(٣٧) سورة الصافات

مكية وآيها مائة واثنتان وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)(٣)

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية ، على مراتب باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإلهية ، منتظرين لأمر الله الزاجرين الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به فيها ، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير ، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين آيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأولياءه ، أو بطوائف الأجرام المرتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) أو بنفوس العلماء الصافين في العبادات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه ، أو بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد الزاجرين الخيل ، أو العدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو والعطف لاختلاف الذوات ، أو الصفات والفاء لترتيب الوجود كقوله :

يا لهف زيابة للحارث الص

ابح فالغانم فالآئب

فإن الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر ، أو الإشاقة إلى قبول الخير والتلاوة إفاضته أو الرتبة

كقوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله المحلقين فالمقصرين» غير أنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس ، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥)

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب للقسم والفائدة فيه تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم ، وأما تحقيقه فبقوله تعالى :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) فإن وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته على ما مر غير مرة ، (وَرَبُ) بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر محذوف وما بينهما يتناول أفعال العباد فيدل على أنها من خلقه ، و (الْمَشارِقِ) مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة وهي ثلاثمائة وستون مشرقا ، تشرق كل يوم في واحد وبحسبها تختلف المغارب ، ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة ، وما قيل إنها مائة وثمانون إنما يصح لو لم تختلف أوقات الانتقال.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ)(٧)

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) القربى منكم. (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بزينة هي (الْكَواكِبِ) والإضافة للبيان ، ويعضده قراءة حمزة ويعقوب وحفص بتنوين «زينة» وجر (الْكَواكِبِ) على إبدالها منه ، أو بزينة هي لها


كأضوائها وأوضاعها ، أو بأن زينا (الْكَواكِبِ) فيها على إضافة المصدر إلى المفعول فإنها كما جاءت اسما كالليقة جاءت مصدرا كالنسبة ويؤيده قراءة أبي بكر بالتنوين ، والنصب على الأصل أو بأن زينتها (الْكَواكِبِ) على إضافته إلى الفاعل وركوز الثوابت في الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينها وبين السماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك ، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.

(وَحِفْظاً) منصوب بإضمار فعله ، أو العطف على «زينة» باعتبار المعنى كأنه قال إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظا. (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) خارج من الطاعة برمي الشهب.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١٠)

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم ، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون ، ولا علة للحفظ على حذف اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذف أن وأهدرها كقوله :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

فإن اجتماع ذلك منكر والضمير ل (كُلِ) باعتبار المعنى ، وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد من التسمع وهو طلب السماع و (الْمَلَإِ الْأَعْلى) الملائكة وأشرافهم. (وَيُقْذَفُونَ) ويرمون. (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء إذا قصدوا صعوده.

(دُحُوراً) علة أي للدحور وهو الطرد ، أو مصدر لأنه والقذف متقاربان ، أو حال بمعنى مدحورين أو منزوع عنه الباء جمع دحر ، وهو ما يطرد به ويقويه القراءة بالفتح وهو يحتمل أيضا أن يكون مصدرا كالقبول أو صفة له أي قذفا دحورا. (وَلَهُمْ عَذابٌ) أي عذاب آخر. (واصِبٌ) دائم أو شديد وهو عذاب الآخرة.

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من واو (يَسَّمَّعُونَ) ومن بدل منه ، والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرف الخطفة ، وقرئ «خطف» بالتشديد مفتوح الخاء ومكسورها وأصلها اختطف. (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) أتبع بمعنى تبع ، والشهاب ما يرى كأن كوكبا انقض ، وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين ، إن صح لم يناف ذلك إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك ولا في قوله (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) فإن كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه ، ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجما لشياطين تتصعد إلى قرب الفلك للتسمع ، وما روي أن ذلك حدث بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام إن صح فلعل المراد كثرة وقوعه ، أو مصيره (دُحُوراً). واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا ، ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق ، لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها. (ثاقِبٌ) مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١)

(فَاسْتَفْتِهِمْ) فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم. (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب ، و (مَنْ) لتغليب


العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك ، وقراءة من قرأ «أم من عددنا» ، وقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود ، وأن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد ، وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة ، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك ، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير.

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) (١٤)

(بَلْ عَجِبْتَ) من قدرة الله تعالى وإنكارهم للبعث. (وَيَسْخَرُونَ) من تعجبك وتقريرك للبعث ، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء أي بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي أن تعجبت منها ، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو عجبت من أن ينكر البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يجوزه. والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم له فإنه روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء ، وقيل إنه مقدر بالقول أي : قال يا محمد بل عجبت.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) وإذا وعظوا بشيء لا يتعظون به ، أو إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) معجزة تدل على صدق القائل به. (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر ، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.

(وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (١٨)

(وَقالُوا إِنْ هذا) يعنون ما يرونه. (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر سحريته.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أصله انبعث إذا متنا فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار ، وإشعارا بأن البعث مستنكر في نفسه وفي هذه الحالة أشد استنكارا ، فهو أبلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية.

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محل (إِنْ) واسمها ، أو على الضمير في «مبعوثون» فإنه مفصول منه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم ، وسكن نافع برواية قالون وابن عامر الواو على معنى الترديد.

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون ، وإنما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدل على جوازه وقيام المعجز على صدق المخبر عن وقوعه ، وقرئ «قال» أي الله أو الرسول وقرأ الكسائي وحده (نَعَمْ) بالكسر وهو لغة فيه.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(٢١)

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) جواب شرط مقدر أي إذا كان ذلك فإنما البعثة (زَجْرَةٌ) أي صيحة واحدة ،


وهي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها في الإعادة كأمر كن في الإبداء ولذلك رتب عليها. (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون ، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) اليوم الذي نجازي بأعمالنا وقد تم به كلامهم وقوله :

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) جواب الملائكة ، وقيل هو أيضا من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء ، أو الفرق بين المحسن والمسيء.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)(٢٣)

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أمر الله للملائكة ، أو أمر بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف. وقيل منه إلى الجحيم. (وَأَزْواجَهُمْ) وأشباههم عابد الصنم مع عبدة الصنم وعابد الكوكب مع عبدته كقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أو نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام وغيرها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم ، وهو عام مخصوص بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية ، وفيه دليل على أن (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم المشركون. (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) فعرفوهم طريقا ليسلكوها.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ)(٢٦)

(وَقِفُوهُمْ) احبسوهم في الموقف. (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن عقائدهم وأعمالهم والواو لا توجب الترتيب مع جواز أن يكون موقفهم متعددا.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص ، وهو توبيخ وتقريع.

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم ، وأصل الاستسلام طلب السلامة أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا ويخذله.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ)(٢٨)

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) يعني الرؤساء والأتباع أو الكفرة والقرناء. (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ ولذلك فسر بيتخاصمون.

(قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) عن أقوى الوجوه وأيمنها ، أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم وهلكنا ، مستعار من يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمي يمينا وتيمن بالسانح ، أو عن القوة والقهر فتقسروننا على الضلال ، أو عن الحلف فإنهم كانوا يحلفون لهم أنهم على الحق.

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٢)

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أجابهم الرؤساء أولا بمنع إضلالهم بأنهم كانوا ضالين في أنفسهم ، وثانيا بأنهم ما أجبروهم على الكفر إذ لم يكن لهم عليهم تسلط وإنما جنحوا إليه لأنهم كانوا قوما مختارين الطغيان.


(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ).

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) ثم بينوا أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العذاب كان أمرا مقضيا لا محيص لهم عنه ، وأن غاية ما فعلوا بهم أنهم دعوهم إلى الغي لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن يكونوا مثلهم ، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية لإغواء غاو فمن أغواهم.

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ)(٣٥)

(فَإِنَّهُمْ) فإن الأتباع والمتبوعين. (يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين في الغواية.

(إِنَّا كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل. (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) بالمشركين لقوله تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن كلمة التوحيد ، أو على من يدعوهم إليه.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٩)

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون محمدا عليه الصلاة والسلام.

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق قام به البرهان وتطابق عليه المرسلون.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) بالإشراك وتكذيب الرسل ، وقرئ بنصب (الْعَذابِ) ، على تقرير النون كقوله :

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

وهو ضعيف في غير المحلى باللام وعلى الأصل.

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إلا مثل ما عملتم.

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)(٤٣)

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في (تُجْزَوْنَ) لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة ، فإن ثوابهم مضاعف والمنقطع أيضا بهذا الاعتبار.

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) خصائصه من الدوام ، أو تمحض اللذة ولذلك فسره بقوله :

(فَواكِهُ) فإن الفاكهة ما يقصد للتلذذ دون التغذي والقوت بالعكس ، وأهل الجنة لما أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التحلل كانت أرزاقهم فواكه خالصة. (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال كما عليه رزق الدنيا.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) في جنات ليس فيها إلا النعيم ، وهو ظرف أو حال من المستكن في (مُكْرَمُونَ) ، أو خبر ثان ل (أُولئِكَ) وكذلك :

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا


هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧)

(عَلى سُرُرٍ) يحتمل الحال أو الخبر فيكون : (مُتَقابِلِينَ) حالا من المستكن فيه أو في (مُكْرَمُونَ) ، وأن يتعلق ب (مُتَقابِلِينَ) فيكون حالا من ضمير (مُكْرَمُونَ).

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) بإناء فيه خمر أو خمر كقوله : وكأس شربت على لذّة. (مِنْ مَعِينٍ) من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون ، أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع. وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء ، أو للإشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة لكمال اللذة ، وكذلك قوله :

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وهما أيضا صفتان لكأس ، ووصفها ب (لَذَّةٍ) إما للمبالغة أو لأنها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل قال :

ولذّ كطعم الصرخديّ تركته

بأرض العدا من خشية الحدثان

(لا فِيها غَوْلٌ) غائلة كما في خمر الدنيا كالخمار من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول. (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله ، أفرده بالنفي وعطفه على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي وتابعهما عاصم في «الواقعة» من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه ، وأصله للنفاد يقال نزف المطعون إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)(٤٩)

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهن على أزواجهن. (عِينٌ) نجل العيون جمع عيناء.

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شبههن ببيض النعام المصون عن الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإنه أحسن ألوان الأبدان.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)(٥٣)

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) معطوف على (يُطافُ عَلَيْهِمْ) أي يشربون فيتحادثون على الشراب قال :

وما بقيت من اللّذّات إلّا

أحاديث الكرام على المدام

والتعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل ، وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) في مكالمتهم. (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) جليس في الدنيا ...

(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) يوبخني على التصديق بالبعث ، وقرئ بتشديد الصاد من التصدق.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) لمجزيون من الدين بمعنى الجزاء.

(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ)(٥٥)

(قالَ) أي ذلك القائل. (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين ، وقيل القائل هو الله أو


بعض الملائكة يقول لهم : هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟ وعن أبي عمرو (مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ) بالتخفيف وكسر النون وضم الألف على أنه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث أن أدب المجالسة يمنع الاستبداد به ، أو خاطب الملائكة على وضع المتصل موضع المنفصل كقوله :

هم الآمرون الخير والفاعلونه

أو شبه اسم الفاعل بالمضارع.

(فَاطَّلَعَ) عليهم. (فَرَآهُ) أي قرينه. (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطه.

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(٥٩)

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) لتهلكني بالإغواء ، وقرئ «لتغوين» و (إِنْ) هي المخففة واللام هي الفارقة.

(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) بالهداية والعصمة. (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك فيها.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) عطف على محذوف أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ، أي بمن شأنه الموت وقرئ «بمائتين».

(إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال ، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل. وقيل على الاستثناء المنقطع. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) كالكفار ، وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له أو معاودة إلى مكالمة جلسائه تحدثا بنعمة الله ، أو تبجحا بها وتعجبا منها وتعريضا للقرين بالتوبيخ.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)(٦١)

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يحتمل أن يكون من كلامهم وأن يكون كلام الله لتقرير قوله والإشارة إلى ما هم عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب.

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام ، وهو أيضا يحتمل الأمرين.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٦٦)

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) شجرة ثمرها نزل أهل النار ، وانتصاب (نُزُلاً) على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقام للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام ، وكذلك الزقوم لأهل النار ، وهو : اسم شجرة صغيرة الورق دفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة.

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) محنة وعذابا لهم في الآخرة ، أو ابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا كيف ذلك والنار تحرق الشجر ، ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق.


(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

(طَلْعُها) حملها مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل ، أو الطلوع من الشجر. (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) في تناهي القبح والهول ، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك. وقيل (الشَّياطِينِ) حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف ، ولعلها سميت بها لذلك.

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) من الشجرة أو من طلعها. (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) لغلبة الجوع أو الجبر على أكلها.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ)(٦٨)

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم ، ويجوز أن يكون ثم لما في شرابهم من مزيد الكراهة والبشاعة. (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) لشرابا من غساق ، أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم ، وقرئ بالضم وهو اسم ما يشاب به والأوّل مصدر سمي به.

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) مصيرهم. (لَإِلَى الْجَحِيمِ) إلى دركاتها أو إلى نفسها ، فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولهم ، وقيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يوردون إليه كما تورد الإبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم ، ويؤيده أنه قرئ «ثم إن منقلبهم».

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(٧٤)

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال ، والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على (آثارِهِمْ) ، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث.

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) قبل قومك. (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أنبياء أنذروهم من العواقب.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) من الشدة والفظاعة.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا الذين تنبهوا بإنذارهم فأخلصوا دينهم لله ، وقرئ بالفتح أي الذين أخلصهم الله لدينه والخطاب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود خطاب قومه فإنهم أيضا سمعوا أخبارهم ورأوا آثارهم.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٧٨)

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها ، أي ولقد دعانا حين أيس من قومه. (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن ، فحذف منها ما حذف لقيام ما يدل عليه.

(وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من الغرق أو أذى قومه.


(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) إذ هلك من عداهم وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة ، إذ روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) من الأمم.

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(٨٢)

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ) هذا الكلام جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليما. وقيل هو سلام من الله عليه ومفعول (تَرَكْنا) محذوف مثل الثناء. (فِي الْعالَمِينَ) متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لما فعل بنوح من التكرمة بأنه مجازاة له على إحسانه.

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لإحسانه بالإيمان إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) يعني كفار قومه.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٨٧)

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة. (لَإِبْراهِيمَ) ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا ، وكان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة ، وكان بينهما نبيان هود وصالح.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ) متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة أو بمحذوف هو اذكر. (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من آفات القلوب أو من العلائق خالص لله أو مخلص له ، وقيل حزين من السليم بمعنى اللديغ. ومعنى المجيء به ربه : إخلاصه له كأنه جاء به متحفا إياه.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) بدل من الأولى أو ظرف ل (جاءَ) أو (سَلِيمٍ).

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي تريدون آلهة دون الله إفكا مقدم المفعول للعناية ثم المفعول له لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل ومبنى أمرهم على الإفك ، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به و (آلِهَةً) بدل منه على أنها إفك في نفسها للمبالغة ، أو المراد بها عبادتها بحذف المضاف أو حالا بمعنى آفكين.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته ، أو أشركتم به غيره أو أمنتم من عذابه ، والمعنى إنكار ما يوجب ظنا فضلا عن قطع يصد عن عبادته ، أو يجوز الإشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام وهو كالحجة على ما قبله.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)(٩٠)

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) فرأى مواقعها واتصالاتها ، أو في علمها أو في كتابها ، ولا منع منه مع أن قصده إيهامهم وذلك حين سألوه أن يعبد معهم.

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أراهم أنه استدل بها لأنهم كانوا منجمين على أنه مشارف للسقم لئلا يخرجوه إلى معبدهم ، فإنه كان أغلب أسقامهم الطاعون وكانوا يخافون العدوى ، أو أراد إني سقيم القلب لكفركم ، أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا قل من يخلو منه أو بصدد الموت ومنه المثل : كفى بالسلامة داء ، وقول لبيد :


فدعوت ربّي بالسّلامة جاهدا

ليصحّني فإذا السّلامة داء

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) هاربين مخافة العدوى.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ)(٩٣)

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) فذهب إليها في خفية من روغة الثعلب وأصله الميل بحيلة. (فَقالَ) أي للأصنام استهزاء. (أَلا تَأْكُلُونَ) يعني الطعام الذي كان عندهم.

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) بجوابي.

(فَراغَ عَلَيْهِمْ) فمال عليهم مستخفيا ، والتعدية بعلى للاستعلاء وإن الميل لمكروه. (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) مصدر «لراغ عليهم» لأنه في معنى ضربهم ، أو لمضمر تقديره فراغ عليهم يضربهم وتقييده باليمين للدلالة على قوته فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل ، وقيل (بِالْيَمِينِ) بسبب الحلف وهو قوله : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ).

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٩٦)

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة وبحثوا عن كاسرها فظنوا أنه هو كما شرحه في قوله : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) الآية. (يَزِفُّونَ) يسرعون من زفيف النعام. وقرى حمزة على بناء المفعول من أزفه أي يحملون على الزفيف. وقرئ «يزفون» أي يزف بعضهم بعضا ، و «يزفون» من وزف يزف إذا أسرع و «يزفون» من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ما تنحتونه من الأصنام.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي وما تعملونه فإن جوهرها بخلقه وشكلها وإن كان بفعلهم ، ولذلك جعل من أعمالهم فبإقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد ، أو عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون ، أو أنه بمعنى الحدث فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك ، وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيهما من حذف أو مجاز.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(٩٨)

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج ، واللام بدل الإضافة أي جحيم ذلك البنيان.

(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) فإنه لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم. (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا نيرا على علو شأنه ، حيث جعل النار عليه بردا وسلاما.

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)(١٠١)

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني ربي وهو الشام ، أو حيث أتجرد فيه لعبادته. (سَيَهْدِينِ) إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي ، وإنما بت القول لسبق وعده أو لفرط توكله ، أو البناء على عادته معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه الصلاة والسلام حين (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) فلذلك ذكر بصيغة التوقع.

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة ، يعني الولد لأن لفظ الهبة غالب فيه ولقوله :


(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) بشره بالولد وبأنه ذكر يبلغ أوان الحلم ، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ويكون حليما وأي حلم مثل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). وقيل ما نعت الله نبيا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما الصلاة والسلام ، وحالهما المذكورة بعد تشهد عليه.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)(١٠٣)

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي فلما وجد وبلغ أن يسعى معه في أعماله ، و (مَعَهُ) متعلق بمحذوف دل عليه (السَّعْيَ) لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا ب (بَلَغَ) فإن بلوغهما لم يكن معا كأنه لمّا قال : فلما بلغ السعي فقيل مع من فقيل معه ، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه ، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة. (قالَ يا بُنَيَ) وقرأ حفص بفتح الياء. (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره ، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر ، والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه‌السلام لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، ولقوله عليه الصلاة والسلام «أنا ابن الذبيحين». فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله ، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله ؛ فالصحيح أنه قال : «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» والزوائد من الراوي. وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما. (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) من الرأي ، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله ، وقرأ حمزة والكسائي (ما ذا تَرى) بضم التاء وكسر الراء خالصة ، والباقون بفتحهما وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها. (قالَ يا أَبَتِ) وقرأ ابن عامر بفتح التاء. (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما تؤمر به فحذفا دفعة ، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإضافة إلى المأمور ، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ولعل الأمر به في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص ، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا. (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) على الذبح أو على قضاء الله ، وقرأ نافع بفتح الياء.

(فَلَمَّا أَسْلَما) استسلما لأمر الله أو سلما الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه ، وقد قرئ بهما وأصلها سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه. (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. وقيل كبه على وجهه بإشارته لئلا يرى فيه تغيرا يرق له فلا يذبحه ، وكان ذلك عند الصخرة بمنى أو في الموضع المشرف على مسجده ، أو المنحر الذي ينحر فيه اليوم.


(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(١٠٦)

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) بالعزم والإتيان بالمقدمات. وقد روي أنه أمر السكين بقوته على حلقه مرارا فلم تقطع ، وجواب «لما» محذوف تقديره كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به المقال ، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله ، وإظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لإفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما ، واحتج به من جوز النسخ قبل وقوعه فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالذبح لقوله (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولم يحصل.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره ، أو المحنة البينة الصعوبة فإنه لا أصعب منها.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(١١٠)

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ) بما يذبح بدله فيتم به الفعل. (عَظِيمٍ) عظيم الجثة سمين ، أو عظيم القدر لأنه يفدي به الله نبيا ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين. قيل كان كبشا من الجنة. وقيل وعلا أهبط عليه من ثبير. وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة ، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإنما قال وفديناه لأن الله المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإسناد ، واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة وليس فيه ما يدل عليه.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سبق بيانه في قصة نوح عليه‌السلام. (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لعله طرح عنه إنا اكتفاء بذكره مرة في هذه القصة.

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣)

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) مقضيا نبوته مقدرا كونه من الصالحين وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة ، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال ، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما مثلا و (بَشَّرْناهُ) بوجود إسحاق أي بأن يوجد إسحاق نبيا من الصالحين ، ومع ذلك لا يصير نظير قوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) فإن الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحاق لم يكن مقدرا نبوة نفسه وصلاحها حينما يوجد ، ومن فسر الذبيح بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوته ، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق.

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ) على إبراهيم في أولاده. (وَعَلى إِسْحاقَ) بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب ، أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، وقرئ «وبركنا». (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) في عمله أو إلى نفسه بالإيمان والطاعة. (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي. (مُبِينٌ) ظاهر ظلمه ، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة وعيب.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ


فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١١٨)

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.

(وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من تغلب فرعون أو الغرق.

(وَنَصَرْناهُمْ) ثم الضمير لهما مع القوم. (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) على فرعون وقومه.

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) البليغ في بيانه وهو التوراة.

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الطريق الموصل إلى الحق والصواب.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٢٢)

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

(إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) سبق مثل ذلك.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)(١٢٦)

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) هو إلياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى بعث بعده. وقيل إدريس لأنه قرئ إدريس وإدراس مكانه وفي حرف أبي رضي الله عنه. «وإن إبليس» وقرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله.

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أتعبدونه أو أتطلبون الخير منه ، وهو اسم صنم كان لأهل بكّ من الشام وهو البلد الذي يقال له الآن بعلبك وقيل البعل الرب بلغة اليمن ، والمعنى أتدعون بعض البعول. (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) وتتركون عبادته ، وقد أشار فيه إلى المقتضى للإنكار المعني بالهمزة ثم صرح به بقوله :

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص بالنصب على البدل.

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(١٢٨)

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي في العذاب ، وإنما أطلقه اكتفاء منه بالقرينة ، أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفا.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) مستثنى من الواو لا من المحضرين لفساد المعنى.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢)

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) لغة في إلياس كسيناء وسينين ، وقيل جمع له مراد به هو وأتباعه كالمهلبين ، لكن فيه أن العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام أو للمنسوب إليه بحذف ياء النسب كالأعجمين وهو قليل ملبس ، وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب على إضافة إل إلى ياسين لأنهما في المصحف مفصولان فيكون ياسين أبا إلياس ، وقيل محمد عليه الصلاة والسلام أو القرآن أو غيره من كتب الله والكل لا يناسب


نظم سائر القصص ولا قوله :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إذ الظاهر أن الضمير لإلياس.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ)(١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٣٨)

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) سبق بيانه.

(وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة. (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) على منازلهم في متاجركم إلى الشأم فإن سدوم في طريقه. (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح.

(وَبِاللَّيْلِ) أي ومساء أو نهارا وليلا ، ولعلها وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساء. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفليس فيكم عقل تعتبرون به.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤)

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وقرئ بكسر النون.

(إِذْ أَبَقَ) هرب ، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء.

(فَساهَمَ) فقارع أهله. (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) فصار من المغلوبين بالقرعة ، وأصله المزلق عن مقام الظفر. روي أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله ، فركب السفينة فوقفت فقالوا : ها هنا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ، فقال أنا الآبق ورمى بنفسه في الماء.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) فابتلعه من اللقمة. (وَهُوَ مُلِيمٌ) داخل في الملامة ، أو آت بما يلام عليها أو مليم نفسه ، وقرئ بالفتح مبنيا من ليم كمشيب في مشوب.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح مدة عمره ، أو في بطن الحوت وهو قوله (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقيل من المصلين.

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) حيا وقيل ميتا ، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ، ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨)

(فَنَبَذْناهُ) بأن حملنا الحوت على لفظه. (بِالْعَراءِ) بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت. روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه ، واختلف في مدة لبثه فقيل بعض يوم وقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة ، وقيل عشرون وقيل أربعون. (وَهُوَ سَقِيمٌ) مما ناله قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أي فوقه مظلة عليه. (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) من شجر ينبسط على وجه الأرض ولا يقوم


على ساقه ، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به ، والأكثر على أنها كانت الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه ، ويدل عليه أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لتحب القرع ، قال : «أجل هي شجرة أخي يونس». وقيل التين وقيل الموز تغطى بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره.

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) هم قومه الذين هرب عنهم وهم أهل نينوى ، والمراد به ما سبق من إرساله أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم. (أَوْ يَزِيدُونَ) في مرأى الناظر أي إذا نظر إليهم ، قال هم مائة ألف أو يزيدون والمراد الوصف بالكثرة وقرئ بالواو.

(فَآمَنُوا) فصدقوه أو فجددوا الإيمان به بمحضره. (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) إلى أجلهم المسمى ، ولعله إنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبر وأولي العزم من الرسل ، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(١٥٢)

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) معطوف على مثله ، في أول السورة أمر رسوله أولا باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث ، وساق الكلام في تقريره جارا لما يلائمه من القصص موصولا بعضها ببعض ، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم : الملائكة بنات الله ، وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر ، التجسيم وتجويز الفناء على الله تعالى ، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة ، وتفضيل أنفسهم عليه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم ، واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكار ذلك وإبطاله في كتابه مرارا ، وجعله مما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) ، والإنكار ها هنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما ، أو لأن فسادهما مما تدركه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل للاستفهام عن التقسيم.

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) وإنما خص علم المشاهدة لأن أمثال ذلك لا تعلم إلا بها ، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء ، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يبتون به كأنهم قد شاهدوا خلقهم.

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) لعدم ما يقتضيه وقيام ما ينفيه. (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يتدينون به ، وقرئ «ولد الله» أي الملائكة ولده ، فعل بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٥٧)

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) استفهام إنكار واستبعاد ، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء ، وعن نافع كسر الهمزة على حذف حرف الاستفهام لدلالة أم بعدها عليها أو على الإثبات بإضمار القول أي : لكاذبون في قولهم اصطفى ، أو إبداله من (وَلَدَ اللهُ).

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بما لا يرتضيه عقل.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أنه منزه عن ذلك.

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته.


(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل عليكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ(١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(١٦٠)

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) يعني الملائكة ذكرهم باسم جنسهم وضعا منهم أن يبلغوا هذه المرتبة ، وقيل قالوا إن الله تعالى صاهر الجن فخرجت الملائكة ، وقيل قالوا الله والشياطين إخوان. (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) إن الكفرة أو الإنس والجن إن فسرت بغير الملائكة (لَمُحْضَرُونَ) في العذاب.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والنسب.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء من المحضرين منقطع ، أو متصل إن فسر الضمير بما يعمهم وما بينهما اعتراض أو من (يَصِفُونَ).

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ)(١٦٣)

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) عود إلى خطابهم.

(ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) على الله. (بِفاتِنِينَ) مفسدين الناس بالإغواء.

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) إلّا من سبق في علمه أنه من أهل النار ويصلاها لا محالة ، و (أَنْتُمْ) ضمير لهم ولآلهتهم غلب فيه المخاطب على الغائب ، ويجوز أن يكون (وَما تَعْبُدُونَ) لما فيه من معنى المقارنة سادا مسد الخبر أي إنكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها ، ما أنتم على ما تعبدونه بفاتنين بباعثين على طريق الفتنة إلا ضالا مستوجبا للنار مثلكم ، وقرئ «صال» بالضم على أنه جمع محمول على معنى من ساقط واوه لالتقاء الساكنين ، أو تخفيف صائل على القلب كشاك في شائك ، أو المحذوف منه كالمنسي كما في قولهم : ما باليت به بالة ، فإن أصلها بالية كعافية.

(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦)

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم والمعنى : وما منا أحد إلا له مقام معلوم في المعرفة والعبادة والانتهاء إلى أمر الله في تدبير العالم ، ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله (سُبْحانَ اللهِ) من كلامهم ليتصل بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) كأنه قال ولقد علمت الملائكة أن المشركين معذبون بذلك وقالوا (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له عنه ، ثم استثنوا (الْمُخْلَصِينَ) تبرئة لهم منه ، ثم خاطبوا المشركين بأن الافتتان بذلك للشقاوة المقدرة ، ثم اعترفوا بالعبودية وتفاوت مراتبهم فيه لا يتجاوزونها فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) في أداء الطاعة ومنازل الخدمة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) المنزهون الله عما لا يليق به ، ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف ، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة دون غيرهم. وقيل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين والمعنى : وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله يوم القيامة ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) له في الصلاة والمنزهون له عن السوء.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ(١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(١٧٠)


(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) أي مشركو قريش.

(لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) كتابا من الكتب التي نزلت عليهم.

(لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) لأخلصنا العبادة له ولم نخالف مثلهم.

(فَكَفَرُوا بِهِ) أي لما جاءهم الذكر الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)(١٧٥)

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) أي وعدنا لهم النصر والغلبة وهو قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ).

(وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) وهو باعتبار الغالب والمقضى بالذات ، وإنما سماه كلمة وهي كلمات لانتظامهم في معنى واحد.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عنهم. (حَتَّى حِينٍ) هو الموعد لنصرك عليهم وهو يوم بدر ، وقيل يوم الفتح.

(وَأَبْصِرْهُمْ) على ما ينالهم حينئذ والمراد بالأمر الدلالة على أن ذلك كائن قريب كأنه قدامه. (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ما قضينا لك من التأييد والنصرة والثواب في الآخرة ، و «سوف» للوعيد لا للتبعيد.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)(١٧٩)

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) روي أنه لما نزل (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) قالوا متى هذا فنزلت.

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) فإذا نزل العذاب بفنائهم ، شبهه بجيش هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة ، وقيل الرسول وقرئ (نَزَلَ) على إسناده إلى الجار والمجرور و (نَزَلَ) أي العذاب. (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) فبئس صباح المنذرين صباحهم ، واللام للجنس وال (صَباحُ) مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ، ولما كثر فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تأكيد إلى تأكيد وإطلاق بعد تقييد للاشعار بأنه يبصر وأنهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من أصناف المسرة وأنواع المساءة ، أو الأول لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الآخرة.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) عما قاله المشركون فيه على ما حكي في السورة ، وإضافة الرب إلى العزة لاختصاصها به إذ لا عزة إلا له أو لمن أعزه ، وقد أدرج فيه جملة صفاته السلبية والثبوتية مع الإشعار بالتوحيد.

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما أفاض عليهم وعلى من اتبعهم من النعم وحسن العاقبة ولذلك


أخره عن التسليم ، والمراد تعليم المؤمنين كيف يحمدونه ويسلمون على رسله. وعن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربك إلى آخر السورة.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ «والصافات» أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الجن والشياطين ، وبرىء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين».


(٣٨) سورة ص

مكية وآيها ست أو ثمان وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ)(٢)

(ص) وقرئ بالكسر لالتقاء الساكنين ، وقيل إنه أمر من المصاداة بمعنى المعارضة ، ومنه الصدى فإنه يعارض الصوت الأول أي عارض القرآن بعملك ، وبالفتح لذلك أو لحذف حرف القسم وإيصال فعله إليه ، أو إضماره والفتح في موضع الجر فإنها غير مصروفة لأنها علم السورة وبالجر والتنوين على تأويل الكتاب. (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) الواو للقسم إن جعل (ص) اسما للحرف أو مذكور للتحدي ، أو للرمز بكلام مثل صدق محمد عليه الصلاة والسلام ، أو للسورة خبر المحذوف أو لفظ الأمر ، وللعطف إن جعل مقسما به كقولهم : الله لأفعلن بالجر والجواب محذوف دل عليه ما في (ص) من الدلالة على التحدي ، أو الأمر بالمعادلة أي إنه لمعجز أو لواجب العمل به ، أو إن محمدا لصادق أو قوله :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) به. (فِي عِزَّةٍ) أي استكبار عن الحق. (وَشِقاقٍ) خلاف لله ورسوله ولذلك كفروا به ، وعلى الأولين الإضراب أيضا من الجواب المقدر ولكن من حيث إشعاره بذلك والمراد بالذكر العظة أو الشرف والشهرة ، أو ذكر ما يحتاج اليه في الدين من العقائد والشرائع والمواعيد ، والتنكير في (عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) للدلالة على شدتهما ، وقرئ في «غرة» أي غفلة عما يجب عليهم النظر فيه.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)(٣)

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) وعيد لهم على كفرهم به استكبارا وشقاقا. (فَنادَوْا) استغاثة أو توبة أو استغفارا. (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي ليس الحين حين مناص ، ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم ، وخصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين ، وقيل هي النافية للجنس أي ولا حين مناص لهم ، وقيل للفعل والنصب بإضماره أي ولا أرى حين مناص ، وقرئ بالرفع على أنه اسم لا أو مبتدأ محذوف الخبر أي ليس حين مناص حاصلا لهم ، أو لا حين مناص كائن لهم وبالكسر كقوله :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أنّ لات حين بقاء

إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر في قوله : لولاك هذا العام لم أحجج ، أو لأن أوان شبه باذ لأنه مقطوع عن الإضافة إذ أصله أوان صلح ، ثم حمل عليه (مَناصٍ) تنزيلا لما أضيف إليه الظرف منزلته لما بينهما من الاتحاد ، إذ أصله يحن مناصهم ثم بنى الحين لإضافته إلى غير متمكن (وَلاتَ) بالكسر كجير ، وتقف الكوفية عليها بالهاء كالأسماء والبصرية بالتاء كالأفعال. وقيل إن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الامام ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس إذ مثله لم يعهد فيه ، والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل ولقوله :


العاطفون تحين لا من عاطف

والمطعمون زمان ما من مطعم

والمناص المنجا من ناصه ينوصه إذا فاته.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥)

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) بشر مثلهم أو أمي من عدادهم. (وَقالَ الْكافِرُونَ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم ، وإشعارا بأن كفرهم جسرهم على هذا القول. (هذا ساحِرٌ) فيما يظهره معجزة. (كَذَّابٌ) فيما يقوله على الله تعالى.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بأن جعل الألوهية التي كانت لهم لواحد. (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ، وما نشاهده من أن الواحد لا يفي علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة ، وقرئ مشددا وهو أبلغ ككرام وكرام. وروي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش ، فأتوا أبا طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل عليهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : ماذا يسألونني ، فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر ، آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال : «أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» ، فقالوا : نعم وعشرا ، فقال : «قولوا لا إله إلا الله» ، فقالوا وقالوا ذلك.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ) (٧)

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَنِ امْشُوا) قائلين بعضهم لبعض (امْشُوا). (وَاصْبِرُوا) واثبتوا. (عَلى آلِهَتِكُمْ) على عبادتها فلا ينفعكم مكالمته ، و (أَنِ) هي المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول. وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع في القول ، و (امْشُوا) من مشت المرأة إذا كثرت أولادها ومنه الماشية أي اجتمعوا ، وقرئ بغير (أَنِ) وقرئ «يمشون أن اصبروا». (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) إن هذا الأمر لشيء من ريب الزمان يراد بنا فلا مرد له ، أو أن هذا الذي يدعيه من التوحيد أو يقصده من الرئاسة ، والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد ، أو أن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم.

(ما سَمِعْنا بِهذا) بالذي يقوله. (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) في الملة التي أدركنا عليها آباءنا ، أو في ملة عيسى عليه الصلاة والسلام التي هي آخر الملل فإن النصارى يثلثون. ويجوز أن يكون حالا من هذا أي ما سمعنا من أهل الكتاب ولا الكهان بالتوحيد كائنا في الملة المترقبة. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) كذب اختلقه.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ)(٩)

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) إنكار لاختصاصه بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرئاسة كقولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وأمثال ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) من القرآن أو الوحي لميلهم إلى


التقليد وإعراضهم عن الدليل ، وليس في عقيدتهم ما يبتون به من قولهم (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ)(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) بل لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم ، والمعنى أنهم لا يصدقون به حتى يمسهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) بل أعندهم خزائن رحمته وفي تصرفهم حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا فيتخير للنبوة بعض صناديدهم ، والمعنى أن النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع له فإنه العزيز أي الغالب الذي لا يغلب ، الوهاب الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء ، ثم رشح ذلك فقال :

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)(١١)

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) كأنه لما أنكر عليهم التصرف في نبوته بأن ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها ، أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها. (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم ، فينزلوا الوحي إلى من يستصوبون. وهو غاية التهكم بهم ، والسبب في الأصل هو الوصلة ، وقيل المراد بالأسباب السموات لأنها أسباب الحوادث السفلية.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل (مَهْزُومٌ) مكسور عما قريب فمن أين لهم التدابير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية ، أو فلا تكترث بما يقولون و (ما) مزيدة للتقليل كقولك أكلت شيئا ما ، وقيل للتعظيم على الهزء وهو لا يلائم ما بعده ، وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) (١٤)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) ذو الملك الثابت بالأوتاد كقوله :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد

مأخوذ من ثبات البيت المطنب بأوتاده ، أو ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا كالوتد يشد البناء. وقيل نصب أربع سوار وكان يمد يدي المعذب ورجليه إليها ويضرب عليها أوتادا ويتركه حتى يموت.

(وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وأصحاب الغيضة وهم قوم شعيب ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «ليكة». (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) يعني المتحزبين على الرسل الذين جعل الجند المهزوم منهم.

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام مشتمل على أنواع من التأكيد ليكون تسجيلا على استحقاقهم للعذاب ، ولذلك رتب عليه : (فَحَقَّ عِقابِ) وهو إما مقابلة الجمع بالجمع أو جعل تكذيب الواحد منهم تكذيب جميعهم.


(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)(١٦)

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) وما ينتظر قومك أو الأحزاب فإنهم كالحضور لاستحضارهم بالذكر ، أو حضورهم في علم الله تعالى : (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي النفخة الأولى. (ما لَها مِنْ فَواقٍ) من توقف مقدار فواق وهو ما بين الحلبتين ، أو رجوع وترداد فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع ، وقرأ حمزة والكسائي بالضم وهما لغتان.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) قسطنا من العذاب الذي توعدنا به ، أو الجنة التي تعدها للمؤمنين وهو من قطه إذا قطعه ، وقيل لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس وقد فسر بها أي : عجل لنا صحيفة أعمالنا للنظر فيها. (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) استعجلوا ذلك استهزاء.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)(١٨)

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) واذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم ، فإنه مع علو شأنه واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات لما أتى صغيرة نزل عن منزلته ووبخه الملائكة بالتمثيل والتعريض حتى تفطن فاستغفر ربه وأناب فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان ، أو تذكر قصته وصن نفسك أن تزل فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهمال عنان نفسه أدنى إهمال. (ذَا الْأَيْدِ) ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وآد وأياد بمعنى. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجاع إلى مرضاة الله تعالى ، وهو تعليل ل (الْأَيْدِ) ودليل على أن المراد به القوة في الدين ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ويقوم نصف الليل.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) قد مر تفسيره ، و (يُسَبِّحْنَ) حال وضع موضع مسبحات لاستحضار الحال الماضية والدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال. (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) ووقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس أي تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها يقال شرقت الشمس ولما تشرق. وعن أم هانئ رضى الله عنها : انه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الضحى وقال «هذه صلاة الإشراق». وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)(٢٠)

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) إليه من كل جانب ، وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين لأن الحشر جملة أدل على القدرة منه مدرجا ، وقرئ «والطير محشورة» بالمبتدأ والخبر. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح ، والفرق بينه وبين ما قبله أنه يدل على الموافقة في التسبيح وهذا على المداومة عليها ، أو كل منهما ومن داود عليه‌السلام مرجع لله التسبيح.

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) وقويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ، وقرئ بالتشديد للمبالغة. قيل : إن رجلا ادعى بقرة على آخر وعجز عن البيان ، فأوحى إليه أن اقتل المدعى عليه فأعلمه فقال : صدقت إني قتلت أباه وأخذت البقرة فعظمت بذلك هيبته. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) النبوة أو كمال العلم وإتقان العمل. (وَفَصْلَ الْخِطابِ) وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل ، أو الكلام المخلص الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف ، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ونحوها ، وإنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق مقدمة له من الحمد والصلاة ، وقيل هو الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام الرسول عليه الصلاة والسلام «فصل لا نزر ولا هذر».


(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣)

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) استفهام معناه التعجيب والتشويق إلى استماعه ، والخصم في الأصل مصدر ولذلك أطلق على الجمع. (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) إذ تصعدوا سور الغرفة ، تفعل من السور كتسنم من السنام ، وإذ متعلق بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم (إِذْ تَسَوَّرُوا) ، أو بالنبإ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه‌السلام ، وأن إسناد أتى إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لأن إتيانه الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن حينئذ و (إِذْ) الثانية في (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) بدل من الأولى أو ظرف ل (تَسَوَّرُوا). (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) لأنهم نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان جزأ زمانه : يوما للعبادة ، ويوما للقضاء ، ويوما للوعظ ، ويوما للاشتغال بخاصته ، فتسور عليه ملائكة على صورة الإنسان في يوم الخلوة. (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) نحن فوجان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصما. (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) وهو على الفرض وقصد التعريض إن كانوا ملائكة وهو المشهور. (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) ولا تجر في الحكومة ، وقرئ «ولا تشطط» أي ولا تبعد عن الحق ولا تشطط ولا تشاط ، والكل من معنى الشطط وهو مجاوزة الحد. (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي إلى وسطه وهو العدل.

(إِنَّ هذا أَخِي) بالدين أو بالصحبة. (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة ، والكناية والتمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود ، وقرئ «تسع وتسعون» بفتح التاء ونعجة بكسر النون ، وقرأ حفص بفتح ياء (لِيَ نَعْجَةٌ). (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي. (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) وغلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده ، أو في مغالبته إياي في الخطبة يقال : خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا حيث زوجها دوني ، وقرئ «وعازني» أي غالبني «وعزني» على تخفيف غريب.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)(٢٤)

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه ولعله قال ذلك بعد اعترافه ، أو على تقدير صدق المدعي والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط (لَيَبْغِي) ليتعدى. (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها كقوله : اضرب عنك الهموم طارقها. وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وهم قليل ، و (ما) مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم. (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) لذنبه. (وَخَرَّ راكِعاً) ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه ، أو خر للسجود راكعا أي مصليا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار. (وَأَنابَ) ورجع إلى الله بالتوبة ، وأقصى ما في هذه القضية الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ود أن يكون له ما لغيره ، وكان له أمثاله فنبهه الله بهذه القصة فاستغفر وأناب عنه. وما روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها وسعى حتى تزوجها وولدت منه سليمان ، إن صح فلعله خطب مخطوبته أو استنزله عن زوجته ، وكان ذلك معتادا فيما بينهم وقد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى. وما قيل إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارا وأمر أن يقدم حتى قتل فتزوجها هزء وافتراء ، ولذلك قال علي رضي الله عنه : من حدث بحديث داود عليه


السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين. وقيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم غرضهم وأراد أن ينتقم منهم ، فظن أن ذلك ابتلاء من الله له (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) مما همّ به (وَأَنابَ).

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦)

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ما استغفر عنه. (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) لقربة بعد المغفرة. (وَحُسْنَ مَآبٍ) مرجع في الجنة.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) استخلفناك على الملك فيها ، أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) بحكم الله. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) ما تهوى النفس ، وهو يؤيد ما قيل إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته. (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دلائله التي نصبها على الحق. (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن السبيل ، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢٩)

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) خلقا باطلا لا حكمة فيه ، أو ذوي باطل بمعنى مبطلين عابثين كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أو للباطل الذي هو متابعة الهوى ، بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) على وضعه موضع المصدر مثل هنيئا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الإشارة إلى خلقها باطلا والظن بمعنى المظنون. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) بسبب هذا الظن.

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ) منقطعة والاستفهام فيها لإنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلا ليدل على نفيه وكذا التي في قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) كأنه أنكر التسوية أولا بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم ، ويجوز أن يكون تكريرا للإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم ، والآية تدل على صحة القول بالحشر ، فإن التفاضل بينهما إما أن يكون في الدنيا والغالب فيها عكس ما يقتضي الحكمة فيه ، أو في غيرها وذلك يستدعي أن يكون لهم حالة أخرى يجازون فيها.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) نفاع ، وقرئ بالنصب على الحال. (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) ليتفكروا فيها فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة. وقرئ «ليتدبروا» على الأصل و «لتدبروا» أي أنت وعلماء أمتك. (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) وليتعظ به ذوو العقول السليمة ، أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل ، فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع ، وإرشاد إلى ما يستقل به العقل ، ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر الثاني.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٣١)


(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) أي نعم العبد سليمان إذ ما بعده تعليل للمدح وهو من حاله. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجاع إلى الله بالتوبة ، أو إلى التسبيح مرجع له.

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) ظرف ل (أَوَّابٌ) أو ل (نِعْمَ) ، والضمير ل (سُلَيْمانَ) عند الجمهور (بِالْعَشِيِ) بعد الظهر (الصَّافِناتُ) الصافن من الخيل الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل ، وهو من الصفات المحمودة في الخيل الذي لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص. (الْجِيادُ) جمع جواد أو جود ، وهو الذي يسرع في جريه وقيل الذي يجود في الركض ، وقيل جمع جيد. روي أنه عليه الصلاة والسلام غزا دمشق ونصيبين وأصاب ألف فرس ، وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر ، أو عن ورد كان له فاغتم لما فاته فاستردها فعقرها تقربا لله.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)(٣٣)

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أصل (أَحْبَبْتُ) أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت عدي تعديته ، وقيل هو بمعنى تقاعدت من قوله :

مثل بعير السّوء إذا أحبّا

أي برك ، و (حُبَّ الْخَيْرِ) مفعول له والخير المال الكثير ، والمراد به الخيل التي شغلته ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها. قال عليه الصلاة والسلام «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة». وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء. (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي غربت الشمس ، شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها.

(رُدُّوها عَلَيَ) الضمير ل (الصَّافِناتُ). (فَطَفِقَ مَسْحاً) فأخذ بمسح السيف مسحا. (بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي بسوقها وأعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه ، وقيل جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبالها ، وعن ابن كثير «بالسؤق» على همز الواو لضمة ما قبلها كمؤقن ، وعن أبي عمرو «بالسؤوق» وقرئ «بالساق» اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الإلباس.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ)(٣٤)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) وأظهر ما قيل فيه ما روى مرفوعا «أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل ، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا». وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك ، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على الله. وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة ، فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها ، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه ، فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكيا متضرعا ، وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه ، فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته ، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوما عدد ما عبدت الصورة في بيته ، فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجدا


وعاد إليه الملك ، فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلا بما لم يكن كذلك ، والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ ، وسجود الصورة بغير علمه لا يضره.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(٣٥)

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي ، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة ، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة ، وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ووجوب تقديم ما يجعل الدعاء بصدد الإجابة. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي ما تشاء لمن تشاء.

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ)(٣٨)

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) فذللناها لطاعته إجابة لدعوته وقرئ «الرياح». (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) لينة من الرخاوة لا تزعزع ، أو لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد. (حَيْثُ أَصابَ) أراد من قولهم أصاب الصواب فأخطأ الجواب.

(وَالشَّياطِينَ) عطف على (الرِّيحَ). (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) بدل منه.

(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) عطف على (كُلَ) كأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ، ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر ، ولعل أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى ويمكن تقييدها ، هذا والأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالإقران في الصفد وهو القيد ، وسمي به العطاء لأنه يرتبط به المنعم عليه. وفرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد وفي ذلك نكتة.

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(٤٠)

(هذا عَطاؤُنا) أي هذا الذي أعطيناك من الملك والبسطة والتسلط على ما لم يسلط به غيرك عطاؤنا. (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) فأعط من شئت وامنع من شئت. (بِغَيْرِ حِسابٍ) حال من المستكن في الأمر ، أي غير محاسب على منه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك أو من العطاء أو صلة له وما بينهما اعتراض. والمعنى أنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره ، وقيل الإشارة إلى تسخير الشياطين ، والمراد بالمن والإمساك إطلاقهم وإبقاءهم في القيد.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا. (وَحُسْنَ مَآبٍ) هو الجنة.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٤٤)

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات الله عليه. (إِذْ نادى رَبَّهُ) بدل من (عَبْدَنا) و (أَيُّوبَ) عطف بيان له. (أَنِّي مَسَّنِيَ) بأني مسني ، وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل. (الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ) بتعب. (وَعَذابٍ) ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي


لقال إنه مسه ، والإسناد إلى (الشَّيْطانُ) إما لأن الله مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه ، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه ، أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب ، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم ، أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع ، وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر ، وقرئ بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) حكاية لما أجيب به أي اضرب برجلك الأرض. (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي فضربها فنبعت عين فقيل هذا مغتسل أي ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك ، وقيل نبعت عينان حارة وباردة فاغتسل من الحارة وشرب من الأخرى.

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم ، وقيل وهبنا له مثلهم. (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) حتى كان له ضعف ما كان. (رَحْمَةً مِنَّا) لرحمتنا عليه (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجأ إلى الله فيما يحيق بهم.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) عطف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه. (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل رحمة بنت افراثيم بن يوسف ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برىء ضربها مائة ضربة ، فحلل الله يمينه بذلك وهي رخصة باقية في الحدود. (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) فيما أصابه في النفس والأهل والمال ، ولا يخل به شكواه إلى الله من الشيطان فإنه لا يسمى جزعا كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك خيفة أن يفتنه أو قومه في الدين. (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيوب. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) مقبل بشراشره على الله تعالى.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ)(٤٧)

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وقرأ ابن كثير عبدنا وضع الجنس موضع الجمع ، أو على أن (إِبْراهِيمَ) وحده لمزيد شرفه عطف بيان له ، (وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) عطف عليه. (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين ، أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة ، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها ، وفيه تعريض بالبطلة الجهال أنهم كالزمنى والعماة.

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لا شوب فيها هي : (ذِكْرَى الدَّارِ) تذكرهم الدار الآخرة دائما فإن خلوصهم في الطاعة بسببها ، وذلك لأن مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه وذلك في الآخرة ، وإطلاق (الدَّارِ) للإشعار بأنها الدار الحقيقة والدنيا معبر ، وأضاف نافع وهشام (بِخالِصَةٍ) إلى (ذِكْرَى) للبيان أو لأنه مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير جمع خير كشر وأشرار. وقيل جمع خير أو خير على تخفيفه كأموات في جمع ميت أو ميت.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)(٤٨)

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) هو ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ ، واللام فيه كما في قوله : رأيت الوليد بن اليزيد مباركا. وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» تشبيها بالمنقول من ليسع من اللسع. (وَذَا


الْكِفْلِ) ابن عم يسع أو بشر بن أيوب. واختلف في نبوته ولقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم ، وقيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة (وَكُلٌ) أي وكلهم. (مِنَ الْأَخْيارِ).

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) (٥١)

(هذا) إشارة إلى ما تقدم من أمورهم. (ذِكْرٌ) شرف لهم ، أو نوع من الذكر وهو القرآن. ثم شرع في بيان ما أعد لهم ولأمثالهم فقال : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) مرجع.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) عطف بيان (لَحُسْنَ مَآبٍ) وهو من الأعلام الغالبة لقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) وانتصب عنها. (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) على الحال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ، وقرئتا مرفوعتين على الابتداء والخبر أو أنهما خبران لمحذوف.

(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في لهم لا من المتقين للفصل ، والأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها ومتكئين حال من ضميره ، والاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ ، فإن التغذي للتحلل ولا تحلل ثمة.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ)(٥٤)

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) لا ينظرون إلى غير أزواجهن. (أَتْرابٌ) لذات لهم فإن التحاب بين الأقران أثبت ، أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن ولا صبية ، واشتقاقه من التراب فإنه يمسهن في وقت واحد.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء ليوافق ما قبله.

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) انقطاع.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ)(٥٨)

(هذا) أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا. (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ).

(جَهَنَّمَ) إعرابه ما سبق. (يَصْلَوْنَها) حال من جهنم. (فَبِئْسَ الْمِهادُ) المهد والمفترش ، مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف وهو (جَهَنَّمَ) لقوله (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ).

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) ، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ، أو العذاب هذا فليذوقوه ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره : (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) وهو على الأولين خبر محذوف أي هو (حَمِيمٌ) ، والغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي (غَسَّاقٌ) بتشديد السين.

(وَآخَرُ) أي مذوق أو عذاب آخر ، وقرأ البصريان «وأخرى» أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر. (مِنْ شَكْلِهِ) من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة ، وتوحيد الضمير على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق. وقرئ بالكسر وهو لغة. (أَزْواجٌ) أجناس خبر ل (آخَرُ) أو صفة له أو للثلاثة ، أو مرتفع بالجار والخبر محذوف مثل لهم.


(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ)(٦١)

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال ، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها. (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء من المتبوعين على أتباعهم أو صفة ل (فَوْجٌ) ، أو حال أي مقولا فيهم لا مرحبا أي ما أتوا بهم رحبا وسعة. (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) داخلون النار بأعمالهم مثلنا.

(قالُوا) أي الأتباع للرؤساء. (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) بل أنتم أحق بما قلتم ، أو قيل لنا لضلالكم وإضلالكم كما قالوا : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) قدمتم العذاب أو الصلي لنا بإغوائنا وإغرائنا على ما قدمتموه من العقائد الزائغة والأعمال القبيحة. (فَبِئْسَ الْقَرارُ) فبئس المقر جهنم.

(قالُوا) أي الأتباع أيضا. (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) مضاعفا أي ذا ضعف وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين كقوله (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ).

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ(٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)(٦٤)

(وَقالُوا) أي الطاغوت. (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ويسخرون بهم.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) صفة أخرى ل (رِجالاً) ، وقرأ الحجازيان وابن عامر وعاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي (سِخْرِيًّا) بالضم وقد سبق مثله في «المؤمنين». (أَمْ زاغَتْ) مالت. (عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) فلا نراهم و (أَمْ) معادلة ل (ما لَنا لا نَرى) على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا : أليسوا ها هنا أم زاغت عنهم أبصارنا ، أو لاتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم ، فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم ، أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم.

(إِنَّ ذلِكَ) الذي حكيناه عنهم. (لَحَقٌ) لا بد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) وهو بدل من لحق أو خبر محذوف ، وقرئ بالنصب على البدل من ذلك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)(٦٦)

(قُلْ) يا محمد للمشركين. (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أنذركم عذاب الله. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) الذي لا يقبل الشركة والكثرة في ذاته. (الْقَهَّارُ) لكل شيء يريد قهره.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) منه خلقها وإليه أمرها. (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب إذا عاقب. (الْغَفَّارُ) الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء ، وفي هذه الأوصاف تقرير للتوحيد ووعد ووعيد للموحدين والمشركين ، وتثنية ما يشعر بالوعيد وتقديمه لأن المدعو به هو الإنذار.

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ(٦٩) إِنْ


يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٧٠)

(قُلْ هُوَ) أي ما أنبأتكم به من أني نذير من عقوبة من هذه صفته وأنه واحد في ألوهيته ، وقيل ما بعده من نبأ آدم. (نَبَأٌ عَظِيمٌ).

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة ، أما على التوحيد فما مرّ وأما على النبوة فقوله :

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فإن إخباره عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصوّر إلا بالوحي ، و (إِذْ) متعلق ب (عِلْمٍ) أو بمحذوف إذ التقدير من علم بكلام الملأ الأعلى.

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقا لقوله (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) ويجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه ، وقرئ إنما بالكسر على الحكاية.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٧٤)

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) مبين له فإن القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق آدم عليه‌السلام ، واستحقاقه للخلافة والسجود على ما مر في «البقرة» ، غير أنها اختصرت اكتفاء بذلك واقتصارا على ما هو المقصود منها ، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي عليه الصلاة والسلام بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم عليه‌السلام ، هذا ومن الجائز أن يكون مقاولة الله تعالى إياهم بواسطة ملك ، وأن يفسر «الملأ الأعلى» بما يعم الله تعالى والملائكة.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) عدلت خلقته. (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وأحييته بنفخ الروح فيه ، وإضافته الى نفسه لشرفه وطهارته. (فَقَعُوا لَهُ) فخروا له. (ساجِدِينَ) تكرمة وتبجيلا له وقد مر الكلام فيه في «البقرة».

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).

(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) تعظم. (وَكانَ) وصار. (مِنَ الْكافِرِينَ) باستنكاره أمر الله تعالى واستكباره عن المطاوعة ، أو كان منهم في علم الله تعالى.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٧٦)

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) خلقته بنفسي من غير توسط كأب وأم ، والتثنية لما في خلقه من مزيد القدرة واختلاف الفعل ، وقرئ على التوحيد وترتيب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم ، أو بأنه الذي تشبث به في تركه وهو لا يصلح مانعا إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص. (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) تكبرت من غير استحقاق أو كنت ممن علا واستحق التفوق ، وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين ، وقرئ «استكبرت» بحذف الهمزة لدلالة (أَمْ) عليها أو بمعنى الإخبار.


(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) إبداء للمانع وقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) دليل عليه وقد سبق الكلام فيه.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(٨١)

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من الجنة أو من السماء ، أو من الصورة الملكية. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من الرحمة ومحل الكرامة.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) مر بيانه في «الحجر».

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ(٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(٨٥)

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ) فبسلطانك وقهرك. (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لطاعته وعصمهم من الضلالة ، أو أخلصوا قلوبهم لله على اختلاف القراءتين.

(قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي فأحق الحق وأقوله ، وقيل «الحق» الأول اسم الله نصبه بحذف حرف القسم كقوله : إنّ عليك الله أن تبايعا.

وجوابه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وما بينهما اعتراض وهو على الأول جواب محذوف والجملة تفسير ل (الْحَقَ) المقول ، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول على الابتداء أي الحق يميني أو قسمي ، أو الخبر أي أنا (الْحَقَ) ، وقرئا مرفوعين على حذف الضمير من أقول كقوله : كله لم أصنع. ومجرورين على إضمار حرف القسم في الأول وحكاية لفظ المقسم به في الثاني للتأكيد ، وهو سائغ فيه إذا شارك الأول وبرفع الأول وجره ونصب الثاني وتخريجه على ما ذكرناه ، والضمير في منهم للناس إذ الكلام فيهم والمراد بمنك من جنسك ليتناول الشياطين ، وقيل للثقلين وأجمعين تأكيد له أو للضميرين.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(٨٨)

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي على القرآن أو تبليغ الوحي. (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) المتصفين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي فأنتحل النبوة ، وأتقول القرآن.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة. (لِلْعالَمِينَ) للثقلين. (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) وهو ما فيه من الوعد والوعيد ، أو صدقه بإتيان ذلك. (بَعْدَ حِينٍ) بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وفيه تهديد.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (ص) كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات ، وعصمه الله أن يصر على ذنب صغير أو كبير».


(٣٩) سورة الزمر

مكية إلا قوله : (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية

وآيها خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)(٢)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره. (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وهو على الأول صلة ل (تَنْزِيلُ) ، أو خبر ثان أو حال عمل فيها معنى الإشارة أو ال (تَنْزِيلُ) ، والظاهر أن (الْكِتابِ) على الأول السورة وعلى الثاني القرآن ، وقرئ «تنزيل» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ملتبسا بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله. (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ممحضا له الدين من الشرك والرياء ، وقرئ برفع «الدين» على الاستئناف لتعليل الأمر وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكدا وإجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال :

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ)(٣)

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة ، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم ، وهو مبتدأ خبره على الأول. (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) بإضمار القول. (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) وهو متعين على الثاني ، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالا أو بدلا من الصلة و (زُلْفى) مصدر أو حال ، وقرئ «قالوا ما نعبدهم» و «ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و «نعبدهم» بضم النون اتباعا. (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم ، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) لا يوفق للاهتداء إلى الحق. (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) فإنهما فاقدا البصيرة.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)(٥).


(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) كما زعموا. (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوقه لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه ، ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الوالد له ثم قرر ذلك بقوله : (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للوحدة الذاتية ، وهي تنافي المماثلة فضلا عن التوالد لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة ، والتعين المخصوص والقهارية المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد ، ثم استدل على ذلك بقوله :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس ، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو يجعله كارا عليه كرورا متتابعا تتابع أكوار العمامة. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) هو منتهى دوره أو منقطع حركته. (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء. (الْغَفَّارُ) حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦)

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوءا به من خلق الإنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب ، وفيه على ما ذكره ثلاث دلالات : خلق آدم أولا من غير أب وأم ، ثم خلق حواء من قصيراه ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما. و (ثُمَ) للعطف على محذوف هو صفة (نَفْسٍ) مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها ، أو على (خَلَقَكُمْ) لتفاوت ما بين الآيتين ، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية. وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) وقضى أو قسم لكم ، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار. (مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ذكرا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) بيان لكيفية ما ذكر من الأناسى والأنعام إظهارا لما فيها من عجائب القدرة ، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون. (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف. (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن. (ذلِكُمُ) الذي هذه أفعاله. (اللهُ رَبُّكُمْ) هو المستحق لعبادتكم والمالك. (لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا يشاركه في الخلق غيره. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٧)

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) عن إيمانكم. (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) لاستضرارهم به رحمة عليهم. (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه سبب فلا حكم ، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك ، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمحاسبة والمجازاة. (إِنَّهُ عَلِيمٌ


بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ)(٨)

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) لزوال ما ينازع العقل في الدلالة على أن مبدأ الكل منه. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أعطاه من الخول وهو التعهد ، أو الخول وهو الافتخار. (نِعْمَةً مِنْهُ) من الله. (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) أي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ، أو ربه الذي كان يتضرع إليه و (ما) ؛ مثل الذي في قوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). (مِنْ قَبْلُ) من قبل النعمة. (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء ، والضلال والإضلال لما كانا نتيجة جعله صح تعليله بهما وإن لم يكونا غرضين. (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له ، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) على سبيل الاستئناف للمبالغة.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٩)

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) قائم بوظائف الطاعات. (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته وأم متصلة بمحذوف تقديره الكافر خير أم من هو قانت ، أو منقطعة والمعنى بل (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) كمن هو بضده ، وقرأ الحجازيان وحمزة بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت لله كمن جعل له أندادا. (ساجِداً وَقائِماً) حالان من ضمير (قانِتٌ) ، وقرئا بالرفع على الخبر بعد الخبر والواو للجمع بين الصفتين (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم. وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) بأمثال هذه البيانات ، وقرئ «يذكر» بالإدغام.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١٠)

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بلزوم طاعته. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة. وقيل معناه للذين أحسنوا حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية ، وفي هذه بيان لمكان (حَسَنَةٌ). (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مشاق الطاعات من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لها. (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أجرا لا يهتدي إليه حساب الحساب ، وفي الحديث إنه «ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم ، ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صبا حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل».

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٣)


(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) موحدا له.

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ، لأن قصب السبق في الدين بالإخلاص أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من قريش ومن دان بدينهم ، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة ، والإشعار بأن العبادة المقرونة بالإخلاص وإن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها فهي أيضا تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين ، ويجوز أن تجعل اللام مزيدة كما في أردت لأن أفعل فيكون أمر بالتقدم في الإخلاص والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لعظمة ما فيه.

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(١٦)

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) أمر بالإخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصا له دينه بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا عن المخالفة من العقاب قطعا لأطماعهم ، ولذلك رتب عليه قوله :

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) تهديدا وخذلانا لهم. (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) الكاملين في الخسران. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بالضلال. (وَأَهْلِيهِمْ) بالإضلال. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) حين يدخلون النار بدل الجنة لأنهم جمعوا وجوه الخسران. وقيل وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) مبالغة في خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير ب (أَلا) ، وتوسيط الفصل وتعريف الخسران ووصفه ب (الْمُبِينُ).

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) شرح لخسرانهم. (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أطباق من النار هي ظلل للآخرين. (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ذلك العذاب هو الذي يخوفهم به ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١٨)

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) البالغ غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت ، ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان. (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال منه. (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) وأقبلوا إليه بشراشرهم عما سواه. (لَهُمُ الْبُشْرى) بالثواب على ألسنة الرسل ، أو الملائكة عند حضور الموت. (فَبَشِّرْ عِبادِ).

(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وضع فيه الظاهر موضع ضمير (الَّذِينَ اجْتَنَبُوا) للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) لدينه. (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة ، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها


غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ)(٢٠)

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) جملة شرطية معطوفة على محذوف دل عليه الكلام تقديره أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه ، فكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار والاستبعاد ، ووضع (مَنْ فِي النَّارِ) موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف فيه ، وأن اجتهاد الرسل في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار ، ويجوز أن يكون (أَفَأَنْتَ) تنقذ جملة مستأنفة للدلالة على ذلك والإشعار بالجزاء المحذوف.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) علالي بعضها فوق بعض. (مَبْنِيَّةٌ) بنيت بناء النازل على الأرض. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت تلك الغرف. (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لأن قوله (لَهُمْ غُرَفٌ) في معنى الوعد. (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) ولأن الخلف نقص وهو على الله محال.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٢١)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر. (فَسَلَكَهُ) فأدخله. (يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) هي عيون ومجاري كائنة فيها ، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال. (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أصنافه من بر وشعير وغيرهما ، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما. (ثُمَّ يَهِيجُ) يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته. (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) من يبسه. (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) لتذاكيرا بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسواه ، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها. (لِأُولِي الْأَلْبابِ) إذ لا يتذكر به غيرهم.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٢)

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) حتى تمكن فيه بيسر عبر به عمن خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبوله غير متأبية عنه من حيث إن الصدر محل القلب المنبع للروح المتعلق للنفس القابلة للإسلام. (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني المعرفة والاهتداء إلى الحق. وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، فقيل فما علامة ذلك قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله». وخبر (مِنْ) محذوف دل عليه (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) من أجل ذكره وهو أبلغ من أن يكون عن مكان من ، لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبيا عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر ، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله وقابله بقساوة القلب وأسنده إليه. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يظهر للناظر بأدنى نظر ، والآية نزلت في حمزة وعلي وأبي لهب وولده.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٢٣)

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يعني القرآن ، روي أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملوا ملة فقالوا له حدثنا فنزلت. وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه. (كِتاباً


مُتَشابِهاً) بدل من (أَحْسَنَ) أو حال منه ، وتشابهه تشابه أبعاضه في الإعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة. (مَثانِيَ) جمع مثنى أو مثنى أو مثن على ما مر في «الحجر» ، وصف به كتابا باعتبار تفاصيله كقولك : القرآن سور وآيات ، والإنسان : عظام وعروق وأعصاب ، أو جعل تمييزا من (مُتَشابِهاً) كقولك : رأيت رجلا حسنا شمائله. (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) تشمئز خوفا مما فيه من الوعيد ، وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعيا كتركيب اقمطر من القمط وهو الشد. (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) بالرحمة وعموم المغفرة ، والإطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه ، والتعدية ب (إِلى) لتضمين معنى السكون والاطمئنان ، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها. (ذلِكَ) أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء. (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) هدايته. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ومن يخذله. (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخرجهم من الضلال.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢٦)

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه. (سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كمن هو آمن منه ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالموجب لما يقال لهم وهو : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وباله ، والواو للحال وقد مقدرة.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) الذل. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعد لهم. (أَكْبَرُ) لشدته ودوامه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٢٨)

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتاج إليه الناظر في أمر دينه. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون به.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة كقولك : جاءني زيد رجلا صالحا ، أو مدح له. (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) لا اختلال فيه بوجه ما ، وهو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعاني. وقيل بالشك استشهادا بقوله :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

وهو تخصيص له ببعض مدلوله. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) علة أخرى مرتبة على الأولى.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ


أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٢٩)

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للمشرك والموحد. (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه من أن يدعي كل واحد من معبوديه عبوديته ، ويتنازعوا فيه بعبد يتشارك فيه جمع ، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة في تحيره وتوزع قلبه ، والموحد بمن خلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل و (رَجُلاً) بدل من مثل وفيه صلة (شُرَكاءُ) ، والتشاكس والتشاخص الاختلاف. وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون (سَلَماً) بفتحتين ، وقرئ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام وثلاثتها مصادر سلم نعت بها ، أو حذف منها ذا و «رجل سالم» أي وهناك رجل سالم ، وتخصيص الرجل لأنه أفطن للضر والنفع. (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) صفة وحالا ونصبه على التمييز ولذلك وحده ، وقرئ «مثلين» للإشعار باختلاف النوع ، أو لأن المراد على (يَسْتَوِيانِ) في الوصفين على أن الضمير للمثلين فإن التقدير مثل رجل ومثل رجل. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كل الحمد له لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه ، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيشركون به غيره من فرط جهلهم.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)(٣٢)

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) فإن الكل بصدد الموت وفي عداد الموتى ، وقرئ «مائت» و «مائتون» لأنه مما سيحدث.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ) على تغليب المخاطب على الغيب. (يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد وكانوا على الباطل في التشريك ، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد ، ويعتذرون بالأباطيل مثل (أَطَعْنا سادَتَنا) و (وَجَدْنا آباءَنا). وقيل المراد به الاختصام العام يخاصم الناس بعضهم بعضا فيما دار بينهم في الدنيا.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بإضافة الولد والشريك إليه. (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) وهو ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (إِذْ جاءَهُ) من غير توقف وتفكر في أمره. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم ، واللام تحتمل العهد والجنس ، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٥)

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله : (أُولئِكَ هُمالْمُتَّقُونَ) وقيل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو ومن تبعه كما في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك يقتضي إضمار الذي وهو غير جائز. وقرئ «وصدق به» بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف ، أو صار صادقا بسببه لأنه معجز يدل على صدقه «وصدق به» على البناء للمفعول.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة. (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم.

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) خص الأسوأ للمبالغة فإنه إذا كفر كان غيره أولى بذلك ، أو


للإشعار بأنهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنهم مقصرون مذنبون وأن ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم ، ويجوز أن يكون بمعنى السيئ كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان ، وقرئ «أسواء» جمع سوء. (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) ويعطيهم ثوابهم. (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم فيها.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)(٣٧)

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات ، والعبد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي «عباده» ، وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم. (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني قريشا فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها. وقيل إنه بعث خالدا ليكسر العزى فقال له سادنها أحذّركها فإن لها شدة ، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر. (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديهم إلى الرشاد.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) إذ لا راد لفعله كما قال : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) غالب منيع. (ذِي انْتِقامٍ) ينتقم من أعدائه.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٣٨)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه. (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) بنفع. (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) فيمسكنها عني ، وقرأ أبو عمرو (كاشِفاتُ ضُرِّهِ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته. (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كافيا في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر. روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم فسكتوا فنزل ذلك ، وإنما قال (اشِفاتُ) و (مُمْسِكاتُ) على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها. (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) لعلمهم بأن الكل منه تعالى.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٤١)

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالكم ، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان ، وقرئ «مكاناتكم». (إِنِّي عامِلٌ) أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين فقال : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).


(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) فإن خزي أعدائه دليل غلبته ، وقد أخزاهم الله يوم بدر. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم وهو عذاب النار.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم. (بِالْحَقِ) متلبسا به. (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) إذ نفع به نفسه. (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) فإن وباله لا يتخطاها. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى وإنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٤٢)

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهرا وباطنا وذلك عند الموت ، أو ظاهرا لا باطنا وهو في النوم. (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ولا يردها إلى البدن ، وقرأ حمزة والكسائي (قَضى) بضم القاف وكسر الضاد والموت بالرفع. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الوقت المضروب لموته وهو غاية جنس الإرسال. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والحياة ، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم. قريب مما ذكرناه. (إِنَّ فِي ذلِكَ) من التوفي والإمساك والإرسال. (لَآياتٍ) دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته. (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية حين الموت ، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها ، وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها عن ظواهرها وإرسالها حينا بعد حين إلى توفي آجالها.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٤٤)

(أَمِ اتَّخَذُوا) بل اتخذ قريش. (مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) تشفع لهم عند الله. (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم.

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم ، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه ، ولا يستقل بها ثم قرر ذلك فقال : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيكون الملك له أيضا حينئذ.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(٤٥)

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) دون آلهتهم. (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) انقبضت ونفرت. (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأوثان. (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله ، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه ، والعامل في (إِذا ذُكِرَ) العامل في إذ المفاجأة.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ


يَخْتَلِفُونَ) (٤٦)

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) التجئ إلى الله بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وضجرت من عنادهم وشدة شكيمتهم ، فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها. (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤٨)

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص. (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) زيادة مبالغة فيه وهو نظير قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) في الوعد.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وأحاط بهم جزاؤه.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٥٠)

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) إخبار عن الجنس بما يغلب فيه ، والعطف على قوله (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) بالفاء لبيان مناقضتهم وتعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره ، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أعطيناه إياه تفضلا فإن التخويل مختص به. (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) مني بوجوه كسبه ، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه ، أو من الله بي واستحقاقي ، والهاء فيه لما إن جعلت موصولة وإلا فللنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها. (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) امتحان له أيشكر أم يكفر ، وهو رد لما قاله وتأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ ال (نِعْمَةً) ، وقرئ بالتذكير. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، وهو دليل على أن الإنسان للجنس.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهاء لقوله (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) لأنها كلمة أو جملة ، وقرئ بالتذكير و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قارون وقومه فإنه قال ورضي به قومه (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من متاع الدنيا.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ(٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم ، وسماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزا إلى أن جميع أعمالهم كذلك. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعتو. (مِنْ هؤُلاءِ) المشركين و (مِنْ) للبيان أو للتبعيض. (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب أولئك ، وقد أصابهم فإنهم قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم. (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسط لهم سبعا.


