عن
هذه النازلة فقال : من نساء أهل الكتاب من يحلّ لنا ، ومنهم من لا يحلّ لنا ، ثم
تلا : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ). قال : فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤهم ، ومن لم يعط لم
يحلّ لنا نساؤه.
ومن هاهنا يخرج
أنّ نكاح إماء أهل الكتاب لا يجوز لأنهن لا جزية عليهن.
__________________
فإن قيل : وكذلك
الحرائر.
قلنا : حلّوا
بدليل آخر. وقيل : عنى بذلك نساء بنى إسرائيل دون سائر الأمم الذين دانوا بدين بنى
إسرائيل.
والصحيح أنهم
داخلون معهم في ذبائحهم ونكاحهم لقوله : فإنه منهم.
فإن قيل : فما
المراد بقوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) : هل المراد بذلك نفس الإعطاء والالتزام ، أو يكون المراد
من تقبل منهم الجزية؟
قلنا : أما مذهب
ابن عباس فلقد تلوته عليكم. وأما سائر العلماء فيقولون : إنما المراد من يقبل منه
الجزية ، لقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). وذكر الجزية إنما هو في القتال لا في النكاح ، إلا أنّ
العلماء كرهوا نكاح الحربية لئلا يولد له فيهم فينتصروا وتجرى عليهم أحكامهم.
المسألة العاشرة ـ
قوله تعالى : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) :
قد تقدم في سورة
النساء ، وأراد به في قول علمائنا غير متعالنين بالزنا كالبغايا ، ولا ممن يتّخذ
أخدانا ، معناه يختص بزان معلوم وبزانية معلومة. وفي هذا تخصيص قوله تعالى : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ...) الآية كما تقدم بيانه.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ
عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ).
فيها اثنتان
وخمسون مسألة :
المسألة الأولى ـ ذكر
العلماء أنّ هذه الآية من أعظم آيات القرآن مسائل وأكثرها
__________________
أحكاما في
العبادات ، وبحقّ ذلك ، فإنها شطر الإيمان ، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم :
الوضوء شطر
الإيمان ، في صحيح الخبر عنه.
ولقد قال بعض
العلماء : إنّ فيها ألف مسألة ، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام فتتبّعوها فبلغوها
ثمانمائة مسألة ، ولم يقدروا أن يبلغوها الألف ، وهذا التتبّع إنما يليق بمن يريد
تعريف طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا ، والذي يليق الآن في هذه العجالة مما
نحن فيه الانتداب إلى انتزاع الجلىّ وأن نتعرض لما يسنح خاصة من ظاهر مسائلها.
المسألة الثانية ـ
في سبب نزولها : لا خلاف بين العلماء أنّ الآية مدنية كما تقدم ذكره في سورة
النساء ، وأنها نزلت في قصة عائشة ، كما أنه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولا قبل نزولها
غير متلو ، ولذلك قال علماؤنا : إن الوضوء كان بمكة سنّة ، معناه كان مفعولا
بالسّنة ، فأما حكمه فلم يكن قط إلا فرضا.
وقد روى ابن إسحاق
وغيره أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم لما فرض الله سبحانه عليه الصلاة ليلة
الإسراء ونزل جبريل ظهر ذلك اليوم ليصلّى به فغمز الأرض بعقبه ، فأنبعت ماء ،
وتوضأ معلّما له ، وتوضّأ هو معه ، وصلّى ، فصلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلم. وهذا صحيح وإن كان لم يروه أهل الصحيح ، ولكنهم تركوه لأنهم لم يحتاجوا إليه
، وقد كان الصحابة والعلماء يتغافلون عن الحديث الذي لا يحتاجون إليه ، وإن ذهب ،
ويكرهون أن يبتدئوا بذكره حتى يحتاج إليه بخلاف القرآن حسبما تقدم بيانه.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) :
هذا الخطاب وإن
كان مصرّحا بالمؤمنين فإن الكافرين داخلون فيه ، لما ثبت من أنهم يدخلون في فروع
الشريعة بالأدلة القاطعة ، ولكن الله سبحانه هاهنا خصّ الخطاب الملزم للإيمان ،
لأنّ النازلة عرضت له ، والقصة دارت عليه.
المسألة الرابعة ـ
قال لنا شيخنا فخر الإسلام بمدينة السلام : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________________
آمَنُوا
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : معناه : إذا أردتم القيام إلى الصلاة ؛ لأنّ الوضوء حالة
القيام إلى الصلاة لا يمكن ، والإرادة هي النية ؛ فدلّ على أن النية في الطهارة
واجبة فيه. وبه قال مالك والشافعى ، وأكثر العلماء.
وروى الوليد بن
مسلم عن مالك أنها غير واجبة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعى ، وهي من طيوليات مسائل الخلاف ، وقد بيناها فيه.
والأصل المحقّق
أنها عبادة مقصودة بدليل أنها شطر الإيمان ، والعبادات لا يتعبّد بها إلا مع النية
، ويخالف الشعبي إلا الجمعة. فإنه ليس بعبادة مقصودة ، والله أعلم.
المسألة الخامسة ـ
قال زيد بن أسلم : معناه إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، وفي ذلك نزلت الآية.
وبيّن هذا أن
النوم حدث ، وبه قال جملة الأمة ، سمعت عن أبى موسى الأشعرى أنه لم يكن يراه حدثا
، ولم يثبت ذلك عندي عنه.
وروى لي عن بعض
التابعين أنه لم يره حدثا.
والدليل على بطلان
قوله أن هذه الآية نزلت في النائمين ، فلا بدّ أن يتناولهم ؛ لأن الآية والخبر إذا
كان الذي أثارهما سببا فلا بدّ من دخول السبب فيهما ، وإن كان الخلاف وراء ذلك هل
يقتصر عليها الحكم بهما أم يكونان على عمومهما؟
وثبت عن صفوان بن
عسّال قال : أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا في سفر ألّا ننزع خفافنا ثلاثة أيام
ولياليهن إلا من جنابة ، ولكن من بول أو غائط ونوم. والأمر أظهر من ذلك ، ولكن أردنا أن نعرفكم وجود ذلك في
القرآن ، وفي صحيح حديث النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال الترمذي : حديث صفوان حديث صحيح.
المسألة السادسة ـ
إذا ثبت النوم حدث فهو حدث لما يصحبه غالبا من خروج الخارج.
وقال المزني : هو
حدث بعينه ، وهذا باطل ؛ فإنه ثبت أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم
__________________
كانوا ينامون ولا
يتوضّئون. ومنه في الصحيح أنّ
النبي صلّى الله عليه وسلم أخّر صلاة العشاء ذات ليلة حتى رقد الناس واستيقظوا.
وفيه أنه قال : أقيمت صلاة العشاء فقام رجل يناجى النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى
نام القوم ثمّ صلّوا.
المسألة السابعة ـ
وإذا ثبت الفرق بين قليله وكثيره فقد استوفينا تفصيله في النوازل الفقهية ، وبينا
أنّ من استثقل نوما على أى حال كان من الأحوال فإنّ عليه الوضوء.
وقال أبو حنيفة :
إن نام على هيئة من هيئات الصلاة لم يبطل وضوءه ، ووافقه ابن حبيب في الركوع ،
واحتجّ بحديثين : أحدهما عن ابن عباس أنه قال : نام
النبي صلّى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى نفخ ، ثم قام فصلّى ؛ فقلت : يا رسول الله
؛ إنك قد نمت. فقال : إن الوضوء إنما يجب على من نام مضطجعا ، فإنه إذا اضطجع
استرخت مفاصله. خرّجه الترمذي ، وأبو داود أنكره
، فقال : كان النبي صلّى الله
عليه وسلم محفوظا ، واحتج بقوله : تنام عيناي ولا ينام قلبي .
والحديث الثاني
قال النبي صلّى الله عليه وسلم : ليس
الوضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا ؛ إنما الوضوء على من نام مضطجعا ،
فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله.
وهو باطل قد بيناه
في مسائل الخلاف وأوضحنا خلله.
وأما ابن حبيب في
الركوع فإنما بنى على أنّ الراكع لا يصح أن يستثقل نوما ويثبت راكعا ؛ فدلّ أن
نومه ثبات وخلس لا شيء فيها.
المسألة الثامنة ـ
إذا ثبت الوضوء في النوم فالإغماء فوقه أو مثله.
المسألة التاسعة ـ
ظاهر الآية يقتضى الوضوء على كل قائم إليها ، وإن كانت قد نزلت في النائمين ،
وإياهم صادف الخطاب ، ولكنا ممن يأخذ بمطلق الخطاب ولا يربط الحكم بالأسباب ، وكذلك كنا نقول : إن الوضوء
يلزم لكل قائم إلى الصلاة محدثا كان أو غير محدث ، إلا أنّ أنس بن مالك روى : كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يتوضأ
عند كل صلاة .
__________________
قلت : كيف كنتم
تصنعون أنتم؟ قال : كان يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث. خرّجه جميع الأئمة.
وروى ابن أبى بردة
عن أبيه ـ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكلّ صلاة ،
فلما كان يوم الفتح صلّى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر : فعلت شيئا لم تكن
تفعله. فقال : عمدا فعلته. أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي .
فإن قيل : فهل
يتكرر الحكم بتكرر الشرط أم لا؟ فإن قلتم بتكرره أحلتم ، وإن قلتم لا يتكرر فما وجهه؟
قلنا : من
المتعجرفين من تكلّف فقال : إنما يتكرر بتكرر العلّة ، وهو الحدث. وهذا لا يصحّ ؛
فإنّ الحدث لا يوجب الطهارة لنفسه ، وإنما وجوب الصلاة يوجب الطهارة بشرط أن يكون
المكلّف محدثا ، فالحدث شرط في وجوب الطهارة بوجوب الصلاة لا علّته. والحكم علة
للحكم شرعا ، وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وأصول الفقه.
وقد أحدث بعض
المبتدعة في الإسلام بدعة شنعاء ، فقال : إن المحدث لا يؤمر بالصلاة ، إنما يؤمر
بالوضوء ، وعليه يثاب ، وعليه يعاقب ، ولا يتوجه عليه الأمر بالصلاة حتى يتوضأ.
وهذا خرق لإجماع
الأمة وهتك لحجاب الشريعة وهذه الآية وأمثالها ردّ عليه إن أقر بثبوته ، وإن أنكره فإن من ينكر التوحيد مخاطب بتصديق الرسول ،
ولا يصح ذلك منه إلا بعد توحيد الرب ، وهذا ما لا جواب لهم عنه.
المسألة العاشرة ـ
قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا) :
الفاء حرف يقتضى
الربط والسبب وهو بمعنى التعقيب ، وقد بينا ذلك في رسالة الملجئة ، وهي
هاهنا جواب للشرط ربطت المشروط به وجعلته جوابه أو جزاءه ، ولا خلاف فيه ؛ بيد أن
الشافعى ومن قال بقوله من علمائنا في وجوب الترتيب في الوضوء قال : إنّ في هذا
دليلا على وجوب البداءة بالوجه ؛ إذ هو جزاء الشرط وجوابه.
__________________
وقال الآخرون
الذين لا يرون ترتيب الوضوء : إن هذا القول صحيح فيما إذا كان جواب الشرط معنى
واحدا ؛ فأما إذا كانت جملا كلّها جوابا وجزاء لم نبال بأيهما بدأت ؛ إذ المطلوب
تحصيلها. وهذا قول له رونق وليس بمحقق ، قال الله سبحانه وتعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ؛ فبدأ بالوجه وعطف عليه غيره ، فالنظر الصحيح في ذلك أن
يقال : تجب البداءة بما بدأ الله به وهو الوجه ، كما قال النبي صلّى الله عليه
وسلم حين حجّ وجاء إلى الصفا : نبدأ
بما بدأ الله به ، وكانت البداءة بالصّفا واجبة.
ويعضد هذا أنّ
النبيّ صلّى الله عليه وسلم توضّأ عمره كله مرتّبا ترتيب القرآن ، وفعله هذا بيان
مجمل كتاب الله تعالى ، وبيان المجمل الواجب واجب ، وهي مسألة خلاف عظمى قد بيناها في مسائل
الخلاف ، وهذا هو الذي يختار فيها.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله عز وجل : (فَاغْسِلُوا) :
وظنّ الشافعىّ ـ وهو
عند أصحابه معد بنى عدنان في الفصاحة بله أبى حنيفة وسواه ـ أن الغسل صبّ الماء
على المغسول من غير عرك ، وقد بينا فساد ذلك في مسائل الخلاف ، وفي سورة النساء ، وحققنا أنّ الغسل مر اليد مع إمرار الماء أو ما في معنى اليد.
المسألة الثانية
عشرة ـ الغسل يقتضى مغسولا مطلقا ومغسولا به ؛ وسيأتى بيانه فيما بعد إن شاء الله
تعالى.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وُجُوهَكُمْ) :
والوجه في اللغة :
ما برز من بدنه وواجه غيره به ، وهو أبين من أن يبيّن ، وأوجه من أن يوجّه ، وهو
عند العرب عضو يشتمل على جملة أعضاء ، ومحلّ من الجسد فيه أربع طرق للعلوم ، وله
طول وعرض ، وهو أيضا بيّن إلا أنه أشكل على الفقهاء منه ستة معان : الأول ـ إذا
اكتسى الذّقن بالشعر ، فإنه قد انتقل الفرض فيما يقابله إلى الشعر قطعا ونفى
الزائد عليه ، وهو ما استرسل من اللحية ، ويحتمل أن يكون فرضا ؛ لأنّه قد اتصل
بالوجه وواجه كما يواجه ، فيكون فرضا غسله مثل الوجه ، ويحتمل أن يكون ندبا ،
وبالأول
__________________
أقول ؛ لما ثبت
أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته. خرّجه الترمذي وغيره ، فعيّن
المحتمل بالفعل.
الثاني ـ إذا دار
العذار على الخدّ ، هل يلزم غسل ما وراء إلى الأذن أم لا؟ وفيه خلاف بيننا في
أنفسنا وبين العلماء أيضا غيرنا.
والصحيح عندي أنه
لا يلزم غسله لا للأمرد ولا للمعذّر .
الثالث ـ الفم ،
قال أحمد بن حنبل وجماعة : إنّ غسله في الوضوء واجب ، لأنه من الوجه ؛ وقد واظب
النبىّ صلّى الله عليه وسلم عليه. وقال : إذا
تمضمض خرجت الخطايا من فيه.
الرابع ـ الأنف ، وقد
ورد الأمر به في الحديث الصحيح ، فقال :
إذا توضأ أحدكم
فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر ، ومن استجمر فليوتر .
وقال أيضا : فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه.
الخامس ـ العين ،
والحكم فيها واحد أثرا ونظرا ولغة ، ولكن سقط غسلها للتأذى بذلك والحرج به ؛ ولذلك
كان عبد الله بن عمر لما عمى يغسل عينيه إذ كان لا يتأذّى بذلك.
الثالث ـ لا خلاف
أنه لا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد فيه ، كما أنه لا بد على
القول بوجوب عموم مسح الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدّر ، وهذا ينبنى على
أصل من أصول الفقه ؛ وهو أنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب مثله ؛ وقد مهدناه
في موضعه ؛ فهذه تتمة تسع عشرة مسألة.
المسألة الموفية
عشرين ـ قال لنا فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس : لما قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) كان معناه ضرورة اللغة : فاغسلوا وجوهكم لأجل الصلاة ؛
وذكر أمثلة بيناها في مسائل الخلاف ؛ فاقتضى الأمر بظاهره غسل الوجه للصلاة ، فمن
غسله لغير ذلك لم يكن ممتثلا للأمر.
__________________
وقد قال بعض
المتأخرين من أصحاب الشافعى ، هاهنا كلاما مختلّا ـ وهي :
المسألة الحادية
والعشرون ـ ونصه : ظنّ ظانّون من أصحاب الشافعى الذين يوجبون النية في الوضوء أنه
لما أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة دل على أنه أوجبه لأجله ، وأنه أوجب به
النية ؛ وهذا لا يصحّ ؛ فإن إيجاب الله سبحانه الوضوء لأجل الحدث لا يدلّ عليه أن
ينوى ذلك ؛ بل يجوز أن يجب لأجله ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة وبنيّتها
لأجله ... إلى تخليط زيد عليه لا أرضى ذكره.
قلنا قوله : «ظن
ظانّ أن الوضوء لما وجد عند القيام إلى الصلاة أنه وجب لأجله». لم يظن أحد ذلك ؛
إنما قطع الاعتقاد به ، لقيام الدليل عليه.
وقوله : إنه أوجب
له النية.
قلنا له : هذا
تلبيس ؛ وجوبه لأجله هو الذي يفتضى النية ضرورة فيه ، فإنه يلزمه أن يأتى بما أمر
لمأمور به له.
وقوله : هذا لا
يصحّ.
قلنا : لا يصحّ
إلا هو.
قوله : فإن إيجاب
الله الوضوء لأجل الحدث.
قلنا : هذا هوس ؛
لم يجب الوضوء لأجل الحدث.
وقوله : إنه لا
يجب عليه أن ينوى ذلك.
قلنا : لا يجب
عليه أن ينوى ماذا؟ إن أردت الحدث ، فمن ذا الذي يقول به؟ وإن أردت الصلاة فلا
يعطى اللفظ والمعنى إلا وجوب النية لها.
وقوله : يجوز أن
يجب لأجله ويحصل دون قصد.
قلنا : هذا لا
نسلّمه مطلقا إن أردت في العبادات فلا ، وإن أردت في غيرها فلا نبالى به. وقوله : «دون
قصد».
إلى هنا انتهى
كلامه المعقول لفظا المختل معنى.
وأما قوله بعد ذلك
تعليق الطهارة بالصلاة فكلام لا يعقل معناه لفظا ، فكيف معنى؟
__________________
المسألة الثانية
والعشرون ـ هذا الذي زمزم به أنا أعرّفه.
قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا) لا يخلو من ستة أقسام :
الأول ـ أنه لا
يربط غسل الوجه وما بعده بشيء مما تقدم.
الثاني ـ أنه
يربطه بالقيام إلى الصلاة أو الحدث وبالصلاة ، وهو الثالث ، أو بالصلاة وهو الرابع
، أو بالكلّ وهو الخامس ، أو ببعضه وهو السادس.
فإن قيل : لم
نربطه بشيء كان محالا لغة كما تقدم ، محالا بالإجماع ؛ فإنه قد ربط بما ربط على
الاختلاف فيه ، وإن ربطه بالقيام إلى الصلاة فمحال ضرورة ؛ لأنه لا يمكن الجمع
بينهما ، ومحال معنى ؛ لأن نفس القيام لا يقصد بذلك من الوضوء ، وقد بينا أنّ
معناه إذا أردتم القيام ، ونفس الإرادة هي النية.
وأما إن أردت ربطه
بالحديث فبالإجماع أن الوضوء يجب به ، لا من أجله ، وإن قلم بالصلاة فكذلك هو. وقد صرح النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك في قوله : لا يقبل الله صلاة بغير طهور. وإذا أمر بغسل الصلاة فلم يكن كذلك لم يمتثل ما أمر به ،
وإن قال : إنه وجب لأجل الكلّ فقد تبيّن فساده ؛ وهذا تحقيق من كلامه في غرضه
بعينه.
المسألة الثالثة
والعشرون ـ إذا وجبت النية للوضوء أو الصلاة أو الصيام ، أى لأى عبادة وجبت ،
فمحلّها أن تكون مقترنة مع أولها لا تجوز قبلها ولا بعدها ؛ لأنّ القصد بالفعل
حقيقته أن يقترن به ، وإلا لم يكن قصدا له ، فنيّة الوضوء مع أول
جزء منه ، وكذلك الصلاة ، وكذلك الصيام ؛ وهذه حقيقة لا خلاف فيها بين العقلاء ، بيد أن العلماء قالوا : إن من خرج إلى النهر من منزله
بنية الغسل أجزأه [ذلك] ، وإن عزبت [نيته] في أثناء الطريق . وإن خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية.
فركّب على هذا
سفاسفة المفتين أنّ نية الصلاة تتخرّج على القولين ، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق
بين الظنّ واليقين [بأنه قال :] يجوز أن يقدم النية فيها على التكبير.
__________________
ويا لله ويا
للعالمين من أمّة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفّقها الله ولا سدّدها ! اعلموا رحمكم الله أنّ النية في الوضوء مختلف في وجوبها
بين العلماء. وقد اختلف فيها قول مالك ، فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في
تقديمها في بعض المواضع ؛ لأن أصلها قد لا يجب. فأما الصلاة فلم يختلف أحد من
الأئمة فيها وهي أصل مقصود ، فكيف يحمل الأصل المقصود المتّفق عليه على الفرع
التابع المختلف فيه؟ هل هذا إلا غاية الغباوة؟ فلا تجزئ صلاة عند أحد من الأئمة
حتى تكون النية فيها مقارنة للتكبير.
وأما الصوم فإن
الشرع رفع الحرج فيه ، لمّا كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه.
المسألة الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ) :
اليد : عبارة عما
بين المنكب والظفر ، وهي ذات أجزاء وأسماء ؛ منها المنكب ، ومنها الكف ، والأصابع
، وهو محلّ البطش والتصرف العام في المنافع ، وهو معنى اليد ، وغسلهما في الوضوء مرتين : إحداهما عند أول محاولة
الوضوء وهو سنة ، والثانية في أثناء الوضوء ، وهو فرض.
ومعنى غسلهما عند
الوضوء تنظيف اليدين لإدخالهما [في] الإناء ومحاولة نقل الماء بهما ، ولا سيما عند الاستيقاظ
من النوم ، فقد روى جميع الأئمة عن أبى هريرة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال :
إذا استيقظ أحدكم
من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ؛ فإن أحدكم لا يدرى أين باتت
يده.
وروى عثمان وغيره صفة وضوء رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فكلهم ذكروا أنه غسل يديه ثلاث مرات ، ثم مضمض واستنثر ، حتى بلغ مكانهما من علمائنا أن
جعلوهما من سنن الوضوء.
فقال ابن القاسم :
إذا غسل يديه ثم
تمضمض ثم تمادى في الوضوء ثم أحدث في أثنائه فإنه بعيد غسل يديه كما يعيد ما سبق
من الوضوء.
المسألة الخامسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ) :
__________________
فذكرها. واختلف
العلماء في وجوب إدخالهما في الغسل. وعن مالك روايتان ، وذكر أهل التأويل في ذلك
ثلاثة أقاويل :
الأول ـ أن «إلى»
بمعنى مع ، كما قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ، معناه مع أموالكم.
الثاني ـ أن «إلى»
حدّ ، والحدّ إذا كان من جنس المحدود دخل فيه ، تقول : بعتك هذا الفدان من هاهنا
إلى هاهنا ، فيدخل الحدّ فيه. ولو قلت : من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة ما دخل
الحدّ في الفدّان.
الثالث ـ أن
المرافق حدّ الساقط لا حدّ المفروض ؛ قاله القاضي عبد الوهاب. وما رأيته لغيره.
وتحقيقه أن قوله :
«وأيديكم» يقتضى بمطلقه من الظفر إلى المنكب ، فلما قال : إلى المرافق أسقط ما بين
المنكب والمرفق ، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر ؛ وهذا كلام صحيح يجرى على
الأصول لغة ومعنى.
وأما قولهم : إن «إلى»
بمعنى مع فلا سبيل إلى وضع حرف موضع حرف ، إنما يكون كلّ حرف بمعناه ، وتتصرّف
معاني الأفعال ، ويكون معنى التأويل فيها لا في الحروف.
ومعنى قوله : «إلى
المرافق» على التأويل الأول : فاغسلوا أيديكم مضافة إلى المرافق ، وكذلك قوله : (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) معناه مضافة إلى أموالكم.
وقد روى
الدّارقطنيّ وغيره عن جابر بن عبد الله أنّ
النبي صلّى الله عليه وسلم لما توضّأ أدار الماء على مرفقيه.
المسألة السادسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَامْسَحُوا) :
المسح : عبارة عن
إمرار اليد على المسوح خاصة ، وهو في الوضوء عبارة عن إيصال الماء إلى الآلة
المسوح بها ، والغسل عبارة عن إيصال الماء إلى المغسول ؛ وهذا معلوم من ضرورة
اللغة ، وبيانه يأتى إن شاء الله.
المسألة السابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (بِرُؤُسِكُمْ) :
__________________
والرأس عبارة عن
الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ، ومنها الوجه ، فلما ذكره الله سبحانه في الوضوء
وعيّن الوجه للغسل بقي باقيه للمسح. ولو لم يذكر الغسل أولا فيه للزم مسح جميعه :
ما عليه شعر من الرأس ، وما فيه العينان والأنف والفم ؛ وهذا انتزاع بديع من
الآية.
وقد أشار مالك إلى
نحوه ، فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء؟ فقال : أرأيت لو ترك بعض وجهه أكان
يجزئه؟ ومسألة مسح الرأس في الوضوء معضلة ، ويا طالما تتبّعتها لأحيط بها حتى
علمني الله تعالى بفضله إياها ؛ فخذوها مجملة في علمها ، مسجلة بالصواب في حكمها ؛ واستيفاؤها في كتب
المسائل :
اختلف العلماء في
مسح الرأس على أحد عشر قولا :
الأول ـ أنه إن
مسح منه شعرة واحدة أجزأه.
الثاني ـ ثلاث
شعرات.
الثالث ـ ما يقع
عليه الاسم. ذكر لنا هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن
الشافعى.
الرابع ـ قال أبو
حنيفة : يمسح الناصية .
الخامس ـ قال أبو
حنيفة : إن الفرض أن يمسح الربع .
السادس ـ قال أيضا
في روايته الثالثة : لا يجزيه إلّا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع.
السابع ـ يمسح
الجميع ؛ قاله مالك.
الثامن ـ إن ترك
اليسير من غير قصد أجزأه ؛ أملاه علىّ الفهري.
التاسع ـ قال محمد
بن مسلمة : إن ترك الثلث أجزأه.
العاشر ـ قال أبو
الفرج : إن مسح ثلثه أجزأه.
الحادي عشر ـ قال
أشهب : إن مسح مقدمه أجزأه.
فهذه أحد عشر قولا
، ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان ، وهو عظيم الخطر فيهما جميعا ؛
ولكلّ قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسنة :
__________________
فمطلع الأول ـ أنّ
الرأس وإن كان عبارة عن العضو فإنه ينطلق على الشعر بلفظه ، قال الله تعالى . (وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). وقال النبي صلّى الله عليه وسلم : احلق رأسك ، والحلق إنما هو في الشعر ، إذا ثبت هذا تركّب عليه :
المطلع الثاني ـ وهو
أن إضافة الفعل إلى الرأس ينقسم في العرف والإطلاق إلى قسمين :
أحدهما ـ أنه
يقتضى استيفاء الاسم.
والثاني ـ يقتضى
بعضه ؛ فإذا قلت : «حلقت رأسى» ـ اقتضى في الإطلاق العرفي الجميع. وإذا قلت : مسحت
الجدار أو رأس اليتيم أو رأسى اقتضى البعض ، فيتركّب عليه : المطلع الثالث ـ وهو
أنّ البعض لا حدّ له مجزئ منه ما كان ، قال لنا الشاشي : لما قال الله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) ، وكان معناه شعر رءوسكم ، وكان أقلّ الجمع ثلاثا ، قلنا :
إن حلق ثلاث شعرات أجزأه ، وإن مسحها أجزأه ، والمسح أظهر ، وما يقع عليه الاسم
أقلّه شعرة واحدة.
المطلع الرابع ـ نظر
أبو حنيفة إلى أنّ الوضوء إنما شرعه الله سبحانه فيما يبدو من الأعضاء في الغالب ،
والذي يبدو من الرأس تحت العمامة الناصية ، ولا سيما وهذا يعتضد
بالحديث الصحيح أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم توضّأ
فمسح ناصيته وعمامته .
المطلع الخامس ـ أنه
إذا ثبت مسح الناصية فلا يتيقّن موضعها ؛ وإنما المقصود تعلّق العبادة بالرأس ؛
فقد ثبت مسح النبي صلّى الله عليه وسلم الناصية ، وهي نحو الربع فيتقدر الربع منه
أين كان ، ومطلع الربع بتقدير الأصابع يأتى إن شاء الله ، ومطلع الجميع أنّ الله
سبحانه وتعالى علّق عبادة المسح بالرأس ، كما علّق عبادة الغسل بالوجه ؛ فوجب
الإيعاب فيهما بمطلق اللفظ.
وقول الشافعى : إن
مطلق القول في المسح لا يقتضى الإيعاب عرفا ، فما علق به ليس بصحيح ؛ إنما هو مبنى
على الأغراض وبحسب الأحوال ، تقول : مسحت الجدار ، فيقتضى بعضه من أجل أن الجدار
لا يمكن تعميمه بالمسح حسّا ، ولا غرض في استيعابه قصدا ،
__________________
وتقول : مسحت رأس
اليتيم لأجل الرأفة ، فيجزئ منه أقلّه بحصول الغرض به . وتقول : مسحت الدابة فلا يجزئ إلّا جميعها ؛ لأجل مقصد
النظافة فيها ، فتعلّق الوظيفة بالرأس يقتضى عمومه بقصد التطهير فيه ، ولأنّ مطلق
اللفظ يقتضيه ؛ ألا ترى أنك تقول : مسحت رأسى كلّه فتؤكده ؛ ولو كان يقتضى البعض
لما تأكد بالكل ؛ فإن التأكيد لرفع الاحتمال المتطرّق إلى الظاهر في إطلاق اللفظ.
ومطلع من قال إن
ترك اليسير من غير قصد أجزأه ـ أن تحقق عموم الوجه بالغسل ممكن بالحسّ ، وتحقق
عموم المسح غير ممكن ؛ فسومح بترك اليسير منه دفعا للحرج.
وهذا لا يصحّ ؛
فإنّ مرور اليد على الجميع ممكن تحصيله حسّا وعادة.
ومطلع من قال : إن
ترك الثلث من غير قصد أجزأه ـ قريب مما قبله ، إلّا أنه رأى الثلث يسيرا ، فجعله
في حدّ المتروك لما رأى الشريعة سامحت به في الثلث وغيره.
ومطلع من قال : إن
مسح ثلثه أجزأه إلى أنّ الشرع قد أطلق اسم الكثير على الثلث في قوله ـ من حديث
سعد : الثّلث والثلث كثير.
ولحظ مطلع أبى
حنيفة في الناصية حسبما جاء في الحديث ، ودلّ عليه ظاهر القرآن في تعلّق العبادات
بالظاهر.
ومطلع قول أشهب في
أنّ من مسح مقدّمه أجزأه إلى نحو من ذلك تناصف ليس يخفى على اللبيب عند اطلاعه على
هذه الأقوال والأنحاء والمطلعات أنّ القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات في
مقصود الشريعة ، ولا جاوزوا طرفيها إلى الإفراط ؛ فإن للشريعة طرفين : أحدهما ـ طرف
التخفيف في التكليف. والآخر ـ طرف الاحتياط في العبادات. فمن احتاط استوفى الكلّ ،
ومن خفّف أخذ بالبعض.
قلنا : في إيجاب
الكلّ ترجيح من ثلاثة أوجه :
أحدهما ـ الاحتياط.
الثاني ـ التنظير
بالوجه ، لا من طريق القياس ؛ بل من مطلق اللفظ في ذكر الفعل وهو الغسل أو المسح ،
وذكر المحل ؛ وهو الوجه أو الرأس.
__________________
الثالث ـ أن كلّ
من وصف وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح رأسه كله.
فإن قيل : فقد ثبت
أنه مسح ناصيته وعمامته ، وهذا نصّ على البعض؟
قلنا : بل هو نصّ
على الجميع ؛ لأنه لو لم يلزم الجميع لم يجمع بين العمامة والرأس. فلما مسح بيده
على ما أدرك من رأسه وأمرّ يده على الحائل بينه وبين باقيه أجراه مجرى الحائل من
جبيرة أو خفّ ، ونقل الفرض إليه كما نقله في هذين.
جواب آخر ـ وهو
أنّ هذا الخبر حكاية حال وقضية في عين ؛ فيحتمل أن يكون النبىّ صلّى الله عليه وسلم
مزكوما فلم يمكنه كشف رأسه ؛ فمسح البعض ومرّ بيده على جميع البعض ، فانتهى آخر
الكفّ إلى آخر الناصية ، فأمرّ اليد على العمامة ، فظن الراوي أنه قصد مسح العمامة
، وإنما قصد مسح الناصية بإمرار اليد ؛ وهذا مما يعرف مشاهدة ، ولهذا لم يرو عنه
قطّ شيء من ذلك في أطواره بأسفاره على كثرتها.
المسألة الثامنة
والعشرون ـ ظنّ بعض الشافعية وحشوية النحوية أنّ الباء للتبعيض ، ولم يبق ذو لسان
رطب إلا وقد أفاض في ذلك حتى صار الكلام فيها إحلالا بالمتكلم ، ولا يجوز لمن شدا طرفا من العربية أن يعتقد في الباء ذلك ، وإن كانت ترد في
موضع لا يحتاج إليها فيه لربط الفعل بالاسم ، فليس ذلك إلا لمعنى ؛ تقول : مررت
بزيد ، فهذا لإلصاق الفعل بالاسم ، ثم تقول : مررت زيدا فيبقى المعنى. وفي ذلك
خلاف بيانه في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين ، وقد طال القول في هذا
الباب ، وترامت فيه الخواطر في المحاضر حتى أفادنى فيه بعض أشياخى في المذاكرة
والمطالعة فائدة بديعة :
وذلك أن قوله : (فَامْسَحُوا) يقتضى ممسوحا ، وممسوحا به. والممسوح الأول هو ما كان. والممسوح
الثاني هو الآلة التي بين الماسح والممسوح ، كاليد والمحصّل للمقصود من المسح ،
وهو المنديل ؛ وهذا ظاهر لا خفاء به ؛ فإذا ثبت هذا فلو قال : امسحوا رءوسكم لأجزأ
المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس لا ماء ولا سواه ، فجاء بالباء لتفيد
ممسوحا به ، وهو
__________________
الماء ، فكأنه قال
: فامسحوا برءوسكم الماء ، من باب المقلوب ، والعرب تستعمله ، وقد أنشد سيبويه :
كنواح ريش حمامة
نجدية
|
|
ومسحت باللّثتين
عصف الإثمد
|
مثله : مثل
القنافذ . ومثله : (مِنْ فِضَّةٍ
قَدَّرُوها تَقْدِيراً). واللثة : هي الممسوحة بعصف الإثمد ، فقلب. ولكن الأمر
بيّن والفصاحة قائمة ، وإلى هذا النحو أشار أبو حنيفة في شرطه الرابع بالثلاثة
الأصابع أو الأربع ؛ فإنه قال : لا بد أن يكون هنالك ممسوح به لأجل الباء ،
فكأنه تعالى قال : فامسحوا بأكفكم رءوسكم. والكفّ خمس أصابع ومعظمها ثلاث وأربع ،
والمعظم قائم مقام الكل على مذهبه في أصول الشريعة ، ففطن أنّ إدخال الباء لمعنى ،
وغفل عن أن لفظ المسح يقتضى اليد لغة وحقيقة ؛ فجعل فائدة الباء التعلّق باليد.
وهذه عثرة لفهمه
لا يقالها ، ووفق الله هذا الإمام الذي أفادنى هذه الفائدة فيها ، إن شاء الله ،
والله ينفعني وإياكم [بها] برحمته.
المسألة التاسعة
والعشرون ـ من أغرب شيء أنّ الشافعىّ رأى مسح شعر القفا ؛ وليس من الرأس في ورد
ولا صدر ؛ فإن الرأس جزء من الإنسان ، واليد جزء ، والبدن جزء ، والعين جزء ،
والعنق جزء ، ومقدم الرقبة العنق ، ومؤخرها القفا ، وقد ثبت في الصحيح أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم مسح رأسه
حتى بلغ قفاه.
وروى أبو داود عن
المقدام بن معديكرب أنّ
النبي صلّى الله عليه وسلم مسح رأسه حتى بلغ إلى قفاه.
المسألة الموفية
ثلاثين ـ قال الله تعالى : (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ) : ثم توضّأ النبىّ صلّى الله عليه وسلم كما أمره الله ،
فنقل أصحابه ما شاهدوا من صفة وضوئه ، ولم يذكروا لكيفية المغسول صفة ، ونقلوا
كيفية مسح رأسه باهتبال كثير ، وتحصيل عظيم ؛ واختلاف في الروايات متفاوت ، نشأت
منه مسائل لم يكن
__________________
بدّ من الإشارة
إلى معظمها ؛ لأنها مفسرة لما أطلق في كتاب الله سبحانه مبهما.
المسألة الحادية
والثلاثون ـ قال الله تعالى في كتابه الكريم : (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) :
وقال الراوي : إن
النبىّ صلّى الله عليه وسلم مسح رأسه ، فلو غسله المتوضئ بدل المسح فلا نعلم خلافا
أنّ ذلك يجزئه ، إلا ما أخبرنا فخر الإسلام في الدرس أن أبا العباس بن القاص من أصحابهم قال : لا يجزئه. وهذا تولّج في مذهب الداودية
الفاسد من اتّباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمّه الله تعالى في قوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وكما قال : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ
الْقَوْلِ) ، وإلا فقد جاء هذا الغاسل لرأسه بما أمر به وزيادة عليه.
فإن قيل : هذه
زيادة خرجت عن اللفظ المتعبّد به.
قلنا : ولم يخرج
عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل وتحقيق التكليف في التطهير.
المسألة الثانية
والثلاثون ـ في تجديد الماء لكل عضو :
وكذلك فعل النبىّ
صلّى الله عليه وسلم : في الحديث الصحيح أنه
أدخل يده في الإناء ، فغسل وجهه ، ثم أدخل يده فغسل يده ، ثم أدخل يده فمسح رأسه ،
ثم أدخل يده فغسل رجليه.
وعن عبد الله بن
زيد أنه رأى النبىّ صلّى
الله عليه وسلم توضّأ ومسح رأسه بماء غير ماء فضل يديه. قال الترمذي : وهو صحيح ، وصح أيضا عن ابن عباس أن
النبىّ صلّى الله عليه وسلم مسح برأسه مطلقا ، وكذلك وردت الأخبار كلها في أعضاء الوضوء ، ووردت مقيدة ، والمقيّد أولى من
المطلق ، لاحتمال المطلق وتنصيص المقيّد.
وقد قال عبد الملك
من أصحابنا : يمسح رأسه ببلل لحيته ، وهذا ينبنى على أصلين :
أحدهما ـ جواز
استعمال الماء المستعمل. والثاني ـ وجوب نقل الماء ، وهي :
المسألة الثالثة
والثلاثون ـ نشأ من أصحابنا من يرى نفسه من أهل الاستنباط ، وليس منه ، من قول عبد
الملك أنه يمسح رأسه من بلل لحيته نقل الماء إلى العضو ، وليس فيه من
__________________
الفقه أكثر من أن
المسح مبنى على التخفيف ،
فيكفى منه ما يظهر على اليد وعلى العضو الممسوح ، فأما نقل الماء إلى العضو فلا خلاف فيه
بين الأئمة.
المسألة الرابعة
والثلاثون ـ تكرار مسح الرأس :
وذلك أن النبىّ
صلّى الله عليه وسلم توضّأ كما وصف أصحابه ، فأما الأحاديث الصحاح كلّها حيثما وردت
فاختلفت صفات وضوئه فيها ـ وكثرة الأعداد في الأعضاء وقلتها حاشا الرأس ، وجاء في
بعضها عن عثمان وغيره : توضّأ ومسح برأسه ثلاثا. قال أبو داود : وأحاديث عثمان
الصحاح على أنه مسح رأسه مسحة واحدة. وقد مهّدنا ذلك في مسائل الخلاف.
المسألة الخامسة
والثلاثون ـ ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم في
صفة مسح الرأس أنه أقبل بيديه وأدبر ، بدأ بمقدّم رأسه ، ثم ذهب بهما إلى
قفاه ، ثم ردّهما إلى المكان الذي بدأ منه.
وفي البخاري :
فأدبر بهما وأقبل ، وهما صحيحان متوافقان. وقد بينا ذلك في شرح الصحيح ، وهي مسألة من أصول الفقه في تسمية الفعل بابتدائه
وبغايته.
المسألة السادسة
والثلاثون ـ ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم المسح لرأسه بيديه ، فلو مسح بيد
واحدة أجزأه ، قال ابن سفيان : حتى لو مسح رأسه بإصبع واحدة لأجزأه ، قاله
ابن القاسم في العتبية.
وذلك لأنّ هيئة
الأفعال في العبادات هل هي ركن فيها أم لا؟ وقد بينّا في كتابنا أنها على ثلاثة
أقسام : منها ما يتعيّن في العبادة كأصلها. والثاني كوضع الإناء بين يدي المتوضئ.
والثالث كاغتراف الماء باليد وغسل الأعضاء ومسح الرأس.
والمقصود من
الهيئة المرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في المسح تفسير الأمر ، وهو أولى في
التعميم ، وأقرب إلى التحصيل ، لأنه ما فاته في الإقبال أدركه في الإدبار.
المسألة السابعة
والثلاثون ـ لما قال علماؤنا : إنّ جميع الرأس أصل في إيجاب عمومه ، وكانت الجبهة
خارجة عنه بالسنّة ، وإن كانت منه بالحقيقة والخلقة ، نشأت عليه مسألة ،
__________________
وهي منزلة الأصلع
والأنزع من الأغم . وقد بيناه في المسائل ، وحكمه الأظهر أن يمسح من الرأس
مقدار العادة على القول بالتعميم.
المسألة الثامنة
والثلاثون ـ الخطاب للمرأة بالعبادة ، كما هو للرجل في الوضوء ، حتى في مسح الرأس
، لكن المرأة تميزت عن الرجل باسترسال الدلالين ، فاختلف آراء متأخرى علمائنا ،
فمنهم من أوجب مسح جميع شعر رأس المرأة ، لأن الفرض انتقل من الجلدة ، وبه تعلّق.
ومنهم من قال :
تمسح منه ما يوازى الفرض من مقدار الرأس كما قلناه في اللحية آنفا ، وكما يلزم في
الخفّين مسح ما يقابل محلّ الفرض من غسل الرجلين.
المسألة التاسعة
والثلاثون ـ القول في الأذنين ، وهما إن كانتا من الرأس فإنهما في الإشكال رأس ،
وقد تفاقم الخطب بين العلماء فيهما ، وقد بسطنا القول فيهما في كتب المسائل في
التفريع ، وفي كتب الحديث في الآثار.
والذي يهوّن عليك
الخطب أن الباري تعالى قال : (برءوسكم) ، ولم يذكر الأذنين ، ولو لا أنهما داخلتان
في حكم الرأس ، ما أهملهما ، وما كان ربّك نسيّا.
وقد روى صفة وضوء
النبي صلّى الله عليه وسلم جماعة لم أجد ذكر الأذنين فيها إلا اليسير من الصحابة ،
منهم عبد الله بن زيد ، قال : رأيت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضّأ فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي أخذ لرأسه.
ومنهم عبد الله بن
عباس ، روى أنّ النبىّ صلّى الله
عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه باطنهما السبّابتين وظاهرهما بإبهاميه ، وصححه الترمذي .
ومنهم الرّبيّع
بنت معوّذ ، قالت : رأيت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضّأ ، ومسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر ، ومسح صدغيه
وأذنيه مرة واحدة. صححه الترمذي.
ومنهم عمرو بن
شعيب ، عن أبيه ، عن جده ـ أنّ
النبىّ صلّى الله عليه وسلم علّم الوضوء
__________________
لمن
سأله بأن توضّأ له ، ثم مسح رأسه ، وأدخل إصبعيه بالسبّابتين في أذنيه ، ومسح
بإبهاميه ظاهرهما.
وقد اختلف الناس
في حكم الأذنين على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنهما من
الرأس حكما ، قاله ابن المبارك والثوري وغيرهما.
الثاني ـ أنهما من
الوجه ، قاله الزهري.
الثالث ـ قال
الشعبي والحسن بن صالح : يغسل ما أقبل منهما مع الوجه ، ويمسح ما أدبر منهما مع
الرأس ، واختاره الطبري.
أما من قال :
إنهما من الرأس فلأن الصحابة لم تذكرهما في الوضوء ، وهذا ضعيف قد بينّا أنها
ذكرتهما.
وأما من قال إنهما
من الوجه فنزع بقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم في سجوده : سجد وجهى للذي خلقه وصوّره وشقّ سمعه
وبصره وإنما أراد النبىّ
صلّى الله عليه وسلم بوجهه جملته ، والسمع وإن كان في الرأس ، والبصر وإن كان في
الوجه فالكلّ مضاف إلى الوجه ، لأنه اسم للجارحة وللقصد ، فأضافه إلى الاسم العام
للمعنيين.
وأما من قال
بالفرق فلا معنى له ، فإنه تحكّم لا تعضده لغة ، ولا تشهد له شريعة.
والصحيح ألّا
يشتغل بهما ، هل هما من الرأس أو من الوجه؟ وأن يعتمد على أن النبىّ صلى الله عليه
وسلم مسحهما ، فبيّن مسح الرأس ، وأنهما يمسحان كما يمسح الرأس ، وهما مضافان إليه
شرعا ، لأنه قال : فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه ، حتى تخرج من أذنيه.
المسألة الموفية
أربعين ـ البياض الذي بين الأذنين والرأس الخالي من الشعر اختلف فيه علماؤنا ، هل
يمسح أم لا؟ وليس عندي بمقصود ، لا في الرأس ، ولا في الأذنين ، لكنه يمكن أن
يتركه من يستوثق في مسح رأسه ولا يلزمه أن يقصده لأنه ليس عندي منه.
المسألة الحادية
والأربعون ـ قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ) :
ثبتت القراءة فيها
بثلاث روايات : الرفع ، قرأ به نافع ، رواه عنه الوليد بن مسلم ، وهي
__________________
قراءة الأعمش
والحسن ، والنصب ، روى أبو عبد الرحمن السلمى ، قال : قرأ علىّ الحسن أو الحسين
فقرأ قوله ـ وأرجلكم ، فسمع علىّ ذلك ، وكان يقضى بين الناس ، فقال : وأرجلكم ـ بالنصب
، هذا من مقدم الكلام ومؤخره. وقرأ ابن عباس مثله.
وقرأ أنس وعلقمة
وأبو جعفر بالخفض.
وقال موسى بن أنس
لأنس : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور ، فقال :
اغسلوا حتى ذكر الرّجلين وغسلهما وغسل العراقيب والعراقب ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج. قال الله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) ـ قال : فكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما وقال : نزل القرآن بالمسح ، وجاءت السنّة بالغسل.
وعن ابن عباس
وقتادة افترض الله مسحين وغسلين ، وبه قال عكرمة والشعبي. وقال : ما كان عليه
الغسل جعل عليه التيمّم ، وما كان عليه المسح أسقط.
واختار الطبري
التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين كالروايتين في الخبر يعمل بهما إذا لم
يتناقضا.
وجملة القول في
ذلك أنّ الله سبحانه عطف الرّجلين على الرأس ، فقد ينصب على خلاف إعراب الرأس أو
يخفض مثله ، والقرآن نزل بلغة العرب ، وأصحابه رءوسهم وعلماؤهم لغة وشرعا. وقد
اختلفوا في ذلك ، فدل [على] أنّ المسألة محتملة لغة محتملة شرعا ، لكن تعضّد حالة
النصب على حالة الخفض بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم غسل وما مسح قط ، وبأنه رأى
قوما تلوح أعقابهم ، فقال : ويل للأعقاب من النار ، وويل للعراقيب من النار. فتوعّد
بالنار على ترك إيعاب غسل الرجلين ، فدل ذلك على الوجوب بلا خلاف ، وتبيّن أن من
قال [من الصحابة :] إنّ الرجلين ممسوحتان لم يعلم بوعيد النبىّ صلّى الله عليه
وسلم على ترك إيعابهما.
__________________
وطريق النظر
البديع أنّ القراءتين محتملتان ، وأن اللغة تقضى بأنهما جائزتان ، فردّهما الصحابة
إلى الرأس مسحا ، فلما قطع بنا حديث النبي صلّى الله عليه وسلم ، ووقف في وجوهنا
وعيده ، قلنا : جاءت السنة قاضية بأنّ النصب يوجب العطف على الوجه واليدين ، ودخل
بينهما مسح الرأس ، وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهما ، لأنه مفعول قبل الرجلين لا
بعدهما ، فذكر لبيان الترتيب لا ليشتركا في صفة التطهير ، وجاء الخفض ليبيّن أنّ
الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل ، وهما الخفّان بخلاف سائر الأعضاء ، فعطف
بالنصب مغسولا على مغسول ، وعطف بالخفض ممسوحا على ممسوح ، وصحّ المعنى فيه.
فإن قيل : أنتم
وإن قرأتموها بالنصب فهي عطف على الرءوس موضعا ، فإنّ الرءوس وإن كانت مجرورة لفظا
فهي منصوبة معنى ، لأنها مفعولة ، فكيف قرأتها خفضا أو نصبا فوظيفتها المسح مثل
الذي عطف عليه.
قلنا : يعارضه أنا
وإن قرأناها خفضا ، وظهر أنها معطوفة على الرءوس فقد يعطف الشيء على الشيء بفعل
ينفرد به أحدهما ، كقوله :
علفتها تبنا
وماء باردا
|
|
ورأيت زوجك في
الوغى
|
متقلّدا سيفا
ورمحا
|
|
......... وأطفلت
|
بالجلهتين
ظباؤها ونعامها
|
وكقوله :
شرّاب ألبان وتمر وأقط
تقديره : غلفتها
تبنا وسقيتها ماء. ومتقلّدا سيفا وحاملا رمحا ، وأطفلت بالجلهتين ظباؤها وفرخت
نعامها. وشرّاب ألبان وآكل تمر وأقط.
فإن قيل : هاهنا
عطف وشرك في الفعل وإن لم يكن به مفعولا اتكالا على فهم السامع للحقيقة.
__________________
قلنا : وها هنا
عطف الرّجلين على الرءوس وشركهما في فعلهما ، وإن لم يكن به مفعوله ، تعويلا على
بيان المبلغ ، فقد بلغ ، وقد بينا أيضا أنها تكون ممسوحة تحت الخفّين ، وذلك ظاهر
في البيان ، وقد أفردناها مستقلة في جزء.
المسألة الثانية
والأربعون ـ إذا ثبت وجه التأويل في المسح على الخفين فإنها أصل في الشريعة وعلامة
مفرّقة بين أهل السنة والبدعة ، وردت به الأخبار.
فإن قيل : هي
أخبار آحاد ، وخبر الواحد عند المبتدعة باطل.
قلنا : خبر الواحد
أصل عظيم لا ينكره إلا زائغ ، وقد أجمعت الصحابة على الرجوع إليه ، وقد جمعناه في
جزء.
الجواب الثاني ـ إنها
مرويّة تواترا ، لأنّ الأمة اتفقت على نقلها خلفا عن سلف ، وإن أضيفت إلى آحاد ،
كما أضيف اختلاف القراءات إلى القرّاء في نقل القرآن ، وهو متواتر. وقد استوفينا
الكلام فيها في شرح الحديث.
المسألة الثالثة
والأربعون ـ قوله تعالى : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) :
اختلف فيهما ،
فقال مالك والشافعى والجماعة : إنهما العظمان الناتئان في المفصل بين الساق
والرّجل.
وقد قال القاضي
عبد الوهاب ، عن ابن القاسم : إنهما العظمان الناتئان في وجه القدم ، وبه قال محمد
بن الحسن.
وقال الخليل : الكعب
هو الذي بين الساق والقدم. والعقب هو معقد الشراك ، وتقتضي لغة العرب أنّ كل ناتئ
كعب ، يقال كعب ثدي المرأة إذا برز عن صدرها.
ولا يجوز أن يراد
به الذي يعقد فيه الشراك ، لوجهين : أحدهما أنه ليس مشهورا في اللغة.
والثاني أنه لا
يتحصّل به غسل الرجلين ، لأنه ليس بغاية لهما ولا ببعض معلوم منهما ، والإحالة على
المجهول في التكليف لا تجوز إلا بالبيان ، وإن لم يكن قرآنا ، ولا من النبي صلى
الله عليه وسلم سنّة ، فبطل ، بل جاءت السنة بضدّها ، قال النبي صلى الله عليه
وسلم : ويل للعراقيب من النار. وهذا يبطل أن يكون معقد الشراك حذاءه لا فوقه ،
يعضده أر
__________________
سبحانه قال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، ولو قال : أراد معقد الشراك لقال إلى الكعاب ، كما قال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) لما كان لكلّ واحدة قلب واحد ، فدلّ على أنّ في كل رجل
كعبين اثنين.
المسألة الرابعة
والأربعون ـ القول في دخول الرّجلين في الكعبين كالقول في دخول المرافق في الوضوء
سواء ؛ لأنّ الكعب في الساق ، كما أن المرفق في العضد ، وكلّ واحد منهما هو في غير
المذكور منهما ؛ لأنك إذا غسلت الساعد إلى المرفق فالمرفق آخر العضد ، وإذا غسلت
القدم إلى الكعبين فالكعبان آخر الساقين ، فركّبه عليه وافهمه منه.
المسألة الخامسة
والأربعون ـ في تخليل الأصابع في الوضوء :
وذلك في اليدين
والرجلين ؛ قال ابن وهب : وهو واجب في الدين مستحبّ في الرجلين ، وبه قال أكثر
العلماء.
وقيل : إن ذلك
واجب في الجميع ، لما روى حذيفة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلّلوا بين الأصابع لا تتخلّلها النار.
وقال المستورد بن
شداد : رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه.
والحقّ أنه واجب
في اليدين على القول بالدّلك ، غير واجب في الرجلين ، لأنّ تخليلها بالماء يقرح
باطنها ، وقد شاهدنا ذلك ، وما علينا في الدين من حرج في أقل من ذلك ، فكيف في
تخليل تتقرّح به الأقدام!
المسألة السادسة
والأربعون ـ نزع علماؤنا بهذه الآية إلى أن إزالة النجاسة غير واجبة ، لأنه قال : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ؛ تقديره كما سبق : وأنتم محدثون ، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
، فلم يذكر الاستنجاء ، وذكر الوضوء ، ولو كان واجبا لكان أوّل مبدوء به ، وهي
رواية أشهب عن مالك.
وقال ابن وهب : لا
تجزئ الصلاة بها لا ذاكرا ولا ناسيا ؛ وبه قال الشافعى.
وقال ابن القاسم
عنه : تجب مع الذّكر وتسقط مع النسيان.
__________________
وقال أبو حنيفة :
تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلى ـ يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال ـ قياسا على فم
المخرج المعتاد الذي عفى عنه ، وتوجيه ذلك وتفريعه في مسائل الخلاف وكتب الفروع.
والصحيح رواية ابن
وهب. ولا حجة في ظاهر القرآن ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى إنما بيّن في آية الوضوء
صفة الوضوء خاصة ، وللصلاة شروط : من استقبال الكعبة ، وستر العورة ، وإزالة النجاسة
، وبيان كل شرط منها في موضعه وسنتكلم على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
المسألة السابعة
والأربعون ـ ذكر الله تعالى أعضاء الوضوء وترتيبها وأمر بغسلها معقبة ، فهل يلزم
كلّ مكلف أن تكون مفعولة مجموعة في الفعل كجمعها في الذّكر ، أو يجزئ التفريق فيها؟
فقال في المدوّنة
وكتاب محمد : إن التوالي ساقط ؛ وبه قال الشافعى.
وقال مالك وابن
القاسم : إن فرّقه متعمدا لم يجزه ، ويجزيه ناسيا. وقال ابن وهب : لا يجزيه ناسيا
ولا متعمّدا.
وقال مالك في
رواية ابن حبيب : يجزيه في المغسول ولا يجزيه في الممسوح.
وقال ابن عبد
الحكم : يجزيه ناسيا ومتعمّدا.
فهذه خمسة أقوال الأصل فيها أنّ الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو
فرّق ، وليس لهذه المسألة متعلق بالفور إنما يتعلق بالفور الأمر بأصل الوضوء خاصة.
والأصل الثاني
أنها عبادة ذات أركان مختلفة ، فوجب فيها التّوالى كالصلاة ، وبهذا نقول : إنه
يلزم الموالاة مع الذكر والنسيان كالصلاة إلا أن يكون يسيرا ، هو معفوّ عنه.
وأما متعلّق الفرق
بين الذكر والنسيان فإنّ التوالي صفة من صفات الطهارة ، فافترق فيها الذكر
والنسيان ، كالترتيب. واعتبار صفة من صفات العبادة بصفة أولى من اعتبار عبادة
بعبادة.
__________________
المسألة الثامنة
والأربعون ـ في تحقيق معنى لم يتفطّن له أحد حاشا مالك بن أنس ، لعظيم إمامته ،
وسعة درايته ، وثاقب فطنته ، وذلك أن الله تعالى قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرافِقِ ...) الآية. وتوضأ النبىّ صلى الله عليه وسلم مرة مرة ومرتين مرتين ، وثلاثا
ثلاثا ، ومرتين في بعض أعضائه وثلاثا في بعضها في وضوء واحد ، فظنّ بعض الناس ـ بل
كلهم ـ أنّ الواحدة فرض ، والثانية فضل ، والثالثة مثلها ، والرابعة تعدّ ، وأعلنوا بذلك في
المجالس ، ودوّنوه في القراطيس ؛ وليس كما زعموا وإن كثروا ، فالحقّ لا يكاد
بالقفزان ، وليس سواء في دركه الرجال والولدان.
اعلموا وفّقكم
الله أن قول الراوي إن النبىّ صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين وثلاثا أنه أوعب
بواحدة ، وجاء بالثانية والثالثة زائدة فإن هذا غيب لا يدركه بشر ؛ وإنما رأى الراوي أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم قد غرف لكل عضو مرة ، فقال : توضأ مرّة ، وهذا صحيح صورة ومعنى ؛ ضرورة أنا نعلم قطعا أنه لو لم
يوعب العضو بمرة لأعاد ؛ وأما إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإننا لا
نتحقّق أنه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلا ، أو لم يوعب في
الواحدة ولا في الاثنتين حتى زاد عليها ، بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة
وتأتى حصول التلطف في إدارة الماء القليل والكثير عليها ، فيشبه ، والله أعلم ،
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يوسّع على أمته بأن يكرّر لهم الفعل ، فإن
أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة ، فجرى مع اللطف بهم والأخذ لهم بأدنى
أحوالهم إلى التخلص ؛ ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثا
إلا ما أسبغ.
قال : وقد اختلفت
الآثار في التوقيت ، يريد اختلافا يبيّن أن المراد معنى الإسباغ لا صورة الأعداد ،
وقد توضأ النبىّ صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فغسل وجهه بثلاث غرفات ، ويده
بغرفتين ، لأنّ الوجه ذو غضون ودحرجة واحديداب ، فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب
من مرة بخلاف الذراع فإنه مسطّح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر مما يكون ذلك في الوجه.
__________________
فإن قيل : فقد توضّأ النبىّ صلى الله عليه وسلم
مرة مرة ، وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. وتوضأ مرتين مرتين ، وقال
: من توضأ مرتين مرتين آتاه الله أجره مرتين. ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ، وقال : هذا
وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ، ووضوء أبى إبراهيم. وهذا يدلّ على أنها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ ،
يتعلّق الأجر بها مضاعفا على حسب مراتبها.
قلنا : هذه
الأحاديث لم تصحّ ، وقد ألقيت إليكم وصيّتي في كل وقت ومجلس ألّا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصحّ سنده ، فكيف
ينبنى مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل ؛ على أن له تأويلا صحيحا ، وهو أنه توضّأ مرة مرة وقال : هذا وضوء لا
يقبل الله الصلاة إلا به ؛ فإنه أقل ما يلزم ، وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها. ثم توضأ بغرفتين وقال : له أجره مرتين
في كل تكلف غرفة ثواب. وتوضأ ثلاثا وقال : هذا وضوئي ؛ معناه الذي فعلته رفقا بأمتى وسنّة لهم ؛ ولذلك يكره أن
يزاد على ثلاث ؛ لأن الغرفة الأولى تسنّ العضو للماء وتذهب عنه شعث التصرف.
والثانية ترحض وضر العضو ، وتدحض وهجه. والثالثة تنظّفه ، فإن قصرت دربة أحد
عن هذا كان بدويا جافيا فيعلّم الرفق حتى يتعلّم ، ويشرع له سبيل الطهارة حتى ينهض
إليها ، ويتقدم ، ولهذا قال من قال : فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم .
المسألة التاسعة
والأربعون ـ لما ذكر الله سبحانه غسل الوجه مطلقا ، وتمضمض النبىّ صلى الله عليه
وسلم فبيّن وجه النظافة فتعيّن في ذلك ما قدمنا بيانه ، ثم لازم النبىّ صلى الله
عليه وسلم السّواك فعلا ، وندب إليه أمرا ، حتى قال في الحديث الصحيح : لو لا أن أشقّ على أمتى لأمرتهم بالسواك
عند كلّ وضوء. وثبت عنه صلى الله
عليه وسلم أنه إذا قام من الليل
يشوص فاه بالسّواك ،
وما غفل عنه قطّ ؛ بل كان يتعاهده ليلا ونهارا ، فهو مندوب إليه ، ومن سنن الوضوء
، لا من فضائله ، وقد بينّاه في شرح الحديث الصحيح.
__________________
المسألة الموفية
خمسين ـ قوله تعالى : (فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) :
في التيمم ، فأدخل
الباء فيه ، كما أدخلها في قوله تعالى : (بِرُؤُسِكُمْ) ؛ وهو مستغنى عنها ، ليبيّن وجوب الممسوح به ؛ وأكده بعد
ذلك بقوله : (منه) ، وقد كان مستغنى عنه ، ولكنه تأكيد للبيان.
وزعم الشافعية أنّ
قوله (منه) إنما جاء ليبيّن وجوب نقل التراب إلى الوجه واليدين في التيمم ، وذلك
يقتضى أن يكون التيمم على التراب لا على الحجارة.
وقال علماؤنا :
إنما أفادت (منه) وجوب ضرب الأرض باليدين ، فلولا ذلك وتركنا ظاهر القرآن لجازت
الإشارة إلى الصعيد وضرب الوجه واليدين بعد الإشارة باليدين إلى الأرض ، ولكنه أكد
بقوله (منه) ليكون الابتداء بوضع اليدين على الأرض تعبّدا ، ثم ضرب الوجه واليدين
بعد ذلك بهما ، وقد بينا ذلك في سورة النساء ، وقررنا أنّ الصعيد وجه الأرض كيفما كان.
المسألة الحادية
والخمسون ـ فإن قيل : فبيّنوا لنا بقية الآية.
قلنا : أما قوله :
وإن كنتم جنبا فاطّهروا ، وحكم المرض والسفر والمجيء من الغائط ولمس النساء وعدم
الماء والتيمم بالصعيد الطيب ، فقد تقدم ذكره في سورة النساء ، فلا وجه لإعادته ، والقول فيها واحد ، وإن كانت اثنتين
فلينظر فيهما فينتظم المعنى بهما.
المسألة الثانية
والخمسون ـ في تقدير الآية ونظامها :
روى عن زيد بن
أسلم أنه قال في الآية تقديم وتأخير ، تقديره إذا قمتم إلى الصلاة من نوم ، أو جاء
أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ،
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ، وإن كنتم جنبا فاطّهروا ، وإن كنتم مرضى أو
على سفر فلم تجدوا ماء فتيمّموا.
الثاني ـ تقديرها إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ، واستمرّ
عليها تلاوة وتقديرا إلى آخرها.
__________________
الثالث ـ تقديرها
إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم ، وإن كنتم جنبا فاطّهروا ، وإن
كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط. وتكون أو بمعنى الواو.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).
تقدم أكثر معناها
في سورة النساء عند ذكرنا لنظيرتها ، ونحن نعيد ذكر ما تجدّد هاهنا منها ، ونعيد ما تحسن
إعادته فيها في ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
نزلت في اليهود ،
ذهب إليهم النبىّ صلى الله عليه وسلم ليستعين بهم في دية العامريّين اللذين قتلهما
عمرو بن أمية فوعدوه ثم همّوا بغدره ، فأعلمه الله سبحانه بذلك ، فخرج عنهم ،
وأمره الله سبحانه ألّا يحمله ما كانوا عليه من الحالة المبغضة لهم على أن يخرج عن
الحق فيها قضاء أو شهادة.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أو (قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) سواء في المعنى ؛ لأنّ من كان قيامه لله فشهادته وعمله
يكون بالعدل ، ومن كان قيامه بالعدل فشهادته وعمله لله سبحانه ؛ لارتباط أحدهما
بالآخر ارتباط الأصل بالفرع ، والأصل هو القيام لله والعدل مرتبط به.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) :
يريد لا يحملنّكم
بغض قوم على العدول عن الحقّ ؛ وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدوّ على عدوّه في
الله تعالى ، و [نفوذ] شهادته عليه ؛ لأنه أمر بالعدل ، وإن أبغضه ، ولو كان حكمه
عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه.
فإن قيل : البغض
ورد مطلقا فلم خصصتموه بما يكون في الله تعالى؟
قلنا : لأنّ البغض
في غيره لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ، ولا يجوز أن
__________________
يأمر الله أحدا
بقول الحق على عدوه مع عداوة لا تحل ، فيكون تقريرا للوصف ، وفيه أمر بالمعصية ؛ وذلك محال على الله سبحانه.
الآية الثامنة ـ قوله
سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ،
وَقالَ اللهُ : إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ
الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً
حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ هذا
خطاب أخبر به عن فعل موسى مع إسرائيل ، وبعثه النّقباء منهم إلى الأرض المقدسة ، ليختبروا حال من بها ، ويعلموه
بما أطلعوه عليه فيها حتى ينظروا في الغزو إليها ؛ وشرع من قبلنا شرع لنا على ما بيناه في
أصول الفقه وفي كتابنا هذا عند ما عرض منها ما يكون مثلها ، ولما كان أصل مالك ذلك
، وهو الصحيح ، ركّبنا عليه المسائل لكونه من واضحات الدلائل.
المسألة الثانية ـ
في هذا دليل على أنه يقبل خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء ويحتاج إلى اطلاعه من
حاجته الدينية والدنيوية ، فيركّب عليه الأحكام ، ويربط به الحلال والحرام.
وقد جاء أيضا مثله
في الإسلام ، فقد روى أنّ
وفد هوازن لما جاءوا تائبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلّم رسول الله صلى الله
عليه وسلم الناس ، وسألهم أن يتركوا نصيبهم لهم من السّبى ، فقالوا : قد طيبا ذلك
يا رسول الله قال : ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ، واحدها عريف ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
وهو فعيل بمعنى فاعل ، أى يعرّف بما عند من كلف أن يعرف ما عنده.
ومن حديث وفد
هوازن أن النبىّ صلى الله
عليه وسلم خطب فقال : أما بعد فإنّ إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين ، وإنى رأيت أن
أردّ عليهم سبيهم ، فمن أحبّ منكم أن يطيب بذلك فليفعل ، ومن أحبّ منكم أن يكون
على حظّه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل.
__________________
فقال
الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا
لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرجع
الناس فكلمهم عرفاؤهم ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه أنهم
قد طيبوا وأذنوا.
لفظ البخاري : وهو
النقيب أو ما فوقه ، وينطلق بالمعنيين ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم نقيب الأنصار. وينطلق في اللغة على الأمين والكفيل.
واشتقاقه ؛ يقال :
نقب الرجل على القوم ينقب إذا صار نقيبا ، وما كان الرجل نقيبا ، ولقد نقب ، وكذلك عرف عليهم إذا صار عريفا ، ولقد عرف ، وإنما قيل له نقيب ؛ لأنه يعرف دخيلة أمر القوم ومناقبهم
، والمناقب تطلق على الخلقة الجميلة وعلى الأخلاق الحسنة.
المسألة الرابعة ـ
وعلى هذا انبنى قبول المرأة لزوجها في الذي يبلغه إياها من مسائل الشريعة وأحكام
الدين ودخول الدار بإذن الآذن ، وأحكام كثيرة لا نطوّل بها ؛ ففي هذا تنبيه عليها
وعلى أنواعها ، فألحق كلّ شيء بجنسه منها ، ومن هاهنا اتخذ النبىّ صلى
الله عليه وسلم النّقباء ليلة العقبة.
قال ابن وهب :
سمعت مالكا يقول : كانت الأنصار سبعين رجلا ، يعنى مالك يوم العقبة ، وكان منهم
اثنا عشر نقيبا ، فكان أسيد بن الحضير أحد النقباء نقيبا.
قال مالك :
النقباء تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ، منهم أسيد بن الحضير وعمرو بن الجموح.
وقال أشهب ، عن
مالك : كان أسعد بن زرارة أحد النقباء.
وقال ابن القاسم
عنه : عمرو بن الجموح ، وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم المسلمين من
النّقباء.
__________________
قال علماؤنا :
التسعة من الخزرج هم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع بن عمرو ، وعبد
الله بن رواحة بن امرئ القيس ، والبراء بن معرور بن صخر ، وعبد الله بن عمرو بن
حرام ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعمرو بن الجموح.
ومن الأوس أسيد بن
الحضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر ، ومن الناس من يعدّ فيهم أبا
الهيثم بن التّيهان ؛ فجعلهم النبىّ صلى الله عليه وسلم نقباء على من كان معهم
وعلى من يأتى بعدهم.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ).
قال أشهب عن مالك
: هو أن يكون للرجل مسكن يأوى إليه وامرأة يتزوّجها وخادم يخدمه.
وكذلك روى عن ابن
عباس ، وعبد الله بن عمر ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، زاد قتادة : كانت بنو
إسرائيل أول من اتخذ الخدمة ؛ وفائدة ذلك أنّ الرجل إذا وجبت عليه كفّارة وملك
دارا وخادما باعهما في الكفّارة ولم يجزه الصيام ؛ لأنه قادر على الرقبة ببيع خادمه أو داره وهو ملك
، والملوك لا يكفّرون بالصيام ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ
غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ،
قالَ : يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ
سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى
بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي
الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ، وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ
إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).
فيها تسع مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ
غُراباً) :
اختلف في المجنى
عليه على قولين :
أحدهما ـ أنه من
بنى إسرائيل.
الثاني ـ أنه ولد
آدم لصلبه ، وهما قابيل وهابيل ؛ وهو الأصحّ ؛ وقاله ابن عباس والأكثر من الناس ،
جرى من أمرهما ما قصّ الله سبحانه في كتابه.
والدليل على أنه
الأصحّ ما روى في الحديث الثابت الصحيح عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :
ما من قتيل يقتل [ظلما]
إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها ، لأنه أول من سنّ القتل.
المسألة الثانية ـ
قوله سبحانه : (فَبَعَثَ اللهُ
غُراباً) :
فيه قولان :
أحدهما ـ أنّ
قابيل لم يدر كيف يفعل بهابيل حتى بعث الله الغرابين ، فتنازعا فاقتتلا ، فقتل
أحدهما الآخر.
الثاني ـ أن
الغراب إنما بعث ليرى ابن آدم كيفية المواراة لهابيل خاصة.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (سَوْأَةَ أَخِيهِ) :
قيل : هي العورة. وقيل : لما أنتن صار كلّه عورة ؛ وإنما سميت سوءة
لأنها تسوء الناظر إليها عادة.
المسألة الرابعة ـ
دفن الميت لوجهين : أحدهما لستره الثاني لئلا يؤذى الأحياء بجيفته.
وقيل : إنهما كانا
ملكين في صورة الغرابين.
وقال ابن مسعود :
كانا غرابين أخوين ، فبحث الأرض على سوءة أخيه حتى عرف كيف يدفنه.
وروى ابن القاسم ،
عن مالك ـ أنّ ابن آدم الذي قتل أخاه حمله على عنقه سنة يدور به ، فبعث الله غرابا
يبحث في الأرض ، ودفن فتعلّم ، وعمل مثل ما رأى ، وقال : أخبر الله
__________________
سبحانه عنه ، وكان
ذلك كلّه في علم الله تعالى وخبره ، ألا ترى إلى قوله عز وجل : (ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ). وقال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً) (. أَحْياءً
وَأَمْواتاً). ويأتى تحقيقه إن شاء الله ؛ فصار ذلك سنّة باقية في الخلق
، وفرضا على جميع الناس على الكفاية ، من فعله منهم سقط عن الباقين فرضه ؛ وأخصّ
الخلق به الأقربون ، ثم الذين يلونهم من الجيرة ، ثم سائر الناس المسلمين ؛ وهو
حقّ في الكافر أيضا ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
روى ناجية بن كعب ، عن علىّ ،
قال : قلت للنبي صلى
الله عليه وسلم : إنّ
عمّك الشيخ الضالّ مات ، فمن يواريه؟ قال : اذهب فوار أباك ، ولا تحدثنّ حدثا حتى
تأتينى. فواريته ، ثم جئت ، فأمرنى أن أغتسل ودعا لي.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) :
فيه دليل على قياس
الشّبه ؛ وقد حققناه في الأصول.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ) :
وهي تابعة للأحكام
هاهنا لأنها من الأصول ؛ لكنا نشير إليها لتعلّق القلوب بها ، فنقول : من الغريب
أن الله سبحانه قد أخبر عنه أنه ندم وهو في النار ، وقال صلى الله عليه وسلم : الندم توبة.
قلنا : عن هذه
ثلاثة أجوبة :
الأول ـ أنّ
الحديث ليس يصحّ ، لكن المعنى صحيح ، وكل من ندم فقد سلم ، لكن الندم له شروط ،
فكلّ من جاء بشروطه قبل منه ، ومن أخلّ بها أو بشيء منها لم يقبل.
الثاني ـ أنّ
معناه ندم ولم يستمر ندمه ، وإنما يقبل الندم إذا استمر.
الثالث ـ أن الندم
على الماضي إنما ينفع بشرط العزم على ألّا يفعل في المستقبل.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ
كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) :
__________________
تعلق بهذا من قال
: إن ابني آدم كانا من بنى إسرائيل ، ولم يكن قبلهم. وهذا لا يصحّ لأن القتل قد
جرى قبل ذلك ، ولم يخل زمان آدم ولا زمن من بعده من شرع. وأهمّ قواعد الشرائع
حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص كفّا وردعا للظالمين والجائرين ، وهذا
من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع ، والأصول التي لا تختلف فيها الملل ؛ وإنما
خصّ الله بنى إسرائيل بالذكر للكتاب فيه عليهم ؛ لأنه ما كان ينزل قبل ذلك من
الملل والشرائع كان قولا مطلقا غير مكتوب ، بعث الله إبراهيم فكتب له الصّحف ،
وشرع له دين الإسلام ، وقسم ولديه بين الحجاز والشام ، فوضع الله إسماعيل بالحجاز
مقدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأخلاها عن الجبابرة تمهيدا له ، وأقرّ إسحاق
بالشام ، وجاء منه يعقوب وكثرت الإسرائيلية ، فامتلأت الأرض بالباطل في كل فج.
وبغوا ؛ فبعث الله سبحانه موسى وكلّمه وأيّده بالآيات الباهرة ، وخطّ له التوراة
بيده ، وأمره بالقتال ، ووعده النّصر ، ووفى له بما وعده ، وتفرقت بنو إسرائيل
بعقائدها ، وكتب الله جلّ جلاله في التوراة القصاص محدّدا مؤكدا مشروعا في سائر
أنواع الحدود ، إلى سائر الشرائع من العبادات وأحكام العاملات ، وقد أخبر الله في
كتابنا بكثير من ذلك.
المسألة التاسعة ـ
قوله تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) :
هذه مسألة مشكلة ؛
لأنّه من قتل نفسا واحدة ليس كمن قتل الناس في الحقيقة ، وإنما سبيل هذا الكلام
المجاز ، وله وجه وفائدة ؛ فأما وجه التشبيه فقد قال علماؤنا في ذلك أربعة أقوال :
الأول ـ أنّ معناه
من قتل نبيا ؛ لأنّ النبىّ من الخلق يعادل الخلق ، وكذلك الإمام العادل بعده ؛
قاله ابن عباس في النبي.
الثاني ـ أنه
بمنزلة من قتل الناس جميعا عند المقتول ، إمّا لأنه فقد نفسه ، فلا يعنيه
__________________
بقاء الخلق بعده ،
وإمّا لأنه مأثوم ومخلد كمن قتل الناس جميعا على أحد القولين ، واختاره مجاهد ،
وإليه أشار الطبري في الجملة ، وعكسه في الإحياء مثله.
الثالث ـ قد قال
بعض المتأخرين : إن معناه يقتل بمن قتل ، كما لو قتل الخلق أجمعين ، ومن أحياها
بالعفو فكأنما أحيا الناس أجمعين.
الرابع ـ أن على
جميع الخلق ذمّ القاتل ، كما عليهم إذا عفا مدحه ، وكلّ واحد منهما مجاز.
وبعضها أقرب من
بعض.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) :
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ هذا
مبنيّ على الأصل المتقدم من أن شرع من قبلنا شرع لنا ، أعلمنا الله به وأمرنا
باتّباعه.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (أَوْ فَسادٍ فِي
الْأَرْضِ) :
اختلف فيه ، فقيل
: هو الكفر. وقيل : هو إخافة السبيل. وقيل غير ذلك مما يأتى بيانه إن شاء الله
تعالى.
وأصل (فسد) في
لسان العرب تعذّر المقصود وزوال المنفعة ؛ فإن كان فيه ضرر كان أبلغ ، والمعنى
ثابت بدونه ، قال الله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ؛ أى لعدمتا ، وذهب المقصود. وقال الله سبحانه : (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْفَسادَ) ؛ وهو الشرك أو الإذاية للخلق ، والإذاية أعظم من سدّ
السبيل ، ومنع الطريق.
ويشبه أن يكون
الفساد المطلق ما يزيف مقصود المفسد ، أو يضرّه ، أو ما يتعلق بغيره.
والفساد في الأرض
هو الإذاية للغير. والإذاية للغير على قسمين : خاص ، وعام ؛ ولكلّ نوع منها جزاؤه
الواقع وحدّه الرادع ، حسبما عيّنه الشرع ، وإن كان على العموم فجزاؤه ما في الآية
بعد هذه من القتل والصلب.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (فَكَأَنَّما قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).
ظاهره خلاف
مشاهدته ، فإنه لم يقتل إلا واحدا ، ولكنه تحمّل أوجها من المجاز ، منها : أن عليه
إثم من قتل جميع الناس ، وله أجر من أحيا جميع الناس إذا أصرّوا على الهلكة.
ومنها أنّ من قتل
واحدا فهو متعرّض لأن يقتل جميع الناس ، ومن أنقذ واحدا من غرق أو حرق أو عدوّ فهو
معرض لأن يفعل مع جميع الناس ذلك ، فالخير عادة والشر لجاجة.
وروى في الصحيح أن
رجلا قتل تسعه وتسعين ، ثم جاء عالما فسأله هل لي من توبة؟ فقال له : لا ، فكمّل
المائة به ، ثم جاء غيره ، فسأله ، فقال : لك توبة ... الحديث ـ إلى أن قبضه الله
عزّ وجلّ على التوبة والرحمة.
ومنها أن من قتل
واحدا فقد سنّ لغيره أن يقتدى به ، فكلّ من يقتل يأخذ بحظّه من إثم ، وكذلك من
أحيا مثله في الأجر ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
ما من نفس تقتل
إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ؛ لأنه أول من سنّ القتل.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فيها اثنتا عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ظاهرها محال ؛ فإنّ الله سبحانه لا يحارب ولا
يغالب ولا يشاقّ ولا يحادّ لوجهين : أحدهما ما هو عليه من صفات الجلال ، وعموم القدرة
والإرادة على الكمال ، وما وجب له من التنزّه عن الأضداد والأنداد.
الثاني ـ أنّ ذلك
يقتضى أن يكون كلّ واحد من المتحاربين في جهة وفريق عن الآخر.
__________________
والجهة على الله
تعالى محال ، وقد قال جماعة من المفسرين لما وجب من حمل الآية على المجاز: معناه
يحاربون أولياء الله ؛ وعبّر بنفسه العزيزة سبحانه عن أوليائه إكبارا لإذايتهم ،
كما عبّر بنفسه عن الفقراء في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ؛ لطفا بهم ورحمة لهم ، وكشفا للغطاء عنه بقوله في الحديث
الصحيح : عبدى مرضت فلم تعدني
، وجعت فلم تطعمني ، وعطشت فلم تسقني ، فيقول : وكيف ذلك وأنت ربّ العالمين؟ فيقول
: مرض عبدى فلان ، ولو عدته لوجدتني عنده. وذلك كلّه على الباري سبحانه محال ، ولكنه كنى بذلك عنه
تشريفا له ، كذلك في مسألتنا مثله.
وقد قال المفسرون
: إن الحرابة هي الكفر ، وهي معنى صحيح ؛ لأنّ الكفر يبعث على الحرب ؛ وهذا مبيّن
في مسائل الخلاف.
المسألة الثانية :
في سبب نزولها ، وفيها خمسة أقوال :
الأول ـ أنها نزلت
في أهل الكتاب ؛ نقضوا العهد ، وأخافوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فخيّر الله
نبيه فهم.
الثاني ـ نزلت في
المشركين ؛ قاله الحسن.
الثالث ـ نزلت في عكل أو عرينة ، قدم منهم نفر على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
وتكلّموا بالإسلام ، فقالوا : يا نبي الله ؛ إنا كنا أهل ضرع ، ولم نكن أهل ريف ،
واستوخموا المدينة ، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع ، وأمرهم أن يخرجوا فيه ، فيشربوا من ألبانها
وأبوالها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا راعى
النبىّ صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذّود ؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم
، فبعث الطلب في آثارهم ، فأمر بهم فسملوا أعينهم ، وقطعوا أيديهم ، وتركوا في ناحية الحرّة حتى ماتوا على حالهم.
وقال قتادة :
فبلغنا أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحثّ على الصدقة وينهى عن المثلة.
__________________
هذا في الصحيح من
قصّتهم ، وتمامها على الاستيفاء في صريح الصحيح ، زاد الطبري : وفي ذلك نزلت هذه
الآية ، ورواه جماعة.
الرابع ـ أن هذه
الآية نزلت معاتبة للنبىّ صلى الله عليه وسلم في شأن العرنيين ؛ قاله الليث.
الخامس ـ قال
قتادة : هي ناسخة لما فعل في العرنيين.
المسألة الثالثة ـ
في تحقيق ذلك :
لو ثبت أن هذه
الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا ، ونصّا صريحا.
واختار الطبري
أنها نزلت في يهود ، ودخل تحتها كلّ ذمّى وملّى. وهذا ما لم يصح ، فإنه لم يبلغنا
أنّ أحدا من اليهود حارب ، ولا أنه جوزي بهذا الجزاء.
ومن قال : إنها
نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب ؛ لأنّ عكلا وعرينة ارتدّوا وقتلوا وأفسدوا ،
ولكن يبعد ؛ لأنّ الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة ، كما يسقط قبلها
، وقد قيل للكفار : (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ). وقال في المحاربين : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). وكذلك المرتدّ يقتل بالردة دون المحاربة ، وفي الآية
النفي لمن لم يتب قبل القدرة ، والمرتد لا ينفى ، وفيها قطع اليد والرجل ، والمرتد
لا تقطع له يد ولا رجل ؛ فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدّون.
فإن قيل : وكيف
يصحّ أن يقال إنها في شأن العرنيين أقوى ؛ ولا يمكن أن يحكم فيهم بحكم العرنيين من
سمل الأعين ، وقطع الأيدى.
قلنا : ذلك ممكن ؛
لأن الحربي إذا قطع الأيدى وسمل الأعين فعل به مثل ذلك إذا تعيّن فاعل ذلك.
فإن قيل : لم يكن
هؤلاء حربيين ، وإنما كانوا مرتدين ؛ والمرتدّ يلزم استتابته ، وعند إصراره على
الكفر يقتل.
__________________
قلنا : فيه
روايتان : إحداهما أنه يستتاب ، والأخرى لا يستتاب.
وقد اختلف العلماء
على القولين ، فقيل : لا يستتاب ؛ لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قتل هؤلاء ولم
يستتبهم.
وقيل : يستتاب
المرتدّ ، وهو مشهور المذهب ، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم استتابة هؤلاء
لما أحدثوا من القتل ، والمثلة والحرب ؛ وإنما يستقاب المرتدّ الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ، ويبيّن له المشكل ، وتجلى له الشّبهة.
فإن قيل : فكيف
يقال إنّ هذه الآية تناولت المسلمين ، وقد قال : إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ؛ وتلك صفة الكفار؟
قلنا : الحرابة تكون
بالاعتقاد الفاسد ، وقد تكون بالمعصية ، فيجازى بمثلها ، وقد قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).
فإن قيل : ذلك
فيمن يستحلّ الربا.
قلنا : نعم ،
وفيمن فعله ، فقد اتفقت الأمة على أنّ من يفعل المعصية يحارب ، كما لو
اتفق أهل بلد على العمل بالربا ، وعلى ترك الجمعة والجماعة.
المسألة الرابعة ـ
في تحقيق المحاربة :
وهي إشهار السلاح
قصد السلب ، مأخوذ من الحرب ؛ وهو استلاب ما على المسلم بإظهار السلاح عليه ،
والمسلمون أولياء الله بقوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ
اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا). وقد شرح ذلك مالك شرحا بالغا فيما رواه ابن وهب عنه : قال
ابن وهب : قال مالك : المحارب الذي يقطع السبيل وينفرّ بالناس في كل مكان ، ويظهر
الفساد في الأرض وإن لم يقتل أحدا ، إذا ظهر عليه يقتل ؛ وإن لم يقتل فللإمام أن
يرى فيه رأيه بالقتل ، أو الصّلب ، أو القطع ، أو النفي ؛ قال مالك : والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته [سواء] . وإن استخفى بذلك ، وظهر في الناس إذا أراد الأموال وأخاف
فقطع السبيل أو قتل ، فذلك إلى الإمام ؛ يجتهد أىّ هذه الخصال شاء. وفي رواية عن
__________________
ابن وهب أن ذلك إن
كان قريبا وأخذ بحدثانه فليأخذ الإمام فيه بأشد العقوبة ، وفي ذلك أربعة أقوال :
الأول ـ ما تقدّم
ذكره لمالك.
الثاني ـ أنها
الزنا والسرقة والقتل ؛ قاله مجاهد.
الثالث ـ أنه
المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية في المصر وغيره ؛ قاله الشافعى ومالك في
رواية والأوزاعى.
الرابع ـ أنه
المجاهر في الطريق لا في المصر ؛ قاله أبو حنيفة وعطاء.
المسألة الخامسة ـ
في التنقيح :
أما قول مجاهد
فساقط ، إلا أن يريد به أن يفعله مجاهرة مغالبة ، فإن ذلك أفحش في الحرابة.
قال القاضي رضى
الله عنه : ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلىّ قوم خرجوا محاربين إلى رفقة ،
فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها
فاحتملوها ، ثم جدّ فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم ، فسألت من كان ابتلاني الله به من
المفتين ، فقالوا : ليسوا محاربين ؛ لأنّ الحرابة إنما تكون في الأموال لا في
الفروج. فقلت لهم : إنا لله وإنا إليه راجعون! ألم تعلموا أنّ الحرابة في الفروج
أفحش منها في الأموال ، وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء من زوجته وبنته ، ولو كان
فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج ، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال ،
وخصوصا في الفتيا والقضاء.
وأما قول من قال :
إنه سواء في المصر والبيداء فإنه أخذ بمطلق القرآن.
وأما من فرّق فإنه
رأى أنّ الحرابة في البيداء أفحش منها في المصر لعدم الغوث في البيداء وإمكانه في
المصر.
والذي نختاره أنّ
الحرابة عامة في المصر والقفر ، وإن كان بعضها أفحش من بعض ، ولكن اسم الحرابة
يتناولها ومعنى الحرابة موجود فيها ، ولو خرج بعضا من في المصر لقتل
__________________
بالسيف ويؤخذ فيه
بأشدّ ذلك لا بأيسره ؛ فإنه سلب غيلة ، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة ، ولذلك دخل العفو في
قتل المجاهرة ، فكان قصاصا ، ولم يدخل في قتل الغيلة ، وكان حدّا ، فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل في أصح أقوالنا خلافا للشافعي
وغيره.
فإن قيل : هذا لا
يوجب إجراء الباغي بالفساد في الأرض خاصة مجرى الذي يضمّ إليه القتل وأخذ المال ،
لعظيم الزيادة من أحدهما على الآخر.
والذي يدلّ على
عدم التسوية بينهما أنّ الذي يضمّ إلى السعى بالفساد في الأرض القتل وأخذ المال
يجب القتل عليه ، ولا يجوز إسقاطه عنه ، والذي ينفرد بالسعي في إخافة السبيل خاصة يجوز ترك قتله ؛ يؤكّده أنّ المحارب
إذا قتل قوبل بالقتل ، وإذا أخذ المال قطعت يده لأخذه المال ، ورجله لإخافته
السبيل ، وهذه عمدة الشافعية علينا ، وخصوصا أهل خراسان مهم ، وهي باطلة لا يقولها
مبتدئ.
أما قولهم : كيف
يسوى بين من أخاف السبيل وقتل ، وبين من أخاف السبيل ولم يقتل ، وقد وجدت منه
الزيادة العظمى ، وهي القتل؟
قلنا : وما الذي يمنع
من استواء الجريمتين في العقوبة وإن كانت إحداهما أفحش من الأخرى؟ ولم أحلتم ذلك؟ أعقلا
فعلتم ذلك أم شرعا؟
أما العقل فلا
مجال له في هذا ، وإن عوّلتم على الشرع فأين الشرع؟ بل قد شاهدنا ذلك في الشرع ؛
فإنّ عقوبة القاتل كعقوبة الكافر ، وإحداهما أفحش.
وأما قوله : لو
استوى حكمهما لم يجز إسقاط الفتل عمن أخاف السبيل ولم يقتل ، كما لم يجز إسقاطه
عمّن أخاف وقتل.
قلنا : هذه غفلة
منكم ؛ فإن الذي يخيف ويقتل أجمعت الأمة على تعيّن القتل عليه ، فلم يجز مخالفته.
أما إذا أخاف ولم
يقتل فهي مسألة مختلف فيها ومحلّ اجتهاد ، فمن أداه اجتهاده إلى القتل حكم به ،
ومن أدّاه اجتهاده إلى إسقاطه أسقطه ؛ ولهذه النكتة قال مالك : وليستشر ليعلم
الحقيقة من الإجماع والخلاف وطرق الاجتهاد لئلا يقدم على جهالة كما أقدمتم.
__________________
وأما قولهم : إنّ
القتل يقابل القتل ، وقطع اليد يقابل السرقة ، وقطع الرجل يقابل المال ، فهو تحكم
منهم ومزج للقصاص والسرقة بالحرابة ، وهو حكم منفرد بنفسه خارج عن جميع حدود
الشريعة لفحشه وقبح أمره.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) :
فيها قولان :
الأول ـ أنها على
التخيير ؛ قاله سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم الثاني ـ أنها على
التفصيل.
واختلفوا في كيفية
التفصيل على سبعة أقوال :
الأول أن المعنى
أن يقتلوا إن قتلوا. أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال. أو تقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف إن أخذوا المال ، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل ؛ قاله ابن عباس والحسن وقتادة والشافعى وجماعة.
الثاني ـ المعنى
إن حارب فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، وقتل وصلب ، فإن قتل ولم يأخذ
مالا قتل ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا لم يقتل ولم
يأخذ مالا نفى ، وهذا يقارب الأول ، إلا في الجمع بين قطع الأيدى والأرجل والقتل
والصلب.
الثالث ـ أنه إن
قتل وأخذ المال وقطع الطريق يخيّر فيه الإمام إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه
، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ورجله ، وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ويده ولم يصلبه
فإن أخذ بالأول فقتل قطع من خلاف ، وإن لم يأخذ بالأول غرّب ونفى من الأرض.
الرابع ـ قال
الحسن مثله ، إلا في الآخر ؛ فإنه قال : يؤدّب ويسجن حتى يموت.
الخامس ـ قال أبو
يوسف ، ومحمد بن الحسن : إن اقتصروا على القتل قتلوا ، وإن اقتصروا على أخذ المال
قطعوا من خلاف ، وإن أخذوا المال وقتلوا فإن أبا حنيفة قال : يخيّر فيهم بأربع
جهات : قتل ، صلب ، قطع وقتل ، قطع وصلب ، وهذا نحو ما تقدم ، وهذا سادس.
__________________
السابع ـ قال ابن
المسيب ومالك في إحدى روايتيه بتخيير الإمام بمجرد الخروج ، أما من قال : لأن «أو» على التخيير
فهو أصلها وموردها في كتاب الله تعالى.
وأما من قال إنها
للتفصيل فهو اختيار الطبري ، وقال : هذا كما لو قال : إن جزاء المؤمنين إذا دخلوا
الجنة أن ترفع منازلهم أو يكونوا مع الأنبياء في منازلهم ، وليس المراد حلول
المؤمنين [معهم] في مرتبة واحدة ، وهذا الذي قاله الطبري لا يكفى إلا بدليل
، ومعوّلهم قول النبىّ صلى الله عليه وسلم :
لا يحلّ دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل نفسا بغير
نفس. فمن لم يقتل كيف يقتل ؟
قالوا : وأما
قولكم إنها على التخيير فإن التخيير يبدأ فيه بالأخفّ ، ثم ينتقل فيه إلى الأثقل ؛
وهاهنا بدأ بالأثقل ، ثم انتقل إلى الأخفّ ؛ فدل على أنه قرر ترتيب الجزاء على
الأفعال ، فترتّب عليه بالمعنى ، فمن قتل قتل ، فإن زاد وأخذ المال صلب ؛
فإن الفعل جاء أفحش ؛ فإن أخذ المال وحده قطع من خلاف ، وإن أخاف نفى.
الجواب ـ الآية
نصّ في التخيير ، وصرفها إلى التعقيب والتفصيل تحكّم على الآية وتخصيص لها ، وما
تعلقوا منه بالحديث لا يصحّ ؛ لأنهم قالوا : يقتل الرّدء ولم يقتل : وقد جاء الفتل بأكثر من عشرة أشياء ، منها
متّفق عليها ومنها مختلف فيها ، فلا تعلق بهذا الحديث لأحد. وتحرير الجواب القطع
لتشغيبهم أنّ الله تعالى رتّب التخيير على المحاربة والفساد ، وقد
بينا أنّ الفساد وحده موجب للقتل ومع المحاربة أشد.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الْأَرْضِ) :
فيه أربعة أقوال :
الأول ـ يسجن ؛
قاله أبو حنيفة ، وأهل الكوفة ، وهو مشهور مذهب مالك في غير بلد الجناية .
__________________
الثاني ـ ينفى إلى
بلد الشّرك ؛ قاله أنس ، والشافعى ، والزهري ، وقتادة ، وغيرهم.
الثالث ـ يخرجون
من مدينة إلى مدينة أبدا ؛ قاله ابن جبير ، وعمر بن عبد العزيز.
الرابع ـ يطلبون بالحدود أبدا فيهربون منها ؛ قاله ابن عباس ، والزهري ،
وقتادة ، ومالك. والحقّ أن يسجن ، فيكون السجن له نفيا من الأرض ، وأما نفيه إلى
بلد الشّرك فعون له على الفتك. وأما نفيه من بلد إلى بلد فشغل لا يدان به لأحد ،
وربما فرّ فقطع الطريق ثانية.
وأما قول من قال :
يطلب أبدا وهو يهرب من الحدّ فليس بشيء ؛ فإن هذا ليس بجزاء ، وإنما هو محاولة طلب
الجزاء.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ) :
قال الشافعى : إذا
أخذ في الحرابة نصابا. قلنا : أنصف من نفسك أبا عبد الله وف شيخك حقّه لله. إنّ
ربنا تبارك وتعالى قال : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). فاقتضى هذا قطعه في حقه. وقال في المحاربة : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ) ؛ فاقتضى بذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حقّه ،
فبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم في السارق أنّ قطعه في نصاب وهو ربع دينار ،
وبقيت المحاربة على عمومها. فإن أردت أن ترد المحاربة إلى السرقة كنت ملحقا الأعلى بالأدنى وخافضا الأرفع إلى الأسفل ، وذلك
عكس القياس. وكيف يصحّ أن يقاس المحارب ـ وهو يطلب النفس إن وقى المال بها ـ على السارق وهو يطلب خطف المال ، فإن شعر به فرّ ، حتى إن
السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال ، فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه ، فهو
محارب يحكم عليه بحكم المحارب.
[قال القاضي] : وكنت في أيام حكمى بين الناس إذا جاءني أحد بسارق وقد
دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم ، وأصحابه يأخذون مال الرجل
__________________
حكمت فيهم بحكم
المحاربين ؛ فافهموا هذا من أصل الدين ، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين.
والمسكت للشافعي
أنه لم يعتبر الحرز ، فلو كان المحارب ملحقا بالسارق لما كان ذلك إلا على حرز.
وتحريره أن يقول :
أحد شرطي السرقة فلا يعتبر في المحارب كالحرز والتعليل النّصاب.
المسألة التاسعة ـ
إذا صلب الإمام المحارب فإنه يصلبه حيّا.
وقال الشافعى :
يصلبه ميّتا ثلاثة أيام ؛ لأن الله تعالى قال : (يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا) ، فبدأ بالقتل.
قلنا : نعم القتل مذكور
أولا ، ولكن بقي أنّا إذا جمعنا بينهما كيف يكون الحكم هاهنا هو الخلاف. والصلب
حيّا أصحّ ؛ لأنه أنكى وأفضح ، وهو مقتضى معنى الرّدع الأصلح.
المسألة العاشرة ـ
لا خلاف في أنّ الحرابة يقتل فيها من قتل ، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل.
وللشافعي قولان :
منهما أنه تعتبر المكافأة في الدماء لأنه قتل ، فاعتبرت فيه المكافأة كالقصاص.
وهذا ضعيف ؛ لأنّ القتل هاهنا ليس على مجرّد القتل ، وإنما هو على الفساد العام ،
من التخويف وسلب المال ، فإن انضافت إليه إراقة الدم فحش ، ولأجل هذا لا يراعى مال
مسلم من كافر.
المسألة الحادية
عشرة ـ إذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ، ولم يقتل بعض ، قتل الجميع.
وقال الشافعى : لا
يقتل إلا من قتل. وهذا مبنيّ على تخيير الإمام وتفصيل الأحكام ؛ وقد تقدّم.
ويعضد هذا أنّ من
حضر الوقعة شركاء في الغنيمة ، وإن لم يقتل جميعهم. وقد اتفق معنا على قتل الرّدء وهو الطالع ، فالمحارب أولى.
__________________
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) :
فيه خمسة أقوال :
الأول ـ إلا الذين
تابوا من أهل الكفر ؛ قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة.
الثاني ـ إلا
الذين تابوا وقد حاربوا بأرض الشرك.
الثالث ـ إلا
المؤمنين الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم.
الرابع ـ إلا
الذين تابوا في حقوق الله ؛ قاله الشافعى ومالك ؛ إلا أن مالكا قال : وفي حقوق
الآدميين ، إلّا أن يكون بيده مال يعرف ، أو يقوم ولى يطلب دمه فله أخذه والقصاص
منه.
الخامس ـ قال
الليث بن سعد : لا يطلب بشيء لا من حقوق الله ولا من حقوق الآدميين.
أما قول من قال :
إنّ الآية في المشركين فهو الذي يقول إنّ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عائد عليهم. وقد بيّنا ضعفه.
وأما من قال : إنه
أراد إلا الذين تابوا ممن هو بأرض الشرك فهو تخصيص طريف ، وله وجه طريف ؛ وهو أنّ
قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) يعطى أنهم بغير أرض أهل الإسلام ؛ ولكن كلّ من هو في دار
الإسلام تأخذه الأحكام وتستولى عليه القدرة ، وهذا إذا تبينته لم يصح تنزيله ؛ فإن الذي يقدر عليه هو الذي يكون بين
المسلمين ، فأما الذي خرج إلى الجبل ، وتوسّط البيداء في منعة فلا تتفق القدرة
عليه إلا بجرّ جيش ونفير قوم ؛ فلا يقال : إنا قادرون عليه.
وأما من قال :
أراد به المؤمنين ، فيرجع إلى الرابع والخامس. قلنا : إنا نقول هو على عمومه في
الحقوق كلها أو في بعضها.
فأما من قال : إنه على عمومه في الحقوق كلها فقد علمنا بطلان ذلك
بما قام من الدليل ، على أنّ حقوق الآدميين لا يغفرها الباري سبحانه إلّا بمغفرة
صاحبها ، ولا يسقطها إلا بإسقاطه.
__________________
فإن قيل : فقد قال
تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) فكانت هذه المغفرة عامة في كل حقّ.
قلنا : هذه مغفرة
عامة بلا خلاف للمصلحة في التحريض لأهل الكفر على الدخول في الإسلام ؛ فأمّا من
التزم حكم الإسلام فلا يسقط عنه حقوق المسلمين إلا أربابها.
وقد قال النبىّ
صلى الله عليه وسلم في الشهادة : إنها تكفّر كل خطيئة إلا الدّين.
وأما من قال : إنّ
حكمها أنها تكفّر حقوق الله تعالى فهو صحيح لقوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ).
وأما من قال في
حقوق الآدميين : إنّ الإمام لا يتولّى طلبها ، وإنما يطلبها أربابها ـ وهو مذهب
مالك ـ فصحيح ؛ لأنّ الإمام ليس بوكيل لمعيّنين من الناس في حقوقهم المعيّنة ،
وإنما هو نائبهم في حقوقهم المجملة المبهمة التي ليست بمعينة.
وأما إن عرفنا
بيده مالا لأحد أخذه في الحرابة فلا نبقيه في يده لأنه عصب ، ونحن نشاهده ،
والإقرار على المنكر لا يجوز ، فيكون بيد صاحبه المسلم حتى يأخذه مالكه من يد
صاحبه وأخيه الذي يوقفه الإمام عنده.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
فيها تسع وعشرون
مسألة :
المسألة الأولى ـ في
شرح حقيقة السرقة ؛ وهي أخذ المال على خفية من الأعين ، وقد بيّنا ذلك في مسألة
قطع النبّاش من مسائل الخلاف ، فلينظر هنالك في كتبه.
وقد قال محمد بن
يزيد : السارق هو المعلن والمختفى.
وقال ثعلب : هو
المختفى ، والمعلن عاد. وبه نقول ، وقد بيناه في الملجئة.
المسألة الثانية ـ
الألف واللام من السارق والسارقة بيّنا معناهما في الرسالة الملجئة. وقلنا : إن
الألف واللام يجتمعان في الاسم ويردان عليه للتخصيص وللتعيين ، وكلاهما تعريف
بمنكور على
__________________
مراتب ؛ فإن دخلت
لتخصيص الجنس فمن فوائدها صلاحية الاسم للابتداء به ، كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). و (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).
وإن دخلت للتعيين ففوائده مقرّرة هنالك ، وهي إذا اقتضت تخصيص الجنس
أفادت التعميم فيه بحكم حصرها له عن غيره إذا كان الخبر عنها والمتعلق بها صالحا
في ربطه بها دون ما سواها ، وهذا معلوم لغة.
وقد أنكره أهل
الوقف في هذا الباب وغيره كما أنكروا جميع الأوامر والنواهي ، وقد بيناه عليهم في
التلخيص.
وإذا ثبت هذا
فقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ـ عامّ في كل سارق وسارقة ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
ردّا على من يرى أنه من الألفاظ المجملة ، وذلك من لم يفهم المجمل ، ولا العام ؛
فإن السرقة إذا كانت معروفة لغة ـ إذ ليست لفظة شرعية باتفاق ـ ربطت بالألف واللام
تخصيصا ، وعلق عليها الخبر بالحكم ربطا ، فقد أفادت المقصود ، وجرت على الاسترسال
والعموم ، إلّا فيما خصّه الدليل ، وكذلك يروى عن ابن مسعود أنه قرأها : والسارقون
والسارقات ؛ ليبيّن إرادة العموم.
والذي يقطع لك
بصحة إرادة العموم أنه لا يخلو أن يريد به المعنى ، وذلك محال ؛ لأنه لم يتقدم فيه
شيء من ذلك ، فلم يبق إلا أنه لحصر الجنس ، وهو العموم.
المسألة الرابعة ـ
قرأها ابن مسعود : والسارق والسارقة ـ بالنصب ، وروى عن عيسى ابن عمر مثله. قال
سيبويه : هي أقوى ؛ لأنّ الوجه في الأمر والنهى في هذا النصب ؛ لأن حدّ الكلام
تقدّم الفعل ، وهو فيه أوجب ، وإنما قلت زيدا اضربه ، واضربه مشغوله ، لأن الأمر
والنهى لا يكونان إلا بالفعل ، فلا بدّ من الإضمار ، وإن لم يظهر.
قال القاضي : أصل الباب قد أحكمناه في الملجئة ، ونخبته أنّ
كلّ فعل لا بد له من فاعل ومفعول ، فإذا أخبرت بهم أو عنهم خبرا غريبا كان على ستّ
صيغ :
__________________
الأولى ضرب زيدا
عمرا. الثانية زيد ضرب عمرا. الثالثة عمرا ضرب زيد. الرابعة ضرب عمرا زيد. الخامسة
زيد عمرا ضرب. السادسة عمرا زيد ضرب.
فالخامسة والسادسة
نظم مهمل لا معنى له في العربية ، وجاء من هذا جواز تقديم المفعول ، كما جاز تقدّم
الفاعل ، بيد أنه إذا قدمت المفعول بقي بحالة إعرابا ، فإذا قدّمت
الفاعل خرج عن ذلك الحدّ في الإعراب ، وبقي المعنى المخبر عنه ، وحدث في ترتيب
الخبر ما أوجب تغيير الإعراب ، وهو المعنى الذي يسمّى الابتداء ، ثم يدخل على هذا
الباب الأدوات التي وضعت لترتيب المعاني وهي كثيرة أو المقاصد وهي أصل في التغيير
، ومنها وضع الأمر موضع الخبر ، تقول : اضرب زيدا.
ولما كان الأمر
استدعاء إيقاع الفعل بالمفعول ، ولم يكن بعد هنالك فاعل سقط في إسناد الفعل ، وثبت
في تعلّق الخطاب به وارتباطه ، وتكون له صيغتان : إحداهما هذه. والثانية زيدا اضرب
، كما كان في الخبر ؛ ولا يتصوّر صيغة ثالثة ، فلما جاز تقديمه مفعولا كان ظاهر
أمره ألّا يأتى إلا منصوبا على حكم تقدير المفعول ، ولكن رفعوه لأنّ الفعل لم يقع
عليه بعد ، وإنما يطلب وقوعه به فيخبر عنه ، ثم يقتضى الفعل فيه ، فإن اقتضى ولم
يخبر لم يكن إلا منصوبا ؛ وإن أخبر ولم يقتض لم يكن إلّا مرفوعا ، فهما إعرابان
لمعنيين ، فلم يكن أحدهما أقوى من الآخر.
(تتميم) فإذا ثبت
هذا فقلت : زيد فاضربه فإن نصبته فعلى تقدير فعل ، وإن رفعته فعلى تقدير الابتداء
، ويترتب على قصد المخبر ، ويكون تقديره مع النصب اضرب زيدا فاضربه ، فأما إذا طال
الكلام فقلت : زيدا فاقطع يده كان النصب أقوى ؛ لأنّ الكلام يطول فيقبح الإضمار
فيه لطوله. وهذا قالب سيبويه أفرغنا عليه.
وأقول : إن الكلام
إذا كان فيه معنى الجزاء ، أو كانت الفاء فيه منزّلة على تقدير جوابه فإنّ الرفع
فيه أعلى ؛ لأن الابتداء يكون له ، فلا يبقى لتقدير المفعول إلّا وجه بعيد ؛ فهذا
منتهى القول على الاختصاص. والله عزّ وجلّ أعلم.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قد بيّنا أنّ هذه الآية عامة ، لا طريق للإجمال إليها ، فالسرقة تتعلق بخمسة معان
: فعل هو سرقة ، وسارق ، ومسروق مطلق ، ومسروق منه ، ومسروق فيه. فهذه خمسة
متعلقات يتناول الجميع عمومها إلا ما خصّه الدليل.
أما السرقة فقد
تقدم ذكرها.
وأما السارق ـ وهي
:
المسألة السادسة ـ
فهو فاعل من السرقة ، وهو كلّ من أخذ شيئا على طريق الاختفاء عن الأعين ؛ لكن
الشريعة شرطت فيه ستة معان :
العقل ؛ لأنّ من
لا يعقل لا يخاطب عقلا.
والبلوغ ؛ لأن من
لم يبلغ لا يتوجّه إليه الخطاب شرعا.
وبلوغ الدعوة ؛
لأنّ من كان حديث عهد بالإسلام ولم يثافن حتى يعرف الأحكام ، وادعى الجهل فيما أتى من السرقة والزنا
وظهر صدقه لم تجب عليه عقوبة ، كالأب في مال ابنه ، لما قدمناه من قوله صلى الله
عليه وسلم : إن
من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه. ولذلك قلنا : إذا وطئ أمة ابنه لا حدّ عليه للشبهة التي له
فيها ، والحدود تسقط بالشبهات ، فهذا الأب وإن كان جاء بصورة السرقة في أخذ المال
خفية فإنّ له فيه سلطان الأبوة وتبسط الاستيلاء ، فانتصب ذلك شبهة في درء ما يندرئ
بالشبهات.
وأما متعلق
المسروق ـ وهي :
المسألة السابعة ـ
فهو كلّ مال تمتدّ إليه الأطماع ، ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به ، فإن منع منه
الشرع لم ينفع تعلّق الطماعية فيه ، ولا يتصوّر الانتفاع منه ، كالخمر والخنزير
مثلا.
وقد كان ظاهر
الآية يقتضى قطع سارق القليل والكثير ؛ لإطلاق الاسم عليه وتصوّر المعنى فيه. وقد
قال به قوم منهم ابن الزبير ، فإنه يروى أنه قطع في درهم. ولو صحّ ذلك عنه لم
يلتفت إليه ؛ لأنه كان ذا شواذّ ، ولا يستريب اللبيب ، بل يقطع المنصف أنّ سرقة
التافه لغو ، وسرقة الكثير قدرا أو صفة محسوب ، والعقل لا يهتدى إلى الفصل فيه
بحدّ تقف المعرفة عنده ، فتولّى الشرع تحديده بربع دينار.
__________________
وفي الصحيح ، عن
عائشة : ما طال علىّ ولا نسيت : القطع في ربع دينار فصاعدا. وهذا نصّ.
وقال أبو حنيفة : لا قطع في أقل من عشرة دراهم ، وروى أصحابه في ذلك حديثا
قد بيّنا ضعفه في مسائل الخلاف وشرح الحديث.
فإن قيل : قد ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن
الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده [ويسرق البيضة فتقطع يده] .
قلنا : هذا خرّج
مخرج التحذير بالقليل عن الكثير ، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل عن الكثير في قوله صلى الله عليه وسلم : من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة. وقيل : إن هذا مجاز من وجه آخر
؛ وذلك أنه إذا ظفر بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده ؛ فبهذا تنتظم الأحاديث ، ويجتمع
المعنى والنص في نظام الصواب.
المسألة الثامنة ـ
ومنه كلّ مال يسرع إليه الفساد من الأطعمة والفواكه ؛ لأنه يباع ويبتاع وتمتدّ
إليه الأطماع ، وتبذل فيه نفائس الأموال. وشبهة أبى حنيفة ما يؤول إليه من التغير
والفساد ، ولو اعتبر ذلك فيه لما لزم الضمان لمتلفه.
المسألة التاسعة ـ
ومنه كلّ ما كان أصله على الإباحة ؛ كجواهر الأرض ومعادنها ، وشبه ذلك ؛ لأنه كان
مباح الأصل ، ثم طرأ عليه الملك ، فتنتصب إباحة أصله شبهة في إسقاط القطع بسرقته.
قلنا : لا تضر
إباحة متقدمة إذا طرأ التحريم ، كالجارية المشتركة بين قوم ، فإن وطأها حرام يوجب
الحدّ عند خلوصها لأحدهم ، ولا توجب الإباحة المتقدمة شبهة. وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم : لا
قطع في ثمر ولا كثر إلا ما أواه الجرين. رواه النسائي.
__________________
وأبو داود. وانفرد
النسائي : ولا في حريسة جبل إلا فيما أواه المراح.
المسألة العاشرة ـ
ومنه ما إذا سرق حرّا صغيرا. قال مالك : عليه القطع. وقيل : لا قطع عليه ، وبه قال
الشافعى وأبو حنيفة ؛ لأنه ليس بمال.
قلنا : هو أعظم من
المال ؛ ولم يقطع السارق في المال لعينه ، وإنما قطع لتعلّق النفوس به ، وتعلّقها
بالحر أكثر من تعلقها بالعبد.
المسألة الحادية
عشرة ـ متعلق المسروق منه ؛ وهو على أقسام يرجع إلى أنه ما كان ماله محترما بحرمة
الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم : فقد
حرّم ماله ودمه وحسابه على الله ، إن مال الزوجين محترم لكل واحد منهما عن صاحبه ،
وإن كانت أبدانهما حلالا لهما ؛ لأنهما لم يتعاقدا بعقد يتعدّى إلى المال. وقال أبو حنيفة : وأحد قولي الشافعى : لا يقطع ؛ لأنّ
الزوجية تقتضي الخلطة والتبسط. وهذا باطل من وجهين :
أحدهما ـ أن
الكلام فيما يجوز كلّ واحد منها عن صاحبه.
والثاني ـ أنه لو
كان في مال زوجه تبسّط لسقط عنه الحدّ بوطء جاريتها ، ولذلك قلنا ، وهي :
المسألة الثانية
عشرة ـ إنّ من سرق من ذي رحم محرم لمثله وجب عليه القطع ، خلافا لأبى حنيفة ؛ لأنّ ذات الرحم لو وطئها لوجب عليه الحدّ ، فكذلك
إذا سرق مالها ، وشبهة المحرمية لا تعلّق لها بالمال. وإنما هي في غير ذلك من
الأحكام.
المسألة الثالثة
عشرة ـ إذا سرق العبد من مال سيّده ، أو السيد من عبده فلا قطع بحال ؛ لأنّ العبد
وماله لسيده ، فلم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه أخذ لماله ، وإنما إذا
__________________
سرق العبد يسقط
القطع بإجماع الصحابة وبقول الخليفة : غلامكم سرق متاعكم ، وهذا يشترك مع الأب في
البابين ، وقد بينا كلّ واحد في موضعه.
وأما متعلق
المسروق منه ـ وهي :
المسألة الرابعة
عشرة ـ فهو الحرز الذي نصب عادة لحفظ الأموال ، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله.
والأصل في اعتبار الحرز الأثر والنظر.
أما الأثر فقوله
صلى الله عليه وسلم : لا قطع في ثمر ولا كثر إلا ما أواه الجرين.
وأما النظر فهو
أنّ الأموال خلقت مهيّأة للانتفاع للخلق أجمعين ، ثم بالحكمة الأولية التي بيّناها
في سورة البقرة حكم فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا ، وبقيت الأطماع معلقة بها
، والآمال محوّمة عليها ، فتكفّها المروءة والديانة في أقل الخلق ، ويكفّها الصون
والحرز عن أكثرهم ، فإذا أحرزها مالكها فقد اجتمع بها الصّونان ، فإذا هتكا فحشت
الجريمة فعظمت العقوبة ؛ وإذا هتك أحد الصّونين ـ وهو الملك ـ وجب الضمان والأدب ؛
وذلك لأنّ المالك لا يمكنه بعد الحرز في الصّون شيء ، فلما كان غاية الإمكان ركب
عليه الشرع غاية العقوبة من عنده ردعا وصونا ، والأمة متفقة على اعتبار الحرز في
القطع في السرقة ؛ لاقتضاء لفظها ، ولا تضمن حكمتها وجوبه ، ولم أعلم من ترك
اعتباره من العلماء ، ولا تحصّل لي من يهمله من الفقهاء ، وإنما هو خلاف يذكر ،
وربما نسب إلى من لا قدر له ، فلذلك أعرضت عن ذكره ، ولهذا المعنى أجمعت الأمة أنه
لا قطع على المختلس والمنتهب لعدم الحرز فيه ، فلما لم يهتك حرزا لم يلزمه أحد
قطعا.
المسألة الخامسة
عشرة ـ لما ثبت اعتبار النّصاب في القطع قال علماؤنا : إذا اجتمع جماعة ، فاجتمعوا
على إخراج نصاب من حرزه ؛ فلا يخلو أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه ، أو يكون
مما لا يمكن إخراجه إلّا بتعاونهم ؛ فإن كان مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه
يقطع جميعهم باتفاق من علمائنا. وإن كان مما يخرجه واحد واشتركوا في إخراجه فاختلف
علماؤنا فيه على قولين : أحدهما لا قطع فيه. والثاني فيه القطع.
__________________
وقال أبو حنيفة
والشافعى : لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكلّ واحد منهم في حصته
نصاب ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في النصاب ومحله حين لم يقطع إلا من سرق
نصابا ، وكلّ واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا ، فلا قطع عليهم.
ودليلنا الاشتراك
في الجناية لا يسقط عقوبتها ، كالاشتراك في القتل ، وما أقرب ما بينهما ؛ فإنّا قتلنا
الجماعة بقتل الواحد ، صيانة للدماء ، لئلا يتعاون على سفكها الأعداء ، وكذلك
في الأموال مثله ، لا سيما وقد ساعدنا الشافعىّ على أنّ الجماعة إذا اشتركوا في
قطع يد رجل قطعوا ، ولا فرق بينهما.
المسألة السادسة
عشرة ـ إذا اشتركوا في السرقة فإن نقب واحد الحرز وأخرج آخر فلا قطع على واحد
منهما عند الشافعى ؛ لأنّ هذا نقب ولم يسرق ، والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة.
وقال أبو حنيفة : إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع. وأما علماؤنا فقالوا : إن كان
بينهما تعاون واتّفاق قطعا ، وإن نقب سارق وجاء آخر لم يشعر به فدخل النقب وسرق
فلا قطع عليه لعدم شرط القطع وهو الحرز ، وفصل التعاون قد تقدّم ودليلنا عليه ،
فلينظر هنالك.
المسألة السابعة
عشرة ـ في النبّاش.
قال علماء الأمصار
: يقطع. وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه ؛ لأنه سرق من غير حرز مالا معرّضا للتلف لا
مالك له ؛ لأنّ الميت لا يملك. ومنهم من ينكر السرقة ؛ لأنه في موضع ليس فيه ساكن
، وإنما تكون السرقة بحيث تتّقى الأعين ، ويتحفّظ من الناس ، وعلى نفى السرقة عوّل
أهل ما وراء النهر. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وقلنا : إنه سارق ، لأنه تدرّع
الليل لباسا ، واتّقى الأعين ، وتعمّد وقتا لا ناظر فيه ولا مارّ عليه ؛ فكان
بمنزلة ما لو سرق في وقت تبرز الناس للعيد وخلوّ البلد من جميعهم.
وأما قولهم : إنّ
القبر غير حرز فباطل ؛ لأن حرز كل شيء بحسب حاله الممكنة فيه كما قدمناه ، ولا
يمكن ترك الميت عاريا ، ولا يتفق فيه أكثر من دفنه ، ولا يمكن أن يدفن
__________________
إلا مع أصحابه ؛
فصارت هذه الحاجة قاضية بأنّ ذلك حرزه ، وقد نبّه الله تعالى عليه بقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً) ؛ ليسكن فيها حيّا ويدفن فيها ميتا.
وأما قولهم : إنه
عرضة للتلف فكلّ ما يلبسه الحىّ أيضا معرّض للتلف والأخلاق بلباسه ، إلّا أنّ أحد الأمرين أعجل من الثاني.
المسألة الثامنة
عشرة ـ قال علماؤنا : إذا سرق السارق وجب القطع عليه وردّ العين ؛ فإن تلفت فعليه
مع القطع القيمة إن كان موسرا ، وإن كان معسرا فلا شيء عليه.
وقال الشافعى :
الغرم ثابت في ذمته في الحالين. وقال أبو حنيفة : لا يجتمع القطع مع الغرم بحال ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى
قال : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) ولم يذكر غرما ، والزيادة على النص ، وهي نسخ ، ونسخ
القرآن لا يجوز إلا بقرآن مثله ، أو بخبر متواتر ، وأمّا بنظر فلا يجوز.
قلنا : لا نسلّم
أنّ الزيادة على النص نسخ ؛ وقد بينا ذلك في مسائل الأصول فلينظر هناك ، وقد قال
الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) ـ مطلقا.
وقال أبو حنيفة :
يعطى لذوي القربى إلا أن يكونوا فقراء ؛ فزاد على النص بغير نصّ مثله من قرآن أو
خبر متواتر.
وأما علماء
الشافعية فعوّلوا على أن القطع والغرم حقّان لمستحقين مختلفين ، فلا
يسقط أحدهما الآخر ، كالدّية والكفارة.
وأما المالكية
فليس لهم متعلق قوىّ ، ونازع بعضهم بأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا أقيم
على السارق الحدّ فلا ضمان. وهذا حديث باطل.
وقال بعضهم : لأن
الإتباع بالغرم عقوبة ، والقطع عقوبة ، ولا تجتمع عقوبتان ، وعليه عوّل القاضي عبد
الوهاب ، وهو كلام مختلّ اللفظ.
__________________
وصوابه ما بيناه
في مسائل الخلاف من أنّ القطع واجب في البدن ، والغرم على الموسر واجب في المال ،
فصارا حقّين في محلّين ، وإذا كان معسرا فقلنا : يثبت الغرم عليه في ذمته ، كما
أوجبنا عليه القطع في البدن والغرم وهو محلّ واحد ، فلم يجز ، ألا ترى أنّ الدية على
العاقلة والكفّارة في ماله أو ذمته ، والجزاء في الصيد المملوك ينقض هذا الأصل ؛
لأنه يجمع مع القيمة ، وكذلك الحدّ والمهر إلا أن يطّرد أصلنا فنقول : إذا وجب
الحدّ وكان معسرا لم يجب المهر ، وإن الجزاء إذا وجب عليه ، وهو معسر ، سقطت
القيمة عنه ، فحينئذ تطّرد المسألة ويصحّ المذهب ؛ أما أنه قد روى النسائي أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم قال :
لا يغرم صاحب سرقة
إذا أقمتم عليه الحدّ. فلو صح هذا لحملناه على المعسر.
المسألة التاسعة
عشرة ـ قال أبو حنيفة : إن شاء أغرم السارق ولم يقطعه ، وإن شاء قطعه ولم يغرمه ؛
فجعل الخيار إليه ؛ والخيار إنما يكون للمرء بين حقّين هما له ، والقطع في السرقة
حقّ الله تعالى ، فلم يجز أن يخيّر العبد فيه كالحدّ والمهر.
المسألة الموفية
عشرين ـ إذا سرق المال من الذي سرقه وجب عليه القطع خلافا للشافعي ، لأنه وإن كان
سرق من غير المالك ، فإن حرمة المالك الأول باقية عليه لم تنقطع عنه ، ويد السارق
كلا يد.
فإن قيل : اجعلوا
حرزه كلا حرز.
