المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

في حياة الايمان المشرق ألق وصفاء يخترق ضمير الكائن الانساني ، فيمنحه الدف‌ء والحرارة ، ويمده بالنبض والحركة ، ويدفع به شوطا بعيدا في مضمار التكامل الاجتماعي. فاذا اقترن ذلك الايمان الخالص بالانابة المطلقة والاخبات المتصاعد ، التقي الهدف الأخلاقي الأمثل بالهدف الديني السليم ، وفي ضوء هذا الاغناء الفسيح تكون الثمار الايجابية مزدوجة العطاء ، وتعود الأطروحة واضحة الأبعاد ، فاذا أضفت لهذا وذاك : الثبات في المبدأ ، والصلابة في الحق ، والصبر علي المحن والشدائد ، خرجته بحصيلة أخلاقية وارفة الظلال ، تتفيأ المناخ الانساني المزدهر في رحاب العقيدة الراسخة ، وتستبق الوعي الحضاري بخطوات واثقة ، وتحتضن مدارج النضال المبدئي بقوة وروعة.

وهكذا كانت الأجواء التي عاشها هذا الامام العظيم موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، وهو ينهض برسالة السماء ، ويحيا مأساة الانسان ، ويعيش مظاهر الارهاب السياسي ، ويقارع جور الطواغيت اضطهادا لا تحده حدود ،


وتمييزا طبقيا لا يعرفه الاسلام ، ورقابة ملتوية الأساليب ، ورصدا بعيد المرامي ، وأثرة لا مثيل لها في اقتطاع المناصب واحتجان الأموال ومصادرة الحريات؛ والشعب المسلم في بؤس وشقاء وحرمان ، وطوابير الجياع يلتهمها الفقر والضياع ، وقصور السلاطين تموج بالترف والبذخ والاسراف ، ولا سلطان لأحد في الانكار والتغيير ، والناس كل الناس بين خليفة لاه ، ومسؤول ساه ، وسياط تلهب الظهور.

هذا غيض من فيض لتلك الصورة المأساوية التي دونها التأريخ في الحنايا لا في الصفحات الأولي؛ وينفجر الموقف عن اتجاهات ثورية ، فتسيل الدماء ، وتزهق الأرواح ، وتتكاتف أعداد الأسري ، وينفجر الموقف أيضا عن هلع وفزع وقلق فيتجرع الناس مرارة الخوف وسيل الأزمات النفسية.

وكان الحكم العباسي دون مغالاة : عبارة عن مخلوق دموي عنيف ، ينام ويستيقظ علي الارهاب والفكر المتعثر ، فلا يحلم الا بالدمار الشامل للرافضين ، ولا يستمع لأنات هذا الشعب الضائع ، ولا يفكر بمصير الأمة المتداعي ، وكل ما يصدر عنه ازاء ذلك كله هو تفجير طاقات العنف والانفعال للقضاء علي المعارضين أو الناصحين ، ولا يكاد يصحو من جرائمه اطلاقا ولا يفكر لحظة زمنية في يقظة الضمير التي قد تغتاب الطغاة حينا ، فيرتد عن تصرفاته الشاذة ، ويعي أن الانسان كائن ذو أهمية خاصة وله نقطته المركزية في الكون ، وانما هو الاندفاع بأعمال القهر والقسر ، والاغراق في العمي المطبق ، وكأن تصرفاته السلوكية هذه انعكاس للبركان الحاقد المتواجد في نفوس الحاكمين.

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الاتجاه المعاكس لهذا التخلف العريض ، وكان التماعه الذهني المتوقد دقيقا في رصد العواطف المرهفة


عند الانسان ، وكان الوعي الرسالي لديه حريصا علي كشف القدرات الكامنة في الذات الانسانية ، فهو يريد لها الازدهار والانبعاث لتكون كيانا مجسدا يتصرف ويعي ويدرك ، لا آلة تستخدم وتشتري وتعار ، وهو بذلك صريح دون رموز وألغاز ، وانما هوي الوعي المتدافع الذي يعصف بكيان التعسف والانحدار الخلقي.

ومن هنا تدرك مدي الهلع الذي يقض مضاجع السلطان ، من الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) باعتباره العاصفة التي تقتلع مفاهيم الاستعباد الجماعي ، وتخترق حواجز الاستبداد الفردي ، فتنهار الأعراف السلطوية التي تعمل علي صنمية المجتمع وتخديره ، وتنتقل به من النمط التقليدي في الاذعان والاذلال الي سياق تحرري جديد من الحيوية والادراك.

فالامام يشجب كل مظاهر القهر والاكراه ، ويدعو الي الموقف الحاسم ، ويصدع بالصوت الجري‌ء النافذ فيهز الأنظمة الهزيلة بقدرة فائقة تفوق قدرة السلاح ، ولكنه النضال السلبي الموجه ، أو المواجهة الرافضة المنظمة ، فلا موادعة مع الظالمين والقتلة ، فكان ضحية الارهاب السياسي ، نتيجة هذا الطرح الرائد.

بيد أن رسالة السماء التي نهد الامام برفع لوائها ، بدأت في اتساقها وشموخها تنشر الهدي وتفيض المعرفة ، فكان للنضال موقع في كسر القيود والأغلال ، وكان لصوت العلم موقع ودوي في الآفاق ، وكان هذا التلاحم في كشف الظلم ونشر العلم يعني انتصار مدرسة أهل البيت في هذين الخطين المتوازيين.

وكانت حياة الامام (عليه‌السلام) تقتسمها المظالم والمعارف ، مظالم الطواغيت ، ومعارف الرسالة الاسلامية ، وجاء هذا الكتاب لرصد ذلك الزخم الهائل من المعارف ، وسبر ذلك السيل المتلاطم من المظالم ، وهما موضوع


هذه الرسالة في الكشف الموضوعي والاستقراء العلمي وتحديد الرؤية.