(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بأن الحوادث كلها من الله بوسط أو غيره.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(٥٤)

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي ، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن. (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) لا تيأسوا من مغفرته أولا وتفضله ثانيا. (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) عفوا ولو بعد بعد وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، والتعليل بقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة ، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في (عِبادِيَ) من الدلالة على الذلة ، والإختصاص المقتضيين للترحم ، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة ، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا ، ووضع اسم (اللهِ) موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع. وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها ، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات». وما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت. وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله :

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)(٥٦)

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه ، أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ ، ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بمجيئه فتتداركوا.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) كراهة أن تقول وتنكير (نَفْسٌ) لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى :

وربّ بقيع لو هتفت بجوّه

أتاني كريم ينفض الرّأس مغضبا

(يا حَسْرَتى) وقرئ بالياء على الأصل. (عَلى ما فَرَّطْتُ) بما قصرت. (فِي جَنْبِ اللهِ) في جانبه أي في حقه وهو طاعته. قال سابق البربري :

أما تتّقين الله في جنب وامق

له كبد حرّى عليك تقطّع

وهو كناية فيها مبالغة كقوله :

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج

وقيل ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وقرئ «في ذكر الله». (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) المستهزئين بأهله ومحل (إِنْ كُنْتُ) نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر.


(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٥٩)

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) بالإرشاد إلى الحق. (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) الشرك والمعاصي.

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في العقيدة والعمل ، وأو للدلالة على أنها لا تخلوا من هذه الأقوال تحيرا وتعللا بما لا طائل تحته.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) رد من الله عليه لما تضمنه قوله (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) من معنى النفي وفصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن وتأخير المودود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة ، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله فعل العبد ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت وتذكير الخطاب على المعنى ، وقرئ بالتأنيث للنفس.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦١)

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد. (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل ، والجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر واكتفى فيها بالضمير عن الواو. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) مقام. (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان والطاعة وهو تقرير لأنهم يرون كذلك.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقرئ «وينجي». (بِمَفازَتِهِمْ) بفلاحهم مفعلة من الفوز وتفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب ، وقرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقا له بالمضاف إليه والباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهو حال أو استئناف لبيان المفازة.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦٣)

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من خير وشر وإيمان وكفر. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يتولى التصرف.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره ، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص ، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها ، وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته ، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير. وعن عثمان رضي الله عنه : أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المقاليد فقال «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير». والمعنى على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) متصل بقوله (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها ، وتغيير


النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم ، وللتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه ، والمراد بآيات الله دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض ، أو كلمات توحيده وتمجيده وتخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٥)

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد ، و (تَأْمُرُونِّي) اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ، ويجوز أن ينتصب غير بما دل عليه تأمروني أن أعبد لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع كقوله :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

ويؤيده قراءة (أَعْبُدُ) بالنصب ، وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل ونافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيرا.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) أي من الرسل. (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) كلام على سبيل الفرض والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإشعار على حكم الأمة ، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب ، وإطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح ، وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٧)

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) رد لما أمروه به ولولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إنعامه عليك وفيه إشارة الى موجب الاختصاص.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به ، وقرئ بالتشديد. (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) تنبيه على عظمته وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته ، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا كقولهم : شابت لمة الليل ، والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة. وقرئ بالنصب على الظرف تشبيها للمؤقت بالمبهم ، وتأكيد (الْأَرْضُ) بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية والغائرة. وقرئ «مطويات» على أنها حال و (السَّماواتُ) معطوفة على (الْأَرْضُ) منظومة في حكمها. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما أبعد وأعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم ، أو ما يضاف إليه من الشركاء.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(٦٨)


(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني المرة الأولى. (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) خر ميتا أو مغشيا عليه. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل جبريل وميكائيل وإسرافيل فإنهم يموتون بعد ، وقيل حملة العرش. (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) نفخة أخرى وهي تدل على أن المراد بالأولى و (نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) كما صرح به في مواضع ، وأخرى تحتمل النصب والرفع. (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) قائمون من قبورهم أو متوقفون ، وقرئ بالنصب على أن الخبر. (يَنْظُرُونَ) وهو حال من ضميره والمعنى : يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٧٠)

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) بما أقام فيها من العدل ، سماه «نور» لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة. وفي الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة». ولذلك أضاف اسمه إلى (الْأَرْضُ) أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه الى نفسه. (وَوُضِعَ الْكِتابُ) للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع. وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين ، وقيل المستشهدون. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين العباد. (بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) جزاءه. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فلا يفوته شيء من أفعالهم ، ثم فصل التوفية فقال :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٢)

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة ، جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه ، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل. (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) ليدخلوها و (حَتَّى) وهي التي تحكي بعدها الجملة ، وقرأ الكوفيون (فُتِحَتْ) بتخفيف التاء. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) تقريعا وتوبيخا. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من جنسكم. (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار ، وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) كلمة الله بالعذاب علينا وهو الحكم عليهم بالشقاوة ، وأنهم من أهل النار ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة ، وقيل هو قوله وقيل هو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم. (فَبِئْسَ مَثْوَى) مكان. (الْمُتَكَبِّرِينَ) اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره ، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم ، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما قال عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل


من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة. وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار».

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٧٤)

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) إسراعا بهم إلى دار الكرامة ، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين. (زُمَراً) على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة. (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف ، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين ، وقرأ الكوفيون (فُتِحَتْ) بالتخفيف. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لا يعتريكم بعد مكروه. (طِبْتُمْ) طهرتم من دنس المعاصي. (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) مقدرين الخلود فيها ، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم ، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بالبعث والثواب. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة ، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة ، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها. (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الجنة.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) محدقين. (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي حوله و (مِنْ) مزيدة أو لابتداء الحفوف. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ملتبسين بحمده. والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به ، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة ، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم. (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي على ما قضي بيننا بالحق. والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين». عن عائشة رضي الله عنها : «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر» والله أعلم.


(٤٠) سورة المؤمن

مكية وآيها خمس وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

(حم) أماله ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر صريحا ، ونافع برواية ورش وأبو عمرو بين بين ، وقرئ بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين ، أو النصب بإضمار اقرأ ومنع صرفه للتعريف والتأنيث ، أو لأنها على زنة أعجمي كقابيل وهابيل.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود منه ، والإضافة فيها حقيقة على أنه لم يرد بها زمان مخصوص ، وأريد ب (شَدِيدِ الْعِقابِ) مشددة أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس ، أو إبدال وجعله وحده بدلا مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة ، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد ، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق وذلك لمن لم يتب فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». والتوب مصدر كالتوبة وقيل جمعها والطول الفضل بترك العقاب المستحق ، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيجب الإقبال الكلي على عبادته. (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيجازي المطيع والعاصي.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)(٤)

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) لما حقق أمر التنزيل سجل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن وإدحاض الحق لقوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) وأما الجدال فيه لحل عقده واستنباط حقائقه وقطع تشبث أهل الزيغ به وقطع مطاعنهم فيه فمن أعظم الطاعات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «إن جدالا في القرآن كفر» بالتنكير مع أنه ليس جدالا فيه على الحقيقة. (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشأم واليمن بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(٦).


(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) والذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح كعاد وثمود. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من هؤلاء. (بِرَسُولِهِمْ) وقرئ «برسولها». (لِيَأْخُذُوهُ) ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل من الأخذ بمعنى الأسر. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) بما لا حقيقة له. (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ليزيلوه به. (فَأَخَذْتُهُمْ) بالإهلاك جزاء لهم. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره. وهو تقرير فيه تعجيب.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وعيده أو قضاؤه بالعذاب. (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بكفرهم. (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) بدل من كلمة (رَبِّكَ) بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)(٧)

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) الكروبيون أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجودا وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له ، أو كناية عن قربهم من ذي العرش ومكانتهم عنده وتوسطهم في نفاذ أمره. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإكرام ، وجعل التسبيح أصلا والحمد حالا لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح. (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أخبر عنهم بالإيمان إظهارا لفضله وتعظيما لأهله ومساق الآية لذلك كما صرح به بقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وإشعارا بأن حملة العرش وسكان الفرش في معرفته سواء ردا على المجسمة واستغفارهم شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة ، وفيه تنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). (رَبَّنا) أي يقولون (رَبَّنا) وهو بيان ل (يَسْتَغْفِرُونَ) أو حال. (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعت رحمتك وعلمك فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم والمبالغة في عمومها ، وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ها هنا. (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيل الحق. (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) واحفظهم عنه وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد والدلالة على شدة العذاب.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٩)

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) وعدتهم إياها. (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) عطف على هم الأول أي أدخلهم ومعهم هؤلاء ليتم سرورهم ، أو الثاني لبيان عموم الوعد ، وقرئ «جنة عدن» و «صلح» بالضم و «ذريتهم» بالتوحيد. (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يمتنع عليه مقدور. (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ومن ذلك الوفاء بالوعد. (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) العقوبات أو جزاء السيئات ، وهو تعميم بعد تخصيص ، أو تخصيص بمن (صَلَحَ) أو المعاصي في الدنيا لقوله : (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبب. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يعني الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ


فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(١١)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) يوم القيامة فيقال لهم : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة بالسوء. (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) ظرف لفعل دل عليه المقت الأول لا له لأنه أخبر عنه ، ولا للثاني لأن مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة إلا أن يؤول بنحو : بالصّيف ضيّعت اللّبن. أو تعليل للحكم وزمان المقتين واحد.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) إماتتين بأن خلقتنا أمواتا أوّلا ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا ، فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء أو بتصيير كالتصغير والتكبير ، ولذلك قيل سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل ، وإن خص بالتصيير فاختيار الفاعل المختار أحد مفعوليه تصيير وصرف له عن الآخر. (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وقيل الإماتة الأولى عند انخرام الأجل والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال والإحياءان ما في القبر والبعث ، إذ المقصود اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه ولم يكترثوا به ولذلك تسبب بقوله : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) فإن اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا وإنكارهم البعث. (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) نوع خروج من النار. (مِنْ سَبِيلٍ) طريق فنسلكه وذلك إنما يقولونه من فرط قنوطهم تعللا وتحيرا ولذلك أجيبوا بقوله :

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ)(١٣)

(ذلِكُمْ) الذي أنتم فيه. (بِأَنَّهُ) بسبب أنه. (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) متحدا أو توحد وحده فحذف الفعل وأقيم مقامه في الحالية. (كَفَرْتُمْ) بالتوحيد. (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بالإشراك. (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) المستحق للعبادة حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الدائم. (الْعَلِيِ) عن أن يشرك به ويسوى بغيره. (الْكَبِيرِ) حيث حكم على من أشرك وسوى به بعض مخلوقاته في استحقاق العبادة بالعذاب السرمد.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) الدالة على التوحيد وسائر ما يجب أن يعلم تكميلا لنفوسكم. (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أسباب رزق كالمطر مراعاة لمعاشكم. (وَما يَتَذَكَّرُ) بالآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى. (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكر فيها ، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)(١٥)

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إخلاصكم وشق عليهم.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) خبران آخران للدلالة على علو صمديته من حيث المعقول والمحسوس الدال على تفرده في الألوهية ، فإن من ارتفعت درجات كماله بحيث لا يظهر دونها كمال وكان العرش الذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته لا يصح أن يشرك به ، وقيل الدرجات مراتب المخلوقات أو مصاعد الملائكة إلى العرش أو السموات أو درجات الثواب. وقرئ «رفيع» بالنصب على المدح. (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) خبر رابع للدلالة على أن الروحانيات أيضا مسخرات لأمره بإظهار آثارها وهو الوحي ، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد والروح الوحي ومن أمره بيانه لأنه أمر بالخير أو مبدؤه والآمر هو الملك المبلغ. (عَلى مَنْ


يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يختاره للنبوة ، وفيه دليل على أنها عطائية. (لِيُنْذِرَ) غاية الإلقاء والمستكن فيه لله ، أو لمن أو للروح واللام مع القرب تؤيد الثاني. (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم القيامة ، فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض أو المعبودون والعباد أو الأعمال والعمال.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٧)

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء أو ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان ، أو أعمالهم وسرائرهم. (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم ، وهو تقرير لقوله (هُمْ بارِزُونَ) وإزاحة لنحو ما يتوهم في الدنيا. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به ، أو لما دل عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط ، وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) كأنه نتيجة لما سبق ، وتحقيقه أن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها ، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذتها وألمها. (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إذ لا يشغله شأن عن شأن فيصل إليهم ما يستحقونه سريعا.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(١٨)

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي القيامة سميت بها لأزوفها أي قربها ، أو الخطة (الْآزِفَةِ) وهي مشارفتهم النار وقيل الموت. (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) فإنها ترتفع عن أماكنها فتلصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا. (كاظِمِينَ) على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى لأنه على الإضافة ، أو منها أو من ضميرها في لدى وجمعه كذلك لأن الكظم من أفعال العقلاء كقوله : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ). أو من مفعول (أَنْذِرْهُمْ) على أنه حال مقدرة. (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) قريب مشفق. (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) ولا شفيع مشفع ، والضمائر إن كانت للكفار وهو الظاهر كان وضع الظالمين موضع ضميرهم للدلالة على اختصاص ذلك بهم وأنه لظلمهم.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٢٠)

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) النظرة الخائنة كالنظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه ، أو خيانة الأعين. (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من الضمائر والجملة خبر خامس للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلق العلم والجزاء (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) لأنه المالك الحاكم على الإطلاق فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) تهكم بهم لأن الجماد لا يقال فيه إنه يقضي أو لا يقضي. وقرأ نافع وهشام بالتاء على الالتفات أو إضمار قل : (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تقرير لعلمه ب (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون ، وتعريض بحال ما (يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ


قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢٢)

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود. (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة وتمكنا ، وإنما جيء بالفصل وحقه أن يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه. وقرأ ابن عامر «أشد منكم» بالكاف. (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) مثل القلاع والمدائن الحصينة. وقيل المعنى وأكثر آثارا كقوله : متقلدا سيفا ورمحا. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يمنع العذاب عنهم.

(ذلِكَ) الأخذ. (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الأحكام الواضحة. (فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌ) متمكن مما يريده غاية التمكن. (شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يؤبه بعقاب دون عقابه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ(٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(٢٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) يعني المعجزات. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجة قاهرة ظاهرة ، والعطف لتغاير الوصفين أو لإفراد بعض المعجزات كالعصا تفخيما لشأنه.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يعنون موسى عليه الصلاة والسلام ، وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبلهم بطشا وأقربهم زمانا.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أولا كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه‌السلام. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) في ضياع ، ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ)(٢٧)

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) كانوا يكفونه عن قتله ويقولون إنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر ، ولو قتلته ظن أنك عجزت عن معارضته بالحجة وتعلله بذلك مع كونه سفاكا في أهون شيء دليل على أنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله ، أو ظن أنه لو حاوله لم يتيسر له ويؤيده قوله. (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) فإنه تجلد وعدم مبالاة بدعائه. (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله. (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أن يغير ما أنتم عليه من عبادته وعبادة الأصنام لقوله : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ). (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر أن يبطل دينكم بالكلية. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالواو على معنى الجمع ، وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص بفتح الياء والهاء ورفع (الْفَسادَ).

(وَقالَ مُوسى) أي لقومه لما سمع بكلامه. (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) صدر الكلام بأن تأكيدا وإشعارا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله ، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية ، وإضافته إليه وإليهم حثا لهم على موافقته لما في تظاهر الأرواح من


استجلاب الإجابة ، ولم يسم فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عدت فيه وفي سورة «الدخان» بالإدغام وعن نافع مثله.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(٢٨)

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) من أقاربه. وقيل (مِنْ) متعلق بقوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) أتقصدون قتله. (أَنْ يَقُولَ) لأن يقول ، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره. (رَبِّيَ اللهُ) وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد. (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات. (مِنْ رَبِّكُمْ) أضافه إليهم بعد ذكر البينات احتجاجا عليهم واستدراجا لهم إلى الاعتراف به ، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله. (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذبا أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده ، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم وتفسير ال (بَعْضُ) بالكل كقول لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النّفوس حمامها

مردود لأنه أراد بال (بَعْضُ) نفسه. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) احتجاج ثالث ذو وجهين :

أحدهما : أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات.

وثانيهما : أن من خذله الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرض به لفرعون بأنه (مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة.

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ)(٢٩)

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) غالبين عالين. (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر. (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد ، وإنما أدرج نفسه في الضميرين لأنه كان منهم في القرابة وليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم. (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ) ما أشير عليكم. (إِلَّا ما أَرى) وأستصوبه من قتله وما أعلمكم إلا ما علمت من الصواب وقلبي ولساني متواطئان عليه. (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) طريق الصواب ، وقرئ بالتشديد على أنه فعال للمبالغة من رشد كعلام ، أو من رشد كعباد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو للنسبة إلى الرشد كعواج وبتات.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣١)

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) في تكذيبه والتعرض له. (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) مثل أيام


الأمم الماضية يعني وقائعهم ، وجمع (الْأَحْزابِ) مع التفسير أغنى عن جمع اليوم.

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) مثل جزاء ما كانوا عليه دائبا من الكفر وإيذاء الرسل. (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم لوط. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا يعاقبهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام ، وهو أبلغ من قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) من حيث إن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم.

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٣٣)

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) يوم القيامة ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة ، أو يتصايحون بالويل والثبور ، أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار كما حكى في «الأعراف». وقرئ بالتشديد وهو أن يند بعضهم من بعض كقوله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ).

(يَوْمَ تُوَلُّونَ) عن الموقف. (مُدْبِرِينَ) منصرفين عنه إلى النار. وقيل فارين عنها. (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمكم من عذابه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ)(٣٤)

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) يوسف بن يعقوب على أن فرعونه فرعون موسى ، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف. (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى. (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات. (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من الدين. (حَتَّى إِذا هَلَكَ) مات. (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) ضما إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده ، أو جزما بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشك في رسالته ، وقرئ «ألن يبعث الله» على أن بعضهم يقرر بعضا بنفي البعث. (كَذلِكَ) مثل ذلك الضلال. (يُضِلُّ اللهُ) في العصيان. (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد.

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(٣٥)

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) بدل من الموصول الأول لأنه بمعنى الجمع. (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بغير حجة بل إما بتقليد أو بشبهة داحضة. (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فيه ضمير من وإفراده للفظ ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ) مبتدأ وخبره (كَبُرَ) على حذف مضاف أي : وجدال الذين يجادلون كبر مقتا أو بغير سلطان وفاعل (كَبُرَ كَذلِكَ) أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله : (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان قلب بالتنوين على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم : رأت عيني وسمعت أذني ، أو على حذف مضاف أي على كل ذي قلب متكبر.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ)(٣٧).


(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر. (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) الطرق.

(أَسْبابَ السَّماواتِ) بيان لها وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها.(فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) عطف على (أَبْلُغُ). وقرأ حفص بالنصب على جواب الترجي ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه ، أو أن يرى فساد قول موسى بأن أخباره من إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وذلك لجهله بالله وكيفية استنبائه. (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) في دعوى الرسالة. (وَكَذلِكَ) ومثل التزيين ، (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الرشاد ، والفاعل على الحقيقة هو الله تعالى ويدل عليه أنه قرئ زين بالفتح وبالتوسط الشيطان. وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو (وَصُدَّ) على أن فرعون صد الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي خسار.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣٩)

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ) يعني مؤمن آل فرعون. وقيل موسى عليه الصلاة والسلام. (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ) بالدلالة. (سَبِيلَ الرَّشادِ) سبيلا يصل سالكه إلى المقصود ، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) تمتع يسير لسرعة زوالها. (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) لخلودها.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)(٤٠)

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) عدلا من الله ، وفيه دليل على أن الجنايات تغرم بمثلها. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة ، ولعل تقسيم العمال وجعل الجزاء جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة ، وتفضيل الثواب لتغليب الرحمة ، وجعل العمل عمدة والإيمان حالا للدلالة على أنه شرط في اعتبار العمل وأن ثوابه أعلى من ذلك.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)(٤٢)

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) كرر نداءهم إيقاظا لهم عن سنة الغفلة واهتماما بالمنادي له ، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه ، وعطفه على النداء الثاني الداخل على ما هو بيان لما قبله ولذلك لم يعطف على الأول ، فإن ما بعده أيضا تفسير لما أجمل فيه تصريحا أو تعريضا أو على الأول.

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) بدل أو بيان فيه تعليل والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام. (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ) بربوبيته. (عِلْمٌ) والمراد نفي المعلوم والإشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان فاعتقادها لا


يصح إلا عن إيقان. (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة ، والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٤٤)

(لا جَرَمَ) لا رد لما دعوه إليه ، و (جَرَمَ) فعل بمعنى حق وفاعله : (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حق عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا لأنها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيتها أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابة دعوة لها. وقيل (جَرَمَ) بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، وقيل فعل من الجرم بمعنى القطع كما أن بدا من لا بد فعل من التبديد وهو التفريق ، والمعنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فتنقلب حقا ، ويؤيده قولهم لا جرم أنه يفعل لغة فيه كالرشد والرشد. (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) بالموت. (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) في الضلالة والطغيان كالإشراك وسفك الدماء. (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها.

(فَسَتَذْكُرُونَ) وقرئ «فستذكرون» أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب. (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصيحة. (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ليعصمني من كل سوء. (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيحرسهم وكأنه جواب توعدهم المفهوم من قوله :

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(٤٦)

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) شدائد مكرهم. وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام. (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) بفرعون وقومه فاستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك. وقيل بطلبة المؤمن من قومه فإنه فر إلى جبل فاتبعه طائفة فوجدوه يصلي والوحوش حوله صفوفا فرجعوا رعبا فقتلهم. (سُوءُ الْعَذابِ) الغرق أو القتل أو النار.

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) جملة مستأنفة أو (النَّارُ) خبر محذوف و (يُعْرَضُونَ) استئناف للبيان ، أو بدل و (يُعْرَضُونَ) حال منها ، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره (يُعْرَضُونَ) مثل يصلون ، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم : عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به ، وذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة ، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأبيد ، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) يا آل فرعون. (أَشَدَّ الْعَذابِ) عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه ، أو أشد عذاب جهنم. وقرأ حمزة والكسائي ونافع ويعقوب وحفص (أَدْخِلُوا) على أمر الملائكة بإدخالهم النار.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ


عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ)(٤٨)

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) واذكر وقت تخاصمهم فيها ويحتمل العطف على غدوّا. (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تفصيل له. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) تباعا كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع بمعنى أتباع على الإضمار أو التجوز. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) بالدفع أو الحمل ، و (نَصِيباً) مفعول به لما دل عليه (مُغْنُونَ) أوله بالتضمين أو مصدر كشيئا في قوله : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً). فيكون من صلة ل (مُغْنُونَ).

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا ، وقرئ «كلّا» على التأكيد لأنه بمعنى كلنا وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، ولا يجوز جعله حالا من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم كقولك كل يوم لك ثوب. (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، و (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(٥٠)

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) أي لخزنتها ، ووضع (جَهَنَّمَ) موضع الضمير للتهويل أو لبيان محلهم فيها ، إذ يحتمل أن تكون (جَهَنَّمَ) أبعد دركاتها من قولهم : بئر جهنام بعيدة القعر. (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً) قدر يوم. (مِنَ الْعَذابِ) شيئا من العذاب ، ويجوز أن يكون المفعول «يوما» بحذف المضاف و (مِنَ الْعَذابِ) بيانه.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أرادوا به إلزامهم للحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة. (قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا) فإنا لا نجترئ فيه إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم ، وفيه إقناط لهم عن الإجابة. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ضياع لا يجاب ، وفيه إقناط لهم عن الإجابة.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٥٢)

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي في الدارين ولا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحيانا إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر ، و (الْأَشْهادُ) جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، والمراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) بدل من الأول وعدم نفع المعذرة لأنها باطلة ، أو لأنه لم يؤذن لهم فيعتذروا. وقرأ غير الكوفيين ونافع بالتاء. (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد عن الرحمة. (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) جهنم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤)


(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) ما يهتدى به في الدين من المعجزات والصحف والشرائع. (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة.

(هُدىً وَذِكْرى) هداية وتذكرة أو هاديا ومذكرا. (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول السليمة.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٥٥)

(فَاصْبِرْ) على أذى المشركين. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بالنصر لا يخلفه ، واستشهد بحال موسى وفرعون. (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وأقبل على أمر دينك وتدارك فرطاتك بترك الأولى والاهتمام بأمر العدا بالاستغفار ، فإنه تعالى كافيك في النصر إظهار الأمر. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ودم على التسبيح والتحميد لربك. وقيل صلّ لهذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وركعتين عشيّا.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٥٦)

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في مشركي مكة أو اليهود حين قالوا : لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم ، أو إرادة الرياسة أو أن النبوة والملك لا يكونان إلا لهم. (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ببالغي دفع الآيات أو المراد. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فالتجئ إليه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لأقوالكم وأفعالكم.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ)(٥٨)

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فمن قدر على خلقها مع عظمها أولا من غير أصل قدر على خلق الإنسان ثانيا من أصل ، وهو بيان لأشكل ما يجادلون فيه من أمر التوحيد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الغافل والمستبصر. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) والمحسن والمسيء فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت ، وهي فيما بعد البعث وزيادة لا في المسيء لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة ، والعاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) لتغاير الوصفين في المقصود ، أو الدلالة بالصراحة والتمثيل. (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) أي تذكرا ما قليلا يتذكرون ، والضمير للناس أو الكفار. وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب ، أو الالتفات أو أمر الرسول بالمخاطبة.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٦٠)

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) اعبدوني. (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أثبكم لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي


سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) صاغرين ، وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلا منزلته للمبالغة ، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها. وقرأ ابن كثير وأبو بكر (سَيَدْخُلُونَ) بضم الياء وفتح الخاء.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٦١)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لتستريحوا فيه بأن خلقه باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس. (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) يبصر فيه أو به ، وإسناد الإبصار إليه مجاز فيه مبالغة ولذلك عدل به عن التعليل إلى الحال : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) لا يوازيه فضل ، وللإشعار به لم يقل لمفضل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم ، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(٦٣)

(ذلِكُمُ) المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية. (اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقررها ، وقرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص فيكون (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) استئنافا بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٦٥)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء ، والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) اللذائذ. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال.

(هُوَ الْحَيُ) المتفرد بالحياة الذاتية. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا موجد سواه ولا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته. (فَادْعُوهُ) فاعبدوه. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة من الشرك والرياء. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قائلين له.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦٦)

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) من الحجج والآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها. (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بأن أنقاد له أو أخلص له ديني.


(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أطفالا ، والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا في قوله : (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) ويجوز عطفه على (لِتَبْلُغُوا) وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام (شُيُوخاً) بضم الشين. وقرئ «شيخا» كقوله (طِفْلاً). (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. (وَلِتَبْلُغُوا) ويفعل ذلك لتبلغوا : (أَجَلاً مُسَمًّى) هو وقت الموت أو يوم القيامة. (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما في ذلك من الحجج والعبر.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً) فإذا أراده. (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة ، والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٧٠)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) عن التصديق به وتكرير ذم المجادلة لتعدد المجادل ، أو المجادل فيه ، أو للتأكيد.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية. (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب أو الوحي والشرائع. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) جزاء تكذيبهم.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)(٧٤)

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ظرف ل (يَعْلَمُونَ) إذ المعنى على الاستقبال ، والتعبير بلفظ المضي لتيقنه. (وَالسَّلاسِلُ) عطف على (الْأَغْلالُ) أو مبتدأ خبره. (يُسْحَبُونَ).

(فِي الْحَمِيمِ) والعائد محذوف أي يسحبون بها ، وهو على الأول حال. وقرئ «والسلاسل يسحبون» بالنصب وفتح الياء على تقديم المفعول وعطف الفعلية على الاسمية ، (وَالسَّلاسِلُ) بالجر حملا على المعنى (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) بمعنى أعناقهم في الأغلال ، أو إضمارا للباء ويدل عليه القراءة به. (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومنه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ. والمراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب وينقلون من بعضها إلى بعض.

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ، (مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا عنا وذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم ، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم. (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي بل تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئا يعتد به كقولك : حسبته شيئا فلم يكن. (كَذلِكَ) مثل ذلك الضلال. (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة ، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو


تطالبوا لم يتصادفوا.

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦)

(ذلِكُمْ) الإضلال. (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ) تبطرون وتتكبرون. (بِغَيْرِ الْحَقِ) وهو الشرك والطغيان. (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) تتوسعون في الفرح ، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) الأبواب السبعة المقسومة لكم. (خالِدِينَ فِيها) مقدرين الخلود. (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحق جهنم ، وكان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين ولكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(٧٨)

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بهلاك الكافرين. (حَقٌ) كائن لا محالة. (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) فإن نرك ، وما مزيدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل ولا تلحق مع إن وحدها. (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) وهو القتل والأسر. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن تراه. (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم ، وهو جواب (نَتَوَفَّيَنَّكَ) ، وجواب (نُرِيَنَّكَ) محذوف مثل فذاك ، ويجوز أن يكون جوابا لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ، ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، والمذكور قصصهم أشخاص معدودة. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم ، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها. (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب في الدنيا أو الآخرة. (قُضِيَ بِالْحَقِ) بإنجاء المحق وتعذيب المبطل. (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)(٨١)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم ومنها ما يؤكل ويركب كالإبل والبقر.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) كالألبان والجلود والأوبار. (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بالمسافرة عليها. (وَعَلَيْها) في البر. (وَعَلَى الْفُلْكِ) في البحر. (تُحْمَلُونَ) وإنما قال (وَعَلَى الْفُلْكِ) ولم يقل في الفلك للمزاوجة ، وتغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة. وقيل لأنه يقصد به التعيش وهو من الضروريات والتلذذ والركوب والمسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة ، أو للفرق بين العين والمنفعة.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته. (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) أي فأي آية من تلك


الآيات. (تُنْكِرُونَ) فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار ، وهو ناصب «أي» إذ لو قدرته متعلقا بضميره كان الأولى رفعه والتفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨٣)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما ، وقيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) «ما» الأولى نافية أو استفهامية منصوبة ب (أَغْنى) ، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات. (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) واستحقروا علم الرسل ، والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة كقوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) وهو قولهم : لا نبعث ولا نعذب ، وما أظن الساعة قائمة ونحوها ، وسماها علما على زعمهم تهكما بهم ، أو علم الطبائع والتنجيم والصنائع ونحو ذلك ، أو علم الأنبياء ، وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده: (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وقيل الفرح أيضا للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(٨٥)

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) شدة عذابنا. (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) يعنون الأصنام.

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قال : (فَلَمْ يَكُ) بمعنى لم يصح ولم يستقم ، والفاء الأولى لأن قوله : (فَما أَغْنى) كالنتيجة لقوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) ، والثانية لأن قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) كالتفسير لقوله : (فَما أَغْنى) والباقيتان لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل وامتناع نفي الإيمان مسبب عن الرؤية. (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة. (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وقت رؤيتهم البأس ، اسم مكان استعير للزمان.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلّى عليه واستغفر له».


(٤١) سورة فصلت

مكية وآيها ثلاث أو أربع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٣)

(حم) إن جعلته مبتدأ فخبره :

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وإن جعلته تعديدا للحروف ف (تَنْزِيلٌ) خبر محذوف أو مبتدأ لتخصصه بالصفة وخبره :

(كِتابٌ) وهو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف ، ولعل افتتاح هذه السور السبع ب (حم) وتسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى ، وإضافة ال (تَنْزِيلٌ) إلى (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنيوية. (فُصِّلَتْ آياتُهُ) ميزت باعتبار اللفظ والمعنى. وقرئ «فصلت» أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني ، أو فصلت بين الحق والباطل. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على المدح أو الحال من (فُصِّلَتْ) ، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم والنظر ، وهو صفة أخرى ل (قُرْآناً) أو صلة ل (تَنْزِيلٌ) ، أو ل (فُصِّلَتْ) ، والأول أولى لوقوعه بين الصفات.

(بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (٥)

(بَشِيراً وَنَذِيراً) للعاملين به والمخالفين له ، وقرئا بالرفع على الصفة لل (كِتابٌ) أو الخبر لمحذوف.

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبره وقبوله. (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تأمل وطاعة.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أغطية جمع كنان. (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) صمم ، وأصله الثقل ، وقرئ بالكسر. (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) يمنعنا عن التواصل ، ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم ومج أسماعهم له ، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَاعْمَلْ) على دينك أو في إبطال أمرنا. (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا أو في إبطال أمرك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٧)

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه ، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والأسماع ، وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل ، وقد يدل


عليهما دلائل العقل وشواهد النقل. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه ، أو فاستووا إليه بالتوحيد والإخلاص في العمل. (وَاسْتَغْفِرُوهُ) مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل ، ثم هددهم على ذلك فقال. (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله.

(الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق ، وذلك من أعظم الرذائل ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ) عظيم. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل ، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته. وقيل نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ)(١٠)

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) في مقدار يومين ، أو نوبتين وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. ولعل المراد من (الْأَرْضَ) ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقها (فِي يَوْمَيْنِ) أنه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعا ، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) ولا يصح أن يكون له ند. (ذلِكَ) الذي (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ). (رَبُّ الْعالَمِينَ) خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربيها.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) استئناف غير معطوف على (خَلَقَ) للفصل بما هو خارج عن الصلة. (مِنْ فَوْقِها) مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب. (وَبارَكَ فِيها) وأكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوان. (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به ، أو أقواتا تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها ، وقرئ «وقسم فيها أقواتها». (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) في تتمة أربعة أيام كقولك : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما. ولعله قال ذلك ولم يقل في يومين للإشعار باتصالهما باليومين الأولين. والتصريح على الفذلكة. (سَواءً) أي استوت سواء بمعنى استواء ، والجملة صفة أيام ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر. وقيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها ، وقرئ بالرفع على هي سواء. (لِلسَّائِلِينَ) متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها ، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(١٢)

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره ، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)


ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها. (وَهِيَ دُخانٌ) أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة. أو (ائْتِيا) في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة ، أو الإخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة ، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة وآتيا من المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما. (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما ، وهما مصدران وقعا موقع الحال. (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) منقادين بالذات ، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها ، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير ، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله : (ساجِدِين).

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فخلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن ، والضمير ل (السَّماءَ) على المعنى أو مبهم ، و (سَبْعَ سَماواتٍ) حال على الأول وتمييز على الثاني. (فِي يَوْمَيْنِ) قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا. وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه. (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها. (وَحِفْظاً) أي وحفظناها من الآفات ، أو من المسترقة حفظا. وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال : وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظا. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) البالغ في القدرة والعلم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤)

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان بعد هذا البيان. (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وقرئ «صعقة مثل صعقة عاد وثمود» وهي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا.

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) حال من (صاعِقَةِ عادٍ) ، ولا يجوز جعله صفة ل (صاعِقَةً) أو ظرفا ل (أَنْذَرْتُكُمْ) لفساد المعنى. (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أتوهم من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة ، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة ، وكل من اللفظين يحتملهما ، أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإيمان بهم أجمعين ، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ). (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا. (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا) إرسال الرسل. (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) برسالته. (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم. (كافِرُونَ) إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ)(١٦).


(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فتعظموا فيها على أهلها من غير استحقاق. (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) اغترارا بقوتهم وشوكتهم. قيل كان من قوتهم أن الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة فإنه قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى ، قوي على ما لا يقدر عليه أحد غيره. (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) يعرفون أنها حق وينكرونها وهو عطف على (فَاسْتَكْبَرُوا).

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردة تهلك بشدة بردها من الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ، أو شديدة الصوت في هبوبها من الصرير. (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) جمع نحسة من نحس نحسا نقيض سعد سعدا ، وقرأ الحجازيان والبصريان بالسكون على التخفيف أو النعت على فعل ، أو الوصف بالمصدر ، قيل كن آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أضاف ال (عَذابَ) إلى (الْخِزْيِ) وهو الذل على قصد وصفه به لقوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة. (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(١٨)

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل ، وقرئ «ثمود» بالنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده ومنونا في الحالين وبضم الثاء. (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فاختاروا الضلالة على الهدى. (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) صاعقة من السماء فأهلكتهم ، وإضافتها إلى (الْعَذابِ) ووصفه ب (الْهُونِ) للمبالغة. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من اختيار الضلالة.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) من تلك الصاعقة.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٠)

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) وقرئ «يحشر» على البناء للفاعل وهو الله عزوجل. وقرأ نافع نحشر بالنون مفتوحة وضم الشين ونصب (أَعْداءُ). (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا وهو عبارة عن كثرة أهل النار.

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها) إذا حضروها و (ما) مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور. (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بأن ينطقها الله تعالى ، أو يظهر عليها آثارا تدل على ما اقترف بها فتنطق بلسان الحال.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٢٢)

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) سؤال توبيخ أو تعجب ، ولعل المراد به نفس التعجب. (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي ، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عاما في


الموجودات الممكنة. (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافا.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة ، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب. (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)(٢٤)

(وَذلِكُمْ) إشارة إلى ظنهم هذا ، وهو مبتدأ وقوله : (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) خبران له ويجوز أن يكون (ظَنُّكُمُ) بدلا و (أَرْداكُمْ) خبرا. (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المنزلين.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) لا خلاص لهم عنها. (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبون. (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) المجابين إليها ونظيره قوله تعالى حكاية (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) وقرئ «وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين» ، أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة.

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)(٢٥)

(وَقَيَّضْنا) وقدرنا. (لَهُمْ) للكفرة. (قُرَناءَ) أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القبض على البيض وهو القشر. وقيل أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة. (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الدنيا واتباع الشهوات. (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة وإنكاره. (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي كلمة العذاب. (فِي أُمَمٍ) في جملة أمم كقوله :

إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

وهو حال من الضمير المجرور. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وقد عملوا مثل أعمالهم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل لاستحقاقهم العذاب ، والضمير (لَهُمْ) ولل (أُمَمٍ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٧)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) وعارضوه بالخرافات أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارئ ، وقرئ بضم الغين والمعنى واحد يقال لغى يلغي ولغا يلغو إذا هذى. (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي تغلبونه على قراءته.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) المراد بهم هؤلاء القائلون ، أو عامة الكفار. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) سيئات أعمالهم وقد سبق مثله.


(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)(٢٩)

(ذلِكَ) : إشارة إلى الأسوأ. (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) خبره. (النَّارُ) عطف بيان لل (جَزاءُ) أو خبر محذوف. (لَهُمْ فِيها) في النار. (دارُ الْخُلْدِ) فإنها دار إقامتهم ، وهو كقولك : في هذه الدار دار سرور ، وتعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة. (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ينكرون الحق أو يلغون ، وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان. وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي (أَرِنَا) بالتخفيف كفخذ في فخذ ، وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء. (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) ندسهما انتقاما منهما ، وقيل نجعلهما في الدرك الأسفل. (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) مكانا أو ذلا.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(٣٠)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته. (ثُمَّ اسْتَقامُوا) في العمل و (ثُمَ) لتراخيه عن الإقرار في الرتبة من حيث أنه مبدأ الاستقامة ، أو لأنها عسر قلما تتبع الإقرار ، وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى الاستقامة من الثبات على الإيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض فجزئياتها. (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن ، أو عند الموت أو الخروج من القبر. (أَلَّا تَخافُوا) ما تقدمون عليه. (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتم وأن مصدرية أو مخففة مقدرة بالباء أو مفسرة. (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا على لسان الرسل.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ(٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢)

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نلهمكم الحق ونحملكم على الخير بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة. (وَفِي الْآخِرَةِ) بالشفاعة والكرامة حيثما يتعادى الكفرة وقرناؤهم. (وَلَكُمْ فِيها) في الآخرة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من اللذائذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من الأول.

(نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) حال من ما تدعون للإشعار بأن ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(٣٤)

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) إلى عبادته. (وَعَمِلَ صالِحاً) فيما بينه وبين ربه. (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) تفاخرا به واتخاذا للإسلام دينا ومذهبا من قولهم : هذا قول فلان لمذهبه. والآية عامة لمن استجمع تلك الصفات. وقيل نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل في المؤذنين.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) في الجزاء وحسن العاقبة و (لا) الثانية مزيدة لتأكيد النفي. (ادْفَعْ


بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا ، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ، وإنما أخرجه مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال ؛ كيف أصنع؟ للمبالغة ولذلك وضع (أَحْسَنُ) موضع الحسنة. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق.

(وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٦)

(وَما يُلَقَّاها) وما يلقى هذه السجية وهي مقابلته الإساءة بالإحسان. (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فإنها تحبس النفس عن الانتقام. (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الخير وكمال النفس وقيل الحظ العظيم الجنة.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) نخس شبه به وسوسته لأنها تبعث الإنسان على ما لا ينبغي كالدفع بما هو أسوأ ، وجعل النزغ نازغا على طريقة جديدة ، أو أريد به نازغ وصفا للشيطان بالمصدر. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شره ولا تطعه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك. (الْعَلِيمُ) بنيتك أو بصلاحك.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)(٣٨)

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم. (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) الضمير للأربعة المذكورة ، والمقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار. (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإن السجود أخص العبادات وهو موضع السجود عندنا لاقتران الأمر به ، وعند أبي حنيفة آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن الامتثال. (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة. (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي دائما لقوله : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملون.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٤٠)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) تزخرفت وانتفخت بالنبات ، وقرئ «ربأت» أي زادت. (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) بعد موتها. (لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الإحياء والإماتة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) يميلون عن الاستقامة. (فِي آياتِنا) بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإلغاء فيها. (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فنجازيهم على إلحادهم. (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا مبالغة في إحماد حال المؤمنين. (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) تهديد شديد. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعيد بالمجازاة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ


خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٤٢)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) بدل من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أو مستأنف وخبر (إِنَ) محذوف مثل معاندون أو هالكون ، أو (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) و «الذكر» القرآن. (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) كثير النفع عديم النظير أو منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات أو مما فيه من الأخبار الماضية والأمور الآتية. (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) أي حكيم. (حَمِيدٍ) يحمده كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمه.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٤٤)

(ما يُقالُ لَكَ) أي ما يقول لك كفار قومك. (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم ، ويجوز أن يكون المعنى ما يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم. (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) لأنبيائه. (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم ، وهو على الثاني يحتمل أن يكون المقول بمعنى أن حاصل ما أوحي إليك وإليهم ، وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) جواب لقولهم : هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير «للذكر». (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) بينت بلسان نفقهه. (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أكلام أعجمي ومخاطب عربي إنكار مقرر للتخصيص ، والأعجمي يقال للذي لا يفهم كلامه. وهذا قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي ، وقرأ قالون وأبو عمرو بالمد والتسهيل وورش بالمد وإبدال الثانية ألفا ، وابن كثير وابن ذكوان وحفص بغير المد بتسهيل الثانية وقرئ «أعجمي» وهو منسوب إلى العجم ، وقرأ هشام «أعجمي» على الإخبار ، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب ، والمقصود إبطال مقترحهم باستلزامه المحذور ، أو للدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) إلى الحق. (وَشِفاءٌ) لما في الصدور من الشك والشبه. (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) مبتدأ خبره : (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) على تقدير هو في (آذانِهِمْ وَقْرٌ) لقوله : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) وذلك لتصامهم عن سماعه وتعاميهم عما يريهم من الآيات ، ومن جوز العطف على عاملين مختلفين عطف ذلك على (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً). (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي صم ، وهو تمثيل لهم في عدم قبولهم الحق واستماعهم له بمن يصاح به من مسافة بعيدة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٤٦)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ ، أو تقدير الآجال. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) باستئصال المكذبين. (وَإِنَّهُمْ) وإن اليهود أو الذين لا يؤمنون. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من التوراة أو القرآن. (مُرِيبٍ) موجب للاضطراب.


(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) نفعه. (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ضره. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٤٨)

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عنها إذ لا يعلمها إلا هو. وما تخرج من ثمرة من أكمامها من أوعيتها جمع كم بالكسر. وقرأ نافع وابن عامر وحفص (مِنْ ثَمَراتٍ) بالجمع لاختلاف الأنواع ، وقرئ بجمع الضمير أيضا و (ما) نافية و (مِنْ) الأولى مزيدة للاستغراق ، ويحتمل أن تكون موصولة معطوفة على (السَّاعَةِ) و (مِنْ) مبينة بخلاف قوله : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ) بمكان. (إِلَّا بِعِلْمِهِ) إلا مقرونا بعلمه واقعا حسب تعلقه به. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) بزعمكم. (قالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك. (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا عنهم لما عاينا الحال فيكون السؤال عنهم للتوبيخ ، أو من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنا. وقيل هو قول الشركاء أي ما منا من يشهد لهم بأنهم كانوا محقين.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) يعبدون. (مِنْ قَبْلُ) لا ينفعهم أو لا يرونه. (وَظَنُّوا) وأيقنوا. (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب والظن معلق عنه بحرف النفي.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)(٥٠)

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) لا يمل. (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) من طلب السعة في النعمة ، وقرئ «من دعاء بالخير». (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) الضيقة. (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) من فضل الله ورحمته وهذا صفة الكافر لقوله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وقد بولغ في يأسه من جهة البنية والتكرير وما في القنوط من ظهور أثر اليأس.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) بتفريجها عنه. (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) حقي أستحقه لمالي من الفضل والعمل ، أولي دائما لا يزول. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) تقوم. (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي ولئن قامت على التوهم كان لي عند الله الحالة الحسنى من الكرامة ، وذلك لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفك عنه. (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلنخبرنهم. (بِما عَمِلُوا) بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) لا يمكنهم التقصي عنه.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(٥٢)

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عن الشكر. (وَنَأى بِجانِبِهِ) وانحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبرا ، والجانب مجاز عن النفس كالجنب في قوله : (فِي جَنْبِ اللهِ). (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) كثير مستعار مما له عرض متسع للاشعار بكثرته واستمراره ، وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول


الامتدادين ، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (إِنْ كانَ) أي القرآن. (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) من غير نظر واتباع دليل. (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي من أضل منكم ، فوضع الموصول موضع الضمير شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) يعني ما أخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام به من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية ، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة. (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم ، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) الضمير للقرآن أو الرسول أو التوحيد أو الله (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) أي أو لم يكف ربك ، والباء مزيدة للتأكيد كأنه قيل : أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى. (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل منه ، والمعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة ، أو مطلع فيعلم حالك وحالهم ، أو أو لم يكف الإنسان رادعا عن المعاصي أنه تعالى مطلع على كل شيء لا يخفى عليه خافية.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ) شك ، وقرئ بالضم وهو لغة كخفية وخفية. (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) بالبعث والجزاء. (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها ، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات».


(٤٢) سورة حم عسق

مكية وهي ثلاث وخمسون آية وتسمه سورة «الشورى»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٤)

(حم). (عسق) لعله اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين ، وإن كانا اسما واحدا فالفصل ليطابق سائر الحواميم ، وقرئ «حم سق».

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي مثل ما في هذه السورة من المعاني ، أو إيحاء مثل إيحائها أوحى الله إليك وإلى الرسل من قبلك ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته ، وقرأ ابن كثير (يُوحِي) بالفتح على أن كذلك مبتدأ و (يُوحِي) خبره المسند إلى ضميره ، أو مصدر و (يُوحِي) مسند إلى إليك ، و (اللهُ) مرتفع بما دل عليه (يُوحِي) ، و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحي به كما مر في السورة السابقة ، أو بالابتداء كما في قراءة «نوحي» بالنون و (الْعَزِيزُ) وما بعده أخبار أو (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان. وقوله :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) خبران له وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرر لعزته وحكمته.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٥)

(تَكادُ السَّماواتُ) وقرأ نافع والكسائي بالياء. (يَتَفَطَّرْنَ) يتشققن من عظمة الله ، وقيل من ادعاء الولد له. وقرأ البصريان وأبو بكر «ينفطرن» بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر ، وقرئ «تتفطرن» بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر. (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية ، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة ، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى. وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس. (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة ، وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد ، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة. (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته ، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه ، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ


قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(٧)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) شركاء وأندادا. (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها. (وَما أَنْتَ) يا محمد. (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الإشارة إلى مصدر (يُوحِي) أو إلى معنى الآية المتقدمة ، فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولا به و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال منه. (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أهل أم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى. (وَمَنْ حَوْلَها) من العرب. (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح ، أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعولي الأول وأول مفعولي الثاني للتهويل وإيهام التعميم ، وقرئ «لينذر» بالياء والفعل «للقرآن». (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له من الإعراب. (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولا ثم يفرقون ، والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه ، وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق ، أو متفرقين في داري الثواب والعقاب.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(١٠)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) مهتدين أو ضالين. (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بالهداية والحمل على الطاعة. (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي يدعهم بغير ولي ولا نصير في عذابه ، ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإنذار.

(أَمِ اتَّخَذُوا) بل اتخذوا. (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) كالأصنام. (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) جواب لشرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق. (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) أنتم والكفار. (فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) من أمر من أمور الدنيا أو الدين. (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة. وقيل (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ) من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله. (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مجامع الأمور. (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) إليه أرجع في المعضلات.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٢)

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر آخر ل (ذلِكُمُ) أو مبتدأ خبره. (جَعَلَ لَكُمْ) وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله. (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم. (أَزْواجاً) نساء. (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وإناثا. (يَذْرَؤُكُمْ) يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس ، و (الْأَنْعامِ) على تغليب المخاطبين


العقلاء. (فِيهِ) في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد ، فإنه كالمنبع للبث والتكثير. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه ، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطّيّب الطاهر لذاته. ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى ليس مثله غير أنه آكد لما ذكرناه. وقيل «مثله» صفته أي ليس كصفته صفة. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لكل ما يسمع ويبصر.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائنها. (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يوسع ويضيق على وفق مشيئته. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيفعله على ما ينبغي.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع ، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول (شَرَعَ) ، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به. (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع فمختلفة كما قال. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً). (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) عظم عليهم. (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد. (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) بالإشارة والتوفيق. (مَنْ يُنِيبُ) يقبل إليه.

(وَما تَفَرَّقُوا) يعني الأمم السالفة. وقيل أهل الكتاب لقوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه ، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها. (بَغْياً بَيْنَهُمْ) عداوة أو طلبا للدنيا. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بالإمهال. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب. وقرئ «ورّثوا» و «وورثوا». (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان ، أو من القرآن. (مُرِيبٍ) مقلق أو مدخل في الريبة.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(١٦)

(فَلِذلِكَ) فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب ، أو العلم الذي أوتيته. (فَادْعُ) إلى الاتفاق على الملة


الحنيفية أو الإتباع لما أوتيت ، وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإفادة الصلة والتعليل. (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الباطلة. (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في تبليغ الشرائع والحكومات ، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية. (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) خالق الكل ومتولي أمره. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وكل مجازى بعمله. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد. (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) مرجع الكل لفصل القضاء ، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية القتال.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) في دينه. (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه ، أو من بعد ما استجاب الله لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر ، أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به. (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) زائلة باطلة. (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لمعاندتهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) على كفرهم.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(١٨)

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) جنس الكتاب. (بِالْحَقِ) ملتبسا بعيدا من الباطل ، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام. (وَالْمِيزانَ) والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوي بين الناس ، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها. (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك ، وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب ، أو لأن الساعة بمعنى البعث.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استهزاء. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب. (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي الكائن لا محالة. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) يجادلون فيها من المرية ، أو من مريب الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات ، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)(٢٠)

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) برّ بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام. (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي يرزقه كما يشاء فيخص كلّا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته. (وَهُوَ الْقَوِيُ) الباهر القدرة. (الْعَزِيزُ) المنيع الذي لا يغلب.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) ثوابها شبهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة ، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويقال للزرع الحاصل منه. (نَزِدْ لَهُ فِي


حَرْثِهِ) فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها. (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) شيئا منها على ما قسمنا له. (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢١)

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) بل ألهم شركاء ، والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم. (شَرَعُوا لَهُمْ) بالتزيين. (مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء ، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تدينوا به ، أو صور من سنة لهم. (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الكافرين والمؤمنين ، أو المشركين وشركائهم. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وقرئ «أن» بالفتح عطفا على كلمة (الْفَصْلِ) أي (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا ، فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٢٣)

(تَرَى الظَّالِمِينَ) في القيامة. (مُشْفِقِينَ) خائفين. (مِمَّا كَسَبُوا) من السيئات. (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي وباله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) في أطيب بقاعها وأنزهها. (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم. (ذلِكَ) إشارة إلى المؤمنين. (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به فحذف الجار ثم العائد ، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي (يُبَشِّرُ) من بشره وقرئ «يبشر» من أبشره. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة. (أَجْراً) نفعا منكم. (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي تودوني لقرابتي منكم ، أو تودوا قرابتي ، وقيل الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم أجرا قط ولكني أسألكم المودة ، و (فِي الْقُرْبى) حال منها أي (إِلَّا الْمَوَدَّةَ) ثابتة في ذوي (الْقُرْبى) متمكنة في أهلها ، أو في حق القرابة ومن أجلها كما جاء في الحديث «الحب في الله والبغض في الله». روي : أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال : «علي وفاطمة وابناهما». وقيل (الْقُرْبى) التقرب إلى الله أي إلا أن تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وقرئ «إلا مودة في القربى». (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) ومن يكتسب طاعة سيما حب آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومودته لهم. (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) في الحسنة بمضاعفة الثواب ، وقرئ «يزد» أي يزد الله وحسنى. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أذنب. (شَكُورٌ) لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٢٤)


(أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون. (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن. (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) استبعاد للافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربه ، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا ، وكأنه قال : إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه. وقيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه ، أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم. (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده ، بمحو باطلهم وإثبات حقه بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له ، وسقوط الواو من (يَمْحُ) في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ).

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(٢٦)

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عما تابوا عنه ، والقبول يعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة ، وقد عرفت حقيقة التوبة. وعن علي رضي الله عنه : هي اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) صغيرها وكبيرها لمن يشاء. ويعلم ما يفعلون فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة ، وقرأ الكوفيون غير أبي بكر (ما تَفْعَلُونَ) بالتاء.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يستجيب الله لهم فحذف اللام كما حذف في (وَإِذا كالُوهُمْ) والمراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة ، فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «أفضل الدعاء الحمد لله» ، أو يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ما سألوا واستحقوا واستوجبوا له بالاستجابة. (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)(٢٧)

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) لتكبروا وأفسدوا فيها بطرا ، أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء وهذا على الغالب ، وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية. (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ) بتقدير. (ما يَشاءُ) كما اقتضته مشيئته. (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم فيقدر لهم ما يناسب شأنهم. روي أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت. وقيل في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)(٢٩)

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم (يُنَزِّلُ) بالتشديد. (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أيسوا منه ، وقرئ بكسر النون. (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان. (وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى عباده بإحسانه ونشر رحمته.


(الْحَمِيدُ) المستحق للحمد على ذلك.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنها بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم. (وَما بَثَّ فِيهِما) عطف على (السَّماواتِ) أو ال (خَلْقُ). (مِنْ دابَّةٍ) من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب ، أو مما يدب على الأرض وما يكون في أحد الشيئين يصدق أن فيهما في الجملة. (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ) أي في أي وقت يشاء. (قَدِيرٌ) متمكن منه و (إِذا) كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٣١)

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فبسبب معاصيكم ، والفاء لأن (ما) شرطية أو متضمنة معناه ، ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية. (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من الذنوب فلا يعاقب عليها. والآية مخصوصة بالمجرمين ، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فائتين ما قضى عليكم من المصائب. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يحرسكم عنها. (وَلا نَصِيرٍ) يدفعها عنكم.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ)(٣٤)

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) السفن الجارية. (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال. قالت الخنساء :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) وقرئ «الرياح». (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) فيبقين ثوابت على ظهر البحر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لكل من وكل همته وحبس نفسه على النظر في آيات الله والتفكر في آلائه ، أو لكل مؤمن كامل الإيمان فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.

(أَوْ يُوبِقْهُنَ) أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة ، والمراد إهلاك أهلها لقوله : (بِما كَسَبُوا) وأصله أو يرسلها فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود كما في قوله : (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا بذنوبهم وينج ناسا على العفو منهم ، وقرئ «ويعفو» على الاستئناف.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٣٦)

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم (وَيَعْلَمَ) ، أو على الجزاء ونصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستة لأنه أيضا غير واجب ، وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف ، وقرئ بالجزم عطفا على (يَعْفُ) فيكون المعنى ويجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير آخرين. (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) محيد من العذاب والجملة معلق عنها الفعل.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) تمتعون به مدة حياتكم. (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة. (خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) لخلوص نفعه ودوامه و (ما) الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية.


وعن علي رضي الله عنه : تصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه بماله كله فلامه جمع فنزلت.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣٨)

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ) بما بعده عطف على (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أو مدح منصوب أو مرفوع ، وبناء (يَغْفِرُونَ) على ضميرهم خبرا للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب ، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم».

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان فاستجابوا له. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه ، وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأمور ، وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الله الخير.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠)

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) على ما جعله الله لهم كراهة التذلل ، وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران ، فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم ، والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي ، ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وسمى الثانية (سَيِّئَةٍ) للازدواج ، أو لأنها تسوء من تنزل به. (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) بينه وبين عدوه. (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) عدة مبهمة تدل على عظم الموعود. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) المبتدئين بالسيئة والمتجاوزين في الانتقام.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤٢)

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) بعد ما ظلم ، وقد قرئ به. (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بالمعاتبة والمعاقبة.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدئونهم بالإضرار ويطلبون ما لا يستحقونه تجبرا عليهم.

(وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ظلمهم وبغيهم.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)(٤٤)

(وَلَمَنْ صَبَرَ) على الأذى. (وَغَفَرَ) ولم ينتصر. (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم : السمن منوان بدرهم ، للعلم به.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه. (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقا. (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) هل إلى رجعة إلى


الدنيا.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)(٤٦)

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) على النار ، ويدل عليه (الْعَذابَ). (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل. (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف. (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) بالتعريض للعذاب المخلد. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف ل (خَسِرُوا) والقول في الدنيا ، أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال. (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) إلى الهدى أو النجاة.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِير(٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)(٤٨)

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) لا يرده الله بعد ما حكم به و (مِنْ) صلة ل (مَرَدَّ). وقيل صلة (يَأْتِيَ) أي من قبل أن يأتي يوم من الله لا يمكن رده. (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) مفر. (يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوّن في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) رقيبا أو محاسبا. (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد بلغت. (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) أراد بالإنسان الجنس لقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها ، وهذا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه. وتصدير الشرطية الأولى ب (إِذا) والثانية ب (إِنْ) لأن إذاقة النعمة محققة من حيث إنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية ، وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(٥٠)

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فله أن يقسم النعمة والبلية كيف يشاء. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من غير لزوم ومجال اعتراض. (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ).

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) بدل من (يَخْلُقُ) بدل البعض ، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفا واحدا من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعا ويعقم آخرين ، ولعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكثير النسل ، أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة الله لا مشيئة الإنسان والإناث كذلك ، أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء ، أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور ، أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في


الثالث لأنه قسيم المشترك بين القسمين ، ولم يحتج إليه الرابع لإفصاحه بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة. (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٥١)

(وَما كانَ لِبَشَرٍ) وما صح له. (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) كلاما خفيا يدرك لأنه بسرعة تمثيل ليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة ، وهو ما يعم المشافه به كما روي في حديث المعراج ، وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى في طوى والطور ، ولكن عطف قوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها. وقيل المراد به الإلهام والإلقاء في الروع أو الوحي المنزل به الملك إلى الرسل فيكون المراد بقوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أو يرسل إليه نبيا فيبلغ وحيه كما أمره ، وعلى الأول المراد بالرسول الملك الموحي إلى الرسل ، ووحيا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأن (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) صفة كلام محذوف والإرسال نوع من الكلام ، ويجوز أن يكون وحيا ويرسل مصدرين و (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ظرفا وقعت أحوالا ، وقرأ نافع (أَوْ يُرْسِلَ) برفع اللام. (إِنَّهُ عَلِيٌ) عن صفات المخلوقين. (حَكِيمٌ) يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بوسط ، وتارة بغير وسط إما عيانا وإما من وراء حجاب.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٥٣)

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يعني ما أوحي إليه ، وسماه روحا لأن القلوب تحيا به ، وقيل جبريل والمعنى أرسلناه إليك بالوحي. (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي قبل الوحي ، وهو دليل على أنه لم يكن متعبدا قبل النبوة بشرع. وقيل المراد هو الإيمان بما لا طريق إليه إلا السمع. (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أي الروح أو الكتاب أو الإيمان. (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) بالتوفيق للقبول والنظر فيه. (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الإسلام ، وقرئ «لتهدى» أي ليهديك الله.

(صِراطِ اللهِ) بدل من الأول. (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) بارتفاع الوسائط والتعلقات ، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له».


(٤٣) سورة الزخرف

مكية وقيل إلا قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا)

وآيها تسع وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤)

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآنا عربيا ، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه كقول أبي تمام : وثناياك أنّها إغريض. ولعل أقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه ، وبالقرآن من حيث إنه معجز مبين لطرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة ، أو بين للعرب ما يدل على أنه تعالى صيره كذلك

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي تفهموا معانيه.

(وَإِنَّهُ) عطف على إنا ، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر على الاستئناف. (فِي أُمِّ الْكِتابِ) في اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية ، وقرئ أم الكتاب بالكسر. (لَدَيْنا) محفوظا عندنا عن التغيير. (لَعَلِيٌ) رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من بينها. (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة ، أو محكم لا ينسخه غيره. وهما خبران لأن و (فِي أُمِّ الْكِتابِ) متعلق ب «عليّ» واللام لا تمنعه ، أو حال منه و (لَدَيْنا) بدل منه أو حال من (أُمِّ الْكِتابِ).

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)(٥)

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، قال طرفة :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّيف قونس الفرس

والفاء للعطف على محذوف أي أنهملكم فنضرب (عَنْكُمُ الذِّكْرَ) ، و (صَفْحاً) مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم أعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين ، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك. وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفا ويؤيده أنه قرئ «صفحا» بالضم ، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين ، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه. (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي لأن كنتم ، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض عنهم ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي (أَنْ) بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالا لهم ، وما قبلها دليل الجزاء.


(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)(٨)

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن استهزاء قومه.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي من القوم المسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبرا عنهم.

(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) وسلف في القرآن قصتهم العجيبة ، وفيه وعد للرسول ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ)(١١)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) لعله لازم مقولهم أو ما دل عليه إجمالا أقيم مقامه تقريرا لإلزام الحجة عليهم ، فكأنهم قالوا «الله» كما حكي عنهم في مواضع أخر وهو الذي من صفته ما سرد من الصفات ، ويجوز أن يكون مقولهم وما بعده استئناف.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) فتستقرون فيها وقرأ غير الكوفيون «مهادا» بالألف.

(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا إلى مقاصدكم ، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) بمقدار ينفع ولا يضر. (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) مال عنه النماء. وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد والمكان. (كَذلِكَ) مثل ذلك الإنشار. (تُخْرَجُونَ) تنشرون من قبوركم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تخرجون بفتح التاء وضم الراء.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(١٤)

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أصناف المخلوقات. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) ما تركبونه على تغليب المتعدي بنفسه على المتعدي بغيره إذ يقال : ركبت الدابة وركبت في السفينة ، أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال :

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى. (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها. (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه ، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف. وقرئ بالتشديد والمعنى واحد. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال. (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) إلى قوله :

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون ، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى ، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى.


(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)(١٥)

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) متصل بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي وقد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف من عباده ولدا فقالوا الملائكة بنات الله ، ولعله سماه جزءا كما سمي بعضا لأنه بضعة من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته ، وقرأ أبو بكر «جزءوا» بضمتين. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ظاهر الكفران ومن ذلك نسبة الولد إلى الله لأنها من فرط الجهل به والتحقير لشأنه.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)(١٧)

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) معنى الهمزة في (أَمِ) للإنكار والتعجب من شأنهم حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءا حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخس مما اختير لهم وأبغض الأشياء إليهم ، بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمه به كما قال :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) بالجنس الذي جعله له مثلا إذ الولد لا بد وأن يماثل الوالد. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) صار وجهه أسود في الغاية لما يعتريه من الكآبة. (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء قلبه من الكرب ، وفي ذلك دلالات على فساد ما قالوه ، وتعريف البنين بما مر في الذكور ، وقرئ «مسودّ» و «مسوادّ» على أن في (ظَلَ) ضمير المبشر و «وجهه مسود» جملة وقعت خبرا.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)(١٩)

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أي أو جعلوا له ، أو اتخذ من يتربى في الزينة يعني البنات. (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) في المجادلة. (غَيْرُ مُبِينٍ) مقرر لما يدعيه من نقصان العقل وضعف الرأي ، ويجوز أن يكون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من هذا حالة ولده و (فِي الْخِصامِ) متعلق ب (مُبِينٍ) ، وإضافة (غَيْرُ) إليه لا يمنعه لما عرفت. وقرأ حمزة والكسائي وحفص ينشّأ أي يربي. وقرئ «ينشأ» و «يناشأ» بمعناه ونظير ذلك أعلاه وعلاه وعالاه بمعنى.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) كفر آخر تضمنه مقالهم شنع به عليهم ، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله تعالى أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا. وقرئ عبيد وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب «عند» على تمثيل زلفاهم. وقرئ «أنثا» وهو جمع الجمع. (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أحضروا خلق الله إياهم فشاهدوهم إناثا ، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل وتهكم بهم. وقرأ نافع أشهدوا بهمزة الاستفهام وهمزة مضمومة بين بين ، و «ءاأشهدوا» بمدة بينهما. (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) التي شهدوا بها على الملائكة. (وَيُسْئَلُونَ) أي عنها يوم القيامة ، وهو وعيد شديد. وقرئ «سيكتب» و «سنكتب» بالياء والنون. و «شهاداتهم» وهي أن لله جزءا أو أن له بنات وهن الملائكة ويساءلون من المساءلة.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)(٢١)

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها ، وذلك باطل لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على


بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو غيره ، ولذلك جهلهم فقال : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يتمحلون تمحلا باطلا ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى أصل الدعوى كأنه لما أبدى وجوه فسادها وحكى شبهتهم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل ، ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل فقال :

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن أو ادعائهم ينطق على صحة ما قالوه. (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) بذلك الكتاب متمسكون.

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(٢٣)

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية ، وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة ، وال (أُمَّةٍ) الطريقة التي تؤم كالراحلة للمرحول إليه ، وقرئت بالكسر وهي الحالة التي يكون عليها الآم أي القاصد ومنها الدين.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم ، وأن مقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه ، وتخصيص المترفين إشعار بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(٢٥)

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا) أي أتتبعون آبائكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ، وهي حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير ، أو خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيد الأول أنه قرأ ابن عامر وحفص (قالَ) وقوله : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي وإن كان أهدى إقناطا للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالاستئصال. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ولا تكترث بتكذيبهم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٢٨)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) واذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل ، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم. (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) بريء من عبادتكم أو معبودكم ، مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث ، وقرئ «بريء» و «براء» ككريم وكرام.

(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) استثناء منقطع أو متصل على أن «ما» يعم أولي العلم وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام والأوثان ، أو صفة على أن «ما» موصوفة أي إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني. (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) سيثبتني على الهداية ، أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني إليه.

(وَجَعَلَها) وجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو الله كلمة التوحيد. (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) في ذريته فيكون فيهم أبدا من يوحد الله ويدعو إلى توحيده ، وقرئ «كلمة» و «في عقبه» على التخفيف و «في عاقبه»


أي فيمن عقبه. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يرجع من أشرك بدعاء من وحد.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ)(٣٠)

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) هؤلاء المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش وآباءهم بالمد في العمر والنعمة ، فاغتروا لذلك وانهمكوا في الشهوات. وقرئ «متعت» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) مبالغة في تعييرهم. (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) دعوة التوحيد أو القرآن. (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر الرسالة بما له من المعجزات ، أو (مُبِينٌ) للتوحيد بالحجج والآيات.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) لينبههم عن غفلتهم (قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به ، فسموا القرآن سحرا وكفروا به واستحقروا الرسول.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٣٢)

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) من إحدى القريتين مكة والطائف. (عَظِيمٍ) بالجاه والمال كالوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي ، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم ، ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية ، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم ، والمراد بالرحمة النبوة. (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهم عاجزون عن تدبيرها وهي خويصة أمرهم في دنياهم ، فمن أين لهم أن يدبروا أمر النبوة التي هي أعلى المراتب الإنسية ، وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله. (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) وأوقعنا بينهم التفاوت في الرزق وغيره. (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ليستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وتضام ينتظم بذلك نظام العالم ، لا لكمال في الموسع ولا لنقص في المقتر ، ثم إنه لا اعتراض لهم علينا في ذلك ولا تصرف فكيف يكون فيما هو أعلى منه. (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) يعني هذه النبوة وما يتبعها. (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا والعظيم من رزق منها لا منه.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)(٣٥)

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) لولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه. (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) ومصاعد جمع معرج ، وقرئ «ومعاريج» جمع معراج. (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) يعلون السطوح لحقارة الدنيا ، (وَلِبُيُوتِهِمْ) بدل من (لِمَنْ) بدل الاشتمال أو على كقولك : وهبت له ثوبا لقميصه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «وسقفا» اكتفاء بجمع البيوت ، وقرئ «سقفا» بالتخفيف و «سقوفا» و «سقفا» وهي لغة في سقف. (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) أي أبوابا وسررا من فضة.


(وَزُخْرُفاً) وزينة عطف على (سُقُفاً) أو ذهبا عطف على محل من فضة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) إن هي المخففة واللام هي الفارقة. وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا وإن نافية ، وقرئ به مع أن وما (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) عن الكفر والمعاصي ، وفيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا ، وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإيمان ، وهو أنه تمتع قليل بالإضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)(٣٧)

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) يتعام ويعرض عنه لفرط اشتغاله بالمحسوسات وانهماكه في الشهوات ، وقرئ «يعش» بالفتح أي يعم يقال عشى إذا كان في بصره آفة وعشى إذا تعشى بلا آفة كعرج وعرج ، وقرئ «يعشو» على أن (مَنْ) موصولة. (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يوسوسه ويغويه دائما ، وقرأ يعقوب بالياء على إسناده إلى ضمير (الرَّحْمنِ) ، ومن رفع «يعشو» ينبغي أن يرفع (نُقَيِّضْ).

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) عن الطريق الذي من حقه أن يسبل ، وجمع الضميرين للمعنى إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الضمائر الثلاثة الأول له والباقيان للشيطان.

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ)(٣٩)

(حَتَّى إِذا جاءَنا) أي العاشي ، وقرأ الحجازيان وابن عامر وأبو بكر «جاآنا» أي العاشي والشيطان. (قالَ) أي العاشي للشيطان. (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) بعد المشرق من المغرب ، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما. (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أنت.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) أي ما أنتم عليه من التمني. (إِذْ ظَلَمْتُمْ) إذ صح أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بدل من (الْيَوْمَ). (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه ، ويجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى. ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في أمر صعب معاونتهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لمكابدة عنائه ، إذ لكل منكم ما لا تسعه طاقته. وقرئ «إنّكم» بالكسر وهو يقوي الأول.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)(٤٢)

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) إنكار وتعجب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد تمرنهم على الكفر واستغراقهم في الضلال بحيث صار عشاهم عمى مقرونا بالصمم. كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعب نفسه في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا فنزلت. (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف على (الْعُمْيَ) باعتبار تغاير الوصفين ، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) أي فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ، و «ما» مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) بعذاب في الدنيا والآخرة.


(أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أو إن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب ، وقرأ يعقوب برواية رويس أو (نُرِيَنَّكَ) بإسكان النون وكذا (نَذْهَبَنَ). (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) لا يفوتوننا.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ)(٤٤)

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) من الآيات والشرائع ، وقرئ «أوحي» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا عوج له.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ) لشرف لك. (وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) أي عنه يوم القيامة وعن قيامكم بحقه.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(٤٥)

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) أي واسأل أممهم وعلماء دينهم ، وقرأ ابن كثير والكسائي بتخفيف الهمزة. (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) هل حكمنا بعبادة الأوثان وهل جاءت في ملة من مللهم ، والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه فيكذب ويعادى له ، فإنه كان أقوى ما حملهم على التكذيب والمخالفة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ)(٤٧)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) يريد باقتصاصه تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناقضة قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) والاستشهاد بدعوة موسى عليه‌السلام إلى التوحيد ليتأملوا فيها.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) فاجؤوا وقت ضحكهم منها ، أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٤٨)

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) إلا هي بالغة أقصى درجات الإعجاز بحيث يحسب الناظر فيها أنها أكبر مما يقاس إليها من الآيات ، والمراد وصف الكل بالكبر كقولك : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، وكقوله :

من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم

مثل النّجوم الّتي يسري بها السّاري

أو (إِلَّا) وهي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) كالسنين والطوفان والجراد. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) على وجه يرجى رجوعهم.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)(٥٠)

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) نادوه بذلك في تلك الحال لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم ، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحرا. وقرأ ابن عامر بضم الهاء (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) فيكشف عنا العذاب. (بِما عَهِدَ


عِنْدَكَ) بعهده عندك من النبوة ، أو من أن يستجيب دعوتك ، أو أن يكشف العذاب عمن اهتدى ، أو (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) فوفيت به وهو الإيمان والطاعة. (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ).