قلنا : الحرز قائم
؛ والملك قائم ، ولم يبطل الملك فيه ، فيقولوا لنا : أبطلوا الحرز.
المسألة الحادية
والعشرون ـ إذا تكرّرت السرقة بعد القطع في العين المسروقة قطع ثانيا فيها.
وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه. وليس للقوم دليل يحكى ، ولا سيما وقد قال
معنا : إذا تكرر الزنا يحدّ ، وقد استوفينا اعتراضهم في مسائل الخلاف وأبطلناه.
وعموم القرآن يوجب عليه القطع.
المسألة الثانية
والعشرون ـ إذا ملك السارق ـ قبل أن يقطع ـ العين المسروقة بشراء
__________________
أو هبة سقط القطع
عند أبى حنيفة ، والله تعالى يقول : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ؛ فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شيء ولا توبة
السارق ، وهي :
المسألة الثانية
والعشرون ـ وقد قال بعض الشافعية : إن التوبة تسقط حقوق الله وحدوده ، وعزوه إلى
الشافعى قولا ، وتعلّقوا بقول الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). وذلك استثناء من الوجوب ، فوجب حمل جميع الحدود عليه.
وقال علماؤنا :
هذا بعينه هو دليلنا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر حدّ المحارب قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). وعطف عليه حدّ السارق ، وقال فيه : (فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ؛ فلو كان ظلمه في الحكم ما غاير الحكم بينهما ، ويا معشر الشافعية ؛
سبحان الله! أين الدقائق الفقهية والحكم الشرعية التي تستنبطونها في غوامض المسائل
، ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه ، المجترئ بسلاحه ، الذي يفتقر الإمام معه
إلى الإيجاف بالخيل والرّكاب ، كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك
الحالة ، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام.
فأما السارق
والزاني ، وهم في قبضة المسلمين ، وتحت حكم الإمام ، فما الذي يسقط عنهم ما وجب
عليهم؟ أو كيف يجوز أن يقال على المحارب ، وقد فرّقت بينهما الحالة والحكمة؟ هذا
لا يليق بمثلكم ، يا معشر المحققين.
وأمّا ملك السارق
المسروق فقد قال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم : هو
له يا رسول الله! فقال : فهلّا قبل أن تأتينى به. خرّجه الدارقطني وغيره.
المسألة الرابعة
والعشرون ـ قال أبو حنيفة : لا يقطع سارق المصحف ، وليس له فيه ما ينفع إلا إن منع بيعه وتملّكه. فإن فعل
ذلك قلنا له : إذا اشترى رجل ورقا وكتب فيه القرآن لا يبطل ما ثبت فيه من كلام الله ملكه ، كما لم يبطل ملكه لو كتب
فيه حديث
__________________
رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وإذا ثبت الملك ترتّب عليه وجوب القطع. والله عز وجل أعلم.
المسألة الخامسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما) :
اعلموا أنّ هذه
المسائل المتقدمة في هذه الآية لم يتعرّض في القرآن لذكرها ، ولكن العموم لما كان
يتناول كلّ ذلك ونظراءه ذكرنا أمهات النظائر ، لئلا يطول عليكم الاستيفاء ، وبينّا
كيفية التخصيص لهذا العموم ، لتعلموا كيفية استنباط الأحكام من كتاب الله تعالى ،
وهكذا عقدنا في كل آية وسردنا ، فافهموه من آيات هذا الكتاب ؛ إذ لو ذهبنا إلى ذكر
كلّ ما يتعلق بها من الأحكام لصعب المرام.
ومن أهم المسائل
في هذه الآية ما وقع التنصيص عليه فيها ، وهو قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، فنذكر وجه إيرادها لغة ، وهي :
المسألة السادسة
والعشرون ـ ثم نفيض بعد ذلك في تمامها ، فإنها عظيمة الإشكال لغة لا فقها ، فنقول
:
إن قيل : كيف قال
: فاقطعوا أيديهما ، وإنما هما يمينان؟
قلت : لما توجّه
هذا السؤال وسمعه الناس لم يحل أحد منهم بطائل من فهمه.
أما أهل اللغة
فتقبّلوه ، وتكلّموا عليه ، وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم من غير تحقيق لكلامهم ، وذكروا في ذلك خمسة أوجه :
الوجه الأول ـ إنّ
أكثر ما في الإنسان من الأعضاء اثنان ، فحمل الأقلّ على الأكثر ؛ ألا ترى أنك تقول
: بطونهما وعيونهما ، وهما اثنان ؛ فجعل ذلك مثله.
الثاني ـ أنّ
العرب فعلت ذلك للفصل بين ما في الشيء منه واحد وبين ما فيه منه اثنان ، فجعل ما
في الشيء منه واحد جمعا إذا ثنّى ، ومعنى ذلك أنه وإن جعل جمعا فالإضافة تثنية ،
لا سيما والتثنية جمع ، وكان الأصل أن يقال اثنان رجلان ، ولكن رجلان يدلّ على
الجنس والتثنية جميعا ، وذكر كذلك اختصارا ، وكذلك إذا قلت قلوبهما فالتثنية فيهما
قد بيّنت لك عدد قلب ، وقد قال الشاعر ـ فجمع بين الأمرين :
ظهراهما مثل ظهور
التّرسين
__________________
الثالث ـ قال
سيبويه : إذا كان مفردا قد يجمع إذا أردت به التثنية ، كقول العرب : وضعا رحالهما
، وتريد رحلي راحلتيهما ، وإلى معنى الثاني يرجع في البيان الرابع ، ويشترك
الفقهاء معهم فيه أنه في كل جسد يدان ، فهي أيديهما معا حقيقة ، ولكن لما أراد
اليمنى من كل جسد ، وهي واحدة ، جرى هذا الجمع على هذه الصفة ، وتأوّل كذلك.
الخامس ـ أنّ ذكر
الواحد بلفظ الجميع عند التثنية أفصح من ذكره بلفظ التثنية مع التثنية ؛ فهذا
منتهى ما تحصّل لي من أقوالهم ، وقد تتقارب وتتباعد ، وهذا كلّه بناء على ما أشرنا
إليه عنهم في الخامس ، من أنهم بنوا الأمر على أنّ اليمين وحدها هي التي تقطع ،
وليس كذلك ؛ بل تقطع الأيدى والأرجل ، فيعود قوله : أيديهما إلى أربعة ، وهي جمع
في الآيتين ، وهي تثنية ؛ فيأتى الكلام على فصاحته ، ولو قال : فاقطعوا
أيديهم لكان وجها ؛ لأنّ السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة ، وإنما هما اسما
جنس يعمّان ما لا يحصى إلا بالفعل المنسوب إليه ، ولكنه جمع لحقيقة الجمع فيه.
وبيان ما قلنا من
قطع الأيدى والأرجل أنّ الناس اختلفوا في ذلك كثيرا مآله إلى ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنّه تقطع
يمين السارق خاصة ، ولا يعود عليه القطع ؛ قاله عطاء.
الثاني ـ أنه تقطع
اليسرى ولا يعود عليه القطع ، في رجل رجل ؛ قاله أبو حنيفة.
الثالث ـ تقطع يده
اليمنى ، فإن عاد قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد قطعت يده اليسرى ، فإن عاد قطعت رجله
اليمنى ؛ قاله مالك والشافعى.
وأما قول عطاء
فليس على غلطه غطاء ؛ فإنّ الصحابة قبله قالوا خلافه. وقد قال الله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، فجاء بالجمع ، فإن تعلّق بأقوال النحاة قلنا : ذلك يكون
تأويلا مع الضرورة إذا جاء دليل يدلّ على خلاف الظاهر ، فيرجع إليه ، فبطل ما
قاله.
وأما قول أبى
حنيفة فإنه يردّهحديث الحارث بن حاطب أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بلصّ فقال : اقتلوه. قالوا : يا رسول الله ؛
إنما سرق. قال : اقطعوا يده. قالوا : ثم
__________________
سرق
فقطعت رجله ، ثم سرق على عهد أبى بكر فقطعت يده حتى قطعت قوائمه كلها. رواه النسائي وأبو داود والدّارقطنيّ أنّ النبي صلى الله
عليه وسلم أتى بسارق فقطع يده ،
ثم أتى به الثانية فقطع رجله ، ثم أتى به ثالثة فقطع يده ، ثم أتى به رابعة فقطع
رجله. أما النسائىّ وأبو
داود فروياه عن الحارث بن حاطب. وأما الدّارقطنيّ فرواه عن جابر بن عبد الله عن
النبىّ صلى الله عليه وسلم فعلا ، ورواه عن أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه
وسلم قولا.
وقال الحارث : إن
أبا بكر تمّم قطعه ، واتفقوا على قتله في الخامسة ؛ وهذا يسقط قول أبي حنيفة.
وكذا روى في حديث
أبى بكر الصديق في قطع اليمين أنه قطع رجله اليمنى ، وروى أيضا أنه أمر بذلك فقال
له عمر : لا ؛ بل تقطع يده ، كما قال تعالى. قال له : دونك.
والرواية الأولى
أصحّ وأثبت رجالا.
وروى عن عمر [أيضا]
أنه قال : إذا سرق فاقطعوا يده ، فإن عاد فاقطعوا رجله ، واتركوا له يدا يأكل
بها الطعام ، ويستنجى بها من الغائط ويحقّق ذلك أنّ في الموطأ عن مالك عن عبد
الرحمن بن القاسم عن أبيه أن رجلا من أهل اليمن كان أقطع اليد والرّجل فإنما قطعت
يده اليسرى لعدم اليمنى.
المسألة السابعة
والعشرون ـ من توابعها أن عموم قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ) يقتضى قطع يد الآبق. وقد روى الترمذىّ وأبو داود عن بسر بن
أرطاة أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لا
تقطع الأيدى في السفر. وروى النسائي
في الغزو. فأما
قوله في السفر فحمله بعضهم على الآبق ، وهو غلط بيّن ؛ لأجل أنّ مثل هذا اللفظ
العام لا يقال فيه يراد به هذا المعنى الشاذ النادر الذي يجوز أن يذكر المعمم لفظه
ولا يخطر بباله ، فضلا عن أن يقال إنه قصده.
وأما قوله في
الغزو فإنّ العلماء اختلفوا فيه ، فقالوا : إنّ معناه أنّ الغانمين لكل واحد منهم
حظّه في الغنيمة ، فلا يقطع ولا يحدّ عند بعض العلماء.
__________________
وقبل : يقطع ويحدّ
لعدم تعيين حظّه. والأول أصحّ ؛ لأن ملكه مستقرّ يورث عنه وتؤدى منه ديونه ، فصار
كالجارية المشتركة.
المسألة الثامنة
والعشرون ـ إذا وجب حدّ السرقة فقتل السارق رجلا ووجب عليه القصاص ، قال مالك :
يقتل ويدخل القصع فيه. وقال الشافعى : يقطع لأنهما حقّان للمستحقين ، فوجب أن يوفى
كلّ واحد منهما حقّه.
فإن قيل : أحدهما
يدخل في الآخر كما قال مالك القتل يأتى على ذلك كلّه.
قلنا : إن الذي
نختار أنّ حدّا لا يسقط حدّا.
المسألة التاسعة
والعشرون ـ تكلّم الناس في قطع السرقة ، هل هو شرعنا خاصة أم شرع من قبلنا؟ فقبل :
كن شرع من قبلنا استرقاق السارق. وقيل : كان ذلك إلى زمن موسى ؛ فعلى الأول بكون
القطع في شرعنا ناسخا للرّق. وعلى الثاني يكون توكيدا له ، وسيأتى القول على
المسألة في سورة يوسف إن شاء الله تعالى.
والصحيح أنّ الحدّ
كان مطلقا في الأمم كلها قبلنا ، ولم يبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم كيفيته ؛ إذ
قال : يا أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم
الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وايم لله لو أنّ فاطمة
بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ
قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ
جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ،
__________________
وَإِنْ
تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).
فيها إحدى عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها : فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها نزلت
في شأن أبى لبابة حين أرسله النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى بنى قريظة فخانه .
الثاني ـ نزلت في
شأن [بنى] قريظة والنّضير ، وذلك أنهم شكوا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقالوا [له] : إنّ النضير يجعلون خراجنا على النصف من خراجهم ، ويقتلون
منّا من قتل منهم ، وإن قتل أحد منهم أحدا منا ودوه أربعين وسقا من تمر.
الثالث ـ أنها نزلت في اليهود جاءوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا [له] : إنّ
رجلا منّا وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تجدون في
التوراة في شأن الرّجم؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون.
قال
عبد الله بن سلام : كذبتم ، إنّ فيها آية الرجم ، فأتوا بالتوراة ، فأتوا بها فوضع
أحدهم يده على آية الرّجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام :
ارفع يدك.
فرفع
يده ، فإذا آية الرّجم تلوح. فقالوا : صدق يا محمد ، فيها آية الرجم. فأمر بهما
رسول الله
__________________
صلى
الله عليه وسلم فرجما. هكذا رواه مالك [والبخاري]
ومسلم والترمذي وأبو داود.
قال أبو داود ، عن
جابر بن عبد الله : إن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لهم : ائتوني علم رجلين فيكم ، فجاءوا با بنى
صوريا ، فنشدهما الله كيف تجدان أمر هذين في التوراة ، قالا : نجد في التوراة إذا
شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما. قال : فما يمنعكما أن
ترجموها؟ قالا : ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل. فدعا النبىّ صلى الله عليه وسلم
بالشهود ، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة. فأمر
النبىّ صلى الله عليه وسلم برجمهما فرجما.
المسألة الثانية ـ
في المختار من ذلك :
وأما من قال :
إنها في شأن أبى لبابة وما قال علىّ عن النبىّ لبنى قريظة فضعيف لا أصل له.
وأما من قال :
إنها نزلت في شأن قريظة والنّضير ، وما شكوه من التفضيل بينهم بأضعف ؛ لأن الله
تعالى أخبر أنه كان تحكيما منهم للنبىّ صلى الله عليه وسلم لا شكوى.
والصحيح ما رواه
الجماعة عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله كلاهما في وصف القصة كما تقدّم ـ أن
اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكّموه ، فكان ما ذكرنا في الأمر.
المسألة الثالثة ـ
ثبت كما تقدم أنّ اليهود جاءوا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فذكروا له أمر
الزانيين.
وجملة الأمر أنّ
أهل الكتاب مصالحون ، وعمدة الصلح ألّا يعرض لهم في شيء ، وإن تعرّضوا لنا ورفعوا
أمرهم إلينا فلا يخلو أن يكون ما رفعوه ظلما لا يجوز في شريعة ، أو مما تختلف فيه
الشريعة ؛ فإن كان مما لا تختلف فيه الشرائع كالغصب والقتل وشبهه لم يمكّن بعضهم
من بعض فيه. وإذا كان مما تختلف فيه الشرائع ويحكّموننا فيه ويتراضوا بحكمنا عليهم
فيه فإنّ الإمام مخيّر إن شاء أن يحكم بينهم حكم ، وإن شاء أن يعرض عنهم أعرض.
قال ابن القاسم :
والأفضل له أن يعرض عنهم.
__________________
قلت : وإنما أنفذ النبىّ صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم ،
ليحقّق تحريفهم وتبديلهم وتكذيبهم وكتمهم ما في التوراة.
ومنه صفة النبىّ
صلى الله عليه وسلم ، والرجم على من زنا منهم.
وعنه أخبر الله
سبحانه وتعالى بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ
مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ؛ فيكون ذلك من آياته الباهرة ، وحججه البينة ، وبراهينه
المثبتة للأمة ، المخزية لليهود والمشركين.
المسألة الرابعة ـ
في التحكيم من اليهود :
قال ابن القاسم :
إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخيّر إن شاء حكم أو لا؟ لأن إنفاذ الحكم حقّ
الأساقفة.
وقال غيره : إذا
حكم الزانيان الإمام جاز إنفاذه الحكم ، ولا يلتفت إلى الأساقفة ؛ وهو الأصحّ ؛
لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ [حكمه] ولم يعتبر رضا الحاكم ؛ فالكتابيّون بذلك أولى ؛ إذ الحكم
ليس بحق للحاكم على الناس ، وإنما هو حقّ للناس عليه.
وقال عيسى ، عن
ابن القاسم : لم يكونوا أهل ذمة ؛ إنما كانوا أهل حرب ، وهذا الذي قاله عيسى عنه
إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره أنّ
الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك ، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسم
المرأة الزانية يسرة ، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم : اسألوا محمدا
عن هذا ، فإن أفتاكم بغير الرّجم ، فخذوه منه واقبلوه ، وإن أفتى به فاحذروه ؛
وهذه فتنة أرادها الله فيهم فنفذت ، فأتوا النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ،
فقال لهم : من أعلم يهود فيكم؟ قالوا : ابن صوريا. فأرسل
إليه في فدك ، فجاء فنشده الله ، فانتشد له وصدقه بالرّجم كما تقدم ، وقال له :
والله يا محمد ، إنهم ليعلمون أنّك رسول الله ، ثم طبع [الله] على قلبه ، فبقى على كفره.
وهذا لو كان صحيحا
لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا ، وإن لم يكن عهد ذمة
__________________
ودار لكان لهم حكم
الكفّ عنهم والعدل فيهم ، فلا حجة لرواية عيسى في هذا ، وعنهم أخبر الله سبحانه
وتعالى بقوله : (سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ...) ؛ قال سفيان بن عيينة ـ وهي :
المسألة الخامسة ـ
إنّ الله ذكر الجاسوس بقوله : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ
آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ)؛ فهؤلاء هم الجواسيس ، ولم يعرض النبىّ صلى الله عليه وسلم
لهم مع علمه بهم ؛ لأنه لم يكن حينئذ تقررت الأحكام ، ولا تمكّن الإسلام ؛ وسنبينه
بعد هذا إن شاء الله تعالى.
المسألة السادسة ـ
لما حكّموا النبىّ صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم ، ولم يكن لهم الرجوع ،
وكل من حكّم رجلا في الدين فأصله هذه الآية.
قال مالك : إذا
حكّم رجل رجلا فحكمه ماض ، وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورا بيّنا.
وقال سحنون :
يمضيه إن رآه.
قال ابن العربي : وذلك في الأموال والحقوق التي تختصّ بالطالب ، فأما
الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان.
والضابط أنّ كلّ
حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكّم به.
وقال الشافعى :
التحكيم جائز ، وهو غير لازم ؛ وإنما هو فتوى ـ قال : لأنه لا يقدم آحاد الناس
الولاة والحكام ، ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيديهم ، وسنعقد في تعليم
التحكيم مقالا يشفى إن شاء الله تعالى ، إشارته إلى أن كل محكّم فإنه هو مفعل من
حكم ؛ فإذا قال : حكمت ، فلا يخلو أن يقع لغوا أو مفيدا ، ولا بد أن يقع مفيدا ،
فإذا أفاد فلا يخلو أن يفيد التكثير كقولك : كلمته وقللته ، أو يكون بمعنى جعلت له
، كقولك : ركبته وحسنته ، أى جعلت له مركوبا وحسنا ؛ وهذا يفيد جعلته حكما.
وتحقيقه أنّ الحكم
بين الناس إنما هو حقّهم لا حقّ الحاكم ، بيد أنّ الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية ومؤدّ إلى
تهارج الناس تهارج الحمر ، فلا بدّ من نصب فاصل ؛
__________________
فأمر الشرع بنصب
الوالي ليحسم قاعدة الهرج ، وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقّة الترافع ،
لتمّ المصلحتان ، وتحصل الفائدتان.
والشافعى ومن سواه
لا يلحظون الشريعة بعين مالك رحمه الله ، ولا يلتفتون إلى المصالح ، ولا يعتبرون
المقاصد ، وإنما يلحظون الظّواهر وما يستنبطون منها ، وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه
والقبس في شرح موطّأ مالك بن أنس.
ولم أرو في
التحكيم حديثا حضرني ذكره الآن إلّا ما أخبرنى به القاضي العراقي ، أخبرنا الجونى
، أخبرنا النيسابوري ، أخبرنا النسائي ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يزيد ـ يعنى
ابن المقدام بن شريح ، عن أبيه شريح ، عن أبيه هانئ ، قال : لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع قومه سمعهم وهم يكنونه أبا الحكم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقال : إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم ، فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال : إنّ قومي إذا
اختلفوا في شيء أتونى فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين.
فقال
: ما أحسن هذا؟ فما لك من الولد؟ قال : لي شريح ، وعبد الله ، ومسلم. قال : فمن
أكبرهم؟ قال : شريح. قال : فأنت أبو شريح ، ودعا له ولولده.
المسألة السابعة ـ
كيف أنفذ النبىّ صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم؟
اختلف في ذلك جواب
العلماء على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه حكم
بينهم بحكم الإسلام ، وأن أهل الكتاب من زنى منهم وقد تزوّج عليه الرّجم ، فيحكم
عليهم به الإمام ، ولا يشترط الإسلام في الإحصان ؛ قاله الشافعى.
الثاني ـ حكم
النبىّ عليه السّلام عليهم بشريعة موسى عليه السّلام وشهادة اليهود ، إذ شرع من
قبلنا شرع لنا ، فيلزم العمل بها حتى يقوم الدليل على تركها. وقد بيّنا ذلك في
أصول الفقه ، وفيما تقدّم من قولنا ، وإنه الصحيح من المذهب الحقّ في الدليل حسبما
تقدم ؛ قاله عيسى عن ابن القاسم.
الثالث ـ إنما حكم
النبىّ صلى الله عليه وسلم بينهم ؛ لأنّ الحدود لم تكن نزلت ، ولا يحكم الحاكم
اليوم بحكم التوراة ؛ قاله في كتاب محمد.
المسألة الثامنة ـ
في المختار :
أما قول الشافعى
فلا يصحّ ؛ فإن اليهود جاءوا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم باختيارهم ، وسألوه عن
أمرهم ، ففي هذا يكون النظر. وقد قال الله سبحانه وتعالى ، مخبرا عن الحقيقة فيه :
(وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، وأخبر أنهم جاءوا من قبل أنفسهم ، فقال : (فَإِنْ جاؤُكَ). ثم خيّره فقال : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، ثم قال له : (وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ، وهي :
المسألة التاسعة ـ
والقسط هو العدل ، وذلك حكم الإسلام ، وحكم الإسلام شهود منّا عدول ؛ إذ ليس في
الكفار عدل ، كما تقدم.
وإنما أراد النبىّ
صلى الله عليه وسلم إقامة الحجة عليهم وفضيحة اليهود حسبما شرحنا ؛ وذلك بيّن من
سياق الآية والحديث.
ولو نظر إلى الحكم
بدين الإسلام لما أرسل إلى ابن صوريا ، ولكنه اجتمعت للنبىّ صلى الله عليه وسلم
الوجوه فيه من قبول التحكيم وإنفاذه عليهم بحكم التوراة ، وهي الحق حتى ينسخ ،
وبشهادة اليهود ، وذلك دين قبل أن يرفع بالعدول منا.
المسألة العاشرة ـ
قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ) :
قال أبو هريرة
وغيره : ومحمد منهم ؛ يحكمون بما فيها من الحقّ ، وكذلك قال الحسن ، وهو
الذي يقتضيه ظاهر اللفظ ومطلقه في قوله : (النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) ، آخرهم عبد الله بن سلام.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).
اختلف فيه
المفسرون ؛ فمنهم من قال : الكافرون والظالمون والفاسفون كلّه لليهود ، ومنهم من
قال : الكافرون للمشركين ، والظالمون لليهود ، والفاسقون للنصارى ، وبه
أقول ؛
__________________
لأنه ظاهر الآيات
، وهو اختيار ابن عباس ، وجابر بن زيد ، وابن أبى زائدة ، وابن شبرمة.
قال طاوس وغيره :
ليس بكفر ينقل عن الملّة ، ولكنه كفر دون كفر. وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه
من عند الله ، فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه
المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
فيها اثنتان
وعشرون مسألة :
المسألة الأولى ـ قال
ابن جريج : لما رأت قريظة النبىّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه
في كتابهم ، قالوا : يا محمد ، اقض بيننا وبين إخواننا بنى النّضير ، وكان بينهم
دم ، وكانت النّضير تتعزّز على قريظة في دمائها ودياتها كما تقدم. وقالوا لا نطيعك في الرّجم ، ولكنا نأخذ بحدودنا
التي كنّا عليها ، فنزلت : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، ونزلت : (أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).
قال ابن عباس :
المعنى : فيما بالهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين ؛
وكانت بنو إسرائيل عندهم القصاص خاصّة ، فشرّف الله هذه الأمّة بالدّية.
المسألة الثانية ـ
تعلّق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية ، فقال : يقتل المسلم بالذمىّ ؛ لأنه نفس بنفس.
قالت له الشافعية
: هذا خبر عن شرع من قبلنا وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا.
وقلنا نحن له :
هذه الآية ، إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل وأخذهم من قبيلة
رجلا برجل ، ونفسا بنفس ، وأخذهم من قبيلة أخرى نفسين بنفس ، فأما اعتبار
__________________
أحوال النفس
الواحدة بالنفس الواحدة فليس له تعرّض في ذلك ، ولا سيقت الآية له ، وإنما تحمل
الألفاظ على المقاصد.
جواب آخر ـ وذلك
أنّ هذا عموم يدخله التخصيص بما روى أبو داود والترمذي والنسائي ، وبعضهم أوعب من
بعض ؛ عن علىّ ،
وقد سئل : هل خصّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال : لا ، إلّا ما في هذا
، وأخرج كتابا من قراب سيفه ، وإذا فيه : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من
سواهم ، ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده.
جواب ثالث ـ وذلك
أنّ الله سبحانه قال في سورة البقرة : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ). وقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ؛ فاقتضى لفظ القصاص المساواة ، ولا مساواة بين مسلم وكافر
؛ لأنّ نقص الكفر المبيح للدم موجود به ، فلا تستوي نفس مبيحها معها مع نفس قد تطهّرت عن المبيحات
، واعتصمت بالإيمان الذي هو أعلى العصم.
وقد ذكر بعض
علمائنا في ذلك نكتة حسنة ، قال : إنّ الله تعالى قال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، فأخبر أنه فرض عليهم في ملّتهم أنّ كلّ نفس منهم تعادل نفسا ؛ فإذا التزمنا نحن ذلك في ملّتنا على أحد القولين ـ وهو
الصحيح ـ كان معناه أنّ في ملّتنا نحن أيضا أن كلّ نفس منا تقابل نفسا ، فأما
مقابلة كلّ نفس منّا بنفس منهم فليس من مقتضى الآية ، ولا من مواردها.
المسألة الثالثة ـ
قال أبو حنيفة وغيره : قوله تعالى : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يوجب قتل الحرّ بالعبد خاصة.
وقال غيره : يوجب
ذلك أخذ نفسه بنفسه ، وأخذ أطرافه بأطرافه ، لقوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). وقد تقدم الجواب عن ذلك في المسألة قبلها. ونخص هذا مع
أبي حنيفة أنهما شخصان لا يجرى بينهما القصاص في الأطراف مع السلامة في الخلقة فلا
يجرى بينهما في الأنفس ، ويقال للآخرين : إنّ نقص الرقّ الباقي في العبد من آثار
الكفر يمنع
__________________
المساواة بينه
وبين الحر ؛ فلا يصحّ أن يؤخذ أحدهما بالآخر ؛ فإن العبد سلعة من السلع يصرّفه
الحرّ كما يصرف الأموال.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يوجب قتل الرجل [الحر] بالمرأة [الحرّة] مطلقا ؛ وبه قال كافّة العلماء.
وقال عطاء : يحكم
بينهم بالتراجع ، فإذا قتل الرجل المرأة خيّر وليّها ، فإن شاء أخذ ديتها ، وإن
شاء أعطى نصف العقل. وقتل الرجل. وعموم الآية يرد عليه. وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم : من
قتل قتيلا فأهله بين خيرتين ، فإن أحبّوا أن يقتلوا أو يأخذوا العقل.
والمعنى يعضّده ؛
فإنّ الرجل إذا قتل المرأة فقد قتل مكافئا له في الدم ، فلا يجب فيه زيادة كالرجلين.
المسألة الخامسة ـ
قال أحمد بن حنبل : لا تقتل الجماعة بالواحد ؛ لأنّ الله تعالى قال : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).
قلنا : هذا عموم
تخصه حكمته ؛ فإن الله سبحانه إنما قتل من قتل صيانة للأنفس عن القتل ، فلو علم
الأعداء أنهم بالاجتماع يسقط القصاص عنهم لقتلوا عدوّهم في جماعتهم ، فحكمنا
بإيجاب القصاص عليهم ردعا للأعداء ، وحسما لهذا الداء ، ولا كلام لهم على هذا.
المسألة السادسة ـ
قال أصحاب الشافعى وأبى حنيفة : إذا جرح أو قطع اليد أو الأذن ثم قتل فعل به كذلك
؛ لأنّ الله تعالى قال : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...) الآية ؛ فيؤخذ منه ما أخذ ، ويفعل به كما فعل.
وقال علماؤنا : إن
قصد بذلك المثلة فعل به مثله ، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته لم يمثّل به ؛ لأنّ المقصود بالقصاص إما أن يكون التشفّى ،
وإما إبطال العضو. وأيّ ذلك كان فالقتل يأتى عليه. وهذا ليس بقصاص [ولا انتصاف] ؛
لأنّ المقتول تألم بقطع الأعضاء [كلها] وبالقتل ، فلا بدّ في تحقيق القصاص من أن يألم كما آلم ، وبه أقول.
__________________
المسألة السابعة ـ
قوله تبارك وتعالى : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وذكر العين والأنف والأذن والسنّ وترك اليد ، فقيل في
ذلك ثلاثة معان :
الأول ـ أنّ ذلك
لأنّ اليد آلة بها يفعل [كلّ] ذلك.
الثاني ـ أنّ ذلك
لاختلاف حال اليدين ، بخلاف العينين والأذنين ؛ فإنّ اليسرى لا تساوى اليمنى ؛
فترك القول فيها لتدخل تحت قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ). ثم يقع النظر فيها بدليل آخر.
الثالث ـ أن اليد
باليد لا تفتقر إلى نظر ؛ والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والسن بالسن يفتقر إلى
نظر ، وفيه إشكال يأتى بيانه إن شاء الله.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ) :
قرئ بالرفع والنصب
، فالنصب إتباع للفظه ومعناه ؛ والرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما ـ أن يكون
عطفا على حال النفس قبل دخول أن.
والثاني ـ أن يكون
استئناف كلام. ولم يكن هذا مما كتب في التوراة ، والأول أصحّ.
المسألة التاسعة ـ
قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ) :
لا يخلو أن يكون
فقأها ، أو أذهب بصرها وبقيت صورتها ، أو أذهب بعض البصر.
وقد
أفادنا كيفية القصاص منها علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه ، وذلك أنه أمر بمرآة
فحميت ، ثم وضع على العين الأخرى قطنا ، ثم أخذت المرآة بكلبتين فأدنيت من عينه
حتى سال إنسان عينه.
فلو أذهب رجل بعض
بصره فإنه تعصب عينه وتكشف الأخرى ، ثم يذهب رجل بالبيضة ويذهب ويذهب حتى ينتهى
بصر المضروب فيعلم ، ثم تغطّى عينه وتكشف الأخرى ، ثم يذهب رجل بالبيضة ويذهب ويذهب ، فحيث انتهى البصر علم ، ثم يقاس كلّ
واحد منهما بالمساحة ، فكيف كان الفضل نسب ، ويجب من الدية بحساب ذلك مع الأدب الوجيع والسجن الطويل ؛ إذ
القصاص في مثل هذا غير ممكن ، ولا يزال هذا يختبر في مواضع مختلفة لئلا يتداهى
المضروب فينقص من بصره ، ليكثر حظّه من مال الضارب ؛ ولا خلاف في هذا.
__________________
المسألة العاشرة ـ
لو فقأ أعور عين صحيح ، قيل : لا قود عليه ، وعليه الدية ، روى ذلك عن عمر وعثمان.
وقيل : عليه
القصاص ؛ وهو قول على والشافعى.
وقال مالك : إن
شاء فقأ عينه ، وإن شاء أخذ دية كاملة.
ومتعلق عثمان [أنه]
في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه ، وذلك ليس بمساواة.
ومتعلّق الشافعى
قوله تعالى : (الْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ).
ومتعلق مالك أنّ
الأدلة لما تعارضت خيّر المجنى عليه ، والأخذ بعموم القرآن أولى ؛ فإنه أسلم عند
الله تعالى.
المسألة الحادية
عشرة ـ إذا فقأ صحيح عين أعور فعليه الدية كاملة عند علمائنا.
وقال الشافعى وأبو
حنيفة : فيه نصف الدية ، وهو القياس الظاهر. ولكن علماؤنا قالوا : إن منفعة الأعور
ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك ، فوجب عليه مثل ديته.
المسألة الثانية
عشرة ـ قالوا : إذا ضرب سنّه فاسودّت ففيها ديتها كاملة ، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعى :
فيها حكومة ، وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق ؛ فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها ،
وإنما بقيت صورتها كاليد الشلّاء والعين العمياء ، فلا خلاف في وجوب الدية. وإن
كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب إلّا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة.
وروى عن عمر أنه
قال : إذا ضرب سنّه فاسودّت ففيها ثلث ديتها ، وهذا مما لا يصحّ عنه سندا ولا
فقها.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قال مالك : إذا أخذ الكبير دية ضرسه ، ثم ثبتت. فلا يردّها.
وقال الكوفيون :
يردّها ؛ لأنّ عوضها قد ثبت ، أصله سنّ الصغير ؛ ودليلنا أنّ هذا ثبات لم تجر به
عادة ، ولا يثبت الحكم بالنادر كسائر أصول الشريعة ، فلو قلع رجل سنّ رجل فردّها
صاحبها فالتحمت فلا شيء عليه عندنا.
وقال ابن المسيّب
وجماعة منهم عطاء : ليس له أن يردّها ثانية ، وإن ردّها أعاد كل صلاة
__________________
صلّاها لأنها ميتة
، وكذلك لو قطعت أذنه فألصقها بحرارة الدم فالتزقت مثله ، وهي :
المسألة الرابعة
عشرة ـ قال ذلك علماؤنا. وقال عطاء : يجبره السلطان على قلعها ؛ لأنها ميتة ألصقها
؛ وهذا غلط بيّن ، وقد جهل من خفى عليه أن ردّها وعودها لصورتها موجب عودها
لحكمها ؛ لأنّ النجاسة كانت فيها للانفصال ، وقد عادت متصلة ، وأحكام الشريعة ليست
صفات للأعيان ، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها.
وقال الشافعىّ :
لا تسقط عن قالع السن ديتها ، وإن رجعت ؛ لأن الدية إنما وجبت لقلعها ، وذلك لا
ينجبر.
قلنا : إنما وجبت
لفقدها وذهاب منفعتها ؛ فإذا عادت لم يكن عليه شيء ، كما لو ضرب عينه ففقد بصره ،
فلما قضى عليه عاد بصره لم يجب له شيء.
المسألة الخامسة
عشرة ـ فلو كانت له سنّ زائدة فقلعت ففيها حكومة ، وبه قال فقهاء الأمصار.
وقال زيد بن ثابت :
فيها ثلث الدية ، وليس في التقدير دليل ، فالحكومة أعدل.
المسألة السادسة
عشرة ـ قال علماؤنا في الذي يقطع أذنى رجل : عليه حكومة ؛ وإنما تكون عليه الدية
في السمع ، ويقاس كما يقاس البصر ، فإن أجاب جواب من يسمع لم يقبل قوله ، وإن لم
يجب أحلف ، لقد صمت من ضرب هذا ، وأغرم ديته ، ومثله في اليمين في البصر.
المسألة السابعة
عشرة ـ اللسان اختلف قول مالك في القود فيه ، وكذلك اختلف العلماء ، والعلة في
التوقف عن القود فيه عدم الإحاطة باستيفاء القود ، فإن أمكن فالقود هو الأصل ،
ويختبر بالكلام فما نقص من الحروف فبحسابه من الدية تجب على الضارب ، فإن قلع لسان
أخرس ، وهي :
المسألة الثامنة
عشرة ـ ففيه حكومة.
وقال النخعي : فيه
الدّية ، يقال له : إذا أسقطت القود فلا يبقى إلا الحكومة ؛ لأنّ الدية قرينة
القود.
__________________
المسألة التاسعة
عشرة ـ إذا قطع يمين رجل أو يساره لم يؤخذ اليمين إلا باليمين واليسار إلّا
باليسار عند كافة الفقهاء.
وقال ابن شبرمة :
تؤخذ اليمين باليسار واليسار باليمين نظرا إلى استوائهما في الصورة والاسم ، ولم
ينظر إلى المنفعة ، وهما فيها متفاوتتان أشدّ تفاوتا مما بين اليد والرجل ، فإذا
لم تؤخذ اليد بالرجل فلا تؤخذ يمنى بيسرى.
المسألة الموفية
عشرين ـ نصّ الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها ، وكل عضو
فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، وكذلك كلّ عضو بطلت منفعته وبقيت صورته
فلا قود فيه ، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه ، وفيه تفصيل في الأعضاء والصّور
بيناها في أصول الفقه.
المسألة الحادية
والعشرون ـ لما بينا أنّ الله سبحانه ذكر ما ذكر وخصّ ما خصّ قال بعد ذلك : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) ؛ فعمّ بما نبّه فيه من ذلك وبيّنه النبىّ صلى الله عليه
وسلم ، ففي الصحيح عن أنس قال :
كسرت الرّبيع ـ وهي
عمّة أنس بن مالك ـ ثنيّة جارية من الأنصار ، فطلب القوم القصاص ، فأتوا النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فأمر
النبىّ صلى الله عليه وسلم بالقصاص. فقال أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك : [لا] والله ، لا تكسر ثنيّتها يا رسول الله. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : يا أنس ، كتاب الله القصاص ، فرضي القوم وقبلوا الأرش . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ من عباد الله من
لو أقسم على الله لأبرّه .
المسألة الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) :
اختلف العلماء فيه
على قولين :
أحدهما ـ [فهو
كفّارة له هو] المجروح.
__________________
والثاني ـ أنه
الجارح.
وحقيقة الكلام هل
هو في الضميرين واحد أو كلّ ضمير يعود إلى مضمر ثان؟
وظاهر الكلام أنه
يعود إلى واحد الضميران جميعا ؛ وذلك يقتضى أنه من وجب له القصاص فأسقطه كفّر من
ذنوبه بقدره ، وعليه أكثر الصحابة.
وعن أبى الدّرداء
عن النبىّ صلى الله عليه وسلم :
ما من مسلم يصاب
بشيء من جسده فيهبه إلّا رفعه الله به درجة ، وحطّ عنه به خطيئة.
والذي يقول : إنه
إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ، فلا معنى له.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
قيل : نزلت فيما
تقدم. وقيل : جاء
ابن صوريا ، وشأس بن قيس ، وكعب بن أسيد إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم يريدون أن
يفتنوه عن دينه ، فقالوا له : نحن أحبار يهود ، إن آمنّا لك آمن الناس جميعهم بك ،
وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك لتقضى لنا عليهم ، ونؤمن بك ونصدّقك ؛ فأبى
النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله سبحانه الآية ، وهي وقوله تعالى : (وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ـ بمعنى واحد.
المسألة الثانية ـ
قال قوم : هذا ناسخ للتخيير ، وهذه دعوى عريضة ؛ فإنّ شروط النسخ أربعة منها :
معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر. وهذا مجهول من هاتين الآيتين ، فامتنع أن
يدعى أنّ واحدة منهما ناسخة للأخرى ، وقى الأمر على حاله.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) :
__________________
قال قوم : معناه
عن كل ما أنزل الله إليك ، والبعض يستعمل بمعنى الكل ، قال الشاعر :
أو يغتبط بعض
النفوس حمامها
ويروى : أو يرتبط.
أراد كلّ النفوس ، وعليه حملوا قوله تعالى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ).
والصحيح أنّ «بعض»
على حالها في هذه الآية ، وأنّ المراد به الرّجم أو الحكم الذي كانوا
أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) : اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها نزلت في عبادة ، وابن أبىّ ؛ وذلك أن عبادة تبرّأ إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم من حلف قوم من اليهود كان له من حلفهم مثل ما لعبد الله
بن أبىّ ، وتمسك ابن أبىّ بهم ، وقال : إنى رجل أخاف الدوائر.
الثاني ـ كان
المنافقون يوازرون يهود قريظة ونصارى نجران ؛ لأنهم كانوا أهل ريف ، وكانوا
يميرونهم ويقرضونهم ، فقالوا : كيف نقطع مودّة قوم إذا أصابتنا سنة فاحتجنا إليهم وسّعوا علينا المنازل وعرضوا علينا الثمار إلى أجل ، فنزلت ، وذلك قوله
__________________
تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا
دائِرَةٌ).
الثالث ـ أنها
نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر والزّبير وطلحة ؛ فأما نزولها في أبى لبابة فممكن
؛ لأنه أشار إلى يهود إلى حلقه بأنهم إن نزلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو
الذبح فخانه ، ثم تاب الله عليه.
وأما الزبير وطلحة
فلم يلتفتوا إلى ذلك فيهما.
وهذه الآية عامة
في كلّ من ذكر أنها نزلت فيه لا تخصّ به أحدا دون أحد.
المسألة الثانية ـ
بلغ عمر بن الخطاب أنّ أبا موسى الأشعرى اتخذ باليمن كاتبا ، ذميّا ، فكتب إليه
هذه الآية ، وأمره أن يعزله ؛ وذلك أنه لا ينبغي لأحد من المسلمين ولّى ولاية أن
يتخذ من أهل الذمة وليا فيها لنهى الله عن ذلك ؛ وذلك أنهم لا يخلصون النصيحة ،
ولا يؤدّون الأمانة ، بعضهم أولياء بعض.
المسألة الثالثة ـ
سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ، فقرأ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، وقد بيناه فيما تقدم موضّحا ، وعلى هذا جاء بيان تمام
الآية ، ثم جاءت الآية الأخرى عامة في نفى اتخاذ الأولياء من الكفار أجمعين.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ كان
المشركون واليهود والمنافقون إذا سمعوا النداء إلى الصلاة وقعوا في ذلك وسخروا منه
؛ فأخبر الله سبحانه بذلك عنهم ، وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه
الآية ، أما إنه ذكرت الجمعة على الاختصاص.
__________________
المسألة الثانية ـ
روى أن رجلا من النصارى ، وكان بالمدينة ، إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أنّ محمدا
رسول الله ، قال : حرق الكاذب ، فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم ، فتعلقت
النار بالبيت فأحرقته ، وأحرقت ذلك الكافر معه ؛ فكانت عبرة للخلق. والبلاء موكّل
بالمنطق.
وقد كانوا يمهلون
مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا فلا يؤخّروا بعد ذلك.
المسألة الثالثة ـ
كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح وينظر ، فإن سمع
أذانا أمسك ، وإلا أغار ؛ رواه البخاري وغيره عن أنس بن مالك.
المسألة الرابعة ـ
روى الأئمة بأجمعهم عن ابن عمر أنه قال : كان
المسلمون إذا قدموا المدينة يتجنّبون الصلاة فيجتمعون ، وليس ينادى بها أحد ،
فتكلّموا يوما في ذلك فقال بعضهم [لبعض] : اتخذوا ناقوسا مثل النصارى. وقال بعضهم
لبعض : اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود ؛ فقال عمر : ألا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال ؛ قم فناد بالصلاة.
وفي الموطّأ وأبى
داود عن عبد الله بن زيد قال :
لما أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليعمل حتى يضرب به فيجتمع الناس للصلاة طاف بي وأنا
نائم رجل يحمل ناقوسا ، فقلت له : يا عبد الله ، تبيع هذا الناقوس؟ فقال لي : ما
تصنع به؟ فقلت : ندعو به للصلاة. قال : أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت :
بلى. فقال تقول : الله أكبر ، الله أكبر ... فذكر الأذان والإقامة.
فلما
أصبحنا أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال : إنها لرؤيا حقّ
إن شاء الله تعالى ، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به. ففعلت.
فلما
سمع عمر الأذان خرج مسرعا ، فسأل عن ذلك ، فأخبر الخبر ، فقال : يا رسول الله ؛
والذي بعثك بالحق ، لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
الحمد لله.
وفي ذلك أحاديث
كثيرة ، وقد استوفينا الكلام على أخبار الأذان في شرح الحديث ومسائله في كتب
الفروع.
__________________
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ
قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ نهى
الله سبحانه أهل الكتاب عن الغلوّ في الدّين من طريقيه : في التوحيد ، وفي العمل ؛ فغلوّهم
في التوحيد نسبتهم له الولد سبحانه ، وغلوّهم في العمل ما ابتدعوه من الرّهبانية
في التحليل والتحريم والعبادة والتكليف.
وقال صلى الله
عليه وسلم :
لتركبنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر
ضبّ خرب لدخلتموه.
وهذا صحيح لا كلام
فيه ، وقد ثبت في الصحاح أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم سمع امرأة من الليل تصلى ، فقال : من هذه؟ قيل : الحولاء بنت تويت لا تنام الليل كلّه. فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى عرفت الكراهية في وجهه ، وقال : إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا ، اكلفوا من
العمل ما تطيقون.
وروى فيه أيضا أنه
قال : إن هذا الدين متين
فأوغل فيه برفق فإنّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى .
المسألة الثانية ـ
لما أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم بأنا نتبع من قبلنا في سننه ، وكانت الكفرة قد
شبّهت الله سبحانه بالخلق في الولد ، وشبّهت هذه الأمة الباري تعالى بالخلق في
مصائب قد بيّناها في الأصول لا نقصر في الباطل عن الولد ، وغلت طائفة في العمل حتى
ترهّبت وتركت النكاح ، وواظبت على الصوم ، وتركت الطيبات ، وقد قال صلى الله عليه
وسلم : من رغب عن سنّتى فليس
منّى. وسنكشف ذلك في
موضعه هاهنا بالاختصار ؛
__________________
إذ قد بيناه
بالطول في كتب الحديث ، وخصوصا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ، وهي :
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ أن جماعة من أصحاب النبىّ صلى الله عليه
وسلم منهم علىّ ، والمقداد ، وعبد الله ابن عمر ، وعثمان بن مظعون ، وابن مسعود ،
وسالم مولى أبى حذيفة ، جلسوا في البيوت ، وأرادوا أن يفعلوا كفعل النصارى من
تحريم طيبات الطعام واللباس واعتزال النساء ، وهمّ بعضهم أن يجبّ نفسه ، وإنّ عثمان بن مظعون كان ممن حرّم النساء والزينة
على نفسه ، وأرادوا أن يترهّبوا ، ولا يأكلوا لحما ولا ودكا ؛ وقالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونسيح في الأرض ، كما فعل
الرّهبان.
فلما
بلغ ذلك النبىّ صلى الله عليه وسلم نهاهم عنه ، وأعلمهم أنه ينكح النساء ، ويأكل
من الأطعمة ، وينام ويقوم ، ويفطر ويصوم ، وأنه من رغب عن سنّتى فليس منى ، وقال
لهم : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، فشدّدوا على أنفسهم ، فشدّد الله عليهم.
أولئك بقاياهم في الدّيار والصوامع ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأقيموا
الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وحجّوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم لكم.
وإن هذه الآية
نزلت فيهم ، روى ذلك عن ابن عباس وغيره.
الثاني ـ روى أنّ عبد الله بن رواحة ضافه ضيف ،
فانقلب ابن رواحة ولم يتعش. فقال لزوجته : ما عشيّتيه؟ فقالت : كان الطعام قليلا ،
فانتظرتك أن تأتى. قال :؟؟؟؟ ضيفي
__________________
من
أجلى ، فطعامك علىّ حرام إن ذقته. فقالت هي : وهو علىّ حرام إن لم تذقه. وقال
الضيف : هو علىّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه. فلما رأى ذلك ابن رواحة قال : قرّبى
طعامك ، كلوا بسم الله ، وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره. فقال
صلى الله عليه وسلم : أحسنت. ونزلت الآية : فكلوا مما رزقكم الله.
قال ابن عباس في
حديثه : فقالوا : يا رسول
الله ، كيف نصنع بأيماننا ، فنزلت : (لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ...) الآية.
الثالث ـ روى
التّرمذى عن ابن عباس أنّ
رجلا جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا رسول الله ؛ إنى إذا أصبت
اللحم انتشرت للنساء وأخذتنى شهوة ، فحرمت علىّ اللحم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...) إلى (مُؤْمِنُونَ).
قال الترمذي :
صحيحة الإرسال.
المسألة الثانية ـ
ظنّ أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّ المطلوب منهم طريق من قبلهم من رفض
الطعام والشراب والنساء ، وقد قال الله سبحانه : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ؛ فكانت شريعة من قبلنا بالرهبانية وشريعتنا بالمسحة
الحنيفية.
وفي الصحيح أنّ عثمان بن مظعون نهاه النبىّ صلى
الله عليه وسلم عن التبتل ، ولو أذن له لاختصينا.
والذي يوجب في ذلك
العلم ، ويقطع العذر ، ويوضّح الأمر ـ أنّ الله سبحانه قال لنبيه : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً) ؛ فبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم التبتل بفعله ؛ وشرح
أنه امتثال الأمر ، واجتناب النّهى ، وليس بترك المباحات ، وكان النبىّ صلى الله
عليه وسلم يأكل اللّحم إذا وجده ، ويلبس الثياب تبتاع بعشرين جملا ، ويكثر من
الوطء ، ويصبر إذا عدم ذلك ، ومن رغب عن سنّته لسنة عيسى فليس منه.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : هذا إذا كان الدّين قواما ، ولم يكن المال حراما ؛ فأما إذا فسد
الدين عند الناس ، وعمّ الحرام فالتبتّل وترك اللذات أولى ، وإذا وجد الحلال فحال
النبىّ صلى الله عليه وسلم أفضل ، وكان ذاتشمند رحمه الله يقول : إذا عمّ الحرام ، وطبّق البلاد ، ولم يوجد حلال استؤنف الحكم ، وصار الكلّ معفوّا
عنه ، وكان كل واحد أحقّ بما في يده ما لم يعلم صاحبه.
وأنا أقول : إن
هذا الكلام منقاس إذا انقطع الحرام ، فأما والغصب متماد ، والمعاملات الفاسدة
مستمرة ، ولا يخرج المرء من حرام إلا إلى حرام فأشبه المعاش من كان له عقار قديم
الميراث يأكل من غلّته ، وما رأيت في رحلتي أحدا يأكل مالا حلالا محضا إلا سعيدا
المغربي ، كان يخرج في صائفة الخطمي ، فيجمع من زريعته قوته ويطحنها ويأكلها بزيت يجلبه الروم من بلادهم.
المسألة الرابعة ـ
إذا قال : هذا علىّ حرام لشيء من الحلال ـ عدا الزوجة فإنه كذبة لا شيء عليه فيها
، ويستغفر الله ، ولا يحرم عليه شيء مما حرمه.
هذا مذهب مالك
والشافعى ، وأكثر الصحابة ؛ وروى أنه قول يوجب الكفارة ، وبه قال أبو حنيفة. ويدلّ
عليه حديث عبد الله بن رواحة المتقدم.
وفي حديث الجماعة
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
وروى أيضا عنهم
أنهم حلفوا بالله فأذن لهم في الكفّارة ، فتعلّق أصحاب أبى حنيفة بمسألة اليمين ،
وتأتى إن شاء الله.
وأما إذا قال
لزوجته : أنت علىّ حرام فموضعها سورة التحريم ، والله يسهل في البلوغ إليها بعونه.
__________________
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ).
فيها سبع وعشرون
مسألة :
المسألة الأولى ـ اليمين
على ضربين : لغو ومنعقدة ، وقد بينا لغو اليمين في سورة البقرة .
وأما اليمين
المنعقدة فهي المنفعلة من العقد ، والعقد على ضربين : حسّى كعقد الجبل ، وحكمى
كعقد البيع ؛ وهو ربط القول بالقصد القائم بالقلب ، يعزم بقلبه أوّلا متواصلا منتظما ، ثم يخبر عمّا انعقد من ذلك بلسانه.
فإن قيل : صورة
اليمين اللّغو والمنعقدة على هذا واحدة ، فما الفرق بينهما؟
قلنا : قد آن الآن
أن نلتزم بذلك الاحتفاء ، ونكشف عنه الخلفاء ، فنقول :
إن اليمين
المنعقدة ما قلناه. واللغو ضده واليمين اللغو سبع متعلقات في اختلاف الناس : المتعلق الأول ـ اليمين مع
النسيان ، فلا شكّ في إلغائها ؛ لأنه إذ قصد زيدا فتلفّظ بعمرو فلا شك في أنها
جاءت على خلاف قصده ، فهي لغو محض. وأما من قال : إنه اليمين المكفّرة فلا متعلّق
له يحكى.
والمتعلق الثالث ـ في دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا ، فينزل به كذا
، فهذا قول لغو في طريق الكفارة ، ولكنه منعقد في العقد مكروه ، وربما يؤاخذ به ؛
فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لا
يدعون أحدكم على نفسه ، فربما صادف ساعة لا يسأل الله فيها أحد شيئا إلا أعطاه
إياها.
والمتعلق الرابع ـ
في يمين المعصية باطل ؛ لأنّ الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة ،
__________________
والحالف على فعل
المعصية تنعقد يمينه معصية ، ويقال له : لا تفعل فكفر ، فإن أقدم على الفعل فجر في
إقدامه وبر في يمينه.
وإنما قلنا : إنها
تنعقد لأنه قصد بقلبه الفعل أو الكفّ في زمان مستقبل يتأتّى فيه كلّ واحد منهما.
وهذا ظاهر.
والمتعلّق الخامس
ـ في يمين الغضب موضع فتنة ؛ فإنّ بعض الناس يقول : يمين الغضب لا يلزم ، وينظر في
ذلك إلى حديث يروى : لا يمين في إغلاق ، وهذا لم يصحّ ، والإغلاق : الإكراه ، لأنه تغلق الأبواب
على المكره وتردّه إلى مقصده ، وقد حلف النبىّ صلى الله عليه وسلم
غاضبا ألّا يحمل الأشعريين وحملهم ، وقال : والله إن شاء الله إنى لا أحلف على
يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني. وهذا بيّن ظاهر
جدا.
وأما من قال : إنه
قول الرجل : لا والله ، وبلى والله. ففي صحيح البخاري ، عن عائشة قالت : نزلت : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ) ، في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله.
قلنا : هذا صحيح ،
ومعناه إذا أكثر الرجل في يمينه من قول : لا والله ، وبلى الله ، على أشياء يظنّها
كما قال ، فتخرج بخلافه.
أو على حقيقة ،
فهي تنقسم قسمين : قسما يظنّ وقسما يعقد ، فلا يؤاخذ منها فيما وقع على ظنّ ،
ويؤاخذ فيما عقد ، وكيف يجوز أن يظن أحد أن قوله : لا والله ، وبلى والله ، فيما
يعتقده ويعقده أنه لغو ، وهو منهىّ عن الاسترسال فيه والتهافت به. قال الله سبحانه
: (وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ) ؛ فنهى عنها ولا يؤاخذ إذا فعلها.
هذا لعمر الله هو
القول اللغو ، وهذا يبيّن لك أن القول ما قاله مالك ، وأنه اليمين على ظنّ يخرج
بخلافه.
فإن قيل وهي :
__________________
المسألة الثانية ـ
فاليمين الغموس في أى قسم هي؟
قلنا : هي مسألة
عظمى وداهية كبرى تكلّم فيها العلماء ، وقد أفضنا فيها في مسائل الخلاف.
ووجه إشكالها أنها
إن كانت لا كفارة فيها فهي في قسم اللغو ، فلا تقع فيها مؤاخذة ، وإن كانت مما
يؤاخذ بها فهي في قسم المنعقدة ، تلزم فيها الكفارة.
وحلّه طويل ؛
اختصاره أن الآية وردت بقسمين : لغو ، ومنعقدة خرجت على الغالب في أيمان الناس ؛
فأما اليمين الغموس فلا يرضى بها ذو دين أو مروءة ، ويحل الإشكال ، أيضا أن الله
سبحانه علّق الكفارة على قسمي اليمين المنعقدة ، فدع ما بعدها يكون مائة قسم ؛
فإنه لم تعلّق عليه كفارة.
فإن قيل : اليمين
الغموس منعقدة. والدليل عليه أنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله
تعالى.
قلنا : عقد القلب
إنما يكون عقدا إذا تصور حلّه ، واليمين الغموس مكر وخديعة.
والدليل عليه أنّ
هذا الذي صوّره أصحاب الشافعى موجود في يمين الاستثناء ، ولا كفارة فيها ؛ فثبت
أنّ مجرد القصد لا يكفى في الكفارة ، هذا وقد فارق اليمين الغموس الحل. وكيف تنعقد؟
وقد مهّدنا القول فيها في تخليص التلخيص ، فلينظر هنالك.
المسألة الثالثة ـ
في حقيقة اليمين :
قد بيّناها في
المسائل ، وهي ربط العقد بالامتناع والترك أو بالإقدام على فعل بمعنى معظّم حقيقة أو اعتقادا.
والمعظّم حقيقة ،
كقوله : والله لا دخلت الدار أو لأدخلنّ. والمعظّم اعتقادا ، كقوله : إن دخلت
الدار فأنت طالق ، أو أنت حر. والحرية معظّمة عنده ، لاعتقاده عظيم ما يخرج عن يده
في الحرية والطلاق.
__________________
ودليله قوله صلى
الله عليه وسلم : من
كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. فسمّى الحالف بغير الله حالفا.
وقد اتفق علماؤنا
على أن من قال : إن دخلت الدار فعلىّ كفارة يمين ، أنه يلزمه ذلك ، ولكنه من جهة
النّذر لا من جهة اليمين. والنذر يمين حقيقة ، ولأجله قال النبىّ صلى الله عليه
وسلم : كفارة النّذر كفارة
اليمين. وقد بيناه في
مسائل الخلاف.
المسألة الرابعة ـ
إذا قال : أقسمت عليك ، أو أقسمت ليكوننّ كذا وكذا فإنه يكون يمينا إذا قصد بالله.
وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعى : لا
يكون يمينا حتى يذكر اسم الله تعالى ؛ قال : لأنه لم يحلف بالله ، فلا يكون يمينا.
قلنا : إن كان لم
يتلفظ به فقد نواه ، واللفظ يحتمله ، فوجب أن يقضى به ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
: إنما الأعمال بالنيات ولكلّ امرئ ما نوى.
المسألة الخامسة ـ
إذا حلف بالله تعالى أو بصفاته العليا وأسمائه الحسنى فهي يمين.
وقال أبو حنيفة :
إذا قال : وعلم الله لم يكن يمينا. وظن قوم ممن لم يحصل مذهبه أنه ينكر صفات الله
تعالى ، وليس كما ظن ؛ لأنه قد قال : إذا حلف : وقدرة الله ـ كانت يمينا. وإنما
الذي أوقعه في ذلك أنّ العلم قد ينطلق على المعلوم ، وهو المحدث ، فلا يكون يمينا
، وذهل عن أنّ القدرة أيضا تنطلق على المقدور ، وكلّ كلام له في المقدور فهو حجتنا
في المعلوم. المسألة السادسة ـ لا ينعقد اليمين بغير الله وصفاته وأسمائه.
وقال أحمد بن حنبل
: إذا حلف بالنبي انعقدت يمينه ولزمته الكفارة ؛ لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به ، فلزمته الكفارة ، كما لو حلف
بالله ، ودليلنا قوله : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ، ولأنّ هذا ينتقض بمن
قال : وآدم وإبراهيم ، فإنه لا كفّارة عليه ، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلّا به.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ) :
فيه ثلاث قراءات :
عقّدتم بتشديد القاف ، وعقدتم بتخفيف القاف ، وعاقدتم بالألف.
__________________
فأما التخفيف فهو
أضعفها رواية وأقواها معنى ، لأنه فعلتم من العقد ، وهو المطلوب. وإذا قرئ عاقدتم
فهو فاعلتم ، وذلك يكون من اثنين ، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه
، وقد يعود ذلك إلى المحلوف عليه فإنه ربط به اليمين ، وقد يكون فاعل بمعنى فعل ،
كقولك : طارق النعل ، وعاقب اللص ، في أحد الوجهين في اللص خاصة.
وإذا قرئ عقّدتم ـ
بتشديد القاف ـ فقد اختلف العلماء في تأويله على أربعة أقوال:
الأول ـ قال مجاهد
: تعمّدتم .
الثاني ـ قال
الحسن : معناه ما تعمدت به المأثم فعليك فيه الكفارة.
الثالث ـ قال ابن
عمر : التشديد يقتضى التكرار ، فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرّر اليمين.
الرابع ـ قال
مجاهد : التشديد للتأكيد ، وهو قوله : والله الذي لا إله إلا هو.
قال ابن العربي :
أما قول مجاهد : ما تعمدتم فهو صحيح ، يعنى ما قصدتم إليه احترازا من اللّغو.
وأما قول الحسن ما
تعمدتم فيه المأثم فيعنى به مخالفة اليمين ، فحينئذ تكون الكفارة ، وهذان القولان
حسنان يفتقران إلى تحقيق ، وهو بيان وجه التشديد ، فإنّ ابن عمر حمله على التكرار
، وهو قول لم يصح عنه عندي لضعفه. فقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم :
وإنى والله إن شاء
الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن
يميني. فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر.
وأما قول مجاهد :
إنّ التشديد في التأكيد محمول على تكرار الصفات ؛ فإن قولنا : «والله» يقتضى جميع
أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، فإذا ذكر شيئا من ذلك فقد تضمّنه قوله : والله.
فإن قيل : فما
فائدة التغليظ بالألفاظ؟ قلنا : لا تغليظ عندنا بالألفاظ. وقد تقدم بيانه. وإن
غلظنا فليس على معنى أنّ ما ليس بمغلّظ ليس بيمين ، ولكن على معنى الإرهاب على
__________________
الحالف ؛ فإنه
كلما ذكر بلسانه الله تعالى حدث له غلبة حال من الخوف ، وربما اقتضت له رعدة ، وقد يرهب بها على
المحلوف له ، كقوله صلى الله عليه وسلم لليهود : والله
الذي لا إله إلا هو ، فأرهب عليهم بالتوحيد ، لاعتقادهم أنّ عزيزا ابن الله.
والذي يتحصّل من
ذلك أن التشديد على وجه صحيح ؛ فإن المرء يعقد على المعنى بالقصد إليه ، ثم يؤكد
الحلف بقصد آخر ، فهذا هو العقد الثاني الذي حصل به التكرار أو التأكيد ، بخلاف
اللغو فإنه قصد اليمين وفاته التأكيد بالقصد الصحيح إلى المحلوف عليه.
المسألة الثامنة ـ
اليمين لا يقتضى تحريم المحلوف عليه عند علمائنا ، وبه قال الشافعى.
وقال أبو حنيفة :
يقتضى تحريم المحلوف عليه ، وقد بينا هذه المسألة في تلخيص الطريقتين المراقبة
والخراسانية على التمام.
وعند أبى حنيفة
أنّ من قال : حرّمت على نفسي هذا الطعام ، أو هذا الثوب لزمته الكفّارة ؛ لاعتقاده
أنّ اليمين تحرّم ، فركب عليه هذه المسألة.
ولما رأى علماؤنا
أن مسألة أبى حنيفة في تحريم الحلال مركبة على اليمين أنكروا له أنّ اليمين تحرّم
، وكان هذا لأنّ النظار تحملهم مقارعة الخصوم على النظر في المناقضات وترك التحقيق
، والنظار المحقّق يتفقد الحقائق ، ولا يبالى على من دار النظر ، ولا ما صحّ من
مذهب.
والذي نعتقده أنّ
اليمين تحرّم المحلوف عليه ؛ فإنه إذا قال : والله لا دخلت الدار فإن هذا القول قد
منعه من الدخول حتى يكفّر ، فإن أقدم على الفعل قبل الكفارة لزمه أداؤها ؛ والامتناع هو التحريم بعينه ،
والباري تعالى هو المحرّم وهو المحلل ، ولكن تحريمه يكون ابتداء كمحرمات الشريعة ، وقد يكون بأسباب يعلقها عليه من أفعال المكلفين ، كتعليق
التحريم بالطلاق ، والتحريم باليمين. ويرفع التحريم الكفارة مفعولة أو معزوما
عليها. ويرفع تحريم الطلاق النكاح بحسب ما رتّب سبحانه من الأحكام ، وبيّن من
الشروط. هذا لبابه ، وتمامه في التلخيص ، فلينظر فيه [باقى قسمي هذا الباب فإن فيه لغنية الألباب]
.
__________________
وأصحاب النبىّ صلى
الله عليه وسلم الذين كانوا قد اجتمعوا واعتقدوا تحريم الأطايب ، من الطعام
والزينة من الثياب واللذة من النساء حلفوا على ذلك ، ولأجله نزلت الآية فيهم ؛ وإن
كانوا لم يحلفوا ، ولكنهم اعتقدوا ، فقد دخلت مسألتهم في قسم اللغو ؛ وإذا أراد
أبو حنيفة أن يلحق قوله : حرّمت على نفسي الأكل ، بقوله : والله لا أكلت ، تبيّن
لكم نقصان هذا الإلحاق وفساده ؛ لأنه باليمين حرّم وأكد التحريم بذكر الله تعالى ،
وإذا قال : حرّمت على نفسي الأكل ، فتحريمه وحده دون ذكر الله تعالى كيف يلحق بالتحريم
المقرون بذكر الله تعالى بعد إسقاطه هذا الإلحاق ؟ لا يخفى تهاتره على أحد.
المسألة التاسعة ـ
روى نافع عن ابن عمر : إذا لم يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين ، وإذا أكدها أعتق
رقبة. قيل لنافع : ما التأكيد؟ قال : أن تحلف على الشيء مرارا ؛ وهذا تحكّم لا
يشهد له شيء من الأثر ولا من النظر.
المسألة العاشرة ـ
إذا انعقدت اليمين كما قدمنا حلّتها الكفارة أو الاستثناء ، وكلاهما رخصة من الله سبحانه.
فأما الاستثناء
فقال العلماء : إنه يكون متّصلا باليمين. واختلف فيه على ثلاثة أقوال:
الأول ـ أنه يكون
متصلا باليمين نسقا عليها لا يكون متراخيا عنها.
الثاني ـ قال محمد
بن الموّاز : يكون مقترنا باليمين اعتقادا أو بآخر حرف منها ، فإن بدا له بعد
الفراغ منها فاستثنى لم ينفعه ذلك.
الثالث ـ أنه يدرك
اليمين الاستثناء [ولو] بعد سنة ؛ قاله ابن عباس. وتعلّق بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) إلى آخر الآية إلى قوله : (مُهاناً) ـ فإنها نزلت ، فلما كان بعد عام نزل قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ ...).
وأما قول محمد
فإنه ينبنى على أن الاستثناء هل يحلّ اليمين بعد عقدها [أو يمنعها من الانعقاد؟
والصحيح أنه موضوع لحلّ اليمين] ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنى والله إن شاء الله ، [فجاء] فيها بالاستثناء بعد اليمين لفظا ـ فكذلك يكون عقدا.
__________________
وأما قول ابن عباس
فخارج عن اللغة. وأما قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ) ، فإن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وفي لوحه ؛
وإنما تأخّر نزولها لحكمة علم الله تعالى ذلك فيها ، فلا بتعلق بها ؛ أما إنه
يتركب عليها فرع حسن ، وهو أن الحالف إذا قال : والله لأدخلت الدار ، أو أنت طالق
إن دخلت الدار ، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه ، واستثنى في اليمين
الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة ولسبب أو لمشيئة أحد ، ولم يظهر
شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف له ، فإن ذلك ينفعه ولا ينعقد اليمينان عليه
وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة ، فإن حضرته بينة لم يقبل منه دعواه ، لئلا
يكون ندما.
وقد تيقنّا
التحريم بوقوع الطلاق ، فلا ينفعه دعواه الاستثناء ، وإنما يكون ذلك نافعا له وحده
إذا جاء مستفتيا.
(نكتة) كان أبو
الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام ، فكانت الكتب تأتى إليه من بلده ، فيضعها في صندوق ، ولا
يقرأ منها واحدا مخافة أن يطّلع فيها على ما يزعجه أو يقطع به عن طلبه ، فلما كان بعد خمسة
أعوام ، وقضى غرضا من الطلب ، وعزم على الرحيل شدّ رحله ، وأبرز كتبه ، وأخرج تلك
الرسائل وقرأ منها ما لو أنّ واحدة منها قرأها في وقت وصولها ما تمكّن بعدها من
تحصيل حرف من العلم ، فحمد الله تعالى ، ورحل على دابته قماشه ، وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان ، وتقدمه الكرى بالدابة ، وأقام هو على فامىّ يبتاع منه سفرته ؛ فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول
لفامىّ آخر : أى فل ، أما سمعت العالم يقول ـ يعنى الواعظ : إن ابن عباس يجوّز
الاستثناء ولو بعد سنة ، لقد اشتغل بالى بذلك منه منذ سمعته يقوله ، وظللت فيه
متفكّرا ، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب : (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً) (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا
تَحْنَثْ). وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذ : قل إن شاء الله؟
فلما سمعته يقول
ذلك قلت : بلد يكون الفاميّون به من العلم في هذه المرتبة اخرج
__________________
عنه إلى المراغة؟
لا أفعله أبدا ؛ واقتفى أثر الكرىّ ، وحلّله من الكراء ، وصرف رحله. وأقام بها حتى
مات رحمه الله.
المسألة الحادية
عشرة ـ في الأفضل : من استمرار البر في اليمين أو الحنث إلى الكفارة: في صحيح مسلم
: لأن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطى [عنها] كفارته التي فرض الله عليه.
وذلك يختلف بحسب
اختلاف حال المحلوف عليه ؛ فإن حلف ألّا يأتى أمرا لا يجوز فالبرّ واجب لقوله صلى
الله عليه وسلم في الصحيحين حين نبذ خاتم الذهب من يده وقا : والله لا ألبسه أبدا. ونبذ الناس خواتيمهم.
وإن حلف على مكروه
فالبرّ مكروه. وإن حلف على واجب عصى والحنث واجب. وإن حلف على مباح فإنه يجب النظر إليه : فإن كان
تركه مضرا وجب عليه الحنث. وإن كان في فعله منفعة استحبّ له الحنث. وفيه جاء قوله
: لأن يلجّ أحدكم في أهله بيمينه ... إلى آخره حسبما ثبت في الصحيحين.
المسألة الثانية
عشرة ـ في تقديم الكفّارة على الحنث :
لعلمائنا روايتان
: إحداهما يجوز ذلك له ؛ وبه قال الشافعى. وقال في الرواية الأخرى: لا يجوز ؛ وهو
مذهب أبى حنيفة. والمسألة طيولية قد أفضنا فيها عند ذكرنا مسائل الخلاف بالتحقيق
الكامل ، وهاهنا ما يحتمل بعض ذلك ، فنذكر منه ما يتعلّق بظاهر القرآن : قال ربنا
سبحانه وتعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) ، فعلّق الكفارة على سبب ، وهو الحلف.
وقال بعض العلماء
منّا ومنهم : معناه إذا حلفتم وحنثتم ؛ لأنّ الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم
يحنث لم يكن هنالك ما يرفع ، فلا معنى لفعلها ، لأنّ الكفارة لا ترفع المستقبل ،
وإنما ترفع الماضي من الإثم ، فهذا الذي يقتضيه ظاهر قولنا : الكفارة ، وهو الذي
أوجب أن تقدّر الآية بقوله : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم.
__________________
وتعلّق الذين
جوّزوا التقديم بأنّ اليمين سبب الكفارة ، والدليل عليه قوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا
حَلَفْتُمْ) ؛ فأضاف الكفارة إلى اليمين. والمعاني تضاف إلى أسبابها
وأكدوا ذلك بوجهين :
أحدهما ـ أنّ
الحنث قد يكون من غير فعله ، كقوله : والله لا جاء فلان غدا من سفره ، ولا طلعت
الشمس غدا.
الثاني ـ أن شهود
اليمين بالطلاق على الزوج إذا رجعوا وجب عليهم الصّداق ، ولو لا كون اليمين سببا
ما ضمنوا ما لا تعلّق له بالتفويت ؛ لأن التفويت على قولهم إنما يتعلق بالسبب الذي
هو الحنث لا باليمين.
وتعيّن علينا أن
ننظر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو آكد من النظر في الأداء ؛ لأنه
أولى ، وهي المحل الثاني ، فوجدنا الآثار في صحيح الحديث مختلفة في ذلك:
روى أبو موسى
الأشعرى وأبو هريرة وعدىّ بن حاتم وسمرة بن جندب ، قال أبو موسى : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
وإنى إن شاء الله
لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفّرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير.
وقد روى لنا فليأتها وليكفر عن يمينه. وفي رواية : فليكفر
عن يمينه وليفعل. قال عدى : فليكفّرها وليأت الذي هو خير ؛ فوجب الترجيح ؛ فكان تقديم الحنث
أولى ؛ لأنا إذا رددنا حديث تقديم الحنث إلى حديث تقديم الكفارة يسقطه ، وردّ حديث
تقديم الكفارة إلى تقديم الحنث يثبتهما جميعا. وأما المعاني فهي متعارضة ، فمن
أراد التلخيص منها فلينظرها في التلخيص
المسألة الثالثة
عشرة ـ ذكر الله عزّ وجل في الكتاب الخلال الثلاث مخيّرا فيها ، وعقّب عند عدمها
بالصيام ؛ فالخلة الأولى هي الإطعام ، وبدأ بها لأنها كانت الأفضل في بلاد الحجاز
لغلبة الحاجة فيها على الخلق ، وعدم شبعهم. ولا خلاف في أنّ كفارة اليمين على
التخيير ؛ وإنما اختلفوا في الأفضل من خلالها.
وعندي أنها تكون
بحسب الحال ؛ فإن علمت محتاجا فالإطعام أفضل ؛ لأنك إذا
__________________
أعتقت لم ترفع
حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم ، وكذلك الكسوة تليه ، ولما علم الله [غلبة] الحاجة بدأ بالمهم المقدّم.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) :
وقوله : «تطعمون»
يحتمل طعامهم بقية عمرهم ، ويحتمل غداء وعشاء. وأجمعت الأمّة على أكلة اليوم وسطا
في كفارة اليمين وشبعا في غيرها ، إلا أن أبا حنيفة قال : تتقدّر كفارة اليمين في
البرّ بنصف صاع ، وفي التمر والشعير بصاع. وأصل الكلام في المسألة أن الوسط في
لسان العرب ينطلق على الأعلى والخيار ، ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ؛ أى عدولا خيارا. وينطلق على منزلة بين منزلتين ، ونصفا
بين طرفين ، وإليه يعزى المثل المضروب : خير الأمور أوساطها.
وقد أجمعت الأمة
على أنّ الوسط بمعنى الخيار هاهنا متروك ، واتفقوا على أنه المنزلة بين الطرفين ،
فمنهم من جعلها معلومة عادة ، ومنهم من قدّرها كأبى حنيفة ، وإنما حمله على ذلك حديث
رواه أبو داود عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطيبا ، فأمر بصدقة الفطر ، صاع من تمر ، أو صاع من شعير على كل رأس ، أو صاع برّ
بين اثنين ، وبه أخذ سفيان وابن المبارك.
والذي ثبت في
الصحاح صاع من الكل من طريق ابن عمر وأبى سعيد ؛ وذلك كلّه مشهور. والذي أوقعه في
ذلك أنه أراد به الوسط من الجنس ، وذلك باطل بقوله تعالى : (ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ). وإنما يخرج الرجل مما يأكل.
وقد زلّت هاهنا
جملة من العلماء ؛ فقالوا : إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البرّ فليخرج مما
يأكل الناس ، وهذا سهو بيّن ، فإن المكفّر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلّف أن يعطى
لغيره سواه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : صاعا
من طعام ، صاعا من شعير ، صاعا من تمر. في موضع كان فيه الشعير والتمر أكثر من البرّ ، والبرّ أكثر
من الشعير والتمر ، فإنما فصّل ذكرهما ليخرج كلّ أحد فرضه مما يأكل منها ، وهذا
مما لا خفاء به.
__________________
ونحن نقول : أراد
به الجنس والقدر جميعا ، وذلك مدّ بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهو العدل من
القدر. وقد بيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم في كفارة الأذى فرقا بين ستة
مساكين. والفرق ثلاثة آصع ـ مجمل قوله صدقة ، ولم يجمل الله سبحانه وتعالى في كفارة اليمين
، بل قال : (مِنْ أَوْسَطِ ما
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ، وقد كان عندهم جنس ما يطعمون وقدره معلوما ، ووسط القدر
مدّ ، وأطلق في كفارة الظّهار فقال : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً) ، فحمل على الأكثر ، وهذه سبيل مهيع ، ولم يرد مطلق ذلك إلى مقيّده ، ولا عامّه إلى خاصه ، ولا
مجمله إلى مفسّره.
المسألة الخامسة
عشرة ـ لا بدّ عندنا وعند الشافعى من تمليك المساكين ما يخرج لهم ، ودفعه إليهم
حتى يتملّكوه ويتصرفوا فيه.
وقال أبو حنيفة :
لو غدّاهم وعشّاهم جاز ، وقد روى عن مالك مثله. وهو اختيار ابن الماجشون ؛ وهي
طيولية تكلّمنا عليها في مسائل الخلاف. وحقيقة المسألة أنّ عبد الملك قال : إن
التمكين من الطعام إطعام ، قال الله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً). فبأىّ وجه أطعمه دخل في الآية.
وأما غيره فقال :
إنّ الإطعام هو التمليك حقيقة ، قال تعالى (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا
يُطْعَمُ). وفي الحديث : أطعم
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس ؛ وذلك لأن «أطعم» من الأفعال المتعدّية إلى مفعولين ،
كقولنا أعطيته ، فيقول : طعم زيد ، وأطعمته ؛ أي جعلته يطعم ، وحقيقته بالتمليك
هذه بنيّة النظر للفريقين.
وتحريره أنّ الآية
محتملة للوجهين ، فمن يدّعى التمليك هو الذي يخصّص العموم فعليه الدليل ، ونخصّه
نحن بالقياس حملا على زكاة الفطر. قال النبي صلى الله عليه وسلم : أغنوهم عن سؤال هذا اليوم. فلم يجز فيه إلا التمليك. وهذا بالغ ، ولا سيما والمقصود من
الإطعام التمليك التام الذي يتمكّن منه المسكين من الطعام تمكن المالك ، كالكسوة ؛
__________________
وذلك لأنها أحد
نوعي الكفارة المدفوعة إلى المسكين ، فلم يجز فيها إلا التمليك ، أصله الكسوة وما
أقرب ما بينهما.
المسألة السادسة
عشرة ـ إذا دفعها إلى مسكين واحد لم يجزه ، وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة :
تجزيه ، وكذلك في كفارة الظهار ، وتعلّق بالآية وهي عكس الأولى ؛ لأن العموم معهم
، ونحن نفتقر إلى تخصيصه بالقياس ، ومعنا نحن ظاهر العدد وذكره وهم يحاولون إسقاطه
بالمعنى. وتحريره أنّ الله سبحانه قال : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً). فذكر الإطعام والمطعوم فتعيّنا.
فإن قيل : أراد
فعليه إطعام طعام ستين مسكينا.
قلنا : الإطعام
مصدر ، والمصدر مقدّر مع الفعل ، كما سبق في التحرير والصيام ، وكذلك هنا ، وما
قالوه من أنّ معناه فعليه إطعام طعام ستين مسكينا كلام من لا خبرة له باللسان ؛ فإن الإطعام يتعدى إلى مفعولين ، ولا ينتظم منهما مبتدأ
وخبر ، بخلاف مفعولي ظننت ، وما كان كذلك فيجوز فيه الاقتصار على أحدهما ، ولا
يجوز في مفعولي ظننت أن يقتصر على أحدهما أصلا ، فإن صرح بأحدهما وترك الآخر فهو
مضمر ؛ فأمّا أن يقدّر ما أضمر ويسقط ما صرّح فكلام غبى.
المسألة السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) :
قال الشافعى وأبو
حنيفة : أقلّ ما يقع عليه الاسم ، وقال علماؤنا : أقل ما تجزئ فيه الصلاة. وفي
رواية أبى الفرج عن مالك ، وبه قال إبراهيم ومغيرة : ما يستر جميع البدن بناء على
أنّ الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك. ولعل قول المخالف ما يقع عليه الاسم يماثل ما
تجزئ فيه الصلاة ؛ فإنّ مئزرا واحدا تجزئ فيه الصلاة ، ويقع به الاسم عندهم على
الأقل. وما كان أحرصنى على أن يقال : إنه لا يجزئ فيه إلا كسوة تستر عن أذى الحرّ والبرد ، كما أنّ عليه طعاما يشبعه من الجوع فأقول
به.
وأما القول بمئزر
واحد فلا أدريه ، والله يفتح لي ولكم في المعرفة بمعونته.
المسألة الثامنة
عشرة ـ لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة ؛ وبه قال الشافعى.
__________________
وقال أبو حنيفة :
تجزئ ، وهو يقول : تجزئ القيمة في الزكاة ، فكيف في الكفارة؟ وعمدته أن الغرض سدّ
الخلّة ، ورفع الحاجة ، فالقيمة تجزئ فيه.
قلنا : إن نظرتم
إلى سدّ الخلّة فأين العبادة؟ وأين نصّ القرآن على الأعيان الثلاثة والانتقال
بالبيان من نوع إلى نوع ؛ ولو كان المراد القيمة لكان في ذكر نوع واحد ما يرشد
إليه ويغنى عن ذكر غيره.
المسألة التاسعة
عشرة ـ إذا دفع الكسوة إلى ذمّى أو الطعام لم يجزه. وقال أبو حنيفة : يجزئ لأنه مسكين
يتناوله لفظ المسكنة ، ويشتمل عليه عموم الآية ، فعلينا التخصيص ، فتخصيصه بوجهين
: أحدهما أن نقول : هو كافر ، فلا يستحق في الكفارة حقّا كالحربي ، أو نقول : جزء من المال يجب إخراجه للمساكين ، فلا يجوز للكافر ،
أصله الزكاة. وقد اتفقنا معه على أنه لا يجوز دفعها للمرتدّ ، فكلّ دليل خص به
المرتد فهو دليلنا في الذمي.
المسألة الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ) :
سمعت عن البائس
أنه قال : يجزئ المعيب ، فإن أراد به العيب اليسير الذي لا يفسد جارحة ، ولا معظم
منفعتها ، كثلاثة أصابع من كفّ ، فلا بأس به. وإن أراد العيب المطلق فقد خسرت
صفقته ؛ لأن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : ما
من امرئ مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار ، كلّ عضو منه بعضو حتى
الفرج بالفرج ؛ ولأنّا لا نسلم
أنّ المعيب رقبة مطلقة.
المسألة الحادية
والعشرون ـ ولا تكون كافرة ، وإن كان مطلق اللفظ يقتضيها ؛ لأنها قربة واجبة ، فلا
يكون الكافر محلا لها كالزكاة. وقد بيناها في التلخيص ، وهي طيولية فلتنظر هناك.
المسألة الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) :
المعدم للقدرة على
ما ذكر الله سبحانه يكون لوجهين : إما لمغيب المال عن الحالف ،
__________________
أو لعدم ذات اليد
؛ فإن كان لمغيب المال فحيث كان ثاويا كان كعدمه ، وإن كان في بلد آخر ، ووجد من يسلفه لم يجزه
الصوم ، وإن لم يجد من يسلفه اختلف فيه ؛ فقيل : ينتظر إلى بلده ، وذلك لا يلزمه ؛
بل يكفّر بالصيام في موضعه ، ولا ينبغي أن يلتفت إلى غيره ؛ لأن الوجوب قد تقرّر
في الذمة ، والشرط من العدم قد تحقق ، فلا وجه لتأخير الأمر.
المسألة الثالثة
والعشرون ـ في تحديد العدم :
قال سعيد بن جبير
: من لم يجد : من لم يكن عنده إلا ثلاثة دراهم. وقال الحسن : درهمان. وقيل : من لم
يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش منه مع عياله فهو الذي لم يجد.
وقيل : من لم يكن
له إلا قوت يومه وليلته ، وبه قال الشافعى واختاره الطبري ؛ فهذه أربعة أقوال ليس
لواحد منها دليل يقوم عليه ، ولا سيما من قال بدرهم ودرهمين.
والذي عندي أنه إن
لم يقدر أطعم كلّ يوم أو كل جمعة مسكينا حتى يتمّ كفارته.
وأما الكسوة فلا
يعطيها إلا من كان له فوق قوت سنة.
وأما الرّقبة فقد
تفطّن مالك للحق ، فقال : إن من لم يملك إلا رقبة أو دارا لا فضل فيهما ؛ أو عرضا ثمن رقبة لم يجزه إلا العتق ، فذكر الدار
والعرض والرقبة.
وهذا يدلّ على أنّ
هنالك رمقا ، لكن لم يذكر ما معه غيرهما ، هل يعتق الرقبة التي كانت تعيشه بخراجها
وكسبها أم عنده فضل غيرها؟ فإن كانت الرقبة هي التي كانت تعيشه بخراجها فلا سبيل إلى
عتقها.
وبالجملة المغنية
عن التفصيل ذلك على التراخي ، وليس على الفور فليتريّث في ذلك حتى يفتح الله له أو
يغلب على ظنّه الفوت أو يؤثر العتق ، أو الإطعام بسبب يدعوه إلى ذلك.
المسألة الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ) :
قرأها ابن مسعود
وأبىّ متتابعات . وقال مالك والشافعى : يجزئ التفريق ؛ وهو الصحيح ؛ إذ التتابع صفة لا
تجب إلا بنصّ أو قياس على منصوص ، وقد عدما في مسألتنا.
__________________
المسألة الخامسة
والعشرون ـ قال علماؤنا : يعطى في الكفارة الخبز ، والإدام زيت أو كشك أو كامخ أو
ما تيسّر ، وهذه زيادة ما أراها عليه واجبة.
أما إنه يستحب له
أن يطعم مع الخبز السكر نعم واللحم ، وأما تضمين الإدام للطعام معنى يتضمنه لفظه
فلا سبيل إليه.
المسألة السادسة
والعشرون ـ قال أحد بن حنبل : بدأ الله في كفارة اليمين بالأهون ، لأنها على
التخيير ، فإذا شاء انتقل إلى الأعلى وهو الإعتاق ، وبدأ في الظّهار بالأشد ؛ لأنه
على الترتيب ؛ فإن شاء أن ينتقل لم يقدر ، وهذا إنما يصحّ له تأويلا بالعراق حيث
البرّ ثلاثمائة رطل بدينار إذا طلب ، فإذا زهد فيه لم يكن له ثمن. فأما بالحجاز
حيث البرّ فيه إذا رخص أربعة آصع وخمسة آصع بدينار فإن العبد فيه أرخص ، والحاجة
إلى الطعام أعظم ، فقد يوجد فيها عبد بدينار ، ولكن يخرجه من الرق إلى الجوع ،
ويتفادى منه سيده.
المسألة السابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) :
يحتمل ثلاثة معان
:
الأول ـ احفظوها ،
فلا تحلفوا فتتوجّه عليكم هذه التكليفات.
الثاني ـ احفظوها
إذا حنثتم ؛ فبادروا إلى ما لزمكم.
الثالث ـ احفظوها
فلا تحنثوا ؛ وهذا إنما يصحّ إذا كان البرّ أفضل أو الواجب ، والكل على هذا من
الحفظ صحيح على وجهه المذكور وصفته المنقسمة إليه ، فليركب على ذلك ، والله أعلم.
الآية الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) :
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أنّ عمر قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فإنها تذهب
العقل والمال ، فنزلت الآية التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ). فدعى
__________________
عمر ، فقرئت عليه
، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في النساء : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ) ؛ فدعى عمر ، فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر
بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) ـ إلى قوله : (مُنْتَهُونَ) ؛ فدعى عمر ، فقرئت عليه ، فقال : انتهينا. انتهينا.
وروى أنّ الآية
نزلت في ملاحاة جرت بين سعد بن أبى وقّاص ورجل من الأنصار. وهما على شراب لهما ،
وقد انتشيا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فأخذ الأنصارى لحي جمل فضرب به أنف سعد بن
أبى وقاص ففزره ، فنزلت الآية.
وروى أن ذلك
الأنصارى كان عتبان بن مالك ، روى ذلك الطبري والترمذي وغيرهما.
وهذا ليس بمتعارض
؛ لأنه يمكن أن يجرى بين سعد وبين عتبان ما يوجب نزول الآية كما روى الطبري ،
فيدعى عمر فتقرأ عليه ، كما روى الترمذي.
المسألة الثانية ـ
في تحقيق اسم الخمر والأنصاب والأزلام. وقد تقدم بيان ذلك في سورة البقرة ، وصدر هذه السورة.
وأما الميسر فهو
شيء محرّم لا سبيل إلى عمله ، فلا فائدة في ذكره ؛ بل ينبغي أن يموت ذكره ويمحى
رسمه.
المسألة الثالثة ـ
في قوله تعالى : (رِجْسٌ) :
وهو النّجس ، وقد
روى في صحيح حديث الاستنجاء
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أتى بحجرين وروثة ، فأخذ الحجرين وألقى الرّوثة ،
وقال : إنها ركس ، أى نجس.
ولا خلاف في ذلك
بين الناس إلّا ما يؤثر عن ربيعة أنه قال : إنها محرمة ، وهي طاهرة ، كالحرير عند
مالك محرّم ، مع أنه طاهر. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، الرجس
النّجس ، الخبيث المخبث.
ويعضد ذلك من طريق
المعنى أنّ تمام تحريمها وكمال الرّدع عنها الحكم بنجاستها حتى
__________________
يتقذرها العبد ،
فيكفّ عنها ، قربانا بالنجاسة وشربا بالتحريم ، فالحكم بنجاستها يوجب التحريم.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوهُ) :
يريد أبعدوه ،
واجعلوه ناحية ؛ وهذا أمر باجتنابها ، والأمر على الوجوب لا سيما وقد علق به
الفلاح.
الآية الثالثة
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ
أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ نزلت
في قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا ، فعبث بعضهم ببعض ، فلما صحوا ،
ورأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فجعل
الرجل يقول : لو كان أخى بي رحيما ما فعل هذا بي ، فحدثت بينهم الضغائن ، فأنزل
الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ
الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ...) الآية.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) : كما فعل بعلىّ ، وروى : بعبد الرحمن بن عوف ـ في الصلاة
حين أمّ الناس ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، وأنا عابد ما عبدتم.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) :
فقال عمر :
انتهينا. حين علم أنّ هذا وعيد شديد ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن
ينادى في سكك المدينة : ألا إن الخمر قد حرمت ؛ فكسرت الدّنان ، وأريقت الخمر حتى
جرت في سكك المدينة ، وما كان خمرهم يومئذ إلا من البسر والتمر ، وهذا ثابت صحيح.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) :
وهذا تأكيد
للتحريم ، وتشديد في الوعيد. قال : فإن تولّيتم فليس على الرسول
__________________
إلا البلاغ ،
فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين. أمّا عقاب التولية والمعصية فعلى المرسل
لا على الرسول.
الآية الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا
اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) :
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى البخاري عن
أنس قال : كنت ساقى القوم في منزل أبى طلحة ، فنزل تحريم الخمر ،
فأمر مناديا ينادى ؛ فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال : فخرجت ، فقلت : هذا مناد
ينادى : ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي : اذهب فاهرقها ، وكان الخمر من الفضيخ . قال : فجرت في سكك المدينة. فقال بعض القوم : قتل قوم وهي
في بطونهم. قال : فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ...) ـ إلى قوله : (الْمُحْسِنِينَ). وقد روى نحوه صحيحا عن البراء أيضا.
المسألة الثانية ـ
نزلت الآية فيمن شرب الخمر ، ثم قال فيه : إذا ما طعموا ؛ فكان ذلك دليلا على
تسمية الشراب طعاما ، وقد قدّمنا ذلك في سورة البقرة.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (إِذا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) إلى : (الْمُحْسِنِينَ).
اختلف فيها على
ثلاثة أقوال :
الأول ـ اتقوا في
اتّباع الأمر واجتناب النهى ، واتقوا في الثبات على ذلك ، واتقوا في لزوم النوافل
؛ وهو الإحسان إلى آخر العمر.
الثاني ـ اتقوا
قبل التحريم في غيرها من المحرمات ، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ، ثم اتقوا في
الذي بقي من أعمارهم ، فاجتنبوا العمل المحرم.
__________________
الثالث ـ اتقوا
الشّرك ، وآمنوا ، ثم اتقوا الحرام ، ثم اتقوا ترك الإحسان ، فيعبدون الله ، وإن
لم يروه كأنهم يرونه.
وقد صرفت فيها
أقوال على قدر وظائف الشريعة يكثر تعدادها ، وأشبهها بالقرآن والسنة ما رواه
الدّارقطنيّ عن ابن عباس : أنّ الشّرّاب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالأيدى والنّعال وبالعصىّ حتى توفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكانوا في خلافة أبى بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان
أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفّى ، فكان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين ، ثمّ أتى
برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب ، فأمر به أن يجلد ، فقال : أتجلدني! بيني
وبينك كتاب الله. فقال عمر : أفي كتاب الله تجد ألّا أجلدك؟ فقال : إن الله تعالى يقول : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ...) الآية ؛ فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا
وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا
والخندق والمشاهد كلها.
فقال عمر : ألا
تردّون عليه ما يقول؟ فقال ابن عباس : إن هذه الآيات أنزلت عذرا لمن صبر وحجة على
الناس ؛ لأن الله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) الآية ، ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى ؛ فإن كان من الذين
آمنوا وعملوا الصالحات فإن الله تعالى قد نهاه أن يشرب الخمر.
فقال عمر : صدقت ، ماذا ترون؟ فقال علىّ : إنه إذا
شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفترى جلد ثمانين. [فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة].
وروى البخاري عن
عبد الله بن عيّاش بن أبى ربيعة ، قال : استعمل عمر قدامة بن مظعون على البحرين ،
وقد كان شهد بدرا ، وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ زاد
البرقاني : فقدم الجارود من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قدامة ابن
مظعون قد شرب مسكرا ، وإنى إذا رأيت حدا من حدود الله تعالى حقّ علىّ أن أرفعه إليك.
فقال له عمر : من يشهد لي على ما تقول؟ فقال : أبو هريرة.
__________________
فدعا عمر أبا
هريرة فقال : علام تشهد با أبا هريرة؟ فقال : لم أره حين شرب ، وقد رأيته سكران
بقي. فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة.
ثم كتب عمر إلى
قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه. فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلّم
الجارود عمر ، فقال له : أقم على هذا كتاب الله فقال عمر للجارود : أشهيد أنت أم
خصم؟ فقال الجارود : أنا شهيد. قال : قد كنت أدّيت الشهادة. فسكت الجارود ، ثم قال
: لتعلمنّ أنى أنشدك الله. فقال عمر : أما والله لتملكنّ لسانك أو لأسوءنّك. فقال
الجارود : أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءنى : فتوعّده عمر.
فقال أبو هريرة ـ وهو
جالس : يا أمير المؤمنين ، إن كنت تشكّ في شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن
مظعون. فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله ، فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة.
فقال عمر : يا قدامة ؛ إنى جالدك. فقال قدامة : والله لو شربت كما تقولون ما كان
لك أن تجلدنى يا عمر. قال : لم يا قدامة؟ قال : لأن الله سبحانه يقول : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ...) الآية إلى : (الْمُحْسِنِينَ). فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ؛ إذا اتقيت الله
اجتنبت ما حرّم الله.
ثم أقبل عمر على
القوم فقال : ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم : لا نرى أن تجلده مادام وجعا ، فسكت عمر عن جلده أياما ، ثم أصبح يوما وقد عزم على جلده
، فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة؟ فقالوا : لا نرى أن تجلده مادام وجعا.
فقال عمر: إنه والله لأن يلقى الله وهو تحت السوط أحبّ إلىّ من أن ألقى الله وهي
في عنقي ، والله لأجلدنّه ، ائتوني بسوط. فجاء مولاه أسلم بسوط رقيق صغير ، فأخذه
عمر فمسحه بيده ، ثم قال لأسلم : قد أخذتك بإقرار أهلك ، ائتوني بسوط غير هذا. قال : فجاءه أسلم بسوط تام ،
فأمر عمر بقدامة فجلد ، فغاضب قدامة عمر وهجره ، فحجّا وقدامة مهاجر
__________________
لعمر ، حتى قفلوا
من حجّهم ، ونزل عمر بالسّقيا ونام بها ؛ فلما استيقظ عمر قال : عجّلوا علىّ بقدامة ،
انطلقوا فأتونى به ، فو الله أنى لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال لي : سالم قدامة
فإنه أخوك. فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه ؛ فأمر عمر بقدامة أن يجرّ إليه جرّا
حتى كلمه عمر واستغفر له ، فكان أول صلحهما.
فهذا يدلّك على
تأويل الآية ، وما ذكر فيه عن ابن عباس في حديث الدارقطني وعمر في حديث البرقاني ،
وهو صحيح. وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره لا يحدّ على الخمر ما
حدّ أحد ، فكان هذا من أفسد تأويل ، وقد خفى على قدامة ، وعرفه من وفّقه الله له
كعمر وابن عباس ، والله أعلم.
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا
|
|
على شجوه إلّا بكيت على عمر
|
الآية الخامسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ
ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وقد قيل : إنها
نزلت في غزوة الحديبية ، أحرم بعض الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم
بعضهم ؛ فكان إذا عرض صيد اختلفت فيه أحوالهم ، واشتبهت أحكامه عليهم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية
بيانا لأحكام أحوالهم وأفعالهم ومحظورات حجّهم وعمرتهم.
المسألة الثانية ـ
هذه الآية عامة في الذكور والإناث ، خاطب الله سبحانه بها كلّ مسلم منهم ، وكذلك
الآية التي بعدها ، وقد ذكرنا في مسائل الأصول هذه الترجمة ، وبيّنا حقيقتها ، وأوضحنا ـ فيما تقدّم ـ معناها
في كل آية تجرى عليها.
المسألة الثالثة ـ
اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين :
__________________
أحدهما ـ أنهم
المحلّون ؛ قاله مالك.
الثاني ـ أنهم
المحرمون ؛ قاله ابن عباس وغيره ، وتعلّق من عمّم بأن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مطلق في الجميع.
وتعلق من خصّ بأن
قوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) يقتضى أنهم المحرمون ؛ فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به
الابتلاء هو مع الإحرام.
وهذا لا يلزم ؛
لأنّ قوله : ليبلونّكم ، الذي يقتضى التكليف يتحقق في المحلّ بما شرط له من أمور
الصيد ، وما شرع له من وظيفة في كيفية الاصطياد ، والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في
الكثرة والقلة ، وتباين في الضعف والشدة.
المسألة الرابعة ـ
قال قوم : الأصل في الصّيد التحريم ، والإباحة فرعه المرتّب عليه ، وهذا ينعكس
فيقال : الأصل في الصيد الإباحة والتحريم فرعه المرتّب عليه ، ولا دليل يرجّح أحد
القولين به.
ونحن نقول : لا
أصل في شيء إلا ما أصله الشرع بتبيان حكمه وإيضاح الدليل عليه من حلّ أو تحريم ،
ووجوب أو ندب أو كراهية ، وقد بينّا هذا في مسألة الأكل لما أكله الكلب من الصيد ،
حتى قيل الأصل في الصيد التحريم. وإذا أكل الكلب من الصيد فهو مشكوك فيه. وقلنا :
إنّ الأصل في الصيد الإباحة فلا يحرّمه أكل الكلب منه إلا بدليل. ثم ذكرنا التعارض
فيه والانفصال عنه ، فلينظر في موضعه.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِماحُكُمْ) بيان لحكم صغار الصيد وكباره.
قال ابن وهب : قال
مالك : قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) ؛ فكل شيء يناله الإنسان بيده ، أو برمحه ـ أو بشيء من
سلاحه فقتله ، فهو صيد ، كما قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، وهذا بيان شاف.
__________________
المسألة السادسة ـ
قال مالك : لا يحلّ صيد الذمّىّ بناء على أنّ الله خاطب المؤمنين المحلّين في أول
الآية ، فخرج عنهم أهل الذمة ، لاختصاص المخاطبين بالإيمان ، فيقتضى ذلك اقتصاره
عليهم إلا بدليل يقتضى التعميم.
وليس هذا من باب
دليل الخطاب الذي هو تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء ، ليدلّ على أنّ الآخر بخلافه ،
ولكنه من باب أنّ أحد الوصفين منطوق به ، مبيّن حكمه ، والثاني مسكوت عنه ، وليس
في معنى ما نطق به.
فإن قيل : إن كان
مسكونا عنه فحمله عليه بدليل قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ، وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).
قلنا : هذا يدلّ
على جواز أكل طعامهم. والصيد باب آخر ؛ فلا يدخل في عموم ذكر الطعام ، ولا يتناوله
مطلق لفظه.
فإن قيل : نقيسه
عليه ؛ فإنه نوع ذكاة ، فجاز من الذمي كذبح الإنسى.
قلنا : للمقدور
عليه مما يذكّى شروط ، ولما لا يقدر عليه شروط أخر ؛ ولكل واحد منهما موضوع وضع
عليه ، ومنصب جعل عليه ، ولا يجوز الإلحاق فيما اختلف موضوعه في الأصل ؛ وهذا فنّ
من أصول الفقه بيناه في موضعه.
المسألة السابعة ـ
أمّا صيد المجوسىّ فإنه لا يؤكل إجماعا ؛ لأنّ الصّيد الواقع منه داخل تحت قوله تعالى
: (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ؛ والمجوسىّ إنما يزعم أنه يأكل ويشرب ، ويتحرّك ويسكن ،
ويفعل جميع أفعاله لغير الله سبحانه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا ذكرت اسم الله
على كلبك المعلّم فكل.
فإن قيل : فالذمىّ
لا يذكر اسم الله ويؤكل صيده.
قلنا : لا يؤكل
صيد الذمي في أحد القولين فيسقط عنا هذا الالتزام. وإن قلنا : إنه يؤكل فلمطلق قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) على أحد الأدلة ، وعلى الدليل الثاني نأكله لأنهم لم يخاطبوا بفروع
الشريعة. وعلى الدليل الثالث يكون
__________________
كمتروك التسمية
عمدا على أحد القولين. وهذا كلّه متردّد على الآيات بحكم التعارض فيها.
والصحيح عندي جواز
أكل صيده ، وأنّ الخطاب في الآية لجميع الناس محلّهم ومحرمهم ؛ ولأجل هذا قال قاضى
القضاة ابن حبيب : إن معنى قوله : ليبلونّكم ، ليكلفنكم. ثم بيّن التكليف بعده
فقال ؛ وهي :
الآية السادسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً
فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ
هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ
صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ
فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).
فيها ثمان وثلاثون
مسألة :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها ، وقد تقدم .
المسألة الثانية ـ
في قوله : (لا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ) :
والقتل : كلّ فعل
يفيت الروح ، وهو أنواع : منها الذّبح والنّحر ، والخنق والرضخ وشبهه ؛ فحرّم الله
تعالى على المحرم في الصيد كلّ فعل يكون مفيتا للروح ، وحرّم في الآية الأخرى نفس
الاصطياد ؛ فقال : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ؛ فاقتضى ذلك تحريم كل فعل يتعلق بعين الصيد ؛ لأنّ
التحريم ليس بصفة للأعيان والذوات ، وإنما هو عبارة عن تعلّق خطاب الشارع بالأعيان ، فالمحرم هو المقول فيه : لا تقربوه ، والواجب هو المقول فيه : لا
تتركوه ، كما بيّناه في أصول الفقه.
المسألة الثالثة ـ
لما نهى الله سبحانه المحرم عن قتل الصيد على كل وجه وقع عاما. قال علماؤنا : لا
يجوز ذبح المحرم للصيد على وجه التذكية ؛ وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعى :
ذبح المحرم للصيد ذكاة ؛ وتعلّق بأنه ذبح صدر من أهله ، وهو المسلم ، مضافا إلى
محله وهو الأنعام ، فأفاد مقصوده من حلّ الأكل من أصله ذبح الحلال.
__________________
والجواب أن هذا
بناء على دعوى ؛ فإنّ المحرم ليس بأهل لذبح الصيد ؛ إذ الأهلية لا تستفاد عقلا ،
وإنما يفيدها الشرع ، وذلك بإذنه في الذبح ؛ أو ينفيها الشرع أيضا ؛ وذلك بنهيه عن
الذبح. والمحرم منهىّ عن ذبح الصيد بقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ؛ فقد انتفت الأهلية بالنهى.
وأما قولهم :
فأفاد مقصوده ، فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحلّ له أكله ؛ وإنما يأكل منه عندهم غيره ، فإذا كان الذبح لا يفيد
الحلّ للذابح فأولى وأحرى ألّا يفيده لغيره ؛ لأنّ الفرع تبع للأصل في أحكامه ،
فلا يصحّ أن يثبت له ما لا يثبت لأصله.
وإذا بطل منزع
الشافعىّ ومأخذه فقد اعتمد علماؤنا سوى ما تقدّم ذكره على أنه ذبح محرّم لحقّ الله
تعالى لمعنى في الذابح ، فلا يجوز كذبح المجوسي ، وهذا صحيح. فإن الذي قال : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) هو القائل : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). والأوّل نهى عن المقصود بالسبب ؛ فدلّ على عدم السبب.
والثاني نهى عن السبب ، فدلّ على عدمه شرعا ، فلا يفيد مقصوده حكما ، وهذا من نفيس
الأصول فتأمّلوه.
وقول علمائنا :
لمعنى في الذابح فيه احتراز من السكين المغصوبة والكالّة وملك الغير ، فإن كلّ ذلك من التذكية منهىّ عنه ،
ولكنه لما لم يكن لمعنى في الذابح ولا في المذبوح لم يحرّم.
المسألة الرابعة ـ
لما قال الله تعالى : (لا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ؛ فجعل القتل منافيا للتذكية خارجا عن حكم الذبح للأكل ـ قال
علماؤنا : إذا قال : لله علىّ أن أقتل ولدي فهو عاص ، ولا شيء عليه. وإذا قال :
لله علىّ أن أذبح ولدي فإنه يفتديه بشاة على تفصيل بيانه في مسائل الخلاف ، وسيأتى
إن شاء الله تعالى في سورة الصافات بيانه.
__________________
والمقدار المتعلق
منه هاهنا بهذا الموضع أنّ القتل ليس من أنواع التذكية بمطلقه ولا الخنق ، ولا
يعدّ من باب الذبح أو النحر اللذين شرعا في الحيوان المأكول لتطييبه.
المسألة الخامسة ـ
لما قال الله تعالى : (لا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) جرى عمومه على كلّ صيد برّى وبحرى ، حتى جاء قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
ما دُمْتُمْ حُرُماً) ؛ فأباح صيد البحر إباحة مطلقة ، وحرّم صيد البرّ على
المحرمين ؛ فصار هذا التقسيم والتنويع دليلا على خروج صيد البحر من النهى.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عامّ في التحريم بالزمان ، وفي التحريم بالمكان ، وفي
التحريم بحالة الإحرام ، إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا ،
وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عامّ في كل صيد كان ، مأكولا أو غير مأكول ، سبعا أو غير
سبع ، ضاريا أو غير ضار ، صائلا أو ساكنا ؛ بيد أن العلماء اختلفوا في خروج السباع
عنه وتخصيصه منها ؛ فقال علماؤنا : يجوز للمحرم قتل السباع العادية المبتدئة
بالمضرّة كالأسد والنمر والذئب والفهد والكلب العقور وما في معناها ، ومن الطير
كالغراب والحدأة ؛ ولا جزاء عليه فيه.
وقال أبو حنيفة
بقولنا في الكلب العقور والذئب والغراب والحدأة ، وخالفنا في السبع والفهد والنمر
وغيرها من السباع ، فأوجب على المحرم الجزاء بقتلها.
وقال الشافعى :
كلّ ما لا يؤكل لحمه فلا جزاء فيه إلا السّمع وهو المتولّد بين الذئب والضبع.
ودليلنا قوله صلى
الله عليه وسلم : خمس
ليس على المحرم في قتلهنّ جناح. وفي رواية: يقتلن
في الحلّ والحرم : الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور. وفي رواية : الحية
والكلب العقور ، خرّجه الأئمة
بأجمعهم. وفيه الغراب الأبقع ؛ خرّجه مسلم ،
وفيه السبع العادي ، خرّجه أبو داود والترمذي ، وهذا تنبيه على العلّة وعلى
الأجناس.
__________________
أما العلّة فهي
الفسق بالإذاية ، وأما الأجناس فنبّه بكل مذكور على نوع من الجنس وذكر الكلب العقور
، وذلك مما يدخل تحته بعلة العقر الفهد والنمر والسبع ، ولا سيما بالنص عليه من
طريق السجزى والترمذي.
والعجب من أبى
حنيفة في أن يحمل التراب على البرّ بعلّة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على
الكلب العقور بعلّة الفسق والعقر.
وأما الشافعىّ
فإذا قلنا بأن لحمها لا يؤكل فهي معقورة لا جزاء فيها ؛ لأن ما لا يؤكل لحمه لا
جزاء فيه كالخنزير.
وأما إن قلنا :
إنها تؤكل ففيها الجزاء لأنها صيد مأكول.
وسيأتى القول في
أكلها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
وتعلّق أبو حنيفة
بأنه صيد تتناوله الآية بالنّهى والجزاء بعد ارتكاب النهى ؛ والدليل على أنه صيد
أنه يقصد لأجل جلده ، والجلد مقصود في المالية ، كما أن اللحم مقصود في الأكل.
قلنا : لا تسمّى
العرب صيدا إلّا ما يؤكل لحمه.
فإن قيل : بل كانت
الحيوانات كلها عند العرب صيدا.
فإنها كانت تأكل
كلّ ما دبّ ودرج ، ثم جاء الشرع بالتحريم ، فغيّر الشرع الأحكام دون الأسماء.
قلنا : هذا جهل
عظيم ، إن الصيد لا يعرف إلا فيما يؤكل. وقولهم : إن الشرع غيّر الأحكام دون
الأسماء ـ باطل ؛ لأنّ الأحكام تابعة للأسماء ، وقد روى ابن أبى عمار أنه قال لجابر بن عبد الله : الضبع أصيد هي؟ قال : نعم.
قال : فيها جزاء؟ قال : نعم ، كبش.
وهذا يدلّ على أنه
سأله عن جواز أكلها ، وبعد ذلك سأله عن جزائها.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عامّ في الرجال والنساء ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). ولقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). وقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) : علم في النوعين.
__________________
وقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وجمع ذلك حرم ، كقولنا : قذال
وقذل . وكذلك يدخل في عمومه الأحرار والعبيد ، وهي :
المسألة التاسعة ـ
وقد بينا هذه المعاني في كتب الأصول.
المسألة العاشرة ـ
قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فذكر الله سبحانه وتعالى المتعمّد في وجوب الجزاء خاصة ،
وفي ذلك ثلاثة أقسام : متعمّد ، ومخطئ ، وناس ؛ فالمتعمّد هو القاصد للصيد مع
العلم بالإحرام ، والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا. والناسي هو الذي يتعمّد
الصيد ولا يذكر إحرامه.
واختلف الناس في
ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه يحكم
عليه في العمد والخطأ والنسيان ؛ قاله ابن عباس ، ويروى عن عمر وعطاء والحسن
وإبراهيم النخعي والزهري.
الثاني ـ إذا قتله
متعمّدا لقتله ، ناسيا لإحرامه ؛ فأما إذا كان ذاكرا لإحرامه فقد حلّ ولا حجّ له ،
ومن أخطأ فذلك الذي يجزى.
الثالث ـ لا شيء
على المخطئ والناسي ، وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه.
واختلف الذين
قالوا بعموم الكفّارة في توجيه ذلك على أربعة أقوال :
الأول ـ أنه ورد
القرآن بالعمد ، وجعل الخطأ تغليظا ، قاله سعيد بن جبير.
والثاني ـ أنّ
قوله : (مُتَعَمِّداً) خرج على الغالب ، فالحق به النادر ، كسائر أصول الشريعة.
الثالث ـ قال
الزهرىّ : إنه وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسّنة.
الرابع ـ أنه وجب بالقياس
على قاتل الخطأ بعلّة أنها كفّارة إتلاف نفس ؛ فتعلّقت بالخطإ ، ككفّارة القتل ؛
وتعلق مجاهد بأنه أراد متعّمدا للقتل ناسيا لإحرامه ، لقوله بعد ذلك : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة.
__________________
وتعلق أحمد في
إحدى روايتيه ومن تابعه عليها بأنه خصّ المتعمد بالذكر ، فدلّ على أنّ غيره بخلافه
، وزاد بأن قال : الأصل براءة الذمة ، فمن ادّعى شغلها فعليه الدليل.
وأما متعلق من قال
: وجب في النسيان تغليظا فدعوى تحتاج إلى دليل.
وأما من قال : إنه
خرج على الغالب فحكمة الآية وفائدة التخصيص ما قالوه ، فأين دليله؟
وأما من قال : إنه
وجب في النسيان بالسنة فإن كان يريد به الآثار التي وردت عن ابن عباس وابن عمر
فنعمّا هي ، وما أحسنها أسوة !
وأما من تعلق
بالقياس على كفارة القتل فيصحّ ذلك للشافعي الذي يرى الكفارة في قتل الآدمي عمدا
وخطأ ، فأما نحن ـ وقد عقدنا أصلنا على أن قتل العمد في الآدمي لا كفارة فيه ، وفي
قتل الصيد عمدا الكفارة ـ فلا يصحّ ذلك منا لوجود المناقضة منا بالمخالفة فيه بينه
وبينه عندنا.
والذي يتحقق من
الآية أنّ معناها أنّ من قتل الصيد منكم متعمّدا لقتله ناسيا لإحرامه ، أو جاهلا
بتحريمه ، فعليه الجزاء ؛ لأن ذلك يكفى لوصف التعمد ، فتعلق الحكم به ، لاكتفاء المعنى معه. وهذا دقيق
فتأمّلوه.
فأما إذا قتله
متعمّدا للقتل والإحرام فذلك أبلغ في وصف العمدية ؛ لكن من الناس من قال : لا حجّ
له.
وهذه دعوى لا
يدلّك عليها دليل من ظاهر القرآن ولا من السنة ولا من المعنى ، وسنستوفى بقية القول في آخر الآية إن شاء الله.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) :
الجزاء في اللغة
هو المقابل للشيء ، وتقدير الكلام : فعليه جزاء في مقابل ما أتلف وبدل منه ؛ وقد حققنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى
معرفة غوامض النحويين ، وقد تقدم أمثاله قبل هذا ، وعليه يحمل جزاء الأعمال ؛ لأنه
في مقابلتها ثوابا بثواب وعقابا بعقاب ، ودرجات ؛ ودركات ، وذلك محقّق في كتاب
المشكلين.
__________________
المسألة الثانية
عشرة ـ «مثل» :
قرئ بخفض مثل على
الإضافة إلى «فجزاء». وبرفعه وتنوينه صفة للجزاء ؛ وكلاهما صحيح رواية ، صواب معنى
، فإذا كان على الإضافة اقتضى ذلك أن يكون الجزاء غير المثل ؛ إذ
الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وإذا كان على الصفة برفعه وتنوينه اقتضى ذلك أن يكون
المثل هو الجزاء بعينه ، لوجوب كون الصفة عين الموصوف ؛ وسترى ذلك فيما بعد مشروحا
إن شاء الله.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (مِنَ النَّعَمِ) :
قد بينا في ملجئة
المتفقهين درجات حرف من ، وأنّ من جملتها بيان الجنس ، كقولك: خاتم من حديد ،
وقدمنا قول أبى بكر السراج في شرح كتاب سيبويه الذي أوقفنا عليه شيخ السنة في وقته
أبو على الحضرمي رحمه الله : إنها لا تكون للتبعيض بحال ، ولا في موضع ، وإنما يقع
التبعيض فيها بالقرينة ، فجاءت مقترنة بقوله : (مِنَ النَّعَمِ) ؛ لبيان جنس مثل المقتول المفدى ، وأنه من الإبل والبقر والغنم. والله أعلم.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) :
قد تقدم تحقيقه ،
ومثل الشيء حقيقته وهو شبهه في الخلقة الظاهرة ، ويكون مثله في معنى ، وهو
مجازه ؛ فإذا أطلق المثل اقتضى بظاهره حمله على الشبه الصّورى دون المعنى ، لوجوب الابتداء بالحقيقة في مطلق الألفاظ قبل المجاز حتى
يقتضى الدليل ما يقضى فيه من صرفه عن حقيقته إلى مجازه ؛ فالواجب هو المثل الخلقي
؛ وبه قال الشافعى.
وقال أبو حنيفة :
إنما يعتبر بالمثل في القيمة دون الخلقة.
والدليل على صحة
ما ذهبنا إليه الآية المتقدمة ، وذلك من أربعة أوجه :
الأول ـ ما
قدّمناه من أنّ المثل حقيقة هو المثل من طريق الخلقة.
الثاني ـ أنه قال
: (مِنَ النَّعَمِ) ؛ فبيّن جنس المثل ، ولا اعتبار عند المخالف بالنعم بحال.
__________________
الثالث ـ أنه قال
: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ) ؛ وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم ؛ لأنه لم يتقدم ذكر
سواه يرجع الضمير إليه. والقيمة التي يزعم المخالف أنه يرجع الضمير إليها لم يتقدم
لها ذكر.
الرابع ـ أنه قال
: (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) ؛ والذي يتصوّر فيه الهدى مثل المفتول من النّعم ؛ فأما
القيمة فلا يتصوّر أن تكون هديا.
فإن قيل : القيمة
مثل شرعي من طريق المعنى في الحيوان وغيره ، حتى يقال القيمة مثل للعبد ، ولا يجعل
في الإتلاف مثله عبدا يغرم فيه ، وأوجبنا في ذوات الأمثال في المتلفات المثل خلقة
؛ لأن الطعام كالطعام والدهن كالدهن ؛ ولم يوجب في العبد عبد مثله ؛ لأنّ الخلقة
لم تقم بالمثلية ، فكيف أن يجعل البدنة مثلا للنعامة.
قلنا : هذا مزلق
ينبغي أن يتثبّت فيه قدم الناظر قليلا ، ولا يطيش حلمه ، فاسمع ما نقول ، فلا خفاء
بواضح الدليل الذي قدمناه من كتاب الله ، وليس يعارضه الآن ما موّهوا به من أن
النعامة لا تماثلها البدنة ؛ فإن الصحابة قضوا بها فيها ، وهم بكتاب الله أفهم ،
وبالمثل من طريق الخلقة والمعنى أعلم ، فلا يتوهم متوهّم ، سواه إلا وهم ، ولا
يتّهمهم في قصور النظر ، إلا من ليس بمسلم.
والدقيقة فيه أنّ
مراعاة ظاهر القرآن مع شبه واحد من طريق الخلقة أولى من إسقاط ظاهر القرآن مع
التوفّر على مراعاة الشبه المعنوي ؛ وهذا ما لا يستقل بدركه في مطرح النظر إلا
نافذ البصيرة والبصر.
فإن قيل : يحتمل
أنهم قوّموا النعامة بدراهم ، ثم قوّموا البدنة بدراهم.
قلنا. هذا جهل من
وجهين :
أحدهما ـ أن سرد
الروايات على ما سنورده يبطل هذا ؛ فإنه ليس فيه شيء منه.
الثاني ـ أن قيمة
النعامة لم تساو قطّ قيمة البدنة في عصر من الأعصار ، لا متقدم ولا متأخر ، علم
ذلك ضرورة وعادة ، فلا ينطق بمثل هذا إلا متساخف بالنظر. وإنما سقطت المثلية في
الاعتداء على الحيوان من باب المزابنة ، وقد بينّاه في كتب الفقه.
__________________
فإن قيل : لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا ، في النعامة بدنة ،
وفي الحمار بقرة ، وفي الظبى شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به ؛ لأنّ ذلك قد علم
، فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدول والحكم ما يشكل الحال فيه ويضطرب وجه النظر عليه.
والجواب أنّ اعتبار
الحكمين إنما وجب في حال المصيد من صغر وكبر ، وماله جنس مما لا جنس له ، وليعتبر
ما وقع التنصيص عليه من الصحابة ، فيلحق به ما لم يقع بينهم نصّ عليه.
فإن قيل : فقد قال
: (أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) ، فشرك بينهما ب «أو» ، فصار تقدير الكلام : فجزاء مثل ما
قتل من النّعم ، أو من الطعام ، أو من الصيام ، وتقدير المثلية في الطعام والصيام
بالمعنى ، وكذلك في المثل الأول.
قلنا : هذا جهل أو
تجاهل ؛ فإن قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ظاهر كما قدمنا في مثل الخلقة ، وما عداه يمتنع فيه مثلية
الخلقة حسّا ؛ فرجع إلى مثلية المعنى حكما ، وليس إذا عدم المعنى المطلوب في موضع ويرجع إلى بدله
يلزم أن يرجع إلى بدله مع وجوده.
(تكملة) ومن يعجب
فعجب من قراءة المكي والمدني والبصري والشامي : فجزاء مثل ـ بالإضافة ؛ وهذا يقتضى
الغيرية بين المضاف والمضاف إليه ، وأن يكون الجزاء لمثل المقتول لا المقتول ، ومن قراءة الكوفيين : فجزاء مثل ـ على الوصف ، وذلك يقتضى أن يكون الجزاء هو المثل.
ويقول أهل الكوفة
من الفقهاء : إنّ الجزاء غير المثل. ويقول المدنيون والمكيون والشاميون من الفقهاء
: إن الجزاء هو المثل ؛ فيبنى كلّ واحد منهم مذهبه على خلاف مقتضى ظاهر قراءة قراء
بلده.
وقد قال لنا
القاضي أبو الحسن القرافي الزاهد : إنّ ابن معقل الكاتب أخبره عن أبى على النحوي
أنه قال : إنما يجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول. والإضافة توجب جزاء
المثل لا جزاء المقتول. قال : ومن أضاف الجزاء إلى المثل فإنه يخرج على تقدير
إقحام المثل ؛ وذلك كقولهم : أنا أكرم مثلك ؛ أى أكرمك.
__________________
قال القاضي أبو
بكر بن العربي : وذلك سائغ في اللغة ، وعليه يخرج أحد التأويلات في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقد حققناه في كتاب المشكلين.
المسألة الخامسة
عشرة ـ في سرد الآثار عن السلف في الباب ، وفي ذلك آثار كثيرة ، لبابها سبعة
أقوال :
الأول ـ قال السدى
: في النعامة والحمار بدنة ، وفي بقرة الوحش أو الإبل أو الأروى بقرة ، وفي الغزال
والأرنب شاة ، وفي الضبّ واليربوع سخلة قد أكلت العشب ، وشربت الماء ، ففرّق بين صغير الصيد
وكبيره.
الثاني ـ قال عطاء
: صغير الصيد وكبيره سواء ؛ لقوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، مطلقا ، ولا يفصل بين صغير وكبير.
الثالث ـ قال ابن
عباس : تطلب صفة الصيد ، فإن لم توجد قوّم بالدراهم ، ثم قوّمت الدراهم بالحنطة ،
ثم صام مكان [كل] نصف صاع يوما.