وكانت طبيعة البحث في أصوله وفروعه ومتعلقاته أن انتظم في ثمانية فصول :

كان الفصل الأول منها بعنوان :

«الامام في سماته ومميزاته»

وقد اشتمل علي قبس من الأضواء الكاشفة عن مسيرة الامام بايجاز معبر في ولادته ، ونشأته المباركة ، والتأكيد علي منزلته العليا ناهضة نابضة دون عواطف ، يلي ذلك كشف الامام من مرآة التاريخ في شخصيته ومواهبه وقدراته ، وتسليط الضوء علي جزء من نماذج خصائص الامام بما فيها المنظور المشترك في الخصائص بين الأئمة (عليهم‌السلام) ، متحدثا عن الورع والتقوي في ظاهرة ايجابية ، وعن حلم الامام وكظمه الغيظ في جبلة نفسية ، متوقفا عند ظاهرة تتحدي شح الحاكمين في الكرم والسخاء والمواساة. بما نعتبره دراسة مكثفة في أبرز خصائص الامام ومميزاته.

وكان الفصل الثاني بعنوان :

«الامام والمسيرة العلمية الرائدة»

وقد تناول بالبحث المعمق خمسة ظواهر متأصلة هي :

المدرسة الأولي لأهل البيت في ارساء قواعد العلوم المتطورة ، وبناء صرح الحضارة الانسانية.

وكانت الظاهرة الثانية معبرة عن مصادر علم الامام الكسبية واللدنية بشواهد شاخصة ، وأمثلة بارزة الملامح.

وكان المبحث الثالث متساوقا عمليا مع ظاهرة السيرورة النادرة ، والانتشار الذائع الصيت لعلم الامام الهادر في الآفاق والأقاليم.

وتبني المبحث الرابع ظاهرة الدور الريادي لتلامذه الامام وطلابه في نشر


التراث العلمي الأصيل الصادر عن الامام مشافهة أو تدوينا ، في نماذج حية ناطقة وقد أكدت فيه علي من كان من هؤلاء التلاميذ مؤلفا وأحصيت بعضا من مؤلفاتهم.

ونظر المبحث الخامس في ظاهرة متحركة لتعليمات الامام في دائرة معارفه الموسوعية ، وقد بدا سجلا حافلا بالأعلاق النفسية ، وكنزا لا يثمن من الذخائر المفجرة للطاقات البشرية.

وكان الفصل الثالث بعنوان :

«الامام وظواهر الحياة العقلية المتطورة»

وقد ركز البحث علي أربع ظواهر عقلية في حاة الامام (عليه‌السلام).

كان الأول منها عارضا أمينا ومحللا للعقل والمناخ العقلي المضطرب في عصر الامام ، ورصد شوارده وأوابده في ضوء المنهج الاستقرائي.

وكان الثاني متحدثا بموضوعية عن تعدد الاتجاهات العقائدية مذهبيا وكلاميا بلمحات بارزة تطرح الفكر الكلامي كما هو علي صعيد المناقشة.

وكان الثالث متحدثا عن الموجات الجديدة التي أحدثت الانقسام في فرق الشيعة ، ومعرضا بالانشقاق الداخلي الذي عرض لها ، فكان منه ما ولد ميتا فلم يكتب له بقاء ، ومنه ما استمر متعثرا دون أي تأثير علي الفكر الامامي الأصل ، ومنه ما ظل حتي اليوم في كيان متزلزل.

وكان الرابع مستوعبا لأفكار الامام الصادعة في خضم التيار الكلامي ، واثرائه الفكر الاسلامي بالحقائق مجردة نظرا وعملا ، وذائقة توحيدية خالصة.

وكان الفصل الرابع بعنوان :

«الامام وطواغيت عصره»

وقد بدأ برؤية استراتيجية للمبادي‌ء السياسية المتقابلة لدي الامام وعند


الطواغيت ، فأعطت تصورا دقيقا للفروق المميزة بين فكر الامام السياسي في البناء والانعتاق ، وبين تسلط الحاكمين في الاضطهاد والاستبداد.

تلت ذلك أربعة مباحث راصدة لمعاناة الامام الهائلة من أبعاد شتي ، لدي استخلاف المنصور ، وفي عهد ولده المهدي ، وفي أيام موسي الهادي ، وفي مملكة هارون الرشيد. وكان فيها مسح تأريخي مركز لعوالم الارهاب التي تعرض لها الامام ، وتصوير للحاجة المأساوية التي مثلث كابوسا مطبقا علي حياة الامام.

وكان الفصل الخامس بعنوان :

«المناخ الثوري واجراءات الارهاب السياسي»

وقد انتظم في خمسة مباحث ناطقة بصدق وأمانة عن : / قمع التحرك الثوري من قبل العباسيين ، وثورة الحسين بن علي (صاحب فخ) ، وانتفاضة يحيي بن عبدالله المخص ، والتصفية الجسدية للعلويين ، وموقف الامام من العنف الثوري.

وكان هذا الفصل حافلا بمشاهد الدماء القانية ، وتأريخ الثورات العلوية المضطربة ، وتصوير الاجراءات الصارمة في الاقتصاص ، بما يمثل موجة الارهاب السياسي العنيف في معالجاته البدوية المعقدة ، واستخفافه بالدماء والأعراض وقيمة الانسان.

وعرض لموقف الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من هذه الأحداث الحزينة ، ولوح بتوجيهاته بالترقب والنصح الكريم ، وأشار لمعارضته هذا المنهج.

وكان الفصل السادس بعنوان :

«البعد الاستراتيجي لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي»

وهو عرض جديد لأبعاد استراتيجية بارزة في سياسة الامام المنطلقة من صميم رسالته وقيادته للأمة في ضوء تعليمات السماء.


وقد اشتمل علي ثلاثة مباحث رئيسية لخصت سياسة الامام تجاه عملية التخطيط المكثفة لعوالم التضليل العباسي بأحداث ماثلة أبرزت الامام وسياسة النضال السلبي ، والامام واختراق النظام العباسي ، والامام ومجابهة الانحراف والتضليل الديني. وهي عوالم تمثل عمق الصدق السياسي لدي الامام في صور دقيقة الآثار.

وكان الفصل السابع بعنوان :

«الامام في غياهب السجون»

وهو فصل فريد تناول بالبحث العوامل الرئيسية التي أدت الي سجن الامام ، وأكدت تكرار اعتقال الامام مرة بعد مرة ، وعرضت لأماكن سجن الامام ، وأبرزت الجوانب الايجابية لحياة الامام في السجن عبادة وعلما وعملا. وكان ذلك في أربعة مباحث هي : رؤية مجهرية في أسباب سجن الامام. ايديولوجية تنقل الامام بين عدة سجون. حياة الامام في طوامير السجون. الامام يوصي بأمواله ويوقف أراضيه.