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) فاجؤوا نكث عهدهم بالاهتداء.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ)(٥٢)

(وَنادى فِرْعَوْنُ) بنفسه أو بمناديه. (فِي قَوْمِهِ) في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم. (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) أنهار النيل ومعظمها أربعة أنهر : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) تحت قصري أو أمري ، أو بين يدي في جناني والواو إما عاطفة لهذه (الْأَنْهارُ) على الملك و (تَجْرِي) حال منها. أو واو حال وهذه مبتدأ و (الْأَنْهارُ) صفتها و (تَجْرِي) خبرها. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ذلك.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ) مع هذه المملكة والبسطة. (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) ضعيف حقير لا يستعد للرئاسة ، من المهانة وهي القلة. (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الكلام لما به من الرتة فكيف يصلح للرسالة ، و (أَمْ) إما منقطعة والهمزة فيها للتقرير إذ قدم من أسباب فضله ، أو متصلة على إقامة المسبب مقام السبب. والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون فتعلمون أني خير منه.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(٥٤)

فلو لا ألقي عليه أساورة من ذهب أي فهلا ألقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقا ، إذ كانوا إذا سودوا رجلا سوروه وطوقوه بسوار وطوق من ذهب ، وأساورة جمع إسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير. وقد قرئ به وقرأ يعقوب وحفص (أَسْوِرَةٌ) وهي جمع سوار. وقرئ «أساور» جمع «أسورة» و «ألقى عليه أسورة» و «أساور» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) مقرونين يعينونه أو يصدقونه من قرنته به فاقترن ، أو متقارنين من اقترن بمعنى تقارن.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) فطلب منهم الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلامهم. (فَأَطاعُوهُ) فيما أمرهم به (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)(٥٦)

(فَلَمَّا آسَفُونا) أغضبونا بالإفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه. (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) في اليم.

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) قدوة لمن بعدهم من الكفار يقتدون به في استحقاق مثل عقابهم ، مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم وخادم ، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام جمع سليف كرغف ورغيف ، أو سالف كصبر جمع صابر أو سلف كخشب. وقرئ «سلفا» بإبدال ضمة اللام فتحة أو على أنه جمع سلفة أي ثلة قد سلفت. (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) وعظة لهم أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم فيقال : مثلكم مثل قوم فرعون.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما


ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(٥٨)

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) أي ضربه ابن الزبعري لما جادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أو غيره بأن قال النصارى أهل كتاب وهم يعبدون عيسى عليه‌السلام ويزعمون أنه ابن الله والملائكة أولى بذلك ، أو على قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) أو أن محمدا يريد أن نعبده كما عبد المسيح. (إِذا قَوْمُكَ) قريش (مِنْهُ) من هذا المثل. (يَصِدُّونَ) يضجون فرحا لظنهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار ملزما به. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالضم من الصدود أي يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل هما لغتان نحو يعكف ويعكف.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي آلهتنا خير عندك أم عيسى عليه‌السلام فإن يكن في النار فلتكن آلهتنا معه ، أو آلهتنا الملائكة خير أم عيسى عليه‌السلام فإذا جاز أن يعبد ويكون ابن الله كانت آلهتنا أولى بذلك ، أو آلهتنا خير أم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنعبده وندع آلهتنا. وقرأ الكوفيون «أآلهتنا» بتحقيق الهمزتين وألف بعدهما. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل والخصومة لا لتمييز الحق من الباطل. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) شداد الخصومة حراص على اللجاج.

(إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)(٦٠)

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة. (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أمرا عجيبا كالمثل السائر لبني إسرائيل ، وهو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) لولدنا منكم يا رجال كما ولدنا عيسى من غير أب ، أو لجعلنا بدلكم. (مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) ملائكة يخلفونكم في الأرض ، والمعنى أن حال عيسى عليه‌السلام وإن كانت عجيبة فإنه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك ، وأن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا ، فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله سبحانه وتعالى.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٢)

(وَإِنَّهُ) وإن عيسى عليه‌السلام. (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) لأن حدوثه أو نزوله من أشراط الساعة يعلم به دنوها ، أو لأن احياء الموتى يدل على قدرة الله تعالى عليه. وقرئ «لعلم» أي لعلامة ولذكر على تسمية ما يذكر به ذكرا ، وفي الحديث ينزل عيسى عليه‌السلام على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة يقتل بها الدجال ، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه‌السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النصارى إلا من آمن به. وقيل الضمير للقرآن فإن فيه الإعلام بالساعة والدلالة عليها. (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) فلا تشكن فيها. (وَاتَّبِعُونِ) واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي. وقيل هو قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يقوله. (هذا) الذي أدعوكم إليه. (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا يضل سالكه.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن المتابعة. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ثابت عداوته بأن أخرجكم عن الجنة وعرضكم للبلية.


(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٦٤)

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو بآيات الإنجيل ، أو بالشرائع الواضحات. (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) بالإنجيل أو بالشريعة. (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) وهو ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا ، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لبيانه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «أنتم أعلم بأمر دنياكم». (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فيما أبلغه عنه.

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بيان لما أمرهم بالطاعة فيه ، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع. (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الإشارة إلى مجموع الأمرين وهو تتمة كلام عيسى عليه‌السلام ، أو استئناف من الله تعالى يدل على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)(٦٧)

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) الفرق المتحزبة. (مِنْ بَيْنِهِمْ) من بين النصارى أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث إليهم. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من المتحزبين (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) هو القيامة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) الضمير لقريش أو (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا). (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من (السَّاعَةَ) والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. (بَغْتَةً) فجأة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) غافلون عنها لاشتغالهم بأمور الدنيا وإنكارهم لها.

(الْأَخِلَّاءُ) الأحباء (يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي يتعادون يومئذ لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتخالون له سببا للعذاب. (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن خلتهم لما كانت في الله تبقى نافعة أبد الآباد.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ)(٦٩)

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) حكاية لما ينادي به المتقون المتحابون في الله يومئذ ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بغير الياء.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) صفة المنادى. (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) حال من الواو أي الذين آمنوا مخلصين ، غير أن هذه العبارة آكد وأبلغ.

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ)(٧١)

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) نساؤكم المؤمنات. (تُحْبَرُونَ) تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوهكم ، أو تزينون من الحبر وهو حسن الهيئة أو تكرمون إكراما يبالغ فيه ، والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) الصحاف جمع صحفة ، والأكواب جمع كوب وهو كوز لا


عروة له. (وَفِيها) وفي الجنة ما تشتهي الأنفس وقرأ نافع وابن عامر وحفص (تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) على الأصل. (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) بمشاهدته وذلك تعميم بعد تخصيص ما يعد من الزوائد في التنعم والتلذذ. (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الحال.

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ)(٧٣)

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقرأ ورثتموها ، شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل ، وتلك إشارة إلى الجنة المذكورة وقعت مبتدأ والجنة خبرها ، و (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) صفتها أو (الْجَنَّةُ) صفة (تِلْكَ) و (الَّتِي) خبرها أو صفة (الْجَنَّةُ) والخبر (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، وعليه يتعلق الباء بمحذوف لا ب (أُورِثْتُمُوها).

(لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) بعضها تأكلون لكثرتها ودوام نوعها ، ولعل تفصيل التنعم بالمطاعم والملابس وتكريره في القرآن وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعائم الجنة لما كان بهم من الشدة والفاقة.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)(٧٦)

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الكاملين في الإجرام وهم الكفار لأنه جعل قسيم المؤمنين بالآيات ، وحكى عنهم ما يخص بالكفار. (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) خبر إن أو خالدون خبر والظرف متعلق به.

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا والتركيب للضعف. (وَهُمْ فِيهِ) في العذاب (مُبْلِسُونَ) آيسون من النجاة.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) مر مثله غير مرة وهم فصل.

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)(٧٨)

(وَنادَوْا يا مالِكُ) وقرئ «يا مال» على الترخيم مكسورا ومضموما ، ولعله إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام ولذلك اختصروا فقالوا : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) والمعنى سل ربنا أن يقضي علينا من قضى عليه إذا أماته ، وهو لا ينافي إبلاسهم فإنه جؤار وتمن للموت من فرط الشدة (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) لا خلاص لكم بموت ولا بغيره.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) بالإرسال والإنزال ، وهو تتمة الجواب إن كان في (قالَ) ضمير الله وإلا فجواب منه فكأنه تعالى تولى جوابهم بعد جواب مالك. (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لما في اتباعه من إتعاب النفس وآداب الجوارح.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)(٨٠)

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته. (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أمرا في مجازاتهم والعدول عن الخطاب للإشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم ، أو أم أحكم المشركون أمرا من كيدهم بالرسول


(فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كيدنا بهم ، ويؤيده قوله :

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) حديث أنفسهم بذلك. (وَنَجْواهُمْ) وتناجيهم. (بَلى) نسمعهما. (وَرُسُلُنا) والحفظة مع ذلك. (لَدَيْهِمْ) ملازمة لهم. (يَكْتُبُونَ) ذلك.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)(٨١)

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) منكم فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون أعلم بالله وبما يصح له وبما لا يصح له ، وأولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ومن تعظيم الوالد تعظيم ولده ، ولا يلزم من ذلك صحة كينونة الولد وعبادته له إذ المحال قد يستلزم المحال بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) غير أن (لَوْ) ثم مشعرة بانتفاء الطرفين ، وإن هاهنا لا تشعر به ولا بنقيضه فإنها لمجرد الشريطة بل الانتفاء معلوم لانتفاء اللازم الدال على انتفاء ملزومه ، والدلالة على أن إنكاره الولد ليس لعناد ومراء بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به. وقيل معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له أو الآنفين منه ، أو من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه ، أو ما كان له ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة. وقرأ حمزة والكسائي ولد بالضم وسكون اللام.

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٨٣)

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) عن كونه ذا ولد فإن هذه الأجسام لكونها أصولا ذات استمرار تبرأت عما يتصف به سائر الأجسام من توليد المثل ، فما ظنك بمبدعها وخالقها.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم. (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم. (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي يوم القيامة ، وهو دلالة على أن قولهم هذا جهل واتباع هوى ، وأنهم مطبوع على قلوبهم معذبون في الآخرة.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٥)

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) مستحق لأن يعبد فيهما ، والظرف متعلق به لأنه بمعنى المعبود أو متضمن معناه كقولك : هو حاتم في البلد ، وكذا فيمن قرأ «الله» والراجع مبتدأ محذوف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه ، ولا يجوز جعله خبرا له لأنه لا يبقى له عائد لكن لو جعل صلة وقدر الإله مبتدأ محذوف يكون به جملة مبينة للصلة دالة على أن كونه في السماء بمعنى الألوهية دون الاستقرار ، وفيه نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاصه باستحقاق الألوهية. (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) كالدليل عليه.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) كالهواء. (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وروح بالتاء على الالتفات للتهديد.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٨٧)

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله. (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ


وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بالتوحيد ، والاستثناء متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله لاندراج الملائكة والمسيح فيه ، ومنفصل إن خص بالأصنام.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) سألت العابدين أو المعبودين. (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٨٩)

(وَقِيلِهِ) وقول الرسول ونصبه للعطف على سرهم ، أو على محل الساعة أو لإضمار فعله أي وقال (قِيلِهِ). وجره عاصم وحمزة عطفا على (السَّاعَةِ) ، وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ خبره : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أو معطوف على (عِلْمُ السَّاعَةِ) بتقدير مضاف. وقيل هو قسم منصوب بحذف الجار أو مجرور بإضماره ، أو مرفوع بتقدير (وَقِيلِهِ يا رَبِ) قسمي ، و (إِنَّ هؤُلاءِ) جوابه.

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) فأعرض عن دعوتهم آيسا عن إيمانهم. (وَقُلْ سَلامٌ) تسلم منكم ومتاركة. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تسلية للرسول وتهديد لهم ، وقرأ نافع وابن عامر بالتاء على أنه من المأمور بقوله.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون».


(٤٤) سورة الدخان

مكية إلا قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية ،

وهي سبع أو تسع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)(٣)

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) القرآن والواو للعطف إن كان (حم) مقسما به وإلا فللقسم والجواب قوله: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ليلة القدر ، أو البراءة ابتدئ فيها إنزاله ، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ ، ثم أنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما وبركتها لذلك ، فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية ، أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية. (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) استئناف يبين المقتضي للإنزال وكذلك قوله :

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦)

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فإن كونها مفرق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة يستدعي أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها ، ويجوز أن يكون صفة (لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وما بينهما اعتراض ، وهو يدل على أن الليلة ليلة القدر لأنه صفتها لقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وقرئ «يفرق» بالتشديد و «يفرق كل» أي يفرقه الله ، و «نفرق» بالنون.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا ، وهو مزيد تفخيم للأمر ويجوز أن يكون حالا من (كل) أو أمر ، أو ضميره المستكن في (حَكِيمٍ) لأنه موصوف ، وأن يكون المراد به مقابل النهي وقع مصدرا ل (يُفْرَقُ) أو لفعله مضمرا من حيث إن الفرق به ، أو حالا من أحد ضميري (أَنْزَلْناهُ) بمعنى آمرين أو مأمورا. (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) بدل من (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم ، وضع الرب موضع الضمير للإشعار بأن الربوبية اقتضت ذلك ، فإنه أعظم أنواع التربية أو علة ل (يُفْرَقُ) أو (أَمْراً) ، و (رَحْمَةً) مفعول به أي يفصل فيها كل أمر أو تصدر الأوامر (مِنْ عِنْدِنا) لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا ، فإن فصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها وصدور الأوامر الإلهية من باب الرحمة ، وقرئ «رحمة» على تلك رحمة. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع أقوال العباد ويعلم أحوالهم ، وهو بما بعده تحقيق لربوبيته فإنها لا تحق إلا لمن هذه صفاته.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ


آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)(٩)

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) خبر آخر أو استئناف. وقرأ الكوفيون بالجر بدلا (مِنْ رَبِّكَ). (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم ، أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها؟ فقلتم الله ، علمتم أن الأمر كما قلنا ، أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا خالق سواه. (يُحْيِي وَيُمِيتُ) كما تشاهدون. (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقرئا بالجر بدلا (مِنْ رَبِّكَ).

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) رد لكونهم موقنين.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ)(١١)

(فَارْتَقِبْ) فانتظر لهم. (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره ، أو لأن الهواء يظلم عام القحط لقلة الأمطار وكثرة الغبار ، أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخانا وقد قحطوا حتى أكلوا جيف الكلاب وعظامها ، وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفه عن الأمطار ، أو يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة لما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال : أول الآيات الدخان ونزول عيسى عليه‌السلام ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر. قيل وما الدخان فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية وقال : «يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» أو يوم القيامة والدخان يحتمل المعنيين.

(يَغْشَى النَّاسَ) يحيط بهم صفة للدخان وقوله : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ).

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)(١٤)

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) مقدر بقول وقع حالا و (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) من أين لهم وكيف يتذكرون بهذه الحالة. (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) بين لهم ما هو أعظم منها في إيجاب الإذكار من الآيات والمعجزات.

(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي قال بعضهم يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف وقال آخرون إنه (مَجْنُونٌ).

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)(١٦)

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لما دعا رفع القحط (قَلِيلاً) كشفا قليلا أو زمانا قليلا وهو ما بقي من أعمارهم. (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى الكفر غب الكشف ، ومن فسر الدخان بما هو من الأشراط قال إذا جاء الدخان غوّث الكفار بالدعاء فيكشفه الله عنهم بعد الأربعين ، فريثما يكشفه عنهم يرتدون ، ومن فسره بما في القيامة أوّله بالشرط والتقدير :

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) يوم القيامة أو يوم بدر ظرف لفعل دل عليه. (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) لا لمنتقمون فإن إن تحجزه عنه ، أو بدل من (يَوْمَ تَأْتِي). وقرئ «نبطش» أي نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم ، أو تحمل الملائكة على بطشهم وهو التناول بصولة.


(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)(١٨)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) امتحناهم بإرسال موسى عليه‌السلام إليهم ، أو أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم. وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم. (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) على الله أو على المؤمنين أو في نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه.

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) بأن أدوهم إليّ وأرسلوهم معي ، أو بأن أدوا إلي حق الله من الإيمان وقبول الدعوة يا عباد الله ، ويجوز أن تكون (أَنْ) مخففة ومفسرة لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) غير متهم لدلالة المعجزات على صدقه ، أو لائتمان الله إياه على وحيه وهو علة الأمر.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠)

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) ولا تتكبروا عليه بالاستهانة بوحيه ورسوله ، و (أَنْ) كالأولى في وجهيها.

(إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) علة للنهي ولذكر ال (أَمِينٌ) مع الأداء ، والسلطان مع العلاء شأن لا يخفى.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) التجأت إليه وتوكلت عليه. (أَنْ تَرْجُمُونِ) أن تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني. وقرئ «عت» بالإدغام فيه.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ)(٢٢)

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ، ولا تتعرضوا إليّ بسوء فإنه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم.

(فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما كذبوه. (أَنَّ هؤُلاءِ) بأن هؤلاء (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به ولذلك سماه دعاء ، وقرئ بالكسر على إضمار القول.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)(٢٤)

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي فقال أسر أو قال إن كان الأمر كذلك (فَأَسْرِ) ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بوصل الهمزة من سرى (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) مفتوحا ذا فجوة واسعة أو ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته ولا تضربه بعصاك ولا تغير منه شيئا ليدخله القبط (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وقرئ بالفتح بمعنى لأنهم.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ)(٢٧)

(كَمْ تَرَكُوا) كثيرا تركوا. (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) محافل مزينة ومنازل حسنة.

(وَنَعْمَةٍ) وتنعم. (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) متنعمين ، وقرئ «فكهين».

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ)(٢٩)

(كَذلِكَ) مثل ذلك الإخراج أخرجناهم أو الأمر كذلك. (وَأَوْرَثْناها) عطف على المقدر أو على (تَرَكُوا). (قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل ، وقيل غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر.


(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم :

بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك. ومنه ما روي في الأخبار : إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه. وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) ممهلين إلى وقت آخر.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) من استعباد فرعون وقتله أبناءهم.

(مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من (الْعَذابِ) على حذف المضاف ، أو جعله عذاب لإفراطه في التعذيب ، أو حال من المهين بمعنى واقعا من جهته ، وقرئ «من فرعون» على الاستفهام تنكير له لنكر ما كان عليه من الشيطنة. (إِنَّهُ كانَ عالِياً) متكبرا. (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) في العتو والشرارة ، وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا ، أو حال من الضمير في (عالِياً) أي كان رفيع الطبقة من بينهم.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)(٣٣)

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) اخترنا بني إسرائيل. (عَلى عِلْمٍ) عالمين بأنهم أحقاء بذلك ، أو مع علم منا بأنهم يزيغون في بعض الأحوال. (عَلَى الْعالَمِينَ) لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمي زمانهم.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى. (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) نعمة جلية أو اختبار ظاهر.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ)(٣٥)

(إِنَّ هؤُلاءِ) يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة ، والإنذار عن مثل ما حل بهم. (لَيَقُولُونَ).

(إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا قصد فيه إلى إثبات ثانية كما في قولك. حج زيد الحجة الأولى ومات. وقيل لما قيل إنكم تموتون موتة يعقبها حياة كما تقدم منكم موتة كذلك قالوا إن هي إلا موتتنا الأولى ، أي ما الموتة التي من شأنها كذلك إلا الموتة الأولى. (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) بمبعوثين.

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٣٧)

(فَأْتُوا بِآبائِنا) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في وعدكم ليدل عليه.

(أَهُمْ خَيْرٌ) في القوة والمنعة. (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند. وقيل هدمها وكان مؤمنا وقومه كافرين ولذلك ذمهم دونه. وعنه عليه الصلاة والسلام : «ما أدري أكان تبع نبيا أم غير نبي». وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل لهم الأقيال لأنهم يتقيلون. (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود. (أَهْلَكْناهُمْ) استئناف بمآل قوم تبع ، (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو خبر من الموصول إن استؤنف به. (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) بيان للجامع المقتضي للإهلاك.


(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٩)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) وما بين الجنسين وقرئ «وما بينهن». (لاعِبِينَ) لاهين ، وهو دليل على صحة الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها.

(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إلا بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإيمان والطاعة ، أو البعث والجزاء.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لقلة نظرهم.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٤٢)

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) فصل الحق عن الباطل ، أو المحق عن المبطل بالجزاء ، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه. (مِيقاتُهُمْ) وقت موعدهم. (أَجْمَعِينَ) وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على أنه الاسم أي إن ميعاد جزائهم في (يَوْمَ الْفَصْلِ).

(يَوْمَ لا يُغْنِي) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ) أو صفة ل (مِيقاتُهُمْ) ، أو ظرف لما دل عليه الفصل لا له الفصل. (مَوْلًى) من قرابة أو غيرها. (عَنْ مَوْلًى) أي مولى كان. (شَيْئاً) من الإغناء. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) الضمير ل (مَوْلًى) الأول باعتبار المعنى لأنه عام.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه ، ومحله الرفع على البدل من الواو أو النصب على الاستثناء (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) لا ينصر منه من أراد تعذيبه. (الرَّحِيمُ) لمن أراد أن يرحمه.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦)

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) وقرئ بكسر الشين ومعنى (الزَّقُّومِ) سبق في «الصافات».

(طَعامُ الْأَثِيمِ) الكثير الأثام ، والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه.

(كَالْمُهْلِ) وهو ما يمهل في النار حتى يذوب. وقيل دردي الزيت. تغلي في البطون وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء على أن الضمير لل (طَعامُ) ، أو (الزَّقُّومِ) لا «للمهل» إذ الأظهر أن الجملة حال من أحدهما.

(كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) غليانا مثل غليه.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)(٥٠)

(خُذُوهُ) على إرادة القول والمقول له الزبانية. (فَاعْتِلُوهُ) فجروه والعتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر ، وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب بالضم وهما لغتان. (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطه.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) كان أصله يصب من فوق رؤوسهم الحميم فقيل يصب من (فَوْقَ) رؤوسهم (عَذابِ) هو (الْحَمِيمِ) للمبالغة ، ثم أضيف ال (عَذابِ) إلى (الْحَمِيمِ) للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع.


(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي وقولوا له ذلك استهزاء به وتقريعا على ما كان يزعمه ، وقرأ الكسائي (إِنَّكَ) بالفتح أي ذق لأنك أو (عَذابِ إِنَّكَ).

(إِنَّ هذا) إن هذا. العذاب. (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) تشكون وتمارون فيه.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ)(٥٥)

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٥٧)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ) في موضع إقامة ، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم (أَمِينٍ) يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال.

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بدل من مقام جيء به للدلالة على نزاهته ، واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب.

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) خبر ثان أو حال من الضمير في الجار أو استئناف ، والسندس ما رقّ من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب استبره ، أو مشتق من البراقة. (مُتَقابِلِينَ) في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض. (كَذلِكَ) الأمر كذلك أو آتيناهم مثل ذلك. (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قرناهم بهن ولذلك عدي بالباء ، والحوراء البيضاء والعيناء عظيمة العينين ، واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرها.

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا بزمان. (آمِنِينَ) من الضرر.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) بل يحيون فيها دائما ، والاستثناء منقطع أو متصل والضمير للآخرة و (الْمَوْتَ) أول أحوالها ، أو الجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكأنه فيها ، أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع (الْمَوْتَ) فكأنه قال : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل. (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) وقرئ «ووقّاهم» على المبالغة.

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه. وقرئ بالرفع أي ذلك فضل. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)(٥٩)

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) سهلناه حيث أنزلناه بلغتك وهو فذلكة السورة. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يفهمونه فيتذكرون به ما لم يتذكروا.

(فَارْتَقِبْ) فانتظر ما يحل بهم. (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) منتظرون ما يحل بك.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفورا له».


(٤٥) سورة الجاثية

مكية وآيها سبع أو ست وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٤)

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) إن جعلت (حم) مبتدأ خبره (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) احتجت إلى إضمار مثل ذلك (تَنْزِيلُ حم) ، وإن جعلتها تعديدا للحروف كان (تَنْزِيلُ) مبتدأ خبره : (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وقيل (حم) مقسم به و (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) صفته وجواب القسم :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) وهو يحتمل أن يكون على ظاهره وأن يكون المعنى إن في خلق السموات لقوله :

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) ولا يحسن عطف ما على الضمير المجرور بل عطفه على المضاف إليه بأحد الاحتمالين ، فإن بثه وتنوعه واستجماعه لما به يتم معاشه إلى غير ذلك دلائل على وجود الصانع المختار. (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) محمول على محل إن واسمها ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملا على الاسم.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ)(٦)

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) من مطر وسماه رزقا لأنه سببه. (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يبسها. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) باختلاف جهاتها وأحوالها ، وقرأ حمزة والكسائي «وتصريف الريح». (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فيه القراءتان ويلزمهما العطف على عاملين في والابتداء ، أو إن إلا أن يضمر في أو ينصب (آياتٌ) على الاختصاص أو يرفع بإضمار هي ، ولعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي تلك الآيات دلائله (نَتْلُوها عَلَيْكَ) حال عاملها معنى الإشارة. (بِالْحَقِ) ملتبسين به أو ملتبسة به. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) أي بعد آيات الله ، وتقديم اسم (اللهِ) للمبالغة والتعظيم كما في قولك أعجبني زيد وكرمه أو بعد حديث (اللهِ) وهو القرآن كقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) و (آياتِهِ) دلائله المتلوة أو القرآن ، والعطف لتغاير الوصفين. وقرأ الحجازيان وحفص وأبو عمرو وروح (يُؤْمِنُونَ) بالياء ليوافق ما قبله.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا


شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠)

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) كذاب. (أَثِيمٍ) كثير الآثام.

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) يقيم على كفره. (مُسْتَكْبِراً) عن الإيمان بالآيات و (ثُمَ) لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات كقوله : يرى غمرات ثمّ يزورها. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه فخففت وحذف ضمير الشأن والجملة في موضع الحال ، أي يصر مثل غير السامع. (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) على إصراره والبشارة على الأصل أو التهكم.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) وإذا بلغه شيء من (آياتِنا) وعلم أنه منها. (اتَّخَذَها هُزُواً) لذلك من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء ، والضمير ل (آياتِنا) وفائدته الإشعار بأنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من الآيات بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على ما سمعه ، أو لشيء لأنه بمعنى الآية. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) من قدامهم لأنهم متوجهون إليها ، أو من خلفهم لأنها بعد آجالهم. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ) ولا يدفع عنهم. (ما كَسَبُوا) من الأموال والأولاد. (شَيْئاً) من عذاب الله. (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي الأصنام. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يتحملونه.

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(١١)

(هذا هُدىً) الإشارة إلى القرآن ويدل عليه قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع (أَلِيمٌ) وال (رِجْزٍ) أشد العذاب.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١٣)

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه. (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) بتسخيره وأنتم راكبوها. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) التجارة والغوص والصيد وغيرها. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بأن خلقها نافعة لكم. (مِنْهُ) حال من ما أي سخر هذه الأشياء كائنة منه ، أو خبر لمحذوف أي هي جميعا منه ، أو ل (ما فِي السَّماواتِ وَسَخَّرَ لَكُمْ) تكرير للتأكيد أو ل (ما فِي الْأَرْضِ) ، وقرئ منه على المفعول له ومنه على أنه فاعل (سَخَّرَ) على الإسناد المجازي أو خبر محذوف. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في صنائعه.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١٥)

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) حذف المقول لدلالة الجواب عليه ، والمعنى قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا. (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) لا يتوقعون وقائعه بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعهم ، أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم ووعدهم بها. والآية نزلت في عمر رضي الله عنه شتمه غفاري فهم أن يبطش به ، وقيل إنها منسوخة بآية القتال. (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) علة للأمر ، والقوم هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو الشيوع ، والكسب المغفرة أو


الإساءة أو ما يعمهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «لنجزي» بالنون وقرئ «ليجزي قوم» و «ليجزي قوما» أي ليجزي الخير أو الشر أو الجزاء ، أعني ما يجزى به لا المصدر فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي لها ثواب العمل وعليها عقابه. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ(١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٧)

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) التوراة. (وَالْحُكْمَ) والحكمة النظرية والعملية أو فصل الخصومات. (وَالنُّبُوَّةَ) إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) مما أحل الله من اللذائذ. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أدلة في أمر الدين ويندرج فيها المعجزات. وقيل آيات من أمر النبي عليه الصلاة والسلام مبينة لصدقه. (فَمَا اخْتَلَفُوا) في ذلك الأمر. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقيقة الحال. (بَغْياً بَيْنَهُمْ) عداوة وحسدا. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بالمؤاخذة والمجازاة.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)(١٩)

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) طريقة (مِنَ الْأَمْرِ) من أمر الدين. (فَاتَّبِعْها) فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) آراء الجهال التابعة للشهوات ، وهم رؤساء قريش قالوا له ارجع إلى دين آبائك.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) مما أراد بك. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالهم باتباع أهوائهم. (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) فواله بالتقي واتباع الشريعة.

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٢١)

(هذا) أي القرآن أو اتباع الشريعة. (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) بينات تبصرهم وجه الفلاح. (وَهُدىً) من الضلالة. (وَرَحْمَةٌ) ونعمة من الله. (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يطلبون اليقين.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة. (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) أن نصيرهم. (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل وقوله : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بدل منه إن كان الضمير للموصول الأول لأن المماثلة فيه إذ المعنى انكار أن يكون حياتهم ومماتهم سيين في البهجة والكرامة كما هو للمؤمنين ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص سواء بالنصب على البدل أو الحال من الضمير في الكاف ، أو المفعولية والكاف حال وإن كان للثاني فحال منه أو استئناف يبين المقتضى للإنكار ، وإن كان لهما فبدل أو حال من الثاني ، وضمير الأول والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة ،


أو استئناف مقرر لتساوي محيا كل صنف ومماته في الهدى والضلال ، وقرئ «مماتهم» بالنصب على أن (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) ظرفان كمقدم الحاج. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ساء حكمهم هذا أو بئس شيئا حكموا به ذلك.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٢)

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) كأنه دليل على الحكم السابق من حيث إن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم ، والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات. (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) عطف على بالحق لأنه في معنى العلة أو على علة محذوفة مثل ليدل بها على قدرته أو ليعدل (وَلِتُجْزى). (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وتضعيف عقاب ، وتسمية ذلك ظلما ولو فعله الله لم يكن منه ظلما لأنه لو فعله غيره لكان ظلما كالابتلاء والاختبار.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢٥)

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى فكأنه يعبده ، وقرئ «آلهة هواه» لأنه كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه. (وَأَضَلَّهُ اللهُ) وخذله. (عَلى عِلْمٍ) عالما بضلاله وفساد جوهر روحه. (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) فلا يبالي بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار ، وقرأ حمزة والكسائي «غشوة». (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) من بعد إضلاله. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وقرئ «تتذكرون».

(وَقالُوا ما هِيَ) ما الحياة أو الحال. (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) التي نحن فيها. (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نكون أمواتا نطفا وما قبلها ونحيا بعد ذلك ، أو نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا ، أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا ، أو يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة ويحتمل أنهم أرادوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان. (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) إلا مرور الزمان وهو في الأصل مدة بقاء العالم من دهره إذا غلبه. (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعني نسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الاستقلال ، أو إنكار البعث أو كليهما. (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) إذ لا دليل لهم عليه وإنما قالوه بناء على التقليد والإنكار لما لم يحسوا به.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم أو مبينات له. (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) ما كان لهم متشبث يعارضونها به. (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وإنما سماه حجة على حسبانهم ومساقهم ، أو على أسلوب قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع. فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا امتناعه مطلقا.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)(٢٧)

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) على ما دلت عليه الحجج. (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) فإن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما قرر مرارا ، والوعد


المصدق بالآيات دل على وقوعها ، وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم لكن الحكمة اقتضت أن يعادوا يوم الجمع للجزاء. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسونه.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعميم للقدرة بعد تخصيصها. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي ويخسر يوم تقوم و (يَوْمَئِذٍ) بدل منه.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٩)

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة ، أو باركة مستوفزة على الركب. وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع لاستيفازهم. (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) صحيفة أعمالها. وقرأ يعقوب (كُلَ) على أنه بدل من الأول وتدعى صفة أو مفعول ثان. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) محمول على القول.

(هذا كِتابُنا) أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم. (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان. (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) نستكتب الملائكة. (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أعمالكم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ)(٣١)

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) التي من جملتها الجنة. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الظاهر لخلوصه عن الشوائب.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي فيقال لهم ألم يأتكم رسلي (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) ، فحذف القول والمعطوف عليه اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة. (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بها. (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) عادتكم الإجرام.

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٣)

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) يحتمل الموعود به والمصدر. (حَقٌ) كائن هو أو متعلقه لا محالة : (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) إفراد للمقصود ، وقرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم إن. (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي شيء الساعة استغرابا لها. (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أصله نظن ظنا فأدخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظن ونفى ما عداه كأنه قال : ما نحن إلّا نظن ظنا ، أو لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة ثم أكده بقوله : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي لإمكانه ، ولعل ذلك قول بعضهم تحيروا بين ما سمعوا من آبائهم وما تليت عليهم من الآيات في أمر الساعة.

(وَبَدا لَهُمْ) ظهر لهم. (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) على ما كانت عليه بأن عرفوا قبحها وعاينوا وخامة عاقبتها ، أو جزاءها. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو الجزاء.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ


آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(٣٥)

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) نترككم في العذاب ترك ما ينسى. (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) كما تركتم عدته ولم تبالوا به ، وإضافة لقاء إلى يوم إضافة المصدر إلى ظرفه. (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها. (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فحسبتم أن لا حياة سواها. (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه لفوات أوانه.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٣٧)

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إذ الكل نعمة منه ودال على كمال قدرته. (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إذ ظهر فيها آثارها. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب. (الْحَكِيمُ) فيما قدر وقضى فاحمدوه وكبروه وأطيعوا له. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب».


(٤٦) سورة الأحقاف

مكية وآيها أربع أو خمس وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)(٣)

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إلا خلقا ملتبسا بالحق وهو ما تقتضيه الحكمة والمعدلة ، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم ، والبعث للمجازاة على ما قررناه مرارا. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه الكل وهو يوم القيامة ، أو كل واحد وهو آخر مدة بقائه المقدرة له. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) من هول ذلك الوقت ، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية. (مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيه ولا يستعدون لحلوله.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها ، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم فتستحق به العبادة. وتخصيص الشرك بالسموات احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية. (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) من قبل هذا الكتاب يعني القرآن فإنه ناطق بالتوحيد. (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين عل فيها ما يدل على استحقاقهم للعبادة أو الأمر به. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، وهو إلزام بعدم ما يدل على ألوهيتهم بوجه ما نقلا بعد إلزامهم بعدم ما يقتضيها عقلا ، وقرئ «إثارة» بالكسر أي مناظرة فإن المناظرة تثير المعاني ، و «أثرة» أي شيء أوثرتم به و «أثرة» بالحركات الثلاث في الهمزة وسكون الثاء فالمفتوحة للمرة من مصدر أثر الحديث إذا رواه والمكسورة بمعنى الأثرة والمضمومة اسم ما يؤثر.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ(٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)(٦)

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع البصير المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم ، فضلا أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ما دامت الدنيا. (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) يضرونهم ولا ينفعونهم. (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) مكذبين بلسان


الحال أو المقال. وقيل الضمير للعابدين وهو كقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٨)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) واضحات أو مبينات. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) لأجله وفي شأنه ، والمراد به الآيات ووضعه موضع ضميرها ووضع (الَّذِينَ كَفَرُوا) موضع ضمير المتلوّ عليهم للتسجيل عليها بالحق وعليهم بالكفر والانهماك في الضلالة. (لَمَّا جاءَهُمْ) حينما جاءهم من غير نظر وتأمل. (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر بطلانه.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب. (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) على الفرض. (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إن عاجلني الله بالعقوبة فلا تقدرون على دفع شيء منها فكيف أجترئ عليه وأعرض نفسي للعقاب من غير توقع نفع ولا دفع ضر من قبلكم. (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) تندفعون فيه من القدح في آياته. (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والإنكار ، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم ، (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم جرمهم.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٩)

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) بديعا منهم أدعوكم إلى ما لا يدعون إليه ، أو أقدر على ما لم يقدروا عليه ، وهو الإتيان بالمقترحات كلها ونظيره الخف بمعنى الخفيف. وقرئ بفتح الدال على أنه كقيم أو مقدر بمضاف أي ذا بدع. (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) في الدارين على التفضيل إذ لا علم لي بالغيب ، و (لا) لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي (وَما) إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة. وقرئ «يفعل» أي يفعل الله. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) لا أتجاوزه ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب ، أو استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين. (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) من عقاب الله. (مُبِينٌ) بين الإنذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٠)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي القرآن. (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) وقد كفرتم به ، ويجوز أن تكون الواو عاطفة على الشرط وكذا الواو في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله ، والشاهد هو عبد الله بن سلام وقيل موسى عليه الصلاة والسلام وشهادته ما في التوراة من نعت الرسول عليه الصلاة والسلام. (عَلى مِثْلِهِ) مثل القرآن وهو ما في التوراة من المعاني المصدقة للقرآن المطابقة له ، أو مثل ذلك وهو كونه من عند الله. (فَآمَنَ) أي بالقرآن لما رآه من جنس الوحي مطابقا للحق. (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) استئناف مشعر بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم ، ودليل على الجواب المحذوف مثل ألستم ظالمين.


(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ)(١٢)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأجلهم. (لَوْ كانَ) الإيمان أو ما أتى به محمد عليه الصلاة والسلام. (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وهم سقاط إذ عامتهم فقراء وموال ورعاة ، وإنما قاله قريش وقيل بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم جهينة ومزينة وأسلم وغفار ، أو اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه. (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ظرف لمحذوف مثل ظهر عنادهم وقوله : (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) مسبب عنه وهو كقولهم : أساطير الأولين. (وَمِنْ قَبْلِهِ) ومن قبل القرآن وهو خبر لقوله : (كِتابُ مُوسى) ناصب لقوله : (إِماماً وَرَحْمَةً) على الحال. (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى أو لما بين يديه وقد قرئ به. (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير (كِتابُ) في (مُصَدِّقٌ) أو منه لتخصصه بالصفة ، وعاملها معنى الإشارة وفائدتها الإشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا للتوراة كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله سبحانه وتعالى. وقيل مفعول (مُصَدِّقٌ) أي يصدق ذا لسان عربي بإعجازه. (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) علة (مُصَدِّقٌ) ، وفيه ضمير الكتاب أو الله أو الرسول ، ويؤيد الأخير قراءة نافع وابن عامر والبزي بخلاف عنه ويعقوب بالتاء (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) عطف على محله.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الأمور التي هي منتهى العمل ، وثم للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فوات محبوب ، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اكتساب الفضائل العلمية والعملية ، وخالدين حال من المستكن في أصحاب وجزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(١٥)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) وقرأ الكوفيون «إحسانا» ، وقرئ حسنا أي إيصاء «حسنا». (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة ، وقرأ الحجازيان وأبو عمرو وهشام بالفتح وهما لغتان كالفقر والفقر. وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر. (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) ومدة (حَمْلُهُ وَفِصالُهُ) ، والفصال الفطام ويدل عليه قراءة يعقوب «وفصله» أو وقته والمراد به الرضاع التام المنتهي به ولذلك عبر به كما يعبر بالأمد عن المدة ، قال :

كلّ حيّ مستكمل عدّة العم

ر ومود إذا انتهى أمدّه

(ثَلاثُونَ شَهْراً) كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد مبالغة في التوصية بها ، وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه إذا حط منه للفصال حولان لقوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)


بقي ذلك وبه قال الأطباء ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما. (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله. (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) قيل لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني وأصله أولعني من أوزعته بكذا. (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) يعني نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها ، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) نكره للتعظيم أو لأنه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضا الله عزوجل. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) واجعل لي الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم ونحوه قوله :

وإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها

إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عما لا ترضاه أو يشغل عنك. (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المخلصين لك.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(١٧)

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يعني طاعاتهم فإن المباح حسن ولا يثاب عليه. (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) لتوبتهم ، وقرأ حمزة الكسائي وحفص بالنون فيهما. (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) كائنين في عدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم. (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لنفسه فإن يتقبل ويتجاوز وعد. (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي في الدنيا.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) مبتدأ خبره (أُولئِكَ) ، والمراد به الجنس وإن صح نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. وفي (أُفٍ) قراءات ذكرت في سورة «بني إسرائيل». (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أبعث ، وقرأ هشام «أتعداني» بنون واحدة مشددة. (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فلم يرجع أحد منهم. (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يقولان الغياث بالله منك ، أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان. (وَيْلَكَ آمِنْ) أي يقولان له (وَيْلَكَ) ، وهو الدعاء بالثبور بالحث على ما يخاف على تركه. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم التي كتبوها.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ(١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٩)

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بأنهم أهل النار وهو يرد النزول في عبد الرحمن لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جب عنه إن كان لإسلامه. (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوله في أصحاب الجنة. (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) بيان للأمم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل للحكم على الاستئناف.

(وَلِكُلٍ) من الفريقين. (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، أو من أجل ما عملوا وال (دَرَجاتٌ) غالبة في المثوبة وها هنا جاءت على التغليب. (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) جزاءها ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان بالنون. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وزيادة عقاب.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)(٢٠)


(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) يعذبون بها. وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم : عرضت الناقة على الحوض. (أَذْهَبْتُمْ) أي يقال لهم أذهبتم ، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين. (طَيِّباتِكُمْ) لذاتكم. (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) باستيفائها. (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) فما بقي لكم منها شيء. (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) الهوان وقد قرئ به. (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله ، وقرئ «تفسقون» بالكسر.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢٣)

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) يعني هودا. (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وكانوا يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بالشجر من اليمن. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) الرسل. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) قبل هود وبعده والجملة حال أو اعتراض. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي لا تعبدوا ، أو بأن لا تعبدوا فإن النهي عن الشيء إنذار من مضرته. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هائل بسبب شرككم.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) لتصرفنا. (عَنْ آلِهَتِنا) عن عبادتها. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على الشرك. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك. (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) لا علم لي بوقت عذابكم ولا مدخل لي فيه فأستعجل به ، وإنما علمه عند الله فيأتيكم به في وقته المقدر له. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم وما على الرسول إلا البلاغ. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) لا تعلمون أن الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا معذبين مقترحين.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)(٢٥)

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) سحابا عرض في أفق السماء. (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) متوجه أوديتهم ، والإضافة فيه لفظية وكذا في قوله : (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي يأتينا بالمطر. (بَلْ هُوَ) أي قال هود عليه الصلاة والسلام (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب ، وقرئ «قل» «بل» : (رِيحٌ) هي ريح ، ويجوز أن يكون بدل ما. (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) صفتها وكذا قوله :

(تُدَمِّرُ) تهلك. (كُلَّ شَيْءٍ) من نفوسهم وأموالهم. (بِأَمْرِ رَبِّها) إذ لا توجد نابضة حركة ولا قابضة سكون إلا بمشيئته ، وفي ذكر الأمر والرب وإضافة إلى الريح فوائد سبق ذكرها مرارا ، وقرئ «يدمر كل شيء» من دمر دمارا إذا هلك فيكون العائد محذوفا أو الهاء في (رَبِّها) ، ويحتمل أن يكون استئنافا للدلالة على أن لكل ممكن فناء مقضيا لا يتقدم ولا يتأخر ، وتكون الهاء لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم أي فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا بحيث لو حضرت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) بالياء المضمومة ورفع المساكن. (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ). روي أن هودا عليه‌السلام لما أحس بالريح اعتزل بالمؤمنين في الحظيرة وجاءت الريح فأمالت الأحقاف على الكفرة ، وكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، ثم كشفت عنهم واحتملتهم فقذفتهم في البحر.


(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢٦)

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ إِنْ) نافية وهي أحسن من ما هاهنا لأنها توجب التكرير لفظا ولذلك قلبت ألفها هاء في مهما ، أو شرطية محذوفة الجواب والتقدير ، ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر ، أو صلة كما في قوله :

يرجّي المرء ما إن لا يراه

ويعرض دون أدناه الخطوب

والأول أظهر وأوفق لقوله : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً). (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على مانحها تعالى ويواظبوا على شكرها. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من الإغناء وهو القليل. (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) صلة (فَما أَغْنى) وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه وكذلك حيث. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٨)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكة. (مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود وقرى قوم لوط. (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) بتكريرها. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) فهلا منعتهم من الهلاك آلهتهم الذين يتقربون بهم إلى الله تعالى حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وأول مفعولي (اتَّخَذُوا) الراجع إلى الموصول محذوف ، وثانيهما (قُرْباناً) و (آلِهَةً) بدل أو عطف بيان ، أو (آلِهَةً) و (قُرْباناً) حال أو مفعول له على أنه بمعنى التقرب. وقرئ «قربانا» بضم الراء. (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) غابوا عن نصرهم وامتنع أن يستمدوا بهم امتناع الاستمداد بالضال. (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره صرفهم عن الحق ، وقرئ «أفكهم» بالتشديد للمبالغة ، و «آفكهم» أي جعلهم آفكين و «آفكهم» أي قولهم الآفك أي ذو الإفك. (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ).

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣٠)

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار. (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) حال محمولة على المعنى. (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن أو الرسول. (قالُوا أَنْصِتُوا) قال بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه. (فَلَمَّا قُضِيَ) أتم وفرغ من قراءته ، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام. (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي منذرين إياهم بما سمعوا. روي أنهم وافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) قيل إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا أو ما سمعوا بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من العقائد. (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) من


الشرائع.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣٢)

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعض ذنوبكم ، وهو ما يكون في خالص حق الله فإن المظالم لا تغفر بالإيمان. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) هو معد للكفار ، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه باقتصارهم على المغفرة والإجارة على أن لا ثواب لهم ، والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم.

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) إذ لا ينجي منه مهرب. (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) يمنعونه منه. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٣٤)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) ولم يتعب ولم يعجز ، والمعنى أن قدرته واجبة لا تنقص ولا تنقطع بالإيجاد أبد الآباد. (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي قادر ، ويدل عليه قراءة يعقوب «يقدر» ، والباء مزيدة لتأكيد النفي فإنه مشتمل على (أَنَ) وما في حيزها ولذلك أجاب عنه بقوله : (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود ، كأنه صدّر السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) منصوب بقول مضمر مقوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) والإشارة إلى العذاب. (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بكفركم في الدنيا ، ومعنى الأمر هو الإهانة بهم والتوبيخ لهم.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣٥)

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أولوا الثبات والجد منهم فإنك من جملتهم ، و (مِنَ) للتبيين ، وقيل للتبعيض ، و (أُولُوا الْعَزْمِ) أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها ، ومشاهيرهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى صلّى الله وسلم عليهم. وقيل الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذى قومه ، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح ولده والذبيح على الذبح ، ويعقوب على فقد الولد والبصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى قال له قومه (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة. (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) لكفار قريش بالعذاب فإنه نازل بهم في وقته لا محالة. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) استقصروا من هوله مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة. (بَلاغٌ) هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ أي كفاية ، أو تبليغ من الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤيده أنه قرئ «بلغ» ، وقيل (بَلاغٌ) مبتدأ خبره (لَهُمْ) و (ما) بينهما اعتراض أي لهم وقت يبلغون إليه كأنهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه استقصروا مدة عمرهم ، وقرئ بالنصب أي بلغوا بلاغا. (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)


الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة ، وقرئ «يهلك» بفتح اللام وكسرها من هلك وهلك ، و «نهلك» بالنون ونصب القوم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا».


(٤٧) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وتسمه سورة القتال وهي مدينة وقيل مكية

وآيها سبع أو ثمان وثلاثون أو أربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ)(٢)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) امتنعوا عن الدخول في الإسلام وسلوك طريقه ، أو منعوا الناس عنه كالمطعمين يوم بدر ، أو شياطين قريش أو المصريين من أهل الكتاب. أو عام في جميع من كفر وصد. (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) جعل مكارمهم كصلة الرحم وفك الأسارى وحفظ الجوار ضالة أي ضائعة محبطة بالكفر ، أو مغلوبة مغمورة فيه كما يضل الماء في اللبن ، أو ضلال حيث لم يقصدوا به وجه الله ، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله والصد عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم. (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيما له وإشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه ، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) اعتراضا على طريقة الحصر. وقيل حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ ، وقرئ «نزل» على البناء للفاعل و «أنزل» على البناءين و «نزل» بالتخفيف. (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) سترها بالإيمان وعملهم الصالح. (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ)(٣)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من الإضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره. (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) بسبب اتباع هؤلاء الباطل واتباع هؤلاء الحق ، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبلها ولذلك سمي تفسيرا. (كَذلِكَ) مثل ذلك الضرب. (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ) يبين لهم. (أَمْثالَهُمْ) أحوال الفريقين أو أحوال الناس ، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا للمؤمنين ، وتكفير السيئات مثلا لفوزهم.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ)(٦).


(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في المحاربة. (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول ضما إلى التأكيد والاختصار. والتعبير به عن القتل إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن ، وتصوير له بأشنع صورة. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الثخين وهو الغليظ. (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) فأسروهم واحفظوهم ، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به. (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء ، والمراد التخيير بعد الأسر بين المن والإطلاق وبين أخذ الفداء ، وهو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإمام بين القتل والمن والفداء ، والاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق. وقرئ «فدا» كعصا. (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع ، أي تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم. وقيل آثامها والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ، وهو غاية للضرب أو الشد أو للمن والفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيها حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. وقيل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام (ذلِكَ) أي الأمر ذلك ، أو افعلوا بهم ذلك. (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) لا لانتقم منهم بالاستئصال. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ولكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا ، وقرأ البصريان وحفص (قُتِلُوا) أي استشهدوا. (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) فلن يضيعها ، وقرئ «يضل» من ضل و «يضل» على البناء للمفعول.

(سَيَهْدِيهِمْ) إلى الثواب ، أو سيثبت هدايتهم. (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ).

(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) وقد عرفها لهم في الدنيا حتى اشتاقوا إليها فعملوا ما استحقوها به ، أو بينها لهم بحيث يعلم كل واحد منزله ويهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق ، أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة ، أو حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) إن تنصروا دينه ورسوله. (يَنْصُرْكُمْ) على عدوكم. (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في القيام بحقوق الإسلام والمجاهدة مع الكفار.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) فعثورا لهم وانحطاطا ونقيضه لما قال الأعشى. فالتعس أولى بها من أن أقول لعا. وانتصابه بفعله الواجب إضماره سماعا ، والجملة خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا) أو مفسرة لناصبه. (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) عطف عليه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) القرآن لما فيه من التوحيد والتكاليف المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم ، وهو تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) كرره إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ)(١١)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استأصل عليهم ما


اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. (وَلِلْكافِرِينَ) من وضع الظاهر موضع المضمر. (أَمْثالُها) أمثال تلك العاقبة أو العقوبة ، أو الهلكة لأن التدمير يدل عليها ، أو السنة لقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ناصرهم على أعدائهم. (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) فيدفع العذاب عنهم وهو لا يخالف قوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) فإن المولى فيه بمعنى المالك.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤)

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) ينتفعون بمتاع الدنيا. (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) حريصين غافلين عن العاقبة. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) منزل ومقام.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) على حذف المضاف وإجراء أحكامه على المضاف إليه ، والإخراج باعتبار التسبب. (أَهْلَكْناهُمْ) بأنواع العذاب. (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) يدفع عنهم العذاب وهو كالحال المحكية.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) حجة من عنده وهو القرآن ، أو ما يعمه والحجج العقلية كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) كالشرك والمعاصي. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في ذلك لا شبهة لهم عليه فضلا عن حجة.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)(١٥)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي فيما قصصنا عليك صفتها العجيبة. وقيل مبتدأ خبره : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) ، وتقدير الكلام أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد ، أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد فعرى عن حرف الإنكار وحذف ما حذف استغناء يجري مثله تصويرا لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع للهوى ، بمكابرة من يسوي بين الجنة والنار ، وهو على الأول خبر محذوف تقديره : أفمن هو خالد في هذه الجنة كمن هو خالد في النار ، أو بدل من قوله : (كَمَنْ زُيِّنَ) وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقريرا لإنكار المساواة. (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) استئناف لشرح المثل أو حال من العائد المحذوف ، أو خبر لمثل و (آسِنٍ) من أسن الماء بالفتح إذا تغير طعمه وريحه ، أو بالكسر على معنى الحدوث. وقرأ ابن كثير «أسن». (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) لم يصر قارصا ولا حازرا. (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) لذيذة لا يكون فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار تأنيث لذ أو مصدر نعت به بإضمار ذات ، أو تجوز وقرئت بالرفع على صفة الأنهار والنصب على العلة. (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) لم يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها ، وفي ذلك تمثيل لما يقوم مقام الأشربة في الجنة بأنواع ما يستلذ منها في الدنيا بالتجريد عما ينقصها وينغصها ، والتوصيف بما يوجب غزارتها واستمرارها. (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) صنف على هذا القياس. (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف على الصنف المحذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم مغفرة. (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) مكان تلك الأشربة. (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)


من فرط الحرارة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)(١٦)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) يعني المنافقين كانوا يحضرون مجلس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمعون كلامه فإذا خرجوا. (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي لعلماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم. (ما ذا قالَ آنِفاً) ما الذي قال الساعة ، استهزاء أو استعلاما إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به ، و (آنِفاً) من قولهم أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة ، ومنه استأنف وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا ، أو حال من الضمير في (قالَ) وقرأ ابن كثير «أنفا».

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) فلذلك استهزءوا وتهاونوا بكلامه.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ)(١٨)

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) أي زادهم الله بالتوفيق والإلهام ، أو قول الرسول عليه الصلاة والسلام. (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم ، أو أعطاهم جزاءها.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) فهل ينتظرون غيرها. (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) بدل اشتمال من (السَّاعَةَ) ، وقوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) كالعلة له ، وقرئ «أن تأتهم» على أنه شرط مستأنف جزاؤه : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) والمعنى أن تأتهم الساعة بغتة لأنه قد ظهر أماراتها كمبعث النبي عليه الصلاة والسلام ، وانشقاق القمر فكيف لهم (ذِكْراهُمْ) أي تذكرهم (إِذا جاءَتْهُمْ) الساعة بغتة ، وحينئذ لا يفرغ له ولا ينفع.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)(١٩)

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وأفعالها وهضمها بالاستغفار (لِذَنْبِكَ). (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ولذنوبهم بالدعاء لهم والتحريض على ما يستدعي غفرانهم ، وفي إعادة الجار وحذف المضاف إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم وأنها جنس آخر ، فإن الذنب له ماله تبعة ما بترك الأولى. (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها. (وَمَثْواكُمْ) في العقبى فإنها دار إقامتكم فاتقوا الله واستغفروه وأعدوا لمعادكم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢٤)

.


(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي هلا (نُزِّلَتْ سُورَةٌ) في أمر الجهاد. (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) مبينة لا تشابه فيها. (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي الأمر به. (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف في الدين وقيل نفاق. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) جبنا ومخافة. (فَأَوْلى لَهُمْ) فويل (لَهُمْ) ، أفعل من الولي وهو القرب ، أو فعلى من آل ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه أو يؤول إليه أمرهم.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) استئناف أي أمرهم (طاعَةٌ) أو (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) خير لهم ، أو حكاية قولهم لقراءة أبيّ «يقولون طاعة». (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جد وهو لأصحاب الأمر ، وإسناده إليه مجاز وعامل الظرف محذوف ، وقيل (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) أي فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإيمان. (لَكانَ) الصدق. (خَيْراً لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ) فهل يتوقع منكم. (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أمور الناس وتأمرتم عليهم ، أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام. (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) تناحرا على الولاية وتجاذبا لها ، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور ومقاتلة الأقارب ، والمعنى أنهم لضعفهم في الدين وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم ويقول لهم : هل عسيتم ، وهذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يلحقون الضمير به وخبره (أَنْ تُفْسِدُوا) و (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) اعتراض ، وعن يعقوب (تَوَلَّيْتُمْ) أي إن تولاكم ظلمة خرجتم معهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم (وَتُقَطِّعُوا) من القطع ، وقرئ تقطعوا من التقطع.

(أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين. (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) لإفسادهم وقطعهم الأرحام. (فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الحق. (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) فلا يهتدون سبيله.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) لا يصل إليها ذكر ولا ينكشف لها أمر ، وقيل (أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير ، وتنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم أو للإشعار بأنها لإبهام أمرها في القساوة ، أو لفرط جهالتها ونكرها كأنها مبهمة منكورة وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة. وقرئ «إقفالها» على المصدر.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ)(٢٦)

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي إلى ما كانوا عليه من الكفر. (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بالدلائل الواضحة والمعجزات الظاهرة. (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) سهل لهم اقتراف الكبائر من السول وهو الاسترخاء. وقيل حملهم على الشهوات من السول وهو التمني ، وفيه أن السول مهموز قلبت همزته واوا لضم ما قبلها ولا كذلك التسويل ، ويمكن رده بقولهم هما يتساولان وقرئ «سول» على تقدير مضاف أي كيد الشيطان (سَوَّلَ لَهُمْ). (وَأَمْلى لَهُمْ) ومد لهم في الآمال والأماني ، أو أمهلهم الله تعالى ولم يعاجلهم بالعقوبة لقراءة يعقوب (وَأَمْلى لَهُمْ) ، أي وأنا أملي لهم فتكون الواو للحال أو الاستئناف ، وقرأ أبو عمرو (وَأَمْلى لَهُمْ) على البناء للمفعول وهو ضمير (الشَّيْطانُ) أو (لَهُمُ).

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي قال اليهود للذين كفروا بالنبي عليه الصلاة والسلام بعد ما تبين لهم نعته للمنافقين ، أو المنافقون لهم أو أحد الفريقين للمشركين. (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) في بعض أموركم أو في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد والموافقة في الخروج معهم إن أخرجوا ، والتظافر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) ومنها قولهم هذا الذي أفشاه الله عليهم ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص (إِسْرارَهُمْ) على المصدر.


(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ)(٢٩)

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) فكيف يعملون ويحتالون حينئذ ، وقرئ «توفاهم» وهو يحتمل الماضي والمضارع المحذوف إحدى تاءيه. (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) تصوير لتوفيهم بما يخافون منه ويجبنون عن القتال له.

(ذلِكَ) إشارة إلى التوفي الموصوف. (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر ككتمان نعت الرسول عليه الصلاة والسلام وعصيان الأمر. (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) ما يرضاه من الإيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) لذلك.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ) أن لن يبرز الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. (أَضْغانَهُمْ) أحقادهم.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١)

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم. (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلاماتهم التي نسمهم بها ، واللام لام الجواب كررت في المعطوف. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) جواب قسم محذوف و (لَحْنِ الْقَوْلِ) أسلوبه ، أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية ، ومنه قيل للمخطئ لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم على حسب قصدكم إذ الأعمال بالنيات.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة. (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) على مشاقه. (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبحها ، أو أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم المؤمنين في صدقها وكذبها. وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها ، وعن يعقوب (وَنَبْلُوَا) بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(٣٣)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) هم قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر. (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بكفرهم وصدهم ، أو لن يضروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته. (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) ثواب حسنات أعمالهم بذلك ، أو مكايدهم التي نصبوها في مشاقته فلا يصلون بها إلى مقاصدهم ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بما أبطل به هؤلاء كالكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها ، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)(٣٥)


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) عام في كل من مات على كفره وإن صح نزوله في أصحاب القليب ، ويدل بمفهومه على أنه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه.

(فَلا تَهِنُوا) فلا تضعفوا. (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) ولا تدعوا إلى الصلح خورا وتذللا ، ويجوز نصبه بإضمار إن وقرئ «ولا تدعوا» من ادعى بمعنى دعا ، وقرئ أبو بكر وحمزة بكسر السين. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الأغلبون. (وَاللهُ مَعَكُمْ) ناصركم. (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ولن يضيع أعمالكم ، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقا به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر ، شبه به تعطيل ثواب العمل وإفراده منه.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ)(٣٧)

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا ثبات لها. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) ثواب إيمانكم وتقواكم. (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) جميع أموالكم بل يقتصر على جزء يسير كربع العشر والعشر.

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) فيجهدكم بطلب الكل والإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال : أحفى شاربه إذ استأصله. (تَبْخَلُوا) فلا تعطوا. (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) ويضغنكم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والضمير في يخرج لله تعالى ، ويؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإضغان ، وقرئ «وتخرج» بالتاء والياء ورفع «أضغانكم».

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣٨)

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون وقوله : (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) استئناف مقرر لذلك ، أو صلة ل (هؤُلاءِ) على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما. (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) ناس يبخلون وهو كالدليل على الآية المتقدمة. (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه ، والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدي فإنه إمساك عن مستحق. (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عطف على (إِنْ تُؤْمِنُوا). (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يقم مقامكم قوما آخرين. (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في التولي والزهد في الإيمان ، وهم الفرس لأنه سئل عليه الصلاة والسلام عنه وكان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه وقال : «هذا وقومه» : أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة محمد كان حقا على الله أن يسقيه من أنهار الجنة».


(٤٨) سورة الفتح

مدنية نزلت في مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية وآيها تسع وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(١)

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وعد بفتح مكة ، والتعبير عنه بالماضي لتحققه أو بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر وفدك ، أو إخبار عن صلح الحديبية وإنما سماه فتحا لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سألوا الصلح وتسبب لفتح مكة ، وفرغ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع وأدخل في الإسلام خلقا عظيما ، وظهر له في الحديبية آية عظيمة وهي أنه نزح ماؤها بالكلية فتمضمض ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه ، أو فتح الروم فإنهم غلبوا الفرس في تلك السنة. وقد عرفت كونه فتحا للرسول عليه الصلاة والسلام في سورة «الروم». وقيل الفتح بمعنى القضاء أي قضينا لك أن تدخل مكة من قابل.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً)(٣)

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إزاحة الشرك وإعلاء الدين وتكميل النفوس الناقصة قهرا ليصير ذلك بالتدريج اختيارا ، وتخليص الضعفة عن أيدي الظلمة. (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة. (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرئاسة.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) نصرا فيه عز ومنعة ، أو يعز به المنصور فوصف بوصفه مبالغة.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(٤)

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) الثبات والطمأنينة. (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) حتى ثبتوا حيث تقلق النفوس وتدحض الأقدام. (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها ، أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليزدادوا إيمانا بالشرائع مع إيمانهم بالله واليوم الآخر. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبر أمرها فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع فيما بينهم السلم أخرى كما تقتضيه حكمته. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بالمصالح. (حَكِيماً) فيما يقدر ويدبر.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ


عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٧)

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) علة بما بعده لما دل عليه قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من معنى التدبير ، أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله فيه ويشكروها فيدخلهم الجنة ويعذب الكفار والمنافقين لما غاظهم من ذلك ، أو (فَتَحْنا) أو (أَنْزَلَ) أو جميع ما ذكر أو (لِيَزْدادُوا) ، وقيل إنه بدل منه بدل الاشتمال. (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) يغطيها ولا يظهرها. (وَكانَ ذلِكَ) أي الإدخال والتكفير. (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر ، وعند حال من الفوز.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) عطف على «يدخل» إلا إذا جعلته بدلا فيكون عطفا على المبدل منه. (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) ظن الأمر السوء وهو أن لا ينصر رسوله والمؤمنين. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (دائِرَةُ السَّوْءِ) بالضم وهما لغتان ، غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر وكلاهما في الأصل مصدر (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) عطف لما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا ، والواو في الأخيرين والموضع موضع الفاء إذ اللعن سبب للإعداد ، والغضب سبب له لاستقلال الكل في الوعيد بلا اعتبار السببية. (وَساءَتْ مَصِيراً) جهنم. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(٩)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على أمتك. (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) على الطاعة والمعصية.

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة ، أو لهم على أن خطابه منزل منزلة خطابهم. (وَتُعَزِّرُوهُ) وتقووه بتقوية دينه ورسوله (وَتُوَقِّرُوهُ) وتعظموه. (وَتُسَبِّحُوهُ) وتنزهوه أو تصلوا له. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) غدوة وعشيا أو دائما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء ، وقرئ «تعزروه» بسكون العين و «تعزروه» بفتح التاء وضم الزاي وكسرها و «تعززوه» بالزاءين «وتوقروه» من أوقره بمعنى وقره.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) لأنه المقصود ببيعته. (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل. (فَمَنْ نَكَثَ) نقض العهد. (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه. (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) في مبايعته (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) هو الجنة ، وقرئ «عهد» وقرأ حفص (عَلَيْهُ) بضم الهاء وابن كثير ونافع وابن عامر وروح فسنؤتيه بالنون. والآية نزلت في بيعة الرضوان.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١١)

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) هم أسلم وجهينة ومزينة وغفار استنفرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام


الحديبية فتخلفوا واعتلوا بالشغل بأموالهم وأهاليهم ، وإنما خلفهم الخذلان وضعف العقيدة والخوف من مقاتلة قريش إن صدوهم. (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالهم ، وقرئ بالتشديد للتكثير. (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) من الله على التخلف. (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تكذيب لهم في الاعتذار والاستغفار. (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه. (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) ما يضركم كقتل أو هزيمة أو خلل في المال والأهل عقوبة على التخلف ، وقرأ حمزة والكسائي بالضم. (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) ما يضاد ذلك ، وهو تعريض بالرد. (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيعلم تخلفكم وقصدكم فيه.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(١٢)

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) لظنكم أن المشركين يستأصلونهم ، وأهلون جمع أهل وقد يجمع على أهلات كأرضات على أن أصله أهلة وأما أهال فاسم جمع كليال. (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) فتمكن فيها ، وقرئ على البناء للفاعل وهو الله أو الشيطان. (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) الظن المذكور ، والمراد التسجيل عليه ب (السَّوْءِ) أو هو وسائر ما يظنون بالله ورسوله من الأمور الزائغة. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) هالكين عند الله لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٤)

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) وضع الكافرين موضع الضمير إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله ورسوله فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره ، وتنكير سعيرا للتهويل أو لأنها نار مخصوصة.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبره كيف يشاء. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إذ لا وجوب عليه. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فإن الغفران والرحمة من ذاته والتعذيب داخل تحت قضائه بالعرض ، ولذلك جاء في الحديث الإلهي «سبقت رحمتي غضبي».

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(١٥)

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) يعني المذكورين. (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) يعني مغانم خيبر فإنه عليه‌السلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم ، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالا كثيرة فخصها بهم. (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أن يغيروه وهو وعده لأهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر ، وقيل قوله : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) والظاهر أنه في تبوك. والكلام اسم للتكليم غلب في الجملة المفيدة وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» وهو جمع كلمة. (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) نفي في معنى النهي. (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ). من قبل تهيئهم للخروج إلى خيبر. (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أن يشارككم في الغنائم ، وقرئ بالكسر. (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) لا يفهمون. (إِلَّا قَلِيلاً) إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا ، ومعنى الإضراب الأول رد منهم أن يكون


حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات للحسد ، والثاني رد من الله لذلك وإثبات لجهلهم بأمور الدين.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)(١٧)

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذم وإشعارا بشناعة التخلف. (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) بني حنيفة أو غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو المشركين فإنه قال : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا غير كما دل عليه قراءة «أو يسلموا» ، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم أو يعطي الجزية. وهو يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه إذا لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف وهوازن فإن ذلك كان في عهد النبوة. وقيل فارس والروم ومعنى (يُسْلِمُونَ) ينقادون ليتناول تقبلهم الجزية. (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) عن الحديبية. (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) لتضاعف جرمكم.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) لما أوعد على التخلف نفى الحرج عن هؤلاء المعذورين استثناء لهم عن الوعيد. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فصل الوعد وأجمل الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته ، ثم جبر ذلك بالتكرير على سبيل التعميم فقال: (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) إذ الترهيب ها هنا أنفع من الترغيب ، وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١٩)

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية بعث جوّاس ابن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع ، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وكانوا ألفا وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة ، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا عنهم وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة. (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص. (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح. (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) فتح خيبر غب انصرافهم ، وقيل مكة أو هجر.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يعني مغانم خيبر. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) غالبا مراعيا مقتضى الحكمة.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢١)

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة. (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني مقام خيبر. (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان ، أو أيدي قريش بالصلح. (وَلِتَكُونَ) هذه الكفة أو الغنيمة. (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أمارة يعرفون بها أنهم من الله بمكان ، أو


صدق الرسول في وعدهم فتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية ، أو وعد المغانم أو عنوانا لفتح مكة والعطف على محذوف هو علة ل (كَفَ) ، أو «عجل» مثل لتسلموا ، أو لتأخذوا أو العلة لمحذوف مثل فعل ذلك. (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) هو الثقة بفضل الله والتوكل عليه.

(وَأُخْرى) ومغانم أخرى معطوفة على هذه ، أو منصوبة بفعل يفسره (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) مثل قضى ، ويحتمل رفعها بالابتداء لأنها موصوفة وجرها بإضمار رب. (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) بعد لما كان فيها من الجولة. (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) استولى فأظفركم بها وهي مغانم هوازن أو فارس. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)(٢٤)

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة ولم يصالحوا. (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) لانهزموا. (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحرسهم. (وَلا نَصِيراً) ينصرهم.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي سنّ غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال تعالى : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي). (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) تغييرا.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي أيدي كفار مكة. (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) في داخل مكة. (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أظهركم عليهم ، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد. وقيل كان ذلك يوم الفتح واستشهد به على أن مكة فتحت عنوة وهو ضعيف إذ السورة نزلت قبله. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من مقاتلتهم أولا طاعة لرسوله وكفهم ثانيا لتعظيم بيته ، وقرأ أبو عمرو بالياء. (بَصِيراً) فيجازيهم عليه.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٢٥)

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) يدل على أن ذلك كان عام الحديبية ، والهدي ما يهدى إلى مكة. وقرئ «الهدي» وهو فعيل بمعنى مفعول ، ومحله مكانه الذي يحل فيه نحره والمراد مكانه المعهود وهو منى لا مكانه الذي لا يجوز أن ينحر في غيره ، وإلا لما نحره الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أحصر فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم. (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين. (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أن توقعوا بهم وتبيدهم قال :

ووطئتنا وطأ على حنق

وطء المقيّد ثابت الهرم

وقال عليه الصلاة والسلام «إن آخر وطأة وطئها الله بوج» وطهو واد بالطائف كان آخر وقعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وأصله الدوس وهو بدل الاشتمال من (رِجالٌ وَنِساءٌ) أو من ضميرهم في (تَعْلَمُوهُمْ). (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ) من جهتهم. (مَعَرَّةٌ) مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم والتأسف عليهم ، وتعيير الكفار بذلك والإثم بالتقصير في البحث عنهم مفعلة من عره إذا عراه ما يكرهه. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق ب (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي تطؤهم غير عالمين بهم ، وجواب (لَوْ لا) محذوف لدلالة الكلام عليه ، والمعنى (لَوْ لا) كراهة أن تهلكوا


أناسا مؤمنين بين أظهر الكافرين جاهلين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم. (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) علة لما دل عليه كف الأيدي عن أهل مكة صونا لمن فيها من المؤمنين ، أي كان ذلك ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير أو للإسلام. (مَنْ يَشاءُ) من مؤمنيهم أو مشركيهم. (لَوْ تَزَيَّلُوا) لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض ، وقرئ «تزايلوا». (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بالقتل والسبي.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٢٦)

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مقدر باذكر أو ظرف (لَعَذَّبْنَا) أو (صَدُّوكُمْ). (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) الأنفة. (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) التي تمنع إذعان الحق. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فأنزل عليهم الثبات والوقار وذلك ما روي «أنه عليه الصلاة والسلام لما هم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع من عامه على أن يخلي له قريش مكة من القابل ثلاثة أيام ، فأجابهم وكتبوا بينهم كتابا ، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم ثم قال : اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال عليه الصلاة والسلام : اكتب ما يريدون» فهمّ المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا عليهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وتحملوا. (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) كلمة الشهادة أو (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) محمد رسول الله اختارها لهم ، أو الثبات والوفاء بالعهد وإضافة ال (كَلِمَةَ) إلى (التَّقْوى) لأنها سببها أو كلمة أهلها. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) من غيرهم. (وَأَهْلَها) والمستأهلين لها. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم أهل كل شيء وييسره له.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٢٨)

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) رأى عليه الصلاة والسلام أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أن ذلك يكون في عامهم ، فلما تأخر قال بعضهم والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت فنزلت والمعنى صدقه في رؤياه. (بِالْحَقِ) ملتبسا به فإن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له وهو العام القابل ، ويجوز أن يكون (بِالْحَقِ) صفة مصدر محذوف أي صدقا ملتبسا (بِالْحَقِ) وهو القصد إلى التمييز بين الثابت على الإيمان والمتزلزل فيه ، وأن يكون قسما إما باسم الله تعالى أو بنقيض الباطل وقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) جوابه وعلى الأولين جواب قسم محذوف. (إِنْ شاءَ اللهُ) تعليق للعدة. بالمشيئة تعليما للعباد ، أو إشعارا بأن بعضهم لا يدخل لموت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه. (آمِنِينَ) حال من الواو والشرط معترض. (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) أي محلقا بعضكم ومقصرا آخرون. (لا تَخافُونَ) حال مؤكدة أو استئناف أي لا تخافون بعد ذلك. (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) من الحكمة في تأخير ذلك. (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) من دون دخولكم المسجد أو فتح مكة. (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الموعود.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) ملتبسا به أو بسببه أو لأجله. (وَدِينِ الْحَقِ) وبدين الإسلام. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليغلبه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقا وإظهار فساد ما كان باطلا ، أو بتسليط المسلمين على أهله إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون ، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح.