الرابع ـ قال ابن
عباس : تذبح عن الظبى شاة ؛ فإن لم يجد أطعم ستة مساكين. فإن لم يجد صام ستة أيام.
الخامس ـ قال
الضحاك : المثل ما كان له قرن كوعل وأيّل فداه ببقرة ، وما لم يكن له قرن كالنعامة
والحمار ففيه بدنة ، وما كان من ظبى فمن النعم مثله ، وفي الأرنب ثنيّة ، وما كان
من يربوع ففيه جمل صغير. فإن أصاب فرخ صيد أو بيضه تصدّق بثمنه ، أو صام مكان كل
نصف صاع يوما.
السادس ـ قال
النخعي : يقوّم الصيد المقتول بقيمته من الدراهم ، ثم يشترى القاتل بقيمته فداء من
النعم ، ثم يهديه إلى الكعبة.
السابع ـ قال ابن
وهب : قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أنه يقوّم الصيد
الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ؛ فيطعم لكلّ مسكين مدّا ، أو يصوم مكان كل
مدّ يوما.
__________________
وقال ابن القاسم
عنه : إن قوّم الصيد دراهم ثم قوّمها طعاما أجزأه.
والصواب الأول.
وقال عبد الله بن
عبد الحكم مثله ، قال عنه : وهو في هذه الثلاثة بالخيار ؛ أىّ ذلك فعل أجزأه موسرا
كان أو معسرا ، وبه قال عطاء ، وجمهور الفقهاء.
فأما الفرق بين
صغير الصيد وكبيره ـ وهي :
المسألة السادسة
عشرة ـ فصحيح ، فإنّ الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة ، والصغير والكبير
متفاوتان فيها ، فوجب اعتبار التفاوت ؛ فإنه أمر يعود إلى التقويم ، فوجب اعتبار
الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات ؛ وهو اختيار علمائنا ، ولذلك قالوا : لو كان
الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتحقّق المثلية ، ولا يلزم
المتلف فوق ما أتلف ـ وهي :
المسألة السابعة
عشرة ـ وأما ترتيب الثلاثة الواجبات في هذه المثلية ـ وهي :
المسألة الثامنة
عشرة ـ فالذي اختاره علماؤنا كما تقدم أن يكون بالخيار فيها ، واحتجوا بأنه ظاهر
القرآن ، وقالوا : كلّ شيء يكون فيه «أو» ، فهو فيه بالخيار.
وتحقيق المسألة
عندي أنّ الأمر مصروف إلى الحكمين ، فما رأياه من ذلك لزمه ، والله أعلم. وأما
تقدير الطعام والصيام ـ وهي :
المسألة التاسعة
عشرة ـ فذلك ظاهر في كتاب الله تعالى ، حيث قدّره في كفّارة الظّهار مسكينا بيوم ،
ولا يعدل عن تقديره تعالى وتقدّس ، وغير ذلك من التقديرات تتعارض فيه الأقوال ،
ولا يشهد له أصل ؛ فالاقتصار على الشاهد الجلىّ أولى.
المسألة الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ) :
قال علماؤنا : أيقيم
المتلف رجلين عدلين فقيهين بما يحتاج إليه في ذلك ، فينظران فيما أصاب ، ويحكمان
عليه بما رأياه في ذلك ، فما حكما عليه لزمه.
والذي عندي أنه إن
كان الإمام حاضرا أو نائبه أنه يكون الحكم إليه ، وإن لم يكن حاضرا أقام حينئذ
المتلف من يحكم عليه. وهذا دليل على التحكيم ، وهي :
المسألة الحادية
والعشرون ـ وقد تقدّم الذكر فيه ، ولأجله قال علماؤنا : إنه يجوز حكمهما بغير إذن
الإمام ؛ وذلك عندي صحيح ؛ إذ يتعذّر أمره.
وقد روى جرير بن
عبد الله البجلي قال : أصبت صيدا ، وأنا محرم ، فأتيت عمر ابن الخطاب ، فأخبرته ،
فقال : ائت رجلين من أصحابك فليحكما عليك ، فأتيت عبد الرحمن ابن عوف وسعدا ،
فحكما عليّ بتيس أعفر.
وهو أيضا دليل على
أنه يجوز أن يتولّى فصل القضاء رجلان ، وقد منعته الجهلة ؛ لأنّ اختلاف اجتهادهما
يوجب توقّف الأحكام بينهما وقد بعث صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إلى اليمن
، كلّ واحد على مخلاف ، وبعث أنيسا إلى المرأة المرجومة ، ولم يأت الاشتراك في
الحكم إلا في هذه النازلة ؛ لأجل أنها عبادة لا خصومة فيها ، فإن اتفقا لزم الحكم
كما تقدم. وإن اختلفا نظر في غيرهما.
وقال محمد بن
الموّاز : ولا يأخذ بأرفع قولهما ؛ يريد لأنه عمل بغير تحكيم ، وكذلك لا ينتقل عن
المثل الخلقي ، إذا حكما به ، إلى الطعام ؛ لأنه أمر قد لزم ـ قاله ابن شعبان ؛
وقال ابن القاسم : إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا ، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز.
وفي هذه الرواية
تجاوز من وجهين : أحدهما ـ قوله : إن أمرهما أن يحكما بالمثل ؛ وليس الأمر إليه ،
وإنما يحكّمهما ، ثم ينظران في القضية ، فما أدّى إليه اجتهادهما لزمه ، ولا يجوز
له أن ينتقل عنه. وهو الثاني لأنه نقض لحكمهما ؛ وذلك لا يجوز لالتزامه لحكمهما.
المسألة الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) :
المعنى إذا حكما
بالمثل يفعل به ما يفعل بالهدى ، يقلّده ويشعره ، ويرسله إلى مكة وينحره بها ،
ويتصدق به فيها ؛ لقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) ، وهي :
المسألة الثالثة
والعشرون ـ ولا خلاف في أنّ الهدى لا بدّ له من الحرم. واختلف هل يفتقر إلى حلّ
معه؟ فقال مالك : لا بدّ له من ذلك يبتاع بالحل ، ويقلد ويشعر ، ويدفع إلى الحرم.
وقال الشافعى : لا
يحتاج إلى الحل. وحقيقة قوله تعالى : (بالِغَ الْكَعْبَةِ) يقتضى أن يهدى من مكان يبلغ منه إلى الكعبة ، ولم يرد
الكعبة بعينها ؛ فإنّ الهدى لا يبلغها ، إذ هي
__________________
في المسجد وإنما
أراد الحرم ، ولهذا قال الشافعى : إن الصغير من الهدى يجب في الصغير من الصيد ،
لأنه يبتاعه في الحرم ويهديه فيه.
وقال مالك : لا
يكون الجزاء في الصغير إلا بالقيمة ؛ لأنّ الهدى الصغير لا يمكن حمله إلى الحرم ،
وهذا لا يغنى ؛ فإنّ الصحابة قضت في الصغير صغيرا ، وفي الكبير كبيرا ، وإذا تعذر
حمله إلى الحرم حملت قيمته ، كما لو قال بالمغرب : بعيري هذا هدى ، فإنه يباع
ويحمل ثمنه إلى مكة ، وكذلك يجب أن يكون في صغير الهدى مثله.
وروى عن مالك :
أنّ صغير الهدى مثل كبيره في القيمة ، كما أن صغير الآدمي مثل كبيره في الدية.
وهذا غير صحيح ؛
فإنّ الدية مقدرة جبرا ، وهذا مقدر نظرا ، يحكم به ذوا عدل منكم ، فافترقا.
المسألة الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ) :
سمّاه بها ليبين
أنّ الطعام عن الصيد لا عن الهدى ، وليلحقها بأمثالها ونظائرها على ما يأتى بيانه
إن شاء الله.
المسألة الخامسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (طَعامُ مَساكِينَ) :
قال ابن عباس :
إذا قتل المحرم ظبيا ونحوه فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ،
فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام ، فإن قتل أيلا أو نحوه فعليه بقرة ، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا ، فإن
لم يجد صام عشرين يوما. وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة من الإبل ، فإن لم يجد فإطعام
ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما ، والطعام [مدّ مدّ] لشبعهم.
وروى عنه أيضا :
إن لم يجد جزاء قوّم الجزاء دراهم ، ثم قوّمت الدراهم حنطة ، ثم صام مكان كل نصف
صاع يوما.
وقال : إنما أريد
بالطعام الصوم ، فإذا وجد طعاما وجب جزاء.
__________________
وروى نحوه عن
النخعي ، ومجاهد ، والسدى ، وحماد ، وغيرهم.
فأما قوله : فإن
لم يجد هديا فإطعام ستة مساكين ، فقد قدمنا أنه على التخيير لا على الترتيب بما
يقتضيه حرف «أو» في لسان العرب.
وأما تقدير الطعام
في الظّبى بستة مساكين ، وفي البدنة بثلاثين مسكينا فليس بتقدير نافذ ؛ وإنما هو
تحكم باختيار قيمة الطعام بالدراهم أصلا أو بدلا كما تقدم ، ثم يعطى عن كل مدّ
يوما لا نصف صاع.
وقد روى بكر بن
عبد الله المزني : كان رجلان من الأعراب محرمين ، فحاش أحدهما صيدا فقتله الآخر ،
فأتيا عمر ، وعنده عبد الرحمن بن عوف ، فقال له عمر : ما ترى؟ قال : شاة. قال :
وأنا أرى ذلك. اذهبا فأهديا شاه. فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه : ما درى أمير
المؤمنين ما يقول ، حتى سأل صاحبه. فسمعه عمر ، فردّهما ، فقال : هل تقرآن سورة المائدة؟ فقالا :
لا. فقرأ عليهما : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً) ، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا.
وعن قبيصة وصاحب
له أنهما أصابا ـ وذكر الحديث ، فقال لصاحبه : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول. فسمعهما عمر. فأقبل عليه
ضربا بالدّرّة ، وقال : تقتل الصيد وأنت محرم ، وتغمص الفتيا ، إن الله سبحانه قال
في كتابه : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ). وهذا عبد الرحمن بن عوف وأنا عمر.
وهذا يدلّ على أنّ
الاشتراك في قتل الصيد المحرم يوجب على المشتركين كفّارة واحدة لقضاء عمر وعبد
الرحمن بن عوف بشاة واحدة على رجلين ، وبه قال الشافعى.
وقال مالك وأبو
حنيفة : على كل واحد منهم جزاء كامل ، وهي :
المسألة السادسة
والعشرون ـ وهي تنبنى على أصلين :
أحدهما ـ لغوى
قرآنى ، والآخر معنوي ؛ أما اللغوي القرآنى فإنّ كلّ واحد من القاتلين للصيد قاتل
نفسا على الكمال والتمام ، بدليل قتل الجماعة بالواحد ؛ لأنّ كلّ واحد
__________________
متلف نفسا على
الكمال ومذهب روحا على التمام. ولو لا ذلك ما وجب عليهم القصاص ، وقد قلنا بوجوبه
إجماعا منها ومنهم فثبت ما قلنا.
وأما المعنوي فإنّ
عندنا أنّ الجزاء كفارة ، وعند الشافعى أنه قيمة.
وتحقيق القول في
ذلك أنّ هذا الجزاء كفارة ومقابل للجناية ، وكلّ واحد جنى على إحرامه جناية كاملة
، وكلّ واحد منهم يسمّى قاتلا ؛ والدليل على صحة ذلك كلّه أنّ الله سبحانه سمّى
الجزاء كفّارة في كتابه.
وأما كمال الجناية
لكل واحد منهم على الإحرام فصحيح ؛ لأن كلّ واحد منهم ارتكب محظور إحرامه في قتل
الصيد ، وسمّى قاتلا حقيقة فوجب على كلّ واحد منهم جزاء.
فإن قيل : إنه
يقوّم بقيمة الصيد ، ويلحظ فيه شبهه. ولو كان كفارة لاعتبر مطلقا من اعتبار ذلك
كلّه ، كما في كفارة القتل ، فلما كان كذلك صار كالدية.
قلنا : هذا باطل.
والدليل عليه دخول الصوم عليه. ولو كان بدل متلف ما دخل الصيام عليه ، فإنّ الصيام
إنما موضعه وموضوعه الكفارات ، لا أبدال المتلفات.
جواب آخر ـ وذلك
أنه إنما تقدّر بقدر المحل ؛ لأنّ الجناية لها محلّ ، فيزيد بزيادته ، وينقص
بنقصانه ، بخلاف كفارة الآدمي ؛ فإنه حدّ لا يتقدّر حقيقة فيقدر كفارة.
جواب ثالث ـ وذلك
أنّ الجزاء لا يجوز إسقاطه ، والدية يجوز إسقاطها ، فدلّ على اختلافهما بالصفة
والموضوع.
جواب رابع ـ وذلك
أن الذكر والأنثى يستوي في الجزاء ، ويختلف في الدية ، وقيمه الإتلاف ؛ فدلّ ذلك
كله على الفرق بينهما ، وظهر أن ذلك من قول الشافعى ضعيف جدّا. والله عز وجل أعلم.
المسألة السابعة
والعشرون ـ خالف أبو حنيفة مالكا في فرع ؛ وهو إذا قتل جماعة صيدا في حرم وهم
محلّون ـ فعليهم جزاء واحد ، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحلّ ، وهو ضعيف ؛
لأنّ كل واحد منهم قتل نفسا محرّمة ، فسواء كانت في الحل أو في الحرم فإن ذلك لا
يختلف.
__________________
وأما القاضي أبو
زيد فبناه في أسرار الله على أصل ، وهو أنه قال : السرّ فيه أنّ الجناية
في الإحرام على العباد ، فقد ارتكب كلّ واحد منهم محظورا في إحرامه. وإذا قتل صيدا
في الحرم فإنما أتلف نفسا محترمة ؛ فكان بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة ، فإن كلّ
واحد منهم قاتل دابة ، ويشتركون في القيمة ، وهذا مما يستهين به علماؤنا ، وهو
عسير الانفصال.
وقد عوّل علماؤنا
على أنّ الرجل يكون محرما بدخوله في الحرم ، كما يكون محرما بقلبيته بالإحرام ، وكلّ واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلّق بها
نهى ، فهو هاتك لها في الحالين. وأبو حنيفة أقوى منا ، على أن علماءنا قالوا : إذا قتل الصيد في الحلّ وهو محرم فعليه
الجزاء ، وإن قتله في الحرم فعليه حكومة ، وهي :
المسألة الثامنة
والعشرون ـ وقال بعضهم : لا جزاء في صيد الحرم أصلا.
وقال سائر العلماء
: حرمة الحرم كالإحرام ، واللفظ فيهما واحد ، يقال : أحرم الرجل إذا تلبس بالإحرام
، كما يقال : أحرم إذا دخل في الحرم حسبما تقدّم بيانه ، فلا معنى لما قاله من
أسقط الجزاء فيه ، ويضعف قول علمائنا لاقتضاء اللفظ لوجوب الجزاء وعموم الحكم في
ذلك كله.
المسألة التاسعة
والعشرون ـ وكذلك كفّارة العبد إذا أحرم أو دخل الحرم ككفّارة الحرّ سواء ؛ لكن
يكون حكمه في الكفارة المالية والبدنية مختلف الحال ، كما سيأتى في آية الظّهار إن
شاء الله تعالى.
المسألة الموفية
ثلاثين ـ إذا قوّم الطعام فاختلف العلماء أين يقوّم؟ فقال قوم : يقوّم في موضع
الجناية ؛ قاله حماد وأبو حنيفة ومالك وسواهم. ومنهم من قال : يقوّم حيث يكفّر
بمكة. وروى عن الشعبي.
وهذه مسألة مشكلة
جدا ؛ فإن العلماء اختلفوا في الوقت الذي تعتبر به قيمة المتلف ؛ فقال قوم : يوم
الإتلاف. وقال آخر : يوم القضاء. وقال آخرون : يلزم المتلف أكثر القيمتين من
الإتلاف إلى يوم الحكم ، واختلف علماؤنا كاختلافهم.
__________________
والصحيح أنه يلزم
القيمة يوم الإتلاف ، وهذه المسألة محمولة عليها. والدليل على ذلك أنّ الوجوب كان
حقّا للمتلف عليه ، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله ، وذلك في وقت العدم ، فالقضاء يظهر الواجب في ذمة المتلف ، ولا يستأنف القاضي إيجابا لم يكن ،
وهذا يعضد في مسألتنا الوجوب في موضع الإتلاف ، فأما في موضع فعل الكفّارة فلا وجه
له.
المسألة الحادية
والثلاثون ـ قال علماؤنا : فأما الهدى فلا بد له من مكة.
وأما الإطعام
فاختلف فيه قول مالك ؛ هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة.
وأما الصوم فلم
يختلف قوله : إنه يصوم حيث شاء. وقال حماد وأبو حنيفة : يكفّر بموضع الإصابة. وقال
عطاء : ما كان من دم أو طعام بمكة ، ويصوم حيث شاء.
وقال الطبري :
يكفّر حيث شاء. فأما قول أبى حنيفة : إنه يكفّر حيث أصاب ، فلا وجه له في النظر
ولا أثر فيه. وأما من قال : إنه يصوم حيث شاء فلأنّ الصوم عبادة تختص بالصائم ،
فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات في الحجّ وغيرها.
وأما وجه القول
بأنّ الطعام يكون بمكة فلأنه بدل من الهدى أو نظير له ؛ والهدى حقّ لمساكين مكة ؛
فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قال : إنه يكون بكل موضع ، وهو المختار ،
فإنه اعتبار بكل طعام وفدية ، فإنها تجوز بكل موضع. والله أعلم.
المسألة الثانية
والثلاثون ـ قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ
صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) :
قال علماؤنا :
العدل والعدل ـ بفتح العين وكسرها : هو المثل ، ويؤثر عن السكاكي أنه قال : عدل
الشيء ـ بكسر العين ـ مثله من جنسه ، وبفتح العين مثله من غير جنسه ، وأراد أو
يصوم صوما مماثلا للطعام ، ولا يصحّ أن يماثل الطعام الطعام في وجه أقرب من العدد.
وقد تقدّم توجيهه.
ومن العلماء من
قال : يصوم على عدد المساكين في الطعام لا على عدد الأمداد الأشهر ، وهو عند
علماءنا ، والكافّة. ومنهم من قدّره بالأمداد ، وقد قال الشافعى : عن كلّ مدّ يوما
، وهو القول الثاني لمالك.
__________________
وقال أبو حنيفة :
يصوم عن كل مدّين يوما اعتبارا بفدية الأذى. واعتبار الكفارة بالفدية لا وجه له في الشريعة كما تقدم في نظرائه .
المسألة الثالثة
والثلاثون ـ قال بعض علمائنا : إنما يفتقر إلى الحكمين في موضعين ؛ في الجزاء من
النّعم ، والإطعام ؛ وليس كذلك ؛ بل يحتاج إليهما في الحال كلها ، وهي تنحصر في
مواضع سبعة :
الأول ـ هل يحكم
في العمد والخطأ أو في العمد وحده؟
الثاني ـ هل يحكم
في قتل الصيد في الحرم كما يكون في الإحرام؟
الثالث ـ هل يحكم
بالجزاء حيوانا أو قيمة؟
الرابع ـ إذا رأى
الحيوان جزاء عن حيوان. في تعيين الحيوان خلاف كثير لا بدّ من تسليط نظره عليه
حسبما تقدّم من اختلاف العلماء فيه ؛ هل يستوي صغيره وكبيره كما قال مالك في
الكتاب حين جعله كالدية أم لا؟ وهل يراعى صفاته أجمع حتى الجمال الحسن ، أم تراعى
الأصول ، أو يراعى العيب والسلامة ، أو هما واحد؟ وهل يكون في النعامة بدنة كما في
كتاب محمد وغيره؟ أم يكون فيها القيمة ؛ لأنها لا تقارب خلق البقر ولا تبلغ خلق الإبل؟
الخامس ـ هل
الحيوانات كلها تجزئ أم بعضها؟
السادس ـ هل يقوّم
المثل بالطعام أو بالدراهم؟
السابع ـ هل يكون
التقويم بموضع الإصابة أم بموضع الكفارة؟
وهكذا إلى آخر
فصول الاختلاف ، فيرفع الأمر إلى الحكمين حتى يخلص اجتهادهما ما يجب عليه من
الوجوه المختلفة ، فيلزمه ما قالا. والله عز وجل أعلم.
المسألة الرابعة
والثلاثون ـ إذا قتل محرم صيدا فجزاه. ثم قتله ثانية وجب عليه الجزاء.
قال علماؤنا لقوله
تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ، ولم يفصل بين المرة الأولى والثانية ، وممن تعلّق بهذا
الدليل أحبار ممن لا يليق بمرتبتهم إيراد هذا الدليل على هذا
__________________
الوجه ؛ فإن كلّ
حكم علق بشرط لا يتكرر بتكرار الشرط ، فمن قال لزوجته : إن دخلت الدار فأنت طالق [فإن
الطلاق] لا يتكرر بتكرار الدخول ، فإن قام دليل على تكرار الحكم
بتكرار الشرط فذلك مأخوذ من الدليل القائم عليه لا من جهة الشرط المضاف إليه ؛
كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ؛ فإنّ الوضوء يتكرر بتكرر القيام مع الحدث ، بدليل قوله
صلى الله عليه وسلم : لا
يقبل الله صلاة بغير طهور. وهاهنا تكرّر الإسم بتكرر الشرط ، بقوله : (لا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ
مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ). والنهى دائم مستمر عليه ، فالجزاء لأجل ذلك متوجّه لازم ذمّته.
فإن قيل : فقد قال
: (عَفَا اللهُ عَمَّا
سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، ولم يذكر جزاء ـ وهي :
المسألة الخامسة
والثلاثون ـ قلنا : قوله سبحانه : (عَفَا اللهُ عَمَّا
سَلَفَ) ، يعنى في الجاهلية لا الإسلام ، أو عمّا قبل بيان الحكم ؛
فإنّ الواقع قبله عفو . وقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ) ـ وهي :
المسألة السادسة
والثلاثون ـ يعنى فينتقم الله منه ، وعليه بما تقدّم من الدليل الكفارة.
وقال ابن عباس :
لا يحكم عليه مرتين في الإسلام ، وهذا لا يصحّ ؛ لما تقدّم من تمادى التحريم في
الإحرام وتوجّه الخطاب عليه في دين الإسلام.
ووجه آخر من
الدليل ، وهو قوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ، يعنى وهو محرم ، (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).
وقد قال بقول ابن
عباس الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح. ويروى عن سعيد بن جبير أنه سئل عن ذلك ، فقال :
نعم نحكم عليه ، أفيخلع ـ يعنى يخرج ـ عن حكم المحرمين؟ كما قال مجاهد : إنه إذا
قتله متعمّدا فقد حلّ إحرامه ؛ لأنه ارتكب محظورا [ينافي] عبادة فيها ، فأبطلها ، كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث
فيها.
ودليلنا أن الله
تعالى أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد ، وقد بيّنا في كتب المسائل
__________________
ما يفسد الحج من
محظوراته بما يغنى عن إعادته ، فلا يصح اعتبار الحج بالصلاة ؛ فإنهما مختلفان شرطا
ووصفا ووضعا في الأصل ، فلا يعتبر أحدهما بالآخر بحال.
وقد بينا ذلك في
أصول الفقه وفيما تقدم ، كما أنه قد روى عن زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوّز عنه ، ثم عاد فأنزل
الله عزّ وجل نارا من السماء فأحرقته ، وهذه عبرة للأمة وكفّ للمعتدين عن المعصية.
المسألة السابعة
والثلاثون ـ ما تقدم فيه للصحابة حكم من الجزاء في صيد يبتدئ الآن الحكمان النظر
فيه.
وقال الشافعى : لا
ينظر فيما نظرت فيه الصحابة ؛ لأنه حكم نفذ ، وهذا يبطل بقضايا الدين ؛ فإن كلّ
حكم أنفذته الصحابة يجوز الاجتهاد فيه ثانيا. وذلك فيما لم يرد فيه نصّ ولا انعقد
عليه إجماع ، وهذا أبين من إطناب فيه.
المسألة الثامنة
والثلاثون ـ لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين ، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعى في
أحد قوليه : يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين ، وهذا تسامح منه ؛ فإن ظاهر الآية
يقتضى جانيا وحكمين ، فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر ، وإفساد للمعنى ، لأن حكم
المرء لنفسه لا يجوز ، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره ، لأنه حكم بينه
وبين الله ، فزيادة ثان إليه غيره دليل على استئناف الحكم برجلين سواه.
الآية السابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ).
فيها ثلاث عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ) : عام في المحلّ والمحرم على ما تقدم بيانه من جهة التقسيم
والتنويع قبل هذا.
المسألة الثانية ـ
قوله : (الْبَحْرِ) :
هو كلّ ماء كثير
وأصله الاجتماع ؛ ولذلك سميت المدائن بحارا. ويقال للبلدة :
__________________
البحرة والبحيرة ؛
لاجتماع الناس فيها. وقد قيل في قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : إن البحر البلاد ، والبرّ الفيافي والقفار.
وفائدته أن الله
سبحانه خلق برّا وبحرا وهواء ، وجعل لكل مخلوق من هذه المخلوقات الثلاثة عمارة ،
فعمارة الهواء الطير ، وعمارة الماء الحيتان ، وعمارة الأرض سائر الحيوان ، وجعل
كلّ ذلك مباحا للإنسان على شروط وتنويع ، هي مبيّنة في مسائل الأحكام ، لقوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (صَيْدُ الْبَحْرِ) :
وفيه ثلاثة أقوال
:
الأول ـ ما صيد
منه على معنى تسمية المفعول بالفعل حسبما تقدم بيانه.
الثاني ـ هو
حيتانه ؛ قاله مجاهد.
الثالث ـ السمك
الجرّى ؛ قاله ابن جبير.
وهذه الأقوال
الثلاثة ترجع إلى قول واحد ، وهي حيتانه تفسيرا ، ويرجع من طريق الاشتقاق إلى أنه
أراد ما حوول أخذه بحيلة وعمل ، ويدخل تحت قوله : ما صيد منه ، وهو أصل المسألة ،
فكأنه قال : أحلّ لكم أخذ ما في البحر من الحيتان بالمحاولة ، وأحلّ لكم طعامه ،
وهو ما أخذ بغير محاولة ـ وهي :
المسألة الرابعة ـ
والذي يؤخذ بغير محاولة ولا حيلة على قسمين :
أحدهما ـ ما طفا
عليه ميتا.
والثاني ـ ما جزر
عنه الماء ، فأخذه الناس.
وكذلك اختلف الناس
في قوله تعالى : (وَطَعامُهُ) :
على ثلاثة أقوال :
الأول ـ ما جزر
عنه.
__________________
والثاني ـ ما طفا
عليه ؛ قاله أبو بكر وعمر وقتادة ، وهي رواية معن عن سفيان ، قال : صيد البحر ما صيد ، وطعامه ميتته.
الثالث ـ مملوحه ؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ، وقد روى أبو داود عن جابر
ابن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما
مات فيه فطفا فلا تأكلوه.
وقال أبو داود :
الصحيح أنه موقوف على جابر.
وروى مالك
والنسائي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته. وهذا نصّ لا غبار عليه ، ولا كلام بعده ، والله أعلم.
وتعلّق أصحاب أبى
حنيفة الذين قالوا : إن ميتة البحر حرام بعموم قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) ، وهي كلّ حيوان مات حتف أنفه من غير ذكاة.
وقد بيّنا أنّ هذا
الحديث يخصّ هذا العموم ، لا سيما وقد قال به الخليفتان أبو بكر وعمر ، وثبت بحديث
جابر عن أبى عبيدة ما تقدّم من أكلهم الحوت الميت في غزاة سيف البحر ، ومن ادخارهم
منه جزءا ، حتى لقوا النبىّ صلى الله عليه وسلم فأكل منه.
فإن قيل : هذه
الآية إنما سيقت لبيان ما يحرّم بالإحرام ، وما لا يحرّم به ، لا لبيان ما حرم
بنفسه. وإنما بيان هذه الحرمة في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ ...) إلى آخرها. والمراد بالحديث السمك المذكور. وفي الحديث
الآخر ، وهو قوله : أحلت
لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد. وهذه عمدة أصحاب أبى حنيفة.
قلنا : هذا قلب
المبنى ، وإفساد المعنى ؛ لأن هذه الآية التي نحن فيها إنما جاءت لبيان تحليل
الصيد ، وهو أخذ ما لا قدرة للعبد عليه ، ولا أنس له به ، وصفة تذكيته حتى يحلّ ،
ولهذا قلنا : إن الله سبحانه خاطب به المحلّين ، فبين ركن التحليل في ذلك وأخذه
بالقهر والحيلة في كباره ، وباليسر في صغاره ، ثم أطلق تحليل صيد البحر في بابه ،
وزاد ما لا يصاد منه ؛ وإنما يرميه البحر رميا ، ثم قيّد تحريم صيد البر خاصة
بالإحرام ، وبقي الباقي على أصل الإباحة.
__________________
فأما المحرمات
وأجناسها فقد تقدم في صدر السورة وغيرها.
وأما قوله تعالى :
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) فهو عام خصّصه : هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته ، في ميتة
الماء خاصة.
وأما حديث : أحلّت لنا ميتتان ودمان ؛ فلم يصحّ فلا يلزمنا عنه جواب ، ثم نقول: إنه لو كان
صحيحا لكان قوله : السمك ـ عبارة عن كلّ ما في البحر ، اسم عام. وقد يطلق بالعرف
في بعضها فيحمل على أصل الإطلاق ؛ ألا ترى إلى قولهم عندنا لبعض الحوت في بعض
البلدان سمك دون سائرها.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (وَلِلسَّيَّارَةِ) :
فيه قولان :
أحدهما ـ للمقيم
والمسافر ، كما جاء في حديث أبى عبيدة : إنهم أكلوه وهم مسافرون ، وأكل النبىّ صلى
الله عليه وسلم وهو مقيم ؛ فبيّن الله تعالى أنه حلال لمن أقام ، كما أحله في حديث
أبى عبيدة لمن سافر.
الثاني ـ أنّ
السيارة هم الذين يركبونه كما ثبت في أصل الحديث : أن
رجلا يقال له العركى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا نركب البحر
ومعنا القليل من الماء ، فإن توضّأنا به عطشنا ، أفنتوضّأ له بماء البحر؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته.
قال علماؤنا : فلو
قال له النبىّ صلى الله عليه وسلم : «نعم» لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش ؛
لأن الجواب مرتبط بالسؤال. ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بتأسيس الحكم
وبيان الشرع ؛ فقال : هو
الطّهور ماؤه الحلّ ميتته. فزاد في جواب السائل جوابين :
أحدهما ـ قوله :
هو الطّهور ماؤه ابتداء.
الثاني ـ الحلّ
ميتته.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) :
قد بينا أنّ
التحريم ليس بصفة للأعيان ، وإنما يتعلق بالأفعال ؛ فمعنى قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
ما دُمْتُمْ حُرُماً) إن كان الصيد الفعل فمعناه مع الاصطياد
كلّه على أنواعه ،
وإن كان معنى الصيد المصيد على معنى تسمية المفعول بالفعل ؛ فيكون معناه : حرّم
عليكم صيد مصيد البر ؛ وهذا من غريب المتعلقات للتكليف بالأفعال ، وتفسير وجه
التعلق ؛ فصار الصيد في البر في حقّ المحرم ممتنعا بكل وجه ،
وكانت إضافته إليه كإضافة الخمر إلى المكلفين والميتة ؛ إذ أنّ التحريم لا يختلف باختلاف المحرمات.
وقد روى الأئمة عن
أبى قتادة أنه قال :
خرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنّا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم إذ أبصرت أصحابى يتراءون ،
فنظرت فإذا حمار وحش ، فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، ثم ركبت ، فسقط سوطى ، فقلت
لأصحابى ـ وكانوا محرمين : ناولوني السوط. فقالوا : والله لا نعينك عليه بشيء ،
فنزلت فتناولته ، ثم ركبت فأدركته من خلفه ، وهو وراء أكمة ، فطعنته برمحي ،
فعقرته ، فأتيت به أصحابى ، فقال بعضهم : كلوه. وقال بعضهم : لا نأكله. وكان
النبىّ صلى الله عليه وسلم معنا ، فحركت دابتي فأدركته ، فقال : هو حلال ، فكلوه.
وفي بعض الروايات
: هل منكم أحد أمره أو
أشار إليه بشيء؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا. هل معكم من لحمه شيء؟ قالوا : معنا
رجله. قال : فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها.
وروى الأئمة عن
الصعب بن جثّامة الليثي أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودّان ،
فردّه عليه. قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه من الكراهة قال : إنا لم نرده عليك إلا أنّا حرم.
وروى الترمذي
والنسائي عن جابر ـ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : صيد البرّ لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد
لكم.
قال أبو عيسى : هو
أحسن حديث في الباب.
__________________
وروى عن علىّ أنه كان عند عثمان فأتى عثمان بلحم صيد
صاده حلال ، فأكل عثمان ، وأبى علىّ أن يأكل ، فقال : والله ما صدنا ولا أمرنا ولا
أشرنا.
فقال علىّ : وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. وفي بعض الروايات : إنما
صيد قبل أن نحرم ؛ فقال عليّ : ونحن قد بدأنا وأهللنا ونحن حلال ، أفيحلّ
لنا اليوم؟
وعن ابن عباس أنه
كره لحم الصيد وهو محرم ، أخذ له أو لم يؤخذ ، وإن صاده الحلال.
وعن أبى هريرة
مثله. وعن سعيد بن جبير وطاوس مثله.
وهذا ينبنى على
أنّ المحرّم الفعل بقوله صيد البر ، أو المحرم مضمر ؛ والمراد بالصيد المصيد ، والذي ثبت على الدليل أنّ
حكم التحريم إنما تعلّق بالمصيد لا بالصيد ؛ فيكون التحريم يتعلق بتناول الحيلة في
تحصيله أو بقصد تناول الحيلة في تحصيله له ، بيّن ذلك حديثه صلى الله عليه وسلم : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد
لكم ؛ فإذا لم يتناول
المحرم صيده بنفسه ولا قصد به حلّ له أكله ، ولا يحلّ له أخذه ولا ملكه ؛ لأنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم ردّه على الصعب بن جثّامة لأنه كان حيا ، والمحرم لا
يملك الصيد.
وقيل : إنما ردّه
لأنه صيد له ، ويكون بذلك داخلا في الحديث المذكور.
وقال أبو حنيفة :
إذا لم يعن فيه بدلالة ولا سلاح جاز له أكله ، وإن كان صيد من أجله.
والحديث المتقدم
يرد عليه ، وهو قوله : ما لم تصيدوه أو يصد لكم.
المسألة السابعة ـ
إذا أحرم وفي ملكه صيد ، ففيه قولان :
أحدهما ـ لا يحل
له إمساكه ويلزمه إرساله.
والآخر يمسكه حتى
يحلّ في تفصيل بيانه في كتب المسائل.
وللشافعي قولان مثلهما.
وجه القول بإرساله
قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً). وهذا عامّ في [منع] الملك والتصرف كلّه.
وجه القول بإمساكه
أنه معنى يمتنع مع ابتداء الإحرام ، فلا يمتنع من استدامة ملكه ؛ أصله
النكاح.
__________________
المسألة الثامنة ـ
فإن صاده الحلال في الحلّ ، فأدخله في الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه
وأكل لحمه.
وقال أبو حنيفة :
لا يجوز ؛ ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد ؛ فجاز في الحرم الحلال كالإمساك
والشراء ، ولا خلاف فيهما.
قال علماؤنا :
ولأنّ المقام في الحرم يدوم ، والإحرام ينقطع ، فلو حرّمنا عليه ذلك في الحرم
لأدّى إلى مشقّة عظيمة ، فسقط التكليف عنه فيه لذلك.
وهذا من باب تخصيص
العموم بالمصالح ، وقد مهدناه في أصول الفقه ، والمصلحة من أقوى أنواع القياس.
المسألة التاسعة ـ
إذا كان المحرم محرما بدخول حرم المدينة لم يجز له الاصطياد فيه.
وقال أبو حنيفة :
يجوز له ذلك.
ودليلنا قوله صلى
الله عليه وسلم :
اللهم إنّ إبراهيم
عبدك وخليلك حرّم مكة ، وإنى أحرم المدينة بمثل ما حرّم به إبراهيم مكة ، ومثله
معه ؛ لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها.
وهذا نصّ صحيح
صريح ، خرجه الأئمة : واللفظ لمسلم.
المسألة العاشرة ـ
إذا صاد بالمدينة كان آثما ولم يكن عليه جزاء إن قتله بها.
وقال سعد : جزاؤه
أخذ سلبه. وقال ابن أبى ذئب : عليه الجزاء.
أما قول سعد : فإن
مسلما خرج عنه أنّ رجلا صاد بالمدينة فلقيه سعد فأخذ سلبه فكلّم في ردّه ، فقال :
ما كنت لأردّ شيئا نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا مخصوص بسعد ؛ لأنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يقل من لقى صائدا بالمدينة فليستلبه ثيابه كائنا من
كان. وأما ابن أبى ذئب فاحتجّ بأنه حرم ، فكان الجزاء على من قتل فيه صيدا ، كما
يفعل في حرم مكة.
وقال علماؤنا : لو
كان حرم المدينة كحرم مكة ما جاز دخولها إلا بالإحرام ، فافترقا.
وقد جعل النبىّ
صلى الله عليه وسلم جزاء المتعدى فيه ما روى أن من أحدث أو آوى
__________________
محدثا فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا . فأرسل الوعيد الشديد ، ولم يذكر الكفارة.
المسألة الحادية
عشرة ـ إذا دل الحرام حلالا على صيد فقتله الحلال فقد اختلف فيه علماؤنا ؛
والمشهور أنه لا ضمان عليه ؛ وبه قال الشافعى.
وقال أشهب : يلزمه
الضمان ؛ وبه قال أبو حنيفة.
والمسألة غامضة
المأخذ بعيدة الغور ، ولعلمائنا فيها ثلاثة طرق بيناها في مسائل الخلاف ، أقواها
طريق منشأ غور.
وقال الجونى :
الضمان إنما يجب في الشريعة بأحد ثلاثة أشياء : إما بإتلاف مباشر ، كالقتل. أو
بتلف تحت يد عادية ، كما لو مات الحيوان في يد الغاصب. أو بسبب يتعلّق بالفاعل ؛
كحفر البئر في جهة التعدّى ؛ ولم يوجد هاهنا شيء من ذلك ، فبطل تعلق الجزاء به.
وعوّل من أوجب
الجزاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبى قتادة المتقدم : هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ وهذا يدلّ على وجوب الجزاء فلا.
المسألة الثانية
عشرة ـ اختلف علماؤنا في الحيوان الذي يكون في البر والبحر ، هل يحل صيده للمحرم
لأنه من حيوان البحر أم لا يحل لأنه من حيوان البر؟ على قولين ، ولذلك اختلف الصدر
الأول.
والصحيح منعه ؛
لأنه تعارض فيه دليلان : دليل تحليل ، ودليل تحريم ، فغلّبنا دليل التحريم احتياطا
؛ والله عزّ وجل أعلم.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قال أبو يوسف : ما أخرج من اللؤلؤ والعنبر من البحر يخمس ، وهو مذهب عمر ؛ لأن البحر شبيه البر وقسيمه ونظيره ؛ إذ
الدنيا بر وبحر ، فنقول : فائدة أخرجت من الباطن فوجب فيه الخمس ، أصله الرّكاز ، أو لأنه أحد قسمي المخلوقات الأرضية ، فجاز أن يجب حقّ
الله فيما يوجد في باطنه ، أصله الركاز. والتعليل للبحر.
__________________
ودليلنا ما روى عن
ابن عباس أنه قال : لا زكاة في العنبر ، إنما هو شيء يقذفه البحر ، ولأنه من فوائد
البحر ، فلا يجب فيه حقّ ـ أصله السمك.
وهذا الفقه صحيح ؛
وذلك لأنّ البحر لم يكن في أيدى الكفرة فتجرى فيه الغنيمة ، وإنما هو من جملة
المباح المطلق ، كالصيد.
فإن قيل : فما
تقولون في ذهب يوجد في البحر؟
قلنا : لا رواية
فيه. ويحتمل أن يقال : إنه يجب ؛ لأن البحر ليس بمعدن للذهب ، فوجوده فيه يدلّ على
أن السيول قذفته فيه.
وقال بعض الحنيفة
: يحتمل ألا يجب فيه شيء ، لأن في البحر جبالا لا يد لأحد عليها.
الآية الثامنة
والعشرون ـ قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ
وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
فيه تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (جَعَلَ اللهُ) : وهو يتصرف على ثلاثة أوجه :
الأول ـ بمعنى سمّى ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
وقد بيناه في كتاب
المشكلين بما ينبغي.
الثاني ـ بمعنى
خلق ، كما ورد في القرآن كثيرا ، منها قوله سبحانه : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ).
الثالث ـ بمعنى
صيّر ، كقولك : جعلت المتاع بعضه على بعض.
وتحقيقه هاهنا خلق
ثانيا وصفا لشيء مخلوق أولا ، وذلك أنه خلق الكعبة وجودا أولا ، ثم خلق فيها صفات
ثانيا ، فخلق عام في الأول والثاني ، وجعل خاص في الثاني خبر عن الصفات التي فيها
على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (الْكَعْبَةَ) :
__________________
وفيها قولان :
أحدهما أنها سميت كعبة لتربّعها ؛ قاله مجاهد وعكرمة.
الثاني ـ أنها
سميت كعبة لنتوئها وبروزها ؛ فكل ناتئ بارز كعب ، مستديرا كان أو غير مستدير
، وهذا هو الأصح ، يقال : كعب ثدي المرأة ؛ وهذه صفتها هنا ، وقد شرحنا أمرها في
إيضاح الصحيحين.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) :
سمّاها الله
سبحانه بيتا ؛ لأنها ذات سقف وجدار ، وهي حقيقة البيتية ، وإن لم يكن بها ساكن ؛
ولكن جعل لها شرف الإضافة بقوله : (أَنْ طَهِّرا
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ). وقال : (وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ). على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (الْحَرامَ) :
سمّاها الله
سبحانه حراما بتحريمه إياها. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم :
إنّ مكة حرّمها
الله ، ولم يحرّمها الناس ، فهي حرام بحرمة الله تعالى ، لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرا ، فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقولوا له : إن الله سبحانه أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها
ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب.
رواه الكل من
الأئمة ، وثبت عنه في رواية الأئمة أنه قال صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع : أى شهر هذا؟ فسكتنا ، حتى ظننا أنه سيسمّيه بغير اسمه ، فقال : أليس ذا الحجة؟
قلنا : بلى. قال : أىّ بلد هذا؟ فسكتنا ، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال : أليس البلدة؟ يعنى قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ).
وفي رواية أنه قال
: أليس البلد الحرام؟
قلنا : الله ورسوله أعلم.
ومعنى قوله تعالى
: حرّمها ؛ أى بعلمه وكتابه وكلامه وإخباره بتحريمها وخلقه لتحريمها ، كلّ ذلك منه
صحيح ، وإليه منسوب.
__________________
فإن قيل : ومن أى
شيء حرّمها؟ قلنا : من سطوة الجبابرة ومن ظلمة الكفر فيها بعد محمد صلى الله عليه
وسلم.
فإن قيل : فقد قال
في الحديث الصحيح : ليخربنّ الكعبة ذو السّويقتين من الحبشة.
قلنا : هذا عند
انقلاب الحال ، وانقضاء الزمان ، وإقبال الساعة ، وسيأتى بيانه الآن إن شاء الله
تعالى.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (قِياماً لِلنَّاسِ) :
قيام الشيء قوامه
وملاكه ؛ أى يقومون به قياما ، كما قال : (وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) ؛ أى يقومون بها.
المسألة السادسة ـ
في معناه الحقيقي :
فيه ثلاثة أقوال :
[الأول] ـ قال سعيد بن جبير : قياما للناس ، أى صلاحا.
الثاني ـ قياما
للناس ؛ أى أمنا.
الثالث ـ يعنى في
المناسك والمتعبدات ؛ قاله الزجاج وغبره.
والقول الأول يدخل
فيه الثاني ؛ لأنّ الأمن من الصلاح ، ويدخل التمكن من المناسك والعبادات ؛ فإن
الكل مصلحة.
وفائدة ذلك وحكمته
أنّ الله سبحانه خلق الخلق في الجبلّة أخيافا يتقاطعون تدابرا واختلافا ، ويتنافسون في لفّ الحطام
إسرافا ، لا يبتغون فيه إنصافا ، ولا يأتمرون فيه برشد اعترافا ، فأمرهم الله
سبحانه بالخلافة ، وجعل فيهم المملكة ، وصرّف أمورهم إلى تدبير واحد يزعهم عن التنازع ، ويحملهم على التألف من التقاطع ، ويردع
الظالم عن المظلوم ، ويقرر كلّ يد على ما تستولى عليه حقّا ، ويسوسهم في أحوالهم
لطفا ورفقا ، وأوقع في قلوبهم صدق ذلك وصوابه ، وأراهم بالمعاينة والتجربة صلاح
ذلك في ابتداء الأمر
__________________
ومآله ، ولقد يزع
الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، فالرئاسة للسياسة والملك لنفى الملك ، وجور السلطان عاما واحد أقل إذاية من كون الناس فوضى
لحظة واحدة ، فأنشأ الله الخليقة لهذه الفائدة والمصلحة على الملوك والخلفاء ،
كلما بان خليفة خلفه آخر ، وكلما هلك ملك ملك بعده غيره ؛ ليستتبّ به التدبير ،
وتجرى على مقتضى رأيه الأمور ، ويكفّ الله سبحانه به عادية الجمهور ؛ فإذا بعث
نبيا سخّر الله سبحانه له الملك في وقته إن كان ضعيفا ، فكان صغوه إليه وعونه معه ، كما فعل بدانيال وأمثاله.
وإن بعثه قويا
يسّر له الاستيلاء على الزمان وأهله ، وأعرى أرض السلطان عن ظلّه ، وجعل الأمر في
الدين وأهله ، كما فعل بموسى ، ولما أراده الله من التيسير على نبيه محمد ،
والتقديم له ، والتشريف لقومه أسكن أباه إسماعيل البلدة الحرام حيث لا إنس ولا
أنيس ، واستخرج فيها ذريته ، وساق إليه من الجوار من عمرت به تلك البلاد والديار ،
وجرّدهم عن الملك تقدمة لرئاسة الملة ، وكانوا على جبلّة الخليقة وسليقة الآدمية ،
من التحاسد والتنافس ، والتقاطع والتدابر ، والسلب والغارة ، والقتل والثارة ، ولم
يكن بدّ في الحكمة الإلهية والمشيئة الأولية من كاف يدوم مع الحال ، ورادع يحمد
معه المآل ؛ فعظّم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام لحقّه ، وأوقع في نفوسهم
هيبته لحكمته ، وعظّم بينهم حرمته لقهره ؛ فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من
اضطهد محميا بالكون فيه ، ولذلك قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). بيد أنه لما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كلّ مظلوم ، ولا
يناله كلّ خائف جعل الشهر الحرام ـ وهي :
المسألة السابعة ـ
ملجأ آخر ، فقرّر في قلوبهم ، وأوقع في نفوسهم حرمة الأشهر الحرم ؛ فكانوا لا
يروّعون فيها سربا ، ولا يطلبون فيها ذنبا ، ولا يتوقعون فيها ثأرا ، حتى كان
الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه.
واقتطعوا فيها ثلث
الزمان ، ووصلوا منها ثلاثة متوالية ، فسحة وراحة ، ومجالا للسياحة في الأمن
واستراحة ، وجعلوا منها واحدا مفردا في نصف العام ، دركا للاحترام ؛ ثم يسّر لهم
__________________
الإلهام ، وشرع
على ألسنة الرسل الكرام الهدى والقلائد ، فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما ، وعلّقوا عليه نعلا. روى ابن القاسم وابن عبد الحكم
عن مالك ـ وهي :
المسألة الثامنة ـ
أنّ القلائد حبل يفتله ، ونعلان يقلّدهما ، والنعل الواحد تجزى ؛ ولذلك روى ابن
وهب عن ابن عمر أنه كان يقلّد نعلين. وربما قلد نعلا واحدا ، فإذا فعل الرجل ذلك
في بعيره أو في نفسه لم يرعه ذلك حيث لقيه ، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو
ظلمه ، حتى جاء الله بالإسلام ، وبيّن الحقّ بمحمد عليه السّلام ، فانتظم الدين في
سلكه ، وعاد الحقّ إلى نصابه ، وبهذا وجبت الخلافة هدى ، ومنع الله الخلق بعد ذلك
أن يتركوا سدى ، فأسندت الإمامة إليه ، وانبنى وجوبها على الخلق عليه ، وهو قوله
سبحانه وتعالى : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).
المسألة التاسعة ـ
قوله تعالى : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الى آخر الآية.
المعنى أنه دبّر
ذلك من حكمه ، وأنفذه من قضائه بقدرته على مقتضى علمه ، ليعلموا بظهور هذا التقدير
وانتظامه في التدبير عموم علمه ، وشمول قدرته ، وإحاطته بذلك كله ، كيفما تصرّف أو
تقدر.
الآية التاسعة
والعشرون ـ قوله سبحانه وتعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ
يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في
الخبيث :
وفيه قولان :
__________________
أحدهما الكافر.
والثاني الحرام.
وأما الطيب ـ وهي
:
المسألة الثانية ـ
ففيه أيضا قولان :
أحدهما المؤمن.
الثاني الحلال.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ
كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) :
وفي معناه قولان :
أحدهما ـ أنّ
الخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته ؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم
لا يعجبه الكفار ولا الحرام ، وإنما يعجب ذلك الناس.
الثاني ـ أنّ
المراد به النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وإعجابه له أنه صار عنده عجبا مما يشاهد من
كثرة الكفار ، والمال الحرام ، وقلة المؤمنين ، وقلة المال الحلال. وقد سبق علم
الله تعالى وحكمه بذلك.
والدليل عليه
الحديث الصحيح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى يوم القيامة : يا
آدم ، ابعث بعث النار ، فيقول : يا رب ، وما بعث النار؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة
وتسعة وتسعون للنار وواحد للجنّة.
المسألة الرابعة ـ
في وجه عدم استوائه ووجوب تفاوته :
إن الحرام يؤذى في
الدين ، ويجب فسخه وردّه ، والحلال ينفع ويجب إمضاؤه [ويصح تنفيذه] . قال الله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). وقال : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ). وقال سبحانه وتعالى : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ). فلا يعجبنّك كثرة المالى الربوى ، ونقصان المال بصدقته
التي تخرج منه ؛ فإن الله يمحق ذلك الكثير في العاقبة ، وينمّى المال الزكاتى بالصدقة ، وبهذا احتجّ من علمائنا من رأى أن البيع الفاسد
يفسخ ، ولا يمضى بحوالة سوق ، ولا بتغير بدن ؛ فيستوى في إمضائه مع البيع الصحيح ؛
بل يفسخ أبدا.
__________________
وقد احتجّ أيضا من
زعم أنّ من اكترى قاعة إلى أمد فكمل أمده ، وقد بنى بها وأسّس ، فأراد صاحب الأرض أن يخرجه ، فإنه يدفع إليه قيمة بنائه قائما ، ولا يهدمه
عليه ، كما يفعل بالغاصب إذا بنى في البقعة المغصوبة.
ونظر آخرون إلى
أنّ البيع إذا فسخ بعد الفوت يكون فيه غبن على أحد المتعاقدين ولا عقوبة في
الأموال. وكذلك إذا كمل أمد الباني فأىّ حجة له ، وهو يعلم أنّ البنيان إلى أمد ،
فإن صاحب العرصة سيحتاج إلى عرضته لمثل ما هي عليه من البناء أو لغيره ،
فيحمله ذلك على أن يلزمه إخلاءها مما شغلها به ، وهذه كلّها حقوق مرتبطة بحقائق وأدلة تتفق تارة
وتفترق أخرى ، وتتباين تارة وتتماثل أخرى.
وتحقيق ذلك على
التفصيل في مسائل الخلاف .
المسألة الخامسة ـ
حقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة ، ومثله الاستقامة ، وضدّه الاعوجاج ، وذلك
يتصرف إلى أربعة أوجه :
الأول ـ الاستواء
في المقدار ، ولا يتساوى الخبيث والطّيب مقدارا في الدنيا ، لأن الخبيث أوزن دنيا
والطّيّب أوزن أخرى .
الثاني ـ الاستواء
في المكان ، ولا يستويان أيضا فيه ؛ لأن الخبيث في النار والطيب في الجنة.
الثالث ـ الاستواء
في الذهاب ، ولا يتساويان أيضا فيه ؛ لأن الخبيث بأخذ جهة الشمال والطيب يأخذ في جهة اليمين.
الرابع ـ الاستواء
في الإنفاق ، ولا يستويان أيضا فيه ؛ لأن منفق الخبيث يعود عليه الخسران في
الدارين ، ومنفق الطيب يربح في الدارين. أما خسران الأول فنقص ماله في الدنيا ،
ونقص ماله في الآخرة ؛ وربح منفق الطيب في الدنيا حسن النية وصدق الرجاء في العوض
، وربحه في الآخرة ثقل الميزان.
__________________
الآية الموفية
ثلاثين ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ،
وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ
عَنْها ، وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ
أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وفي ذلك أربعة
أقوال :
الأول ـ روى في
الصحيح عن أنس ، قال : خطبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعنا مثلها. قال : لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا. قال : فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجوههم ، ولهم حنين. فقال رجل : من أبى؟ فقال : أبوك فلان ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
الثاني ـ ثبت في
الصحيح ، عن ابن عباس ، كانوا
يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من
أبى؟ ويقول الرجل ـ تضل ناقته : أين ناقتي ؛ فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
الثالث ـ روى الترمذي
عن علىّ قال : لما نزلت : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ـ قالوا : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ قال : لا. ولو قلت:
نعم لوجبت. فأنزل الله تبارك
وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). وقد
تقدّم في سورة آل عمران بعضه.
الرابع
ـ أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة ، والسائبة ،
والوصيلة ، والحام ؛ قاله ابن عباس.
المسألة
الثانية ـ قوله تعالى : (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ) :
هذا المساق يعضد
من هذه الأسباب رواية من روى أنّ سببها سؤال ذلك الرجل : من أبى؟ لأنه لو كشف له
عن سرّ أمه ربما كانت قد بغت عليه فيلحق العار بهم. ولذلك
__________________
روى أنّ أمّ
السائل قالت له : يا بنى ؛ أرأيت أمك لو قارفت بعض ما كان يقارفه أهل الجاهلية ، أكنت
تفضحها؟ فكان الستر أفضل.
ويعضده أيضا رواية
من روى عن تفسير فرض الحج ؛ فإن تكراره مستثنى لعظيم المشقة فيه ، وعظيم الاستطاعة
عليه. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنّ الله أمركم بأشياء فامتثلوها ،
ونهاكم عن أشياء فاجتنبوها ، وسكت لكم عن أشياء رحمة منه ، فلا تسألوا عنها.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا
عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) : وهذا يشهد لكونها من باب التكليف الذي لا يبيّنه إلا
نزول القرآن ، وجعل نزول القرآن سببا لوجوب الجواب ؛ إذ لا شرع بعد موت النبي صلى
الله عليه وسلم ، يحقّق ذلك قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْها) ؛ أى أسقطها ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
والذي يسقط لعدم بيان الله سبحانه فيه وسكوته عنه هو باب التكليف ؛ فإنه بعد موت
النبىّ صلى الله عليه وسلم تختلف العلماء فيه ، فيحرّم عالم ، ويحلّل آخر ، ويوجب
مجتهد. ويسقط آخر ؛ واختلاف العلماء رحمة للخلق ، وفسحة في الحق ، وطريق مهيع إلى الرفق.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ
مِنْ قَبْلِكُمْ) :
فيه أربعة أقوال :
الأول ـ قوم عيسى
عليه السّلام في المائدة.
الثاني ـ قوم صالح
في الناقة.
الثالث ـ قريش في
الصفا ذهبا.
الرابع ـ بنو
إسرائيل ، كانت تسأل : فإذا عرفت بالحكم لم تقرّ ولم تمتثل.
والصحيح أنه عامّ
في الكل ، ولقد كفرت العيسوية بعيسى وبالمائدة ، والصالحية بالناقة ، والمكية بكل
ما شهدت من آية ، وعاينت من معجزة مما سألته ومما لم تسأله على كثرتها ؛ وهذا
تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم.
__________________
المسألة السادسة ـ
اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية ، وهو جهل ؛
لأن هذه الآية قد صرّحت بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه
، ولا مساءة في جواب نوازل الوقت ، وقد كان من سلف من السلف الصالح يكرهها أيضا ،
ويقول فيما يسأل عنه من ذلك : دعوه دعوه حتى يقع ، يريد : فإن الله سبحانه وتعالى
حينئذ يعين على جوابه ، ويفتح إلى الصواب ما استبهم من بابه ؛ وتعاطيه قبل ذلك
غلوّ في القصد ، وسرف من المجتهد ؛ وقد وقف أعرابى على ربيعة الرأى وهو يفرّع
المسائل ، فقال : ما العىّ عندنا إلا ما هذا فيه منذ اليوم. وإنما ينبغي أن يعتنى
ببسط الأدلة ، وإيضاح سبل النظر ، وتحصيل مقدمات الاجتهاد ، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد ؛ فإذا عرضت النازلة أتيت من بابها
، ونشدت في مظانّها ، والله يفتح في صوابها.
المسألة السابعة ـ
وهم بعض المفسرين في هذه الآية في ثلاثة فصول :
الأول ـ قال : إن
قوله : (لا تَسْئَلُوا ...) إلى قوله : (تَسُؤْكُمْ) سؤال عما لا يعنى ، وليس كذلك ؛ بل هو سؤال عما يضرّ ويسوء ، ففرق بين أن
يكون النهى عن شيء يضر. وبين أن يكون عما لا يعنى. وهذا بيّن.
الثاني ـ قال :
قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا
عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) ، يعنى وإن تسألوا عن غيرها ؛ لأنه نهاهم فكيف ينهاهم
ويقول : إنه يبين لهم إن سألوه عنها. وهذا استبعاد محض عار عن البرهان ؛ وأىّ فرق
أو أى استحالة في أن يقال : لا تسأل ، فإنك إن سألت يبيّن لك ما يسوءك ، فالسكوت
عنه أولى بك ، وإن الله تعالى قد عفا عنها لك.
الثالث ـ قوله : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) :
قال : فهذا السؤال
لغير الشيء ، والأول والثاني هو سؤال عن غير الشيء ، وهذا كلام فاتر ، مع أنه قد
تقدم ضده حين قال : إن السؤال الثاني هو سؤال عن الشيء ، وفيما قدمناه بلاغ في
الآية ، والله عز وجل أعلم ، وبه التوفيق.
__________________
الآية الحادية
والثلاثون ـ قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (جَعَلَ) :
وقد تقدّم تقسيمه وتفسيره ، ومعنى اللفظ هاهنا : ما سمى الله ذلك
حكما ولا يعتدّ به شرعا ، بيد أنه قضى به علما ، وأوجده بقدرته وإرادته خلقا ؛ فإن
الله سبحانه خالق كل شيء من خير وشر ، ونفع وضر ، وطاعة ومعصية.
المسألة الثانية ـ
في تفسير المسميات فيها لغة :
فالبحيرة هي
الناقة المشقوقة الأذن لغة ، يقال : بحرت أذن الناقة ؛ أى شققتها.
والسائبة : هي
المخلّاة لا قيد عليها ولا راعى لها.
والوصيلة في الغنم
: كانت العرب إذا ولدت الشاة أنثى كانت لهم ، وإن ولدت ذكرا كانت لآلهتهم ، وإن
ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فكان الكلّ للآلهة ، ولم يذبحوا الذكر.
والحامى : كانت
العرب إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره فسيّبوه لا يركب ولا
يهاج.
ولهذه الآية تفسير
طويل باختلاف كثير يرجع إلى ما أوضحه مالك ومحمد بن إسحاق.
قال ابن وهب : قال
مالك : كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيّبونها ، فأما الحامى فمن الإبل ؛
كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيّبوه. وأما الوصيلة فمن
الغنم ولدت أنثى بعد أنثى سيّبوها.
وروى ابن القاسم
وغيره ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : أول
من نصب النّصب ، وسيّب السوائب ، وغيّر عهد إبراهيم عمرو بن لحىّ ؛ ولقد رأيته
يجرّ قصبه في النار ، يؤذى أهل النار بريحه.
__________________
قال : وأول من بحر البحائر رجل من بنى مدلج
عمد إلى ناقتين له ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما وظهورهما ، ثم احتاج إليهما ،
فشرب ألبانهما ، وركب ظهورهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيتهما
في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضّانه بأفواههما.
ونحوه علىّ بن
نافع عن مالك ، قال : لقد رأيته يؤذى أهل النار بريحه ولم يزد.
وروى أشهب عن مالك
: السّوائب الغنم. وقال محمد بن إسحاق : البحيرة بنت السائبة. والسائبة هي الناقة
إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر لم يركب ظهرها ، ولم يجزّ وبرها ، ولم يشرب
لبنها إلّا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقّت أذنها ، وخلّى سبيلها مع أمها ،
فلم يركب ظهرها ، ولم يجزّ وبرها ، ولم يشرب لبنها إلّا ضيف ، كما فعل بأمها ؛ فهي
البحيرة بنت السائبة.
والوصيلة : الشاة
إذا أتأمت عشر أناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر جعلت وصيلة
، قالوا : قد وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث إلا أن يموت
منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم.
وروى عن غير ابن
إسحاق : فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم.
قال ابن إسحاق :
والحامى الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره ، فلم يركب
ظهره ، ولم يجزّ وبره ، وخلّى في إبله يضرب ، لا ينتفع منه بشيء بغير ذلك.
وقال ابن عباس :
البحيرة الناقة. والوصيلة الشاة. والحامى الفحل. وسائبة يقول يسيّبونها لأصنامهم.
وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار. قال : فسألته عمن بيني وبينه من
الناس. قال : هلكوا.
وروى أنّ سبب نصب
الأوثان وتغيير دين إبراهيم أنه خرج من مكة إلى الشام ، فلما قدم مأرب من أرض البلقاء ، وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق ، ويقال
عملاق بن لاوذ بن سام ابن نوح ، رآهم يعبدون الأصنام ، فقال لهم : ما هذه الأصنام
التي أراكم تعبدون؟ قالوا :
__________________
هذه أصنام
نستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم : أفلا تعطوني منها صنما أسير به
إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه ، وأخذ الناس
بعبادته وتعظيمه ، فلما بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق أنزل
عليه: (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ؛ وذلك لأنهم كانوا بزعمهم يفعلون ذلك لرضا ربهم وفي طاعته
، وطاعة الله ورضاه إنما تعلم من قوله ، ولم يكن عندهم لله بذلك قول ، فكان ذلك
مما يفترونه على الله ، وأنزل الله عليه : (وَقالُوا ما فِي
بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ،
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ). وأنزل عليه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ
آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).
وأنزل عليه : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ
كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وأنزل عليه : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا).
المسألة الثالثة ـ
روى أبو هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم ابن الجون : رأيت عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجر
قصبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك. فقال أكثم : أخشى أن
يضرّنى شبهه يا رسول الله. قال : لا ؛ لأنّك مؤمن وهو كافر ؛ إنه أول من غيّر دين
إسماعيل ، وبحر البحيرة ، وسيّب السائبة ، وحمى الحامى.
__________________
وروى أبو الأحوص
عون بن مالك بن نضلة
الجشمي عن أبيه أنه وفد على
النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال : أربّ إبل أنت أم ربّ غنم؟ فقال : من كل المال
آتاني الله فأكثر وأطيب. فقال : هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى المواسى
فتقطع آذانها ، فتقول : هذه بحر. وتشقّ جلودها ، فتقول : هذه صرم ، فتحرّمها عليك وعلى أهلك؟ قال : نعم. قال : فإن الله
تعالى قد أحلّ لك ما آتاك ، وموسى الله أحدّ ، وساعد الله أشدّ.
المسألة الرابعة ـ
لما ذم الله تعالى العرب على ما كانت تفعله من ذلك كان ذلك تحذيرا للأمة عن الوقوع
في مثل ذلك من الباطل ، ولزمهم الانقياد إلى ما بيّن الله تعالى من التحليل
والتحريم ، دون التعلق بما كان يلقيه إليهم الشيطان من الأباطيل.
قال محمد بن عبد
الحكم : سمعت الشافعى يقول : قال مالك بن أنس : الحبس الذي جاء محمد صلى الله عليه
وسلم بإطلاقها التي في كتاب الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ).
قال الشافعى : هذا
الذي كلّم به مالك بن أنس أبا يوسف عند هارون. وهذه إشارة إلى أنّ أبا يوسف خالف
مالكا في الأحباس ، ورأى رأى شيخه أبى حنيفة في أنّ الحبس باطل.
وروى عبد الملك بن
عبد العزيز قال : حضرت مالكا وقد قال له رجل من أهل العراق عن صدقة الحبس ، فقال :
إذا حيزت مضت. قال العراقي : إن شريحا قال : لا حبس عن كتاب الله. فضحك مالك ،
وكان قليل الضحك ، وقال : يرحم الله شريحا لو درى ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا.
وقد روى أن مالكا
قال له أبو يوسف بحضرة الرشيد : إنّ الحبس لا يجوز. فقال له مالك : فهذه الأحباس
أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه؟
فأما حظّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم فثبت عنه أنه قال : إنا
معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة.
__________________
وأما أصحابه فروى
عن أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ وطلحة والزبير وعائشة ، وزيد ابن ثابت ، ورافع بن
خديج ، وخالد بن الوليد ، وجابر بن عبد الله ، وابن عمر ، وأم سلمة ، وحفصة ، وقد
روى حديث عمر جماعة ، قالوا : إن
عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ؛ إنى أصبت مالا بخيبر
لم أصب قط مالا أنفس منه ، يعنى بسمع ، وإنى أريد أن أتصدّق به. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : أحبس الأصل وسبل الثمرات. وأشار به إلى الصدقة الدائمة ؛ فإنه لو تصدّق به عمر صدقة
فبيع لانقطع أجره في الحبس ؛ وكتب عمر في شرطه : هذا ما تصدّق به عمر بن الخطاب
صدقة لاتباع ولا تورث ولا توهب ، للفقراء ، والقربى ، والرقاب ، وفي سبيل الله ،
والضيف ، وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف غير متأثل مالا. وجاء بألفاظ مختلفة هذه أمهاتها.
وتعلق أبو حنيفة
بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفسها
عنها. وهذا لا حجة فيه ؛ لأنّ الله سبحانه عاب عليهم أن يتصرفوا بعقولهم بغير شرع
توجّه إليهم ، أو تكليف فرض عليهم.
فإن قيل : إنما
عاب عليهم أن نقلوا الملك إلى غير مالك ، والملك قد عينه الله تعالى في الأموال ،
وجعل الأيدى تتبادل فيه بوجوه شرعية ، أو تبطل في الأعيان بمعان قريبة ، كالعتق
والهدى ؛ فأما هذه الطريق فبدعة.
قلنا : بل سنّة
كما تقدم.
جواب ثان ـ وذلك
أن الحبس عندنا لا ينقل الملك ؛ بل يبقى على حكم مالكه ، وإنما يكون الحبس في
الغلّة والمنفعة على أحد القولين ، وفي القول الثاني ينقل الملك إلى المحبوس عليه
وهو مالك.
فإن قيل : إنما
كان يصحّ هذا لو كانوا معينين ، فأما المجهول والمعدوم فلا ينتقل الملك إليه.
قلنا : هذا يبطل
بأربعة مسائل : الأولى المسجد. الثانية المقبرة. الثالثة القنطرة ، قالوا يصحّ هذا
، وهو حبس على معدوم ومجهول [وهو الرابع] .
__________________
جواب خامس ـ وذلك
أن أبا حنيفة ناقض ، فقال : إذا أوصى بالحبس جاز ، وهذه المناقضات الخمس لا جواب
له عنها إلا وينعكس عليهم في مسألتنا ، ولهم آثار لم نرض ذكرها لبطلانها.
المسألة الخامسة ـ
في عتق السائبة :
قال أصبغ ، عن ابن
القاسم في العتبية : أكره عتق السائبة ؛ لأنه كهبة الولاء.
وقال عيسى : أكرهه
وأنهى عنه.
قال سحنون : لا
يعجبنا كراهيته له ، وهو جائز ، كما يجوز أن يعتق عن غيره ـ يريدان : ولا يكون ذلك
هبة للولاء ، كذلك في السائبة ، وهذا الذي قالاه صحيح على تعليله. وأما لو علل
الكراهة بأنها لفظة مذمومة شرعا ، فلا يتقرب بها ؛ إذ له في غيرها من ألفاظ العتق
في كناياته وصرائحه مندوحة لكان له وجه ، وتبينت المسألة ؛ وبالكراهة أقول للمعنى
الذي نبهت عليه.
المسألة السادسة ـ
في تصويره : وهو أن يقول للعبد : أنت سائبة ، وينوى العتق.
أو يقول : أعتقك
سائبة.
فقال علماؤنا :
ولاؤه للمسلمين ، وبه قال عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن شهاب ، رواه عنه ابن القاسم ومطرف.
وقال الشافعىّ
وأبو حنيفة : ولاؤه لمعتقه ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وابن نافع ، وابن
الماجشون.
وجه الأول أنّ
اللفظ يقتضى أن يزول عنه الملك واليد ويبقى كالجمل المسيّب الذي لا يعرض له ، ولو
تعيّن الولاء لأحد لم يتحقق هذا المعنى.
ووجه الثاني ـ وبه
أقول ـ أنه لا سائبة في الإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعتق.
وتحقيق القول فيه
أنه لم يعتق عن معيّن ، فلا يخرج الولاء عنه ، كما لو أطلق العتق.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) :
وهذا عامّ فيهم ،
لكن افتراؤهم على قسمين منهم : افتراء معاند يعلم أن هذا كذب
__________________
وزور ، ومنهم من لا يعلمه ، وهم الأتباع لرؤسائهم وأهل الغفلة منهم ،
وهم الأكثر ؛ والعذاب يشركهم ، ويعمّهم ، والعناد أعظم عذابا.
الآية الثانية
والثلاثون ـ قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا
عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا
يَهْتَدُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
ارتباطها بما قبلها :
وذلك بيّن ؛ فإنّ
الله تعالى أخبر عن جهالة العرب فيما تحكّمت فيه بآرائها السقيمة في البحائر والسّوائب والحوامي ، واحتجاجهم في ذلك بأنه
أمر وجدوا عليه آباءهم ؛ فاتبعوهم في ذلك ، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به
من دينه.
المسألة الثانية ـ
قد قدّمنا أن العقول لا حكم لها بتحسين ولا تقبيح ، ولا تحليل ولا تحريم ؛ وإنما
ذلك إلى الشرع ؛ إذ العقول لا تهتدى إلى المنافع التي ترشد من ضلال الخواطر ،
وتنجّى من أهوال الآخرة بما لا يهتدى العقل إلى تفصيله ، ولا يتمكن من تحصيله ،
فكيف أن تغيّر ما مهّده الشرع ، وتبدّل ما سنّه وأوضحه ، وذلك [كله] من غرور الشيطان ووساوسه ، وتحكّمه على الخلق بالوعد
الصادق : لأجلبنّ عليهم ولأشاركنهم ولأعدنّهم.
قال الله عزّ وجل : (وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).
المسألة الثالثة ـ
تعلّق قوم بهذه الآية في ذمّ التقليد ، وقد ذكر الله سبحانه ذمّ الكفار باتباعهم
لآبائهم بالباطل ، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية في مواضع من القرآن.
وأكّد النبىّ صلى
الله عليه وسلم ذلك ؛ وإنما يكون كما فسرناه في الباطل. فأما التقليد في الحق فأصل
من أصول الدين ، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصّر عن درك النظر.
__________________
وقد اختلف العلماء
في جوازه في مسائل الأصول ، فأما جوازه ، بل وجوبه ، في مسائل الفروع فصحيح ، وهو
قبول قول العالم من غير معرفة بدليله ؛ ولذلك منع العلماء أن يقال : إنا نقلّد
النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنا إنما قبلنا قوله بدليل ظاهر ، وأصل مقطوع به ،
وهو المعجزة التي ظهرت على يده موافقة لدعواه ، ودالّة على صدقه.
وقد بينا أحكام
التقليد ووجهه في كتب الأصول.
لبابه أنه فرض على
العامي إذا نزلت به نازلة أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته ،
فيمتثل فيها متواه ، وعليه الاجتهاد في معرفة [أعلم] أهل وقته بالبحث عن ذلك ، حتى يتّصل له الحديث بذلك ويقع
عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلّد عالما مثله في
نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل والنظر ، وأراد أن يردّد فيها الفكر ، حتى يقف على
المطلوب ؛ فضاق الوقت عن ذلك ، وخيف على العبادة أن تفوت ، أو على الحكم أن يذهب
في تفصيل طويل ، واختلاف كثير ، عوّلوا منه على ما أشرنا لكم إليه.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) :
هذه إشارة إلى أن
الأدلة والاحتجاجات لا تكون ، بمحتمل ، وإنما يقع الاتباع فيها بما خرج من الاحتمال ، ووجبت له الصحة في طرق
الاستدلال ؛ لأن قولهم : وجدنا عليه آباءنا ، فنحن نقتدي بهم في أفعالهم ، ونمتثل
ما شاهدناه من أعمالهم ، ولم يثبت عندهم أن آباءهم بالهدى عاملون ، وعن غير الحق
معصومون ، ونسوا أنّ الباطل جائز عليهم ، والخطأ والجهل لا حق بهم ؛ فبطل وجه
الحجة فيه ، ووضح العمل بالدليل بشروطه حسبما قررناه من شروط الأدلة في كتب
الأصول.
الآية الثالثة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ).
__________________
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
بعض علمائنا : في هذه الآية غريبة من القرآن ليس لها أخت في كتاب الله تعالى ؛
وذلك أنها آية ينسخ آخرها أولها ؛ نسخ قوله : (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قوله : (عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ). وقد حققنا القول في ذلك في القسم الثاني من علوم القرآن
الناسخ والمنسوخ ، فالحظوه هناك إن شاء الله تعلموه.
المسألة الثانية ـ
روى أن أبا بكر الصديق قال : أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية وتتأوّلونها على
غير تأويلها : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ). وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن
يعمّهم الله سبحانه بعذاب من عنده.
وروى أبو أمية الشّعبانى
قال : أتيت أبا ثعلبة
الخشني ، فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال : أية آية؟ قلت : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ؛ فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى
إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كلّ ذي رأى برأيه ـ فعليك
بخاصة نفسك ، ودع أمر العامة ؛ فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على
الجمر ، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلا ، يعملون مثل عملكم ... الحديث إلى آخره.
المسألة الثالثة ـ
هذه الآية من أصول الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذي هو أصل الدّين وخلافة
المسلمين ؛ وقد ذكر علماؤنا أبوابه ومسائله في أصول الدين ، وهي من
فروعه ، وقد تقدم ذكرنا لها في آيات قبل هذا ، وذكرنا بعض شروطه ، وحققنا أن
القيام به فرض على جميع الخلق. وعرضت هذه الآية الموهمة في ابتداء الحال لمعارضتها
لما تقدم ، أو لما يتأخر في كتاب الله تعالى من الآيات المؤكدة للأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر ، وعند سداد النظر وانتهائه إلى الغاية يتبيّن المطلوب.
__________________
وقد قال تعالى : (كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ). وأخبر تعالى أنّ العذاب واقع بهم لأجل سكوتهم عن المنكر
المفعول ، والمعروف المتروك ؛ وهذا يدلّ على مخاطبة الكفار بفروع الشريعة ، وأنهم
يعذّبون على تركها ، وإلى هذا المعنى أشار الصدّيق رضى الله عنه آنفا يقوله عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده. وذلك إنما يكون مع القدرة على ذلك بيقين الأمن من الضرر عند القيام به ؛ يدلّ عليه قوله في حديث أبى
ثعلبة الخشني : فإذا
رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كلّ ذي رأى برأيه فعليك
بخاصة نفسك ، ودع أمر العامة. وذلك لعدم الاستطاعة على معارضة الخلق ، والخوف على النفس أو المال من القيام
بالحق. وتلك رخصة من الله عز وجل يسّرها علينا ، وفضله العميم آتاناه ، وقد بينا
كيفية العمل فيه والاختلاف عليه.
ويعضد ذلك الحديث
الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
من رأى منكم منكرا
فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فليغيّره بلسانه ، فإن لم يستطع فليغيره بقلبه ،
وذلك أضعف الإيمان.
ولهذا المعنى حدّث
أبو سعيد الخدري مروان بن الحكم حين أراد أن يصعد المنبر قبل الصلاة في خطبة
العيدين ، فقال له مروان : ذهب ما كنت تعلم. فسكت أبو سعيد ، وذكر نحو الحديث المتقدم ؛
إذ لم يقدر على مخالفة الملك ، ولا استطاع منازعة الإمارة ، وسكت .
فإن قيل : لم لم
يخرج عن الناس ، ولم يحضر بدعة ، ويقيم سنة مبدّلة؟
قلنا : في الجواب
وجهان :
أحدهما ـ ما قال
عثمان ، حين قيل له إنه يصلّى لنا إمام فتنة. قال الصلاة أحسن ما يفعل الناس ؛
فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
الثاني ـ أن أبا
سعيد لم يستطع الخروج ؛ فإن الموضع كان محاطا به من الحرس مشحونا
__________________
بحاشية مروان ،
يحفظون أعمال الناس ، ويلحظون حركاتهم ، فلو خرج أبو سعيد لخاف أن يلقى هوانا ،
فأقام مع الناس في الطاعة ، وخلص بنفسه من التباعة .
المسألة الرابعة ـ
تذاكرت بالمسجد الأقصى طهّره الله مع شيخنا أبى بكر الفهري هذا الحديث عن أبى
ثعلبة ، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه : إن
من ورائكم أيام الصبر ... للعامل فيها أجر خمسين منكم. فقالوا : بل منهم. فقال :
بل منكم ، لأنكم تجدون على الخير أعوانا ، وهم لا يجدون عليه أعوانا ، وتفاوضنا
كيف يكون أجر من يأتى من الأمة أضعاف أجر الصحابة ، مع أنهم أسّسوا الإسلام ،
وعضدوا الدين ، وأقاموا المنار ، وافتتحوا الأمصار ، وحموا البيضة ، ومهّدوا الملّة؟ وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح :
دعوا لي أصحابى ،
فلو أنفق أحدكم كلّ يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه .
فتراجعنا القول
فكان الذي تنخّل من القول ، وتحصّل من المعنى لبابا أوضحناه في شرح [الحديث] الصحيح ، الإشارة إليه أنّ الصحابة كان لهم أعمال كثيرة
فيها ما تقدم سرده ؛ وذلك لا يلحقهم فيه أحد ، ولا يدانى شأوهم فيها بشر ،
والأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم ، وخلّصها من
شوائب البدع والرياء بعدهم ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باب عظيم هو ابتداء
الدين والإسلام ، وهو أيضا انتهاؤه ؛ وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام ، صعب
المرام لغلبة الكفار على الحقّ ، وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك بوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان ، وظهور
الفتن ، وغلبة الباطل ، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق ، وركوب من
يأتى سنن من مضى من أهل الكتاب ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
لتركبنّ سنن من
كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه.
وقال صلى الله
عليه وسلم : بدأ
الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ.
__________________
قال علماؤنا : فلا
بد ـ والله أعلم ـ بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من
واحد ، ويضعف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه
بالمخاوف ، وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان
لمن كان متمكّنا منه ، معانا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى ، وذلك لقوله : لأنكم تجدون على الخير أعوانا ، وهم لا يجدون إليه أعوانا ، حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتّا
، لضعف اليقين ، وقلة الدين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض
الله الله. يروى برفع الهاء
ونصبها من المكتوبة ، فإن رويت برفع الهاء كان معناه لا تقوم الساعة حتى لا يبقى
موحّد يذكر الله عز وجل ، وإذا نصبت الهاء كان معناه لا تقوم الساعة حتى لا يبقى
آمر بمعروف ، ولا ناه عن منكر يقول : خافوا الله ، وحينئذ يتمنّى العاقل الموت ، كما
قال صلى الله عليه وسلم : لا
تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه.
الآية الرابعة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ
أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا
نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا
إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا
اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ
أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ).
وإنما نظمناها ؛
لأنها في قصة واحدة ؛ وهذه الآية من المشكلات ، وقد عسر القول فيها على المتبحّرين
، فأما الشادون فالحجاب بيننا وبينهم معزف ، والسبيل الموصلة إليها
__________________
لا تعرف ، وما
زلنا مدة الطلب نقرع بابها ونجذب حجابها إلى أن فتح الله تعالى منها بما سردناه لكم وجلوناه
عليكم في تسع وثلاثين مسألة :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وفيه روايات
مختلفة من طرق كثيرة لو سردناها بطرقها ، وسطّرناها بنصوصها ، وكشفنا عن أحوال
رواتها بالتجريح والتعديل لا تسع الشرح ، وطال على القاري البرح ، فلذا
نذكر لكم من ذلك أيسره وورد في الكتاب الكبير أكثره ، فنقول :
روى الترمذي ،
عن محمد بن إسحاق ، عن أبى النّضر ، عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس ، عن
تميم الدارىّ في هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ
بَيْنِكُمْ ...) ، برئ منها الناس غيرى وغير عدىّ بن بدّاء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا
الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبى مريم بتجارة ،
ومعه جام فضة يريد به الملك ، وهو عظم تجارته ، فمرض ، فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبّلغا ما ترك أهله.
قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف
درهم ، ثم اقتسمناها أنا وعدىّ ابن بدّاء ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا
الجام ، فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره.
قال
تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثّمت من ذلك ،
فأتيت أهله ، فأخبرتهم الخبر ، وأدّيت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أنّ عند
صاحبي مثلها ، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألهم البيّنة ، فلم
يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله عز وجل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ...)
__________________
إلى
قوله تعالى : (أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) ، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من
عدىّ بن بدّاء .
قال أبو عيسى :
هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح.
وقد روى شيء من هذا عن ابن عباس على الاختصار ، قال : خرج رجل من بنى
سهم مع تميم الداري وعدى بن بدّاء ، فمات السّهمى بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب ، فأحلفهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وجدوا الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من عدى بن
بدّاء وتميم ، فقام رجلان من أولياء السّهمى ، فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من
شهادتهما ، وإن الجام لصاحبهم. قال : وفيهم نزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ...).
قال أبو عيسى : هذا
حديث حسن غريب ، وكذلك خرّجه البخاري بلفظه والدّارقطنيّ فهو صحيح.
وذكر يحيى بن
سليمان الجعفي صاحب التفسير الكبير ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الكلبي أنّ أبا
صالح حدّثه عن ابن عباس أنه قال : وأما قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ...). قال : بلغنا ـ والله أعلم ـ أنها نزلت في مولى من موالي
قريش ، ثم لآل العاص بن وائل ـ انطلق في تجارة نحو الشام ، ومعه تميم بن أوس
الداري وعدى بن بدّاء ، ويروى بيداء ، وهما نصرانيان يومئذ ، فتوفّى المولى في
مسيره ؛ فلما حضره الموت كتب وصيّته ثم جعلها في ماله ومتاعه ، ثم دفعها إليهما ، وقال لهما : أبلغا أهلى مالي ومتاعي ؛ فانطلقا
لوجهها الذي توجّها إليه ، ففتّشا متاع المولى المتوفى بعد موته ، فأخذا ما
أعجبهما منه ، ثم رجعا بالمال والمتاع الذي بقي إلى أهل الميت فدفعاه إليهم ، فلما
فتّش القوم المال والمتاع الذي بقي فقدوا بعض ما خرج به صاحبهم معه من عندهم ،
فنظروا إلى الوصية ـ وهي في المتاع ـ فوجدوا المال والمتاع فيهما مسمّى ، فدعوا
تميما وصاحبه ، فقالوا لهما : هل باع صاحبنا شيئا مما كان عنده أو اشترى؟ فقالوا : لا. قالوا : فهل مرض فطال مرضه فأنفق
__________________
منه على نفسه؟
قالوا : لا. قالوا : فإنا نفقد بعض الذي مضى به صاحبنا معه. قالوا : ما لنا عما
مضى به من علم ، ولا بما كان في وصيّته ؛ ولكن دفع إلينا هذا المال والمتاع ،
فبلّغناكموه كما دفعه إلينا. فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكروا
له الأمر ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ...) إلى (الْآثِمِينَ). فقاما فحلفا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إدبار
صلاة العصر ، فخلّى سبيلهما ، ثم طلعوا بعد ذلك على إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب عند تميم
الداري ، فقالوا : هذا من آنية صاحبنا التي مضى بها معه ، وقد قلتما إنه لم يبع من
متاعه شيئا! فقالا : إنا كنا قد اشتريناه منه ، فنسينا أن نخبركم به ؛ فرفعوا
أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ...) إلى (الْفاسِقِينَ) ، فقام رجلان من أولياء السّهمى ، فحلفا بالله إنه في
وصيّته ، وإنها لحقّ ، ولقد خانه تميم وعدىّ. فأخذ تميم وعدىّ بكل ما وجد في
الوصية لما اطلع عندهما من الخيانة.
وقد ذكر مقاتل بن
حبان ، عن الحسن ، وعن الضحاك ، وعن ابن عباس نحوه إلا أنه قال : ركبوا البحر مع
المولى بمال معلوم ، وقد علمه أولياؤه وعرفوه من بين آنية وورق ـ وهي الفضة ، فمرض
المولى ، فجعل وصيته إلى تميم وعدىّ النصرانيين ، وذكر معنى ما تقدم ، وقال :
أمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاما بعد صلاة العصر ، فحلفا بالله ربّ
السموات وربّ الأرض ما ترك مولاكم من المتاع إلّا ما أتيناكم به ، وإنا لا نشتري بأيماننا
ثمنا قليلا من الدنيا. قال : ثم وجد عندهما بعد ذلك إناء من آنية الذهب ، فأخذا به
، فقالا : اشتريناه منه في حياته وكذبا ، فكلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
البينة فلم يقدرا على بينة ، فرفعا ذلك إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ فأنزل
الله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ...) إلى (الْفاسِقِينَ) ، فحلف وليّان من أولياء الميت : إنّ مال صاحبنا كذا ، وإن
الذي نطلبه قبل الداريين حقّ.
وعن مجاهد أنّ
رجلين نصرانيين من أهل دارين ، أحدهما تميمى ، والآخر يمان ،
__________________
صحبهما مولى لقريش
في تجارة ، ومع القرشي مال معلوم ، قد علمه أهله من بين آنية وورق فمرض ، فجعل
وصيّته إلى الداريين ، فمات وقبضها الداريان ، فدفعاها إلى أولياء الميت وخاناه
ببعض ماله ، فقالوا : إنّ صاحبنا قد خرج ... وذكر نحو حديث الجعفي.
وذكر سنيد أن
الآية نزلت في تميم الداري وعدىّ بن بدّاء النصرانيين وكانا يختلفان إلى مكة
والمدينة بعد ما هاجر النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فبعث عمرو بن العاص
والمطلب بن وداعة السّهمى معهما رجلا يقال له بديل بن أبى مارية الرومي مولى العاص
بن وائل بمتاع إلى أرض الشام فيه آنية من ذهب ، وآنية من فضة ، وآنية مموّهة
بالذهب. فلما قدموا الشام مرض بديل ، وكان مسلما ، فكتب وصيته ، ولم يعلم بها تميم
الدارىّ ولا عدىّ ، وأدخلها في متاعه ، ثم توفى ولم يبع شيئا من متاعه ، فقدم تميم
الداري وعدىّ المدينة ، ودفعا المتاع إلى عمرو بن العاص وإلى المطلب ، وأخبراهما
بموت بديل ، فقال عمرو والمطلب : لقد مضى من عندنا بأكثر من هذا ، فهل باع شيئا؟
قالا : لا. فمضوا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فأحلف لهما تميما وعديّا بعد صلاة
العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما ترك عندنا غير هذا.
ثم إنّ عمرا
والمطلب ظهرا على آنية عند تميم الداري وعدىّ ، فقالا : هذه الآنية لنا ، وهي ممّا
مضى به بديل من عندنا. فقال لهم تميم وصاحبه عدى : اشترينا هذه الآنية منه. فقال
عمرو والمطلب : قد سألنا كما هل باع شيئا؟ فقلتما : لا ، وقد كانت وصية بديل أنه
لم يبع شيئا. فحلف عمرو والمطلب واستحقّا الآنية.
وذكر الواقديّ أن الآيات الثلاث نزلت في تميم الداري
وأخيه عدىّ ، وكانا نصرانيين ، وكان متجرهما إلى مكة ، فلما هاجر النبىّ صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبى مارية مولى عمرو بن العاص المدينة ، وهو يريد
الشام تاجرا ، فخرج مع تميم الداري وأخيه عدى حتى إذا كانا ببعض الطريق مرض ابن
أبى مارية ، وكتب وصيته ، ودسّها في متاعه ، وأوصى إلى تميم وعدىّ ، فلما مات فتحا
متاعه ، وأخذا منه ما أرادا ، وأوصلا بقية التركة إلى ورثة الميت ، ففتحوا فوجدوا
وصيته ، وقد كتب فيها ما خرج به ، ففقدوا أشياء ، فسألوا تميما
وعديا
عن ذلك ، فقال : ما ندري ، هذا الذي قبضنا له ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفا
بالله ما قبضنا له غير هذا ، وما كتمناه شيئا. فحلفا بعد العصر ، ثم ظهر على إناء
من فضة منقوش بذهب معهما ، فقالا : اشتريناه منه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فنزلت الآية الأخرى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً). فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل بيت
الميت فحلفا ، واستحقّا الإناء. ثم إنّ تميما أسلم ، فكان يقول : صدق الله ، وبلغ
رسوله ؛ أنا أخذت الإناء.
وروى الشعبي أن
رجلا من خثعم خرج من الكوفة إلى السواد ، فمات بدقوقاء فلم يجد أحدا يشهد على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب
، فقدما الكوفة ، فأتيا أبا موسى الأشعرى ، فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال
أبو موسى الأشعرى : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فأحلفهما ، وامضى شهادتهما بعد صلاة العصر بمسجد الكوفة بالله الذي لا إله
إلا هو ، ما كتما ولا غيّرا.
قال ابن عباس :
كأنى أنظر إلى العلجين حتى انتهى بهما إلى أبى موسى الأشعرى ، ففتح الصحيفة ؛
فأنكر أهل الميت وجوههما ، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد صلاة العصر ، فقلت :
لا يبالون بعد العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما. وقد روى عن ابن
مسعود.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ...) قد تقدم في سورة البقرة.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) :
وقد تقدم معنى «شهيد»
في هذه السورة أيضا بعينها ، وبينّا اختلاف أنواعها ، وقد وردت في كتاب الله تعالى
بأنواع مختلفة ، منها قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ). قيل : معناه أحضروا.
ومنها قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : قضى. ومنها شهد
، أى أقرّ ، كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ).
__________________
ومنها شهد بمعنى
حكم ؛ قال تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
أَهْلِها).
ومنها شهد بمعنى
حلف ، كما جاء في اللعان.
ومنها شهد بمعنى
علم. كما قال : (وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ) ؛ أى علم الله.
ومنها شهد بمعنى
وصّى ، كقوله تعالى هاهنا : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ). انتهى كلامه.
وقد نقص موارد منه
، منها قوله : (وَما شَهِدْنا إِلَّا
بِما عَلِمْنا).
المسألة الرابعة ـ
في تحقيق ذلك ، وهو أن بناء «شهد» موضوع للعبارة عما يعلم بدرك الحواس ، كما أن «غ
ى ب» موضوع للعبارة عما لم يدرك بها ، ولذلك قلنا : إن الباري تعالى وتقدّس عالم
الغيب والشهادة ، فمعنى شهدت أدركت بحواسى ، أى علمت بهذه الطريق التي جعلها الله
سبحانه طرقا لعلمي ، ثم ينقل مجازا إلى متعلّقاته ، فمعنى شهد الله : علم مشاهدة ،
وأخبر عما علم بكلامه ، وهذا يكون في المحدث ، فإذا ثبت هذا فقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ) ؛ أى أحضروا من يعلم لكم ما يشاهد من عقدكم.
وقوله : (شَهِدَ اللهُ) ؛ أى علم وأخبر عن علمه ، وبيّن ما علم لنا حتى نتبيّنه.
فأخبر عن حكمه ، فيرجع إلى علمه سبحانه عما يخبر عنه ، لارتباط الخبر والعلم.
وشهد بمعنى حلف مثله ؛ لأنه أخبر عن حاله ، وقرن بخبره تعظيم الله سبحانه تعالى.
وقوله : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) : يريد ما علمناه وعلمه الله معنا ، فإن صدق وإلا كان خبره
عن علم الله كذبا ، والله سبحانه العالم الذي لا يجهل ، والصادق المتقدّس عن
الكذب.
وأما شهد بمعنى
وصىّ فلا معنى له إلا على بعد لا يحتاج إليه.
وأما قوله تعالى :
(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) في هذه الآية فهي عند العلماء على ثلاثة أقوال:
أحدها بمعنى حلف.
والثاني بمعنى حضر للتحمل. والثالث بمعنى الأداء عند الحاكم.
__________________
تقول : أشهد عندك
، أى حضرت لأؤدّى عندك ما علمت ، وأداؤها بلفظ الشهادة بعيد لا درك عند العلماء
لمعناه ، ولا يجزى غيره عنه.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (بَيْنِكُمْ) :
قال بعض علمائنا :
معناه شهادة ما بينكم ، فحذفت ما ، وأضيفت الشهادة إلى الظرف ، استعمل البين اسما
على الحقيقة ، كما قال تعالى : (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). وأنشدوا :
تصافح من لاقيت
لي ذا عداوة
|
|
صفاحا وعنى غيب عينيك منزوى
|
وأنشدوا :
وأهل خباء صالح
ذات بينهم
|
|
قد احتربوا في
عاجل أتى آجله
|
وتحقيق القول فيه
أنّ «بين» في أصله مصدر قولك : بان يبين بينا ؛ أى فارق ما كان مجتمعا معه ،
وانفصل عما كان متّصلا به ، ومنه حديث النبىّ صلى الله عليه وسلم : ما أبين من حىّ فهو ميّت. المعنى ما فصل من أعضاء الحيوان عنه حال حياته فهو ميته ؛
يعنى لا يحلّ أكله ؛ واستعمل ظرفا على معنى المصدر ، وهو باب من أبواب النحو ،
تقول : بين الدار والمسجد مسافة. ولو كانا مجتمعين لم يكن بينهما بين ، أى موضع
خال منهما. ولما كان الاجتماع على ضربين : اجتماع أجسام ، واجتماع معان ، وهي
الأخلاق والأهواء جعل افتراق الأهواء كافتراق الأجسام ، واستعمل فيه «بين» الذي هو
الافتراق فيهما جميعا.
والدليل عليه قول
الله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ). وعلى هذا يحمل قوله : بيني وبينه رحم ، أى ما افترقنا إلا
عن أصل واحد. وبيني وبينه شركة ؛ أى افترقنا في كل شيء إلا عن جمع المال المخصوص.
فقال أهل الصناعة
: هو مصدر في المعاني ، ظرف في الأجسام لما كانت ذوات مساحات محسوسات فرقا بينها
وبين المعاني ، والكلّ في الحقيقة تباين وتباعد وفرقة. ومنه قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) مرفوعا ومنصوبا. المعنى : لقد تقطع تباعدكم وافتراقكم بحيث
لا يكون له اتصال ؛ فإنّ الذي يبين على قسمين ، منه ما يرجى له اتصال ، ومنه ما لا
يرجى له اتصال ، فيعبّر عنه بالتقطع.
__________________
وقد جعل أهل
الصناعة هنا «بين» للظرف ، وكثر ذلك حتى جعل اسما في الأهواء المتباينة ، مجازا
يعبّر به عنها ، وعليه يخرج : (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) على قراءة الرفع. المعنى : لقد تفرّقت أهواؤكم وأخلاقكم.
وتارة تضاف
بالكناية إليه فيقال : ذات البين. قال الله سبحانه : (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ).
قال الشاعر :
وأهل خباء صالح ذات بينهم
كما تقدم.
ويقال : الأمر
الذي بينكم ، وما بينكم مبهم ، معناه الأمر الذي فرقكم. فإذا ثبت هذا فمعنى قوله :
(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) ، أى شهادة اختلافكم وتنازعكم ؛ فتكون الشهادة مضافة إلى
المصدر ، لا إلى الظرف ولا على تقدير محذوف. وهذه غاية البيان ، ولو هدى له من
تكلم على الآية ما تخبّط فيها ولا خلط معانيها.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) :
ولفظ «حضر» يعبّر
به عن الوجود مشاهدة ، وضدّه غاب ، وهو أيضا عبارة عن الوجود الذي لم يشاهد ، وقد
يعبّر بقولك : «غاب» عن المعدوم. والباري ـ سبحانه ـ عالم الغيب والشهادة ؛ أى
عالم الموجود والمعدوم ؛ لأنه مثل الوجود في عدم المشاهدة.
وقد وردت هذه
اللفظة عبارة عن الموت في كتاب الله حقيقة ، وهو في قوله تعالى: (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ). وفي قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) ؛ فهو في هذين الموضعين حقيقة الوجود مشاهدة.
وأما ورودها مجازا
فبأن يعبّر عن حضور سببه بحضوره ، وهو المرض ، فيعبّر عن المسبّب بالسبب ، وهو أحد
قسمي المجاز ، كما بينّاه في غير موضع.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (حِينَ الْوَصِيَّةِ
اثْنانِ) :
ومعنى «حين» وقت ؛
وتقدير الآية شهادة بينكم إذا أردتم الوصية ، وقد مرضتم ؛
__________________
وذلك أن الوصية
تكون في ثلاثة أحوال : الأوّل حال البدار إلى السنّة ؛ لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم :
ما حقّ امرئ مسلم
يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده.
وقد تقدم شرح وقت
ذلك وسببه وحقيقة الوصية ، وهي المسألة الثامنة.
المسألة التاسعة ـ
في وقت الوصية وسننها بالإيضاح والبسط :
وذلك عند السفر
للمخافة فيه ، والمرض ؛ لأنه رائد المنية ومظنّتها ، وقد قال مالك في كتاب العتق :
إذا قال لعبده في مرضه : أنت حرّ بعد موتى كان له الرجوع عنه ؛ لأنها حالة مرض ،
فاقتضت ذلك قرينة في الحكم بأنه وصية ، فجاز له الرجوع فيه.
وقد كنت أردت بسطه
، فلما ذكرت طوله قبضت عنه العنان ، وأحلت على مسائل الفقه بالبيان.
المسألة العاشرة ـ
قوله تعالى : (اثْنانِ) :
وكان بمطلقه يقتضى
شخصين ، ويحتمل رجلين ، إلا أنه قال بعد ذلك : ذوا عدل ، فبيّن أنه أراد رجلين ؛
لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر ، كما أن «ذواتي» لا تصلح إلا للمؤنث.
المسألة الحادية
عشرة ـ إعرابه :
وفيه أربعة أقوال
:
الأوّل ـ أن يكون «شهادة»
مرتفعا بالابتداء واثنان خبره. التقدير شهادة اثنين.
الثاني ـ أن يرتفع
اثنان بشهادة ؛ التقدير وفيما أنزل عليكم أن يشهد اثنان.
الثالث ـ أن يكون
اثنان مفعولا لم يسمّ فاعله بشهادة.
الرابع ـ يكون
تقديره : شهود شهادة بينكم اثنان ، ويجوز الحذف مع الابتداء ، كما يجوز مع الخبر.
وفي الثالث بعد ؛
لأن شهادة مصدر شهد ، وهو بناء لا يتعدى ، وقد مهدناه في الملجئة.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة.
المسألة الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (مِنْكُمْ) :
فيه ثلاثة أقوال :
__________________
أحدها ـ من
المسلمين ، والكاف والميم لضميرهما ؛ قاله ابن عباس ، ومجاهد.
الثاني ـ من
قبيلتكم ؛ قاله الحسن ، وسعيد بن المسيّب.
الثاني ـ منكم :
من أهل الميت.
المسألة الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (أَوْ) :
قيل : هي للتخيير.
وقيل : للتفصيل.
معناه أو آخران من
غيركم إن لم تجدوا منكم ـ قوله ابن المسيب ، ويحيى بن يعمر ، وأبو مجلز ، وإبراهيم ، وابن جبير ، وشريح ؛ ويروى عن أبى موسى
الأشعرى ، وابن عباس.
وتحقيق النظر في
هذا الفصل أن قوله : (مِنْكُمْ) قد تقدّم فيه الخلاف ، وعليه يتركّب قوله : أو آخران ،
وقوله : غيركم ؛ وهي مسألتان تتمّ بهما ست عشرة مسألة ، فإن كان منكم من أهل
ملّتكم كان قوله : غيركم للكافرين ، وكان الآخران من ليس بمسلم وإن كان المراد به
من غير قبيلتكم كان كما قال الزهري والحسن وغيرهما ؛ فقبيل الميت وعشيرته أعلم
بحاله.
وتعلّق من قال
بأنه من غير أهل ملّتكم بأنّ الله سبحانه خاطب المؤمنين ، ثم قال لهم: من غيركم ؛
وغير المؤمنين هم الكافرون.
وأما من قال : من
أهل الميت فلأن الحجة لهم والكلام منهم ومعهم ؛ ويؤكده أيضا بأنه قال في أوّل
الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) ، ثم قال : (مِنْ غَيْرِكُمْ) ـ يعنى أو آخران عدلان من غيركم. وبه يصحّ العطف ، وقال : (تحبسونهما
من بعد الصلاة) ؛ فدلّ على أنهما من أهل الصلاة ، وإذا كانا مؤمنين احتمل أن يكون
ذلك فيهما من القبيلة أو من الورثة ، ويترجّح ذلك بحسب ما تقدم.
المسألة السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ) ، وقد تقدّم بيانه في سورة النساء.
المسألة الثامنة
عشرة ـ إنّ ذلك يتضمّن الشهادة في الحضر والسفر ، وتقدّم أيضا ذكر
__________________
ذلك في سورة
البقرة ، ويتخصّص به هاهنا أنّ الله تعالى لما قال : إذا ضربتم في الأرض ، كان ذلك شرطا فيه حيث لا يوجد مسلم في الغالب ،
فيؤخذ الكافر عوضا منه للضرورة في الشهادة ؛ قاله جماعة من التابعين ، واختاره
أحمد بن حنبل ، وأجاز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ، واحتجّ بالحديث
والآية. ونبيّنه فيما بعد ، إن شاء الله تعالى.
المسألة التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (فَأَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) ، يعنى وقد أسندتم النظر إليهما ، واستشهدتموهما. أو
ارتبتم بهما على ما تقدم بيانه في سرد القصص والروايات وذكر الآثار والمقالات.
المسألة الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ
بَعْدِ الصَّلاةِ) :
وفي ذلك دليل على
حبس من وجب عليه الحقّ ، وهو أصل من أصول الحكمة ، وحكم من أحكام الدين ؛ فإن
الحقوق المتوجهة على قسمين : منها ما يصحّ استيفاؤه معجّلا ، ومنها ما لا يمكن
استيفاؤه إلّا مؤجّلا. فإن خلّى من عليه الحقّ وغاب واختفى بطل الحقّ وتوى ، فلم يكن بدّ من التوثّق منه ، فإما بعوض عن الحق ويكون
بمالية موجودة فيه ؛ وهي المسمّى رهنا ، وهو الأولى والأوكد ؛ وإما شخص يتوب منا
به في المطالبة والذمة ، وهو دون الأول ؛ لأنه يجوز أن يغيب كغيبته ، ويتعذّر
وجوده كتعذره ، ولكن لا يمكن أكثر من هذا. فإن تعذّرا جميعا لم يبق إلا التوثّق
بحبسه ، حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حقّ ؛ فإن كان الحقّ بدنيّا لا يقبل
البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجّلا ، لم يبق إلا التوثّق بسجنه ؛
ولأجل هذه الحكمة شرع السجن.
وقد روى الترمذىّ
وأبو داود أنّ النبىّ صلى الله
عليه وسلم حبس في تهمة رجلا ثم خلّى عنه.
وفي مصنّف عبد
الرزاق أنّ النبىّ صلى الله
عليه وسلم أتى بسارق فقال : احبسوه ؛ فإن مات صاحبه فاقتلوه.
__________________
وهذا دليل على أنّ
الشهادة يمين ، وأنه عنى بهم المتنازعين في الحق لا القائمين بالشهادة فيه ؛ لأنّ القائم بالشهادة لا حبس عليه.
المسألة الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) :
وفيه أربعة أقوال
:
أحدها ـ بعد العصر
؛ قاله شريح ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وقتادة.
الثاني ـ من بعد
الظهر ؛ قاله الحسن.
الثالث ـ أى صلاة
كانت.
الرابع ـ من بعد
صلاتهما ، على أنهما كافران.
وقد روى في الصحيح
أن النبىّ صلى الله
عليه وسلم حلف المتلاعنين بعد العصر وروى بعد
الظهر.
وفي الصحيح : من
حلف على يمين بعد العصر لقى الله سبحانه وهو عليه غضبان. وهذا على طريق التغليظ
بالزمان.
وقد اختلف العلماء
فيه اختلافا كثيرا بيّناه في مسائل الخلاف ، وشرحنا أنّ حكم التغليظ يتعلّق بثلاثة
أوجه :
أحدها ـ تغليظ
بالألفاظ.
الثاني ـ تغليظ
بالمكان ، كالمسجد والمنبر ؛ لأنه مجتمع الناس ، فيكون له أخزى ، ولفضيحته أشهر.
الثالث ـ التغليظ
بالزمان ، كما بعد العصر ، وسيأتى ذكر ذلك في سورة «النور» إن شاء الله.
ومن علمائنا من
قال : إنّ التغليظ يكون بستة أوجه :
الأول باللفظ.
الثاني بالتكرار. الثالث بالمصحف. الرابع بالحال. الخامس بالمكان.
السادس بالزمان.
أما التغليظ
بالألفاظ ففيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ الاكتفاء
بقوله بالله. وقال أشهب : لا تجزئه.
__________________
الثاني ـ الاكتفاء
بقوله : بالله الذي لا إله إلّا هو. وقال ابن كنانة عن مالك : أمّا ربع دينار ،
والقسامة ، واللعان ، فلا بدّ من أن يقول فيه : بالله الذي لا إله إلّا هو عالم
الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. وهو القول الثالث ، وبه قال الشافعى.
ولقد شاهدت القضاة
من أهل مذهبه يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو ، الطالب الغالب ، الضارّ النافع ،
المدرك المهلك ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم.
وهذا ما لا آخر له
إلا التسعة والتسعون اسما ، وغير هذه الأسماء التي حلفوا بها أرهب وأعظم معنى من
غيرها.
وقد ثبت عن النبىّ
صلى الله عليه وسلم في الصحيح : الحلف
بالله وبالذي لا إله إلا هو ، وهو التغليظ ، وبالمصحف ، وهو مذهب الشافعى ، وهو بدعة ما ذكرها أحد قطّ من
الصحابة ، وكلّ فصل يستوفى بموضعه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) :
قيل : هما
الوصيّان إذا ارتيب بقولهما. وقيل : هما الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بهما
الحاكم حلّفهما.
والذي سمعت ـ وهو
بدعة ـ عن ابن أبى ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حقّ ، وحينئذ
يقضى للمدعى بالحق.
وتأويل هذا عندي
إذا ارتاب الحاكم بالقبض للحقّ فيحلف إنه لباق. وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه. هذا
في المدعى فكيف يحبس الشاهد أو يحلّف؟ هذا مما لا يلتفت إليه المسألة الثالثة والعشرون ـ قوله : (بِاللهِ) :
وهذا نصّ من كتاب
الله في ترك التغليظ بالألفاظ.
والذي أقول : إنه
إن كان الحالف كافرا كما تقدّم في سرد الأقوال والروايات ، وقلنا بالتغليظ فلا
يقال له في التغليظ قل : بالله الذي لا إله إلا هو ؛ لأنهم لا يقرّون بها ،
__________________
وعلى إقرارهم على
هذا الإنكار بذلوا الجزية ، ولكنهم يحلفون ، كما روى أبو داود وغيره أنّ النبىّ
صلى الله عليه وسلم قال لليهود : أنشدكم
بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، وتغلّظ عليهم بالمكان في كنائسهم ، وبالزمان بعد صلاتهم ،
كما تقدم ذكره في قصة دقوقاء ؛ فإنّ الغرض من هذا التغليظ كلّه زجر الحالف عن الباطل ،
والرجوع إلى الحق ، ورهبته بما يجلّ من ذلك ، حتى يكون ذلك داعية للانكفاف عن
الباطل والرجوع إلى الحق ، وهو معنى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها).
وقد حققنا هذا
الغرض ، فقلنا : إن الله سبحانه ما غلظ في كتابه يمينا ، إنما قال : فيقسمان
بالله. وقال تعالى : (قُلْ إِي وَرَبِّي
إِنَّهُ لَحَقٌ). وقال مخبرا عن خليله : (وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ). وقال النبىّ صلى الله عليه وسلم : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.
ولكن قد روى
البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتّقوا
الله ، فو الله الذي لا إله إلّا هو لتعلمنّ أنّى رسول الله حقا.
وروى النسائي وأبو
داود أنّ خصمين أتيا
النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدّعى : البينة. قال
: يا رسول الله ، ليس لي بيّنة. فقال للآخر : احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له
عليك شيء ، أو ما له عندك شيء.
وتغليظ العدد في
اللعان ، وهو التكرار ، وفي القسامة مثله.
وزعم الشافعى أنه
رأى ابن مازن قاضى صنعاء يحلف بالمصحف ويؤثر أصحابه ذلك عن ابن عباس ، ولم يصحّ.
وأما التغليظ
بالحال فروى عن مطرّف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعى أنه يحلف قائما مستقبل
القبلة.
وروى ابن كنانة عن
مالك : يحلف جالسا.
__________________
والذي عندي أنه
يحلف كما يحكم عليه بها إن قائما فقائما ، وإن جالسا فجالسا ؛ إذ لم يثبت في أثر
ولا نظر اعتبار قيام أو جلوس.
وتغليظ المكان كما
قلنا في مسائل الخلاف ، وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : من حلف على منبري بيمين كاذبة فليتبوّأ مقعده من النار.
فقيل : أراد أن
يبيّن الحال ؛ لأنه مقطع الحقوق. وقيل : أراد أن يخبر عن قوم عاهدوا وحلفوا على
المنبر للناس ثم غدروا.
وروى أنّ عبد
الرحمن بن عوف رأى رجلا يحلف بين الركن والمقام فقال : أعلى دم أو على مال عظيم؟
فدلّ ذلك على أنه عندهم من المستقرّ في الشرع ألّا يحلف هنالك إلا على ما وصف ،
فكلّ مال تقطع فيه اليد ، وتسقط فيه حرمة العضو فهو عظيم.
المسألة الرابعة ،
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) :
والريبة هي التهمة
؛ يعنى من ادّعى عليهما بخيانة. واختلف في المرتاب ، فقيل : هو الحاكم. وقيل : هم
الورثة ؛ وهو الصحيح.
ويمين التهمة
والريبة على قسمين :
أحدهما ـ ما تقع
الرّيبة فيه بعد ثبوت الحق أو توجّه الدعوى ؛ فهذا لا خلاف في وجوب اليمين.
الثاني ـ التهمة
المطلقة في الحقوق والحدود ؛ وهو تفصيل طويل ، بيانه في أصول المسائل وصورها من
المذهب ، وقد تحقّقت هاهنا الدعوى ، وثبتت على ما سطر في الروايات.
المسألة الخامسة
والعشرون ـ قوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ
ثَمَناً) :
قال علماؤنا :
معناه لا نشتري به ذا ثمن ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وهذا ما لا يحتاج
إليه ؛ فإنّ الثمن عندنا مشترى ، كما أن المثمون مشترى ، فكلّ واحد من المبيعين
ثمنا ومثمونا ، كان البيع دائرا على عرض أو نقد ، أو على عرضين أو نقدين ، وعلى
هذا الأصل تنبنى مسألة ما إذا أفلس المشترى ووجد متاعه عند البائع ، هل يكون أولى
به؟ قال أبو حنيفة : لا يكون أولى به ، وبناه على هذا الأصل ، وقد بيناه في مسائل
الخلاف.
__________________
المسألة السادسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (بِهِ) :
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ يعنى
القول الذي قلناه.
الثاني ـ أن الهاء
تعود على الله تعالى. المعنى : لا نبيع حظّنا من الله تعالى بهذا العرض.
الثالث ـ هو ضمير
الجماعة ، وهم الورثة ، وهم المتهمون الذين لهم الطلب ولهم التحليف ، والحاكم
يقتضى لهم وينوب عنهم في إيفاء الحق.
والصحيح عندي أنه
يعود على القول ، فبه يتمكّن المعنى ولا يحتاج إلى سواه.
المسألة السابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) :
معناه : لا نشهد
الزّور ، ولا نأخذ رشوة لنكذب ، ولو كان المشهود له ذا قربى ؛ قاله ابن زيد ؛ وهذا
بناء على أنها شهادة. ومن قال : إنها يمين قال : التقدير : لا نأخذ بيميننا بدلا
منفعة ، ولو كان ذلك لذي القربى ، فكيف لأجنبىّ.
المسألة الثامنة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ) :
يحتمل أن يريد ما
علم الله ، ويحتمل أن يريد به لا نكتم ما أعلمنا الله من الشهادة ؛ أضافها إليه
لعلمه بها ، وأمره بأدائها ، ونهيه عن كتمانها ، قال علماؤنا : ويقولان في يمينهما
: بالله إن صاحبكم بهذا أوصى أنّ هذه تركته.
المسألة التاسعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ) :
يحتمل أنّ هذه
الألفاظ لا تتعيّن لليمين ، ولا للشهادة ، وإنما تكون اليمين على نفى الدعوى كيفما
كانت ، وتكون الشهادة بصفة الحال كما جرت ، فأما أن يقول الشاهد : إنى لا أشترى
بشهادتى شيئا ، ولو كان قرابتي. أو يقولها الحالف في يمينه ، فلا يلزم ذلك عندي
ولا عند أحد ، ولكن يحلف أو يشهد كما وصفنا ويعتقد ما قال الله تعالى ، فهذا الذي
أخبر الله تعالى به يكون في اعتقاده لا في لفظه في شهادة أو يمين.
المسألة الموفية
ثلاثين ـ قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) :
يريد ظهر ، وأظهر
شيء في الطريق ما عثر عليه فيها ، ويستعمل فيما كان غائبا عنك
__________________
وكنت جاهلا به ،
ثم حضر لديك واطّلعت عليه ، ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ) لأنهم كانوا يطلبونهم ، وقد خفى عليهم موضعهم. التقدير :
إذا نفذ الحكم عليهم في الظاهر باليمين ، ثم ظهر وتبيّن بعد ذلك كذبهم.
المسألة الحادية
والثلاثون ـ قوله : (أَنَّهُمَا) :
قيل : هما
الشاهدان ؛ قاله ابن عباس. وقيل : هما الوصيّان ؛ قاله ابن جبير. وهو مبنيّ على ما
تقدم ، ويتركب عليه ، ويختلف التقدير بحسب اختلافه كما تقدّم.
المسألة الثانية
والثلاثون ـ قوله : (إِثْماً) :
يحتمل أن يريد به
عقوبة ، ويحتمل أن يريد به غرما ، وظاهر الإثم العقوبة ، لكن صرف عن هذا الظاهر
قوله : استحقّا ، والعقوبة لا تستحقّ بالمعاصي ، ولا يستحقّ على الله شيء حسبما
تقرّر في الأصول ، فيكون معناه استوجبا غرما بطريقة.
ويدلّ على صحة هذا
الاحتمال قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) ؛ فإنما يستحقّ على هؤلاء ما كانا استحقّاه ، ويدلّ عليه أيضا
أنّ القوم ادّعوا أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك مما يكون فيه اليمين
على ورثة الميت دون المدعى ، وتكون البينة فيه على المدّعى.
المسألة الثالثة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (فَآخَرانِ) :
إنما هو بحسب
الاتفاق أنّ الوارثين كانا اثنين ، ولو كان واحدا لأجزأه.
المسألة الرابعة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) :
معناه ممن كان نفذ
عليهم القضاء قبل ذلك بوصية أو دين أو غير ذلك مما كان الميت ذكره ، وهم الورثة.
ومن يعجب فعجب قول
علمائنا : إنّ في قوله «عليهم» ثلاثة أقوال ، لا نطوّل بذكرها ، ولا نحفل بها ؛
لأنّ قوله : «استحقّ» مع قوله «على» متلائم فلا يحتاج إليها.
__________________
المسألة الخامسة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (الْأَوْلَيانِ) :
وهذا فصل مشكل
المعنى مشكل الإعراب ، كثر فيه الاختلاط :
أما إعرابه ففيه
أربعة أقوال :
الأول ـ أنه بدل
من الضمير في «يقومان» ، ويكون التقدير : فالأوليان يقومان مقام الأولين.
وهذا حسن ؛ لكن
فيه ردّ البعيد إلى القريب في البدلية بعد ما حال بينهما من طويل الكلام ، ويكون
فاعل «استحق» ـ بضم التاء ـ مضمرا تقديره الحقّ أو الوصية أو الإيصاء أو المال.
وقيل : فاعل استحق
عائد على الإثم المتقدم ذكره ، وهو الغرم للمال ، كما قدمناه.
الثاني ـ أن «الأوليان»
فاعل باستحق ، يريد الأوليان باليمين بأن يحلفا من يشهد بعدهما ، فإن جازت شهادة
النصرانيين كان الأوليان النصرانيين ، والآخران من غير بيت [أهل] الميت.
هذا قول بعضهم.
ولا أقول به ؛ وإنما يكون تقدير الآية على هذا : من الذين استحق عليهم الأول
وبالحق.
الثالث ـ أن يكون
بدلا من قوله : آخران.
الرابع ـ أن يكون
على الابتداء ، والخبر مقدم ، تقديره فالأوليان آخران.
والصحيح من هذا هو
الأول ، وقد بينّاه في الملجئة ، وأكملنا تقدير الآية فيه.
وأما من قرأ
الأولين ـ وهو حمزة ، وأبو بكر ـ فيرجع إلى الأولين ، وهو حسن. وقرأ حفص استحق
بمعنى حقّ عليهم.
ومن الغريب أنهم اختلفوا
في قوله : (عَلَيْهِمُ) ؛ فقيل فيهم ، كما قال تعالى : (عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ) ؛ أى في ملك سليمان. وهذا كثير.
وقال قوم : معناه
منهم ، كما قال تعالى : (إِذَا اكْتالُوا
عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ). وهذه دعاوى وضرورات لا يحتاج إليها ، ولا يصحّ مرادهم في
بعض ما استشهد به منها.
__________________
المسألة السادسة
والثلاثون ـ في معنى الأوليان :
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ قال ابن عباس : الأولى بالشهادة.
الثاني ـ قال ابن
جبير : الأولى بالميت من الورثة.
الثالث ـ الأولى
بتحليف غيره ؛ قاله ابن فورك ؛ وهو يرجع إلى الثاني ، وهو أصح من الأول.
المسألة السابعة
والثلاثون ـ قوله : (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ
مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) :
المعنى : لقولنا
أحقّ من قولهما.
وهذا القول كما
قدمناه محمول على المعنى ، وأنّ يمين الحالف لا تكون إلا بلفظ الدعوى. والحكمة في
ذلك أنّ اليمين إذا كانت بإنّ قولي أصدق من قولك ربما ورد في يمينه ، بأن يكون
مدّعيه قد كذب من كل وجه ، وكذب هو من وجه واحد ، فيلزم التصريح حتى يتحقق الكذب ، وتحصل المهاجرة إن خالف ، ليأتى
بالصدق على وجهه ؛ فإذا صرّح بالقول في اليمين لم ينفعه ما نوى إذا أضمر من معنى
اليمين خلاف الظاهر منها ، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم :
يمينك على ما
يصدقك عليه صاحبك. وهو حديث صحيح ، ومعنى قويم متفق عليه قررناه في مسائل الفقه .
المسألة الثامنة
والثلاثون ـ في بقاء معنى هذه الآية أو ارتفاعه :
قال ابن عباس :
حكمها منسوخ. وقال الحسن : حكمها ثابت ، فمن قال : إنها منسوخة قال : إنّ اليمين
الآن لا تجب على الشاهد ؛ لأنه إن ارتيب به لم تجز شهادته ، وإن لم تكن هناك ريبة
ولا في حاله خلّة لم يحتج إلى اليمين ، وعلى هذا عوّل جمهور العلماء ونخبتهم. وقد
قرر الله تعالى ذلك وحقّقه بأمره في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ). و (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَداءِ) . فوقعت الشهادة على العدالة ، واقتضيت اليمين منها إن كانت
فيها.
__________________
وأما من قال :
إنها ثابتة فاختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال : إنّ شهادة أهل الذمة جائزة في السفر ؛
منهم أحمد كما تقدم يجوّزها في السفر عند عدم المسلمين بغير يمين ، وصار بعض
أشياخنا إلى أنّ ذلك باق باليمين ، وهو خرق للإجماع ، وجهل بالتأويل ، وقصور عن
النظر ، وإذا أسقط أحمد اليمين ، فلا حجة له في الآية ولا في الحديث ؛ لأن اليمين
تثبت فيهما جميعاً.
والصحيح أن الشهادة
اليمين ، وهي هاهنا يمين الوصيّين ، كما سمّيت اليمين في اللّعان شهادة.
وقال الطبري :
إنما حكم الله سبحانه باليمين على الشاهدين في هذا الموضع من أجل دعوى ورثة الميت
على المسند إليهما الوصية بالخيانة ، أو غير ذلك ، ما لا يبرأ فيه المدّعى ذلك
قبله إلا بيمين ؛ فإنّ نقل اليمين إلى ورثة الميت إنما أوجبه الله تعالى بعد أن
عثر على الشاهدين في أيمانهما بإثم ، وظهر على كذبهما في ذلك بما ادّعوا من مال
الميت أنه باعه منهما ، وهذا بناء على أن الخيانة ظهرت في أداء المال ، ولذلك حلفا
مع الشهادة.
قال القاضي ابن
العربي : وهذا يصحّ على إحدى الروايات التي ذكر فيها أنهما ادّعيا بيع الجام
منهما.
وأما على الرواية
الأخرى فلا يستقيم هذا التأويل ؛ لأنّ الشاهدين أدّيا التركة فيما ذكر فيها ،
وانقلبا على ستر وسلامة ، ثم بعد ذلك ظهرت الخيانة في الجام ؛ إما بأنه وجد يباع ،
وإما بتحرج تميم الداري وتأثّمه وأدائه ما كان أخذه منه.
وتحقيق الكلام فيه
أنّ كلّ رواية من تلك الروايات عضدتها صيغة القصة في كتاب الله وسردوها فإنها صحيحة ، وكل ما لم يعضده منها فهو مردود.