وكان الفصل الثامن بعنوان :

«الامام في مدارج الشهادة»

وقد اشتمل علي أربعة مباحث تناولت أواخر حياة الامام في الاعتقال ، واشتملت علي بيان دوافع سجن الامام ومحاولات اغتياله ، وعرضت لمشاهد الاشهاد علي وفاة الامام ، وأنهت بمعالم تجهيزه وتشييعه الي مقره الأخير ، حيث مرقده الشامخ ـ اليوم ـ في الكاظمية المقدسة. وهذه المباحث كالآتي : فزع الرشيد من منزلة الامام ، اغتيال الامام بالسم ، الاشهاد علي وفاة الامام ، تجهيز الامام وتشييعه الي مثواه الأخير.

وكان ما تقدم من الفصول قد نهض بعنوان هذا الكتاب :

«الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ضحية الارهاب السياسي»


ولم يكن باستطاعة هذه الدراسة الالمام بالدور المشرق للامام في ميادين الحياة الاجتماعية كافة ، واكتفت برصد الأحداث في مسيرة الامام ، والاشارة بعمق الي مخزونه الفكري والتراثي والعقائدي ، فمثل ذلك ألقا من حياة الامام ، والتمس قبسا من شعاعه الفياض ، وعرض لنماذج من مميزاته الكبري ، وتناول بعرض جديد وأسلوب جديد ذلك اللمعان المتوهج في خصائص الامام ، وعلم الامام ، والحياة العقلية للامام ، وسياسة الامام ، واضطهاد الامام ، واستشهاد الامام.

وكان الرأي الحر رائد هذه الدراسة ، واستقراء المجهول مهمتها الأساسية ، وتصوير حقائق الأشياء هدفا موضوعيا.

وما توفيقي الا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت واليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

النجف الأشرف

محمدحسين علي الصغير


الفصل الأول

الامام في سماته ومميزاته

١ ـ الوليد العظيم.

٢ ـ النشأة المباركة.

٣ ـ المنزلة العليا.

٤ ـ لاإمام من مرآة التاريخ.

٥ ـ من خصائص الإمام.

أ ـ المنظور المشترك في خصائص الأئمة.

ب ـ الورع والتقوى في ظاهرة إيجابية.

جـ ـ حلم الإمام وكظم الغيظ.

د ـ ظاهرة السخاء والكرم النفسي.



الوليد العظيم

الامام موسي الكاظم بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام علي زين‌العابدين بن الامام الحسين سيدالشهداء بن الامام علي بن أبي‌طالب أميرالمؤمنين (عليه‌السلام).

وهو الامام السابع من أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم). ولد ـ في أشهر الأقوال ـ في السابع من شهر صفر الخير عام ١٢٨ ه عند سحر يوم الأحد أو الثلاثاء في «الأبواء» أحد منازل الطريق بين مكة والمدينة ، وذلك لدي عودة الامام الصادق من الحج (١).

ولدي ولادته الشريفة أمر الامام الصادق (عليه‌السلام) أحد أصحابه باطعام الناس ثلاثة أيام ابتهاجا بهذا الحدث السعيد (٢).

وكان وليدا مباركا ، تبوأ مقعد الامامة ، وتسلم ارث النبوة ، ملئت به القلوب بهجة واغتباطا ، وعمرت به البشائر أفقا ورحابا ، وسارت الركبان باطلالته احتفاء واحتفالا.

__________________

(١) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٠٧ ، الطوسي / التهذيب / ٦ / ٨١ ، الكنجي الشافعي / كفاية الطالب / ٣٠٩ ، الذهبي / سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٧٠. ، الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٢ ، ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٧ ، البحار ٤٨ / ٧.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار / ٤٨ / ٤.


أمه : حميدة بنت صاعد الأندلسية ، مثال المرأة المسلمة الملتزمة ، ورمز النساء الصالحات حتي عرفت به «المصفاة» فيما أثر عن الصادق أنه قال : «حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب» (١).

وكان في ملامحه العامة : أزهر الا في الغيظ (٢) أسمر اللون (٣) «حسن الصوت حسن القراءة» (٤) وكان «رابط الجأش» (٥) وتمرس قراءة القرآن العظيم بخشوع وامعان «وكان اذا قرأ يحزن ويبكي ، ويبكي السامعون لتلاوته» (٦). وأجمعت مصادر ترجمته المتقدمة بأنه لقب ب «الكاظم» حتي عاد علما له ، واكتفي به عن اسمه الشريف ، واشتهر ذلك شهرة عظيمة ، وقد لقب به لكظمه الغيظ ، وتجاوزه عن المسيئين.

وكنيته «أبوالحسن» و «أبوالحسن الأول» و «أبوالحسن الماضي» وعرف ب «العبد الصالح» لفرط عبادته ، و «النفس الزكية» و «الوقي» و «زين المتهجدين» و «الأمين» و «الصابر» و «الزاهر» سمي به لأنه زهر بأخلاقه الشريفة ، وكرمه المضي‌ء التام (٧).

وله كني وألقاب سواها ، منها :

«أبوابراهيم» و «أبوعلي» و «أبواسماعيل» والراجح أنها كني متأخرة التأريخ ، وقد أطلقت عليه بعد ذلك عندما أصبح أبا لهذا أو ذاك من

__________________

(١) أبوالفرج / مقاتل الطالبيين / ٤٩٩ ، الطوسي / التهذيب / ٦ / ٨١ ، المفيد / الارشاد / ٣٠٧ ، الكليني / الكافي / ١ / ٤٧٧ ، ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٧.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٧.

(٣) ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / ٢١٤.

(٤) الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٥.

(٥) ابن عنبة / عمدة الطالب / ١٨٥.

(٦) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣١٩ ، ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٧.

(٧) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب / ٣ / ٤٣٧ وبقية المصادر.


الأولاد (١).

وقد وجد من ألقابه سبط ابن الجوزي فأضاف اليها : «السيد» و «الطيب» و «المأمون» (٢).