(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أن ما وعده كائن أو على نبوته بإظهار المعجزات.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٢٩)

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) جملة مبينة للمشهود به ، ويجوز أن يكون (رَسُولُ اللهِ) صفة و (مُحَمَّدٌ) خبر محذوف أو مبتدأ : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) معطوف عليه وخبرهما. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) و (أَشِدَّاءُ) جمع شديد و (رُحَماءُ) جمع رحيم ، والمعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتراحمون فيما بينهم كقوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ). (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الثواب والرضا. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود ، فعلى من سامه إذا أعلمه وقد قرئت ممدودة و (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) بيانها أو حال من المستكن في الجار. (ذلِكَ) إشارة إلى الوصف المذكور. أو إشارة مبهمة يفسرها (كَزَرْعٍ). (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها. (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) عطف عليه أي ذلك مثلهم في الكتابين وقوله : (كَزَرْعٍ) تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ و (كَزَرْعٍ) خبره. (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ ، وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان (شَطْأَهُ) بفتحات وهو لغة فيه ، وقرئ «شطأه» بتخفيف الهمزة و «شطاءه» بالمد و «شطه» بنقل حركة الهمزة وحذفها و «شطوه» بقلبها واوا. (فَآزَرَهُ) فقواه من المؤازرة وهي المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان (فَآزَرَهُ) كأجره في آجره. (فَاسْتَغْلَظَ) فصار من الدقة إلى الغلط. (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) فاستقام على قصبه جمع ساق ، وعن ابن كثير «سؤقه» بالهمزة. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره ، وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس. (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) علة لتشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه أو لقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك ومنهم للبيان.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام فتح مكة».


(٤٩) سورة الحجرات

مدينة وآيها ثماني عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) أي لا تقدموا أمرا ، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن ، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأسا أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم ، ويؤيده قراءة يعقوب (لا تُقَدِّمُوا). وقرئ «لا تقدموا» من القدوم. (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجينا لما نهوا عنه ، والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به. وقيل المراد بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله. (وَاتَّقُوا اللهَ) في التقديم أو مخالفة الحكم. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم. (عَلِيمٌ) بأفعالكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته. (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب. وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول ، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به. (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي ، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط ، وذلك إذ انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة. وقد روي : أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهوريا ، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتفقده ودعاه فقال : يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال عليه الصلاة والسلام : «لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة». (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أنها محبطة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) يخفضونها. (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي. قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما. (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) جربها للتقوى ومرنها عليها ، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها ، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى ، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها ، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم. (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لغضهم وسائر طاعاتهم ، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لإن ، أو استئناف لبيان


ما هو جزاء الغاضبين إحمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين ، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم ، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له ، وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) من خارجها خلفها أو قدامها ، ومن ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء ، وفائدتها الدلالة على أن المنادى داخل الحجرة إذ لا بد وأن يختلف المبتدأ والمنتهى بالجهة ، وقرئ «الحجرات» بفتح الجيم ، وسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط ، ولذلك يقال لحظيرة الإبل حجرة. وهي فعلة بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة ، والمراد حجرات نساء النبي عليه الصلاة والسلام وفيها كناية خلوته بالنساء ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له ، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل. وقيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، وفدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا ، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به ، أو لأنه وجد فيما بينهم. (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة سيما لمن كان بهذا المنصب.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم ، فإن أن وإن دلت بما في حيزها على المصدر دلت بنفسها على الثبوت ، ولذلك وجب إضمار الفعل وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغيا بخروجه ، فإن حتى مختصة بغاية الشيء في نفسه ولذلك تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولا تقول حتى نصفها ، بخلاف إلى فإنها عامة ، وفي (إِلَيْهِمْ) إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم. (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب ، والإسعاف بالمسؤول إذ روي أنهم وفدوا شافعين في أساري بني العنبر فأطلق النصف وفادى النصف. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فتعرفوا وتصفحوا ، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة ، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت.

وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع ، وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم ، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه ، وأن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق ، إذ الترتيب يفيد التعليل وما بالذات لا يعلل بالغير. وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. (أَنْ تُصِيبُوا) كراهة إصابتكم. (قَوْماً بِجَهالَةٍ) جاهلين بحالهم. (فَتُصْبِحُوا) فتصيروا. (عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع ، وتركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر مع الدوام.


(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٨)

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أن بما في حيزه ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) فإنه حال من أحد ضميري فيكم ، ولو جعل استئنافا لم يظهر للأمر فائدة. والمعنى أن فيكم رسول الله على حال يجب تغييرها وهي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث ، ولو فعل ذلك (لَعَنِتُّمْ) أي لوقعتم في الجهد من العنت ، وفيه إشعار بأن بعضهم أشار إليه بالإيقاع ببني المصطلق وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) استدراك ببيان عذرهم ، وهو أنه من فرط حبهم للإيمان وكراهتهم للكفر حملهم على ذلك لما سمعوا قول الوليد ، أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إحمادا لفعلهم وتعريضا بذم من فعل ويؤيده قوله : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي أولئك المستثنون هم الذين أصابوا الطريق السوي ، (وَكَرَّهَ) يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد فإذا شدد زاد له آخر ، لكنه لما تضمن معنى التبغيض نزل كره منزلة بغض فعدي إلى آخر بإلى ، أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر. و (الْكُفْرَ) : تغطية نعم الله بالجحود. (وَالْفُسُوقَ) : الخروج عن القصد (وَالْعِصْيانَ): الامتناع عن الانقياد.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) تعليل ل (كَرَّهَ) أو (حَبَّبَ) ، وما بينهما اعتراض لا ل (الرَّاشِدُونَ) فإن الفضل فعل الله ، والرشد وإن كان مسببا عن فعله مسند إلى ضميرهم أو مصدر لغير فعله فإن التحبيب والرشد فضل من الله وإنعام. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل (حَكِيمٌ) حيث يفضل وينعم بالتوفيق عليهم.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١٠)

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع. (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى. (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) تعدت عليها. (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ترجع إلى حكمه أو ما أمر به ، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس ، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين. (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بفصل ما بينهما على ما حكم الله ، وتقييد الإصلاح بالعدل ها هنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة. (وَأَقْسِطُوا) واعدلوا في كل الأمور. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يحمد فعلهم بحسن الجزاء. والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال ، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى ، وأنه يجب معاونة من بغي عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإصلاح ولذلك كرره مرتبا عليه بالفاء فقال : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص ، وخص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق. وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج. وقرئ «بين إخوتكم» و «إخوانكم». (وَاتَّقُوا


اللهَ) في مخالفة حكمه والإهمال فيه. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) على تقواكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر ، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور ، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون ، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع ، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و (عَسى) باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإغناء الإسم عنه. وقرئ «عسوا أن يكونوا» و «عسين أن يكن» فهي على هذا ذات خبر. (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يغتب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة ، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. واللمز الطعن باللسان. وقرأ يعقوب بالضم. (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء ، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به ، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين خصوصا إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها «هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم‌السلام». أو الدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عما نهي عنه. (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) كونوا منه على جانب ، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل ، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى ، وما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية. (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) مستأنف للأمر ، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها. (وَلا تَجَسَّسُوا) ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس ، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس. وفي الحديث «لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته». (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ولا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. وسئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال : «أن تذكر أخاك بما يكرهه ، فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته». (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر ، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وجعل المأكول أخا وميتا وتعقيب ذلك بقوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) تقريرا وتحقيقا لذلك. والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته ، وانتصاب (مَيْتاً) على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع. (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لمن اتقى ما نهي عنه وتاب مما فرط منه ، والمبالغة في ال (تَوَّابٌ) لأنه بليغ في قبول التوبة إذ


يجعل صاحبها كمن لم يذنب ، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم ، روي : أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبغي لهما إداما ، وكان أسامة على طعامه فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما : «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما» ، فقالا : ما تناولنا لحما ، فقال : «إنكما قد اغتبتما» فنزلت.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(١٣)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحواء عليهما‌السلام ، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب. ويجوز أن يكون تقريرا للأخوة المانعة عن الاغتياب. (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل. والقبيلة تجمع العمائر. والعمارة تجمع البطون. والبطن تجمع الأفخاذ. والفخذ يجمع الفضائل ، فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، وعباس فصيلة. وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب. (لِتَعارَفُوا) ليعرف بعضكم بعضا لا للتفاخر بالآباء والقبائل. وقرئ «لتعارفوا» بالإدغام و «لتتعارفوا» و «لتعرفوا». (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فإن التقوى بها تكمل النفوس وتتفاضل بها الأشخاص ، فمن أراد شرفا فليلتمسه منها كما قال عليه الصلاة والسلام «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وقال عليه‌السلام «يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله». (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بكم (خَبِيرٌ) ببواطنكم.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٤)

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون. (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب ، ولم يحصل لكم وإلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة والسلام بالإسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة. (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة ، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم ، وقد فقد شرط اعتباره شرعا. (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت ل (قُولُوا) فإنه حال من ضميره أي : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإخلاص وترك النفاق. (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ) لا ينقصكم من أجورها. (شَيْئاً) من لات يليت ليتا إذا نقص ، وقرأ البصريان «لا يألتكم» من الألت وهو لغة غطفان. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط من المطيعين. (رَحِيمٌ) بالتفضل عليهم.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٦).


(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة ، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم ، و (ثُمَ) للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا). (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا في ادعاء الإيمان.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أتخبرونه به بقولكم (آمَنَّا). (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه خافية ، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨)

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) يعدون إسلامهم عليك منة وهي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه ، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته. وقيل النعمة الثقيلة من المن. (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي بإسلامكم ، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال. (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء ، وقرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم». (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادعاء الإيمان ، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم ، وفي سياق الآية لطف وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيمانا ومنوا به فنفى أنه إيمان وسماه إسلاما بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير أن يمن به عليك ، بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب فيهما. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم ، وقرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه».


(٥٠) سورة ق

مكية ، وهي خمس وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)(٣)

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) الكلام فيه كما مر في (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). و (الْمَجِيدِ) ذو المجد والشرف على سائر الكتب ، أو لأنه كلام المجيد ، أو لأن من علم معانيه وامتثل أحكامه مجد.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم أحد من جنسهم أو من أبناء جلدتهم. (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) حكاية لتعجبهم ، وهذا إشارة إلى اختيار الله محمدا للرسالة ، وإضمار ذكرهم ثم إظهاره للأشعار بتعنتهم بهذا المقال ، ثم التسجيل على كفرهم بذلك أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة ، والمبالغة فيه بوضع الظاهر موضع ضميرهم وحكاية تعجبهم مبهما إن كانت الإشارة إلى مبهم يفسره ما بعده ، أو مجملا إن كانت الإشارة إلى محذوف دل عليه منذر ، ثم تفسيره أو تفصيله لأنه أدخل في الإنكار إذ الأول استبعاد لأن يفضل عليهم مثلهم ، والثاني استقصار لقدرة الله تعالى عما هو أهون مما يشاهدون من صنعه.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أي أنرجع إذا متنا وصرنا ترابا ، ويدل على المحذوف قوله : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي بعيد عن الوهم أو العادة أو الإمكان. وقيل الرجع بمعنى المرجوع.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)(٥)

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ما تأكل من أجساد موتاهم ، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه ، وقيل إنه جواب القسم واللام محذوف لطول الكلام. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ، أو محفوظ عن التغيير ، والمراد إما تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه ، أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) يعني النبوة الثابتة بالمعجزات ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو القرآن. (لَمَّا جاءَهُمْ) وقرئ «لمّا» بالكسر. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا خرج ، وذلك قولهم تارة أنه (شاعِرٌ) وتارة أنه (ساحِرٌ) وتارة أنه كاهن.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٨)


(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) حين كفروا بالبعث. (إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم. (كَيْفَ بَنَيْناها) رفعناها بلا عمد. (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب. (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) فتوق بأن خلقها ملساء متلاصقة الطباق.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها. (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل صنف. (بَهِيجٍ) حسن.

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه ، وهما علتان للأفعال المذكورة معنى وإن انتصبتا عن الفعل الأخير.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ(١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ)(١١)

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) كثير المنافع (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) أشجارا وأثمارا. (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبر والشعير.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من أفعل فهو فاعل ، وإفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها. وقرئ «باصقات» لأجل القاف. (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) منضود بعضه فوق بعض ، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ) علة ل (أَنْبَتْنا) أو مصدر ، فإن الإنبات رزق. (وَأَحْيَيْنا بِهِ) بذلك الماء. (بَلْدَةً مَيْتاً) أرضا جدبة لا نماء فيها. (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) كما حييت هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)(١٤)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) أراد بفرعون إياه وقومه ليلائم ما قبله وما بعده. (وَإِخْوانُ لُوطٍ) أخدانه لأنهم كانوا أصهاره.

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) سبق في «الحجر» و «الدخان». (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي كل واحد أو قوم منهم أو جميعهم ، وإفراد الضمير لإفراد لفظه. (فَحَقَّ وَعِيدِ) فوجب وحل عليه وعيدي ، وفيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(١٦)

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة ، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة فيه للإنكار. (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط ، وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة ، وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) ما تحدثه به نفسه وهو ما يخطر بالبال ، والوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلي ، والضمير ل (ما) إن جعلت موصولة والباء مثلها في صوت بكذا ، أو ل (الْإِنْسانَ) إن جعلت مصدرية والباء للتعدية. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي ونحن أعلم بحاله ممن


كان أقرب إليه (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، تجوز بقرب الذات لقرب العلم لأنه موجبه و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) مثل في القرب قال : والموت أدنى من الوريد. وال (حَبْلِ) العرق وإضافته للبيان ، والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه ، وقيل سمي وريدا لأن الروح ترده.

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(١٨)

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) مقدر باذكر أو متعلق ب (أَقْرَبُ) ، أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما ، لكنه لحكمة اقتضته وهي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية ، وتأكيد في اعتبار الأعمال وضبطها للجزاء وإلزام للحجة يوم يقوم الاشهاد. (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي (عَنِ الْيَمِينِ) قعيد (وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) ، أي مقاعد كالجليس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقوله : فإني وقيار بها لغريب. وقد يطلق الفعيل للواحد والمتعدد كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) ما يرمي به من فيه. (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) ملك يرقب عمله. (عَتِيدٌ) معد حاضر ، ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب وفي الحديث «كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر».

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ)(٢٠)

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) لما ذكر استبعادهم البعث للجزاء وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب عند الموت وقيام الساعة ، ونبه على اقترابه بأن عبر عنه بلفظ الماضي ، وسكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل والباء للتعدية كما في قولك : جاء زيد بعمرو. والمعنى وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر أو الموعود الحق ، أو الحق الذي ينبغي أن يكون من الموت أو الجزاء ، فإن الإنسان خلق له أو مثل الباء في (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ). وقرئ «سكرة الحق بالموت» على أنها لشدتها اقتضت الزهوق أو لاستعقابها له كأنها جاءت به ، أو على أن الباء بمعنى مع. وقيل سكرة الحق سكرة الله وإضافتها إليه للتهويل. وقرئ «سكرات الموت». (ذلِكَ) أي الموت. (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) تميل وتنفر عنه والخطاب للإنسان.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني نفخة البعث. (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي وقت ذلك يوم تحقق الوعيد وإنجازه والإشارة إلى مصدر (نُفِخَ).

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(٢٢)

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ملكان أحدهما يسوقه والآخر يشهد بعمله ، أو ملك جامع للوصفين. وقيل

السائق كاتب السيئات ، والشهيد كاتب الحسنات. وقيل السائق نفسه أو قرينه والشهيد جوارحه أو أعماله ، ومحل (مَعَها) النصب على الحال من كل لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) على إضمار القول والخطاب (لِكُلِّ نَفْسٍ) إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكفار. (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) الغطاء الحاجب لأمور المعاد ، وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإلف بها وقصور النظر عليها. (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) نافذ لزوال المانع للإبصار. وقيل


الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى : كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن ، (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون. ويؤيد الأول قراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ)(٢٥)

(وَقالَ قَرِينُهُ) قال الملك الموكل عليه. (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لدي ، أو الشيطان الذي قيض له هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم هيأته لها باغوائي وإضلالي ، و (ما) إن جعلت موصوفة ف (عَتِيدٌ) صفتها وإن جعلت موصولة فبدلها أو خبر بعد خبر أو خبر محذوف.

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد ، أو لملكين من خزنة النار ، أو لواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كقوله :

فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا

أو الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف ، ويؤيده أنه قرئ «ألقين» بالنون الخفيفة. (عَنِيدٍ) معاند للحق.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. وقيل المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه. (مُعْتَدٍ) متعد. (مُرِيبٍ) شاك في الله وفي دينه.

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(٢٧)

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) مبتدأ متضمن معنى الشرط وخبره. (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أو بدل من (كُلَّ كَفَّارٍ) فيكون (فَأَلْقِياهُ) تكريرا للتوكيد ، أو مفعول لمضمر يفسره (فَأَلْقِياهُ).

(قالَ قَرِينُهُ) أي الشيطان المقيض له ، وإنما استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول فإنه جواب لمحذوف دل عليه. (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) كأن الكافر قال هو أطغاني ف (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) بخلاف الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها للدلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه : (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) فأعنته عليه فإن إغواء الشياطين إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي مائلا إلى الفجور كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٢٩)

(قالَ) أي الله تعالى. (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي في موقف الحساب فإنه لا فائدة فيه ، وهو استئناف مثل الأول. (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلم يبق لكم حجة. وهو حال فيه تعليل للنهي أي (لا تَخْتَصِمُوا) عالمين بأني أوعدتكم ، والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم ، ويجوز أن يكون (بِالْوَعِيدِ) حالا والفعل واقعا على قوله :

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي بوقوع الخلف فيه فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي. وعفو بعض المذنبين لبعض الأسباب ليس من التبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فأعذب من


ليس لي تعذيبه.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)(٣٠)

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سؤال وجواب جيء بهما للتخييل والتصوير ، والمعنى أنها مع اتساعها تطرح فيها الجنة والناس فوجا فوجا حتى تمتلئ لقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) ، أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد فراغ ، أو أنها من شدة زفيرها وحدتها وتشبثها بالعصاة كالمستكثرة لهم والطالبة لزيادتهم. وقرأ نافع وأبو بكر يقول بالياء وال (مَزِيدٍ) إما مصدر كالمحيد أو مفعول كالمبيع ، و (يَوْمَ) مقدر باذكر أو ظرف ل (نُفِخَ) فيكون ذلك إشارة إليه فلا يفتقر إلى تقدير مضاف.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ)(٣٥)

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) قربت لهم. (غَيْرَ بَعِيدٍ) مكانا غير بعيد ، ويجوز أن يكون حالا وتذكيره لأنه صفة محذوف ، أو شيئا غير بعيد أو على زنة المصدر أو لأن الجنة بمعنى البستان.

(هذا ما تُوعَدُونَ) على إضمار القول والإشارة إلى الثواب أو مصدر (أُزْلِفَتِ). وقرأ ابن كثير بالياء. (لِكُلِّ أَوَّابٍ) رجاع إلى الله تعالى ، بدل من «المتقين» بإعادة الجار. (حَفِيظٍ) حافظ لحدوده.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) بدل بعد بدل أو بدل من موصوف (أَوَّابٍ) ، ولا يجوز أن يكون في حكمه لأن (مَنْ) لا يوصف به أو مبتدأ خبره :

(ادْخُلُوها) على تأويل يقال لهم (ادْخُلُوها) ، فإن من بمعنى الجمع وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول ، أو صفة لمصدر أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو العقاب بعد غيب أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد. وتخصيص (الرَّحْمنَ) للإشعار بأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ، أو بأنهم يخشون مع علمهم بسعة رحمته ، ووصف القلب بالإنابة إذ الاعتبار برجوعه إلى الله. (بِسَلامٍ) سالمين من العذاب وزوال النعم ، أو مسلما عليكم من الله وملائكته. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) يوم تقدير الخلود كقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ).

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) وهو ما لا يخطر ببالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)(٣٦)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) قبل قومك. (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) قوة كعاد وثمود وفرعون. (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها ، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت ، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب ، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لهم من الله أو من الموت. وقيل الضمير في (فَنَقَّبُوا) لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيضا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم ، ويؤيده أنه قرئ «فنقّبوا» على الأمر ، وقرئ «فنقّبوا» بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم.


(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ)(٣٨)

(إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما ذكر في هذه السورة. (لَذِكْرى) لتذكرة. (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي قلب واع يتفكر في حقائقه. (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي أصغى لاستماعه. (وَهُوَ شَهِيدٌ) حاضر بذهنه ليفهم معانيه ، أو شاهد بصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره ، وفي تنكير ال (قَلْبٌ) وإبهامه تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كلا قلب.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مر تفسيره مرارا. (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) من تعب وإعياء ، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدا خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(٤٠)

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ما يقول المشركون من إنكارهم البعث ، فإن من قدر على خلق العالم بلا اعياء قدر على بعثهم والانتقام منهم ، أو ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ونزهه عن العجز عما يمكن والوصف بما يوجب التشبيه حامدا له على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها. (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) يعني الفجر والعصر وقد عرفت فضيلة الوقتين.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي وسبحه بعض الليل. (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) وأعقاب الصلوات جمع دبر من أدبر ، وقرأ الحجازيان وحمزة وخلف بالكسر من أدبرت الصلاة إذا انقضت. وقيل المراد بالتسبيح الصلاة ، فالصلاة قبل الطلوع : الصبح وقبل الغروب : الظهر ، والعصر. ومن الليل : العشاءان ، والتهجد. وأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات ، وقيل الوتر بعد العشاء.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ)(٤٣)

(وَاسْتَمِعْ) لما أخبرك به من أحوال القيامة ، وفيه تهويل وتعظيم للمخبر به. (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) إسرافيل أو جبريل عليهما‌السلام فيقول : أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء ، ولعله في الإعادة نظير «كن» في الإبداء ، ويوم نصب بما دل عليه يوم الخروج.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) بدل منه و (الصَّيْحَةَ) النفخة الثانية. (بِالْحَقِ) متعلق ب (الصَّيْحَةَ) والمراد به البعث للجزاء. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور ، وهو من أسماء يوم القيامة وقد يقال للعيد.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) في الدنيا. (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) للجزاء في الآخرة.

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ)(٤٥)


(يَوْمَ تَشَقَّقُ) تتشقق ، وقرى «تنشق». وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو بتخفيف الشين. (الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) مسرعين. (ذلِكَ حَشْرٌ) بعث وجمع. (عَلَيْنا يَسِيرٌ) هين ، وتقديم الظرف للاختصاص فإن ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال الله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمسلط تقسرهم على الإيمان ، أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت داع. (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) فإنه لا ينتفع به غيره. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة «ق» هون الله عليه تارات الموت وسكراته». والله أعلم.


(٥١) سورة والذاريات

مكية وآيها ستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣)

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) يعني الرياح تذرو التراب وغيره ، أو النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد ، أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال.

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) فالسحب الحاملة للأمطار ، أو الرياح الحاملة للسحاب ، أو النساء الحوامل ، أو أسباب ذلك. وقرئ «وقرا» على تسمية المحمول بالمصدر.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) فالسفن الجارية في البحر سهلا ، أو الرياح الجارية في مهابها ، أو الكواكب التي تجري في منازلها. و (يُسْراً) صفة مصدر محذوف أي جريا ذا يسر.

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ)(٦)

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة ، أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب ، فإن حملت على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الأقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة ، وإلا فالفاء لترتيب الأفعال إذ الريح مثلا تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحابا ، فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث أمرت به فتقسم المطر. (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ).

(وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) جواب القسم كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث للجزاء الموعود ، وما موصولة أو مصدرية و (الدِّينَ) الجزاء والواقع الحاصل.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)(٩)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) ذات الطرائق ، والمراد إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار وتتوصل بها إلى المعارف ، أو النجوم فإن لها طرائق أو أنها تزينها كما يزين الموشي طرائق الوشي. جمع حبيكة كطريقة وطرق أو حباك كمثال ومثل. وقرئ «الحبك» بالسكون و «الحبك» كالإبل و «الحبك» كالسلك و «الحبك» كالجبل و «الحبك» كالنعم و «الحبك» كالبرق.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قولهم تارة أنه (شاعِرٌ) وتارة أنه (ساحِرٍ) وتارة أنه (مَجْنُونٍ) ، أو في القرآن أو القيامة أو أمر الديانة ، ولعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السّموات في تباعدها واختلاف غاياتها.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يصرف عنه والضمير للرسول أو القرآن أو الإيمان ، من صرف إذ لا صرف أشد


منه فكأنه لا صرف بالنسبة إليه ، أو يصرف من صرف في علم الله وقضائه ويجوز أن يكون الضمير لل (قَوْلٍ) على معنى يصدر إفك من أفك عن القول المختلف وبسببه كقوله : ينهون عن أكل وعن شرب. أي يصدر تناهيهم عنهما وبسببهما وقرئ «أفك» بالفتح أي من أفك الناس وهم قريش كانوا يصدون الناس عن الإيمان.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(١٤)

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) الكذابون من أصحاب القول المختلف ، وأصله الدعاء بالقتل أجري مجرى اللعن.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) في جهل يغمرهم. (ساهُونَ) غافلون عما أمروا به.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي فيقولون متى يوم الجزاء أي وقوعه ، وقرئ «إيان» بالكسر.

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) يحرقون جواب للسؤال أي يقع (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ، أو هو (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ، وفتح (يَوْمَ) لإضافته إلى غير متمكن ويدل عليه أنه قرئ بالرفع.

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي مقولا لهم هذا القول. (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون ، ويجوز أن يكون هذا بدلا من (فِتْنَتَكُمْ) و (الَّذِي) صفته.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(١٩)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قابلين لما أعطاهم راضين به ، ومعناه أن كل ما آتاهم حسن مرضي متلقى بالقبول. (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) قد أحسنوا أعمالهم وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) تفسير لإحسانهم و (ما) مزيدة أي يهجعون في طائفة من الليل ، أو (يَهْجَعُونَ) هجوعا قليلا أو مصدرية أو موصولة أي في قليل من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وفيه مبالغات لتقليل نومهم واستراحتهم ذكر القليل و (اللَّيْلِ) الذي هو وقت السبات ، والهجوع الذي هو الفرار من النوم وزيادة (ما).

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ، وفي بناء الفعل على الضمير إشعارا بأنهم أحقاء بذلك لوفور علمهم بالله وخشيتهم منه.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) نصيب يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله وإشفاقا على الناس. (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) للمستجدي والمتعفف الذي يظن غنيا فيحرم الصدقة.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(٢١)

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي فيها دلائل من أنواع المعادن والحيوانات ، أو وجوه دلالات من الدحو والسكون وارتفاع بعضها عن الماء واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص والمنافع ، تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي وفي أنفسكم آيات إذ ما في العالم شيء إلا وفي الإنسان له نظير يدل دلالته مع ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة ، والتمكن من الأفعال الغريبة واستنباط الصنائع


المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تنظرون نظر من يعتبر.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢٣)

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أسباب رزقكم أو تقديره. وقيل المراد ب (السَّماءِ) السحاب وبالرزق المطر فإنه سبب الأقوات. (وَما تُوعَدُونَ) من الثواب لأن الجنة فوق السماء السابعة ، أو لأن الأعمال وثوابها مكتوبة مقدرة في السماء. وقيل إنه مستأنف خبره :

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) وعلى هذا فالضمير ل (ما) وعلى الأول يحتمل أن يكون له ولما ذكر من أمر الآيات والرزق والوعد. (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في تحقق ذلك ، ونصبه على الحال من المستكن في (لَحَقٌ) أو الوصف لمصدر محذوف أي أنه لحق حقا مثل نطقكم. وقيل إنه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت بمعنى شيء ، وأن بما في حيزها إن جعلت زائدة ومحله الرفع على أنه صفة (لَحَقٌ) ، ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر بالرفع.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)(٢٥)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه أوحى إليه ، والضيف في الأصل مصدر ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد. قيل كانوا اثني عشر ملكا. وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وسماهم ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف. (الْمُكْرَمِينَ) أي مكرمين عند الله أو عند إبراهيم إذ خدمهم بنفسه وزوجته.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) ظرف لل (حَدِيثُ) أو ال (ضَيْفِ) أو (الْمُكْرَمِينَ). (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم عليك سلاما. (قالَ سَلامٌ) أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحيته أحسن من تحيتهم ، وقرئا مرفوعين وقرأ حمزة والكسائي «قال سلم» وقرئ منصوبا والمعنى واحد. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي أنتم قوم منكرون ، وإنما أنكرهم لأنه ظن أنهم بنو آدم ولم يعرفهم ، أو لأن السلام لم يكن تحيتهم فإنه علم الإسلام وهو كالتعرف عنهم.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(٢٨)

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) فذهب إليهم في خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى حذرا من أن يكفه الضيف أو يصير منتظرا. (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) لأنه كان عامة ماله البقر.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) بأن وضعه بين أيديهم. (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) أي منه ، وهو مشعر بكونه حنيذا ، والهمزة فيه للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب إن قاله أول ما وضعه ، وللإنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم.

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فأضمر منهم خوفا لما رأى إعراضهم عن طعامه لظنه أنهم جاءوه لشر. وقيل وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. (قالُوا لا تَخَفْ) إنا رسل الله. قيل مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ) هو اسحق عليه‌السلام. (عَلِيمٍ) يكمل علمه إذ بلغ.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ


الْعَلِيمُ)(٣٠)

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) سارة إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم. (فِي صَرَّةٍ) في صيحة من الصرير ، ومحله النصب على الحال أو المفعول إن أول فأقبلت بأخذت. (فَصَكَّتْ وَجْهَها) فلطمت بأطراف الأصابع جبهتها فعل المتعجب. وقيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء. (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد.

(قالُوا كَذلِكَ) مثل ذلك الذي بشرنا به. (قالَ رَبُّكِ) وإنما نخبرك به عنه. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) فيكون قوله حقا وفعله محكما.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)(٣٤)

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط.

(لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) يريد السجيل فإنه طين متحجر.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) مرسلة من أسمت الماشية ، أو معلمة من السومة وهي العلامة. (لِلْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحد في الفجور.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٣٧)

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) في قرى قوم لوط وإضمارها ولم يجر ذكرها لكونها معلومة. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ممن آمن بلوط.

(فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) غير أهل بيت من المسلمين ، واستدل به على اتحاد الإيمان والإسلام وهو ضعيف لأن ذلك لا يقتضي إلا من صدق المؤمن والمسلم على من اتبعه ، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) علامة. (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فإنهم المعتبرون بها وهي تلك الأحجار ، أو صخر منضود فيها أو ماء أسود منتن.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)(٤٠)

(وَفِي مُوسى) عطف على وفي الأرض ، أو (تَرَكْنا فِيها) على معنى وجعلنا في موسى كقوله : علفتها تبنا وماء باردا. (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو معجزاته كالعصا واليد.

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) فأعرض عن الإيمان به كقوله (وَنَأى بِجانِبِهِ) أو فتولى بما كان يتقوى به من جنوده ، وهو اسم لما يركن إليه الشيء ويتقوى به. وقرئ بضم الكاف. (وَقالَ ساحِرٌ) أي هو ساحر. (أَوْ مَجْنُونٌ) كأنه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوبا إلى الجن ، وتردد في أنه حصل ذلك باختياره وسعيه أو بغيرهما.


(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) فأغرقناهم في البحر. (وَهُوَ مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه من الكفر والعناد ، والجملة حال من الضمير في (فَأَخَذْناهُ).

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)(٤٢)

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) سماها عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم ، أو لأنها لم تتضمن منفعة ، وهي الدبور أو الجنوب أو النكباء.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ) مرت. (عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) كالرماد من الرم وهو البلي والتفتت.

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ(٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ)(٤٥)

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) تفسيره قوله : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ).

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) فاستكبروا عن امتثاله. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي العذاب بعد الثلاث. وقرأ الكسائي «الصعقة» وهي المرة من الصعق. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) كقوله : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). وقيل من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) ممتنعين منه.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦)

(وَقَوْمَ نُوحٍ) أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه. أو اذكر ويجوز أن يكون عطفا على محل (فِي عادٍ) ، ويؤيده قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بالجر. (مِنْ قَبْلُ) من قبل هؤلاء المذكورين. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن الاستقامة بالكفر والعصيان.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٤٩)

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) بقوة. (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الإنفاق. أو (لَمُوسِعُونَ) السماء أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) مهدناها لتستقروا عليها. (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي نحن.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من الأجناس. (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) نوعين (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات لا يقبل التعدد والانقسام.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٥١)

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) من عقابه بالإيمان والتوحيد وملازمة الطاعة. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من عذابه المعد لمن أشرك أو عصى. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بين كونه منذرا من الله بالمعجزات ، أو (مُبِينٌ) ما يجب أن يحذر عنه.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إفراد لأعظم ما يجب أن يفر منه. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تكرير للتأكيد ، أو الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة والثاني على الإشراك.


(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(٥٥)

(كَذلِكَ) أي الأمر مثل ذلك ، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ساحرا أو مجنونا وقوله : (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) كالتفسير له ، ولا يجوز نصبه ب (أَتَى) أو ما يفسره لأن ما بعد (ما) النافية لا يعمل فيما قبلها.

(أَتَواصَوْا بِهِ) أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عن مجادلتهم بعد ما كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإصرار والعناد. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) على الإعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ.

(وَذَكِّرْ) ولا تدع التذكير والموعظة. (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) من قدر الله إيمانه أو من آمن فإنه يزداد بها بصيرة.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(٥٨)

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها ، جعل خلقهم مغيا بها مبالغة في ذلك ، ولو حمل على ظاهره مع أن الدليل يمنعه لنا في ظاهر قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وقيل معناه إلا لأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عبادا لي.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي ما أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي فاشتغلوا بما أنتم كالمخلوقين له والمأمورين به ، والمراد أن يبين أن شأنه مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم ، فإنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم ، ويحتمل أن يقدر بقل فيكون بمعنى قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً).

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق ، وفيه إيماء باستغنائه عنه ، وقرئ «إني أنا الرزاق» (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) شديد القوة ، وقرئ «المتين» بالجر صفة ل (الْقُوَّةِ).

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٦٠)

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) أي للذين ظلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب نصيبا من العذاب. (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة ، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء ، فإن الذنوب هو الدلو العظيم المملوء. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) جواب لقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) من يوم القيامة أو يوم بدر. عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا».


(٥٢) سورة والطور

مكية وآيها تسع أو ثمان وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)(٣)

(وَالطُّورِ) يريد طور سينين ، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى ، (وَالطُّورِ) الجبل بالسريانية أو ما طار من أوج الإيجاد إلى حضيض المواد ، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) مكتوب ، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به القرآن أو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ ، أو ألواح موسى عليه‌السلام ، أو في قلوب أوليائه من المعارف والحكم أو ما تكتبه الحفظة.

(فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرق الجلد الذي يكتب فيه استعير لما كتب فيه الكتاب ، وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)(٦)

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) يعني الكعبة وعمارتها بالحجاج والمجاورين ، أو الضراح وهو في السماء الرابعة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة ، أو قلب المؤمن وعمارته بالمعرفة والإخلاص.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي المملوء وهو المحيط ، أو الموقد من قوله : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) روي أنه تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا يسجر بها نار جهنم ، أو المختلط من السجير وهو الخليط.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً)(١٠)

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) لنازل.

(ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) يدفعه ، ووجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنها أمور تدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته وصدق أخباره وضبطه أعمال العباد للمجازاة.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) تضطرب ، والمور تردد في المجيء والذهاب ، وقيل تحرك في تموج و (يَوْمَ) ظرف.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا(١٣)


هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(١٤)

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي إذا وقع ذلك فويل لهم.

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي في الخوض في الباطل.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) يدفعون إليها دفعا بعنف ، وذلك بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار. وقرئ «يدعون» من الدعاء فيكون دعا حالا بمعنى مدعوين ، و (يَوْمَ) بدل من (يَوْمَ تَمُورُ) أو ظرف لقول مقدر محكيه.

(هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي يقال لهم ذلك.

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٦)

(أَفَسِحْرٌ هذا) أي كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفهذا المصداق أيضا سحر ، وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ. (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) هذا أيضا كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، ما يدل عليه وهو تقريع وتهكم أو : أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حين قلتم (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا).

(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه فإنه لا محيص لكم عنها. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الأمران الصبر وعدمه. (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للاستواء فإنه لما كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)(٢٠)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) في أية جنات وأي نعيم ، أو في (جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) مخصوصة بهم.

(فاكِهِينَ) ناعمين متلذذين. (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) وقرئ «فكهين» و «فاكهون» على أنه الخبر والظرف لغو. (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) عطف على (آتاهُمْ) إن جعل ما مصدرية ، أو (فِي جَنَّاتٍ) أو حال بإضمار قد من المستكن في الظرف أو الحال ، أو من فاعل آتى أو مفعوله أو منهما.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي أكلا وشرابا (هَنِيئاً) ، أو طعاما وشرابا (هَنِيئاً) وهو الذي لا تنغيص فيه. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بسببه أو بدله ، وقيل الباء زائدة و «ما» فاعل (هَنِيئاً) ، والمعنى هنأكم ما كنتم تعملون أي جزاؤه.

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) مصطفة (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) الباء لما في التزويج من معنى الوصل والإلصاق ، أو للسببية إذ المعنى صيرناهم أزواجا بسببهن ، أو لما في التزويج من معنى الإلصاق والقرن ولذلك عطف :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(٢١)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين. وقيل إنه مبتدأ خبره (أَلْحَقْنا بِهِمْ) وقوله : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) اعتراض للتعليل ، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» بالجمع وضم التاء


للمبالغة في كثرتهم والتصريح ، فإن الذرية تقع على الواحد والكثير ، وقرأ أبو عمرو و «أتبعناهم ذرياتهم» أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان. وقيل (بِإِيمانٍ) حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم ، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان. (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) في دخول الجنة أو الدرجة. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية» وقرأ نافع وابن عامر والبصريان ذرياتهم. (وَما أَلَتْناهُمْ) وما نقصناهم. (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بهذا الإلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم ، ويحتمل أن يكون بالتفضل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه. وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت ، وعنه «لتناهم» من لات يليت و «آلتناهم» من آلت يولت ، و «ولتناهم» من ولت يلت ومعنى الكل واحد. (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) بعمله مرهون عند الله تعالى فإن عمل صالحا فكه وإلا أهلكه.

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)(٢٤)

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم وقتا بعد وقت ما يشتهون من أنواع التنعم.

(يَتَنازَعُونَ فِيها) يتعاطون هم وجلساؤهم بتجاذب. (كَأْساً) خمرا سماها باسم محلها ولذلك أنث الضمير في قوله : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يتكلمون بلغو الحديث في أثناء شربها ، ولا يفعلوا ما يؤثم به فاعله كما هو عادة الشاربين في الدنيا ، وذلك مثل قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) وقرأهما ابن كثير والبصريان بالفتح.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي بالكأس. (غِلْمانٌ لَهُمْ) أي مماليك مخصوصون بهم. وقيل هم أولادهم الذين سبقوهم. (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) مصون في الصدف من بياضهم وصفائهم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(٢٨)

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله.

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) خائفين من عصيان الله معتنين بطاعته ، أو وجلين من العاقبة.

(فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالرحمة والتوفيق. (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم ، وقرئ «ووقّانا» بالتشديد.

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) من قبل ذلك في الدنيا. (نَدْعُوهُ) نعبده أو نسأله الوقاية. (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) المحسن ، وقرأ نافع والكسائي (إِنَّهُ) بالفتح. (الرَّحِيمُ) الكثير الرحمة.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)(٣٢)

(فَذَكِّرْ) فاثبت على التذكير ولا تكترث بقولهم. (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بحمد الله وإنعامه. (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) ، كما يقولون.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) ما يقلق النفوس من حوادث الدهر ، وقيل (الْمَنُونِ) الموت


فعول من منه إذا قطعه.

(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) عقولهم. (بِهذا) بهذا التناقض في القول فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى عقله والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق مخيل ، ولا يتأتى ذلك من المجنون وأمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه. (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) مجاوزون الحد في العناد وقرئ «بل هم».

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ)(٣٦)

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) اختلقه من تلقاء نفسه. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم.

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) مثل القرآن. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في زعمهم إذ فيهم كثير ممن عدوا فضحاء فهو رد للأقوال المذكورة بالتحدي ، ويجوز أن يكون ردا للتقول فإن سائر الأقسام ظاهر الفساد.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أم أحدثوا وقدروا من غير محدث ومقدر فلذلك لا يعبدونه ، أو من أجل لا شيء من عبادة ومجازاة. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) يؤيد الأول فإن معناه أم خلقوا أنفسهم ولذاك عقبه بقوله :

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) و (أَمْ) في هذه الآيات منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار. (بَلْ لا يُوقِنُونَ) إذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا الله إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٣٨)

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) خزائن رزقه حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا ، أو خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختارته حكمته. (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الغالبون على الأشياء يدبرونها كيف شاؤوا. وقرأ قنبل وحفص بخلاف عنه وهشام بالسين وحمزة بخلاف عن خلاد بين الصاد والزاي ، والباقون بالصاد خاصة.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) مرتقى إلى السماء. (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة واضحة تصدق استماعه.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٣)

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فيه تسفيه لهم وإشعار بأن من هذا رأيه لا يعد من العقلاء فضلا أن يترقى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلع على الغيوب.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على تبليغ الرسالة. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) من التزام غرم. (مُثْقَلُونَ) محملون الثقل فلذلك زهدوا في اتباعك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) اللوح المحفوظ المثبت فيه المغيبات. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل العموم والخصوص فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم ، والدلالة على أنه الموجب للحكم المذكور.


(هُمُ الْمَكِيدُونَ) هم الذين يحيق بهم الكيد أو يعود عليهم وبال كيدهم ، وهو قتلهم يوم بدر أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يعينهم ويحرسهم من عذابه. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو شركة ما يشركونه به.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٤٧)

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) قطعة. (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا) من فرط طغيانهم وعنادهم. (سَحابٌ مَرْكُومٌ) هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ، وهو جواب قولهم (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ).

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) وهو عند النفخة الأولى ، وقرئ. «يلقوا» وقرأ ابن عامر وعاصم (يُصْعَقُونَ) على المبني للمفعول من صعقه أو أصعقه.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي شيئا من الإغناء في رد العذاب. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يحتمل العموم والخصوص. (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي دون عذاب الآخرة وهو عذاب القبر أو المؤاخذة في الدنيا كقتلهم ببدر والقحط سبع سنين. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)(٤٩)

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم وإبقائك في عنائهم. (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) في حفظنا بحيث نراك ونكلؤك وجمع العين لجمع الضمير والمبالغة بكثرة أسباب الحفظ. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) من أي مكان قمت أو من منامك أو إلى الصلاة.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد من الرياء ، ولذلك أفرده بالذكر وقدمه على الفعل (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل ، وقرئ بالفتح أي في أعقابها إذا غربت أو خفيت. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والطور كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته».


(٥٣) سورة والنجم

مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٤)

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال. هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب ، وهويا بالضم إذا علا وصعد ، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض ، أو إذا نما وارتفع على قوله.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) ما عدل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الطريق المستقيم ، والخطاب لقريش. (وَما غَوى) وما اعتقد باطلا والخطاب لقريش ، والمراد نفي ما ينسبون إليه.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) وما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى.

(إِنْ هُوَ) ما القرآن أو الذي ينطق به. (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي إلا وحي يوحيه الله إليه ، واحتج به من لم ير الاجتهاد له. وأجيب عنه بأنه إذا أوحى إليه بأن يجتهد كان اجتهاده وما يستند إليه وحيا ، وفيه نظر لأن ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى)(٧)

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ملك شديد قواه وهو جبريل عليه‌السلام فإن الواسطة في إبداء الخوارق ، روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين.

(ذُو مِرَّةٍ) حصافة في عقله ورأيه. (فَاسْتَوى) فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها. قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير محمد عليه الصلاة والسلام مرتين ، مرة في السماء ومرة في الأرض ، وقيل استوى بقوته على ما جعل له من الأمر.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) في أفق السماء والضمير لجبريل.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)(١٠)

(ثُمَّ دَنا) من النبي عليه الصلاة والسلام. (فَتَدَلَّى) فتعلق به وهو تمثيل لعروجه بالرسول. وقيل ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من الرسول فيكون إشعارا بأنه عرج به غير منفصل عن محله تقريرا لشدة قوته ، فإن التدلي استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة ، ويقال دلى رجليه من السرير وأدلى دلوه ، والدوالي الثمر المعلق.

(فَكانَ) جبريل عليه‌السلام كقولك : هو مني معقد الإزار ، أو المسافة بينهما. (قابَ قَوْسَيْنِ) مقدارهما. (أَوْ أَدْنى) على تقديركم كقوله أو يزيدون ، والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما


أوحي إليه بنفي البعد الملبس.

(فَأَوْحى) جبريل عليه‌السلام. (إِلى عَبْدِهِ) عبد الله وإضماره قبل الذكر لكونه معلوما كقوله : (عَلى ظَهْرِها)(ما أَوْحى) جبريل عليه‌السلام وفيه تفخيم للموحى به أو الله إليه ، وقيل الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بشراشره إلى جناب القدس.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)(١٢)

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام أو الله تعالى ، أي ما كذب بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر ، أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك كان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره ، أو ما رآه بقلبه والمعنى أنه لم يكن تخيلا كاذبا. ويدل عليه «أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل رأيت ربك؟ فقال رأيته بفؤادي». وقرأ هشام ما كذب أي صدقه ولم يشك فيه.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أفتجادلونه عليه ، من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب «أفتمرونه» أي أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ، أو أفتجحدونه من مراه حقه إذا جحده وعلى لتضمين الفعل معنى الغلبة فإن المماري والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)(١٦)

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) مرة أخرى فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها إشعارا بأن الرؤية في هذه المرة كانت أيضا بنزول ودنو والكلام في المرئي والدنو ما سبق. وقيل تقديره ولقد رآه نازلا نزلة أخرى ، ونصبها على المصدر والمراد به نفي الريبة عن المرة الأخيرة.

(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) التي ينتهي إليها أعمال الخلائق وعلمهم ، أو ما ينزل من فوقها ويصعد من تحتها ، ولعلها شبهت بالسدرة وهي شجرة النبق لأنهم يجتمعون في ظلها. وروي مرفوعا أنها في السماء السابعة.

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) الجنة التي يأوي إليها المتقون أو أرواح الشهداء.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يكتنهها نعت ولا يحصبها عد ، وقيل يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)(١٨)

(ما زاغَ الْبَصَرُ) ما مال بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه. (وَما طَغى) وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا ، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي والله لقد رأى الكبرى من آياته وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج وقد قيل إنها المعنية بما (رَأى). ويجوز أن تكون (الْكُبْرى) صفة لل (آياتِ) على أن المفعول محذوف أي شيئا من آيات ربه أو (مِنْ) مزيدة.


(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢)

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هي أصنام كانت لهم ، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها أي يطوفون. وقرأ هبة الله عن البزي ورويس عن يعقوب (اللَّاتَ) بالتشديد على أنه سمي به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج. (وَالْعُزَّى) بالتشديد سمرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، وأصلها تأنيث الأعز (وَمَناةَ) صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف وهي فعلة من مناه إذا قطعه فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين ومنه منى. وقرأ ابن كثير مناءة وهي مفعلة من النوء فإنهم كانوا يستمطرون الأنواء عندها تبركا بها ، وقوله (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) صفتان للتأكيد كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أو (الْأُخْرى) من التأخر في الرتبة.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) إنكار لقولهم الملائكة بنات الله ، وهذه الأصنام استوطنها جنيات هن بناته ، أو هياكل الملائكة وهو المفعول الثاني لقوله (أَفَرَأَيْتُمُ).

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) جائرة حيث جعلتم له ما تستنكفون منه وهي فعلى من الضيز وهو الجور ، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في بيض فإن فعلى بالكسر لم تأت وصفا. وقرأ ابن كثير بالهمزة من ضأزه إذا ظلمه على أنه مصدر نعت به.

(إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)(٢٣)

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ) الضمير للأصنام أي ما هي باعتبار الألوهية إلا أسماء تطلقونها عليها لأنهم يقولون أنها آلهة وليس فيها شيء من معنى الألوهية ، أو للصفة التي تصفونها بها من كونها آلهة وبنات وشفعاء ، أو للأسماء المذكورة فإنهم كانوا يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها ، والعزى لعزتها ومناة لاعتقادهم أنها تستحق أن يتقرب إليها بالقرابين. (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها.

(أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) بهواكم. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) برهان تتعلقون به. (إِنْ يَتَّبِعُونَ) وقرئ بالتاء. (إِلَّا الظَّنَ) إلا توهم أن ما هم عليه حق تقليدا وتوهما باطلا. (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) وما تشتهيه أنفسهم. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) الرسول أو الكتاب فتركوه.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)(٢٦)

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، والمعنى ليس له كل ما يتمناه والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة وقولهم : (لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ونحوهما.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) يعطي منهما ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم شيئا ولا تنفع.


(إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) في الشفاعة. (لِمَنْ يَشاءُ) من الملائكة أن يشفع أو من الناس أن يشفع له. (وَيَرْضى) ويراه أهلا لذلك فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢٨)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) أي كل واحد منهم. (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) بأن يسموه بنتا.

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بما يقولون ، وقرئ بها أي بالملائكة أو بالتسمية. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فإن الحق الذي هو حقيقة الشيء لا يدرك إلا بالعلم ، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية ، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى)(٣٠)

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) فأعرض عن دعوته والاهتمام بشأنه فإن من غفل عن الله وأعرض عن ذكره. وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته ومبلغ علمه لا تزيده الدعوة إلا عنادا وإصرارا على الباطل.

(ذلِكَ) أي أمر الدنيا أو كونها شهية. (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) لا يتجاوزه علمهم والجملة اعتراض مقرر لقصور هممهم بالدنيا وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى)(٣٢)

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) بعقاب ما عملوا من السوء أو بمثله أو بسبب ما عملوا من السوء ، وهو علة لما دل عليه ما قبله أي خلق العالم وسواه للجزاء ، أو ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لذلك (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه. وقيل ما أوجب الحد. وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك. (وَالْفَواحِشَ) وما فحش من الكبائر خصوصا. (إِلَّا اللَّمَمَ) إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر ، والاستثناء منقطع ومحل (الَّذِينَ) النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف. (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) أعلم بأحوالكم منكم. (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام. (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) فلا تثنوا


عليها بزكاء العمل وزيادة الخير ، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه‌السلام.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥))

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) عن اتباع الحق والثبات عليه.

(وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) وقطع العطاء من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية وهي الصخرة الصلبة فترك الحفر. والأكثر على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعيره بعض بعض المشركين وقال : تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله تعالى فضمن أن يتحمل عنه العقاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطى بعض المشروط ثم بخل بالباقي.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) يعلم أن صاحبه يتحمل عنه.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٣٨)

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وفى وأتم ما التزمه أو أمر به ، أو بالغ في الوفاء بما عاهد الله ، وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره كالصبر على نار نمروذ حتى أتاه جبريل عليه‌السلام حين ألقي في النار فقال ألك حاجة ، فقال أما إليك فلا ، وذبح الولد وأنه كان يمشي كل يوم فرسخا يرتاد ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم ، وتقديم موسى عليه الصلاة والسلام لأن صحفه وهي التوراة كانت أشهر وأكبر عندهم.

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أن هي المخففة من الثقيلة وهي بما بعدها في محل الجر بدلا مما (فِي صُحُفِ مُوسى) ، أو الرفع على هو أن (أَلَّا تَزِرُ) كأنه قيل ما في صحفهما؟ فأجاب به ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يخالف ذلك قوله تعالى : (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) وقوله عليه الصلاة والسلام ، «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن ذلك للدلالة والتسبب الذي هو وزره.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى)(٤١)

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) إلا سعيه أي كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله ، وما جاء في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت فلكون الناوي له كالنائب عنه.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجزي العبد سعيه بالجزاء الأوفر فنصب بنزع الخافض ، ويجوز أن يكون مصدرا وأن تكون الهاء للجزاء المدلول عليه بيجزي و (الْجَزاءَ) بدله.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا)(٤٤)

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) انتهاء الخلائق ورجوعهم ، وقرئ بالكسر على أنه منقطع عما في الصحف وكذلك ما بعده.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) لا يقدر على الإماتة والإحياء غيره فإن القاتل ينقض البنية والموت يحصل عنده بفعل الله تعالى على سبيل العادة.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى)(٤٧)


(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) تدفق في الرحم أو تخلق ، أو يقدر منها الولد من منى إذا قدر.

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الإحياء بعد الموت وفاء بوعده ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمدة وهو أيضا مصدر نشأ.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى)(٤٩)

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) وأعطى القنية وهو ما يتأثل من الأموال ، وإفرادها لأنها أشف الأموال أو أرضى وتحقيقه جعل الرضا له قنية.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) يعني العبور وهي أشد ضياء من الغميصاء ، عبدها أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخالف قريشا في عبادة الأوثان ، ولذلك كانوا يسمون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبي كبشة ، ولعل تخصيصها للإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وإن وافق أبا كبشة في مخالفتهم خالفه أيضا في عبادتها.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى)(٥٤)

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه والسلام. وقيل «عاد الأولى» قوم هود وعاد الأخرى إرم. وقرئ «عادا لولى» بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى لام التعريف وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الاولى بضم اللام بحركة الهمزة وبإدغام التنوين ، وقالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو.

وثمودا عطف على (عاداً) لأن ما بعده لا يعمل فيه ، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين ويقفان بغير الألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف. (فَما أَبْقى) الفريقين.

(وَقَوْمَ نُوحٍ) أيضا معطوف عليه. (مِنْ قَبْلُ) من قبل عاد وثمود. (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من الفريقين لأنهم كانوا يؤذونه وينفرون عنه ويضربونه حتى لا يكون به حراك.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ) والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهي قرى قوم لوط. (أَهْوى) بعد أن رفعها فقلبها.

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) فيه تهويل وتعميم لما أصابهم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى)(٥٦)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) تتشكك والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد والمعدودات وإن كانت نعما ونقما سماها (آلاءِ) من قبل ما في نقمه من العبر والمواعظ للمعتبرين ، والانتقام للأنبياء والمؤمنين.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة ، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ)(٥٨)

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ).

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله لكنه لا يكشفها ، أو


الآن بتأخيرها إلا الله ، أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله إذ لا يطلع عليه سواه ، أو ليس لها من غير الله كشف على أنها مصدر كالعافية.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)(٦٢)

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (تَعْجَبُونَ) إنكارا.

(وَتَضْحَكُونَ) استهزاء. (وَلا تَبْكُونَ) تحزنا على ما فرطتم.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) لاهون أو مستكبرون من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه ، أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود وهو الغناء.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي واعبدوه دون الآلهة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة».


(٥٤) سورة القمر

مكية وآيها خمس وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣)

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) روي أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فانشق القمر. وقيل معناه سينشق يوم القيامة ويؤيد الأول أنه قرئ «وقد انشق القمر» أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها انشقاق القمر ، وقوله :

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) عن تأملها والإيمان بها. (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) مطرد وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخر مترادفة ومعجزات متتابعة حتى قالوا ذلك ، أو محكم من المرة يقال أمررته فاستمر إذا أحكمته فاستحكم ، أو مستبشع من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته أو مارّ ذاهب لا يبقى.

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وهو ما زين لهم الشيطان من رد الحق بعد ظهوره ، وذكرهما بلفظ الماضي للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا وشقاوة ، أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر ، وقرئ بالفتح أي ذو مستقر بمعنى استقرار وبالكسر والجر على أنه صفة أمر ، وكل معطوف على الساعة.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ)(٥)

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ) في القرآن (مِنَ الْأَنْباءِ) أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة. (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) ازدجار من تعذيب أو وعيد ، وتاء الافتعال تقلب دالا مع الذال والدال والزاي للتناسب ، وقرئ «مزجر» بقلبها زايا وإدغامها.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) غايتها لا خلل فيها وهي بدل من ما أو خبر لمحذوف ، وقرئ بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو مخصوصة بالصفة نصب الحال عنها. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) نفي أو استفهام إنكار ، أي فأي غناء تغني النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر ، أو المنذر منه أو مصدر بمعنى الإنذار.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ)(٨)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لعلمك بأن الإنذار لا يغني فيهم. (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) إسرافيل ، ويجوز أن يكون الدعاء فيه كالأمر في قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) وإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة للتخفيف وانتصاب (يَوْمَ) ب (يَخْرُجُونَ) أو بإضمار أذكر. (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله وهو هول يوم القيامة ، وقرأ ابن كثير بالتخفيف ، وقرئ «نكر» بمعنى أنكر.


خاشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث أي يخرجون من قبورهم خاشعا ذليلا أبصارهم من الهول ، وإفراده وتذكيره لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث ، وقرئ «خاشعة» على الأصل ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم (خُشَّعاً) ، وإنما حسن ذلك ولم يحسن مررت برجال قائمين غلمانهم لأنه ليس على صيغة تشبه الفعل ، وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء والخبر فتكون الجملة حالا. (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة.

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين مادي أعناقهم إليه ، أو ناظرين إليه. (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) صعب.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(١٠)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) قبل قومك. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا عليه‌السلام وهو تفصيل بعد إجمال ، وقيل معناه كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبوه بعد ما كذبوا الرسل. (وَقالُوا مَجْنُونٌ) هو مجنون. (وَازْدُجِرَ) وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية ، وقيل إنه من جملة قيلهم أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) بأني وقرئ بالكسر على إرادة القول. (مَغْلُوبٌ) غلبني قومي. (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم وذلك بعد يأسه منهم. فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه فيفيق ويقول : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)(١٢)

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصب ، وهو مبالغة وتمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها ، وقرأ ابن عامر ويعقوب ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة ، وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير للمبالغة. (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء وماء الأرض ، وقرئ «الماءان» لاختلاف النوعين «الماوان» بقلب الهزة واوا. (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) على حال قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت ، أو على حال قدرت وسويت وهو أن قدر ما أنزل على قدر ما أخرج ، أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)(١٤)

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) ذات أخشاب عريضة. (وَدُسُرٍ) ومسامير جمع دسار من الدسر ، وهو الدفع الشديد وهي صفة للسفينة أقيمت مقامها من حيث إنها كالشرح لها تؤدي مؤداها.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك جزاء لنوح لأنه نعمة كفروها ، فإن كل نبي نعمة من الله تعالى ورحمة على أمته ، ويجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير ، وقرئ «لمن كفر» أي للكافرين.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(١٧)

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي السفينة أو الفعلة. (آيَةً) يعتبر بها إذ شاع خبرها واشتهر. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)


معتبر ، وقرئ «مذتكر» على الأصل ، و «مذكر» بقلب التاء ذالا والإدغام فيها.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) استفهام تعظيم ووعيد ، والنذر يحتمل المصدر والجمع.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) سهلناه أو هيأناه من يسر ناقته للسفر إذا رحلها. (لِلذِّكْرِ) للادكار والاتعاظ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر ، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)(٢١)

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وإنذاري أتى لهم بالعذاب قبل نزوله ، أو لمن بعدهم في تعذيبهم.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردا أو شديد الصوت. (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم. (مُسْتَمِرٍّ) أي استمر شؤمه ، أو استمر عليهم حتى أهلكهم ، أو على جميعهم كبيرهم وصغيرهم فلم يبق منهم أحدا ، أو اشتد مرارته وكان يوم الأربعاء آخر الشهر.

(تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم ، روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أصول نخل منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض. وقيل شبهوا بالأعجاز لأن الريح طيرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم ، وتذكير (مُنْقَعِرٍ) للحمل على اللفظ ، والتأنيث في قوله (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) للمعنى.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كرره للتهويل. وقيل الأول لما حاق بهم في الدنيا ، والثاني لما يحيق بهم في الآخرة كما قال أيضا في قصتهم (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى).

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)(٢٥)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) بالإنذارات والمواعظ ، أو الرسل.

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا) من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا ، وانتصابه بفعل يفسره وما بعده وقرئ بالرفع على الابتداء والأول أوجه للاستفهام. (واحِداً) منفردا لاتبع له أو من آحادهم دون أشرافهم. (نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) جمع سعير كأنه عكسوا عليه فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على ترك اتباعهم له ، وقيل السعر الجنون ومنه ناقة مسعورة.

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) الكتاب أو الوحي. (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) وفينا من هو أحق منه بذلك. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) حمله بطره على الترفع علينا بادعائه إياه.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ)(٢٨)

(سَيَعْلَمُونَ غَداً) عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق وطلب الباطل أصالح عليه‌السلام أم من كذبه؟ وقرأ ابن عامر وحمزة ورويس ستعلمون على الالتفات أو حكاية ما أجابهم به صالح ، وقرئ «الأشر» كقولهم حذر في حذر و «الأشر» أي الأبلغ في الشرارة وهو أصل مرفوض كالأخير.


(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مخرجوها وباعثوها. (فِتْنَةً لَهُمْ) امتحانا لهم. (فَارْتَقِبْهُمْ) فانتظرهم وتبصر ما يصنعون. (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم لها يوم ولهم يوم ، و (بَيْنَهُمْ) لتغليب العقلاء. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه في نوبته أو يحضره عنه غيره.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)(٣١)

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف أحيمر ثمود (فَتَعاطى فَعَقَرَ) فاجترأ على تعاطي قتلها فقتلها أو فتعاطى السيف فقتلها والتعاطي تناول الشيء بتكلف.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) صيحة جبريل عليه‌السلام. (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة لأجلها أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء ، وقرئ بفتح الظاء أي كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ)(٣٥)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ). (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ريحا تحصبهم بالحجارة أي ترميهم. (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) في سحر وهو آخر الليل أو مسحرين.

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) إنعاما منا وهو علة لنجينا. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمتنا بالإيمان والطاعة.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٩)

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط. (بَطْشَتَنا) أخذتنا بالعذاب. (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) فكذبوا بالنذر متشاكين.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) قصدوا الفجور بهم. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فمسحناها وسويناها بسائر الوجه. روي أنهم لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل عليه‌السلام صفقة فأعماهم. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) فقلنا لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة أو ظاهر الحال.

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) وقرئ «بكرة» غير مصروفة على أن المراد بها أول نهار معين. (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) يستقر بهم حتى يسلمهم إلى النار.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ).

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)(٤٢)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) كرر ذلك في كل قصة إشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب واستماع كل قصة مستدع للادكار والاتعاظ ، واستئنافا للتنبيه والاتعاظ لئلا يغلبهم السهو والغفلة ، وهكذا تكرير قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ونحوهما.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) اكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك منهم.


(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) يعني الآيات التسع. (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) لا يغالب. (مُقْتَدِرٍ) لا يعجزه شيء.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥)

(أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر العرب. (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الكفار المعدودين قوّة وعدّة أو مكانة ودينا عند الله تعالى. (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أم نزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمان من العذاب.

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ) جماعة أمرنا مجتمع (مُنْتَصِرٌ) ممتنع لا نرام أو منتصر من الأعداء لا نغلب ، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا والتوحيد على لفظ الجميع.

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الأدبار وإفراده لإرادة الجنس ، أو لأن كل واحد يولي دبره وقد وقع ذلك يوم بدر وهو من دلائل النبوة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزلت قال لم أعلم ما هو فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبس الدرع ويقول. سيهزم الجمع ، فعلمته».

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)(٤٨)

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) موعد عذابهم الأصلي وما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أشد ، والداهية أمر فظيع لا يهتدي لدوائه. (وَأَمَرُّ) مذاقا من عذاب الدنيا.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) عن الحق في الدنيا. (وَسُعُرٍ) ونيران في الآخرة.

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يجرون عليها. (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يقال لهم ذوقوا حر النار وألمها فإن مسها سبب التألم بها ، وسقر علم لجهنم ولذلك لم يصرف من سقرته النار وصقرته إذا لوحته.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)(٥٠)

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إنا خلقنا كل شيء مقدرا مرتبا على مقتضى الحكمة ، أو مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده ، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبرا لا نعتا ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر ، ولعل اختيار النصب ها هنا مع الإضمار لما فيه من النصوصية على المقصود.

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) إلا فعلة واحدة وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة ، أو (إِلَّا) كلمة واحدة وهو قوله كن. (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) في اليسر والسرعة ، وقيل معناه معنى قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)(٥٣)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أشباهكم في الكفر ممن قبلكم. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) مكتوب في كتب الحفظة.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال. (مُسْتَطَرٌ) مسطور في اللوح.


(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)(٥٥)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) أنهار واكتفى باسم الجنس ، أو سعة أو ضياء من النهار. وقرئ «نهر» وبضم الهاء جمع نهر كأسد وأسد.

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مكان مرضي ، وقرئ «مقاعد صدق». (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) مقربين عند من تعالى أمره في الملك ، والاقتدار بحيث أبهمه ذوو الأفهام.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر».


(٥٥) سورة الرحمن

مكية أو مدنية أو متبعضة وآيها ثمان وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(٤)

(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها ب (الرَّحْمنُ) ، وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوحي وأعز الكتب ، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصداق لها ، ثم أتبعه قوله :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) إيماء بأن خلق البشر وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان ، وهو التعبير عما في الضمير وإفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي وتعرف الحق وتعلم الشرع ، وإخلاء الجمل الثلاث التي هي أخبار مترادفة ل (الرَّحْمنُ) عن العاطف لمجيئها على نهج التعديد.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)(٦)

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما ، وتتسق بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ، ويعلم السنون والحساب.

(وَالنَّجْمُ) والنبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له. (وَالشَّجَرُ) الذي له ساق. (يَسْجُدانِ) ينقادان لله تعالى فيما يريد بهما طبعا انقياد الساجد من المكلفين طوعا ، وكان حق النظم في الجملتين أن يقال : وأجرى الشمس والقمر ، وأسجد النجم والشجر. أو (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) له ، ليطابقا ما قبلهما وما بعدهما في اتصالهما ب (الرَّحْمنُ) ، لكنهما جردتا عما يدل على الاتصال إشعارا بأن وضوحه يغنيه عن البيان ، وإدخال العاطف بينهما لاشتراكهما في الدلالة على أن ما يحس به من تغيرات أحوال الأجرام العلوية والسفلية بتقديره وتدبيره.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)(٩)

(وَالسَّماءَ رَفَعَها) خلقها مرفوعة محلا ومرتبة ، فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته ، وقرئ بالرفع على الابتداء. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه ، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه‌السلام «بالعدل قامت السموات والأرض». أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما ، كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقدار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والمواجب.

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) لئلا تطغوا فيه أي لا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف ، وقرئ «لا تطغوا» على


إرادة القول.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) ولا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه ، وتكريره مبالغة في التوصية به وزيادة حث على استعماله ، وقرئ (وَلا تُخْسِرُوا) بفتح التاء وضم السين وكسرها ، و (تُخْسِرُوا) بفتحها على أن الأصل (وَلا تُخْسِرُوا) في (الْمِيزانَ) فحذف الجار وأوصل الفعل.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(١٣)

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها) خفضها مدحوة. (لِلْأَنامِ) للخلق. وقيل الأنام كل ذي روح.

(فِيها فاكِهَةٌ) ضروب مما يتفكه به. (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أوعية التمر جمع كم ، أو كل ما يكم أي يغطى من ليف وسعف وكفرى فإنه ينتفع به كالمكموم كالجذع والجمار والتمر.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذى به ، و (الْعَصْفِ) ورق النبات اليابس كالتين. (وَالرَّيْحانُ) يعني المشموم ، أو الرزق من قولهم : خرجت أطلب ريحان الله ، وقرأ ابن عامر «والحب ذا العصف والريحان» أي وخلق الحب والريحان أو وأخص ، ويجوز أن يراد وذا الريحان فحذف المضاف ، وقرأ حمزة والكسائي «والريحان» بالخفض ما عدا ذلك بالرفع ، وهو فيعلان من الروح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف ، وقيل «روحان» فقلبت واوه ياء للتخفيف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله : (لِلْأَنامِ) وقوله : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ).

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(١٦)

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة ، والفخار الخزف وقد خلق الله آدم من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ، ثم صلصالا فلا يخالف ذلك قوله خلقه من تراب ونحوه.

(وَخَلَقَ الْجَانَ) الجن أو أبا الجن. (مِنْ مارِجٍ) من صاف من الدخان. (مِنْ نارٍ) بيان ل (مارِجٍ) فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ)(٢٠)

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى ، كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها ، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب. (يَلْتَقِيانِ) يتجاوران ويتماس سطوحهما ، أو بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه.


(بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله تعالى أو من الأرض. (لا يَبْغِيانِ) لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية ، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ)(٢٤)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) كبار الدر وصغاره ، وقيل المرجان الخرز الأحمر ، وإن صح أن الدر يخرج من الملح فعلى الأول إنما قال منهما لأنه مخرج من مجتمع الملح والعذب ، أو لأنهما لما اجتمعا صارا كالشيء الواحد فكأن المخرج من أحدهما كالمخرج منهما. وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب (يَخْرُجُ) ، وقرئ «نخرج» و «يخرج» بنصب (اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ) أي السفن جمع جارية ، وقرئ بحذف الياء ورفع الراء كقوله:

لها ثنايا أربع حسان

وأربع فكلها ثمان

(الْمُنْشَآتُ) المرفوعات الشرع ، أو المصنوعات وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين أي الرافعات الشرع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج أو السير. (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٢٧)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها) من على الأرض من الحيوانات أو المركبات و (مَنْ) للتغليب ، أو من الثقلين. (فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ذاته ولو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله أي الوجه الذي يلي جهته. (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ذو الاستغناء المطلق والفضل العام.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٠)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما ذكرنا قبل من بقاء الرب وإبقاء ما لا يحصى مما هو على صدد الفناء رحمة وفضلا ، أو مما يترتب على فناء الكل من الإعادة والحياة الدائمة والنعيم المقيم.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنهم مفتقرون إليه في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم ، ويعن لهم والمراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء في ذواتهم وصفاتهم نطقا كان أو غيره. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كل وقت يحدث أشخاصا ويجدد أحوالا على ما سبق به قضاؤه ، وفي الحديث «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين». وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما من مكمن العدم حينا فحينا.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ)(٣٣)

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة ، فإنه تعالى لا يفعل فيه


غيره وقيل تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سأفرغ لك ، فإن المتجرد للشيء كان أقوى عليه وأجد فيه ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وقرئ «سنفرغ إليكم» أي سنقصد إليكم. و (الثَّقَلانِ) الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما ، أو لأنهما مثقلان بالتكليف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه. (فَانْفُذُوا) فاخرجوا. (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون على النفوذ. (إِلَّا بِسُلْطانٍ) إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك ، أو إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السموات والأرض (فَانْفُذُوا) لتعلموا لكن (لا تَنْفُذُونَ) ولا تعلمون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٦)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة ، أو مما نصب من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلا.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) لهب. (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) ودخان قال :

تضيء كضوء السراج السّلي

ط لم يجعل الله فيه نحاسا

أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم ، وقرأ ابن كثير (شُواظٌ) بالكسر وهو لغة (وَنُحاسٌ) بالجر عطفا على (نارٍ) ، ووافقه فيه أبو عمرو ويعقوب في رواية ، وقرئ «ونحس» وهو جمع كلحف. (فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تمتنعان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٤٠)

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً) أي حمراء كوردة وقرئت بالرفع على كان التامة فيكون من باب التجريد كقوله :

ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم

(كَالدِّهانِ) مذابة كالدهن وهو اسم لما يدهن به كالحزام ، أو جمع دهن وقيل هو الأديم الأحمر.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما يكون بعد ذلك.