أما إنه إذا فسرت
الكلام في كتاب الله فاحتجت إلى تجويز أو تقديم أو تأخير فكلما كان أقل في ذلك من
التأويلات فهو أرجح ، وكلما كان من خلاف الأصول فيه أقل فهو أرجح ، كتأويل فيه
إجازة شهادة الكافر وإحلاف الشاهد على شهادته ؛ فإنّ
__________________
التأويل الذي يخرج
عنه هذا هو أرجح ، ولا يسلم تأويل من اعتراض ؛ فإن البيان من الله تعالى في هذه
الآية للأحكام جاء على صفة غريبة وهو سياقه على الإشارة إلى القصة ؛ ولذلك جاء بانتقالات
كثيرة ، منها أنه قال : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما). وربما كان المدعى واحدا ، فليس قوله تعالى : (فآخران)
خارجا مخرج الشرط ، وإنما هو كناية عمّا جرى من العدد في القصة ، والواحد كالاثنين
فيها ؛ فيطلب الناظر مخرجا أو تأويلا للفظ لا يحتاج إليه ، فيدخل الإشكال على نفسه
من حيث لا يشعر به ، فلا يساحل عن هذا البحر أبدا ؛ وكذلك ما جرى من التعديد لا يمنع من
كون الشهادة بمعنى اليمين ، كما في اللعان. وإن كان لم يذكر في اللّعان عددا ،
وجرى ذكره هاهنا لاتّفاقه في القصة ؛ لا لأنه شرط في الحكم.
وكذلك ذكر العدالة
تنبيها على ما يجب ؛ لأنه إن أشهده وجب أن يكون عدلا لتحمل الشهادة ، فإن ائتمنه
وجب أن يكون عدلا لأداء الأمانة.
المسألة التاسعة
والثلاثون ـ في تقدير الآية :
وهو : يا أيّها
الذين آمنوا إذا ضربتم في الأرض ، وحضركم المرض الذي هو سبب الموت ، وأردتم الوصية
فأشهدوا ذوى عدل منكم من قرابتكم أو آخران من غيركم فإن خافا فاحبسوهما على اليمين
إن عدمتم البينة. فإن تبينت بعد ذلك خيانتهم حلف ممن حلفوا له ، وهو أولى باستحقاق
ما يجب باليمين.
وعلى مذهب أحمد
يكون تقدير الآية : فاشهدوا ذوى عدل من المسلمين ، فإن لم تجدوا فأشهدوا الكفّار ؛
فإن أدّيا ما أحضرا له أو ائتمنا عليه فبها ونعمت ، وإن أدركتهم تهمة أو تبينت
عليهم خيانة ، حلفوا. وليس في الآية ما يدلّ على قبول شهادتهم في الوصية على مذهب
أحمد.
وإنما قبلنا نحن
شهادة العدل في الوصية بدليل آخر غير هذه الآية ، وكذلك قوله : إنما يكون ذلك من
قبول شهادة الكفار إذا عدم المسلمون ، وليس في هذه الآية إلا التسوية بينهما ،
فكلّ شيء يعترضكم من الإشكال على دليلنا وتقديرنا الذي قدّرناه آنفا ، فانظروه في
موضعه هاهنا تجدوه مبيّنا إن شاء الله تعالى.
__________________
سورة الأنعام
فيها ثمان عشرة آية
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (وَعِنْدَهُ) :
اعلموا أنّا قد
بيّنا هذه الآية في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين بما المقصود منه
هاهنا أنّ «عنده» كلمة يعبّر بها عما قرب منك. وتحقيقه أن دنوّ الشيء من الشيء
يقال فيه قريب ، ونأيه عنه يقال فيه بعيد ، وأصله المكان في المساحة ، تقول: زيد منك ، وعمر وبعيد عنك.
ويوضع الفعل موضع
الاسم ؛ فتقول : زيد قربك ، ثم ينقل إلى المكانة المعقولة غير المحسوسة ، فيقال :
العلم منك قريب ، وعليه يتأوّل ما يخبر به عن الباري سبحانه من ذلك ، وبه يفسّر
قوله سبحانه : (وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) بعشرين معنى جائزة على الله سبحانه ، مما يصحّ أن يوصف بها ويخبر عنه بمعناها
على ما بيّنا في كتاب المشكلين.
وتقول : زيد
قدّامك ، وعمر وراءك. فإذا قلت زيد قدّامك احتمل المسافة من لدن جسمه إلى ما لا
ينحصر منتهاه قدما ، وكذلك وراءك ، فصغّروه إذا أرادوا قرب المسافة من المخبر عنه
، فقالوا : قديديمة . وإذا أرادوا تخليص القرب بغاية الدنو قالوا : زيد عندك ،
عبّروا به عن نهاية القرب ، ولذلك لم يصغّروه ، فيقولوا فيه عنيد.
وقد يعبّر بها
أيضا عما في ملك الإنسان ، فيقال : عنده كذا وكذا ؛ أى في ملكه لأنّ
__________________
الملك يختصّ
بالمرء اختصاص الصفة بالموصوف ؛ فعبّروا بأقرب الوجوه إليه بقوله : عنده ، وهو
المراد بقوله في الحديث : نهى
النبىّ صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ـ يعنى في ملكك.
إذا ثبت هذا ـ وهي
:
المسألة الثانية ـ
فقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ) يحتمل أن يريد به قربها منه قرب مكانة وتيسير ، لا قرب
مكان. ويحتمل أن يريد أنها في ملكه يظهر منها ما يشاء ويخفى ما يشاء.
المسألة الثالثة ـ
هذه الآية أصل من أصول عقائد المسلمين ، وركن من قواعد الدين ، معظمها يتفسّر بها
، وفيها من الأحكام نكتة واحدة ؛ فأما منزعها في الأصول فقد أوضحناه في كتاب
المشكلين ؛ وأما نكتها الأحكامية فنشير إليها في هذا المجموع ، لأنها من جنس
مضمونه ، ومع هذا فلا بدّ من الإشارة إلى ما تضمّنه كتاب المشكلين لينفتح بذلك غلق
الحكم المطلوب في هذا المجموع.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) : واحدها مفتح ومفتاح ، وجمعه مفاتح ومفاتيح ، وهو في
اللغة عبارة عن كلّ معنى يحلّ غلقا ، محسوسا كان كالقفل على البيت ، أو معقولا
كالنظر ، والخبر يفتح قفل الجهل عن العلم والغيب ، وهي :
المسألة الخامسة ـ
عبارة عن متعلق لا يدرك حسّا أو عقلا ، وكما لا يدرك البصر ما وراء
الجدار أو ما في البيت المقفل ، كذلك لا تدرك البصيرة ما وراء المحسوسات الخمس ،
والمحسوسات منحصرة الطرق بانحصار الحواسّ ، والمعقولات لا تنحصر طرقها إلا من جهة
قسمين :
أحدهما ـ ما يدرك
ببديهة النظر.
الثاني ـ ما
يتحصّل من سبيل النظر.
أما إنه لها أمهات
خمس وقعت الإشارة إليها وجاءت العبارة عنها بقوله تعالى :
__________________
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما
تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
فالأمّ الكبرى ـ الساعة
؛ وما تضمّنت من الحشر والنّشر والموقف ، وما فيه من الأهوال ، وحال الخلق في
الحساب ، ومنقلبهم بعد تفضيل وحطّ وتفصيل الثواب والعقاب.
الأم الثانية ـ تنزيل
الغيث وما يترتّب عليه من الإحياء والإنبات ، وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل وضع
ذلك على يدي ميكائيل وتحت نظره ملائكة لا يحصيها إلا الله سبحانه تصدر عن أمره في
تنفيذ المقادير المتعلقة بذلك من إنشاء الرّياح ، وتأليف السحاب ، وإلقاحها بالماء
، وفتقها بالقطر ، وعلى يدي كلّ ملك قطرة ينزلها إلى بقعة معلومة لينمّى بها شجرة
مخصوصة ؛ ليكون رزقا لحيوان معيّن حتى ينتهى إليه.
الأم الثالثة ـ ما
تحويه الأرحام ، وقد وكل الله سبحانه بذلك في مورد الأمر ملكا يقال له إسرافيل ،
وفي زمامه من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وقرن بكل رحم ملكا يجرى على
يديه تدبير النّطفة في أطوار الخلقة.
الأم الرابعة ـ قوله
تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ
ما ذا تَكْسِبُ غَداً) :
وهو معنى خبأه
الله سبحانه عن الخلق تحت أستار الأقدار ، بحكمته القائمة ، وحجّته البالغة ،
وقدرته القاهرة ، ومشيئته النافذة ، فكائنات غد تحت حجاب الله ، ونبّه بالكسب عن
تعميتها ؛ لأنه أوكد ما عند المرء للمعرفة ، وأولاه للتحصيل ، وعليه يتركّب العمر
والرزق ، والأجل ، والنّجاة ، والهلكة ، والسرور ، والغم ، والغرائز المزدوجة في
جبلّة الآدمي من مفروح به أو مكروه له.
الأم الخامسة ـ قوله
تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) :
نبّأ به عن
العاقبة التي انفرد بالاطلاع عليها ربّ العزة.
وقد روينا عن
النبي صلى الله عليه وسلم في
تأكيد هذه الجملة عن جماعة من الصحابة ؛ منهم أبو ذر ، وأبو هريرة ؛ قالا : كان
النبىّ صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه ،
__________________
فيجيء
الغريب فلا يدرى أيّهم هو حتى يسأل عنه ، فطلبنا إلى رسول الله عليه وسلم أن نجعل
له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكّانا من طين ، كان يجلس عليه ، وكنا
نجلس جانبيه ، فإنا لجلوس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه إذ أقبل رجل من
أحسن الناس وجها ، وأطيب الناس ريحا ، وأنقى الناس ثوبا ، كأن ثيابه لم يمسها دنس
، إذ وقف في طرف السّماط ، فقال : السلام عليك يا رسول الله. فردّ عليه السّلام ، ثم قال: يا محمد ، أدنو؟ قال : ادنه. فما زال به
يقول : أدنو؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقول له : ادنه ، حتى وضع يديه على
ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ؛ أخبرنى ما الإسلام؟
قال : الإسلام أن تعبد الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ،
وتحجّ البيت وتصوم رمضان. قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال : نعم. قال : صدقت.
قال
: فلما أن سمعنا قوله يسأله ويصدقه أنكرنا ذلك.
ثم
قال : يا محمد ، أخبرنى ما الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله والملائكة والكتاب
والنبيين ، وتؤمن بالقدر كلّه.
قال
: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال : نعم. قال : صدقت.
قال
: فما الإحسان؟ قال : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه
يراك. قال : صدقت.
قال
: فمتى الساعة؟ قال : فنكّس فلم يجبه ، ثم دعاه فلم يجبه ، ثم رفع رأسه ، فحلف
بالله ، وقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن لها علامات يجئن ، إذا رأيت رعاء الغنم يتطاولون في البنيان ، ورأيت الحفاة المرأة ملوك
الأرض ، ورأيت المرأة تلد ربّها ، هن خمس لا يعلمهن إلّا الله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ،
وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ). وذكر كلمة معناها ، ثم صعد إلى السماء ، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : والذي
__________________
بعث
محمدا بالهدى ودين الحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم ، وإنه لجبريل نزل عليكم في
صورة دحية الكلبي ، يعلّمكم أمر دينكم.
المسألة السادسة ـ
قال السدّى : المراد بهذا خزائن الغيب.
وقال ابن عباس :
مفاتيح الغيب خمس ، وقرأ الآيات الخمس المتقدمة.
وقال بعضهم : هو
ما يتوصّل به إلى علم الغيب من قول الناس : افتح علىّ كذا ؛ أى أعطنى ، أو علّمنى
ما أتوصّل [به] إليه.
فأما قول السدى :
إن المراد بالمفاتح الخزائن فمجاز بعيد.
وأما قول ابن عباس
فعلم سديد من فكّ شديد.
وأما قول الثالث
فأنكره شيخنا النحوي نزيل مكة ، وقال : أجمعت ـ أى الفرقة السالفة الصالحة من
الأمّة ـ على غيره ؛ وذلك من قولهم أصحّ وأولى.
وأظنه لم يفهم
المقصود من هذا القول ، ولا اغتزى فيه المغزى ، ولقد ألحم فيه الصواب وسدّى ، وإذا منحته نقدا لم تعدم
فيه هدى ؛ عند الله تعالى علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه ، لا يملكها إلّا
هو ؛ فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، فلا يكون ذلك من
إفاضته إلّا على رسله ، بدليل قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ
يَشاءُ).
المسألة السابعة ـ
مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله لا أمارة عليها ، ولا علامة عليها ،
إلا ما أخبر به الصادق المجتبى لاطلاع الغيب من أمارات الساعة ، والأربعة سواها لا
أمارة عليها ؛ فكلّ من قال : إنه ينزل الغيث غدا فهو كافر ، أخبر عنه بأمارات
ادّعاها ، أو بقول مطلق. ومن قال : إنه يعلم ما في الرّحم فهو كافر ؛ فأما الأمارة
على هذا فتختلف ؛ فمنها كفر ، ومنها تجربة ، والتجربة منها أن يقول الطبيب : إذا
كان الثدي الأيمن مسودّ الحلمة فهو ذكر ، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر فهو أنثى ؛
وإن كانت المرأة تجد الجنب
__________________
الأيمن أثقل فهو
ذكر ، وإن وجدت الجنب الأشأم أثقل فالولد أنثى ، وادّعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم
نكفّره ، ولم نفسّقه.
وأما من ادّعى علم
الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن الجملية أو المفصّلة فيما
يكون قبل أن يكون ، فلا ريبة في كفره أيضا.
فأما من أخبر عن
كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا : يؤدّب ويسجن ولا يكفر ، أما عدم تكفيره فلأنّ
جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب ، وتقدير المنازل ، حسبما أخبر الله سبحانه في
قوله جلّ وعلا : (وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) ؛ فلحسابهم له ، وإخبارهم عنه ، وصدقهم فيه ، توقفت
علماؤنا عن الحكم بتكفيرهم.
وأما أدبهم فلأنهم
يدخلون الشكّ على العامّة في تعليق العلم بالغيب المستأنف ولا يدرون قدر الفرق بين
هذا وغيره ، فتشوّش عقائدهم في الدين ، وتتزلزل قواعدهم في اليقين ، فأدّبوا حتى يسرّوا
ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : أمر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين الذين
يخوضون في آيات الله ، وفي ذلك نزلت.
والخوض هو المشي
فيما لا يتحصّل حقيقة ، من الخائض في الماء الذي لا يدرى باطنه ، استعير من
المحسوس للمعقول على ما نبّهنا عليه في الأصول ، وحرّم الله سبحانه المشاركة لهم
في ذلك على رسوله بالمجالسة ، سواء تكلّم معهم في ذلك أو كرهه.
وهذا دليل على أنّ
مجالسة أهل المنكر لا تحل .
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ).
قال قوم : هذا
خطاب من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، والمراد بذلك الأمّة ، وكأنّ
القائلين بذلك ذهبوا إلى تنزيه النبىّ صلى الله عليه وسلم عن النسيان ، وهم كبار
الرافضة ، قبّحهم الله ، وإن عذرنا أصحابنا في قولهم : إن قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، خطاب للأمّة باسم النبىّ صلى الله عليه وسلم ، لاستحالة
الإشراك عليه ، فلا عذر لهم في هذا الجواز النسيان على النبىّ صلى الله عليه وسلم
، قال الله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى). وقال صلى الله عليه وسلم ـ مخبرا عن نفسه : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، وقال ـ وقد سمع قراءة رجل [يقرأ] : لقد أذكرنى كذا وكذا آية كنت أنسيتها.
وقال في ليلة
القدر : تلاحى رجلان فنسيتها.
وقال : لا يقولنّ
أحد كم نسيت آية كذا ، بل نسيتها ، كراهية إضافة اللفظ إلى القرآن ، لقوله تعالى : (كَذلِكَ أَتَتْكَ
آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى).
وفائدته أنّ لفظ «نسيت»
ينطلق على تركت انطلاقا طبقيا ، ثم نقول في تقسيم وجهى متعلقه سهوت إذا كان تركه
عن غير قصد ، وعمدت إذا كان تركه عن قصد ، ولذلك قال علماؤنا : إن قوله : من نام
عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها ـ عامّ في وجهى النسيان العمد والسهو.
وقوله إذا ذكرها :
يعنى أن الساهي يطرأ عليه الذكر فيتوجّه الخطاب ، وأن العامد ذاكر أبدا فلا يزال
الخطاب يتوجّه عليه أبدا ، والله أعلم.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
__________________
روى ابن وهب ،
وابن القاسم ، وابن عبد الحكم ، والوليد بن مسلم ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن
أبيه : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ
مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ـ قال : بالعلم قال ابن وهب ، عن مالك : ليس العلم بكثرة
الرواية ، وإنما هو نور يضعه الله في قلب من يشاء.
وقال ابن مسعود :
ليس العلم بكثرة الرواية ؛ وإنما هو خشية الله تعالى.
وروى المنصور ، عن
أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : همة السفهاء الرواية ، وهمّة العلماء
الدّراية.
وقال مالك ، لابني
أخته أبى بكر وإسماعيل : إن أحببتما أن ينفعكما الله بهذا الشأن فأقلّا منه ،
وتفقّها فيه.
وروى ابن القاسم ،
عن مالك : نرفع درجات من نشاء في الدنيا.
قال القاضي : وصدق ؛ علم الدنيا عنوان الآخرة وسبيلها.
والذي أوتيه
إبراهيم من العلم بالحجّة ، وهي التي تذكر للخصم على طريق المقابلة كان في الدنيا
بظهور دلالة التوحيد وبيان عصمة إبراهيم عن الجهل بالله تعالى ، والشكّ فيه ،
والإخبار ـ أنّ ما جرى بينه وبين قومه إنما كان احتجاجا ، ولم يكن اعتقادا ، وقد
مهدنا ذلك في المشكلين.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ
هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ).
قال القاضي أبو
بكر بن العربي : هذه الآية أصولية ؛ فإنها تفيد مسألة من الأصول ، وهي
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته هل تعبّدوا بشريعة من قبلهم أم لا؟ وقد
حققناها في الأصول ، فلتنظر هناك.
وفيها من الأحكام
العمل بما ظهر من أفعالهم ، وأخبرنا عنهم النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وثبت في
الصحيح عن النبىّ ، واللفظ للبخاري ، عن العوام ، قال : سألت مجاهدا عن سجدة
__________________
«ص»
، فقال : سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال : أو ما تقرأ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ ....) إلى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). وكان داود عليه السّلام ممن أمر نبيّكم صلى الله عليه
وسلم أن يقتدى به ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وستراها
مستوفاة في سورة «ص» إن شاء الله تعالى.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (انْظُرُوا إِلى
ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) :
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ في
تفسير : الينع.
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ الطيب
والنّضج ؛ يقال أينع الثمر يينع ويونع ، والثمر يانع ومونع ، إذا أدرك.
الثاني ـ قال ابن
الأنبارى : الينع جمع يانع ، وهو المدرك البالغ.
الثالث ـ قال
الفراء : «أينع» أقلّ من «أينع» ، ومعناه احمرّ ، ومنه ما روى في حديث الملاعنة : إن ولدته أحمر مثل الينعة ، وهي خرزة حمراء ، يقال : إنه العقيق ، أو نوع منه ؛ وهو الذي
عليه يقف جواز بيع الثمر ، وبه يطيب أكلها ، ويأمن العاهة ، وذلك عند طلوع الثريا
مع الفجر ، بما أجرى الله سبحانه في ذلك من العادة ، وأحكمه من العلم والقدرة ،
وفصّله من الحكم والشريعة ؛ ومن ألفاظ الحديث نهى عن بيع الثمر قبل أن يشقّح قال الأصمعى : إذا تغيّر البسر إلى الحمرة قيل : هذه شقحة
، وقد أشقحت. وقد قال ابن وهب قال مالك ـ وهي :
المسألة الثانية ـ
(إِلى ثَمَرِهِ إِذا
أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) :
الإيناع الطيب
بغير فساد ولا نقش. قال مالك : والنقش أن تنقش أسفل البسرة حتى ترطب ، يريد يثقب
فيها ، بحيث يسرع دخول الهواء إليه فيرطب معجّلا ؛ فليس ذلك الينع المراد في
القرآن ، ولا هو الذي ربط به رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع ؛ وإنما هو ما
يكون من ذاته بغير محاولة ، وفي بعض بلاد التين ، وهي البلاد الباردة ، لا ينضج
__________________
حتى يدخل في فمه
عمود قد دهن بزيت ، فإذا طاب حلّ بيعه ؛ لأنّ ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد ، ولو
لا ذلك ما طاب في وقت الطيب.
وقال الزبير بن
بكار : قلت لعبد الملك بن
الماجشون ـ وقد رأيته يأكل الرطب يقصّعه ، كيف تفعل هذا ، وقد نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن تقصيع الرطب؟ فقال : إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
تقصيع الرطب حيث كان أكله يتشبع به ؛ وقد جاء الله بالرخاء والخير ، والمراد هاهنا بالتقصيع أكل الرطبة في لقمة ، وذلك
يكون مع الشبع ؛ فإذا لم يكن غيرها فأكلها في لقم أثبت للشبع.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ
، كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) :
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ اتفق
العلماء على أنّ معنى الآية : لا تسبّوا آلهة الكفّار فيسبّوا إلهكم. وكذلك هو ؛
فإنّ السبّ في غير الحجّة فعل الأدنياء.
وقال النبىّ صلى
الله عليه وسلم : لعن
الله الرجل يسبّ أبويه. قيل : يا رسول الله ، وكيف يسبّ أبويه؟ قال : يسبّ أبا
الرجل فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه فيسبّ أمه ؛ فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل
فعلا جائزا يؤدّى إلى محظور ؛ ولأجل هذا تعلّق علماؤنا بهذه الآية في سدّ الذّرائع ، وهو كلّ عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به
إلى محظور ؛ وسترى هذه المسألة مستوفاة في سورة الأعراف.
وقد قيل : إن
المشركين قالوا : لئن لم تنتهينّ عن سبّ آلهتنا لنسبنّ إلهكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
__________________
المسألة الثانية ـ
هذا يدلّ على أن للمحقّ أن يكفّ عن حق [يكون] له إذا أدّى ذلك إلى ضرر يكون في الدين ، وهذا فيه نظر
طويل ، اختصاره أن الحقّ إن كان واجبا فيأخذه بكل حال ، وإن كان جائزا ففيه يكون
هذا القول والله أعلم.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أنّ قريشا كلّمهم النبىّ صلى الله عليه
وسلم ، فقالوا : يا محمد ، تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيى الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت
لهم ناقة ، فأتنا من الآيات حتى نصدّقك.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : أىّ شيء تحبّون أن آتيكم به؟ قالوا : تجعل لنا
الصّفا ذهبا. قال لهم : فإن فعلت تصدّقونى؟ قالوا : نعم ، والله
لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل
صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما
شئت ، إن شئت أصبح ذهبا ، ولئن أرسل الله تعالى آية ولم يصدّقوا عند ذلك ليعذبنهم
، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى
قوله : «يجهلون».
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : يعنى غاية
أيمانهم التي بلغها علمهم ، وانتهت إليه قدرتهم ، وذلك أنهم كانوا يعتقدون أنّ
الله تعالى هو الإله الأعظم ، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنّا منهم أنها تقرّبهم إلى الله زلفى.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (بِاللهِ) وإن كان غاية أيمان الكفار على اعتقادهم الذي قدمنا ، فإنه
غاية أيمان المسلمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
من كان حالفا
فليحلف بالله أو ليصمت.
وهذا يفيد المنع
من الحلف بغير الله.
والحلف بغير الله
على وجهين :
أحدهما ـ على وجه
التحريم ، بأن يحلف بغير الله سبحانه وتعالى معظّما له مع الله ، أو معظّما له من
دونه ، فهذا كفر.
الثاني ـ أن يكون
على وجه الكراهية ، بأن يلزم نفسه معنى مما يلزمه جنسه في الشّرع ابتداء بوجه مّا
إذا ربطه بفعل أو ترك ، وهو معنى اتفقت عليه الأمة فيما إذا قال : إن دخلت الدار
فامرأتى طالق ، أو عبدى حر ، فهذه يمين منعقدة ، وهي أصل لغيرها من الأيمان ، وقد
تكررت في كتب الفقه وتركّب عليها مسألة رابعة ـ وهي : ما إذا قال : الأيمان تلزمه
إن كان كذا وكذا. وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة ، كانوا يقولون : علىّ أشدّ ما
أخذه أحد على أحد ، فقال مالك : يطلق نساءه ، ثم تكاثرت الصّور حتى آلت بين الناس
إلى صورة هذه أمّها.
وقد كان شيخنا أبو
بكر الفهري يقول : يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها ، لأنّ قوله : «الأيمان»
، جمع يمين ، وهو لو قال : علىّ يمين ، وحنث للزمته كفارة. ولو قال : علىّ يمينان
للزمته كفّارتان إذا حنث. والأيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات.
وكان أهل القيروان
قد اختلفوا فيها اختلافا كثيرا مرجعه إلى قولين :
أحدهما ـ أن
الطلاق فيها ثلاث.
والثاني ـ أنّ
الطلاق فيها واحدة بائنة.
وقد جمعت في
المسألة رسالة إبان كنت بإفريقية ، وقد كثر السؤال فيها علىّ ، فاستخرت الله
سبحانه وتعالى على متوسط من الأقوال لم أخرج فيه عن جادّة الأدلة ، ولا عن أصل إمام الأئمة مالك بن أنس.
__________________
أما أصل مالك
فقوله ـ فيمن قال : علىّ أشدّ ما أخذ أحد على أحد. قال علماؤنا : يطلّق نساءه ،
وذلك لأنّ الناس كانوا في زمانه ، وقبل ذلك ، يحلفون في البيعة ويتوثّقون فيما
يحتاجون إليه من العهود في المحالفة ، ويدخلون في اليمين بالله اليمين بالعتق
والطلاق والحجّ وغيره ، فلما سئل مالك عن هذه النازلة وأصحابه رأوا أنّ الحرج
عليهم في أن يتركوا معه أزواجه محتبسين في النكاح ، ومما يأخذه الناس بعضهم على
بعض الطلاق فتحرّجوا في ذلك ، وقالوا : يطلّق نساءه.
وأما طريق الأدلة
فلأنّ الألف واللام لا يخلو أن يراد بها هاهنا الجنس أو العهد ، فإن دخلت للعهد
فالمعهود قولك بالله ، فيكون ما قاله الفهري. وإن دخلت للجنس فالطلاق جنس ، فيدخل
فيها ولا يستوفى عدده ، فإن الذي يكفى أن يدخل من كل جنس معنى واحد ، فإنه لو دخل
في الجنس المعنى كلّه للزمه أن يتصدّق بجميع ماله ، إذ قد تكون الصدقة بجميع المال
يمينا ، ونافذة فيما إذا كان المال معينا في دار أو عبد أو دابة أو كبش وتصدق بذلك ، فإنه ينفذ إجماعا ، فتبصّرنا ذلك ، وأخذنا
بالوسط منه ، وقد بسطنا ذلك في الرسالة الحاكمة على الأيمان اللازمة ، وهناك
يستوفى الناظر غرضه منها ، والله عز وجل أعلم ، وبه التوفيق.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ، وَإِنَّ
الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى الترمذي وغيره
عن ابن عباس ، قال :
أنى أناس النبىّ
صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، أنأكل ما تقتل ، ولا نأكل ما قتل الله؟
فأنزل الله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ ...) إلى قوله : (لَمُشْرِكُونَ).
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله : (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) يقضى بدليل الخطاب على رأى من قرأ ألّا يؤكل ما لم يذكر
اسم الله عليه ، لأنه علّق الحكم ـ وهو جواز الأكل على أحد وصفي الشيء ، وهو ما
ذكر اسم الله عليه ـ فيدلّ على أن الآخر بخلافه ، بيد أنّ الله تعالى بيّن الحكمين
بنصّين ، وتكلّم فيهما بكلامين صريحين ، فقال في المقابل الثاني : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا
لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...).
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).
المعنى : ما
المانع لكم من أكل ما سمّيتم عليه ربّكم ، وإن قتلتموه بأيديكم ، وقد بيّن الله
لكم المحرّم ، وأوضح لكم المحلل ، فإنّ من حرم عليك معنى خاصّيا أباح ما سواه ،
فكيف وقد أذن له في القتل والتسمية عليه وأكله ، فكيف يقابل ذلك من تفضيل الله
وحكمه وإيضاحه وشرحه بهوى باطل ورأى فاسد ، صدرا عن غير علم وكانا باعتداء وإثم ،
وربّك أعلم بالمعتدين.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) :
المعنى : قد فصّل
لكم المحرّم فذروه وهو الإثم ظاهرا ، وباطنا ، وفي ذلك للعلماء ستة أقوال :
الأول ـ ظاهره
وباطنه : سرّه وعلانيته ، قاله مجاهد ، وقتادة.
الثاني ـ قال سعيد
بن جبير : ظاهر الإثم نكاح ذوات المحارم ، وباطنه الزنا.
الثالث ـ ظاهر
الإثم أصحاب الرايات من الزواني ، وباطنه ذوات الأخدان ، قاله السدى وغيره.
الرابع ـ ظاهر
الإثم طواف العربان ، وباطنه الزنا ، قاله ابن زيد.
وقد قالت طائفة :
إن الإثم اسم من أسماء الخمر ، فعلى هذا يكون معنى الآية في القول
__________________
الخامس ظاهر الإثم
الخمر ، وباطنه المثلث والمنصف ، وسنبيّن ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
ويحتمل وجها سادسا
، وهو أن يكون ظاهر الإثم واضح المحرمات. وباطنه الشبهات ومنها الذرائع ، وهي
المباحات التي يتوصّل بها إلى المحرّمات ؛ وسيأتى ذلك في موضعه.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) :
يعنى : فمطلق سبب
الآية الميتة ، وهي التي قالوا هم فيها : ولا نأكل مما قتل الله. فقال الله لهم :
لا تأكلوا منها ؛ فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. فإن قيل ـ وهي :
المسألة السادسة ـ
هذا هو السبب الذي خرجت عليه الآية ، وقصر اللفظ الوارد على السبب المورود عليه
إذا كان اللفظ مستقلّا دون عطفه عليه لا يجوز لغة ولا حكما.
قلنا : قد آن أن
نكشف لكم نكتة أصولية وقعت تفاريق في أقوال العلماء تلقّفتها جملة من فكّ شديد ؛ وذلك أنا نقول : منهما قلنا : إنّ اللفظ الوارد على
سبب ، هل يقصر عليه أم لا؟ فإنا لا نخرج السبب عنه ، بل نقرّه فيه ، ونعطف به عليه
، ولا نمتنع أن يضاف غيره إليه إذا احتمله اللفظ ، أو قام عليه الدليل ؛ فقوله : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ظاهر في تناول الميتة بعموم لفظه ، وكونها سببا لوروده ، ويدخل
فيه ما ذكر اسم الله عليه اسم غير الله من الآلهة المبطلة ـ وهي :
المسألة السابعة ـ
بعموم أنه لم يذكر اسم الله عليه ، وبزيادة ذكر غير الله عليه الذي يقتضى تحريمه
هذا اللفظ عموما ومعناه تنبيها من طريق الأولى ، ويقتضى تحريمه نصّا قوله : (وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ، فقد توارد على تحريم ذلك النص والعموم والتنبيه من طريق
الأولى بالتحريم لظاهر أدلة الشرع عليه أولا.
وهذا من بديع
الاستنباط في موارد الأدلّة المتماثلة في اقتضاء الحكم الواحد عليه ، وهل يدخل فيه
ما ترك المسلم التسمية عليه عمدا من الذبائح أم لا؟ مسألة مشكلة جدا
__________________
قد مهّدنا القول
فيها في تخليص الطريقتين ، ولكننا نشير فيها هاهنا إلى نكتة تتعلّق بالمقصود
؛ فنقول : اختلف العلماء في متروك التسمية على ستة أقوال :
الأول ـ إن تركها
سهوا أكلت. وإن تركها عمدا لم تؤكل ؛ قاله في الكتاب مالك وابن القاسم وأبو حنيفة
، وعيسى ، وأصبغ.
الثاني ـ إن تركها
عامدا أو ناسيا تؤكل ؛ قاله الحسن ، والشافعى.
الثالث ـ أنه إن
تركها عامدا أو ناسيا حرم أكلها ؛ قاله ابن سيرين ، وأحمد.
الرابع ـ إن تركها
متعمّدا كره أكلها ولم تحرم ؛ قاله القاضي أبو الحسن ، والشيخ أبو بكر من أصحابنا
، وهو ظاهر قول الشافعى.
الخامس ـ قال أحمد
بن حنبل : التسمية شرط في إرسال الكلب دون السهم في إحدى روايتيه.
السادس ـ قال
القاضي أبو بكر رضى الله عنه : يجب أن تعلّق هذه الأحكام بالقرآن والسنّة والدلائل
المعنوية التي أسّستها الشريعة.
فأما القرآن فقد
قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ؛ فبيّن الحالين وأوضح الحكمين.
وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) نهى محمول على التحريم ، ولا يجوز حمله على الكراهة ؛
لتناوله في بعض مقتضياته الحرام المحض ، ولا يجوز أن يتبعّض. وهذا من نفيس علم
الأصول.
وأما السنّة فقوله
صلى الله عليه وسلم في الصحاح : ما
أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه فكل. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم :
إذا أرسلت كلبك
المعلم ، وذكرت اسم الله [عليه] فكل. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : وإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فلا تأكل ،
فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على الآخر.
وهذه أدلة ظاهرة
غالبة عالية ، وذلك من أظهر الأدلة. وأعجب لرأس المحقّقين إمام
__________________
الحرمين يقول في
معارضة هذا : [وذكر الله] إنما شرع في القرب ، والذبح ليس بقربة.
قلنا : هذا فاسد
من ثلاثة أوجه :
أحدها ـ أنه
يعارضه القرآن والسنّة ، كما قلنا .
الثاني ـ أنّ ذكر
الله مشروع في كل حركة وسكنة ، حتى في خطبة النكاح ، وإنما تختلف درجاته بالوجوب
والاستحباب.
الثالث ـ أنّ
الذبيحة قربة بدليل افتقارها إلى النية عندنا وعندك ، وقد قال الله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ).
فإن قيل : المراد
بذكر اسم الله بالقلب ، لأن الذكر يضادّ النسيان ، ومحلّ النسيان القلب ، فمحلّ
الذّكر القلب.
وقد روى البراء بن
عازب وغيره ، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم : اسم
الله على قلب كل مؤمن يسمّى أو لم يسمّ ، ولهذا تجزئه الذبيحة إذا نسى التسمية تعويلا على ما في
قلبه من اسم الله سبحانه.
قلنا : الذكر يكون
باللسان ، ويكون بالقلب ، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنّصب باللسان ،
فنسخ الله ذلك بذكر الله في الألسنة ، واستمر ذلك في الشريعة ، حتى قيل لمالك : هل
يسمّى الله إذا توضّأ؟ فقال : أيريد أن يذبح؟ إشارة إلى أن موضع التسمية وموضوعها
إنما هو في الذبائح لا في الطهارة.
وأما الحديث الذي
تعلّقوا به في قوله : اسم الله على قلب كل مؤمن. فحديث ضعيف لا تلتفتوا إليه.
وأما النّاسى
للتسمية على الذبيحة فإنها لم تحرّم عليه ؛ لأن الله تعالى قال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وليس الناسي فاسقا بإجماع ، فلا تحرم عليه.
فإن قيل : وكذلك
المتعمّد ليس بفاسق إن أكلها إجماعا ؛ لأنها مسألة اجتهاد اختلف العلماء فيها.
__________________
قلنا : قد أجبنا
عن هذه النكتة في مسائل الخلاف ، وصرّحنا فيه بالحق من وجوه ؛ أظهرها أنّ تارك
التسمية عمدا لا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدها ـ أن يترك
التسمية إذا أضجع الذبيحة ؛ لأنه يقول : قلبي مملوء من أسماء الله وتوحيده ، فلا
أفتقر إلى ذكر ذلك بلساني ؛ فذلك يجزيه ؛ لأنه قد ذكر الله وعظّمه. وإن قال : ليس
هذا موضع التسمية صريحة ، فإنها ليست بقربة ، فهذا يجزيه لكونه على مذهب يصحّ اعتقاده
اجتهاد للمجتهد فيه وتقليدا لمن قلّده. وإن قال : لا أسمى ، وأى قدر للتسمية؟ فهذا
متهاون كافر فاسق لا تؤكل ذبيحته ، فإنما يتصوّر الخلاف في المسألة على الصورتين
الأوليين ، فأما على الصورة الثالثة فلا تشخيص لها.
والذي نعتمد عليه
في صورة الناسي أنّ الخطاب لا يتوجّه إليه ، لاستحالة خطاب الناسي ؛ فالشرط ليس
بواجب عليه.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) :
سمّى الله تعالى
ما يقع في القلوب من إلهام وحيا ، وهذا مما يطلقه شيوخ التصوف ، وينكره جهّال
المتوسّمين بالعلم ، ولم يعلموا أن الوحى على ثلاثة أقسام ، وإن إطلاقه في جميعها جائز في دين الله ، أولستم
ترون أنّ الله سبحانه قد سمّى إلهام الشياطين وحيا ؛ وكلّ ما يقوم بالقلب من
الخواطر فهو خلق الله ؛ فكلّ ما كان من الشر أضافه الله إلى الشيطان ، وما كان من
الخير أضافه الله إلى الملك. وفي الحديث : إن القلب بين لمّتين لمّة من الملك ولمّة من الشيطان ؛ فلمّة الملك إيعاد
بالخير وتصديق بالحق ، ولمة الشيطان إيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ.
المسألة التاسعة ـ
قوله : (لِيُجادِلُوكُمْ) :
المجادلة : دفع
القول على القول على طريق الحجّة بالقوة ، مأخوذ من «الأجدل» : طائر قوىّ ، أو
لقصد المغالبة ؛ كأنه يطرحه على الجدالة ، ويكون حقّا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل ، قال
تعالى : (وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
__________________
المسألة العاشرة ـ
قوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) :
إنما يكون المؤمن
بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في اعتقاده الذي هو محلّ الكفر والإيمان ؛ فإذا
أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمرّ على التوحيد والتصديق فهو عاص. فافهموا ذلك في
كل موضع. والله أعلم.
الآية التاسعة ،
والعاشرة ، والحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى
اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ.
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ
شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ، وَلَوْ شاءَ
اللهُ ما فَعَلُوهُ ، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ
وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ
حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً
عَلَيْهِ ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ
مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ ، قَدْ ضَلُّوا وَما
كانُوا مُهْتَدِينَ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق
الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله تعالى : (قَدْ) (خَسِرَ الَّذِينَ
قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ). وهذا الذي قاله ـ رضى الله عنه ـ كلام صحيح ، فإنها
تصرّفت بعقولها القاصرة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل ؛ والذي
تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ آلهة أعظم جهلا وأكبر جرما ؛ فإن الاعتداء على الله
أعظم من الاعتداء على المخلوقين.
__________________
والدليل على أنّ
الله تعالى واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، واحد في مخلوقاته أبين وأوضح من الدليل
على أنّ هذا حلال ، وهذا حرام.
وقد روى أنّ رجلا
قال لعمرو بن العاص : إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم كنتم تعبدون الحجر. فقال
عمرو : تلك عقول كادها باريها.
المسألة الثانية ـ
هذا الذي أخبر الله تعالى عنه من سخافة العرب وجهلها أمر أذعبه الله تعالى
بالإسلام ، وأبطله ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا يظهر ، وننساه حتى لا يذكر [إلا] أنّ ربّنا تبارك وتعالى ذكره بنصّه ، وأورده بشرحه ، كما
ذكر كفر الكافرين به. وكانت الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أنّ قضاءه قد سبق ،
وحكمه قد نفذ ، بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة ، وقد قضى الله
ألّا يصد كافر عن ذكر الكفر ، ولا مبتدع عن تغيير الدين ، قصده ببيان الأدلة ، ثم وفّق من سبق له
عنده الخير فيسّر له معرفتها ، فآمن وأطاع ، وخذل من سبق له عنده الشر فصدفه عنها ، فكفر وعصى (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ؛ فتعيّن علينا أن نشير إلى بسط ما ذكر الله تعالى من ذلك
ـ وهي :
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ) : أى أظهر بالخلق والإيجاد من الحرث والأنعام نصيبا ،
وجميعه له لا شريك معه في خلقه ، فكيف فعلوا له شريكا في القربان به من الأوثان
التي نصبوها للعبادة معه ، وشرّ العبيد كما يأتى [بيانه] في الأثر من أنعم عليه سيّده بنعمة فجعل يشكر غيره عليها ،
وكان هذا النصيب الذي للأوثان جعلوه لله من الحرث مصروفا في النفقة عليها وعلى
خدّامها ، وكذلك نصيب الأنعام أنهم كانوا يجعلونها قربانا للآلهة.
وقيل : كان لله
البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وكان ما جعلوه لله إذا اختلط بأموالهم لم
يردّوه ، وإذا اختلط ما للأوثان بها ردّوه ، وذلك قوله : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ ...) الآية.
__________________
وقيل : كان ذلك
إذا هلك ما جعلوه لله لم يغرموه ، وإذا هلك ما جعل للأوثان غرموه.
وقيل : كانوا
يذكرون اسم الأوثان على نصيب الله ، ولا يذكرون الله على نصيب الأوثان ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
فإنّ تركهم لذكر اسم الله مذموم منهم وفيهم ؛ فكان ذلك أصلا في ترك أكل ما لم يسمّ
الله عليه.
المسألة الخامسة ـ
ثم قال بعد ذلك : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) :
يعنى في الوأد
للبنات مخافة السّباء وعدم الحاجة ، وما حرمن من النصرة ، كما كانت الجاهلية
تفعله.
وقيل : كما فعل
عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله.
وحقيقة التزيين
إظهار الجميل ، وإخفاء القبيح ، وقد يتغلب بخذلان الله للعبد ، كما يتحقق بتوفيقه
له. ومن الباطل الذي ارتكبوه بتزيين الشيطان تصويره عندهم جواز أكل الذكور من
القرابين ، ومنع الإناث من أكلها ، كالأولاد والألبان ، وكان تفضيلهم للذكور لأحد وجهين ،
أو بمجموعهما : إما لفضل الذكر في نفسه على الأنثى ، وإما لأن الذكور كانوا سدنة بيوت الأصنام ؛ فكانوا يأكلون مما جعل لهم منها ؛ وذلك
كلّه تعدّ في الأفعال ، وابتداء في الأقوال ، وعمل بغير دليل من الشرع ؛ ولذلك
أنكر جمهور من الناس على أبى حنيفة القول بالاستحسان ـ وهي :
المسألة السادسة ـ
فقالوا : إنه بحرّم ويحلّل بالهوى من غير دليل ، وما كان ليفعل ذلك أحد من أتباع
المسلمين ، فكيف أبو حنيفة!
وعلماؤنا من
المالكية كثيرا ما يقولون : القياس كذا في مسألة ، والاستحسان كذا ، والاستحسان
عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين.
وقد بينّا ذلك في
مسائل الخلاف. نكتته المجزئة هاهنا أنّ العموم إذا استمرّ والقياس
__________________
إذا اطّرد فإنّ
مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأىّ دليل كان من ظاهر أو معنى ، ويستحسن
مالك أن يخصّ بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخصّ بقول الواحد من الصحابة الوارد
بخلاف القياس.
ويرى مالك وأبو
حنيفة تخصيص القياس ببعض العلة ، ولا يرى الشافعى العلّة الشرع إذا ثبت تخصيصا ،
ولم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة ولا رأى تخصيص العلة ، وقد رام الجويني ردّ
ذلك في كتبه المتأخرة التي هي نخبة عقيدته ونخيلة فكرته فلم يستطعه ، وفاوضت
الطّوسى الأكبر في ذلك وراجعته حتى وقف ، وقد بينت ذلك في المحصول والاستيفاء بما
في تحصيله شفاء إن شاء الله.
فإن قال أصحاب
الشافعى : فقد تاخمتم هذه المهواة ، وأشرفتم على التردّى في المغواة ؛ فإنكم
زعمتم أنّ اليمين يحرّم الحلال ويقلب الأوصاف الشرعية ، ونحن براء من ذلك؟
قلنا : هيهات! ما
حرّمنا إلّا ما حرّم الله ، ولا قلنا إلا ما قال الله ، ألم تسمعوا قوله: (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ، وهي :
المسألة السابعة ـ
وسنبينها في سورة التحريم إن شاء الله.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ
مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ
مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
فيها خمس عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (أَنْشَأَ) ؛ أى ابتدأ الفعل من غير احتذاء مثال ؛ وكان ذلك في يوم الاثنين على ما ورد في الخبر
الصحيح ، وأوضحناه في كتاب المشكلين ، وقد يستعمل أنشأ في كل فعل كان على مثال أو
لم يكن.
المسألة الثانية ـ
الجنات : هي البساتين التي يجنّها الشجر ، أى يسترها ؛ ومنه جنّ عليه
__________________
الليل ، ومنه سمّى
الجن ، لاجتنانهم عن الأبصار ، وكذلك الجنة في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) ؛ سمّوا بذلك لاجتنانهم.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ
مَعْرُوشاتٍ) : يعنى رفعت على الأعواد ، وصينت عن تدلّى الثمر على الأرض
، وأظهرت للإدراك ، وسهل جمعها دون انحناء.
والعرش ؛ كل ما
ارتفع فوق غيره. وقيل : تعريشها حياطتها بالجدر ، وما قام مقامها ، حتى لا يكون
فيها مدخل لأحد ؛ والأول أقوى في الاشتقاق.
وقد قيل في قوله : (خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) : يعنى على أعاليها ، ولعله على جدرانها ، وأشار بذلك إلى
حدائق الأعناب التي هي الكروم في ألسنة العرب ، ثم قال بعد ذلك ـ وهي :
المسألة الرابعة ـ
(وَالنَّخْلَ
وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) ، وفرّق بينهما ؛ لأنهما أصلا المعاش ، وعمادا القوت ، ثم
فرّق بين الزيتون والرمان في وزان آخر ـ وهي :
المسألة الخامسة ـ
ووصفها بأنها متشابهة وغير متشابهة ؛ يعنى أن منها ما يتشابه في الظاهر ، ويخالفه
في الباطن ؛ ومنها ما يشتبه في اللون ، ويختلف في الطعم ؛ وفي ذلك دليلان عظيمان :
أحدهما ـ على
المنّة منه سبحانه علينا ، والنعمة التي هيّأها لنا ـ وهي :
المسألة السادسة ـ
فلو شاء ربّنا إذ خلقنا أحياء ألّا يخلق لنا غذاء ، أو إذ خلقه ألّا يكون جميل
المنظر طيّب الطعم ، أو إذ خلقه كذلك ألّا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل
ذلك ابتداء لأنه لا يجب عليه شيء ، وإن فعله فبفضله ، كابتداء خلقه في تعديد النعم
وتقرير الفضل والكرم والشهادة على الابتداء بالثواب قبل العقاب ، وبالعطاء قبل
العمل.
الدليل الثاني على
القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الواحد القادر علّام
الغيوب من أسافل الشجر إلى أعاليها ، ويترقّى من أصولها إلى فروعها ، حتى إذا
انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمار خارجة عن صفتها ، فيها
الجرم الوافر ، واللّون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ؛ فأين الطبائع وأجناسها؟
__________________
وأين الفلاسفة
وأناسها؟ هل في قدرة الطبيعة ـ إذا سلمنا وقلنا لها قدرة على طريق الجدل ـ أن تتقن
هذا الإتقان البديع ، أو ترتب هذا الترتيب العجيب؟ كلّا ، لا يتمّ ذلك في المعقول
إلا لحىّ عالم قادر مريد ، فقد علم الألبّاء أنّ أميّا لا ينظّم سطور الكتابة ، وأنّ سواديّا لا يقدر على ما في الديباج من التزين والنساجة ؛ فسبحان من
له في كلّ شيء آية بداية ونهاية ، فمن الله الابتداء ، وإنّ إلى ربك المنتهى ،
تقدّس وتعالى.
المسألة السابعة ـ
قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
إِذا أَثْمَرَ ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) : فهذان بناءان جاءا بصيغة افعل ، وأحدهما مباح لقوله : (فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ). والثاني واجب على ما يأتى تفصيله إن شاء الله ، وليس
يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب ؛ لما يأتى في ذلك من الفوائد ، ويتركّب
عليه من الأحكام ، فأما الأكل فلقضاء اللذة ، وأما إيتاء الحقّ فلقضاء حقّ النعمة
، فلله تعالى على العبد نعمة في البدن بالصحة ، واستقامة الأعضاء ، وسلامة الحواسّ
، ونعمة في المال بالتمليك والاستغناء ، وقضاء اللذات ، وبلوغ الآمال ؛ ففرض
الصلاة كفاء نعمة البدن ، وفرض الزكاة كفاء نعمة المال ، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل
الأمر بإيتاء الحق ؛ ليبيّن أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ) :
اختلف في تفسير
هذا الحق على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه
الصدقة المفروضة ؛ قاله سعيد بن المسيب وغيره ، ورواه ابن وهب ،
وابن القاسم ، عن مالك في تفسير الآية.
الثاني ـ أنها
الصدقة غير المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصّرام ؛ وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غير ؛ قاله مجاهد.
الثالث ـ أن هذا
منسوخ بالزكاة ؛ قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير.
وقد زعم قوم أنّ
هذا اللفظ مجمل ولم يخلصوا القول فيه ، وحقيقة الكلام عليه أن
__________________
قوله : (آتُوا) مفسر ، وقوله : (حَقَّهُ) مفسر في المؤتى ، مجمل في المقدار ؛ وإنما يقع النظر في
رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال ؛ وقد بيّنا فيما سبق وجه أنه ليس في
المال حقّ سوى الزكاة ، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن ، وفي سورة البقرة
من هذا التأليف ، وثبت أنّ المراد بذلك هاهنا الصدقة المفروضة.
وقد أفادت هذه
الآية وجوب الزكاة فيما سمّى الله سبحانه ، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات
الأرض التي أجملها في قوله : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ، وفسّرها هاهنا ؛ فكانت آية البقرة عامة في المخرج كلّه
مجملة في القدر ؛ وهذه الآية خاصة في مخرجات الأرض مجملة في القدر ، فبيّنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بأن يبيّن للناس ما نزل إليهم ، فقال : «فيما سقت السماء العشر ، وما سقى بنضح
أو دالية نصف العشر» ؛ فكان هذا بيانا لمقدار الحقّ المجمل في هذه
الآية. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم :
«ليس فيما دون
خمسة أوسق من حبّ أو تمر صدقة». خرّجه مسلم وغيره ، فكان هذا بيانا للمقدار الذي
يؤخذ منه الحق ، والذي يسمّى في ألسنة العلماء نصابا.
وقد اختلف العلماء
في ذلك اختلافا متباينا قديما وحديثا ؛ فروى عن مالك وأصحابه: أنّ الزكاة في كل
مقتات لا قول له سواه. وقد أوردناه في كتب الفقه وشرحناه ، وبه قال الشافعى.
وقال أبو حنيفة : تجب في كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت
والفاكهة والخضر ، وبه قال عبد الملك بن الماجشون في أصول الثمار دون البقول.
وقال أحمد أقوالا
، أظهرها أنّ الزكاة تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان يوسق ، فأوجبها في اللّوز
، لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود ، معوّلا على قول النبي صلى الله عليه وسلم : ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حبّ
صدقة ؛ فبيّن النبي صلى
الله عليه وسلم أنّ محل الواجب هو الموسق ، وبيّن القدر الذي يجب إخراج الحق منه.
__________________
وتعلق الشافعىّ
بالقوت ؛ وذلك لأن التوسيق إنما يكون في المقتات غالبا دائما. وأما الخضر فأمرها
نادر.
وأما المالكية
فتعلقت بأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من خضر المدينة صدقة.
وأما أبو حنيفة
فجعل الآية مرآته فأبصر الحقّ ، وقال : إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتا كان
أو غيره وبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله :
فيما سقت السماء
العشر» : وقد أشرنا في مسائل الخلاف إلى مسالك النظر فيها في كتاب الإنصاف
والتخليص . وقد آن تحديد النظر فيها كما يلزم كل مجتهد.
فالذي لاح بعد
التردد في مسالكه أنّ الله سبحانه لما ذكّر الإنسان بنعمه في المأكولات التي هي
قوام الأبدان وأصل اللذات في الإنسان ، عليها تنبنى الحياة ، وبها يتمّ طيب
المعيشة ـ عدّد أصولها تنبيها على توابعها ، فذكر منها خمسة : الكرم ، والنخل ،
والزرع ، والزيتون ، والرمان. فالكرم والنخل يؤكل في حالين فاكهة وقوتا. والزرع
يؤكل في نوعين : فاكهة وقوتا. والزيت يؤكل قوتا واستصباحا. والرّمان يؤكل فاكهة
محضة. وما لم يذكر مما يؤكل لا يخرج عن هذه الأقسام الخمسة. فقال تعالى : هذه
نعمتي فكلوها طيبة شرعا بالحل طيبة حسّا باللذة ، وآتوا الحقّ منها يوم الحصاد ،
وكان ذلك بيانا لوقت الإخراج ، وجعل ـ كما أشرنا إليه ـ الحقّ الواجب مختلفا بكثرة
المؤونة وقلّتها ، فما كان خفيف المؤونة قد تولّى الله سقيه ففيه العشر ، وما عظمت
مؤونته بالسّقى الذي هو أصل الإتيان ففيه نصف العشر.
فأما قول أحمد :
إنّه فيما يوسق لقوله صلى الله عليه وسلم : ليس
فيما دون خمسة أوسق من حبّ أو تمر صدقة ، فضعيف ؛ لأنّ الذي يقتضى ظاهر الحديث أن يكون النّصاب
معتبرا في التمر والحب. فأما سقوط الحق عما عداهما فليس في قوة الكلام. وأما
التعليق
__________________
بالقوت فدعوى
ومعنى ليس له أصل يرجع إليه ؛ وإنما تكون المعاني موجبة لأحكامها بأصولها على ما
بيّناه في كتاب القياس.
وكيف يذكر الله
سبحانه النعمة في القوت والفاكهة ، وأوجب الحقّ منها كلّها فيما تنوّع حاله كالكرم
والنخيل ، وفيما تنوّع جنسه كالزرع ، وفيما ينصاف إلى القوت من الاستسراج الذي به
تمام النعمة في المتاع بلذّة البصر إلى استيفاء النعم في الظلم.
فإن قيل : إنما
تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم ، فأما في الخضر فلا بقاء لها ؛ ولذلك لم تؤخذ
الزكاة في الأقوات من أخضرها ، وإنما أخذت من يابسها.
قلنا : إنما تؤخذ
الزكاة من كل نوع عند انتهائه ، باليبس ، وانتهاء اليابس والطيب انتهاء الأخضر ؛ ولذلك إذا كان
الرطب لا يثمر ، والعنب لا يتزبّب تؤخذ الزكاة منهما على حالهما ، ولو لم تكن
الفاكهة الخضرية أصلا في اللذة وركنا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة. ألا
تراه وصف جمالها ولذّتها ، فقال : (فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ؛ فذكر النخل أصلا في المقتات ، والرمّان أصلا في
الخضروات. أولا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله : (أَنَّا صَبَبْنَا
الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا.
وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً
وَأَبًّا).
فإن قيل : فقد قال
تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ). والذي يحصد الزرع.
قلنا : جهلتم ؛ بل
هو عامّ في كل نبت في الأرض. وأصل الحصاد إذهاب الشيء عن موضعه الذي هو فيه ، قال
تعالى : (مِنْها قائِمٌ
وَحَصِيدٌ). وقال : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ
حَصِيداً خامِدِينَ). وقال : (فَجَعَلْناها
حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ). وفي الحديث : وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلّا
حصائد ألسنتهم.
فإن قيل : هذا
مجاز ؛ وأصله في الزرع.
قلنا : هذا كلّه
حقيقة ؛ وأصلها الذهاب.
__________________
فإن قيل : أليس
يقال جداد النخل ، وحصاد الزرع ، وجذاذ البقل؟
قلنا : الاسم
العامّ الحصاد ؛ وهذه خواص العام على بعض متناولاته. وقد أجاب عنه بعض العلماء
بأنه ذكر الحصاد فيما يحصد دليلا على الجداد فيما يجد ؛ لأن أحدهما يكفى عن الآخر
، ولكن النبات كان أصلا لقوله : فأنبتنا به جنات ، [فجعلها قسما] وحبّ الحصيد ، فجعله قسما آخر ؛ فلما عادل الجميع اكتفى
بذكره عن ذكر غيره.
فإن قيل : فلم
ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر.
قلنا : كذلك عوّل
علماؤنا. وتحقيقه أنّه عدم دليل لا وجود دليل.
فإن قيل : لو
أخذها لنقل.
قلنا : وأى حاجة
إلى نقله ، والقرآن يكفى عنه.
فإن قيل : الآية
منسوخة بأنها مكية و [آية] الزكاة مدنية.
قلنا : قد قال
مالك : إنّ المراد به الزكاة المفروضة. وتحقيقه في نكتة بديعة ؛ وهي أنّ القول في
أنها مكية أو مدنيّة يطول. فهبكم أنها مكية ؛ إنّ الله أوجب الزكاة بها إيجابا
مجملا فتعيّن فرض اعتقادها ، ووقف العمل بها على بيان الجنس والقدر والوقت ، فلم تكن بمكة حتى تمهّد الإسلام بالمدينة ؛ فوقع
البيان ، فتعيّن الامتثال ، وهذا لا يفقه إلا العلماء بالأصول.
فإن قيل : قول
النبي صلى الله عليه وسلم : «فيما
سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية نصف العشر» كلام جاء لبيان تفصيل قدر الواجب بحال الموجب فيه ، وليس
القصد منه العموم حتى يقع التعويل عليه في استعمام ما سقت السماء.
قلنا : هذا هو
كلام إمام الحرمين ، وهو من مذهباته التي بنى عليها كتاب البرهان ، وظنّ أنها لم
تدرك في غابر الأزمان ؛ وليس لها في الدلائل مكان.
نحن نقول : إنّ
الحديث جاء للعموم في كل مسقى ، والتفصيل قدر الواجب باختلاف حال الموجب فيه ، ولا
يتعارض ذلك ؛ فيمتنع اجتماعه ، وقد مهدناه في أصول الفقه.
__________________
فإن قيل : فقد
خصصتم الحديث في المأكولات من المقتات ، فنحن نخصّه في المأكولات أيضا.
قلنا : نحن خصصناه
في المأكولات من المقتات بدليل الإجماع ، ولا دليل لكم على تخصيصه في المقتات ؛
فإن أعادوا لما تقدم من أقوالهم أعدنا ما سبق عليها من الأجوبة.
المسألة التاسعة ـ
قال الشافعى : لا زكاة في الزيتون في أحد قوليه ؛ قال : لأنه يؤكل إداما ، وأيضا
فإنّ التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه.
قلنا له : الزكاة
تجب عندنا في التين ، فلا قول لك في ذلك ، وأىّ فرق بين التين والزبيب ، والزيتون
قوت يدّخر ذاته ويدخر زيته ؛ فلا كلام عليه.
المسألة العاشرة ـ
قال مالك في أظهر قوليه : إنما تكون الزكاة فيما يقتات في حال الاختيار دون ما
يقتات به في حال الضرورة ، فلا زكاة في القطاني ، وبه قال الحسن والشعبي وابن سيرين وابن أبى ليلى والحسن
بن صالح والثوري وابن المبارك ويحيى بن آدم وأبو عبيد ، ولذلك اختلف قوله في التين
، فكان لا يوجب فيه الزكاة ، لأنه لا يدريه ، فإذا أخبر عنه ورأى موقعه في بلاده أوجب فيه الزكاة ؛
وهذا بناء على أصل من أصول الفقه ؛ وهو أنّ كلام الله تعالى إذا ورد ، هل يحمل على
العموم المطلق أو الغالب من المتناول فيه؟ والصحيح حمله على العموم المطلق حسبما
بيّناه في موضعه. والله أعلم.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ) :
اختلف العلماء في
وقت وجوب الزكاة في هذه الأموال النباتية على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها تجب
وقت الجداد ؛ قاله محمد بن مسلمة ؛ بقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ).
الثاني ـ أنها تجب
يوم الطّيب ؛ لأنّ ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما ؛ فإذا طابت وكان
الأكل الذي أنعم الله به وجب الحقّ الذي أمر الله به ، إذ بتمام النعمة يجب شكر
النعمة ، ويكون الإيتاء يوم الحصاد لما قد وجب يوم الطيب.
__________________
الثالث ـ أنه يكون
بعد تمام الخرص ؛ قاله المغيرة ؛ لأنه حينئذ يتحقّق الواجب فيه من الزكاة
، فيكون شرطا لوجوبها ، أصله مجيء الساعى في الغنم.
ولكلّ قول وجه كما
ترون ؛ لكن الصحيح وجوب الزكاة بالطّيب ، لما بيناه من الدليل ؛ وإنما خرص عليهم
ليعلم قدر الواجب في ثمارهم.
والأصل في الخرص
حديث الموطأ أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر
فخرص عليهم وخيّرهم بين أن يأخذوا وله ما قال ، أو ينخلوا ولهم ما قال ؛ فقالوا :
بهذا قامت السموات والأرض. ويا ويح البخاري يتخيّر على مالك ، ولا يدخل هذا الحديث
في باب الخرص ، ويدخل منه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرّ في غزوة تبوك بحديقة فقال : اخرصوا هذه ، فخرصوا ؛
فلما رجع عن الغزو وسأل المرأة كم جاءت حديقتك؟ فأخبرته أنها جاءت كما قال ؛ فكانت
إحدى معجزاته في قول.
فإن تلفت بعد
الطّيب فلا شيء فيها على المالك ، وهي :
المسألة الثانية
عشرة ـ إن الله ذهب بماله وما عليه ، ولم يلزمه أن يخرجها من غيره ، وإن تلفت بعد
الخرص ـ وهي :
المسألة الثالثة
عشرة ـ فلا بدّ له أن يقيم البيّنة على تلفها.
وقال الشافعى : يحلف
لأنها أمانة عنده ، وليس كذلك ؛ بل هي واجبة عليه ، فلا يبرئه منها إلا إيجاد
البراءة ؛ وإنما ذلك في الأمانات التي تكون مستحفظة عنده من غيره ، وفي ذلك تفصيل
ذكره في الفروع.
المسألة الرابعة
عشرة ـ تركّبت على هذه الأصول مسألة ؛ وهي أنّه الله تعالى أوجب الزكاة في الكرم والزرع
والنخل مطلقا ، ثم فسّر النصاب بقوله : ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حبّ
صدقة. فمن حصل له من تمر خمسة أوسق ، أو من زبيب خمسة أوسق ـ وجبت عليه الزكاة
فيها ، فإن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه
__________________
زكاة إجماعا في
الوجهين ؛ لأنهما صنفان مختلفان. فإن حصل له من طعام برّ وشعير معا خمسة أوسق
زكّاهما [معا] عند مالك.
وقال الشافعى : لا
يجمعان ، وكذلك غيرهما ، وإنما هي أنواع كلّها يعتبر النصاب في كل واحد منها على الانفراد ؛ لأنهما يختلفان في الاسم الخاص ؛ وفي حالة
الطعم.
والصحيح ضمّهما ؛
لأنهما قوتان يتقاربان ، فلا يضرّ اختلاف الاسم. وقد بيناه في كتب الفروع.
المسألة الخامسة
عشرة ـ قوله : (وَلا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) :
الإسراف : هو
الزيادة ، فقيل لهم : لا تسرفوا في الأكل بزيادة الحرام على ما أحلّه الله لكم ولا
تسرفوا في أخذ زيادة على حقكم ، وهو التسعة الأعشار ، حاسبوا أنفسكم بما تأكلون ،
وأدّوا ما يتعيّن عليكم بالخرص أو بالجذاذ على ما تقدّم. والله أعلم.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ
فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً) :
قد بيّنا في كتب
الحديث أنّ الوحى ينقسم على ثمانية أقسام : منها مجيء الملك إلى النبي صلى الله
عليه وسلم عن الله بالأمر والنهى والخبر ؛ فأخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّ
الملك لم يأت إليه الآن إلّا بهذا ؛ إذ قد جاء إليه قبل ذلك بالمحرمات وقد ثبت ذلك.
المسألة الثانية ـ
هذه الآية مدنية مكية في قول الأكثر ، نزلت على النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم
نزل عليه قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ؛ وذلك يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها ناسخ ؛ فهي محكمة.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (عَلى طاعِمٍ) :
المحرمات على
ثلاثة أقسام : مطعومات ، ومنكوحات ، وملبوسات.
فأما المطعومات
والمنكوحات فقد استوفى الله بيانها في القرآن كثيرا ، ومنها في السنّة توابع.
وأما الملبوسات
فمنها في القرآن إشارات وتمام ذلك في السنّة ؛ وقال الله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
...) الآية.
فأما الميتة والدم
فقد تقدّم الكلام عليهما في البقرة والمائدة ، وكذلك قوله : (وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ ، وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ). وكان ورود ذكر الدم مطلقا هناك وورد هاهنا مقيّدا
بالسّفح.
واختلف الناس في
حمل المطلق هاهنا على المقيّد على قولين :
فمنهم من قال :
إنّ كلّ دم محرّم إلّا الكبد ، والطّحال ، باستثناء السنّة كما تقدم.
ومنهم من قال :
إنّ التحريم يختصّ بالمسفوح ؛ قالته عائشة ، وعكرمة ، وقتادة. وروى عن عائشة أنها
قالت : لولا أن الله قال : (أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً) لتتبّع الناس ما في العروق.
قال الإمام الحافظ
: الصحيح أنّ الدم إذا كان مفردا حرم منه كلّ شيء ، وإن خالط اللحم ؛ جاز ،
لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، وإنما حرم الدم بالقصد إليه.
المسألة الرابعة ـ
اختلف العلماء في هذه الآية على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها
منسوخة بالسنّة ، وحرّم النبىّ صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية ، وحرّم كلّ
ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ؛ خرّجه الأئمة كلّهم.
الثاني ـ أنها
محكمة لا حرام فيها إلّا فيما قالته عائشة.
الثالث ـ قال
الزهرىّ ومالك في أحد قوليه : هي محكمة ، ويضم إليها بالسنة ما فيها من محرّم ،
فأما من قال : إنها منسوخة بالسنّة فقد اختلف الناس في ذلك كما اختلفوا في نسخ
السنّة بها.
__________________
والصحيح جواز ذلك
كلّه كما في تفصيل الأصول ، لكن لو ثبت بالسنة محرم غير هذه لما كان ذلك نسخا ؛
لأنّ زيادة محرّم على المحرمات أو فرض على المفروضات لا يكون نسخا بإجماع من
المسلمين ، لا سيما وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية مختلف
في تأويله على أربعة أقوال :
الأول ـ أنها
محرّمة كما قالوا.
الثاني ـ أنها حرمت
بعلّة أن جائيا جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : فنيت الحمر. فنيت الحمر. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : ينادى بتحريمها لعلة خوف الفناء عليها ؛ فإذا كثرت ولم يضرّ فقدها بالحمولة جاز أكلها ؛ فإن الحكم
يزول بزوال العلة.
الثالث ـ أنها
حرمت لأنها طبخت قبل القسمة.
الرابع ـ أنها
حرمت لأنها كانت جلّالة ـ خرجه أبو داود.
وقد نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن أكل جلّالة البقر . وهذا بديع في وجه الاحتجاج بها ، وقد استوفيناه في شرح
الحديث الصحيح.
وكذلك ما روى عنه في كل ذي ناب من السباع ومخلب والطير إنما ورد في
المسند الصحيح بقوله نهى ، ويحتمل ذلك النهى التحريم ، ويحتمل الكراهية ، مع اختلاف أحوال السباع في الافتراس.
ألا ترى إلى الكلب والهرّ والضبع فإنها سباع ، وقد وقع الأنس بالهر مطلقا وببعض
الكلاب ، وجاء الحديث عن جابر أن الضبع صيد ، وفيها كبش.
ولسنا نمنع أن
يضاف إليها بالسنة ما صحّ سنده ، وتبيّن مورده ، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله
عليه وسلم :
لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل نفسا بغير
نفس. وهذا كلّه على أن مورد الآية مجهول. فأما إذا تبيّنا أن موردها يوم عرفة فلا
يحرم إلا ما فيها ، وإليه أميل ، وبه أقول.
__________________
قال عمرو بن دينار
: قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر
الأهلية. قال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفارىّ ، ولكن أبى ذلك الخبر ـ يعنى
ابن عباس ، وقرأ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ ...) الآية ، وكذلك يروى عن عائشة مثله. وقرأت الآية كما قرأها
ابن عباس.
المسألة الخامسة ـ
قال أصحاب الشافعىّ : تقدير الآية : قل لا أجد فيما أوحى إلىّ محرما مما كنتم
تستخبثونه وتجتنبونه إلا أن يكون [ميتة] ... الآية. فأما غير ذلك من المحرمات فلا ؛ بدليل أنّ الله
حرّم أشياء منها المنخنقة وأخواتها. وأجمعت الأمة على تحريم أشياء غير ذلك ، منها
القاذورات ، ومنها الخمر والآدمىّ.
الجواب عنه من
سبعة أوجه :
الجواب الأول ـ أن
ابن عباس قد ردّ هذا وأوضح المراد منه والحقّ فيه ، وهو الخبر البحر الترجمان.
الجواب الثاني ـ دعوى
ورود الآية على سؤال لا يقبل من غير نقل يعوّل عليه.
الجواب الثالث ـ لو
صحّ السؤال لما آثر خصوص السؤال في عموم الجواب الوارد عليه. وقد أجمعنا عليه
وبينّاه فيما قبل.
الجواب الرابع ـ وأما
قولهم : إن الله حرّم غير ذلك كالمنخنقة وأخواتها ـ فإنّ ذلك داخل في الميتة إلا
أنه بيّن أنواع الميتة وشرح ما يستدرك ذكاته مما تفوت ذكاته لئلا بشكل أمره ويمزج
الحلال بالحرام في حكمها.
الجواب الخامس ـ وأما
قولهم : أجمعت الأمة على تحريم القاذورات فلا قاذور محرم عندنا إلّا أن يكون رجسا
فيدخل في علة تحريم لحم الخنزير ، وكذلك الخمر ، وهو :
الجواب السادس ـ دخلت
في تعليل الرجسيّة.
وأما الجواب
السابع عن الآدمىّ فهيهات أيها المتكلم! لقد حططت مسمّاك إذا أبعدت مرماك ، من
أدخل الآدمي في هذا؟ وهو المحلّل له المحرم ، المخاطب المثاب المعاقب ،
__________________
الممتثل المخالف ،
فبينما كان متصرفا جعلته مصرّفا ، انصرف عن المقام فلست فيه بإمام ؛ فإن الإمام
هاهنا وراء ، والوراء أمام ، وقد اندرجت :
المسألة السادسة ـ
في هذا الكلام.
المسألة السابعة ـ
روى مجاهد أنّ النبي صلى الله
عليه وسلم كره من الشاء سبعا : الدم ، والمرار ، والحياء ، والغدّة ، والذكر ، والأنثيين. وهذه زيادات
على هذه المحرمات.
قلنا : عنه جوابان
:
الأول ـ أن
الكراهية غير التحريم ، وهو بالنسبة إليه كالنّدب بالنسبة إلى الوجوب.
الثاني ـ أن هذه
الكراهية إنما هي عيافة نفس ، وتقزّز جبلّة ، وتقذر نوع من أنواع المحلّل.
فإن قيل : فقد قال
الدم.
قلنا : عنه جوابان
:
أحدهما ـ أن هذا
استدلال بالقرائن ، فكم من مكروه قرن بمحرم ، كقوله : نهى النبىّ صلى الله عليه
وسلم عن كل مسكر ومفتر . وكم من غير واجب قرن بواجب ، كقوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ). وقوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).
الثاني ـ أنه أراد
الدم المخالط للّحم الذي عفى عنه للخلق وأما المرار المذكور في الحديث فهو من قول
بعضهم الأمرّ ، وهو المصارين ، ولا أراه أراد إلا المرار بعينه ، ونبّه بذكره على علّة
كراهة غيره بأنه محلّ المستخنث ؛ فكره لأجله. والله أعلم.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).
__________________
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا) :
فيها أربعة أقوال
:
الأول ـ هادوا :
تابوا. هاد يهود : تاب.
الثاني ـ هاد :
إذا سكن.
الثالث ـ هاد :
فتر.
الرابع ـ هاد :
دخل في اليهودية. وقد قيل في قوله تعالى : (كُونُوا هُوداً) ؛ أى يهودا. ثم حذف الياء.
فأما من قال : إنه
التائب يشهد له قوله : (إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ) ؛ أى تبنا ، وكل تائب إلى ربّه ساكن إليه فاتر عن معصيته.
وهذا معنى متقارب.
المسألة الثانية ـ
أخبر الله سبحانه وتعالى في قوله : (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) :
يعنى ما ليس
بمنفرج الأصابع ، كالإبل والنعام والإوز والبط ؛ قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ،
ويدخل في ذلك ما يصيد بظفره من [سباع] الطير والكلاب.
والحوايا : واحدها
حاوياء أو حويّة ؛ وهي عند العلماء على ثلاثة أقوال :
الأول ـ المباعر .
الثاني ـ أنها
خزائن اللبن.
الثالث ـ أنها
الأمعاء التي عليها الشحوم.
المسألة الثالثة ـ
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه كتب عليهم تحريم هذا في التوراة ، وقد نسخ الله ذلك
كلّه بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأباح لهم ما كان محرّما عليهم ؛ عقوبة لهم
على طريق التشديد في التكليف لعظيم الحرم ، وزوال الحرج بمحمد صلى الله عليه وسلم [وأمته] ، وألزم جميع الخليفة دين الإسلام بحلّه وحرمه ، وأمره
ونهيه ؛
__________________
فإذا ذبحوا
أنعامهم فأكلوا ما أحلّ الله في التوراة ، وتركوا ما حرم ، فهل يحلّ لنا؟ فقال
مالك في كتاب محمد : هي محرّمة [عليهم] وقال في سماع المبسوط : هي محلّلة ، وبه قال ابن نافع.
وقال ابن القاسم : أكرهه.
والصحيح أكلها ؛
لأنّ الله رفع ذلك التحريم بالإسلام.
فإن قيل : فقد بقي
اعتقادهم فيه عند الذكاة.
قلنا : هذا لا
يؤثر ؛ لأنه اعتقاد فاسد.
المسألة الرابعة ـ
فلو ذبحوا كلّ ذي ظفر ؛ فقال أصبغ : كلّ ما كان محرّما في كتاب الله من ذبائحهم
فلا يحلّ أكله. وقاله أشهب وابن القاسم وأجازه ابن وهب. والصحيح تحريمه ؛ لأن ذبحه
منهم ليس بذكاة.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِبَغْيِهِمْ) دليل على أنّ التحريم إنما يكون عن ذنب ؛ لأنه ضيق فلا
يعدل عن السعة إليه إلا عند الموجدة.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا ، فَإِنْ شَهِدُوا
فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
قال علماؤنا : فيه
دليل على أنّ الرجل إذا قال : رضيت بفلان فإذا شهد أنكره ، وقال : ظننت أنه يقول
الحقّ أنه لا يلزمه.
وقد اختلف فيه
الفقهاء ؛ فمنهم من قال : يلزمه ذلك. وقال آخرون : لا يلزمه ما قال. وللمالكية
القولان. ومشهور قول ابن القاسم أنه لا يلزمه ، وليس في الآية الرضا بالشهادة ثم
الإنكار ؛ إنما فيها طلب الدليل واستدعاء البرهان على الدعوى ؛ فإن العرب تحكّمت
بالتحريم والتحليل ، فقال الله لنبيه : قل لهم : هاتوا شهداءكم بأنّ هذا من عند
الله ، أى حجّتكم حتى نسمعها ، وننظر فيها.
فإن قيل : فما
فائدة قوله : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ)؟
__________________
قلنا : هذا تحذير من الله لنبيه لتعلم أمّته المعنى. فإن قال
شهداؤهم مثل ما يقولون فلا تقله معهم ؛ فهذا دليل على أن الشاهد إذا قال ما قام
الدليل على بطلانه فلا تقبل شهادته.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ،
وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
تقدم حال الولىّ مع اليتيم في ماله في سورة البقرة وآل عمران ، وهذا يدلّ على جواز عمل الوصىّ في مال اليتيم إذا كان
حسنا حتى يبلغ الغلام أشدّه ، زاد في سورة النساء ويونس رشده.
المسألة الثانية ـ
هذا يدلّ على أن البلوغ أشد ، ويأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة ـ
قال أبو حنيفة : الأشدّ خمسة وعشرون عاما ، وعجبا من أبى حنيفة فإنه يرى أن
المقدّرات لا تثبت نظرا ولا قياسا ، وإنما تثبت نقلا على ما بيناه في أصول الفقه ،
وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة ، ولكنه سكن دار الضّرب فكثر عنده المدلّس ، ولو سكن المعدن كما قيّض الله لمالك لما صدر عنه إلّا إبريز الدين وإكسير الملّة كما صدر عن مالك.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (إِنَّ صَلاتِي ...) الآية :
مقام التسليم لله
ودرجة التفويض إلى الله بناء عن مشاهدة توحيد ومعاينة يقين وتحقيق؛
__________________
فإن الكلّ من
الإنسان لله أصل ووصف ، وظاهر وباطن ، واعتقاد وعمل ، وابتداء وانتهاء ، وتوقّف
وتصرف ، وتقدم وتخلّف ، لا شريك له فيه ، لا منه ولا من غيره يضاهيه أو يدانيه.
المسألة الثانية ـ
ثبت في الحديث الصحيح أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح به صلاته ، وثبت أنه كان يقول في استفتاحها
أيضا : سبحانك اللهم وبحمدك.
واختلف قول مالك
بذلك ؛ فقال ابن القاسم : لم ير مالك هذا الذي يقوله الناس قبل القراءة : سبحانك
اللهمّ وبحمدك.
وفي مختصر ما ليس
في المختصر أن مالكا يقول : وإنما كان يقول في خاصته لصحة الحديث به ؛ وكان لا
يريه للناس مخافة أن يعتقدوا وجوبه.
ورآه الشافعى من
سنن الصلوات ، وهو الصواب ؛ لصحة الحديث. والله أعلم.
المسألة الثالثة ـ
إذا قلنا إنه يقولها في افتتاح الصلاة على الوجه المتقدم ، فإنه يقول في آخرها :
وأنا من المسلمين ، ولا يقول : وأنا أول المسلمين ؛ إذ ليس أحد بأولهم إلا محمد
صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : أو ليس
إبراهيم قبله؟ قلنا : عنه أجوبة ، أظهرها الآن أنه أول المسلمين من أهل ملّته.
والله أعلم.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ استدلّ
بعض علمائنا المخالفين على أنّ بيع الفضولىّ لا يصحّ بقوله : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها).
وعارضهم علماؤنا
بأن المراد بالآية تحمّل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا.
__________________
ويحتمل أن يكون
المراد بذلك كسب الإلزام والالتزام ، لا كسب المعونة والاستخدام ؛ فقد يتعاون
المسلمون ويتعاملون بحكم العادة والمروءة والمشاركة ؛ هذا رسول الله قد باع له
واشترى عروة البارقىّ في دينار وتصرّف بغير أمره ، فأجازه النبىّ صلى الله عليه
وسلم وأمضاه ؛ نصّه أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى
عروة البارقي دينارا ، وأمره أن يشترى له شاة من الجلب فاشترى له به شاتين ، وباع إحداهما بدينار ، وجاءه
بالدينار وبالشاة ؛ فدعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبركة ؛ فكان لا يتّجر في
سوق إلا ربح فيها حتى لو اتّجر في التّراب لربح فيه.
قال : ولقد كنت
أخرج إلى الكناسة بالكوفة فلا أرجع إلّا وقد ربحت ربحا عظيما. وقد مهّدنا الكلام
عليه في صريح الحديث وتلخيص الطريقتين ، فانظروه يجدوه إن شاء الله.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) :
للوزر معنيان :
أحدهما ـ الثقل ؛
وهو المراد هاهنا ، يقال وزره يزره إذا حمل ثقله ، ومنه قوله تعالى: (وَوَضَعْنا عَنْكَ
وِزْرَكَ). والمراد به هاهنا الذنب ؛ قال تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) ـ يعنى ذنوبهم ـ (أَلا ساءَ ما
يَزِرُونَ) ؛ أى بئس الشيء شيئا يحملون.
والمعنى لا تحمل
نفس مذنبة عقوبة الأخرى ؛ وإنما تؤخذ كلّ نفس منهم بجريرتها التي اكتسبتها ، كما
قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).
وقد
وقد أبو رمثة رفاعة بن يثربىّ التميمىّ مع ابنه على النبي صلى
الله عليه وسلم ، قال : فقال : أما إنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه.
وهذا إنما بيّنه
لهم ردّا على اعتقادهم. في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بابنه وبأبيه وبجريرة حليفه.
__________________
المسألة الثالثة ـ
وهذا حكم من الله تعالى نافذ في الدنيا والآخرة ؛ وهو ألّا يؤخذ أحد بجرم أحد ،
بيد أنه يتعلّق ببعض الناس من بعض أحكام في مصالح الأمر بالمعروف والنهى عن
المنكر ، والتعاون على البرّ والتقوى ، وحماية النفس والأهل عن العذاب ، كما قال
تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً). والأصل في ذلك كلّه أنّ المرء كما يفترض عليه أن يصلح
نفسه باكتساب الخير فواجب عليه أن يصلح غيره بالأمر به والدعاء إليه والحمل عليه ،
وهذه فائدة الصحبة ، وثمرة المعاشرة ، وبركة المخالطة ، وحسن المجاورة ؛ فإن [حسن
في ذلك كله كان معا في في الدنيا والآخرة ، وإن] قصر في ذلك كلّه كان معاقبا في الدنيا والآخرة ، فعليه
أولا إصلاح أهله وولده ، ثم إصلاح خليطه وجاره ، ثم سائر الناس بعده ، بما بينّاه
من أمرهم ودعائهم وحملهم ؛ فإن فعلوا ، وإلا استعان بالخليفة لله في الأرض عليهم ،
فهو يحملهم على ذلك قسرا ، ومتى أغفل الخلق هذا فسدت المصالح ، وتشتّت الأمر ،
واتسع الخرق ، وفات الترقيع ، وانتشر التدمير ؛ ولذلك يروون أنّ عمر بن الخطاب
كفّل المتهمين عشائرهم ، وذلك بالتزامهم كفّهم أو رفعهم إليه حتى ينظر فيهم ،
والله يتولى التوفيق برحمته.
__________________
سورة الأعراف
[فيها سبع وعشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
: (كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
بعضهم قوله : (فَلا يَكُنْ فِي
صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) نهى في الظاهر ، ولكنه لنفى الحرج. وعجبا له مع عمل يقع في
مثله ، والنهى عن الشيء لا يقتضى نفيه ؛ فإن الله سبحانه ينهى عن أشياء وتوجد ،
ويأمر بأشياء فلا توجد والصحيح أنه نهى على حاله ؛ قيل لمحمد : (فلا يكن في صدرك
حرج منه) ، وأعين على امتثال النهى بخلق القدرة له عليه ؛ كما فعل به في سائر
التكليفات.
المسألة الثانية ـ
الحرج هو الضّيق. وقيل : هو الشك . وقيل : هو التبرم ؛ وإلى الأول يرجع ؛ فإن كان هو الشك
فقد أنار الله فؤاده باليقين ، وإن كان التبرم فقد حبّب الله إليه الدين ، وإن كان
الضيق فقد وسّع الله قلبه بالعلوم ، وشرح صدره بالمعارف ، وذلك مما فتح الله عليه
من علوم القرآن ، وخفّف عليه ثقل العبادة حتى جعلت قرّة عينه في الصلاة ، فكان
يقول : أرحنا بها يا بلال.
ومن تمام النية في
العبادة النشاط إليها ، والخفّة إلى فعلها ، وخصوصا الصبح والعشاء ؛ فهما أثقل
الصلوات على المنافقين حسبما رواه أبو داود وغيره : أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : فذكر من حديث أنّ هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على
المنافقين ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا على الركب. وليس يخلو أحد عن وجود الثقل ؛ ولذلك كان تكليفا ، بيد أن المؤمن يحتمله
ويخرج بالفعل عنه ، والمنافق يسقطه.
__________________
فإن قيل ـ وهي :
المسألة الثالثة ـ
فالعاصى إذا أسقطه أمنافق هو؟ قلنا : لا ، ولكنه فاعل فعل المنافقين والكافرين ،
وإلى هذا المعنى أشار النبىّ صلى الله عليه وسلم بقوله : من ترك الصلاة فقد كفر ؛ أى فعل فعل الكفار في أحد الأقوال :
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قال
علماؤنا : معناه أحلوا حلاله وحرّموا حرامه ، وامتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ،
واستبيحوا مباحه ، وارجوا وعده ، وخافوا وعيده ، واقتضوا حكمه ، وانشروا من علمه
علمه ، واستجسوا خباياه ، ولجوا زواياه ، واستثيروا جاثمه ؛ وفضّوا خاتمه ،
وألجقوا به ملائمه ـ وهي :
المسألة الثانية ـ
باتباع ما يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عارضه إذا وضح مسلكه ؛ فتارة
يكون ناسخا له ، وأخرى خاصا ومتمّما في حكم على طرق موارده المعلومة ، بشروطها
المحصورة حسبما بيناه في أصول الفقه.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (يا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
فيها إحدى عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ في
نزولها :
قيل : إنها نزلت
في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة ، أمروا باللباس وستر العورة ؛ قاله ابن عباس
وجماعة معه.
وقال مجاهد
والزجاج : نزلت في ستر العورة في الصلاة ، وهذا ليس يدافع الأول ؛ لأن الطواف
بالبيت صلاة.
__________________
وفي الصحيح عن ابن
عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة فتقول : من تعيرني
تطوافا فتجعله على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه
أو كلّه
|
|
وما بدا منه فلا
أحلّه
|
جهم من الجهم عظيم ظلّه
|
|
كم من لبيب عقله
يضلّه
|
وناظر ينظر ما
يملّه فنزلت : (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
قال ابن العربي :
وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط.
وقد روى أنّ العرب
كانت تطوف بالبيت عراة ، إلا الحمس : قريش وأحلافهم ، فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثوب
أحمسىّ ، فيحلّ له أن يلبس ثيابه ، فإن لم يجد من يعيره ما يلبس من الحمس فإنه
يلقى ثوبه ويطوف عريانا ، وتحرم عليه ثيابه ، فنزلت الآية.
وثبت في الصحيح أن
النبىّ صلى الله عليه وسلم أرسل ألّا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
فنودي بها في الموسم.
المسألة الثانية ـ
في سبب فعل الجاهلية لذلك :
إن قريشا كانت رأت
رأيا تكيد به العرب ، فقالوا : يا معشر قريش ؛ لا تعظّموا شيئا من البلدان لتعظيم
حرمكم ، فتزهد العرب في حرمكم إذا رأوكم قد عظّمتم من البلدان غيره كتعظيمه ،
فعظّموا أمركم في العرب ؛ فإنكم ولاة البيت وأهله دون الناس ؛ فوضعوا لذلك الأمر
أن قالوا : نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لنا أن نعظّم غيره ، ولا نخرج
منه ؛ فكانوا يقفون بالمزدلفة دون عرفة ؛ لأنها خارج من الحرم ، وكانت سنة إبراهيم
وعهدا
__________________
من عهده ، ثم
قالوا : لا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلّا في ثيابنا ، ولا يأكل إذا دخل أرضنا
إلا من طعامنا ، ولا يأكل الأقط ، ولا يستظلّ بالأدم إلا الحمس ؛ وهم قريش ، وما
ولدت من العرب ومن كان يليها من حلفائها من بنى كنانة ؛ فكان الرجل من العرب أو
المرأة يأتيان حاجين ، حتى إذا أتيا الحرم وضعا ثيابهما وزادهما ، وحرم عليهما أن
يدخلا مكة بشيء من ذلك : فإن كان لأحد منهم صديق من الحمس استعار من ثيابه وطاف
بها ، ومن لم يكن له صديق منهم ، وكان له يسار استأجر من رجل من الحمس ثيابه ، فإن
لم يكن له صديق ولا يسار يستأجر به كان بين أحد أمرين : إمّا أن يطوف بالبيت
عريانا ، وإما أن يتكرّم أن يطوف بالبيت عريانا فيطوف في ثيابه ؛ فإذا فرغ من
طوافه ألقى ثوبه عنه ، فلم يمسّه ، ولم يمسّه أحد من الناس ؛ فكان ذلك الثوب يسمّى
اللّقى ، قال قائل من العرب :
كفى حزنا كرىّ
عليه كأنه
|
|
لقى بين أيدى
الطائفين حريم
|
وإن كانت امرأة
ولم تجد من يعيرها ولا كان لها يسار تستأجر به [خلعت] ثيابها كلها إلا درعا مفردا ، ثم طافت فيه ؛ فقالت امرأة
من العرب ـ كانت جميلة تامة ذات هيئة ـ وهي تطوف :
اليوم يبدو بعضه
أو كلّه
|
|
وما بدا منه فلا
أحلّه
|
فكانوا على ذلك من
البدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأنزل فيمن كان
يطوف بالبيت عريانا : (يا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ ...) إلى آخر الآية. ووضع الله ما كانت قريش ابتدعت من ذلك ،
وقد أنزل الله في تركهم الوقوف بعرفة : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ؛ يعنى بذلك قريشا ومن كان على دينهم. المسألة الثالثة ـ اختلف
الناس في ستر العورة ، هل هي فرض في الصلاة أم مستحبّة؟ فأما أبو حنيفة والشافعى وأحمد فقالوا : إنها فرض فيها. وأما مالك
فالمشهور من قوله أنها فرض إسلامى لا تختصّ بالصلاة ؛ وهو أشهر أقوالنا. والقول
الآخر مثل قول من تقدّم ؛ وهو الصحيح ؛ لما ثبت من أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بستر العورة في الصلاة ، والأمر على الوجوب ، وهو وإن كان فرضا إسلاميّا فإنه
يتأكّد في الصلاة.
__________________
المسألة الرابعة ـ
العورة على ثلاثة أقسام :
الأول ـ جميع
البدن ؛ فيجب ستره في الصلاة ؛ قاله أبو الفرج عنه.
الثاني ـ أنها من
السّرّة إلى الرّكبة ؛ ولا خلاف فيه ، إنما الخلاف ـ وهو القسم الثالث ـ في أن ما زاد على القبل والدّبر هل هو عورة مثقلة أو مخفّفة؟
فقال علماؤنا وأبو حنيفة : إن القبل والدبر عورة مثقلة ، والفخذ عورة مخففة.
والصحيح أن الفخذ
ليس بعورة ؛ لأنها ظهرت من النبي صلى الله عليه وسلم يوم جرى في زقاق خيبر ، ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلها بأفخاذ أصحابه ، ولو كانت عورة ما وصلها بها.
قال زيد : نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحى وفخذه على فخذي حتى كادت أن
ترضّ فخذي ، أما إنه يكره كشفها فإن مالكا وغيره قد روى حديث جرهد أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم قال له : غطّ فخذك ، فإن الفخذ عورة ، وهو حديث مشهور.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) وإن كل واردا على طواف العريان ، فإنه عندنا عام في كل
مسجد للصلاة ؛ ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف ؛ لأنّ الطواف لا
يكون إلا في مسجد واحد. والذي يعمّ كل مسجد هو الصلاة ، وهذا قول من خفى عليه
مقاصد اللغة والشريعة.
وبيانه أنهم كانوا
يطوفون عراة في المسجد فنزلت : (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، ليكون العموم شاملا لكل مسجد ، والسبب الذي أثار ذلك ما
كانوا يفعلونه في أفضل المساجد ، والصحابة الذين هم أرباب اللغة والشريعة أخبروا
بذلك ، ولم يخف عليهم نظام الكلام ، ولا كيف كان وروده ، اجتزءوا بورود الآية
ومنحاها ، فلا مطمع لعالم في أن يسبق شأوهم في تفسير أو تقدير.
المسألة السادسة ـ
قوله : (عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ) :
قال بعضهم : ظاهر
هذا الكلام الورود بأخذ الزينة للفعل الواقع في المسجد ، تعظيما للمسجد ، ولا يدلّ
ذلك على وجوب الستر خارج المسجد ، فزاد الناس ، فقالوا : هذا يدلّ على وجوب السّتر
للعورة في الصلاة ؛ فإنه ليس الأمر بالستر في المسجد لعين المسجد ، وإنما هو للفعل
الواقع في المسجد.
__________________
والفعل الواقع في
المسجد على ثلاثة أقسام : طواف ، ولا يعمّ كلّ مسجد. واعتكاف ، ولم يشرف لأجله ؛
فلم يبق إلا الصلاة ؛ وقد ألزم الستر لها ، فكان ذلك شرطا فيها.
وقد قام الدليل
على سقوط ما زاد على العورة ، وبقي ما قابل العورة على ظاهره ، وقد بيّنا فساد هذا
من قبل ؛ فإن الأمر بالزينة عند كل مسجد يحتمل أن يكون لأجل ما فيه من اجتماع
الناس.
فإن قيل :
ويجتمعون في الأسواق.
قلنا : ليس ذلك
اجتماعا مشروعا ؛ بل يجوز تفرّقهم. وها هنا إن تفرّقوا في المساجد كان ذلك قطعا
للجماعة ، وخرقا للصفوف ؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا
المرأة إلى عورة المرأة. خرّجه مسلم وغيره.
وأما قوله : إنّ
الطواف لا يعمّ كلّ مسجد فقد تقدّم الجواب عنه.
المسألة السابعة ـ
إذا قلنا : إنّ ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره ، وهو راكع ،
فرفع رأسه وغطّاه أجزاه ؛ قاله ابن القاسم.
وقال سحنون : وكلّ
من نظر إليه من المأمومين أعاد. وقد روى سحنون أنه يعيد ، ويعيدون ؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة ،
فإذا بطل بطلت الصلاة ـ أصله الطهارة. فهذا طريق من طرق النظر.
وأما أن يقال : إن
صلاتهم لا تبطل ، لأنهم لم يفقدوا شرطا. وأما من قال : إن أخذه مكانه صحّت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه ، فصحيفة يجب محوها ، ولا يجوز
الاشتغال بها.
المسألة الثامنة ـ
قال علماؤنا : إذا صلّى في جماعة أو كان إماما فلا يصلّى إلا بردائه أو شيء يجعله
على منكبه ، ولو طرف عمامة ؛ لأنه من الزينة ، وقد أمر الله بها عند كل مسجد ، وكذلك
قالت طائفة ـ وهي :
المسألة التاسعة ـ
إنه يصلى في نعليه ، وقد روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ) قالوا : صلّوا في النعال ، ولم يصح ذلك.
__________________
المسألة العاشرة ـ
هذا خطاب للرجال والنساء ، إلّا أنهم يختلفون في العورة ، فعورة الرجل قد تقدّم
ذكرها ، وعورة المرأة جميع بدنها إلا وجهها وكفّيها ، وفي المصنفين أنّ النبي صلى
الله عليه وسلم قال : لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار. وهذا في الحرّة ؛ فقد ثبت عن
أم سلمة أنها سألت النبىّ
صلى الله عليه وسلم : أتصلّى المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال : إذا كان
الدّرع سابغا يغطّى ظهور قدميها ؛ فأما الأمة فإنها تصلى ـ كما تمشى ـ حاسرة
الرأس.
وقال علماؤنا :
تستر في الصلاة ما يستر الرجل ، حتى لو انكشف بطنها لم يضرها.
وقال أصبغ : إن
انكشفت فخذها أعادت في الوقت. وقد بيّنا ذلك في مسائل الفقه.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا) :
الإسراف : تعدّى
الحدّ ؛ فنهاهم عن تعدّى الحلال إلى الحرام.
وقيل : ألّا
يزيدوا على قدر الحاجة.
وقد اختلف فيه على
قولين : فقيل : هو حرام. وقيل : هو مكروه ؛ وهو الأصح ؛ فإن قدر الشبع يختلف
باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. وقد ثبت في الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم أمر لرجل
كافر بحلاب سبع شياه ، فشربها ثم آمن ، فلم يقدر على أكثر من حلب شاة. قال النبي صلى الله عليه وسلم : المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل
في سبعة أمعاء ؛ وذلك أن القلب
لما تنوّر بالتوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوّى على الطاعة ، فأخذ منه قدر الحاجة
، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط .
وقد قال بعض شيوخ
الصوفية : إنّ الأمعاء السبعة كناية عن أسباب سبعة يأكل بها النّهم : يأكل للحاجة
، والخبر ، والنّظر ، والشّم ، واللمس ، والذوق ، ويزيد استغناما.
وقد مهدناه في شرح
الصحيح. والله أعلم.
الآية الرابعة : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ،
__________________
قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (زِينَةَ اللهِ) :
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ ستر
العورة ؛ إذ كانت العرب تطوف عراة ، إن كانت لا تجد من يعيرها من الحمس.
الثاني ـ جمال
الدنيا في ثيابها وحسن النظرة في ملابسها ولذّاتها.
الثالث ـ جمع
الثياب عند السعة في الحال ، كما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا وسّع الله
عليكم فأوسعوا. جمع رجل عليه ثيابه ، وصلّى رجل في إزار أو رداء ، في إزار وقميص ، في إزار وقباء ، في سراويل ورداء ، في
سراويل وقميص ، في سراويل وقباء ، في تبّان وقباء ، في تبّان وقميص. وأحسبه قال في تبان ورداء. والتّبّان : ثوب يشبه
السراويل فسّره أبو علىّ القالي كذلك ، وعليه نقل الحديث ؛ فلعله أخذه منه ،
فكثيرا ما يفسر الأعرابيون من لحن الحديث ما لم يجدوه في العربية ، وهو الذي امتنّ
به في قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) ، وهي الآية الخامسة ، ولو لا وجوب سترها ما وقع الامتنان
باللباس الذي يواريها.
فإن قيل : إنما
وقع الامتنان في سترها لقبح ظهورها.
قلنا : ماذا
يريدون بهذا القبح؟ أيريدون به قبحا عقلا ، فنحن لا نقبّح بالعقل ، ولا نحسّن ؛
وإنما القبيح عندنا ما قبّحه الشرع ، والحسن ما حسّنه الشرع.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ) :
قيل : هي الحلال.
وقيل : هي اللذات ، وكلّ لذة وإن لم تكن محرّمة فإنّ استدامتها والاسترسال عليها
مكروه ، ويأتى بيانه إن شاء الله.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) :
يعنى بحقّها من توحيد الله والتصديق له ؛ فإن الله ينعم ويرزق ؛ فإن
وحّده المنعم عليه وصدّقه فقد قام بحقّ النعمة ، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من
نفسه. وفي الحديث الصحيح : لا أحد أصبر على أذى من الله ، يعاقبهم ويرزقهم وهم
يدعون له الصاحبة والولد.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (خالِصَةً يَوْمَ
الْقِيامَةِ) :
يعنى أن الكفار
يشركون المؤمنين في استعمال الطيبات في الدنيا. فإذا كان في القيامة خلصت للمؤمنين
في النعيم ، وكان للكفار العذاب الأليم.
الآية السادسة ـ قوله
: (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قد
قدّمنا ذكر الفواحش في سورة النساء ، وأما ما ظهر منها وما بطن ـ وهي :
المسألة الثانية ـ
فإنّ كلّ فاحشة ظاهرة للأعين ، أو ظاهرة بالأدلة ، كما ورد النصّ فيه أو وقع
الإجماع عليه ، أو قام الدليل الجلىّ به ، فينطلق عليها اسم الظاهرة.
والباطنة : كلّ ما
خفى عن الأعين ، ويقصد به الاستتار عن الخلق ؛ أو خفى بالدليل ؛ كتحريم نكاح
المتعة والنبيذ على أحد القولين ونحو ذلك في الصنفين ؛ فإن النبيذ وإن كان مختلفا
فيه فإنّ تحريمه جلىّ في الدليل ، قوىّ في التأويل. وفي الحديث الصحيح : لا أحد
أغير من الله. ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (الْإِثْمَ) :
وهو عبارة عن
الذمّ الوارد في الفعل ، أو الوعيد المتناول له ؛ فكلّ مذموم شرعا أو فعل وارد على
الوعيد فيه ، فإنه محرّم وهو حدّ المحرم وحقيقته. وأما البغي ، وهو :
المسألة الرابعة ـ
فهو تجاوز الحدّ ، ووجه ذكرهما بعد دخولها في جملة الفواحش ؛ للتأكيد لأمرهما
بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم العام قصد الزّجر ، كما قال تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ؛ فذكر النخل والرمان بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم
العام على معنى الحث.
__________________
المسألة الخامسة ـ
لما قال الله في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ـ قال قوم : إنّ الإثم اسم من أسماء الخمر ، وإن المراد
بقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) ـ الخمر ، حتى قال الشاعر :
شربت الإثم حتى زال عقلي
|
|
كذلك الإثم يذهب
بالعقول
|
وهذا لا حجة فيه ،
لأنه لو قال : شربت الذنب ، أو شربت الوزر ، لكان كذلك ، ولم يوجب قوله أن يكون
الوزر والذنب اسما من أسماء الخمر ، كذلك هذا. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل
باللغة وبطريق الأدلة في المعاني. والله الموفق.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ الأصل
في الأعمال الفرضية الجهر ، والأصل في الأعمال النّفليّة السر ؛ وذلك لما يتطرّق
إلى النّفل من الرياء والتظاهر بها في الدنيا ، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال ، وجبلت
قلوب الخلق بالميل إلى أهل الطاعة ، وقد جعل الباري سبحانه في العبادات ذكرا جهرا
وذكرا سرّا ، بحكمة بالغة أنشأها بها ورتّبها عليها ؛ وذلك لما عليه قلوب الخلق من
الاختلاف بين الحالين.
المسألة الثانية ـ
أما الذكر بالقراءة في الصلاة فانقسم حاله إلى سرّ وجهر ، وأما الدعاء فلم يشرع
منه شيء جهرا ؛ لا في حالة القيام ولا في حالة الركوع ، ولا في حالة السجود ؛ لكن
اختلف العلماء في قول قارئ الفاتحة : «آمين» هل يسرّ بها أم يجهر؟ وقد قدمناه في
هذا الكتاب وفي مسائل الخلاف.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
__________________
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ نوح
أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمّات
والخالات وسائر الفرائض ؛ كذلك في صحيح الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قال من
المؤرّخين : إنّ إدريس كان قبله فقد وهم. والدليل على صحة وهمه في اتباعه صحف
اليهود ، وكتب الإسرائيليات ـ الحديث الصحيح في الإسراء ، حين لقى النبي صلى الله عليه وسلم
آدم وإدريس ، فقال له آدم : مرحبا بالنبي الصالح ، والابن الصالح. وقال له إدريس :
مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. ولو كان إدريس أبا لنوح على صلب محمد لقال له : مرحبا
بالنبي الصالح والابن الصالح. فلما قال له : مرحبا
بالنبي الصالح والأخ الصالح دلّ على أنه يجتمع معه في أبيهم نوح ، ولا كلام لمنصف بعد هذا.
المسألة الثانية ـ
روى أن نوحا سمّى به ؛ لأنه ناح على قومه ، وأكثر ذلك من فعله معهم ، والنّوح هو
البكاء على الميت ، وكانوا موتى في أديانهم لعدم إجابتهم دعاءه لهم إلى الإيمان ، وإبايتهم عن قبولهم
للتوحيد ؛ وهذا وإن كان الاشتقاق يعضده من وجه فإنه يردّه أنّ ما تقدم من الأسماء
قبل إسماعيل لم تكن عربية أما إنّ ذكر العلماء لذلك يدلّ على مسألة ؛ وهي جواز
اشتقاق الأسماء للرجال والنساء من الأفعال التي يكتسبونها ، إذا لم تكن على طريق
الذمّ ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كنى الدّوسى من أصحابه بهرّة كان
يكتسب لزومها معه ، ودعاه لذلك بأبى هريرة ، في أمثال لهذا كثيرة من آثار النبي
صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء نبهنا عليه.
فإن قيل : وأىّ
مدح في لزوم الهرّة؟ قلنا : لأنها من الطوّافين والطوافات يصغى لها الإناء ، ولا تفسد الماء إذا ولغت فيه ، وفيها منفعة
عظيمة تكفّ إذاية الفأر ، وما يؤذى الإنسان من الحشرات.
المسألة الثالثة ـ
قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : الطّوفان الماء ، والجراد كان يأكل المسامير ،
وإن سفينة نوح أتت البيت في جريانها فطافت به سبعا.
__________________
وإنما قال مالك
هذا لوجهين :
أحدهما ـ أن جماعة
من المفسرين روت عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطّوفان هو الموت.
وحقيقة الطوفان ـ وهو
الثاني ـ أنه مصدر من طاف ، أو جمع ، واحدته طوفانة ، فقد قال سبحانه : (فَطافَ عَلَيْها ...) الآية.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعالَمِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ الفاحشة
قد تقدم بيانها ؛ وإنما ذكر الله هذه المعصية ، وهي إتيان الرجال باسم الفاحشة
ليبيّن أنّها زنا ، كما قال : (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً).
المسألة الثانية ـ
أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لما ارتكبوا هذه الفاحشة أرسل عليهم حجارة من سجّيل
جزاء على فعلهم.
وقد اختلف العلماء
في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه يعزّر
؛ قاله أبو حنيفة.
الثاني ـ قال
الشافعى وجماعة : يحدّ حدّ الزاني ، محصنا بجزائه وبكرا بجزائه.
الثالث ـ قال مالك
: برجم أحصن أو لم يحصن ؛ وقاله ابن المسيب والنخعي وعطاء وجماعة.
أما من قال : إنه
يعزّر فتعلّق بأن هذا لم يزن ، وعقوبة الزاني معلومة ؛ فلما كانت هذه المعصية
غيرها وجب ألّا يشاركها في حدّها.
وأما من قال : إنه
زنا فنحن الآن نثبته مع الشافعى ردّا على أبى حنيفة الذي يجعله بمنزلة الوطء بين
الفخذين ، فيقول : قد بينا مساواته للزنا في الاسم ، وهي الفاحشة ، وهي مشاركه له
في المعنى ، لأنه معنى محرّم شرعا ، مشتهى طبعا ؛ فجاز أن يتعلّق به الحدّ إذا
__________________
كان معه إيلاج
وهذا الفقه صحيح. وذلك أن الحدّ للزجر عن الموضع المشتهى ، وقد وجد ذلك المعنى
كاملا ؛ بل هذا أحرم وأفحش ؛ فكان بالعقوبة أولى وأحرى.
فإن قيل : هذا وطء
في فرج لا يتعلّق به إحلال ولا إحصان ، ولا وجوب مهر ، ولا ثبوت نسب ؛ فلم يتعلق
به حدّ.
قلنا : هذا بيان
لمذهب مالك ؛ فإنّ بقاء هذه المعاني فيه لا يلحقه بوطء البهيمة ، إنما يعظم أمره على
الوطء في القبل تعظيما يوجب عليه العقوبة فيه ، أحصن أو لم يحصن ؛ ألا ترى إلى
عقوبة الله عليه ما أعظمها.
فإن قيل : عقوبة
الله لا حجة فيها لوجهين.
أحدهما ـ أنّ قوم
لوط إنما عوقبوا على الكفر.
الثاني ـ أنّ
صغيرهم وكبيرهم دخل فيها. فدلّ على خروجها عن باب الحدود.
فالجواب أنّا نقول
: أمّا قولهم إنّ الله عاقبهم على الكفر فهذا غلط ؛ فإن الله أخبر أنهم كانوا على
معاص فأخذهم منها بهذه ، ألا تسمعه يقول : (أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
أَزْواجِكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ). قالوا له : لئن لم تنته لنفعلنّ بك [يا لوط] ، ففعل الله بهم قبل ذلك.
الثاني ـ أنه إنما
أخذ الصغير والكبير ؛ لسكوت الجملة عليه والجماهير ؛ فكان منهم فاعل ، وكان منهم
راض ؛ فعوقب الجميع ، وبقي الأمر في العقوبة على الفاعلين مستمرّا.
وقد روى أبو داود
والترمذي والنسائي وغيرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا
الفاعل والمفعول [به] .
فإن قيل : فقد روى
هؤلاء الأئمة وغيرهم أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : من وجدتموه قد أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوه
البهيمة .
__________________
قلنا : هذا الحديث
متروك بالإجماع ، فلا يلتفت إليه ، وليس يلزم إذا سقط حديث بالإجماع أن يسقط ما لم
يجمع عليه.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ البخس
في لسان العرب هو النّقص بالتعييب والتزهيد ، أو المخادعة عن
القيمة ، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النّقصان منه.
المسألة الثانية ـ
إنما أذن الله سبحانه في الأموال بالأكل بالحق ، والتعامل بالصدق ، وطلب التجارة
بذلك ، فمتى خرج عن يد أحد شيء من ماله بعلمه لأخيه فقد أكل كلّ واحد منهما ما
يرضى الله ويرتضيه ؛ وإن خرج شيء من ماله عن يده بغير علمه فلا يخلو أن يكون مما
يتغابن الناس بمثله مما لا غنى عنه في ارتفاع الأسواق وانخفاضها عنه ؛ فإنه حلال
جائز بغير خلاف ؛ إذ لا يمكن الاحتراز منه. وإن كان بأكثر من ذلك فقد اختلف الناس
فيه ؛ فقال علماؤنا : إذا جرى ذلك في بيع كان صاحبه بالخيار إن شاء أمضاه بعد
العلم به وإن شاء ردّه.
وقال بعضهم وآخرون
غيرهم : إنه لا ردّ فيه.
والصحيح هو الأول
؛
فقد ثبت أنّ النبي
صلى الله عليه وسلم قال لرجل كان
يخدع في البيوع : إذا بايعت فقل لا خلابة .
وفي غير الصحيح :
واشتراط الخيار ثلاثا.
وفي رواية : ولك الخيار ثلاثا.
فإن قيل ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
كان هذا الرجل قد أصابته مأمومة في الجاهلية أثّرت في عقله ، فكان يخدع لأجل ذلك في بيعه ،
فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم ما قال لما كان عليه من الحال ، حتى كان يقول
لما أصابه : لا خلابة لا خلابة.
__________________
فالجواب أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم لو كان الذي قال له من حكمه لما أصابه من عقله لما جوّز
بيعه ؛ لأن بيع المعتوه لا يجوز بخيار ، ولا بغير خيار ، ولكنه أمره بأن يصرّح عن
قوله ، حتى يقع الاحتراز منه.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
هذا يدلّ على أن
الصّلب وقطع اليد والرجل من خلاف كانت عقوبة متأصّلة عند الخلق تلقّفوها من شرع
متقدّم فحرّفوها حتى أوضحها الله في ملّة الإسلام ، وجعلها أعظم العقوبات لأعظم
الإجرام ، حسبما تقدّم بيانه.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسَى
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ ثبت
في الحديث الصحيح أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال في معرض الذم : لتركبنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ،
وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه.
وثبت أنه قال في
بعض مغازيه لأصحابه ،
وقد قالوا له : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ـ يعنى المشركين. فقال : هذا ، كما قال
من قبلكم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ؛ فحذّر النبىّ صلى الله عليه وسلم من اتّباع البدع ، وأمر
بإحياء السّنن ، وحثّ على الاقتداء ، وعن هذا قلنا : إنّ أهل الكتاب زادوا في
صيامهم بعلة رأوها ، وجعلوه أكثر من العدد المعروف.
وقد روى أنّ عثمان
بلغه أنّ رجلا من أهل الكوفة رجع إلى بلده بعد أن حضر معه الموسم فصلّى [معه] الظهر ركعتين ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : رأيت أمير
المؤمنين
__________________
عثمان يفعله ، فكان
عثمان يتمّ في السفر ؛ لأنه رأى ذلك مفسدا لعقائد العامة ، فرأى حفظ ذلك بترك يسير
من السنة.
المسألة الثانية ـ
رأى قوم من أهل الجفاء أن يصوموا ثانى عيد الفطر ستة أيام متواليات إتماما لرمضان
، لما روى في الحديث : من
صام رمضان وستّا من شوال فكأنما صام الدهر. خرجّه مسلم.
وهذه الأيام متى
صمت متصلة كان احتذاء لفعل النصارى ، والنبىّ صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا ،
إنما أراد أن من صام رمضان فهو بعشرة أشهر ، ومن صام ستة أيام فهي بشهرين ؛ وذلك
الدهر. ولو كانت من غير شوّال لكان الحكم فيها كذلك ، وإنما أشار النبىّ صلى الله
عليه وسلم بذكر شوال لا على طريق التعيين ؛ لوجوب مساواة غيرها لها في ذلك ؛ وإنما
ذكر شوّال على معنى التمثيل ، وهذا من بديع النظر فاعلموه.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً ، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ
وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).
فيها ستّ مسائل :
المسألة الأولى ـ ضرب
الأجل للمواعيد سنّة ماضية ومعنى قديم أسّسه الله في القضايا وحكم به للأمم ، وعرّفهم
به مقادير التأنى في الأعمال. وإن أول أجل ضربه الأيام الستة التي مدّها لجميع
الخليقة فيها ، وقد كان قادرا في أن يجعل ذلك لهم في لحظة واحدة ؛ لأنّ قوله لشيء
إذا أراده أن يقول له : كن فيكون ؛ بيد أنه أراد تعليم الخلق التأني وتقسيم الأوقات على أعيان المخلوقات
؛ ليكون لكلّ عمل وقت. وقد أشبعنا القول فيه في كتاب المشكلين.
المسألة الثانية ـ
إذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجّل لأجله ، فجاء الأجل ، ولم يتيسّر زيد
فيه تبصرة ومعذرة ؛ وقد بيّن الله ذلك في قصة موسى صلى الله عليه وسلم ،
__________________
فضرب له أجلا
ثلاثين ليلة ، فخرج لوعد ربه ، فزاد الله عشرا تتمة أربعين ليلة ، وأبطأ موسى في
هذه العشر على قومه ، فما عقلوا جواز التأخر لعذر حتى قالوا : إنّ موسى ضلّ أو نسى
، ونكثوا عهده ، وبدّلوا بعده ، وعبدوا إلها غير الله.
المسألة الثالثة ـ
الزيادة التي لا تكون على الأجل غير مقدرة ، كما أن الأجل غير مقدر ، وإنما يكون
ذلك باجتهاد الحاكم بعد النظر إلى المعاني المتعلقة بالأمر ؛ من وقت وحال وعمل ،
فيكون الأجل بحسب ذلك ؛ فإذا قدّر الزيادة باجتهاده ، فيستحبّ له أن تكون [الزيادة]
مثل ثلث المدة السالفة ، كما أجّل الله لموسى في الزيادة ثلث ما ضربه له من المدة.
وإن رأى الحاكم أن يجمع له الأصل في الأجل والزيادة في مدة واحدة جاز ، ولكن لا
بدّ من التربّص بعدها لما يطرأ من العذر على البشر.
المسألة الرابعة ـ
التاريخ إنما يكون بالليالي دون الأيام ؛ لأنّ الليالى أوائل الشهور ، وبها كانت
الصحابة تخبر عن الأيام ، حتى روى عنها أنها كانت تقول : صمنا خمسا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم. والعجم تخالفنا ذلك فتحسب بالأيام ؛ لأنّ معوّلها على الشمس ،
وحساب الشمس للمنافع ، وحساب القمر للمناسك ، ولهذا قال تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).
المسألة الخامسة ـ
اتفق كثير من المفسرين على أنّ الأربعين ليلة هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ،
وكان كلام الله لموسى غداة يوم النحر حين فدى إسماعيل من الذبح ، وأكمل لمحمد
الحجّ ، وجعل يوم الحجّ الأكبر.
وهذا إن ثبت من
طريق الخبر فلا بأس به ، وإن كان غير ثابت فالأيام العشر ذات فضل يبيّن في موضعه
إن شاء الله تعالى.
المسألة السادسة ـ
الوقت معنى غير مقدر ، والميقات : هو الوقت الذي بقدّر بعمل.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ).
__________________
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ القول
في الحسن والأحسن :
قد بيّنا في غير
موضع أنّ الحسن ما وافق الشرع ، والقبيح ما خالفه ، وفي الشّرع حسن وأحسن ، فقيل :
كلّ ما كان أرفق فهو أحسن. وقيل : كلّ ما كان أحوط للعبادة فهو أحسن.
والصحيح عندي أنّ
أحسن ما فيها امتثال الأوامر واجتناب النواهي. والدليل عليه قول النبي صلى الله
عليه وسلم للأعرابى ـ حين قال له : والله
لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ـ فقال : أفلح إن صدق ، دخل الجنّة إن صدق.
المسألة الثانية ـ
المباح من جملة الحسن في الشريعة بلا خلاف ، وإن اختلفوا في كونه من المأمورات ؛
لأنّه مما حسّنه الشّرع وأذن فيه.
وأما المكروه فلا
خلاف أنه ليس من الحسن ؛ لأنّ المباح يمدح فاعله بالاقتصار عليه ، ولا يمدح فاعل
المكروه ؛ بل هو داخل في السّرف المنهي عنه.
المسألة الثالثة ـ
هذه المسألة تدخل في الأحكام إذا قلنا : إنّ شرع من قبلنا شرع لنا ، فأما الشافعية
التي لا ترى ذلك فلم تدخلها في أحكامها ، ونحن نتكلّم عليها هنا من التبسّط الذي
لا يحسن.
والذي يحقّق ذلك
ما قدمناه من أنّ الله إنما ذكرها في القرآن ، من حسن الاقتداء ومن سيّئ الاجتناب
، وإذا مدح قوما على فعل فهو حثّ عليه ، أو ذمّهم على آخر فهو زجر عنه ، وكلّه
يدخل لنا في الاهتداء بالاقتداء.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ
أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ
إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ).
__________________
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ كان
موسى من أعظم الناس غضبا ؛ لكنه كان سريع الفيئة ، فتلك بتلك.
قال ابن القاسم :
سمعت مالكا يقول : كان موسى إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ، ورفع شعر بدنه جبّته
؛ وذلك لأنّ الغضب جمرة تتوقّد في القلب ، ولأجله أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم
من غضب أن يضطجع ، فإن لم يذهب غضبه فليغتسل ؛ فيخمدها اضطجاعه ، ويطفئها اغتساله.
وقد روى البخاري
وغيره ، عن ابن طاوس ، عن أبيه وغيره ، عن أبى هريرة ، قال : أرسل ملك الموت إلى موسى ، فلما جاءه
صكّه صكة ففقأ فيها عينه ، فرجع إلى ربه ، فقال : أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت.
فقال : ارجع إليه ، فقل له يضع يده على متن ثور فله بكلّ شعرة سنة. قال : أى رب ،
ثم ماذا؟ قال : الموت. قال : فالآن ... الحديث.
وهذا كلّه من غضب
موسى صلى الله عليه وسلم ، فلذلك ألقى الألواح عند رؤية عبادة العجل ، وما أوقع
الغضب هاهنا! وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه.
فإن قيل ، وهي :
المسألة الثانية ـ
ما معنى أخذه برأس أخيه يجرّه؟
قلنا : في ذلك
قولان :
أحدهما ـ كان ذلك
فيما مضى ثم نسخ.
الثاني ـ أنه ضمّ
أخاه إليه ليعلم ما لديه ، فبيّن له أخوه أنهم استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ؛ وفي
هذا دليل على أنّ لمن خشي القتل عند تغيير المنكر أن يسكت عنه ـ وهي :
المسألة الثالثة ـ
هذا دليل على أنّ الغضب لا يغيّر الأحكام ، كما زعمه بعض الناس ؛ فإن موسى لم يغير
غضبه شيئا من أفعاله ؛ بل اطردت على مجراها ، من إلقاء لوح ، وعتاب أخ ، وصكّ ملك
، وقد استوفينا ذلك في شرح الحديث.
__________________
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي
كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
ابن وهب : قال مالك : بلغني أن طائفة من اليهود نزلوا المدينة ، طائفة خيبر ،
وطائفة فدك لما كانوا يسمعون من صفة النبىّ صلى الله عليه وسلم وخروجه في أرض بين
حرّتين ، ورجوا أن يكون منهم ، فأخلفهم الله ذلك ، وقد كانوا يجدونه مكتوبا عندهم
في التوراة والإنجيل بأسمائه وصفاته.
وقد روى البخاري ،
عن عطاء بن يسار ـ أنه قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فسألته عن صفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال : أجل ؛ والله إنه لموصوف ببعض صفته في
القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ،
أنت عبدى ورسولي سمّيتك المتوكل ، ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا
يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة
العوجاء ، حتى يقولوا لا إله إلا الله ؛ ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صمّا ،
وقلوبا غلفا.
المسألة الثانية ـ
روى البخاري وغيره عن أبى إدريس الخولاني ، عن أبى الدرداء أنه قال : كانت بين أبى بكر وعمر محاورة ، فأغضب
أبو بكر عمر ، فانصرف عنه عمر مغضبا ، فاتبعه أبو بكر ليسأله أن يستغفر له ، فلم
يفعل حتى أغلق بابه في وجهه ، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
قال أبو الدرداء : ونحن عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمّا صاحبكم
هذا فقد غامر.
قال : وندم عمر على
ما كان منه ، فأقبل حتى سلّم وجلس إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فقصّ عليه
الخبر.
__________________
قال أبو الدرداء :
وغضب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وجعل أبو بكر يقول : والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أنتم
تاركو لي صاحبي؟ إنى قلت : يا أيها الناس ، إنى رسول الله إليكم جميعا ، فقلتم :
كذبت. وقال أبو بكر : صدقت.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ) :
الإصر ؛ هو الثّقل
، وكان فيما سبق من الشرائع تكاليف كثيرة فيها مشاقّ عظيمة ، فخفّف تلك المشاقّ
لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فمنها مشقّتان عظيمتان : الأولى في البول. كان إذا
أصاب ثوب أحدهم قرضه ، فخفف الله ذلك عن هذه الأمة بالغسل بالماء.
وروى مسلم عن أبى
وائل ، قال : كان
أبو موسى يشدّد في البول ، ويبول في قارورة، ويقول : إنّ بنى إسرائيل كان إذا أصاب
جلد أحد هم بول قرضه بالمقاريض ، فقال حذيفة: لوددت أنّ صاحبكم لا يشدد هذا
التشديد ، لقد رأيتنى أنا ورسول الله نتماشى ، فأتى سباطة خلف حائط ، فقام كما يقوم أحدكم ، فبال ، فانتبذت منه ،
فأشار إلى فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ.
ومن الإصر الذي
وضع إحلال الغنائم ؛ وكانت حراما على سائر الأمم.
ومنها ألّا تجالس
الحائض ، ولا تؤاكل ؛ فخفّف الله ذلك في دينه ، فقال صلى الله عليه وسلم : لتشدّ عليها إزارها ، ثم شأنه بأعلاها ـ
في أعداد لأمثالها.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).