وهي ألقاب تحكي عظيم منزلته ، وكرم أرومته ، ومدارج كماله النفسي. وعرف بعد وفاته ب «باب الحوائج» عند القاصي والداني لا سيما العراقيين بخاصة ، حتي قال الشاعر :

باب الحوائج .. ما أتته مروعة

في حاجة .. الا ولبي حاجها

وقال الآخر فيه وفي حفيده الامام محمد الجواد :

لذ ان دهتك الرزايا

والدهر عيشك نكد

 بكاظم الغيظ «موسي»

وبالجواد «محمد»

 يقول الاربلي (ت ٦٩٤ ه) : «ويعرف في العراق بباب الحوائج الي الله ، لنجح المتوسلين الي الله تعالي به ...» (٣).

__________________

(١) ظ : محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٦.

(٢) سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / ٣٥٧.

(٣) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٢.


النشأة المباركة

درج الامام في طفولته وصباه يتفيأ ضلال النبوة ، ويتغذي روح الايمان ، وأدرك من حياة أبيه الامام الصادق (عليه‌السلام) عشرين عاما ، ينتهل رافد معارفه ، ويغترف من بحر علمه الهادر ، وابتهج به أبوه ابتهاجا عظيما وهو يافع يحتضن الفكر الناهض ، وينطلق الي الهدف الرائد ، حتي قال أبوه : «الحمد لله الذي جعلك خلفا من الآباء ، وسرورا من الأبناء ، وعوضا عن الأصدقاء» (١).

وتمثلت في الامام الأصالة منذ صغره ، وعرف بالشمم والاباء وهو صبي يافع ، وذاع صيته في الآفاق مبكرا ، وسرت هيبته في الأنظار والقلوب ، واعتمرت الضمائر بمحبته حتي قال أبونواس (٢).

اذا أبصرتك العين من غير ريبة

وعارض فيك الشك أثبتك القلب

ولو أن ركبا أمموك لقادهم

نسيمك حتي يستدل بك الركب

__________________

(١) الصدوق / عيون أخبار الرضا ٢ م ١٢٧ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٤.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٢.


جعلتك حسبي في أموري كلها

وما خاب من أضحي وأنت له حسب

والظاهرة الجديرة بالاهتمام أن الامام كان منذ صباه يتمتع بحياة عقلية نيرة ، يعي المسائل بفكر ثاقب ، ويجيب السائل بادراك متوهج ، حتي كان مثار اعجاب العلماء والفقهاء ، وقد تحدثوا عن ذلك بشكل مدهش ينم عن الاعجاب والاكبار.

فقد روي الاربلي عن أبي‌حنيفة امام المذهب الحنفي قوله :

«رأيت موسي بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه ، فقلت : أين يحدث الغريب منكم اذا أراد ذلك؟ فنظر الي ثم قال : يتواري خلف الجدار ، ويتوقي أعين الجار ، ويتجنب شطوط الأنهار ومساقط الثمار ، وأفنية الدور والطرق النافذة والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ويرفع ويضع بعد ذلك حيث شاء».

قال : فلما سمعت هذا القول نبل في عيني ، وعظم في قلبي ، فقلت له : ممن المعصية؟ فقال :

«ان المعصية لابد أن تكون من العبد ، أو من ربه ، أو منهما جميعا. فان كانت من الله (تعالي) ، فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ، أو يؤاخذه بما لم يفعله ، وان كانت منهما فهو شريكه. والقوي أولي بانصاف الضعيف. وان كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، واليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار».

قال أبوحنيفة : فقلت : «ذرية بعضها من بعض» (١).

وهذه الاجابة في شطرها الأول بدا بها الامام في صباه فقيها ناطقا بالسنة ، وصادعا بالافتاء ، وفي شطرها الثاني بدا متكلما نزه الباري عن

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٩.


الظلم والقبح العقلي ، ودحض نظرية الجبر والتفويض.

وليس عجيبا أن ينطلق الامام متهاديا بهذا المستوي الرفيع في سن مبكرة. فللنشأة أثرها في المعرفة والادراك والتمييز ، وللتربية الفذة ثمارها في الوعي والدراية المتنورة ، وخصائص الامام ـ باعتباره معصوما ـ تبدو متكاملة في ظل مواهبه وعصمته ، وهي مزيج بين ملكته الراسخة التكوينية وبين عبقرياته المتعددة. وبعد هذا فحديثه حديث أبيه ، وحديث أبيه حديث جده ، وحديث جده حديث رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ، ورسول الله هو المشرع الأعظم ، وكفي بذلك شرفا.

وليس جديدا القول ان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، وريث النبوة الشرعي ، وحامل الرسالة اماما مفترض الطاعة ، وقد حمل بين جنبيه من عوامل الوراثة ، وصدور النص عليه ، ومقومات النمو الفكري ما يجعله حجة لله في بلاده وعلي عباده.

عاش الامام حياته في الصبا والشباب في أكناف مدرسة أبيه ، الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) زعيم مدرسة أهل البيت (صلي الله عليه وآله) في موسوعيتها وموضوعيتها ، وقد صقلت هذه المدرسة قابلياته وقدراته الخارقة ، وهي تستوحي مصادرها من ذلك المخزون الثقافي الحافل بأصناف المعارف الانسانية التي سيرها الامام الصادق في الخافقين ، وأشرقت بأشعتها الملونة في الفكر البشري ففاق حد الطموح المرتقب الي الأفق المديد ، فاذا أضفنا الي ذلك الاعداد الكريم الذي حظي به الامام ، والمواهب الراقية التي انفرد بها ، والفضائل العامة التي اكتسبها ، وما أحياه من مآثر ، خلصنا أنه خلاصة أطروحة أهل البيت في التربية والتأصيل ، وزبدة هذا الكون في العبقرية والنبوغ.

ولا أدل علي هذا من تنويه أبيه به ، وارشاد الناس اليه ، ووضعه موضع


القيادة المرتقبة ، ذلك كله مع وجود الامام الصادق (عليه‌السلام). فقد كانت الخطابية في غلوها قد استشري داؤها وبلاؤها في عهد الامام الصادق (عليه‌السلام) علي يد محمد بن مقلاص الأسدي المعروف بأبي‌الخطاب ، وكان من أعنف الغلاة وأشدهم انحرافا ، وقد تبرأ منه الأئمة مدي التأريخ ، وحذروا شيعتهم ، وفندوا آراءه الغالية جملة وتفصيلا. وقد التجأ عيسي الشلقاني الي الامام الصادق (عليه‌السلام) مستجيرا من هذه الظاهرة ، طالبا القول الفصل فيها ، فقال له الامام الصادق (عليه‌السلام) : «يا عيسي : ما منعك أن تلقي ابني ـ يعني الامام الكاظم ـ فتسأله عن جميع ما تريد؟».