(فَيَوْمَئِذٍ) أي فيوم تنشق السماء. (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) لأنهم يعرفون بسيماهم وذلك حين ما يخرجون من قبورهم ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم ، وأما قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) ونحوه فحين يحاسبون في المجمع ، والهاء للإنس باعتبار اللفظ فإنه وإن تأخر لفظا تقدم رتبة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ)(٤٦)


(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) وهو ما يعلوهم من الكآبة والحزن. (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) مجموعا بينهما ، وقيل يؤخذون (بِالنَّواصِي) تارة وب (الْأَقْدامِ) أخرى.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها) بين النار يحرقون بها. (وَبَيْنَ حَمِيمٍ) ماء حار. (آنٍ) بلغ النهاية في الحرارة يصب عليهم ، أو يسقون منه ، وقيل إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب ، أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا راقبه ، أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضيف إلى الرب تفخيما وتهويلا ، أو ربه و (مَقامَ) مقحم للمبالغة كقوله :

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

(جَنَّتانِ) جنة للخائف الإنسي والأخرى للخائف الجني ، فإن الخطاب للفريقين والمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله ، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي ، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه ، أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ)(٥٠)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ) أنواع من الأشجار والثمار جمع فن ، أو أغصان جمع فنن وهي الغصنة التي تتشعب من فرع الشجرة ، وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل. قيل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)(٥٤)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) صنفان غريب ومعروف ، أو رطب ويابس.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) من ديباج ثخين وإذا كانت البطائن كذلك فما ظنك بالظهائر ، و (مُتَّكِئِينَ) مدح للخائفين أو حال منهم ، لأن من خاف في معنى الجمع. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) قريب يناله القاعد والمضطجع ، (وَجَنَى) اسم بمعنى مجنى وقرئ بكسر الجيم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)(٥٨)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ) في الجنان فإن جنتان تدل على جنان هي للخائفين أو فيما فيهما من الأماكن والقصور ، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش. (قاصِراتُ الطَّرْفِ) نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) لم يمس الإنسيات إنس ولا الجنيات جن ، وفيه دليل على أن الجن يطمثون. وقرأ الكسائي بضم الميم. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) أي وحمرة الوجنة وبياض البشرة وصفائهما.


(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦١)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل. (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب وهو الجنة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦٥)

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين (جَنَّتانِ) لمن دونهم من أصحاب اليمين.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ) خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة ، وفيه إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض ، وعلى الأوليين الأشجار والفواكه دلالة على ما بينهما من التفاوت (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦٩)

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) فوارتان بالماء هو أيضا أقل مما وصف به الأوليين وكذا ما بعده.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما ، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء وثمرة الرمان فاكهة ودواء ، واحتج به أبو حنيفة رضي الله عنه على أن من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رطبا أو رمانا لم يحنث. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)(٧٤)

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ) أي خيرات فخففت لأن خيرا الذي بمعنى أخير لا يجمع ، وقد قرئ على الأصل.

(حِسانٌ) حسان الخلق والخلق.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) قصرن في خدورهن ، يقال امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة أي مخدرة ، أو مقصورات الطرف على أزواجهن.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) كحور الأولين وهم أصحاب الجنتين فإنهما يدلان عليهم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٧٨)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) وسائد أو نمارق جمع رفرفة. وقيل الرفرف ضرب من البسط أو ذيل الخيمة وقد يقال لكل ثوب عريض. (خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقري منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه اسم بلد للجن فينسبون إليه كل شيء عجيب ، والمراد به الجنس ولذلك جمع (حِسانٍ) حملا على المعنى.


(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تعالى اسمه من حيث إنه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته ، وقيل الإسم بمعنى الصفة أو مقحم كما في قوله :

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

(ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقرأ ابن عامر بالرفع صفة للاسم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله تعالى عليه».


(٥٦) سورة الواقعة

مكية وآيها ست وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ)(٣)

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) إذا حدثت القيامة ، سماها واقعة لتحقق وقوعها وانتصاب (إِذا) بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت.

(لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله تعالى ، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن ، واللام مثلها في قوله : (قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أو ليس لأحد في وقعتها كاذبة فإن من أخبر عنها صدق ، أو ليس لها حينئذ نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها من قولهم : كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته عليه وسولت له أنه يطيقه.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض قوما وترفع آخرين ، وهو تقرير لعظمتها فإن الوقائع العظام كذلك ، أو بيان لما يكون حينئذ من خفض أعداء الله ورفع أوليائه ، أو إزالة الأجرام عن مقارها بنثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو ، وقرئتا بالنصب على الحال.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً)(٧)

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) حركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل ، والظرف متعلق ب (خافِضَةٌ) أو بدل من (إِذا وَقَعَتِ).

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته ، أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها ، (فَكانَتْ هَباءً) غبارا. (مُنْبَثًّا) منتشرا.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) أصنافا. (ثَلاثَةً) وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ)(٩)

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) فأصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنيئة من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، أو (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) و (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم ، أو أصحاب اليمن والشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. والجملتان الاستفهاميتان خبران لما قبلهما بإقامة الظاهر مقام الضمير ومعناهما التعجب من حال الفريقين.


(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)(١٢)

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) والذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، أو سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات ، أو الأنبياء فإنهم مقدمو أهل الأديان هم الذين عرفت حالهم وعرفت مآلهم كقول أبي النجم :

أنا أبو النّجم وشعري شعري

أو الذين سبقوا إلى الجنة (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الذين قربت درجاتهم في الجنة وأعليت مراتبهم.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)(١٤)

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي هم كثير من الأولين يعني الأمم السالفة من لدن آدم إلى محمد عليه الصلاة والسلام.

(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إن أمتي يكثرون سائر الأمم». لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة ، وتابعو هذه أكثر من تابعيهم ، ولا يرده قوله في أصحاب اليمين ، (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ). لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما ، وروي مرفوعا أنهما من هذه الأمة ، واشتقاقها من الثل وهو القطع.

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ)(١٩)

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) خبر آخر للضمير المحذوف ، وال (مَوْضُونَةٍ) المنسوجة بالذهب مشبكة بالدار والياقوت ، أو المتواصلة من الوضن وهو نسج الدرع.

(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير في (عَلى سُرُرٍ).

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) للخدمة. (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) مبقون أبدا على هيئة الولدان وطراوتهم.

(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) حال الشرب وغيره ، والكوب إناء بلا عروة ولا خرطوم له ، والإبريق إناء له ذلك. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) من خمر.

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) بخمار. (وَلا يُنْزِفُونَ) ولا تنزف عقولهم ، أو لا ينفد شرابهم. وقرأ الكوفيون بكسر الزاي (لا يُصَدَّعُونَ) بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٤)

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يختارون.

(وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يتمنون.

(وَحُورٌ عِينٌ) عطف على (وِلْدانٌ) ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أو ولهم حور ، وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطفا على (جَنَّاتِ) بتقدير مضاف أي هم في جنات ومصاحبة حور ، أو على أكواب لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ) ينعمون بأكواب ، وقرئتا بالنصب على ويؤتون حورا.


(كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) المصون عما يضربه في الصفاء والنقاء.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً)(٢٦)

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) باطلا. (وَلا تَأْثِيماً) ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم.

(إِلَّا قِيلاً) أي قولا. (سَلاماً سَلاماً) بدل من (قِيلاً) كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) أو صفته أو مفعوله بمعنى إلا أن يقولوا سلاما ، أو مصدر والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(٣٠)

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) لا شوك فيه من خضد الشوك إذا قطعه ، أو مثنى أغصانه من كثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب.

(وَطَلْحٍ) وشجر موز ، أو أم غيلان وله أنوار كثيرة طيبة الرائحة ، وقرئ بالعين. (مَنْضُودٍ) نضد حمله من أسفله إلى أعلاه.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت.

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ)(٣٣)

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا بلا تعب ، أو مصبوب سائل كأنه لما شبه حال السابقين في التنعم بأعلى ما يتصور لأهل المدن شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمناه أهل البوادي إشعارا بالتفاوت بين الحالين.

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) كثيرة الأجناس.

(لا مَقْطُوعَةٍ) لا تنقطع في وقت. (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لا تمنع عن متناولها بوجه.

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً)(٣٧)

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) رفيعة القدر أو منضدة مرتفعة. وقيل الفرش النساء وارتفاعها أنها على الأرائك ، ويدل عليه قوله :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أي ابتدأناهن ابتداء جديدا من غير ولادة إبداء أو إعادة. وفي الحديث «هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا ، جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد ، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا».

(فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً). (عُرُباً) متحببات إلى أزواجهن جمع عروب ، وسكن راءه حمزة وأبو بكر وروي عن نافع وعاصم مثله. (أَتْراباً) فإن كلهن بنات ثلاث وثلاثين وكذا أزواجهن.

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ)(٤٠)

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلق ب (أَنْشَأْناهُنَ) أو «جعلنا» ، أو صفة ل (أَبْكاراً) أو خبر لمحذوف مثل هن أو لقوله :


(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وهي على الوجه الأول خبر محذوف.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ)(٤٤)

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ) في حر نار ينفذ في المسام. (وَحَمِيمٍ) وماء متناه في الحرارة.

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من دخان أسود يفعول من الحممة.

(لا بارِدٍ) كسائر الظل. (وَلا كَرِيمٍ) ولا نافع ، نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ)(٤٦)

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) منهمكين في الشهوات.

(وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الذنب العظيم يعني الشرك ، ومنه بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب ، وحنث في يمينه خلاف بر فيها وتحنث إذا تأثم.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(٥٠)

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا وخصوصا في هذا الوقت كما دخلت العاطفة في قوله :

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) للدلالة على أن ذلك أشد إنكارا في حقهم لتقادم زمانهم وللفصل بها حسن العطف على المستكن في (لَمَبْعُوثُونَ) ، وقرأ نافع وابن عامر أو بالسكون وقد سبق مثله ، والعامل في الظرف ما دل عليه «مبعوثون» لا هو للفصل بأن والهمزة.

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ). وقرئ «لمجمعون». (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) إلى ما وقت به الدنيا وحدت من يوم معين عند الله معلوم له.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ)(٥٣)

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) أي بالبعث والخطاب لأهل مكة وأضرابهم.

(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ) الأولى للابتداء والثانية للبيان.

(فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) من شدة الجوع.

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(٥٦)

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) لغلبة العطش ، وتأنيث الضمير في منها وتذكيره في (عَلَيْهِ) على معنى الشجر ولفظه ، وقرئ «من شجرة» فيكون التذكير لل (زَقُّومٍ) فإنه تفسيرها.

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الإبل التي بها الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء ، جمع أهيم وهيماء قال ذو الرمة :

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد

صداها ولا يقضي عليها هيامها


وقيل الرمال على أنه جمع هيام بالفتح وهو الرمل الذي لا يتماسك جمع على هيم كسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض وكل من المعطوف والمعطوف عليه أخص من الآخر من وجه فلا اتحاد ، وقرأ نافع وحمزة وعاصم (شُرْبَ) بضم الشين.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء فما ظنك بما يكون لهم بعد ما استقروا في الجحيم ، وفيه تهكم كما في قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) لأن النزل ما يعد للنازل تكرمة له ، وقرئ «نزلهم» بالتخفيف.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ)(٥٩)

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بالخلق متيقنين محققين للتصديق بالأعمال الدالة عليه ، أو بالبعث فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف ، وقرئ بفتح التاء من منى النطفة بمعنى أمناها.

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) تجعلونه بشرا سويا. (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ).

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)(٦٢)

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) قسمناه عليكم وأقتنا موت كل بوقت معين ، وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) لا يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته ، أو لا يغلبنا أحد من سبقته على كذا إذا غلبته عليه.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) على الأول حال أو علة ل (قَدَّرْنا) وعلى بمعنى اللام ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) اعتراض وعلى الثاني صلة ، والمعنى على أن نبدل منكم أشباهكم فنخلق بدلكم ، أو نبدل صفاتكم على أن أمثالكم جمع مثل بمعنى صفة. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) في خلق أو صفات لا تعلمونها.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الاجزاء وسبق المثال ، وفيه دليل على صحة القياس.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)(٦٧)

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) تبذرون حبه.

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه. (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) المنبتون.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) هشيما. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تعجبون أو تندمون على اجتهادكم فيه ، أو على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه ، والفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث ، وقرئ «فظلتم» بالكسر و «فظللتم» على الأصل.

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) لملزمون غرامة ما أنفقنا ، أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام ، وقرأ أبو بكر «أإنا لمغرمون» على الاستفهام.

(بَلْ نَحْنُ) قوم. (مَحْرُومُونَ) حرمنا رزقنا ، أو محدودون لا مجدودون.


(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)(٧٠)

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) أي العذب الصالح للشرب.

(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) من السحاب واحده مزنة ، وقيل (الْمُزْنِ) السحاب الأبيض وماؤه أعذب. (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) بقدرتنا والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلقة بالاستفهام.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ملحا أو من الأجيج فإنه يحرق الفم ، وحذف اللام الفاصلة بين جواب ما يتمحض للشرط وما يتضمن معناه لعلم السامع بمكانها ، أو الاكتفاء بسبق ذكرها أو يختص ما يقصد لذاته ويكون أهم وفقده أصعب بمزيد التأكيد. (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أمثال هذه النعم الضرورية.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٧٤)

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) تقدحون.

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) يعني الشجرة التي منها الزناد.

(نَحْنُ جَعَلْناها) جعلنا نار الزناد. (تَذْكِرَةً) تبصرة في أمر البعث كما مر في سورة «يس» ، أو في الظلام أو تذكيرا وأنموذجا لنار جهنم. (وَمَتاعاً) ومنفعة. (لِلْمُقْوِينَ) الذين ينزلون القواء وهي القفر ، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام ، من أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى أو بذكره فإن إطلاق اسم الشيء ذكره والعظيم صفة للاسم أو الرب ، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد من بدائع صنعه وإنعامه إما لتنزيهه تعالى عما يقول الجاحدون لوحدانيته الكافرون لنعمته ، أو للتعجب من أمرهم في غمط نعمه ، أو للشكر على ما عدها من النعم.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)(٧٦)

(فَلا أُقْسِمُ) إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ، أو فأقسم و «لا» مزيدة للتأكيد كما في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أو فلأنا أقسم فحذف المبتدأ وأشبع فتحة لام الابتداء ، ويدل عليه قراءة فلا قسم أو (فَلا) رد لكلام يخالف المقسم عليه. (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) بمساقطها ، وتخصيص المغارب لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر لا يزول تأثيره ، أو بمنازلها ومجاريها. وقيل النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها ، وقرأ حمزة والكسائي بموقع.

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة ، ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى ، وهو اعتراض في اعتراض فإنه اعتراض بين القسم والمقسم عليه ، و (لَوْ تَعْلَمُونَ) اعتراض بين الموصوف والصفة.

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٨٠)

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد ، أو حسن


مرضي في جنسه.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مصون وهو اللوح المحفوظ.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لا يطلع على اللوح إلا المطهرون من الكدورات الجسمانية وهم الملائكة ، أو لا يمس القرآن (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الأحداث فيكون نفيا بمعنى النهي ، أو لا يطلبه (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الكفر ، وقرئ «المتطهرون» و «المطّهّرون» من أطهره بمعنى طهره و «المطّهرون» أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة ثالثة أو رابعة للقرآن ، وهو مصدر نعت به وقرئ بالنصب أي نزل تنزيلا.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٨٢)

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن. (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي شكر رزقكم. (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي بمانحه حيث تنسبونه إلى الأنواء ، وقرئ «شكركم» أي وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به وتكذبون أي بقولكم في القرآن أنه سحر وشعر ، أو في المطر أنه من الأنواء.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ)(٨٥)

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي النفس.

(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) حالكم ، والخطاب لمن حول المحتضر والواو للحال.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ) أي ونحن أعلم. (إِلَيْهِ) إلى المحتضر. (مِنْكُمْ) عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع. (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) لا تدركون كنه ما يجري عليه.

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٨٧)

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي مجزيين يوم القيامة أو مملوكين مقهورين من دانه إذا أذله واستعبده ، وأصل التركيب للذل والانقياد.

(تَرْجِعُونَها) ترجعون النفس إلى مقرها وهو عامل الظرف والمحضض عليه بلولا الأولى والثانية تكرير للتوكيد وهي بما في حيزها دليل جواب الشرط ، والمعنى إن كنتم غير مملوكين مجزيين كما دل عليه جحدكم أفعال الله وتكذيبكم بآياته. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أباطيلكم (فَلَوْ لا) ترجعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم.

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ(٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ)(٩١)

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي إن كان المتوفى من السابقين.

(فَرَوْحٌ) فله استراحة وقرئ «فروح» بالضم وفسر بالرحمة لأنها كالسبب لحياة المرحوم وبالحياة


الدائمة. (وَرَيْحانٌ) ورزق طيب. (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) ذات تنعم.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ) يا صاحب اليمين. (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي من إخوانك يسلمون عليك.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)(٩٤)

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) يعني أصحاب الشمال ، وإنما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها وإشعارا بما أوجب لهم ما أوعدهم به.

(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) وذلك ما يجد في القبر من سموم النار ودخانها.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٩٦)

(إِنَّ هذا) أي الذي ذكر في السورة أو في شأن الفرق. (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي حق الخبر اليقين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فنزهه بذكر اسمه تعالى عما لا يليق بعظمة شأنه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا».


(٥٧) سورة الحديد

مدينة وقيل مكية وآيها تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ذكر ها هنا وفي «الحشر» و «الصف» بلفظ الماضي ، وفي «الجمعة» و «التغابن» بلفظ المضارع إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته ، لأنه دلالة جبلّية لا تختلف باختلاف الحالات ، ومجيء المصدر مطلقا في «بني إسرائيل» أبلغ من حيث إنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال ، وإنما عدي باللام وهو متعد بنفسه مثل نصحت له في نصحته أشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه الموجد لهما والمتصرف فيهما. (يُحْيِي وَيُمِيتُ) استئناف أو خبر لمحذوف أو حال من المجرور في له (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الإحياء والإماتة وغيرهما. (قَدِيرٌ) تام القدرة.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٤)

(هُوَ الْأَوَّلُ) السابق على سائر الموجودات من حيث إنه موجدها ومحدثها. (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فنائها ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها ، أو (هُوَ الْأَوَّلُ) الذي تبتدأ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات ، أو (الْأَوَّلُ) خارجا و (الْآخِرُ) ذهنا. (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) الظاهر وجوده لكثرة دلائله والباطن حقيقة ذاته فلا تكتنهها العقول ، أو الغالب على كل شيء والعالم بباطنه والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين ، والمتوسطة للجمع بين المجموعين. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يستوي عنده الظاهر والخفي.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) كالبذور. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالزروع. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالأمطار. (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالأبخرة. (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم عليه ، ولعل تقديم الخلق على العلم لأنه دليل عليه.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٦)


(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ذكره مع الإعادة كما ذكره مع كالإبداء لأنه كالمقدمة لهما. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بمكنوناتها.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ(٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨)

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها فهي في الحقيقة له لا لكم ، أو التي استخلفكم عمن قبلكم في تملكها والتصرف فيها ، وفيه حث على الإنفاق وتهوين له على النفس. (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وعد فيه مبالغات جعل الجملة اسمية وإعادة ذكر الإيمان والإنفاق وبناء الحكم على الضمير وتنكير الأجر ووصفه بالكبر.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي وما تصنعون غير مؤمنين به كقولك : مالك قائما. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) حال من ضمير تؤمنون ، والمعنى أي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه بالحجج والآيات. (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان قبل ، وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر ، والواو للحال من مفعول (يَدْعُوكُمْ) ، وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول ورفع (مِيثاقَكُمْ). (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لموجب ما فإن هذا موجب لا مزيد عليه.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١٠)

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ) أي الله أو العبد. (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث نبهكم بالرسول والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا) وأي شيء لكم في (أَلَّا تُنْفِقُوا). (فِي سَبِيلِ اللهِ) فيما يكون قربة إليه. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال ، وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقي وهو الثواب كان أولى. (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين ، وتحري الحاجات حثا على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإنفاق ، وذكر القتال للاستطراد وقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه ، و (الْفَتْحِ) فتح مكة إذ عز الإسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإنفاق. (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) أي من بعد الفتح. (وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وعد الله كلّا من المنفقين المثوبة الحسنى وهي الجنة. وقرأ ابن عامر «وكلّ» بالرفع على الابتداء أي وكل وعده الله ليطابق ما عطف عليه. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بظاهره وباطنه فيجازيكم على حسبه ، والآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا أشرف به على الهلاك.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى


نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١٢)

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي من الذي ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوضه ، فإنه كمن يقرضه وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه وتحري أكرم المال وأفضل الجهات له. (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي يعطي أجره أضعافا. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه ينبغي أن يتوخى وإن لم يضاعف ، فكيف وقد يضاعف أضعافا. وقرأ عاصم (فَيُضاعِفَهُ) بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكأنه قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه له. وقرأ ابن كثير «فيضعفه» مرفوعا وقرأ ابن عامر ويعقوب «فيضعفه» منصوبا.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ظرف لقوله (وَلَهُ) أو (فَيُضاعِفَهُ) أو مقدر باذكر (يَسْعى نُورُهُمْ) ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين. (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة (بُشْراكُمُ) أي المبشر به جنات ، أو (بُشْراكُمُ) دخول جنات. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)(١٣)

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) بدل من (يَوْمَ تَرَى). (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) انتظرونا فإنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف ، أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنور بين أيديهم. وقرأ حمزة «أنظرونا» على أن اتئادهم ليلحقوا بهم إمهال لهم. (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) نصب منه. (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الدنيا. (فَالْتَمِسُوا نُوراً) بتحصيل المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ، فإنه يتولد منها أو إلى الموقف فإنه من ثمة يقتبس ، أو إلى حيث شئتم فاطلبوا نورا آخر فإنه لا سبيل لكم إلى هذا ، وهو تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو الملائكة (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) بين المؤمنين والمنافقين. (بِسُورٍ) بحائط. (لَهُ بابٌ) يدخل منه المؤمنون. (باطِنُهُ) باطن السور أو الباب. (فِيهِ الرَّحْمَةُ) لأنه يلي الجنة. (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) من جهته لأنه يلي النار.

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٥)

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يريدون موافقتهم في الظاهر. (قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالنفاق. (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر. (وَارْتَبْتُمْ) وشككتم في الدين. (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) كامتداد العمر. (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو الموت. (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان أو الدنيا.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) فداء وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتاء. (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهرا وباطنا. (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) هي أولى بكم كقول لبيد :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها

وحقيقته محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كقولك : هو مئنة الكرم أي مكان قول القائل


إنه لكريم ، أو مكانكم عما قريب من الولي وهو القرب ، أو ناصركم على طريقة قوله : تحيّة بينهم ضرب وجيع. أو متوليكم يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(١٦)

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) ألم يأت وقته يقال أنى الأمر يأني أنيا وأنا وإنا إذا جاء إناه ، وقرئ «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون من آن يئين بمعنى أتى و «ألما يأن». روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت. (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي القرآن وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر ، ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله ، وقرأ نافع وحفص ويعقوب (نَزَلَ) بالتخفيف. وقرئ «أنزل». (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) عطف على (تَخْشَعَ) ، وقرأ رويس بالتاء والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم وآمالهم ، أو ما بينهم وبين أنبيائهم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ). وقرئ «الأمدّ» وهو الوقت الأطول. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ)(١٨)

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بالإحياء والإموات ترغيبا في الخشوع وزجرا عن القساوة. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) كي تكمل عقولكم.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) إن المتصدقين والمتصدقات ، وقد قرئ بهما ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد أي الذين صدقوا الله ورسوله. (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) عطف على معنى الفعل في المحلى باللام لأن معناه : الذين أصدقوا ، أو صدقوا وهو على الأول للدلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإخلاص. (يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) معناه والقراءة في (يُضاعَفُ) كما مر غير أنه لم يجزم لأنه خبر إن وهو مسند إلى (لَهُمْ) أو إلى ضمير المصدر.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١٩)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء ، أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله والقائمون بالشهادة لله ولهم ، أو على الأمم يوم القيامة. وقيل (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مبتدأ وخبر ، والمراد به الأنبياء من قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) أو الذين استشهدوا في سبيل الله. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ولكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت ، أو الأجر والنور الموعودان لهم. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفا.


(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ)(٢٠)

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) لما ذكر حال الفريقين في الآخرة حقر أمور الدنيا أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل ، بأن بين أنها أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال لأنها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جدا إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة ، ولهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم وزينة كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة ، وتفاخر بالأنساب أو تكاثر بالعدد والعدد ، ثم قرر ذلك بقوله : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) وهو تمثيل لها في سرعة تقضيها وقلة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث ، أو الكافرون بالله لأنهم أشداء إعجابا بزينة الدنيا ولأن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها ، والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق فيه إعجابا ، ثم هاج أي يبس بعاهة فاصفر ثم صار حطاما ، ثم عظم أمور الآخرة الأبدية بقوله : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) تنفيرا عن الانهماك في الدنيا وحثا على ما يوجب كرامة العقبى ، ثم أكد ذلك بقوله : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) أي لمن أقبل عليها ولم يطلب إلا الآخرة. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي لمن أقبل عليها ولم يطلب بها الآخرة.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢١)

(سابِقُوا) سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار. (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى موجباتها. (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي عرضها كعرضهما وإذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول ، وقيل المراد به البسطة كقوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) منه التفضل بذلك وإن عظم قدره.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٢٣)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كجدب وعاهة. (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) كمرض وآفة. (إِلَّا فِي كِتابٍ) إلا مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى. (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) نخلقها والضمير لل (مُصِيبَةٍ) أو (الْأَرْضِ) أو للأنفس. (إِنَّ ذلِكَ) أي إثباته في كتاب. (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة. (لِكَيْلا تَأْسَوْا) أي أثبت وكتب كي لا تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) من نعم الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) بما أعطاكم الله منها فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر ، وقرأ أبو عمرو (بِما آتاكُمْ) من الإتيان ليعادل ما فاتكم ، وعلى الأول فيه إشعار بأن فواتها يلحقها إذا خليت وطباعها ، وأما حصولها وإبقاؤها فلا بد لهما من سبب يوجدها ويبقيها ، والمراد به نفي الآسي المانع عن التسليم لأمر الله والفرح الموجب للبطر والاختيال ، ولذلك عقبه بقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) إذ قل من يثبت نفسه في حالي الضراء والسراء.


(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٤)

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالبا أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لأن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره ولا ينفعه التقرب إليه بشكر من نعمه ، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق وقرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٦)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم. (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والمعجزات. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) ليبين الحق ويميز صواب العمل. (وَالْمِيزانَ) لتسوى به الحقوق ويقام به العدل كما قال تعالى : (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وإنزاله إنزال أسبابه والأمر باعداده ، وقيل أنزل الميزان إلى نوح عليه‌السلام ، ويجوز أن يراد به العدل. (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) لتقام به السياسة وتدفع به الأعداء كما قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فإن آلات الحروب متخذة منه. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) إذ ما من صنعة إلا والحديد آلاتها. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفار والعطف على محذوف دل عليه ما قبله فإنه حال يتضمن تعليلا ، أو اللام صلة لمحذوف أي أنزله ليعلم الله. (بِالْغَيْبِ) حال من المستكن في ينصره. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) ، على إهلاك من أراد إهلاكه. (عَزِيزٌ) لا يفتقر إلى نصرة وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتثال فيه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب. وقيل المراد الكتاب الخط. (فَمِنْهُمْ) فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم (أَرْسَلْنا). (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الطريق المستقيم والعدول عن السنن المقابلة للمبالغة في الذم والدلالة على أن الغلبة للضلال.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٧)

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى عليه‌السلام ، والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم ، أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية ، فإن الرسل الملقى بهم من الذرية. (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وقرئ بفتح الهمزة وأمره أهون من أمر البرطيل لأنه أعجمي. (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً) وقرئ «رآفة» على فعالة. (وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس ، منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي ، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان. (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ما فرضناها عليهم. (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها (ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ). وقيل متصل فإن (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) بمعنى ما تعبدناهم بها وهو كما ينفي الإيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه


مجرد حصول مرضاة الله ، وهو يخالف قوله (ابْتَدَعُوها) إلا أن يقال (ابْتَدَعُوها) ثم ندبوا إليها ، أو (ابْتَدَعُوها) بمعنى استحدثوها وأتوا بها ، أولا أنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. (فَما رَعَوْها) أي فما رعوها جميعا. (حَقَّ رِعايَتِها) بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ونحوها إليها. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) أتوا بالإيمان الصحيح ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحافظوا حقوقها. (مِنْهُمْ) من المتسمين باتباعه. (أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن حال الاتباع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالرسل المتقدمة. (اتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه. (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد عليه الصلاة والسلام. (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) نصيبين. (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيمانكم بمن قبله ، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخا ببركة الإسلام ، وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره.

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يريد المذكور في قوله : (يَسْعى نُورُهُمْ) أو الهدى الذي يسلك به إلى جناب القدس. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلموا و «لا» مزيدة ويؤيده أنه قرئ «ليعلم» و «لكي يعلم» و «لأن يعلم» بإدغام النون في الياء. (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أن هي المخففة والمعنى : أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله ولا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله وهو مشروط بالإيمان به ، أو لا يقدرون على شيء من فضله فضلا عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة فيخصوها بمن أرادوا ويؤيده قوله : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وقيل «لا» غير مزيدة ، والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله ولا ينالونه ، فيكون (وَأَنَّ الْفَضْلَ) عطفا على (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ، وقرئ «ليلا يعلم» ووجهه أن الهمزة حذفت وأدغمت النون في اللام ثم أبدلت ياء. وقرئ «ليلا» على أن الأصل في الحروف المفردة الفتح.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله أجمعين».


(٥٨) سورة المجادلة

مدنية وقيل العشر الأول مكي والباقي مدني ، وآيها اثنتان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(١)

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) روي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت ، فاستفتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «حرمت عليه» ، فقالت : ما طلقني فقال : «حرمت عليه» ، فاغتمت لصغر أولادها وشكت إلى الله تعالى فنزلت هذه الآيات الأربع ، وقد تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أو المجادلة يتوقع أن الله يسمع مجادلتها وشكواها ويفرج عنها كربها ، وأدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر دالها في السين. (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) للأقوال والأحوال.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)(٢)

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي مشتق من الظهر ، وألحق به الفقهاء تشبيهها بجزء أنثى محرم ، وفي (مِنْكُمْ) تهجين لعادتهم فيه فإنه كان من إيمان أهل الجاهلية ، وأصل يظهرون يتظهرون وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظهرون من أظاهر ، وعاصم يظهرون من ظاهر. (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أي على الحقيقة. (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن كالمرضعات وأزواج الرسول ، وعن عاصم (أُمَّهاتِهِمْ) بالرفع على لغة بني تميم ، وقرئ ب «أمّهاتهم» وهو أيضا على لغة من ينصب. (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) إذ الشرع أنكره. (وَزُوراً) منحرفا عن الحق فإن الزوجة لا تشبه الأم. (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لما سلف منه مطلقا ، أو إذا تيب عنه.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٣)

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي إلى قولهم بالتدارك ومنه المثل : عاد الغيث على ما أفسد ، وهو بنقض ما يقتضيه وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زمانا يمكنه مفارقتها فيه ، إذ التشبيه يتناول حرمته لصحة استثنائها عنه وهو أقل ما ينتقض به. وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة. وعند مالك بالعزم على الجماع ، وعند الحسن بالجماع. أو بالظهار في الإسلام على أن قوله (يَظْهَرُونَ) بمعنى يعتادون الظهار إذ كانوا يظاهرون في الجاهلية ، وهو قول الثوري أو بتكراره لفظا وهو قول


الظاهرية ، أو معنى بأن يحلف على ما قال وهو قول أبي مسلم أو إلى المقول فيها بإمساكها ، أو استباحة استمتاعها أو وطئها. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليهم أو فالواجب إعتاق رقبة والفاء للسببية ، ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار ، والرقبة مقيدة بالإيمان عندنا قياسا على كفارة القتل. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أن يستمتع كل من المظاهر عنها بالآخر لعموم اللفظ ومقتضى التشبيه ، أو أن يجامعها وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير. (ذلِكُمْ) أي ذلكم الحكم بالكفارة. (تُوعَظُونَ بِهِ) لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة ويردع عنه. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا تخفى عليه خافية.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤)

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي الرقبة والذي غاب ماله واجد. (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف وإن أفطر لعذر ففيه خلاف ، وإن جامع المظاهر عنها ليلا لم ينقطع التتابع عندنا خلافا لأبي حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهما. (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص للأعرابي المفطر أن يعدل لأجله. (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) ستين مدا بمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو رطل وثلث لأنه أقل ما قيل في الكفارات وجنسه المخرج في الفطرة ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره ، وإنما لم يذكر التماس مع الطعام اكتفاء بذكره مع الآخرين ، أو لجوازه في خلال الإطعام كما قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. (ذلِكَ) أي ذلك البيان أو التعليم للأحكام ومحله النصب بفعل معلل بقوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي فرض ذلك لتصدقوا بالله ورسوله في قبول شرائعه ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) لا يجوز تعديها. (وَلِلْكافِرِينَ) أي الذين لا يقبلونها. (عَذابٌ أَلِيمٌ) هو نظير قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٦)

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعادونهما فإن كلّا من المتعاديين في حد غير حد الآخر ، أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدودهما. (كُبِتُوا) أخزوا أو أهلكوا وأصل الكبت الكب. (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني كفار الأمم الماضية. (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) تدل على صدق الرسول وما جاء به. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) يذهب عزهم وتكبرهم.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) منصوب ب (مُهِينٌ) أو بإضمار اذكر. (جَمِيعاً) كلهم لا يدع أحدا غير مبعوث أو مجتمعين. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي على رؤوس الأشهاد تشهيرا لحالهم وتقريرا لعذابهم. (أَحْصاهُ اللهُ) أحاط به عددا لم يغب منه شيء. (وَنَسُوهُ) لكثرته أو تهاونهم به. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يغيب عنه شيء.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧).


(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كليا وجزئيا. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) أي ما يقع من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يقدر مضاف أو يؤول (نَجْوى) بمتناجين ويجعل (ثَلاثَةٍ) صفة لها ، واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإن السر أمر مرفوع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه. (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) إلا الله يجعلهم أربعة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع عليها ، والاستثناء من أعم الأحوال. (وَلا خَمْسَةٍ) ولا نجوى خمسة. (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين ، أو لأن الله تعالى وتر يحب الوتر ، والثلاثة أول الأوتار أو لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينها ، وقرئ (ثَلاثَةٍ) و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار (يَتَناجَوْنَ) أو تأويل (نَجْوى) بمتناجين. (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. (وَلا أَكْثَرَ) كالستة وما فوقها. (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يعلم ما يجري بينهم. وقرأ يعقوب ولا أكثر بالرفع عطفا على محل من (نَجْوى) أو محل لا أدنى بأن جعلت لا لنفي الجنس. (أَيْنَ ما كانُوا) فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) تفضيحا لهم وتقريرا لما يستحقونه من الجزاء. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل على السواء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٨)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) ، نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم. (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ، وقرأ حمزة «وينتجون» وهو يفتعلون من النجوى وروي عن يعقوب مثله. (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) فيقولون السام عليك ، أو أنعم صباحا والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى). (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) فيما بينهم. (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) هلا يعذبنا الله بذلك لو كان محمد نبيا. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا. (يَصْلَوْنَها) يدخلونها. (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) كما يفعله المنافقون وعن يعقوب «فلا تنتجوا». (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) بما يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيما تأتون وتذرون فإنه مجازيكم عليه.

(إِنَّمَا النَّجْوى) أي النجوى بالإثم والعدوان. (مِنَ الشَّيْطانِ) فإنه المزين لها والحامل عليها. (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم. (وَلَيْسَ) أي الشيطان أو التناجي. (بِضارِّهِمْ) بضار المؤمنين. (شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إلا بمشيئته. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولا يبالوا بنجواهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا


فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم : افسح عني أي تنح ، وقرئ «تفاسحوا» والمراد بالمجلس الجنس ويدل عليه قراءة عاصم بالجمع ، أو مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم كانوا يتضامون به تنافسا على القرب منه وحرصا على استماع كلامه. (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) فيما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو جهاد ، أو ارتفعوا عن المجلس. (فَانْشُزُوا) وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بالنصر وحسن الذكر في الدنيا ، وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة. (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل ، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة ، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره. وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فتصدقوا قدامها مستعار ممن له يدان ، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول وإنفاع الفقراء والنهي عن الإفراط في السؤال ، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، واختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه منسوخ بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ) وهو وإن اتصل به تلاوة لم يتصل به نزولا. وعن علي كرم الله وجهه إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد غيري ، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم. وهو على القول بالوجوب لا يقدح في غيره فلعله لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقائه ، إذ روي أنه لم يبق إلا عشرا وقيل إلا ساعة. (ذلِكَ) أي ذلك التصدق. (خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي لأنفسكم من الريبة وحب المال وهو يشعر بالندبية لكن قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن لم يجده حيث رخص له في المناجاة بلا تصدق أدل على الوجوب.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أخفتم الفقر من تقديم الصدقة أو أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر وجمع (صَدَقاتٍ) لجمع المخاطبين ، أو لكثرة التناجي. (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن رخص لكم أن لا تفعلوه ، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم مما قام مقام توبتهم وإذ على بابها وقيل بمعنى إذا أو إن. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). فلا تفرطوا في أدائهما.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر الأوامر ، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ظاهرا وباطنا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٥)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) والوا. (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني اليهود : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ادعاء الإسلام. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس ، وفي هذا التقييد دليل على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته وما لا


يعلم. وروي أنه عليه‌السلام كان في حجرة من حجراته فقال «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل المنافق وكان أزرق فقال عليه الصلاة والسلام له : علام تشتمني أنت وأصحابك ، فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا فنزلت».

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) نوعا من العذاب متفاقما. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١٧)

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي التي حلفوا بها ، وقرئ بالكسر أي «إيمانهم» الذي أظهروه. (جُنَّةً) وقاية دون دمائهم وأموالهم. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فصدوا الناس في خلال أمنهم عن دين الله بالتحريش والتثبيط.

(فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم. وقيل الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قد سبق مثله.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٩)

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي لله تعالى على أنهم مسلمون. (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا ويقولون إنهم لمنكم. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) في حلفهم الكاذب لأن تمكن النفاق في نفوسهم بحيث يخيل إليهم في الآخرة أن الأيمان الكاذبة تروج الكذب على الله كما تروجه عليكم في الدنيا. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) البالغون الغاية في الكذب حيث يكذبون مع عالم الغيب والشهادة ويحلفون عليه.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) استولى عليهم من حذت الإبل وأحذتها إذا استوليت عليها ، وهو مما جاء على الأصل. (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) لا يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم. (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) جنوده وأتباعه. (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم فوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد وعرضوها للعذاب المخلد.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٢١)

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة من هو أذل خلق الله.

(كَتَبَ اللهُ) في اللوح. (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي بالحجة ، وقرأ نافع وابن عامر (رُسُلِي) بفتح الياء. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على نصر أنبيائه. (عَزِيزٌ) لا يغلب عليه شيء في مراده.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢٢)

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي لا ينبغي أن تجدهم وادين


أعداء الله ، والمراد أنه لا ينبغي أن يوادوهم. (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) ولو كان المحادون أقرب الناس إليهم. (أُولئِكَ) أي الذين لم يوادوهم. (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أثبته فيها ، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان ، فإن جزء الثابت في القلب يكون ثابتا فيه ، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي من عند الله وهو نور القلب أو القرآن ، أو بالنصر على العدو. قيل الضمير ل (الْإِيمانَ) فإنه سبب لحياة القلب. (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعتهم. (وَرَضُوا عَنْهُ) بقضائه أو بما وعدهم من الثواب. (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) جنده وأنصار دينه. (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدارين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة».


(٥٩) سورة الحشر

مدينة وآيها أربع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

روي «أنه عليه‌السلام لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة وحالفوا أبا سفيان ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة ، ثم صبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام ولحقت طائفة بخيبر والحيرة» فأنزل الله تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)(٢)

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك ، أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشأم ، وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه ، أو في أول حشر الناس إلى الشأم وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك ، أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب. والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر. (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) لشدة بأسهم ومنعتهم. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ، وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ، ويجوز أن تكون (حُصُونُهُمْ) فاعلا ل (مانِعَتُهُمْ). (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء ، وقيل الضمير ل (الْمُؤْمِنِينَ) أي فأتاهم نصر الله ، وقرئ «فآتاهم الله» أي العذاب أو النصر. (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) لقوة وثوقهم. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها. (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) ضنا بها على المسلمين وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها. (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال. وعطفها على «أيديهم» من حيث إن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه ، والجملة حال أو تفسير ل (الرُّعْبَ). وقرأ أبو عمرو (يُخْرِبُونَ) بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير. وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا والتخريب الهدم. (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله ، واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية


له على ما قررناه في الكتب الأصولية.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٤)

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) الخروج من أوطانهم. (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) استئناف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الإشارة إلى ما ذكر مما حاق بهم وما كانوا بصدده وما هو معد لهم أو إلى الأخير.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)(٥)

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) أي شيء قطعتم من نخلة فعلة من اللون ويجمع على ألوان ، وقيل من اللين ومعناها النخلة الكريمة وجمعها أليان. (أَوْ تَرَكْتُمُوها) الضمير لما وتأنيثه لأنه مفسر باللينة. (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) وقرئ «أصلها» اكتفاء بالضمة عن الواو أو على أنه كرهن. (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره. (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) علة لمحذوف أي وفعلتم أو وأذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه. روي أنه عليه‌السلام لما أمر بقطع نخيلهم قالوا : قد كنت يا محمد تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها فنزلت. واستدل به على جواز هدم ديار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٦)

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) وما أعاده عليه بمعنى صيره له أو رده عليه ، فإنه كان حقيقا بأن يكون له لأنه تعالى خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين. (مِنْهُمْ) من بني النضير أو من الكفرة. (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) فما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير. (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه ، وذلك إن كان المراد فيء بني النضير ، فلأن قراهم كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها رجالا غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه ركب جملا أو حمارا ، ولم يجر مزيد قتال ولذلك لم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة كانت بهم حاجة. (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بقذف الرعب في قلوبهم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة وتارة بغيرها.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٧)

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) بيان للأول ولذلك لم يعطف عليه. (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) اختلف في قسم الفيء ، فقيل يسدس لظاهر الآية ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد ، وقيل يخمس لأن ذكر الله للتعظيم ويصرف الآن سهم الرسول عليه الصلاة


والسلام إلى الإمام على قول وإلى العساكر والثغور على قول وإلى مصالح المسلمين على قول. وقيل يخمس خمسه كالغنيمة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يقسم الخمس كذلك ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء والآن على الخلاف المذكور. (كَيْ لا يَكُونَ) أي الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء. وقرأ هشام في رواية بالتاء. (دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) الدولة ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية ، وقرئ «دولة» بمعنى كيلا يكون الفيء ذا تداول بينهم أو أخذه غلبة تكون بينهم ، وقرأ هشام (دُولَةً) بالرفع على كان التامة أي كيلا يقع دولة جاهلية. (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) وما أعطاكم من الفيء أو من الأمر. (فَخُذُوهُ) لأنه حلال لكم ، أو فتمسكوا به لأنه واجب الطاعة. (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) عن أخذه منه ، أو عن إتيانه. (فَانْتَهُوا) عنه. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة رسوله. (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالفه.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(٨)

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) بدل من (لِذِي الْقُرْبى) و (ما) عطف عليه فإن (الرَّسُولُ) لا يسمى فقيرا ، ومن أعطى أغنياء ذوي القربى خصص الإبدال بما بعده ، أو الفيء بفيء بني النضير. (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم. (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بأنفسهم وأموالهم. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٠)

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) عطف على المهاجرين ، والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما ، وقيل المعنى تبؤوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام ، أو تبؤوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله : علّفتها تبنا وماء باردا. وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره. (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرة المهاجرين. وقيل تقدير الكلام والذين تبؤوا الدار من قبلهم والإيمان. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ولا يثقل عليهم. (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) في أنفسهم. (حاجَةً) ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ. (مِمَّا أُوتُوا) مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم. (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) حاجة من خصاص البناء وهي فرجة. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق. (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) هم الذين هاجروا حين قوي الإسلام ، أو التابعون بإحسان وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل : إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي لإخواننا في الدين. (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) حقدا لهم. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فحقيق بأن تجيب دعاءنا.


(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(١٢)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يريد الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر أو الصداقة والموالاة. (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم. (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) في قتالكم أو خذلانكم. (أَحَداً أَبَداً) أي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) لنعاوننكم. (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك كما قال :

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وكان كذلك فإن ابن أبي وأصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثم أخلفوهم ، وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن. (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على الفرض والتقدير. (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) انهزاما. (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) بعد بل يخذلهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين ، أو نفاقهم إذ ضمير الفعلين يحتمل أن يكون لليهود وأن يكون للمنافقين.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(١٤)

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي أشد مرهوبية مصدر للفعل المبني للمفعول. (فِي صُدُورِهِمْ) فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين. (مِنَ اللهِ) على ما يظهرونه نفاقا فإن استبطان رهبتكم سبب لإظهار رهبة الله. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته ويعلموا أنه الحقيق بأن يخشى.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ) اليهود والمنافقون. (جَمِيعاً) مجتمعين متفقين. (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالدروب والخنادق. (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) لفرط رهبتهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» وأمال أبو عمرو فتحة الدال. (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي وليس ذلك لضعفهم وجبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا ، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله. (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) مجتمعين متفقين. (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما فيه صلاحهم وإن تشتت القلوب يوهن قواهم.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)(١٧)

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل اليهود كمثل أهل بدر ، أو بني قينقاع إن صح أنهم أخرجوا قبل النضير ، أو المهلكين من الأمم الماضية. (قَرِيباً) في زمان قريب وانتصابه بمثل إذ التقدير كوجود مثل. (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم في الدنيا. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان. (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور. (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) تبرأ عنه


مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال.

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) والمراد من الإنسان الجنس. وقيل أبو جهل قال له إبليس يوم بدر (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) الآية. وقيل راهب حمله على الفجور والارتداد وقرئ «عاقبتهما» و «خالدان» على أنه خبر إن و (فِي النَّارِ) لغو.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)(٢٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ليوم القيامة سماه به لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة كغده ، وتنكيره للتعظيم وأما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة كأنه قال :

فلتنظر نفس واحدة في ذلك. (وَاتَّقُوا اللهَ) تكرير للتأكيد ، أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل والثاني في ترك المحارم لاقترانه بقوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) وهو كالوعيد على المعاصي.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) نسوا حقه. (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) فجعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها ، أو أراهم يوم القيامة من الهول ما أنساهم أنفسهم. (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في الفسوق.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا للجنة والذين استمهنوها فاستحقوا النار ، واحتج به أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالكافر. (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(٢٢)

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) تمثيل وتخييل كما مر في قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) ولذلك عقبه بقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فإن الإشارة إليه وإلى أمثاله. والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه وقلة تدبره ، والتصدع التشقق. وقرئ «مصدعا» على الإدغام.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب عن الحس من الجواهر القدسية وأحوالها ، وما حضر له من الأجرام وأعراضها ، وتقديم (الْغَيْبِ) لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به ، أو المعدوم والموجود ، أو السر والعلانية. وقيل الدنيا والآخرة. (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٤)

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) البالغ في النزاهة عما يوجب نقصانا. وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. (السَّلامُ) ذو السلامة من كل نقص وآفة ، مصدر وصف به للمبالغة. (الْمُؤْمِنُ) واهب الأمن ،


وقرئ بالفتح بمعنى المؤمن به على حذف الجار. (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء. (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) الذي جبر خلقه على ما أراده ، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه. (الْمُتَكَبِّرُ) الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إذ لا يشركه في شيء من ذلك.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المقدر للأشياء على مقتضى حكمته. (الْبارِئُ) الموجد لها بريئا من التفاوت. (الْمُصَوِّرُ) الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد. (ومن أراد الإطناب في شرح هذه الأسماء وأخواتها فعليه بكتابي المسمى ب «منتهى المنى». (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لأنها دالة على محاسن المعاني. (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لتنزهه عن النقائص كلها. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الجامع للكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».


(٦٠) سورة الممتحنة

مدينة وآيها ثلاث عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، فإنه لما علم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزو أهل مكة كتب إليهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، وأرسل كتابه مع سارة مولاة بني المطلب ، فنزل جبريل عليه‌السلام فأعلم رسول الله ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها ثمة فجحدت فهموا بالرجوع ، فسل علي رضي الله تعالى عنه السيف فأخرجته من عقاصها ، فاستحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاطبا وقال : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أهلي ، فأردت أن آخذ عندهم يدا وقد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعذره. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تفضون إليهم المودة بالمكاتبة ، والباء مزيدة أو أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب المودة ، والجملة حال من فاعل (لا تَتَّخِذُوا) أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له ، ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط في الاسم دون الفعل. (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) حال من فاعل أحد الفعلين. (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) أي من مكة وهو حال من (كَفَرُوا) أو استئناف لبيانه. (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) بأن تؤمنوا به وفيه تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان. (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) عن أوطانكم. (جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) علة للخروج وعمدة للتعليق وجواب الشرط محذوف دل عليه (لا تَتَّخِذُوا). (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) بدل من (تُلْقُونَ) أو استئناف معناه : أي طائل لكم في إسرار المودة أو الإخبار بسبب المودة. (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي منكم. وقيل (أَعْلَمُ) مضارع والباء مزيدة و «ما» موصولة أو مصدرية. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي من يفعل الاتخاذ. (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أخطأه.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٣)

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يظفروا بكم. (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم. (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) ما يسوؤكم كالقتل والشتم. (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) وتمنوا ارتدادكم ، ومجيء (وَدُّوا) وحده بلفظ الماضي للإشعار بأنهم (وَدُّوا) قبل كل شيء ، وأن ودادتهم حاصلة وإن لم يثقفوكم.


(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) قراباتكم. (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين توالون المشركين لأجلهم. (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يفرق بينكم بما عراكم من الهول فيفر بعضكم من بعض فما لكم ترفضون اليوم حق الله لمن يفر منكم غدا ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الصاد والتشديد وفتح الفاء ، وقرأ ابن عامر يفصل على البناء للمفعول وهو (بَيْنَكُمْ) ، وقرأ عاصم (يَفْصِلُ). (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم عليه.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٥)

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قدوة. اسم لما يؤتسى به. (فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) صفة ثانية أو خبر كان و (لَكُمْ) لغو أو حال من المستكن في (حَسَنَةٌ) أو صلة لها لا ل (أُسْوَةٌ) لأنها وصفت. (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) ظرف لخبر كان. (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) جميع بريء كظريف وظرفاء. (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) أي بدينكم أو بمعبودكم ، أو بكم وبه فلا نعتد بشأنكم وآلهتكم. (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فتنقلب العداوة والبغضاء ألفة ومحبة. (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) استثناء من قوله (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فإن استغفاره لأبيه الكافر ليس مما ينبغي أن يأتسوا به ، فإنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه. (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) من تمام قوله المستثنى ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه. (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) متصل بما قبل الاستثناء أو أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه تتميما لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار.

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نتحمله. (وَاغْفِرْ لَنا) ما فرط منا (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ومن كان كذلك كان حقيقا بأن يجير المتوكل ويجيب الداعي.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٧)

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) تكرير لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم ولذلك صدر بالقسم وأبدل قوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) من (لَكُمْ) فإنه يدل على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم ، وأن تركه مؤذن بسوء العقيدة ولذلك عقبه بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فإنه جدير بأن يوعد به الكفرة.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) لما نزل (لا تَتَّخِذُوا) عادى المؤمنون أقاربهم المشركين وتبرؤوا عنهم ، فوعدهم الله بذلك وأنجز إذ أسلم أكثرهم وصاروا لهم أولياء. (وَاللهُ قَدِيرٌ) على ذلك. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما فرط منكم في موالاتهم من قبل ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩)

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي لا ينهاكم عن مبرّة


هؤلاء لأن قوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من (الَّذِينَ). (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) وتفضوا إليهم بالقسط أي العدل. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) العادلين ، روي أن قتيلة بنت عبد العزى قدمت مشركة على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت.

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) كمشركي مكة فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين. (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل من (الَّذِينَ) بدل الاشتمال. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لوضعهم الولاية في غير موضعها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهم لسانهن في الإيمان. (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) فإنه المطلع على ما في قلوبهن. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) العلم الذي يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات ، وإنما سماه علما إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به. (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) والتكرير للمطابقة والمبالغة ، أو الأولى لحصول الفرقة والثانية للمنع عن الاستئناف. (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) ما دفعوا إليهن من المهور ، وذلك لأن صلح الحديبية جرى : على أن من جاءنا منكم رددناه. فلما تعذر عليه ردهن لورود النهي عنه لزمه رد مهورهن. إذ روي أنه عليه‌السلام كان بعد الحديبية إذ جاءته سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة فأقبل زوجها مسافر المخزومي طالبا لها فنزلت. فاستخلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فإن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار. (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانا بأن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر. (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) بما يعتصم به الكافرات من عقد وسبب جمع عصمة ، والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات ، وقرأ البصريان (وَلا تُمْسِكُوا) بالتشديد. (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) من مهور نسائكم اللاحقات بالكفار. (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من مهور أزواجهم المهاجرات. (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) يعني جميع ما ذكر في الآية. (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) استئناف أو حال من الحكم على حذف الضمير ، أو جعل الحكم حاكما على المبالغة. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يشرع ما تقتضيه حكمته.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(١١)

(وَإِنْ فاتَكُمْ) وإن سبقكم وانفلت منكم. (شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أحد من أزواجكم ، وقد قرئ به وإيقاع (شَيْءٌ) موقعه للتحقير والمبالغة في التعميم ، أو (شَيْءٌ) من مهورهن. (إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ) فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر ، شبه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر. روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة أبى المشركون أن يؤدوا مهر الكوافر فنزلت. وقيل معناه إن فاتكم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة (فَآتُوا) بدل الفائت من الغنيمة. (وَاتَّقُوا


اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) نزلت يوم الفتح فإنه عليه‌السلام لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء. (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) يريد وأد البنات. (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) في حسنة تأمرهن بها ، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر إلا به تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. (فَبايِعْهُنَ) إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)(١٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني عامة الكفار أو اليهود. إذ روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) لكفرهم بها أو لعلمهم بأنهم لاحظ لهم فيها لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة المؤيد بالآيات. (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أن يبعثوا أو يثابوا أو ينالهم خير منهم ، وعلى الأول وضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أن الكفر آيسهم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة».


(٦١) سورة الصف

مدينة ، وقيل مكية وآيها أربع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(٣)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبق تفسيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) روي أن المسلمين قالوا : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فأنزل الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) فولوا يوم أحد فنزلت. و (لِمَ) مركبة من لام الجر وما الاستفهامية والأكثر على حذف ألفها مع حرف الجر لكثرة استعمالهم معا واعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) المقت أشد البغض ونصبه على التمييز للدلالة على أن قولهم هذا مقت خالص (كَبُرَ) عند من يحقر دونه كل عظيم ، مبالغة في المنع عنه.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٥)

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) مصطفين مصدر وصف به. (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) في تراصهم من غير فرجة ، حال من المستكن في الحال الأولى. والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) مقدر باذكر أو كان كذا. (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) بالعصيان والرمي بالأدرة. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) بما جئتكم من المعجزات ، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه ، (وَقَدْ) لتحقيق العلم. (فَلَمَّا زاغُوا) عن الحق. (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٦)

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولعله لم يقل (يا قَوْمِ) كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم. (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً) في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة وتبشيري (بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي). والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال لا الجار لأنه لغو إذ هو صلة للرسول فلا يعمل. (بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني محمدا عليه الصلاة والسلام ،


والمعنى أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه ، فذكر أول الكتب المشهورة الذي حكم به النبيون والنبي الذي هو خاتم المرسلين. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الإشارة إلى ما جاء به أو إليه ، وتسميته سحر للمبالغة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي «هذا ساحر» على أن الإشارة إلى عيسى عليه‌السلام.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٩)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أي لا أحد أظلم ممن يدعى إلى الإسلام الظاهر حقيته المقتضى له خير الدارين فيضع موضع إجابته الافتراء على الله بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا فإنه يعم إثبات المنفي ونفي الثابت وقرئ «يدعى» يقال دعاه وادعاه كلمسه والتمسه. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) أي يريدون أن يطفئوا ، واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها كما زيدت لما فيها من معنى الاضافة تأكيدا لها في لا أبا لك ، أو (يُرِيدُونَ) الافتراء (لِيُطْفِؤُا). (نُورَ اللهِ) يعني دينه أو كتابه أو حجته. (بِأَفْواهِهِمْ) بطعنهم فيه. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) مبلغ غايته بنشره وإعلائه ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بالإضافة. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إرغاما لهم.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) بالقرآن أو المعجزة. (وَدِينِ الْحَقِ) والملة الحنيفية. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليغلبه على جميع الأديان. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وقرأ ابن عامر (تُنْجِيكُمْ) بالتشديد.

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) استئناف مبين للتجارة وهو الجمع بين الإيمان والجهاد المؤدي إلى كمال عزهم ، والمراد به الأمر وإنما جيء بلفظ الخبر إيذانا بأن ذلك مما لا يترك .. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم إذ الجاهل لا يعتد بفعله.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٣)

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخير ، أو لشرط أو استفهام دل عليه الكلام تقديره إن تؤمنوا وتجاهدوا ، أو هل تقبلون أن أدلكم يغفر لكم ، ويبعد جعله جوابا لهل أدلكم لأن مجرد دلالته لا توجب المغفرة (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة.

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها) ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة ، وفي (تُحِبُّونَها) تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل ، وقيل (أُخْرى) منصوبة بإضمار يعطيكم ، أو تحبون أو مبتدأ خبره : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) وهو على الأول بدل أو بيان وعلى قول النصب خبر محذوف ، وقد قرئ بما عطف


عليه بالنصب على البدل ، أو الاختصاص أو المصدر. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) عاجل. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على محذوف مثل : قل يا أيها الذين آمنوا (وَبَشِّرِ) ، أو على (تُؤْمِنُونَ) فإنه في معنى الأمر كأنه قال : آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون وبشرهم يا رسول الله بما وعدتهم عليهما آجلا وعاجلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) وقرأ الحجازيان وأبو عمرو بالتنوين واللام لأن المعنى كونوا بعض أنصار الله. (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من جندي متوجها إلى نصرة الله ليطابق قوله تعالى : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لما بينهما من الاختصاص ، والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم كما قال عيسى ابن مريم ، أو كونوا أنصارا كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ). والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا من الحور وهو البياض. (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أي بعيسى. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) بالحجة وبالحرب وذلك بعد رفع عيسى. (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) فصاروا غالبين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه».


(٦٢) سورة الجمعة

مدنية وآيها إحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وقد قرئ الصفات الأربع بالرفع على المدح.

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي في العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرءون. (رَسُولاً مِنْهُمْ) من جملتهم أميا مثلهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم. (وَيُزَكِّيهِمْ) من خبائث العقائد والأعمال. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والشريعة ، أو معالم الدين من المنقول والمعقول ، ولو لم يكن له سواه معجزة لكفاه. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من الشرك وخبث الجاهلية ، وهو بيان لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم ، وإزاحة لما يتوهم أن الرسول تعلم ذلك من معلم ، و (إِنْ) هي المخففة واللام تدل عليها.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٤)

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) عطف على (الْأُمِّيِّينَ) ، أو المنصوب في (يُعَلِّمُهُمُ) وهم الذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين ، فإن دعوته وتعليمه يعم الجميع. (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في تمكينه من هذا الأمر الخارق للعادة. (الْحَكِيمُ) في اختياره وتعليمه.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) ذلك الفضل الذي امتاز به عن أقرانه فضله. (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) تفضلا وعطية. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي يستحقر دونه نعيم الدنيا ، أو نعيم الآخرة أو نعيمهما.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٥)

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) علموها وكلفوا العمل بها. (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) لم يعملوا بها أو لم ينتفعوا بما فيها. (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) كتبا من العلم يتعب في حملها ولا ينتفع بها ، ويحمل حال والعامل فيه معنى المثل أو صفة إذ ليس المراد من (الْحِمارِ) معينا. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي مثل الذين كذبوا وهم اليهود المكذبون بآيات الله الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، ويجوز أن يكون الذين صفة للقوم والمخصوص بالذم محذوفا. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).


(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٨)

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) تهودوا. (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) إذ كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم.

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فيجازيهم على أعمالهم.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) وتخافون أن تتمنوه بلسانكم مخافة أن يصيبكم فتؤخذوا بأعمالكم.

(فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لاحق بكم لا تفوتونه ، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف ، وكأن فرارهم يسرع لحوقه بهم. وقد قرئ بغير فاء ويجوز أن يكون الموصول خبرا والفاء عاطفة. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن يجازيكم عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أي إذا أذن لها. (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان ل (إِذا) وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة ، وكانت العرب تسميه العروبة. وقيل سماه كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه إليه ، وأول جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما قدم المدينة نزل قباء فأقام بها إلى الجمعة ، ثم دخل المدينة وصلّى الجمعة في واد لبني سالم بن عوف. (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) فامضوا إليه مسرعين قصدا فإن السعي دون العدو ، وال (ذِكْرِ) الخطبة ، وقيل الصلاة والأمر بالسعي إليها يدل على وجوبها. (وَذَرُوا الْبَيْعَ) واتركوا المعاملة. (ذلِكُمْ) أي السعي إلى ذكر الله. (خَيْرٌ لَكُمْ) من المعاملة فإن نفع الآخرة خير وأبقى. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشر الحقيقيين ، أو إن كنتم من أهل العلم.

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أديت وفرغ منها. (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) إطلاق لما حظر عليهم ، واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. وفي الحديث «ابتغوا من فضل الله ليس بطلب الدنيا وإنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيادة أخ في الله». (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) واذكروه في مجامع أحوالكم ولا تخصوا ذكره بالصلاة. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بخير الدارين.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١)

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب للجمعة فمرت عليه عير تحمل الطعام ، فخرج الناس إليهم إلا اثني عشر رجلا فنزلت. وإفراد التجارة برد الكناية لأنها المقصودة ، فإن المراد من اللهو الطبل الذي كانوا يستقبلون به العير ، والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته ، أو للدلالة على أن الانفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما


كان الانفضاض إلى اللهو أولى بذلك. وقيل تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها وإذا رأوا لهوا انفضوا إليه. (وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر. (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب. (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) فإن ذلك محقق مخلد بخلاف ما تتوهمون من نفعهما (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين».


(٦٣) سورة المنافقين

مدنية وآيها إحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢)

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) الشهادة إخبار عن علم من الشهود وهو الحضور والاطلاع ، ولذلك صدق المشهور به وكذبهم في الشهادة بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) لأنهم لم يعتقدوا ذلك.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) حلفهم الكاذب أو شهادتهم هذه ، فإنها تجري مجرى الحلف في التوكيد ، وقرئ «إيمانهم» (جُنَّةً) وقاية من القتل والسبي. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدا أو صدودا. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاقهم وصدهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)(٣)

(ذلِكَ) إشارة إلى الكلام المتقدم أي ذلك القول الشاهد على سوء أعمالهم ، أو إلى الحال المذكورة من النفاق والكذب والاستجنان بالإيمان. (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) بسبب أنهم آمنوا ظاهرا. (ثُمَّ كَفَرُوا) سرا ، أو (آمَنُوا) إذا رأوا آية (ثُمَّ كَفَرُوا) حيثما سمعوا من شياطينهم شبهة. (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) حتى تمرنوا على الكفر فاستحكموا فيه. (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حقية الإيمان ولا يعرفون صحته.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٤)

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها وصباحتها. (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لذلاقتهم وحلاوة كلامهم ، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جمع مثله ، فيعجب بهيكلهم ويصغي إلى كلامهم. (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) حال من الضمير المجرور في (لِقَوْلِهِمْ) أي تسمع لما يقولونه مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن العلم والنظر ، وقيل ال (خُشُبٌ) جمع خشباء وهي الخشبة التي نخر جوفها ، شبهوا بها في حسن المنظر وقبح المخبر ، وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل عن ابن كثير بسكون الشين على التخفيف ، أو على أنه كبدن في جمع بدنة (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي واقعة عليهم لجبنهم واتهامهم ، ف (عَلَيْهِمْ) ثاني مفعولي (يَحْسَبُونَ) ، ويجوز أن يكون صلته والمفعول : (هُمُ الْعَدُوُّ) وعلى هذا يكون الضمير للكل وجمعه بالنظر إلى الخبر لكن ترتب قوله : (فَاحْذَرْهُمْ) عليه يدل على أن الضمير للمنافقين. (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم وهو طلب من ذاته أن يلعنهم ، أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق.


(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٦)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) عطفوها إعراضا واستكبارا عن ذلك ، وقرأ نافع بتخفيف الواو. (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون عن الاستغفار. (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتذار.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لرسوخهم في الكفر. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن مظنة الاستصلاح لانهماكهم في الكفر والنفاق.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨)

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) أي للأنصار. (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يعنون فقراء المهاجرين. (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيده الأرزاق والقسم. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بالله.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) روي أن أعرابيا نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء ، فضرب الأعرابي رأسه بخشبة ، فشكى إلى ابن أبيّ فقال : لا تنفقوا على من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ينفضوا ، وإذا رجعنا إلى المدينة فليخرجن الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرئ «ليخرجن» بفتح الياء و «ليخرجن» على بناء المفعول و «لنخرجن» بالنون ، ونصب «الأعز» و «الأذل» على هذه القراءات مصدر أو حال على تقدير مضاف كخروج أو إخراج أو مثل. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) من فرط جهلهم وغرورهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام بها عن ذكره كالصلوات وسائر العبادات المذكرة للمعبود ، والمراد نهيهم عن اللهو بها. وتوجيه النهي إليها للمبالغة ولذا قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي اللهو بها وهو الشغل. (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) بعض أموالكم ادخارا للآخرة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي يرى دلائله (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) هلا أمهلتني. (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أمد غير بعيد. (فَأَصَّدَّقَ) فأتصدق. (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بالتدارك ، وجزم (أَكُنْ) للعطف على موضع الفاء وما بعده ، وقرأ أبو عمرو «وأكون» منصوبا عطفا على «فأصدق» ، وقرئ بالرفع على وأنا أكون فيكون عدة بالصلاح.


(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) ولن يمهلها. (إِذا جاءَ أَجَلُها) آخر عمرها. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجاز عليه ، وقرأ أبو بكر بالياء ليوافق ما قبله في الغيبة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المنافقين برىء من النفاق».


(٦٤) سورة التغابن

مختلف فيها وآيها ثماني عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بدلالتها على كماله واستغنائه. (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) قدم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل على سواء ثم شرع فيما ادعاه فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ) مقدر كفره موجه إليه ما يحمله عليه. (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقدر إيمانه موفق لما يدعوه إليه. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة البالغة. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فصوركم من جملة ما خلق فيهما بأحسن صورة ، حيث زينكم بصفوة أوصاف الكائنات ، وخصكم بخلاصة خصائص المبدعات ، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فأحسنوا سرائركم حتى لا يمسخ بالعذاب ظواهركم.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه ما يصح أن يعلم كليا كان أو جزئيا ، لأن نسبة المقتضى لعلمه إلى الكل واحدة ، وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولا وبالذات وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٦)

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا أيها الكفار. (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح وهود وصالح عليهم‌السلام. (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) ضرر كفرهم في الدنيا ، وأصله الثقل ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة ، والوابل المطر الثقيل القطار. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

(ذلِكَ) أي المذكور من الوبال والعذاب. (بِأَنَّهُ) بسبب أن الشأن. (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات. (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أنكروا وتعجبوا من أن يكون الرسل بشرا والبشر يطلق للواحد والجمع. (فَكَفَرُوا) بالرسل (وَتَوَلَّوْا) عن التدبر في البينات. (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن كل شيء فضلا عن طاعتهم. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن عبادتهم وغيرها. (حَمِيدٌ) يدل على حمده كل مخلوق.


(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ(٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٨)

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) الزعم ادعاء العلم ولذلك يتعدى إلى مفعولين وقد قام مقامهما أن بما في حيزه. (قُلْ بَلى) أي بلى تبعثون. (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) قسم أكد به الجواب. (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) بالمحاسبة والمجازاة. (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لقبول المادة وحصول القدرة التامة.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد عليه الصلاة والسلام. (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) يعني القرآن فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فمجاز عليه.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٠)

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) ظرف (لَتُنَبَّؤُنَ) أو مقدر باذكر ، وقرأ يعقوب «نجمعكم». (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) لأجل ما فيه من الحساب والجزاء والجمع جمع الملائكة والثقلين. (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) يغبن فيه بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس ، مستعار من تغابن التجار واللام فيه للدلالة على أن التغابن الحقيقي وهو التغابن في أمور الآخرة لعظمها ودوامها. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) أي عملا صالحا. (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى مجموع الأمرين ، ولذلك جعله الفوز العظيم لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) كأنها والآية المتقدمة بيان ل (التَّغابُنِ) وتفصيل له.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٣)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إلا بتقديره وإرادته. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) للثبات والاسترجاع عند حلولها ، وقرئ «يهد قلبه» بالرفع على إقامته مقام الفاعل وبالنصب على طريقة (سَفِهَ نَفْسَهُ) ، و «يهدأ» بالهمزة أي يسكن. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حتى القلوب وأحوالها.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فإن توليتم فلا بأس عليه إذ وظيفته التبليغ وقد بلغ.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٥)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يشغلكم عن طاعة الله أو يخاصمكم في أمر


الدين أو الدنيا. (فَاحْذَرُوهُمْ) ولا تأمنوا غوائلهم. (وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم بترك المعاقبة. (وَتَصْفَحُوا) بالإعراض وترك التثريب عليها. (وَتَغْفِرُوا) بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) اختبار لكم. (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٨)

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. (وَاسْمَعُوا) مواعظه. (وَأَطِيعُوا) أوامره. (وَأَنْفِقُوا) في وجوه الخير خالصا لوجهه. (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي افعلوا ما هو خير لها ، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر ، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره : إنفاقا خيرا أو خبرا لكان مقدرا جوابا للأوامر. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سبق تفسيره.

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ) تصرفوا المال فيما أمره. (قَرْضاً حَسَناً) مقرونا بإخلاص وطيب قلب. (يُضاعِفْهُ لَكُمْ). يجعل لكم بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «يضعفه لكم». (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ببركة الإنفاق. (وَاللهُ شَكُورٌ) يعطي الجزيل بالقليل. (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) لا يخفي عليه شيء. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تام القدرة والعلم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة» والله أعلم.


(٦٥) سورة الطلاق

مدنية وآيها اثنتا عشرة أو إحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)(١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) خص النداء وعم الخطاب بالحكم لأنه أمام أمته فنداؤه كندائهم ، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم. والمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له منزلة الشارع فيه. (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي في وقتها وهو الطهر ، فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت ، ومن عدة العدة بالحيض علق اللام بمحذوف مثل مستقبلات ، وظاهره يدل على أن العدة بالأطهار وأن طلاق المعتدة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر ، وأنه يحرم في الحيض من حيث إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ولا يدل على عدم وقوعه ، إذ النهي لا يستلزم الفساد ، كيف وقد صح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته حائضا أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرجعة وهو سبب نزوله. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) واضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء. (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) في تطويل العدة والإضرار بهن. (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) من مساكنهن وقت الفراق حتى تنقضي عدتهن. (وَلا يَخْرُجْنَ) باستبدادهن أما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما ، وفي الجمع بين النهيين دلالة على استحقاقها السكنى ولزومها ملازمة مسكن الفراق وقوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) مستثنى من الأول ، والمعنى إلا أن تبذو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها ، أو إلا أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ، أو من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) الإشارة إلى الأحكام المذكورة. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بأن عرضها للعقاب. (لا تَدْرِي) أي النفس أو أنت أيها النبي أو المطلق. (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وهو الرغبة في المطلقة برجعة أو استئناف.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(٢)

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) شارفن آخر عدتهن. (فَأَمْسِكُوهُنَ) فراجعوهن. (بِمَعْرُوفٍ) بحسن عشرة وإنفاق مناسب ، (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلا لعدتها. (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة أو الفرقة تبريا عن الريبة وقطعا للتنازع ، وهو ندب كقوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعن الشافعي وجوبه في الرجعة. (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ) أيها الشهود عند الحاجة. (لِلَّهِ) خالصا لوجهه. (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) يريد الحث على الإشهاد والإقامة ، أو على جميع ما في الآية. (مَنْ كانَ


يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإنه المنتفع به والمقصود بذكره. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(٣)

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على الاتقاء عما نهى عنه صريحا أو ضمنا من الطلاق في الحيض ، والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن ، وتعدي حدود الله وكتمان الشهادة وتوقع جعل على إقامتها بأن يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من المضايق والغموم ، ويرزقه فرجا وخلفا من وجه لم يخطر بباله. أو بالوعد لعامة المتقين بالخلاص عن مضار الدارين والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون. أو كلام جيء به للاستطراد عند ذكر المؤمنين. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم». (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فما زال يقرؤها ويعيدها». وروي «أن سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدو ، فشكا أبوه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له «اتق الله وأكثر قول : لا حول ولا قوة إلا بالله. ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها». وفي رواية «رجع ومعه غنيمات ومتاع». (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه. (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد ، وقرأ حفص بالإضافة ، وقرئ «بالغ أمره» أي نافذ و «بالغا» على أنه حال والخبر : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) تقديرا أو مقدرا ، أو أجلا لا يتأتى تغييره ، وهو بيان لوجوب التوكل وتقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق بزمان العدة والأمر بإحصائها ، وتمهيد لما سيأتي من مقاديرها.

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)(٥)

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) لكبرهن. (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم في عدتهن أي جهلتم. (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) روي أنه لما نزل (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قيل فما عدة اللّاتي لم يحضن فنزلت : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي واللائي لم يحضن بعد كذلك. (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) منتهى عدتهن. (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وهو حكم يعم المطلقات والمتوفى عنهم أزواجهن ، والمحافظة على عمومه أولى من محافظة عموم قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) لأن عموم أولات الأحمال بالذات وعموم أزواجا بالعرض ، والحكم معلل ها هنا بخلافه ثمة ، ولأنه صح أن سبيعة بنت الحرث وضعت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «قد حللت فتزوجي» ، ولأنه متأخر النزول فتقديمه في العمل تخصيص وتقديم الآخر بناء للعام على الخاص والأول راجح للوفاق عليه. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أحكامه فيراعي حقوقها. (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) يسهل عليه أمره ويوفقه للخير.