هذه الآية من
أمهات الشريعة ، وفيها مسائل أصولها تسع :
__________________
المسألة الأولى ـ إنّ
الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل اليهود إخوة القردة والخنازير عن
القرية البحرية التي اعتدوا فيها يوم السبت ، فمسخهم الله باعتدائهم قردة وخنازير
، ليعرفهم ما نزل بهم من العقوبة بتغيير فرع من فروع الشريعة ، فكيف بتغيير أصل
الشريعة!
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ) :
يعنى أهل القرية ؛
فعبّر بها عنهم لما كانت مستقرّا لهم وسبب اجتماعهم ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيها ...) الآية ، وكما قال صلى الله عليه وسلم : اهتزّ العرش لموت سعد ، يعنى أهل العرش من الملائكة يريد استبشارهم به. وكما قال
أيضا في المدينة : هذا جبل يحبّنا ونحبّه.
المسألة الثالثة ـ
قيل : كانت هذه المدينة أيلة ، من أعمال مصر. وقيل : كانت طبرية من أعمال الشام.
وقيل : مدين ؛ وربّك أعلم.
المسألة الرابعة ـ
اختلف الناس في سبب مسخهم ، فقيل : إنّ الله حرّم عليهم الصيد يوم السبت ، ثم
ابتلاهم بأن تكون الحيتان تأتى يوم السبت شرّعا ؛ أى رافعة رءوسها في الماء ينظرون
إليها ، فإذا كان يوم الأحد وما بعده من الأيام طلبوا منها حوتا واحدا للصيد فلم
يجدوه ؛ فصوّر عندهم إبليس أن يسدّوا أفواه الخلجان يوم السبت حتى إذا أمسوا ،
وأرادت الحيتان أن ترجع إلى النهر الأعظم وإلى غمرة البحر لم تجد مسلكا ،
فيأخذونها في سائر الأيام ؛ ففعلوا ذلك فمسخوا.
وروى أشهب ، عن
مالك في القصة ، عن بعض أشياخه ، قال : كانت تأتيهم يوم السبت ، فإذا كان المساء
ذهبت فلا يرى منها شيء إلى السبت الآخر ، فاتخذ لذلك رجل منهم خيطا ووتدا ، فربطوا
حوتا منها في الماء يوم السبت ، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجد
الناس ريحه ، فأتوه فسألوه عن ذلك فجحدهم ، فلم يزالوا به حتى قال لهم : إنه جلد
حوت وجدناه ، فلما كان يوم السبت الآخر فعل مثل ذلك ، ولا أدرى لعله قال ثم ربط
حوتين ،
__________________
فلما أمسى من ليلة
الأحد أخذه واشتواه ، فوجدوا ريحه ، فجاءوه ، فقال لهم : لو شئتم صنعتم كما أصنع.
قالوا : وما صنعت؟ فأخبرهم ، ففعلوا مثل ما فعل ، حتى كثر ذلك ، وكانت لهم مدينة
لها ربض يغلقونها عليهم ، فأصابهم من المسخ ما أصابهم ، فغدا إليهم
جيرانهم ممن كان حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس ، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم ،
فنادوا فلم يجبهم أحد ، فتسوّروا عليهم المدينة ، فإذا هم قردة ، فجعل القرد منهم
مدنو فيتمسّح بمن كان يعرف قبل ذلك.
قال الحسن :
فأكلوا ـ والله ـ أوخم أكلة أكلها قوم ، وعوقبوا أسوأ عقوبة في الدنيا وأشدّها
عذابا في الآخرة. ثم قال الحسن : والله لقتل المؤمن أعظم عند الله من أكل الحيتان.
المسألة الخامسة ـ
لما فعلوا هذا نهاهم كبراؤهم ، ووعظهم أحبارهم فلم يقبلوا منهم ، فاستمرّوا على
نهيهم لهم ، ولم يمنع من التمادي على الوعظ والنهى عدم قبولهم ؛ لأنه فرض قبل أو لم يقبل ، حتى قال لهم بعضهم : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ
مُهْلِكُهُمْ)؟ يعنى في الدنيا ، (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة؟ قال لهم الناهون : معذرة إلى ربكم ، أى نقوم
بفرضنا ؛ ليثبت عذرنا عند ربنا.
المسألة السادسة ـ
قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ) ؛ أى تركوه عن قصد.
وهذا يدل على أنّ
النسيان لفظ ينطلق على الساهي والعامد ردّا على أهل جهالة زعموا أنّ الناسي
والساهي لمعنى واحد. وهؤلاء قوم لا معرفة لهم باللغة ، وقصدهم هدم الشريعة ، وقد
بينا ذلك في غير موضع ، وحققنا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : فمن نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها. وقلنا : معناه من نام عن صلاة أو
تركها فليصلّها متى ذكرها. فالساهي له حالة ذكر ، والعامد هو أبدا ذاكر ؛ وكلّ
واحد منهم يتوجّه عليه فرض القضاء متى حضره الذكر دائما أو في حال دون حال ، وبهذا
استقام نظام الكلام ، واستقرّ حكم شريعة الإسلام.
__________________
المسألة السابعة ـ
قال علماؤنا : هذه الآية أصل من أصول إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك ، وتابعه
عليها أحمد في بعض رواياته ، وخفيت على الشافعى وأبى حنيفة مع تبحّرهما في الشريعة
، وهو كلّ عمل ظاهر الجواز يتوصّل به إلى محظور ، كما فعل اليهود حين حرّم عليهم
صيد السبت ، فسكروا الأنهار ، وربطوا الحيتان فيه إلى يوم الأحد.
وقد بينا أدلة
المسألة في كتب الخلاف ، وبسطناها قرآنا وسنّة ودلالة من الأصول في الشريعة.
فإن قيل : هذا
الذي فعلت اليهود لم يكن توسّلا إلى الصيد ؛ بل كان نفس الصيد.
قلنا : إنما حقيقة
الصيد إخراج الحوت من الماء وتحصيله عند الصائد ، فأما التحيّل عليه إلى حين الصيد
فهو سبب الصيد ، لا نفس الصيد. وسبب الشيء غير الشيء ؛ إنما هو الذي يتوصّل به
إليه ، ويتوسّل به في تحصيله ، وهذا هو الذي فعله أصحاب السبت.
المسألة الثامنة ـ
قال علماؤنا : إنما هلكوا باتّباع الظاهر ؛ لأن الصيد حرم عليهم ، فقالوا : لا
نصيد ، بل نأتى بسبب الصيد ، وليس سبب الشيء نفس الشيء ، فنحن لا نرتكب عين ما
نهبنا عنه ، فنعوذ بالله من الأخذ بالظاهر المطلق في الشريعة.
المسألة التاسعة ـ
قال علماؤنا : اختلف الناس في الممسوخ ؛ هل ينسل أم لا؟ فمنهم من قال : إن المسوخ
لا ينسل ، ومنهم من قال ينسل ، وهو الصحيح عندي.
والدليل عليه
أمران :
أحدهما ـ حديث
النبىّ صلى الله عليه وسلم في الصحيح ـ حين سئل عن الضبّ ، فقال : إنّ أمّة مسخت ، فأخشى أن يكون الضبّ
منها.
وثبت عنه أنه قال
: إن الفأر مسخ ، ألا
تراه إذا وضع له ألبان الإبل لم يشربها.
وروى البخاري عن
عمرو بن ميمون أنه قال : رأيت في الجاهلية قردة قد رجموا قردة. ونصّ الحديث : قد رأيت في الجاهلية قردة قد اجتمع
عليها قردة قد زنت فرجموها ، فرجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري ، وسقط في بعضها. وثبت في بعض
الحديث : قد زنت. وسقط هذا اللفظ عند بعضهم.
__________________
فإن قيل : وكأن
البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمر. وقلنا :
نعم ، كذلك كان ؛ لأنّ اليهود غيّروا الرجم ، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم ، حتى
يكون إبلاغا في الحجة على ما أنكروه من ذلك ، وغيّروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم
وأحبارهم ومسوخهم ، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون ، ويحصى ما يبدّلون
وما يغيّرون ، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون ، وينصر نبيّه وهم لا ينصرون.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى ، شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
مالك وغيره أنّ عمر بن الخطاب
سئل عن هذه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ...) الآية ، فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية ، فقال :
إنّ الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرّيته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنّة ، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم
مسح ظهره فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون.
فقال
رجل : يا رسول الله ؛ ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الله
إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة
فيدخل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من
أعمال أهل النار فيدخل النار.
وقد تكلّم في سند
هذا الحديث بكلام [قد] بيناه في كتاب المشكلين.
وقد ثبت وصحّ عن
أبى هريرة أنه قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كلّ
نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كلّ رجل منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : يا رب ، من هؤلاء؟
__________________
قال
: هؤلاء ذريّتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه. فقال : يا ربّ ، من هذا؟
قال : رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود. فقال : [رب] ، كم جعلت عمره؟ قال : ستين سنة. قال : أى رب ، زده من
عمرى أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت ، فقال : أو لم يبق من عمرى
أربعين سنة؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود؟ قال : فجحد
آدم ، فجحدت ذريّته ؛ ونسى آدم فنسيت ذريته ؛ وخطىء آدم ، فأخطأت ذريته.
خرجه أبو عيسى
وصحّحه ، ومن رواية غيره ،
فمن حينئذ أمر بالكتاب والشهود.
وفي رواية : أنه رأى فيهم الضعيف ، والغنىّ والفقير
، والمبتلى والصحيح ، فقال له آدم : يا ربّ ؛ ما هذا؟ ألا سوّيت بينهم؟ قال : أردت
أن أشكر.
وفي رواية أخرى : أنه أخرجهم من صلب آدم كهيئة الذّرّ ،
ثم أخذ عليهم الميثاق ، ثم أعيدوا في صلبه.
وفي رواية أنّ عمر
خطب بالجابية ، فقال : من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له. فقال الجاثليق : تركست تركست. فقال الراوي :
يقول معاذ الله ، لا يضلّ الله أحدا. فقال عمر : بل الله خلقك ثم أضلّك ، ثم يميتك
، ثم يدخلك النار ؛ والله لو لا ولث من عهدك لضربت عنقك. فقال : إنّ الله لما خلق نثر ذرية آدم في
كفيه ، فقال : هؤلاء للجنة وما هم عاملون ، وهؤلاء للنار وما هم عاملون ، وهذه
لهذه ، وهذه لهذه ؛ قال: فتفرق الناس. وما يختلف اثنان في القدر.
وفي رواية عن ابن
عمر : خرج النبىّ صلى الله
عليه وسلم وهو قابض على شيئين في يديه ، ففتح اليمين ، فقال : بسم الله الرحمن
الرحيم ، كتاب من الرحمن الرحيم ، فيه أسماء أهل الجنة بأعدادهم وأعمالهم وأحسابهم
، فجمع عليهم إلى يوم القيامة ، لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم ، وقد يسلك
السعداء طريق أهل الشقاء حتى يقال : هم منهم. هم منهم ، ثم تدرك أحدهم
__________________
سعادته
[ولو] قبل موته بفواق ناقة. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم. العمل بخواتمه ،
العمل بخواتمه.
وفي الحديث الصحيح
أنّ النبي صلى الله
عليه وسلم قال : أوّل ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب مقادير الخلق إلى
يوم القيامة.
وثبت في الصحيح أنه قيل : يا رسول الله ؛ هذا الأمر
الذي نحن فيه أمر مستأنف أم أمر قد فرغ منه؟ فقال : فرغ ربكم. قالوا : ففيم العمل؟
قال : اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له ؛ أما من كان من أهل السعادة فييسّر لعمل أهل
السعادة. ومن كان من أهل الشقاء فييسّر لعمل أهل الشقاء. ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ
بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى).
وثبت عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال : إنّ
العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع ، فيسبق عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. وإنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما
يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
فإن قيل : فكيف
يجوز أن يعذّب الخلق وهم لم يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم ، وكتبه عليهم
، وساقهم إليه؟
قلنا : ومن أين
يمتنع ذلك؟ أعقلا أم شرعا؟
فإن قيل : لأن
الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك.
قلنا : لأن فوقه
آمر يأمره وناه ينهاه ، وربّنا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولا يجوز أن يقاس
الخالق بالمخلوق ، ولا تحمل أفعال الإله على أفعال العباد. وبالحقيقة الأفعال
كلّها لله ، والخلق بأجمعهم له ، صرّفهم كيف شاء ، وحكم فيهم كيف أراد ؛ وهذا الذي يجده الآدمىّ إنما تبعث عليه رقة الجبلّة
، وشفقة الجنسية ، وحبّ الثناء والمدح ، لما يتوقع
__________________
في ذلك من
الانتفاع ؛ والباري متقدّس عن ذلك كله ؛ فلا يجوز أن يعتبر به. وقد مهدناه في كتاب
المشكلين وفي كتاب الأصول.
المسألة الثانية ـ
اختلف العلماء في الكفار المتأوّلين على قولين : فمذهب شيخ السنة ، وإليه صغى
القاضي في أشهر قوليهما ـ أنّ الكفر يختصّ بالجاحد ، والمتأوّل ليس بكافر.
والذي نختاره كفر
من أنكر أصول الإيمان ، فمن أعظمها موقعا وأبينها منصفا ، وأوقعها موضعا ـ القول بالقدر ، فمن أنكره فقد كفر. وقد
بيّناه في كتاب المقسط والمشكلين.
المسألة الثالثة ـ
اختلف علماء المالكية في تكفيرهم على قولين : فالصريح من أقوال مالك تكفيرهم ، لقد
سئل عن نكاح القدرية ، فقال : قد قال الله : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ). ومن قال من أصحابنا : إنّ ذلك أدب لهم ، وليسوا بكفار ،
أو حكى في ذلك غير ما أوردناه من الأقوال ؛ فذلك لضعف معرفته بالأصول ، فلا
يناكحوا ، ولا يصلّى عليهم ، فإن خيف عليهم الضّيعة دفنوا كما يدفن الكلب.
فإن قيل : وأين
يدفنون؟
قلنا : لا يؤذى
بجوارهم مسلم. وإن قدر عليهم الإمام استتابهم ، فإن تابوا وإلّا قتلهم كفرا.
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
هذه آية عظيمة من
الآي التي جمعت العقائد والأعمال ، وقد كنّا تكلمنا عليها في مجالس أنوار الفجر
أزمنة كثيرة ، ثم أنعم الله بأن أخرجنا نكتها المقصودة من الوجهين جميعا في كتاب
الأمد الأقصى ، وفيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: الأسماء :
حقيقة الاسم كلّ
لفظ جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقا ، فإن كان مشتقا فليس باسم ، وإنما هو
صفة ، هذا قول النحاة. أخبرنا الأستاذ الرئيس الأجلّ المعظم فخر الرؤساء أبو
المظفر محمد بن العباس لفظا ، قال : سمعت الأستاذ المعظم عبد القاهر الجرجانى يقول
: سمعت
__________________
أبا الحسن ابن أخت
أبى علىّ يقول : سمعت خالي أبا علىّ يقول : كنت بمجلس سيف الدولة بحلب ، وبالحضرة
جماعة من أهل المعرفة فيهم ابن خالويه ... إلى أن قال ابن خالويه: أحفظ للسيف
خمسين اسما. فتبسّم أبو على ، وقال : ما أحفظ له إلا اسما واحدا ، وهو السيف. فقال
ابن خالويه : فأين المهنّد؟ وأين الصارم؟ وأين الرّسوب ؟ وأين المخذم ... وجعل يعدد. فقال أبو على : هذه صفات.
وكأنّ الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة.
وهذه قاعدة أسسها
سيبويه ليرتّب عليها قانونا من الصناعة في التصريف والجمع والتصغير ، والحذف
والزيادة والنسبة ، وغير ذلك من الأبواب ؛ إذ لحظ ذلك في مجاري العربية ، وهو أمر
لا تحتاج إليه الشريعة بعضد ، ولا تردّه بقصد ؛ فلا معنى لإنكارها للقوم أو
إقرارها.
المسألة الثانية ـ
قال سخيف من جملة المغاربة : عددت أسماء الله فوجدتها ثمانين ، وجعل يعدّد الصفات
النحوية ، ويا ليتني أدركته ؛ فلقد كانت فيه حشاشة لو تفاوضت معه في الحقائق لم يكن بدّ من قبوله ، والله
أعلم.
وليس العجب منه ؛
إنما العجب من الطوسي أن يقول : وقد عدّد بعض حفّاظ المغرب الأسماء فوجدها ثمانين
حسبما نقله إليه طريد طريف ببورقة الحميدي ، وإنما وقع في ذلك أبو حامد بجهله بالصناعة ، أما إنه كان فصيحا ذرب القول ، ذرب اللسان في
الاسترسال على الكلمات الصائبة ، لكن القانون كان عنه نائيا ، والعالم عندنا اسم ،
كزيد اسم ، وأحدهما يدل على الوجود ، والآخر يدل على الوجود ومعنى معه زائد عليه ،
والذي يعضد ذلك أن الصحابة وعلماء الإسلام حين عدّدوا الأسماء ذكروا المشتق
والمضاف والمطلق في مساق واحد إجراء على الأصل ، ونبذا للقاعدة النحوية.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (الْحُسْنى) :
وفي وصفها بذلك
خمسة أقوال :
الأول ـ ما فيها
من معنى التعظيم ؛ فكلّ معنى معظّم يسمّى به سبحانه.
__________________
الثاني ـ ما وعد
عليها من الثواب بدخول الجنة.
الثالث ـ ما مالت
إليه القلوب من الكرم والرحمة.
الرابع ـ أن حسبها
شرف العلم بها ، فإنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، والباري أشرف المعلومات ؛
فالعلم بأسمائه أشرف العلوم.
الخامس ـ أنه
معرفة الواجب في وصفه والجائز والمستحيل عليه ؛ فيأتى بكلّ ذلك على وجهه ويقرّره
في نصابه ، وقد بيّنا في المقسط حقيقة الحسن وأقسامه ، ومن حصل هذه المعاني في
أسماء الله نال الحسن من كل طريق ، وحصل له القطع بالتوفيق.
المسألة الرابعة ـ
في سبب نزولها :
روى أنّ المشركين
سمعوا المسلمين يدعون «الله» مرّة ، و «الرحمن» أخرى ، والقادر بعد ذلك ، فقالوا :
أينهانا محمد عن الأصنام وهو يدعو آلهة كثيرة؟ فنزلت : ولله الأسماء الحسنى فادعوه
بها ؛ أى هذه الأسماء إله واحد ، وليست بآلهة متعددة.
المسألة الخامسة ـ
ما هذه الأسماء التي أضافها الله؟
وفي ذلك ثلاثة
أقوال :
الأول ـ أنها
أسماؤه كلّها التي فيها التعظيم والإكبار.
الثاني ـ أنها
الأسماء التسعة والتسعون التي ورد فيها الحديث الصحيح :
إن الله تسعة
وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة.
الثالث ـ أنها
الأسماء التي دلّت عليها أدلة الوحدانية ، وهي سبعة تترتّب على الوجود: العلم ،
والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ، والحياة. تقول : القادر العالم
المريد الحىّ المتكلم السميع البصير ، وفي ترتيبها تقريب بيناه في كتب الأصول ،
وكلّ اسم لله فإلى هذه الأصول يرجع ، لكنّ الصحيح عندي أن المراد بها التسعة
والتسعون التي عدّدها صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
فإن قيل : وهل إلى
معرفتها سبيل؟
__________________
قلنا : حلّق
العلماء عليها ، وساروا إليها فمن جائر وقاصد ، والقاصد في الأكثر واقف دون المرام
، والجائر ليس فيه كلام. فأما من وقف على الأمر فما عرفته إلا الأسفراينى
والطّوسى. إلا أنّ الطوسي تقلقل فيها فتزلزل عنها ، وأما الأسفراينى فأسند طريقه
ووضّح تحقيقه.
والذي أدلّكم عليه
أن تطلبوها في القرآن والسنة ، فإنها مخبوءة فيهما كما خبئت ساعة الجمعة في اليوم
، وليلة القدر في الشهر رغبة ، والكبائر في الذنوب رهبة ؛ لتعمّ العبادات اليوم
بجميعه والشهر بكلّيته ، وليقع الاجتناب لجميع الذنوب. وكذلك أخفيت هذه الأسماء
المتعددة في جملة الأسماء الكلية ، لندعوه بجميعها ، فنصيب العدد الموعود به فيها
، فأمّا تعديدها بالقرآن فقد وهم فيه إمامان : سفيان ، وابن شعبان ، وقد سقناه
بغاية البيان ونصه :
سورة الحمد فيها
خمسة أسماء : الله ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، مالك.
سورة البقرة فيها
ثلاثون اسما : محيط ، قدير ، عليم ، حكيم ، ذو الفضل ، العظيم ، بصير ، واسع ،
بديع السموات ، سميع ، التواب ، العزيز ، رءوف ، شاكر ، إله واحد ، غفور ، شديد
العذاب ، قريب ، شديد العقاب ، سريع الحساب ، حليم ، خبير ، حىّ ، قيّوم ، علىّ ،
عظيم ، ولىّ ، غنىّ ، حميد ، مولى.
سورة آل عمران
فيها عشرة أسماء : عزيز ، ذو انتقام ، وهّاب ، قائم بالقسط ، جامع الناس ، مالك
الملك ، خير الماكرين ، شهيد ، خير الناصرين ، وكيل.
سورة النساء فيها
سبعة أسماء : الرقيب ، الحسيب ، كثير العفو ، النصير ، مقيت ، جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا.
سورة المائدة فيها
اسمان : علّام الغيوب ، خير الرازقين.
سورة الأنعام فيها
سبعة عشر اسما : فاطر ، قاهر ، شهيد ، شفيع ، خير الفاصلين ، الحق أسرع الحاسبين ،
القادر ، فالق الحبّ والنّوى ، فالق الإصباح ، جاعل الليل سكنا ، مخرج الحىّ من
الميت ، ومخرج الميت من الحي ، سريع العقاب ، خالق كلّ شيء ، اللطيف ، الحكيم.
__________________
سورة الأعراف فيها
أربعة أسماء : خير الحاكمين ، خير الفاتحين ، أرحم الراحمين ، خير الغافرين.
سورة براءة فيها
اسم : مخزى الكافرين.
سورة هود فيها
سبعة أسماء : أحكم الحاكمين ، حفيظ ، مجيب ، قوىّ ، مجيد ، ودود ، فعّال لما يريد.
سورة يوسف فيها
ثلاثة أسماء : المستعان ، القاهر ، الحافظ.
سورة الرعد فيها
ستة أسماء : ذو مغفرة ، عالم الغيب والشهادة ، الكبير ، المتعال ، شديد المحال ،
القائم على كلّ نفس بما كسبت.
سورة الحجر فيها
اسمان : الوارث ، الخلّاق.
سورة النحل فيها
اسم واحد : كفيل.
سورة الكهف فيها
ثلاثة أسماء : مقتدر ، ذو الرحمة ، الموئل.
سورة مريم فيها
اسم واحد : وهو حفىّ.
سورة طه فيها
اسمان : الملك ، خير وأبقى.
سورة اقترب فيها
ثلاثة أسماء : الحاسب ، خير الوارثين ، الفاعل.
سورة الحج فيها
اسم واحد : المكرم.
سورة المؤمنين
فيها اسمان : أحسن الخالقين ، خير المنزلين.
سورة النور فيها
اسمان : نور السموات والأرض ، المبين.
سورة الفرقان فيها
اسم : الهادي.
سورة النمل :
الكريم.
سورة الروم : محيى
الموتى.
سورة سبأ فيها :
الفتّاح.
سورة فاطر اسم
واحد : شكور.
سورة ص اسم واحد :
الغفّار.
سورة الزمر فيها
اسمان : سالم ، كاف.
سورة المؤمن فيها
خمسة أسماء : غافر الذنب ، وقابل التوب ، ذو الطول ، رفيع الدرجات ، ذو العرش.
سورة فصلت : ذو
عقاب.
سورة الزخرف فيها
: المبرم.
سورة الدخان فيها
ثلاثة أسماء : المنذر ، المرسل ، المنتقم.
سورة ق : أقرب
إليه من حبل الوريد.
سورة والذاريات
فيها خمسة أسماء : الموسع ، الماهد ، الرزاق ، ذو القوة ، المتين.
سورة والطور فيها
اسم واحد : البر.
سورة اقترب فيها
اسم واحد : المليك المقتدر.
سورة الرحمن فيها
اسم واحد : ذو الجلال والإكرام.
سورة الواقعة فيها
ثلاثة أسماء : الخالق ، الزارع ، المنشئ.
سورة الحديد فيها
أربعة أسماء : الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن.
سورة المجادلة
فيها اسمان : رابع ثلاثة ، سادس خمسة.
سورة الحشر فيها
ثمانية أسماء : القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، [العزيز] ، الجبار ، المتكبّر ، البارئ ، المصور.
سورة المعارج فيها
: ذو المعارج.
سورة المدثر فيها
اسم واحد : أهل التقوى وأهل المغفرة.
سورة سبح فيها اسم
واحد : الأعلى.
سورة القلم فيها
اسم واحد : الأكرم.
سورة التوحيد فيها
اسمان : أحد ، صمد.
وقد زاد بعض
علمائنا فيها : شيء ، موجود ، كائن ، ثابت ، نفس ، عين ، ذات ، داع ،
__________________
مستجيب ، مملى ،
قائم ، متكلّم ، مبق ، مغن ، غيور ، قاض ، مقدّر ، فرد ، مبل ، جاعل ، موجد ، مبدع
، دارئ.
قال الإمام الحافظ
ابن العربي : ومن هذا ما جاء على لفظه في كتاب الله وسنة رسوله ،
ومنها ما أخذ من فعل ، ومنها ما جاء مضافا فذكره مجرّدا عن الإضافة ، وكذلك وجدناه
في سائر الأسماء المتقدمة ؛ فهذه هي الأسماء المعدودة بصفاتها قرآنا وسنة.
وفي الحديث المطلق
أسماء غير ذلك ، كقولنا : الطيب ، والسيد ، والطبيب ؛ وأعداد سواها.
وما منها اسم إلا
جميعه مشتقّ ، حتى إنّ أهل اللغة اتفقوا عن بكرة أبيهم على أنّ الله مشتق.
وقد بيناه في
الأمد ، فلا وجه لقولهم الفاسد المتقدم ، وقد شرحنا معنى كل اسم في الأمد على
الاستيفاء ، فلينظر هنالك ؛ وعددناها على ما ورد في الكتاب والسنة ، وذكره الأئمة
؛ فانتهت إلى ستة وأربعين ومائة.
الأول ـ الله ؛
وهو اسمه الأعظم الذي يرجع إليه كل اسم ، ويضاف إلى تفسيره كلّ معنى ، وحقيقته المنفرد في ذاته وصفاته وأفعاله عن نظير ، فهذه حقيقة الإلهية ، ومن كان كذلك فهو الله.
الثاني ـ الواحد ؛
وهو الذي لا نظير له في صفات ولا ذات ولا أفعال.
الثالث ـ الكائن ؛
وهو الموجود قبل كل شيء وبعد كل شيء.
الرابع ـ القائم ؛
إذا ذكرته مطلقا فهو الذي يستغنى عن كل شيء ، وإن ذكرته مضافا فهو قائم على كل شيء
بالوجود فما وراءه.
الخامس والسادس
والسابع ـ القيّوم ، والقيام ، والقيّم ، وهو الدائم القائم على شيء.
الثامن ـ الكافي ؛
من كفى إذا قام بالأمر ، أو دفع عنه ما يتوقع .
التاسع ـ الحق ،
وهو الذي لا يتغير.
__________________
العاشر والحادي
عشر والثاني عشر ـ الملك ، المالك ، المليك ، وهو الحاكم لكل شيء من غير حاجة
إليه.
الثالث عشر ـ القدّوس
، وهو المطهّر عن كل نقصان.
الرابع عشر ـ السلام
؛ الذي لا يتطرق إليه عيب ، وسلم الخلق من ظلمه وغبنه ، وبه زاد عليه.
الخامس عشر ـ العزيز
: الذي لا يغالب ؛ ولا يكون معه غالب.
السادس عشر ـ الجبّار
: الذي يستغنى عن الأتباع ، ولا يحنو عند التعذيب ، ولا يحنق عند الغضب.
السابع عشر ـ المتكبّر
؛ وهو الذي لا مقدار لشيء عنده.
الثامن عشر ـ العلىّ
الذي لا مكان له.
التاسع عشر ـ الكبير
الذي لا يتصوّر عليه مقدار.
الموفى عشرين ـ العظيم
: الذي يستحيل عليه التحديد.
الحادي والعشرون ـ
الجليل ؛ وهو الذي لا يليق به ما يدلّ على الحدوث.
الثاني والعشرون ـ
المجيد ؛ هو الذي لا يساوى فيما له من صفات المدح.
الثالث والعشرون ـ
الجميل ، هو الذي لا يشبهه شيء.
الرابع والعشرون ـ
الحسيب ؛ وهو الذي يستحقّ الحمد على الانفراد ، ويحصى كلّ شيء ويقوم عليه.
الخامس والعشرون ـ
الصّمد ؛ الذي لا يجرى في الوهم ، ولا يقصد في المطالب غيره.
السادس والعشرون ـ
الغنىّ ؛ الذي لا يحتاج إلى شيء.
السابع والعشرون ـ
رفيع الدرجات ؛ لا يلحق مرتبته أحد بحال.
الثامن والعشرون ـ
ذو الطّول يقال فيه القادر والغنىّ والمنعم.
التاسع والعشرون ـ
ذو الفضل ؛ وهو المنعم يؤتى من يشاء.
__________________
الموفى ثلاثين ـ السيد
: المنفرد بالكمال.
الحادي والثلاثون
ـ الكريم ؛ وهو الذي تعمّ إرادته.
الثاني والثلاثون
ـ الطيب : المتقدس عن الآفات.
الثالث والثلاثون
ـ الأول ؛ الذي لا ابتداء له.
الرابع والثلاثون
ـ الآخر ؛ الذي لا انتهاء له.
الخامس والثلاثون
ـ الباقي ؛ هو الذي لا يفنى.
وهو الوارث ، وهو
الدائم ؛ وهما السادس والثلاثون والسابع والثلاثون.
الثامن والثلاثون
ـ الظاهر ؛ وهو الذي يدرك بالدليل.
التاسع والثلاثون
ـ الباطن ؛ وهو الذي لا يدرك بالحواسّ.
الموفى أربعين ـ اللطيف
، العالم بالخبايا ، المهتبل بالعطايا ، القادر ، والمقتدر ، والقدير ، والقوىّ ،
فكمل بها أربعة وأربعين.
الخامس والأربعون
ـ المقيت ، وهو القادر الذي لا يعجزه شيء ، المؤتى لكل شيء قوّته.
السادس والأربعون
ـ المتين ؛ وهو الذي لا يلحقه ضعف.
السابع والأربعون
ـ شديد المحال ؛ لا يغالب.
الثامن والأربعون
ـ المحيط ، وهو الذي لا يخرج شيء عن علمه وقدرته وإرادته.
التاسع والأربعون
والموفى خمسين ـ الواسع ، والموسع ، وهو الذي عمّت قدرته وإرادته وعلمه كل شيء ،
وكذلك بصره وسمعه وكلامه.
العليم ، والعالم
، والعلام ؛ فهذه ثلاثة وخمسون اسما.
الرابع والخمسون ،
والخامس والخمسون ـ السّميع ، وهو الذي يسمع كلّ موجود.
والبصير ، وهو
الذي يرى كلّ موجود ، ويعلم المعدوم والموجود.
السادس والخمسون ـ
الشهيد ؛ الحاضر مع كل موجود بالقدرة والعلم والسمع والبصر.
السابع والخمسون ـ
الخبير : العالم بالخبايا.
الثامن والخمسون ـ
الطبيب ؛ وهو العالم بالمنافع.
التاسع والخمسون ـ
المحصى ، وهو الذي ضبط علمه وقدرته وإرادته كلّ شيء.
الموفى ستين ـ المقدّر
، وهو الذي رتّب مقادير الأشياء بحكمة متناسبة.
الحادي والستون ـ الرّقيب
: الذي لا يشغله شأن عن شأن.
الثاني والستون ـ القريب
بالعلم الذي لا يختص بمكان.
الثالث والستون ـ الحىّ.
الرابع والستون ـ المريد.
الخامس والستون ـ
[الحكم] ، وهو يتصرّف في الدعاء فعلا ، تقول : يا من يفعل ما يشاء
، ويحكم ما يريد ، صرّفنى بطاعتك ، واحكم بيني وبين من يخاصمني فيك.
السادس والستون
والسابع والستون ـ الرحمن ـ الرحيم : الذي يريد الخير لعباده على العموم والخصوص.
الثامن والستون ـ المحب
، ويتصرّف فعلا ، قال تعالى : (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ).
وكذلك المبغض ،
فالذي يرجعان إليه إرادة الثواب والعقاب ، وهو التاسع والستون.
الموفى سبعين ـ الرضا
؛ يتصرّف فعلا ، وهو إرادة ما يكون فوق الاستحقاق.
الحادي والسبعون ـ
السخط ، يتصرف فعلا. وهو إرادة خلاف الرضا ، كما بيناه في الكراهية في كتب الأصول.
الثاني والسبعون ـ
الودود ، وهو الذي يفعل الخير مع من يستحقّه ومع من لا يستحقّه.
الثالث والسبعون ـ
العفو ؛ وهو الذي يريد تسهيل الأمور.
الرابع والسبعون ـ
الرءوف ؛ وهو الكثير الرحمة.
الخامس والسبعون ـ
عدو الكافرين ؛ وهو البعيد بالعقاب.
السادس والسبعون ـ
الولىّ ، وهو القريب بالثواب والنعم.
السابع والسبعون ـ
الصّبور : الذي يريد تأخير العقاب.
الثامن والسبعون ـ
الحليم ، الذي يريد إسقاط العقاب.
__________________
التاسع والسبعون ـ
المعز ، وهو الذي يعز أولياءه.
الموفى ثمانين ـ الحفىّ
، وهو غاية البر.
الحادي والثمانون
ـ الولىّ ، وهو المحب لأوليائه.
الثاني والثمانون
ـ خير الفاصلين : الذي يميّز بين المختلفات بقوله.
الثالث والثمانون
ـ المبين ، وهو الذي يعرف عباده بكلامه مراده ؛ وذلك لأهل السنة خاصة.
الرابع والثمانون
ـ الصادق : من لا يوجد خبره بخلاف مخبره.
الخامس والثمانون
ـ الهادي ؛ وهو الذي يعرف المراشد ، ويوفّق لها.
السادس والثمانون
ـ الرشيد بمعنى المرشد ، ويرجع إلى الهادي.
السابع والثمانون
ـ نور السموات والأرض ، ويرجع إلى الهدى.
الثامن والثمانون
ـ المؤمن ، يصدق نفسه وأولياءه ويخلصهم من العقاب.
التاسع والثمانون
ـ المهيمن ، فيه كلام كثير يرجع إلى الرقيب.
الموفى تسعين ـ الحميد
، يثنى على أوليائه ، ويثنون عليه.
الحادي والتسعون ـ
الشّكور ، وهو الذي يمدح على الفعل خاصة.
الثاني والتسعون ـ
غيور ، وهو الذي لا يحرم سواه.
الثالث والتسعون ـ
الحكيم ، محكم الأشياء بخلقها على نظام وتدبير.
الرابع والتسعون ـ
التّوّاب : الذي يرجع بالعبد من حال المعصية إلى حال الطاعة.
الخامس والتسعون ـ
الفتاح ، يفتح غلق العدم بالوجود ، وغلق الجهل بالعلم ، وغلق الرزق بالعطاء ، وذلك
كثير.
ومثله الحكم ، قال
الله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ
أَبْتَغِي حَكَماً) ، وهو الخامس والتسعون .
السادس والتسعون ـ
القاضي ؛ وهو الذي لا يردّ حكمه.
السابع والتسعون ـ
الكفيل ، الملتزم لثواب عباده ورزقهم.
__________________
الثامن والتسعون ـ
المبرم ، هو الذي إذا عقد لم يحلّ عقده.
التاسع والتسعون ـ
المنذر ، هو الذي يعرف بكلامه عباده وعيده .
الموفى مائة ـ المدبّر
، وهو الذي يعلم الانتهاء قبل الابتداء ، فيرده عليه.
الممتحن ، البالي
، المبلى ، المبتلى ، هو الذي يكلف عباده الوظائف ؛ ليعلم من حالهم في القبول
والردّ مشاهدة ما علم غيبا ، وبها تمّت مائة وأربعة.
الخامس بعد المائة
ـ الفاتن ، وهو المبتلى ؛ لأنه يرجع إلى الاختبار.
السادس بعد المائة
ـ الربّ ، وهو الذي ينقل الأشياء من حال إلى حال ، ويبدّلهم بصفة بعد صفة في طريق
النمو والإنشاء.
السابع بعد المائة
ـ العدل ، وهو الذي تأتى أفعاله على مقتضى إرادته.
الثامن بعد المائة
ـ الخالق ، وهو الذي يوجد بعد العدم ، ويقدّر الأشياء على الأحوال.
التاسع بعد المائة
ـ البارئ ؛ منشئ البريّة من البرى ، وهو التراب.
العاشر بعد المائة
ـ المصوّر ، وهو الذي يرتب الموجودات على صفات مختلفات وهيئات متغايرات.
الحادي عشر بعد
المائة ـ المبدئ ، وهو الذي يأتى بأوائل الأشياء من غير شيء.
الثاني عشر بعد
المائة ـ المعيد ، وهو الذي يردّها ، بعد الفناء ، كما كانت وجودا وصفة ووقتا.
الثالث عشر بعد
المائة ـ فاطر السموات والأرض ، الذي أنشأها من غير مثال وقبل كل منشئ.
الرابع عشر بعد
المائة ـ المحيي ، ويقابله المميت ، وهو الخامس عشر بعد المائة ، يحيى الخلق
بالوجود والحركة والعلم والإيمان والهدى ، ويميتهم بذلك إلى سائر متعلقات الإحياء
، حسبما رتّبناه في كتاب الأمد الأقصى.
السادس عشر بعد
المائة ـ الجامع ، وهو تأليف المفترق.
السابع عشر بعد المائة ـ المعز ، وفي مقابلته المذلّ ، وهو الذي يرفع
مقدار أوليائه ، ويحطّ مقدار أعدائه.
__________________
الثامن عشر بعد
المائة ـ مخزى الكافرين ؛ والخزي هو فعل ما يستحيى منه.
التاسع عشر بعد
المائة ـ العفو ؛ وهو الذي يسقط حقّه بعد الوجوب.
العشرون بعد
المائة ـ القهّار ؛ وهو الذي يغلب العباد.
الحادي والعشرون
بعد المائة ـ الوهّاب ؛ وهو الذي يعطى من غير توقّع عوض.
الثاني والعشرون
بعد المائة ـ الرزاق ؛ وهو الذي يهب الغذاء والاكتساء من رياش ومعاش.
الثالث والعشرون
بعد المائة ـ جواد ، وهو الكثير العطاء.
الرابع والعشرون
والخامس والعشرون بعد المائة ـ الخافض ، الرافع ، وهو [الذي] يحط درجة أعدائه ، ويعلى منازل أوليائه ومقاديرهم دنيا
وآخرة ؛ جاها ومالا ، عملا واعتقادا.
السادس والعشرون
والسابع والعشرون بعد المائة ـ القابض ، الباسط ، وهو الذي لا يتصرّف عبده ولا
ينبسط إلا بقدرته ، وفي حيز مشيئته ؛ فإن خلق له القدرة على العموم تبسّطت على ما
خلقت له ، وإن خلقها على الخصوص تعلقت بما خلقت له وقدرت به.
الثامن والعشرون
والتاسع والعشرون بعد المائة ـ المقدم ـ والمؤخّر ؛ وذلك معنى يرجع إلى الأوقات ،
يخلق شيئا بعد شيء ، بحسب ما علمه وقضاه وقدّره ؛ ليس لأحد ذلك إلّا له.
الثلاثون بعد
المائة ـ المقسط ؛ وهو الذي تجرى أحكامه على مقتضى إرادته.
الحادي والثلاثون
بعد المائة ـ النّصير ؛ وهو الذي يتابع آلاءه على أوليائه ، ويكفّ عنهم عادية
أعدائه.
الثاني والثلاثون
بعد المائة ـ الشافي ؛ وهو الذي يهب الصحّة بعد المرض.
الثالث والثلاثون
بعد المائة ـ مقلّب القلوب ؛ وهو اسم عظيم ، معناه مصرّفها أسرع من مرّ الريح على
اختلاف في القبول والرد ، واليقين والشك ، والإرادة والكراهية ، وغير ذلك من الأوصاف.
الرابع والثلاثون
والخامس والثلاثون بعد المائة ـ الضار ، النافع ؛ وهو خالق الألم الذي يقع به
موازنة. والنفع هو كل مالا ألم فيه ؛ وهو نعيم الجنة ، فأما الدنيا فلا تخلو منهما
عن الاشتراك.
__________________
السادس والثلاثون
بعد المائة ـ ذو المعارج ؛ يعنى الذي يؤتى المنازل ، ويصرّف الأمور على المراتب ،
وينزل المأمورين على المقادير.
السابع والثلاثون
بعد المائة ـ خير المنزلين ؛ المنازل لله يؤتيها محمودة لمن يحبّ ، ومذمومة لمن يبغض.
الثامن والثلاثون
بعد المائة ـ خير الماكرين ، هو الذي يظهر خلاف ما يبطن.
التاسع والثلاثون
بعد المائة ـ متمّ نوره ؛ أى يدوم ولا ينقطع ، ويظهر ولا يخفى ، في قلوب أوليائه
بالإيمان ، وبين أيديهم يوم القيامة بالجواز على الصراط ، وفي الجنة بالنعيم
الدائم.
الموفى أربعين بعد
المائة ـ الوكيل ؛ وهو الذي يلقى إليه الخلق مقاليدهم ، فلا يقوم بها احد غيره.
الحادي والأربعون
بعد المائة ـ المستعان ؛ وهو الذي لا يطلب العون ـ وهو خلق القدرة على الطاعة ـ إلا
منه.
الثاني والأربعون
بعد المائة ـ المعبود ، وهو الذي لا يتذلّل إلّا له.
الثالث والأربعون
بعد المائة ـ المذكور ؛ وهو الذي لا يجرى لسان إلّا به ، ولا يعمر خاطر إلا بذكره
، ولا يرى شيء إلا وهو فيه بأدلته وآثار صنعته.
الخامس والأربعون
والسادس والأربعون ومائة ـ أهل التقوى ، وأهل المغفرة ؛ الذي لا يتّقى سواه ، ولا
يغفر الذنوب غيره.
المسألة السادسة ـ
هذا منتهى ما حضر من ذكر الأسماء للتضرّع والابتهال ؛ وقد بقي نحو من ثلاثين اسما
ضمّناها كتاب الأمد ، هذه أصولها.
وأما قوله : (فَادْعُوهُ بِها) ـ فهذا هو قسم العمل. والدعاء في اللغة والحقيقة هو الطلب
، أى اطلبوا منه بأسمائه ، فيطلب بكل اسم ما يليق به ، تقول : يا رحيم ارحمني ، يا
حكيم احكم لي ، يا رزّاق ارزقني ، يا هادي اهدني.
وإن دعوت باسم عام
قلت : يا مالك ارحمني ، يا عزيز احكم لي ، يا لطيف ارزقني.
__________________
وإن دعوت بالاسم
الأعظم قلت : يا الله ، فهو متضمّن لكل اسم حسبما بينّاه في كتاب الأمد ، ولا تقل
يا رزاق اهدني إلّا أن تريد يا رازق ارزقني الهدى ، وهكذا رتّب دعاءك على اعتقادك
تكن من المحسنين إن شاء الله.
المسألة السابعة ـ
قوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) :
يقال : ألحد ولحد
: إذا مال. والإلحاد يكون بوجهين : بالزيادة فيها ، والنقصان منها ، كما يفعله
الجهّال الذين يخترعون أدعية يسمّون فيها الباري بغير أسمائه ، ويذكرونه بما لم
يذكره من أفعاله ، إلى غير ذلك ، مما لا يليق به ؛ فحذار منها ، ولا يدعون أحد
منكم إلّا بما في الكتب الخمسة ؛ وهي كتاب البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وأبى داود
، والنسائي ؛ فهذه الكتب هي بدء الإسلام ، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل
التصانيف ؛ وذروا سواها ، ولا يقولنّ أحد : أختار دعاء كذا ؛ فإن الله قد اختار له
، وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى
أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ أمر
الله تعالى بالنظر في آياته ، والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن ؛
أراد بذلك زيادة في اليقين ، وقوة في الإيمان ، وتثبيتا للقلوب على التوحيد. وقد
روى ابن القاسم ، عن مالك ؛ قال : قيل لأمّ الدرداء : ما كان أكثر شأن أبى الدرداء؟
قالت : كان أكثر شأنه التفكر. قيل له : أفترى الفكر عملا من الأعمال؟ قال : نعم.
هو اليقين.
وقيل لابن المسيّب
في الصلاة بين الظّهر والعصر. فقال : ليست هذه عبادة ؛ إنما العبادة الورع عما
حرّم الله والفكر في أمر الله.
وقال الحسن :
تفكّر ساعة خير من قيام ليلة.
المسألة الثانية ـ
حقيقة التفكر هنا ترديد العلم في القلب بالخبر عنه.
__________________
والكلام حقيقة هو
ما يجرى في النفس ، والحروف والأصوات عبارة عنه ، وأقل ما يحضر في القلب من العلم
علمان اثنان : أحدهما نسق الآخر ، ومثاله أن يعلم أنّ الجنة مطلوبة ، وأنّ الموصل
إليها آكد العمل الصالح ، فحينئذ يجتهد في العمل ؛ وآكد من هذا أن
تعلم الإيمان بالله بمعرفته ومعرفة صفاته وأفعاله ، وملكوته في أرضه وسمائه ؛ ولا
يحصل ذلك إلّا بالنظر في مخلوقاته ، وهي لا تحصى كثرة ؛ وأمهاتها السموات ، فترى
كيف بنيت وزيّنت من غير فطور ورفعت بغير عمد ، وخولف مقدار كواكبها ، ونصبت سائرة شارقة
وغاربة نيّرة ، وممحوّة ؛ كلّ ذلك بحكمة ومنفعة.
والأرض ؛ فانظر
إليها كيف وضعت فراشا ، ووطئت مهادا ، وجعلت كفاتا ، وأنبتت معاشا ، وأرسيت بالجبال ، وزينت بالنبات ، وكرمت
بالأقوات ، وأرصدت لتصرف الحيوانات ومعاشها ؛ وكلّ جزء من ذلك فيه عبرة تستغرق
الفكرة.
والحيوان أحد قسمي
المخلوقات ، والثاني الجمادات ؛ فانظر في أصنافها ، واختلاف أنواعها وأجناسها ،
وانقيادها وشرسها ، وتسخيرها في الانتفاع بها ، زينة وقوتا ، وتقلّبا في الأرض.
والبحار أعظم
المخلوقات عبرة ، وأدلها على سعة القدرة في سعتها ، واختلاف خلقها ، وتسيير الفلك
فيها ، وخروج الرزق منها ، والانتفاع في الانتقال إلى البلاد البعيدة بالأثقال
الوئيدة بها.
والهواء ؛ فإنه
خلق محسوس به قوام الرّوح في الآدمي وحيوان البر ، كما أن الماء قوام لروح حيوان
البحر ، فإذا فارق كلّ واحد منهما قوامه هلك ، وانظر إلى ركوده ثم اضطرابه ، وهو
بالريح.
والإنسان أقربها
إليها نظرا ، وأكثرها إن بحث عبرا ، فلينظر إلى نفسه من حين كونها ماء دافقا إلى
كونه خلقا سويّا ، يعان بالأغذية ، ويربّى بالرفق ، ويحفظ باللين حتى يكتسب القوى
، ويبلغ الأشد ؛ فإذا به قد قال أنا وأنا ، ونسى حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن
__________________
شيئا مذكورا ،
وسيعود مقبورا. وهذا زمان وسط بينهما ، فيا ويحه إن كان محسورا فينظر حينئذ أنه
عبد مربوب ، مكلّف مخوّف بالعذاب إن قصر ، مرجّى بالثواب إن ائتمر ، فيقبل على
عبادة مولاه ، فإنه وإن كان لا يراه يراه ، ولا يخشى الناس فالله أحقّ أن يخشاه ،
ولا يتكبر على أحد من عباد الله ؛ فإنه مؤلّف من أقذار ، مشحون من أوضار ، صائر
إلى جنّة إن أطاع أو إلى نار. ولذلك كان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات
الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية :
كيف يزهى من
رجيعه
|
|
أبد الدهر ضجيعه
|
فهو منه وإليه
|
|
وأخوه ورضيعه
|
وهو يدعوه إلى
الحش
|
|
بصغر فيطيعه
|
المسألة الثالثة ـ
أى العلمين أفضل : التفكر أم الصلاة؟
اختلف في ذلك
الناس ، فصغو ـ أى ميل ـ الصوفية إلى أن الفكرة أفضل ، فإنها تثمر
المعرفة ، وهي أفضل المقامات الشرعية.
وصغو الفقهاء إلى أنّ الصلاة والذكر أفضل ؛ لما روى في ذلك من
الحث والدعاء إليها ، والترغيب فيها ، والإيعاز بمنازلها وثوابها. والذي عندي فيه
أن الناس مختلفون ، فمن كان شديد الفكر ، قوىّ النظر ، مستمرّ المرر ، قادر على
الأدلة ، متبحّرا في المعارف ، فالفكر له أفضل ، ومن كان دون ذلك فالأعمال أقوى
لنفسه ، وأثبت لعوده .
ثبت عن ابن عباس
عن النبىّ صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه
بات عند زوجه ميمونة ، وبات ابن عباس معه في ليلة لم تكن ميمونة تصلّى فيها ،
فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه في طول الوسادة ، واضطجع ابن عباس في
عرضها ؛ فلما انتصف الليل أو قبله بقليل ، أو بعده ، قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فمسح النّوم عن وجهه ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
__________________
وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، حتى
ختم السورة ؛ ثم قام إلى شن معلّق فتوضأ منه وضوءا خفيفا ، ثم صلى خمس عشرة ركعة.
فانظروا رحمكم
الله إلى جمعه بين الفكرة ، في المخلوقات لتأكيد المعرفة وتحديدها حتى تجدّدت له
حياة بالهبّ من النوم ، ثم إقباله على الصلاة بعدها ؛ فهذه هي السنّة التي تعتمدون
عليها.
فأما طريقة
الصوفية فأن يكون الشيخ منهم يبقى يوما وليلة أو شهرا ، مفكرا لا يفتر فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالشّرع ولا مستمرة على السنن.
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها
فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما
فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في
المعنّى بها :
وفي ذلك قولان :
أحدهما ـ أنّ
المراد بذلك حوّاء الأمّ الأولى ، حملت بولدها ، فلم تجد له ثقلا ، ولا قطع بها عن
عمل ، فكلما استمرّ بها ثقل عليها ، فجاءها الشيطان وقال لها : إن كنت تعلمين أن
هذا الذي يضطرب في بطنك من أين يخرج من جسمك ؛ إنه ليخرج من أنفك ، أو من عينك ،
أو من فمك ، وربما كان بهيمة ؛ فإن خرج سليما يشبهك تطيعيننى فيه؟ قالت له : نعم. فذكرت ذلك لآدم
، فقال لها : هو صاحبك الذي أخرجك من الجنة. فلما ولدت ـ في حديث طويل ـ سمّته عبد
الحارث بإشارة إبليس بذلك عليها ، وكان اسمه في الملائكة الحارث ، فذلك قوله تعالى
: (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
فِيما آتاهُما). وذلك مذكور ونحوه في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره.
__________________
وفي الإسرائيليات
كثير ليس لها ثبات ، ولا يعوّل عليها من له قلب ؛ فإن آدم وحوّاء وإن كان غرّهما
بالله الغرور ـ فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، وما كانا بعد ذلك ليقبلا له نصحا
ولا يسمعا منه قولا.
الثاني ـ أنّ
المراد بهذا جنس الآدميين ؛ فإنّ حالهم في الحمل وخفّته وثقله إلى صفة واحدة. وإذا خفّ عليهم الحمل استمرّوا به ؛ فإذا ثقل
عليهم نذروا كل نذر فيه ، فإذا ولد لهم ذلك الولد جعلوا فيه لغير الله شركاء في
تسميته وعمله ، حتى إنّ منهم من ينسبه إلى الأصنام ، ويجعله لغير الله
وعلى غير دين الإسلام ، وهذا القول أشبه بالحق ، وأقرب إلى الصدق ، وهو ظاهر الآية
وعمومها الذي يشمل جميع متناولاتها ، ويسلم فيها الأنبياء عن النقص الذي لا يليق
بجهّال البشر ، فكيف بسادتهم وأنبيائهم.
المسألة الثانية ـ
روى ابن القاسم عن مالك ، قال : أول الحمل بشر وسرور ، وآخره مرض من الأمراض. قال الله عز وجل : (حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما). وقال عزّ وجل : (فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ).
وهذا الذي قاله
مالك إنه مرض من الأمراض يعطيه ظاهر قوله : فلما أثقلت دعوا الله ربّهما ولا يدعو
المرء هذا الدعاء إلّا إذا نزلت به شدة.
وهذه الحال مشاهدة
في الحوامل ، ولأجل عظم الأمر وشدّة الخطب جعل موتها شهادة ، فقال صلى الله عليه
وسلم : الشهداء سبعة سواء : القتل في سبيل الله. وذكر المرأة تموت بجمع شهيد.
المسألة الثالثة ـ
إذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حامل المريض في أفعالها ، ولا خلاف بين
علماء الأمصار أنّ فعل المريض فيما يهب أو يحابى في ثلثه.
__________________
وقال أبو حنيفة
والشافعى : إنما ذلك فيما يكون حال الطّلق ، فأما قبل ذلك فلا ؛ واحتجّوا بأن
الحمل عادة وأن الغالب فيه السلامة.
قلنا : كذلك أكثر
المرض الغالب عليه السلامة ، وقد يموت من لم يمرض ، ولكن أخذا بظاهر الحال كذلك في
مسألتنا.
وبالجملة فإنّ
إنكار مرض الحامل عناد ظاهر ، فإذا ثبت هذا فقد حمل العلماء عليه المحبوس في قود
أو قصاص ، وحاضر الزحف.
وأنكره الإمامان
المذكوران وغيرهما ، فإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشدّ
حالا من المريض ، وإنكار ذلك غفلة في النظر ؛ فإن سبب الموت موجود عندهما ، كما أن
المرض سبب الموت ، وقد قال سبحانه : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ). وهي الآية الثانية والعشرون في الأحكام من غير السورة ،
وذكرت هاهنا لاقتضاء القول إياها ، وإنما رأوا أسبابه ، وكذلك قال رويشد الطائي :
يا أيها الراكب
المزجى مطيّته
|
|
سائل بنى أسد ما
هذه الصوت
|
وقل لهم بادروا
بالعذر والتمسوا
|
|
قولا يبرّئكم
إنى أنا الموت
|
وقال سبحانه في
سورة الأحزاب ، وهي :
الآية الثالثة
والعشرون في الأحكام من غير السورة اقتضاها القول هاهنا : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً).
فكيف يقول الشافعى
وأبو حنيفة : إنّ الحالة الشديدة إنما هي المبارزة ، وقد أخبر الله عن منازلة
العدو ، وتدانى الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر ، ومن سوء
الظنون بالله ، ومن زلزلة القلوب واضطرابها ، هل هذه الحال ترى على المريض أم لا؟
فهذا كله لا يشكّ فيه منصف.
__________________
قال علماؤنا : هذا
لمن ثبت في اعتقاده ، وجاهد في الله حقّ جهاده وشاهد الرسول وآياته ، فكيف بنا؟
وإنما هو عندنا خبر من الأخبار لم يعرفه إلا الأخبار ، ولا قدره حقّ قدره إلا الأخيار . وهذا كلّه يعرفكم قدر مالك على سائر العلماء في النظر ،
ويبصرّكم استداده على سواء الفكر.
المسألة الرابعة ـ
إذا ثبت هذا فقد اختلف علماؤنا في راكب البحر ؛ هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل؟
فقال ابن القاسم :
حكمه حكم الصحيح. وقال أشهب : حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. وابن القاسم لم
يركب البحر ، ولا رأى أنهم دود على عود ، ومن أراد أن يوقن بأن الله هو الفاعل
وحده لا فاعل معه ، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلّق لموقن بها ، ويتحقق التوكّل
والتفويض ـ فليركب البحر ، ولو عاين ذلك سبعين من الدهر ، وتطلع له الشمس في الماء
وتغرب فيه ، ويتبعها القمر كذلك ، ولا يسمع للأرض خبرا ، ولا تصفو ساعة له من كدر
، ويعطب في آخر الحال ، كان رأيه كرأى أشهب ، والله يوفق المقال ويسدّد بعزته المذهب.
المسألة الخامسة ـ
إذا ثبت أنها مريضة فقد تقدم القول في فطرها وفديتها في سورة البقرة ، فلينظر
هنالك.
الآية الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى ـ في
العفو :
قد تقدّم شرحه في
سورة البقرة على الاستيفاء في الإطلاق والاشتقاق ، واختلف إيراد المفسرين في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال :
__________________
الأول ـ أنه الفضل
من أموال الناس ، نسخته الزكاة ، قال ذلك ابن عباس.
الثاني ـ أنه
الزكاة ؛ قاله مجاهد. وسمّاها عفوا ؛ لأنه فضل المال وجزء يسير منه.
الثالث ـ أنه أمر
بالاحتمال وترك الغلظة ، ثم نسخ ذلك بآية القتال.
الرابع ـ خذ العفو
من أخلاق الناس ؛ قاله ابنا الزبير معا ، وروى ذلك في الصحيح عنهما.
المسألة الثانية ـ
روى سفيان بن عيينة عن الشعبىّ أنه قال : إن
جبريل نزل على النبىّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم : ما هذا يا جبريل؟ قال جبريل : لا أدرى حتى أسأل العالم ، فذهب فمكث
ساعة ثم رجع ، فقال : إنّ الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطى من حرمك ، وتصل من
قطعك.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) :
فيه أربعة أقوال :
الأول ـ العرف :
المعروف ؛ قاله عروة.
الثاني ـ قول لا
إله إلا الله.
الثالث ـ ما يعرف
أنه من الدين.
الرابع ـ ما لا
ينكره الناس من المحاسن التي اتفقت عليها الشرائع.
المسألة الرابعة ـ
(أَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ) :
فيه قولان :
أحدهما أنه محكم ، أمر باللين.
الثاني أنه منسوخ
بآية القتال ؛ قاله ابن زيد.
المسألة الخامسة ـ
روى جابر بن سليم قال : ركبت
قعودي ثم أتيت إلى مكة ، فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنخت قعودي بباب
المسجد ، فدلّونى على رسول الله ، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر ،
فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فقال وعليك السلام. فقلت : إنّا معشر أهل
البادية قوم فينا الجفاء فعلّمنى كلمات ينفعني الله بها.
قال
: ادن منا . فدنوت ، فقال : أعد علىّ. فأعدت. فقال : اتق الله ،
__________________
ولا
تحقرنّ من المعروف شيئا ، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط ، وأن تفرغ من دلوك في إناء
أخيك ، وإن أحد سبّك بما يعلم منك فلا تسبّه بما تعلم فيه ؛ فإن الله جاعل لك أجرا
وعليه وزرا ، ولا تسبّنّ شيئا مما خوّلك الله.
فو
الذي نفسي بيده ما سببت بعده لا شاة ولا بعيرا.
المسألة السادسة ـ
في صحيح البخاري ، عن ابن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة ، فنزل على ابن
أخيه الجدّ بن قيس ، وكان من النفر الذي يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر
ومشاورته كهولا كانوا أو شبّانا ، فقال عيينة لابن أخيه : يا بن أخى ؛ لك وجه عند
هذا الأمير ؛ فاستأذن لي عليه : قال : سأستأذن لك.
قال ابن عباس :
فاستأذن الجدّ لعيينة ، فأذن له عمر ، فلما دخل قال : هيه يا ابن الخطاب ، فو الله
ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به ، فقال له :
العفو يا أمير المؤمنين ، إن الله قال لنبيه : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها
عليه ، وكان وقّافا عند كتاب الله.
المسألة السابعة ـ
في تنقيح الأقوال :
أما العفو فإنه
عام في متنا ولاته ، ويصحّ أن يراد به خذ ما خفّ وسهل مما تعطى ، فقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقبل من الصدقة التمرة والقبضة والحبة والدرهم والسّمل ، ولا يلمز شيئا من ذلك ولا يعيبه : ولقد كان يسقط من
الحقوق ما يقبل الإسقاط حتى قالت عائشة في الصحيح : ما انتقم رسول الله لنفسه قطّ.
وأما الاحتمال فقد
كان يصبر على الأذى ، ويحتمل الجفاء ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا
فصبر.
وأما مخالفة الناس
فهو كان أقدر الخلق عليها وأولاهم بها ، فإنه كان يلقى كلّ أحد بما يليق به من شيخ
وعجوز ، وصغير وكبير ، وبدوىّ وحضرىّ ، وعالم وجاهل ، ولقد كانت
__________________
المرأة توقفه في
السكة من سكك المدينة ، ولقد كان يقول لأخ لأنس صغير : يا أبا عمير ، ما فعل
النّغير .
ولقد كان يكلّم
الناس بلغاتهم ، فيقول لمن سأله أمن امبر امصيام في امسفر فيقول له : ليس من امبر امصيام في امسفر .
المسألة الثامنة ـ
في تنقيح الأقوال بالعرف :
أما العرف فالمراد
به هاهنا المعروف من الدين المعلوم من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، المتفق
عليه في كل شريعة التي أمهاتها وأصولها الثلاث التي يقال إنّ جبريل نزل بها : أن
تصل من قطعك ، فلا شيء أفضل من صلة القاطع ؛ فإنه يدلّ على كرم النفس ، وشرف الحلم
، وخلق الصبر الذي هو مفتاح خيرى الدنيا والآخرة.
وفي الأثر : ليس
الواصل بالكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها. وقال : أفضل الصدقة
الصدقة على ذي الرحم الكاشح.
والذي يبين ذلك الحديث الصحيح الذي خرجه الأئمة واللفظ للبخاري : قال
علىّ بن أبى طالب : بعث
النبىّ صلى الله عليه وسلم سريّة استعمل عليها رجلا من الأنصار ، وأمرهم أن يطيعوه
، فغضب ، فقال : أليس أمركم النبىّ صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا : بلى. قال
: فاجمعوا حطبا. فجمعوا. فقال : أوقدوا لي نارا. فأوقدوها. فقال : ادخلوها. فهمّوا
، وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون : قررنا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم من النار.
فما زالوا حتى خمدت النار ، وسكن غضبه ، فبلغ النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: لو
دخلوها ما خرجوا منها ، إنما الطاعة في المعروف ، يريد الذي يجوز في الدين موقعه ويثبت فيه حكمه.
المسألة التاسعة ـ
وأما الإعراض عن الجاهلين فإنه مخصوص في الكفار الذين أمر بقتالهم ، عام في كل
الذي يبقى بعدهم. وقد قال سبحانه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ).
وقالت أسماء : إنّ
أمى قدمت علىّ راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال : نعم ، صلى أمّك.
__________________
المسألة العاشرة ـ
قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات ، قد تضمنت قواعد الشريعة المأمورات
والمنهيّات ، حتى لم يبق فيه حسنة إلا أوضحتها ، ولا فضيلة إلا شرحتها ، ولا
أكرومة إلّا افتتحتها ، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة ؛ فقوله : (خُذِ الْعَفْوَ) تولى بالبيان جانب اللين ، ونفى الحرج في الأخذ والإعطاء
والتكليف.
وقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) تناول جميع المأمورات والمنهيات ؛ وإنهما ما عرف حكمه ، واستقرّ في
الشريعة موضعه ، واتّفقت القلوب على علمه.
وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) تناول جانب الصّفح بالصبر الذي به يتأتّى للعبد كلّ مراد
في نفسه وغيره ، ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا.
الآية الخامسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم صلى
بأصحابه ، فقرأ أناس من خلفه ، فنزلت هذه الآية : (وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ ...) الآية ؛ فسكت الناس خلفه ، وقرأ رسول الله.
المسألة الثانية ـ
روى الأئمة : مالك ، وأبو داود ، والنسائي ، عن أبى هريرة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف
من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : هل قرأ أحد منكم [معى] آنفا؟ فقال رجل : نعم ، يا رسول الله. فقال : إنى أقول :
مالي أنازع القرآن؟ قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما جهر فيه رسول الله من الصلوات بالقراءة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم عن
عمران بن حصين ، قال :
صلّى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بنا صلاة الظّهر أو العصر ، فقال : وأيكم قرأ خلفي بسبّح اسم
ربك الأعلى؟ فقال رجل : أنا فقال رسول الله : قد علمت أنّ بعضكم حالجنيها .
__________________
وروى الترمذي وأبو
داود ، عن عبادة بن الصامت ، قال : صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : إنى
لا أراكم تقرءون وراء إمامكم. قال : قلنا : يا رسول الله ؛ إى والله. قال : فلا
تفعلوا إلّا بأمّ القرآن ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها .
وقد روى الناس في
قراءة المأموم خلف الإمام بفاتحة الكتاب أحاديث كثيرة ، أعظمهم في ذلك اهتبالا
الدّارقطنى.
وقد جمع البخاري
في ذلك جزءا ، وكان رأيه قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية ، وهي إحدى
روايات مالك ، وهو اختيار الشافعى.
وقد روى مالك
وغيره عن أبى هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن
فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج ، غير تمام.
فقلت
: يا أبا هريرة ؛ إنى أحيانا أكون وراء الإمام ، فغمز ذراعي ، وقل : اقرأ بها يا
فارسي في نفسك ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين ، فنصفها
لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل. قال رسول الله : اقرءوا ، يقول العبد : الحمد لله رب
العالمين يقول الله : حمدنى عبدى. يقول العبد : الرحمن الرحيم. يقول الله : أثنى
علىّ عبدى. يقول العبد : مالك يوم الدين. يقول الله: مجّدنى عبدى. يقول العبد :
إياك نعبد وإياك نستعين ، فهذه الآية بيني وبين عبدى ، ولعبدي ما سأل. يقول العبد
: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل.
وقد اختلفت في ذلك
الآثار عن الصحابة والتابعين اختلافا متباينا ؛ فروى عن زيد ابن أسلم أنّ النبىّ
صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينهون عن القراءة خلف الإمام.
وقد روى عن ابن
مسعود أنه صلى بأصحابه فقرأ قوم خلفه ، فقال : مالكم لا تعقلون؟ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
__________________
وقد قال أبو هريرة
: نزلت الآية في الصلاة. وقيل : كانوا يتكلمون في الصلاة ، فنزلت الآية في النهى
عن ذلك.
وروى أنّ فتى كان
يقرأ خلف النبىّ صلى الله عليه وسلم فيما قرأ فيه النبي ، فأنزل الله الآية فيه.
وقال مجاهد : نزلت
في خطبة الجمعة ؛ وهو قول ضعيف ؛ لأنّ القرآن فيها قليل ، والإنصات واجب في
جميعها.
وقد روى أنّ عبادة
بن الصامت قرأ بها ، وسئل عن ذلك ، فقال : لا صلاة إلا بها.
وأصحّ منه قول
جابر : لا يقرأ بها خلف الإمام ـ خرّجه مالك في الموطأ.
وروى مسلم في
صحيحه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : إنما
جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا قرأ فأنصتوا ؛
وهذا نصّ لا مطعن فيه ، يعضده القرآن والسنة ، وقد غمزه الدارقطني بما لا يقدح
فيه.
المسألة الثالثة ـ
الأحاديث في ذلك كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، وذكرنا نبذا منها ، والترجيح أولى ما
اتبع فيها.
والذي نرجّحه وجوب
القراءة في الإسرار لعموم الأخبار.
وأما الجهر فلا
سبيل إلى القراءة فيه لثلاثة أوجه : أحدها ـ أنه عمل أهل المدينة.
الثاني ـ أنه حكم
القرآن ، قال الله سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).
وقد عضدته السنة
بحديثين :
أحدهما ـ حديث
عمران بن حصين : قد علمت أنّ بعضكم خالجنيها.
الثاني ـ قوله :
وإذا قرأ فأنصتوا.
الوجه الثالث ـ في
الترجيح : إنّ القراءة مع جهر الإمام لا سبيل إليها فمتى يقرأ؟
فإن قيل : قرأ في
سكتة الإمام.
قلنا : السكوت لا
يلزم الإمام فكيف يركّب فرض على ما ليس بفرض ، لا سيما وقد وجدنا وجها للقراءة مع
الجهر ، وهي قراءة القلب بالتدبر والتفكر ، وهذا نظام القرآن والحديث ، وحفظ
العبادة ، ومراعاة السنة ، وعمل بالترجيح والله أعلم ؛ وهو المراد بقوله تعالى :
__________________
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ). وهي الآية السادسة والعشرون.
فقوله : (فِي نَفْسِكَ) يعنى صلاة الجهر. وقوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ
مِنَ الْقَوْلِ) يعنى صلاة السرّ ؛ فإنه يسمع فيه نفسه ومن يليه قليلا
بحركة اللسان.
فإن قيل : فقد قال
بعض الشافعية : إنما خرجت الآية على سبب ؛ وهو أنّ قوما كانوا يكثرون اللّغط في
قراءة رسول الله ، ويمنعون من استماع الأحداث لهم ، كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ) ، فأمر المسلمين بالإنصات حالة أداء الوحى ، ليكون على
خلاف حال الكفار.
قلنا : عنه جوابان
:
أحدهما ـ أن هذا
لم يصح سنده ؛ فلا ينفع معتمده.
الثاني ـ أنّ سبب
الآية والحديث إذا كان خاصا لا يمنع من التعلّق بظاهره إذا كان عاما مستقلا بنفسه
، وبالجملة فليس للبخاري ولا للشافعية كلام ينفع بعد ما رجّحنا به واحتججنا
بمنصوصه ، وقد مهّدنا القول في مسائل الخلاف تمهيدا يسكّن كل جأش نافر.
الآية السابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ).
فيها أربع عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ هذه
الآية مرتبطة بما قبلها ومنتظمة مع ما سبقها ؛ وهي إخبار من الله تعالى عن
الملائكة بأنهم في عبادتهم التي أمروا بها دائمون ، وعليها قائمون ، وبها عاملون ؛
فلا تكن من الغافلين فيما أمرت به وكلفته.
وهذا خطابه ،
والمراد بذلك جميع الأمة.
المسألة الثانية ـ
هذه أول سجود القرآن ، وفيه خمس عشرة سجدة :
الأولى هذه ،
خاتمة الأعراف.
الثانية في الرعد : (وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).
__________________
الثالثة في النحل : (وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ).
الرابعة في بنى
إسرائيل : (وَيَزِيدُهُمْ
خُشُوعاً).
الخامسة ـ في مريم
: ([خَرُّوا]) (سُجَّداً وَبُكِيًّا).
السادسة ـ في أول
الحج : ([يَفْعَلُ]
ما
يَشاءُ).
السابعة ـ في آخر
الحج : (تُفْلِحُونَ).
الثامنة ـ في
الفرقان : (نُفُوراً).
التاسعة ـ في
النمل : (رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ).
العاشرة ـ في
تنزيل : (وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ).
الحادية عشرة ـ في
ص : ([وَخَرَّ راكِعاً]
وَأَنابَ).
الثانية عشرة ـ في
حم : ([إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ] تَعْبُدُونَ).
الثالثة عشرة ـ آخر
النجم : [واعبدوا].
الرابعة عشرة ـ في
الانشقاق قوله : (لا يَسْجُدُونَ).
الخامسة عشرة ـ خاتمة
القلم.
المسألة الثالثة ـ
روى مسلم في صحيحه
عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إذا قرأ ابن آدم
السجدة وسجد اعتزل الشيطان يبكى ، فيقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت
فلي النار.
وروى البخارىّ
ومسلم عن ابن عمر
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة ، فيسجد.
ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا مكانا لجبهته ليسجد فيه.
وروى أبو داود عن
ابن عمر أنّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم قرأ عام الحج سجدة ،
__________________
فسجد
الناس كلّهم ، منهم الراكب والساجد في الأرض ، حتى إنّ الراكب يسجد على ثوبه.
المسألة الرابعة ـ
اختلف الناس في سجود التلاوة ؛ فقال مالك والشافعى : ليس بواجب.
وقال أبو حنيفة :
هو واجب ، وهي مسألة مشكلة عوّل فيها أبو حنيفة على أنّ مطلق الأمر بالسجود على
الوجوب. ولقوله صلى الله عليه وسلم : أمر
ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة.
والأمر على الوجوب
؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها إذا قرأها. وعوّل علماؤنا على
حديث عمر الثابت أنّ عمر قرأ سجدة وهو على المنبر ، فنزل فسجد فسجد الناس معه. ثم
قرأ بها في الجمعة الأخرى ، فتهيأ الناس للسجود ، فقال : على رسلكم ، إن الله لم
يكتبها علينا ، إلا أن نشاء. وذلك بحضرة الصحابة أجمعين من المهاجرين والأنصار ،
فلم ينكر ذلك عليه أحد ، فثبت الإجماع به في ذلك ؛ ولهذا حملنا جميع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على النّدب والترغيب.
وقوله صلى الله
عليه وسلم : أمر
ابن آدم بالسجود ، فسجد فله الجنة ـ إخبار عن السجود الواجب ؛ ومواظبة النبىّ صلى الله عليه
وسلم تدلّ على الاستحباب.
وقد استوعبنا
القول فيها في مسائل الخلاف.
المسألة الخامسة ـ
لا بدّ فيها من الطهارة ؛ لأنها صلاة ، فوجبت فيها الطهارة ، كسجود الصلاة. وكذلك
التكبير مثله ؛ فقد روى في الأثر عن ابن عمر
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد كبّر ، وكذلك إذا رفع كبّر.
واختلف علماؤنا هل
فيها تحليل بالسلام أم لا؟ والصحيح أنّ فيها تحليلا [بالسلام] ؛ لأنه عبادة لها تكبير ، فكان فيها سلام ، كصلاة الجنازة
، بل أولى ؛ لأنّ هذا فعل وصلاة الجنازة قول.
المسألة السادسة ـ
اختلف قول مالك في صلاتها في الأوقات المنهىّ عنها ؛ فإحدى الروايتين أنها تصلّى
فيها ؛ وبه قال الشافعى.
الثانية : لا
تصلّى ؛ وبه قال أبو حنيفة.
__________________
متعلّق القول
الأول عموم الأمر بالسجود ، ومتعلّق القول الثاني عموم النهى عن الصلوات.
والقول الثاني
أقوى ؛ لأنّ الأمر بالسجود عام في الأوقات ، والنهى خاص في الأوقات ، والخاصّ يقضى
على العام.
وقد روى عن مالك
في المدوّنة أنه يصلّيها ما لم تصفرّ الشمس ؛ وهذا لا وجه له عندي ، والله أعلم.
المسألة السابعة ـ
سجدة الحج الثانية :
قال الشافعى وابن
وهب عنه وغيرهما : هي عزيمة. وقال في المدوّنة وغيرها : إنها ليست سجود عزيمة ؛
لأنه خبر عن ركوع الصلاة وسجودها ؛ ودليلنا أنّ عمر سجد فيها وهو يفهم الأمر أقعد
، وبين قوم كانوا أفهم وأسدّ ؛ فبهم فاقتد.
المسألة الثامنة ـ
قال الشافعى : يسجد في النمل عند [قوله] : (وَما يُعْلِنُونَ) عند تمام الآية التي فيها الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة :
يسجد عند قوله : «العليم» . الذي فيه تمام الكلام ، وهو أقوى.
المسألة التاسعة ـ
سجدة «ص» عند الشافعى سجدة شكر ، وليست بعزيمة. وقد روى أبو داود والترمذي ،
وخرّجه البخاري عن ابن عباس ، قال : سجدة «ص» ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدها.
وقال مالك : هذا
قول ابن عباس ، وهي عزيمة ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال الله له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، وقد روى أبو داود عن أبى سعيد الخدري أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ وهو
على المنبر : ص ، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر
قرأها ، فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما
هي توبة نبىّ ولكني رأيتكم تشزّنتم للسجود ، ونزل فسجد وسجدوا.
__________________
المسألة العاشرة ـ
السجود فيها عند تمام قوله : (وَخَرَّ راكِعاً
وَأَنابَ) ؛ لأنه تمام الكلام ، وموضع الخضوع والإنابة.
وقال الشافعى عند
قوله : (وَحُسْنَ مَآبٍ) ؛ لأنه خبر عن التوبة وحسن المآبة.
والأول أصوب ؛
رجاء الاهتداء في الاقتداء والمغفرة عند الامتثال ، كما غفر لمن سبق من الأنبياء.
المسألة الحادية
عشرة ـ السجود في فصّلت عند قوله : (إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ؛ لأنه انتهاء الأمر.
وعند الشافعى : (وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ) ؛ لأنه خبر عن امتثال من أمر عند ذكر من استكبر ، فيكون هذا
منهم. والأول الأولى ؛ لأنه يمتثل الأمر ويخرج عمن استكبر.
المسألة الثانية
عشرة ـ أما سجدة «النجم» فقد روى الترمذي أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ «والنجم»
فلم يسجد فيها.
والصحيح ما روى
العلماء الأئمة عن عبد الله أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنّجم ، فسجد فيها وسجد من كان معه ، فأخذ رجل من القوم كفّا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه
، وقال : يكفيني هذا. وقال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا.
وروى ابن عباس أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم سجد
بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون ، والجنّ والإنس ، فكيف يتأخّر أحد عنها.
المسألة الثالثة
عشرة ـ روى الأئمة عن أبى هريرة
أنه قرأ لهم : «إذا السماء انشقّت» ، فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم سجد فيها وفي : «اقرأ باسم ربّك».
فإن قيل : فقد روى
أبو داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل مذ تحوّل إلى
المدينة.
قلنا : هذا خبر لم
يصحّ إسناده ، ولو صحّ فليس فيه أنه قرأه ولم يسجد فيه ، فلعله لم يقرأ به في صلاة
جماعة.
المسألة الرابعة
عشرة ـ في الصحيح عن أبى هريرة
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر : «آلم تنزيل»
، السجدة ، وهل أتى على الإنسان [حين من الدّهر] .
__________________
سورة الأنفال
[فيها خمس وعشرون آية]
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا
ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أنّ سعد بن
أبى وقّاص قال : نزلت
فىّ ثلاث آيات : النّفل ، وبرّ الوالدين ، والثلث.
وروى
مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : إذا كان يوم بدر جئت بسيف ، فقلت يا رسول الله ؛
إنّ الله قد شفى صدري من المشركين ، أو نحو هذا ، هب لي هذا السيف. فقال : هذا ليس
لك ولا لي.
فقلت
: عسى أن يعطى هذا من لا يبلى بلائي ، فجاءني الرسول فقال : إنك سألتنى وليس لي ،
ولقد صار لي وهو لك ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ ...) الآية.
قال الترمذي : هو
صحيح.
وروى سعيد بن جبير أنّ سعد بن أبى وقّاص ورجلا من الأنصار
خرجا يتنفّلان نفلا ، فوجد سيفا ملقى يقال كان لأبى سعيد بن العاصي ، فخرّا عليه
جميعا ، فقال سعد : هو لي. وقال الأنصارى : هو لي ، فتنازعا في ذلك ، فقال
الأنصارى : يكون بيني وبينك رأيناه جميعا وخررنا عليه جميعا ، فقال : لا أسلمه
إليك حتى نأتى رسول الله ، فلما عرضا عليه القصة قال : ليس لك يا سعد ولا للأنصارى
، ولكنه لي ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ ...) الآية.
فاتّق
الله يا سعد والأنصارى ، وأصلحا ذات بينكما ، وأطيعا الله ورسوله. يقول أسلم السيف إليه ، ثم نسخت بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ ...) الآية.
__________________
المسألة الثانية ـ النّفل في اللغة هو الزيادة ، ومنها نفل الصلاة ، وهو
الزيادة على فرضها ، وولد الولد نافلة ؛ لأنه زيادة على الولد ، والغنيمة نافلة ؛
لأنها زيادة فيما أحل لهذه الأمة مما كان محرّما على غيرها ، ثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال : أحلّت
لي الغنائم.
وروى أبو هريرة
قال : فضّلت على الأنبياء
بستّ : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرّعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض
مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون.
وروى البخاري عن
همام بن منبّه ، عن أبى هريرة ، قال : [قال] رسول
الله صلى الله عليه وسلم : غزا نبىّ من الأنبياء ، فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك
بضع امرأة وهو يريد أن يبنى بها ولما يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها ، فغزا فدنا من القرية أو قريبا من ذلك ،
فقال للشمس : إنك
مأمورة وأنا مأمور ، اللهم أحدسها علينا ، فحبست حتى فتح الله بجمع الغنائم ، فجاءت النار لتأكلها ، فلم تطعمها. فقال :
إن فيكم غلولا قبليّا فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلزقت يد رجل بيده ، فقال :
فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : فيكم
الغلول ، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب ، فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ، ثم
أحل الله لنا الغنائم ، ورأى ضعفنا وعجزنا فأحلّها لنا.
المسألة الرابعة ـ قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك : كانت بدر في سبع عشرة
ليلة خلت من شهر رمضان.
وروى ابن وهب أنها
كانت بعد عام ونصف من الهجرة ، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين.
وقد سئل مالك في
رواية ابن وهب عن عدة المسلمين يوم بدر ؛ فقال : كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر على
عدّة أصحاب طالوت.
__________________
وروى أيضا ابن وهب
عن مالك قال : سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدّة المشركين يوم بدر : كم يطعمون كلّ يوم؟ فقيل
له : يوما عشرا ويوما تسع جزائر . فقال : القوم
ما بين الألف إلى التسعمائة.
وروى ابن القاسم
عن مالك قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علىّ. فقام أبو بكر فتكلم ، ثم
قعد. ثم قال : أشيروا علىّ ، فقام عمر فتكلم ، ثم قعد فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : أشيروا علىّ ، فقام سعد بن معاذ فقال : كأنك إيانا تريد يا رسول الله
، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكم متّبعون. لو أتيت اليمن لسللنا سيوفنا
واتبعناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا مصافّكم.
المسألة الخامسة ـ
قال علماؤنا رحمهم الله ، هاهنا ثلاثة أسماء : الأنفال ، الغنائم ، الفيء.
فالنّفل : الزيادة
كما بيّنا ، وتدخل فيه الغنيمة ؛ فإنها زيادة الحلال لهذه الأمة.
والغنيمة : ما أخذ
من أموال الكفار بقتال.
والفيء : ما أخذ
بغير قتال ؛ لأنه رجع إلى موضعه الذي يستحقّه ، وهو انتفاع المؤمن به.
المسألة السادسة ـ
في محل الأنفال :
اختلف الناس فيها
على ثلاثة أقوال :
الأول ـ محلها
الخمس.
الثاني ـ محلها ما
عاد من المشركين أو أخذ بغير حرب.
الثالث ـ رأس
الغنيمة حسبما يراه الإمام.
قال القاسم بن
محمد : قال ابن عباس : كان ابن عمر إذا سئل عن شيء قال : لا آمرك ولا أنهاك. فكان
ابن عباس يقول : والله ما بعث الله محمدا إلا محلّلا ومحرّما قال القاسم: فسلط على
ابن عباس رجل فسأله عن النّفل ؛ فقال ابن عباس : الفرس من النفل ، والسلاح من
النفل. وأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك حتى أغضبه. فقال ابن عباس : أتدرون
__________________
ما مثل هذا؟ مثل
صنيع الذي ضربه عمر بالدّرة حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه. فقال الرجل :
أما أنت فقد انتقم الله منك لابن عمر .
وقال السدّى وعطاء
: هي ما شذّ من المشركين.
وعن مجاهد : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس
بعد الأربعة الأخماس ، فقال المهاجرون : لمن يدفع هذا الخمس؟ لم يخرج منّا. فنزلت
: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ). والصحيح أنه من الخمس ، كما روى في صحيح مسلم أنّ الإمام
يعطى منه ما شاء من سلب أو غيره ؛ خلافا للشافعي ، ومن قال بقوله من فقهاء الأمصار.
فأما هذا السؤال هاهنا فإنما هو عن أصل الغنيمة التي نفل على ما أنزل الله لنا من
الحلال على الأمم.
المعنى : يسألك
أصحابك يا محمد عن هذه الغنيمة التي نفّلتكها. قل لهم : هي لله وللرسول ، فاتقوا
الله ولا تختلفوا ، وأصلحوا ذات بينكم ، لئلا يرفع تحليلها عنكم باختلافكم.
وقد روى عن ابن
عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : من
فعل كذا وكذا فله كذا وكذا. فتسارع إلى ذلك الشبان ، وثبت الشيوخ تحت الرايات ،
فلما فتح عليهم جاءوا يطلبون شرطهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا به
علينا ، كنا ردءا لكم ، لو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فأبى الشبان وقالوا : جعله رسول الله لنا
، فتنازعوا فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا
ذاتَ بَيْنِكُمْ).
وروى أنهم اختلفوا
فيها على ثلاث فرق ؛ فقال قوم : هو لنا ، حرسنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون : هو لنا ، اتبعنا أعداء رسول الله. وقالت أخرى : نحن أولى بها ،
أخذناها ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ ...) الآية.
وروى أبو أمامة
الباهلىّ ، قال : سألت
عبادة بن الصامت عن الأنفال ، فقال : فينا ـ أصحاب بدر ـ نزلت ، حين اختلفنا في
النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، فقسمها
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على بواء ؛ أى على السواء.
__________________
المسألة السابعة ـ
قال علماؤنا : فسلّموا لرسول الله الأمر فيها ؛ فأنزل الله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ ...) الآية. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ،
والخمس مردود فيكم. فلم يمكن بعد هذا أن يكون النفل من حقّ أحد ؛ وإنما يكون من حق
رسول الله. وهو الخمس.
والدليل عليه
الحديث الصحيح عن ابن عمر : خرجنا في سريّة قبل نجد ، فأصبنا إبلا ، فقسمناها ،
فبلغت سهماننا أحد عشر بعيرا ، ونفّلنا بعيرا بعيرا ، فأما :
المسألة الثامنة ـ
وهي سلب القتيل فإنه من الخمس عندنا ، وبه قال أبو حنيفة إذا رأى ذلك الإمام لغناء
في المعطى ، أو منفعة تجلب ، أو ائتلاف يرغب.
وقال الشافعى : هو
من رأس المال ؛ وظاهر القرآن يمنع من ذلك ؛ لأنه حق المالكين.
فأما الأخبار في
ذلك فمتعارضة ، روى في الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم قضى بسلب أبى جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وقال يوم
حنين : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ، فأعطى السلب لأبى
قتادة بما أقام من الشهادة ، وقضى بالسلب أجمع لسلمة ابن الأكوع يوم ذي قرد .
قلنا : هذه
الأخبار ليس فيها أكثر من إعطاء السلب للقاتل. وهل إعطاء ذلك له من رأس مال الغنيمة أو من حق النبي ـ وهو الخمس؟ ذلك إنما يؤخذ من
دليل آخر.
وقد قسّم الله
الغنيمة قسمة حق على الأخماس ، فجعل خمسها لرسوله ، وأربعة أخماسها لسائر المسلمين
، وهم الذين قاتلوا وقتلوا ، فهم فيها شرع سواء ، لاشتراكهم في السبب الذي
استحقّوها به ؛ والاشتراك في السبب يوجب الاشتراك في المسبب ، ويمنع من التفاضل في
المسبب مع الاستواء في السبب ؛ هذه حكمة الشرع وحكمه ، وقضاء الله
في خلقه ، وعلمه الذي أنزله عليهم.
والذي يدلّ على
صحة ما ذهبنا إليه ما روى مسلم أن عوف بن مالك قال : قتل رحل من
__________________
حمير
رجلا من العدو ، فأراد سلبه ، فمنعه خالد ، وكان واليا عليهم ؛ فأخبر عوف رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لخالد : ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال : استكثرته يا
رسول الله. قال : ادفعه إليه. فلقى عوف خالدا فجرّه بردائه ، وقال : هل أنجزت ما ذكرت لك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فاستغضب ، فقال : لا
تعطه يا خالد. هل أنتم تاركو لي إمرتى. ولو كان السلب حقّا له
من رأس الغنيمة لما ردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها عقوبة في الأموال ،
وذلك أمر لا يجوز بحال.
وقد ثبت أن ابن
المسيّب قال : ما كان الناس ينفّلون إلّا من الخمس.
وروى عنه أنه قال
: لا نفل بعد رسول الله. ولم يصح.
المسألة التاسعة ـ
قال علماؤنا : النّفل على قسمين : جائز ومكروه ، فالجائز بعد القتال ، كما قال
النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين : من
قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه.
والمكروه أن يقال
قبل القتل : من فعل كذا وكذا فله كذا. وإنما كره هذا ؛ لأنه يكون القتال فيه
للغنيمة.
وقال
رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل للمغنم ، ويقاتل ليرى مكانه من في سبيل الله ؛ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو
في سبيل الله ، ويحق للرجل أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإن نوى في ذلك
الغنيمة ؛ وإنما المكروه في الحديث أن يكون مقصده المغنم خاصة.
المسألة العاشرة ـ
قال علماؤنا : قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) :
قوله : (لِلَّهِ) استفتاح كلام ، وابتداء بالحق الذي ليس وراءه مرمى ، الكل
لله ، وقوله بعد ذلك : (وَالرَّسُولِ) قيل : أراد به ملكا. وقيل : أراد به ولاية قسم وبيان حكم.
والأول أصحّ لقوله
صلى الله عليه وسلم : مالي
مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم. وليس يستحيل أن يملكه الله لنبيه تشريفا وتقديما بالحقيقة ،
ويرده رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصلا على الخليقة.
__________________
الآية الثانية ـ قوله
: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
ابن عباس : لما أخبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان أنه مقبل من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها الأموال ،
فأخرجوا إليها لعل الله أن ينفّلكموها ؛ فانتدب الناس ، فخفّ بعضهم ، وثقل بعضهم ؛
لأنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربا ، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسّس
الأخبار ، ويسأل من لقى من الرّكبان ؛ تخوّفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من
بعض الركبان أنّ محمدا قد استنفر لك ، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري
، وبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتى قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أنّ محمدا
قد عرض لها في أصحابه. فمضى ضمضم ، وخرج النبىّ صلى الله عليه وسلم في أصحابه
وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار النبىّ صلى الله عليه وسلم
الناس ، وأخبرهم عن قريش ؛ فقام أبو بكر فقال فأحسن ، وقام عمر فقال فأحسن ، ثم
قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ؛ امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا
نقول كما قالت بنو إسرائيل : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب
أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ، والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد ـ يعنى مدينة الحبشة ـ لجالدنا
معك من دونه.
ثم قال الأنصار
بعد : أن أمض يا رسول الله لما أمرت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته
لخضناه معك.
فمضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى التقى بالمشركين ببدر ، فمنعوا الماء ، والتقوا ، ونصر
الله النبىّ وأصحابه ، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين ، وغنم المسلمون ما
كان معهم.
__________________
المسألة الثانية ـ
روى عكرمة عن ابن عباس قال : قالوا
للنبي صلى الله عليه وسلم ـ حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الأسرى : لا يصلح
هذا. فقال [له] النبىّ صلى الله عليه وسلم : لم؟ قال : لأنّ الله وعدك
إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك. قال النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت. وعلم
ذلك العباس من تحدّث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان من شأن بدر ، فسمع
ذلك في أثناء الحديث.
المسألة الثالثة ـ
خروج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليتلقّى العير بالأموال دليل على جواز النّفر
للغنيمة ؛ لأنه كسب حلال ، وما جاء في الحديث : إن
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة ـ يراد به إذا كان ذلك قصده وحده ، ليس للدين فيه حظّ.
المسألة الرابعة ـ
قال ابن القاسم وابن وهب ـ عن مالك في قول الله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ) ، فقال مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قليب
بدر من المشركين : قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟
قالوا : يا رسول الله ؛ إنهم أموات ، أفيسمعون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: إنهم ليسمعون ما أقول قال قتادة : أحياهم الله له. وهذه مسألة بديعة بيناها في
كتاب المشكلين ، وحقّقنا أن الموت ليس بعدم محض ، ولا فناء صرف ، وإنما هو تبدّل
حال ، وانتقال من دار إلى دار ، والروح إن كان جسما فينفصل بذاته عن الجسد ، وإن
كان عرضا فلا بد من جزء من الجسد يقوم به يفارق الجسد معه ، ولعله عجب الذّنب الذي ورد في الحديث الصحيح : إن كل ابن آدم تأكل الأرض إلّا عجب
الذّنب ، منه خلق ، وفيه يركّب. والروح هي السامعة الواعية العالمة القابلة ، إلا
أن الباري لا يخلق الإدراك إلا كما يشاء ، فلا يخلق إدراك الآخرة لأهل الدنيا ،
ولا يخلق إدراك الدنيا لأهل الآخرة ، فإذا أراد سبحانه أسمع أهل الآخرة حال أهل
الدنيا.
__________________
وقد ورد في الحديث
أنّ الميت إذا انصرف
عنه أهله ، وإنه ليسمع خفق نعالهم ، إذ أتاه ملكان ... الحديث.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في
أهل بدر : أتكلّم قوما قد جيّفوا؟ فقال
: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، غير أنه لم يؤذن لهم في الجواب.
المسألة الخامسة ـ
قال مالك : بلغني أنّ جبريل عليه
السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف أهل بدر فيكم؟ قال : خيارنا. فقال
جبريل : إنهم كذلك فينا.
وفي هذا من الفقه
أن شرف المخلوقات ليس بالذوات ، وإنما هو بالأفعال ؛ وللملائكة أفعالها الشريفة من
المواظبة على التسبيح الدائم ، ولنا ـ نحن ـ أفعالنا بالإخلاص في الطاعة. وتتفاضل
الطاعات بتفضيل الشرع لها ، وأفضلها الجهاد ، وأفضل الجهاد يوم بدر ؛ فأنجز الله
لرسوله وعده ، وأعزّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وصرع صناديد المشركين ، وانتقم
منهم للمؤمنين ، وشفى صدر رسوله وصدورهم من غيظهم ، وفي ذلك يقول حسان :
عرفت ديار زينب
بالكثيب
|
|
كخطّ الوحى في
الورق القشيب
|
تداولها الرّيح وكلّ جون
|
|
من الوسمىّ
منهمر سكوب
|
فأمسى ربعها خلقا وأمست
|
|
يبابا بعد
ساكنها الحبيب
|
فدع عنك التذكّر
كلّ يوم
|
|
وروّ حرارة
الصدر الكئيب
|
وخبّر بالذي لا
عيب فيه
|
|
بصدق غير أحبار
الكذوب
|
بما صنع المليك
غداة بدر
|
|
لنا في المشركين
من النصيب
|
غداة كأنّ جمعهم
حراء
|
|
بدت أركانه جنح
الغروب
|
فلاقيناهم منّا بجمع
|
|
كأسد الغاب
مردان وشيب
|
أمام محمد قد
وازروه
|
|
على الأعداء في
لفح الحروب
|
__________________
بأيديهم صوارم
مرهفات
|
|
وكل مجرّب خاظى الكعوب
|
بنو الأوس
الغطارف وازرتها
|
|
بنو النجار في
الدّين الصليب
|
فغادرنا أبا جهل
صريعا
|
|
وعتبة قد تركنا
بالجبوب
|
وشيبة قد تركنا
في رجال
|
|
ذوى حسب إذا
نسبوا حسيب
|
يناديهم رسول
الله لمّا
|
|
قذفناهم كباكب في القليب
|
ألم تجدوا كلامي
كان حقّا
|
|
وأمر الله يأخذ
بالقلوب
|
فما نطقوا ، ولو
نطقوا لقالوا
|
|
صدقت ، وكنت ذا
رأى مصيب
|
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً
لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (زَحْفاً) ، يعنى متدانين ، والتزاحف هو التداني والتقارب ، يقول :
إذا تداينتم وتعاينتم فلا تفرّوا عنهم ، ولا تعطوهم أدباركم ، حرّم الله ذلك على
المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد ، وقتل الكفار ؛ لعنادهم لدين الله ، وإبايتهم عن
قول لا إله إلا الله. فأما المقدار الذي يكون هذا معه فسيأتى بيانه إن شاء الله
تعالى.
المسألة الثانية ـ
اختلف الناس : هل الفرار يوم الزّحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم
القيامة؟
فروى عن أبى سعيد
الخدري أنّ ذلك يوم بدر لم يكن لهم فئة إلا رسول الله ؛ وبه قال نافع ، والحسن ،
وقتادة ، ويزيد بن أبى حبيب ، والضحاك.
ويروى عن ابن عباس
وسائر العلماء أنّ الآية باقية إلى يوم القيامة ، وإنما شذ من شذّ بخصوص
__________________
ذلك يوم بدر بقوله
: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) ؛ فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر ، وليس به ؛ وإنما ذلك
إشارة إلى يوم الزّحف.
والدليل عليه أن
الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب ، وذهاب اليوم بما فيه ، وقد ثبت عن النبىّ
صلى الله عليه وسلم حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا ... وعدّ الفرار
يوم الزّحف. وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف ، ويبيّن الحكم ، وقد نبهنا على
النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر.
المسألة الثالثة ـ
أما يوم بدر مع النبىّ صلى الله عليه وسلم فلم يجز لهم أن يفرّوا عن رسول الله ولا
يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ولا يسلموه لأعدائه حتى لا يبقى منهم على الأرض عين
تطرف. وأما سائر الجيوش وأيام القتال فلها أحكام تستقصى في مواضعها إن شاء الله
تعالى.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
هي من توابع ما
تقدم وروابطه ؛ فإنّ السورة هي سورة بدر كلها ، وكلها مدنية إلا سبع آيات فإنها
نزلت بمكة ، وهي قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا ...) إلى آخر الآيات السبع. وقد روى ابن وهب ، قال : أخبرنى
مالك في قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، هذا في حصب رسول الله المشركين يوم حنين. قال مالك : ولم
يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك ، وذكر ما قالت له أم سليم.
وكذلك روى عنه ابن
القاسم أيضا ، وقد روى عن محمد بن إسحاق ،
أنها كانت في يوم بدر لما استوت الصّفوف ونزل جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده ، على
ثناياه النّقع. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثية من الحصباء ، فاستقبل بها قريشا ، فقال : شاهت الوجوه. ثم تفخم بها وأمر أصحابه فقال : شدّوا ؛
فكانت الهزيمة ، وقتل الله من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم.
وقال ابن المسيّب
: كان هذا يوم أحد حين رمى أبىّ بن خلف الحربة ، فكسر ضلعا
__________________
من أضلاعه ، فرجع
أبىّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلا ، فأحفظوه حين ولّوا قافلين يقولون : لا بأس. فقال :
والله لو كانت بالناس لقتلتهم ، ألم يقل أنا أقتلك.
وقول ابن إسحاق
أصحّ في ذلك ؛ لأنّ السورة بدرية.
الآية الخامسة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ).
هذه الآية بيان
شاف وإيضاح كاف في أنّ القول لا يكون إلا بالعمل ، وأنه لا معنى لقول المؤمن :
سمعت وأطعت ، ما لم يظهر أثر قوله بامتثال فعله ؛ فأما إذا قصّر في الأوامر فلم
يأتها ، واعتمد النواهي باقتحامها فأىّ سمع عنده؟ أو أى طاعة له؟ وإنما يكون حينئذ
بمنزلة المنافق الذي يظهر الإيمان ، ويسرّ الكفر ، وذلك هو المراد بقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ...) الآية. يعنى بذلك المنافقين ، فالخبرة تكشف التلبيس ،
والفعل يظهر كمائن النفوس.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ الاستجابة
هي الإجابة ، وقد يكون استفعل بمعنى أفعل ، حسبما بيّناه في غير موضع ، وقد قال
شاعر العرب :
وداع دعا يا من
يجيب إلى الندى
|
|
فلم يستجبه عند
ذاك مجيب
|
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (لِما يُحْيِيكُمْ) :
ليس يريد به حياة
المشاهدة والأجسام ، وإنما يريد به حياة المعاني والقلوب بالإفهام بدعائه إياهم
إلى الإسلام والقرآن ، والحق والجهاد ، والطاعة والألفة.
وقيل : المراد به
لما يحييكم في الآخرة الحياة الدائمة في النعيم المقيم.
المسألة الثالثة ـ
ثبت في صحيح الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبيّا وهو يصلّى ، فلم يجبه أبىّ فخفّف الصلاة ، ثم
انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له صلى الله عليه وسلم :
__________________
ما
منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال يا رسول الله ، كنت أصلّى. قال له : أفلم تجد فيما
أوحى إلىّ : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)؟ قال : بلى يا رسول الله ، ولا أعود.
فقال الشافعى :
هذا دليل على أن الفعل للفرض أو القول الفرض إذا أتى به في الصلاة لا يبطل الصلاة
لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبىّ بالإجابة ، وإن كان في الصلاة.
وقد بيّنا في غير
موضع أنّ هذه الآية دليل على وجوب إجابة النبي وتقديمها على الصلاة ، وهل تبقى
الصلاة معها أم تبطل؟ مسألة أخرى. وقد قررناه على وجهه في مسائل الخلاف.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تأويل الفتنة :
فيها ثلاثة أقوال
:
الأول ـ الفتنة :
المناكير ؛ نهى الناس أن يقرّوها بين أظهرهم فيعمّهم العذاب ؛ قاله ابن عباس.
الثاني ـ أنها
فتنة الأموال والأولاد ، كما قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ـ رواه عبد الله بن مسعود. وقد روى حذيفة في الحديث الصحيح
حين سأله عمر عن الفتنة ، فقال له حذيفة : فتنة الرجل في جاره وماله وأهله يكفّرها
الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
الثالث ـ أنها
البلاء الذي يبتلى به المرء ؛ قاله الحسن.
المسألة الثانية ـ
المختار عندنا أنها فتنة المناكير بالسكوت عليها أو التراضي بها ، وكلّ ذلك مهلك ،
وهو كان داء الأمم السالفة ، قال الله سبحانه : (كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ).
وقد قدمنا من
تفسير قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ
__________________
مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)
أن الناس إذا رأوا
الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده.
وثبت أن أمّ سلمة قالت للنبىّ صلى الله عليه
وسلم : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم ، إذا كثر الخبث.
وقال عمر : إن
الله لا يعذّب العامة بذنب الخاصة ، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحلّوا العقوبة كلّهم.
وتحقيق القول في
ذلك أنّ الله قال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ). وقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) ؛ فقد أخبرنا ربنا أنّ كلّ نفس بما كسبت رهينة ، وأنه لا
يؤاخذ أحدا بذنب أحد ، وإنما تتعلق كلّ عقوبة بصاحب الذنب ، بيد أن الناس إذا
تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيّره ، فإذا سكت عنه فكلّهم عاص ؛
هذا بفعله ، وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل ؛ فانتظم
الذنب بالعقوبة ، ولم يتعدّ موضعه ، وهذا نفيس لمن تأمّله.
فإن قيل ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
فما معنى هذه الآية؟
قلنا : هي آية
بديعة ، ومعناها على الناس مرتبك ، وقد بيناها في قبس الموطأ ، وفي ملجئة
المتفقهين.
لبابه أنّ قوله : (اتَّقُوا) أمر. وقوله : (لا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا) نهى ، ولا يصلح أن يكون النهى جواب الأمر ، فيبقى الأمر
بغير جواب ، فيشكل الخطاب.
والدليل على أنّ
قوله : (لا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا) نهى ـ دخول النون الثقيلة فيه ، وهي لا تدخل إلا على فعل النهى ، أو
جواب القسم.
ولا تظنوا أنّ
إشكال هذه الآية حدث بين المتأخرين ؛ بل هو أمر سالف عند المتقدمين ،
__________________
ولذلك قرأها قوم :
واتّقوا فتنة أن تصيب الذين ظلموا منكم خاصة. وقرأها آخرون : واتّقوا فتنة لتصيبنّ
الذين ظلموا منكم خاصة. وهكذا يروى فيها عن أبىّ بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ،
وكان يقول ابن مسعود إذا قرأها : ما منكم من أحد إلّا وله فتنة في أهله وماله.
وكان الزّبير يقول
: كنا نظنّها لغيرنا فإذا بها قد أصابتنا. وكذلك كان يرى ابن عباس.
وأما فتنة الرجل
في أهله فلا تتعداه ، ولا تأخذ بالعقوبة سواه ، وإنما المعنى في الآية ما ذكرناه.
فأما اعتراضهم
بالإعراب وهي :
المسألة الرابعة ـ
فقد أوضحناها في الرسالة الملجئة ، وقلنا : فيها ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه أمر
ثم نهى ، كلّ واحد مستقل بنفسه ، كما تقول : قم غدا. لا تتكلم اليوم.
الثاني ـ الإعراب
اتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم.
فأما الأول فضعيف
؛ لأن قوله : (اتَّقُوا فِتْنَةً) ليس بكلام مستقل ، فيصحّ أن يتركب عليه غيره.
وأما الثاني ، وهو
جواب الطبري ، فلا يشبه منزلته في العلم ، لأن مجازه : لا تصيب الذين ظلموا ، ولم
يرد كذلك.
الثالث ـ قال لنا
شيخنا أبو عبد الله النحوي : هذا نهى فيه معنى جواب الأمر ، كما يقال : لا تزل من الدابة لا تطرحنك ، وقد جاء مثله في القرآن : (ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ). وهذا منتهى الاختصار وقد طوّلناه في مكانه.
الآية الثامنة ـ (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
: (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) :
وقد تقدم القول في
التقوى وحقيقتها وأنها فعلى ، من وقى يقي وقاية وواقية ، أبدلت الواو
__________________
تاء لغة ؛ وذلك
بأن يجعل بينه وبين مخالفة الله ومعصيته وقاية وحجابا ، ولها فيه محالّ :
المحل الأول ـ العين
، فإنها رائد القلب وربيئته ، فما تطّلع عليه أرسلته إليه ، فهو يفصل منه الجائز
مما لا يجوز ، وإذا جللتها بحجاب التقوى لم ترسل إلى القلب إلا ما يجوز ، فيستريح
من شغب ذلك الإلقاء ؛ وربما أصابت هذا المعنى الشعراء كقولهم :
وأنت إذا أرسلت
طرفك رائدا
|
|
لقلبك يوما
أسلمتك المناظر
|
رأيت الذي لا
كلّه أنت قادر
|
|
عليه ولا عن
بعضه أنت صابر
|
وهذا وإن كان أخذ
طرفا من المعنى فإن شيخنا عطاء المقدسي شيخ الفقهاء والصوفية ببيت المقدس استوفى
المعنى في بيتين أنشدناهما :
إذا لمت عينىّ
اللتين أضرّتا
|
|
بجسمى وقلبي
قالتا : لم القلبا
|
فإن لمت قلبي
قال عيناك جرّتا
|
|
علىّ الرزايا ثم
لي تجعل الذنبا
|
وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم :
إن الله كتب على
ابن آدم حظّه من الزنا. أدرك ذلك لا محالة ؛ فالعينان تزنيان وزناهما النظر ،
واليدان تزنيان وزناهما البطش.
المحل الثاني ـ الأذن
، وهو رائد عظيم في قبيل الأصوات يلقى إلى القلب منها ما يغبيه ، وقد كانت البواطل فيه أكثر من الحقائق ، فعلى العبد أن
يمتنع من الخوض في الباطل أولا ، وينزّه نفسه عن مجالسة أهله ؛ وإذا سمع القول
اتّبع أحسنه ، ووعى أسلمه ، وصان عن غيره أذنه ، أو قذفه عن قلبه إن وصل إليه.
المحل الثالث ـ اللسان
، وفيه نيّف على عشرين آمة وخصلة واحدة ، وهي الصدق ، وبها ينتفى عنه جميع الخصال
الذميمة ، وعن بدنه جميع الأفعال القبيحة ، فإذا حجبه بالصدق فقد كملت له التقوى ،
ونال المرتبة القصوى.
المحل الرابع ـ اليد
وهي للبطش والتناول ، وفيها معاص منها : الغصب ، والسرقة ، ومحاولة الزنا ،
والإذابة للحيوان والناس ، وحجابها الكفّ إلا عمّا أراد الله.
المحل الخامس ـ الرّجل
، وهي للمشي إلى ما يحل ، وإلى ما يجب ، وحجابها الكفّ عما لا يجوز.
__________________
المحل السادس ـ القلب
، وهو البحر الخضمّ ، وفي القلب الفوائد الدينية ، والآفات المهلكة ، والتقوى ،
فيه حجاب يسلخ الآفات عنه ، وشحنه بالنية الخالصة ؛ وشرحه بالتوحيد ، وخلع الكبر
والعجب بمعرفته بأوله وآخره ، والتبرّى من الحسد ، والتحفظ من شوائب الشرك الظاهر
والخفى ، بمراعاة غير الله في الأعمال ، والركون إلى الدنيا بالغفلة عن المال.
فإذا انتهى العبد إلى هذا المقام مهّد له في قبوله مكانا ، ورزقه فيما يريده من
الخير إمكانا ، وجعل له بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فرقانا ، وهي :
المسألة الثانية ـ
في قسم العمل في هذه الآية ، والإشارة إليه أن يمتثل ما أمر ، ويجتنب كيف استطاع
ما عنه نهى ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم.
إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهبتكم عن شيء فاجتنبوه.
وقد قال ابن وهب :
سألت مالكا عن قوله : (يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً) ـ قال : مخرجا.
ثم قرأ : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ...) إلى : (فَهُوَ حَسْبُهُ).
وقال ابن القاسم :
سألت مالكا عن قوله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) قال: يعنى مخرجا.
وقال أشهب : سألت
مالكا عنها فذكر معنى ما تقدم.
وقال ابن إسحاق :
يجعل لكم فصلا بين الحق والباطل.
وهذه كلها أبواب
العمل في القلوب والأبدان.
الآية التاسعة ،
قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قد
بينا أنها مكّية. وسبب نزولها ، والمراد بها ما روى أنّ قريشا اجتمعت في دار
النّدوة ، وقالت : إن أمر محمد قد طال علينا ، فماذا ترون؟ فأخذوا في كل جانب من
القول ، فقال قائل : نرى أن يقيّد ويحبس.
__________________
وقال آخر : نرى أن
ينفى ويخرج.
وقال آخر : نرى أن
يأخذ من كلّ قبيلة رجل سيفا فيضربونه ضربة واحدة ، فلا يقدر بنو هاشم على مطالبة
القبائل. وكان القائل هذا أبا جهل. فاتفقوا عليه ، وجاء جبريل النبىّ صلى الله
عليه وسلم فأعلمه بذلك ، وأذن له في الخروج ، فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم علىّ
ابن أبى طالب بأن يضطجع على فراشه ، ويتسجّى ببرده الحضرمي. وخرج النبي صلى الله
عليه وسلم [عليهم] حتى وضع التراب على رءوسهم ، ولم يعلموا به ، وأخذ مع أبى
بكر إلى الغار ، فلما أصبحوا نظروا إلى علىّ في موضعه ، وقد فاتهم ، ووجدوا التراب
على رءوسهم ، ولم يعلموا ، تحت خزي وذلة ، فامتنّ الله على رسوله بذلك من نعمته
عليه وسلامته من مكرهم بما أظهر عليهم من نوم علىّ على السرير كأنه النبي ، ومن
وضع التراب على رءوسهم ، وهذا كلّه مكر من فعله جزاء على مكرهم ، والله خير
الماكرين.
المسألة الثانية ـ
قام علىّ على فراش النبىّ صلى الله عليه وسلم فداء له ، وخرج أبو بكر مع النبي
مؤنسا له.
وقد روى أنّ عليّا
قال له النبىّ صلى الله عليه وسلم : إنه
لن يخلص إليك.
وهذا تأمين يقين ،
ويجب على الخلق أجمعين أن يقوا بأنفسهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يهلكوا
أجمعين في نجاته ؛ فلن يؤمن أحد حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحبّ إليه من
نفسه وأهله والخلق أجمعين. ومن وقى مسلما بنفسه فليس له جزاء إلا الجنة. وذلك
جائز.
والدليل عليه وجوب
مدافعة المطالب والصائل على أخيك المسلم.
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ
مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ ثبت
عن ابن شماسة المهري قال : حضرنا
عمرو بن العاص ، وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا ، وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل
ابنه يقول : ما يبكيك يا أبتاه؟
__________________
أما
بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشّرك رسول الله بكذا؟ قال : فأقبل
بوجهه ، فقال : إنّ أفضل ما بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أنى
كنت على أطباق ثلاث : لقد رأيتنى وما أحد أشد بغضا لرسول الله منى ، ولا أحبّ
إلىّ أن يكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار.
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبىّ فقلت : ابسط يمينك لأبايعك ، فبسط يمينه. قال : فقبضت
يدي. قال : مالك يا عمرو؟ قال : قلت : أردت أن أشترط. قال : تشترط ما ذا؟ قلت : أن
يغفر لي. قال : أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما قبله ، وأنّ الهجرة تهدم ما كان
قبلها ، وأنّ الحج يهدم ما قبله ، وما كان أحد أحبّ إلىّ من رسول الله ، ولا أجلّ
في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ؛ لأنى لم أكن أملأ عيني منه ،
ولو متّ على ذلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ، ثم ولينا أشياء ما أدرى ما
حالي فيها ؛ فإذا أنا متّ فلا تصحبنى نائحة ولا نار ؛ فإذا دفنتمونى فسنّوا علىّ التراب سنّا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور
ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم ، وأنظر ما ذا أراجع به رسل ربّى.
المسألة الثانية ـ
قال علماؤنا : هذه لطيفة من الله سبحانه منّ بها على الخليقة ؛ وذلك أنّ الكفار يقتحمون الكفر والجرائم ، ويرتكبون
المعاصي ، ويرتكبون المآثم ، فلو كان ذلك يوجب مؤاخذتهم لما استدركوا أبدا توبة ،
ولا نالتهم مغفرة ؛ فيسّر الله عليهم قبول التوبة عند الإنابة ، وبذل المغفرة
بالإسلام ، وهدم جميع ما تقدم ؛ ليكون ذلك أقرب إلى دخولهم في الدين ، وأدعى إلى
قبولهم كلمة الإسلام ، وتأليفا على الملة ، وترغيبا في الشريعة ؛ فإنهم لو علموا
أنهم يؤاخذون لما أنابوا ولا أسلموا.
فقد روى مسلم أنّ
رجلا كان فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفسا ، سأل :
__________________
هل له توبة؟ فجاء
عالما فسأله ، فقال : لا توبة لك ، فقتله وكمل به مائة. ثم جاء عالما آخر فسأله ،
فقال : ومن يسدّ عليك باب التوبة؟ ائت الأرض المقدسة. فمشى إليها ، فحضره الأجل في
الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ؛ فأوحى الله أن قيسوا إلى أىّ
الأرضين هو أقرب : أرضه التي خرج منها أم الأرض المقدسة؟ فألفوه أقرب إلى الأرض المقدسة بشبر ، فقبضته ملائكة الرحمة.
وفي رواية :
فقاسوه فوجدوه قد دنا بصدره. فانظروا إلى قول العالم له : لا توبة له. فلما علم
أنه قد أيأسه قتله ؛ فعل اليائس من الرحمة ؛ والتنفير مفسدة للخليقة ، والتيسير
مصلحة لهم.
وقد قدمنا عن ابن
عباس أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل فسأله : هل للقاتل توبة؟ فيقول له : لا
توبة له ؛ تخويفا وتحذيرا. فإذا جاء من قتل فسأله : هل لقاتل من توبة؟ قال له : لك
توبة ؛ تيسيرا وتأليفا .
المسألة الثالثة ـ
قال ابن القاسم ، وأشهب ، وابن وهب ، عن مالك في هذه الآية : من طلّق في الشرك ثم
أسلم فلا طلاق له ، وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه ، وكذلك من وجب عليه مثل هذه
الأشياء ثم أسلم فذلك مغفور له.
فأما من افترى على
مسلم ثم أسلم ، أو سرق ثم أسلم ، أقيم عليه الحدّ للفرية والسرقة ، ولو زنى وأسلم
أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحدّ.
وروى أشهب عن مالك
: إنما يعنى عزّ وجل ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء ، وهذا هو الصواب ؛ لما قدمنا
من عموم قوله : (إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) ، وقوله : الإسلام يهدم ما كان قبله. وما بيناه من المعنى
في التيسير وعدم التنفير.
المسألة الرابعة ـ
إذا أسلم المرتدّ ، وقد فاتته صلوات ، وأصاب جنايات ، وأتلف أموالا ـ فإن الشافعى
قال : يلزمه كلّ حق لله وللآدمي.
وقال أبو حنيفة :
ما كان لله يسقط ، وما كان للآدمي يلزمه ؛ وقال به علماؤنا.
__________________
ودليلهم عموم قوله
: (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ). وقول النبي : الإسلام
يهدم ما كان قبله. وهذا عامّ في الحقوق التي تتعلّق بالله كلها.
فإن قيل : المراد
بذلك الكفر الأصلى ، بدليل أنّ حقوق الآدميين تلزم المرتدّ ؛ فوجب أن تلزمه حقوق
الله.
فالجواب أنه لا
يجوز اعتبار حقوق الأدميين بحقوق الله ، ولا حقوق الله بحقوق الآدميين في الإيجاب
والإسقاط ؛ لأنّ حقّ الله يستغنى عنه ، وحقّ الآدمي يفتقر إليه ؛ ألا ترى أنّ حقوق
الله لا تجب على الصبى ، وتلزمه حقوق الآدميين ، وفي ذلك تمهيد طويل بيناه في
تخليص التلخيص فلينظر هنالك.
الآية الحادية عشرة
ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
يحتمل أن يريد به
: وقاتلوهم حتى لا يكون كفر . ويحتمل أن يكون : وقاتلوهم حتى لا يفتن أحد عن دينه.
وكلاهما يجوز أن يكون مرادا ، وهذه الغاية لا تتحقق إلا بنزول عيسى. وقد بينا ذلك
في سورة البقرة ومسائل الخلاف.
وفي البخارىّ ، عن
سعيد بن جبير ، قال : خرج علينا ابن عمر فرجونا أن يحدّثنا حديثا حسنا. قال :
فبادرنا إليه رجل ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، حدثنا عن القتال في الفتنة ، والله
يقول : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ). فقال : هل تدرى ما الفتنة؟ ثكلتك أمّك! إنما كان محمد
يقاتل المشركين ، وكان الدخول في دينهم فتنة ، وليس بقتالكم على الملك.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فيها ثلاث عشرة
مسألة :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ) :
قد بينا القول في
الغنيمة والفيء فأما الأحكاميون فقالوا : إن الغنيمة من الأموال المنقولة ، والفيء
الأرضون ؛ قاله مجاهد.
وقيل : إن الغنيمة
ما أخذ عنوة. والفيء ما أخذ على صلح ؛ قاله الشافعىّ.
وقيل : إن الفيء
والغنيمة بمعنى واحد.
وأما قول مجاهد
فصار إليه ؛ لأنّ الله ذكر الفيء في القرى ، وذكر الغنيمة مطلقا ، ففصّل الفرق
هكذا.
وأما قول الشافعى
فبناه على العرف ، وأنّ الغنيمة تنطلق في العرف على الأموال القهرية ، وينطلق
الفيء عرفا على ما أخذ من غير قهر. وليس الأمر كذلك ، بل الفيء عبارة عن كل ما صار
للمسلمين من الأموال بقهر وبغير قهر.
وحقيقته أن الله
خلق الخلق ليعبدوه ، وجعل الأموال لهم ليستعينوا بها على ما يرضيه ، وربما صارت في
أيدى أهل الباطل ، فإذا صارت في أيدى أهل الحق فقد صرفها عن طريق الإرادة إلى طريق
الأمر والعبادة.
المسألة الثانية ـ
إذا عرفتم أن الغنيمة هي ما أخذ من أموال الكفار ؛ فإن الله قد حكم فيها بحكمه ،
وأنفذ فيها سابق علمه ، فجعل خمسها للخمسة الأسماء ، وأبقى سائرها لمن غنمها ؛
ونحن نسميها ، ثم نعطف على الواجب فيها فنقول :
أما سهم الله ففيه
قولان :
أحدهما ـ أنه وسهم
الرسول واحد ، وقوله : «لله» استفتاح كلام ، فلله الدنيا والآخرة والخلق أجمع.
الثاني ـ روى عن
أبى العالية الرياحي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة
فيقسمها على خمسة ، يكون أربعة أخماسها لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده
فيأخذ منه الذي قبض كفّه فيجعله للكعبة ، وهو سهم الله ، ثم يقسم ما بقي على خمسه
أسهم.
وأما سهم الرسول
فقيل : هو استفتاح كلام ، مثل قوله : لله ، ليس لله منه شيء ولا
للرسول ، ويقسّم
الخمس على أربعة أسهم : سهم لبنى هاشم ، ولبنى المطلب سهم ، ولليتامى سهم ،
والمساكين سهم ، [ولا بن السبيل سهم] ؛ قاله ابن عباس.
وقيل : هو للرسول
، ففي كيفية كونه له أربعة أقوال : فقيل لقرابته إرثا ، وقيل للخليفة بعده ، وقيل
: هو يلحق بالأسهم الأربع ، وقيل : هو مصروف في الكراع والسّلاح ، وقيل : إنه مصروف في مصالح المسلمين العامة ؛
قاله الشافعى.
وأما سهم ذوى
القربى فقيل : هم قريش ، وقيل : بنو هاشم ، [وقيل بنو هاشم و] بنو المطلب ؛ وهو قول الشافعى.
وقيل : ذهب ذلك
بموت النبىّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون لقرابة الإمام بعده. وقيل : هو للإمام
يضعه حيث يشاء.
وأما سهم اليتامى
فإنّ اليتيم من فيه ثلاثة أوصاف : موت الأب وعدم البلوغ ، ووجود الإسلام أصلا فيه
أو تبعا لأحد أبويه ، وحاجته إلى الرّفد وأما المسكين فهو المحتاج.
وأما ابن السبيل
فهو الذي يأخذه الطريق محتاجا ، وإن كان غنيّا في بلده.
المسألة الثالثة ـ
في التنقيح :
أما قول أبى
العالية فليس من النظر في المرتبة العالية ؛ فإن الأرض كلها لله ملكا وخلقا ، وهي
لعباده رزقا وقسما. وأما الرسول فهو ممن أنعم عليه وملكه. ولكنه ثبت في الصحيح عنه
صلى الله عليه وسلم قال : مالي
مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم. وهذا يعضد قول من قال : إنه يرجع في مصالح العامة.
وأما قول من قال :
إنه يرجع لقرابته إرثا فإنه باطل بإجماع من الصحابة ، فإنّ فاطمة رضى الله عنها أرسلت تطلب
ميراثها من أبى بكر ، فقال لها : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نحن لا
نورث ، ما تركناه صدقة.
وقد بينا ذلك في
مسائل الأصول وسائر الأقوال دعاوى لا برهان عليها.
__________________
وأما سهم ذوى
القربى فأصحّها أنهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وسائر الأقسام صحيحة في الأقوال
والتوجيه.