فاتجه عيسي صوب الامام الكاظم ، وكان صبيا في المكتب ـ كما تقول الرواية ـ فلما رآه الامام الموسي بن جعفر (عليه‌السلام) بدره بالقول : «يا عيسي؛ ان الله (تبارك وتعالي) أخذ ميثاق النبيين علي النبوة فلم يتحولوا عنها أبدا ، وأخذ ميثاق الوصيين علي الوصية فلم يتحولوا عنها أبدا ، وأعار قوما الايمان زمانا ثم سلبهم اياه ، وان أباالخطاب ممن أعير الايمان ، ثم سلبه اياه».

فقلت : «ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم» (١).

ونخلص من هذا الحديث الي أمور :

الأول : أن الامام الصادق (عليه‌السلام) قد أراد الاشادة العملية بولده ، وأمر شيعته بالتوجه نحوه ، عالما بقدرته علي الاجابة ، ليوحي بذلك أنه الامام المفترض الطاعة.

الثاني : أن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد بادر بالاجابة عما يختلج في ضمير السائل قبل سؤاله ، مما يشكل بعدا محوريا في القول بالعلم اللدني والموهبي لدي الامام كما سلف لنا فيه القول ببحث سابق.

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١١.


الثالث : الاستعداد الفطري لدي الامام موسي بن جعفر في استقبال ما يطرح عليه من المعضلات وهو في سن الصبا ، مما يعني تأثير النشأة المباركة في مسلكيته العلمية النادرة.

يقول الأستاذ محمدحسن آل ياسين :

«هكذا نشأ موسي بن جعفر في هذه البيئة المباركة الناصعة النقاء ، وفي تلك البيوت التي يعلو فيها ذكر الله أطراف الليل وآناء النهار ، وتتردد في جنباتها همسات التسبيح والتهليل ، وأصداء الابتهال والترتيل ، وينتشر منها علي الناس فيوض العلم النافع ، ودروس العمل الصالح ، وأمثولة الخلق الرفيع. وسرعان ما اكتملت خطوط رجولته الناطقة ، ومعالم شبابه الندي ، واتضحت للعيان صفاته الخلقية ومواهبه الخلقية وملكاته الذاتية علي نحو ممتاز لافت للنظر» (١).

حتي اذا انتقل الامام الصادق (عليه‌السلام) الي الرفيق الأعلي عام (١٤٨ ه) استقل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالامامة ، ونهد بأعباء القيادة ، فكان بطلها المجرب ، وعملاقها العظيم ، ورائد التحرر الاجتماعي ، ورافض الاستعباد الجماعي ، وناشر الفكر الانساني.

وكانت تطلعات الامام الرائدة تتقوم بعناصر حية تسعي الي اقامة المجتمع المتكامل بأساليب دفع ناهضة ، تبعثه من رقدة الجفاف والانكماش والتخدير الي صحوة الوعي والحرية ، وتطل به علي آفاق الأنشطة المتعددة في الموقف والتفكير ، وهو يتفجر بأنماط الحياة العاملة علي الايمان بقضية الانسان ، باعتباره نقطة الانطلاق في الكون.

__________________

(١) محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٢٠.


المنزلة العليا

لم يكن حب الامام الصادق (عليه‌السلام) لولده الامام الكاظم (عليه‌السلام) عاطفيا ، ولا تقييمه لمكانته أبويا ، والتأكيد عليه اعتباطيا ، وان كانت العاطفة والأبوة أمرا طبيعيا ، ولكن الامام لا يصدر عنهما في النص أو الاشادة أو التقييم ، وانما ينطلق فيما يفيض به من خلال التكليف الشرعي والأداء الالهي ليس غير.

وهذه الظاهرة في السلوك لدي الامام الصادق ايديولوجية رسالية لا يحيد عنها في قول أو عمل أو اقرار ، فهو حينما يصرح باستيلاء حب ولده الكاظم عليه بقوله

«وددت أن ليس لي ولد غيره لئلا يشركه في حبه أحد ...» (١).

انما يعبر عن هدف آخر هو الاعلان بأنه الامام من بعده ، والقائم بالأمر في الناس ، والحجة علي الخلائق ، بدليل قوله لأوليائه : «قد وهب الله لي غلاما ، وهو خير من برأ الله ...» وقال لهم : «فدونكم ، فوالله هو صاحبكم» (٢).

وروي المفيد أن الامام الصادق دعا ولده الامام الكاظم ، وقال لمن عنده :

__________________

(١) الشبراوي الشافعي / الاتحاف بحب الأشراف / ٥٤.

(٢) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٢٥.


«عليكم بهذا بعدي ، فهو والله صاحبكم بعدي» (١).

وهناك ما هو أكثر تفصيلا ، وأقدم رواية ، فعن علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) يقول : سمعت أبي‌جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه : «استوصوا بابني موسي (عليه‌السلام) خيرا ، فانه أفضل ولدي ، ومن أخلف بعدي ، وهو القائم مقامي ، والحجة لله (تعالي) علي كافة خلقه من بعدي» (٢).

وهذه الابانة من الامام الصادق بحق ولده الامام انما تعني النص عليه ، واشهاد من يسمع علي ذلك ، وتبليغ أوليائه به ، وقد جمع الامام الصادق ولده ، وقال لهم : «هذا وصي الأوصياء ، وعالم علم العلماء ، وشهيد علي الأموات والأحياء» ثم قال : يا يزيد «ستكتب شهادتهم ويسألون» (٣).

وقول الامام للفيض بن المختار مشهور ، وقد سأله عن الامام فأشار الي موسي بن جعفر وقال : «هذا صاحبكم فتمسك به» (٤).

ولقد روي النص علي امامته جماعة من أعيان أصحاب أبيه ، منهم : أخوه علي بن جعفر ، واسحاق بن جعفر ، والمفضل بن عمر الجعفي ، ومعاذ بن كثير ، وعبدالرحمن بن الحجاج ، والفيض بن المختار ، ويعقوب السراج ، وسليمان بن خالد ، وصفوان بن مهران الجمال ، وحمران بن أعين ، وأبوبصير ، وداود الرقي ، ويزيد بن سليط ، ويونس بن ظبيان (٥).