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) إشارة إلى ما ذكر من الأحكام. (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أحكامه فيراعي حقوقها. (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) بالمضاعفة.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ


اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)(٧)

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أي مكانا من مكان سكناكم. (مِنْ وُجْدِكُمْ) من وسعكم أي مما تطيقونه ، أو عطف بيان لقوله من (حَيْثُ سَكَنْتُمْ). (وَلا تُضآرُّوهُنَ) في السكنى. (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) فتلجئوهن إلى الخروج. (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فيخرجن من العدة ، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات والأحاديث تؤيده. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) بعد انقطاع علقة النكاح. (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على الإرضاع. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) وليأمر بعضكم بعضا بجميل في الإرضاع والأجر. (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) تضايقتم. (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) امرأة أخرى ، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي فلينفق كل من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه. (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) فإنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وفيه تطييب لقلب المعسر ولذلك وعد له باليسر فقال : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي عاجلا أو آجلا.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً)(٩)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أهل قرية. (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أعرضت عنه إعراض العاتي المعاند. (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالاستقصاء والمناقشة. (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) منكرا والمراد حساب الآخرة ، وعذابها والتعبير بلفظ الماضي للتحقيق.

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) عقوبة كفرها ومعاصيها. (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) لا ربح فيه أصلا.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)(١١)

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها في قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ويجوز أن يكون المراد بالحساب استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحف الحفظة ، وبالعذاب ما أصيبوا به عاجلا. (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً).

(رَسُولاً) يعني بالذكر جبريل عليه‌السلام لكثرة ذكره ، أو لنزوله بالذكر وهو القرآن ، أو لأنه مذكور في السموات أو ذا ذكر أي شرف ، أو محمدا عليه الصلاة والسلام لمواظبته على تلاوة القرآن ، أو تبليغه وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا ، أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه ، وأبدل منه (رَسُولاً) للبيان أو أراد به القرآن ، و (رَسُولاً). منصوب بمقدر مثل أرسل أو ذكرا مصدر ورسولا مفعوله أو بدله على أنه بمعنى الرسالة. (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) حال من اسم (اللهِ) أو صفة (رَسُولاً) ، والمراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) في قوله : (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الذين آمنوا بعد إنزاله أي ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أو ليخرج من علم أو قدر أنه يؤمن (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من الضلالة إلى الهدى. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون. (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) فيه تعجيب وتعظيم لما رزقوا من الثواب.


(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(١٢)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) مبتدأ وخبر. (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض ، وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن وينفذ حكمه فيهن. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) علة ل (خَلَقَ) أو ل (يَتَنَزَّلُ) ، أو مضمر يعمهما فإن كلّا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».


(٦٦) سورة التحريم

مدنية وآيها اثنتا عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(٢)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) روي أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في نوبة عائشة رضي الله تعالى عنها أو حفصة ، فاطلعت على ذلك حفصة فعاتبته فيه فحرم مارية فنزلت. وقيل شرب عسلا عند حفصة ، فواطأت عائشة سودة وصفية فقلن له إنا نشتمّ منك ريح المغافير فحرم العسل فنزلت. (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) تفسير ل (تُحَرِّمُ) أو حال من فاعله أو استئناف لبيان الداعي إليه. (وَاللهُ غَفُورٌ) لك هذه الزلة فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله. (رَحِيمٌ) رحمك حيث لم يؤاخذك به وعاتبك محاماة على عصمتك.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقّدته بالكفارة ، أو الاستثناء فيها بالمشيئة حتى لا تحنث من قولهم : حلل في يمينه إذا استثنى فيها ، واحتج بها من رأى التحريم مطلقا أو تحريم المرأة يمينا ، وهو ضعيف إذ لا يلزم من وجوب كفارة اليمين فيه كونه يمينا مع احتمال أنه عليه الصلاة والسلام أتى بلفظ اليمن كما قيل (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) متولي أمركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم (الْحَكِيمُ) المتقن في أفعاله وأحكامه.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(٤)

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) يعني حفصة (حَدِيثاً) تحريم مارية أو العسل أو أن الخلافة بعده لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي فلما أخبرت حفصة عائشة رضي الله تعالى عنهما بالحديث. (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) واطلع النبي عليه الصلاة والسلام على الحديث أي على إفشائه. (عَرَّفَ بَعْضَهُ) عرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة بعض ما فعلت. (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) عن إعلام بعض تكرما أو جازاها على بعض بتطليقه إياها وتجاوز عن بعض ، ويؤيده قراءة الكسائي بالتخفيف فإنه لا يحتمل هاهنا غيره لكن المشدد من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والمخفف بالعكس ، ويؤيد الأول قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) فإنه أوفق للإعلام.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) خطاب لحفصة وعائشة على الالتفات للمبالغة في المعاتبة. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب من مخالصة رسول الله عليه الصلاة والسلام بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه. (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) وإن تتظاهرا عليه بما يسؤوه ، وقرأ الكوفيون بالتخفيف.


(فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) فلن يعدم من يظاهره من الله والملائكة وصلحاء المؤمنين ، فإن الله ناصره وجبريل رئيس الكروبيين قرينه ، ومن صلح من المؤمنين أتباعه وأعوانه. (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) متظاهرون ، وتخصيص جبريل لتعظيمه ، والمراد بالصالح الجنس ولذلك عمم بالإضافة وبقوله بعد ذلك تعظيم لمظاهرة الملائكة من جملة ما ينصره الله تعالى به.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(٥)

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) على التغليب ، أو تعميم الخطاب ، وليس فيه ما يدل على أنه لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه ، وقرأ نافع وأبو عمرو (يُبْدِلَهُ) بالتخفيف. (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) مقرات مخلصات أو منقادات مصدقات. (قانِتاتٍ) مصليات أو مواظبات على الطاعات. (تائِباتٍ) عن الذنوب. (عابِداتٍ) متعبدات أو متذللات لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. (سائِحاتٍ) صائمات سمي الصائم سائحا لأنه يسبح بالنهار بلا زاد ، أو مهاجرات. (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) وسط العاطف بينهما لتنافيهما ولأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك المعاصي وفعل الطاعات. (وَأَهْلِيكُمْ) بالنصح والتأديب ، وقرئ و «أهلوكم» عطف على واو (قُوا) ، فيكون (أَنْفُسَكُمْ) أنفس القبيلين على تغليب المخاطبين. (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب. (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) تلي أمرها وهم الزبانية. (غِلاظٌ شِدادٌ) غلاظ الأقوال شداد الأفعال ، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة. (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) فيما مضى. (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فيما يستقبل ، أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر والتزامها ويؤدون ما يؤمرون به.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار ، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم أو العذر لا ينفعهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) بالغة في النصح وهو صفة التائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة ، وصفت به على الإسناد المجازي مبالغة أو في النصاحة ، وهي الخياطة كأنها تنصح ما خرق الذنب. وقرأ أبو بكر بضم النون وهو مصدر بمعنى النصح كالشكر والشكور ، أو النصاحة كالثبات والثبوت تقديره ذات نصوح أو تنصح نصوحا ، أو توبوا نصوحا لأنفسكم. وسئل علي رضي الله تعالى عنه عن التوبة فقال :


يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ، وللفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية. (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ذكر بصيغة الأطماع جريا على عادة الملوك ، وإشعارا بأنه تفضل والتوبة غير موجبة وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء. (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) ظرف ل (يُدْخِلَكُمْ). (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عطف على النبي عليه الصلاة والسلام إحمادا لهم وتعريضا لمن ناوأهم ، وقيل مبتدأ خبره : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي على الصراط. (يَقُولُونَ) إذا طفئ نور المنافقين. (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقيل تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(١٠)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجة. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) واستعمل الخشونة فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم أو مأواهم.

و (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) مثّل الله تعالى حالهم في أنهم يعاقبون بكفرهم ولا يحابون بما بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين من النسبة بحالهما. (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) يريد به تعظيم نوح ولوط عليهما‌السلام. (فَخانَتاهُما) بالنفاق. (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلم يغن النبيان عنهما بحق الزواج شيئا إغناء ما. (وَقِيلَ) أي لهما عند موتهما أو يوم القيامة. (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم‌السلام.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(١٢)

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) شبه حالهم في أن وصلة الكافرين لا تضرهم بحال آسية رضي الله عنها ومنزلتها عند الله مع أنها كانت تحت أعدى أعداء الله. (إِذْ قالَتْ) ظرف للمثل المحذوف. (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) قريبا من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين. (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) من نفسه الخبيثة وعمله السيئ. (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من القبط التابعين له في الظلم.

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) عطف على (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) تسلية للأرامل. (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) من الرجال (فَنَفَخْنا فِيهِ) في فرجها ، وقرئ «فيها» أي في (مَرْيَمَ) أو في الجملة. (مِنْ رُوحِنا) من روح خلقناه بلا توسط أصل. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) بصحفه المنزلة أو بما أوحى إلى أنبيائه. (وَكُتُبِهِ) وما كتب في اللوح المحفوظ ، أو جنس الكتب المنزلة وتدل عليه قراءة البصريين وحفص بالجمع ، وقرئ «بكلمة الله وكتابه» أي بعيسى عليه‌السلام والإنجيل. (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) من عداد المواظبين على الطاعة ، والتذكير للتغليب والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم ، أو من نسلهم فتكون (مِنْ) ابتدائية.


عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحا».


(٦٧) سورة الملك

مكية ، وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي قارئها وتنجيه من عذاب القبر ، وآيها

ثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(٢)

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) بقبضة قدرته التصرف في الأمور كلها. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) على كل ما يشاء قدير.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قدرهما أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدره ، وقدم الموت لقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ولأنه أدعى إلى حسن العمل. (لِيَبْلُوَكُمْ) ليعاملكم معاملة المختبر بالتكليف أيها المكلفون. (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أصوبه وأخلصه ، وجاء مرفوعا : «أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته» ، جملة واقعة موقع المفعول ثانيا لفعل البلوى المتضمن معنى العلم ، وليس هذا من باب التعليق لأنه يخل به وقوع الجملة خبرا فلا يعلق الفعل عنها بخلاف ما إذا وقعت موقع المفعولين. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل. (الْغَفُورُ) لمن تاب منهم.

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)(٤)

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) مطابقة بعضها فوق بعض مصدر طابقت النعل إذا خصفتها طبقا على طبق وصف به ، أو طوبقت طباقا أو ذات طباق جمع طبق كجبل وجبال ، أو طبقة كرحبة ورحاب. (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) وقرأ حمزة والكسائي «من تفوت» ومعناهما واحد كالتعاهد والتعهد ، وهو الاختلاف وعدم التناسب من الفوت كأن كلّا من المتفاوتين فات عنه بعض ما في الآخر ، والجملة صفة ثانية ل (سَبْعَ) وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير للتعظيم ، والإشعار بأنه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة وتفضلا ، وأن في إبداعها نعما جليلة لا تحصى ، والخطاب فيها للرسول أو لكل مخاطب وقوله : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) متعلق به على معنى التسبب أي قد نظرت إليها مرارا فانظر إليها مرة أخرى متأملا فيها لتعاين ما أخبرت به من تناسبها واستقامتها واستجماعها ما ينبغي لها ، وال (فُطُورٍ) الشقوق والمراد الخلل من فطره إذا شقه.

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما في لبيك وسعديك ، ولذلك أجاب الأمر بقوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) بعيدا عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طردا بالصغار (وَهُوَ حَسِيرٌ) كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.


(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ)(٥)

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أقرب السموات إلى الأرض. (بِمَصابِيحَ) بالكواكب المضيئة بالليل إضاءة السرج فيها ، والتنكير للتعظيم ولا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سموات فوقها إذ التزيين بإظهارها فيها. (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) وجعلنا لها فائدة أخرى وهي رجم أعدائكم ، والرجوم جمع رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به بانقضاض الشهب المسببة عنها. وقيل معناه وجعلناها رجوما وظنونا لشياطين الإنس وهم المنجمون. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ)(٧)

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من الشياطين وغيرهم. (عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقرئ بالنصب على أن (لِلَّذِينَ) عطف على (لَهُمْ) و (عَذابُ) على (عَذابَ السَّعِيرِ).

(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) صوتا كصوت الحمير. (وَهِيَ تَفُورُ) تغلي بهم غليان المرجل بما فيه.

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)(٩)

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) تتفرق غيظا عليهم ، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم ، ويجوز أن يراد غيظ الزبانية. (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) جماعة من الكفرة. (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) يخوفكم هذا العذاب وهو توبيخ وتبكيت.

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي فكذبنا الرسل وأفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإنزال والإرسال رأسا ، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال ، فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل أو مصدر مقدر بمضاف أي أهل إنذار ، أو منعوت به للمبالغة أو الواحد والخطاب له ولأمثاله على التغليب ، أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل ، أو على أن المعنى قالت الأفواج قد جاء إلى كل فوج منا رسول من الله فكذبناهم وضللناهم ، ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الزبانية للكفار على إرادة القول فيكون الضلال ما كانوا عليه في الدنيا ، أو عقابه الذي يكونون فيه.

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)(١١)

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات. (أَوْ نَعْقِلُ) فنتفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين. (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) في عدادهم ومن جملتهم.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) حين لا ينفعهم ، والاعتراف إقرار عن معرفة ، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر ، أو المراد به الكفر. (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) فأسحقهم الله سحقا أبعدهم من رحمته ، والتغليب للإيجاز والمبالغة والتعليل وقرأ الكسائي بالتثقيل.


(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(١٣)

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد ، أو غائبين عنه أو عن أعين الناس ، أو بالمخفي منهم وهو قلوبهم. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) تصغر دونه لذائذ الدنيا.

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بالضمائر قبل أن يعبر عنها سرا أو جهرا.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(١٥)

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء حسبما قدرته حكمته. (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، أو ألا يعلم الله من خلقه ، وهو بهذه المثابة والتقييد بهذه الحال يستدعي أن يكون ل (يَعْلَمُ) مفعول ليفيد ، روي : أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء ، فيخبر الله بها رسوله فيقولون : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنبه الله على جهلهم.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) لينة يسهل لكم السلوك فيها. (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) في جوانبها أو جبالها ، وهو مثل لفرط التذليل فإن منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلل له ، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شيء لم يتذلل. (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) والتمسوا من نعم الله. (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) المرجع فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)(١٧)

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) يعني الملائكة الموكلين على تدبير هذا العالم ، أو الله تعالى على تأويل (مَنْ فِي السَّماءِ) أمره أو قضاؤه ، أو على زعم العرب فإنهم زعموا أنه تعالى في السماء ، وعن ابن كثير «وأمنتم» بقلب الهمزة الأولى واوا لانضمام ما قبلها ، «وآمنتم» بقلب الثانية ألفا ، وهو قراءة نافع وأبي عمرو ورويس. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فيغيبكم فيها كما فعل بقارون وهو بدل من بدل الاشتمال. (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) تضطرب ، والمور التردد في المجيء والذهاب.

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أن يمطر عليكم حصباء. (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) كيف إنذاري إذا شاهدتم المنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)(١٩)

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري عليهم بإنزال العذاب ، وهو تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لقومه المشركين.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ، فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها. (وَيَقْبِضْنَ) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتا بعد وقت للاستظهار به على التحريك ، ولذلك عدل به إلى صيغة الفعل للتفرقة بين الأصل في الطيران والطارئ عليه. (ما يُمْسِكُهُنَ) في الجو على خلاف


الطبع. (إِلَّا الرَّحْمنُ) الشامل رحمته كل شيء بأن خلقهن على أشكال وخصائص هيأتهن للجري في الهواء. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)(٢١)

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) عديل لقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) على معنى أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع ، فلم تعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب ، أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه فهو كقوله (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم إشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم ، ومن مبتدأ و (هذَا) خبره و (الَّذِي) بصلته صفته و (يَنْصُرُكُمْ) وصف ل (جُنْدٌ) محمول على لفظه. (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) لا معتمد لهم.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) أم من يشار إليه ويقال (هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ). (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) بإمساك المطر وسائر الأسباب المخلصة والموصلة له إليكم. (بَلْ لَجُّوا) تمادوا. (فِي عُتُوٍّ) عناد. (وَنُفُورٍ) شراد عن الحق لتنفر طباعهم عنه.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢٢)

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) يقال كببته فأكب وهو من الغرائب كقشع الله السحاب فأقشع ، والتحقيق أنهما من باب أنفض بمعنى صار ذا كب وذا قشع ، وليسا مطاوعي كب وقشع بل المطاوع لهما انكب وانقشع ، ومعنى (مُكِبًّا) أنه يعثر كل ساعة ويخر على وجهه لوعورة طريقه واختلاف أجزائه ، ولذلك قابله بقوله : (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) قائما سالما من العثار. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مستوي الأجزاء والجهة ، والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين والدينين بالمسلكين ، ولعل الاكتفاء بما في الكب من الدلالة على حال المسلك للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقا ، كمشي المتعسف في مكان متعاد غير مستو. وقيل المراد بالمكب الأعمى فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير ، وقيل من (يَمْشِي مُكِبًّا) هو الذي يحشر على وجهه إلى النار ومن (يَمْشِي سَوِيًّا) الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤)

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتسمعوا المواعظ. (وَالْأَبْصارَ) لتنظروا صنائعه. (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا وتعتبروا. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) باستعمالها فيما خلقت لأجلها.

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ)(٢٧)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي الحشر أو ما وعدوا به من الخسف والحاصب. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنون النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين.

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ) أي علم وقته. (عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه غيره. (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) والإنذار يكفي


فيه العلم بل الظن بوقوع المحذر منه.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي الوعد فإنه بمعنى الموعود. (زُلْفَةً) ذا زلفة أي قرب منهم. (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بأن علتها الكآبة وساءتها رؤية العذاب. (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) تطلبون وتستعجلون تفتعلون من الدعاء ، أو (تَدَّعُونَ) أن لا بعث فهو من الدعوى.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(٣٠)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) أماتني. (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين. (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا. (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي لا ينجيهم أحد من العذاب متنا أو بقينا ، وهو جواب لقولهم (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ).

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) الذي أدعوكم إليه مولي النعم كلها. (آمَنَّا بِهِ) للعلم بذلك (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) للوثوق عليه والعلم بأن غيره بالذات لا يضر ولا ينفع ، وتقديم الصلة للتخصيص والإشعار به. (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) منا ومنكم ، وقرأ الكسائي بالياء.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) غائرا في الأرض بحيث لا تناله الدلاء مصدر وصف به. (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) جار أو ظاهر سهل المأخذ.٧٨٦

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر».


(٦٨) سورة ن

مكية وآيها ثنتان وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٤)

(ن) من أسماء الحروف ، وقيل اسم الحوت والمراد به الجنس أو البهموت وهو الذي عليه الأرض ، أو الدواة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النفس يكتب به ، ويؤيد الأول سكونه وكتبه بصورة الحرف. (وَالْقَلَمِ) وهو الذي خط اللوح ، أو الذي يخط به أقسم به تعالى لكثرة فوائده وأخفى ابن عامر والكسائي ويعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتصل ، فإن النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتصلت بها. وقد روي ذلك عن نافع وعاصم ، وقرئت بالفتح والكسر ك (ص). (وَما يَسْطُرُونَ) وما يكتبون والضمير ل (الْقَلَمِ) بالمعنى الأول على التعظيم ، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس وإسناد الفعل إلى الأدلة وإجراؤه مجرى أولي العلم لإقامته مقامهم ، أو لأصحابه أو للحفظة و (ما) مصدرية أو موصولة.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جواب القسم والمعنى ما أنت بمجنون منعما عليك بالنبوة وحصافة الرأي ، والعامل في الحال معنى النفي وقيل (بِمَجْنُونٍ) الباء لا تمنع عمله فيما قبله لأنها مزيدة ، وفيه نظر من حيث المعنى.

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) على الاحتمال والإبلاغ. (غَيْرَ مَمْنُونٍ) مقطوع أو ممنون به عليك من الناس فإنه تعالى يعطيك بلا توسط.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) إذ تتحمل من قومك ما لا يتحمل أمثالك ، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ القرآن (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ).

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(٧)

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أيكم الذي فتن بالجنون والباء مزيدة ، أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر كالمعقول والمجلود ، أو بأي الفريقين منكم المجنون أبفريق المؤمنين أو بفريق الكافرين ، أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وهم المجانين على الحقيقة. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الفائزين بكمال العقل.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩).


(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) تهييج للتصميم على معاصاتهم.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) تلاينهم بأن تدع نهيهم عن الشرك ، أو توافقهم فيه أحيانا. (فَيُدْهِنُونَ) فيلاينونك بترك الطعن والموافقة ، والفاء للعطف أي ودوا التداهن وتمنوه لكنهم أخروا ادهانهم حتى تدهن ، أو للسببية أي (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون طمعا فيه ، وفي بعض المصاحف «فيدهنوا» على أنه جواب التمني.

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ)(١٣)

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحق والباطل. (مَهِينٍ) حقير الرأي من المهانة وهي الحقارة.

(هَمَّازٍ) عياب. (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) نقال للحديث على وجه السعاية. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يمنع الناس عن الخير من الإيمان والإيقان والعمل الصالح. (مُعْتَدٍ) متجاوز في الظلم. (أَثِيمٍ) كثير الآثام.

(عُتُلٍ) جاف غليظ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. (بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما عد من مثالبه. (زَنِيمٍ) دعي مأخوذ من زنمتي الشاة وهما المتدليتان من أذنها وحلقها ، قيل هو الوليد بن المغيرة ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقيل الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة.

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)(١٦)

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال ذلك حينئذ لأنه كان متمولا مستظهرا بالبنين من فرط غروره ، لكن العامل مدلول قال لانفسه ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ويجوز أن يكون علة ل (لا تُطِعْ) أي لا تطع من هذه مثاله لأن كان ذا مال. وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وأبو بكر «أن كان» على الاستفهام ، غير أن ابن عامر جعل الهمزة الثانية بين بين أي «ألأن كان ذا مال» كذب ، أو أتطيعه لأن كان ذا مال. وقرئ «إن كان» بالكسر على أن شرط الغنى في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد ، أو «أن» شرطه للمخاطب أي لا تطعه شارطا يساره لأنه إذا أطاع للغني فكأنه شرطه في الطاعة.

(سَنَسِمُهُ) بالكي. (عَلَى الْخُرْطُومِ) على الأنف وقد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي أثره ، وقيل هو عبارة عن أن يذله غاية الإذلال كقولهم : جدع أنفه ، رغم أنفه ، لأن السمة على الوجه سيما على الأنف شين ظاهر ، أو نسود وجهه يوم القيامة.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ)(١٨)

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ) بلونا أهل مكة ـ شرفها الله تعالى ـ بالقحط. (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) يريد البستان الذي كان دون صنعاء بفرسخين ، وكان لرجل صالح وكان ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح ، أو بعد من البساط الذي يبسط تحت النخلة فيجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعله أبونا ضاق علينا الأمر ، فحلفوا (لَيَصْرِمُنَّها) وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) ليقطعنها داخلين في الصباح.

(وَلا يَسْتَثْنُونَ) ولا يقولون إن شاء الله ، وإنما سماه استثناء لما فيه من الإخراج غير أن المخرج به


خلاف المذكور والمخرج بالاستثناء عينه ، أو لأن معنى لا أخرج إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد ، أو (وَلا يَسْتَثْنُونَ) حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم.

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ(٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ)(٢٢)

(فَطافَ عَلَيْها) على الجنة. (طائِفٌ) بلاء طائف. (مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ منه. (وَهُمْ نائِمُونَ).

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء. فعيل بمعنى مفعول ، أو كالليل باحتراقها واسودادها ، أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس سميا بالصريم لأن كلّا منهما ينصرم عن صاحبه أو كالرمل.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) أن اخرجوا أو بأن اخرجوا إليه غدوة ، وتعدية الفعل بعلى إما لتضمنه معنى الإقبال أو لتشبيه الغدو للصرام بغدو العدو المتضمن لمعنى الاستيلاء. (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) قاطعين له.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ)(٢٥)

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتشاورون فيما بينهم وخفى وخفت وخفد بمعنى الكتم ، ومنه الخفدود للخفاش.

(أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أَنْ) مفسرة وقرئ بطرحها على إضمار القول ، والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول كقولهم : لا أرينك ها هنا.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) وغدوا قادرين على نكد لا غير ، من حاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر ، وحاردت الإبل إذا منعت درها. والمعنى أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين فتنكد عليهم بحيث لا يقدرون إلا على النكد ، أو غدوا حاصلين على النكد والحرمان مكان كونهم قادرين على الانتفاع. وقيل الحرد بمعنى الحرد وقد قرئ به أي لم يقدروا إلا على حنق بعضهم لبعض كقوله : (يَتَلاوَمُونَ) وقيل الحرد القصد والسرعة قال :

أقبل سيل جاء من أمر

الله يحرد حرد الجنّة المغلّة

أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وقيل علم للجنة.

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٢٩)

(فَلَمَّا رَأَوْها) أول ما رأوها. (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) طريق جنتنا وما هي بها.

(بَلْ نَحْنُ) أي بعد ما تأملوه وعرفوا أنها هي قالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ) رأيا ، أو سنا. (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) لولا تذكرونه وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، وقد قاله حينما عزموا على ذلك ويدل على هذا المعنى.

(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي لولا تستثنون فسمي الاستثناء تسبيحا لتشاركهما في التعظيم ، أو لأنه تنزيه على أن يجري في ملكه ما لا يريده.


(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٣٣)

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يلوم بعضهم بعضا فإن منهم من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ، ومنهم من سكت راضيا ، ومنهم من أنكره.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) متجاوزين حدود الله تعالى.

(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة. وقد روي أنهم أبدلوا خيرا منها وقرئ (يُبْدِلَنا) بالتخفيف. (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) راجون العفو طالبون الخير و (إِلى) لانتهاء الرغبة ، أو لتضمنها معنى الرجوع.

(كَذلِكَ الْعَذابُ) مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة العذاب في الدنيا. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أعظم منه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لاحترزوا عما يؤديهم إلى العذاب.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(٣٦)

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في الآخرة ، أو في جوار القدس. (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص.

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) إنكار لقول الكفرة ، فإنهم كانوا يقولون : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يفضلونا بل نكون أحسن حالا منهم كما نحن عليه في الدنيا.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) التفات فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له ، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي.

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ)(٣٩)

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) من السماء. (فِيهِ تَدْرُسُونَ) تقرؤون.

(إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) إن لكم ما تختارونه وتشتهونه ، وأصله «أن لكم» بالفتح لأنه المدروس فلما جيء باللام كسرت ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس أو استئنافا وتخير الشيء واختاره أخذ خيره.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) عهود مؤكدة بالأيمان. (بالِغَةٌ) متناهية في التوكيد ، وقرئت بالنصب على الحال والعامل فيها أحد الظرفين. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالمقدر في (لَكُمْ) أي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى نحكمكم في ذلك اليوم ، أو ب (بالِغَةٌ) أي أيمان تبلغ ذلك اليوم. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) جواب القسم لأن معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) أم أقسمنا لكم.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ)(٤١)

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) بذلك الحكم قائم يدعيه ويصححه.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يشاركونهم في هذا القول. (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم إذ لا أقل من التقليد ، وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل يدل عليه الاستحقاق أو وعد أو محض تقليد ، على الترتيب تنبيها على مراتب النظر وتزييفا لما لا سند


له. وقيل المعنى (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يعني الأصنام يجعلونهم مثل المؤمنين في الآخرة كأنه لما نفى أن تكون التسوية من الله تعالى نفى بهذا أن تكون مما يشاركون الله به.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ)(٤٣)

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل في ذلك ، وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب. قال حاتم.

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمرت عن ساقها الحرب شمّرا

أو يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا مستعار من ساق الشجر وساق الإنسان ، وتنكيره للتهويل أو للتعظيم. وقرئ «تكشف» و «تكشف» بالتاء على بناء الفاعل أو المفعول والفعل للساعة أو الحال. (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) توبيخا على تركهم السجود إن كان اليوم يوم القيامة ، أو يدعون إلى الصلوات لأوقاتها إن كان وقت النزع. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تلحقهم ذلة. (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) في الدنيا أو زمان الصحة. (وَهُمْ سالِمُونَ) متمكنون منه مزاحو العلل فيه.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)(٤٧)

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) كله إليّ فإني أكفيكه. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سندنيهم من العذاب درجة درجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أنه استدراج وهو الإنعام عليهم لأنهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم. (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) لا يدفع بشيء ، وإنما سمي إنعامه استدراجا بالكيد لأنه في صورته.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على الإرشاد. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) من غرامة. (مُثْقَلُونَ) بحملها فيعرضون عنك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) اللوح أو المغيبات. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه ما يحكمون به ويستغنون به عن علمك.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٥٠)

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يونس عليه‌السلام. (إِذْ نادى) في بطن الحوت. (وَهُوَ مَكْظُومٌ) مملوء غيظا من الضجرة فتبتلي ببلائه.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) يعني التوفيق للتوبة وقبولها وحسن تذكير الفعل للفصل ، وقرئ «تداركته» و «تداركه» أي تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه. (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) بالأرض الخالية عن الأشجار. (وَهُوَ مَذْمُومٌ) مليم مطرود عن الرحمة والكرامة. وهو حال يعتمد عليها الجواب لأنها المنفية دون النبذ.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) بأن رد الوحي إليه ، أو استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة. (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) من الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل ما تركه أولى ، وفيه دليل على خلق الأفعال


والآية نزلت حين هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو على ثقيف ، وقيل بأحد حين حل به ما حل فأراد أن يدعو على المنهزمين.

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(٥٢)

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إِنْ) هي المخففة واللام دليلها والمعنى : إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك ، أو يهلكونك من قولهم نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع لفعله ، أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين. إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون ، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وفي الحديث «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» ولعله يكون من خصائص بعض النفوس. وقرأ نافع (لَيُزْلِقُونَكَ) من زلقته فزلق كحزنته فحزن ، وقرئ «ليزهقونك» أي ليهلكونك. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي القرآن أي ينبعث عند سماعه بغضهم وحسدهم. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) حيرة في أمره وتنفيرا عنه.

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) لما جننوه لأجل القرآن بين أنه ذكر عام لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلا وأميزهم رأيا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم».


(٦٩) سورة الحاقة

مكية ، وآيها اثنتان وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ)(٣)

(الْحَاقَّةُ) أي الساعة أو الحالة التي يحق وقوعها ، أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف حقيقتها ، أو تقع فيها حواق الأمور من الحساب والجزاء على الإسناد المجازي ، وهي مبتدأ خبرها :

(مَا الْحَاقَّةُ) وأصله ما هي أي : أي شيء هي على التعظيم لشأنها والتهويل لها ، فوضع الظاهر موضع الضمير لأنه أهول لها.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) وأي شيء أعلمك ما هي ، أي أنك لا تعلم كنهها فإنها أعظم من أن تبلغها دراية أحد ، و (ما) مبتدأ و (أَدْراكَ) خبره.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٨)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) بالحالة التي تقرع فيها الناس بالإفزاع والأجرام بالانفطار والانتشار ، وإنما وضعت موضع ضمير (الْحَاقَّةُ) زيادة في وصف شدتها.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة وهي الصيحة ، أو الرجفة لتكذيبهم (بِالْقارِعَةِ) ، أو بسبب طغيانهم بالتكذيب وغيره على أنها مصدر كالعاقبة وهو لا يطابق قوله :

(وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي شديدة الصوت أو البرد من الصر أو الصر. (عاتِيَةٍ) شديدة العصف كأنها عتت على خزانها فلم يستطيعوا ضبطها ، أو على (عادٌ) فلم يقدروا على ردها.

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) سلطها عليهم بقدرته ، وهو استئناف أو صفة جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اتصالات فلكية ، إذ لو كانت لكان هو المقدر لها والمسبب. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) متتابعات جمع حاسم من حسمت الدابة إذا تابعت بين كيها ، أو نحسات حسمت كل خير واستأصلته ، أو قاطعات قطعت دابرهم ، ويجوز أن يكون مصدرا منتصبا على العلة بمعنى قطعا ، أو المصدر لفعله المقدر حالا أي تحسمهم (حُسُوماً) ويؤيده القراءة بالفتح ، وهي كانت أيام العجوز من صبيحة أربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر ، وإنما سميت عجوزا لأنها عجز الشتاء ، أو لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في الثامن فأهلكتها. (فَتَرَى الْقَوْمَ) إن كنت حاضرهم (فِيها) في مهابها أو في الليالي والأيام. (صَرْعى) موتى جمع صريع. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) أصول نخل. (خاوِيَةٍ) متأكلة الأجواف.

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) من بقية أو نفس باقية ، أو بقاء.


(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)(١٢)

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) ومن تقدمه ، وقرأ البصريان والكسائي (وَمَنْ قَبْلَهُ) أي ومن عنده من أتباعه ، ويدل عليه أنه قرئ «ومن معه». (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) قرى قوم لوط والمراد أهلها. (بِالْخاطِئَةِ) بالخطإ أو بالفعلة ، أو الأفعال ذات الخطأ.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي فعصت كل أمة رسولها. (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) زائدة في الشدة زيادة أعمالهم في القبح.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) جاوز حده المعتاد ، أو طغى على خزانه وذلك في الطوفان وهو يؤيد من قبله. (حَمَلْناكُمْ) أي آباءكم وأنتم في أصلابهم. (فِي الْجارِيَةِ) في سفينة نوح عليه الصلاة والسلام.

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ) لنجعل الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين. (تَذْكِرَةً) عبرة ودلالة على قدرة الصانع وحكمته وكمال قهره ورحمته. (وَتَعِيَها) وتحفظها ، وعن ابن كثير (تَعِيَها) بسكون العين تشبيها بكتف ، والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك والإيعاء أن تحفظه في غيرك. (أُذُنٌ واعِيَةٌ) من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه والعمل بموجبه ، والتنكير للدلالة على قلتها وأن من هذا شأنه مع قلته تسبب لإنجاء الجم الغفير وإدامة نسلهم. وقرأ نافع (أُذُنٌ) بالتخفيف.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ)(١٥)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) لما بالغ في تهويل القيامة وذكر مآل المكذبين بها تفخيما لشأنها وتنبيها على مكانها عاد إلى شرحها ، وإنما حسن إسناد الفعل إلى المصدر لتقيده وحسن تذكيره للفصل ، وقرئ «نفخة» بالنصب على إسناد الفعل إلى الجار والمجرور والمراد بها النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) رفعت من أماكنها بمجرد القدرة الكاملة ، أو بتوسط زلزلة أو ريح عاصفة.

(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) فضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة فيصير الكل هباء ، أو فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضا لا عوج فيها ولا أمتا لأن الدك سبب للتسوية ، ولذلك قيل ناقة دكاء للتي لا سنام لها ، وأرض دكاء للمتسعة المستوية.

(فَيَوْمَئِذٍ) فحينئذ. (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) قامت القيامة.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ)(١٧)

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) لنزول الملائكة. (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ضعيفة مسترخية.

(وَالْمَلَكُ) والجنس المتعارف بالملك. (عَلى أَرْجائِها) جوانبها جمع رجا بالقصر ، ولعله تمثيل لخراب السماء بخراب البنيان وانضواء أهلها إلى أطرافها وحواليها ، وإن كان على ظاهره فلعل هلاك الملائكة أثر ذلك. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء ، أو فوق الثمانية لأنها في نية التقديم. (يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) ثمانية أملاك ، لما روي مرفوعا «أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله


بأربعة آخرين». وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله ، ولعله أيضا تمثيل لعظمته بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام وعلى هذا قال :

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ(١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)(٢٠)

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) تشبيها للمحاسبة بعرض السلطان العسكر لتعرف أحوالهم ، وهذا وإن كان بعد النفخة الثانية لكن لما كان اليوم اسما لزمان متسع تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والحساب وإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار صح جعله ظرفا للكل. (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) سريرة على الله تعالى حتى يكون العرض للاطلاع عليها ، وإنما المراد منه إفشاء الحال والمبالغة في العدل ، أو على الناس كما قال الله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) وقرأ حمزة والكسائي بالياء للفصل.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) تفصيل للعرض. (فَيَقُولُ) تبجحا. (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) هاء اسم لخذ ، وفيه لغات أجودها هاء يا رجل وهاء يا امرأة وهاؤما يا رجلان أو امرأتان ، وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة ، ومفعوله محذوف و (كِتابِيَهْ) مفعول (اقْرَؤُا) لأنه أقرب العاملين ، ولأنه لو كان مفعول (هاؤُمُ) لقيل اقرءوه إذ الأولى إضماره حيث أمكن ، والهاء فيه وفي (حِسابِيَهْ) و (مالِيَهْ) و (سُلْطانِيَهْ) للسكت تثبت في الوقف وتسقط في الوصل واستحب الوقف لثباتها في الإمام ولذلك قرئ بإثباتها في الوصل.

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي علمت ، ولعله عبر عنه بالظن إشعارا بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)(٢٤)

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ذات رضا على النسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازا وذلك لكونها صافية عن الشوائب دائمة مقرونة بالتعظيم.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) مرتفعة المكان لأنها في السماء ، أو الدرجات أو الأبنية والأشجار.

(قُطُوفُها) جمع قطف وهو ما يجتنى بسرعة والقطف بالفتح المصدر. (دانِيَةٌ) يتناولها القاعد.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا) بإضمار القول وجمع الضمير للمعنى. (هَنِيئاً) أكلا وشربا (هَنِيئاً) أو هنئتم (هَنِيئاً). (بِما أَسْلَفْتُمْ) بما قدمتم من الأعمال الصالحة. (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية من أيام الدنيا.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)(٢٩)

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) لما يرى من قبح العمل وسوء العاقبة. (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ).

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها) يا ليت الموتة التي متها. (كانَتِ الْقاضِيَةَ) القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ، أو يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لأنه صادفها أمر من الموت فتمناه عندها ، أو يا ليت حياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق فيها حيا.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) مالي من المال والتبع وما نفي والمفعول محذوف ، أو استفهام إنكار مفعول لأغنى.


(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ملكي وتسلطي على الناس ، أو حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا ، وقرأ حمزة «عني مالي عني سلطاني» بحذف الهاءين في الوصل والباقون بإثباتها في الحالين.

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٣٢)

(خُذُوهُ) يقوله الله تعالى لخزنة النار. (فَغُلُّوهُ).

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى لأنه كان يتعظم على الناس.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) أي طويلة. (فَاسْلُكُوهُ) فأدخلوه فيها بأن تلقوها على جسده وهو فيما بينها مرهق لا يقدر على حركة ، وتقديم ال (سِلْسِلَةٍ) كتقديم (الْجَحِيمَ) للدلالة على التخصيص والاهتمام بذكر أنواع ما يعذب به ، و (ثُمَ) لتفاوت ما بينها في الشدة.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)(٣٧)

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة ، وذكر (الْعَظِيمِ) للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة فمن تعظم فيها استوجب ذلك.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ولا يحث على بذل طعامه أو على إطعامه فضلا عن أن يبذل من ماله ، ويجوز أن يكون ذكر الحض للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل. وفيه دليل على تكليف الكفار بالفروع ، ولعل تخصيص الأمرين بالذكر لأن أقبح العقائد الكفر بالله تعالى وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب.

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) قريب يحميه.

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) غسالة أهل النار وصديدهم فعلين من الغسل.

(لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أصحاب الخطايا من خطئ الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المضاد للصواب ، وقرئ «الخاطيون» بقلب الهمزة ياء و «الخاطون» بطرحها.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(٤٠)

(فَلا أُقْسِمُ) لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم ، أو ف (أُقْسِمُ) ولا مزيدة أو فلا رد لإنكارهم البعث و (أُقْسِمُ) مستأنف. (بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) بالمشاهدات والمغيبات وذلك يتناول الخالق والمخلوقات بأسرها.

(إِنَّهُ) إن القرآن. (لَقَوْلُ رَسُولٍ) يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه. (كَرِيمٍ) على الله تعالى وهو محمد أو جبريل عليهما الصلاة والسلام.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٣)

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) كما تزعمون تارة. (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) تصدقون لما ظهر لكم صدقه تصديقا قليلا لفرط عنادكم.

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) كما تدعون أخرى. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) تذكرون تذكرا قليلا ، فلذلك يلتبس الأمر


عليكم وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية ، لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند بخلاف مباينته للكهانة ، فإنها تتوقف على تذكر أحوال الرسول ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم. وقرأ ابن كثير ويعقوب بالياء فيهما.

(تَنْزِيلٌ) هو تنزيل. (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) نزله على لسان جبريل عليه‌السلام.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٤٧)

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) سمي الافتراء تقولا لأنه قول متكلف والأقوال المفتراة أقاويل تحقيرا لها كأنه جمع أفعولة من القول كالأضاحيك.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) بيمينه.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) أي نياط قلبه بضرب عنقه ، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ، وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب به جيده ، وقيل اليمين بمعنى القوة.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ) عن القتل أو المقتول. (حاجِزِينَ) دافعين وصف لأحد فإنه عام والخطاب للناس.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٥٢)

(وَإِنَّهُ) وإن القرآن. (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) لأنهم المنتفعون به.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) فنجازيهم على تكذيبهم.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) إذا رأوا ثواب المؤمنين به.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) لليقين الذي لا ريب فيه.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فسبح الله بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحى إليك.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله تعالى حسابا يسيرا».


(٧٠) سورة المعارج

مكية وآيها أربع وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ)(٢)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) أي دعا داع به بمعنى استدعاه ولذلك عدي الفعل بالباء والسائل هو النضر ابن الحرث فإنه قال (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية أو أبو جهل فإنه قال (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) سأله استهزاء أو الرسول عليه الصلاة والسلام استعجل بعذابهم وقرأ نافع وابن عامر (سَأَلَ) وهو إما من السؤال على لغة قريش قال :

سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

أو من السيلان ويؤيده أنه قرئ «سال سيل» على أن السيل مصدر بمعنى السائل كالغور والمعنى سال واد بعذاب ومضى الفعل لتحقق وقوعه إما في الدنيا وهو قتل بدر أو في الآخرة وهو عذاب النار.

(لِلْكافِرينَ) صفة أخرى لعذاب أو صلة ل (واقِعٍ) وإن صح أن السؤال كان عمن يقع به العذاب كان جوابا والباء على هذا لتضمن (سَأَلَ) معنى اهتم. (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) يرده.

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(٤)

(مِنَ اللهِ) من جهته لتعلق إرادته (ذِي الْمَعارِجِ) ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم أو في دار ثوابهم أو مراتب الملائكة أو في السموات فإن الملائكة يعرجون فيها.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على التمثيل والتخيل والمعنى أنها بحيث لو قدر قطعها في زمان لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا وقيل معناه تعرج الملائكة والروح إلى عرشه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من حيث إنهم يقطعون فيه ما يقطع الإنسان فيها لو فرض لا أن ما بين أسفل العالم وأعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة لأن ما بين مركز الأرض ومقعر السماء الدنيا على ما قيل مسيرة خمسمائة عام وثخن كل واحدة من السموات السبع والكرسي والعرش كذلك وحيث قال (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) يريد زمان عروجهم من الأرض إلى محدب السماء الدنيا وقيل (فِي يَوْمٍ) متعلق ب (واقِعٍ) أو (سَأَلَ) إذا جعل من السيلان والمراد به يوم القيامة واستطالته إما لشدته على الكفار أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات أو لأنه على الحقيقة كذلك والروح جبريل عليه‌السلام وإفراده لفضله أو خلق أعظم من الملائكة.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ)(٩)


(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) لا يشوبه استعجال واضطراب قلب وهو متعلق ب (سَأَلَ) لأن السؤال كان عن استهزاء أو تعنت وذلك مما يضجره أو عن تضجر واستبطاء للنصر أو ب (سَأَلَ) لأن المعنى قرب وقوع العذاب (فَاصْبِرْ) فقد شارفت الانتقام.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) الضمير للعذاب أو يوم القيامة (بَعِيداً) من الإمكان.

(وَنَراهُ قَرِيباً) منه أو من الوقوع.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) ظرف ل (قَرِيباً) أي يمكن (يَوْمَ تَكُونُ) أو لمضمر دل عليه (واقِعٍ) أو بدل من (فِي يَوْمٍ) إن علق به والمهل المذاب في «مهل» كالفلزات أو دردي الزيت.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ألوانا لأن الجبال مختلفة الألوان فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ)(١٤)

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) ولا يسأل قريب قريبا عن حاله وعن ابن كثير (وَلا يَسْئَلُ) على بناء المفعول أي لا يطلب من حميم حميم أو لا يسأل منه حاله.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) استئناف أو حال تدل على أن المانع من هذا السؤال هو التشاغل دون الخفاء أو ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده وجمع الضميرين لعموم الحميم. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) حال من أحد الضميرين أو استئناف يدل على أن اشتغال كل مجرم بنفسه بحيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم (يَوْمِئِذٍ) وقرئ بتنوين (عَذابِ) ونصب (يَوْمِئِذٍ) به لأنه بمعنى تعذيب.

(وَفَصِيلَتِهِ) وعشيرته الذين فصل عنهم (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تضمه في النسب أو عند الشدائد.

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين أو الخلائق (ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف على (يَفْتَدِي) أي ثم ينجيه الافتداء و (ثُمَ) للاستبعاد.

(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

(كَلَّا) ردع للمجرم عن الودادة ودلالة على أن الافتداء لا ينجيه (إِنَّها) الضمير للنار أو مبهم يفسره (لَظى) وهو خبر أو بدل أو للقصة و (لَظى) مبتدأ خبره.

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) وهو اللهب الخالص وقيل علم للنار منقول من اللظى بمعنى اللهب وقرأ حفص عن عاصم (نَزَّاعَةً) بالنصب على الاختصاص أو الحال المؤكدة أو المتنقلة على أن (لَظى) بمعنى متلظية والشوى الأطراف أو جمع شواة وهي جلدة الرأس.

(تَدْعُوا) تجذب وتحضر كقول ذي الرمة :

تدعو أنفه الريب.

مجاز عن جذبها وإحضارها لمن فرّ عنها وقيل تدعو زبانيتها وقيل تدعو تهلك من قولهم دعاه الله إذا أهلكه (مَنْ أَدْبَرَ) عن الحق (وَتَوَلَّى) عن الطاعة.

(وَجَمَعَ فَأَوْعى) وجمع المال فجعله في وعاء وكنزه حرصا وتأميلا.


(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)(٢١)

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) شديد الحرص قليل الصبر.

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) الضر (جَزُوعاً) يكثر الجزع.

(وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) السعة (مَنُوعاً) يبالغ بالإمساك والأوصاف الثلاثة أحوال مقدرة أو محققة لأنها طبائع جبل الإنسان عليها و (إِذا) الأولى ظرف ل (جَزُوعاً) والأخرى ل (مَنُوعاً).

(إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)(٢٦)

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) استثناء للموصوفين بالصفات المذكورة بعد من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل لمضادة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل وتلك ناشئة من الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها.

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) لا يشغلهم عنها شاغل.

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) كالزكوات والصدقات الموظفة.

(لِلسَّائِلِ) الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) الذي لا يسأل فيحسب نفسه غنيا فيحرم.

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) تصديقا بأعمالهم وهو أن يتعب نفسه ويصرف ماله طمعا في المثوبة الأخروية ولذلك ذكر (الدِّينِ).

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٣١)

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) خائفون على أنفسهم.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) اعتراض يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في طاعته.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) سبق تفسيره في سورة «المؤمنين».

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) حافظون وقرأ ابن كثير لأمانتهم يعني لا يخونون ولا ينكرون ولا يخفون ما علموه من حقوق الله وحقوق العباد.

والّذين هم بشهادتهم قائمون وقرأ يعقوب وحفص (بِشَهاداتِهِمْ) لاختلاف الأنواع.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا باعتبارين للدلالة على فضلها وإنافتها على غيرها وفي نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى.


(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) بثواب الله تعالى.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)(٣٨)

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ) حولك (مُهْطِعِينَ) مسرعين.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) فرقا شتى جمع عزة وأصلها عزوة من العزو وكأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى. كان المشركون يحتفون حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلقا حلقا ويستهزئون بكلامه.

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) بلا إيمان وهو إنكار لقولهم لو صح ما يقوله لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا.

(كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)(٤١)

(كَلَّا) ردع لهم عن هذا الطمع (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) تعليل له والمعنى أنهم مخلقون من نطفة مذرة لا تناسب عالم القدس فمن لم يستكمل بالإيمان والطاعة ولم يتخلق بالأخلاق الملكية لم يستعد لدخولها أو إنكم مخلوقون من أجل ما تعلمون وهو تكميل النفس بالعلم والعمل فمن لم يستكملها لم يتبوأ في منازل الكاملين أو الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان النشأة الثانية التي بنوا الطمع على فرضها فرضا مستحيلا عندهم بعد ردعهم عنه.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم أو نعطي محمدا بدلكم من هو خير منكم وهم الأنصار. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين إن أردنا ذلك.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) مر في آخر سورة «الطور».

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) مسرعين جمع سريع (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) منصوب للعبادة أو علم (يُوفِضُونَ) يسرعون وقرأ ابن عامر وحفص (إِلى نُصُبٍ) بضم النون والصاد والباقون من السبعة (نُصُبٍ) بفتح النون وسكون الصاد وقرئ بالضم على أنه تخفيف (نُصُبٍ) أو جمع.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) مر تفسيره (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (سَأَلَ سائِلٌ) أعطاه الله ثواب الذين هم (لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)».


(٧١) سورة نوح

مكية وآيها تسع أو ثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ) أي بأن أي بالإنذار ، أو بأن قلنا له (أَنْذِرْ) ، ويجوز أن تكون مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول ، وقرئ بغير (أَنْ) على إرادة القول. (قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب الآخرة أو الطوفان.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) مر في «الشعراء» نظيره وفي (أَنِ) يحتمل الوجهان.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو ما سبق فإن الإسلام يجبه فلا يؤاخذكم به في الآخرة (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو أقصى ما قدّر لكم بشرط الإيمان والطاعة. (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) إن الأجل الذي قدره. (إِذا جاءَ) على الوجه المقدر به آجلا وقيل إذا جاء الأجل الأطول. (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ، وفيه أنهم لانهماكهم في حب الحياة كأنهم شاكون في الموت.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً)(٩)

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) أي دائما.

(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) عن الإيمان والطاعة ، وإسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية كقوله : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً).

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان. (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بسببه. (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي من فرط كراهة دعوتي أو لئلا أعرفهم فأدعوهم ، والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة. (وَأَصَرُّوا) وأكبوا على الكفر والمعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباعي. (اسْتِكْباراً) عظيما.

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي دعوتهم مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى على أي وجه أمكنني ، و (ثُمَ) لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بينهما أغلظ


من الإفراد لتراخي بعضها عن بعض ، و (جِهاراً) نصب على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء ، أو صفة مصدر محذوف بمعنى دعاء (جِهاراً) أي مجاهرا به أو الحال فيكون بمعنى مجاهرا.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(١٢)

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بالتوبة عن الكفر. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) للتائبين وكأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا : إن كنا على حق فلا نتركه وإن كنا على باطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه ، فأمرهم بما يجب معاصيهم ويجلب إليهم المنح ولذلك وعدهم عليه ما هو أوقع في قلوبهم. وقيل لما طالت دعوتهم وتمادى إصرارهم حبس الله عنهم القطر أربعين سنة ، وأعقم أرحام نسائهم فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه بقوله :

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. و (السَّماءَ) تحتمل المظلة والسحاب ، والمدرار كثير الدرور ويستوي في هذا البناء المذكر والمؤنث ، والمراد بال (جَنَّاتٍ) البساتين.

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(١٤)

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) لا تأملون له توقيرا أي تعظيما لمن عبده وأطاعه فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمها إياكم ، و (لِلَّهِ) بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار ، أو لا تعتقدون له عظمة فتخافوا عصيانه ، وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) حال مقررة للإنكار من حيث إنها موجبة للرجاء فإنه خلقهم (أَطْواراً) أي تارات ، إذ خلقهم أولا عناصر ، ثم مركبات تغذى بها الإنسان ، ثم أخلاطا ، ثم نطفا ، ثم علقا ، ثم مضغا ، ثم عظاما ولحوما ، ثم أنشأهم خلقا آخر ، فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى فيعظمهم بالثواب وعلى أنه تعالى عظيم القدرة تام الحكمة ، ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)(١٦)

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي في السموات وهو في السماء الدنيا وإنما نسب إليهن لما بينهن من الملابسة. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) مثلها به لأنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠)

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أنشأكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ، وأصله (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إنباتا فنبتم نباتا ، فاختصره اكتفاء بالدلالة الالتزامية.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) مقبورين. (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) بالحشر ، وأكده بالمصدر كما أكد به الأول دلالة على أن الإعادة محققة كالإبداء ، وأنها تكون لا محالة.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) تتقلبون عليها.

(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) واسعة جمع فج ومن لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.


(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً)(٢١)

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به. (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) واتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة ، وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد وأدت بهم إلى الخسار ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي والبصريان (وَوَلَدُهُ) بالضم والسكون على أنه لغة كالحزن والحزن أو جمع كالأسد.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(٢٣)

(وَمَكَرُوا) عطف على (لَمْ يَزِدْهُ) والضمير لمن وجمعه للمعنى. (مَكْراً كُبَّاراً) كبيرا في الغاية فإنه أبلغ من كبار وهو من كبير ، وذلك احتيالهم في الدين وتحريش الناس على أذى نوح.

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي عبادتها. (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَلا تَذَرُنَ) هؤلاء خصوصا ، قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركا بهم ، فلما طال الزمان عبدوا. وقد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير. وقرأ نافع (وَدًّا) بالضم وقرئ «يغوثا» و «يعوقا» للتناسب ، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً)(٢٥)

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً). (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) عطف على (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) ، ولعل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم لا في أمر دينهم ، أو الضياع والهلاك كقوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ).

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) من أجل خطيئاتهم ، و «ما» مزيدة للتأكيد والتفخيم ، وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم». (أُغْرِقُوا) بالطوفان. (فَأُدْخِلُوا ناراً) المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة ، والتعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال ، أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع ، وتنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي أحدا وهو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار ، أو الدور وأصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد الأفعال وإلا لكان دوارا.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) قال ذلك لما جربهم واستقرى أحوالهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف شيمهم وطباعهم.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) لملك بن متوشلح وشمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) منزلي أو مسجدي أو سفينتي. (مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى يوم القيامة. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) هلاكا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».


(٧٢) سورة الجن

مكية ، وآيها ثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً)(٢)

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) وقرئ «أحي» وأصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها ووحى على الأصل وفاعله : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة ، و (الْجِنِ) أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها ، وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله. (فَقالُوا) لما رجعوا إلى قومهم. (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً) كتابا. (عَجَباً) بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه ودقة معناه. وهو مصدر وصف به للمبالغة.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) إلى الحق والصواب. (فَآمَنَّا بِهِ) بالقرآن. (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) على ما نطق به الدلائل القاطعة على التوحيد.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً)(٥)

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) قرأه ابن كثير والبصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول ، وكذا ما بعده إلا قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ) ، (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ) فإنها من جملة الموحى به ووافقهم نافع وأبو بكر إلا في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ) على أنه استئناف أو مقول ، وفتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار والمجرور في (بِهِ) كأنه قيل : صدقناه وصدقنا (أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم ، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت ، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقوله : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) بيان لذلك ، وقرئ «جدا» على التمييز «جدّ ربنا» بالكسر أي صدق ربوبيته ، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) إبليس أو مردة الجن. (عَلَى اللهِ شَطَطاً) قولا ذا شطط وهو البعد ومجاوزة الحد ، أو هو شطط لفرط ما أشط فيه ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك بظنهم أن أحدا لا يكذب على الله ، و (كَذِباً) نصب على المصدر لأنه نوع من القول أو الوصف المحذوف ، أي قولا مكذوبا فيه ، ومن قرأ (أَنْ لَنْ تَقُولَ) كيعقوب جعله مصدرا لأن التقول لا يكون إلا (كَذِباً).


(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)(٧)

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) فإن الرجل كان إذا أمسى بقفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. (فَزادُوهُمْ) فزادوا الجن باستعاذتهم بهم. (رَهَقاً) كبرا وعتوا ، أو فزاد الجن الإنس غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم ، والرهق في الأصل غشيان الشيء.

(وَأَنَّهُمْ) وأن الإنس. (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن أو بالعكس ، والآيتان من كلام الجن بعضهم لبعض أو استئناف كلام من الله تعالى ، ومن فتح أن فيهما جعلهما من الموحى به. (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) ساد مسد مفعولي (ظَنُّوا).

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)(٩)

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) طلبنا بلوغ السماء أو خبرها ، واللمس مستعار من المس للطلب كالجس يقال لمسه والتمسه وتلمسه كطلبه واطلبه وتطلبه. (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) حراسا اسم جمع كالخدم. (شَدِيداً) قويا وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها. (وَشُهُباً) جمع شهاب وهو المضيء المتولد من النار.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) مقاعد خالية عن الحرس والشهب ، أو صالحة للترصد والاستماع ، و (لِلسَّمْعِ) صلة ل (نَقْعُدُ) أو صفة ل (مَقاعِدَ). (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)

أي شهابا راصدا له ولأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم ، أو ذوي شهاب راصدين على أنه اسم جمع للراصد ، وقد مر بيان ذلك في «الصافات».

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً)(١١)

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بحراسة السماء. (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) خيرا.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) المؤمنون الأبرار. (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي قوم دون ذلك فحذف الموصوف وهم المقتصدون. (كُنَّا طَرائِقَ) ذوي طرائق أي مذاهب ، أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت طرائقنا طرائق. (قِدَداً) متفرقة مختلفة جمع قدة من قدّ إذا قطع.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً)(١٣)

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) علمنا. (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) كائنين في الأرض أينما كنا فيها. (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) هاربين منها إلى السماء ، أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا ولن نعجزه هربا إن طلبنا.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) أي القرآن. (آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) فهو لا يخاف ، وقرئ «فلا يخف» والأول أدل على تحقيق نجاة المؤمنين واختصاصها بهم. (بَخْساً وَلا رَهَقاً) نقصا في الجزاء ولا أن يرهقه ذلة ، أو جزاء بخس لأنه لم يبخس لأحد حقا ولم يرهق ظلما ، لأن من حق المؤمن بالقرآن أن يجتنب ذلك.


(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(١٥)

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) توخوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) توقد بهم كما توقد بكفار الإنس.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)(١٧)

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) أي أن الشأن لو استقام الجن أو الإنس أو كلاهما. (عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي على الطريقة المثلى. (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) لوسعنا عليهم الرزق ، وتخصيص الماء الغدق وهو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة ولعزة وجوده بين العرب.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم كيف يشكرونه ، وقيل معناه أن لو استقام الجن على طريقتهم القديمة ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفرانهم. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته أو موعظته أو وحيه. (يَسْلُكْهُ) يدخله وقرأ غير الكوفيين بالنون. (عَذاباً صَعَداً) شاقا يعلو المعذب ويغلبه مصدر وصف به.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)(١٩)

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) مختصة به. (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فلا تعبدوا فيها غيره ، ومن جعل (أَنَ) مقدرة باللام علة للنهي ألغى فائدة الفاء ، وقيل المراد ب (الْمَساجِدَ) الأرض كلها لأنها جعلت للنبي عليه الصلاة والسلام مسجدا. وقيل المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد ومواضع السجود على أن المراد النهي عن السجود لغير الله ، وآرابه السبعة أو السجدات على أنه جمع مسجد.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي النبي عليه الصلاة والسلام وإنما ذكر بلفظ العبد للتواضع فإنه واقع موقع كلامه عن نفسه ، والإشعار بما هو المقتضى لقيامه. (يَدْعُوهُ) يعبده (كادُوا) كاد الجن. (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عبادته وسمعوا من قراءته ، أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين لإبطال أمره ، وهو جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد ، وعن ابن عامر «لبدا» بضم اللام جمع لبدة وهي لغة. وقرئ «لبدا» كسجدا جمع لا بد و (لِبَداً) كصبر جمع لبود.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً)(٢١)

قال (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي ، وقرأ عاصم وحمزة (قُلْ) على الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام ليوافق ما بعده.

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) ولا نفعا أو غيا ، عبر عن أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارا بالمعنيين.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ


اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً)(٢٤)

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن أراد بي سوءا. (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) منحرفا أو ملتجأ وأصله المدخل من اللحد.

(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) استثناء من قوله لا أملك فإن التبليغ إرشاد وإنفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة ، أو من ملتحدا أو معناه أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب. (وَرِسالاتِهِ) عطف على (بَلاغاً) و (مِنَ اللهِ) صفته فإن صلته عن كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلغوا عني ولو آية». (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه. (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) وقرئ «فإن» على فجزاؤه أن. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جمعه للمعنى.

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) في الدنيا كوقعة بدر ، أو في الآخرة والغاية لقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) بالمعنى الثاني ، أو لمحذوف دل عليه الحال من استضعاف الكفار له وعصيانهم له. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) هو أم هم.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)(٢٧)

(قُلْ إِنْ أَدْرِي) ما أدري. (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) غاية تطول مدتها كأنه لما سمع المشركون (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) قالوا متى يكون إنكارا ، فقيل قل إنه كائن لا محالة ولكن لا أدري ما وقته.

(عالِمُ الْغَيْبِ) هو عالم الغيب. (فَلا يُظْهِرُ) فلا يطلع. (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) أي على الغيب المخصوص به علمه.

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى) لعلم بعضه حتى يكون له معجزة. (مِنْ رَسُولٍ) بيان ل (مَنِ) ، واستدل به على إبطال الكرامات ، وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط ، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من بين يدي المرتضى (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) حرسا من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي ليعلم النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة النازلون بالوحي ، أو ليعلم الله تعالى أن قد أبلغ الأنبياء بمعنى ليتعلق علمه به موجودا. (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) كما هي محروسة من التغيير. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) بما عند الرسل. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) حتى القطر والرمل.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جني صدق محمدا أو كذب به عتق رقبة».


(٧٣) سورة المزمل

مكية ، وآيها تسع عشرة أو عشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٢)

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرئ به ، وب «المزّمّل» مفتوحة الميم ومكسورتها أي الذي زمله غيره ، أو زمل نفسه ، سمي به النبي عليه الصلاة والسلام تهجينا لما كان عليه فإنه كان نائما ، أو مرتعدا مما دهشه من بدء الوحي متزملا في قطيفة أو تحسينا له. إذ روي : أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي متلففا بمرط مفروش على عائشة رضي الله تعالى عنها فنزلت. أو تشبيها له في تثاقله بالمتزمل لأنه لم يتمرن بعد في قيام الليل ، أو من تزمل الزمل إذا تحمل الحمل أي الذي تحمل أعباء النبوة.

(قُمِ اللَّيْلَ) أي قم إلى الصلاة ، أو داوم عليها فيه ، وقرئ بضم الميم وفتحها للإتباع أو التخفيف. (إِلَّا قَلِيلاً).

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(٥)

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) الاستثناء من (اللَّيْلَ) و (نِصْفَهُ) بدل من (قَلِيلاً) وقلته بالنسبة إلى الكل ، والتخيير بين قيام النصف والزائد عليه كالثلثين والناقص عنه كالثلث ، أو (نِصْفَهُ) بدل من (اللَّيْلَ) والاستثناء منه والضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) للأقل من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه وبين الأقل منه كالربع ، والأكثر منه كالنصف أو للنصف والتخيير بين أن يقوم أقل منه على البت وأن يختار أحد الأمرين من الأقل والأكثر ، أو الاستثناء من إعداد الليل فإنه عام والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) اقرأه على تؤدة وتبيين حروف بحيث يتمكن السامع من عدها من قوله ثغر رتل ورتل إذا كان مفلجا.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) يعني القرآن فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان عليه أن يتحملها ويحملها أمته ، والجملة اعتراض يسهل التكليف عليه بالتهجد ، ويدل على أنه مشق مضاد للطبع مخالف للنفس ، أو رصين لرزانة لفظه ومتانة معناه ، أو ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر وتجريد للنظر ، أو ثقيل في الميزان أو على الكفار والفجار ، أو ثقيل تلقيه لقوله عائشة رضي الله تعالى عنها : رأيته عليه الصلاة والسلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا. وعلى هذا يجوز أن يكون صفة للمصدر والجملة على هذه الأوجه للتعليل مستأنف ، فإن التهجد يعد للنفس ما به تعالج ثقله.


(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧)

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض وقام قال :

نشأنا إلى خوص برى نهيا السّرى

وألصق منها مشرفات القماحد

أو قيام الليل على أن ال (ناشِئَةَ) له أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث ، أو ساعات الليل لأنها تحدث واحدة بعد أخرى ، أو ساعاتها الأول من نشأت إذا ابتدأت. (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي كلفة أو ثبات قدم ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر (وَطْئاً) بكسر الواو وألف ممدودة أي مواطأة القلب اللسان لها ، أو فيها أو موافقة لما يراد منها من الخضوع والإخلاص. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي وأسد مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) تقلبا في مهماتك واشتغالا بها فعليك بالتهجد ، فإن مناجاة الحق تستدعي فراغا. وقرئ «سبخا» أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٩)

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره ليلا ونهارا ، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) وانقطع إليه بالعبادة وجرد نفسك عما سواه ، ولهذه الرمزة ومراعاة الفواصل وضعه موضع تبتلا.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) خبر محذوف أو مبتدأ خبره : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقرأ ابن عامر والكوفيون غير حفص ويعقوب بالجر على البدل من ربك ، وقيل بإضمار حرف القسم وجوابه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) مسبب عن التهليل ، فإن توحده بالألوهية يقتضي أن توكل إليه الأمور.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً)(١١)

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من الخرافات. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمرهم إلى الله فالله يكفيكهم كما قال :

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) دعني وإياهم وكل أمرهم فإن بي غنية عنك في مجازاتهم. (أُولِي النَّعْمَةِ) أرباب التنعم ، يريد صناديد قريش. (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) زمانا أو إمهالا.

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(١٤)

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) تعليل للأمر ، والنكل القيد الثقيل. (وَجَحِيماً).

(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) طعاما ينشب في الحلق كالضريع والزقوم. (وَعَذاباً أَلِيماً) ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يعرف كنهه إلا الله تعالى ، ولما كانت العقوبات الأربع مما تشترك فيها الأشباح والأرواح فإن النفوس العاصية المنهمكة في الشهوات تبقى مقيدة بحبها والتعلق بها ، عن التخلص إلى عالم المجردات متحرقة بحرقة الفرقة متجرعة غصة الهجران معذبة بالحرمان عن تجلي أنوار القدس ، فسر العذاب بالحرمان عن لقاء الله تعالى.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) تضطرب وتتزلزل ظرف لما في (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) من معنى الفعل.


(وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً) رملا مجتمعا كأنه فعيل بمعنى مفعول من كثبت الشيء إذا جمعته. (مَهِيلاً) منثورا من هيل هيلا إذا نثر.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً)(١٦)

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يا أهل مكة. (شاهِداً عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم يوم القيامة بالإجابة والامتناع. (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) يعني موسى عليه الصلاة والسلام ولم يعينه لأن المقصود لم يتعلق به.

(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) عرفه لسبق ذكره. (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ثقيلا من قولهم طعام وبيل لا يستمرأ لثقله ، ومنه الوابل للمطر العظيم.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) أنفسكم. (إِنْ كَفَرْتُمْ) بقيتم على الكفر. (يَوْماً) عذاب يوم. (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) من شدة هوله وهذا على الفرض أو التمثيل ، وأصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع الشيب ، ويجوز أن يكون وصفا لليوم بالطول.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ) منشق والتذكير على تأويل السقف أو إضمار شيء. (بِهِ) بشدة ذلك اليوم على عظمها وأحكامها فضلا عن غيرها والباء للآلة. (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) الضمير لله عزوجل أو لليوم على إضافة المصدر إلى المفعول.

(إِنَّ هذِهِ) أي الآيات الموعدة. (تَذْكِرَةٌ) عظة. (فَمَنْ شاءَ) أن يتعظ. (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي يتقرب إليه بسلوك التقوى.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) استعار الأدنى للأقل لأن الأقرب إلى الشيء أقل بعدا منه ، وقرأ ابن كثير والكوفيون (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب عطفا على (أَدْنى). (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ويقوم ذلك جماعة من أصحابك. (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى ، فإن تقديم اسمه مبتدأ مبنيا عليه (يُقَدِّرُ) يشعر بالاختصاص ويؤيده قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بالترخص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة فيه كما رفع التبعة عن التائب. (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل ، عبر عن الصلاة بالقرآن كما عبر عنها بسائر أركانها ، قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به ، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس ، أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيفما تيسر عليكم. (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) استئناف يبين حكمة أخرى مقتضية للترخيص والتخفيف ولذلك كرر الحكم مرتبا


عليه وقال : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) والضرب في الأرض ابتغاء للفضل المسافرة للتجارة وتحصيل العلم (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة. (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة. (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) يريد به الأمر في سائر الإنفاقات في سبل الخيرات ، أو بأداء الزكاة على أحسن وجه ، والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به في قوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت أو من متاع الدنيا ، و (خَيْراً) ثاني مفعولي (تَجِدُوهُ) وهو تأكيد أو فصل ، لأن أفعل من كالمعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف ، وقرئ «هو خير» على الابتداء والخبر. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في مجامع أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المزمل رفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة».


(٧٤) سورة المدثر

مكية ، وآيها خمس وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ)(٢)

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي المتدثر وهو لابس الدثار. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئا ، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض ـ يعني الملك الذي ناداه ـ فرعبت فرجعت إلى خديجة فقلت : دثروني ، فنزل جبريل وقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ولذلك قيل هي أول سورة نزلت. وقيل تأذى من قريش فتغطي بثوبه مفكرا ، أو كان نائما متدثرا فنزلت ، وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية ، أو المختفي فإنه كان بحراء كالمختفي فيه على سبيل الاستعارة ، وقرئ «المدثر» أي الذي دثر هذا الأمر وعصب به.

(قُمْ) من مضجعك أو قم قيام عزم وجد. (فَأَنْذِرْ) مطلق للتعميم أو مقدر بمفعول دل عليه قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أو قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)(٤)

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وخصص ربك بالتكبير وهو وصفه بالكبرياء عقدا وقولا ، روي أنه لما نزل كبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيقن أنه الوحي ، وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والفاء فيه وفيما بعده لإفادة معنى الشرط وكأنه قال : وما يكن فكبر ربك ، أو الدلالة على أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه ، فإن أول ما يجب معرفة الصانع وأول ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه ، والقوم كانوا مقرين به.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) من النجاسات فإن التطهير واجب في الصلوات محبوب في غيرها ، وذلك بغسلها أو بحفظها عن النجاسة بتقصيرها مخافة جر الذيول فيها ، وهو أول ما أمر به من رفض العادات المذمومة ، أو طهر نفسك من الأخلاق الذميمة والأفعال الدنيئة ، فيكون أمرا باستكمال القوة العملية بعد أمره باستكمال القوّة النظرية والدعاء إليه ، أو فطهر دثار النبوة عما يدنسه من الحقد والضجر وقلة الصبر.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(٧)

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدي إليه من الشرك وغيره من القبائح ، وقرأ يعقوب وحفص (وَالرُّجْزَ) بالضم وهو لغة كالذكر.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تعط مستكثرا ، نهى عن الاستفزار وهو أن يهب شيئا طامعا في عوض أكثر ، نهي تنزيه أو نهيا خاصا به لقوله عليه الصلاة والسلام «المستفزر يثاب من هبته» والموجب له ما فيه من الحرص والضنة ، أو (لا تَمْنُنْ) على الله تعالى بعبادتك مستكثرا إياها ، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه ، وقرئ «تستكثر» بالسكون للوقف أو الإبدال من تمنن على أنه من من بكذا ، أو


(تَسْتَكْثِرُ) بمعنى تجده كثيرا وبالنصب على إضمار أن ، وقد قرئ بها وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بحذفها وإبطال عملها ، كما روي : احضر الوغى. بالرفع.

(وَلِرَبِّكَ) لوجهه أو أمره. (فَاصْبِرْ) فاستعمل الصبر ، أو فاصبر على مشاق التكاليف وأذى المشركين.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(١٠)

(فَإِذا نُقِرَ) نفخ. (فِي النَّاقُورِ) في الصور فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت ، والفاء للسببية كأنه قال : اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك وأعداؤك عاقبة ضرهم ، و «إذا» ظرف لما دل عليه قوله :

(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ) لأن معناه عسر الأمر على الكافرين ، وذلك إشارة إلى وقت النقر ، وهو مبتدأ خبره (يَوْمٌ عَسِيرٌ) و (يَوْمَئِذٍ) بدل أو ظرف لخبره إذ التقدير : فذلك الوقت وقت وقوع (يَوْمٌ عَسِيرٌ). (غَيْرُ يَسِيرٍ) تأكيد بمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه ويشعر بيسره على المؤمنين.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً)(١٣)

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) نزلت في الوليد بن المغيرة ، و (وَحِيداً) حال من الياء أي ذرني وحدي معه فإني أكفيكه ، أو من التاء أي ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد ، أو من العائد المحذوف أي من خلقته فريدا لا مال له ولا ولد ، أو ذم فإنه كان ملقبا به فسماه الله به تهكما ، أو إرادة أنه وحيد ولكن في الشرارة أو عن أبيه فإنه كان زنيما.