وقد روى عن ابن
القاسم ، وأشهب ، وعبد الملك ، عن مالك ـ أنّ الفيء ، والخمس يجعلان في بيت المال
، ويعطى الإمام قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما.
وروى ابن القاسم ،
عن مالك ـ أن الفيء والخمس واحد. وروى داود بن سعيد عن مالك عن عمه ، عن عمر بن
عبد العزيز أنّ القرابة لا يعطون منه إلا بالفقر ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
قاله مالك : وبه أقول. وقد قال أبو حنيفة : لا يعطى القرابة إلا أن يكونوا فقراء ،
فزاد الفقر على النص ، والزيادة عنده على النص نسخ ، ولا يجوز نسخ القرآن إلا
بقرآن مثله أو بخبر متواتر.
فأما مالك فاحتجّ
بأنّ ذلك جعل لهم عوضا عن الصدقة.
وقد قال عمر بن
عبد العزيز قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ، يعنى في سبيل الله. وهذا هو الصحيح كله.
والدليل عليه ما
روى في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريّة قبل نجد ، فأصابوا
في سهمانهم اثنى عشر بعيرا ، ونفّلوا بعيرا بعيرا.
وثبت عنه عليه
السّلام أنه قال في أسارى بدر : لو
كان المطعم بن عدىّ حيّا وكلمني في هؤلاء الثّنى لتركتهم له.
وثبت عنه صلى الله
عليه وسلم أنه ردّ سبى هوازن
وفيه الخمس.
وثبت في الصحيح عن
عبد الله بن مسعود قال : آثر
النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين أناسا في الغنيمة ، فأعطى الأقرع بن حابس مائة
من الإبل ، وأعطى عيينة مائة من الإبل ، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة ، فقال رجل : والله إن هذه القسمة ما عدل
فيها ، أو ما أريد بها وجه الله. فقلت : والله لأخبرنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم.
فأخبرته ، فقال :
يرحم الله أخى موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر.
__________________
وفي الصحيح : إنما أنا قاسم ، بعثت أن أقسم بينكم
فالله حاكم ، والنبىّ قاسم ، والحقّ للخلق.
وصحّ عن علىّ رضى
الله عنه أنه قال : كان
لي شارف من نصيبي يوم بدر ، وأعطانى رسول الله شارفا من الخمس.
وروى مسلم وغيره ،
عن عبد المطلب بن ربيعة قال :
اجتمع ربيعة بن
الحارث ، والعباس ابن عبد المطلب ، فقالا : والله لو بعثنا هذين فقالا لي ، وللفضل
بن عباس : اذهبا إلى رسول الله فكلّماه يؤمنكما على هذه الصدقة ، فأدّيا ما يؤدّى
الناس ، وأصيبا ممّا يصيب الناس ، فبينما هما في ذلك إذ دخل علىّ بن أبى طالب ،
فوقف عليهما ، فذكرا ذلك له ، فقال علىّ : لا تفعلا ، فو الله ما هو بفاعل.
فابتدأه ربيعة بن الحارث فقال : والله ما هذا إلا نفاسة منك علينا ، فو الله لقد
نلت صهر رسول الله فما نفسناه عليك. فقال علىّ : [أنا] أبو حسن القوم أرسلوهما ، فانطلقا ، واضطجع علىّ ، فلما
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سبقناه إلى الحجرة ، فقمنا عندها حتى جاء
، فأخذ بآذاننا ، ثم قال : أخرجا ما تصرّران ؛ ثم دخل ، ودخلنا عليه ، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش ـ قال
: فتزايلنا الكلام ، ثم تكلم أحدنا ، فقال : يا رسول الله ؛ أنت أبرّ الناس ، وأوصل
الناس ، وقد بلغنا النكاح ، فجئناك لتؤمّرنا على بعض هذه الصدقات ، فنؤدّى إليك ما
يؤدّى الناس ، ونصيب كما يصيبون.
قال
: فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلّمه. قال : وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب
ألّا تكلّماه.
ثم
قال : إنّ الصدقة لا تحلّ لآل محمد ؛ إنما هي أوساخ الناس ، ادعوا لي محميّة ـ وكان
على الخمس ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب. قال : فجاءاه. فقال لمحمية : أنكح هذا
الغلام ابنتك للفضل بن عباس [ـ يعنى لي ،] . فأنكحه .
وقال
لنوفل بن الحارث : أنكح هذا الغلام بنتك ـ يعنى لي ، فأنكحنى. وقال لمحمية: أصدق
عنهما من مال الخمس كذا وكذا. وفي رواية أنّه قال لهما : إن
الصدقة أوساخ الناس ، ولكن انظروا إذا أخذت بحلقة الجنة ، هل أوثر عليكم أحدا؟
__________________
وقد قال أصحاب
الشافعى : خمس الخمس للرسول والأربعة أخماس من الخمس للأربعة أصناف المسمّين معه ،
وله سهم كسائر سهام الغانمين إذا حضر الغنيمة وله سهم الصّفى يصطفى سيفا أو خادما أو دابة.
فأما سهم القتال
فبكونه أشرف المقاتلين ، وأما سهم الصفىّ فمنصوص له في السير ، منه ذو الفقار ،
وصفية ، وغير ذلك.
وأما خمس الخمس
فبحقّ التقسيم في الآية.
قال الإمام الفاضل
أبو بكر بن العربي رضى الله عنه : قد بينّا الردّ عليه ، وأوضحنا أنّ الله
إنما ذكر نفسه تشريفا لهذا المكتسب ، وأما رسوله فقد قال : إنما أنا قاسم ، والله
المعطى. وقال : مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم ، وقد أعطى جميعه وبعضه ، وأعطى منه للمؤلّفة قلوبهم ،
وليسوا ممن ذكر الله في التقسيم ، وردّه على المجاهدين بأعيانهم تارة أخرى ؛ فدلّ
على أن ذكر هذه الأقسام بيان مصرف ومحل ، لا بيان استحقاق وملك ؛ وهذا ما لا جواب
عنه لمنصف.
وأما الصفي فحقّ
في حياته ، وقد انقطع بعد موته إلّا عند أبى ثور ؛ فإنه رآه باقيا للإمام ، فجعله مجعل سهم النبي ، وهذا ضعيف ؛ والحكمة فيه أن الجاهلية
كانوا يرون للرئيس في الغنيمة ما قال الشاعر :
لك المرباع منها
والصّفايا
|
|
وحكمك والنّشيطة
والفضول
|
فكان يأخذ بغير
شرع ولا دين الربع من الغنيمة ؛ ويصطفى منها ، ثم يتحكّم بعد الصفىّ في أى شيء أراد ،
وكان ما شذّ منها له وما فضل من خرثىّ ومتاع ؛ فأحكم الله الدين بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) وأبقى سهم الصفىّ لرسوله ،
__________________
وأسقط حكم
الجاهلية ، ومن أحسن من الله حكما أو أوسع منه علما.
المسألة الخامسة ـ
ادّعى المقصرون من أصحاب الشافعى أنّ خمس الخمس كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم يصرفه في كفاية أولاده ونسائه ، ويدّخر من ذلك قوت سنته ، ويصرف الباقي
إلى الكراع والسلاح ؛ وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما ـ أنّ
الدليل قد تقدم على أن الخمس كلّه لرسوله بقوله صلى الله عليه وسلم: ما لي مما أفاء الله عليكم إلّا الخمس ،
والخمس مردود فيكم .
الثاني ـ ما ثبت
في الصحيح عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : قال : بينا أنا جالس عند عمر أتاه حاجبه برفأ ، فقال :
هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد بن أبى وقاص يستأذنون؟ قال
: نعم. فأذن لهم ، فدخلوا فسلّموا وجلسوا ، ثم جلس برفأ يسيرا ، ثم قال : هل لك في
علىّ وعباس؟ قال : نعم ، فأذن لهما فدخلا فسلّما وجلسا ، فقال العباس : يا أمير
المؤمنين ، أقض بيني وبين هذا ، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بنى
النّضير. فقال الرهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين ، اقض بينهما ، وأرح أحدهما
من الآخر.
فقال عمر : يا تيد
، كم أنشد كم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أنّ رسول الله
قال : لا نورث ما تركنا صدقة؟ يريد رسول الله نفسه.
قال الرهط : قد قال ذلك. فأقبل عمر على علىّ وعباس
فقال : أنشد كما بالله تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا :
نعم. قال عمر : فإنّى
أحدثكم عن هذا الأمر : إن الله قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره ، قال : (وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ
مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ... الآية.
فكانت هذه خالصة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما اختارها دونكم
__________________
ولا استأثر بها
عليكم ، قد أعطاكموها ، وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي ، فيجعله
مجعل مال الله.
فهذا حديث مالك بن
أوس قال فيه : إنّ بنى النضير كانت لرسول الله ينفق منها على أهله نفقة سنتهم.
وفي حديث عائشة في
الصحيح :
ترك رسول الله صلى
الله عليه وسلم خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ؛ فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى
علىّ وعباس. وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، كانت لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرها إلى من ولى الأمر بعده.
فقد ثبت أن خيبر
وفدك وبنى النضير كانت لقوت رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وعياله سنة ،
ولحقوقه ونوائبه التي تعروه ، لا خمس الخمس الذي ادّعاه أصحاب الشافعى. وهذا نصّ
لا غبار عليه ولا كلام لأحد فيه.
المسألة السادسة ـ
قال تعالى في هذه الآية : (لِذِي الْقُرْبى) ؛ فنظر قوم إلى أنها قربى قريش ، لقوله في هذه الآية
الأخرى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). قال صلى الله عليه وسلم : إلا
أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم.
ولما
نزلت : (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ورهطك منهم المخلصين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاجتمعوا فعمّ وحصّ. وقال : يا بنى كعب بن لؤىّ ؛ أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بنى
مرّة بن كعب ؛ أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بنى عبد شمس ؛ أنقذوا أنفسكم من النار
، يا بنى هاشم ؛ أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بنى عبد المطلب ؛ أنقذوا أنفسكم من
النار ، يا فاطم ؛ أنقذى نفسك من النار ؛ فإنى لا أملك لك من الله شيئا.
فهذه قراباته التي
دعا على العموم ، والخصوص حين دعى إلى أن يدعوهم ، لكن ثبت في الصحيح أن عثمان قال له : يا رسول الله ؛ أعطيت
بنى هاشم وبنى المطلب وتركتنا ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة ؛ فقال : إنّ بنى
عبد المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام.
__________________
أما قوله : وإنما
نحن وهم منك بمنزلة واحدة فلأن هاشما والمطلب وعبد شمس بنو عبد مناف.
وقوله صلى الله
عليه وسلم : إنّ
بنى عبد المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إشارة إلى أن الألفة في الجاهلية كانت من بنى هاشم وبنى
المطلب في الشّعب ، وخرجت عنهم بنو عبد شمس إلى المباينة ، فاتصلت القرابة الجاهلية بالمودّة ، فانتظما. وهذا يعضد
أن بيان الله للأصناف بيان للمصرف وليس بيانا للمستحق.
المسألة السابعة ـ
فأما الأربعة الأخماس فهي ملك للغانمين من غير خلاف بين الأمّة ، بيد أنّ الإمام
إن رأى أن يمنّ على الأسرى بالإطلاق فعل ، وتبطل حقوق الغانمين فيهم لقوله صلى
الله عليه وسلم : لو
كان المطعم بن عدى حيّا وكلمني في هؤلاء [الثّنى] لتركتهم له ، وله أن ينفّل جميعهم ، ويبطل حقّ الغانمين
بالقتال من غير خلاف ؛ وذلك بحكم ما يرى أنه نظر للمسلمين وأصلح لهم. وقد بينا ذلك
في مسائل الخلاف.
المسألة الثامنة ـ
أطلق الله القول في الأربعة الأخماس للغانمين تضمينا ، وبيّنه النبىّ صلى الله عليه
وسلم ، ففاضل بين الفارس والراجل. واختلف الناس في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول ـ للفارس
سهمان ، وللراجل سهم ؛ قاله أبو حنيفة.
الثاني ـ للفرس
سهمان ، وللفارس سهم.
الثالث ـ يجتهد في
ذلك الإمام ، فينفذ ما رأى منه. وقد رويت الروايتان عن النبىّ صلى الله عليه وسلم
في حديثين.
والصحيح أن يعطى
الفارس سهمين ، ويعطى للراجل سهم واحد ، وذلك لكثرة العناء ، وعظم المنفعة ، فجعل
الله التقدير في الغنيمة بقدر العناء في أخذها حكمة منه سبحانه فيها.
المسألة التاسعة ـ
ولا يفاضل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد ؛ وبه قال الشافعى.
وقال أبو حنيفة :
يسهم لأكثر من فرس واحد ؛ لأنه أكثر غناء ، وأعظم منفعة ، وهذا فاسد لوجهين :
__________________
أحدهما ـ أنّ
الرواية لم ترد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم بأن يسهم لأكثر من فرس واحد.
الثاني ـ أنّ
المفاضلة في أصل الغناء والمنفعة قد روعيت ؛ فأما زيادتها فزيادة تفاصيلها ، فليس
لها أصل في الشريعة يرجع إليه ، ولا ينضبط ذلك فيها ؛ لأنّ القتال لا يكون إلا على
فرس واحد ، فالزيادة عليه لا تؤثّر في الحال ، وإنما يظهر تأثيرها في المال في بعض
الأحوال ؛ فلا حظ في الاعتبار لذلك.
المسألة العاشرة ـ
لا حقّ في الغنائم للحشوة كالأجراء والصناع الذين يصحبون الجيوش للمعاش ؛ لأنهم لم
يقصدوا قتالا ، ولا خرجوا مجاهدين.
وقيل : يسهم لهم ؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الغنيمة
لمن شهد الوقعة. وهذا منه صلى الله
عليه وسلم إنما جاء لبيان خروج من لم يحضر القتال عن الاستهام ، وأنها لمن باشره
وخرج إليه.
وقد بيّن الله
سبحانه أحوال المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين ، وجعلهم فرقتين متميزتين لكل
واحدة حالها وحكمها ، فقال : (عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ
فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ). إلا أن هؤلاء إذا قاتلوا لم يضرهم كونهم على معاشهم ؛
لأنّ سبب الاستحقاق قد وجد منهم.
وتفصيل المذهب أنّ
من قاتل أسهم له ، إلا أن يكون أجيرا للخدمة ، فقال ابن القصار : لا سهم له حينئذ
، وإن قاتل. والأول أصح.
المسألة الحادية
عشرة ـ العبد لا سهم له لأنه ليس ممن خوطب بالقتال ، لاستغراق بدنه بحقوق السيد.
فأما الصبىّ فلا سهم له أيضا إلا أن يكون مراهقا للبلوغ مطيقا للقتال فيسهم له
عندنا.
وقال الشافعى وأبو
حنيفة : لا يسهم له ؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف ، فلا يكون من
__________________
أهل الجهاد ، فلا
يكون من أهل القتال. وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال : عرضت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعة عشرة سنة فلم يجزنى ،
وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازنى. فقال جماعة منهم الشافعىّ : إنما ذلك حدّ البلوغ. وقاله بعض
أصحابنا ـ منهم ابن وهب ، وابن حبيب.
والصحيح أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم نظر في ذلك إلى إطاقته للقتال ، فأما البلوغ فلا أثر له
فيه ، وقد أمر في بنى قريظة أن يقتل منهم من أنبت ، ويخلّى من لم ينبت ؛ وهذه مراعاة
لإطاقة القتال أيضا لا للبلوغ على ما بيناه في مسائل الخلاف.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) :
هذا خطاب للمسلمين
من غير خلاف لا مدخل فيه للكفار ولا للنساء ، وإنما خوطب به من قاتل الكفار وهم المسلمون ، وخوطب به من يقاتل
من المسلمين دون من لا يقاتل.
فأما المرأة فلا
سهم لها فيه وإن قاتلت إلا عند ابن حبيب ؛ وهذا ضعيف لما ثبت في الصحيح : إنّ
النساء كن يحذين من الغنيمة ولا يسهم لهنّ ؛ فإن القتال لم يفرض عليهن ،
والسهم لم يقض به لهن.
وأما العبيد وأهل
الذمة فإذا خرجوا لصوصا ، وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس ؛ لأنه لم يدخل
في الخطاب أحد منهم.
وقال سحنون : لا
يخمس ما ينوب العبد. وقال ابن القاسم : يخمس ؛ لأنه يجوز أن يأذن له سيّده في
القتال ويقاتل عن الدين بخلاف الكافر. فأما إذا كانوا في جملة الجيش ففيه أربعة
أقوال :
الأول ـ أنه لا
يسهم لعبد ولا للكافر يكون في الجيش ؛ قاله مالك ، وابن القاسم.
زاد ابن حبيب ـ وهو
القول الثاني : ولا نصيب لهم.
__________________
الثالث ـ قال
سحنون : إن قدر المسلمون على الغنيمة دونهم لم يسهم لهم ، وإن لم يقدروا على الغنيمة إلا بأهل الذمة أسهم لهم ، وكذلك العبيد مع
الأحرار.
الرابع ـ قال أشهب
في كتاب محمد : إذا خرج العبد والذمىّ من الجيش وغنم فالغنيمة للجيش دونهم.
المسألة الثالثة
عشرة ـ إذا ثبت أنّ الغنيمة لمن حضر ، فأما من غاب فلا شيء له.
والمغيب على ثلاثة
أوجه : اما بمرض ، أو بضلال ، أو بأسر.
فأما المريض فلا
شيء له إلا أن يكون له رأى ، وقال المتأخرون من علمائنا : إن مرض بعد القتال أسهم
له ، وإن مرض بعد الإرادة وقبل القتال ففيه قولان. والأصحّ وجوب ذلك له.
واختلف في الضالّ
على قولين ؛ وقال أشهب : يسهم للأسير ، وإن كان في الحديد.
والصحيح أن لا سهم
له ؛ لأنه ملك يستحقّ بالقتال ، فمن غاب خاب ، ومن حضر مريضا كمن لم يحضر.
وأما الغائب
المطلق فلم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قط لغائب إلا يوم خيبر ؛ قسم لأهل
الحديبية من حضر منهم ومن غاب ، لقوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) ، وقسم يوم بدر لعثمان لبقائه على ابنته ، وقسم لسعيد بن
زيد وطلحة وكانا غائبين. فأما أهل الحديبية فكان ميعادا من الله اختصّ بأولئك
النّفر فلا يشاركهم فيه غيرهم.
وأما عثمان وسعيد
وطلحة فيحتمل أن يكون أسهم لهم من الخمس ؛ لأن الأمة أجمعت على أنه من بقي لعذر
فلا شيء له ، بيد أنّ محمد بن المواز قال : إذا أرسل الإمام أحدا في مصلحة الجيش
فإنه يشرك من غنم بسهمه ؛ قاله ابن وهب ، وابن نافع عن مالك. وقيل عنه أيضا : لا
شيء له ، وهذا أحسن ؛ فإن الإمام يرضخ له ، ولا يعطى من الغنيمة لعدم السبب الذي يستحقّ به عنده ،
والله أعلم.
هذا لباب ما في
الكتاب الكبير ، فمن تعذّر عليه شيء فلينظره هنالك إن شاء الله.
__________________
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) :
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (إِذا لَقِيتُمْ
فِئَةً فَاثْبُتُوا) :
ظاهر في اللقاء ،
ظاهر في الأمر بالثبات ، مجمل في الفئتين التي تلقى منا والتي تكون من مخالفينا ،
بيّن هذا الإجمال الآية التي بعدها في تعديد المقاتلين ، وقد أمر الله هاهنا
بالثبات عند قتالهم ، كما نهى في الآية قبلها عن الفرار عنهم ؛ فالتقى الأمر
والنهى على شفا من الحكم بالوقوف للعدوّ والتجلّد له.
وثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم أن
رجلا قال للبراء : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عمارة؟ قال : لا
، والله ما ولّى رسول الله ولكن ولّى سرعان [من] الناس ، فلقيتهم هوازن بالنبل ، ورسول الله على بغلته ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد
المطلب آخذ بلجامها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنا النبىّ لا كذب.
أنا ابن عبد المطلب.
قال ابن عمر : لقد
رأيتنا يوم حنين ، وإنّ الفئتين لمولّيتان ، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
مائة رجل. وكلا الحديثين صحيح.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ) :
فيه ثلاث احتمالات
:
الأول ـ اذكروا
الله عند جزع قلوبكم ؛ فإن ذكره يثبّت.
الثاني ـ اثبتوا
بقلوبكم واذكروه بألسنتكم ؛ فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ، ويضطرب اللسان ؛ فأمر بذكر الله حتى يثبت
القلب على اليقين ، ويثبت اللسان على الذكر.
الثالث ـ اذكروا
ما عندكم من وعد الله [لكم] في ابتياعه أنفسكم منكم ومثامنته لكم.
__________________
وكلّها مراد ،
وأقواها أوسطها ؛ فإن ذلك إنما يكون عن قوة المعرفة ، ونفاذ القريحة ، واتّقاد
البصيرة ، وهي الشجاعة المحمودة في الناس ، ولم يكن فيها أحد أقوى من الصدّيق رضى
الله عنه ، فإنه كان أشجع الخليقة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمضاهم
عزيمة ، وأنفذهم قريحة ، وأنورهم بصيرة ، وأصدقهم فراسة ، وأصحهم رأيا ، وأثبتهم [جأشا]
، وأصفاهم إيمانا ، وأشرحهم صدرا ، وأسلمهم قلبا.
والدليل عليه ظهور
ذلك المقام في مقامات ستة :
المقام الأول ـ أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم تكن مصيبة أعظم منها ، ولا تكون أبدا ، عنها
تفرّعت مصائبنا ، ومن أجلها فسدت أحوالنا ، فاختلفت الصحابة ؛ فأما علىّ فاستخفى.
وأما عثمان فبهت. وأما عمر فاختلط ، وقال : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإنما واعده الله كما واعد موسى ، وليرجعنّ رسول الله فليقطعن أيدى أناس وأرجلهم ،
وكان أبو بكر غائبا بمنزله بالسّنح ، فجاء فدخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ،
وهو ميّت مسجّى بثوبه ، فكشف عن وجهه ، وقال : بأبى أنت وأمى ، طبت حيا وميتا! أما
الموتة التي كتبت عليك فقد متّها .
وخرج فصعد المنبر
؛ فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان
يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت ، ثم قرأ : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).
المقام الثاني ـ لما
توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الناس أين يدفن ؛ فقال القوم : يدفن
بمكة. وقال آخرون : ببيت المقدس. وقال آخرون : بالمدينة. فقال أبو بكر : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما
دفن قطّ نبىّ إلا حيث يموت.
المقام الثالث ـ لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرسلت فاطمة إلى أبى بكر الصديق تقول له : لو متّ ألم تكن ابنتك ترثك؟ قال : نعم.
قالت له : فأعطنى ميراثي من رسول الله.
__________________
فقال
[أبو بكر] : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ، ما
تركناه صدقة.
فتذكّر ذلك جميع
الصحابة ، وعلمه عمر وعثمان وعبد الرحمن وطلحة وسعد وسعيد ، وأقرّ به على والعباس.
المقام الرابع ـ لما
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ العرب ، وانقاض الإسلام ، وتزلزلت الأفئدة ، وماج الناس ؛ فارتاع الصحابة
؛ فقال عمر وغيره لأبى بكر : خذ منهم الصلاة ، ودع الزكاة حتى يتمكن الدين ، ويسكن
جأش المسلمين. فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، والله
لو منعونى عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه .
المقام الخامس ـ قالت
الصحابة له : يا خليفة رسول الله ؛ أبق جيش أسامة ؛ فإن من حولك قد اختلف عليه ،
فإن أرسلت الجيش إلى الشام لم تأمن على نفسك ولا على من معك بالمدينة. فقال :
والله لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة ما رددت جيشا أنفذه رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فقالوا له : فمع من تقاتلهم؟ قال : وحدي حتى تنفرد سالفتي .
المقام السادس ـ وهو
ضنك الحال ومأزق الاختلال ؛ وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفى اضطرب
الأمر ، وماج الناس ، ومرج قولهم ، وتشوّفوا إلى رأس يرجع إليه تدبيرهم ، واجتمعت
الأنصار في سقيفة بنى ساعدة ، ولهم الهجرة ، وفيهم الدّوحة ، والمهاجرون عليهم نزل
، وانتدب الشيطان ليزيغ قلوب فريق [منهم] ، فسوّل للأنصار أن يعقدوا لرجل منهم الأمر ؛ فجاء
المهاجرون. فاجتمعوا إلى أبى بكر ، وقالوا : نرسل إليهم. قال أبو بكر : لا ، ألا
نأتيهم في موضعهم! فنوزع في ذلك ، فصرم وتقدم واتّبعته المهاجرون حتى جاء الأنصار
في مكانهم ، وتقاولوا! فقالت الأنصار في كلامها : منا أمير ومنكم أمير ، فتصدّر
أبو بكر بحقه ، وتكلم على مقتضى الدين ووفقه ، وقال : يا معشر الأنصار ؛ قد علمتم
أنّا رهط رسول الله وعترته الأدنون ، وأصل العرب ، وقطب الناس. وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم : الأئمة
من قريش إلى أن تقوم الساعة.
__________________
وقد سمّانا الله
في كتابه الصادقين حين قال : (لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ).
وسمّاكم المفلحين
، فقال : (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وأمركم الله أن
تكونوا معنا حيث كنّا ، فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
وقال لكم [النبي] :
سترون بعدي أثرة ،
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.
وقال لنا في آخر
خطبة خطبها : أوصيكم
بالأنصار خيرا أن تقبلوا من محسنهم ، وتتجاوزوا عن مسيئهم ؛ ولو كان لكم في الأمر
شيء ما رأيتم أثرة ولا وصى بكم.
فلما سمعوا ذلك من
علمه ، ووعوه من قوله تذكّروا الحق ؛ فانقادوا له ، والتزموا حكمه ؛ فبادر عمر إلى
أبى عبيدة ، وقال له : يا أبا عبيدة ؛ امدد يدك أبايعك. فقال أبو عبيدة : ما سمعت
منك فهّة في الإسلام قبلها ، أتبايعني وأبو بكر فيكم؟ فقال له عمر : امدد يدك
أبايعك يا أبا بكر. فمدّ أبو بكر يده وبايعه ، وبايعه الناس ، وصار الحقّ في نصابه
، ودخل الدين من بابه.
ولو هدوا لهذه
الفرقة الأدبية التاريخية لما كانوا عن سبيل الحق جائرين وبحقيقته جاهلين ، ولكن
الله ابتلاهم بقراءة كتب من الأدب والتاريخ قد تولّاها جهال وضلّال ، فقالوا : فعل
علىّ. وقال علىّ ،
ولا يقع علىّ من أبى بكر إلا نقطة من بحر ، أو لقطة في قفر ، لقد استقام الدين
وعلىّ عنه في حجر ، وقد كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد رجاله ،
وفارسا من فرسانه ، ووليا من أوليائه ، وقريبا من أقربائه ، فلما استأثر الله
برسوله ، وانفرد بنفسه لم يقم بالأمر ولا قعد ، وذلك أمر قضاه الله بالحق ، وقدّره
بالصدق ، وأنفذه بالحكمة والحكم ، وما وجد المسلمون أحدا ثبت على الدين ، وقرر
ولاته في الأقطار ، وأنفذ الجيوش
__________________
إلى
الأمصار ، وقاتل على الحق ، وقدم عليهم غير خير الخلق الصدّيق ؛ فمهد الدين ،
واستتبّ به أمر المسلمين ، والحمد لله رب العالمين.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) :
وهذه الوصية هي
العمدة التي يكون معها النصر ، ويظهر بها الحق ، ويسلم معها القلب ، وتستمرّ معها
على الاستقامة الجوارح ؛ وذلك بأن يكون عمل المرء كله بالطاعة في امتثال الأمر
واجتناب النهى ، فإنما يقاتل المسلمون بأعمالهم لا بأعدادهم ، وباعتقادهم لا
بإمدادهم ؛ فلقد فتح الله الفتوح على قوم كانت حلية سيوفهم إلا الغلابي . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إنما تنصرون بضعفائكم.
إشارة إلى أنّ الطاقة في الطاعة ، والمنة في الهداية.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا) :
وهذا أصل عظيم في
المعقول والمشروع ؛ وذلك أنّ الله خلق القوة ليظهر بها الأفعال ، وقدرته سبحانه
واحدة تعمّ المقدورات ، وقدر الخلق حادثة متعددة تتعلق بالمقدورات على اختلاف
أنواعها ، [وأجرى الله] العادة بأن القدر إذا كثرت على رأى قوم أو بقيت على رأى
آخرين ـ والأوّل أصحّ حسبما بيناه في الأصول ـ ظهر المقدور بالنسبة إلى القدرة إن
كان كثيرا فكثيرا أو قليلا فقليلا ، وكذلك تظهر المفعولات بحسب ما يلقى الله في
القلوب من الطمأنينة ، فإذا ائتلفت القلوب على الأمر استتبّ وجوده ، واستمر مريره
وإذا تخلخل القلب قصر عن النظر ، وضعفت الحواس عن القبول ، والائتلاف طمأنينة
للنفس ، وقوة للقلب ، والاختلاف إضعاف له ؛ فتضعف الحواس ، فتقعد عن المطلوب ،
فيفوت الغرض ؛ وذلك قوله : (وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ، وكنى بالريح عن اطراد الأمر ومضائه بحكم استمرار القوة
فيه والعزيمة عليه ، وأتبع ذلك بالأمر بالصبر الذي يبلغ العبد به إلى كل أمر متعذر
بوعده الصادق في أنه مع الصابرين.
الآية الرابعة
عشرة ـ قوله : (فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ).
فيها مسألتان :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
: (فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ) :
يعنى تصادفهم
وتلقاهم ، يقال : ثقفته أثقفه ثقفا إذا وجدته ، وفلان ثقف لقف ؛ أى سريع الوجود لما يحاول من القول. وامرأة ثقاف. هكذا
قال أهل اللغة ، وهو عندي بمعنى الحبس ، ومنه رجل ثقف ؛ أى يقيّد الأمور بمعرفته.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (فَشَرِّدْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ) :
أى افعل بهم فعلا
من العقوبة يتفرّق به من وراءهم ، ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه ومألفه
ومرعاه ، وهذا أحد الأقسام الخمسة التي للإمام في الأسرى : من المن والفداء
والاسترقاق والجزية والقتل ، وقد مهّدناها في مسائل الخلاف ، ويأتى هاهنا وفي سورة
محمد عليه السّلام ، وهذا يعتضد بالآية التاسعة عشرة : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى ...) على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْخائِنِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
نزلت في بنى قريظة
حين أبدت من التحزّب مع قريش ونقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية ـ
إن قيل : كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة ، والخوف ظنّ لا يقين معه ، فكيف يسقط
يقين العهد بظنّ الخيانة ـ فعنه جوابان :
أحدهما ـ أن الخوف
هاهنا بمعنى اليقين ، كما يأتى الرجاء بمعنى العلم ؛ كقوله : (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقاراً).
الثاني ـ إنه إذا
ظهرت آثار الخيانة ، وثبتت دلائلها وجب نبذ العهد ، لئلا بوقع التمادي عليه في
الهلكة ، وجاز إسقاط اليقين هاهنا بالظن للضرورة ، وإذا كان العهد قد وقع فهذا
__________________
الشرط عادة وإن لم
يصرح به لفظا ؛ إذ لا يمكن أكثر من هذا.
المسألة الثالثة ـ
(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلى سَواءٍ) ؛ أى على مهل ؛ قاله الوليد بن مسلم. وقيل : على عدل ، معناه بالتقدم
إليهم والإنذار لهم ، وهكذا يجب للإمام أن يفعل اليوم في كلا وجهى العقد أولا ،
والنبذ على السواء ثانيا.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ
يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ أمر
الله سبحانه وتعالى بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكّد في تقدمة التقوى ؛ فإن الله
تعالى لو شاء لهزمهم بالكلام ، والتّفل في الوجوه ، وحفنة من تراب ، كما فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه أراد أن يبلى بعض الناس ببعض ، بعلمه السابق
وقضائه النافذ ؛ فأمر بإعداد القوى والآلة في فنون الحرب التي تكون لنا عدّة ،
وعليهم قوة ، ووعد على الصبر والتقوى بأمداد الملائكة العليا.
المسألة الثانية ـ
روى الطبري وغيره ، عن عقبة بن عامر ؛ قال : قرأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) ؛ فقال : ألا
إنّ القوة الرّمى ، ألا إنّ القوة الرمي ، ألا إن القوة الرّمى ـ ثلاثا.
وروى البخاري عن
سلمة بن الأكوع ، قال : مرّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالسهام ، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : ارموا بنى إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا ، وأنا مع بنى فلان. قال :
فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ، فقال رسول الله: ما لكم لا ترمون؟ قالوا : وكيف نرمي
وأنت معهم! فقال رسول الله : ارموا وأنا معكم كلكم.
زاد الحاكم في
رواية : فلقد رموا عامة يومهم ذلك ، ثم تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا.
__________________
وروى البخاري عن
علىّ قال : ما رأيت رسول الله
يفدى رجلا بعد سعد ، سمعته يقول : ارم فداك أبى وأمى.
وروى الترمذي ،
وأبو داود ، والنسائي ، عن عقبة بن عامر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم : إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة : صانعه يحتسب
في صنعته الخير ، والرامي به ، ومنبله. وفي رواية : والممدّ
به ، فارموا واركبوا ، ولأنّ ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا ، ليس من اللهو ثلاث :
تأديب الرجل فرسه ، وملاعبته أهله ، ورميه بقوسه ونبله. ومن ترك الرمي بعد ما علمه
رغبة عنه فإنها نعمة كفرها. وقد شاهدت القتال مرارا فلم أر في الآلة أنجع من السهم
، ولا أسرع منفعة منه.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ) :
الرباط : هو حبس
النفس في سبيل الله حراسة للثغور أو ملازمة للأعداء ، وقد تقدم بيان شيء منه في سورة آل عمران.
وقد روى البخاري
وغيره ، عن سهل بن سعد ـ أنه قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها
، وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله
، والغدوة خير من الدنيا وما فيها.
وروى الترمذي عن
فضالة بن عبيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كل ميت يختم على عمله إلا الذي يموت
مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر.
المسألة الرابعة ـ
وأمّا رباط الخيل فهو فضل عظيم ومنزلة شريفة. وروى الأئمة عن أبى هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال :
الخيل ثلاثة ؛
لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر. فأما الذي هي عليه وزر فرجل ربطها رياء
وفخرا ونواء لأهل الإسلام ، فهي عليه وزر ، وأما الذي هي عليه ستر فرجل
ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حقّ الله في ظهورها فهي عليه ستر ، وأما الذي هي له
أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أكلت
__________________
من
ذلك المرج أو الروضة من شيء إلّا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات ، وكتب له أرواثها
وأبوالها حسنات ، ولا يقطع طوالها فتستنّ شرفا أو شرفين إلا كتب الله له ذلك حسنات ، ولا مرّ بها صاحبها على نهر
فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلّا كتب الله له عدد ما شربت حسنات.
وروى البخاري
ومسلم عن جابر بن
عبد الله ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوى ناصية فرس بإصبعيه ؛ وهو يقول : الخير
معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة.
وثبت عن أنس أنه
قال : لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. خرجه
النسائي.
المسألة الخامسة ـ
المستحبّ من رباط الخيل الإناث قبل الذكور ؛ قاله عكرمة وجماعة ، وهذا صحيح ، فإنّ
الأنثى بطنها كنز ، وظهرها عزّ. وفرس جبريل أنثى.
المسألة السادسة ـ
يستحبّ من الخيل ما روى أبو وهب الجشمي وكانت له صحبة ، قال : رسول الله صلى الله
عليه وسلم : عليكم
بكل كميت أغرّ محجّل ، أو أدهم أغرّ محجل ، أو أشقر أغرّ محجّل.
خرجه أبو داود
والنسائي.
وروى الترمذي ، عن
أبى قتادة ـ أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال :
خير الخيل الأدهم
الأقرح المحجّل الأرثم ، ثم الأقرح المحجّل طلق اليمين ، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الهيئة .
المسألة السابعة ـ
روى مسلم والنسائي أنه يكره الشّكال من الخيل.
__________________
وثبت عن النبىّ
صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عمر أنه قال : إنما الشؤم في المرأة ، والفرس ،
والدار.
وقد بينا تحقيق
ذلك في شرح الحديث.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ، يعنى تخيفون بذلك أعداء الله وأعداءكم من اليهود وقريش ،
وكفار العرب .
(وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ) : يعنى فارس والروم.
وقد روى عن النبىّ
صلى الله عليه وسلم أنه قال : أما
فارس فنطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعدها. وأما الروم ذوات القرون فكلما هلك قرن
خلفه آخر إلى يوم القيامة.
المسألة التاسعة ـ
قوله : (وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ) عامّ في الخيل كلها وأجودها وأعظمها أجرا.
وقد قال ابن
القاسم وابن عبد الحكم عن مالك قال الله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) فأرى البراذين من الخيل إذا أجازها الوالي ، وكذلك قال
سعيد بن المسيّب.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا) (لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ السلم
ـ بفتح السين وكسرها وإسكان اللام ، وبفتح السين واللام ، وبزيادة الألف أيضا : هو
الصلح ، وقد يكون السلام بالألف واللام من التسليم ـ وقد تقدم.
المسألة الثانية ـ
في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها
منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) ونحوه.
الثاني ـ إن دعوك
إلى الصلح فأجبهم ؛ قاله ابن زيد والسّدّى.
الثالث ـ إن جنحوا
إلى الإسلام فاجنح لها ؛ قاله ابن إسحاق. قال مجاهد : وعنى به قريظة ، لأنّ الجزية
تقبل منهم ، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء.
__________________
المسألة الثالثة ـ
أما قول من قال إنها منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) ـ فدعوى ، فإن شروط النسخ معدومة فيها ، كما بيناه في
موضعه.
وأما من قال : إن
دعوك إلى الصلح فأجبهم فإن ذلك يختلف الجواب فيه ؛ وقد قال الله : (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
فإذا كان المسلمون
على عزّة ، وفي قوة ومنعة ، ومقانب عديدة ، وعدّة شديدة:
فلا صلح حتى
تطعن الخيل بالقنا
|
|
وتضرب بالبيض
الرقاق الجماجم
|
وإن كان للمسلمين
مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به ، أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون
به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه وقد صالح النبىّ صلى الله عليه
وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها ، فنقض صلحهم ، وقد وادع الضّمري ، وقد صالح أكيدر دومة ، وأهل نجران ، وقد هادن قريشا
لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده ، وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي
شرعناها سالكة ، وبالوجوه التي شرحناها عاملة.
المسألة الرابعة ـ
عقد الصلح ليس بلازم للمسلمين ، وإنما هو جائز باتفاقهم أجمعين ؛ إذ يجوز من غير
خلاف للإمام أن يبعث إليهم ، فيقول : نبذت إليكم عهدكم ، فخذوا منى حذركم ، وهذا
عندي إذا كانوا هم الذين طلبوه ؛ فإن طلبه المسلمون لمدة لم يجز تركه قبلها إلا
باتفاق.
المسألة الخامسة ـ
ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو ، والأصل في ذلك موادعة النبىّ صلى الله عليه
وسلم لعيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب ، على أن يعطيه نصف تمر المدينة ، فقال له
السّعدان : يا رسول الله ؛ إن كان هذا الأمر من قبل الله فامض له ،
وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة ، وإن كان هذا الرأى والمكيدة ،
فأعلمنا به.
__________________
فقال
النبىّ صلى الله عليه وسلم : إنما هو الرأى والمكيدة لأنى رأيت العرب قد رمتكم
بقوس واحدة فأردت أن أدفعها عنكم إلى يوم.
فقال
السعدان : إنا كنا كفّارا ، وما طمعوا منها بتمرة إلا بشراء أو بقرى ، فإذا أكرمنا
الله بك فلا نعطيهم إلا السيف ؛ وشقّا الصحيفة التي كانت كتبت.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ
خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (حَرِّضِ) ؛ أى أكّد الدعاء ، وواظب عليه ، يقال : حارض على الأمر ،
وواظب ـ بالظاء المعجمة ، وواصب بالصاد غير المعجمة ، وواكب ـ بالكاف : إذا أكد
فيه ولازمه.
المسألة الثانية ـ
القتال : هو الصدّ عن الشيء بما يؤدّى إلى القتل.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ ...) الآية.
قال قوم : كان هذا
يوم بدر ثم نسخ ، وهذا خطأ من قائله ؛ لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاثمائة ونيّفا
، وللكفار كانوا تسعمائة ونيّفا ؛ فكان للواحد ثلاثة. وأما هذه المقابلة وهي
الواحد بالعشرة فلم ينقل أنّ المسلمين صافّوا المشركين عليها قطّ ، ولكن الباري فرض ذلك عليهم أولا ،
وعلّله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه ، وهو الثواب. وهم لا يعلمون ما يقاتلون
عليه. ثم نسخ ذلك. قال ابن عباس : كان هذا ثم نسخ بعد ذلك بمدة طويلة وإن كانت إلى
جنبها.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) :
أما التخفيف فهو
حطّ الثقل.
__________________
وأما قوله : (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) فمعنى تعلّق العلم بالآن ، وإن كان الباري لم يزل عالما
ليس لعلمه أول ، ولكن وجهه أنّ الباري تعالى يعلم الشيء قبل أن يكون ، وهو عالم
الغيب ، وهو به عالم ، إذا كان بذلك العلم الأول فإنه عالم الشهادة وبعد الشيء ،
فيكون به عالما بذلك العلم بعد عدمه ، ويتعلق علمه الواحد الذي لا أوّل له
بالمعلومات على اختلافها وتغيّر أحوالها ، وعلمه لا يختلف ولا يتغيّر.
وقد ضربنا لذلك
مثالا يستروح إليه الناظر ؛ وهو أنّ الواحد منا يعلم اليوم أن الشمس تطلع غدا ، ثم
يراها طالعة ، ثم يراها غاربة ، ولكل واحدة من هذه الأحوال علم مجدّد لما يتعلق
بهذه الأحوال الثلاثة ، ولو قدرنا بقاء العلم الأول لكان واحدا يتعلق بها ، وعلم
الباري واجب الأولية ، واجب البقاء ، يستحيل عليه التغيّر ؛ فانتظمت المسألة ،
وتمكّنت بها ـ والحمد لله ـ المعرفة.
المسألة الخامسة ـ
فلما خفّف عنا أوجب على الرجل الثبات لرجلين ، وهكذا ما تزايدت النسبة الواحدة باثنين ، فإنه يتقدم إليهما ، ويتقدمان إليه ، وكل واحد
منهما يحذره على نفسه ، فيهجم على الواحد فيطعنه ، فإذا قتله بقي واحد بواحد ، وإن
اقتتلا فقد حصل دم واحد بواحد ، وبقي الزائد لغوا ، وهذا إنما يكون مع
الصبر ، والله مع الصابرين.
وقد روى ابن وهب
عن مالك في الرجل يلقى عشرة ـ قال : واسع له أن ينصرف إلى معسكره إن لم تكن له قوة
على قتالهم.
وهذا دليل على أنه
يجوز له أن يثبت معهم ، وهي :
المسألة السادسة ـ
وقد قال قوم : لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير ؛ لأن في ذلك
إلقاء اليد إلى التهلكة.
وقد بيّنا بطلان
ذلك في سورة البقرة. قال أشهب : قال مالك : قال الله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ،
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ؛ فكان كلّ رجل باثنين.
__________________
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
قال ابن عباس :
حتى يثخن في الأرض ، وذلك يوم بدر ، والمسلمون قليل ، فلما كثروا
قال الله : (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ، فخيّرهم الله تعالى وهكذا قال كثير من المفسرين بعده.
وعن عبد الله قال
: لما كان يوم بدر وجيء
بالأسرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو
بكر : يا رسول الله ؛ قومك وأهلك ، فاستبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم.
قال
عمر : يا رسول الله ؛ كذبوك وأخرجوك ، قدّمهم واضرب أعناقهم.
وقال
عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ؛ انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه
عليهم نارا. فقال له العباس : قطعت رحمك.
فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبى بكر.
وقال ناس : يأخذ بقول عمر. وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.
ثم
خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنّ الله ليليّن قلوب قوم حتى
تكون ألين من اللين ، ويشدّ قلوب قوم حتى تكون أشدّ من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا
بكر مثل إبراهيم إذ قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ
مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ومثل عيسى حين قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ...) الآية. ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال : (رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). ومثل موسى إذ قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ ...) الآية.
__________________
ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة فلا يفلتنّ رجل منهم إلّا
بفداء أو ضربة عنق.
فقال
عبد الله : يا رسول الله ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنى سمعته يذكر الإسلام. فسكت النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فما
رأيتنى في يوم أخوف أن تقع علىّ الحجارة من السماء منّى في ذلك اليوم حتى قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء.
رواه الترمذىّ
مختصرا عن أقوال أبى بكر وعمر وابن رواحة ، ورواه مسلم عن عمر ابن الخطاب ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ
لما أسروا الأسرى ـ لأبى بكر وعمر ما ترون؟ قال أبو بكر : يا نبي الله ، هم بنو
العمّ والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله
أن يهديهم للإسلام.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا بن الخطاب؟ قلت : لا والله يا رسول الله
، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم ، فتمكّن عليّا من
عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان ـ نسيب لعمر ـ فأضرب عنقه ؛ فإن هؤلاء أئمة
الكفر وصناديدها.
فهوى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت.
فلما
كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت :
يا رسول الله ؛ أخبرنى من أى شيء تبكى أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا
تباكيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكى للذي عرض علىّ أصحابك من أخذهم
الفداء ، لقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ـ شجرة قريبة من رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فأنزل الله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ـ إلى قوله : (فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) فأحلّ الله الغنيمة لهم ، وأنزل الله : ما كان النبىّ أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا ـ يعنى الفداء ، والله يريد
الآخرة ـ يعنى إعزاز الدين وأهله ، وإذلال الكفر وأهله.
__________________
المسألة الثانية ـ
روى عبيدة السلماني ، عن علىّ أنّ
جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فخيّره بين أن يقرب الأسارى
فيضرب أعناقهم ، أو يقبلوا منهم الفداء ، ويقتل منكم في العام المقبل بعدتهم. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : هذا جبريل يخبركم أن تقدّموا الأسارى فتضربوا أعناقهم ، أو تقبلوا
منهم الفداء ، ويستشهد منكم في العام المقبل بعدّتهم. فقالوا : يا رسول الله ؛ بل
نأخذ الفداء فنقوى على عدونا ، ويقتل منا في العام المقبل بعدّتهم ، ففعلوا.
المسألة الثالثة ـ
قال ابن وهب ، وابن القاسم ، عن مالك : كان ببدر أسارى مشركون ، فأنزل الله : ما
كان لنبىّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، وكانوا يومئذ مشركين ، فادوا
ورجعوا ، ولو كانوا مسلمين لأنابوا ولم يرجعوا ، وكان عدّة من قتل أربعة وأربعين رجلا ،
ومثلهم أسرى ، وكان الشهداء قليلا.
وقال أبو عمرو بن
العلاء : إنّ القتلى كانوا سبعين والأسرى كذلك. وكذلك قال ابن عباس ، وابن المسيب
، ويشهد له قوله : (أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها).
وأنشد أبو زيد
الأنصارى لكعب بن مالك :
فأقام بالعطن
المعطّن منهم
|
|
سبعون عتبة منهم
والأسود
|
وإنما قال مالك :
وكانوا مشركين ، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا ؛ لأن المفسّرين رووا أنّ
العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنى مسلم.
وفي رواية لهم : إن الأسرى قالوا للنبي صلى الله عليه
وسلم : آمنّا بك وبما جئت به ولننصحنّ لك على قومنا ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ...) الآية ، قال العباس : افتديت بأربعين أوقية ، وقد آتاني
الله أربعين عبدا ، وإنى لأرجو المغفرة.
وهذا كله ضعّفه
مالك ، واحتجّ على إبطاله بما ذكر من رجوعهم إلى موضعهم ، وزيادة عليه أنهم غزوه
يوم أحد.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قال بعضهم : يدل قوله : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ـ على
تكليف الجهاد لسائر الأنبياء.
قلنا : كان الجهاد
واجبا على أنبياء قبل محمد ، لكن لم يكن لهم أسرى ولا غنيمة.
ومعنى قوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى) ما كان لك يا محمد أن يكون لك أسرى حتى يغلظ قتلك في الأرض
، وتثبت هيبتك في النفوس.
الآية الموفية
عشرين ـ قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
روى أبو هريرة
وغيره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
غزا نبىّ من
الأنبياء ، فقال لأصحابه : لا يتبعني رجل بنى دارا ولم يسكنها ، أو تزوّج امرأة
ولم يبن بها ، أو له حاجة في الرجوع. قال : فلقى العدوّ عند غيبوبة الشمس ؛ فقال :
اللهم إنها مأمورة ، وإنى مأمور فاحبسها حتى تقضى بيني وبينهم ، فحبسها الله عليه
، فجمعوا الغنائم فلم تأكلها النار.
قال
: وكانوا إذا غنموا غنيمة بعث الله عليها نارا فأكلتها ، فقال لهم نبيهم : إنكم
غللتم فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فبايعوه فلزقت يد رجل منهم بيده ؛ فقال له : إن
أصحابك قد غلّوا فأتنى بهم فليبايعونى ، فلزقت يد رجلين [أو ثلاثة منهم بيده] ، فقال لهما : إنكما قد غللتما ، فقالا : أجل ، قد غللنا
صورة رأس بقرة من ذهب ، فجاءا بها ، فطرحت في الغنائم ، فبعث الله عليها النار
فأكلتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الله أطعمنا الغنائم رحمة رحمنا
بها ، وتخفيفا خفف عنا لما علم من ضعفنا.
قال الإمام رضى
الله عنه : قد بينا في غير موضع وجه هذه النعمة وفائدة ما فيها من حكمة ، وأنّ
الله جعل رزق نبيه محمد وأمته من أفضل وجوه الكسب ، وهي جهة القهر والاستعلاء.
__________________
وقد روى أبو هريرة
عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : لم
تحلّ الغنائم لقوم سود الرءوس ، من قبلكم كانت تنزل نار من السماء ، فلما كان يوم
بدر أسرع الناس في الغنائم ، فأنزل الله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ ..) إلى آخر الآيتين : (فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً).
المسألة الثانية ـ
اختلف الناس في كتاب الله السابق على ثلاثة أقوال :
الأول ـ سبق من
الله ألا يعذب قوما حتى يتقدم إليهم.
الثاني ـ سبق منه
ألّا يعذبهم ومحمد فيهم.
الثالث ـ سبق منه
إحلال الغنائم لهم ، ولكنهم استعجلوا قبل الإحلال ، وهذا كله ممكن صحيح ، لكن
أقواه ما سبق من إحلال الغنيمة ، وقد كانوا غنموا أول غنيمة في الإسلام حين أرسل
النبىّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه
ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد إلى نخلة ما بين مكة والطائف
فيرصد بها قريشا ، فمضى ومضى أصحابه معه ، حتى نزلوا بنخلة ، فمرّت عليهم عير
لقريش تحمل زيتا وأدما وتجارة من تجارة قريش ، فيها عمرو بن الحضرمىّ ؛
فقتل عمرو ، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى حتى قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وعزل عبد الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس
الغنيمة ، وقسّم سائرها بين أصحابه ؛ وذلك قبل أن يفرض الله لرسوله الخمس ، فأكلوا
الغنيمة ، ونزل بعد ذلك فرض الغنيمة ، كما كان فعله عبد الله بن جحش من الخمس
لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأربعة الأخماس للغانمين.
والذي ثبت من ذلك
أكلهم الغنيمة التي غنموا ، وإحلال ما أخذلهم ، والنبىّ صلى الله عليه وسلم ساكت
عن ذلك مجيز له ؛ فكان وحيا بسكوته وإمضائه.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ) في إحلال الغنيمة لعذّبتم بما اقتحمتم فيها مما ليس لكم
اقتحامه إلا بشرع ، فكان هذا دليلا على أنّ العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما مما
هو في علم الله حلال إنه لا عقوبة عليه كالصائم إذا قال : هذا يوم نوبى فأفطر
الآن. أو هذا يوم حيضى فأفطر ، ففعلا ذلك. وكأن النوب والحيض الموجبان للفطر ؛ ففي
مشهور المذهب فيه الكفارة ، وبه قال الشافعى.
__________________
وقال أبو حنيفة :
لا كفارة عليه ، وهي الرواية الأخرى.
ولنا في إسقاط
الكفارة عمدة ؛ فهو أن حرمة اليوم ساقطة عند الله ، فصادف الهتك محلّا لا حرمة له
في علم الله فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفّت إليه ، وهو يعتقد أنها ليست
بزوجه فإذا هي بزوجه.
وتعلّق من أوجب
الكفارة بأن طروء الإباحة لا ينتصب عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك ، كما لو وطئ
امرأة ثم نكحها ، وهذا لا يلزم ؛ لأن علم الله تعالى مع علمنا قد استوى في هذه
المسألة بالتحريم.
وفي المسألة التي
اختلفنا فيها اختلف علمنا وعلم الله ، فكان المعوّل على علم الله في إسقاط العقوبة
، كما قال : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ ...) الآية.
المسألة الرابعة ـ
قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ حين
نزلت هذه الآية : لو نزلت نار من السماء لأحرقتنا إلا عمر. وفي رواية : لو
نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد ابن معاذ ، لقوله : يا نبىّ الله ؛ كان الإثخان في القتل أحبّ إلىّ
من استبقاء الرجال. وفي رواية : لو
عذّبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك. وفي رواية : لقد
عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة.
المسألة الخامسة ـ
في هذا كلّه دليل على أن الإثخان في القتل واجب قبل كل شيء ، حتى إذا قوى المسلمون
جاز الفداء ؛ للقوة على العدّة لقتالهم أيضا ، فإنما يراعى الأنظر والأوكد ، والله
أعلم.
المسألة السادسة ـ
فإن قيل : تحقق لنا معصيتهم.
قلنا : فيها ثلاثة
أقوال :
الأول ـ إسراعهم
في الغنيمة قبل الإحلال.
الثاني ـ اختيارهم
الفداء قبل الإثخان في القتل.
الثالث ـ قوله لهم
: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) ؛ فأمروا بالقتل فاختاروا الفداء.
__________________
قلنا : أما القول
الثالث فضعيف ؛ لأنه يحتمل أن يكون نزل قبل أن يبرر. ويحتمل أن يكون نزل بعده ،
ولا يحتجّ بمحتمل.
وأما القول الأول
والثاني فمحتمل أن يكون أحدهما ، ويحتمل أن يكون مجموعهما ؛ والأظهر أنه اختيار
الفداء ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم فيه ؛ فمالوا إلى الفداء وكان الله
قد عاتبهم على رأفتهم بالكفار مع إغلاظهم عليهم بالقتل والإداية والإخراج ، وإلى
تحقيق المعصية إلى تأخيرهم القتل حتى نزل العفو.
فإن قيل ، وهي :
المسألة السابعة ـ
فقد اختاره النبىّ صلى الله عليه وسلم معهم ، فهل يكون ذلك ذنبا منه؟
قلنا : كذلك توهّم
بعض الناس ، فقال : إنه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه معصية غير معينة ،
وحاشا لله من هذا القول ، إنما كان من النبي صلى الله عليه وسلم توقّف وانتظار ،
ولم يكن القتل ليفوت ، مع أنهم كانوا قد قتلوا الصناديد ، وأثخنوا في الأرض ،
فانتظر النبىّ صلى الله عليه وسلم : هل ذلك كاف فيه أم لا؟ وهذا بيّن عند الإنصاف.
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ لما
أسر من أسارى المشركين روى أنه تكلّم قوم منهم بالإسلام ، ولم يمضوا
بذلك عزيمة ، ولا اعترفوا به اعترافا جازما. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من
المسلمين ، ولا يبعدوا من المشركين ، فنزلت الآية.
المسألة الثانية ـ
قال علماؤنا : إن تكلّم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ، ولم يمض به عزيمة لم
يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا إلّا ما كان من الوسوسة التي لا
يقدر المرء على دفعها ، فإنّ الله قد عفا عنها وأسقطها.
__________________
وقد بيّن الله
لرسوله الحقيقة ؛ فقال : (وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيانَتَكَ) ؛ أى إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك ، فأمكنك منهم ، وإن كان هذا
القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل ذلك منهم ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ويغفر لهم
ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم.
الآية الثانية
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
فيها ثماني مسائل
:
المسألة الأولى ـ قوله
: (الَّذِينَ آمَنُوا) :
هم الذين علموا
التوحيد ، وصدّقوا به ، وأمنوا أنفسهم من الوعيد فيه.
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَهاجَرُوا) :
هم الذين تركوا
أوطانهم وأهليهم وأموالهم إيثارا لله ورسوله في إعلاء دينه ، وإظهار كلمته ، ولزوم
طاعته ، وعموم دعوته.
المسألة الثالثة ـ
(جاهَدُوا) :
أى التزموا الجهد
؛ وهي المشقة في أنفسهم ، بتعريضها للإذاية والنكاية والقتل ، وبأموالهم بإهلاكها
فيما يرضى الله.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا) :
هم الأنصار الذين
تبوّءوا الدار والإيمان ، وانضوى إليهم النبىّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرون.
المسألة الخامسة ـ
(أُولئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) :
__________________
فيه قولان :
أحدهما ـ في
النصرة. الثاني ـ في الميراث.
قال ابن عباس
وغيره : جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوى الأرحام.
المسألة السادسة ـ
قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) :
قيل : من النصرة لبعد دارهم. وقيل : من الميراث لانقطاع
ولايتهم.
المسألة السابعة ـ
(وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) :
يريد إن دعوا من
أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم ، فأعينوهم ؛ فذلك عليكم فرض ، إلا على
قوم بينكم وبينهم عهد ، فلا تقاتلوهم عليهم ، [يريد] حتى يتمّ العهد أو ينبذ على سواء.
المسألة الثامنة ـ
أما قوله : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ؛ يعنى في النصرة أو في الميراث على الاختلاف المتقدم ،
فلا يبالى به أن يكون المراد أحدهما أو كلاهما ؛ لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم
قد بيّن حكم الميراث بقوله : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى عصبة ذكر.
وأما قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا
ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا): فإن ذلك عامّ في النصرة والميراث ؛ فإن من كان مقيما بمكة
على إيمانه لم يكن ذلك معتدّا له به ، ولا مثابا عليه حتى يهاجر. ثم نسخ الله ذلك
بفتح مكة والميراث بالقرابة ، سواء كان الوارث في دار الحرب أو في دار السلام ،
لسقوط اعتبار الهجرة بالسنة ، إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين ؛ فإنّ الولاية معهم
قائمة ، والنصرة لهم واجبة بالبدن بألّا يبقى منّا عين تطرف حتى يخرج إلى
استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك ، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم ، حتى لا
يبقى لأحد درهم كذلك.
__________________
قال مالك وجميع
العلماء : فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر
العدوّ ، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدّة والعدد ؛ والقوة والجلد.
الآية الثالثة
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسادٌ كَبِيرٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قطع
الله الولاية بين الكفّار والمؤمنين فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، وجعل
الكافرين بعضهم أولياء بعض ، وجعل المنافقين بعضهم أولياء بعض ، يتناصرون بدينهم ،
ويتعاملون باعتقادهم. وفي الصحيح : مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم كمثل الجسد إذا اشتكى
عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر.
ويحتمل أن يريد به
بعضهم أولياء بعض في الميراث ؛ ففي الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يرث المسلم الكافر
، ولا الكافر المسلم.
وقد تقدم قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ). وقال بعد هذا : (الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ).
المسألة الثانية ـ
قوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) : يعنى بضعف الإيمان وغلبة الكفر ؛ وهذه هي الفتنة والفساد
في الأرض ، وفي هذا أمر بالخروج عن دار الكفر إلى دار الإيمان ، وهي الهجرة.
الآية الرابعة والعشرون
ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لحارثة : يا
حارثة ، كيف أصبحت؟ قال : مؤمنا حقّا. قال : لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ قال
: عزفت نفسي عن الدنيا ؛ فاستوى عندي حجرها وذهبها ، وكأنى ناظر إلى عرش ربي.
__________________
فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم : عرفت فالزم.
وفي الحديث الصحيح
: لا يدرك أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحبّ
إليه مما سواهما ، وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر
بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يعود في النار.
وقد تقدم قوله : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) إلى قوله : (كَرِيمٌ). وإذا كان الإيمان في القلب حقّا ظهر ذلك في استقامة
الأعمال بامتثال الأمر واجتناب النهى ، وإذا كان مجازا قصّرت الجوارح في الأعمال ؛
إذ لم تبلغ قوته إليها.
الآية الخامسة
والعشرون ـ قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ، وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (مِنْ بَعْدُ) ، يعنى من بعد ما أمرتكم بالموالاة ، هكذا قال جماعة من
المفسرين ، إلا أنه يحتمل أن يكون يريد من بعد الإيمان الأول والهجرة الأولى ؛
فإنّ الهجرة طبقات : المهاجرون الأولون ، وبعدهم من هاجر في بحبوحة الإيمان وقبل
الفتح ، وهم طبقات عندنا ودرجات عند الله.
المسألة الثانية ـ
قوله : (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) ، يعنى في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال ؛ فإنّ من
تولّى قوما فهو منهم باعتقاده معهم ، والتزامه لهم ، وعمله بعملهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) :
قال ابن عباس :
هذه الآية نسخ لما تقدم من الموالاة بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة.
__________________
والذي عندي أنه
عموم في كل قريب بيّنته السنّة بقوله : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى
عصبة ذكر ، حسبما ثبت في كتاب الله ، وقال رسول الله.
وكتاب الله الذي ثبت
فيه هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء ، فتجرى الأحكام على ما سطّر فيه
من نسخ وثبوت وإمضاء وردّ.
سورة التّوبة
قال علماؤنا : هذه
السورة من آخر ما نزل بالمدينة ، ولذلك قلّ فيها المنسوخ ، ولها ستة أسماء :
التوبة ، والمبعثرة ، والمقشقشة ، والفاضحة ؛ وسورة البحوث ، وسورة العذاب.
فأما تسميتها
بسورة التوبة فلأنّ الله ذكر فيها توبة الثلاثة الذين خلّفوا بتبوك.
وأما تسميتها
بالفاضحة فلأنه نزل فيها : ومنهم ، ومنهم. قالت الصحابة : حتى ظنّنا أنها لا تبقى
أحدا.
وأما تسميتها
المبعثرة فمن هذا المعنى ، يقال : بعثرت المتاع : إذا جعلت أعلاه أسفله ، وقلبت
جميعه وقلبته ، ومنه : (وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ).
وأما تسميتها
المقشقشة فمن الجمع ، فإنها جمعت أوصاف المنافقين ، وكشفت أسرار الدين.
وأما تسميتها سورة
البحوث فمن بحث : إذا اختبر واستقصى ، وذلك لما تضمّنت أيضا من ذكر المنافقين
والبحث عن أسرارهم.
وأما تسميتها سورة
العذاب فقد روى عن ثابت بن الحارث الأنصارى أنه قال : ما كانوا يدعون سورة التوبة
إلا المبعثرة ، فإنها تبعثر أخبار المنافقين.
وروى عن ابن عمر
أنه قال : ما كنّا ندعوها إلا المقشقشة.
وروى عن قتادة أنه
قال : مثل براءة كمثل المرود ما يدرى أسفله من أعلاه.
القول في سقوط بسم
الله الرحمن الرحيم منها :
وفي ذلك للعلماء
أغراض جماعها أربعة :
الأول ـ قال مالك
ـ فيما روى عنه ابن وهب ، وابن القاسم ، وابن عبد الحكم : إنه لما سقط أولها سقط
بسم الله الرحمن الرحيم معه.
__________________
وكذلك يروى عن ابن
عجلان أنه بلغه أنّ سورة «براءة» كانت تعدل البقرة أو قربها ، نذهب منها ، فلذلك
لم يكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم.
الثاني ـ أن براءة
سخط ، وبسم الله الرحمن الرحيم رحمة ، فلا يجمع بينهما.
الثالث ـ أن براءة
نزلت برفع الأمان ، وبسم الله الرحمن الرحيم أمان.
وهذه كلّها
احتمالات ، منها بعيد ومنها قريب ؛ وأبعدها قول من قال : إنها مفتتحة بذكر الكفّار
؛ لأنّ سورا كثيرة من سور القرآن افتتحت بذكر الكفار كقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا). وقوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ).
الرابع ـ وهو
الأصح ـ ما ثبت عن يزيد الفارسي أنه قال : قال لنا ابن عباس : قلنا لعثمان : ما
حملكم أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم
بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع
الطوال ، فما حملكم على ذلك؟
قال عثمان : إنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحى يدعو ببعض من يكتب عنه ،
فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وتنزل عليه الآية فيقول :
ضعوا هذا الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أول ما نزل
، وبراءة من آخر ما نزل من القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وقبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا أنها منها ، فظننت أنها منها ؛ فمن ثمّ قرنت
بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم.
وروى عن أبىّ بن
كعب : آخر ما نزل براءة ،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في أول كلّ سورة ببسم الله الرحمن
الرحيم ، ولم يأمرنا في سورة براءة بشيء ؛ فلذلك ضمّت إلى الأنفال ، وكانت شبيهة بها.
وقد روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : أعطيت
السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الزبور ، وأعطيت المثاني مكان
الإنجيل ، وفضّلت بالمفصل.
نكتة أصولية :
في هذا كله دليل
على أنّ تأليف القرآن كان منزّلا من عند الله ، وأنّ تأليفه من تنزيله يبيّنه
النبىّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، ويميّزه لكتّابه ، ويرتّبه على أبوابه ، إلا
هذه السورة فلم يذكر لهم فيها شيئا ؛ ليتبين الخلق أنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما
يريد ، ولا يسأل عن ذلك كله ، ولا يعترض عليه ، ولا يحاط بعلمه إلا بما أبرز منه
إلى الخلق ، وأوضحه بالبيان.
ودلّ بذلك على أن
القياس أصل في الدين ؛ ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا الى قياس الشبه
عند عدم النص ، ورأوا أنّ قصة «براءة» شبيهة بقصة «الأنفال» فألحقوها بها؟ فإذا
كان الله قد بيّن دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنّك بسائر الأحكام.
وفي هذه السورة
إحدى وخمسون آية :
الآية الأولى ـ قوله
تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (بَراءَةٌ) ؛ أى هذه الآيات براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من
المشركين ، يقال : برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه برىء : إذا أزلته عن نفسك ،
وقطعت سبب ما بينه وبينك.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (إِلَى الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : ولم يعاهدهم إلا النبىّ صلى الله عليه وسلم وحده ، ولكنه
كان الآمر والحاكم ، وكل ما أمر به أو أحكمه فهو لازم للأمة ، منسوب إليهم ، محسوب
عليهم ، يؤاخذون به ؛ إذ لا يمكن غير ذلك ؛ فإنّ تحصيل الرضا في ذلك من الجميع
متعذر لوجهين :
أحدهما ـ اختلاف
الآراء ، وامتناع الاتفاق على مذهب واحد.
والثاني ـ كثيرة
عددهم المانع من تحصيل رضا جميعهم ، فوقع الاجتزاء بالمقدم من الوجهين ؛ فإذا عقد
الإمام بما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا حكمه ، فإذا رضوا به كان أثبت
__________________
لنسبته إليهم ،
كما نسب عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع المسلمين ، لكونهم به راضين.
ويحتمل أن يكون
الضمير للجماعة ، وهو مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق التعظيم في
الإخبار عن الواحد العظيم بلفظ الجمع.
المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) :
وهذا نص في أنّ
المعاهد كان مشركا ، ولم يكن أحد منهم من أهل الكتاب ، وإن كانوا أيضا مشركين ؛
لأنّ العهد كان مخصوصا بالعرب أهل الأوثان ، وكانوا على قسمين : منهم من كان أجل
عهده أقل من أربعة أشهر. ومنهم من لم يكن له عهد ، فأمهل الكلّ أربعة أشهر.
وقيل : من لم يكن
له عهد أجّل خمسين ليلة : عشرين من ذي الحجة والمحرم ، وذلك لقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ). وسيأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
قال القاضي رضى الله عنه : الذي عندي أنّ هذا عام في كل أحد ممن له
عهد دون من لا عهد له ، لقوله : (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). فمن كان له عهد أجّل أربعة أشهر ويحلّ دمه ، ومن لم يكن
له عهد فهو على أصل الإحلال لدمه بالكفر الموجود به.
المسألة الرابعة ـ
يحتمل أن تكون الأربعة الأشهر أيضا أجلا لمن كانت مدّته أكثر من أربعة أشهر. ويكون
إسقاط الزيادة تخصيصا للمدّة ، كما أخرج الله النساء من أعداد من صولح عليه في
الحديبية ، بحسب ما يظهر من المصلحة للإمام ، والتمادي على العهد ، أو الرجوع عنه
، حسبما بينّاه قبل.
الآية الثانية ـ قوله
تعالى : (فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ
وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، أى سيروا ، وهي السياحة ، قال ابن وهب : قال مالك :
بلغني أنّ عيسى بن مريم انتهى إلى قرية خربت حصونها ،
__________________
وجفّت أنهارها ،
وتشعّب شجرها ، فنادى : يا خرب ، أين أهلك؟ فنودي : يا عيسى ، بادوا فضمّتهم الأرض
، وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة ؛ عيسى بن مريم فجد.
قال علماؤنا :
يريد مالك بسياحته أنه المسيح عيسى بن مريم.
المعنى : لكم في
الأرض مسير أربعة أشهر ، واختبروا فيها ، وحرّروا أعمالكم ، وانظروا مآلكم ، فإن
دخلتم في الإسلام فلكم الأمان والاحترام ، وإن استمررتم على الكفر عوملتم بمعاملة
الكفار من القتل والإسار.
المسألة الثانية ـ
قد روى جماعة أنّ علىّ بن أبى طالب كان يقول في أذانه : ومن كان بينه وبين النبىّ صلى الله عليه
وسلم عهد فعهده إلى مدّته ؛ فإن صحّ هذا فإنه يدل على أنّ العهد المحدود لمدة
موقوف على أمده ، وأنّ العهد المطلق ، أو الذي له أقل من أربعة أشهر فإن مدته
أربعة أشهر ، إلا من لم ينقض فإن عهده إلى مدته من غير خلاف بنصّ القرآن بعد هذا.
المسألة الثالثة ـ
اختلف الناس في هذه الأشهر التي قدّرت للسياحة على أربعة أقوال:
الأول ـ أنها من
شوال في سنة ثمان إلى صفر من سنة تسع ، قاله الزهري وغيره.
الثاني ـ أنها
عشرون من ذي الحجة ، أوّلها يوم النحر إلى تمام أربعة أشهر. وذلك بمضى عشرة أيام
من ربيع الأول سنة تسع ، وقيل هو الثالث من أول يوم من ذي القعدة. وقيل في الرابع
من يوم يبلغهم العلم.
والصحيح أنه من
يوم النّحر ، فبذلك كان البدء وإليه كان المنتهى.
الآية الثالثة ـ قوله
تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ الأذان
: هو الإعلام لغة من غير خلاف ، المعنى براءة من الله ورسوله وأذان من الله ورسوله
، أى هذه براءة ، وهذا إعلام وإنذار : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) . (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
__________________
المسألة الثانية ـ
روى البخاري وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم خطب بمنى فقال : أيها الناس ؛ أتدرون أىّ يوم هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا يوم الحجّ الأكبر.
أتدرون
أىّ شهر هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : شهر حرام. قال : أتدرون أىّ بلد هذا؟
قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بلد حرام. قال : إنّ الله حرّم عليكم دماءكم
وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
وروى عن أبى هريرة
أيضا قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في المؤذّنين الذين بعثهم يوم النحر
يؤذّنون بمنى ألّا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.
قال أبو هريرة :
ثم أردفه النبىّ صلى الله عليه وسلم بعلىّ ، فأمره أن ينادى ببراءة.
قال أبو هريرة :
فأذن معنا علىّ بمنى يوم النحر ببراءة ، وألّا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف
بالبيت عريان.
وروى الترمذي ، عن
سليمان بن عمر وابن الأحوص ، حدثنا أبى أنه
شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ،
ووعظ ، ثم قال: أىّ يوم أحرم ، أىّ يوم أحرم ، أىّ يوم أحرم؟ قال : فقال الناس :
يوم الحج الأكبر يا رسول الله. قال : فإنّ
دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم
هذا في شهركم هذا ، ألا لا يجنى جان على نفسه ، لا يجنى والد على ولده ، ولا ولد على والده ، ألا
إن المسلم أخو المسلم ، فليس يحلّ لمسلم من أخيه إلا ما حل من نفسه ، ألا وإنّ كل
ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، غير ربا العباس
بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، ألا وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن
أول دم أضع من دماء الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بنى ليث فقتلته هذيل ، ألا واستوصوا بالنساء خيرا ؛ فإنهنّ عوار
عندكم ، ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة ، فإن فعلن
فاهجروهنّ في المضاجع ، واضربوهنّ ضربا غير مبرح ،
__________________
فإن
أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقّا ، ولهنّ عليكم حقا ،
فأما حقّكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن
تكرهون. ألا وإنّ حقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهن وطعامهن.
هذا حديث حسن
صحيح.
وروى عن الحارث ،
عن علىّ ، قال : سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر ، فقال : يوم النحر.
وروى أيضا عن ابن
عباس قال : بعث النبىّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، وأمره أن ينادى بهؤلاء
الكلمات ، وأتبعه عليا ، فبينما أبو بكر في بعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله
صلى الله عليه وسلم القصواء ، فخرج أبو بكر فزعا يظنّ أنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فإذا هو على ، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عليا أن
ينادى بهذه الكلمات ، فانطلقا وحجّا ، فقام علىّ فنادى أيام التشريق : ذمة الله
ورسوله بريئة من كل مشرك ؛ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجنّ بعد العام مشرك
، ولا يطوفنّ بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن.
وكان علىّ ينادى
فإذا أعيا قام أبو بكر ينادى بها.
وروى عن زيد بن
يثيع قال : سألت عليا بأى شيء بعثت في الحجة؟ قال : بعثت بأربع : ألّا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه
وبين النبي عهد فعهده إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل
الجنة إلّا نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن.
وروى أيضا ، عن
سماك بن حرب ، عن أنس بن مالك ، قال : بعث
النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبى بكر ، ثم دعاه فقال : لا ينبغي لأحد أن
يبلّغ هذا إلا رجل من أهلى ، فدعا عليا ، فأعطاه إياه.
وهذا حديث غريب من
حديث أنس بن مالك.
__________________
المسألة الثالثة ـ
اختلف الناس في يوم الحج الأكبر ؛ فروى ابن وهب عن مالك أنّ يوم الحج الأكبر يوم
النحر.
قال ابن وهب :
سمعت مالكا يقول : لا نشك أنّ الحج الأكبر يوم النحر ؛ وذلك لأنه اليوم الذي ترى
فيه الجمرة ، وينحر فيه الهدى ، وتراق فيه الدماء ، وهذا اليوم الذي ينقضي فيه
الحجّ ؛ من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرك الحج ، وهو انقضاء الحج وهو
الحج الأكبر.
ونحوه روى ابن
القاسم ، وأشهب ، وعبد الله بن الحكم عنه ، وبه قال ابن عمر ، وعلىّ ، وابن المسيب
، وكذلك يروى عن ابن أبى أوفى أنه سئل عن الحج الأكبر ، فقال : هو يوم يحلق فيه
الشعر ، وتراق فيه الدماء ، ويحلّ فيه الحرام ، وتوضع فيه النواصي.
وقال عبد الله بن
الحارث بن نوفل ، ومحمد بن سيرين : إنه يوم عرفة ، وبه قال الشافعى. وقال مجاهد
الحجّ الأكبر القرآن ، والحجّ الأصغر العمرة.
قال القاضي : إذا
نظرنا في هذه الأقوال فالمنقح منها أنّ الحج الأكبر الحج ، كما قال مجاهد ؛ لكنا
إذا بحثنا عن يوم الحج الأكبر فلا شكّ أن يوم عرفة يوم الحج الأكبر ؛ لأنّ الحج
عرفة ، من أدرك الوقوف بها في يومها أدرك الحجّ ، ومن فاته الوقوف بها فلا حجّ له
؛ بيد أنّ المراد بالبحث عن يوم الحج الأكبر الذي ذكره الله في كتابه ، وذكره
النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ، ولا شك في أنه يوم النحر لثبوت الحديث
الصحيح.
فإن النبي صلى
الله عليه وسلم إنما أمر بالأذان يوم النحر ، ولثبوت الحديث الصحيح أيضا ، فإنه
قال يوم النحر
، أىّ يوم هذا؟ أليس يوم الحج الأكبر؟ كما تقدم بيانه.
وإن كان قد روى عن
الزبير أن النبىّ صلى الله
عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال : أتدرون أىّ يوم هذا؟ فيقولون : هو يوم الحجّ الأكبر. وهذا مما لم يصح سنده.
وقد احتج ابن أبى
أوفى على أنه يوم الحج الأكبر بانقضاء الحجّ فيه من النسك وإلقاء التفث ، وهو الذي
قال الله فيه : (ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ ...) الآية.
__________________
وغاص مالك على
الحقيقة ، فجمع بين الدلائل ، وقال : إنّ يوم النحر فيه الحج كله ؛ لأن الوقوف
إنما هو في ليلته ، وفي صبيحته الرمي والحلق والنحر والطواف ، فلا يبقى بعد هذا إشكال ،
والله أعلم.
وقد روى أبو جعفر
محمد بن علىّ أنه قال : لما
نزلت «براءة» على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم
للناس الحج قيل له : يا رسول الله ؛ لو بعثت به إلى أبى بكر. فقال : إنه لا يؤدّى
عنى إلا رجل من أهل بيتي. ثم دعا عليّا ، فقال له : اخرج بهذه القصة من صدر براءة
، وأذّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحجّ
بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم عهد فهو له إلى مدته.
فخرج
علىّ على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه
أبو بكر قال : أمير أم مأمور؟ قال : بل مأمور. ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس
الحجّ ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في
الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علىّ بن أبى طالب فأذّن في الناس بالذي أمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سمعت بعض
العلماء يقول : إنما سمى يوم الحج الأكبر ؛ لأنّ الناس يجتمعون فيه من كان يقف
بعرفة ، ومن كان يقف بالمزدلفة ، وكان النداء في اليوم الذي يجتمع الناس كلهم فيه
أولى وأبلغ في المراد.
وهذا وإن كان
صحيحا في المعنى ، ولكن النبىّ صلى الله عليه وسلم قد سمّاه يوم الحجّ الأكبر في
حجة الوداع بعد ذلك ، والوقوف كله بعرفة.
سمعت أبا سعيد
محمد بن طاهر الشهيد يقول : سمعت الأستاذ أبا المظفر طاهر بن محمد شاهبور يقول : إنما أرسل النبىّ صلى الله عليه وسلم عليا ببراءة
مع أبى بكر ، لأن براءة تضمّنت نقض العهد الذي كان عقده النبىّ صلى الله عليه وسلم
، وكانت سيرة العرب أنه لا يحلّ العقد إلا الذي عقده أو رجل من بيته ، فأراد
النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة ، وأن يرسل ابن عمه
الهاشمىّ من بيته بنقض العهد ، حتى لا يبقى لهم متكلم. وهذا بديع في فنه.
__________________
المسألة الرابعة ـ
اختلف في قول علىّ في التأذين : هل كان بثلاث آيات أو تسع إلى قوله : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ). أو إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ).
وهذا إنما نشأ من
روايات وردت ، منها قوله : ولا يحج بعد العام مشرك. وفيها ما روى أنه أمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون.
والذي يصحّ من ذلك
أنّ تأذينه إنما كان إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وغير ذلك من الآيات إنما ورد بعد ذلك في وقت واحد ، أو في
أوقات متباينة بأحكام مختلفة ، منها ما قاله في تأذينه ، ومنها ما زاد عليه.
الآية الرابعة ـ قوله
تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ
يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
قال علماؤنا : هذا
يدلّ على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ، وكان منهم من ثبت عليه ؛ فأذن الله لنبيه في نقض
عهد من خاس ، وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته ، وذلك قوله : (كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
المعنى كيف يبقى
لهم عهد عند الله وهم قد نقضوه ؛ والمراد بذلك قريش الذين عاهدهم النبىّ صلى الله
عليه وسلم زمن الحديبية ؛ أمر أن يتمّ لهم عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي لهم منها
أربعة أشهر من يوم النحر ؛ وهذا وهم ؛ فإنّ قريشا قد كان عهدها منقوضا منهم ومن
المسلمين ، وقد كان الفتح ، وإنما كان المراد به من كان عاهد من العرب كخزاعة وبنى
مدلج ، فلا بدّ من أن يوفى لهم بعهدهم فإنّ الله يحبّ المتقين.
الآية الخامسة
قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ).
__________________
فيها إحدى عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ) :
فيها أربعة أقوال
:
الأول ـ أنها
الأشهر الحرم المعلومة : رجب الفرد ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم.
الثاني ـ أنها
شوّال من سنة تسع إلى آخر المحرم.
الثالث ـ أنها
أربعة أشهر من يوم النحر من سنة تسع.
الرابع ـ أنها
تمام تسعة أشهر كانت بقيت من عهدهم بناء على أنّ المراد بالمشركين الذين عاهدوا ثم
لم ينقضوا.
المسألة الثانية ـ
أما القول الأول فساقط لا ينبغي أن نشتغل به ؛ لانعقاد الإجماع على فساده ؛ ويأتى
تمامه إن شاء الله في هذه السورة.
وأما سائر الأقوال
فمحتملة ، إلّا أن الصحيح عندنا أربعة أشهر من يوم النحر كما تقدم ، وهو الوقت
الذي كان فيه الأذان ، وبه وقع الإعلام ، وعليه ترتب حلّ العقد المرتبط إليه وبناء
الأجل المسمّى عليه.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) :
هذا اللفظ وإن كان
مختصّا بكل كافر بالله ؛ عابد للوثن في العرف ، ولكنه عامّ في الحقيقة لكلّ من كفر
بالله ، أما أنه بحكم قوة اللفظ يرجع تناوله إلى مشركي العرب الذين كان العهد لهم
وفي جنسهم ، ويبقى الكلام فيمن كفر من أهل الكتاب غيرهم ، فيقتلون بوجود علّة
القتل وهي الإشراك فيهم ، إلا أنه قد وقع البيان بالنص عليهم في هذه السورة ،
ويأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) : عام في كل مشرك ، لكن السّنّة خصّت منه من تقدم ذكره قبل
هذا من امرأة وصبيّ ، وراهب ، وحشوة ،
__________________
حسبما تقدّم بيانه
، وبقي تحت اللفظ من كان محاربا أو مستعدّا للحرابة والإذابة ، وتبيّن أن المراد
بالآية : اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) :
هذا عام في كل
موضع ؛ وقد قال أبو حنيفة : إنه يخصّ منها المسجد الحرام بقوله في البقرة : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). وقرئ : ولا تقتلوهم. وقد تقدم القول فيها في سورة البقرة . وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أربعة نفر
منهم ابن خطل .
فإن قيل : قد قال
النبىّ صلى الله عليه وسلم.
إنّ مكة حرّمها الله فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من
نهار ، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. وهذا نصّ.
قلنا : هذا خبر عن
الله تعالى بأنه لا يملكها كافر أبدا ؛ لأنّ القتال إنما يكون للكفار ، فأما كافر يأوى إليها فلا تعصمه ولا
قرة عين ، وليس في قوة الحديث ولا لفظه أنه لا يقتل فيها.
المسألة السادسة ـ
قوله : (وَخُذُوهُمْ
وَاحْصُرُوهُمْ) دليل على جواز الإسار فيهم ، وقد تقدم ذكر ذلك.
المسألة السابعة ـ
قوله : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلَّ مَرْصَدٍ) :
قال علماؤنا : في
هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ، وقد تقدم بيانه.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ ...) الآية إلى : (فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ) ؛ إن الله غفور لما تقدم ، رحيم بخلقه في إمهالهم ثم
المغفرة لهم. وهذا مبين بقول النبىّ صلى الله عليه وسلم :
أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا
ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقّها ، وحسابهم على الله. فانتظم القرآن
والسنة واطّردا.
__________________
المسألة التاسعة ـ
قوله : (فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) دليل صحيح على ما كان الصدّيق رضى الله عنه تعلّق به على
أهل الردة في قوله : لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة ؛ فإن الزكاة حقّ المال
؛ لأنّ الله تعالى علّق العصمة بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فتعلق بهما.
المسألة العاشرة ـ
قوله : (فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ) :
وهو إشارة إلى ترك
قتالهم وحصرهم ومنعهم عن التصرف ، وألّا يرصد لهم غيلة ، ولا يقطع على أحد فعل ذلك
سبيله.
المسألة الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَاحْصُرُوهُمْ) :
قال بعض علمائنا :
امنعوهم عن التصرف إلى بلادكم والدخول إلا للقليل إليكم ، إلا أن تأذنوا لهم في
ذلك ، فيدخلوا إليكم بأمان منكم ؛ فإن المحبوس تحت سلطان الإذن من الجانبين ، ولو
لا ذلك لم يكن حبس ولا حصر ؛ فإن ذلك حقيقته.
الآية السادسة ـ قوله
تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) :
معناه سأل جوارك ،
أى أمانك وذمامك فأعطه إياه ليسمع القرآن ؛ فإن قبل أمرا فحسن ، وإن أبى
فردّه إلى مأمنه ؛ ولهذا قال مالك : إذا وجد الحربىّ في طريق بلاد المسلمين ، فقال
: جئت أطلب الأمان ؛ فقال مالك : هذه أمور مشكله ، وأرى أن يرد إلى مأمنه ، والآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام ؛ فأما الإجارة لغير ذلك
فإنما هي لمصلحة المسلمين ، والنظر فيما يعود عليهم به منفعة ؛ وذلك يكون من أمير
أو مأمور ؛ فأما الأمير فلا خلاف في أنّ إجارته جائزة ؛ لأنه مقدّم للنظر والمصلحة
، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضارّ.
__________________
وأما إن كان رعية فقد
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : المسلمون
تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويرد عليهم أقصاهم. والذي منهم غير الأمير وهو حرّ أو عبد أو امرأة أو صبيّ ،
فأما الحر فيمضى أمانه عند كافّة العلماء ، إلا أنّ ابن حبيب من أصحابنا قال :
ينظر الإمام فيه ، وهذا ليس بصحيح ؛ لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أجاز جواره في
هذا الحديث وكذلك أمضاه عمر على الناس ، وتوعّد بالقتل من ردّه ، فقال : لا يقولنّ
أحدكم للعلج إذا اشتدّ في الحبل مطرّس فإذا سكن إلى قوله قتله ؛ فإنى لا أوتى بأحد
فعل ذلك إلّا ضربت عنقه.
وأما العبد فله
الأمان في مشهور المذهب ؛ وبه قال الشافعى.
وقال أبو حنيفة :
لا أمان له ، وهو القول الثاني لعلمائنا ، وكأن أبا حنيفة رأى أن من لا يسهم له في
الغنيمة من عبد أو امرأة أو صبي لا أمان له ؛ لأنه إسقاط ، فكيف يسقط ما ليس له
فيه حق.
وعمدة المالكية
أنّ عموم الحديث يدخل فيه العبد والمرأة ، ولأن أبا حنيفة نقض فقال: إذا أذن له
سيده في القتال جاز أمانه ، ولا يصح أن يسلب جواز الأمن من الإذن في القتال ؛ لأنه صده ؛ فدلّ على أنه إنما استفاده
بالإسلام والآدمية.
وأما الصبىّ فعدم
تكليفه يسقط قوله بلا كلام ، إلّا أنّ المالكية قالت : إذا أطاق القتال صار في
جملة الجيش. وقد تقدم دليل ذلك ؛ وجاز أمانه ؛ لأنه قد صار من جملة المقاتلة ،
ودخل في الفئة الحامية.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) :
ما من أحد من
الخلق يسمع القرآن إلا وهو سامع لكلام الله ، لكن بواسطة اللغات وبدلالة الحروف
والأصوات ، وكذلك يسمع كلام الله كلّ غائب ، لكن القدّوس لا مثل له ولا لكلامه.
وإذا أراد الله تعالى أن يكرم أحدا من خلقه أسمه كلامه بغير واسطة ، كما فعل بموسى
ومحمد ليلة الإسراء.
__________________
المسألة الثالثة ـ
ليس يريد بقوله : (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) مجرّد الإصغاء ، فيحصل العلم له بظاهر القول ؛ وإنما أراد
به فهم المقصود من دلالته على النبوة ، وفهم المقصود به من التكليف ، ولم يكن يخفى
على العرب وجه الإعجاز فيه ، وطريق الدلالة على النبوة لكونه خارجا عن أساليب
فصاحة العرب في النظم والنثر ، والخطب والأراجيز ، والسجع والأمثال ، وأنواع فصل
الخطاب ؛ فإن خلق الله له العلم بذلك ، والقبول له صار من جملة المسلمين ؛ فإن صدّ
بالطبع ، ومنع بالختم ، وحق عليه بالكفر القول ردّ إلى مأمنه.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) :
نفى الله عنهم
العلم ؛ لنفى فائدته من الاعتبار والاستبصار ، وقد ينتفى الشيء بانتفاء فائدته ؛
إذ الشيء إنما يراد لمقصوده ، فإذا عدم المقصود فكأنه لم يوجد ؛ فأمر الله بالرّفق
بهم ، والإمهال لهم ، حتى يقع الاعتبار أن منّ الله بالهدى والاستبصار.
الآية السابعة ـ قوله
تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا) (أَيْمانَهُمْ مِنْ
بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ،
إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (وَطَعَنُوا فِي
دِينِكُمْ) دليل على أنّ الطاعن في الدين كافر ، وهو الذي ينسب إليه
ما لا يليق به ، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين ، لما ثبت من الدليل
القطعىّ على صحة أصوله واستقامة فروعه
المسألة الثانية ـ
إذا طعن الذمّى في الدين انتقض عهده لقوله : (وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ ...) إلى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ) ؛ فأمر الله بقتلهم وقتالهم إذا طعنوا في دينكم.
فإن قيل : إنما
أمرنا بقتالهم بشرطين :
أحدهما ـ نكثهم
للعهد.
والثاني ـ طعنهم
في الدين.
__________________
قلنا : الطعن في
الدين نكث للعهد ؛ بل قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إن عملوا ما يخالف العهد
انتقض عهدهم. فقد روى أنّ عمر رفع إليه أن ذمّيا نخس دابة عليها امرأة مسلمة ،
فرمحت ، فأسقطتها ، فانكشف بعض عورتها ، فأمر بصلبه في الموضع.
وقد قال علماؤنا :
إذا حارب الذمىّ نقض عهده. وكان [ماله وولده] فيئا قال محمد ابن مسلمة : ولا يؤخذ ولده ، لأنه نقض وحده.
وقال : أما ماله فيؤخذ.
وهذا تعارض لا
يشبه منصب محمد ؛ لأن عهده هو الذي حمى ولده وماله ، فإذا ذهب عنه ذهب عن ولده
وماله.
وقال أشهب : إذا
نقض الذمىّ العهد فهو على عهده ، ولا يعود الحرّ في الرقّ أبدا.
وهذا من العجب ،
وكأنه رأى العهد معنى محسوسا ، وإنما العهد حكم اقتضاء النظر ، والتزمه المسلمون ،
فإذا نقضه انتقض كسائر العقود من البيع والنكاح ، فإنها تعقد ؛ فترتّب عليها الأحكام ،
فإذا نقضت ونسخت ذهبت تلك الأحكام.
الآية الثامنة ـ قوله
تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ، فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا
مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ دلّت
الآية على أن الشهادة لعمّار المساجد بالإيمان والصلاة صحيحة ؛ لأن الله ربطها بها
، وأخبر عنها بملازمتها والنفس تطمئنّ بها وتسكن إليها ، وهذا في ظاهر الصلاح ليس
في مقاطع الشهادات ، فلها وجوه ، وللعارفين بها أحوال ، وإنما يؤخذ كلّ أحد بمقدار
حاله وعلى مقتضى صفته ؛ فمنهم الذكي الفطن المحصّل لما يعلم اعتقادا وإخبارا ،
ومنهم المغفّل ؛ فكلّ أحد ينزل على منزلته ويقدّر على صفته.
المسألة الثانية ـ
روى بعضهم أنّ الآية إنما قصد بها قريش ؛ لأنهم كانوا يفخرون على سائر الناس بأنهم
سكان مكة وعمّار المسجد الحرام ؛ ويرون بذلك فضلا لهم على غيرهم،
__________________
فنفى الله ذلك
عنهم شرعا وفضيلة ، لا حسّا ووجودا ، وأخبر أن العمارة لبيت الله لا تكون بالكفر به ،
وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة ؛ سمعت الشيخ الإمام فخر الإسلام أبا
بكر محمد بن أحمد الشاشي يقول : كان القاضي الإمام أبو الطيب الطبري يسمى الشيخ
الإمام أبا إسحاق الشيرازي إمام الشافعية وشيخ الصوفية بمدينة السلام حمامة المسجد
؛ لملازمته له ؛ لأنه لم يكن يجعل لنفسه بيتا سواه يلازم القاضي أبا الطيب ،
ويواظب القراءة والتدريس حتى صار إمام الطريقتين : الفقه والتصوف.
الآية التاسعة ـ قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ نفى
الله الموالاة بالكفر بين الآباء والأبناء خاصة ، ولا قربى أقرب منها ، كما نفاها
بين الناس بعضهم من بعض ، بقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ؛ ليبيّن أن القرب قرب الأديان لا قرب الديار والأبدان ، ومثله تنشد الصوفية :
يقولون لي دار
الأحبة قد دنت
|
|
وأنت كئيب إنّ
ذا لعجيب
|
فقلت وما تغنى
ديار قريبة
|
|
إذا لم يكن بين
القلوب قريب
|
المسألة الثانية ـ
الإحسان بالهبة والصلة مستثنى من الولاية ، لحديث أسماء ؛ قالت: يا رسول الله ؛ إن أمى
قدمت علىّ راغبة وهي مشركة ، أفأصلها؟ قال : صلى أمّك. وتمامه يأتى في قوله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ..) الآية.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تفسير لقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إما بالمآل وسوء العاقبة ، وإما بالأحكام في العاجلة ،
وذلك ظلم ؛ أى وضع الشيء في غير موضعه ، ويختلف الحكم فيه باختلاف الموضع الموضوع
فيه كفرا وإيمانا.
__________________
الآية العاشرة ـ قوله
تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا) :
هذا بيان فضل
الجهاد ، وإشارة إلى راحة النفس وعلاقتها بالأهل والمال.
وقال المفسرون :
هذه الآية في بيان حال من ترك الهجرة ، وآثر البقاء مع الأهل والمال.
وفي الحديث الصحيح
: إنّ الشيطان قعد لابن
آدم ثلاثة مقاعد :
قعد
له في طريق الإسلام ، فقال : أتذر دينك ودين آبائك وتسلم. فخالفه وأسلم.
وقعد
له في طريق الهجرة ، فقال له : أتذر أهلك ومالك فتهاجر ، فخالفه ثم هاجر.
وقعد
له في طريق الجهاد ، فقال له : تجاهد فتقتل ، وتنكح أهلك ، ويقسم مالك ، فخالفه
فجاهد فقتل.
فحقّ
على الله أن يدخله الجنة.
المسألة الثانية ـ
العشيرة : الجماعة التي تبلغ عقد العشرة ، فما زاد. ومنه المعاشرة ، وهي الاجتماع
على الأمر بالعزم الكثير.
وقوله : (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) ؛ أى اقتطعتموها من غيرها.
والكساد : نقصان
القيمة ، وقد تقدّم حديث أبى هريرة في الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : غزا نبىّ من الأنبياء
فقال : لا يتبعني رجل تزوّج امرأة ولما بين بها ، أو بنى دارا ولم يسكنها ...
الحديث.
__________________
المسألة الثالثة ـ
قوله : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) :
قوله : (فَتَرَبَّصُوا) صيغته الأمر ، ومعناه التهديد ، وأمر الله الذي يأتى فتح
مكة على القول بأنّ المراد بمعنى الآية الهجرة ، ويكون أمر الله عقوبته التي تنزل
بهم الذل والخزي ، حتى يغزوهم العدوّ في عقر دارهم ، ويسلبهم أموالهم.
الآية الحادية
عشرة ـ قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
ابن وهب ، وابن القاسم ، قال مالك : لما
انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضت أم سليم ـ امرأة أبى طلحة
ـ على عنان بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالت : يا رسول الله ؛ مر بهؤلاء
الذين انهزموا فنضرب رقابهم. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو خير من
ذلك يا أم سليم؟ فقيل له : أو قسم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن خرج
يداوى الجرحى؟ فقال : ما علمت أنه أسهم لامرأة في مغازيه.
قال ابن وهب ، عن
مالك : وكانت حنين في حرّ شديد.
قال ابن القاسم : قال
لنا مالك : حدثني ابن شهاب ، قال : قال رجل لصفوان يوم حنين : والله لا نرتدّ
أبدا. فقال له صفوان : والله لربّ من قريش خير من رب من هوازن.
وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد أعطى صفوان مثنى مئين أو ثلاث. وقال صفوان : لقد حضرت حنينا وما أحد من
الخلق أبغض إلىّ منه ، فما زال يعطيني حتى ما كان أحد أحب إلىّ من الخلق منه. وكان
صفوان من المؤلّفة قلوبهم.
المسألة الثانية ـ
قال ابن القاسم ، وابن وهب : سئل مالك عن صفوان حين أعطاه النبىّ صلى الله عليه
وسلم ما أعطاه أكان مسلما أو مشركا؟ قال : ما سمعت شيئا ، وما أراه كان إلا مشركا.
ولقد قال : ربّ من قريش خير من ربّ من هوازن. وما هذا بكلام مسلم.
__________________
وكان من أشدهم قولا ـ حين قال صفوان : لقد أكرم الله أمية إذ لم ير هذا الأسود
فوق الكعبة.
قال ابن وهب : قال
مالك : كان شعارهم يوم حنين ، يا أصحاب سورة البقرة.
قال مالك : كان
النبىّ صلى الله عليه وسلم كتم وجهه ذلك ، فلما كان بالسّقيا جاءه كعب بن مالك ، وكان شاعرا ، فأنشده شعره ليعلم ما
عنده وينظر ما في نفسه ، فأنشده :
قضينا من تهامة
كل إرب
|
|
وخيبر ثم أجمعنا
السيوفا
|
نسائلها ولو نطقت لقالت
|
|
قواطعهنّ دوسا
أو ثقيفا
|
قال علماؤنا :
والقصيدة مشهورة ، وتمامها :
فلست لحاضن إن لم تروها
|
|
بساحة داركم
منّا ألوفا
|
وتنتزع العروش
ببطن وجّ
|
|
وتصبح داركم منّا
خلوفا
|
وتأتيكم لنا
سرعان خيل
|
|
يغادر خلفه جمعا
كثيفا
|
إذا نزلوا
بساحتكم سمعتم
|
|
لها مما أناخ
بها رجيفا
|
بأيديهم قواضب
مرهفات
|
|
يزرن المصطلين بها الحتوفا
|
كأمثال العقائق
أخلصتها
|
|
قيون الهند لم
تضرب كتيفا
|
تخال جدية الأبطال فيها
|
|
غداة الزحف
جاديّا مدوفا
|
أجدّهم ، أليس لهم نصيح
|
|
من الأقوام كان
بنا عريفا
|
فخبرهم بأنا قد جمعنا
|
|
عتاق الخيل
والنّجب الطّروفا
|
وأنا قد أتيناهم
بزحف
|
|
يحيط بسور حصنهم
صفوفا
|
رئيسهم النبىّ
وكان صلبا
|
|
نقىّ الثوب
مصطبرا عزوفا
|
__________________
رشيد الأمر ذا
حكم وعلم
|
|
وحلم لم يكن
نزقا خفيفا
|
نطيع نبيّنا
ونطيع ربّا
|
|
هو الرحمن كان
بنا لطيفا
|
فإن يلقوا إلينا السلم نقبل
|
|
ونجعلكم لنا
عضدا وريفا
|
وإن تأبوا
نجاهدكم ونصبر
|
|
ولا يك أمرنا
رعشا ضعيفا
|
نجالد ما بقينا
أو تنيبوا
|
|
إلى الإسلام
إذعانا مضيفا
|
نجاهد لا نبالى
ما لقينا
|
|
أأهلكنا التّلاد
أم الطّريفا
|
وكم من معشر
ألبوا علينا
|
|
صميم الجذم منهم والحليفا
|
أتونا لا يرون
لهم كفاء
|
|
فجدّعنا المسامع
والأنوفا
|
بكلّ مهنّد لين
صقيل
|
|
نسوقهم به سوقا
عنيفا
|
لأمر الله
والإسلام حتّى
|
|
يقوم الدّين
معتدلا حنيفا
|
وتنسى اللات
والعزى وودّ
|
|
ونسلبها القلائد
والشّنوفا
|
فأمسوا قد
أقرّوا واطمأنّوا
|
|
ومن لا يمتنع
يقتل خسوفا
|
فأجابه كنانة بن
عبد ياليل بن عمرو بن عمير ، فقال :
من كان يبغينا
يريد قتالنا
|
|
فإنا بدار معلم
لا نريمها
|
وجدنا بها
الآباء من قبل ما نرى
|
|
وكانت لنا
أطواؤها وكرومها
|
وقد جرّ بتنا
قبل عمرو بن عامر
|
|
فأخبرها ذو
رأيها وحليمها
|
وقد علمت أن
قالت الحق أننا
|
|
إذا ما أبت صعر
الخدود نقيمها
|
نقوّمها حتى
يلين شريها
|
|
ويعرف للحق
المبين ظلومها
|
__________________
علينا دلاص من
تراث محرّق
|
|
كلون السماء
زيّنتها نجومها
|
نرفّعها عنا
ببيض صوارم
|
|
إذا جرّرت في
غمرة لا نشيمها
|
قالوا : فلما سمعت
دوس بأبيات كعب هذه بادرت بإسلامها.
المسألة الثالثة ـ
قال ابن القاسم ، وأصحاب مالك : قال مالك : من قتل قتيلا لم يكن له سلبه إلا بإذن
الإمام ، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد ، ولم يبلغنا أنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم نفل في مغازيه كلها.
وقد بلغنا أنه نفل
في بعضها يوم حنين ، ولم يبلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قتل
قتيلا فله سلبه ، إلّا يوم حنين.
وقد بينا فيما سبق
أن نفل الأسلاب وغير ذلك إنما يكون من الخمس ، لا من رأس المال.
وقد بينا أن الخمس
يجوز أن يعطى للمؤلّفة قلوبهم برأى الإمام في ذلك. والله أعلم.
الآية الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنْ شاءَ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
كان المشركون
يقدمون للتجارة ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...) الآية. رواه سعيد بن جبير.
وروى غيره أنه لما
أمر بإخراج المشركين من مكة شقّ ذلك على الناس ، فقالوا : كيف بما نصيب منهم في
التجارة في الميرة ؛ فأنزل الله : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ). فأغناهم الله بالجزية.
المسألة الثانية ـ
لما نزلت الآية قال النبىّ صلى الله عليه وسلم لعلىّ : ناد في أذانك ألّا يحج بعد العام مشرك. ويحتمل أن تكون التلاوة بعد الأذان ؛ فقد روى أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يحجّ في العام الثاني كرمه الله وكرم دينه
عن أن يخالطهم مشرك.
__________________
وقيل : إذا امتنع
دخول المشركين مكة لعزّة الإسلام ، فلم يبقى الناس على ما كانوا عليه من الذلّ
والهوان.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) :
اعلموا ـ وفّقكم
الله ـ أن النجاسة ليست بعين حسية ، وإنما هي حكم شرعي ، أمر الله بإبعادها ، كما
أمر بإبعاد البدن عن الصلاة عند الحدث ، وكلاهما أمر شرعي ليس بعين حسية.
وقد ذهلت الحنفية
عن هذه الحقيقة ؛ فظنوا أن إزالة النجاسة أمر حسى ، نعم زوال العين في بعض المواضع ، وهو إذا ظهرت ، حسىّ. وكونها
بعينها نجسة حكمى ، وبقاء المحل نجسا بعد زوال عينها حكمى وقد حققنا ذلك في مسائل
الخلاف.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) :
دليل على أنهم لا
يقربون مسجدا سواه ؛ لأنّ العلة ـ وهي النجاسة ـ موجودة فيهم ، والحرمة موجودة في
المسجد.
وقد اختلف الناس
في هذا كثيرا ؛ فرأى الشافعى أنّ هذا مخصوص بالمسجد الحرام لا يتعدّاه إلى غيره من
المساجد. وهذا جمود منه على الظاهر الذي يسقط هذا الظاهر ، فإن الله لم يقل : لا
يقرب هؤلاء المسجد الحرام ؛ فيكون الحكم مقصورا عليهم ولو قال : لا يقرب المشركون
والأنجاس المسجد الحرام لكان تنبيها على التعليل بالشرك أو النجاسة ، أو العلتين
جميعا ؛ بل أكد الحال ببيان العلة وكشفها ، فقال : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) : يريد ولا بد لنجاستهم ، فتعدّت العلة إلى كل موضع محترم
بالمسجدية.
ومما قاله مع غيره
من الناس أنّ الكافر يجوز له دخول المسجد بإذن المسلم ، واستدل عليه بأن النبىّ
صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال في المسجد وهو مشرك.
قال علماؤنا : هذا
الحديث صحيح ، لكنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قد كان علم إسلامه ، وهذا وإن
سلّمناه فلا يضرنا ؛ لأن علم النبي بإسلامه في المآل لا يحكم له به في الحال.
وقال جابر بن عبد
الله : العموم بمنع المشركين عن قربان المسجد الحرام مخصوص في العبد والأمة.
__________________
وهذا قول باطل ،
وسند ضعيف لا يخص بمثله العمومات المطلقة ، فكيف المعلّلة بالعلة العامة المتناولة
لجميعها ، وهي الشرك؟
المسألة الخامسة ـ
قال سعيد بن المسيّب : هذا القول والحكم إنما هو في المسجد الحرام. فأما مسجد
المدينة فلا يزيد فضلا على غيره ؛ إذ قد دخل أبو سفيان مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو مشرك عند إقباله لتجديد العهد قبل فتح مكة حين خشي نقض الصلح
بما أحدثه بنو بكر على خزاعة.
قال القاضي : وهذا ضعيف ، ولو صحّ فإن الجواب عنه ظاهر ؛ وذلك أن دخول
ثمامة في المسجد في الحديث الصحيح ، ودخول أبى سفيان فيه على الحديث الآخر كان قبل
أن ينزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ؛ فمنع الله المشركين من دخول المسجد الحرام نصّا ، ومنع
من دخول سائر المساجد تعليلا بالنجاسة ، ولوجوب صيانة المسجد عن كلّ نجس.
وهذا كله ظاهر لا
خفاء به.
المسألة السادسة ـ
قال الشافعى : لا يدخل الكافر المسجد الحرام بحال ، ويدخل غيره من المساجد للحاجة
، كما دخل ثمامة وأبو سفيان.
وقال أبو حنيفة :
يدخل المسجد لحاجة أو لغير حاجة ، وهذا كلّه ضعيف خطأ ، أما دخوله للحاجة فقد
أفسدناه كما تقدم ، وأما دخولهم كذلك مطلقا فهو أبعد من تعليل أبى حنيفة وتدقيقه .
ولقد كنت أرى
بدمشق عجبا ، كان لجامعها بابان : باب شرقىّ ـ وهو باب جيزون ، وباب غربي ، وكان
الناس يجعلونه طريقا يمشون عليها نهارهم كلّه في حوائجهم ، وكان الذمّى إذا أراد
المرور وقف على الباب حتى يمرّ به مسلم ، مجتاز ، فيقول له الذمي : يا مسلم ، أتأذن
لي أن أمرّ معك؟ فيقول : نعم ، فيدخل معه ، وعليه الغيار علامة أهل الذمة ، فإذا
رآه القيّم صاح به : ارجع ، ارجع ، فيقول له المسلم : أنا أذنت له فيتركه
القيم.
__________________
المسألة السابعة ـ
قوله : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) :
فيه قولان :
أحدهما ـ أنه سنة
تسع التي حجّ فيها أبو بكر.
الثاني ـ أنه سنة
عشر ؛ قاله قتادة ، وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ.
وإن من العجب أن
يقال [إنه] سنة تسع ، وهو العام الذي وقع فيه الأدان ولو دخل غلام رجل
داره يوما ، فقال له مولاه : لا تدخل هذه الدار بعد يومك هذا لكان المراد به اليوم
الذي دخل فيه.
فالصحيح أنّ النهى
فيما يستقبل ، وأن المشار إليه هو الوقت الذي وقع فيه النداء ، ولو تناصف الناس في
الحق ، وأمسك كلّ أحد عما لا يعلم ما وقع مثل هذا النزاع.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) :
المعنى إن خفتم
الفقر بانقطاع مادّة المشركين عنكم بالتجارة التي كانوا يجلبونها فإنّ الله يعوّض
عنها ؛ فدل على أنّ تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز ، وإن كان الرزق مقدورا ،
وأمر الله وقسمه له مفعولا ، ولكنه علّقه بالأسباب حكمة ؛ لتعلم القلوب التي تتعلق
بالأسباب من القلوب التي تتوكل على ربّ الأرباب ، وليس ينافي النظر إلى السبب
التوكل من حيث إنه مسخّر مقدور ؛ وإنما يضاد التوكل النظر إليه بذاته ، والغفلة عن
الذي سخّره في أرضه وسماواته. وفي الحديث الصحيح : لو
توكلتم على الله حق توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا .
فأخبر أنّ التوكل الحقيقي
لا يضادّه الغدوّ والروح في طلب الرزق ، لكن شيوخ الصوفية قالوا : إنما تغدو وتروح
في الطاعة ، فهو السبب الذي يجلب الرزق.
والدليل عليه
أمران : قوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ ...) الآية. والثاني قوله :
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). فليس ينزل الرزق من محله ـ وهو
__________________
السماء ـ إلّا ما
يصعد إليها وهو الذكر الطيب والعمل الصالح ، وليس بالسعي في جهات الأرض ، فإنه ليس
فيها رزق.
والصحيح ما أحكمته
السنة عند فقهاء الظاهر ، وهو العمل بالأسباب الدنيوية من الحرث والتجارة والغراسة.
ويدلّ عليه ما كانت الصحابة تعمله ، والنبىّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم من
التجارة في الأسواق ، والعمارة للأموال ، وغرس الثمار. ومنهم من كان يضرب على
الكفار لتكون كلمة الله هي العليا ، ويسترزق من أفضل وجوه رزق الله تعالى وهو
الأغنام ، والنبىّ صلى الله عليه وسلم في ذلك كلّه راض عنهم ، وهذه كانت صفة
الخلفاء الذين لم يكن أحد أفضل منهم ؛ يسلكون هذه السبيل في الاكتساب والتعليق
بالأسباب.
أما إنه لقد كان
قوم يقعدون بصفّة المسجد ما يحرثون ولا يتّجرون ، ليس لهم كسب ولا مال ، إنما هم
أضياف الإسلام إذا جاءت هديّة أكلها النبىّ صلى الله عليه وسلم معهم ، وإن كانت
صدقة خصّتهم بها ، ولم يكن ذلك بمعاب عليهم ، لإقبالهم على العبادة ، وملازمتهم
للذكر والاعتكاف ، فصارت جادّتين في الدين ومسلكين للمسلمين ، فمن آثر منهما واحدا لم يخرج
عن سننه ، ولا اقتحم مكروها.
المسألة التاسعة ـ
قوله : (مِنْ فَضْلِهِ).
فيه ثلاثة أقوال :
الأول ـ من حيث
شاء ، وعلم ؛ لعموم فضله ، وسعة رزقه ورحمته.
الثاني ـ بالمطر
والنبات وخصب الأرض ، فأخصب تبالة وجرش ، فحملوا إلى مكة الطعام والودك ، وأسلم أهل نجد وصنعاء.
الثالث ـ بالجزية.
وهذا كلّه من المعاني
التي يحتملها اللفظ ويراد به جميعها ، ويحتمل عندي أن يريد به يغنيكم الله عن
الكفار فيما يجلبون من التجارة والرزق إليكم بجلبكم أنتم لها واستغنائكم عنها
بأنفسكم في كل وجه.
__________________
المسألة العاشرة ـ
قوله : (إِنْ شاءَ) :
قال علماؤنا :
ليعلم الخلق أن الرزق ليس بالاجتهاد ، وإنما هو فضل من الله تعالى تولّى قسمته ،
وذلك بيّن في قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ...) الآية.
الآية الثالثة
عشرة ـ قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ).
فيها ثلاث عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) :
أمر بمقاتلة جميع
الكفّار ؛ فإنّ كلهم قد أطبق على هذا الوصف ، من الكفر بالله وباليوم الآخر.
وقد قال في أول
السورة : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ). وقد قدمنا القول فيه . وقال تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ). وقال سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ).
والكفر وإن كان
أنواعا متعددة مذكورة في القرآن والسنة بألفاظ متفرقة ، فإن اسم الكفر يجمعها ،
قال الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا). وخصّ النبىّ صلى الله عليه وسلم المعنى المقصود بالبيان فقال
: أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله إلا الله. وهو المقصود الأعظم والغاية القصوى.
المسألة الثانية ـ
قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) الآية : نصّ في تحقيق الكفر ؛ وذلك أن نقول : الكفر
والإيمان أصلان في ترتيب الأحكام عليهما في الدين ، وهما في وضع اللغة معلومان.
والإيمان هو
التصديق لغة أو التأمين. والكفر هو الستر ، وقد يكون بالفعل حسّا ، وقد يكون
بالإنكار والجحد معنى ، وكلاهما حقيقة ، أو حقيقة ومجاز ، حسبما بيّناه في الأمد
الأقصى وغيره.
__________________
وقد قال شيخ السنة
والقاضي أبو بكر : إن الإيمان هو العلم بالله ، وذلك لا يصحّ لغة ، وقد أفدناه في موضعه. فإذا ثبت أن كفر المعاني جحودها وإنكارها فالشرع
لم يعلق الأحكام الشرعية على كل ما ينطلق عليه اسم كفر ، وإنما علّقه على بعضها ،
وهي الكفر بالله وصفاته وأفعاله.
والدليل عليه قوله
تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) الآية فقوله : (لا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ) نصّ في الكفر بذاته يقينا ، وفي الكفر بالصفات ظاهرا : لأن
الله هو الموجود الذي له الصفات العلا والأسماء الحسنى ؛ فكلّ من أنكر وجود الله
فهو كافر ، وقوله : (وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ) نصّ في صفاته ، فإنّ اليوم الآخر عرفناه بقدرته وبكلامه ؛
فأما علمنا له بقدرته فإنّ القدرة على اليوم الأول دليل على القدرة على اليوم الآخر.
وأما علمنا له بالكلام فبإخباره أنه فاعله ، فإذا أنكر أحد البعث فقد أنكر القدرة
والكلام ، وكفر قطعا بغير كلام ، وقوله : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما
حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) نصّ في أفعاله التي من أمهاتها إرسال الرسل ، وتأييدهم
بالمعجزات النازلة منزلة قوله : صدقتم أيها الرسل ، فإذا أنكر أحد الرسل ، أو
كذّبهم فيما يخبرون عنه من التحليل والتحريم ، والأوامر والندب ، فهو كافر ، وكل
جملة من هذه الوجوه الثلاثة له تفصيل تدلّ عليه هذه الجملة التي أشرنا ، بها اختلف
الناس في التكفير بذلك التفصيل ، والتفسيق والتخطئة والتصويب ؛ وذلك كالقول في
التشبيه والتجسيم والجهة ، أو الخوض في إنكار العلم والقدرة ، والإرادة والكلام
والحياة ؛ فهذه الأصول يكفر جاحدها بلا إشكال.
وكقول المعتزلة : إنّ العباد يخلقون أفعالهم ، وإنهم يفعلون مالا
يريده الله ، وإن نفوذ القضاء والقدر على الخلق بالنار جور.
وكقوله المشبهة :
إنّ الباري جسم ، وإنه يختص بجهة ، وإنه قادر على المحال ، وإنه تعالى قد نصّ على
كل حادثة من الأحكام.
وهذا كلّه كذب
صراح ، وبعد هذا تفاصيل ينبنى عليها ويجرّ إليها ، وفي التكفير بها تدقيق .
__________________
ومن أعظم الإشارة
بقوله : ولا باليوم الآخر ـ الإخبار عن النصارى الذين يقولون : إن نعيم الجنة
وعذاب النار معان ؛ كالسرور والهم ، وليست صورا ، ولا فيها أكل ولا شرب ، ولا وطء
ولا حياة ، ولا مهل يشرب ، ولا نار تلظّى.
وقوله : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ
وَرَسُولُهُ) إخبار عما كانت العرب تفعله من التحريم بعقولها في السائبة
والوصيلة والحام ، وما يختص بتحريمه الإناث دون الذكور ، إلى غير ذلك من أقوال
الزّور ، وعما كانت الرهبان تفعله ، والأحبار من اليهود تبتدعه من تحريم
ما أحلّ الله في الإنجيل والتوراة ، أو تحليل ما حرّم الله عليهم فيه.
وقوله : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) إشارة إلى هذه الجملة من الاعتقاد للحق والعمل بمقتضى
الشرع.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) :
وفي ذكرهم هاهنا
ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنهم
كانوا أمروا بقتال المشركين ، فأمروا أيضا بقتال أهل الكتاب مع المشركين ؛ لما فيه
من الحق من ذكر الرسول وغيره ، وكان تخصيصا لما تناوله اللفظ العام على معنى
التأكيد.
الثاني ـ أنّ قوله
: (مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) تأكيد للحجة ؛ فإنّ المشركين من عبدة الأوثان لم تكن عندهم
مقدمة من التوحيد والنبوة وشريعة الإسلام ، فجاءهم الأمر كله فجأة على جهالة.
فأما أهل الكتاب
فقد كانوا عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل ، وخصوصا ذكر محمد صلى الله
عليه وسلم وملّته وأمته ؛ فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة ، وعظمت منهم الجريمة ،
فنبّه على محلهم بذلك.
الثالث ـ أنّ
تخصيصهم بالذكر إنما كان لأجل قوله تعالى بعد ذلك : (حَتَّى يُعْطُوا
__________________
الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ). والذين يختصّون بفرض الجزية عليهم هم أهل الكتاب دون غيرهم
من صنف الكفار ، وهذا صحيح على أحد الأقوال على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة ـ
فإن قيل : أليس النصارى واليهود يؤمنون بالله واليوم الآخر؟
قلنا : عنه جوابان
:
أحدهما ـ أنا قد
بيّنا أنّ أحدا منهم لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
الثاني ـ أنهم وإن
كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر فإنهم قد كذّبوا الرسول ، ولم يحرّموا ما حرّم
الله ورسوله ، ولا دانوا بدين الحق.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ) :
فيها ثلاثة أقوال
:
أحدهما ـ أنها
عطية مخصوصة.
الثاني ـ أنها
جزاء على الكفر.
الثالث ـ أنّ
اشتقاقها من الإجزاء بمعنى الكفاية ، كما تقول : جزى كذا عنّى يجزي إذا قضى.
المسألة السادسة ـ
في تقديرها :
روى ابن القاسم ،
وأشهب ، ومحمد بن الحارث بن زنجويه ، وابن عبد الحكم ، عن مالك ـ أنها أربعة
دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على الورق ، وإن كانوا مجوسا.
وكذلك روى مالك ،
عن نافع ، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر [بن الخطاب رضى الله عنه] ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق
أربعين درهما ، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام.
وقيل : إنّ ذلك
غير مقدّر ، وإنما هو على قدر ما يراه الإمام ويجتهد فيه ؛ من الغنى والفقر ،
والقلّة والكثرة ، والاقتداء بعمر أسوة.
__________________
وقد روى البخاري ،
عن ابن أبى لجيم ـ قلت لمجاهد : ما بال أهل الشام عليهم أربعة دنانير ، وعلى أهل
اليمن دينار؟
قال : إنما جعل
ذلك من أجل اليسار.
وقد روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ : خذ
من كل حالم دينارا أو عدله معافرى ، ثم ضرب الجزية عمر في زمانه على ما تقدم ؛ فدلّ على أنه
إنما يراعى في ذلك الثروة والقلّة.
المسألة السابعة ـ
في محل الجزية أربعة أقوال :
الأول ـ أنها تقبل
من أهل الكتاب عربا كانوا أو غيرهم.
الثاني ـ قال ابن
القاسم : إذا رضيت الأمم كلّها بالجزية قبلت منهم.
الثالث ـ قال ابن
الماجشون : لا تقبل.
الرابع ـ قال ابن
وهب : لا تقبل من مجوس العرب ، وتقبل من غيرهم.
وجه من قال : إنها
تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو غيرهم تخصيص الله بالذكر أهل الكتاب.
وأما من قال :
إنها تقبل من الأمم كلها فالحديث الصحيح في كتاب مسلم وغيره
، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش
أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المؤمنين خيرا. ثم قال : اغزوا
باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلّوا ، ولا تغدروا
ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليدا. وإذا
لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال ، فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم
، وكفّ عنهم : ادعهم إلى الدخول في الإسلام ، فإن فعلوا فاقبل منهم وكفّ عنهم ،
ثمّ ادعهم إلى التحوّل عن دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم بأنهم إن فعلوا ذلك
فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم
أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ، ولا
يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ،
__________________
إلا
أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، وإن هم أجابوك فاقبل منهم ،
وكفّ عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.
وذكرنا في الحديث
في البخاري وغيره من الصحيح أنّ عمر توقّف في أخذ الجزية من المجوس ، حتى أخبره
عبد الرحمن بن عوف أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
ووجه قول ابن وهب
أنه ليس في العرب مجوس ، لأنّ جميعهم أسلم ، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتدّ
؛ يقتل بكل حال إن لم يسلم ، ولا يقبل منه جزية.
والصحيح قبولها من
كل أمة وفي كل حال عند الدعاء إليها والإجابة بها.
المسألة الثامنة ـ
ومحلّها من المشركين الأحرار البالغون العقلاء دون المجانين ، وهم الذين يقاتلون ،
دون النساء والصبيان لذلك.
واختلف في الرهبان
؛ فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم.
قال مطرّف ، وابن
الماجشون : هذا إذا لم يترهّب بعد فرضها ، فإن فرضت ، لم يسقطها ترهّبه. وهذا
مبنيّ على قول أبى بكر : وستجد قوما حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما حبسوا أنفسهم له
، فإذا لم يهيجوا ولم يقتلوا لم تطلب منهم جزية ، لأنها بدل عن القتل.
المسألة التاسعة ـ
قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) : فيه خمسة عشر قولا :
الأول ـ أن يعطيها
وهو قائم والآخذ جالس ؛ قاله عكرمة.
الثاني ـ يعطونها
عن أنفسهم بأيديهم يمشون بها ؛ قاله ابن عباس.