وهذا التواتر مما أجمع عليه الامامية ، ونضيف الي هؤلاء : منصور بن

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ /.

(٢) المفيد / الارشاد / ٣٢٦.

(٣) المجلسي / البحار / ٤٨ / ٢١.

(٤) الاربلي / كشف الغمة / ٣ / ١١.

(٥) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٦.


حازم ، وابراهيم الكرخي ، ويزيد بن أسباط ، وسلمة بن محمد (١) وسوي هؤلاء من الأعلام ، مما استقرت عليه الامامية. وكان المجلسي قد أوفي بأكثرها (٢).

وهي متوافرة في كل من عيون أخبار الرضا ، والكافي ، وبصائر الدرجات ، واعلام الوري ، وكمال‌الدين ، وقرب الأسناد ، وارشاد المفيد ، والاختصاص ، وغيبة النعماني ، والمناقب ، ورجال الكشي ، وكشف الغمة ، والفصول المهمة ، وسواها من كتب السير والتواريخ.

وكان ترشيح الامام له مدعاة اعتزاز أتباع أهل البيت من العلماء والفقهاء والمتكلمين وشرائح المجتمع كافة ، لأنه صادر عن صادق القول ، وكان جماع قوله في حق ولده علي وجه الاجمال ما تحدث به الصادق (عليه‌السلام) الي عيسي بن شلقان :

«يا عيسي ان ابني هذا الذي رأيت ، لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم ، ثم أخرجه ذلك اليوم بكتاب» (٣).

ومع كل هذا فقد اختلف سواد الناس بعد الامام الصادق (عليه‌السلام) ، ورجع قسم منهم الي ولده عبدالله دون دليل نصي أو استقرائي أو شرعي.

وقد اختبر جماعة من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) فيهم هشام بن سالم ، ومحمد بن النعمان حال عبدالله فلم يجدوه شيئا ، طبق المواصفات الدقيقة للامام ، فقالوا في بعض أزقة المدينة بعد خيبتهم : الي أين نتوجه؟ الي المرجئة؟ الي القدرية؟ الي المعتزلة؟ الي الزيدية؟ واذا بمن يشير علي هشام باتباعه ، فيوقفه عند منزل الامام الكاظم (عليه‌السلام) ، ويشير عليه بالدخول ، فيدخل ، ويقول : «فدخلت فاذا أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) ، فقال لي ابتداء :

__________________

(١) ظ : الكليني / الكافي ١ / ٣٠٩ ، المجلسي / البحار / ٤٨ / ١٢ ـ ٢٨.

(٢) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ١٢ ـ ٢٨.

(٣) المصدر نفسه ٤٨ / ٢٤ وانظر مصادره.


الي الي ، لا الي المرجئة ولا الي القدرية ولا الي المعتزلة ولا الي الزيدية ، ولا الي الخوارج.

قلت : جعلت فداك؛ مضي أبوك؟ قال : نعم؛ قلت : مضي موتا؟ قال نعم؛ فقلت : فمن لنا بعده؟ قال : ان شاء الله أن يهديك هداك.

قلت : جعلت فداك ، ان أخاك عبدالله يزعم أنه الامام بعد أبيه!!

فقال : عبدالله يريد أن لا يعبد الله.

قلت : جعلت فداك ، فمن لنا من بعده؟ فقال : ان شاء الله أن يهديك هداك.

قلت : جعلت فداك ، فأنت هو؟ قال : لا أقول ذلك.

فقلت في نفسي : اني لم أصب طريق المسألة.

ثم قلت له : جعلت فداك؛ أعليك امام؟ قال : لا.

قال هشام : فدخلني شي‌ء لا يعلمه الا الله (تعالي) اعظاما له وهيبة.

ثم قلت له : جعلت فداك؛ أسألك كما كنت أسأل أباك؟

قال : سل تخبر ، ولا تذع ، فان أذعت فهو الذبح.

قال هشام : فسألته ، فاذا هو بحر لا ينزف. قلت : جعلت فداك؟ شيعة أبيك ضلال ، فألقي اليهم هذا الأمر؟ وأدعوهم اليك؟ فقد أخذت علي الكتمان.

قال (عليه‌السلام) : من آنست منه رشدا ، فألق اليه ، وخذ عليه الكتمان ، فان أذاع فهو الذبح ، وأشار بيده الي حلقه.

قال هشام : فخرجت من عنده فلقيت أباجعفر الأحول. فقال لي : ما وراءك؟ قلت : الهدي ، وحدثته بالقصة.

قال : ثم لقينا زرارة وأبابصير ، فدخلا عليه ، وسمعا كلامه ، وسايلاه ،


وقطعا عليه ، ثم لقينا الناس أفواجا ، فكل من دخل عليه قطع بالامامة ...» (١).

وكان لا مناص للمسيرة الاسلامية ـ كما ألزم قائدها الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) ـ من جواد امام مفترض الطاعة في كل عصر وزمان حتي قيام الساعة ، يكون هو الحجة علي الخلق ، ويقتدي الناس به ويهتدون بهديه ، ويستضيئون بنور علمه ، ويتقربون الي الله بمعرفته المطلقة.

وتلفت المسلمون الملتزمون بأحكام دينهم ـ يمينا ويسارا ـ بحثا عن الامام الجامع الشرائط الشرعية المقررة في مواصفات الامامة وضوابطها العامة والخاصة ، فلم يجدوا من تجتمع فيه تلك الضوابط والمواصفات الا الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بل لم يكن من هو أهل لها غيره علي وجه الحصر والتعيين ..» (٢).

وهذا الحصر وذلك التعيين قد نبه اليه الامام الصادق (عليه‌السلام) كما رأيت ، فهو الحجة علي أهل الأرض ، بما انضمت عليه جوانحه من مآثر ومعارف أشار اليها الامام الصادق بقوله :

«فيه علم الحكم ، والفهم ، والسخاء ، والمعرفة بما يحتاج الناس اليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخلق ، وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب الله (عزوجل) ...» (٣).

وهذ جماع ما عليه اشتراط الامام من سمات ومميزات.

وقد أجمع أصحاب السنن والصحاح علي افتراض وجود امام باللازم من هذا الحديث الشريف : «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية».