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) مبسوطا كثيرا أو ممدا بالنماء ، وكان له الزرع والضرع والتجارة.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) حضورا معه بمكة يتمتع بلقائهم لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش استغناء بنعمته ، ولا يحتاج إلى أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه ، أو في المحافل والأندية لوجاهتهم واعتبارهم. قيل كان له عشرة بنين أو أكثر كلهم رجال ، فأسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) (١٥)

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) وبسطت له الرياسة والجاه العريض حتى لقب ريحانة قريش والوحيد أي باستحقاقه الرياسة والتقدم.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) على ما أوتيه وهو استبعاد لطمعه إما لأنه لا مزيد على ما أوتي ، أو لأنه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم ولذلك قال :

(كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)(١٧)

(كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) فإنه ردع له عن الطمع وتعليل للردع على سبيل الاستئناف بمعاندة آيات المنعم المناسبة لإزالة النعمة المانعة عن الزيادة ، قيل : ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله حتى هلك.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) سأغشيه عقبة شاقة المصعد ، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. وعنه عليه الصلاة والسلام «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا».

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (٢٠).


(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) تعليل للوعيد أو بيان للعناد ، والمعنى فكر فيما يخيل طعنا في القرآن وقدر في نفسه ما يقول فيه.

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تعجب من تقديره استهزاء به ، أو لأنه أصاب أقصى ما يمكن أن يقال عليه من قولهم : قتله الله ما أشجعه ، أي بلغ في الشجاعة مبلغا يحق أن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك. روي أنه مر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ (حم) «السجدة» ، فأتى قومه وقال لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس والجن ، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى. فقالت قريش صبأ الوليد فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فناداهم فقال : تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق ، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن ، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا ، فقالوا لا فقال : ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، ففرحوا بقوله وتفرقوا عنه متعجبين منه.

(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تكرير للمبالغة وثم للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى وفيما بعد على أصلها.

(ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ)(٢٥)

(ثُمَّ نَظَرَ) أي في أمر القرآن مرة بعد أخرى.

(ثُمَّ عَبَسَ) قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا ولم يدر ما يقول ، أو نظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطب في وجهه. (وَبَسَرَ) اتباع لعبس.

(ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحق أو الرسول عليه الصلاة والسلام. (وَاسْتَكْبَرَ) عن اتباعه.

(فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يروى ويتعلم ، والفاء للدلالة على أنه لما خطرت هذه الكلمة بباله تفوه بها من غير تلبث وتفكر.

(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) كالتأكيد للجملة الأولى ولذلك لم يعطف عليها.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)(٣٠)

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) بدل من (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) :

(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) تفخيم لشأنها تعالى وقوله : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) بيان لذلك أو حال من سقر ، والعامل فيها معنى التعظيم والمعنى لا تبقي على شيء يلقى فيها ولا تدعه حتى تهلكه.

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي مسودة لأعالي الجلد ، أو لائحة للناس وقرئت بالنصب على الاختصاص.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ملكا أو صنفا من الملائكة يلون أمرها ، والمخصص لهذا العدد أن اختلال النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الاثنتي عشرة والطبيعة السبع ، أو أن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الاعتقاد والإقرار ، والعمل أنواعا من العذاب تناسبها على كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه ملك ، أو صنف أو أن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة في الصلاة فيبقى تسعة عشر قد تصرف فيما يؤاخذ به بأنواع من العذاب يتولاها الزبانية ، وقرئ «تسعة عشر» بسكون العين كراهة توالي حركات فيما هو كاسم واحد و «تسعة أعشر» جمع عشير كيمين وأيمن ، أي تسعة كل عشير جمع يعني نقيبهم أو جمع عشر فتكون


تسعين.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ)(٣١)

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقون لهم ولا يستروحون إليهم ، ولأنهم أقوى الخلق بأسا وأشدهم غضبا لله. روي أن أبا جهل لما سمع عليها تسع عشر قال لقريش : أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فنزلت. (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر ، فعبر بالأثر عن المؤثر تنبيها على أنه لا ينفك منه وافتتانهم به استقلالهم واستهزاؤهم به واستبعادهم أن يتولى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين ، ولعل المراد الجعل بالقول ليحسن تعليله بقوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) بالإيمان به وبتصديق أهل الكتاب له. (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان ونفي لما يعرض للمتيقن حيثما عراه شبهة. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك أو نفاق ، فيكون إخبارا بمكة عما سيكون في المدينة بعد الهجرة. (وَالْكافِرُونَ) الجازمون في التكذيب. (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل ، وقيل لما استبعدوه حسبوا أنه مثل مضروب. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) جموع خلقه على ما هم عليه. (إِلَّا هُوَ) إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والاطلاع على حقائقها وصفاتها وما يوجب اختصاص كل منها بما يخصه من كم وكيف واعتبار ونسبة. (وَما هِيَ) وما سقر أو عدة الخزنة أو السورة. (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) إلا تذكرة لهم.

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ)(٣٥)

(كَلَّا) ردع لمن أنكرها ، أو إنكار لأن يتذكروا بها. (وَالْقَمَرِ).

واللّيل إذا دبر أي أدبر كقبل بمعنى أقبل ، وقرأ نافع وحمزة ويعقوب وحفص إذا أدبر على المضي.

(وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أضاء.

(إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي لإحدى البلايا الكبر أي البلايا الكبر كثيرة و (سَقَرَ) واحدة منها ، وإنما جمع كبرى على «كبر» إلحاقا لها بفعله تنزيلا للألف منزلة التاء كما ألحقت قاصعاء بقاصعة فجمعت على قواصع ، والجملة جواب القسم أو تعليل ل (كَلَّا) ، والقسم معترض للتأكيد.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)(٣٧)

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ) تمييز أي (لَإِحْدَى الْكُبَرِ) إنذارا أو حال عما دلت عليه الجملة أي كبرت منذرة ، وقرئ بالرفع خبرا ثانيا أو خبرا لمحذوف.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) بدل من (لِلْبَشَرِ) أي نذيرا للمتمكنين من السبق إلى الخير والتخلف عنه ، أو (لِمَنْ شاءَ) خبر ل (أَنْ يَتَقَدَّمَ) فيكون في معنى قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ


فَلْيَكْفُرْ).

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(٤٢)

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) مرهونة عند الله مصدر كالشكيمة أطلقت للمفعول كالرهن ولو كانت صفة لقيل رهين.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم ، وقيل هم الملائكة أو الأطفال.

(فِي جَنَّاتٍ) لا يكتنه وصفها وهي حال من (أَصْحابَ الْيَمِينِ) ، أو ضميرهم في قوله : (يَتَساءَلُونَ).

(عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي يسأل بعضهم بعضا أو يسألون غيرهم عن حالهم كقولك : تداعيناه أي دعوناه وقوله :

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) بجوابه حكاية لما جرى بين المسؤولين والمجرمين أجابوا بها.

(قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ)(٤٧)

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)(٤٨)

(قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) الصلاة الواجبة.

(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ما يجب إعطاؤه ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع.

(وَكُنَّا نَخُوضُ) نشرع في الباطل. (مَعَ الْخائِضِينَ) مع الشارعين فيه.

(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أخره لتعظيمه أي وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة.

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) الموت ومقدماته.

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) لو شفعوا لهم جميعا.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً)(٥٢)

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي معرضين عن التذكرة يعني القرآن ، أو ما يعمه و (مُعْرِضِينَ) حال.

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) شبههم في إعراضهم ونفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة.

(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي أسد فعولة من القسر وهو القهر.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كلامنا بكتاب من السماء فيه من الله إلى فلان اتبع محمدا.

(كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)(٥٦)

(كَلَّا) ردع لهم عن اقتراحهم الآيات. (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف.


(كَلَّا) ردع عن إعراضهم. (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) وأي تذكرة.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) فمن شاء أن يذكره.

(وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ذكرهم أو مشيئتهم كقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى ، وقرأ نافع تذكرون بالتاء وقرئ بهما مشددا. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) حقيق بأن يتقى عقابه. (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) حقيق بأن يغفر لعباده سيما المتقين منهم.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد عليه الصلاة والسلام وكذب به بمكة شرفها الله تعالى».


(٧٥) سورة القيامة

مكية وآيها أربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ)(٣)

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إدخال (لا) النافية على فعل القسم للتأكيد شائع في كلامهم قال امرؤ القيس :

لا وأبيك ابنة العامريّ

لا يدّعي القوم أنّي أفر

وقد مر الكلام فيه في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) وقرأ قنبل لأقسم بغير ألف بعد اللام وكذا روي عن البزي.

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) بالنفس المتقية التي تلوم النفوس المقصرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها ، أو التي تلوم نفسها أبدا وإن اجتهدت في الطاعة أو النفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة أو بالجنس. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة ، إن عملت خيرا قالت كيف لم أزدد وإن عملت شرا قالت يا ليتني كنت قصرت». أو نفس آدم فإنها لم تزل تتلوم على ما خرجت به من الجنة ، وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) يعني الجنس وإسناد الفعل إليه لأن فيهم من يحسب ، أو الذي نزل فيه وهو عدي بن أبي ربيعة سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر القيامة ، فأخبره به فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك. أو يجمع الله هذه العظام. ألن نجمع عظامه بعد تفرقها ، وقرئ «أن لن يجمع» على البناء للمفعول.

(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)(٦)

(بَلى) نجمعها. (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) بجمع سلامياته وضم بعضها إلى بعض كما كانت مع صغرها ولطافتها فكيف بكبار العظام ، أو (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) الذي هو أطرافه فكيف بغيرها ، وهو حال من فاعل الفعل المقدر بعد (بَلى) ، وقرئ بالرفع أي نحن قادرون.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) عطف على (أَيَحْسَبُ) فيجوز أن يكون استفهاما وأن يكون إيجابا لجواز أن يكون الإضراب عن المستفهم وعن الاستفهام. (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) متى يكون يوم القيامة استبعادا له أو استهزاء.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)(١٠)

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) تحير فزعا من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، وقرأ نافع بالفتح وهو لغة ، أو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه ، وقرئ «بلق» من بلق الباب إذا انفتح.

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب ضوؤه وقرئ على البناء للمفعول.


(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) في ذهاب الضوء أو الطلوع من المغرب ، ولا ينافيه الخسوف فإنه مستعار للمحاق ، ولمن حمل ذلك على أمارات الموت أن يفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر والجمع باستتباع الروح الحاسة في الذهاب ، أو بوصوله إلى من كان يقتبس منه نور العقل من سكان القدس ، وتذكير الفعل لتقدمه وتغليب المعطوف.

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي القرار يقوله قول الآيس من وجدانه المتمني ، وقرئ بالكسر وهو المكان.

(كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)(١٣)

(كَلَّا) ردع عن طلب المفر. (لا وَزَرَ) لا ملجأ مستعار من الجبل واشتقاقه من الوزر وهو الثقل.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) إليه وحده استقرار العباد ، أو إلى حكمه استقرار أمرهم ، أو إلى مشيئته موضع قرارهم يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار.

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بما قدم من عمل عمله وبما أخر منه لم يعمله ، أو بما قدم من عمل عمله وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة عمل بها بعده ، أو بما قدم من مال تصدق به وبما أخر فخلفه ، أو بأول عمله وآخره.

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩)

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) حجة بينة على أعمالها لأنه شاهد بها ، وصفها بالبصارة على المجاز ، أو عين بصيرة فلا يحتاج إلى الإنباء.

(وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به جمع معذار وهو العذر ، أو جمع معذرة على غير قياس كالمناكير في المنكر فإن قياسه معاذر وذلك أولى وفيه نظر.

(لا تُحَرِّكْ) يا محمد ، (بِهِ) بالقرآن. (لِسانَكَ) قبل أن يتم وحيه. (لِتَعْجَلَ بِهِ) لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك.

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك. (وَقُرْآنَهُ) وإثبات قراءته في لسانك وهو تعليل للنهي.

(فَإِذا قَرَأْناهُ) بلسان جبريل عليك. (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قراءته وتكرر فيه حتى يرسخ في ذهنك.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) بيان ما أشكل عليك من معانيه ، وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين فكيف بها في غيره ، أو بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات. وقيل الخطاب مع الإنسان المذكور والمعنى أنه يؤتى كتابه فيتلجلج لسانه من سرعة قراءته خوفا ، فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإن علينا بمقتضى الوعد جمع ما فيه من أعمالك وقراءته ، فإذا قرأناه فاتبع قراءته بالإقرار أو التأمل فيه ، ثم إن علينا بيان أمره بالجزاء عليه.

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٢٣)

(كَلَّا) ردع للرسول عن عادة العجلة أو للإنسان عن الاغترار بالعاجل. (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ).

(وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) تعميم للخطاب إشعارا بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال وإن كان الخطاب


للإنسان ، والمراد به الجنس فجمع الضمير للمعنى ويؤيده قراءة ابن كثير وابن عامر والبصريين بالياء فيهما.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) بهية متهللة.

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تراه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه ولذلك قدم المفعول ، وليس هذا في كل الأحوال حتى ينافيه نظرها إلى غيره ، وقيل منتظرة إنعامه ورد بأن الانتظار لا يسند إلى الوجه وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر ، وأن المستعمل بمعناه لا يتعدى بإلى وقول الشاعر :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

بمعنى السؤال فإن الانتظار لا يستعقب العطاء.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) شديدة العبوس والباسل أبلغ من الباسر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه.

(تَظُنُ) تتوقع أربابها. (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) داهية تكسر الفقار.

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ)(٢٧)

(كَلَّا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) إذا بلغت النفس أعالي الصدر وإضمارها من غير ذكر لدلالة الكلام عليها.

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) وقال حاضر وصاحبها من يرقيه مما به من الرقية ، أو قال ملائكة الموت أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة ، أو ملائكة العذاب من الرقي.

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)(٣٠)

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا ومحابها.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) والتوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما ، أو شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) سوقه إلى الله تعالى وحكمه.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى)(٣٣)

(فَلا صَدَّقَ) ما يجب تصديقه ، أو فلا صدق ماله أي فلا زكاه. (وَلا صَلَّى) ما فرض عليه والضمير فيهما للإنسان المذكور في (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ).

(وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) عن الطاعة.

(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يتبختر افتخارا بذلك من المط ، فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط ، أو من المطا وهو الظهر فإنه يلويه.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(٣٥)

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) ويل لك من الولي ، وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في (رَدِفَ لَكُمْ) أو (أَوْلى لَكَ) الهلاك. وقيل أفعل من الويل بعد القلب أدنى من أدون ، أو فعلى من آل يؤول بمعنى عقباك النار.


(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي يتكرر ذلك عليه مرة بعد أخرى.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠)

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) مهملا لا يكلف ولا يجازى ، وهو يتضمن تكرير إنكاره للحشر والدلالة عليه من حيث إن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح ، والتكليف لا يتحقق إلا بالمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة.

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) فقدره فعدله.

(فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ) الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة على ما مر تقريره مرارا ولذلك رتب عليه قوله :

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى).

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه كان إذا قرأها قال سبحانك بلى» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمنا به».


(٧٦) سورة الإنسان

مكية وآيها إحدى وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢)

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) استفهام تقرير وتقريب ولذلك فسر بقد وأصله أهل كقوله : أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم. (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) طائفة محدودة من الزمان الممتد الغير المحدود. (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) بل كان شيئا منسيا غير مذكور بالإنسانية كالعنصر والنطفة ، والجملة حال من (الْإِنْسانِ) أو وصف ل (حِينٌ) بحذف الراجع والمراد بالإنسان الجنس لقوله :

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) أو آدم بين أولا خلقه ثم ذكر خلقه بنيه. (أَمْشاجٍ) أخلاط جمع مشج أو مشج أو مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته ، وجمع النطفة به لأن المراد بها مجموع مني الرجل والمرأة وكل منهما مختلف الأجزاء في الرقة والقوام والخواص ، ولذلك يصير كل جزء منهما مادة عضو. وقيل مفرد كأعشار وأكباش. وقيل ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا اخضرا ، أو أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. (نَبْتَلِيهِ) في موضع الحال أي مبتلين له بمعنى مريدين اختباره أو ناقلين له من حال إلى حال فاستعير له الابتلاء. (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات ، فهو كالمسبب عن الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على الفعل المقيد به ورتب عليه قوله :

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً)(٤)

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات. (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) حالان من الهاء، و (إِمَّا) للتفصيل أو التقسيم أي (هَدَيْناهُ) في حاليه جميعا أو مقسوما إليهما بعضهم (شاكِراً) بالاهتداء والأخذ فيه ، وبعضهم كفور بالإعراض عنه ، أو من (السَّبِيلَ) ووصفه بالشكر والكفر مجاز. وقرئ «أما» بالفتح على حذف الجواب ولعله لم يقل كافرا ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل ، وإشعارا بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا وإنما المؤاخذ به التوغل فيه.

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) بها يقادون. (وَأَغْلالاً) بها يقيدون. (وَسَعِيراً) بها يحرقون ، وتقديم وعيدهم وقد تأخر ذكرهم لأن الإنذار أهم وأنفع ، وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن ، وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر «سلاسلا» للمناسبة.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً)(٦)


(إِنَّ الْأَبْرارَ) جمع بر كأرباب أو بار كأشهاد. (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) من خمر وهي في الأصل القدح تكون فيه. (كانَ مِزاجُها) ما يمزج بها. (كافُوراً) لبرده وعذوبته وطيب عرفه وقيل اسم ماء في الجنة يشبه الكافور في رائحته وبياضه. وقيل يخلق فيها كيفيات الكافور فتكون كالممزوجة به.

(عَيْناً) بدل من (كافُوراً) إن جعل اسم ماء أو من محل (مِنْ كَأْسٍ) على تقدير مضاف ، أي ماء عين أو خمرها أو نصب على الاختصاص أو بفعل يفسره ما بعدها. (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) أي ملتذا بها أو ممزوجا بها ، وقيل الباء مزيدة أو بمعنى من لأن الشرب مبتدأ منها كما هو. (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) يجرونها حيث شاؤوا إجراء سهلا.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)(٨)

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) استئناف ببيان ما رزقوه لأجله كأنه سئل عنه فأجيب بذلك ، وهو أبلغ في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه على نفسه لله تعالى كان أوفى بما أوجبه الله تعالى عليه. (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ) شدائده. (مُسْتَطِيراً) فاشيا منتشرا غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر ، وهو أبلغ من طار ، وفيه إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) حب الله تعالى أو الطعام أو الإطعام. (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) يعني أسراء الكفار فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول «أحسن إليه» ، أو الأسير المؤمن ويدخل فيه المملوك والمسجون ، وفي الحديث «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك».

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)(١٠)

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) على إرادة القول بلسان الحال أو المقال إزاحة لتوهم المن وتوقع المكافأة المنقصة للأجر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا ، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله. (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي شكرا.

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) فلذلك نحسن إليكم أو لا نطلب المكافأة منكم. (يَوْماً) عذاب يوم. (عَبُوساً) تعبس فيه الوجوه أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته. (قَمْطَرِيراً) شديد العبوس كالذي يجمع ما بين عينيه من اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قريطها أو مشتق من القطر والميم مزيدة.

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)(١٢)

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) بدل عبوس الفجار وحزنهم.

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرمات وإيثار الأموال. (جَنَّةً) بستانا يأكلون منه. (وَحَرِيراً) يلبسونه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناس فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما وفضة جارية لهما صوم ثلاث إن برئا ، فشفيا وما معهم شيء ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم مسكين فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام وقف عليهم يتيم فآثروه ، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك ، فنزل جبريل عليه‌السلام بهذه السورة


وقال خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً)(١٤)

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) حال من هم في (جَزاهُمْ) أو صفة ل (جَنَّةً). (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) يحتملهما وأن يكون حالا من المستكن في (مُتَّكِئِينَ) ، والمعنى أنه يمر عليهم فيها هواء معتدل لا حار محم ولا بارد مؤذ ، وقيل الزمهرير القمر في لغة طيئ قال راجزهم :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزّمهرير ما زهر

والمعنى أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس وقمر.

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) حال أو صفة أخرى معطوفة على ما قبلها ، أو عطف على (جَنَّةً) أي وجنة أخرى دانية على أنهم وعدوا جنتين كقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) وقرئت بالرفع على أنها خبر (ظِلالُها) والجملة حال أو صفة. (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) معطوف على ما قبله أو حال من دانية ، وتذليل القطوف أن تجعل سهلة التناول لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا.

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)(١٨)

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) وأباريق بلا عروة. (كانَتْ قَوارِيرَا).

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها ، وقد نون (قَوارِيرَ) من نون «سلاسلا» وابن كثير الأولى لأنها رأس الآية ، وقرئ «قوارير من فضة» على هي «قوارير». (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي قدروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنوه ، أو قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها ، أو قدر الطائفون بها المدلول عليهم بقوله يطاف شرابها على قدر اشتهائهم ، وقرئ «قدروها» أي جعلوا قادرين لها كما شاؤوا من قدر منقولا من قدرت الشيء.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) ما يشبه الزنجبيل في الطعم وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها ، يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، ولذلك حكم بزيادة الباء والمراد به أن ينفي عنها لذع الزنجبيل ويصفها بنقيضه ، وقيل أصله سل سبيلا فسميت به كتأبط شرا لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)(٢٠)

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) دائمون. (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) من صفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر لأنه عام معناه إن بصرك أينما وقع. (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) واسعا ، وفي الحديث «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه» هذا وللعارف أكبر من ذلك وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت ، فيستضيء بأنوار قدس الجبروت.


(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)(٢٢)

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) يعلوهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ ، ونصبه على الحال من هم في عليهم أو (حَسِبْتَهُمْ) ، أو (مُلْكاً) على تقدير مضاف أي وأهل ملك كبير عاليهم ، وقرأ نافع (عالِيَهُمْ) وحمزة بالرفع على أنه خبر (ثِيابُ). وقرأ ابن كثير وأبو بكر (خُضْرٌ) بالجر حملا على (سُندُسٍ) بالمعنى فإنه اسم جنس ، (وَإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع عطفا على (ثِيابُ) ، وقرأهما حفص وحمزة والكسائي بالرفع ، وقرئ (وَإِسْتَبْرَقٌ) بوصل الهمزة والفتح على أنه استفعل من البريق جعل علما لهذا النوع من الثياب. (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) عطف على (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) ولا يخالفه قوله (أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) لإمكان الجمع والمعاقبة والتبعيض ، فإن حلي أهل الجنة تختلف باختلاف أعمالهم ، فلعله تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حليا وأنوارا تتفاوت تفاوت الذهب والفضة ، أو حال من الضمير في (عالِيَهُمْ) بإضمار قد ، وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم وذلك للمخدومين. (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) يريد به نوعا آخر يفوق على النوعين المتقدمين ولذلك أسند سقيه إلى الله عزوجل ، ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية والركون إلى ما سوى الحق ، فيتجرد لمطالعة جماله ملتذا بلقائه باقيا ببقائه ، وهي منتهى درجات الصديقين ولذلك ختم بها ثواب الأبرار.

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) على إضمار القول والإشارة إلى ما عد من ثوابهم. (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) مجازى عليه غير مضيع.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)(٢٤)

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) مفرقا منجما لحكمة اقتضته ، وتكرير الضمير مع أن مزيد لاختصاص التنزيل به.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بتأخير نصرك على كفار مكة وغيرهم. (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه ومن الغالي في الكفر الداعي لك إليه ، وأو للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به والتقسيم باعتبار ما يدعونه إليه ، فإن ترتب النهي على الوصفين مشعر بأنه لهما وذلك يستدعي أن تكون المطاوعة في الإثم والكفر. فإن مطاوعتهما فيما ليس بإثم ولا كفر غير محظور.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)(٢٦)

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وداوم على ذكره أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل يتناول وقتيهما.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) وبعض الليل فصل له تعالى ، ولعل المراد به صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص. (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) وتهجد له طائفة طويلة من الليل.

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً)(٢٨)


(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) أمامهم أو خلف ظهورهم. (يَوْماً ثَقِيلاً) شديدا مستعار من الثقل الباهظ للحامل ، وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) وإذا شئنا أهلكناهم و (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) في الخلقة ، وشدة الأسر يعني النشأة الثانية ولذلك جيء ب (إِذا) أو بدلنا غيرهم ممن يطيع (وَإِذا) لتحقق القدرة وقوة الداعية.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٣١)

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) الإشارة إلى السورة أو الآيات القريبة ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) تقرب إليه بالطاعة.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وما تشاؤون ذلك إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر يشاؤن بالياء. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يستأهل كل أحد. (حَكِيماً) لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بالهداية والتوفيق للطاعة. (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) نصب (الظَّالِمِينَ) بفعل يفسره (أَعَدَّ لَهُمْ) مثل أوعد وكافأ ليطابق الجملة المعطوف عليها ، وقرئ بالرفع على الابتداء.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا».


(٧٧) سورة المرسلات

مكية وآيها خمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً)(٥)

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) أقسام بطوائف من الملائكة أرسلهن الله تعالى بأوامره متتابعة. فعصفن عصف الرياح في امتثال أمره ، ونشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ، ففرقن بين الحق والباطل ، فألقين إلى الأنبياء ذكرا عذرا للمحقين ونذرا للمبطلين ، أو بآيات القرآن المرسلة بكل عرف إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، فعصفن سائر الكتب والأديان بالنسخ ونشرن آثار الهدى والحكم في الشرق والغرب ، وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق فيما بين العالمين. أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن ما سوى الحق ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء ، ففرقن بين الحق بذاته والباطل في نفسه فيرون كل شيء هالكا إلا وجهه ، فألقين ذكرا بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلا ذكر الله تعالى. أو برياح عذاب أرسلن فعصفن ، ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ، ففرقن فألقين ذكرا أي تسببن له ، فإن العاقل إذا شاهد هبوبها وآثارها ذكر الله تعالى وتذكر كمال قدرته ، و (عُرْفاً) إما نقيض النكر وانتصابه على العلة أي أرسلن للإحسان والمعروف ، أو بمعنى المتتابعة من عرف الفرس وانتصابه على الحال.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ)(١٠)

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) مصدران لعذر إذا محا الإساءة وأنذر إذا خوف ، أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإنذار ، أو بمعنى العاذر والمنذر ، ونصبهما على الأولين بالعلية أي (عُذْراً) للمحقين (أَوْ نُذْراً) للمبطلين ، أو البدل من (ذِكْراً) على أن المراد به الوحي أو ما يعم التوحيد والشرك والإيمان والكفر وعلى الثالث بالحالية ، وقرأهما أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص بالتخفيف.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب القسم ومعناه أن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) محقت أو أذهب نورها.

(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) صدعت.

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) كالحب ينسف بالمنسف.


(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ(١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٥)

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) عين لها وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على الأمم بحصوله ، فإنه لا يتعين لهم قبله ، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره ، وقرأ أبو عمرو «وقتت» على الأصل.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي يقال لأي يوم أخرت ، وضرب الأجل للجمع وهو تعظيم لليوم وتعجيب من هوله ، ويجوز أن يكون ثاني مفعولي (أُقِّتَتْ) على أنه بمعنى أعلمت.

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي بذلك ، و (وَيْلٌ) في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلك للمدعو عليه ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرفه أو صفته.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٩)

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) كقوم نوح وعاد وثمود ، وقرئ «نهلك» من هلكه بمعنى أهلكه.

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي (ثُمَ) نحن (نُتْبِعُهُمُ) نظراءهم ككفار مكة ، وقرئ بالجزم عطفا على (نُهْلِكِ) فيكون (الْآخِرِينَ) المتأخرين من المهلكين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم‌السلام.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل. (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) بكل من أجرم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بآيات الله وأنبيائه فليس تكريرا ، وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد ، لأن ال (وَيْلٌ) الأول لعذاب الآخرة وهذا للإهلاك في الدنيا ، مع أن التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢٤)

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) نطفة مذرة ذليلة.

(فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) هو الرحم.

(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى مقدار معلوم من الوقت قدره الله تعالى للولادة.

(فَقَدَرْنا) على ذلك ، أو فقدرناه ويدل عليه قراءة نافع والكسائي بالتشديد. (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) نحن. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢٨)


(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) كافتة اسم لما يكفت أي يضم ويجمع كالضمام والجماع اسم لما يضم ويجمع ، أو مصدر نعت به أو جمع كافت كصائم وصيام ، أو كفت وهو الوعاء أجرى على الأرض باعتبار أقطارها.

(أَحْياءً وَأَمْواتاً) منتصبان على المفعولية وتنكيرهما للتفخيم ، أو لأن أحياء الإنس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات ، أو الحالية من مفعوله المحذوف للعلم به وهو الإنس ، أو بنجعل على المفعولية و (كِفاتاً) حال أو الحالية فيكون المعنى بالأحياء ما ينبت وبالأموات ما لا ينبت.

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا ثوابت طوالا والتنكير للتفخيم ، أو الإشعار بأن فيها ما لم يعرف ولم ير (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) بخلق الأنهار والمنابع فيها.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأمثال هذه النعم.

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١)

(انْطَلِقُوا) أي يقال لهم انطلقوا. (إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من العذاب.

(انْطَلِقُوا) خصوصا وعن يعقوب (انْطَلِقُوا) على الأخبار عن امتثالهم للأمر اضطرارا. (إِلى ظِلٍ) يعني ظل دخان جهنم كقوله تعالى : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ). (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يتشعب لعظمه كما ترى الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب ، وخصوصية الثلاث إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم ، أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الواهمة الحالية في الدماغ والغضبية التي في يمين القلب والشهوية التي في يساره ، ولذلك قيل شعبة تقف فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره.

(لا ظَلِيلٍ) تهكم بهم ورد لما أوهم لفظ الظل. (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) وغير مغن عنهم من حر اللهب شيئا.

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ)(٣٣)

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أي كل شرارة (كَالْقَصْرِ) في عظمها ، ويؤيده أنه قرئ «بشرار» ، وقيل هو جمع قصرة وهي الشجرة الغليظة ، وقرئ «كالقصر» بمعنى القصور كرهن ورهن و «كالقصر» جمع قصرة كحاجة وحوج ، و «كالقصر» جمع قصرة وهي أصل العنق والهاء للشعب.

كأنّه جمالات جمع جمال أو جمالة جمع جمل. (صُفْرٌ) فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر ، وقيل سود لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة ، والأول تشبيه في العظم وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص (جِمالَتٌ) وعن يعقوب جمالات بالضم جمع جمالة ، وقد قرئ بها وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة شبهه بها في امتداده والتفافه.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٣٧)

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أي بما يستحق فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق ، أو بشيء من فرط الدهشة والحيرة وهذا في بعض المواقف ، وقرئ بنصب ال (يَوْمُ) أي هذا الذي ذكر واقع يومئذ.


(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) عطف (فَيَعْتَذِرُونَ) على (يُؤْذَنُ) ليدل على نفي الإذن والاعتذار عقيبه مطلقا ، ولو جعله جوابا لدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن فأوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لا يؤذن لهم فيه.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٤٠)

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المحق والمبطل. (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) تقرير وبيان للفصل.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٤٥)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) عن الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين. (فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ).

(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) مستقرون في أنواع الترفه.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي مقولا لهم ذلك.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في العقيدة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يمحض لهم العذاب المخلد ولخصومهم الثواب المؤبد.

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٤٧)

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) حال من المكذبين أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك ، تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) حيث عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(٥٠)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) أطيعوا واخضعوا أو صلوا أو اركعوا في الصلاة. إذ وي : أنه نزل حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثقيفا بالصلاة فقالوا : لا نجبي أي لا نركع فإنها مسبة. وقيل هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. (لا يَرْكَعُونَ) لا يمتثلون واستدل به على أن الأمر للوجوب وأن الكفار مخاطبون بالفروع.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به وهو معجز في ذاته مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الشريفة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والمرسلات كتب له أنه ليس من المشركين».


(٧٨) سورة النبأ

مكية ، وآيها إحدى وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)(٣)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أصله عما فحذف الألف لما مر ، ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه كأنه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه ، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ، أو يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين عنه استهزاء كقولهم : يتداعونهم ويتراءونهم أي يدعونهم ويرونهم ، أو للناس.

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بيان لشأن المفخم أو صلة (يَتَساءَلُونَ) و (عَمَ) متعلق بمضمر مفسر به ، ويدل عليه قراءة يعقوب : «عمه».

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) بجزم النفي والشك فيه ، أو بالإقرار والإنكار.

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ)(٥)

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع عن التساؤل ووعيد عليه.

(ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) تكرير للمبالغة و (ثُمَ) للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد ، وقيل الأول عند النزع والثاني في القيامة ، أو الأول للبعث والثاني للجزاء. وعن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء على تقدير قل لهم ستعلمون.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً)(٨)

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) تذكير ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه الدالة على كمال قدرته ليستدلوا بذلك على صحة البعث كما مر تقريره مرارا ، وقرئ «مهدا» أي أنها لهم كالمهد للصبي مصدر سمي به ما يمهد لينوم عليه.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ذكرا وأنثى.

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً)(١٣)

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) قطعا عن الإحساس والحركة استراحة للقوى الحيوانية وإزاحة لكلالها ، أو موتا لأنه أحد التوفيين ومنه المسبوت للميت ، وأصله القطع أيضا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به ، أو حياة تنبعثون فيها عن


نومكم.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) سبع سموات أقوياء محكمات لا يؤثر فيها مرور الدهور.

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) متلألئا وقادا من وهجت النار إذا أضاءت ، أو بالغا في الحرارة من الوهج وهو الحر والمراد الشمس.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً)(١٦)

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك : أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض ، أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، أو الرياح ذوات الأعاصير ، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشئ السحاب وتدرأ خلافه ، ويؤيده أنه قرئ «بالمعصرات». (ماءً ثَجَّاجاً) منصبا بكثرة يقال ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث «أفضل الحج العج والثج» أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي ، وقرئ «ثجاجا» و «مثاجج» الماء مصابه.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) ما يقتات به وما يعتلف من التبن والحشيش.

(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) ملتفة بعضها ببعض جمع لف كجذع. قال :

جنّة لف وعيش مغدق

وندامى كلّهم بيض زهر

أو لفيف كشريف أو لف جمع لفاء كخضراء وخضر وأخضار أو متلفة بحذف الزوائد.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)(١٨)

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ) في علم الله تعالى أو في حكمه. (مِيقاتاً) حدا تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده ، أو حدا للخلائق ينتهون إليه.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل أو بيان ليوم الفصل. (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) جماعات من القبور إلى المحشر. روي «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنه فقال : يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون يسحبون على وجوههم ، وبعضهم عمي وبعضهم صم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم فيسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلوبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم» ثم فسرهم بالقتات وأهل السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم ، والعلماء الذين خالف قولهم عملهم ، والمؤذين جيرانهم والساعين بالناس إلى السلطان ، والتابعين للشهوات المانعين حق الله ، والمتكبرين الخيلاء.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً)(٢٠)

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) وشققت وقرأ الكوفيون بالتخفيف. (فَكانَتْ أَبْواباً) فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو فصارت ذات أبواب.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي في الهواء كالهباء. (فَكانَتْ سَراباً) مثل سراب إذ ترى على صورة الجبال ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها وانبثاثها.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)(٢٣).


(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار ، أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها ، كالمضمار فإنه الموضع الذي تضمر فيه الخيل ، أو مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منها واحد كالمطعان ، وقرئ (إِنَ) بالفتح على التعليل لقيام الساعة.

(لِلطَّاغِينَ مَآباً) مرجعا ومأوى.

(لابِثِينَ فِيها) وقرأ حمزة وروح «لبثين» وهو أبلغ. (أَحْقاباً) دهورا متتابعة ، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة ، فليس فيه ما يقتضي تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقابا مترادفة كلما مضى حقب تبعه آخر ، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار ، ولو جعل قوله :

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً)(٢٦)

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) حالا من المستكن في (لابِثِينَ) أو نصب (أَحْقاباً) ب (لا يَذُوقُونَ) احتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا ، ثم يبدلون جنسا آخر من العذاب ، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق ، وحقب العام إذا قل مطره وخيره فيكون حالا بمعنى لابثين فيها حقبين ، وقوله (لا يَذُوقُونَ) تفسير له والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار ، أو النوم وبالغساق ما يغسق أي يسيل من صديدهم ، وقيل الزمهرير وهو مستثنى من البرد إلا أنه أخر ليتوافق رؤوس الآي ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد.

(جَزاءً وِفاقاً) أي جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم ، أو موافقا لها أو وافقها وفاقا ، وقرئ «وفاقا» فعال من وفقه كذا.

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً)(٢٨)

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) بيان لما وافقه هذا الجزاء.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) تكذيبا وفعال بمعنى تفعيل مطرد شائع في كلام الفصحاء. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى الكذب كقوله :

فصدقتها وكذبتها

والمرء ينفعه كذّابه

وإنما أقيم مقام التكذيب للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم ، أو المكاذبة فإنهم كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون كاذبين عندهم فكأن بينهم مكاذبة ، أو كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه ، وعلى المعنيين يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين ، ويؤيده أنه قرئ «كذابا» وهو جمع كاذب ، ويجوز أن يكون للمبالغة فيكون صفة للمصدر أي تكذيبا مفرطا كذبه.

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً) (٣٠)

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) وقرئ بالرفع على الابتداء. (كِتاباً) مصدر لأحصيناه فإن الإحصاء والكتبة يتشاركان في معنى الضبط أو لفعله المقدر أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح ، أو صحف الحفظة والجملة اعتراض وقوله :

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ومجيئه على طريقة الالتفات للمبالغة. وفي الحديث «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار».


(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً)(٣٥)

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) فوزا أو موضع فوز.

(حَدائِقَ وَأَعْناباً) بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من (مَفازاً) بدل الاشتمال أو البعض.

(وَكَواعِبَ) نساء فلكت ثديهن (أَتْراباً) لدات. (وَكَأْساً دِهاقاً) ملآنا وأدهق الحوض ملأه.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) وقرأ الكسائي بالتخفيف أي كذبا أو مكاذبة ، إذ لا يكذب بعضهم بعضا.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)(٣٧)

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ). بمقتضى وعده. (عَطاءً) تفضلا منه إذ لا يجب عليه شيء ، وهو بدل من (جَزاءً) ، وقيل منتصب به نصب المفعول به. (حِساباً) كافيا من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي ، أو على حسب أعمالهم وقرئ «حسابا» أي محسبا كالدرّاك بمعنى المدرك.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) بدل من ربك وقد رفعه الحجازيان وأبو عمرو على الابتداء. (الرَّحْمنِ) بالجر صفة له وكذا في قراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب وبالرفع في قراءة أبي عمرو ، وفي قراءة حمزة والكسائي بجر الأول ورفع الثاني على أنه خبر محذوف ، أو مبتدأ خبره : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) والواو لأهل السموات والأرض أي لا يملكون خطابه ، والاعتراض عليه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له على الإطلاق فلا يستحقون عليه اعتراضا وذلك لا ينافي الشفاعة بإذنه.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً)(٣٩)

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) تقرير وتوكيد لقوله (لا يَمْلِكُونَ) ، فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صوابا كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه ، فكيف يملكه غيرهم و (يَوْمَ) ظرف ل (لا يَمْلِكُونَ) ، أو ل (يَتَكَلَّمُونَ) و (الرُّوحُ) ملك موكل على الأرواح أو جنسها ، أو جبريل أو خلق أعظم من الملائكة.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الكائن لا محالة. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) إلى ثوابه. (مَآباً) بالإيمان والطاعة.

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠)

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني عذاب الآخرة ، وقربه لتحققه فإن كل ما هو آت قريب ولأن مبدأه الموت. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) يرى ما قدمه من خير أو شر ، و (الْمَرْءُ) عام. وقيل هو الكافر لقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) فيكون الكافر ظاهرا وضع موضع الضمير لزيادة الذم ، و (ما) موصولة منصوبة بينظر أو استفهامية منصوبة ب (قَدَّمَتْ) ، أي ينظر أي شيء قدمت يداه. (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف ، أو في هذا اليوم فلم أبعث ، وقيل يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثم ترد ترابا فيود الكافر حالها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة عم سقاه الله برد الشراب يوم القيامة».


(٧٩) سورة النازعات

مكية وآيها خمس أو ست وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً)(٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(٥)

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) هذه صفات ملائكة الموت فإنهم ينزعون أرواح الكفار من أبدانهم غرقا أي إغراقا في النزع ، فإنهم ينزعونها من أقاصي الأبدان ، أو نفوسا غرقة في الأجساد وينشطون أي يخرجون أرواح المؤمنين برفق من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، ويسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج الشيء من أعماق البحر ، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات ، أو الأوليان لهم والباقيات لطوائف من الملائكة يسبحون في مضيها أي يسرعون فيه فيسبقون إلى ما أمروا به فيدبرون أمره ، أو صفات النجوم فإنها تنزع من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع بأن تقطع الفلك حتى تنحط في أقصى الغرب ، وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من بلد إلى بلد ، ويسبحن في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فيدبر أمرا أنيط بها ، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات ، ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية وحركاتها من برج إلى برج ملائمة سمى الأولى نزعا والثانية نشطا ، أو صفات النفوس الفاضلة حال المفارقة فإنها تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من إغراق النازع في القوس ، وتنشط إلى عالم الملكوت وتسبح فيها فتسبق إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات ، أو حال سلوكها فإنها تنزع عن الشهوات فتنشط إلى عالم القدس ، فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات ، أو صفات أنفس الغزاة ، أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وينشطون بالسهم للرمي ويسبحون في البر والبحر فيسبقون إلى حرب العدو فيدبرون أمرها ، أو صفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر ، وتسبح في حربها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر.

أقسم الله تعالى بها على قيام الساعة وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ)(٩)

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) وهو منصوب به والمراد ب (الرَّاجِفَةُ) الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أو الواقعة التي ترجف الأجرام عندها وهي النفخة الأولى.

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) التابعة وهي السماء والكواكب تنشق وتنتشر ، أو النفخة الثانية. والجملة في موقع الحال.


(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) شديدة الاضطراب من الوجيف وهي صفة القلوب والخبر :

(أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أصحابها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إلى القلوب.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ)(١٢)

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) في الحالة الأولى يعنون الحياة بعد الموت من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقه التي جاء فيها ، فحفرها أي أثر فيها بمشيه على النسبة كقوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أو تشبيه القابل بالفاعل وقرئ «في الحفرة» بمعنى المحفورة يقال حفرت أسنانه فحفرت حفرا وهي حفرة.

(أَإِذا كُنَّا) وقرأ نافع وابن عامر والكسائي (إِذا كُنَّا) على الخبر. عظاما ناخرة بالية وقرأ الحجازيان والشامي وحفص وروح (نَخِرَةً) وهي أبلغ.

(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) ذات خسران أو خاسر أصحابها ، والمعنى أنها إن صحت فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها وهو استهزاء منهم.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)(١٤)

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) متعلق بمحذوف أي لا يستصعبوها فما هي إلا صيحة واحدة يعني النفخة الثانية.

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها ، والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم : عين ساهرة للتي يجري ماؤها وفي ضدها نائمة ، أو لأن سالكها يسهر خوفا وقيل اسم لجهنم.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى(١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)(١٩)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) أليس قد أتاك حديثه فيسليك على تكذيب قومك وتهددهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم.

(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) قد مر بيانه في سورة «طه».

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) على إرادة القول ، وقرئ «أن أذهب» لما في النداء من معنى القول.

(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) هل لك ميل إلى أن تتطهر من الكفر والطغيان ، وقرأ الحجازيان ويعقوب (تَزَكَّى) بالتشديد.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) وأرشدك إلى معرفته. (فَتَخْشى) بأداء الواجبات وترك المحرمات ، إذ الخشية إنما تكون بعد المعرفة وهذا كالتفصيل لقوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً).

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى)(٢٢)

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي فذهب وبلغ فأراه المعجزة الكبرى وهي قلب العصا حية فإنه كان المقدم والأصل ، أو مجموع معجزاته فإنها باعتبار دلالتها كالآية الواحدة.

(فَكَذَّبَ وَعَصى) فكذب موسى وعصى الله عزوجل بعد ظهور الآية وتحقق الأمر.


(ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الطاعة. (يَسْعى) ساعيا في إبطال أمره أو أدبر بعد ما رأى الثعبان مرعوبا مسرعا في مشيه.

(فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)(٢٦)

(فَحَشَرَ) فجمع السحرة أو جنوده. (فَنادى) في المجمع بنفسه أو بمناد.

(فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أعلى كل من يلي أمركم.

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أخذا منكلا لمن رآه ، أو سمعه في الآخرة بالإحراق وفي الدنيا بالإغراق ، أو على كلمته (الْآخِرَةِ) وهي هذه وكلمته الأولى وهو قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أو للتنكيل فيهما ، أو لهما ، ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا مقدرا بفعله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) لمن كان من شأنه الخشية.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها)(٢٩)

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أصعب خلقا. (أَمِ السَّماءُ) ثم بين كيف خلقها فقال : (بَناها) ثم بين البناء فقال :

(رَفَعَ سَمْكَها) أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو ثخنها الذاهب في العلو رفيعا. (فَسَوَّاها) فعدلها أو فجعلها مستوية ، أو فتممها بما يتم به كمالها من الكواكب والتداوير وغيرها من قولهم : سوى فلان أمره إذا أصلحه.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أظلمه منقول من غطش الليل إذا أظلم ، وإنما أضافه إليها لأنه يحدث بحركتها. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) وأبرز ضوء شمسها. كقوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) يريد النهار.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)(٣٣)

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) بسطها ومهدها للسكنى.

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) بتفجير العيون. (مَرْعاها) ورعيها وهو في الأصل لموضع الرعي ، وتجريد الجملة عن العاطف لأنها حال بإضمار قد أو بيان للدحو.

(وَالْجِبالَ أَرْساها) أثبتها وقرئ «والأرض» و «الجبال» بالرفع على الابتداء ، وهو مرجوح لأن العطف على فعلية.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) تمتيعا لكم ولمواشيكم.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى)(٣٩)

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ) الداهية التي تطم أي تعلو على سائر الدواهي. (الْكُبْرى) التي هي أكبر الطامات وهي القيامة ، أو النفخة الثانية أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) بأن يراه مدونا في صحيفته وكان قد نسيه من فرط الغفلة أو طول المدة ،


وهو بدل من «إذا جاءت» و (ما) موصولة أو مصدرية (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) وأظهرت. (لِمَنْ يَرى) لكل راء بحيث لا تخفى على أحد ، وقرئ «وبرزت» و «لمن رأى» و «لمن ترى» على أن فيه ضمير الجحيم كقوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). أو أنه خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لمن تراه من الكفار ، وجواب (فَإِذا جاءَتِ) محذوف دل عليه (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) أو ما بعده من التفصيل.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) حتى كفر.

(وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) فانهمك فيها ولم يستعد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس.

(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) هي مأواه واللام فيه سادة مسد الإضافة للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي ، وهي فصل أو مبتدأ.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٤١)

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) مقامه بين يدي ربه لعلمه بالمبدأ والمعاد.

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) لعلمه بأنه مرد.

(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ليس له سواها مأوى.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها)(٤٤)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) متى إرساؤها أي إقامتها وإثباتها ، أو منتهاها ومستقرها من مرسى السفينة وهو حيث تنتهي إليه وتستقر فيه.

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) في أي شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم أي ما أنت من ذكرها لهم ، وتبيين وقتها في شيء فإن ذكرها لا يزيدهم إلا غيا. ووقتها مما استأثره الله تعالى بعلمه. وقيل (فِيمَ) إنكار لسؤالهم و (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) مستأنف ، ومعناه أنت ذكر من ذكرها أي علامة من أشراطها ، فإن إرساله خاتما للأنبياء أمارة من أماراتها ، وقيل إنه متصل بسؤالهم والجواب.

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي منتهى علمها.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٤٦)

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) إنما بعثت لإنذار من يخاف هولها ، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى لأنه المنتفع به ، وعن أبي عمرو ومنذر بالتنوين والإعمال على الأصل لأنه بمعنى الحال.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا أو في القبور. (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي عشية يوم أو ضحاه كقوله (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) ولذلك أضاف الضحى إلى ال (عَشِيَّةً) لأنهما من يوم واحد.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة النازعات كان ممن حبسه الله في القيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة».


(٨٠) سورة عبس

مكية وآيها ثنتان وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى)(٤)

(عَبَسَ وَتَوَلَّى). (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) روي : أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام ، فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرمه ويقول إذا رآه : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، واستخلفه على المدينة مرتين. وقرئ «عبّس» بالتشديد للمبالغة و (أَنْ جاءَهُ) علة ل (تَوَلَّى) ، أو (عَبَسَ) على اختلاف المذهبين ، وقرئ «ءاأن» بهمزتين وبألف بينهما بمعنى ألئن جاءه الأعمى فعل ذلك ، وذكر الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقوم والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق ، أو لزيادة الإنكار كأنه قال : تولى لكونه أعمى كالالتفات في قوله :

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي : وأي شيء يجعلك داريا بحاله لعله يتطهر من الآثام بما يتلقف منك.

وفيه إيماء بأن إعراضه كان لتزكية غيره.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أو يتعظ فتنفعه موعظتك ، وقيل الضمير في (لَعَلَّهُ) للكافر أي أنك طمعت في تزكيه بالإسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره ، فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن ، وقرأ عاصم فتنفعه بالنصب جوابا للعل.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى)(٧)

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) تتعرض له بالإقبال عليه وأصله تتصدى ، وقرأ ابن كثير ونافع (تَصَدَّى) بالإدغام وقرئ. (تَصَدَّى) أي تعرض وتدعى إلى التصدي.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ).

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)(١٠)

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) يسرع طالبا للخير.

(وَهُوَ يَخْشى) الله أو أذية الكفار في إتيانك ، أو كبوة الطريق لأنه أعمى لا قائد له.

(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) تتشاغل ، يقال لها عنه والتهى و (تَلَهَّى) ، ولعل ذكر التصدي والتلهي للإشعار بأن العتاب على اهتمام قلبه بالغني وتلهيه عن الفقير ، ومثله لا ينبغي له ذلك.

(كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)


كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)

(كَلَّا) ردع عن المعاتب عليه أو عن معاودة مثله. (إِنَّها تَذْكِرَةٌ).

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) حفظه أو اتعظ به والضميران للقرآن ، أو العتاب المذكور وتأنيث الأول لتأنيث خبره.

(فِي صُحُفٍ) مثبتة فيها صفة لتذكرة ، أو خبر ثان أو خبر لمحذوف. (مُكَرَّمَةٍ) عند الله.

(مَرْفُوعَةٍ) القدر. (مُطَهَّرَةٍ) منزهة عن أيدي الشياطين :

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) كتبة من الملائكة أو الأنبياء ينتسخون الكتب من اللوح أو الوحي ، أو سفراء يسفرون بالوحي بين الله تعالى ورسله ، أو الأمة جمع سافر من السفر ، أو السفارة والتركيب للكشف يقال سفرت المرأة إذا كشفت وجهها.

(كِرامٍ) أعزاء على الله أو متعطفين على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرون لهم. (بَرَرَةٍ) أتقياء.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)(١٩)

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) دعاه عليه بأشنع الدعوات وتعجب من إفراطه في الكفران ، وهو مع قصره يدل على سخط عظيم وذم بليغ.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بيان لما أنعم عليه خصوصا من مبدأ حدوثه ، والاستفهام للتحقير ولذلك أجاب عنه بقوله :

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) فهيأه لما يصلح له من الأعضاء والأشكال ، أو (فَقَدَّرَهُ) أطوارا إلى أن تم خلقته.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ)(٢٢)

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) ثم سهل مخرجه من بطن أمه بأن فتح فوهة الرحم وألهمه أن ينتكس ، أو ذلل له سبيل الخير والشر ونصب السبيل بفعل يفسره الظاهر للمبالغة في التيسير ، وتعريفه باللام دون الإضافة للإشعار بأنه سبيل عام ، وفيه على المعنى الأخير إيماء بأن الدنيا طريق والمقصد غيرها ولذلك عقبه بقوله :

(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) وعد الإماتة والإقبار في النعم لأن الإماتة وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية واللذات الخالصة والأمر بالقبر تكرمة وصيانة عن السباع ، وفي (إِذا شاءَ) إشعار بأن وقت النشور غير متعين في نفسه ، وإنما هو موكول إلى مشيئته تعالى.

(كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا)(٢٥)

(كَلَّا) ردع للإنسان بما هو عليه. (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) لم يقض بعد من لدن آدم إلى هذه الغاية ما أمره الله بأسره ، إذ لا يخلو أحد من تقصير ما.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) إتباع للنعم الذاتية بالنعم الخارجية.

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) استئناف مبين لكيفية إحداث الطعام ، وقرأ الكوفيون بالفتح على البدل منه بدل الاشتمال.

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً)(٢٨).


(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي بالنبات أو بالكراب ، وأسند الشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب.

(فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالحنطة والشعير.

(وَعِنَباً وَقَضْباً) يعني الرطبة سميت بمصدر قضبه إذا قطعه لأنها تقضب مرة بعد أخرى.

(وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)(٣٢)

(وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً) عظاما وصف به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها ، أو لأنها ذات أشجار غلاظ مستعار من وصف الرقاب.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا) ومرعى من أب إذا أم لأنه يؤم وينتجع ، أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيئ للرعي ، أو فاكهة يابسة تؤوب للشتاء.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) فإن الأنواع المذكورة بعضها طعام وبعضها علف.

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(٣٧)

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي النفخة وصفت بها مجازا لأن الناس يصخون لها.

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) لاشتغاله بشأنه وعلمه بأنهم لا ينفعونه ، أو للحذر من مطالبتهم بما قصر في حقهم وتأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل : يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) يكفيه في الاهتمام به ، وقرئ «يعنيه» أي يهمه.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ(٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٤٢)

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) مضيئة من إسفار الصبح.

(ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) لما ترى من النعيم.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) غبار وكدورة.

(تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) يغشاها سواد وظلمة.

(أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) الذين جمعوا إلى الكفر الفجور ، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر».


(٨١) سورة التكوير

مكية وآيها تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ)(٣)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) لفت من كورت العمامة إذا لففتها بمعنى رفعت لأن الثوب إذا أريد رفعه لف ، أو لف ضوؤها فذهب انبساطه في الآفاق وزال أثره ، أو ألقيت عن فلكها من طعنه فكوره إذا ألقاه مجتمعا والتركيب للإدارة والجمع وارتفاع الشمس بفعل يفسره ما بعدها أولى لأن إذا الشرطية تطلب الفعل.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) انقضت قال : أبصر خربان فضاء فانكدر. أو أظلمت من كدرت الماء فانكدر.

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) عن وجه الأرض أو في الجو.

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)(٧)

(وَإِذَا الْعِشارُ) النوق اللواتي أتى على حملهن عشرة أشهر جمع عشراء. (عُطِّلَتْ) تركت مهملة ، أو السحائب عطلت عن المطر ، وقرئ بالتخفيف.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) جمعت من كل جانب أو بعثت للقصاص ثم ردت ترابا ، أو أميتت من قولهم إذا أجحفت السنة بالناس حشرتهم ، وقرئ بالتشديد.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أحميت أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا ، من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وروح بالتخفيف.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قرنت بالأبدان أو كل منها بشكلها ، أو بكتابها وعملها أو نفوس المؤمنين بالحور ونفوس الكافرين بالشياطين.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)(١٠)

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) المدفونة حية وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق ، أو لحوق العار بهم من أجلهن.

(سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) تبكيتا لوائدها كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وقرئ «سألت» أي خاصمت عن نفسها وسألت ، وإنما قيل (قُتِلَتْ) على الإخبار عنها وقرئ «قتلت» على الحكاية.

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) يعني صحف الأعمال فإنها تطوى عند الموت وتنشر وقت الحساب. وقيل (نُشِرَتْ) فرقت بين أصحابها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالتشديد للمبالغة في النشر ، أو


لكثرة الصحف أو شدة التطاير.

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(١٤)

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، وقرئ «قشطت» واعتقاب القاف والكاف كثير.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أوقدت إيقادا شديدا وقرأ نافع وابن عامر وحفص ورويس بالتشديد.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قربت من المؤمنين. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) جواب (إِذَا) وإنما صح والمذكور في سياقها اثنتا عشرة خصلة ست منها في مبادئ قيام الساعة قبل فناء الدنيا وست بعده ، لأن المراد زمان متسع شامل لها ولمجازاة النفوس على أعمالها ، و (نَفْسٌ) في معنى العموم كقولهم تمرة خير من جرادة.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ)(١٨)

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) بالكواكب الرواجع من خنس إذا تأخر ، وهي ما سوى النيرين من الكواكب السيارات ولذلك وصفها بقوله :

(الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش إذا دخل كناسه ، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أقبل ظلامه أو أدبر وهو من الأضداد يقال عسعس الليل وسعسع إذا أدبر.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي أضاء غبرته عند إقبال روح ونسيم.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)(٢٢)

(إِنَّهُ) أي القرآن. (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني جبريل فإنه قاله عن الله تعالى.

(ذِي قُوَّةٍ) كقوله شديد القوى. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) عند الله ذي مكانة.

(مُطاعٍ) في ملائكته. (ثَمَّ أَمِينٍ) على الوحي ، وثم يحتمل اتصاله بما قبله وما بعده ، وقرئ «ثم» تعظيما للأمانة وتفضيلا لها على سائر الصفات.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) كما تبهته الكفرة واستدل بذلك على فضل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام حيث عد فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ضعيف إذ المقصود منه نفي قولهم (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما.

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)(٢٥)

(وَلَقَدْ رَآهُ) ولقد رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام. (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) بمطلع الشمس الأعلى.

(وَما هُوَ) وما محمد عليه الصلاة والسلام. (عَلَى الْغَيْبِ) على ما يخبره من الموحى إليه وغيره من الغيوب. بظنين بمتهم من الظنة ، وهي التهمة ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر (بِضَنِينٍ) بالضاد من


الضن وهو البخل أي لا يبخل بالتبليغ والتعليم ، والضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ، والظاء من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) بقول بعض المسترقة للسمع ، وهو نفي لقولهم إنه لكهانة وسحر.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، كقولك لتارك الجادة : أين تذهب.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) تذكير لمن يعلم.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير.

(وَما تَشاؤُنَ) الاستقامة يا من يشاؤها. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم فله الفضل والحق عليكم باستقامتكم. (رَبُّ الْعالَمِينَ) مالك الخلق كله.

قال عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حين تنتشر صحيفته».


(٨٢) سورة الانفطار

مكية وآيها تسع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)(٤)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انشقت.

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تساقطت متفرقة.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) فتح بعضها إلى بعض فصار الكل بحرا واحدا.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) قلب ترابها وأخرج موتاها. وقيل إنه مركب من بعث وراء الإثارة كبسمل ونظيره بحثر لفظا ومعنى.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)(٦)

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) من عمل أو صدقة. (وَأَخَّرَتْ) من سيئة أو تركة ، ويجوز أن يراد بالتأخير التضييع وهو جواب (إِذَا).

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه ، وذكر (الْكَرِيمِ) للمبالغة في المنع عن الاغترار فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي ، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام والإشعار بما به يغره الشيطان ، فإنه يقول له افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحدا ولا يعاجل بالعقوبة ، والدلالة على أن كثرة كرمه تستدعي الجد في طاعته لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه.

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(٨)

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم منبهة على أن من قدر على ذلك أولا قدر عليه ثانيا ، والتسوية جعل الأعضاء سليمة مسواة معدة لمنافعها ، والتعديل جعل البنية معتدلة متناسبة الأعضاء ، أو معدلة بما تسعدها من القوى. وقرأ الكوفيون (فَعَدَلَكَ) بالتخفيف أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت ، أو فصرفك عن خلقه غيرك وميزك بخلقة فارقت خلقة سائر الحيوان.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركبك في أي صورة شاءها ، و (ما) مزيدة وقيل شرطية ، و (رَكَّبَكَ) جوابها والظرف صلة (فَعَدَلَكَ) ، وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك.

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

(كَلَّا) ردع عن الاغترار بكرم الله وقوله : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم ، والمراد (بِالدِّينِ) الجزاء أو الإسلام.


(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) تحقيق لما يكذبون به ورد لما يتوقعون من التسامح والإهمال ، وتعظيم الكتبة بكونهم كراما عند الله لتعظيم الجزاء.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ)(١٦)

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) بيان لما يكتبون لأجله.

(يَصْلَوْنَها) يقاسون حرها. (يَوْمَ الدِّينِ).

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ). لخلودهم فيها. وقيل معناه وما يغيبون عنها قبل ذلك إذ كانوا يجدون سمومها في القبور.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تعجيب وتفخيم لشأن ال (يَوْمُ) ، أي كنه أمره بحيث لا تدركه دراية دار.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) تقرير لشدة هوله وفخامة أمره إجمالا ، ورفع ابن كثير والبصريان (يَوْمَ) على البدل من (يَوْمُ الدِّينِ) ، أو الخبر المحذوف.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة ، وبعدد كل قبر حسنة». والله أعلم.


(٨٣) سورة المطففين

مختلف فيها وآيها ست وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(٣)

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف البخس في الكيل والوزن لأن ما يبخس طفيف أي حقير. روي أن أهل المدينة كانوا أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوه ، وفي الحديث «خمس بخمس : ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر».

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي إذا اكتالوا من الناس حقوقهم يأخذونها وافية ، وإنما أبدل (عَلَى) بمن للدلالة على أن اكتيالهم لما لهم على الناس ، أو اكتيال يتحامل فيه عليهم.

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي إذا كالوا الناس أو وزنوا لهم. (يُخْسِرُونَ) فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله : ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا. بمعنى جنيت لك ، أو كالوا مكيلهم فحذف المضاف وأقيم المضاف مقامه ، ولا يحسن جعل المنفصل تأكيدا للمتصل فإنه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع ، لا في المباشرة وعدمها ويستدعي إثبات الألف بعد الواو كما هو خط المصحف في نظائره.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦)

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فإن من ظن ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح ، فكيف بمن تيقنه وفيه انكار وتعجيب من حالهم.

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) عظمه لعظم ما يكون فيه (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) نصب بمبعوثون أو بدل من الجار والمجرور ويؤيده القراءة بالجر (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لحكمه.

وفي هذا الإنكار والتعجيب وذكر الظن ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس فيه لله ، والتعبير عنه برب العالمين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ)(٩)

(كَلَّا) ردع عن التطفيف والغفلة عن البعث والحساب. (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم. (لَفِي سِجِّينٍ) كتاب جامع لأعمال الفجرة من الثقلين كما قال :

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسطور بين الكتابة أو معلم بعلم من رآه أنه لا خير فيه ،


فعيل من السجن لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس ، أو لأنه مطروح كما قيل : تحت الأرضين في مكان وحش ، وقيل هو اسم مكان والتقدير ما كتاب السجين ، أو محل كتاب مرقوم فحذف المضاف.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(١٣)

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالحق أو بذلك.

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) صفة مخصصة أو موضحة أو ذامة.

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) متجاوز عن النظر غال في التقليد حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه فاستحال منه الإعادة. (أَثِيمٍ) منهمك في الشهوات المخدجة بحيث أشغلته عما وراءها وحملته على الإنكار لما عداها.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) من فرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لم تنفعه دلائل العقل.

(كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(١٧)

(كَلَّا) ردع عن هذا القول. (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) رد لما قالوه وبيان لما أدى بهم إلى هذا القول ، بأن غلب عليهم حب المعاصي بالانهماك فيها حتى صار ذلك صدأ على قلوبهم فعمى عليهم معرفة الحق والباطل ،. فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات كما قال عليه الصلاة والسلام «إن العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه» والرين الصدأ ، وقرأ حفص (بَلْ رانَ) بإظهار اللام.

(كَلَّا) ردع عن الكسب الرائن. (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فلا يرونه بخلاف المؤمنين ومن أنكر الرؤية جعله تمثيلا لإهانتهم بإهانة من يمنع عن الدخول على الملوك ، أو قدر مضافا مثل رحمة ربهم ، أو قرب ربهم.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) ليدخلون النار ويصلون بها.

(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) تقوله لهم الزبانية.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ)(٢٣)

(كَلَّا) تكرير ليعقب بوعد الأبرار كما عقب الأول بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف فجور والإيفاء بر ، أو ردع عن التكذيب. (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ).

(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ) الكلام فيه ما مر في نظيره.

(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يحضرونه فيحفظونه ، أو يشهدون على ما فيه يوم القيامة.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ) على الأسرّة في الحجال. (يَنْظُرُونَ) إلى ما يسرهم من النعم والمتفرجات.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ


الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(٢٨)

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجة التنعم وبريقه ، وقرأ يعقوب (تَعْرِفُ) على البناء للمفعول و (نَضْرَةَ) بالرفع.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) شراب خالص. (مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ) أي مختوم أوانيه بالمسك مكان الطين ، ولعله تمثيل لنفاسته ، أو الذي له ختام أي مقطع هو رائحة المسك ، وقرأ الكسائي «خاتمه» بفتح التاء أي ما يختم به ويقطع. (وَفِي ذلِكَ) يعني الرحيق أو النعيم. (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرتغب المرتغبون.

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) علم لعين بعينها سميت تسنيما لارتفاع مكانها أو رفعة شرابها.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فإنهم يشربونها صرفا لأنهم لم يشتغلوا بغير الله ، وتمزج لسائر أهل الجنة وانتصاب (عَيْناً) على المدح أو الحال (مِنْ تَسْنِيمٍ) والكلام في الباء كما في (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ).

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ)(٣٣)

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) يعني رؤساء قريش. (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) كانوا يستهزئون بفقراء المؤمنين.

(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم.

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا) فاكهين متلذذين بالسخرية منهم ، وقرأ حفص (فَكِهِينَ).

(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال.

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ) على المؤمنين. (حافِظِينَ) يحفظون عليهم أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٣٦)

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) حين يرونهم أذلاء مغلوبين في النار. وقيل يفتح لهم باب إلى الجنة فيقال لهم اخرجوا إليها ، فإذا وصلوا أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) حال من (يَضْحَكُونَ).

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) أي هل أثيبوا. (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) وقرأ حمزة والكسائي بإدغام اللام في الثاء.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة».


(٨٤) سورة الانشقاق

مكية وآيها خمس وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ)(٤) (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ)(٥)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) بالغمام كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) وعن علي رضي الله تعالى عنه : تنشق من المجرة.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) واستمعت له أي انقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي يأذن للآمر ويذعن له. (وَحُقَّتْ) وجعلت حقيقة بالاستماع والانقياد يقال : حق بكذا فهو محقوق وحقيق.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) بسطت بأن تزال جبالها وآكامها.

(وَأَلْقَتْ ما فِيها) ما في جوفها من الكنوز والأموات (وَتَخَلَّتْ) وتكلفت في الخلو أقصى جهدها حتى لم يبق شيء في باطنها.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في الإلقاء والتخلي. (وَحُقَّتْ) للإذن وتكرير (إِذَا) لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة ، وجوابه محذوف للتهويل بالإبهام أو الاكتفاء بما مر في سورتي «التكوير» و «الانفطار» أو لدلالة قوله.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً)(٩)

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) عليه وتقديره لاقى الإنسان كدحه أي جهدا يؤثر فيه من كدحه إذا خدشه ، أو (فَمُلاقِيهِ) و (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) اعتراض ، والكدح إليه السعي إلى لقاء جزائه.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) سهلا لا يناقش فيه.

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) إلى عشيرته المؤمنين ، أو فريق المؤمنين ، أو (أَهْلِهِ) في الجنة من الحور.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً)(١٢)

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) أي يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. قيل تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره.


(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) يتمنى الثبور ويقول يا ثبوراه وهو الهلاك.

(وَيَصْلى سَعِيراً) وقرأ الحجازيان والشامي (وَيَصْلى) لقوله : (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) وقرئ «ويصلى» لقوله : ونصليه جهنم.

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً)(١٥)

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) أي في الدنيا. (مَسْرُوراً) بطرا بالمال والجاه فارغا عن الآخرة.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) لن يرجع إلى الله تعالى.

(بَلى) إيجاب لما بعد (لَنْ). (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) عالما بأعماله فلا يهمله بل يرجعه ويجازيه.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)(١٩)

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) الحمرة التي ترى في أفق المغرب بعد الغروب. وعن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى : أنه البياض الذي يليها ، سمي به لرقته من الشفقة.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) وما جمعه وستره من الدواب وغيرها يقال : وسقه فاتسق واستوسق ، قال : مستوسقات لو يجدن سائقا. أو طرده إلى أماكنه من الوسيقة.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) اجتمع وتم بدرا.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال مطابقة لأختها في الشدة ، وهو لما طابق غيره فقيل للحال المطابقة ، أو مراتب من الشدة بعد المراتب هي الموت ومواطن القيامة وأهوالها ، أو هي وما قبلها من الدواهي على أنه جمع طبقة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لَتَرْكَبُنَ) بالفتح على خطاب الإنسان باعتبار اللفظ ، أو الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى (لَتَرْكَبُنَ) حالا شريفة ومرتبة عالية بعد حال ومرتبة ، أو (طَبَقاً) من أطباق السماء بعد طبق ليلة المعراج وبالكسر على خطاب النفس ، وبالياء على الغيبة و (عَنْ طَبَقٍ) صفة ل (طَبَقاً) أو حال من الضمير بمعنى مجاوز ال (طَبَقٍ) أو مجاوزين له.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ)(٢١)

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بيوم القيامة.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يخضعون أو (لا يَسْجُدُونَ) لتلاوته. لما روي : أنه عليه الصلاة والسلام قرأ (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فسجد بمن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤوسهم فنزلت. واحتج به أبو حنيفة على وجوب السجود فإنه ذم لمن سمعه ولم يسجد. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سجد فيها وقال : والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد فيها.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢٥)

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي بالقرآن.


(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) بما يضمرون في صدورهم من الكفر والعداوة.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) استهزاء بهم.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء منقطع أو متصل ، والمراد من تاب وآمن منهم. (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) مقطوع أو (مَمْنُونٍ) به عليهم.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الانشقاق أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره».


(٨٥) سورة البروج

مكية وآيها ثنتان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)(٣)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) يعني البروج الاثني عشر شبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارات وتكون فيها الثوابت ، أو منازل القمر أو عظام الكواكب سميت بروجا لظهورها ، أو أبواب السماء فإن النوازل تخرج منها وأصل التركيب للظهور.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) ومن يشهد في ذلك اليوم من الخلائق وما أحضر فيه من العجائب ، وتنكيرهما للإبهام في الوصف أي (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) لا يكتنه وصفهما ، أو المبالغة في الكثرة كأنه قيل : ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، أو النبي عليه الصلاة والسلام وأمته ، أو أمته وسائر الأمم ، أو كل نبي وأمته ، أو الخالق والخلق ، أو عكسه فإن الخالق مطلع على خلقه وهو شاهد على وجوده ، أو الملك الحفيظ والمكلف أو يوم النحر ، أو عرفة والحجيج ، أو يوم الجمعة والجمع فإنه يشهد له أو كل يوم وأهله.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ)(٤)

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قيل إنه جواب القسم على تقدير لقد (قُتِلَ) ، والأظهر أنه دليل جواب محذوف كأنه قيل إنهم ملعونون يعني كفار مكة كما لعن أصحاب الأخدود ، فإن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم ، والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الحق والأحقوق. روي مرفوعا : أن ملكا كان له ساحر فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه ، وكان في طريقه راهب فمال قلبه إليه ، فرأى في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليه من الساحر فاقتلها فقتلها ، وكان الغلام بعد يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء ، وعمي جليس الملك فأبرأه ، فسأله الملك عمن أبرأه فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه ، فدل على الراهب فقده بالمنشار ، وأرسل الغلام إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم فهلكوا ونجا ، وأجلسه في سفينة ليغرق فدعا فانكفأت السفينة بمن معه فغرقوا ونجا ، فقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس وتصلبني وتأخذ سهما من كنانتي وتقول : بسم الله رب هذا الغلام ، ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فمات ، فآمن الناس برب الغلام ، فأمر بأخاديد وأوقدت فيها النيران ، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت. وعن علي رضي الله تعالى عنه : كان بعض ملوك المجوس خطب الناس وقال : إن الله أحل نكاح الأخوات فلم يقبلوه ، فأمر بأخاديد النار فطرح فيها من أبى ، وقيل لما تنصر نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حمير فأحرق في الأخاديد من لم يرتد.


(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)(٧)

(النَّارِ) بدل من (الْأُخْدُودِ) بدل الاشتمال. (ذاتِ الْوَقُودِ) صفة لها بالعظمة وكثرة ما يرتفع به لهبها ، واللام في (الْوَقُودِ) للجنس.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها) على حافة النار. (قُعُودٌ) قاعدون.

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنهم لم يقصروا فيما أمروا به ، أو يشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٩)

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) وما أنكروا. (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) استثناء على طريقة قوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

ووصفه بكونه عزيزا غالبا يخشى عقابه حميدا منعما يرجى ثوابه وقرر ذلك بقوله :

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) للإشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(١١)

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بلوهم بالأذى. (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم. (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) العذاب الزائد في الإحراق بفتنتهم. بل المراد ب (الَّذِينَ فَتَنُوا)(أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وب (عَذابُ الْحَرِيقِ) ما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) إذ الدنيا وما فيها تصغر دونه.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)(١٦)

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) مضاعف عنفه فإن البطش أخذ بعنف.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ يُبْدِئُ) الخلق ويعيده ، أو (يُبْدِئُ) البطش بالكفرة في الدنيا ويعيده في الآخرة.

(وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب. (الْوَدُودُ) المحب لمن أطاع.

(ذُو الْعَرْشِ) خالقه ، وقيل المراد ب (الْعَرْشِ) الملك ، وقرئ «ذي العرش» صفة ل (رَبِّكَ).

(الْمَجِيدُ) العظيم في ذاته وصفاته ، فإنه واجب الوجود تام القدرة والحكمة ، وجره حمزة والكسائي صفة ل (رَبِّكَ) ، أو ل (الْعَرْشِ) ومجده علوه وعظمته.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا يمتنع عليه مراد من أفعاله وأفعال غيره.


(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ)(٢٠)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أبدلهما من الجنود لأن المراد ب (فِرْعَوْنَ) هو وقومه ، والمعنى قد عرفت تكذيبهم للرسل وما حاق بهم فتسل واصبر على تكذيب قومك وحذرهم مثل ما أصابهم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) لا يرعوون عنه ، ومعنى الإضراب أن حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشد من تكذيبهم.

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط.

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) بل هذا الذي كذبوا به كتاب شريف وحيد في النظم والمعنى ، وقرئ «قرآن مجيد» بالإضافة أي قرآن رب مجيد.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من التحريف ، وقرأ نافع (مَحْفُوظٍ) بالرفع صفة لل (قُرْآنٌ) ، وقرئ «في لوح» وهو الهواء يعني ما فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات».


(٨٦) سورة الطارق

مكية وآيها سبع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٤)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) والكوكب البادي بالليل وهو في الأصل لسالك الطريق ، واختص عرفا بالآتي ليلا ثم استعمل للبادي فيه.

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، أو الأفلاك والمراد الجنس أو معهود بالثقب وهو زحل ، عبر عنه أولا بوصف عام ثم فسره بما يخصه تفخيما لشأنه.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها) أي إن الشأن كل نفس لعليها. (حافِظٌ) رقيب فإن هي المخففة واللام الفاصلة وما مزيدة. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة لما على أنها بمعنى إلّا وإن نافية ، والجملة على الوجهين جواب القسم.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٧)

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) لما ذكر أن كل نفس عليها حافظ أتبعه توصية الإنسان بالنظر في مبدئه ليعلم صحة إعادته فلا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.

(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) جواب الاستفهام و (ماءٍ) بمعنى ذي دفق ، وهو صب فيه دفع والمراد الممتزج من الماءين في الرحم لقوله :

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) من بين صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام صدرها ، ولو صح أن النطفة تتولد من فضل الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء ، ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين ، فلا شك أن الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها ، ولذلك تشبهه ، ويسرع الإفراط في الجماع بالضعف فيه وله خليفة وهو النخاع وهو في الصلب وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب ، وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصّا بالذكر. وقرئ «الصلب» بفتحتين و «الصلب» بضمتين وفيه لغة رابعة وهي «صالب».

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ)(١٠)

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) والضمير للخالق ويدل عليه (خُلِقَ).

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) تتعرف ويميز بين ما طاب من الضمائر وما خفي من الأعمال وما خبث منها ، وهو ظرف ل (رَجْعِهِ).

(فَما لَهُ) فما للإنسان. (مِنْ قُوَّةٍ) من منعة في نفسه يمتنع بها. (وَلا ناصِرٍ) يمنعه.


(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ)(١٢)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك عنه ، وقيل الرجع المطر سمي به كما سمي أوبا لأن الله يرجعه وقتا فوقتا ، أو لما قيل من أن السحاب يحمل الماء من البحار ثم يرجعه إلى الأرض ، وعلى هذا يجوز أن يراد ب (السَّماءِ) السحاب.

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) ما تتصدع عنه الأرض من النبات أو الشق بالنبات والعيون.

(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)

(إِنَّهُ) إن القرآن. (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) فاصل بين الحق والباطل.

(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) فإنه جد كله.

(إِنَّهُمْ) يعني أهل مكة. (يَكِيدُونَ كَيْداً) في إبطاله وإطفاء نوره.

(وَأَكِيدُ كَيْداً) وأقابلهم بكيد في استدراجي لهم وانتقامي منهم من حيث لا يحتسبون.

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) فلا تشتغل بالانتقام منهم ، أو لا تستعجل بإهلاكهم. (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) إمهالا يسيرا والتكرير وتغيير البنية لزيادة التسكين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد بكل نجم في السماء عشر حسنات».


(٨٧) سورة الأعلى

مكية وآيها تسع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)(٢)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) نزه اسمه عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة وإطلاقه على غيره زاعما أنهما فيه سواء وذكره لا على على وجه التعظيم ، وقرئ «سبحان ربي الأعلى». وفي الحديث «لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في ركوعكم ، فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في سجودكم» وكانوا يقولون في الركوع اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) خلق كل شيء فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كماله ويتم معاشه.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥)

(وَالَّذِي قَدَّرَ) أي قدر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها. (فَهَدى) فوجهه إلى أفعاله طبعا واختيارا بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أنبت ما ترعاه الدواب.

(فَجَعَلَهُ) بعد خضرته. (غُثاءً أَحْوى) يابسا أسود. وقيل (أَحْوى) حال من المرعى أي أخرجه (أَحْوى) أي أسود من شدة خضرته.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى)(٧)

(سَنُقْرِئُكَ) على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام ، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة. (فَلا تَنْسى) أصلا من قوة الحفظ مع أنك أمي ليكون ذلك آية أخرى لك مع أن الإخبار به عما يستقبل ووقوعه كذلك أيضا من الآيات ، وقيل نهي والألف للفاصلة كقوله (السَّبِيلَا). (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) نسيانه بأن نسخ تلاوته ، وقيل أراد به القلة والندرة. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام «أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أبيّ أنها نسخت فسأله فقال : نسيتها». أو نفى النسيان رأسا فإن القلة تستعمل للنفي. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) ما ظهر من أحوالكم وما بطن ، أو جهرك بالقراءة مع جبريل عليه الصلاة والسلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه صلاحكم من إبقاء وإنساء.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى)(١٠)

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) ونعدك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي ، أو التدين ونوفقك لها ولهذه النكتة قال (نُيَسِّرُكَ) لا نيسر لك عطف على (سَنُقْرِئُكَ) ، و (إِنَّهُ يَعْلَمُ) اعتراض.


(فَذَكِّرْ) بعد ما استتب لك الأمر. (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) لعل هذه الشرطية إنما جاءت بعد تكرير التذكير وحصول اليأس من البعض لئلا يتعب نفسه ويتلهف عليهم كقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) الآية ، أو لذم المذكرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم ، أو للإشعار بأن التذكير إنما يجب إذا ظن نفعه ولذلك أمر بالإعراض عمن تولى.

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) سيتعظ وينتفع بها من يخشى الله تعالى بأن يتأمل فيها فيعلم حقيقتها ، وهو يتناول العارف والمتردد.

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)(١٣)

(وَيَتَجَنَّبُهَا) ويتجنب (الذِّكْرى). (الْأَشْقَى) الكافر فإنه أشقى من الفاسق ، أو (الْأَشْقَى) من الكفرة لتوغله في الكفر.

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) نار جهنم فإنه عليه الصلاة والسلام قال «ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم» ، أو ما في الدرك الأسفل منها.

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح. (وَلا يَحْيى) حياة تنفعه.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٧)

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) تطهر من الكفر والمعصية ، أو تكثر من التقوى من الزكاء ، أو تطهر للصلاة أو أدى الزكاة.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بقلبه ولسانه (فَصَلَّى) كقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ويجوز أن يراد بالذكر تكبيرة التحريم ، وقيل (تَزَكَّى) تصدق للفطر (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) كبره يوم العيد (فَصَلَّى) صلاته.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) فلا تفعلون ما يسعدكم في الآخرة ، والخطاب للأشقين على الالتفات أو على إضمار قل ، أو للكل فإن السعي للدنيا أكثر في الجملة ، وقرأ أبو عمرو بالياء.

(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) فإن نعيمها ملذ بالذات خالص عن الغوائل لا انقطاع له.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) الإشارة إلى ما سبق من (قَدْ أَفْلَحَ) فإنه جامع أمر الديانة وخلاصة الكتب المنزلة.

(صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) بدل من الصحف الأولى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام».


(٨٨) سورة الغاشية

مكية وهي ست وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)(٥)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يعني يوم القيامة ، أو النار من قوله تعالى (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) ذليلة.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تعمل ما تتعب فيه كجر السلاسل وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل ، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها ، أو عملت ونصبت في أعمال لا تنفعها يومئذ.

(تَصْلى ناراً) تدخلها وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر (تَصْلى) من أصلاه الله ، وقرئ «تصلّ» بالتشديد للمبالغة. (حامِيَةً) متناهية في الحر.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) بلغت أناها في الحر.

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(٧)

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) يبيس الشبرق وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطبا ، وقيل شجرة نارية تشبه الضريع ، ولعله طعام هؤلاء والزقوم والغسلين طعام غيرهم ، أو المراد طعامهم ما تتحاماه الإبل وتعافه لضره وعدم نفعه كما قال :

(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) والمقصود من الطعام أحد الأمرين.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً)(١١)

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) ذات بهجة أو متنعمة.

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) رضيت بعملها لما رأت ثوابه.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) علية المحل أو القدر.

(لا تَسْمَعُ) يا مخاطب أو الوجوه ، وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس وبالتاء نافع. (فِيها لاغِيَةً) لغوا أو كلمة ذات لغو أو نفسا تلغو ، فإن كلام أهل الجنة الذكر والحكم.

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(١٦)


(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) يجري ماؤها ولا ينقطع والتنكير للتعظيم.

(فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) رفيعة السمك أو القدر.

(وَأَكْوابٌ) جمع كوب وهي آنية لا عروة لها. (مَوْضُوعَةٌ) بين أيديهم.

(وَنَمارِقُ) وسائد جمع نمرقة بالفتح والضم. (مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى بعض.

(وَزَرابِيُ) بسط فاخرة جمع زربية. (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)(١٨)

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) نظر اعتبار. (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) خلقا دالا على كمال قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية ، فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لينوء بالأوقار ، ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتى لها قطع البوادي والمفاوز ، مع مالها من منافع أخرى ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع. وقيل المراد بها السحاب على الاستعارة.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) بلا عمد.

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٢٠)

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) فهي راسخة لا تميل.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) بسطت حتى صارت مهادا ، وقرئ الأفعال الأربعة على بناء الفاعل المتكلم وحذف الراجع المنصوب ، والمعنى (أَفَلا يَنْظُرُونَ) إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات ليتحققوا كمال قدرة الخالق سبحانه وتعالى ، فلا ينكروا اقتداره على البعث ولذلك عقب به أمر المعاد ورتب عليه الأمر بالتذكير فقال :

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ)(٢٤)

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) فلا عليك إن لم ينظروا ولم يذكروا إذ ما عليك إلا البلاغ.

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بمتسلط ، وعن الكسائي بالسين على الأصل وحمزة بالإشمام.

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) لكن من تولى وكفر.

(فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) يعني عذاب الآخرة. وقيل متصل فإن جهاد الكفار وقتلهم تسلط ، وكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل هو استثناء من قوله (فَذَكِّرْ) أي فذكر إلا من تولى وأصر فاستحق العذاب الأكبر ، وما بينهما اعتراض ويؤيد الأول أنه قرئ «ألا» على التنبيه.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) رجوعهم ، وقرئ بالتشديد على أنه فيعال مصدر فيعل من الإياب ، أو فعال من الأوب قلبت واوه الأولى قلبها في ديوان ثم الثانية للإدغام.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) في المحشر ، وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حسابا يسيرا».


(٨٩) سورة الفجر

مكية وآيها ثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)(٣)

(وَالْفَجْرِ) أقسم بالصبح أو فلقه كقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أو بصلاته.

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) عشر ذي الحجة ولذلك فسر (الْفَجْرِ) بفجر عرفة ، أو النحر أو عشر رمضان الأخير وتنكيرها للتعظيم ، وقرئ (وَلَيالٍ عَشْرٍ) بالإضافة على أن المراد بالعشر الأيام.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) والأشياء كلها شفعها ووترها ، أو الخلق لقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) والخالق لأنه فرد ، ومن فسرهما بالعناصر والأفلاك أو البروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها ، أو بيومي النحر وعرفة ، وقد روي مرفوعا ، أو بغيرها فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد ، أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبلهما أو أكثر منفعة موجبة للشكر ، وقرئ «والوتر» بكسر الواو وهما لغتان كالحبر والحبر.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(٥)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) إذا يمضي كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة ، أو يسرى فيه من قولهم صلّى المقام وحذف الياء للاكتفاء بالكسرة تخفيفا ، وقد خصه نافع وأبو عمرو بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذفها ابن كثير ويعقوب أصلا ، وقرئ «يسر» بالتنوين المبدل من حرف الإطلاق.

(هَلْ فِي ذلِكَ) القسم أو المقسم به (قَسَمٌ) حلف أو محلوف به. (لِذِي حِجْرٍ) يعتبره ويؤكد به ما يريد تحقيقه ، وال (حِجْرٍ) العقل سمي به لأنه يحجر عما لا ينبغي كما سمي عقلا ونهية وحصاة من الإحصاء ، وهو الضبط والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن يدل عليه قوله :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ)(٨)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) يعني أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، قوم هود سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه.

(إِرَمَ) عطف بيان لعاد على تقدير مضاف أي سبط (إِرَمَ) ، أو أهل (إِرَمَ) إن صح أنه اسم بلدتهم. وقيل سمي أوائلهم وهم «عاد الأولى» باسم جدهم ومنع صرفه للعلمية والتأنيث. (ذاتِ الْعِمادِ) ذات البناء الرفيع أو القدود الطوال ، أو الرفعة والثبات. وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ، ثم مات شديد فخلص الأمر لشداد وملك المعمورة ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنة وسماها إرم ، فلما تمت سار إليها بأهله ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث


الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبله فوقع عليها.

(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) صفة أخرى لاسم والضمير لها سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ)(١٢)

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) قطعوه واتخذوه منازل لقوله : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً). (بِالْوادِ) وادي القرى.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا ، أو لتعذيبه بالأوتاد.

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) صفة للمذكورين «عاد» (وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ) ، أو ذم منصوب أو مرفوع.

(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) بالكفر والظلم.

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(١٤)

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) ما خلط لهم من أنواع العذاب ، وأصله الخلط وإنما سمي به الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض ، وقيل شبه بال (سَوْطَ) ما أحل بهم في الدنيا إشعارا بأنه القياس إلى ما أعد لهم في الآخرة من العذاب كالسوط إذا قيس إلى السيف.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) المكان الذي يترقب فيه الرصد ، مفعال من رصده كالميقات من وقته ، وهو تمثيل لإرصاده العصاة بالعقاب.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ)(١٦)

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ) متصل بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) كأنه قيل إنه (لَبِالْمِرْصادِ) من الآخرة فلا يريد إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها. (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) اختبره بالغنى واليسر. (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بالجاه والمال. (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فضلني بما أعطاني ، وهو خبر المبتدأ الذي هو (الْإِنْسانُ) ، والفاء لما في «أما» من معنى الشرط ، والظرف المتوسط في تقدير التأخير كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام ، وكذا قوله :

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) إذ التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه أي بالفقر والتقتير ليوازن قسيمه. (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) لقصور نظره وسوء فكره ، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين ، والتوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء والانهماك في حب الدنيا ولذلك ذمه على قوليه وردعه عنه بقوله :

(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا)(٢٠)

(كَلَّا) مع أن قوله الأول مطابق لأكرمه ولم يقل فأهانه وقدر عليه كما قال : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) لأن التوسعة تفضل والإخلال به لا يكون إهانة ، وقرأ ابن عامر والكوفيون «أكرمن» و «أهانن» بغير ياء في الوصل والوقف. وعن أبي عمرو مثله ووافقهم نافع في الوقف وقرأ ابن عامر (فَقَدَرَ) بالتشديد.

(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) ولا يحضّون على طعام المسكين أي بل فعلهم أسوأ من قولهم وأدل على


تهالكهم بالمال وهو أنهم لا يكرمون اليتيم بالنفقة والمبرة ، ولا يحثون أهلهم على طعام المسكين فضلا عن غيرهم ، وقرأ الكوفيون (وَلا تَحَاضُّونَ).

(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) الميراث وأصله وراث. (أَكْلاً لَمًّا) ذا لم أي جمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أنصباءهم ، أو يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك.

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) كثيرا مع حرص وشره ، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب «لا يكرمون» إلى «ويحبون» بالياء والباقون بالتاء.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى)(٢٣)

(كَلَّا) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم وما بعده وعيد عليه. (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي دكا بعد دك حتى صارت منخفضة الجبال والتلال ، أو (هَباءً مُنْبَثًّا).

(وَجاءَ رَبُّكَ) أي ظهرت آيات قدرته وآثار قهره مثل ذلك بما يظهر عند حضور السلطان من آثار هيبته وسياسته. (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) بحسب منازلهم ومراتبهم.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) كقوله تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) وفي الحديث «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها». (يَوْمَئِذٍ) بدل من إذا دكت الأرض والعامل فيهما. (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يتذكر معاصيه أو يتعظ لأنه يعلم قبحها فيندم عليها. (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي منفعة الذكرى لئلا يناقض ما قبله ، واستدل به على عدم وجوب قبول التوبة ، فإن هذا التذكر توبة غير مقبولة.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)(٢٦)

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي لحياتي هذه ، أو وقت حياتي في الدنيا أعمالا صالحة ، وليس في هذا التمني دلالة على استقلال العبد بفعله فإن المحجور عن شيء قد يتمنى أن كان ممكنا منه.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الهاء لله أي لا يتولى عذاب الله ووثاقه يوم القيامة سواه إذ الأمر كله له ، أو للإنسان أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه ، وقرأهما الكسائي ويعقوب على بناء المفعول.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) على إرادة القول وهي التي اطمأنت بذكر الله ، فإن النفس تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات إلى الواجب لذاته فتستفز دون معرفته وتستغني به عن غيره ، أو إلى الحق بحيث لا يريبها شك أو الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، وقد قرئ بهما.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) إلى أمره أو موعده بالموت ، ويشعر ذلك بقول من قال : كانت النفوس قبل الأبدان موجودة في عالم القدس أو البعث ، (راضِيَةً) بما أوتيت. (مَرْضِيَّةً) عند الله تعالى.

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في جملة عبادي الصالحين.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم أو في زمرة المقربين فتستضيء بنورهم ، فإن الجواهر القدسية كالمرايا المتقابلة ، أو ادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها ، وادخلي دار ثوابي التي أعدت لك.


عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ، ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة».


(٩٠) سورة البلد

مكية ، وآيها عشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)(٣)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أقسم سبحانه بالبلد الحرام وقيده بحلول الرسول عليه الصلاة والسلام فيه إظهارا لمزيد فضله ، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. وقيل (حِلٌ) مستحل تعرضك فيه كما يستحل تعرض الصيد في غيره ، أو حلال لك أن تفعل فيه ما تريد ساعة من النهار فهو وعد بما أحل له عام الفتح.

(وَوالِدٍ) عطف على (بِهذَا الْبَلَدِ) والوالد آدم أو إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. (وَما وَلَدَ) ذريته أو محمد عليه الصلاة والسلام ، والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ).

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً)(٦)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) تعب ومشقة من كبد الرجل كبدا إذا وجعت كبده ومنه المكابدة ، والإنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقة ومنتهاها الموت وما بعده ، وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام مما كان يكابده من قريش والضمير في :

(أَيَحْسَبُ) لبعضهم الذي كان يكابد منه أكثر ، أو يفتر بقوته كأبي الأشد بن كلدة فإنه كان يبسط تحت قدميه أديم عكاظي ويجذبه عشرة فيتقطع ولا تزال قدماه ، أو لكل أحد منهم أو للإنسان. (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فينتقم منه.

(يَقُولُ) أي في ذلك الوقت (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) كثيرا ، من تلبد الشيء إذا اجتمع ، والمراد ما أنفقه سمعة ومفاخرة ، أو معاداة للرسول عليه الصلاة والسلام.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(١٠)

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حين كان ينفق أو بعد ذلك فيسأله عنه ، يعني أن الله سبحانه وتعالى يراه فيجازيه ، أو يجده فيحاسبه عليه ثم بين ذلك بقوله.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما.

(وَلِساناً) يترجم به عن ضميره. (وَشَفَتَيْنِ) يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها.


(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) طريقي الخير والشر ، أو الثديين وأصله المكان المرتفع.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(١٦)

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة وهو الدخول في أمر شديد ، و (الْعَقَبَةَ) الطريق في الجبل استعارها بما فسرها به من الفك والإطعام في قوله :

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) لما فيهما من مجاهدة النفس ولتعدد المراد بها حسن وقوع لا موقع لم فإنها لا تكاد تقع إلا مكررة ، إذ المعنى : فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا. والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فك رقبة* أو أطعم على الإبدال من (اقْتَحَمَ) وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) اعتراض معناه إنك لم تدر كنه صعوبتها وثوابها.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨)

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطفه على (اقْتَحَمَ) ، أو (فَكُ) ب (ثُمَ) لتباعد الإيمان عن العتق والإطعام في الرتبة لاستقلاله واشتراط سائر الطاعات به. (وَتَواصَوْا) وأوصى بعضهم بعضا. (بِالصَّبْرِ) على طاعة الله تعالى. (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) بالرحمة على عباده ، أو بموجبات رحمة الله تعالى.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) اليمين أو اليمن.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)(٢٠)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن. (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) الشمال أو الشؤم ، ولتكرير ذكر المؤمنين باسم الإشارة والكفار بالضمير شأن لا يخفى.

(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته وأغلقته. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة من آصدته.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله سبحانه وتعالى الأمان من غضبه يوم القيامة».


(٩١) سورة الشمس

مكية ، وآيها خمس عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها)(٣)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) وضوئها إذا أشرقت ، وقيل الضحوة ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك ، والضحاء بالفتح والمد إذا امتد النهار وكاد ينتصف.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) تلا طلوعه طلوع الشمس أول الشهر أو غروبها ليلة البدر ، أو في الاستدارة وكمال النور.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) جلى الشمس فإنها تتجلى إذا انبسط النهار أو الظلمة ، أو الدنيا أو الأرض وإن لم يجر ذكرها للعلم بها.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها)(٦)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) يغشى الشمس فيغطي ضوءها أو الآفاق ، أو الأرض. ولما كانت واوات العطف نوائب للواو الأولى القسمية الجارة بنفسها النائبة مناب فعل القسم من حيث استلزمت طرحه معها ، ربطن المجرورات والظرف بالمجرور والظرف المتقدمين ربط الواو لما بعدها في قولك : ضرب زيد عمرا وبكر خالدا على الفاعل والمفعول من غير عطف على عاملين مختلفين.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) ومن بناها وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والشيء القادر الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤها ، ولذلك أفرد ذكره وكذا الكلام في قوله :

(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها).

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(٨)

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) وجعل الماءات مصدرية يجرد الفعل عن الفاعل ويخل بنظم قوله :

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) بقوله (وَما سَوَّاها) إلا أن يضمر فيه اسم الله للعلم به وتنكير (نَفْسٍ) للتكثير كما في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) أو للتعظيم والمراد نفس آدم وإلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما أو التمكين من الإتيان بهما.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠)

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أنماها بالعلم والعمل جواب القسم ، وحذف اللام للطول كأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ، ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي


هو منتهى كمالات القوة العملية. وقيل هو استطراد بذكر بعض أحوال النفس ، والجواب محذوف تقديره ليدمدمنّ الله على كفار مكة لتكذيبهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة والسلام.

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق ، وأصل دسى دسس كتقضى وتقضض.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها)(١٣)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) بسبب طغيانها ، أو بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى كقوله : (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) وأصله طغياها وإنما قلبت ياؤه واوا تفرقة بين الاسم والصفة ، وقرئ بالضم ك (الرُّجْعى).

(إِذِ انْبَعَثَ) حين قام ظرف ل (كَذَّبَتْ) أو طغوى. (أَشْقاها) أشقى ثمود وهو قدار بن سالف ، أو هو ومن مالأه على قتل الناقة فإن أفعل التفضيل إذا أضفته صلح للواحد والجمع وفضل شقاوتهم لتوليهم العقر.

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ) أي ذروا ناقة الله واحذروا عقرها. (وَسُقْياها) وسقيها فلا تذودوها عنها.

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

(فَكَذَّبُوهُ) فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا. (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) فأطبق عليهم العذاب وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة إذا ألبسها الشحم. (بِذَنْبِهِمْ) بسببه. (فَسَوَّاها) فسوى الدمدمة بينهم أو عليهم فلم يفلت منهم صغير ولا كبير ، أو ثمود بالإهلاك.

(وَلا يَخافُ عُقْباها) أي عاقبة الدمدمة أو عاقبة هلاك ثمود وتبعتها فيبقي بعض الإبقاء ، والواو للحال وقرأ نافع وابن عامر فلا على العطف.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر».


(٩٢) سورة والليل

مكية ، وآيها إحدى وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي يغشى الشمس أو النهار أو كل ما يواريه بظلامه.

(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل ، أو تبين بطلوع الشمس.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد ، أو آدم وحواء وقيل (ما) مصدرية.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) إن مساعيكم لأشتات مختلفة جمع شتيت.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)(٧)

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) تفصيل مبين لتشتت المساعي. والمعنى من أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الحسنى وهي ما دلت على حق ككلمة التوحيد.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) فسنهيئه للخلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ، من يسر الفرس إذا هيأه للركوب بالسرج واللجام.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(١٠)

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بما أمر به. (وَاسْتَغْنى) بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى.

(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) بإنكار مدلولها.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) للخلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار.

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى)(١٣)

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) نفي أو استفهام إنكار. (إِذا تَرَدَّى) هلك تفعل من الردى ، أو تردى في حفرة القبر أو قعر جهنم.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا أو بمقتضى حكمتنا ، أو (إِنَّ عَلَيْنا) طريقة الهدى كقوله سبحانه وتعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ).

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء ، أو ثواب الهداية للمهتدين ، أو فلا يضرنا ترككم الاهتداء.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧)


الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى)(١٨)

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) تتلهب.

(لا يَصْلاها) لا يلزمها مقاسيا شدتها. (إِلَّا الْأَشْقَى) إلا الكافر فإن الفاسق وإن دخلها لا يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله :

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي كذب الحق وأعرض عن الطاعة.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الّذي اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلا عن أن يدخلها ويصلاها ، ومفهوم ذلك أن من اتقى الشرك دون المعصية لا يجنبها ولا يلزم ذلك صليها فلا يخالف الحصر السابق. (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) يصرفه في مصارف الخير لقوله : (يَتَزَكَّى) فإنه بدل من (يُؤْتِي) أو حال من فاعله.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) فيقصد بإيتائه مجازاتها.

(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) استثناء منقطع أو متصل عن محذوف مثل لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة.

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) وعد بالثواب الذي يرضيه. والآيات نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين اشترى بلالا في جماعة تولاهم المشركون فأعتقهم ، ولذلك قيل : المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والليل أعطاه الله سبحانه وتعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر».


(٩٣) سورة والضحى

مكية ، وآيها إحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٣)

(وَالضُّحى) ووقت ارتفاع الشمس وتخصيصه لأن النهار يقوى فيه ، أو لأن فيه كلم موسى ربه وألقي السحرة سجدا ، أو النهار ويؤيده قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) في مقابلة (بَياتاً).

(وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) سكن أهله أو ركد ظلامه من سجا البحر سجوا إذا سكنت أمواجه ، وتقديم (اللَّيْلِ) في السورة المتقدمة باعتبار الأصل ، وتقديم النهار ها هنا باعتبار الشرف.

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) ما قطعك قطع المودع ، وقرئ بالتخفيف بمعنى ما تركك وهو جواب القسم. (وَما قَلى) وما أبغضك ، وحذف المفعول استغناء بذكره من قبل ومراعاة للفواصل. روي أن الوحي تأخر عنه أياما لتركه الاستثناء كما مر في سورة «الكهف» ، أو لزجره سائلا ملحا ، أو لأن جروا ميتا كان تحت سريره أو لغيره فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ردا عليهم.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥)

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) فإنها باقية خالصة عن الشوائب وهذه فانية مشوبة بالمضار ، كأنه لما بين أنه سبحانه وتعالى لا يزال يواصله بالوحي والكرامة في الدنيا وعد له ما هو أعلى وأجل من ذلك في الآخرة ، أو لنهاية أمرك خير من بدايته ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين ، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه ، واللام للابتلاء دخل الخبر بعد حذف المبتدأ والتقدير : ولأنت سوف يعطيك لا للقسم فإنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة ، وجمعها مع سوف للدلالة على أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)(٨)

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) تعديد لما أنعم عليه تنبيها على أنه كما أحسن إليه فيما مضى يحسن إليه فيما يستقبل وإن تأخر. و (يَجِدْكَ) من الوجود بمعنى العلم و (يَتِيماً) مفعوله الثاني أو المصادفة و (يَتِيماً) حال.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن علم الحكم والأحكام. (فَهَدى) فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر. وقيل وجدك ضالا في الطريق حين خرج بك أبو طالب إلى الشام أو حين فطمتك حليمة وجاءت بك لتردك إلى جدك ، فأزال ضلالك عن عمك أو جدك.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً) فقيرا ذا عيال. (فَأَغْنى) بما حصل لك من ربح التجارة.


(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(١١)

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله لضعفه ، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس في وجهه.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فلا تزجره.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فإن التحدث بها شكرها ، وقيل المراد بالنعمة النبوة والتحديث بها تبليغها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والضحى جعله الله سبحانه وتعالى فيمن يرضى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشفع له وعشر حسنات ، يكتبها الله سبحانه وتعالى له بعدد كل يتيم وسائل».


(٩٤) سورة ألم نشرح

مكية ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)(٣)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق فكان غائبا حاضرا ، أو ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل ، أو بما يسرنا لك تلقي الوحي بعد ما كان يشق عليك ، وقيل إنه إشارة إلى ما روي «أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صباه أو يوم الميثاق ، فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيمانا وعلما». ولعله إشارة إلى نحو ما سبق ومعنى الاستفهام إنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته ولذلك عطف عليه.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) عبأك الثقيل.

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الذي حمله على النقيض وهو صوت الرحل عند الانتقاض من ثقل الحمل وهو ما ثقل عليه من فرطاته قبل البعثة ، أو جهله بالحكم والأحكام أو حيرته ، أو تلقي الوحي أو ما كان يرى من ضلال قومه من العجز عن إرشادهم ، أو من إصرارهم وتعديهم في إيذائه حين دعاهم إلى الإيمان.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(٦)

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) بالنبوة وغيرها ، وأي رفع مثل أن قرن اسمه باسمه تعالى في كلمتي الشهادة وجعل طاعته طاعته ، وصلّى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب ، وإنما زاد (لَكَ) ليكون إبهاما قبل إيضاح فيفيد المبالغة.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم. (يُسْراً) كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يغمك ، وتنكيره للتعظيم والمعنى بما في «إن مع» من المصاحبة المبالغة في معاقبة اليسر للعسر ، واتصاله به اتصال المتقاربين.

(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للتأكيد أو استئناف وعده بأن (الْعُسْرِ) متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة كقولك : إن للصائم فرحة ، إن للصائم فرحة أي فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب. وعليه قوله عليه الصلاة والسلام «لن يغلب عسر يسرين» فإن العسر معرف فلا يتعدد سواء كان للعهد أو للجنس ، واليسر منكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأول.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(٨)

(فَإِذا فَرَغْتَ) من التبيلغ. (فَانْصَبْ) فاتعب في العبادة شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة


ووعدناك من النعم الآتية. وقيل إذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة ، أو (فَإِذا فَرَغْتَ) من الصلاة فانصب بالدعاء.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) بالسؤال ولا تسأل غيره فإنه القادر وحده على إسعافك ، وقرئ «فرغّب» أي فرغب الناس إلى طلب ثوابه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني».


(٩٥) سورة والتين

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)(٣)

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) خصهما من الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة لا فضل له وغذاء لطيف سريع الهضم ، ودواء كثير النفع فإنه يلين الطبع ويحلل البلغم ويطهر الكليتين ، ويزيل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال ، ويسمن البدن وفي الحديث أنه يقطع البواسير وينفع من النقرس. والزيتون فاكهة وإدام ودواء وله دهن لطيف كثير المنافع ، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال ، وقيل المراد بهما جبلان من الأرض المقدسة أو مسجدا دمشق وبيت المقدس ، أو البلدان.

(وَطُورِ سِينِينَ) يعني الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه الصلاة والسلام ربه و (سِينِينَ) و (سَيْناءَ) اسمان للموضع الذي هو فيه.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أي الآمن من أمن الرجل أمانة فهو أمين ، أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله والمراد به مكة.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٦)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يريد به الجنس. (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) تعديل بأن خص بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) بأن جعلناه من أهل النار أو إلى أسفل سافلين وهو النار. وقيل هو أرذل العمر فيكون قوله :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء منقطعا. (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) لا ينقطع أو لا يمن به عليهم ، وهو على الأول حكم مرتب على الاستثناء مقرر له.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)(٨)

(فَما يُكَذِّبُكَ) أي فأي شيء يكذبك يا محمد دلالة أو نطقا. (بَعْدُ بِالدِّينِ) بالجزاء بعد ظهور هذه الدلائل وقيل «ما» بمعنى من ، وقيل الخطاب للإنسان على الالتفات ، والمعنى فما الذي يحملك على هذا الكذب.


(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) تحقيق لما سبق. والمعنى أليس الذي فعل ذلك من الخلق والرد (بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) صنعا وتدبيرا ومن كان كذلك كان قادرا على الإعادة والجزاء على ما مر مرارا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والتين أعطاه الله العافية واليقين ما دام حيا ، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة».


(٩٦) سورة العلق

مكية ، وآيها تسع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ)(٢)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي اقرأ القرآن مفتتحا باسمه سبحانه وتعالى. أو مستعينا به. (الَّذِي خَلَقَ) أي الذي له الخلق أو الذي خلق كل شيء ، ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعا وتدبيرا وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة فقال :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أو الذي (خَلَقَ الْإِنْسانَ) فأبهم أولا ثم فسر تفخيما لخلقه ودلالة. على عجيب فطرته. (مِنْ عَلَقٍ) جمعه على (الْإِنْسانَ) في معنى الجمع ولما كان أول الواجبات معرفة الله سبحانه وتعالى نزل أولا ما يدل على وجوده وفرط قدرته وكمال حكمته.

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(٥)

(اقْرَأْ) تكرير للمبالغة ، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ أو في الصلاة ولعله لما قيل له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فقال : ما أنا بقارئ ، فقيل له اقرأ : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الزائد في الكرم على كل كريم فإنه سبحانه وتعالى ينعم بلا عوض ويحلم من غير تخوف ، بل هو الكريم وحده على الحقيقة.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي الخط بالقلم ، وقد قرئ به لتقيد به العلوم ويعلم به البعيد.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) بخلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات فيعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا ، وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهارا لما أنعم عليه ، من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريرا لربوبيته وتحقيقا لأكرميته ، وأشار أولا إلى ما يدل على معرفته عقلا ثم نبه على ما يدل عليها سمعا.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)(٨)

(كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى).

(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أن رأى نفسه ، واستغنى مفعوله الثاني لأنه بمعنى علم ولذلك جاز أن يكون فاعله ومفعوله ضميرين لواحد.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) الخطاب للإنسان على الالتفات تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان ، و (الرُّجْعى) مصدر كالبشرى.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى)(١٢)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) نزلت في أبي جهل قال لو رأيت محمدا ساجدا لوطئت عنقه ،


فجاءه ثم نكص على عقبيه فقيل له مالك ، فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فنزلت ولفظ العبد وتنكيره للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال عبودية المنهي.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أرأيت تكرير للأول وكذا الذي في قوله :

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى)(١٤)

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) والشرطية مفعوله الثاني وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب الشرط الثاني الواقع موقع القسيم له. والمعنى أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه ، أو آمرا (بِالتَّقْوى) فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده ، أو إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الصواب كما تقول ، (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ويطلع على أحواله من هداه وضلاله. وقيل المعنى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً) يصلي والمنهي على الهدى آمرا بالتقوى ، والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا. وقيل الخطاب في الثانية مع الكافر فإنه سبحانه وتعالى كالحاكم الذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى ، وكأنه قال يا كافر أخبرني إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الله سبحانه وتعالى أمرا بالتقوى أتنهاه ، ولعله ذكر الأمر بالتقوى في التعجب والتوبيخ ولم يتعرض له في النهي لأن النهي كان عن الصلاة والأمر بالتقوى ، فاقتصر على ذكر الصلاة لأنه دعوة بالفعل أو لأن نهي العبد إذا صلى يحتمل أن يكون لها ولغيرها ، وعامة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة وغيره بالدعوة.

(كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ)(١٦)

(كَلَّا) ردع للناهي. (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه. (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة ، وقرئ لنسفعنّ بنون مشددة و «لأسفعن» ، وكتابته في المصحف بالألف على حكم الوقف والاكتفاء باللام عن الإضافة للعلم بأن المراد ناصية المذكور.

(ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) بدل من الناصية وإنما جاز لوصفها ، وقرئت بالرفع على هي ناصية والنصب على الذم ووصفها بالكذب والخطأ ، وهما لصاحبها على الإسناد المجازي للمبالغة.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي أهل ناديه ليعينوه وهو المجلس الذي ينتدي فيه القوم. روي أنا أبا جهل لعنه الله مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك ، فاغلظ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا فنزلت.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط واحدها زبنية كعفرية من الزين وهو الدفع ، أو زبني على النسب وأصلها زباني والتاء معوضة عن الياء.

(كَلَّا) ردع أيضا للناهي. (لا تُطِعْهُ) أي اثبت أنت على طاعتك. (وَاسْجُدْ) داوم على سجودك. (وَاقْتَرِبْ) وتقرب إلى ربك وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد».

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله».


(٩٧) سورة القدر

مختلف فيها ، وآيها خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(٣)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الضمير للقرآن فخمه بإضماره من غير ذكر شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح كما عظمه بأن أسند نزله إليه ، وعظم الوقت الذي أنزل فيه بقوله :

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها ، أو أنزله جملة من اللوح إلى السماء الدنيا على السفرة ، ثم كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة. وقيل المعنى (أَنْزَلْناهُ) في فضلها وهي في أوتار العشر الأخير من رمضان ، ولعلها السابعة منها. والداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها ليالي كثيرة ، وتسميتها بذلك لشرفها أو لتقدير الأمور فيها لقوله سبحانه وتعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وذكر الألف إما للتكثير ، أو لما روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكر إسرائيليا يلبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة القدر هي خير من مدة ذلك الغازي.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بيان لما له فضّلت على ألف شهر وتنزلهم إلى الأرض ، أو إلى السماء الدنيا أو تقربهم إلى المؤمنين. (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) من أجل كل أمر قدر في تلك السنة ، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان.

(سَلامٌ هِيَ) ما هي إلا سلامة أي لا يقدر الله فيها إلا السلامة ، ويقضي في غيرها السلامة والبلاء ، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون فيها على المؤمنين. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي وقت مطلعه أي طلوعه. وقرأ الكسائي بالكسر على أنه كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر».


(٩٨) سورة لم يكن

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)(١)

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى فإنهم كفروا بالإلحاد في صفات الله سبحانه وتعالى و (مِنْ) للتبيين. (وَالْمُشْرِكِينَ) وعبدة الأصنام. (مُنْفَكِّينَ) عما كانوا عليه من دينهم ، أو الوعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) الرسول عليه الصلاة والسلام أو القرآن ، فإنه مبين للحق أو معجزة الرسول بأخلاقه والقرآن بإفحامه من تحدى به.

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)(٣)

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بدل من (الْبَيِّنَةُ) بنفسه أو بتقدير مضاف أو مبتدأ. (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) صفته أو خبره ، والرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان أميا لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل المراد جبريل عليه الصلاة والسلام وكون الصحف (مُطَهَّرَةً) أن الباطل لا يأتي ما فيها ، أو أنها لا يمسها إلا المطهرون.

(فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(٥)

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) عما كانوا عليه بأن آمن بعضهم أو تردد في دينه ، أو عن وعدهم بالإصرار على الكفر. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) فيكون كقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم ، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى.

(وَما أُمِرُوا) أي في كتبهم بما فيها. (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) لا يشركون به. (حُنَفاءَ) مائلين عن العقائد الزائغة. (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) ولكنهم حرفوا وعصوا. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) دين الملة القيمة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)(٦)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي يوم القيامة ، أو في الحال لملابستهم ما يوجب ذلك ، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه فلعله يختلف


لتفاوت كفرهما. (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي الخليقة. وقرأ نافع «البريئة» بالهمز على الأصل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فيه مبالغات تقديم المدح ، وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به والحكم عليه بأنه من (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وجمع (جَنَّاتُ) وتقييدها إضافة ووصفا بما تزداد لها نعيما ، وتأكيد الخلود بالتأبيد. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم. (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنه بلغهم أقصى أمانيهم. (ذلِكَ) أي المذكور من الجزاء والرضوان. (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فإن الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة لم يكن الذين كفروا كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا».


(٩٩) سورة الزلزلة

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها)(٣)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) اضطرابها المقدر لها عند النفخة الأولى ، أو الثانية أو الممكن لها أو اللائق بها في الحكمة ، وقرئ بالفتح وهو اسم الحركة وليس في الأبنية فعلال إلا في المضاعف.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ما في جوفها من الدفائن أو الأموات جمع ثقل وهو متاع البيت.

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) لما يبهرهم من الأمر الفظيع ، وقيل المراد ب (الْإِنْسانُ) الكافر فإن المؤمن يعلم ما لها.

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها)(٥)

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ) تحدث الخلق بلسان الحال. (أَخْبارَها) ما لأجله زلزالها وإخراجها. وقيل ينطقها الله سبحانه وتعالى فتخبر بما عمل عليها ، و (يَوْمَئِذٍ) بدل من (إِذا) وناصبهما (تُحَدِّثُ) ، أو أصل و (إِذا) منتصب بمضمر.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها بأن أحدث فيها ما دلت على الأخبار ، أو أنطقها بها ويجوز أن يكون بدلا من أخبارها إذ يقال : حدثته كذا وبكذا ، واللام بمعنى إلى أو على أصلها إذ لها في ذلك تشف من العصاة.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) من مخارجهم من القبور إلى الموقف. (أَشْتاتاً) متفرقين بحسب مراتبهم. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) جزاء أعمالهم ، وقرئ بفتح الياء.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) تفصيل (لِيُرَوْا) ولذلك قرئ «يره» بالضم ، وقرأ هشام بإسكان الهاء ولعل حسنة الكافر وسيئة المجتنب عن الكبائر تؤثران في نقص الثواب والعقاب. وقيل الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة ، أو من الأولى مخصوصة بالسعداء والثانية بالأشقياء لقوله (أَشْتاتاً) ، وال (ذَرَّةٍ) النملة الصغيرة أو الهباء.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة إذا زلزلت الأرض أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله».


(١٠٠) سورة والعاديات

مختلف فيها ، وآيها إحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً)(٥)

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أقسم سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحا ، وهو صوت أنفاسها عند العدو ونصبه بفعله المحذوف ، أو ب (الْعادِياتِ) فإنها تدل بالالتزام على الضابحات ، أو ضبحا حال بمعنى ضابحة.

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) فالتي توري النار ، والإيراء إخراج النار يقال قدح الزند فأورى.

(فَالْمُغِيراتِ) يغير أهلها على العدو. (صُبْحاً) أي في وقته.

(فَأَثَرْنَ) فهيجن. (بِهِ) بذلك الوقت. (نَقْعاً) غبارا أو صياحا.

(فَوَسَطْنَ بِهِ) فتوسطن بذلك الوقت أو بالعدو ، أو بالنقع أي ملتبسات به. (جَمْعاً) من جموع الأعداء ، روي : أنه عليه الصلاة والسلام بعث خيلا فمضت أشهر لم يأته منهم خبر فنزلت. ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ الموريات بأفكارهن أنوار المعارف ، والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس ، (فَأَثَرْنَ بِهِ) شوقا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) من جموع العليين.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(٨)

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) لكفور من كند النعمة كنودا ، أو لعاص بلغة كندة ، أو لبخيل بلغة بني مالك وهو جواب القسم.

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ) وإن الإنسان على كنوده (لَشَهِيدٌ) يشهد على نفسه لظهور أثره عليه ، أو أن الله سبحانه وتعالى على كنوده لشهيد فيكون وعيدا.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) المال من قوله سبحانه وتعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا. (لَشَدِيدٌ) لبخيل أو لقوي مبالغ فيه.

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)(١١)

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ) بعث. (ما فِي الْقُبُورِ) من الموتى وقرئ «بحثر» و «بحث».

(وَحُصِّلَ) جمع محصلا في الصحف أو ميز. (ما فِي الصُّدُورِ) من خير أو شر ، وتخصيصه لأنه الأصل.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ) وهو يوم القيامة. (لَخَبِيرٌ) عالم بما أعلنوا وما أسروا فيجازيهم عليه ، وإنما قال


(ما) ثم قال (بِهِمْ) لاختلاف شأنهم في الحالين ، وقرئ «أن» و «خبير» بلا لام.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا».


(١٠١) سورة القارعة

مكية ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) سبق بيانه في «الحاقة».

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) في كثرتهم وذلتهم وانتشارهم واضطرابهم ، وانتصاب (يَوْمَ) بمضمر دلت عليه (الْقارِعَةُ).

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف ذي الألوان. (الْمَنْفُوشِ) المندوف لتفرق أجزائها وتطايرها في الجو.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بأن ترجحت مقادير أنواع حسناته.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) في عيش. (راضِيَةٍ) ذات رضا أو مرضية.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها ، أو ترجحت سيئاته على حسناته.

(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فمأواه النار المحرقة والهاوية من أسمائها ولذلك قال :

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) ذات حمى.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة».


(١٠٢) سورة التكاثر

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٣)

(أَلْهاكُمُ) شغلكم وأصله الصرف إلى اللهو منقول من لها إذا غفل. (التَّكاثُرُ) التباهي بالكثرة.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات ، عبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر. روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالكثرة فكثرهم بنو عبد مناف ، فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم ، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة. وقيل معناه (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم لكم ، وهو السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت.

(كَلَّا) ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همه ومعظم سعيه للدنيا فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) خطأ رأيكم إذا عاينتم ما وراءكم وهو إنذار ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم.

(ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)(٦)

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرير للتأكيد وفي (ثُمَ) دلالة على أن الثاني أبلغ من الأول ، أو الأول عند الموت أو في القبر والثاني عند النشور.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين أي كعلمكم ما تستيقنونه لشغلكم ذلك عن غيره ، أو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه فحذف الجواب للتفخيم ولا يجوز أن يكون قوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جوابا له لأنه محقق الوقوع بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيما ، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم التاء.

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(٨)

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) تكرير للتأكيد ، أو الأولى إذا رأيتهم من مكان بعيد والثانية إذا وردوها ، أو المراد بالأولى المعرفة وبالثانية الإبصار. (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي الرؤية التي هي نفس اليقين ، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) الذي ألهاكم ، والخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه و (النَّعِيمِ) بما يشغله للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله : (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) وقيل يعمان


إذ كل يسأل عن شكره. وقيل الآية مخصوصة بالكفار.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ (أَلْهاكُمُ) لم يحاسبه الله سبحانه وتعالى بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية».


(١٠٣) سورة والعصر

مكية ، وآيها ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢)

(وَالْعَصْرِ) أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها ، أو بعصر النبوة أو بالدهر لاشتماله على الأعاجيب والتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) إن الناس لفي خسران في مساعيهم وصرف أعمارهم في مطالبهم ، والتعريف للجنس والتنكير للتعظيم.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(٣)

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية. (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي أو على الحق ، أو ما يبلو الله به عباده. وهذا من عطف الخاص على العام للمبالغة إلا أن يخص العمل بما يكون مقصورا على كماله ، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود ، وإشعارا بأن ما عدا ما عد يؤدي إلى خسر ونقص حظ ، أو تكرما فإن الإبهام في جانب الخسر كرم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (وَالْعَصْرِ) غفر الله له وكان ممن تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر».


(١٠٤) سورة الهمزة

مكية ، وآيها تسع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)(٣)

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الهمزة الكسر كالهزم ، واللمز الطعن كالهزم فشاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم ، وبناء فعله يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود ، وقرئ «همزة لمزة» بالسكون على بناء المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم. ونزولها في الأخنس بن شريق فإنه كان مغيابا ، أو في الوليد بن المغيرة واغتيابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً) بدل من كل أو ذم منصوب أو مرفوع ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد للتكثير (وَعَدَّدَهُ) وجعله عدة للنوازل أو عدة مرة بعد أخرى ، ويؤيده أنه قرئ «وعدده» على فك الإدغام.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) تركه خالدا في الدنيا فأحبه كما يحب الخلود ، أو حب المال أغفله عن الموت أو طول أمله حتى حسب أنه مخلد فعمل عمل من لا يظن الموت ، وفيه تعريض بأن المخلد هو السعي للآخرة.

(كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)(٧)

(كَلَّا) ردع له عن حسبانه. (لَيُنْبَذَنَ) ليطرحن. (فِي الْحُطَمَةِ) في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يطرح فيها.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) ما النار التي لها هذه الخاصية.

(نارُ اللهِ) تفسير لها. (الْمُوقَدَةُ) التي أوقدها الله وما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه.

(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) تعلو أوساط القلوب وتشتمل عليها ، وتخصيصها بالذكر لأن الفؤاد ألطف ما في البدن وأشده تألما ، أو لأنه محل العقائد الزائفة ومنشأ الأعمال القبيحة.

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته ، قال :

تحن إلى أجبال مكة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء موصدة

وقرأ حفص وأبو عمرو وحمزة بالهمزة.


(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) أي موثقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص وقرأ الكوفيون غير حفص بضمتين ، وقرئ «عمد» بسكون الميم مع ضم العين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه» رضوان الله عليهم أجمعين.


(١٠٥) سورة الفيل

مكية ، وهي خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)(٢)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها ، وإنما قال (كَيْفَ) ولم يقل ما لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته وعزة بيته وشرف رسوله عليه الصلاة والسلام فإنها من الإرهاصات. إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي ـ بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف الحاج إليها ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك ، فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود ، وفيلة أخرى فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل ، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول ، فأرسل الله تعالى طيرا ، كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران ، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعا. وقرئ «ألم تر» جدا في إظهار أثر الجازم ، وكيف نصب بفعل لا بتر لما فيه من معنى الاستفهام.

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) في تعطيل الكعبة وتخريبها. (فِي تَضْلِيلٍ) في تضييع وإبطال بأن دمرهم وعظم شأنها.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) جماعات جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة ، شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها. وقيل لا واحد لها كعباديد وشماطيط.

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ) وقرئ بالياء على تذكير الطير لأنه اسم جمع ، أو إسناده إلى ضمير ربك. (مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر معرب سنك كل وقيل من السجل وهو الدلو الكبير ، أو الأسجال وهو الأرسال ، أو من السجل ومعناه من جملة العذاب المكتوب المدون.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) كورق زرع وقع فيه الآكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفرا منه ، أو كتبن أكلته الدواب وراثته.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ».


(١٠٦) سورة قريش

مكية ، وآيها أربع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ)(٢)

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) والفاء لما في الكلام من معنى الشرط ، إذ المعنى أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل :

(إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) أي الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشأم فيمتارون ويتجرون ، أو بمحذوف مثل اعجبوا أو بما قبله كالتضمين في الشعر أي (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، ويؤيده أنهما في مصحف أبيّ سورة واحدة ، وقرئ «ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء» ، وقريش ولد النضر بن كنانة منقول من تصغير قرش ، وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار ، فشبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، وصغر الاسم للتعظيم وإطلاق الإيلاف ، ثم إبدال المقيد عنه للتفخيم. وقرأ ابن عامر «لئلاف» بغير ياء بعد الهمزة.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي بالرحلتين والتنكير للتعظيم ، وقيل المراد به شدة أكلوا فيها الجيف والعظام. (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أصحاب الفيل أو التخطف في بلدهم ومسايرهم ، أو الجذام فلا يصيبهم ببلدهم.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها».


(١٠٧) سورة الماعون

مختلف فيها ، وآيها سبع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)(٣)

(أَرَأَيْتَ) استفهام معناه التعجب ، وقرئ «أريت» بلا همز إلحاقا بالمضارع ، ولعل تصديرها بحرف الاستفهام سهل أمرها و «أرأيتك» بزيادة الكاف. (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) بالجزاء أو الإسلام والذي يحتمل الجنس والعهد ويؤيد الثاني قوله :

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يدفعه دفعا عنيفا ؛ وهو أبو جهل كان وصيا ليتيم فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه ، أو أبو سفيان نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه ، أو الوليد بن المغيرة ، أو منافق بخيل.

وقرئ «يدع» أي يترك.

(وَلا يَحُضُ) أهله وغيرهم. (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) لعدم اعتقاده بالجزاء ولذلك رتب الجملة على (يُكَذِّبُ) بالفاء.

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي غافلون غير مبالين بها.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليهم.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الزكاة أو ما يتعاور في العادة والفاء جزائية. والمعنى إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين والموجب للذم والتوبيخ فالسهو عن الصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر ، ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإسلام أحق بذلك ولذلك رتب عليها الويل ، أو للسببية على معنى (فَوَيْلٌ) لهم ، وإنما وضع المصلين موضع الضمير للدلالة على سوء معاملتهم مع الخالق والخلق.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (أَرَأَيْتَ) غفر له إن كان للزكاة مؤديا».


(١٠٨) سورة الكوثر

مكية ، وآيها ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ) وقرئ «أنطيناك». (الْكَوْثَرَ) الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين. وروي عنه عليه الصلاة والسلام «أنه نهر في الجنة وعدنيه ربي فيه خير كثير أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد ، حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة لا يظمأ من شرب منه» ، وقيل حوض فيها ، وقيل أولاده وأتباعه ، أو علماء أمته أو القرآن العظيم.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ) فدم على الصلاة خالصا لوجه الله خلاف الساهي عنها المرائي فيها شكرا لأنعامه ، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر. (وَانْحَرْ) البدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون ، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد والنحر بالتضحية.

(إِنَّ شانِئَكَ) إن من أبغضك لبغضه الله. (هُوَ الْأَبْتَرُ) الذي لا عقب له إذ لا يبقى له نسل ولا حسن ذكر ، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر له في الجنة ، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر العظيم».


(١٠٩) سورة الكافرون

مكية ، وآيها ست آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)(٣)

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) يعني كفرة مخصوصين قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. روي أن رهطا من قريش قالوا يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فنزلت.

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي فيما يستقبل فإن (لا) تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن (ما) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي فيما يستقبل لأنه في قران (لا أَعْبُدُ).

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي في الحال أو فيما سلف.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده ، ويجوز أن يكونا تأكيدين على طريقة أبلغ وإنما لم يقل ما عبدت ليطابق (ما عَبَدْتُّمْ) لأنهم كانوا موسومين قبل المبعث بعبادة الأصنام ، وهو لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله ، وإنما قال (ما) دون من لأن المراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق أو للمطابقة. وقيل إنها مصدرية وقيل الأوليان بمعنى الذي والأخريان مصدريتان.

(لَكُمْ دِينُكُمْ) الذي أنتم عليه لا تتركونه. (وَلِيَ دِينِ) ديني الذي أنا عليه لا أرفضه ، فليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليكون منسوخا بآية القتال ، اللهم إلا إذا فسر بالمتاركة وتقرير كل من الفريقين الآخر على دينه ، وقد فسر ال (دِينِ) بالحساب والجزاء والدعاء والعبادة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرىء من الشرك».


(١١٠) سورة النصر

مدينة ، وآيها ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً)(٢)

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) إظهاره إياك على أعدائك. (وَالْفَتْحُ) وفتح مكة ، وقيل المراد جنس نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم ، وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزا للإشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها فتقرب منها شيئا فشيئا ، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقبا لوروده مستعدا لشكره.

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب ، و (يَدْخُلُونَ) حال على أن (رَأَيْتَ) بمعنى أبصرت أو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامدا له عليه ، أو فصل له حامدا على نعمه. «روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلّى ثمان ركعات» أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه حامدا له على أن صدق وعده ، أو فأثن على الله بصفات الجلال حامدا له على صفات الإكرام. (وَاسْتَغْفِرْهُ) هضما لنفسك واستقصارا لعملك واستدراكا لما فرط منك من الالتفات إلى غيره. وعنه عليه الصلاة والسلام «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة». وقيل استغفره لأمتك ، وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق. كما قيل ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) لمن استغفره مذ خلق المكلفين ، والأكثر على أن السورة نزلت قبل فتح مكة ، وأنه نعي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لما قرأها بكى العباس ، فقال عليه الصلاة والسلام ما يبكيك ، فقال : نعيت إليك نفسك ، فقال «إنها لكما تقول» ، ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين فهي كقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أو لأن الأمر باستغفار تنبيه على دنو الأجل ، ولهذا سميت سورة التوديع.

وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة (إِذا جاءَ) أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة شرفها الله تعالى».


(١١١) سورة تبت

مكية ، وآيها خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)(١)

(تَبَّتْ) هلكت أو خسرت والتباب خسران يؤدي إلى الهلاك. (يَدا أَبِي لَهَبٍ) نفسه كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقيل إنما خصتا لأنه عليه الصلاة والسلام لما نزل عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع أقاربه فأنذرهم فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا دعوتنا ، وأخذ حجرا ليرميه به فنزلت. وقيل المراد بهما دنياه وأخراه ، وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبد العزى فاستكره ذكره ، ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله ، أو ليجانس قوله : (ذاتَ لَهَبٍ) وقرئ «أبو لهب» كما قيل علي بن أبو طالب. (وَتَبَ) إخبار بعد دعاء والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه كقوله :

جزاني جزاه الله شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ويدل عليه أنه قرئ «وقد تب» أو الأول إخبار عما كسبت يداه والثاني عن عمل نفسه.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ)(٣)

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) نفي لإغناء المال عنه حين نزل به التباب أو استفهام إنكار له ومحلها النصب. (وَما كَسَبَ) وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح والوجاهة والإتباع ، أو عمله الذي ظن أنه ينفعه أو ولده عتبة ، وقد افترسه أسد في طريق الشام وقد أحدق به العير ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة ، وترك ثلاثا حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه ، فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) اشتعال يريد نار جهنم ، وليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون صليها للفسق ، وقرئ «سيصلى» بالضم مخففا و «سيصلى» مشددا.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

(وَامْرَأَتُهُ) عطف على المستتر في (سَيَصْلى) أو مبتدأ وهي أم جميل أخت أبي سفيان. (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) يعني حطب جهنم فإنها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحمل زوجها على إيذائه ، أو النميمة فإنها كانت توقد نار الخصومة ، أو حزمة الشوك أو الحسك ، فإنها كانت تحملها فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ عاصم بالنصب على الشتم.

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي ممّا مسّد أي فتل ، ومنه رجل ممسود الخلق أي مجدوله ، وهو ترشيح للمجاز أو تصوير لها بصورة الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تحقيرا لشأنها ، أو بيانا لحالها في


نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع ، وفي جيدها سلسلة من النار ، والظرف في موضع الحال أو الخبر وحبل مرتفع به.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».


(١١٢) سورة الإخلاص

مختلف فيها ، وآيها أربع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ)(٢)

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الضمير للشأن كقولك : هو زيد منطلق وارتفاعه بالابتداء وخبره الجملة ولا حاجة إلى العائد لأنها هي هو ، أو لما سئل عنه أي الذي سألتموني عنه هو الله ، إذ روي أن قريشا قالوا : يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه فنزلت. وأحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله على جميع صفات الكمال إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد ، وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية وقرئ «هو الله» بلا قل مع الاتفاق على أنه لا بد منه في (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، ولا يجوز في «تبت» ، ولعل ذاك لأن سورة «الكافرون» مشاقة الرسول أو موادعته لهم و «تبت» معاتبة عمه فلا يناسب أن تكون منه ، وأما هذا فتوحيد يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى.

(اللهُ الصَّمَدُ) السيد المصمود إليه في الحوائج من صمد إليه إذا قصد ، وهو الموصوف به على الإطلاق فإنه يستغني عن غيره مطلقا ، وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته ، وتعريفه لعلمهم بصمديته بخلاف أحديته وتكرير لفظة الله للإشعار بأن من لم يتصف به لم يستحق الألوهية ، وإخلاء الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى أو الدليل عليها.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

(لَمْ يَلِدْ) لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه ، ولعل الاقتصار على لفظ الماضي لوروده ردا على من قال الملائكة بنات الله ، أو المسيح ابن الله أو ليطابق قوله : (وَلَمْ يُولَدْ) وذلك لأنه لا يفتقر إلى شيء ولا يسبقه عدم.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ولم يكن أحد يكافئه أو يماثله من صاحبة أو غيرها ، وكان أصله أن يؤخر الظرف لأنه صلة (كُفُواً) لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدم تقديما للأهم ، ويجوز أن يكون خالا من المستكن في (كُفُواً) أو خبرا ، ويكون (كُفُواً) حالا من (أَحَدٌ) ، ولعل ربط الجمل الثلاث بالعطف لأن المراد منها نفي أقسام الأمثال فهي كجملة واحدة منبهة عليها بالجمل ، وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية كفؤا بالتخفيف ، وحفص (كُفُواً) بالحركة وقلب الهمزة واوا ، ولاشتمال هذه السورة مع قصرها على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها ، جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن. فإن مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص ومن عدلها بكله اعتبر المقصود بالذات من ذلك.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه سمع رجلا يقرؤها فقال : «وجبت» قيل : يا رسول الله وما وجبت قال : «وجبت له الجنة».


(١١٣) سورة الفلق

مختلف فيها ، وآيها خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ)(٢)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ما يفلق عنه أي يفرق كالفرق فعل بمعنى مفعول ، وهو يعم جميع الممكنات ، فإنه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد عنها ، سيما ما يخرج من أصل كالعيون والأمطار والنبات والأولاد ، ويختص عرفا بالصبح ولذلك فسر به. وتخصيصه لما فيه من تغير الحال وتبدل وحشة الليل بسرور النور ومحاكاة فاتحة يوم القيامة ، والإشعار بأن من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه ، ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى لأن الإعاذة من المضار تربية.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) خص عالم الخلق بالاستعاذة عنه لانحصار الشر فيه ، فإن عالم الأمر خير كله ، وشره اختياري لازم ومتعد كالكفر والظلم ، وطبيعي كإحراق النار وإهلاك السموم.

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ)(٤)

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ) ليل عظيم ظلامه من قوله : (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وأصله الامتلاء يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعا. وقيل السيلان و (غَسَقِ اللَّيْلِ) انصباب ظلامه وغسق العين سيلان دمعه. (إِذا وَقَبَ) دخل ظلامه في كل شيء ، وتخصيصه لأن المضار فيه تكثر ويعسر الدفع ، ولذلك قيل الليل أخفى للويل. وقيل المراد به القمر فإنه يكسف فيغسق ووقوبه دخوله في الكسوف.

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ، والنفث النفخ مع ريق وتخصيصه : لما روي أن يهوديا سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر ، فمرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلت المعوذتان ، وأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بموضع السحر فأرسل عليا رضي الله تعالى عنه فجاء به فقرأهما عليه ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور ، لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر. وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وإفرادها بالتعريف لأن كل نفاثة شريرة بخلاف كل غاسق وحاسد.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه ، فإنه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود بل يخص به لاغتمامه بسروره ، وتخصيصه لأنه العمدة في إضرار الإنسان بل الحيوان غيره ، ويجوز أن يراد بال (غاسِقٍ) ما يخلو عن النور وما يضاهيه كالقوى وب (النَّفَّاثاتِ) النباتات ، فإن قواها النباتية من


حيث إنها تزيد في طولها وعرضها وعمقها كأنها تنفث في العقد الثلاثة ، وبال (حاسِدٍ) الحيوان فإنه إنما يقصد غيره غالبا طمعا فيما عنده ، ولعل إفرادها من عالم الخلق لأنها الأسباب القريبة للمضرة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوذتين».


(١١٤) سورة الناس

مختلف فيها ، وآيها ست آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ)(٣)

(قُلْ أَعُوذُ) وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتهما إلى اللام. (بِرَبِّ النَّاسِ) لما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضار البدنية وهي تعم الإنسان وغيره والاستعاذة في هذه السورة من الاضرار التي تعرض للنفوس البشرية وتخصها ، عمم الإضافة ثمّ وخصصها بالناس ها هنا فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك أمورهم ويستحق عبادتهم.

(مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) عطفا بيان له فإن الرب قد لا يكون ملكا والملك قد لا يكون إلها ، وفي هذا النظم دلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها غير ممنوع عنها وإشعار على مراتب الناظر في المعارف فإنه يعلم أولا بما عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ، ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه ، فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير ، وتدرج وجوه الاستعاذة كما يتدرج في الاستعاذة المعتادة ، تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات إشعارا بعظم الآفة المستعاذ منها ، وتكرير (النَّاسِ) لما في الإظهار من مزيد البيان ، والإشعار بشرف الإنسان.

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦)

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأما المصدر فبالكسر كالزلزال ، والمراد به الموسوس وسمي بفعله مبالغة. (الْخَنَّاسِ) الذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الإنسان ربه.

(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) إذا غفلوا عن ذكر ربهم ، وذلك كالقوة الوهمية ، فإنها تساعد العقل في المقدمات ، فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه ، ومحل (الَّذِي) الجر على الصفة أو النصب أو الرفع على الذم.

(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان ل (الْوَسْواسِ) ، أو للذي أو متعلق ب (يُوَسْوِسُ) أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنّة والناس. وقيل بيان ل (النَّاسِ) على أن المراد به ما يعم الثقلين ، وفيه تعسف إلا أن يراد به الناسي كقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) فإن نسيان حق الله تعالى يعم الثقلين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى».

قال المصنف رحمه‌الله تعالى : وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فرائد فوائد ذوي الألباب ، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة وصفوة آراء أعلام الأمة ، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه ، والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه ، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ، والتلخيص العاري عن


الإضلال ، الموسوم بأنوار التنزيل وأسرار التأويل ، وأسأل الله تعالى أن يتمم نفعه للطلاب ، ولا يخلي سعي من يتعب فيه من الأجر والثواب ، ويختم كل خاتمة امرئ يؤمه بتمحيص عن الآثام ويبلغني أعلى منازل دار السلام ، في جوار العليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا وهو سبحانه حقيق بأن يحقق رجاء الراجين تحقيقا ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وأتباعهم أجمعين.



محتوى الجزء الخامس من تفسير البيضاوي

تفسير سورة الصافات............................................................. ٥

بيان معنى الشهاب وأنه رجوم للشياطين............................................. ٦

بيان الذبيح وأنه إسماعيل ورد ما استدل به من قال إنه إسحاق........................ ١٥

تفسير سورة ص................................................................ ٢٣

بيان ما اشتملت عليه محاكمة الخصمين بين يدي سيدنا داود........................ ٢٧

بيان ما فتن به سيدنا سليمان والجسد الذي ألقي على كرسيّه......................... ٢٩

تفسير سورة الزمر............................................................... ٣٦

بيان ما فعله خالد بن الوليد بالعزّى............................................... ٤٣

بيان ما فسر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقاليد............................................. ٤٧

بيان أن العدل نور والظّلم ظلمات................................................ ٤٩

تفسير سورة المؤمن (غافر)....................................................... ٥١

بيان استغفار الملائكة للمؤمنين................................................... ٥٢

بيان مؤمن آل فرعون............................................................ ٥٦

بيان عدد الأنبياء............................................................... ٦٤

تفسير سورة السجدة (فصلت)................................................... ٦٦

بيان موضع السجود في السورة عند الأئمة......................................... ٧٢

تفسير سورة حم عسق (الشورى)................................................. ٧٦

بيان الدين المشترك بين الأنبياء................................................... ٧٨

بيان القربى الذين تجب مودّتهم................................................... ٨٠

تفسير سورة الزخرف............................................................ ٨٦

بيان الرجلين اللذين كانت قريش تجلهما وتقول لو لا انزل القرآن على أحدهما........... ٩٠

تفسير سورة الدخان............................................................. ٩٩

تفسير سورة الجاثية............................................................ ١٠٥

تفسير سورة الأحقاف......................................................... ١١١

بيان مساكن عاد............................................................. ١١٥

بيان وقت سماع الجن القرآن من رسول الله........................................ ١١٦

تفسير سورة القتال (محمد)..................................................... ١١٩

بيان ما يسوغ للإمام فعله مع الأسير............................................. ١٢٠


تفسير سورة الفتح............................................................. ١٢٦

بيان أسباب المبايعة تحت الشجرة................................................. ٢٩

بيان دلالة القرآن على صحة بيعة أبي بكر رضي الله عنه........................... ١٢٩

تفسير سورة الحجرات.......................................................... ١٣٣

بيان بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق وكذبه عليهم............................ ١٣٤

بيان الشعوب والقبائل والبطون والأفخاذ......................................... ١٣٧

تفسير سورة ق............................................................... ١٣٩

تفسير سورة الذاريات.......................................................... ١٤٦

تفسير سورة الطور............................................................. ١٥٢

تفسير سورة النجم............................................................ ١٥٧

بيان الأصنام التي كانت للعرب وأسباب اتخاذها................................... ١٥٩

تفسير سورة القمر............................................................. ١٦٤

تفسير سورة الرحمن............................................................ ١٧٠

تفسير سورة الواقعة............................................................ ١٧٧

تفسير سورة الحديد............................................................ ١٨٥

بيان أسباب تفاوت الاتفاق قبل الفتح وبعده..................................... ١٨٦

تفسير سورة المجادلة............................................................ ١٩٢

تفسير سورة الحشر............................................................ ١٩٨

بيان الاختلاف في قسم الفيء.................................................. ١٩٩

تفسير سورة الممتحنة.......................................................... ٢٠٤

بيان ما كان يفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلح الحديبية من رد مهر من جاءت مسلمة............. ٢٠٦

تفسير سورة الصف........................................................... ٢٠٨

تفسير سورة الجمعة............................................................ ٢١١

تفسير سورة المنافقين........................................................... ٢١٤

تفسير سورة التغابن............................................................ ٢١٧

تفسير سورة الطلاق........................................................... ٢٢٠

تفسير سورة التحريم........................................................... ٢٢٤

تفسير سورة الملك............................................................. ٢٢٨

تفسير سورة ن................................................................ ٢٣٣

تفسير سورة الحاقة............................................................. ٢٣٩

تفسير سورة المعارج............................................................ ٢٤٤

تفسير سورة نوح.............................................................. ٢٤٨


تفسير سورة الجن.............................................................. ٢٥١

تفسير سورة المزمل............................................................. ٢٥٥

تفسير سورة المدثر............................................................. ٢٥٩

تفسير سورة القيامة............................................................ ٢٦٥

تفسير سورة الإنسان.......................................................... ٢٦٩

تفسير سورة المرسلات......................................................... ٢٧٤

تفسير سورة النبأ.............................................................. ٢٧٨

تفسير سورة النازعات.......................................................... ٢٨٢

تفسير سورة عبس............................................................. ٢٨٦

تفسير سورة التكوير........................................................... ٢٨٩

تفسير سورة الانفطار.......................................................... ٢٩٢

تفسير سورة المطففين.......................................................... ٢٩٤

تفسير سورة الانشقاق......................................................... ٢٩٧

تفسير سورة البروج............................................................ ٣٠٠

تفسير سورة الطارق........................................................... ٣٠٣

تفسير سورة سبح (الأعلى)..................................................... ٣٠٥

تفسير سورة الغاشية........................................................... ٣٠٧

تفسير سورة الفجر............................................................ ٣٠٩

تفسير سورة البلد............................................................. ٣١٣

تفسير سورة الشمس.......................................................... ٣١٥

تفسير سورة والليل............................................................ ٣١٧

تفسير سورة والضحى.......................................................... ٣١٩

تفسير سورة ألم نشرح......................................................... ٣٢١

تفسير سورة والتين............................................................ ٣٢٣

تفسير سورة العلق............................................................. ٣٢٥

تفسير سورة القدر............................................................. ٣٢٧

تفسير سورة لم يكن (البينة).................................................... ٣٢٨

تفسير سورة الزلزلة............................................................ ٣٣٠

تفسير سورة والعاديات......................................................... ٣٣١

تفسير سورة القارعة........................................................... ٣٣٣

تفسير سورة التكاثر........................................................... ٣٣٤

تفسير سورة العصر............................................................ ٣٣٦


تفسير سورة الهمزة............................................................. ٣٣٧

تفسير سورة الفيل............................................................. ٣٣٩

تفسير سورة قريش............................................................. ٣٤٠

تفسير سورة الماعون........................................................... ٣٤١

تفسير سورة الكوثر............................................................ ٣٤٢

تفسير سورة الكافرون.......................................................... ٣٤٣

تفسير سورة النصر............................................................ ٣٤٤

تفسير سورة تبت............................................................. ٣٤٥

تفسير سورة الإخلاص......................................................... ٣٤٧

تفسير سورة الفلق............................................................. ٣٤٨

تفسير سورة الناس............................................................. ٣٥٠


تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع نهاية

تفسير البيضاوي في مطابع دار إحياء الثراث العربي ـ بيروت

الزاهرة أدامها الله لطبع المزيد من الكتب

النافعة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

والعاقبة للمتقين

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ٥

المؤلف:
الصفحات: 357