الثالث ـ يعنى من
يده إلى يد آخذه ، كما تقول : كلمته فما لفم ، ولقيته كفّة كفّة ، وأعطيته يدا عن يد.
الرابع ـ عن قوة
منهم.
الخامس ـ عن ظهور.
السادس ـ غير محمودين ولا مدعوّ لهم.
السابع ـ توجأ عنقه.
__________________
الثامن ـ عن ذل.
التاسع ـ عن غنى .
العاشر ـ عن عهد .
الحادي عشر ـ نقدا
غير نسيئة .
الثاني عشر ـ اعترافا
منهم أنّ يد المسلمين فوق أيديهم .
الثالث عشر ـ عن
قهر.
الرابع عشر ـ عن
إنعام بقبولها عليهم.
الخامس عشر ـ مبتدئا
غير مكافئ.
قال الإمام : هذه
الأقوال منها متداخلة ومنها متنافرة ، وترجع إلى معنيين :
أحدهما ـ أن يكون
المراد باليد الحقيقة ، والآخر أن يكون المراد باليد المجاز.
فإن كان المراد به
الحقيقة فيرجع إلى من قال : إنه يدفعها بنفسه غير مستنيب في دفعها أحدا.
وأما جهة المجاز
فيحتمل أن يريد به التعجيل ، ويحتمل أن يريد به القوة ، ويحتمل أن يريد به المنّة
والإنعام.
وأما قول من قال :
وهو قائم والآخذ جالس فليس من قوله عن يد ، وإنما هو من قوله : عن يد وهم صاغرون ـ
وهي :
المسألة العاشرة ـ
وكذلك قوله : يمشون بها وهم كارهون ، من الصغار. وكذلك قول أبى عبيدة : ولا مقهور
بن يعود إلى الصغار واليد ، وحقيقة الصغار تقليل الكثير من الأجسام ، أو من
المعاني في المراتب والدرجات.
المسألة الحادية
عشرة ـ اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه ؛ فقال علماء المالكية : وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر.
وقال بعض الحنفية
بقولنا.
وقال الشافعى :
بدلا عن حقن الدم وسكنى الدار.
__________________
وقال بعضهم ـ من
أهل ما وراء النهر : إنما وجبت بدلا عن النصرة بالجهاد. واختاره القاضي أبو زيد ،
وزعم أنه سرّ الله في المسألة.
واستدلّ علماؤنا
على أنها عقوبة [بأنها] وجبت بسبب الكفر ، وهو جناية ؛ فوجب أن يكون مسبّبها عقوبة
؛ ولذلك وجبت على من يستحق العقوبة ، وهم البالغون العقلاء المقاتلون.
وقال أصحاب
الشافعى : الدليل على أنها وجبت بدلا عن حقن الدم ، وسكنى الدار ، أنها تجب
بالمعاقدة والتراضي ، ولا تقف العقوبات على الاتفاق والرضا. وأيضا فإنها تختلف
باليسار والإعسار ، ولا تختلف العقوبات بذلك. وأيضا فإنّ الجزية تجب مؤجّلة
والعقوبات تجب معجّلة ؛ وهذا لا يصح.
وأما قولهم : إنها
وجبت بالرضا فغير مسلّم ؛ لأن الله تعالى أمرنا بقتالهم حتى يعطوها قسرا.
وأما إنكارهم
اختلاف العقوبات بالقلة واليسار فذلك باطل من الإنكار ؛ لأن ذلك إنما يبعد في العقوبات البدنية دون المالية ، ألا ترى أنّ العقوبات
البدنية تختلف بالثيوبة ، والبكارة ، والإنكار ، فكما اختلفت عقوبة البدن باختلاف
صفة الموجب عليه لا يستنكر أن يختلف عقوبة المال باختلاف صفة المال في الكثرة
والقلة.
وأما تأجيلها
فإنما هو بحسب ما يراه الإمام مصلحة ، وليس ذلك بضربة لازب فيها.
وقد استوفيناها في
مسائل الخلاف.
وفائدتها أنا إذا
قلنا : إنها بدل عن القتل فإذا أسلم سقطت عنه لسقوط القتل.
وعند الشافعى أنها
دين استقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار.
المسألة الثانية
عشرة ـ شرط الله تعالى هذين الوصفين ، وهما قوله : (عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صاغِرُونَ) ؛ للفرق بين ما يؤدّى عقوبة وهي الجزية ، وبين ما يؤدّى
طهرة وقربة وهي الصدقة ، حتى قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : اليد العليا خير من اليد السفلى. واليد العليا هي المعطية ، واليد السفلى هي السائلة ؛ فجعل
يد المعطى في الصدقة عليا ، وجعل يد المعطى في الجزية صاغرة
__________________
سفلى ، ويد الآخذ
عليا ، ذلك بأنه الرافع الخافض ، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء ، وكل فعل أو حكم
يرجع إلى الأسماء حسبما مهّدناه في الأمد الأقصى.
فإن قيل : وهي :
المسألة الثالثة
عشرة ـ إذا بذل الجزية فحقن دمه بمال يسير مع إقراره على الكفر بالله ؛ هل هذا إلا
كالرضا به؟
فالجواب أنا نقول
: في ذلك وجهان من الحكمة :
أحدهما ـ أنّ في
أخذها معونة للمسلمين وتقوية لهم ، ورزق حلال ساقه الله إليهم.
الثاني ـ أنه لو
قتل الكافر ليئس من الفلاح ووجب عليه الهلكة ؛ فإذا أعطى الجزية وأمهل لعله
أن يتدبّر الحق ، ويرجع إلى الصواب ، لا سيما بمراقبة أهل الدين ، والتدرّب بسماع
ما عند المسلمين ؛ ألا ترى أن عظيم كفرهم لم يمنع من إدرار رزقه سبحانه عليهم. وقد
قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : لا
أحد أصبر على أذى من الله ، يعافيهم ويرزقهم ، وهم يدعون له الصاحبة والولد.
وقد بيّن علماء
خراسان هذه المسألة ، فقالوا : إنّ العقوبات تنقسم إلى قسمين :
أحدهما ـ ما فيه
هلكة المعاقب.
والثاني ـ ما يعود
بمصلحة عليه ، من زجره عما ارتكب ، وردّه عما اعتقد وفعل.
الآية الرابعة ـ عشرة
ـ قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ، ذلِكَ
قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
هذا من قول ربّنا دليل على أنّ من أخبر عن كفر غيره ـ الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ
به ـ لا حرج عليه ؛ لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والردّ عليه ، فلا
يمنع ذلك منه ، ولو شاء ربّنا ما تكلم به أحد ، فإذا أمكن من انطلاق الألسنة به
فقد أذن في الإخبار عنه ، على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجّة والبرهان.
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ) : كلّ قول أحد إنما هو بفيه ، ولكن الحكمة فيه أنه قول
باطل لا يتجاوز الفم ، وهو الموضع الذي تحرّك به ؛ لأنه لا يعلم باضطرار ، ولا يقوم
عليه برهان ، فيقف حيث وجد ، ولا يتعداه بحدّ ، بخلاف الأقوال الصحيحة ، فإنها
تنتظم وتطّرد ، وتعضدها الأدلة ، وتقوم عليها البراهين ، وتنتشر بالحق ، وتظهر
بالبيان والصدق.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (يُضاهِؤُنَ) : يعنى يشابهون. ومنه قول العرب : امرأة ضهياء للتي لا
تحيض ، والتي لا ثدي لها ، كأنها أشبهت الرجال.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) :
فيه ثلاثة تأويلات
:
الأول ـ قول عبدة
الأوثان : اللات ، والعزّى ، ومناة الثالثة الأخرى.
الثاني ـ قول
الكفرة : الملائكة بنات الله.
الثالث ـ قول
أسلافهم ، فقلّدوهم في الباطل ، واتّبعوهم في الكفر ، كما أخبر تعالى عنهم بقوله : (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) ، وفي هذا ذمّ الاتباع في الباطل.
الآية الخامسة
عشرة ـ قوله تعالى : (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ، لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ الحبر
: هو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه ، ومنه ثوب محبّر ، أى جمع الزينة. ويقال بكسر الحاء
وفتحها ، وقد غلط فيه بعض الناس ، فقال : إنما سمى به لحمل الحبر وهو المداد
والكتابة.
والراهب هو من
الراهبة : الذي حمله خوف الله على أن يخلص إليه النية دون الناس ، ويجعل زمامه له
، وعمله معه ، وأنسه به.
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله : (أَرْباباً مِنْ دُونِ
اللهِ) :
روى الترمذىّ
وغيره ، عن عدىّ بن حاتم ، قال : أتيت
النبىّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : ما هذا يا عدىّ؟ اطّرح
عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ في
سورة براءة : (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ). قال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا
أحلّوا لهم شيئا استحلّوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه . وفيه دليل على أن التحريم والتحليل لله وحده ، وهذا مثل
قوله : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما
حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ؛ بل يجعلون التحريم لغيره.
الآية السادسة
عشرة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
فيها إحدى عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ قوله
: (لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) :
فيه قولان :
أحدهما ـ أكلها
بالرّشا ، وهي كل هديّة قصد بها التوصل إلى باطل ، كأنها تسبّب إليه ؛ من الرّشاء ، وهو الحبل ؛
فإن كانت ثمنا للحكم فهو سحت وإن كانت ثمنا للجاه فهي مكروهة ؛ قال النبي صلى الله عليه
وسلم : لعن الله الرّاشى
والمرتشي ، والرائش ، وهو
الذي يصل بينهما ، ويتوسّط لذلك معهما.
الثاني ـ أخذها
بغير الحق ، كما قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ). وقد بيناه.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) :
__________________
معناه صدّهم لأهل دينهم عن الدخول في الإسلام بتبديلهم وتغييرهم
، وإغوائهم وتضليلهم ، فهذا كلّه صحيح ، لا يدفعه اللفظ.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) :
الكنز في اللغة هو
المال المجموع ، كان فوق الأرض أو تحتها ، يقال : كنزه يكنزه إذا جمعه ، فأما في
الشرع ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
فنحن لا نقول : إن الشرع غير اللغة ، وإنما نقول : إنه تصرف فيها تصرّفها في نفسها
بتخصيص بعض مسمّياتها ، وقصر بعض متناولاتها للأسماء ، كالقارورة والدابة في بعض
العقار والدواب.
وقد اختلف فيه على
سبعة أقوال :
الأول ـ أنه
المجموع من المال على كل حال.
الثاني ـ أنه
المجموع من النّقدين.
الثالث ـ أنه
المجموع منهما ما لم يكن حليّا.
الرابع ـ أنه
المجموع منهما دفينا.
الخامس ـ أنه
المجموع منهما لم تؤدّ زكاته.
السادس ـ أنه
المجموع منهما لم تؤدّ منه الحقوق.
السابع ـ أنه
المجموع منهما ما لم ينفق ويهلك في ذات الله.
وجه القول الأول
ما روى ابن هرمز عن أبى هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : تأتى الإبل على صاحبها على خير ما كانت
إذا لم يعط منها حقّها ، تطؤه بأظلافها. وتأتى الغنم على صاحبها على خير ما كانت
إذا لم يعط منها حقّها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها. قال : ومن حقها أن تحلب على
الماء ، وليأتينّ أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار ، فيقول : يا محمد.
فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد بلّغت. ويأتى ببعير يحمله على رقبته له رغاء
فيقول : يا محمد. فأقول : لا أملك من الله شيئا ، قد بلغت.
__________________
وفي رواية : حتى ذكر الإبل فقال : وحقها إطراق فحلها ، وإفقار ظهرها ، وحلبها
يوم وردها. وهذا محتمل لكل جامع في كل موطن بكل حال.
ووجه القول الثاني
أنّ الكنز إنما يستعمل لغة في النقدين ، وإنما يعرف [تحريم] ضبط غيره بالقياس عليه.
ووجه القول الثالث
أنّ الحلي مأذون في اتخاذه ولا حقّ فيه ، ويأتى بيانه إن شاء الله.
ووجه القول الرابع
ـ وهو الدفين ـ ما روى مالك بن أوس بن الحدثان ، عن أبى ذرّ أنّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : في
الإبل صدقتها ، وفي البقر صدقها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي التمر صدقته ، ومن دفن
دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة لا يدفعها بعدها لغريم ، ولا ينفقها في سبيل الله
فهو كنز يكوى به يوم القيامة.
ووجه القول الخامس
ما روى البخاري وغيره عن ابن عمر أنّ أعرابيا قال له : أخبرنى عن قول الله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ). قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤدّ زكاتها فويل له ، إنما
كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرة للأموال.
ووجه القول السادس
قوله في حديثها : ومن
حقّها حلبها يوم وردها ، وإطراق فحلها.
ووجه القول السابع
أنّ الحقوق أكثر من الأموال ، والمساكين لا تستقلّ بهم الزكاة ، وربما حبست
عنهم ، فكنز المال دون ذلك ذنب.
المسألة الخامسة ـ
اختلفت الصحابة في المراد بهذه الآية ؛ فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب.
وخالفه أبو ذرّ وغيره ، فقال : المراد بها أهل الكتاب والمسلمون روى البخاري وغيره
، عن زيد بن وهب ، قال : مررت بالرّبذة ، فإذا أنا بأبى ذرّ ، فقلت له : ما أنزلك منزلك هذا؟ قال
: كنت بالشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في : (الَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ، فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب. فقلت : نزلت فينا
وفيهم ، وكان بيني وبينه [ريبة] في ذلك.
فكتب إلى عثمان
يشكوني ، فكتب إلىّ عثمان أن أقدم المدينة. فقدمتها ، فكثر علىّ
__________________
الناس حتى كأنهم
لم يرونى قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان. وفي رواية قال : حتى آذوني. فقال لي عثمان :
إن شئت تنحّيت فكنت قريبا ، فذاك الذي أنزلنى هذا المنزل ، ولو أمّروا علىّ حبشيا
لسمعت وأطعت.
وهذا يدل على أن
الكفّار عند الصحابة يخاطبون بفروع الشريعة.
وذهب عمر إلى أنها
منسوخة ؛ نسختها : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ؛ قال عراك بن مالك : ولا شك في أنها منسوخة.
المسألة السادسة ـ
في تنقيح الأقوال ، وجلاء الحق ، وذلك ينحصر في ثلاثة مدارك المدرك الأول ـ أنّ
الكلّ من فقهاء الأمصار اتفقوا على أنه ليس في المال حقّ سوى الزكاة ، وقد بيناه.
وإذا لم يكن في المال حقّ سواها وقضيت بقي المال مطهّرا ، كما قال عمر.
المدرك الثاني ـ أن
الآية عامة في أهل الكتاب وغيرهم ، وقد أكّد الله ذلك بقوله: (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ).
المدرك الثالث ـ تخليص
الحق من هذين الأصلين ، فنقول :
أما الكنز فهو مال
مجموع ، لكن ليس كل مال دين لله تعالى فيه حق ، ولا حقّ لله سوى الزكاة ؛ فإخراجها
يخرج المال عن وصف الكنزية ، ثم إنّ الكنز لا يكون إلا في الدنانير والدراهم أو
تبرها ، وهذا معلوم لغة. ثم إنّ الحلّى لا زكاة فيه ؛ فيتنخل من هذا أنّ كلّ ذهب
أو فضة أدّيت زكاتهما ، أو اتخذت حليا فليسا بكنز ، وذلك قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ ...) الآية.
وهذا يدل على أنّ
الكنز في الذهب والفضة خاصة ، وأنّ المراد بالنفقة الواجب لقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، ولا يتوجّه العذاب إلا على تارك الواجب.
فإن قيل : فما
الدليل على أنّ الحلّى لا زكاة فيه ـ وهي :
المسألة السابعة ـ
قلنا : اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا ، أصله قول مالك والشافعى : لا زكاة في
الحلي المباح.
__________________
وقال أبو حنيفة : تجب فيه الزكاة. ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
فيه شيء.
فأما أبو حنيفة :
فأخذ بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين ولم يفرق بين حلى وغيره.
وأما علماؤنا
فقالوا : إن قصد التملك لما أوجب الزكاة في العروض ، وهي ليست بمحلّ لإيجاب الزكاة
، كذلك قصد قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليا يسقط الزكاة ، فإن ما أوجب
ما لم يجب يصلح لإسقاط ما وجب ، وتخصيص ما عمّ وشمل.
وقد قال بعض الناس
: إن ما زاد على أربعة آلاف كنز ، وعزوه إلى علىّ. وليس بشيء يذكر ، لبطلانه.
أما إنه ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنّ
الأكثرين مالا هم الأقلّون يوم القيامة إلّا من قال هكذا وهكذا ، وأشار بيده
يفرّقها.
قال أبو ذرّ :
الأكثرون أصحاب عشرة آلاف ، يريد أنّ الأكثرين مالا هم الأقلّون يوم القيامة ثوابا
، إلّا من فرّقه في سبيل الله.
وهذا بيان لنقصان
المرتبة بقلّة الصدقة ، لا لوجوب التفرقة بجميع المال ، ما عدا الصدقة الواجبة ،
يبيّنه ما
روى الترمذي عن
سالم بن أبى الجعد ، عن ثوبان ، قال : لما
نزلت : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ،
فقال بعض أصحابه : أنزلت في الذهب والفضة . لو
علمنا أى المال خير فنتخذه؟ فقال : أفضله لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وزوجة مؤمنة
تعينه على إيمانه.
فجعل النبىّ صلى
الله عليه وسلم هذا جوابا لمن علم رغبته في المال فردّه إلى منفعة المال ، لما فيه
من الفراغ ، وعدم الاشتغال.
وقد بيّن أيضا في
مواضع أخر : أى المال خير في حالة أخرى لقوم آخرين؟ فقال : خير مال المسلم غنم
يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفرّ بدينه من الفتن.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) ، فذكر ضميرا واحدا عن مذكورين.
__________________
وعنه جوابان :
أحدهما ـ أن قوله
: (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ) جماعة ، ولكل واحد كنز ، فمرجع قوله : «ها» إلى جماعة
الكنوز.
الثاني ـ أن ذكر
أحد الضميرين يكفى عن الثاني ، كما قال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها). وهما شيئان ، كما قال الشاعر :
إنّ شرخ الشباب
والشعر الأس
|
|
ود ما لم يعاص
كان جنونا
|
وطريق الكلام
الظاهر أن يقال ما لم يعاصيا ، ولكنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ، لدلالة الكلام
عليه.
المسألة التاسعة ـ
إنما وهم من زعم أنّ المراد بالآية أهل الكتاب ، لأجل قوله في أول الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ
بِالْباطِلِ) ، يعنى من أهل الكتاب ، فرجع قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ) إليهم.
وهذا لا يصحّ من
وجهين :
أحدهما ـ أنّ أول
الكلام وخصوصه لا يؤثّر في آخر الكلام وعمومه ، لا سيما إذا كان مستقلا [بنفسه] .
الثاني ـ أن هذا
إنما كان يظهر لو قال : ويكنزون الذهب والفضة. أما وقد قال : والذين يكنزون الذهب
والفضة ، فقد استأنف معنى آخر يبيّن أنه عطف جملة على جملة ، لا وصفا لجملة على
وصف لها.
ويعضد ذلك الحديث
الصحيح ، رواه البخاري وغيره أن الأحنف بن قيس قال : جلست إلى ملأ من قريش ، فجاء رجل أخشن
الشعر والثياب والهيئة ، حتى قام فسلّم عليهم ، ثم قال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج
من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل .
__________________
ثم
ولّى فجلس إلى سارية ، وجاست إليه ، ولا أردى من هو ، فقلت له : لا أرى القوم إلا
قد كرهوا ما قلت لهم. قال : إنهم لا يعقلون شيئا ، قال لي خليلي. قلت : من خليلك؟
قال : النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ؛ أتبصر أحدا؟ فنظرت إلى الشمس ما بقي
من النهار ، وأنا أرى رسول الله يرسلني في حاجة له. قلت : نعم. قال لي : ما أحبّ
أنّ لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله ، إلا ثلاثة دنانير ، وإن هؤلاء لا يعقلون ، إنما
يجمعون للدنيا ، والله لا أسألهم دنيا ، ولا أستفتيهم عن دين ، حتى ألقى الله .
قال القاضي :
الحلمة : طرف الثدي ، والنّغض ، بارز عظم الكتف المحدد. ورواية أبى ذر لهذا الحديث
صحيحة ، وتأويله غير صحيح ؛ فإن أبا ذر حمله على كل جامع للمال محتجز له ، وإنما
المراد به من احتجنه واكتنزه عن الزكاة. والدليل عليه أمران :
أحدهما ـ ما رواه
البخاري وغيره عن أبى هريرة قال : من آتاه الله ما لا فلم يؤدّ زكاته مثّل له ماله
شجاعا أقرع له زبيبتان ، يطوّقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه ـ يعنى بشدقيه ـ يقول
: أنا مالك ، أنا كنزك. ثم قرأ : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ ...) الآية. وقد تقدم بيانه.
قال القاضي : قوله
: ما لم تؤدّ زكاته ، يريد أو حقّ يتعلق به ، كفكّ الأسير ، وحق الجائع ،
والعطشان. وقد بينا أن الحقوق العارضة كالحقوق الأصلية.
وقوله : مثّل له
ماله شجاعا ، يعنى حيّة. وهذا تمثيل حقيقة ؛ لأن الشجاع جسم والمال جسم ، فتغيّر
الصفات والجسمية واحدة ، بخلاف قوله : يؤتى بالموت فإن تلك طريقة أخرى. وإنما خص
الشجاع ؛ لأنه العدو الثاني للخلق. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن : ما سالناهن منذ حاربناهن.
وقوله : أقرع ،
يعنى الذي ابيضّ رأسه من السم.
والزبيبتان :
زبدتان في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام ، قالت أم غيلان بنت جرير : ربما
أنشدت أبى حتى تزبّب شدقاى.
__________________
ضرب مثلا للشجاع
الذي يتمثّل كهيئة المال ، فيلقى صاحبه غضبان. وقال ابن دريد : هما نقطتان سوداوان
فوق عينيه. وقيل : هو الشجاع الذي كثر سمّه حتى ظهر على شدقيه منه كهيئة
الزبيبتين.
وكتب أهل الحديث
شجاع بغير ألف بعد العين. وذكر بعض العلماء أنّ أهل الكوفة كتبوه بغير ألف ،
وقرءوه منصوبا لئلا يشكل بالمدود ، وكذلك نظراؤه.
واللهزمة :
الشدقان. وفي رواية : يأخذ بلهزمتية. وقيل : هما في أصل الحنك.
وفي حديث آخر : إنه يمثل له ماله شجاعا يتبعه فيضطره
فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل. فأما حبسه ليده فلأنه شحّ بالمال وقبض بها عليه ، وأما أخذه
بفمه فلأنه أكله ، وأما خروجه من حلمة ثديه إلى نغض كتفه فلتعذيب قلبه وباطنه حين
امتلأ بالفرح بالكثرة في المال والسرور في الدنيا ؛ فعوقب في الآخرة بالهمّ
والعذاب.
المسألة العاشرة ـ
فإن قيل : فمن لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله أليس يكون هذا حكمه؟ فما فائدة ذكر
الكنز؟
قلنا : إذا لم
ينفق في سبيل الله ولم يكنز ، ولكنه بذّر ماله في السرف والمعاصي فهذا يعلم أنّ
حاله يكون مثل هذا أو أكثر منه من طريق الأولى.
فإن قيل ـ وهي :
المسألة الحادية
عشرة ـ يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت في وقت الحاجة ، وفقر الصحابة ، وفراغ خزانة
بيت المال.
قلنا : هذا باطل ؛
فإنّ الزكاة قد كانت شرعت ، وقد كان بعض الصحابة أغنياء ، وبعضهم فقراء ، وقد كان
الفقير منهم يربط بطنه بالحجارة من الجوع ، وبيوت الصحابة الأغنياء مملوءة من
الرزق ؛ يشبع أولئك ، ويجوع هؤلاء ، فيندبهم النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة ، ويرغّبهم في
المواساة ، ولا يوجب عليهم الخروج عن جميع أموالهم.
الآية السابعة
عشرة ـ قوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ).
__________________
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ روى
عن أبى هريرة قال : من ترك عشرة آلاف درهم جعلت صفائح يعذّب بها صاحبها يوم
القيامة قبل القضاء. وعن ابن مسعود أنه قال : والله لا يعذب الله رجلا بكنز فيمسّ
درهم درهما ، ولا دينار دينارا ، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كلّ دينار ودرهم على
حدته.
وعن ثوبان قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما
من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل له بكل قيراط صفيحة من نار فيكوى بها من
فرقه إلى قدمه ، مغفور له بعد ذلك أو معذّب.
قال القاضي : هذه
الأحاديث لم يصح سندها ، وهي بعد محمولة على ما لم تؤدّ زكاته ، فقد روى أنّ رجلا
كان يسأل الناس ، فمات فوجدوا له عشرين ألفا ، فقال الناس : كنز. فقال ابن عمر :
لعله كان يؤدى زكاته من غيره ، وما أدّى زكاته فليس بكنز. ومثله عن جابر رضى الله عنه.
وأما قول ابن
مسعود : أنه يوسّع جلده ـ فهذا إنما صحّ في الكافر أنه تعظم جثته زيادة في عذابه ،
ويغلظ جلده ، ويكبر ضرسه ، حتى يكون مثل أحد. فأما المؤمن فلا يكون ذلك له بحال.
المسألة الثانية ـ
قال علماؤنا : إنما كويت جبهته أولا لعلّه أنه كان يزويها للسائل كراهية لسؤاله ،
كما قال الشاعر :
يزيد يغضّ الطّرف عنى كأنما
|
|
زوى بين عينيه
علىّ المحاجم
|
فلا ينبسط من
بين عينيك ما انزوى
|
|
ولا تلقني إلّا
وأنفك راغم
|
ثم يلوى عن وجهه ،
ويعطيه جنبه إذا زاده في السؤال ؛ فإن أكثر عليه ولّاه ظهره ؛ فرتّب الله العقوبة
على حال المعصية.
وقد روى عن عبد
الله بن مسعود قال : من كان له مال فلم يؤدّ زكاته طوّقه يوم القيامة شجاعا أقرع ينقر رأسه.
__________________
فلعله إن صح أن
يكون الكىّ من خارج ، والنقر من داخل.
وقالت الصوفية :
لما طلبوا بكثرة المال الجاه شأن الله وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا
جالسهم كويت جنوبهم ، ولما أسندوا بظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها دون
الله كويت ظهورهم ، هذا والكل معنى صحيح.
المسألة الثنالة ـ
إن كان المكتتر كافرا فهذه بعض عقوباته ، وإن كان مؤمنا فهذه عقوبته إن لم يغفر له
، ويجوز أن يعفى عنه. وقد بينا ذلك في غير موضع.
وقال علماؤنا :
إنما عظم الوعيد في هذا الباب لما في اختلاف العباد من الشحّ على المال والبخل به ؛ فإذا خافوا من عظيم
الوعيد لانوا في أداء الطاعة. والله أعلم.
الآية الثامنة
عشرة ـ قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما
يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
فيها ثمان مسائل :
المسألة الأولى ـ اعلموا
ـ أنار الله أفئدتكم ـ أنّ الله خلق السموات والأرض ، وزيّنها بالشمس ، والقمر ،
ورتّب فيها النور والظلمة ، وركّب عليها المصالح الدنيوية والعبادات الدينية ،
وأحكم الشهور والأعوام ، ونظم بالكل من ذلك ما خلق من مصلحة ومنفعة ، وعبادة وطاعة
، وعلّم ذلك الناس أولا وآخرا ، ابتداء وانتهاء ؛ فقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) إلى : (الْأَلْبابِ). وقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً ...) ـ إلى : (بِالْحَقِ). فأخذ كلّ فريق ذلك فاضطربوا في تفصيله ، فقال الروم :
السنة اثنا عشر شهرا ، والشهور مختلفة ؛ شهر ثمانية وعشرون يوما ، وشهر ثلاثون
يوما ، وشهر واحد وثلاثون يوما.
وقال الفرس :
الشهور كلها ثلاثون يوما ، إلا شهرا واحدا ، فإنه من خمسة وثلاثين يوما.
__________________
وقالت القبط
بقولها : إنّ الشّهر ثلاثون يوما ، إلا أنه إذا كمل العام ألغت خمسة أيام تنسئها بزعمها .
واتفقوا على أنه
لا بدّ في كل عام من ربع يوم مزيدا على العام ، ثم يجتمع منه في كل أربعة أعوام
يوم فيكبس ـ أى يلغى ويزاد في العدد ، ويستأنف العام بعده ، وهذا كلّه قصدا لترتيب
المصالح والمنافع.
المسألة الثانية ـ
تحقيق القول أنّ الله خلق السنة اثنى عشر شهرا ؛ لأنّ الله خلق البروج في السماء
اثنى عشر برجا ، ورتّب فيها سير الشمس والقمر ، وجعل مسير القمر ، وقطعه للفلك في
كل شهر ، وجعل سير الشمس فيها ، وقطعه في كل عام ، ويتقابلان في الاستعلاء فيعلو
القمر إلى الاستواء ، وتسفل الشمس ، وتعلو الشمس ، ويسفل القمر ، وهكذا على
الأزمنة الأربعة ، وفي الشهور الاثنى عشر ، وجعل عدد أيام السنة القمرية ربع يوم
وأربعة وخمسين يوما وثلاثمائة يوم ، وجعل أيام السنة الشمسية ربع يوم وخمسة وستين
يوما وثلاثمائة يوم ؛ فركب العلماء على هذا مسألة ، وهي إذا قال : لا أكلمه الشهور
، فلا يكلمه حولا مجرّما : كاملا ـ قال بعض العلماء ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ
اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ). وقيل : لا يكلمه أبدا.
وأرى إن لم تكن له
نية أن يقضى ذلك بثلاثة شهور ، لأنه أقل الجمع بيقين الذي تقتضيه صيغة فعول في جمع
فعل.
ومن الناس من جعل
سنة من السنين ثلاثة عشر شهرا مقدار ما يجتمع من الكسر في الزيادة فيلغون منه شهرا في سنة ، وقصدهم بذلك كله ألّا تغير الشهور عن
أوقاتها التي تجرى عليها في الأزمنة الأربعة : الشتاء والصيف ، والقيظ والخريف.
المسألة الثالثة ـ
مما ضلّ فيه جهّال الأمم أنهم وضعوا صومهم في زمان واحد ، وكان وضع الشريعة
الحنيفية السمحة أن يكون بالأهلّة حتى يخفّ تارة ويثقل أخرى ، حتى يعمّ
__________________
الابتلاء الجهتين
جميعا ؛ فيختلف الحال فيه على الواحد. والنفس كثيرا ما تسكن إلى ذلك أو يختلف فيه
الحال على الجماعة والأمة لذلك المعنى أيضا.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (فِي كِتابِ اللهِ) :
يريد قوله صلى
الله عليه وسلم : أول
ما خلق الله القلم. فقال له : اكتب. فكتب ما يكون إلى أن تقوم الساعة ؛ فعلم الله
ما يكون في الأزل ، ثم كتبه ، ثم خلقه كما علم وكتب ؛ فانتظم العلم والكتاب
والخلق.
المسألة الخامسة ـ
قوله : (يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) متعلق بالمصدر ، وهو قوله : (كِتابِ اللهِ) ، كما أن حرف الجر من قوله : في كتاب الله ، وهو : في ، لا
يتعلق بقوله عدّة ؛ لأنّ الخبر قد حال بينهما ، ولكنه يتعلّق بمحذوف صفة للخبر ،
كأنه قال معدودة أو مؤدّاة أو مكتوبة في كتاب الله ، كقولك : زيد في الدار ، وذلك
مبيّن في ملجئة المتفقهين.
المسألة السادسة ـ
قوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ) :
وهي : رجب الفرد ،
وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم.
ثبت في الصحيح عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنّ
عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات : ذو القعدة
، وذو الحجة ، والمحرم ؛ ورجب. وفي رواية : ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
وقوله : «حرم» جمع
حرام ، كأنه يوجد احترامها بما منع فيها من القتال ، وأوقع في قلوب الناس لها من
التعظيم.
ومعنى قوله : رجب
مضر ـ فيما قاله القاضي أبو إسحاق ـ أنّ بعض أحياء العرب ، وأحسبه من ربيعة ،
كانوا يحرّمون شهر رمضان ويسمّونه رجب ، فأراد النبىّ صلى الله عليه وسلم تخصيصه
بالبيان باقتصار مضر على تحريمه.
وقد روى في الحديث
: ورجب مضر الذي بين
جمادى وشعبان. وذلك كلّه بيان
لتحقيق الحال ، وتنبيه على رفع ما كان وقع فيها من الاختلال.
__________________
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) :
فيه قولان :
أحدهما ـ لا
تظلموا أنفسكم في الشهور كلها.
وقيل في الثاني ـ المراد
بذلك الأشهر الحرام.
واختلف في المراد
بالظلم على قولين أيضا :
أحدهما ـ لا
تظلموا فيهن أنفسكم بتحليلهنّ. وقيل : بارتكاب الذنوب فيهنّ ؛ فإن الله إذا عظّم
شيئا من جهة صارت له حرمة واحدة ، وإذا عظّمه من جهتين أو من جهات صارت حرمته متعددة
بعدد جهات التحريم ، ويتضاعف العقاب بالعمل السوء فيها ، كما ضاعف الثواب بالعمل الصالح فيها ؛ فإنّ من أطاع
الله في الشهر الحرام في البلد الحرام والمسجد الحرام ليس كمن أطاعه في شهر حلال في بلد حلال في بقعة
حلال. وكذلك العصيان والعذاب مثله في الموضعين والحالين والصفتين ؛ وذلك كلّه بحكم
الله وحكمته. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ) ، لعظمهن وشرفهنّ في أحد القولين.
المسألة الثامنة ـ
فإن قيل : وكيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض؟
قلنا : عنه جوابان
:
أحدهما ـ إنّ
الباري تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ليس عليه حجر ، ولا لعمله علّة ؛ بل
كل ذلك بحكمة ، وقد يظهر للخلق وجه الحكمة فيه ، وقد يخفى.
الثاني ـ أنّ معنى
ذلك أنّ النفس مجبولة على اقتضاء الشهوات ، فلما وجبت عليه تكليف المحرمات جعل بعضها أغلظ من بعض ، ليعتاد
بكفّها عن الأخفّ الكفّ عن الأغلظ ، ويجعل بعض الأزمنة والأمكنة أعظم حرمة من بعض
؛ ليعتاد في الخفيف الامتثال ، فيسهل عليه في الغليظ. والله أعلم.
__________________
المسألة التاسعة ـ
اختلف الناس في أول هذه الأشهر [الحرم] ؛ فقال بعضهم : أولها المحرم وآخرها ذو الحجة ؛ لأنه على
تقرير شهور العام ، الأول فالأول.
الثاني ـ أن أولها
رجب وآخرها المحرم معدودة من عامين ؛ لأن رجب له فضل الإفراد.
الثالث ـ أن أولها
ذو القعدة ؛ لأن فيه التوالي دون التقطيع ، وهو الصحيح ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
في تعدادها : ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ؛ ورجب مضر
الذي بين جمادى وشعبان. وهذا نص صريح من رواية الصحيح.
الآية التاسعة
عشرة ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
مَعَ الْمُتَّقِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
الله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) إلى قوله : (مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ). وقال هاهنا : (قاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) : يعنى محيطين بهم من كل جهة وحالة ، فمنعهم ذلك من
الاسترسال.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (كَافَّةً) مصدر حال ، ووزنه فاعلة ، وهو غريب في المصادر ، كالعافية
والعاقبة ، اشتقّ من كفة الشيء وهو حرفه الذي لا يبقى بعده زيادة عليه ، ومثله
عامة وخاصة ، ولا يثنّى شيء من ذلك ولا يجمع.
المسألة الثالثة ـ
قال الطبري : معناه مؤتلفين غير مختلفين ، فردّ ذلك إلى الاعتقاد ، ولا يمتنع أن
يرجع إلى الفعل والاعتقاد.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ؛ يعنى بالنصر وعدا مربوطا بالتقوى ، فإنما تنصرون
بأعمالكم ، وقد تقدم بيانه.
__________________
الآية الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما
حَرَّمَ اللهُ ، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ).
فيها ثماني مسائل
:
المسألة الأولى ـ قوله
: (النَّسِيءُ) :
اختلف الناس فيه
على قولين :
أحدهما ـ أنه
الزيادة ، يقال : نسأ ينسأ ، إذا زاد ؛ قاله الطبري.
الثاني ـ أنه
التأخير. قال الأزهرى : يقال أنسأت الشيء إنساء ، ونساء اسم وضع موضع المصدر ، وله
معان كثيرة.
أما الطبري فاحتج
بأنه يتعدى بحرف الجر ، فيقال : أنسأ الله في أجلك ، كما تقول : زاد الله في أجلك
، وتقول : أنسأ الله في أجلك ، أى زاده مدة ، واكتفى بأحد المفعولين عن الثاني ،
ومنع من قراءته بغير الهمز ، وردّ على نافع ، وقال : لا يكون بترك الهمز إلا من
النسيان ، كما قال : (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ).
واحتج من زعم أنه
التأخير بنقل العرب لهذا التفسير عن أوائلها ، وقيّد ذلك عنهم مشيخة العرب ، وقد
قال الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ، أى نؤخرها ، مهموزة ، وقد تخفف الهمز ، كما يقال خطية
وخطيئة ، والصابيون والصابئون ، وتخفيف الهمز أصل ، ونقل الحركة أصل ، والبدل
والقلب أصل ، كلّه لغوى ، وما كان ينبغي أن يخفى هذا على الطبري.
وأما فصل التعدي
فضعيف ؛ فإنّ الأفعال المتعدية بالوجهين من وجوه حرف الجر ، وفي تعدّيها به وعدمه
كثيرة.
المسألة الثانية ـ
في كيفية النسيء ثلاثة أقوال :
الأول ـ عن ابن
عباس أنّ جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافى الموسم كلّ عام ، فينادى : ألا
إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب ، ألا وإن صفرا العام الأول حلال ، فنحرمه عاما
ونحلّه عاما ، وكانوا مع هوازن وغطفان وبنى سليم.
__________________
وفي لفظة أنه كان يقول : إنا قدّمنا المحرم وأخّرنا صفر ، ثم يأتى
العام الثاني فيقول: إنّا حرّمنا صفرا وأخّرنا المحرم ؛ فهو هذا التأخير.
الثاني ـ الزيادة
؛ قال : قتادة : عمد قوم من أهل الضلالة فزادوا صفرا في الأشهر الحرم ، فكان يقوم قائمهم في الموسم
فيقول : ألا إنّ الهتكم قد حرمت العام المحرم ، فيحرمونه ذلك العام ، ثم يقوم في العام المقبل فيقول :
ألا إنّ آلهتكم قد حرمت صفرا فيحرمونه ذلك العام ، ويقولون : الصفران.
وروى ابن وهب ،
وابن القاسم ، عن مالك نحوه ، قال : كان أهل الجاهلية يجعلونه صفرين ، فلذلك ، قال
النبي صلى الله عليه وسلم : لا
صفر.
وكذلك روى أشهب
عنه.
الثالث ـ تبديل
الحجّ ؛ قال مجاهد بإسناد آخر : إنما النسيء زيادة في الكفر. قال : حجّوا في ذي
الحجة عامين ، ثم حجّوا في المحرم عامين ، ثم حجّوا في صفر عامين ، فكانوا يحجّون
في كلّ سنة في كل شهر عامين حتى وافت حجة أبى بكر في ذي القعدة ، ثم حجّ النبىّ
صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة ، فذلك قول النبىّ صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح في خطبته : إنّ
الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. رواه ابن عباس وغيره ، واللفظ له ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : أيها
الناس ، اسمعوا قولي ، فإن لا أدرى لعلّى لا ألقاكم بعد يومى هذا في هذا الموقف
أيها الناس ، إنّ دماءكم وأموالكم حرام إلى يوم تلقون ربّكم ، كحرمة يومكم هذا في
شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلّغت ،
فمن كان عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كان ربا موضوع ، ولكم رءوس
أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أن لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبد
المطلب موضوع كله ، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بنى ليث فقتلته هذيل ، فهو أول ما
أبدأ به من دماء الجاهلية.
__________________
أما
بعد ، أيها الناس ، فإنّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ، ولكنه إن يطع فيما سوى
ذلك مما تحقرون من أعمالكم فقد رضى به ، فاحذروه ـ أيها الناس ـ على دينكم ، وإن
النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا ـ إلى قوله ـ ما حرم الله. وإن الزمان
قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر
شهرا ، منها أربعة حرم ؛ ثلاث متواليات ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ... وذكر
سائر الحديث.
المسألة الثالثة ـ
في أول من أنسأ :
في ذلك كلام طويل
لبابه ، عن ابن شهاب وغيره ، أنّ حيّا من بنى كنانة ، ثم من بنى فقيم منهم رجل
يقال له القلمّس ، واسمه حذيفة بن عبيد بن فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث
بن مالك بن كنانة بن خزيمة ، وكان ملكا ، فكان يحلّ المحرم عاما ويحرمه عاما ، فكان
إذا حرّمه كانت ثلاثة حرم متواليات ، وهي العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم ،
فإذا أحلّه أدخل مكانه صفر ، ليواطئ العدة ، يقول : قد أكملت الأربعة كما كانت ،
لأنى لم أحلّ شهرا إلا حرمت مكانه آخر ، وكانت العرب كذلك ممن كانت تدين بدين
القلمّس ، فكان يخطب بعرفة فيقول : اللهم إنى لا أعاب ولا أجاب ، ولا مردّ لما
قضيت ، اللهم إنى قد أحللت دماء المحلين من طيّئ وخثعم ، فمن لقيهما فليقتلهما ،
فرجع الناس وقد أخذوا بقوله.
وإنما أحلّ دماء
طيّئ وخثعم ، لأنهم كانوا لا يحجّون مع العرب ، ولا يحرّمون الحرم ، وكانوا
يستحلّونها ، وكان سائر العرب يحرّمون الحرم. ثم كان ابنه على الناس كما كان
القلمس ، واسمه عباد ، ثم ابنه أقلع ، ثم ابنه أمية بن أقلع بن عباد ، ثم ابنه عوف
بن أمية ، ثم ابنه جنادة بن عوف كما تقدّم ، فحجّ نبىّ الله صلى الله عليه وسلم
حجة الوداع ، وجنادة صاحب ذلك حتى بعث الله نبيه ، وأكمل الحرم ثلاثة متواليات
ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
وفي رواية : العرب كانت إذا فرغت من حجّها اجتمعت
إليه فحرّم الأشهر الحرم ،
__________________
فإذا
أراد أن يحلّ شيئا منها لغنيمة أو لغارة أحلّ المحرم ، وحرّم مكانه صفر ، وفي ذلك يقول عمير بن قيس بن جذل الطعان :
لقد علمت معدّ
أنّ قومي
|
|
كرام الناس أنّ
لهم كراما
|
فأى الناس
فاتونا بوتر
|
|
وأىّ الناس لم
تعلك لجاما
|
ألسنا الناسئين
على معدّ
|
|
شهور الحلّ
نجعلها حراما
|
وقد تقدم غير هذا
بزيادة عليه في المسألة قبلها.
المسألة الرابعة ـ
وقد قدمنا أنّ الإنساء كان عند العرب زيادة وتأخيرا وتبديلا ، وأقله صحة الزيادة ،
لقوله : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ
ما حَرَّمَ اللهُ) ، فإنما ذكر الله في الإنساء ما كان تبديلا [أو تأخيرا] ، وأقلّه الزيادة.
والمواطأة هي
الموافقة ، تقول العرب : واطأتك على الأمر ؛ أى وافقتك عليه ، فكانوا يحفظون عدة
الأشهر الحرم التي هي أربعة ، لكنهم يبدّلون ويؤخّرون ويزعمون أنّ المواطأة على
العدة تكفى ، وإن خالفت في أعيان الأشهر المحرمات.
ويحتمل أن يكون
الإنساء عندهم بالثلاثة الأوجه ، فذكر الله منها الوجهين ، ولم يذكر الزيادة ،
وعظم التبديل والتأخير ، وإن وقعت الموافقة في العدد ، فكان تنبيها على أن
المخالفة في وجه أزيد في الكفر وأعظم في الإثم.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (زِيادَةٌ فِي
الْكُفْرِ) :
قد بينا الكفر
وحقيقته ، وذكرنا أنه راجع إلى الإنكار ، فمن أنكر شيئا من الشريعة فهو كافر ؛
ولأنه مكدّب لله ولرسوله ، والزيادة [فيه] والنقصان منه حقّ وصدق ، [وكذلك الزيادة في الإيمان
والنقصان منه حق وصدق] ، وبيّنا حقيقة الإيمان والكفر واختلاف الناس فيهما والحقّ
من ذلك في كتب الأصول على وجه مستوفى ؛ لبابه أن أهل لسنّة اختلفوا في الإيمان ؛
فمنهم من قال : هو المعرفة ـ قاله شيخ السنة ، واختاره لسان الأمة في مواضع.
__________________
ومنهم من قال : هو
التصديق ؛ قاله لسان الأمة أيضا.
ومنهم من قال : هو
الاعتقاد والقول والعمل ، فمن قال : إنه المعرفة منهم فقد خالف اللغة ، وتجوّز
ظاهرها إلى وجه من التأويل فيها.
ومن قال : إنه
التصديق فقد وافق مطلق اللغة ، لكنه قد يكون بمعنى التصديق ، وقد يكون بمعنى
الأمان ، قال النابغة :
والمؤمن
العائذات الطير يمسحها
|
|
ركبان مكة بين
الغيل والسند
|
وأما من قال : إنه
الاعتقاد والقول والعمل فقد جمع الأقوال كلها ، وركّب تحت اللفظ مختلفات كثيرة ،
ولم يبعد من طريق التحقيق في جهة الأصول ولا في جهة اللغة ؛ أما في جهة اللغة فلأن
الفعل يصدق القول أو يكذّبه ؛ قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ،
والرجلان تزنيان ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فإذا علم أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله فليتكلم
بمقتضى علمه ، وإذا تكلم بما علم فليعمل بمقتضى علمه ، فيطّرد الفعل والقول والعلم
، فيقع إيمانا لغويا شرعيّا ؛ أم لغة فلأنّ العرب تجعل الفعل تصديقا ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) ، وصدق الوعد اتصال الفعل بالقول.
فإن قيل : هذا
مجاز. قلنا : هذه حقيقة ، وقد بيّناه في كتب الأصول ، وعلى هذا المعنى جاء قوله : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). وعلى ضده جاء قوله صلى الله عليه وسلم : من ترك الصلاة فقد كفر.
إذا ثبت هذا
فاختلفوا أيضا في الزيادة فيهما والنقصان كما بيناه في موضعه ـ وهي :
المسألة السادسة ـ
فأما من قال : إنه المعرفة أو التصديق بالقلب فأبعد الزيادة فيه والنقصان ؛ لأنها
أعراض ؛ وزعموا أن الزيادة أو النقص لا يتصوّر في الأعراض ، وإنما يتأتى في
الأجسام.
__________________
وأما من قال : إنه
الأعمال فتصوّر فيها الزيادة والنقصان.
وقد سئل مالك : هل
يزيد الإيمان وينقص؟ فقال : يزيد ، ولم يقل ينقص.
وأطلق غيره
الزيادة والنقص عليه.
وتحقيق القول في
ذلك أنّ العلم يزيد وينقص ، وكذلك القول ، وكذلك العمل ، والكل بأج واحد وحقيقة واحدة ، لا يختلف في ذلك ولا يخرج واحد منها
عنه ، وإن كانت كلها أعراضا كما بينا ؛ وذلك لأنّ الشيء لا يزيد بذاته ولا ينقص بها ، وإنما له وجود أول ، فلذلك ، الوجود أصل ،
ثم إذا انضاف إليه وجود مثله وأمثاله كان ذلك زيادة فيه ، وإن عدمت تلك الزيادة
فهو النقص ، وإن عدم الوجود الأول الذي يتركّب عليه المثل لم يكن زيادة ولا نقصان
؛ وقدّر ذلك في العلم أو في الحركة ، فإنّ الله سبحانه إذا خلق علما فردا ، وخلق
معه مثله أو أمثاله بمعلومات مقدرة فقد زاد علمه ، فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص
؛ أى زالت الزيادة. وكذلك لو خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها ، فإذا خلق الله
للعبد العلم به من وجه وخلق له التصديق به بالقول النفسي ، أو الظاهر ، وخلق له
الهدى للعمل به [وليس العمل] ، ثم خلق له مثل ذلك وأمثاله فقد زاد إيمانه.
وبهذا المعنى على
أحد الأقوال فضّل الأنبياء [على] الخلق ، فإنهم علموه تعالى من وجوه أكثر من الوجوه التي
علمه الخلق بها ، فمن عذيري ممن يقول : إن الأعمال تزيد وتنقص ولا تزيد المعرفة
ولا تنقص ؛ لأنها عرض ، ولا يعلم أن الأعمال أعراض ، والحالة فيهما واحدة ؛ وقد
صرح الله بالزيادة في الإيمان في مواضع من كتابه ، فقال : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِيماناً). (وَيَزِيدُ اللهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً). وقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً).
__________________
وقال في جهة
الكفار : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً
إِلَى رِجْسِهِمْ ...) الآية . فأطلق الزيادة في الوجهين.
وقد قال علماؤنا :
إنّ مالكا رضى الله عنه بعلمه وورعه امتنع من إطلاق النقص في الإيمان لوجوه
بينّاها في كتب الأصول ، منها : أنّ الإيمان يتناول إيمان الله وإيمان العبد ؛
فإذا أطلق إضافة النقص إلى مطلق الإيمان دخل في ذلك إيمان الله ، ولا يجوز إضافة
ذلك إليه سبحانه ؛ لاستحالته فيه عقلا ، وامتناعه شرعا. وعلى هذا يجوز إضافة ذلك
إلى إيمان العبد على التخصيص ، بأن يقول : إيمان الخلق يزيد وينقص.
ومنها : أن
الإيمان من المعاني التي يجب مدحها ، ويحرم ذمّها شرعا ، والنقص صفة ذم ؛ فلا يجوز
أن يطلق على ما يستحقّ المدح فيه ، ويحرم الذم ، فإذا تحرر لكم هذا ويسّر الله قبول أفئدتكم له ـ فإنه مقلّب الأفئدة
والأبصار ـ فإن قوله تعالى ، وهي :
المسألة السابعة ـ
(إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) بيان لما فعلته العرب من جمعها بين أنواع الكفر ، فإنها
أنكرت وجود الباري ، فقالت : (وَمَا الرَّحْمنُ)؟ في أصح الوجوه. وأنكرت البعث ، فقالت : (مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). وأنكرت بعثة الرسل ، فقالت : (أَبَشَراً مِنَّا
واحِداً نَتَّبِعُهُ ...) الآية.
وزعمت أن التحريم
والتحليل إليها ، فابتدعت من ذاتها مقتفية لشهواتها التحريم والتحليل ، ثم زادت
على ذلك كله بأن غيّرت دين الله ، وأحلّت ما حرّم ، وحرّمت ما أحلّ تبديلا وتحريفا
، والله لا مبدّل لكلماته ، ولو كره المشركون ، وهكذا في جميع ما فعلت من تغيير
الدين وتبديل الشرع.
المسألة الثامنة ـ
قوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمالِهِمْ) :
أى خلق لهم اعتقاد
الحسن فيها ، وهي قبيحة ، فنظروا فيها بالعين العوراء ؛ لطمس أعينهم وفساد بصائرهم ؛ وذلك حكم الله في عدم الهدى للكافرين.
__________________
الآية الحادية
والعشرون ـ قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (ما لَكُمْ) :
ما : حرف استفهام
، التقدير : أى شيء يمنعكم عن كذا؟ كما تقول : مالك عن فلان معرضا. ونظامه الصناعى
ما حصل لك مانعا لكذا أو كذا. وكما تقول : مالك تقوم وتقعد؟ التقدير : أىّ شيء حصل
لك مانعا من الاستقرار؟
المسألة الثانية ـ
قوله : (انْفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) :
يقال : نفر إذا
زال عن الشيء. وتصريفه نفر ينفر نفيرا ، ونفرت الدابة تنفر نفورا ، وكأن النفور في
الإباية ، والنفير في الإقبال والسعاية. وقد يؤلفان على رأى من يرى تأليف المعاني
المختلفة تحت اللفظ الواحد بوجه يبعد تارة ويقرب أخرى ، ويكون تأويله هاهنا : زولوا
عن أرضيكم وأهليكم في سبيل الله.
المسألة الثالثة ـ
في محل النفير :
لا خلاف بين
العلماء أن المراد به غزوة تبوك ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليها
في حمارّة القيظ ، وطيب الثمار ، وبرد الظلال ، فاستولى على الناس
الكسل ، وغلبهم على الميل إليها الأمل ، فتقاعدوا عنه ، وتثافلوا عليه ، فوبّخهم
الله على ذلك بقوله هذا ، وعاب عليهم الإيثار للدنيا على ثواب الآخرة.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (اثَّاقَلْتُمْ) :
قال المفسرون :
معناه تثاقلتم ، وهذا توبيخ على ترك الجهاد ، وعتاب في التقاعد عن المبادرة إلى
الخروج.
ونحو قوله : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ) هو قوله : (وَلا تُلْقُوا
__________________
بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، المعنى لا تقبلوا على الأموال إيثارا لها على الأعمال
الصالحة ، ولا تركنوا إلى التجارة الحاضرة ، تقديما لها على التجارة الرابحة التي
تنجيكم من العذاب الأليم ، حسما تقدم بيانه في سورة البقرة.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ
بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) :
يعنى بدلا من
الآخرة ، ويرد ذلك في كلام العرب نثرا ، ونظما ؛ قال الشاعر :
فليت لنا من ماء
زمزم شربة
|
|
مبرّدة باتت على
الطّهيان
|
أراد ليت لنا بدلا
من ماء زمزم. والطّهيان : عود ينصب في ساحة الدار للهواء ، ويعلّق عليه إناء ليلا
حتى يبرد.
عاتبهم على إيثار
الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة ؛ إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا.
قال النبي صلى
الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها
، وقد طافت راكبة : أجرك على قدر نصبك. وهذا لا يصدر [إلّا] عن قلب موقن بالبعث.
الآية الثانية
والعشرون ـ قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا
تَضُرُّوهُ شَيْئاً ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ هذا
تهديد شديد ، ووعيد مؤكد ، في ترك النّفير .
ومن محققات مسائل
الأصول أنّ الأمر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل ؛ فأما العقاب عند
الترك فلا يؤخذ من نفس الأمر ، ولا يقتضيه الاقتضاء ؛ وإنما يكون العقاب بالخبر عنه ، كقوله : إن لم تفعل كذا عذّبتك بكذا ، كما
ورد في هذه الآية ؛ فوجب بمقتضاها النفير للجهاد ، والخروج إلى الكفار لمقابلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا.
__________________
المسألة الثانية ـ
في نوع العذاب :
قال ابن عباس : هو
حبس المطر عنهم. فإن صحّ ذلك فهو أعلم من أين قاله ، وإلا فالعذاب الأليم هو الذي
في الدنيا باستيلاء العدوّ على من لم يستول عليه ، وبالنار في الآخرة ، وزيادة على ذلك استبدال غيركم ، كما
قال الله سبحانه : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ...) الآية.
الآية الثالثة
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ
إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ ؛ إِنَّ اللهَ مَعَنا
، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ،
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ النصر
: هو المعونة ، وقد تقدّم بيانه.
المسألة الثانية ـ
قوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) :
وللعرب في ذلك
لغتان : تقول ثانى اثنين ، وثالث ثلاثة ، ورابع أربعة ، بمعنى أحدهما ، مشتقة من
المضاف إليه. وتقول أيضا : خامس أربعة ، أى الذي صيّرهم خمسة.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) : يعنى تعينوه بالنفير معه في غزوة تبوك ، فقد نصره الله
بصاحبه أبي بكر ، وأيّده بجنود الملائكة.
روى أصبغ ، وأبو
زيد ، عن ابن القاسم ، عن مالك : ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا
تخزن إنّ الله معنا ، هو أبو بكر الصديق. قال : فرأيت مالكا يرفع بأبى بكر جدا
لهذه الآية.
قال : وكانوا في
الهجرة أربعة ، منهم عامر بن فهيرة ، ورقيط الدليل.
قال غير مالك :
يقال أريقط ، قال القاضي رضى الله عنه : فحق أن يرفع مالك
__________________
أبا بكر بهذه
الآية ، ففيها عدة فضائل مختصة لم تكن لغيره ، منها قوله : إذ يقول لصاحبه ، فحقّق
له تعالى [قوله له] بكلامه ، ووصف الصحبة في كتابه متلوّا إلى يوم القيامة.
ومنها قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا). وفي الحديث الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لأبى
بكر في الغار : يا
أبا بكر ، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟ وهذه مرتبة عظمى ، وفضيلة شمّاء ، لم يكن
لبشر أن يخبر عن الله سبحانه أنه ثالث اثنين ، أحدهما أبو بكر ، كما أنه قال مخبرا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم وأبى بكر
ـ ثانى اثنين.
ومنها قوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا). وقال مخبرا عن موسى وبنى إسرائيل : (كَلَّا إِنَّ مَعِي
رَبِّي سَيَهْدِينِ).
قال لنا أبو
الفضائل المعدل : قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم ، قال موسى : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، وقال في محمد وصاحبه : (لا تَحْزَنْ إِنَّ
اللهَ مَعَنا). لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتدّ أصحابه بعده ،
فرجع من عند ربه ، ووجدهم يعبدون العجل.
ولما قال في محمد
صلى الله عليه وسلم : إن الله معنا ، بقي أبو بكر مهتديا موحّدا ، عالما عازما ،
قائما بالأمر لم يتطرّق إليه اختلال.
ومنها قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) :
فيه قولان :
أحدهما ـ على
النبي. الثاني ـ على أبى بكر.
قال علماؤنا : وهو
الأقوى ؛ لأنّ الصدّيق خاف على النبىّ صلى الله عليه وسلم من القوم ، فأنزل الله
سكينته ؛ ليأمن على النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فسكن جأشه ، وذهب روعه ، وحصل له
الأمن ، وأنبت الله شجر ثمامة ، وألهم الوكر هنالك حمامه ، وأرسل العنكبوت فنسجت
عليه بيتا ، فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس ؛ وما أقواها في باطن المعنى ولهذا
المعنى قال النبىّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لعمر حين تغامر مع
أبي بكر الصديق :
__________________
هل
أنتم تاركو لي صاحبي. إنّ الناس كلهم قالوا كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت.
ومنها : أنه جعل
أبا بكر في مقابلة الصحابة أجمع ، فقال : إلّا
تنصروه فقد نصره الله بصاحبه في الغار ، بتأنيسه له ، وحمله على عنقه ؛ [ووفائه له] بوقايته له [بنفسه] ، وبمواساته بماله ، وكذلك روى أنّ ميزانا نزل من السماء ، فوزن النبىّ صلى الله عليه
وسلم بالخلق فرجحهم ، ثم وزن أبو بكر بالخلق فرجحهم ؛ وبهذه الفضائل استحقّ أن
يقال فيه : لو كنت متّخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. وسبقت له بذلك كله الفضيلة
على الناس.
روى البخاري وغيره
عن عبد الله بن عمر أنه قال : كنا نخيّر بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؛ فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان.
وروى عن مالك ،
أنه قال : خير الناس بعد نبيهم أبو بكر. وسيأتى في سورة النور بيان ذلك مستوفى إن
شاء الله.
المسألة الرابعة ـ
وهي عظمى في الفقه من قوله تعالى : (إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا): وهو خرج بنفسه ، فارّا عن الكافرين بإلجائهم له إلى ذلك
حتى فعله ؛ فنسب الفعل إليهم ، ورتّب الحكم فيه عليهم ، وذمّهم عليه ، وتوعّدهم ؛
فلهذا يقتل المكره على القتل ، ويضمن المال المكره على إتلاف المال ؛ لإلجائه
القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف ، وكذلك شهود الزنا المزوّرون باتفاق من المذهب
، وشهود القصاص إذا شهدوا بالقتل باطلا باختلاف بين علمائنا ؛ والمسألة عسيرة
المأخذ ، وقد حققناها في مسائل الخلاف.
وجملة الأمر أنّ
نسبة الفعل إلى المكره لا خلاف فيه ، وكذلك تعلّق الإثم به مع القصد إليه لا خلاف
فيه. فأما ما يترتّب عليه من حكم فإنّ ذلك يختلف بحسب اختلاف المحال والأسباب ،
حسبما تقتضيه الأدلّة ؛ فلينظر هنالك.
المسألة الخامسة ـ
وفي هذه الآية دليل على جواز الفرار من خوف العدو ، وترك الصبر على ما ينزل من بلاء الله ، وعدم الاستسلام المؤدّى إلى الآلام والهموم
، وألا يلقى بيده
__________________
إلى العدو ،
توكّلا على الله ، ولو شاء ربّكم لعصمه مع كونه معهم ، ولكنها سنّة الأنبياء وسيرة
الأمم ، حكم الله بها لتكون قدوة للخلق ، وأنموذجا في الرفق ، وعملا بالأسباب.
المسألة السادسة ـ
قالت الإمامية قبّحها الله : حزن أبى بكر في الغار مع كونه مع النبي دليل على جهله
ونقصه وضعف قلبه وحيرته .
أجاب على ذلك
علماؤنا بثلاثة أجوبة :
الأول ـ أنّ قوله
: لا تحزن ، ليس بموجب بظاهره وجود الحزن ، إنما يقتضى منعه منه في المستقبل ،
فلعل النبىّ صلى الله عليه وسلم قال له ذلك زيادة في طمأنينة قلبه ؛ فإن الصدّيق
قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال له : لا تحزن إنّ الله معنا ؛ لتطمئنّ نفسه.
الثاني ـ أن
الصدّيق لا ينقصه إضافة الحزن إليه ، كما لم تنقص إبراهيم حين قيل عنه : (نَكِرَهُمْ
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). ولم ينقص موسى قوله عنه : (فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى).
وهذان العظيمان قد
وجدت عندهم التّقيّة نصّا ، وإنما هي عند الصدّيق هاهنا باحتمال.
الثالث ـ أن حزن
الصديق رضى الله عنه لم يكن لشكّ وحيرة ، وإنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه
وسلم أن يصل إليه ضرر ، ولم يكن النبىّ في ذلك الوقت معصوما من الضرر ، فكيف يكون
الصدّيق رضى الله عنه ضعيف القلب ، وهو لم يستخف حين مات النبي صلى الله عليه وسلم
؛ بل ظهر وقام المقام المحمود الذي تقدم ذكرنا له بقوة يقين ، ووفور علم ، وثبوت
جأش ، وفصل للخطبة التي تعبى المحتالين.
الآية الرابعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فيها خمس مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
قد تقدم ذكر نزول
ذلك في غزوة تبوك إلى الروم ، وكانت غزوة بعيدة في وقت شديد من حمارّة القيظ ،
وعدوّا كثيرا ، استنفر لها الناس كلّهم على ما نبينه إنّ شاء الله.
المسألة الثانية ـ
قوله : (خِفافاً وَثِقالاً) :
فيه عشرة أقوال :
الأول ـ روى عن
أنس ، عن أبى طلحة أنه قال : شبان وكهول ، ما سمع الله عذر أحد ؛ فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.
الثاني ـ شبّانا
وشيبا.
الثالث ـ في اليسر
والعسر.
الرابع ـ في
الفراغ والشغل.
الخامس ـ مع الكسل
والنشاط.
السادس ـ رجالا
وركبانا.
السابع ـ صاحب
صنعة ومن لا صنعة له.
الثامن ـ جبانا
وشجاعا.
التاسع ـ ذا عيال
ومن لا عيال له.
العاشر ـ الثقيل :
الجيش كلّه ، والخفيف : المقدمة .
وقد يمكن أن يكون
فيها غير هذه الأقوال ، إلا أن هذه جملة تدلّ على ما بقي ، والكل محتمل أن يكون
مرادا بالآية ، لكن منه ما يقرب ، ومنه ما يبعد.
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : اختلف في أحكام هذه الآية أو نسخها على قولين بيّناهما في القسم
الثاني.
والصحيح أنها غير
منسوخة ، وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكلّ إذا تعين الجهاد
__________________
على الأعيان بغلبة
العدوّ على قطر من الأقطار ، أو بحلوله بالعقر ؛ فيجب على كافة الخلق الجهاد
والخروج إليه ؛ فإن قصّروا عصوا.
ولقد نزل بنا
العدوّ ـ قصمه الله ـ سنة سبع وعشرين وخمسمائة ؛ فجاس ديارنا ، وأسر جيرتنا ، وتوسّط بلادنا في عدد هال الناس عدده ، وكان كثيرا ، وإن لم يبلغ ما حدّدوه ، فقلت
للوالي والمولى عليه : هذا عدوّ الله ، وقد حصل في الشّرك والشّبكة ، فلتكن عندكم
بركة ، ولتظهر منكم إلى نصرة دين الله المتعيّنة عليكم حركة ، فليخرج إليه جميع
الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع هذه الأقطار فيحاط به ؛ فإنه هالك لا محالة إن
يسّركم الله له ؛ فغلبت الذنوب ، ووجفت القلوب بالمعاصي ، وصار كلّ أحد من الناس
ثعلبا يأوى إلى وجاره ، وإن رأى المكروه بجاره ؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وحسبنا الله ونعم
الوكيل.
ومن الناس من قال
: إنها منسوخة بقوله : (وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). وذلك بيّن في موضعه.
المسألة الرابعة ـ
إذا كان النّفير عامّا لغلبة العدوّ على الحوزة ، أو استيلائه على الأسارى كان
النّفير عاما ، ووجب الخروج خفافا وثقالا ، وركبانا ورجالا ، عبيدا وأحرارا ، من
كان له أب من غير إذنه ومن لا أب له ، حتى يظهر دين الله ، وتحمى البيضة ، وتحفظ
الحوزة ، ويخزى العدوّ ، ويستنقذ الأسرى. ولا خلاف في هذا.
ولقد روى أنّ بعض
الأمراء عاهد كفارا ألّا يحبسوا أسيرا ، فدخل رجل من جهته. بلادهم ، فمرّ على بيت مغلق ، فنادته امرأة : إنى أسيرة ،
فأبلغ صاحبك خبري.
فلما اجتمع به ،
استطعمه عنده ، وتجاذبا ذيل الحديث انتهى الخبر إلى هذه المعذّبة ،
فألقاه إليه ، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدمه ، وخرج غازيا من فوره ،
ومشى إلى
__________________
البلد حتى أخرج
الأسيرة ، واستولى على الموضع ، فكيف بنا وعندنا عهد الله ألّا نسلّم إخواننا إلى
الأعداء ، وننعم وهم في الشقاء ، أو نملك بالحرية وهم أرقّاء. يا لله ، ولهذا
الخطب الجسيم! نسأل الله التوفيق للجمهور ، والمنة بصلاح الآمر والمأمور.
فإن قيل : فكيف
يصنع الواحد إذا قصر الجميع؟ وهي :
المسألة الخامسة ـ
قلنا : يقال له : وأين يقعان مما أريد؟ مكانك أيها الواحد لا يفتي ومالك لا يكفى ،
والأمر لله فيما يريد من توفيق ، أو قطع للطريق ، وقد همهم الخاطر بهذه المسألة ،
وزمزم اللسان بها مدّة. والذي يحدث أخبارها ، ويطفئ ـ والله أعلم ـ أوارها أن يعمد
من رأى تقصير الخلق إلى أسير واحد فيفديه ؛ فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسرى
ما لزم كلّ واحد منهم إلا أقل من درهم للرجل الواحد ، فإذا فدى الواحد فقد أدّى في
الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة ، ويغزو بنفسه إن قدر ،
وإلّا جهّز غازيا.
فقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
من جهّز غازيا فقد
غزا ، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا.
الآية الخامسة ،
والعشرون ـ قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا
مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) ، أى يعيبك.
وفيه قولان :
أحدهما ـ أنه
العيب مطلقا ، ومنهم من قال : إنه العيب بالغيب ، يقال : لمزه يلمزه بكسر العين في
المستقبل وضمّها ، قال تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ، ومنه قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).
المسألة الثانية ـ
قال أبو سعيد الخدرىّ : بعث
إلىّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة ، وقال : تألّفهم. فقال رجل
: ما عدلت. فقال : يخرج من ضئضىء هذا
__________________
قوم
يمرقون من الدّين. هكذا رواه البخاري ، وزاد غيره : فأنزل
الله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقاتِ).
إذا ثبت هذا
فهؤلاء الأربعة كانوا عيينة والأقرع ، وكانوا من المؤلّفة قلوبهم ، فدلّ ذلك ـ وهي
:
المسألة الثالثة ـ
على دفع الزكاة إليهم ، ويأتى تمام المسألة بعد إن شاء الله تعالى.
الآية السادسة
والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ ، وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ
السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فيها ثمان وعشرون
مسألة :
المسألة الأولى ـ هذه
الآية من أمّهات الآيات ، إن الله بحكمته البالغة ، وأحكامه الماضية العالية ، خصّ
بعض الناس بالأموال دون البعض ، نعمة منه عليهم ، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم
يؤدّونه إلى من لا مال له ، نيابة عنه سبحانه وتعالى فيما ضمنه بفضله لهم في قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ؛ وقدّر الصدقات على حسب أجناس الأموال ، فجعل في النقدين
ربع العشر ، وجعل في النبات العشر ، ومع تكاثر المؤنة نصف العشر ، ويترتّب على هذا
القول في حقيقة الصدقة ـ وهي :
المسألة الثانية ـ
على قولين :
أحدهما ـ أنه جزء
من المال مقدّر معيّن ؛ وبه قال مالك والشافعى وأحمد.
وقال أبو حنيفة :
إنها جزء من المال مقدّر ، فجوّز إخراج القيمة في الزكاة ؛ إذ زعم أن التكليف
والابتلاء إنما هو في نقص الأموال ، وذهل عن التّوفية لحق التكليف في تعيين الناقص
، وأن ذلك يوازى التكليف في قدر الناقص ؛ فإن المالك يريد أن يبقى ملكه بحاله ،
ويخرج من غيره عنه ، فإذا مالت نفسه إلى ذلك ، وعلقت به ، كان التكليف قطع تلك
العلاقة التي هي بين القلب وبين ذلك الجزء من المال ، فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه.
__________________
فإن قيل : فقد روى
البخاري وغيره في كتاب أبى بكر الصدّيق بالصدقة : ومن بلغت صدقته بنت مخاض ، وليست
عنده ، وعنده بنت لبون ، فإنها تقبل منه ، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين.
قلنا : قد أجاب
عنه علماؤنا بأربعة أجوبة :
أحدها ـ أن هذا
خبر واحد يخالف الأصول ، وعندهم إذا خالف خبر الواحد الأصول بطل في نفسه.
الثاني ـ أنّ هذا
الحديث لم يخرج مخرج التقويم ، بدليل أنه لم يقل : ومن بلغت صدقته بنت مخاض ،
وعنده بنت لبون ، فإنها تؤخذ منه ويعطى عشرين درهما ، وإنما كان القياس أن يقول :
فإنها تؤخذ منه إذا عرفت قيمتها ، فلما عدل عن القيمة إلى التقدير والتحديد بتعيّن
الشاتين أو العشرين درهما ـ دلّ على أنه خرج مخرج العبادة.
الثالث ـ أن هذا
إنما جوز في الجيران ضرورة اختلاف السنين ، ولا ضرورة إلى إجزائه في الأصل ،
فبقى على حاله.
الرابع ـ أن كتاب
عمر في الصدقة الذي رواه مالك وعمل به في الأقطار والأمصار أولى من كتاب أبى بكر
الصدّيق الذي لم يجيء إلا من طريق واحدة. ولعله كان لقضية في عين مخصوصة.
المسألة الثالثة ـ
في معنى تسميتها صدقة : وذلك مأخوذ من الصّدق في مساواة الفعل للقول ، والاعتقاد ،
حسبما تقدم في الآية قبلها. وبناء (ص د ق) يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به ،
ومنه صداق المرأة ؛ أى تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح على وجه مشروع.
ويختلف في ذلك كله
بتصريف الفعل ، يقال : صدق في القول صداقا وتصديقا ، وتصدقت بالمال تصدقا ، وأصدقت
المرأة إصداقا. وأرادوا باختلاف الفعل الدلالة على المعنى المختص به في الكل.
ومشابهة الصدق هاهنا للصدقة أن من أيقن من دينه أنّ البعث حق ،
__________________
وأنّ الدار الآخرة
هي المصير ، وأنّ هذه الدار الدانية قنطرة إلى الأخرى ، وباب إلى السوأى أو الحسنى
عمل لها ، وقدّم ما يجده فيها ؛ فإن شكّ فيها أو تكاسل عنها وآثر عليها ـ بخل
بماله ، واستعدّ لآماله ، وغفل عن مآله. وفي كتب الذكر تحقيق ذلك.
المسألة الرابعة ـ
قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ) :
واختلف العلماء في
المعنى الذي أفادت هذه اللام ؛ [فقيل :] لام الأجل ؛ كقولك : هذا السّرج للدابة ، والباب للدار ؛ وبه قال
مالك وأبو حنيفة.
ومنهم من قال :
إنّ هذه لام التمليك ؛ كقولك : هذا المال لزيد ؛ وبه قال الشافعى.
واتفقوا على أنه
لا يعطى جميعها للعاملين عليها. واعتمد أصحاب الشافعى على أنّ الله أضاف الصدقة
بلام التمليك إلى مستحقّ حتى يصحّ منه الملك على وجه التشريك ؛ فكان ذلك بيانا
للمستحقين. وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين ، أو لقوم معينين.
وتعلّق علماؤنا
بقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ ...) الآية.
والصدقة متى أطلقت
في القرآن فهي صدقة الفرض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها
على فقرائكم. وهذا نصّ في ذكر
أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنّة.
وحقّق علماؤنا
المعنى ، فقالوا : إن المستحقّ هو الله تعالى ، ولكنه أحال بحقه لمن ضمن لهم رزقهم
بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ؛ فكان كما لو قال زيد لعمرو : إنّ لي حقا على خالد يماثل
حقّك يا عمرو أو يخالفه ، فخذه منه مكان حقّك ؛ فإنه يكون بيانا لمصرف حقّ المستحق
لا للمستحق ، والصنف الواحد في جهة المصرف والمحلية كالأصناف الثمانية.
فإن قيل : هذا
يبطل بالكافر ؛ فإنه مضمون له الرزق بذلك الوعد الحق ، ثم ليس بمصرف للزكاة.
قلنا : كذلك كنّا
نقول : إنه تصرف الزكاة إلى الذمّى ، إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم
__________________
خصص هذا العموم بقوله
: أمرت أن آخذ الصدقة
من أغنيائكم وأردّها على فقرائكم ؛ فخصصناه بما خصصه به صاحب الشريعة ، المبيّن للناس ما نزّل
إليهم ؛ وما فهم المقصود أحد فهم الطبري ؛ فإنه قال : الصدقة لسدّ خلّة المسلمين ، ولسدّ خلّة الإسلام ؛ وذلك من مفهوم مأخذ
القرآن في بيان الأصناف وتعديدهم.
والذي جعلناه فصلا
بيننا وبينهم أنّ الأمة اتفقت على أنه لو أعطى كلّ صنف حظّه لم يجب تعميمه ، فكذلك
تعميم الأصناف مثله.
فإن قيل : فقد روى
زياد بن الحارث الصّدائى : أتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتاه رجل فقال : أعطنى من الصدقة. فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الله لم يرض بحكم نبىّ ولا غيره في الصدقات
حتى حكم هو فيها ، فجزّأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من [أهل] تلك الأجزاء أعطيتك حقّك.
وقد قال النخعي :
إن كان المال كثيرا قسمه على الأصناف ، وإلّا وضعه في صنف.
وقال أبو ثور : إن
أخرجه صاحبه جاز له أن يضعه في قسم ، وإن قسمه الإمام استوعب الأصناف ؛ وذلك فيما قالوا : إنه
إن كان كثيرا فليعمّهم ، وإن كان قليلا كان قسمه ضررا عليهم.
وكذلك إن قسمه
صاحبه لم يقدر على النظر في جميع الأصناف ، فأما الإمام فحقّ كل واحد من الخلق
متعلق به من بيت المال وغيره ، فيبحث عن الناس ، ويمكنه تحصيلهم ، والنظر في
أمرهم.
والذي صار إليه
مالك من أنه يجتهد الإمام ويتحرّى موضع الحاجة هو الأقوى.
وتحقيق المسألة
أنّ المتحصل من أصناف الآية ثلاثة أصناف : وهم الفقراء ، والعاملون عليها ، وفي
سبيل الله. وسائر الأصناف داخلة فيما ذكرناه منها.
فأما العاملون ،
والمؤلفة قلوبهم فيأتى بيان حالهم إن شاء الله.
إذا ثبت هذا فإن
بيان الأصناف من مهمّات الأحكام ، فنقول ـ وهي :
__________________
المسألة الخامسة ـ
أما الفقير ففيه ثمانية أقوال :
الأول ـ أنّ
الفقير : المحتاج المتعفّف والمسكين : الفقير السائل. وبه قال مالك في كتاب ابن
سحنون ـ وهي :
المسألة السادسة ـ
قاله ابن عباس والزهري ، واختاره ابن شعبان.
الثاني ـ الفقير
هو المحتاج الزّمن . والمسكين هو المحتاج الصحيح ؛ قاله قتادة.
الثالث ـ أنّ
الفقير المحتاج ، والمسكين سائر الناس ؛ قاله إبراهيم وغيره.
الرابع ـ الفقير
المسلم ، والمسكين أهل الكتاب.
الخامس ـ الفقير
الذي لا شيء له ، والمسكين الذي له شيء ؛ قاله الشافعى.
السادس ـ عكسه ؛
قاله أبو حنيفة ، والقاضي عبد الوهاب.
السابع ـ أنه واحد
، ذكره للتأكيد.
الثامن ـ الفقراء
المهاجرون ، والمساكين الأعراب.
المسألة السابعة ـ
قوله : (وَالْعامِلِينَ
عَلَيْها) ، وهم الذين يقدمون لتحصيلها ، ويوكّلون على جمعها ؛ وهذا
يدلّ على مسألة بديعة ، وهي أن ما كان من فروض الكفايات فالقائم به يجوز له أخذ
الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة ؛ فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق فإنّ
تقدّم بعضهم بهم من فروض الكفاية ، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها.
وهذا أصل الباب ،
وإليه أشار النبىّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ما تركت بعد نفقة عيالي ومؤنة عاملي فهو
صدقة.
قال بعض العلماء :
العامل في الصدقة يستحقّ منها كفايته بالمعروف بسبب العمل ، وإن لم يكن بدلا عن
العمل ، حتى لم يحلّ للهاشمى ، والأجرة تحلّ له.
قلنا : بل هي أجرة
صحيحة ؛ وإنما لم يدخل فيها الهاشمي تحرّيا للكرامة وتباعدا عن الذّريعة ، وذلك
مبيّن في شرح الحديث.
والدليل على أنها
أجرة أن الله سبحانه أملكها له ، وإن كان غنيّا ، وليس له وصف يأخذ به منها سوى
الخدمة في جمعها.
__________________
المسألة الثامنة ـ
اختلف الناس في المقدار الذي يأخذه العاملون من الصدقة على ثلاثة أقوال :
الأول ـ قيل : هو
الثمن بقسمة الله لها على ثمانية أجزاء ؛ قاله مجاهد والشافعى. وهذا تعليق
بالاستحقاق الذي سبق الخلاف فيه ، أو بالمحلية ، ومبنيّ عليه.
الثاني ـ يعطون
قدر عملهم من الأجرة ؛ قاله ابن عمر ومالك وقد تقدم القول في الأصل الذي انبنى
عليه هذا ، والكلام على تحقيقه.
الثالث ـ أنهم
يعطون من غير الزكاة ، وهو ما كان من بيت المال. وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من
رواية ابن أبي أويس ، وداود بن سعيد ؛ وهو ضعيف دليلا ؛ فإنّ الله أخبر بسهمهم
فيها نصّا ، فكيف يخلفون عنه استقراء وسبرا.
والصحيح الاجتهاد
في قدره ؛ لأنّ البيان في تعديد الأصناف إنما كان للمحل لا
للمستحق.
المسألة التاسعة ـ
المؤلّفة قلوبهم :
فيه أربعة أقوال :
الأول ـ من قال :
إنهم مسلمون يعطون لضعف يقينهم [حتى يقووا] ، مثّلهم بأبى سفيان بن حرب ، والأقرع بن حابس ، والعباس
بن مرداس.
ومن قال : إنهم
كفار مثّلهم بعامر بن الطفيل. ومن قال : إنهم كانوا مسلمين ـ ولهم إلى الإسلام ميل
ـ مثّلهم بصفوان بن أمية.
الثاني ـ قال يحيى
بن أبى كثير : المؤلفة قلوبهم من بنى أمية : أبو سفيان بن حرب ، ومن بنى مخزوم
الحارث بن هشام ، وعبد الرحمن بن يربوع. ومن بنى جمح صفوان بن أمية.
ومن بنى عامر بن
لؤي سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزّى. ومن بنى أسد بن عبد العزى حكيم بن حزام.
ومن بنى هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. ومن بنى فزارة عيينة بن حصن بن
بدر. ومن بنى تميم الأقرع بن حابس. ومن بنى نضر مالك بن عوف. ومن بنى سليم العباس
بن مرداس. ومن ثقيف العلاء بن حارثة.
الثالث ـ روى ابن
وهب عن مالك ، قال : كان صفوان بن أمية ، وحكيم بن حزام ، والأقرع بن حابس ،
وعيينة بن بدر ، وسهيل بن عمرو ، وأبو سفيان من المؤلفة قلوبهم. وكان صفوان يوم
العطية مشركا.
__________________
وقال أصبغ ، عن
ابن القاسم : المؤلفة قلوبهم صفوان بن أمية ، ورجال من قريش.
الرابع ـ قال
الشيخ أبو إسحاق : المؤلفة قلوبهم : أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس ، ومعاوية
ابنه ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث بن كلدة ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن
عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، والمعلّى بن حارثة الثقفي ، وعيينة بن حصّن ، ومالك
ابن عوف ، وصفوان بن أمية ، ومخرمة بن نوفل ، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي ، وهشام ابن عمرو ، وسعيد بن يربوع ،
وعدى بن قيس السهمي ، والعباس بن مرداس ، وطليق بن أمية ، وخالد بن أسيد بن أبى العيص ، وشيبة بن عثمان ، وأبو السنابل بن
بعكك ، وعكرمة ابن سفيان بن عامر ، وزهير بن أبى أمية ، وخالد بن هشام ، وهشام بن
الوليد بن المغيرة ، وسفيان بن عبد الأسد ، والسائب بن أبى السائب ، ومطيع بن الأسود
، وأبو جهم بن حذيفة بن غانم ، وأحيحة بن أمية بن خلف الجمحي ، وعدىّ بن قيس ،
ونوفل بن معاوية بن عروة ، وعلقمة ابن علاثة ، ولبيد بن ربيعة بن مالك ، وخالد بن
هوذة بن ربيعة ، وحرملة هوذة بن ربيعة ، والأقرع بن حابس بن عقال ، وقيس بن مخرمة
، وجبير بن مطعم بن عدىّ ، وهشام بن عمرو ابن ربيعة بن الحارث بن حبيب.
قال القاضي رضى
الله عنه : أما أبو سفيان بن حرب فلا شك فيه ولا في ابنه.
وأما حكم بن حزام
فعظيم القدر في الإسلام.
قال مالك : إن
النبىّ صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم فحسن إسلامهم.
قال مالك : وبلغني
أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبىّ صلى الله عليه وسلم في المؤلفة ، فتصدّق
بعد ذلك به.
وأما الحارث بن
الحارث بن كلدة فهو ابن طبيب العرب وكان منهم. ولا خفاء بعيينة ولا بمالك بن عوف
سيّد هوازن.
وأما سهيل بن عمرو
فرجل عظيم ، إن كان مؤلّفا بالعطية فلم يمت النبىّ صلى الله عليه وسلم إلا وهو
مؤلّف على الإسلام باليقين ؛ فإنه لما استأثر الله برسوله ، وبلغ الخبر إلى مكة
ماج
__________________
أهل مكة ، فقام
سهيل بن عمرو خطيبا ، فقال : والله إنى لأعلم أن هذا الأمر سيمتدّ امتداد الشمس في
طلوعها إلى غروبها ، فلا يغرّنكم هذا من أنفسكم ـ يعنى أبا سفيان.
وروى عنه أنه حبس
على باب عمر ، فأذن لأهل بدر وصهيب ونوعه. فقال له أبو سفيان ، ومشيخة قريش : يأذن
للعبيد ويذرنا! فقال سهيل بن عمرو : دعيتم فأجابوا ، وأسرعوا وأبطأتم ، أما والله
لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم من هذا الذي تنافسون فيه ؛ إلى أمثال هذا الخبر
، مما يدل على قوة البصيرة في الدين والبصر.
وأما حويطب بن عبد
العزّى فلم يثبت عندي أمره ، إنما هو من مسلمة الفتح ، واستقرض منه النبىّ صلى
الله عليه وسلم أربعين ألف درهم ، وصحّ دينه ويقينه.
وأما مخرمة بن
نوفل بن أمية بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب فأمه رقيقة بنت أبى صيفىّ ابن هاشم بن
عبد مناف ، والد المسوّر بن مخرمة ، حسن إسلامه ، وهو الذي نصب أعلام الحرم لعمر
مع حويطب بن عبد العزى ، وهو الذي خبأ له النبىّ صلى الله عليه وسلم القثّاء ،
فقال : خبأت هذا لك ، خبأت هذا لك.
وأما عمير بن وهب
بن خلف أبو أمية الجمحي فليس منهم ، مسلم حنيفى ، أما إنه كان من أشدهم عداوة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء لقتله بما شرط له صفوان بن أمية ، فلما دخل
المسجد دعاء النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بما كان بينه وبين صفوان ، فأسلم
، وحديثه طويل.
وأما هشام بن عمرو
فلا أعرف حاله.
وأما الحارث بن
هشام فكان في أول أمره كأبى جهل بن هشام ؛ وهي شنشنة أعرفها من أخزم ، ومن يشبه أخاه فلم يظلم. حسن إسلامه ، وكان بالمسك ختامه.
وأما سعيد بن
يربوع فهو الملقّب بالصرم ، مخزومىّ ، قال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: أينا أكبر؟ قال : أنا أقدم منك ، وأنت
أكبر وخير منى ، ولم أعلم
تأليفه.
__________________
وأما عدىّ بن قيس
فلم أعرفه.
وأما العباس بن
مرداس فكبير قومه ، حسن إسلامه ، وخبره مشهور.
وأما طليق بن
سفيان ، وابنه حكيم ؛ فهو وابنه مذكوران في المؤلّفة قلوبهم.
وأما خالد بن أسيد
بن أبى العيص بن أمية فلا أعرف قصّته.
وأما شيبة بن
عثمان فكان في نفسه شيء ، ثم أراد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما دنا
منهم عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه ، فلما دنا منه أخذه أفكل ، فمسح صدره فأسلم وحسن إسلامه.
وأما أبو السّنابل
بن بعكك العبدري فهو من مسلمة الفتح ، واسمه حبّة ؛ لا أعرفه.
وأما عكرمة بن
عامر فلا أعرفه ، أما إنه من بنى عبيد الدار ، ولست أحصّل حاله.
وأما زهير بن أمية
، وخالد بن هشام فلا أعرفهما.
وأما هشام بن
الوليد فهو أخو خالد بن الوليد.
وأما سفيان بن عبد
الأسد فلا أعرفه.
وأما أبو السائب
فلم يكن منهم.
وأما مطيع بن
الأسود فلست أعلم حاله.
وأما أبو جهم بن
حذيفة بن غانم من بنى عدىّ ، واسمه عامر ، فلا أعرفه منهم ، على أن النبىّ صلى
الله عليه وسلم قال فيه في الصحيح : وأما
أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ـ رواه النسائي. وقال فيه : وأما أبو جهم بشرّ لا خير فيه. وربّك أعلم.
وأما أحيحة فهو
أخو صفوان بن أمية لا أعرف حاله.
وأما نوفل بن
معاوية الدّيلى فلا أعرفه منهم.
وأما علقمة بن
علاثة العامري الكلابي فهو منهم وأسيد بن ربيعة ، وحسن الإسلام عندهما
__________________
وأما خالد بن هوذة
فهو والد العدّاء بن خالد مبايع النبي صلى الله عليه وسلم في العبد أو الأمة ، من
بنى أنف الناقة ، غير ممدوح.
والحطيئة لا أعرف
حاله ، وكذلك أخوه حرملة.
وأما الأقرع بن
حابس فمشهور فيهم.
وأما قيس بن مخرمة
بن المطلب القرشي المطلبي فلا أعلمه منهم.
وأما جبير بن مطعم
فلم يكن منهم.
وأما هشام بن عمرو
فلا أعرفه.
وقد عدّ فيهم زيد
الخيل الطائي ، وهم أكثر من هذا كله.
استدراك :
وأما معاوية فلم
يكن منهم ؛ كيف يكون ذلك ، وقد ائتمنه النبىّ صلى الله عليه وسلم على وحى الله
وقراءته وخلطه بنفسه. وأما حاله في أيام أبى بكر وعمر فأشهر من هذا وأظهر. وقد
قدمنا أنّ أصناف المؤلّفة قلوبهم مختلفة ؛ فمنهم ضعيف الإيمان قوىّ بالأدلة
والعطاء ، ولم يكن جميعهم كافرا ؛ فحصّلوا هذا فإنه مهمّ في القصة.
المسألة العاشرة ـ
اختلف في بقاء المؤلّفة قلوبهم ، فمنهم من قال : هم زائلون ؛ قاله جماعة ، وأخذ به
مالك. ومنهم من قال : هم باقون ؛ لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام ، وقد قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.
والذي عندي أنه إن
قوى الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم ، كما كان يعطيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؛ فإن الصحيح قد روى فيه :
«بدأ الإسلام
غريبا وسيعود غريبا كما بدأ».
المسألة الحادية
عشرة ـ إذا قلنا بزوالهم فإن سهمهم يعود إلى سائر الأصناف كلها ، أو ما يراه
الإمام ، حسبما تقدّم بيانه في أصل الخلاف.
وقال الزهري :
يعطى نصف سهمهم لعمّار المساجد ، ولا دليل عليه. والأول أصح.
وهذا مما يدلّك
على أنّ الأصناف الثمانية محلّ لا مستحقّون ؛ إذ لو كانوا مستحقين
__________________
لسقط سهمهم بسقوطه
عن أرباب الأموال ، ولم يرجع إلى غيرهم ، كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحدهم لم
يرجع نصيبه إلى من بقي منهم.
المسألة الثانية
عشرة ـ قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) :
وفيه قولان :
أحدهما ـ أنهم
المكاتبون ؛ قاله علىّ ، والشافعى ، وأبو حنيفة ، وجماعة.
الثاني ـ أنه
العتق ، وذلك بأن يبتاع الإمام رقيقا فيعتقهم ، ويكون ولاؤهم لجميع المسلمين ؛
قاله ابن عمر.
وعن مالك أربع
روايات :
إحداها ـ أنه لا
يعين مكاتبا ، ولا في آخر نجم من نجومه ، ولو خرج به حرّا. وقد قال مرة : فلمن
يكون الولاء؟
وقال آخرا : ما
يعجبني ذلك ، وما بلغني أن أبا بكر ولا عمر ولا عثمان فعلوا ذلك.
الثانية ـ روى عنه
مطرّف أنه يعطى المكاتبون.
الثالثة ـ قال :
يشترى من زكاته رقبة فيعتقها ، يكون ولاؤها لجميع المسلمين.
السابعة ـ قال
مالك : لا آمر أحدا أن يشترى رقبة من زكاة ماله فيعتقها. وبه قال الشافعى وأبو
حنيفة.
والصحيح أنه شراء
الرقاب وعتقها ، كذلك هو ظاهر القرآن ؛ فإن الله حيث ذكر الرقبة في كتابه إنما هو العتق ، ولو أراد
المكاتبين لذكرهم باسمهم الأخصّ ، فلما عدل إلى الرقبة دلّ على أنه أراد العتق.
وتحقيقه أن
المكاتب قد دخل في جملة الغارمين بما عليه من دين الكتابة ، فلا يدخل في الرقاب ،
وربما دخل في المكاتب بالعموم ، ولكن في آخر نجم يعتق به ، ويكون ولاؤه لسيده ،
ولا حرج على معطى الصدقة في ذلك ؛ فإنّ تخليصه من الرق ، وفكّه من حبس الملك هو
المقصود ، ولا يتأتّى عن الولاء ؛ فإن الغرض تخليص المكاتب من الرق ، وفكّه من حبس
الملك هو المقصود ، وكذلك قال مالك في كتاب محمد.
__________________
المسألة الثالثة
عشرة ـ لو اشترى الإمام من رجل أباه وأخذ المال ليعتقه عن نفسه ، فاختلف العلماء
فيه على قولين. وكذلك اختلف [فيه] قول مالك ؛ فمنعه في كتاب محمد ، وأجازه في المختصر.
والأول أصحّ ؛
لأنّ النبىّ صلى الله
عليه وسلم قال : الولاء
لمن أعطى الثمن ، ولأنه إذا أعتقه عن نفسه لم يكن للثمن مقابل يوازيه.
المسألة الرابعة
عشرة ـ وكذلك اختلف العلماء في فكّ الأسارى منها ؛ فقد قال أصبغ : لا يجوز ذلك. وقال ابن حبيب
: يجوز ذلك.
وإذا كان فكّ
المسلم عن رقّ المسلم عبادة وجائزا من الصدقة فأولى وأحرى أن يكون ذلك في فكّ
المسلم عن رقّ الكافر وذلّه.
المسألة الخامسة
عشرة ـ إذا قلنا : إنه يعان منها المكاتب ، فهل نعتق منها بعض رقبة ينبنى عليها؟
فإذا كان نصف عبد أو عشره يكون فيه فكّه عن الرق بما قد سبق من عتقه فإنه يجوز ؛ ذكره
مطرّف ، وكذلك أقول. والله أعلم.
المسألة السادسة
عشرة ـ ويكون الولاء بين المعتقين كالشريكين. وقد بينّاه في كتب المسائل ، فإنّ
فيه تفريعا كثيرا.
المسألة السابعة
عشرة ـ قوله : (وَالْغارِمِينَ) :
وهم الذين ركبهم
الدّين ، ولا وفاء عندهم [به] ، ولا خلاف فيه. اللهم إلّا من ادّان في سفاهة ، فإنه لا
يعطى منها ، نعم ولا من غيرها إلا أن يتوب ، فإنه إن أخذها قبل التوبة عاد إلى سفاهة مثلها أو أكبر منها ، والديون
وأصنافها كثيرة. وتفصيله في كتب الفقه.
المسألة الثامنة
عشرة ـ فإن كان ميتا قضى منها دينه ؛ لأنه من الغارمين.
وقال ابن الموّاز
: لا يقضى. وقد ثبت في الصحيح ، عن البخاري وغيره :
ما من
__________________
مؤمن
إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ؛ فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، ومن
ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه.
المسألة التاسعة
عشرة ـ قوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) :
قال مالك : سبل
الله كثيرة ، ولكني لا أعلم خلافا في أنّ المراد سبيل الله هاهنا الغزو من جملة
سبيل الله ؛ إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا : إنه الحج.
والذي يصح عندي من
قولهما أنّ الحج من جملة السّبل مع الغزو ؛ لأنه طريق برّ ، فأعطى منه باسم السبيل
، وهذا يحلّ عقد الباب ، ويخرم قانون الشريعة ، وينثر سالك النظر ، وما جاء قط
بإعطاء الزكاة في الحجّ أثر.
وقد قال علماؤنا :
ويعطى منها الفقير بغير خلاف ؛ لأنه قد سمّى في أول الآية ، ويعطى الغنىّ عند مالك
بوصف سبيل الله تعالى ، ولو كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به ، لا يلتفت
إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم :
لا تحلّ الصدقة
لغنىّ إلا الخمسة : غاز في سبيل الله ...
وقال أبو حنيفة :
لا يعطى الغازي [في سبيل الله] إلا إذا كان فقيرا ، وهذه زيادة على النص ، وعنده أن
الزيادة على النص نسخ ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر.
وقد بينا أنه فعل
مثل هذا في الخمس في قوله : (وَلِذِي الْقُرْبى) ؛ فشرط في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر ؛
وحينئذ يعطون من الخمس. وهذا كله ضعيف حسبما بينّاه.
وقال محمد بن عبد
الحكم : يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح ، وما يحتاج إليه من آلات الحرب ، وكفّ
العدو عن الحوزة ؛ لأنه كلّه من سبيل الغزو ومنفعته. وقد أعطى النبىّ صلى الله
عليه وسلم من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن أبى حثمة إطفاء للثائرة.
__________________
المسألة الموفية
عشرين ـ قوله تعالى : (وَابْنِ السَّبِيلِ) :
يريد الذي انقطعت
به الأسباب في سفره ، وغاب عن بلده ومستقرّ ماله وحاله ؛ فإنه يعطى منها.
قال مالك في كتاب
ابن سحنون : إذا وجد من يسلفه فلا يعطى. وليس يلزمه أن يدخل تحت منّة أحد ، وقد وجد منّة
الله ونعمته.
المسألة الحادية
والعشرون ـ إذا جاء الرجل وقال : أنا فقير ، أو مسكين ، أو غارم ، أو في سبيل الله
، أو ابن السبيل ، هل يقبل قوله ، أم يقال له أثبت ما تقول؟
فأما الدّين فلا
بد من أن يثبت . وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد لها ويكتفى به فيها.
ثبت أن النبىّ صلى
الله عليه وسلم جاء إليه قوم ذوو حاجة مجتابى النّمار ، فحثّ على الصدقة عليهم.
وفي حديث أبرص وأقرع وأعمى ، قال مخبرا عنهم : إنا على ما ترى.
فاكتفى بظاهر الحال. وكذلك ابن السبيل يكتفى بغربته ، وظاهر حالته ، وكونه في سبيل
الله معلوم بفعله لذلك وركونه فيه.
وإنّ قال : أنا
مكاتب أثبت ذلك ؛ لأنّ الأصل الرق حتى يثبت الحرية أو سببها.
وإنّ ادّعى زيادة
على الفقر عيالا ، فقال القرويون. يكشف عن ذلك إن قدر ، وهذا لا يلزم ؛ لأن حديث
أبرص وأعمى وأقرع ذكر ذلك عنهم وأنا ابن سبيل ، أسألك بعيرا أتبلّغ عليه في سفري ،
ولم يكلفه إثبات السفر ، وهو غائب عنه ؛ فصار هذا أصلا في دعوى كل شيء غائب من هذا
الباب.
__________________
المسألة الثانية
والعشرون ـ إذا قلنا : إنّ الأصناف الثمانية مستحقّون ، فيأخذ كلّ أحد حقّه وهو
الثمن ، ولا مسألة معنا.
وإن قلنا : إن
الإمام يجتهد ، وهو الصحيح ؛ فاختلف العلماء بأى صنف يبدأ. فأما العاملون فإن قلنا
: إنّ أجرتهم من بيت المال فلا كلام. وإن قلنا : إن أجرتهم من الزكاة فيهم نبدأ ،
فنعطيهم الثّمن على قول ، وقدر أجرتهم على الصحيح في الشرع ؛ فإن الخبر بأن يعطى
كلّ أجير أجره قبل أن يجفّ عرقه مأثور اللفظ صحيح المعنى. فإن أخذ العامل حقّه فلا يبقى صنف يترجّح فيه إلا صنفين ؛ وهما سبيل الله
والفقراء ، أو ثلاثة أصناف إن قلنا : إنّ الفقراء والمساكين صنفان ، فأما سبيل
الله إذا اجتمع مع الفقر فإن الفقر مقدّم عليه إلا أن ينزل بالمسلمين حاجة إلى مال الصدقة فيما لا بدّ منه
من دفع مضرّة ، كما تقدّم ، فإنه يقدم على كل نازلة.
وأما الفقراء
والمساكين فالصحيح أنهم صنفان ، ولا نبالى بما قال الناس فيهما ، وها أنا ذا
أريحكم منه بعون الله ؛ فإن قال القائل بأن الفقير من له شيء والمسكين من لا شيء
له ، أو بعكسه ، فإن من لا شيء له هو المقدّم على من له شيء ، فهذا المعنى ساقط لا
فائدة فيه.
وأما إن قلنا : إن
الفقير هو الذي لا يسأل ، والمسكين هو الذي يسأل فالذي لا يسأل أولى ، لأن السائل
أقرب إلى التفطّن والغنى والعلم به ممن لا يسأل ، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
ولا خلاف أن الزّمن مقدّم على الصحيح ، وأنّ المحتاج مقدّم على سائر الناس ،
وأن المسلم مقدم على الكتابي. وقد سقط اعتبار الهجرة والتقرب بذهاب زمانهما ، فلا
معنى للاحتجاج على ذلك كلّه ، والحمد لله الذي منّ بالمعرفة وكفانا المؤنة.
المسألة الثالثة
والعشرون ـ هذه الأوصاف التي ذكرنا شأنها في الأصناف التي قدمنا بيانها إنما تعتبر
عند علمائنا فيمن لا قرابة بينه وبين المتصدق ، فإن وقعت القرابة ففي ذلك تفصيل
عريض طويل.
__________________
فأما صدقة التطوع فقد
قال النبىّ صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة ابن مسعود : زوجك وولدك أحقّ من تصدقت عليهم به. يعنى بحليّها الذي أرادت أن تتصدق به.
وفي حديث بئر حاء :
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى طلحة : أرى أن تجعلها في الأقربين ، فجعلها أبو طلحة في أقاربه ،
وبنى عمّه.
وهذا كله صحيح
ثابت في كلّ أم وبنت من الحديث.
وأما صدقة الفرض
فإن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجه الذين تلزمه نفقة جميعهم فإنه يجزئه. وأما إن تناول هو ذلك بنفسه فلا
يجوز أن يعطيها بحال لمن تلزمه نفقته ؛ لأنه يسقط [في ذلك] بها عن نفسه فرضا.
وأما إن أعطاها
لمن لا تلزم له نفقتهم فقد اختلف العلماء في ذلك ؛ فمنهم من جوّزه ، ومنهم من
كرهه.
قال مالك : خوف
المحمدة. وقال مطرّف : رأيت مالكا يدفع زكاته لأقاربه. وقال الواقديّ ـ وهو إمام
عظيم : قال مالك : أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول.
وقد قال النبىّ
صلى الله عليه وسلم لزوجة عبد الله بن مسعود : لك
أجران : أجر القرابة ، وأجر الصدقة.
واختلف علماؤنا في
إعطاء الزكاة للزوجين ، فقال القاضي أبو الحسن : إن ذلك من منع مالك محمول على
الكراهية. وذكر عن ابن حبيب إن كان يستعين في النفقة عليها بما يعطيه فلا يجوز ،
وإن كان معه ما ينفق عليها ويصرف ما يأخذ منها من نفقته وكسوته على نفسه فذلك
جائز.
وقال أبو حنيفة :
لا يجوز بحال.
والصحيح جوازه
لحديث زينب امرأة ابن مسعود المتقدم ذكره.
فإن قيل : ذلك في
صدقة التطوّع.
__________________
قلنا : صدقة
التطوع والفرض هاهنا واحد ؛ لأن المنع منه إنما هو لأجل عوده عليه ، وهذه العلة لو
كانت مراعاة لاستوى فيه التطوّع والفرض.
والمسألة الرابعة
والعشرون ـ إذا كان الفقير قويّا ، فقال مالك في مختصر ما ليس في المختصر : يعطى ،
يعنى لتحقيق صفة الاستحقاق فيه. وقال يحيى بن عمر : لا يجزيه ، وبه قال الشافعى ،
لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم :
لا تحلّ الصدقة
لغنىّ ولا لذي مرّة سوىّ ـ خرجه الترمذي مع غيره ، وزاد فيه : إلا لذي فقر
مدقع أو غرم مفظع . وقال : هذا غريب ، والحديث المطلق دون زيادة لا يركن إليه
، ولا ينبغي أن يعوّل على هذا ؛ فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يعطيها للفقراء
لأصحّاء ، ووقوفها على الزمنى باطل ، وهذا أولى من ذلك بالاتباع ، وأقوى منه في الارتباط
والانتزاع.
المسألة الخامسة
والعشرون ـ من كان له نصاب من الزكاة ، هل يجوز له أخذها أم لا؟
فقال علماؤنا تارة
: من ملك نصابا فلا يأخذ منها شيئا ؛ لأنه غنّى تؤخذ منه فلا تدفع إليه.
وفي القول الثاني
: يأخذ منها ، وقد ثبت أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : من سأل وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل
إلحافا.
والصحيح ما قاله
مالك والشافعى : إن من كانت عنده كفاية تغنيه فهو الغنىّ وإن كان أقلّ من نصاب ،
ومن زاد على النصاب ولم تكن فيه كفاية لمئونته ولا سداد لخلّته فليس بغنىّ فيأخذ منها.
المسألة السادسة
والعشرون ـ اختلف العلماء ، هل يعطى من الزكاة نصابا أم لا؟ على قولين.
وقال بعض
المتأخرين : إن كان في البلد زكاتان : نقد ، وحرث ، أخذ ما يبلّغه إلى الأخرى.
والذي أراه أن
يعطى نصابا ، وإن كان في البلد زكاتان وأكثر ، فإنّ الغرض إغناء الفقير ، حتى يصير
غنيّا ، فإذا أخذ تلك فإن حضرت زكاة أخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره ، وإلا عاد
عليه العطاء.
__________________
المسألة السابعة
والعشرون ـ لا تصرف الصدقة إلى آل محمد ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم. إنّ الصدقة لا تحلّ لآل محمد ، إنما هي
أوساخ الناس. والمسألة مشكلة
جدا ، وقد أفضنا فيها في شرح الحديث ما شاء الله أن نفيض فيه.
وبالجملة إنّ
الصدقة محرّمة على محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع أمته ، وهي محرّمة على بنى هاشم
في قول أكثر أهل العلم.
وقال الشافعىّ :
بنو المطلب وبنو هاشم واحد ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن بنى هاشم وبنى المطلب لم يفترقوا في
جاهلية ولا في إسلام. قالوا : لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أعطاهم الخمس عوضا عن الصدقة ولم يعطه
أحدا من قبائل قريش.
وقال محمد بن
الموّاز : آل محمد عشيرته الأقربون : بنو عبد المطلب ، وآل هاشم ، وآل عبد مناف ،
وآل قصىّ ، وآل غالب ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت : (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ـ نادى بأعلى صوته : يا آل قصىّ ، يا آل غالب ، يا آل عبد
مناف ، يا فاطمة بنت محمد ، يا صفية عمة رسول الله ، اعملوا لما عند الله ؛ فإنى
لست أملك لكم من الله شيئا. فبيّن بمناداته عشيرته الأقربين.
وقال ابن عباس ـ وقد
سئل عنها : نحن هم. يعنى آل محمد خاصة ، وأبى ذلك علينا قومنا. فأما مواليهم ،
فقال ابن القاسم في الحديث الذي جاء : لا تحلّ الصدقة لآل محمد ـ إنما ذلك في
الزكاة لا في التطوّع ، وإنما هم بنو هاشم أنفسهم. قيل له ـ يعنى مالكا : فمواليه؟
قال : لا أدرى ما الموالي ، وكأنه لم يرهم من ذلك فاحتججت عليه بقوله : مولى القوم
منهم ، فقال : وقد قال : ابن أخت القوم منهم.
قال أصبغ : وذلك
في البر والحرمة ، كقوله عليه السّلام : أنت
ومالك لأبيك. قال مطرف وابن
الماجشون : مواليهم منهم لا تحل لهم [الصدقة] .
وقال مالك في
الواضحة : لا يعطى آل محمد من التطوع. وأجازه ابن القاسم في كتاب محمد ، وهو الأصح
؛ لأنّ الوسخ إنما قرن بالفرض خاصة.
__________________
فإن قيل : قد روى
أبو داود ، عن أبى رافع ، أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على الصدقة من بنى مخزوم ، فقال لأبى رافع :
اصحبنى ، فإنك تصيب منها ؛ فقال : حتى آتى رسول الله فأسأله. فأتاه فسأله ، فقال :
موالي القوم من أنفسهم ، وإنا لا تحلّ لنا الصدقة.
وهذا نص في
المسألة ، فلو صحّ لوجب قبوله ، وقد قال علماؤنا في ذلك جوابان :
الأول ـ أنّ ذلك
على التنزيه منه .
الثاني ـ أنّ أبا
رافع كان مع النبىّ صلى الله عليه وسلم يخدم ويطعم ، فكره له ترك المال الذي لم
يذم ، وأخذه لمال هو أوساخ الناس ، فكسب غيره أولى منه.
فإن قيل : فقد روى
أن ابن عباس قال : بعثني أبى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إبل أعطاها إياه من
الصدقة.
قلنا : لم يصح.
وجوابه لو صح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس ، فردّ إليه ما
استسلف من الصدقة ، فأكلها بالعوض. وقد روينا ذلك مفسّرا مستوفى في شرح الحديث.
وقد قال أبو يوسف
: يجوز صرف صدقة بنى هاشم إلى فقرائهم ، فيقال له : أيأكلون من أوساخهم؟ هذا جهل
بحقيقة العلة وجهة الكرامة .
المسألة الثامنة
والعشرون ـ قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ) مقابلة جملة بجملة ، وهي جملة الصدقة بجملة المصرف لها ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث
البخاري وغيره ـ حين
أرسل معاذا إلى اليمن : قال لهم : إنّ الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم
فتردّ على فقرائهم. فاختص أهل كلّ بلد بزكاة بلده ؛ فهل يجوز نقلها أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال :
الأول ـ لا تنقل ،
وبه قال سحنون. وقاله ابن القاسم ، إلا أنه زاد إن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابا.
__________________
الثاني ـ يجوز
نقلها ، وقاله مالك أيضا.
الثالث ـ يقسم في
الموضع سهم الفقراء والمساكين ، وينقل سائر السهام ، باجتهاد الإمام.
والصحيح ما قاله
ابن القاسم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ ، ولأن الحاجة إذا نزلت وجب
تقديمها على من ليس بمحتاج ، فالمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه.
الآية السابعة
والعشرون ـ قوله : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ روى
أنها نزلت في غزوة
تبوك. قال الطبري :
بينما النبىّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه
، فقالوا : يظن هذا أنه يفتح قصور الشام وحصونها! فأطلعه الله على ما في
قلوبهم وقولهم ، فدعاهم ، فقال : قلتم كذا وكذا؟ فحلفوا : ما كنّا إلا نخوض ونلعب
، فكان ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : أسمع آية تقشعرّ منها الجلود ، وتجثّ القلوب ، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقل أحد أنا
غسلت ، أنا كفّنت ، أنا دفنت. قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا
وقد وجد غيره.
وروى الدّارقطنيّ
، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : رأيت
عبد الله بن أبىّ يشتدّ قدام النبىّ صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه ، وهو يقول : يا محمد ، إنما كنا نخوض ونلعب ، والنبىّ صلى
الله عليه وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون؟ لا تعتذروا.
وروى أنّ ذلك كله
نزل فيما كان من المنافقين في هذه الغزوة.
المسألة الثانية ـ
لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدّا أو هزلا ، وهو كيفما كان كفر ؛ فإن الهزل
بالكفر كفر ، لا خلاف فيه بين الأمة ، فإنّ التحقيق أخو الحق والعلم ، والهزل أخو
الباطل والجهل. قال علماؤنا : نظروا إلى قوله : (أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً ،
__________________
قالَ
: أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).
فإن كان الهزل في
سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق فقد اختلف الناس في ذلك على أقاويل ، جماعها
ثلاثة :
الفرق بين البيع
وغيره. الثاني : لا يلزم الهزل. الثالث : أنه يلزم. فقال في كتاب محمد: يلزم نكاح
الهازل. وقال أبو زيد ، عن ابن القاسم في العتبية : لا يلزم. وقال علىّ ابن زياد :
يفسخ قبل وبعد.
وللشافعي في بيع
الهازل قولان. وكذلك يتخرج من قول علمائنا فيه القولان. قال متأخر وأصحابنا : إن
اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم ، وإن اختلفا غلب الجدّ الهزل.
قال الإمام ابن
العربي : فأمّا الطلاق فيلزم هزله ، وكذلك العتق ؛ لأنه من جنس واحد يتعلّق
بالتحريم والقربة ، فيغلب اللزوم فيه على الإسقاط.
الآية الثامنة
والعشرون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ
[المجاهدة] فيها ثلاثة أقوال :
الأول ـ قال ابن
مسعود : جاهدهم بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فقطّب في وجوههم.
الثاني ـ قال ابن
عباس : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان.
الثالث ـ قال
الحسن : جاهد الكفّار بالسيف ، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم. واختاره قتادة ،
وكانوا أكثر من يصيب الحدود.
المسألة الثانية ـ
قال علماء الإسلام ما تقدم ، فأشكل ذلك واستبهم ، ولا أدرى صحة هذه الأقوال في
السند. أما المعنى فإنّ من المعلوم في الشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يجاهد الكفار بالسيف على اختلاف أنواعهم ، حسب ما تقدم بيانه. وأما المنافقون فكان
__________________
مع علمه يعرض عنهم
، ويكتفى بظاهر إسلامهم ، ويسمع أخبارهم فيلغيها بالبقاء عليهم ، وانتظار الفيئة
إلى الحق بهم ، وإبقاء على قومهم ، لئلا تثور نفوسهم عند قتلهم ، وحذرا من سوء
الشفعة في أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؛ فكان لمجموع هذه
الأمور يقبل ظاهر إيمانهم ، وبادى صلاتهم ، وغزوهم ، ويكل سرائرهم إلى ربهم ،
وتارة كان يبسط لهم وجهه الكريم ، وأخرى كان يظهر التغيير عليهم.
وأما إقامة الحجة
باللسان فكانت دائمة ، وأما قول من قال : إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود فيهم
لأنّ أكثر إصابة الحدود كانت عندهم ؛ فإنه دعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي
بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا ، لا بما تتلبّس به
الجوارح ظاهرا ، وأخبار المحدودين يشهد مساقها أنهم لم يكونوا منافقين.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) :
الغلظة نقيض
الرأفة ، وهي شدّة القلب وقوّته على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان ؛ فإنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا
زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرّب .
الآية التاسعة
والعشرون ـ قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ،
وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ
يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (وَلَقَدْ قالُوا
كَلِمَةَ الْكُفْرِ) :
فيه ثلاثة أقوال :
__________________
أحدها ـ أنه قول
الجلاس بن سويد : إن كان ما جاء به محمد حقّا فلنحن شرّ من الحمر. ثم إنه حلف ما
قال ؛ قاله عروة وجاهد وابن إسحاق.
الثاني ـ أنه عبد
الله بن أبىّ بن سلول حين قال : (لَئِنْ رَجَعْنا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ؛ قاله قتادة.
الثالث ـ أنه
جماعة المنافقين قالوا ذلك ؛ قاله الحسن. وهو الصحيح ؛ لعموم القول ، ووجود المعنى
فيه وفيهم ، وجملة ذلك اعتقادهم وقولهم إنه ليس بنبىّ .
المسألة الثانية ـ
في هذا دليل على أنّ الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة ، وإن كان الإيمان
لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال ، حسبما بيّناه في
أصول الفقه ومسائل الخلاف ، وذلك لسعة الحلّ وضيق العقد ، وذلك كالطلاق يقع بالنية
والقول ، وليس يقع النكاح إلّا باللفظ المخصوص مع القول به.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (فَإِنْ يَتُوبُوا
يَكُ خَيْراً لَهُمْ) :
فيه دليل على توبة
الكافر الذي يسرّ الكفر ويظهر الإيمان ، وهو الذي يسميه الفقهاء الزّنديق.
وقد اختلف في ذلك
العلماء ، فقال مالك : لا تقبل له توبة. وقال الشافعى : تقبل. وليست المسألة كذلك
، وإنما يقول مالك : إن توبة الزّنديق لا تعرف ، لأنه كان يظهر الإيمان ويسرّ
الكفر ، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن وفي كل حين ، يقول : أنا مؤمن
، وهو يضمر خلاف ما يظهر ، فإذا عثرنا عليه [وقال : تبت] لم يتغير حاله. وقبول التوبة لا يكون إلا لتوبة تتغيّر
فيها الحالة الماضية بنقيضها في الآتية ، ولهذا قلنا : إنه إذا جاء تائبا من قبل
نفسه قبل أن يعثر عليه قبلنا توبته ، وهو المراد بالآية ، فإنها ليست بعموم ،
فتتناول كلّ حالة ؛ وإنما تقتضي القبول المطلقة فيكفى في تحقيق المعنى للفظ وجوده
__________________
من جهة ، وقد بينا
المسألة على الاستيفاء في مسائل الخلاف ، وهذا القدر يتعلق بالأحكام ، وقد بيناه.
الآية الموفية
ثلاثين ـ قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ
بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ).
فيها عشر مسائل :
المسألة الأولى ـ هذه
الآية اختلف في شأن نزولها على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنها نزلت
في شأن مولى لعمر قتل حميما لثعلبة ، فوعد إن وصل إلى الدية أن يخرج حقّ الله فيها
، فلما وصلت إليه الدية لم يفعل.
الثاني ـ أن ثعلبة
كان له مال بالشام فنذر إن قدم من الشام أن يتصدق منه ، فلما قدم لم يفعل.
الثالث ـ وهو أصحّ
الروايات ـ أن ثعلبة بن حاطب الأنصارى المذكور قال للنبىّ صلى الله عليه
وسلم : ادع الله أن يرزقني
ما لا أتصدق منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدّى شكره
خير من كثير لا تطيقه ثم عاود ثانية ، فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم : أما
ترضى أن تكون مثل نبىّ الله ، فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تصير معى الجبال ذهبا
وفضة لصارت .
فقال
: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني لأعطينّ كلّ ذي حق حقه. فدعا له النبىّ
صلى الله عليه وسلم ، فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدّود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحّى عنها ، ونزل واديا
من أوديتها ، حتى جعل يصلّى الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما ، ثم نمت
وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمى حتى ترك الجمعة ، وطفق يلقى الركبان
يوم الجمعة ويسألهم عن الأخبار ، فسأل النبىّ صلى الله عليه وسلم عنه ، فأخبر
بكثرة
__________________
غنمه
وبما صار إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ويح ثعلبة ـ ثلاث مرات ،
فنزلت : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها). ونزلت فرائض الصدقة ، فبعث النبىّ صلى الله عليه وسلم
رجلين على الصدقة : رجل من جهينة ، وآخر من بنى سليم ، وأمرهما أن يمرّا بثعلبة
وبرجل آخر من بنى سليم ، يأخذان منهما صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فقال :
ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما أدرى ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا
وعودا.
وسمع
بهما السلمى ، فعمد إلى خيار إبله ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلما
رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ منك هذا. قال : بل فخذوه ، فإنّ
نفسي بذلك طيبة ، فأخذوها منه ، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرّا بثعلبة ،
فقال : أرونى كتابكما ـ وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم كتب لهما كتابا في حدود
الصدقة ، وما يأخذان من الناس ـ فأعطياه الكتاب ، فنظر إليه ، فقال : ما هذه إلا
أخت الجزية ، فانطلقا عنّى حتى أرى رأيى.
فأتيا
النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة ـ قبل أن يكلّمهما ،
ودعا للسلمى بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، والذي صنع السّلمى ؛ فأنزل الله
: (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ
آتانا مِنْ فَضْلِهِ ...) الآية ؛ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب
ثعلبة ، فخرج حتى أتاه ، فقال : ويحك يا ثعلبة! قد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج
حتى أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فسأل أن يقبل صدقته منه ، فقال: إنّ الله
منعني أن أقبل منك صدقتك ، فقام يحثو التراب على رأسه ؛ فقال النبىّ صلى الله عليه
وسلم : قد أمرتك فلم تطعني ، فرجع ثعلبة إلى منزله ، وقبض رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يقبض منه شيئا ، ثم أتى إلى أبى بكر فلم يقبض منه شيئا ، ثم إلى عمر بعد
أبى بكر ، فلم يقبض منه شيئا ، ثم أتى إلى عثمان بعد عمر فلم يقبض منه شيئا ،
وتوفى في خلافة عثمان رضى الله عنه. وهذا الحديث مشهور .
__________________
المسألة الثانية ـ
قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ) :
قيل إنّه عاهد
بقلبه ، والدليل عليه قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ) إلى قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) ، وهذا استنباط ضعيف ، واستدلال عليه فاسد ؛ فإنه يحتمل أن
يكون عاهد الله بلسانه ، ولم يعتقد بقلبه العهد.
ويحتمل أن يكون
عاهد [الله] بهما جميعا ، ثم أدركته سوء الخاتمة ؛ فإن الأعمال
بخواتيمها ، والأيام بعواقبها. ولفظ اليمين ورد في الحديث ، وليس في ظاهر القرآن
يمين إلا مجرد الارتباط والالتزام ، أما أنه بصيغة القسم في المعنى فإنّ اللام
تدلّ عليه ، وقد أتى بلامين : اللام الواحدة الأولى لام القسم بلا كلام ، والثانية
لام الجواب ، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال : إنهما لا ما القسم ، وليس يحتاج إلى
ذلك ، وقد بيناه في الملجئة ، وكيفما كان الأمر بيمين أو بالتزام مجرد عن اليمين ، أو بنية ، فإنه عهد.
وكذلك قال علماؤنا
: إنّ العهد والطلاق وكلّ حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر في عقده إلى غيره ، فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده ، وإن
لم يتلفظ به.
قال الشافعى وأبو
حنيفة : لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به.
والدليل على صحة
ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك ، وقد سئل : إذا نوى رجل الطلاق بقلبه ولم
يلفظ به بلسانه ، يلزمه ذلك أم لا؟ فقال : يلزمه ، كما يكون مؤمنا بقلبه ، وكافرا
بقلبه.
وهذا أصل بديع ،
وتحريره أن يقال عقد لا يفتقر المرء فيه إلى غيره في التزامه ، فانعقد عليه بنيّة. أصله الإيمان والكفر.
وقد بيناه في كتاب
الإنصاف أحسن بيان ، فلينظر هناك إن شاء الله تعالى ، وقد أشرنا إلى هذا الغرض قبل
هذا بمرماة من النظر تصيبه ، وهذا يعضده ويقوّيه.
المسألة الثالثة ـ
إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف ، وتركه معصية.
__________________
وإن كانت يمينا
فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق ، بيد أنّ المعنى فيه [إن كان نذر الرجل أو] إن كان فقيرا لا يتعيّن عليه فرض الزكاة ، فسأل الله مالا
يلتزم فيه ما ألزمه من الصدقة ، ويؤدّى ما تعيّن عليه فيه من الزكاة ، فلما آتاه
الله ما سأل ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه ، لكنّ التعاطي
بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه ، إذ كان ـ والله أعلم ـ بغير نيّة خالصة ،
أو كان بنية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة.