وقد قامت الدلائل علي امامة موسي بن جعفر من مصادرها كافة ، ولم تكن مقتصرة علي أولياء أهل البيت ، وانما نص عليه المعتدلون كافة.

__________________

(١) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ١٤.

(٢) محمدحسن آل ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٢٩ ـ ٣٠ / بتصرف جزئي.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢ وانظر مصدره.


فقد روي القندوزي ـ علي سبيل المثال ـ أن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قد نص في تسميته للأئمة ، وفيهم موسي بن جعفر ، وما نص عليه من الأوصياء من بعده ، ومنهم موسي بن جعفر الذي يدعي بالكاظم (١).

هذا بالاضافة الي عشرات الأحاديث المستفيضة في النصوص المتوافرة علي تعيين أئمة أهل البيت حصرا ، وما سارت به الركبان من بشارته بذلك ، ومنها ما أخرجه الحافظ أبونعيم بسنده عن النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) : «من سره أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدي ، فانهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهما وعلما ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي ، للقاطعين صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي» (٢).

وهذه اللمحات العابرة تكفي للاستدلال علي ما نحن بصدده. أما التوسع في موضوع الامامة كلاميا ، وموقعها من النظام الاسلامي ، فقد تكفلت به بحوث سابقة أوردنا فيها رأي المسلمين (٣).

أما الامام موسي بن جعفر نفسه فقد قال لعلي بن صالح :

«ان الله لا يخلي أرضه من حجة طرفة عين أبدا ، اما باطن واما ظاهر ، أنا حجة الله وحجته الباطنة ... أنا المؤدي الناطق عن الرسول ... أنا موسي بن جعفر» (٤).

ومهما يكن من أمر ، فقد تسلم الامام قيادة الأمة ، وهي قدره الالهي من الله (تعالي) ، في ظروف سياسية غائمة ، وحياة عقلية مضطربة ،

__________________

(١) القندوزي / ينابيع المودة / ٤٤١ ـ ٤٤٣.

(٢) أبونعيم / حلية الأولياء ١ / ٨٦.

(٣) ظ : المؤلف / موسوعة اهل البيت الحضارية / المجلد الخامس ، الفكر الامامي من النص حتي المرجعية.

(٤) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١٩.


تمثل التقلب السياسي والعقائدي المرير ، فقد انقسمت الأمة علي نفسها فئويا ومذهبيا نتيجة التخطيط السياسي الحاكم ، وانقسم أتباع أهل البيت أنفسهم ، فكان الأمر يدور بين الافراط والتفريط. وانقسم الحكام أنفسهم فيما بينهم ، فبين قائل بابادة الأئمة واستئصالهم علنا ، وبين من مهد لذلك بالسجن والاستدعاء ، وبين من فرض حدود الرقابة الصارمة ، فكمت الأفواه ، وخمدت الأنفاس ، الا أن الثورات الدموية من هنا وهناك بددت مناخ الصمت حينا ، واستبدلته بقعقعة اللجم واحتكاك الأسنة حينا آخر ، فنتج عن هذا وذاك ضبط وشماس ، أدي الي الانكماش الاجتماعي من جهة ، والي الانهيار النفسي من جهة أخري. وعاش الامام بين ذلك في رقابة ورصد واعتقال ، ولكن صفحته هي البيضاء في نظر التأريخ ، وقد انجلت عن واقع مؤثر في الأحداث ، فرغم (صفحه ٢٧) المنظور الضيق في التفكير والارادة والتنفيذ لدي الطبقة الحاكمة ، نجد الامام منفتحا في نظرته الشمولية الي الأمة ، والأمة في مناخ مرير لا تحسد عليه في البؤس والحزن والشقاء ، حتي ليغيب الأمل المرتقب عن الميدان ، واذا بالامام يتقدم في خطواته المضادة للاتجاه السلطوي ، فينقذ الأمة من التدهور والضياع ، ويرتفع بها تدريجيا الي مستوي الحياة المليئة بالأمل والتفاؤل ، فيقضي علي التيار التشاؤمي العارم لدي كثير من الأحاسيس والعواطف المغالية بالانكماش والكآبة ، وهما داء قد استشري في عصر الامام حتي عاد داء العصر نتيجة افرازات مغرقة في الحيف والعسف والاستبداد ، فأدي الي التمزق الداخلي في صفوف الأمة ، فتداركه الامام بقدراته الفائقة علي التغيير ، فأعاد للأمة الاستقرار النفسي المفقود باذكائه الجذوة الكامنة في قرارة النفس الانسانية ، فأفاقت مستيقظة علي هدير هذا الانبعاث الجديد الذي انتشلها من ذلك المستنقع الغارق بالتشاؤم والخمول والحزن السرمدي.


الامام في مرآة التأريخ

كان اللمعان الفكري المتألق في ذهنية الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) يضفي بأشعته الغامرة في نقلة للانسانية عبر مواصفات مثالية في السلوك والأخلاق والحياة والاجتماع ، ولم تكن أفكار الامام في هذا المنحني الفسيح غارقة في دنيا من المآثر الخارقة علي سبيل التحدي ، وانما هي امتداد موضوعي للعقل المفكر الواهب ، وثمرة فعلية للحس العملي الذي نهد به الفكر الامامي من عهد أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) حتي قيادة موسي بن جعفر نفسه.

وكان هذا التخطيط المنهجي في ذلك المناخ المتفجر الرهيب ، قد أعطي نتائج مدهشة في الثبات الذي كاد أن يتلاشي ويذهب ضوؤه الخافت من الأعماق ، وكان هذا الثبات مرتكزا في الاتكاء علي قاعدة صلبة تعني بعودة (صفحه ٢٨) الاستقرار النفسي بعد أن مني بالقلق والتمزق والانفراط ، وبذلك تحول المجتمع ـ رغم كل المعوقات ـ الي صورته الجديدة في الاعتداد بالشخصية بعد فقدان الأمل بالاصلاح والتوازن.

لقد كان الشعب المسلم يعاني من الغربة القاتلة في ظل الحكم العباسي


الجاثم بثقله علي النفوس ، وقد ينتابه شعور عارم رقيق أو كثيف بالكآبة المطبقة لما يشاهده من التدارك السفلي في القيم والاعتبارات والتعامل العام ، وهي صفحات تحكي عن اللون القاتم المميز للعصر بما أبقته لنا الوثائق المعتمدة ، وما أملته النصوص التأريخية المفعمة بالمآسي كصورة حقيقية تتحدث عن انحلال وانحطاط تلك الحقبة من الزمن الصعب ، حتي لم يعد مسلم متحفز جاد ليتذوق طعم الحياة.