المسألة الرابعة ـ
إن كان هذا المعاهد عارفا بالله فيفهم وجه المعاهدة ، وإن كان غير عارف بالله فكيف
يصحّ معاهدة الله مع من لا يعرفه.
قلنا : إن كان وقت
المعاهدة عارفا بالله ، ثم أذهب المعرفة سوء الخاتمة فلا كلام ، وإن كان في وقت
المعاهدة منافقا يظهر الإيمان ويسرّ الكفر فإن قلنا : إن الكفار يعرفون الله
فالمعاهدة مفهومة ، وإن قلنا : لا يعرفونه ـ وهو الصحيح فإنّ حقيقة المعاهدة عند
علمائنا معاقدة بعزيمة محقّقة بذكر الله ، فإن عاهد الله من لا يعرفه فإنما ذلك
إذا ذكره في المعاقدة فخاصّ من خواص أوصافه ، وإن لم يتحقق ربّه فينعقد ذلك عليه ،
ويلزمه حكمه ، وينفذ عليه عقابه ؛ لأن العقد يتعلق بهذا الذكر اللازم.
المسألة الخامسة ـ
قوله تعالى : (بَخِلُوا بِهِ) :
اختلف فيه ؛ فقيل
: البخل منع الواجب ، والشحّ منع المستحب ، قال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ) ـ إلى : (الْقِيامَةِ). وقال تعالى : (وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ ...) الآية.
وقيل : هما واحد ،
وقد سبقت الإشارة إليه في المتقدم من القول ، وما حكيناه هاهنا هو الصحيح ، وعليه
تدلّ الأحاديث حسبما بينّاه فيها ، وظواهر القرآن ، حسبما بيناه فيها.
المسألة السادسة ـ
قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) :
النّفاق في القلب
هو الكفر ، وإذا كان في الأعمال فهو معصية ، وقد حققنا ذلك
__________________
في شرح الصحيح
والأصول ، وفيه قال النبىّ صلى الله عليه وسلم :
أربع من كنّ فيه
كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذ ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد
غدر ، وإذا خاصم فجر. روته الصحاح والأئمة ، وتباين الناس فيه حزقا ، وتفرّقوا فرقا ، بسبب أنّ المعاصي بالجوارح لا تكون كفرا
عند أهل الحق ، ولا في دليل التحقيق.
وظاهر هذا الحديث
يقتضى أنه إذا اجتمعت فيه هذه الخصال صحّ نفاقه وخلص ، وإذا كان منهن واحدة كانت
فيه من النفاق خصلة ، وخصلة من النفاق نفاق ، وعقدة من الكفر كفر ، وعليه يشهد
ظاهر هذه الآية بما قال فيه من نكثه لعهده ، وغدره الموجب له حكم النفاق ؛ فقالت
طائفة : إن ذلك إنما هو لمن يحدّث بحديث يعلم كذبه ، ويعهد بعهد لا يعتقد الوفاء
به ، وينتظر الأمانة للخيانة فيها. وتعلقوا فيما ذهبوا إليه من ذلك بحديث خرجه
البزّار ، عن سلمان ، قال : دخل
أبو بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من خلال المنافقين ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان.
فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقلين ، فلقيهما علىّ فقال لهما : مالي
أراكما ثقيلين؟ قالا : حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم : من خلال
المنافقين إذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد أخلف. فقال علىّ : أفلا
سألتماه؟ فقالا : هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : لكني سأسأله.
فدخل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقيني أبو بكر وعمر ، وهما ثقيلان ، ثم
ذكر ما قالا. فقال : قد حدّثتهما ، ولم أضعه على الموضع الذي يضعونه ، ولكن
المنافق إذا حدّث وهو يحدّث نفسه أنه يكذب ، وإذا وعد وهو يحدث
نفسه أنه يخلف ، وإذا ائتمن وهو يحدّث نفسه أنه يخون.
قال القاضي الإمام
: هذا ليس بممتنع لوجهين : أحدهما ضعف سنده. والثاني أنّ الدليل الواضح قد قام على
أنّ متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا ، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود
إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له.
__________________
وقالت طائفة :
إنما ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله.
أفادنى أبو بكر
الفهري بالمسجد الأقصى : أن مقاتل بن حيان ، قال : خرجت
زمان الحجاج بن يوسف ، فلما كنت بالرىّ أخبرت أنّ سعيد بن جبير بها مختف من الحجاج
، فدخلت عليه ، فإذا هو في ناس من أهل ودّه. قال : فجلست حتى تفرقوا. ثم قلت : إنّ
لي ـ والله ـ مسألة قد أفسدت علىّ عيشي. ففزع سعيد ، ثم قال : هات. فقلت : بلغنا
أنّ الحسن ومكحولا ـ وهما من قد علمت في فضلهما وفقههما فيما يرويان عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صلّى وصام ، وزعم
أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان. ومن كانت فيه خصلة منهن
كان فيه ثلث النفاق. وظننت أنى لا أسلم منهن أو من بعضهن ، ولم يسلم منهن كثير من
الناس.
قال
: فضحك سعيد ، وقال : همّنى والله من الحديث [مثل] الذي أهمّك.
فأتيت
ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما ما قصصت علىّ ، [فضحكا] وقالا : همّنا والله من الحديث مثل الذي أهمّك. فأتينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ، فقلنا : يا رسول الله ، إنك قد
قلت : ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صام وصلّى وزعم أنه مؤمن : من إذا حدث كذب
، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق ،
فظننا أنا لم نسلم منهنّ أو من بعضهن ولن يسلم منهن كثير من الناس.
قال
: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : ما لكم ولهنّ؟ إنما خصصت به المنافقين ، كما خصّهم الله في كتابه.
أما
قولي : إذا حدث كذب فذلك قول الله عز وجل : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ ...) الآية لا يرون نبوّتك في قلوبهم ، أفأنتم كذلك؟ قال : فقلنا : لا. قال :
فلا عليكم ، أنتم من ذلك برآء.
__________________
وأما
قولي : إذا وعد أخلف ، فذلك فيما أنزل الله علىّ : (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ...) إلى : (يَكْذِبُونَ). أفأنتم كذلك؟ قال : فقلنا : لا ، والله لو عاهدنا الله
على شيء لو فينا بعهده. قال : فلا عليكم ، أنتم من ذلك برآء.
وأما
قولي : إذا ائتمن خان ، فذلك فيما أنزل الله : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ ...) إلى : (جَهُولاً). فكلّ
مؤمن مؤتمن على دينه ، والمؤمن يغتسل من الجنابة في السرّ والعلانية ، ويصوم
ويصلّى في السرّ والعلانية ، والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية ، أفأنتم كذلك؟
قلنا : لا. قال : فلا عليكم ، أنتم من ذلك برآء.
قال : ثم خرجت من
عنده فقضيت مناسكي ، ثم مررت بالحسن ابن أبى الحسن البصري ، فقلت له : حديث بلغني
عنك. قال : وما هو؟ قلت : من كنّ فيه فهو منافق. قال : فحدّثنى بالحديث. قال :
فقلت : أعندك فيه شيء غير هذا؟ قال : لا. قلت : ألا أحدّثك حديثا حدثني به سعيد بن
جبير ، فحدّثته به ، فتعجب منه ، وقال : إن لقينا سعيدا سألناه عنه وإلا قبلناك.
قال القاضي : هذا
حديث مجهول الإسناد ، وأما معناه ففيه نحو من الأول ، وهو تخصيصه من عمومه ،
وتحقيقه بصفته ، أما قوله : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ...) الآية ، فإنه كذب في الاعتقاد ، وهو كفر محض.
وأما قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ
آتانا مِنْ فَضْلِهِ) فهي الآية التي نتكلم فيها الآن ، وهي محتملة يمكن أن
يصحبها الاعتقاد ، بخلاف ما عاهد عليه عند العهد.
ويحتمل أن يكون
بنية الوفاء حين العهد ، وطرأ عليه ذلك بعد تحصيل المال.
وأما قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ). وقوله فيه : إن المؤمن يصلّى في السر والعلانية ، ويغتسل
ويصوم كذلك ، فقد يترك الصلاة والغسل تكاسلا إذا أسرّ ، ويفعلها رياء إذا جهر ولا
يكذب بهما ، وكذلك في الصوم مثله ، ولا يكون منافقا بذلك ، لما بيّناه من أنّ
المنافق من أسرّ الكفر ، والعاصي من آثر الراحة ، وتثاقل في العبادة.
وقالت طائفة : هذا
فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال.
__________________
والذي عندي أنه لو
غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم تؤثر في الاعتقاد. والذي عندي أنّ البخاري روى عن حذيفة أنّ النفاق كان على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان ؛ وذلك أنّ أحدا
لا يعلم منه هذا ، كما كان في عهد النبىّ صلى الله عليه وسلم يعلمه منه النبىّ ،
وإنما هو القتل دون تأخير ، فإن ظهر ذلك من أحد في زماننا فيكون كقوله : من ترك الصلاة فقد كفر ، وأيما عبد أبق
من مواليه فقد كفر.
وقد قال علماؤنا
رحمة الله عليهم : إنّ إخوة يوسف عاهدوا أباهم فأخلفوه ، وحدّثوه فكذبوه ،
وائتمنهم عليه فخانوه ، وما كانوا منافقين.
وقد حققنا ذلك في
كتاب المشكلين.
تحقيقه أنّ الحسن
ابن أبى الحسن البصرىّ عالم من علماء الأمة قال : النفاق نفاقان : نفاق الكذب ،
ونفاق العمل ، فأمّا نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما
نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة.
المسألة السابعة ـ
قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ) :
فيه قولان :
أحدهما ـ أن
الضمير عائد إلى الله تعالى.
والثاني ـ أنه
عائد على النفاق. عبّر عنه بجزائه ، كأنه قال : فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم
يلقون جزاءه.
وعلى ذكر هذه
الآية أنبئكم أنى كنت بمجلس الوزير العادل أبى منصور بن حمير على رتبة بيناها في
كتاب ترتيب الرحلة للترغيب في الملة ، فقرأ القارئ : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) ، وكنت في الصف الثاني من الحلقة ، فظهر أبو الوفاء على بن
عقيل إمام الحنبلية بها ، وكان معتزلي الأصول ، فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي
كان يجلس على يساري : هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة ، فإن العرب لا تقول
: «لقيت فلانا» إلّا إذا رأته. فصرف وجهه أبو الوفاء المذكور إلينا مسرعا ، وقال :
تنتصر لمذهب الاعتزال في أن [الله] لا يرى
__________________
في الآخرة ، فقد
قال : (فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ). وعندك أن المنافقين لا يرون الله في الآخرة ، وقد شرحنا
وجه الآيتين في المشكلين ، وتقدير الآية : فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم
يلقونه ، فيحتمل عود ضمير «يلقونه» إلى ضمير الفاعل في أعقبهم المقدّر بقولنا هو ،
ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء كما بيّناه.
المسألة الثامنة ـ
قوله تعالى : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ
ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) : يريد به تحريم مخالفة العهد ونكث العهد كيفما تصرّفت
حاله.
روى البخاري عن
نافع ، قال : لما
خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده ، فقال : إنى سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ، وإنا قد بايعنا
هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله ، وإنى لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل
على بيعة الله وبيعة رسوله ، ثم ينصب له القتال ، وإنى لا أعلم أحدا منكم خلعه ،
ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه.
وقال ابن خياط :
إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها ، وأين يزيد من ابن عمر ، ولكن رأى بدينه وعلمه
التسليم لأمر الله ، والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا
يفي بخلع يزيد. ولو تحقق أنّ الأمر يعود بعده في نصابه ، فكيف وهو لا يعلم ذلك؟ وهذا
أصل عظيم فتفهّموه والتزموه ترشدوا إن شاء الله تعالى.
المسألة التاسعة ـ
في قوله تعالى : (لَئِنْ آتانا مِنْ
فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ) :
دليل على أن من
قال : إن ملكت كذا فهو صدقة ، أو علىّ صدقة ، إنه يلزمه ؛ وبه قال أبو
حنيفة.
وقال الشافعى لا
يلزمه ذلك ، والخلاف في الطلاق مثله ، وكذلك في العتق ، إلّا أن أحمد بن حنبل يقول
: إنه يلزم ذلك في العتق ، ولا يلزم في الطلاق.
وظاهر هذه الآية
يدلّ على ما قلناه خلافا للشافعي ، وتعلّق الشافعى بقوله صلى الله عليه وسلم : لا طلاق قبل نكاح ، ولا نذر فيما لا
يملك ابن آدم. وسرد أصحابه في هذا الباب
__________________
أحاديث كثيرة لم
يصحّ شيء منها ، فلا معوّل عليه ، ولم يبق إلا ظاهر هذه الآية ، والمعاني مشتركة
بيننا. وقد حققنا المسألة بطرقها في كتاب التخليص.
وأما أحمد فزعم
أنّ العتق قربة ، وهي تثبت في الذمة بالنذر ، بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محلّه ،
وهو لا يثبت في الذمة.
وقال علماؤنا : إن
كان الطلاق لا يثبت في الذمة فإنّ القول ينعقد من المتكلم إذا صادف محلا ، وربطه
بملك ، كما لو قال رجل لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فإنّ القول ينعقد
ويصحّ ويلزم ، وإذا دخلت الدار وقع الطلاق بالقول السابق له ، اللازم المنعقد
، المضاف إلى محلّ صحيح تصحّ إضافة الطلاق إليه ، وهي الزوجة. فكذلك إذا قال لها :
إذا تزوّجتك فأنت طالق ، وإذا ملكت هذا العبد فهو حر ؛ لأنه أضاف التصرف إلى محله
في وقت يصحّ وقوعه فيه ؛ فيلزمه كما لو قال : لزوجته : إذا دخلت الدار فأنت طالق ،
أو قال لعبده : إذا دخلت الدار فأنت حر.
المسألة العاشرة ـ
قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) : حيل بينهم وبين التوبة ، وصرح بنفاقهم وكفرهم ؛ فلذلك لم
تقبل صدقاتهم ؛ لأنّ صحة الإيمان شرط لقبول الصدقة والصلاة وسائر الأعمال ؛ ولذلك
لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ؛ اقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعلمه بسريرته ، واطلاعه على بنيّات صدره.
الآية الحادية
والثلاثون ـ قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
ثبت في الصحاح
والمصنفات حديث عبد الله بن عباس وغيره ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفّى عبد الله بن أبى دعى رسول
الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه ، فلما وقف
__________________
عليه
يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره ، فقلت : يا رسول الله ؛ أعلى عدوّ الله عبد
الله بن أبىّ القائل كذا يوم كذا وكذا ـ يعدّد عليه آثامه ؟ قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ، حتى إذا
أكثرت عليه قال : أخر عنى يا عمر ، إنى خيّرت فاخترت ، قد قيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...) الآية. لو أعلم أنى لو زدت على السبعين غفر له لزدت قال :
ثم صلّى عليه ، ومشى معه ، فقام على قبره حتى فرغ منه ، قال : فعجبت لي ولجراءتى
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم.
قال
: فو الله ما كان إلّا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : ولا تصلّ على أحد ـ إلى آخر
الآيتين.
قال : فما صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه الله. وفي
الصحيح أيضا عن ابن عمر ، قال :
جاء عبد الله بن
عبد الله بن أبىّ إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه ، فقال : أعطنى
قميصك أكفّنه فيه ، وصلّ عليه ، واستغفر له. فأعطاه
قميصه ، وقال : إذا فرغتم فآذنونى ، فلما أراد أن يصلّى [عليه] جذبه عمر ، وقال : أليس
قد نهى الله أن تصلّى على المنافقين؟ فقال : أنا بين خيرتين : استغفر لهم ، أو لا
تستغفر لهم. فصلّى عليه. فأنزل الله : (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ، فترك الصلاة عليهم.
المسألة الثانية ـ
اختلف الناس في قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، هل هو إياس أو تخيير؟ فقال قوم : هو إياس بدليل ثلاثة أشياء :
أحدها ـ أنه قال :
(فَلَنْ يَغْفِرَ
اللهُ لَهُمْ).
الثاني ـ أنه قال
: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ، مبالغة ، كقول القائل : لو سألتنى مائة مرة ما أجبتك.
الثالث ـ أنه علل ذلك
بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، وهذه العلة موجودة بعد الزيادة على السبعين ، وحيث توجد
العلة يوجد الحكم.
__________________
وقال قوم : هو
تخيير من الله لنبيه ، والدّليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر : إنى خيّرت فاخترت ؛ قد قيل لي : استغفر
لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، لو أعلم أنّى لو
زدت على السبعين غفر له لزدت. وهذا أقوى ؛ لأنّ هذا نص صريح صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم في التخيير ،
وتلك استنباطات ، والنصّ الصريح أقوى من الاستنباط.
فأما قولهم : إنه
قال : (فَلَنْ يَغْفِرَ
اللهُ لَهُمْ) فهذا في السبعين ، وليس ما وراء السبعين كالسبعين ، لا من
دليل الخطاب ولا من غيره ؛ أما من دليل الخطاب فإنّ دليل الخطاب لا يكون في
الأسماء ؛ وإنما يكون في الصفات ، حسبما بيّناه في أصول الفقه ، ورددناه على
الدقاق من أصحاب الشافعىّ الذي يجعله في الأسماء والصفات ، وهو
خطأ صراح وأما من غير دليل الخطاب فظاهر أيضا ؛ لأنّ الحكم إذا علّق على اسم علم
بقي غيره خاليا عن ذلك الحكم ، فيطلب الحكم فيه من دليل آخر.
وأما قولهم : إنها
مبالغة فدعوى. ولعله تقدير لمعنى ، حتى لقد قال [في] ذلك الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله : إن التعديل في
الخمسة ، لأنها نصف العقد ، وزيادة الواحدة أدنى المبالغة ، وزيادة الاثنين لأقصى
المبالغة ، ومنه سمّى الأسد سبعا ، عبارة عن غاية القوة ، وفي الأمثال : أخذه أخذة سبعة ؛ أى غاية الأخذ ، على أحد التأويلات ،
وهذا تحكّم ؛ إذ يحتمل أن يقول : إن الاثنين أوسط المبالغة ، والثلاثة نهايتها ،
وذلك في الثمانية ، ومنه يقال في المثل ـ لمن بالغ في عوض السلعة : أثمنت. أى بلغت
الغاية في الثمن ، وهذه التحكمات لا قوة فيها ، والاشتقاقات لا دليل عليها ؛ وإنما
هي ملحّة ، فإذا عضدها الدليل كانت صحيحة.
وأما قولهم : إنه
علّله بالكفر ، وذلك موجود بعد السبعين ، والكافر لا يغفر له.
قلنا : أما قولهم
: إن ذلك موجود بعد السبعين ، فيقال له : هذا الحكم من عدم المغفرة إنما كان
معلّقا بالسبعين ، والزيادة غير معتبرة به ، كما تقدم بيانه ، وإنما علم عدم
المغفرة في الكافر بدليل آخر ، ورد من طرق ، منها قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ ...) الآية.
__________________
المسألة الثالثة ـ
في إعطاء القميص :
قال علماؤنا رحمة
الله عليهم : روى أنّ
عبد الله إذ طلب القميص كان على النبي قميصان قال : أعطه الذي يلي جلدك. وقالوا : إنه إنما أعطاه قميصه مكافأة على إعطائه قميصه يوم
بدر للعباس ، فإنه لما أسر واستلب ثوبه رآه النبىّ صلى الله عليه وسلم كذلك ،
فأشفق ، وطلب له قميصا ، فما وجد له في الجملة قميصا يقادره إلا قميص عبد الله ،
لتقاربهما في طول القامة ، فأراد النبىّ صلى الله عليه وسلم بإعطائه القميص أن
ترتفع اليد عنه في الدنيا ، حتى لا يلقاه في الآخرة ، وله عنده يد يكافئه بها.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ...) الآية ـ نصّ في الامتناع من الصلاة على الكفار ، وليس فيه
دليل على الصلاة على المؤمنين.
وقد وهم بعض
أصحابنا فقال : إنّ الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية ، بدليل قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ
أَبَداً) ، فنهى الله عن الصلاة على الكفار ، فدلّ على وجوبها على
المؤمنين ، وهذه غفلة عظيمة ؛ فإن الأمر بالشيء نهى عن أضداده كلّها عند بعض
العلماء لفظا ، وباتفاقهم معنى.
فأما النهى عن
الشيء فقد اتفقوا في الوجهين على أنه أمر بأحد أضداده لفظا أو معنى ، وليست الصلاة
على المؤمنين ضدّا مخصوصا للصلاة على الكافرين ؛ بل كلّ طاعة ضدّ لها ، فلا يلزم
من ذلك تخصيص الصلاة على المؤمنين دون سائر الأضداد.
المسألة الخامسة ـ
صلاة النبىّ صلى الله عليه وسلم على ابن أبى أبىّ اختلف فيها على ثلاثة أقوال :
الأول ـ ما تقدم
من أنه خير فاختار.
الثاني ـ ما روى
أنه فعل ذلك مراعاة لولده ، وعونا له على صحة إيمانه ، إيناسا له ، وتأليفا لقومه
؛ فقد روى أنه لما صلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم من الخزرج ألف
رجل.
الثالث ـ ما روى
أبو داود عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : دخل
رسول الله صلى
__________________
الله
عليه وسلم على عبد الله بن أبىّ بن سلول ، فقال : قد كنت أسمع قولك ، فامنن علىّ
اليوم ، وكفّنى بقميصك ، وصلّ علىّ. فكفّنه رسول الله بقميصه ، وصلّى عليه. قال ابن عباس : فالله أعلم أى صلاة هي! وإنّ محمدا صلى الله
عليه وسلم لم يخادع إنسانا قط. قال عكرمة : غير أنه قال يوم الحديبية كلمة حسنة ،
قال المشركون : إنا منعنا محمدا أن يطوف بالبيت ، وإنا نأذن لك. فقال : لا ، لي في
رسول الله أسوة حسنة.
قال القاضي :
واتّباع القرآن أولى في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ ...) الآية.
فأخبر عنه بالكفر
والموت على الفسق. وهذا عموم في الذي نزلت الآية بسببه ، وفي كل منافق مثله.
الآية الثانية
والثلاثون ـ قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ).
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
فيه خمسة أقوال :
الأول ـ نزلت في
العرباض بن سارية.
الثاني ـ نزلت في
بنى مقرّن من مزينة ؛ قاله مجاهد.
الثالث ـ نزلت في
عبد الله بن الأزرق ، وابن أبى ليلى.
الرابع ـ نزلت في
سبعة من قبائل شتى ؛ قاله محمد بن كعب.
الخامس ـ في أبى
موسى ، وأصحابه ؛ قاله الحسن. وهو الصحيح.
ثبت أنّ أبا موسى
قال : أتينا النبىّ صلى
الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين ،
__________________
فاستحملناه
، فأبى أن يحملنا ، فاستحملناه فحلف ألّا يحملنا ، ثم لم يلبث النبىّ أن أتى بنهب
إبل ، فأمر لنا بخمس ذود ، فلما قبضناها قلنا : تغفّلنا النبىّ يمينه ، لا نفلح
بعدها أبدا ، فأتيته فقلت : يا رسول الله ؛ إنك حلفت ألّا تحملنا ، وقد حملتنا.
قال : أجل ، ولكني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير منها.
المسألة الثانية ـ
في المعنى :
إن الله لما
استنفرهم لغزو الروم ، ودعاهم إلى الخروج لغزوة تبوك بادر المخلصون ، وتوقّف
المنافقون والمتثاقلون ، وجعلوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف
، ويعتذرون إليه بأعذار منها كفر ، كقول الحرّ بن قيس : ائذن لي ولا تفتنّى بينات
بنى الأصفر ؛ فإنى لا أقدر على الصبر عنهن ، فأنزل الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا).
ومنهم من قال : (لا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ ...) الآية.
وقال في أهل العذر
الصحيح : (لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ...) إلى: (مِنْ سَبِيلٍ). وهم الذين صدقوا في حالهم ، وكشفوا عن عذرهم ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
التي بيّن الله في قوله : (وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) ، فأخبر الله سبحانه أنّ الناس ثلاثة أقسام : صنف معذّر ،
وهو المقصّر. وصنف ذو عذر. وصنف لم يعتذر بعذره ، ولا أظهر شيئا من أمره ، بل أعرض
عن ذلك كلّه ، يقال : عذّر الرجل ـ بتشديد الذال : إذا قصر ، وأعذر إذا أبان عن
عذره ، وكلّ واحد منهما يدخل على صاحبه. وقد قرئ المعذرون ـ بإسكان العين ، وتخفيف
الذال ، وبذلك قال جماعة من الناس ؛ لكن يكشف المعنى فيه حقيقة الحال منه ، ولذلك
عقّبه الله تعالى بقوله : (ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ، وهم الذين أبدوا عن عذر صحيح ، أو علم الله صدق عذرهم
فيما لم يبد عليهم دليل من حالهم.
والعجب من القاضي
أبى إسحاق يقول : إن سياق الكلام يقتضى أنهم الذين لا عذر
__________________
لهم ، وأنهم
مذمومون ؛ لأنهم جاءوا ليؤذن لهم ، ولو كانوا من الضعفاء أو المرضى لم يحتاجوا أن
يستأذنوا ؛ وليس الأمر كذلك ؛ بل كل أحد يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعلمه
بحاله ، فإن كان مرئيّا فالعيان شاهد لنفسه ، وإن كان غير مرئى مثل عجز البدن وقلة
المال ، فالله شهيد به ، وهو أعدل الشاهدين ، يلقى اليقين على رسوله بصدق عذر
المعتذرين إليه ، ويخلق له القبول في قلبه له.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ، يريد من طريق إلى العقوبة على فعله ؛ لأنه إحسان في نفسه
، والحسن ما لم ينه عنه الشّرع ، والقبيح ما نهى عنه ، وقد بينا ذلك هاهنا وفي كتب
الأصول.
المسألة الخامسة ـ
هذا عموم ممهّد في الشريعة ، أصل في رفع العقاب والعتاب عن كل محسن. قال علماؤنا
في الذي يقتصّ من قاطع يده فيفضى ذلك بالسراية إلى إتلاف نفسه ، فقال أبو حنيفة :
يلزمه الدّية. وقال مالك والشافعى : لا دية عليه ؛ لأنه محسن في اقتصاصه من
المعتدى عليه ، فلا سبيل إليه. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه
فلا ضمان عليه عندنا ؛ وبه قال الشافعى.
وقال أبو حنيفة :
يلزمه لمالكه قيمته ، وكذلك في مسائل الشريعة كلها.
وقد أومأنا إلى
ذلك في مسائل الخلاف ، وقررنا هذا الأصل في كتب الأصول.
المسألة السادسة ـ
قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ
إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ـ أقوى دليل على قبول عذر المعتذر بالحاجة والفقر عن
التخلف في الجهاد إذا ظهر من حاله صدق الرغبة ، مع دعوى المعجزة ، كإفاضة العين ،
وتغيير الهيئة ؛ لقوله : (تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ ...) الآية ، ويدلّ على أنه لا يلزم الفقير الخروج في الغزو
والجهاد تعويلا على النفقة من المسألة ، حاشا ما قاله علماؤنا دون سائر الفقهاء :
إن ذلك إذا كانت عادة لزمه ذلك ، وخرج على العادة ؛ وهو صحيح ؛ لأنّ حاله إذا لم
يتغير يتوجّه الفرض عليه توجّهه عليه ، ولزمه أداؤه ، وهي :
__________________
المسألة السابعة ـ
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : من قرائن الأحوال ما يفيد العلم الضرورىّ ، ومنها
ما يحتمل الترديد ؛ فالأول كمن يمرّ على دار قد علا فيها النعىّ ، وخمشت
فيها الخدود ، وحلقت الشعور ، وسلقت الأصوات ، وخرقت الجيوب ، ونادوا على صاحب الدار بالثّبور ، فيعلم أنه قد مات.
وأما الثاني
فكدموع الأيتام على أبواب الحكام ، قال الله تعالى ـ مخبرا عن إخوة يوسف : (وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ) ، وهم الكاذبون ، وجاءوا على قميصه بدم كذب ، ومع هذا
فإنها قرائن يستدلّ بها في الغالب ، وتنبنى عليها الشهادة في الموت وغيره بناء على
ظواهر الأحوال وغالبها.
الآية الثالثة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ، قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ
لَكُمْ ، قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ ، وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ هذه
الآية نزلت بعد ذكر المنافقين هاهنا ، ونزلت بعد ذكر المؤمنين بعد هذا بآيات ،
فأما هذه التي أعقبت ذكر المنافقين فمعناها التهديد ، وأما الآية التي نزلت بعد هذا فمعناها الأمر ، وتقديرها : اعملوا بما
يرضى الله ، وذلك أنّ النفاق موضع ترهيب ، والإيمان محلّ ترغيب ، فقوبل أهل كلّ
محل من الخطاب بما يليق به ، كما قيل للكفار : اعملوا ما شئتم ، على معنى التهديد.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) الباري راء مرئى ، يرى الخلق ، ويرونه ، فأما رؤيتهم له
ففي محلّ مخصوص ، ومن قوم مخصوصين ، وأما رؤيته للخلق فدائمة ، فهو تعالى يعلم
ويرى.
وقال جماعة من
المبتدعة : إنه يعلم ولا يرى ، ومتى أخبر عنه بالرؤية فإنها راجعة إلى العلم ، وقد
دللنا في كتب الأصول على أنه راء برؤية ، كما أنه عالم بعلم ؛ لأنه أخبر عن نفسه
بذلك ،
__________________
وخبر صادق ، ولو
لم يكن رائيا لكان مؤوفا ؛ لأن الحىّ إذا لم يكن مدركا كان مؤوفا ، وهو المتقدّس عن
الآفات والنقائص ، وهذه العمدة العقلية لعلمائنا ؛ فقد أخبر سبحانه عن نفسه بما
يجب له من صفته ، وقام الدليل عليه من نعته ، فلزمنا اعتقاده والإخبار به.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ) :
ذكره بصيغة
الاستقبال ؛ لأنّ الأعمال مستقبلة ، والباري يعلم ما يعمل قبل أن يعمل ، ويراه إذا
عمل ؛ لأنّ العلم يتعلّق بالموجود والمعدوم ، والرؤية لا تتعلّق إلا بالموجود ،
وقد قال في الحديث الصحيح ، عن
جبريل : ما الإحسان؟ قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه ؛
فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك.
المسألة الرابعة ـ
قال الأستاذ أبو بكر : قوله : (وَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ) : معناه يجعله في الظهور محلّ ما يرى.
وروى ابن القاسم ،
عن مالك في الآية : أنه كان يقال : ابن آدم ، اعمل وأغلق عليك سبعين بابا ، يخرج
الله عملك إلى الناس.
وهذا الذي قاله
الأستاذ أبو بكر ، والإمام مالك ، إنما يكون فيما يتعلق برؤية الناس ، فأما رؤية
الله فإنها تتعلق بما يسرّه ، كما تتعلق بما يظهره ؛ لأنه لا تؤثر الحجب في رؤيته
، ولا تمنع الأجسام عن إدراكه.
وفي الأثر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم : لو
أنّ رجلا عبد الله في صخرة لا باب لها ، ولا كوّة لأخرج الله عمله إلى الناس كائنا
ما كان ، والله يطلع المؤمنين على ما في قلوب إخوانهم من حير فيحبّونه ، أو شرّ
فيبغضونه. وقال الله : إذا تقرّب إلىّ عبدى شبرا تقرّبت إليه ذراعا ، وإذا تقرّب
إلى ذراعا تقرّبت منه باعا ، وإذا أتانى يمشى أتيته أهرول ، ولا يزال العبد يتقرّب
إلىّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر
به.
وفي الصحيح : إذا أحبّ الله عبدا نادى في السماء يا
جبريل ؛ إنى أحبّ فلانا فأحبه ،
__________________
فيحبّه
جبريل ، ثم ينادى جبريل : يا ملائكة السماء ؛ إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه ، فيحبه
ملائكة السماء ؛ ثم يوضع له القبول في الأرض ، ولا أراه في البغض إلا مثل ذلك.
إيضاح مشكل :
قوله : إذا تقرّب
العبد منّى شبرا نقرّبت منه ذراعا مثل ؛ لأن البارئ سبحانه يستحيل عليه القرب
بالمساحة ؛ وإنما قربه بالعلم والإحاطة للجميع ، وبالرحمة والإحسان لمن أراد
ثوابه.
وقوله أيضا :
أتيته أهرول مثله في التمثيل ، والإشارة به إلى أن الثواب يكون أكثر من العمل ؛
فضرب زيادة الأفعال بين الخلق في المجازاة على البعض مثلا في زيادة ثوابه على
أعمالهم.
وقوله : لا يزال
العبد يتقرّب إلىّ بالنوافل ، إشارة إلى أنّ المواظبة على العمل توجب مواظبة
الثواب ، وتطهّر المواظبة الأعضاء عن المعاصي ؛ فحينئذ تكون الجوارح لله خالصة ؛
فعبّر بنفسه تعالى عنها تشريفا لها حين خلصت من المعاصي. ومثله النزول ، فإنه
عبارة عن إفاضة الخير ونشر الرحمة.
المسألة الخامسة ـ
أما الآية الأولى في المنافقين فهي على رسم التهديد ، كما بيناه ، ومعناها أنّ
المنافقين يعتقدون الكفر ، ويظهرون أعمال الإيمان كأنها أعمال برّ ، وهي رياء
وسمعة بغير اعتقاد ولا نيّة ، فالله يراها كذلك ، ويطلع عليها عباده المؤمنين ،
فأما إطلاع رسوله فبعينيه ، وأما إطلاع المؤمنين فبالعلامات من الأعمال والأمارات
الدالة على الاعتقاد ، وذلك كما قال : من
أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ.
وأما الآية
الثانية في المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فإن الله
يراه ويعلمه ، فيعلمه رسوله والمؤمنون على النحو الذي تقدم ، ونردّ العلمين إلى
عالم الغيب والشهادة فنجزيهم بأعمالهم ومواقعها. أما المنافق فنقدم إلى عمله
فنجعله هباء منثورا. وأما المؤمن الذي خلط في أعماله طاعة بمعصية فإنه يوازن بها
في الكفتين ، فما رجح منها على مقدار عمله فيها أظهره عليها ، وحكم به لها.
__________________
والمرء يكون في
موطنين :
أحدهما ـ موطن
الخاتمة عند قبض الروح ، وهي :
المسألة السادسة ـ
فإنه وقت كشف الغطاء ، وسلامة البصر عن العمى ، فيقال له: (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
فانظر إلى ما كنت
غافلا عنه ، أو به متهاونا.
والحالة الثانية
عند الوزن ، وتطاير الصحف والأنباء ، حينئذ يكون بإظهار الجزاء ، وشرح صفة الأنباء
ومواطنه في كتاب الذكر.
الآية الرابعة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
قوله : (الْأَعْرابُ) :
اعلموا ـ وفّقكم
الله لسبيل العلم تسلكونها ، وصرفكم عن الجهالات ترتكبونها ، أن بناء (ع ر ب)
ينطلق في لسان العرب على معان لا تنتظم في مساق واحد ، وعلى رأى من يريد أن يجعل
الأبنية تنظر إلى المعاني من مشكاة واحدة ؛ فإنّ ذلك قد يجده الطالب له ، وقد يعسر عليه ، وقد
يعدمه وينقطع له. وهذا البناء مما لم يتفق لي ربط معانيه به.
وقد جاء ذكر
الأعراب في القرآن هاهنا ، وجاء في السنة ذكر العرب في أحاديث كثيرة ؛ ولغة العرب
منسوبة إلى العرب ، والعرب اسم مؤنث ، فإذا صغّروه أسقطوا الهاء فقالوا عريب.
ويقال عرب وعرب ـ بفتح الفاء والعين ، وبضم الفاء وبإسكان العين. والعاربة
والعرباء ؛ وهم أوائلهم ، أو قبائل منهم ، يقال إنهم سبع ، سمّاهم ابن دريد وغيره.
ويقال الأعراب والأعاريب.
وقال ابن قتيبة :
الأعرابى لزيم البادية ، والعربىّ منسوب إلى العرب وكأنه يشير إلى
__________________
أن هذه النسبة قد
تكون نسبة جنس كالأعرابى ، وقد تكون نسبة لسان وإن كان من الأعاجم إذا تعلّمها.
وتحقيق القول أنّ
الأعراب جمع ، وهو بناء له في الواحد أمثال ، منها : فعل وفعل وفعل وفعل ، كقفل
وأقفال ، وفلس وأفلاس ، وحمل وأحمال ، وجمل وأجمال ، ولم أجد عربا بكسر الفاء إلا
في نوع من النبات لا يستجيب مع سائر الأبنية ، ويا ليت شعري ما الذي يمنع أن يكون
الأعرابىّ منسوبا إلى الأعراب ، والعربىّ منسوبا إلى العرب ، ويكون الأعراب هم
العرب. وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : يا
سلمان ؛ لا تبغضني فتفارق دينك. قال : وكيف أبغضك يا رسول الله؟ قال : تبغض العرب.
وقال : من غشّ العرب لم يدخل في شفاعتي. وقال : من
اقتراب الساعة هلاك العرب.
وقال النبىّ صلى
الله عليه وسلم : لتفرّنّ
من الدجال حتى تلحقوا بالجبال. قيل : يا رسول الله ؛ فأين العرب يومئذ؟ قال : هم
قليل.
وقال أيضا : سام
أبو العرب ، ويافث أبو الروم ، وحام أبو الحبش.
ومن غريب هذا
الاسم أنّ بناءه في التركيب للتعميم بناء الحروف في المخارج على الترتيب.
المسألة الثانية ـ
وهي فائدة القول :
اعلموا ـ وفّقكم
الله ـ أنّ الله تعالى علّم آدم الأسماء كلّها ، فكان مما علّم من الأسماء العرب
والأعراب والعربية ، ولا نبالى كيف كانت كيفية التعليم من لدن آدم إلى الأزمنة
المتقادمة قبلنا ، وقبل فساد اللغة ، فكان هذا اسم اللسان ، واسم القبيلة ، حتى
بعث الله محمدا سيدها ، بل سيّد الأمم صلّى الله عليه وسلم ، فأعطى الله لها اسما
شريفا ، وهو نبىّ ، رسول ... إلى سائر أسمائه حسبما بيناها في شرح الصحيح والقبس
وغيره ، وأعطى من آثر دينه على أهله وماله اسما أشرف من (ع ر ب) ومن (ق ر ش) وهو (ه
ج ر) ، فقال : المهاجرون ، وأعطى من آوى وناضل اسما أشرف من الذي كان وهو (ن ص ر)
، فقال : الأنصار ، وعمّهم باسم كريم شريف الموضع والمقطع ، وهو (ص ح ب) ، فقال :
أصحابى ، وأعطى من
لم يره حظّا في
التشريف باسم عامّ يدخلون به في الحرمة ، وهي الأخوّة ، فقال : وددت أنى رأيت إخواننا. قلنا : ألسنا
بإخوانك يا رسول الله؟ قال : بل أنتم أصحابى ، وإخواننا الذين يأتون من بعد ، فمن
دخل في الهجرة أو ترسّم بالنصرة فقد كمل له شرف الصحبة ، ومن بقي على رسمه الأول
بقي عليه اسمه الأول ، وهم الأعراب.
ولذلك قيل لما صار
سلمة بن الأكوع في الرعية قال له الحجاج : يا سلمة ، تعرّبت ، ارتددت على عقبيك.
فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في التعريب ، وبعد هذا فاعلموا ـ وهي
:
المسألة الثالثة ـ
أنّ كل مسلم كان عليه فرضا أن يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون معه ، حتى
تتضاعف النصرة ، وتنفسح الدّوحة ، وتحتمي البيضة ، ويسمعوا من رسول الله صلى الله
عليه وسلم دينهم ، ويتعلموا شريعتهم حتى يبلغوها إلى يوم القيامة ، كما قال صلى
الله عليه وسلم : تسمعون
ويسمع منكم ، ويسمع ممن سمع منكم ، فمن ترك ذلك ، وبقي في إبله وماشيته ، وآثر مسقط رأسه ، فقد
غاب عن هذه الحظوظ ، وخاب عن سهم الشّرف ، وكان من صار مع النبي صلى الله عليه
وسلم إذ صار إليه مؤهّلا لحمل الشريعة وتبليغها ، متشرفا بما تقلّد من عهدتها ،
وكان من بقي في موضعه خائبا من هذا الحظّ منحطّا عن هذه المرتبة. والذين كانوا معه
يشاهدون آياته ، ويطالعون غرّته البهيّة ، كان الشك يختلج في صدورهم ، والنفاق
يتسرّب إلى قلوبهم ، فكيف بمن غاب عنه ، فعن هذا وقع البيان بقوله : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) ؛ فمنهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الله ، وعلى إعلاء كلمة
الله مغرما لا مغنما ، ومنهم من يسلم له اعتقاده ؛ فيتخذ ما ينفق وسيلة إلى الله ،
وقربة ورغبة في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ورضاه عنه.
تكملة : من خواصّ
هؤلاء الخواص وسادة هؤلاء السادة (وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) .
وهي الآية الخامسة
والثلاثون ، وفيها سبع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
تحقيق السبق ، وهو التقدّم في الصفة ، أو في الزمان ، أو في المكان ، فالصفة
الإيمان ، والزمن لمن حصل في أوان قبل أون ، والمكان من تبوّأ دار النّصرة ،
واتخذه بدلا عن موضع الهجرة ، وهم على ثماني مراتب :
الأول ـ أبو بكر ،
وعمر ، وعثمان ، وعلىّ ، وسعد ، وبلال ، وغيرهم.
الثانية ـ دار
النّدوة.
الثالثة ـ مهاجرة
أصحاب الحبشة ، كعثمان ، والزبير.
الرابعة ـ أصحاب
العقبتين ، وهم الأنصار.
الخامسة ـ قوم
أدركوا النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة.
السادسة ـ من صلّى
إلى القبلتين.
السابعة ـ أهل
بدر.
الثامنة ـ أهل
الحديبية ، وبهم انقطعت الأولية.
واختار الشافعىّ
الثامنة في تفسير الآية ، واختار في تفسيرها ابن المسيب ، وقتادة ، والحسن من صلّى
إلى القبلتين.
المسألة الثانية ـ
القراءة في قوله : (وَالْأَنْصارِ) بالخفض عطفا على المهاجرين ، فيكونون أيضا فيها على مراتب
منهم العقبيون ، ومنهم أهل القبلتين ، ومنهم البدريّون ، ومنهم الرضوانية ، ويكون الوقف فيهما واحدا.
وقرئ : والأنصار ـ
برفع الراء ، عطفا على «والسابقون» ، ويعزى ذلك إلى عمر وقراءة الحسن ، واختاره
يعقوب ، وسواء كانت القراءة برفع الراء أو خفضها ففي الأنصار سابق ومصلّ في كل
طائفة واحد.
المسألة الثالثة ـ
أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق رضى الله عنه ، فإنه أول
__________________
من أسلم. والدليل
عليه قول عمرو بن عبسة للنبي صلى الله عليه وسلم : من
اتّبعك على هذا الأمر؟ قال : حرّ وعبد. وبهذا احتج شيخ السنة أبو الحسن علىّ بن الجبائي في مجلس
ابن ورقاء أمير البصرة حين ادّعى أن عليّا أوّلهم إسلاما وكانا شيعيين. وذكر أيضا
أن حسّان أنشد النبي صلى الله عليه وسلم بحضرتهم :
إذا تذكرت شجوا
من أخى ثقة
|
|
فاذكر أخاك أبا
بكر بما فعلا
|
الثاني التالي
المحمود مشهده
|
|
وأوّل الناس
منهم صدّقه الرسلا
|
فلم ينكر ذلك عليه
النبىّ صلى الله عليه وسلم ، ولا قال له : إنما كان أول من صدق علىّ بن أبى طالب.
وقد روى أبو محمد
عبد الله بن الجارود ، أنبأنا محمد بن حسان النيسابوري ، أنبأنا عبد الرحمن بن
معدى ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : سألت ابن عباس : من أول الناس إسلاما؟ قال :
أبو بكر ، أو ما سمعت قول حسان :
إذا تذكرت شجوا
من أخى ثقة
|
|
فاذكر أخاك أبا
بكر بما فعلا
|
خير البرية
أتقاها وأعدلها
|
|
بعد النبىّ
وأوفاها بما حملا
|
الثاني التالي
المحمود مشهده
|
|
وأول الناس منهم
صدّق الرسلا
|
وهذا خبر اشتهر
وانتشر ، فقال أحمد بن حنبل : حدثنا أبو معمر ، أنبأنا أبو عبد الرحمن ، عن مجالد
، عن الشعبي ، قال : قال ابن عباس : أول من صلّى أبو بكر ، ثم تمثّل بأبيات حسان ،
وذكرها ثلاثة ، وقال النبىّ صلى الله عليه وسلم مبيّنا
فضل أبى بكر وسبقه لعمر ابن الخطاب حين غامره : دعوا لي صاحبي ، فإنى بعثت إلى
الناس كافّة ، فقالوا : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت ، وأسلم على يدي أبى بكر خلق كثير ، منهم الزبير ، وطلحة ،
وسعد ، وعثمان ، وأهل العقبتين ، وليس في تقدمة إسلام علىّ رضى الله عنه حديث يعوّل
عليه ، لا عن سلمان ، ولا عن الحسن ، ولا عن أحد.
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) :
وقد روى أنّ عمر
قرأ [الذين] بإسقاط الواو نعتا للأنصار ، فراجعه زيد [بن ثابت] ، فسأل أبىّ بن كعب ، فصدّق زيدا فرجع إليه عمر ، وثبتت
الواو .
وقد بينا ذلك في
تفسير قوله : أنزل القرآن على سبعة أحرف. وقد اختلف في التابعين ؛ فقيل : هم من
أسلم بعد الحد ؛ كخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، ومن داناهم من مسلمة الفتح. وقد
ثبت أنّ عبد الرحمن بن
عوف شكا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد وعمرو بن العاص ؛ فقال
النبىّ صلى الله عليه وسلم لخالد : دعوا لي أصحابى ، فو الذي نفس محمد بيده ، لو
أنفق أحدكم كلّ يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه . خرجه البرقاني وغيره.
وقيل : هم الذين
لم يروا النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ ولا عاينوا معجزاته ؛ ولكنهم سمعوا خبره في
القرن الثاني من القرن الأول ، وهو اسم مخصوص بالقرن الثاني ، فيقال صحابى وتابعي
بهذه الخطة ، لما ذكر في هذه الآية ، وكفانا أن اتقينا الله ، واهتدينا بهدى رسول
الله ، واقتفينا آثاره ، [و] اسم الأخوة التي قدمنا تبيانا لنا.
المسألة الخامسة ـ
إذا ثبتت هذه المراتب ، وبينت الخطط فإن السابق إلى كل خير ، والمتقدم إلى الطاعة
أفضل من المصلّى فيها والتالي بها. قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنى). ولكن من سبق أكرم عند الله مرتبة ، وأوفى أجرا ، ولو لم
يكن للسابق من الفضل إلا اقتداء التالي به ، واهتداؤه بهدية ، فيكون له ثواب عمله
في نفسه ،
__________________
ومثل ثواب من
اتبعه مقتديا به ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سنّ سنّة حسنة في الإسلام كان له
أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
ولذلك قلنا : إن
الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها عنه ، ولا خلاف في المذهب فيه ، وقد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل
الأعمال الصلاة لأول وقتها ؛ وقد بيناه في غير موضع.
المسألة السادسة ـ
قد بيّنا أنّ السبق يكون بالصفات والزمان ، والمكان ، وأفضل هذه الوجوه سبق
الصفات. والدليل عليه قول النبىّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا
الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه ، من بعدهم. فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فاليهود
غدا والنصارى بعد غد ، فأخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّ من سبقنا من الأمم
بالزمان فجئنا بعدهم ـ سبقناهم بالإيمان ، والامتثال لأمر الله ، والانقياد إليه ،
والاستسلام لأمره ، والرّضا بتكليفه ، والاحتمال لوظائفه ، لا نعترض عليه ، ولا
نختار معه ، ولا نبدّل بالرأى شريعته ، كما فعل أهل الكتاب. وذلك بتوفيق الله لما
قضاه ، وبتيسيره لما يرضاه ، وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.
المسألة السابعة ـ
لما ذمّ الله الأعراب بنقصهم وحطّهم عن المرتبة الكاملة لسواهم ترتبت على ذلك
أحكام ثلاثة :
أولها ـ أنه لا
حقّ لهم في الفيء والغنيمة ، حسبما يأتى في سورة الحشر إن شاء الله.
ثانيها ـ أن
إمامتهم بأهل الحضر ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم للجمعة.
ثالثها ـ إسقاط
شهادة البادية عن الحاضرة.
واختلف في تعليل
ذلك ؛ فقيل : لأنّ الشهادة مرتبة عالية ، ومنزلة شريفة ، وولاية كريمة ، فإنها
قبول قول الغير على الغير ، وتنفيذ كلامه عليه ؛ وذلك يستدعى كمال الصفة ، وقد
بينا نقصان صفته في علمه ودينه.
وقيل : إنما ردّت
شهادته عليه ، لما فيه من تحقيق التهمة إذا شهد أهل البادية بحقوق أهل الحاضرة ،
وتلك ريبة ؛ إذ لو كان صحيحا لكان أولى الناس بذلك الحضريون ، فعدم
__________________
الشهادة عندهم
ووجودها عند البدويين ريبة تقتضي التّهمة ، وتوجب الردّ ، وعن هذا قال علماؤنا :
إنّ شهادتهم عليهم فيما يكون بينهم كالجراح ونحوها ممالا يكون في الحضر ـ ماضية.
وقال أبو حنيفة :
تجوز شهادة البدوىّ على الحضري ؛ لأنه لا يراعى كلّ تهمة ؛ ألا تراه يقبل شهادة العدو
على عدوه.
وقد بينا ذلك في
مسائل الخلاف ، فلينظره هنالك من أراد استيفاءه.
الآية السادسة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (خُذْ) :
هو خطاب للنبىّ
صلى الله عليه وسلم ، فيقتضى بظاهره اقتصاره عليه ، فلا يأخذ الصدقة سواه ، ويلزم
على هذا سقوطها بسقوطه ، وزوال تكليفها بموته ، وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبى
بكر الصديق ، وقالوا عليه : إنه كان يعطينا عوضا عنها التطهير ، والتزكية لنا ،
والصلاة علينا ، وقد عدمناها من غيره ، ونظم في ذلك شاعرهم فقال :
أطعنا رسول الله
ما كان بيننا
|
|
فيا عجبا ما بال
ملك أبى بكر
|
وإن الذي سألوكم
فمنعتم
|
|
لكالتّمر أو
أحلى لديهم من التمر
|
سنمنعهم مادام
فينا بقيّة
|
|
كرام على
الضّرّاء في العسر واليسر
|
وهذا صنف من
القائمين على أبى بكر أمثلهم طريقة ، وغيرهم كفر بالله من غير تأويل ، وأنكر
النبوة ، وساعد مسيلمة ، وأنكر وجوب الصلاة والزكاة.
وفي هذا الصنف
الذي أقرّ بالصلاة ، وأنكر الزكاة وقعت الشبهة لعمر حين خالف أبا بكر في قتالهم ،
وأشار عليه بقبول الصلاة منهم وترك الزكاة ، حتى يتمهّد الأمر ، ويظهر حزب الله ،
وتسكن سورة الخلاف ؛ فشرح الله صدر أبى بكر للحق ، وقال : والله لأقاتلنّ من فرّق
بين الصلاة والزكاة ؛ فإن الزكاة حقّ في المال ، والله لو منعونى عقالا كانوا
يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه.
__________________
قال عمر : فو الله
ما هو إلا أن شرح الله صدر أبى بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق.
وبهذا اعترضت
الرافضة على الصدّيق ، فقالوا : عجل في أمره ، ونبذ السياسة وراء ظهره ، وأراق
الدماء.
قلنا : بل جعل
كتاب الله بين عينيه ، وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، والقرآن
يستنير به ، والسياسة تمهّد سبلها ؛ فإنه قال : والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة
والزكاة. وصدق الصدّيق ، فإنّ الله يقول (فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) ؛ فشرطهما ، وحقّق العصمة بهما ، وقال النبي صلى الله عليه
وسلم : أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منّى دماءهم وأموالهم إلا بحقها
، وحسابهم على الله.
فقال أبو بكر لعمر
ـ حين تعلّق بهذا الحديث : فقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: إلّا بحقها. والزكاة حقّ المال ، فالصلاة تحقن الدم ، والزكاة تعصم
المال.
وقد جاء في الحديث
الصحيح : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ،
ويؤتوا الزكاة.
وأما السياسة فما
عداها فإنه لو ساهلهم في منع الزكاة لقويت شوكتهم ، وتمكّنت في القلوب بدعتهم ،
وعسر إلى الطاعة صرفهم ، فعاجل بالدواء قبل استفحال الداء.
فأما إراقته
للدماء فبالحقّ الذي كان عصمها قبل ذلك ، وإراقة الدماء ـ يا معشر الرافضة ـ في
توطيد الإسلام وتمهيد الدّين آكد من إراقتها في طلب الخلافة ، وكلّ عندنا حق ،
وعليكم في إبطال كلامكم ، وضيق مرامكم خنق.
فأما قولهم : إن
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق غيره فيه به ، فهذا كلام جاهل
بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة ، متلاعب بالدين ، متهافت في النظر ؛ فإنّ الخطاب في
القرآن لم يرد بابا واحدا ، ولكن اختلفت موارده على وجوه منها في غرضنا هذه ثلاثة
:
الأول ـ خطاب
توجّه إلى جميع الأمة ، كقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ
__________________
إِلَى
الصَّلاةِ) ، وكقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ، ونحوه.
الثاني ـ خطاب خصّ
به النبىّ صلى الله عليه وسلم كقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ). وكقوله في آية الأحزاب : (خالِصَةً لَكَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ؛ فهذان مما أفرد النبىّ صلى الله عليه وسلم بهما ، ولا
يشركه فيهما أحد لفظا ومعنى ، لما وقع القول به كذلك الثالث ـ خطاب خصّ به النبىّ
صلى الله عليه وسلم قولا ويشركه فيه جميع الأمة معنى وفعلا ، كقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ، وكقوله : (وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ...) الآية.
فكلّ من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة ، وكذلك كلّ من قرأ القرآن مخاطب
بالاستعاذة ، وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة.
ومن هذا القبيل
قوله : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم الآمر بها ، والدّاعى إليها ،
وهم المعطون لها ، وعلى هذا المعنى جاء قوله : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ، و (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) .
وقد قيل له : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكَ). وما كان ليشكّ ، ولكن المراد من شكّ من الناس ممن كان معه
في وقته.
المسألة الثانية ـ
قوله : (تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) :
الأصل في فعل كل
إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة ؛ ثبت في الصحيح عن ابن أبى أوفى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا
أتاه رجل بصدقته قال : اللهم صلّ على آل فلان ، فجاءه ابن أبى أوفى بصدقته ،
فأخذها منه ، ثم قال : اللهم صلّ على آل أبى أوفى.
__________________
وأما قوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) ـ فإنه من صفة الصدقة ، وكذلك قوله : تزكيهم. يعنى أنّ الصدقة
تكون سببا في طهارتهم وتنميتهم.
وأهل الصناعة يرون
أن يكون ذلك خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى بالغوا فقالوا : إنه يجوز أن
يقرأ تطهّرهم ـ بجزم الراء ، ليكون جواب الأمر ، والذي نراه أن كونه صفة أبلغ في
نعت الصدقة ، وأقطع لشغب المخالف ، وأبعد من المجاز بمنزلة.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (إِنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ) :
يعنى دعاءك. وقد
تكون الصلاة بمعنى الدعاء في الأظهر من معانيها ؛ قال الأعشى:
تقول بنتي وقد
يمّمت مرتحلا
|
|
يا ربّ جنّب أبى
الأوصاب والوجعا
|
عليك مثل الذي
صلّيت فاغتمضى
|
|
نوما فإنّ لجنب
المرء مضطجعا
|
والسكن : ما تسكن
إليه النفوس ، وتطمئنّ به القلوب. وقال قتادة : وقار لهم.
المسألة الرابعة ـ
اختلف الناس في هذه الصدقة المأمور بها ؛ فقيل : هي الفرض ، أمر الله بها هاهنا
أمرا مجملا لم يبين فيها المقدار ، ولا المحلّ ، ولا النصاب ، ولا الحول ؛ وبيّن
في سورة الأنعام المحلّ وحده ، ووكل بيان سائر ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
مرتّب الشريعة بالحكمة في العبادات على ثلاثة أنحاء ؛ منها ما يجب مرّة في العمر
كالحجّ ، ومنها ما يجب مرة في الحول كالزكاة ، ومنها ما يجب كل يوم كالصلاة.
وقيل : المراد بها
التطوع.
وقيل : نزلت في
قوم تيب عليهم فرأوا أنّ من توبتهم أن يتصدقوا ؛ فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم
في هذه الآية بهذه الأوامر.
قال ابن عباس : أتى أبو لبابة وأصحابه حين أطلقوا ،
وتيب عليهم ـ بأموالهم إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم. فقالوا : يا رسول الله ،
هذه أموالنا فتصدّق بها عنا ، واستغفر لنا. فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا
، فأنزل الله : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ، وكان ذلك مرجعه من غزوة تبوك.
وأبو لبابة ممن
فرط في قريظة ، وفي تخلفه عن غزوة تبوك ، وحين تيب عليه قال :
__________________
يا رسول الله ، إن
من توبتي أن أتصدّق بمالي ، وأهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب.
فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : يجزيك
الثلث.
وكذلك قال كعب بن
مالك : يا رسول الله ؛ إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك
بعض مالك ، فهو خير لك. قال : فإنى أمسك سهمي الذي بخيبر ، ولا نعلم هل هو بقدر ثلث ماله أو أكثر من
ذلك أو أقل. قال الفقيه الإمام : وهذه الأقوال الثلاثة في معنى الصدقة محتملة.
والأظهر أنها صدقة الفرض ؛ لأن التعلّق لا يكون إلا بدليل يبيّن أن هذا مرتبط بما
قبله متعلّق به ما بعده.
المسألة الخامسة ـ
قال أشهب : قال مالك في قوله : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
نزلت
في شأن أبى لبابة بن عبد المنذر ؛ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصابه
الذنب : يا رسول الله ؛ أجاورك ، وأنخلع من مالي. فقال : يجزئك من ذلك الثلث. وقد
قال الله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).
وروى ابن وهب ،
وابن القاسم ، عنه ، نحوه.
وروى الزّبير بن
بكّار ، عن عبد الله بن أبى بكر ، قال : ارتبط أبو لبابة إلى جذع من جذوع المسجد
بسلسلة بضع عشرة ليلة ، فكانت ابنته تأتيه عند كل صلاة فتحلّه فيتوضأ ، وهي
الأسطوان المخلق نحو من ثلثها يدعى أسطوان التوبة ، ومنها حلّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبا لبابة حين نزلت توبته ، وبينها وبين القبر أسطوان ، وكان مالك يقول
: الجدار من المشرق في حدّ القناديل التي بين الأساطين التي في صفها أسطوان التوبة
وبين الأساطين التي تلى القبر.
وهذا غريب من
رواية الزبير عن مالك ، وجميع الروايات نصّ عن مالك في أنّ الآية نزلت في ذلك.
المسألة السادسة ـ
قال مالك رضى الله عنه : إذا تصدّق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث.
__________________
وقال الشافعىّ
وأبو حنيفة : يلزمه إخراج الكل ، وتعلّق مالك بقصد أبى لبابة في أن ردّه إليه من
الجميع إلى الثلث ، وهذا كان قويا لولا أنه قال لكعب بن مالك : أمسك عليك بعض مالك
من غير تحديد ، وهو أصحّ من حديث أبى لبابة.
وقد ناقض علماؤنا
؛ فقالوا : إنه إذا كان ماله معينا دابة أو دارا أو ضيعة فتصدّق بجميعها مضى ،
وهذه صدقة بالكل ، فتخمش وجه المسألة ، ولم يتبلج منه وضح ، وقد أشرنا إليها في
مسائل الخلاف ، والحقّ يعود صدقة الكلّ عليه ، والله أعلم.
الآية السابعة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
هذه الآية نصّ
صريح في أن الله هو الآخذ للصدقات ، وأنّ الحقّ لله ، والنبىّ واسطة ، فإن توفى
فعامله هو الواسطة ، والله حىّ لا يموت ، فلا يبطل حقّه كما قالت المرتدة.
وفي الحديث الصحيح
: إن الصدقة لتقع في كفّ الرحمن قبل أن تقع في كفّ السائل
فيربّيها كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله ، والله يضاعف لمن يشاء.
وكنى بكفّ الرحمن
عن القبول ؛ إذ كلّ قابل لشيء يأخذه بكفّه ، أو يوضع له فيه ، كما كنى بنفسه عن
المريض تعطّفا عليه بقوله : يقول الله عبدى مرضت فلم تعدني ، حسبما تقدّم بيانه.
الآية الثامنة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ ذمّ
الله تعالى المنافقين والمقصّرين في هذه السورة في آيات جملة ، ثم طبقهم طبقات
عموما وخصوصا ، فقال : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً). وقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً). (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ) ؛
__________________
وهذا مدح يتميّز
به الفاضل من الناقص والمحقّ من المبطل ، ثم ذكر السابقين الأوّلين من المهاجرين
والأنصار ، ثم قال : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ). وقال : (وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) ؛ أى استمرّوا عليه وتحقّقوا به.
وقال : وآخرون ـ يعنى
على التوسط ـ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ثم قال:(وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) ، وهم نحو من سبعة ، منهم أبو لبابة ، وكعب ، ومرارة ،
وهلال ، جعلهم تحت المشيئة ورجأهم بالتوبة ، مشيرا إلى المغفرة والرحمة ، ثم قال : (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً). أسقط ابن عامر ونافع منهما الواو ، كأنه ردّه إلى من هو
أهل ممن تقدم ذكره ، وزاد غيرهما الواو ، كأنه جعلهم صنفا آخر.
وقد قيل : إنّ
إسقاط الواو تجعله مبتدأ ، وليس كذلك ؛ بل هو لما تقدم وصف ، ولن يحتاج إلى إضمار
، وقد مهدناه في الملجئة.
المسألة الثانية ـ
في سبب نزول الآية :
روى أن اثنى عشر رجلا من المنافقين كلّهم ينتمون إلى الأنصار
بنى عمرو بن عوف بنوا مسجدا ضرارا بمسجد قباء ، وجاءوا إلى النبىّ صلى الله عليه
وسلم وهو خارج إلى تبوك ، فقالوا : يا
رسول الله ، قد بنينا مسجد الذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنا نحبّ أن
تأتينا وتصلى فيه لنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنى على جناح سفر وشغل ،
ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلّينا لكم فيه.
فلما
نزل النبىّ صلى الله عليه وسلم بقرب المدينة راجعا من سفره أرسل قوما لهدمه ، فهدم
وأحرق.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (ضِراراً) : قال المفسرون : ضرارا بالمسجد ، وليس للمسجد ضرار ، إنما
هو ضرار لأهله.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَكُفْراً) : لمّا اتخذوا المسجد ضرارا لاعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد
قباء ولا لمسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قوله : (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ) :
يعنى أنهم كانوا
جماعة واحدة في مسجد واحد ، فأرادوا أن يفرّقوا شملهم في الطاعة ، وينفردوا عنهم
للكفر والمعصية ، وهذا يدلّك على أنّ المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة
تأليف القلوب ، والكلمة على الطاعة ، وعقد الذّمام والحرمة بفعل الديانة ، حتى يقع
الأنس بالمخالطة ؛ وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة.
ولهذا المعنى
تفطّن مالك رضى الله عنه حين قال : إنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد ، ولا
بإمامين ، ولا بإمام واحد خلافا لسائر العلماء وقد روى عن الشافعى المنع حيث كان
ذلك تشتيتا للكلمة ، وإبطالا لهذه الحكمة ، وذريعة إلى أن نقول : من أراد الانفراد
عن الجماعة كان له عذر ، فيقيم جماعته ، ويقدّم إمامته ؛ فيقع الخلاف ، ويبطل
النظام ، وخفى ذلك عليهم وهكذا كان شأنه معهم ، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة ،
وأعلم بمقاطع الشريعة.
المسألة السادسة ـ
قوله تعالى : (وَإِرْصاداً لِمَنْ
حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) : يقال : أرصدت كذا لكذا إذا أعددته مرتقبا له به ، والخبر
بهذا القول عن أبى عامر الراهب ، سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عامر الفاسق ، كان قد حزّب الأحزاب لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وجاء معهم يوم الخندق ، فلما خذله الله لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى أهل مسجد الضّرار ، يأمرهم ببناء المسجد
المذكور ، ليصلّى فيه إذا رجع ، وأن يستعدّوا قوة وسلاحا ؛ وليكون فيه اجتماعهم
للطّعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأطلعه الله على أمرهم ، وأرسل
لهدمه وحرفه ، ونهاه عن دخوله ، فقال ـ وهي :
الآية التاسعة
والثلاثون ـ قوله تعالى : (لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ).
فيها سبع مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (أَبَداً) :
ظرف زمان ، وظروف
الزمان على قسمين : ظرف مقدّر كاليوم والليلة ، وظرف مبهم على لغتهم ، ومطلق على
لغتنا ؛ كالحين والوقت. والأبد من هذا القسم ، وكذلك الدهر ، وقد بيناه في المشكان
، وشرح الصحيحين ، وملجئة المتفقهين ، بيد أنّا نشير فيه هاهنا إلى نكتة من تلك
الجمل ، وهي أن «أبدا» وإن كان ظرفا مبهما لا عموم فيه ، ولكنه إذا اتّصل بالنّهى أفاد العموم ، لا من جهة مقتضاه ، ولكن من جهة النهى ؛
فإنه لو قال : لا تقم فيه لكفى في الانكفاف المطلق ، فإذا قال «أبدا» فكأنه قال : لا
تقم في وقت من الأوقات ، ولا في حين من الأحيان ، وقد فهم ذلك أهل اللسان ، وقضى
به فقهاء الإسلام ، فقالوا : لو قال رجل لامرأته : أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى) :
اختلف فيه ، فقيل
: هو مسجد قباء ؛ يروى عن جماعة ـ منهم ابن عباس ، والحسن. وتعلقوا بقوله : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) ، ومسجد قباء كان في أول يوم أسّس بالمدينة.
وقيل : هو مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قاله ابن عمر ، وابن المسيب.
وقال ابن وهب ، عن
مالك وأشهب عنه ، قال مالك : المسجد الذي ذكر الله أنه أسّس على التقوى من أول يوم
أحقّ أن تقوم فيه ـ هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان يقوم رسول الله
ويأتيه أولئك من هنالك. وقال الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزع مالك باستواء
اللفظين ؛ فإنه قال في ذلك تقوم فيه وقال في هذا قائما ، فكانا واحدا ، وهذه نزعة
غريبة ، وكذلك روى عنه ابن القاسم أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الترمذىّ ،
عن أبى سعيد الخدري ، قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسّس على التقوى من أول يوم ؛ فقال
رجل : هو مسجد قباء ؛ وقال آخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو مسجدى هذا.
قال أبو عيسى :
هذا حديث صحيح ، وجزم مسلم أيضا بمثله.
__________________
فإن قيل ، وهي :
المسألة الثالثة ـ
فقوله : (فِيهِ ، فِيهِ) :
ضميران يرجعان إلى
مضمر واحد بغير نزاع ، وضمير الظرف الذي يقتضى الرجال المتطهّرين هو مسجد قباء ؛
فذلك الذي أسّس على التقوى ، وهو مسجد قباء.
والدليل على أنّ
ضمير الرجال المتطهّرين هو ضمير مسجد قباء حديث أبى هريرة ، قال : نزلت هذه الآية
في أهل قباء : (فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ...) الآية. قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت هذه الآية
فيهم.
وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبىّ صلى الله
عليه وسلم لأهل قباء : إنّ الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ؛ فما تصنعون؟ فقالوا : إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء.
قلنا : هذا حديث
لم يصحّ. والصحيح هو الأول.
وقد اختلف في
الطهارة المثنى بها على أقوال لا تعلّق لها بما نحن فيه ، كالتطهر بالتوبة من وطء
النساء في أدبارهنّ وشبهه.
فأما قوله : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) فإنما معناه أنه أسّس على التقوى من أول مبتدأ تأسيسه ؛ أى
لم يشرع فيه ، ولا وضع حجر على حجر منه إلا على اعتقاد التقوى.
والذين كانوا
يتطهّرون ، وأثنى الله عليهم جملة من الصحابة كانوا يحتاطون على العبادة والنّظافة
، فيمسحون من الغائط والبول بالحجارة تنظيفا لأعضائهم ، ويغتسلون بالماء تماما
لعبادتهم ، وكمالا لطاعتهم.
المسألة الرابعة ـ
هذا ثناء من الله تعالى على من أحبّ الطهارة ، وآثر النظافة ، وهي مروءة آدمية ،
ووظيفة شرعية روى الترمذىّ وصحّحه عن عائشة رضوان الله عليهما أنها قالت :
مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإنى أستحييهم .
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل
معه الماء في الاستنجاء ، فكان يستعمل الحجارة تخفيفا ، والماء تطهيرا ، واللازم في نجاسة المخرج التخفيف ، وفي نجاسة
__________________
سائر البدن أو
الثوب التطهير ؛ وتلك رخصة من الله تعالى لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه. وبه
قال عامة العلماء.
وقال ابن حبيب :
لا يستجمر بالأحجار إلّا عند عدم الماء. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى. وقد
بيناه في شرح الصحيحين ومسائل الخلاف.
وأما إن كانت
النجاسة على البدن أو الثوب فلعلمائنا فيها ثلاثة أقوال :
فقال عنه ابن وهب
: يجب غسلها بالماء في حالتي الذكر والنسيان ؛ وبه قال الشافعى.
وقال أشهب عنه :
ذلك مستحبّ غير واجب ؛ وبه قال أبو حنيفة في تفصيل الحالين جميعا.
وقال ابن القاسم ،
عنه : يجب في حالة الذّكر دون النسيان ؛ وهي من مفرداته.
والدليل على
الوجوب المطلق قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ؛ فأمره الله بطهارة ثيابه حتى إن أتته العبادة وجدته على
حالة مهيّأة لأدائها.
وقد قال قوم : إنّ
الثياب كناية ، وذلك دعوى لا يلتفت إليها.
واحتجّ أبو حنيفة
على سقوط طهارتها بأنّ الاستنجاء لو كان واجبا لغسل بالماء ؛ فإن الحجر لا يزيله.
قلنا : هذه رخصة
من الله أمر بها ، وعفا عمّا وراءها.
وأما الفرق بين
حال الذّكر والنسيان ففي مسائل الخلاف برهانه ، وهو متعلق بأنه رفع المؤاخذة في
سورة البقرة على ما بيّناه في الخلافيات.
المسألة الخامسة ـ
بنى أبو حنيفة هذه المسألة على حرف ، فقال : إنّ النحاسة إذا كانت كثيرة وجبت
إزالتها ، وإذا كانت قليلة لم تجب إزالتها ، وفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم
البغلى ـ يعنى كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار ،
قياسا على المسربة . وهذا باطل من وجهين :
أحدهما ـ أنّ
المقدّرات عنده لا تثبت قياسا ؛ فلا يقبل هذا التقدير منه.
__________________
الثاني ـ أنّ هذا
الذي خفّف عنه في المسربة رخصة للضرورة والحاجة ، والرخص لا يقاس عليها ، فإنها
خارجة عن القياس ، فلا تردّ إليه.
المسألة السادسة ـ
قوله : (أَحَقُ) :
هو أفعل من الحق ،
وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين ، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزيّة
على الآخر ، فيحلى بأفعل ، وأحد المسجدين ـ وهو مسجد الضّرار ـ باطل لاحظ للحقّ فيه ، ولكن خرج هذا على اعتقاد بانيه أنه حقّ ،
واعتقاد أهل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو قباء أنه حقّ ، فقد اشتركا في الحق
من جهة الاعتقاد ، لكن أحد الاعتقادين باطل عند الله ، والآخر حقّ باطنا وظاهرا ،
وهو كثير كقوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) : يعنى من أهل النار. ولا خير في مقرّ النار ولا مقيلها ،
ولكنه جرى على اعتقاد كلّ فرقة أنها على خير ، وأن مصيرها إليه ؛ إذ كلّ حزب في
قضاء الله بما لديهم فرحون ، حتى يتميز بالدليل لمن عضد بالتوفيق في الدنيا ، أو
بالعيان لمن ضلّ في الآخرة ، وقد جاء بعد هذا :
(أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وهي الآية الموفية
أربعين .
ومعناه : أفمن أسس
بنيانه على اعتقاد تقوى حقيقة خير أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هار؟ وإن كان قصد
به التقوى ، وليس من هذا القبيل : العسل أحلى من الخل ، فإن الخلّ حلو ، كما أن
العسل حلو ؛ وكلّ شيء ملائم فهو حلو ، ولذلك يقال : احلولى العشق ، أى كان حلوا ،
لكونه إما على مقتضى اللذة أو موافقة الأمنية؟ ألا ترى أنّ من الناس من يقدم الخلّ
على العسل ، مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف.
المسألة السابعة ـ
قوله : (فَانْهارَ بِهِ فِي
نارِ جَهَنَّمَ) :
قيل : إنه حقيقة ،
وإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم إذ أرسل إليه فهدم رئي الدخان يخرج منه ،
__________________
من رواية سعيد بن
جبير وغيره : حتى رئي الدخان في زمان أبى جعفر المنصور.
وقيل : هذا مجاز ،
المعنى أنّ مآله إلى نار جهنم ، فكأنه انهار إليه ، وهوى فيه وهذا كقوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) ، إشارة إلى أن النار تحت ، كما أن الجنة فوق.
وقال جابر بن عبد
الله : أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صحّ
هذا لكان جابر رافعا للإشكال.
وهذا يدلّ على أن
كلّ شيء ابتدئ بنية تقوى الله ، والقصد لوجهه الكريم ، فهو الذي يبقى ، ويسعد به
صاحبه ، ويصعد إلى الله ويرفع إليه ، ويخبر عنه بقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، على أحد الوجهين ، ويخبر عنه أيضا بقوله : (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ).
الآية الحادية
والأربعون ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ. التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
فيها اثنتا عشرة
مسألة :
المسألة الأولى ـ روى
أنّ عبد الله بن
رواحة قال للنبىّ صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال النبىّ صلى
الله عليه وسلم : أشترط لربي أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط
لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قال
: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنّة. قال : ربح البيع. قال : لا نقيل ولا
نستقيل ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...) الآية.
وهذا مما لا يوجد
صحيحا.
__________________
وقد روى عن الشعبي
أنه قال : ذهب النبيّ صلى الله
عليه وسلم ليلة العقبة ، وذهب معه العباس بن عبد المطلب ، فقال العباس : تكلّموا
يا معشر الأنصار ، وأوجزوا ؛ فإنّ علينا عيونا ، قال الشعبي : فخطب أبو أمامة أسعد
بن زرارة خطبة ما خطب المرد ولا الشّيب مثلها قطّ. فقال : يا رسول الله ؛ اشترط
لربّك ، واشترط لنفسك ، واشترط لأصحابك. قال : اشترط لربّى أن تعبدوه ولا تشركوا
به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم ، وأشترط لأصحابى
المواساة في ذات أيديكم. قالوا : هذا لك ، فما لنا؟ قال : الجنة. قال : ابسط يدك. وهذا وإن كان مقطوعا فإن معناه ثابت من طرق.
المسألة الثانية ـ
في هذه الآية جواز معاملة السيد مع عبده ، وإن كان الكلّ للسيد ، لكن إذا ملّكه
وعامله فيما جعل إليه وتاجره بما ملّكه من ملكه ، فإنّ الجنة لله ، والعباد
بأنفسهم وأموالهم لله ، وأمرهم بإتلافها في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم
الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك فيها. وهو عوض عظيم ، لا يدانيه معوض ولا يقاس به ؛
ولهذا يروى عن ابن عباس أنه لما قرأ هذه الآية قال : ثامنهم والله وأغلى الثمن ، يريد أنه أعطاهم أكثر مما يجب لهم في
حكم المتاجرة ، ولم يأت الربح على مقدار الشراء ؛ بل زاد عليه وأربى.
المسألة الثالثة ـ
قال علماؤنا : كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلّفين كذلك اشترى من الأطفال ،
فآلمهم وأسقمهم ؛ لما في ذلك من المصلحة ، وما فيه من الاعتبار للبالغين ، والثواب
للوالدين والكافلين فيما ينالهم من الهمّ ، ويتعلق بهم من التربية والكفالة ؛ وهذا
بديع في بابه موافق لما تقدم قبله ؛ فإن البالغ يمشى إلى القتل مختارا ، والطفل
يناله الألم اقتسارا.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) إخبار من الله أنّ هذا كان في هذه الكتب ، وقد تقدمت
الإشارة إليه ، وقلنا : إن الجهاد ومحاربة الأعداء إنما أصله من عهد موسى ، فسبحان
الفعّال لما يريد.
__________________
المسألة الخامسة ـ
قال : (وَمَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) :
العهد يتضمّن
الوفاء والوعد والوعيد ، ولا بدّ من وفاء الباري تعالى بالكل ، فأما وعده فللجميع
، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب ، وفي بعض الأحوال ، فينفذ كذلك.
وقد فات علماءنا هذا المقدار على ما بيناه في كتب الأصول.
المسألة السادسة ـ
قوله : (التَّائِبُونَ) :
الراجعون عن
الحالة المدمومة في معصية الله إلى [الحالة] المحمودة في طاعة الله.
والعابدون هم
الذين قصدوا بطاعتهم وجهه.
والحامدون هم
الراضون بقضائه ، والمصرفون نعمته في طاعته.
والسائحون هم
الصائمون في هذه الملّة ، حتى فسد الزمان فصارت السياحة الخروج من الأرض عن الخلق
، لعموم الفساد وغلبة الحرام ، وظهور المنكر ، ولو وسعتنى الأرض لخرجت فيها ، لكنّ
الفساد قد غلب عليها ، ففي كل واد بنو نحس ، فعليك بخويصّة نفسك ودع أمر العامة.
الراكعون الساجدون
هم القائمون بالفرض من الصلاة ، الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر ،
المغيّرون للشرك فما دونه من المعاصي ، والآمرون بالإيمان فما دونه من الطاعات على
ما تقدّم من شروطه.
الحافظون لحدود
الله : خاتمة البيان وعموم الاشتمال لكلّ أمر ونهى.
وقوله. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بثوابى إذا كانوا على هذه الصفة ، ثم بذلوا أنفسهم في
طاعتي للقتل ؛ فحينئذ تكون سلعة مرغوبا فيها تمتدّ إليها الأطماع ، وتدخل في جملة
التجارات والمتاع ، فأما نفس لا تكون هكذا ، ولا تتحلّى بهذه الحلي فلا يبذل فيها
فلس ، فكيف الجنة؟ لكن من معه أصل الإيمان فهو مبشّر على قدره بعدم الخلود في
النار ، ومن استوفى هذه الصفات فله الفوز قطعا ، ومن خلط فلا يقنط ولا يأمن ،
وليمس تائبا ، ويصبح تائبا ، فإن لم يقدر فسائلا للتوبة ، فإنّ سؤالها درجة عظيمة
، حتى يمنّ الله بحصولها. فهذه سبع مسائل تمام اثنتي عشرة في الآية. والله أعلم.
__________________
الآية الثانية
والأربعون ـ قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ،
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
فيها ست مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وفي ذلك خمس
روايات :
الأولى ـ ثبت في
الصحيح ، عن سعيد بن المسيّب ، عن أبيه ، قال : لما
حضر أبا طالب الوفاة دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل ، وعبد
الله بن أبى أميّة فقال : يا عمّ ؛ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند
الله. فقال له أبو جهل ، وعبد الله بن أبى أمية : أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم
يزالا يكلّمانه حتى قال آخر شيء تكلم به: أنا على ملّة عبد المطلب. فقال النبىّ
صلى الله عليه وسلم : لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك. فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا ...) الآية ، ونزلت : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ).
الثاني ـ روى عن
عمرو بن دينار أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : استغفر
إبراهيم لأبيه ، وهو مشرك ، فلا أزال أستغفر لأبى طالب حتى ينهاني عنه ربي. فقال
أصحابه : لنستغفرنّ لآبائنا كما استغفر النبىّ لعمه ، فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) إلى : (تَبَرَّأَ مِنْهُ).
الثالثة ـ روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما أتى
مكة أتى رضما من حجارة أو رسما أو قبرا ، فجلس إليه ، ثم قام مستغفرا.
فقال : إنى استأذنت ربي في زيارة قبر أمى ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها
، فلم يأذن لي ، فما رئي باكيا أكثر من يومئذ.
وروى أنه وقف عند قبرها حتى سخنت عليه الشمس
رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها ، حتى نزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
...) إلى قوله : (تَبَرَّأَ مِنْهُ).
__________________
الرابعة ـ روى ابن
عباس أنّ رجالا من أصحاب
النبىّ صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله ؛ إنّ من آبائنا من كان يحسن
الجوار ، ويصل الأرحام ، أفلا نستغفر لهم؟ فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
....) الآية.
الخامسة ـ روى عن
عليّ قال : سمعت رجلا يستغفر
لأبويه ، فقلت : تستغفر لهما ، وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه!
فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
...) الآية. وهذه أضعف الروايات.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) :
دليل على أحد
أمرين : إما أن تكون الرواية الثانية صحيحة ، فنهى الله النبي والمؤمنين. إما أن
تكون الرواية الأولى هي الصحيحة ويخبر به عما فعل النبىّ ، وينهى المؤمنون أن
يفعلوا مثله ، تأكيدا للخبر ؛ وسائر الروايات محتملات.
المسألة الثالثة ـ
منع الله رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين ؛ لأنه قد قدّر ألّا تكون ؛
وأخبر عن ذلك ، وسؤال ما قدّر أنه لا يفعله ، وأخبر عنه هنا.
فإن قيل : فقد قال
النبىّ صلى الله عليه وسلم ـ
حين كسروا رباعيته ، وشجّوا وجهه: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
فسأل المغفرة لهم.
قلنا : عنه أربعة
أجوبة :
الأول ـ يحتمل ،
أن يكون ذلك قبل النهى ، وجاء النهى بعده.
الثاني ـ أنه
يحتمل أن يكون ذلك سؤالا في إسقاط حقّه عندهم ، لا لسؤال إسقاط حقوق الله ، وللمرء
أن يسقط حقّه عند المسلم والكافر.
الثالث ـ أنه
يحتمل أن يطلب المغفرة لهم ؛ لأنهم أحياء ، مرجوّا إيمانهم ، يمكن نألّفهم بالقول
الجميل ، وترغيبهم في الدين بالعفو عنهم. فأما من مات فقد انقطع منه الرجاء.
الرابع ـ أنه
يحتمل أن يطلب لهم المغفرة في الدنيا برفع العقوبة عنهم حتى إلى الآخرة ، كما قال
الله : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ).
__________________
المسألة الرابعة ـ
قوله : (وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى) :
بيان أن القرابة
الموجبة للشفقة جبلّة ، وللصلة مروءة تمنع من سؤال المغفرة بعد ما تبيّن لهم أنهم
من أهل النار.
قال القاضي الإمام
: هذا إن صحّ الخبر ، وإلّا فالصحيح فيه أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم ذكر نبيّا
قبله شجّه قومه ، فجعل النبىّ صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. خرجه البخاري وغيره.
المسألة الخامسة ـ
قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) ، فتعلّق بذلك النبىّ في الاستغفار لأبى طالب ، إما
اعتقادا ، وإما نطقا بذلك ، كما ورد في الرواية الثانية ؛ فأخبره الله أنّ استغفار
إبراهيم لأبيه كان عن وعد قبل تبيّن الكفر منه ؛ فلما تبيّن الكفر منه تبرأ منه ،
فكيف تستغفر أنت يا محمد لعمّك ، وقد شاهدت موته كافرا؟ وهي :
المسألة السادسة ـ
وظاهر حال المرء عند الموت يحكم عليه به في الباطن ، فإن مات على الإيمان حكم له بالإيمان ، وإن
مات على الكفر حكم له بالكفر ، وربّك أعلم بباطن حاله ، بيد أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال له
العباس : يا رسول الله ؛ هل نفعت عمّك بشيء ، فإنه كان يحوطك ويحميك؟ قال : سألت
ربي له ، فجعله في ضحضاح من النار تغلى منه دماغه ، ولو لا أنا لكان في الدّرك
الأسفل. وهذه شفاعة في تخفيف العذاب ، وهي الشفاعة الثانية ، وهذا هو أحد القولين
في قوله : فلما تبيّن له أنه عدوّ لله ـ يعنى بموته كافرا ـ تبرّأ منه.
وقيل : تبيّن له
في الآخرة. والأول أظهر.
وقد قال عطاء : ما
كنت لامتنع من الصلاة على أمة حبلى حبشيّة من الزنا ، فإنى رأيت الله لم يحجب
الصلاة إلّا عن المشركين ، فقال : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
وصدق عطاء ؛ لأنه
تبيّن من ذلك أنّ المغفرة جائزة لكلّ مذنب ؛ فالصلاة عليهم ،
__________________
والاستغفار لهم
حسنة ؛ وفي هذا ردّ على القدرية ؛ لأنهم لا يرون الصلاة على العصاة ، ولا يجوز
عندهم أن يغفر الله لهم ؛ فلم يصلّ عليهم ، وهذا ما لا جواب لهم عنه.
الآية الثالثة
والأربعون ـ قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ
تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).
فيها خمس مسائل :
المسألة الأولى ـ توبة
الله على النبىّ ردّه من حالة الغفلة إلى حالة الذّكر ، وتوبة المهاجرين والأنصار
رجوعهم من حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وانتقالهم من حالة الكسل إلى حالة
النشاط ، وخروجهم عن صفة الإقامة والقعود إلى حالة السفر والجهاد.
المسألة الثانية ـ
وتوبة الله تكون على ثلاثة أقسام :
دعاؤه إلى التوبة
، يقال : تاب الله على فلان ، أى دعاه ، ويقال : تاب الله عليه : يسّره للتوبة ،
وقد يكون خبرا ، وقد يكون دعاء ، ويقال : تاب عليه : ثبّته عليها ، ويقال : تاب
عليه : قبل توبته ؛ وذلك كلّه صحيح ، وقد جمع لهؤلاء ذلك كله ، ويفترق في سائر
الناس ؛ فمنهم من يدعوه إلى التوبة لإقامة الحجة عليه ولا ييسّرها له ، ومنهم من
يدعوه إليها وييسّرها ولا يديمها ، فإن دامت إلى الموت فهي مقبولة قطعا.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (فِي ساعَةِ
الْعُسْرَةِ) :
يعنى جيش تبوك ؛
خرج الناس إليها في جهد وحرّ ورجلة وعرى وحفاء ، حتى لقد روى في قوله : (ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) . (وَلا عَلَى الَّذِينَ
إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) : أنهم طلبوا نعالا.
وفي الحديث : لا
يزال الرجل راكبا ما انتعل.
المسألة الرابعة ـ
قوله : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ
يَزِيغُ قُلُوبُ ، فَرِيقٍ مِنْهُمْ) :
أما هذا فليس
للنبىّ فيه مدخل باتفاق من الموحدين ، أما أنه قد قيل : إنه يدخل في التوبة
__________________
من إذنه للمنافقين
في التخلف فعذره الله في إذنه لهم ، وتاب عليه وعذره ، وبيّن للمؤمنين صواب فعله
بقوله : (لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ....) إلى : (الْفِتْنَةَ).
وأما غير النبي
فكاد تزيغ قلوب فريق منهم ببقائهم بعده ، كأبى حثمة وغيره ، بإرادتهم الرجوع من
الطريق حين أصابهم الجهد ، واشتدّ عليهم العطش ، حتى نحروا إبلهم ، وعصروا كروشها
، فاستسقى رسول الله ، فنزل المطر ؛ ولهذا جاز للإمام ـ وهي :
المسألة الخامسة ـ
أن يأذن لمن اعتذر إليه أخذا بظاهر الحال ، ورفقا بالخلق ، اقتداء بالنبي صلى الله
عليه وسلم.
الآية الرابعة والأربعون
ـ قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا
إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قال
ابن وهب : قال مالك : إنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك حين طابت الثمار ، وبرد الظّلال ،
وخرج في حرّ شديد ، وهي العسرة التي افتضح فيها الناس ، وكان كعب بن مالك قد تخلّف
، ورجل من عمرو بن عوف ، وآخر من بنى واقد. وخرج رجل مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يسقى وديّا له ، فقيل له : كيف لك بسقى وديّك هذا! فقال : الغزو خير من
الودىّ ، فرجع ، وقد أصلح الله وديّة ، فلما رجع رسول الله وأصحابه هجروا كعبا
وصاحبيه ، ولم يعتذروا للنبىّ صلى الله عليه وسلم ، واعتذر غيرهم. قال : فأقام كعب
وصاحباه لم يكلّمهم أحد ، وكان كعب يدخل على الرجل في الحائط ، فيقول له : أنشدك
الله ، أتعلم أتى أحبّ الله ورسوله؟ فيقول : الله
ورسوله أعلم.
المسألة الثانية ـ
هؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال ابن أمية. كما تقدم.
__________________
لما رجع رسول الله
مقفله من تبوك ، ودخل المسجد جاء من تخلّف عنه يستذرون إليه ، وهم ثمانون رجلا ،
فقيل النبىّ ظاهر حالهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، إلّا هؤلاء الثلاثة ، فإنهم
صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب في حديثه
: حتى جئت فسلّمت عليه ، فتبسّم تبسّم المغضب ، ثم قال لي: تعالى ، فجئت أمشى حتى
جلست بين يديه ، فقلت له : والله ما كان لي عذر. فقال : أما هذا فقد صدق ، فقم ،
حتى يقضى الله فيك.
قال كعب : ونهى
النبىّ صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيّها الثلاثة ، [من بين من تخلّف عنه ، قال
: فاجتنبنا الناس ، أو قال : تغيّروا لنا] حتى تنكّرت لي نفسي والأرض حتى ما هي بالأرض التي كنت أعرف
، كما قال الشاعر :
فما الناس
بالناس الذين عهدتهم
|
|
ولا الأرض
بالأرض التي كنت أعرف
|
وساق الحديث إلى
قوله : وصليت الصبح صبيحة خمسين ليلة ، وأنا كما قال الله: (حَتَّى إِذا ضاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) إذا صارخ يصرخ أوفى على ظهر جبل سلع يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ، أبشر ، فخررت
ساجدا ... وساق الحديث.
وفيه دليل على أنّ
للإمام أن يعاقب المذنب بتحريم كلامه على الناس أدبا له ، وهكذا في الإنجيل ، وهي
:
المسألة الثالثة ـ
وعلى تحريم أهله عليه ، وهي :
المسألة الرابعة ـ
والحديث مطوّل ، وفيه فقه كثير قد أوردناه في شرح الحديث عليكم ،
والله ينفعنا وإياكم.
الآية الخامسة
والأربعون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
فيها أربع مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ في
تفسير الصادقين :
وفيه ثمانية أقوال
:
الأول ـ إنهم
الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم.
الثاني ـ أنهم
الذين قال الله فيهم : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...) إلى قوله تعالى : (الْمُتَّقُونَ).
الثالث ـ أنهم
المهاجرون ؛ وقد روى ـ كما قدمنا ـ أنّ أبا بكر قال للأنصار يوم سقيفة بنى ساعدة :
إنّ الله سمّانا الصادقين ؛ فقال : (لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ ...) إلى قوله تعالى : (هُمُ الصَّادِقُونَ). ثم سماكم المفلحين ، فقال : (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ ...) الآية. وقد أمركم الله أن تكونوا معنا حيث كنا ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
الرابع ـ إنّ
الصادقين هم المسلمون ، والمخاطبون هم المؤمنون من أهل الكتاب.
الخامس ـ الصادقون
هم الموفون بما عاهدوا ، وذلك بقوله تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما
عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).
السادس ـ هم
النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ يعنى أبا بكر ، وعمر ؛ أو السابقون الأولون ،
وهو السابع.
الثامن ـ هم
الثلاثة الذين خلّفوا.
المسألة الثانية ـ
في تحقيق هذه الأقوال :
أما الأول فهو
الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى في هذه الصفة ، وبها يرتفع النفاق في العقيدة
، والمخالفة في الفعل ، وصاحبها يقال له صدّيق ، وهي في أبى بكر وعمر ، ومن دونهما
على منازلهم وأزمانهم.
وأما من قال
بالثاني فهو معظم الصدق ، ومن أتى المعظم فيوشك أن يتبعه الأقلّ ، وهو معنى الخامس
لأنه بعضه ، وقد دخل فيه ذكره.
__________________
وأما تفسير أبى
بكر الصديق فهو الذي يعمّ الأقوال كلّها ؛ لأنّ جميع الصفات موجودة فيهم.
وأما القول الرابع
فصحيح وهو بعضه أيضا ، ويكون المخاطب أهل الكتاب والمنافقين.
والسادس ـ تقدّم
معناه.
والسابع ـ يكون
المخاطب الثمانين رجلا الذين تخلّفوا واعتذروا وكذبوا ، أمروا أن يكونوا مع
الثلاثة الصادقين ؛ ويدخل هذا في جملة الصدق.
المسألة الثالثة ـ
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) :
قد تقدمت حقيقة
التقوى ، وذكر المفسرون هاهنا فيها قولين :
أحدهما ـ اختلقوا
الكذب.
والثاني ـ في ترك
الجهاد ، وهما بعض التقوى ، والصحيح عمومها.
المسألة الرابعة ـ
في هذا دليل على أنه لا يقبل خبر الكاذب ولا شهادته.
قال مالك : لا
يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال غيره : يقبل
حديثه ، والقبول فيه مرتبة عظيمة ، وولاية لا تكون إلّا لمن كرمت خصاله ، ولا خصلة
هي أشرّ من الكذب ، فهي تعزل الولايات ، وتبطل الشهادات.
الآية السادسة
والأربعون ـ قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ
لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا
يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا
كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
__________________
المسألة الأولى ـ قوله
تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ) : أى ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلّفوا ـ دليل على أنّ
غيرهم لم يستنفروا ، وإنما كان النفير منهم في قول بعضهم ، ويحتمل أن يكون
الاستنفار في كلّ مسلم ، وخصّ هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم ، وأنهم أحقّ بذلك من
غيرهم.
المسألة الثانية ـ
قوله تعالى : (وَلا يَطَؤُنَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) دليل عند علمائنا على أنّ الغنيمة تستحقّ بالإدراب والكون في بلاد العدوّ ؛ فإن مات بعد ذلك فله سهمه ؛ وهو
قول أشهب ، وعبد الملك ، وأحد قولي الشافعى.
وقال مالك ، وابن
القاسم : لا شيء له ؛ لأنّ الله إنما كتب له بالآخرة ، ولم يذكر السهم. وهو الصحيح
، وقد بيناها في مسائل الخلاف.
المسألة الثالثة ـ
قوله : (وَلا يُنْفِقُونَ
نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) : يعنى كتب لهم ثوابه.
وكذلك قال في
المجاهد : إنّ أرواث دوابّه وأبوالها حسنات ، ورعيها حسنات ، وقد زادنا الله تعالى
من فضله.
ففي الصحيح أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم قال في
هذه الغزوة بعينها : إنّ بالمدينة قوما ما سلكتم واديا ، ولا قطعتم شعبا إلا وهم
معكم ، حبسهم العذر ، فأعطى للمعذور من الأجر ما أعطى للقوىّ العامل بفضله.
وقد قال بعض الناس
: إنما يكون له الأجر غير مضاعف ، ويضاعف للعامل المباشر.
وهذا تحكّم على
الله ، وتضييق لسعة رحمته ؛ وقد بيناه في شرح الصحيحين.
ولذلك قد راب بعض
الناس فيه ، فقال : أنتم تعطون الثواب مضاعفا قطعا ، ونحن لا نقطع بالتضعيف في
موضع ؛ فإنه مبنيّ على مقدار النيات ، وهو أمر مغيب ، والذي يقطع به أنّ هنالك
تضعيفا ، وربّك أعلم بمن يستحقّه ، وهذا كلّه وصف العاملين المجاهدين ، وحال
القاعدين التائبين ، ولما ذكر المتخلّفين المعتذرين بالباطل قال كعب بن مالك :
ذكروا في بشر ما ذكر به أحد ، فقال : (يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ ...) الآية.
__________________
الآية السابعة
والأربعون ـ قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في
سبب نزولها :
وفيها أقوال كثيرة
جماعها أربعة :
الأول ـ أنها نزلت
في قوم أرسلهم النبىّ صلى الله عليه وسلم ليعلّموا الناس القرآن والإسلام ، فلما
نزل ما كان لأهل المدينة رجع أولئك فأنزل الله عذرهم ؛ قاله مجاهد. وقال : هلّا
جاء بعضهم وبقي على التعليم البعض.
الثاني ـ قال ابن
عباس : معناه ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ، ويتركوا نبيّهم ، ولكن يخرج بعضهم ،
ويبقى البعض فيما ينزل من القرآن ، ويجرى من العلم والأحكام ، يعلّمه المتخلّف
للسارى عند رجوعه ، وقاله قتادة.
الثالث ـ قال ابن
عباس أيضا : إنها نزلت في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على
مضر بالسنين أجدبت بلادهم ، فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلّوا بالمدينة
من الجهد ، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيّقوا على أصحاب النبىّ صلى الله
عليه وسلم وأجهدوهم ، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين ، فردهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم ، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ...) الآية.
الرابع ـ روى عن
ابن عباس أنه قال : نسختها : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً).
المسألة الثانية ـ
في تحرير الأقوال :
أما نسخ بعض هذه
لبعض فيفتقر إلى معرفة التاريخ فيها.
وأما الظاهر فنسخ
الاستنفار العام ؛ لأنه الطارئ ؛ فإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يغزو في فئام
من الناس ، ولم يستوف قط جميع الناس ، إلا في غزوة العسرة.
__________________
وقد قيل : إنه
يخرج من القول الأول أنّ الخروج في طلب العلم لا يلزم الأعيان ، وإنما هو على
الكفاية.
قال القاضي : إنما
يقتضى ظاهر هذه الآية الحثّ على طلب العلم والندب إليه دون الإلزام والوجوب ،
واستحباب الرحلة فيه وفضلها.
فأما الوجوب فليس
في قوة الكلام ؛ وإنما لزم طلب العلم بأدلّته ؛ فأما معرفة الله فبأوامر القرآن
وإجماع الأمة.
وأما معرفة الرسول
فلوجوب الأمر بالتصديق به ، ولا يصحّ التصديق إلا بعد العلم.
وأما معرفة
الوظائف فلانّ ما ثبت وجوبه ثبت وجوب العلم به لاستحالة أدائها إلا بعلم ، ثم ينشأ
على هذا أنّ المزيد على الوظائف مما فيه القيام بوظائف الشريعة كتحصين الحقوق
وإقامة الحدود ، والفصل بين الخصوم ونحوه من فروض الكفاية ؛ إذ لا يصحّ أن يعلمه
جميع الناس ؛ فتضيع أحوالهم ، وأحوال سواهم ، وينقص أو يبطل معاشهم ؛ فتعيّن بين
الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين ، وذلك بحسب ما ييسّر الله العباد له ،
ويقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته ، ويأتى تحقيقه في موضعه إن شاء
الله.
المسألة الثالثة ـ
الطائفة في اللغة : الجماعة. قيل : وينطلق على الواحد على معنى نفس طائفة. والأول
أصح وأشهر ؛ فإنّ الهاء في مثل هذا إنما هي للكثرة ، كما يقال راوية ، وإن كان
يأتى بغيره.
ولا شك أنّ المراد
هاهنا جماعة لوجهين :
أحدهما ـ عقلا ،
والآخر لغة :
أما العقل فلأنّ
تحصيل العلم لا يتحصّل بواحد في الغالب.
وأما اللغة فلقوله
: ليتفقّهوا ولينذروا ؛ فجاء بضمير الجماعة.
والقاضي أبو بكر ،
والشيخ أبو الحسن قبله ، يرون أنّ الطائفة هاهنا واحد.
ويعتضدون فيه
بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد. وهو صحيح ؛ لا من جهة أنّ الطائفة تنطلق على
الواحد ، ولكن من جهة أنّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد ،
وأنّ مقابله وهو
التواتر لا ينحصر بعدد ، وقد بيناه في موضعه ، وهذه إشارته.
الآية الثامنة
والأربعون ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
قد قدّمنا الإشارة
إلى أنّ الله أمر بأوامر متعددة مختلفة المتعلقات ، فقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ). وقال : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وقال : (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). وقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ).
وهذا كلّه صحيح
مناسب ، والمقصود قتال جميع المؤمنين لجميع الكفار ، وقتال الكفار أينما وجدوا ،
وقتال أهل الكتاب من جملتهم ، وهم الروم ، وبعض الحبشان ، وذلك إنما يتكيّف لوجهين
:
أحدهما ـ بالابتداء
ممّن يلي ؛ فيقاتل كلّ واحد من يليه ، ويتفق أن يبدأ المسلمون كلّهم بالأهم ممن
يليهم ، أو الذين يتيقّن الظفر بهم.
وقد سئل ابن عمر
بمن نبدأ بالروم أو بالدّيلم؟ فقال : بالروم.
وقد روى في الأثر
: اتركوا الرابضين ما تركوكم ؛ يعنى الروم والحبش. وقول ابن عمر أصحّ ، وبداءته
بالروم قبل الدّيلم لثلاثة أوجه :
أحدها ـ أنهم أهل
الكتاب ، فالحجة عليهم أكثر وآكد.
والثاني ـ أنهم
إلينا أقرب ، أعنى أهل المدينة.
الثالث ـ أن بلاد
الأنبياء في بلادهم أكثر ، فاستنقاذها منهم أوجب.
الآية التاسعة
والأربعون ـ قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
قد قدّمنا القول
في زيادة الإيمان ونقصانه بما يغنى عن إعادته ، واستيفاؤه في كتب الأصول.
__________________
الآية الموفية
خمسين ـ قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ
انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله
: (نَظَرَ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ) : فيه قولان :
أحدهما ـ إذا
أنزلت سورة فيها فضيحتهم ، أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض ، يقول : هل
يراكم من أحد إذا تكلّمتم بهذا فينقله إلى محمد؟ وذلك جهل منهم بنبوّته ، وأنّ
الله يطلعه على ما شاء من غيبه.
الثاني ـ إذا
أنزلت سورة فيها الأمر بالقتال نظر بعضهم إلى بعض نظر الرّعب ، وأرادوا القيام عنه
، لئلا يسمعوا ذلك ، يقولون : هل يراكم إذا انصرفتم من أحد؟ ثم يقومون وينصرفون ،
صرف الله قلوبهم.
المسألة الثانية ـ
قال ابن عباس : يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة ؛ لأنّ قوما انصرفوا فصرف الله
قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة.
وهذا كلام فيه نظر
، وما أظنّه يصحّ عنه ؛ فإن نظام الكلام أن يقال : لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة ،
فإنّ قوما قيل فيهم : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ، فإنّ ذلك كان مقولا فيهم ، ولم
يكن منهم.
وقد أخبرنى محمد
بن عبد الحكم البستي الواعظ ؛ قال : أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا عليه ، يقول :
كنّا في جنازة ، فقال المنذر بها : انصرفوا رحمكم الله فقال : لا يقل أحدكم
انصرفوا ؛ فإن الله تعالى قال في قوم ذمّهم : (ثُمَّ انْصَرَفُوا
صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، ولكن قولوا : انقلبوا رحمكم الله ؛ فإن الله تعالى قال
في قوم مدحهم : (فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).
المسألة الثالثة ـ
قوله : (صَرَفَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ) إخبار عن أنه صارف القلوب ومصرّفها وقالبها ومقلّبها ردّا
على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحكمهم ،
__________________
يتصرّفون بمشيئتهم
، ويحكمون بإرادتهم ، واختيارهم ؛ ولهذا قال مالك ـ فيما رواه عنه أشهب : ما أبين
هذا في الرد على أهل القدر : (لا يَزالُ
بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) . وقوله تعالى لنوح : (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ؛ فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزال.
الآية الحادية
والخمسون ـ قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ في
ثبوتها :
اعلموا ـ وفّقكم
الله ـ أن هذه مسألة عظيمة القدر ، وذلك أنّ الرافضة كادت الإسلام بآيات وحروف
نسبتها إلى القرآن لا يخفى على ذي بصيرة أنها من البهتان الذي نزغ به الشيطان ،
وادّعوا أنهم نقلوها وأظهروها حين كتمناها حن ، وقالوا : إن الواحد يكفى في نقل
الآية والحروف كما فعلتم ، فإنكم أثبتم آية بقول رجل واحد ، وهو خزيمة بن ثابت ،
وهي قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ وقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).
قلنا : إن القرآن
لا يثبت إلّا بنقل التواتر ، بخلاف السنة فإنّها تثبت بنقل الآحاد. والمعنى فيه
أنّ القرآن معجزة النبىّ صلى الله عليه وسلم ، الشاهدة بصدقه ، الدالة على نبوته ،
فأبقاها الله على أمته ، وتولّى حفظها بفضله ، حتى لا يزاد فيها ولا ينقض منها.
والمعجزات إما أن تكون معاينة إن كانت فعلا ، وإما أن تثبت تواترا إن كانت قولا ؛
ليقع العلم بها ، أو تنقل صورة الفعل فيها أيضا نقلا متواترا حتى يقع العلم بها ،
كأنّ السامع لها قد شاهدها ، حتى تنبنى الرسالة على أمر مقطوع به ، بخلاف السنة ؛
فإنّ الأحكام يعمل فيها على خبر الواحد ؛ إذ ليس فيها معنى أكثر من التعبّد.
__________________
وقد كان النبىّ
صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه مع الواحد ، ويأمر الواحد أيضا بتبليغ كلامه ، ويبعث
الأمراء إلى البلاد وعلى السرايا ؛ وذلك لأنّ الأمر لو وقف فيها على التواتر لما
حصل علم ، ولا تمّ حكم ، وقد بينا ذلك في أصول الفقه والدين.
المسألة الثانية ـ
فيما روى فيها :
ثبت أن زيد بن
ثابت قال : أرسل إلىّ أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده
، فقال : إنّ القتال قد استحرّ بقرّاء القرآن يوم اليمامة ، وإنى أخشى أن يستحرّ القتل
بالقرّاء في المواطن كلها ، فيذهب قرآن كثير ، وإنى أرى أن تجمع القرآن.
قال أبو بكر لعمر
: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر : هو والله خير ،
فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ، ورأيت فيه الذي
رأى.
قال زيد : قال أبو
بكر : إنك شابّ عاقل لا نتّهمك ، قد كنت تكتب الوحى لرسول الله ؛ فتتبّع القرآن.
قال : فو الله لو كلّفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ من ذلك.
قلت : كيف تفعلون
شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر : هو والله خير. فلم
يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبى بكر وعمر.
فتتبّعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب ، وذكر كلمة مشكلة تركناها.
قال زيد : فوجدت
آخر براءة مع خزيمة بن ثابت : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) إلى : (الْعَظِيمِ). انتهى الحديث.
فبقيت الصحف عند
أبي بكر ، ثم تناوما بعده عمر ، ثم صارت عند حفصة رضى الله عنهم ، فلما كان زمن
عثمان حسبما ثبت في الصحيح قدم حذيفة بن اليمان على عثمان ، وكان يغازى أهل الشام
في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن ، فقال
لعثمان بن عفان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب ،
كما اختلف اليهود والنصارى.
__________________
فأرسل إلى حفصة أن
أرسلى إلينا بالصحف فننسخها في المصاحف ، ثم نردّها إليك.
فأرسلت حفصة إلى
عثمان بالصحف ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاصي ، وعبد الرحمن بن
الحارث بن هشام ، وعبد الله بن الزبير ـ أن انسخوا الصحف في المصاحف. وقال للرهط
القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ؛ فإنما نزل
بلسانهم ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك
المصاحف التي نسخوا.
قال الزهري :
وحدثني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت قال : فقدت
آية من سورة كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت أو أبى خزيمة ،
فألحقتها في سورتها.
قال الزهري :
فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه ، فقال القرشيون : التابوت. وقال زيد التابوه.
فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال : اكتبوه التابوت. فإنه نزل بلسان قريش.
قال الزهري :
فأخبرنى عبد الله بن عبد الله بن عتبة أنّ عبد الله بن مسعود كره لزيد ابن ثابت
نسخ المصاحف ، وقال : يا معشر المسلمين ؛ أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ، ويتولّاها
رجل ؛ والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر ـ يريد زيد بن ثابت. ولذلك قال عبد
الله بن مسعود : يأهل القرآن ، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ؛ فإنّ الله يقول
: (وَمَنْ يَغْلُلْ
يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، فالقوا الله بالمصاحف.
قال الزهري :
فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وهذا حديث صحيح لا يعرف إلا من حديث الزهري.
المسألة الثالثة ـ
إذا ثبت هذا فقد تبيّن في أثناء الحديث أنّ هاتين الآيتين في براءة وآية الأحزاب لم تثبت بواحد ، وإنما كانت منسيّة ، فلما ذكرها
من ذكرها أو تذكّرها من
__________________
تذكرها عرفها
الخلق ، كالرجل تنساه فإذا رأيت وجهه عرفته ، أو تنسى اسمه وتراه ، ولا يجتمع لك
العين والاسم ، فإذا انتسب عرفته.
المسألة الرابعة ـ
من غريب المعاني أنّ القاضي أبا بكر بن الطيب سيف السنة ولسان الأمة تكلّم بجهالات
على هذا الحديث ، لا تشبه منصبه ، فانتصبنا لها لنوقفكم على الحقيقة فيها : أولها
ـ قال القاضي أبو الطيب : هذا حديث مضطرب ، وذكر اختلاف روايات فيه ، منها صحيحة
ومنها باطلة ؛ فأما الروايات الباطلة فلا نشتغل بها ، وأما الصحيحة فمنها أنه قال
: روى أن هذا جرى في عهد أبى بكر. وفي رواية أنه جرى في عهد عثمان ، وبين
التاريخين كثير من المدة ؛ وكيف يصح أن نقول هذا كان في عهد أبى بكر ، ثم نقول :
كان هذا في عهد عثمان ؛ ولو اختلف تاريخ الحديث في يوم من أوله وآخره لوجب ردّه ،
فكيف أن يختلف بين هاتين المدتين الطويلتين؟
قال القاضي أبو
بكر بن العربي : يقال للسيف هذه كهمة من طول الضّراب ، هذا أمر لم يخف وجه الحق فيه ، إنما جمع
زيد القرآن مرتين : إحداهما لأبى بكر في زمانه ، والثانية لعثمان في زمانه ، وكان
هذا في مرتين لسببين ولمعنيين مختلفين ، أما الأول فكان لئلا يذهب القرآن بذهاب
القراء ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه
يذهب العلم في آخر الزمان بذهاب العلماء ، فلما تحصّل مكتوبا صار عدة لما يتوقع عليه. وأما جمعه في
زمان عثمان فكان لأجل الاختلاف الواقع بين الناس في القراءة ، فجمع في المصاحف
ليرسل إلى الآفاق ، حتى يرفع الاختلاف الواقع بين الناس في زمن عثمان.
ثانيها ـ قال ابن
الطيب : من اضطراب هذا الحديث أنّ زيدا تارة قال : وجدت هؤلاء الآيات الساقطة ،
وتارة لم يذكره ، وتارة ذكر قصة براءة ، وتارة قصة الأحزاب أيضا بعينها.
قال القاضي ابن
العربي : يقال للسان هذه عثرة ، وما الذي يمنع عقلا أو عادة أن يكون عند الراوي
حديث مفصّل يذكر جميعه مرة ، ويذكر أكثره أخرى ، ويذكر أقله ثالثة؟ ثالثها ـ قال
ابن الطيب : يشبه أن يكون هذا الخبر موضوعا ؛ لأنه قال فيه : إن زيدا وجد
__________________
الضائع من القرآن
عند رجلين. وهذا بعيد أن يكون الله قد وكل حفظ ما سقط وذهب عن الأجلّة الأماثل من
القرآن برجلين : خزيمة ، وأبى خزيمة.
قال القاضي : قد
بينا أنه يجوز أن ينسى الرجل الشيء ثم يذكره له آخر ، فيعود علمه إليه. وليس في
نسيان الصحابة كلّهم له إلا رجل واحد استحالة عقلا ؛ لأنّ ذلك جائز ؛ ولا شرعا ؛
لأنّ الله ضمن حفظه ، ومن حفظه البديع أن تذهب منه آية أو سورة إلا عن واحد ،
فيذكرها ذلك الواحد ، فيتذكّرها الجميع ؛ فيكون ذلك من بديع حفظ الله لها.
قال القاضي ابن
العربي : ويقال له أيضا : هذا حديث صحيح متّفق عليه من الأئمة ، فكيف تدّعى عليه
الوضع ، وقد رواه العدل عن العدل ، وتدعى فيه الاضطراب ، وهو في سلك الصواب منتظم
، وتقول أخرى : إنه من أخبار الآحاد ، وما الذي تضمن من الاستحالة أو الجهالة حتى
يعاب بأنه خبر واحد.
وأما ما ذكرته في
معارضته عن بعض رواته أو عن رأى فهو المضطرب الموضوع الذي لم لم يروه أحد من
الأئمة ، فكيف يعارض الأحاديث الصحاح بالضعاف والثقات بالموضوعات؟ المسألة الخامسة
ـ فإن قيل : فما كانت هذه المراجعة بين الصحابة؟
قلنا : هذا مما لا
سبيل إلى معرفته إلا بالرواية ، وقد عدمت ، لا همّ إلا أنّ القاضي أبا بكر قد ذكر
في ذلك وجوها ، أجودها خمسة :
الأول ـ أنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك مصلحة ، وفعله أبو بكر للحاجة الثاني ـ أنّ الله
أخبر أنه في الصحف الأولى ، وأنه عند محمد في مثلها بقوله : (يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً. فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ؛ فهذا اقتداء بالله وبرسوله.
الثالث ـ أنهم
قصدوا بذلك تحقيق قول الله : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ؛ فقد كان عنده محفوظا ، وأخبرنا أنه يحفظه بعد نزوله ،
ومن حفظه تيسير الصحابة لجمعه ، واتفاقهم على تقييده وضبطه.
الرابع ـ أنّ
النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يكتبه كتبته بإملائه إياه عليهم ، وهل يخفى
__________________
على متصوّر معنى
صحيحا في قلمه أنّ ذلك كان تنبيها على كتبه وضبطه بالتقييد في الصحف ، ولو كان ما
ضمنه الله من حفظه لا عمل للأمة فيه لم يكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
إخبار الله له بضمان حفظه ، ولكن علم أنّ حفظه من الله بحفظنا وتيسيره ذلك لنا
وتعليمه لكتابته وضبطه في الصحف بيننا.
الخامس ـ أنه ثبت
أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ؛ وهذا تنبيه
على أنه بين الأمة مكتوب مستصحب في الأسفار ، وهذا من أبين الوجوه عند النظار.
المسألة السادسة ـ
فأمّا كتابة عثمان للمصاحف التي أرسلت إلى الكوفة والشام والحجاز فإنما كان ذلك
لأجل اختلاف الناس في القراءات ، فأراد ضبط الأمر لئلا ينتشر إلى حد التفرق
والاختلاف في القرآن ، كما اختلف أهل الكتاب في كتبهم ، وكان جمع أبى بكر له لئلا
يذهب أصله ؛ فكانا أمرين مختلفين لسببين متباينين. وقد كان وقع مثل هذا الاختلاف
في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بين هشام بن حكيم بن حزام وبين عمر بن الخطاب ،
فاختلفوا في القراءة في سورة الفرقان ، فاحتمل عمر هشاما إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم حملا ، حتى قرأ كلّ واحد منهما ما قرأ بخلاف قراءة صاحبه ، فصوّب النبىّ
صلى الله عليه وسلم الكل ، وأنبأهم أنه ليس باختلاف ؛ إذ الكلّ من عند الله ،
بأمره نزل ، وبفضله توسّع في حروفه حتى جعلها سبعة ؛ فاختار عثمان والصحابة من تلك
الحروف ما رأوه ظاهرا مشهورا متّفقا عليه مذكورا ، وجمعوه في مصاحف ، وجعلت أمهات
في البلدان ترجع إليها بنات الخلاف.
المسألة السابعة ـ
فأما حال عبد الله بن مسعود وإنكاره على زيد أن يتولّى كتب المصاحف ، وهو أقدم
قراءة. قلنا : يا معشر الطالبين للعلم ، ما نقم قطّ على عثمان شيء إلا خرج منه
كالشهاب ، وأنبأ أنه أتاه بعلم ، وقد بينا ذلك في كتاب المقسط ، وعند قول ابن
مسعود ما قال وبلغ عثمان :
قال عثمان : من
يعذرني من ابن مسعود ، يدعو الناس إلى الخلاف والشبهة ، ويغضب
علىّ أن لم أوله
نسخ القرآن ، وقدمت زيدا عليه ، فهلا غضب على أبى بكر وعمر حين قدما زيدا لكتابته
وتركاه ، إنما اتبعت أنا أمرهما ، فما بقي أحد من الصحابة إلا حسّن قول عثمان وعاب
ابن مسعود.
وهذا بيّن جدا ،
وقد أبى الله أن يبقى لابن مسعود في ذلك أثرا ، على أنه قد روى عنه أنه رجع عن ذلك
وراجع أصحابه في الاتباع لمصحف عثمان ، والقراءة به.
المسألة الثامنة ـ
فأما سبب اختلاف القرّاء بعد ربط الأمر بالثبات وضبط القرآن بالتقييد.
قلنا : إنما كان
ذلك للتوسعة التي أذن الله فيها ، ورحم بها من قراءة القرآن على سبعة أحرف ؛ فأقرأ
النبىّ صلى الله عليه وسلم بها ، وأخذ كلّ صاحب من أصحابه حرفا أو جملة منها. وقد
بيناه في تفسير الحديث تارة في جزء مفرد ، وتارة في شرح الصحيحين ، ولا شكّ في أنّ
الاختلاف في القراءة كان أكثر مما في ألسنة الناس اليوم ، ولكن الصحابة ضبطت الأمر
إلى حدّ يقيد مكتوبا ، وخرج ما بعده عن أن يكون معلوما ، حتى أنّ ما تحتمله الحروف
المقيدة في القرآن قد خرج أكثره عن أن يكون معلوما ، وقد انحصر الأمر إلى ما نقله
القراء السبعة بالأمصار الخمسة.
وقد روى أنّ عثمان
أرسل ثلاثة مصاحف ، وروى أنه احتبس مصحفا ، وأرسل إلى الشام والعراق واليمن ثلاثة
مصاحف ، وروى أنه أرسل أربعة إلى الشام والحجاز والكوفة والبصرة.
وروى أنه كانت
سبعة مصاحف ، فبعث مصحفا إلى مكة ، وإلى الكوفة آخر ، ومصحفا إلى البصرة ، ومصحفا
إلى الشام ، ومصحفا إلى اليمن ، ومصحفا إلى البحرين ، ومصحفا عنده. فأما مصحف
اليمن والبحرين فلم يسمع لهما حبر.
قال القاضي : وهذه
المصاحف إنما كانت تذكرة لئلا يضيع القرآن ، فأما القراءة فإنما أخذت بالرواية لا
من المصاحف ، أما إنهم كانوا إذا اختلفوا رجعوا إليها فما كان فيها عوّلوا عليه ،
ولذلك اختلفت المصاحف بالزيادة والنقصان ، فإن الصحابة أثبتت ذلك في بعض المصاحف ،
وأسقطته في البعض ، ليحفظ القرآن على الأمّة ، وتجتمع أشتات الرواية ،
ويتبيّن وجه الرخصة
والتوسعة ، فانتهت الزيادة والنقصان إلى أربعين حرفا في هذه المصاحف ، وقد زيدت
عليها أحرف يسيرة لم يقرأ بها أحد من القراء المشهورين تركت ؛ فهذا منتهى الحاضر
من القول الذي يحتمله الفنّ الذي تصدينا له من الأحكام.
المسألة التاسعة ـ
إذا ثبتت القراءات ، وتقيّدت الحروف فليس يلزم أحدا أن يقرأ بقراءة شخص واحد ،
كنافع مثلا ، أو عاصم ؛ بل يجوز له أن يقرأ الفاتحة فيتلو حروفها على ثلاث قراءات
مختلفات ؛ لأنّ الكلّ قرآن ، ولا يلزم جمعه ؛ إذ لم ينظمه الباري لرسوله ، ولا قام
دليل على التعبّد به ؛ وإنما لزم الخلق بالدليل ألا يتعدوا الثابت إلى ما لم يثبت
، فأما تعيين الثابت في التلاوة فمسترسل على الثابت كله. والله أعلم.
فهرس القسم الثاني
السورة
|
أرقام الآيات
|
|
الصفحة
|
سورة المائدة
|
١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ،
٥ ، ٦ ، ٨ ، ١٢ ، ٢٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٨ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٩ ،
٥١ ، ٥٢ ، ٧٧ ، ٨٧ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٣ ،
١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٦ ، ١٠٧ ، ١٠٨
|
|
٥٢٣ ـ ٣٤
|
سورة الأنعام
|
٥٩ ، ٦٨ ، ٨٣ ،
٨٤ ، ٩٠ ، ٩٩ ، ١٠٨ ، ١١١ ، ١٢١ ، ١٣٦ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، ١٤٥ ،
١٤٦ ، ١٥٠ ، ١٥٢ ، ١٦٢ ، ١٦٣ ، ١٦٤
|
|
٧٣٤ ـ ٧٧٥
٧٧٥ ـ ٨٣٤
|
سورة الأعراف
|
٢ ، ٣ ، ٢٥ ، ٣١
، ٣٢ ، ٣٣ ، ٥٥ ، ٥٩ ، ٨٠ ، ٥٨ ، ١٢٤ ، ١٣٨ ، ١٤٢ ، ١٤٥ ، ١٥٠ ، ١٥٧ ، ١٦٣ ، ١٧٢
، ١٧٩ ، ١٨٥ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ١٩٩ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦
وبين الآيات التي وردت بين آيات
هذه السورة آتان من
سورة الأحزاب هما : ١٠ ، ١١
|
|
|
__________________
السورة
|
أرقام الآيات
|
|
الصفحة
|
سورة الأنفال
|
١ ، ٧ ، ١٥ ، ١٦
، ١٧ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٤٦ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٦٠ ،
٦١ ، ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧ ، ٦٨ ، ٧٠ ، ٧١ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥
|
|
٨٣٤ ـ ٨٩١
|
سورة التوبة
|
١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ،
٥ ، ٦ ، ١٢ ، ١٨ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ،
٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٥٨ ، ٦٠ ، ٦٥ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧ ، ٨٤ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٤ ،
١٠٠ ، ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١١١ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١١٧ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ،
١٢١ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٧ ، ١٢٨
|
|
٨٩٧ ـ ١٠٤١
|
تم الجزء الثاني بحمد
الله وتوفيقه
ويليه الجزء الثالث
إن شاء الله
وأوله سورة يونس
|