وبالرغم من أن التأريخ ـ وهو يكتب بلغة رسمية ـ قد ناصب العداء لأئمة أهل البيت عن قصد وعمد ، لأنه بسبيل من ارضاء شهوة خلفاء الجور وولاة السوء الذين يضطربون اضطرابا عنيفا لأية بادرة تؤكد التماع ذلك الأفق الرفيع في حياة أئمة أهل البيت ، الا أن النصاعة لهذه الحياة في السيرة والسمت والعطاء قد أرغمت التأريخ علي الاقرار بالنتائج المذهلة التي حققتها في الميدان الاجتماعي حين فضحت أساليب الزيف والدجل السياسي ، وحين عصفت بتلك الكيانات الهزيلة وكشفت الأقنعة عن تلك الممارسات اللاانسانية ، وظهر من بين هذين ذلك الوجه المشرق للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وهو يتزعم تلك المهمة الصعبة ، في حين تمتنع مصادر الهوس الديني من التفوه باسمه ، فقد جذت الألسن عن الحديث حوله أو الاشارة اليه ، فذلك من المحظور الذي لا يباح ، ورغم هذه الضبابية وذلك التعتيم ، رأينا الامام موسي ابن جعفر (عليه‌السلام) يمثل الألق الهادي لسنن الطريق ، فكان النجم المتألق شعاعا ونورا وقد عصف بالشبهات والانحرافات ، في صراع مرير.

وكانت ألسنة الخطف هي أقلام الحق فيما وصف به الامام ، وكان التأريخ مع تجهمه العابس للامام قد أفلت منه كثير من الاعتراف والاقرار بالواقع المشهود ، وتلك سمة خاصة بأئمة أهل البيت ، فهم وان كتم التأريخ


جل فضائلهم ومآثرهم ، الا أنه ما استطاع أن يلوح بمنقصة واحدة في أي معلم من معالم أي امام ، وما ذاك الا لقرب الصلة مع الله (تعالي) ، دون الاغترار بملحظ الرضا والغضب في المشاعر القابلة لخيانة الذمم واتباع العاطفة أو المصلحة في كتابة التأريخ.

وتأسيسا علي ما تقدم ، فقد وجدنا العزل السياسي للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) متقاطعا مع الأضواء المتلألئة ليقظة التأريخ في التحدث عنه ، وهذا ما يفسر تلك الاشارات الرائعة عن شخصية الامام في سجل الخالدين ، مما يعني أن التخطيط المتواصل لاقصاء أهل البيت سياسيا ، لم يوفق لاقصائهم فكرا ، وأن البعد عن السلطة والحكم لم ينسحب طردا ليعزلهم عن القيادة والتشريع ، وأن السلطان الدنيوي لم يستطع ان يطوح بالسلطان الديني الماثل.

ولقد كان ما منح به التأريخ الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من السمات في المستوي الفكري والعلمي والعقلي والمعرفي والنفسي يفوق في مفرداته ما وصف به أساطين الاسلام وقادة الأمة ، ومعني هذا أن الامام قد اقتطع هذا المنح اقتطاعا عن ذمة التأريخ بين كل الدواعي القاضية باقصاء شبح الامام عن الأفق سياسيا ومذهبيا.

لقد قال التأريخ بمل‌ء فيه أن الامام (عليه‌السلام) :

«كان أجل الناس شأنا ، وأعلاهم في الدين مكانا ، وأسخاهم بنانا ، وأفصحهم لسانا ، وأشجعهم جنانا ، قد خص بشرف الولاية ، وحاز ارث النبوة ، وبوأ محل الخلافة ، سليل النبوة ، وعقيد الخلافة» (١).

والنظرة التحليلية لهذا النص تقضي باختفاء الأجواء الضبابية المحيطة بتأريخ الامام ، فهي تنتزع الصورة الحقيقية للامام انتزاعا ، وهي تعني

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٧.


بالمنظور الصادق في الأداء والتعبير.

وليس بالامكان التفرغ لتدوين ما كتبه التأريخ عن الامام بهذا الملحظ ، فهو كثير جدا ، وسبق اليه من تناول الموضوع ، ولكني أقف منه موقفا وسطا ، لا أتغافله ولا أستوعبه ، وانما هو شي‌ء بين ذلك.

فقد قال ابن الصباغ أنه : «الامام الكبير القدر ، والأوحد الحجة الحبر» (١) وقال أيضا : «وأما مناقبه وكراماته الظاهرة ، وفضائله وصفاته الباهرة ، فتشهد له بأنه : افترع قبة الشرف وعلاها ، وسما الي أوج المزايا فبلغ أعلاها ، وذللت له كواهل السيادة فامتطاها ، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها ، فاصطفاها» (٢).

وقال أبوحاتم ـ واصفا الامام ـ بأنه : «ثقة أمين صدوق» (٣) وأضاف ابن تغري بردي أنه : «كان سيدا ، عالما ، فاضلا ، سنيا ، جوادا ، ممدحا ، مجاب الدعوة» (٤).

وقال ابن‌تيمية : «موسي بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك» (٥).

وقال الشيخ المفيد : «وكان أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) أعبد أهل زمانه ، وأفقههم ، وأسخاهم كفا ، وأكرمهم نفسا» (٦).

ووصفه ابن‌طلحة الشافعي بأنه : «الامام الكبير القدر العظيم الشأن ، المشهور بالكرامات» (٧) أما الذهبي فقد أجمل القول ـ تارة ـ بأنه «الامام

__________________

(١) ابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة / ٢١٣.

(٢) المصدر نفسه / ٢١٤.

(٣) الذهبي / سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٧٠.

(٤) ابن تغري بردي / النجوم الزاهرة ٢ / ١١٢.

(٥) ابن‌تيمية / منهاج السنة ٢ / ١٢٤.

(٦) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٢.

(٧) ابن‌طلحة / مطالب السؤول ٢ / ٦١.


القدوة» (١) وفصل القول شيئا ما بقوله : «كان موسي بن جعفر من أجواد الحكماء ، ومن العباد الأتقياء ، وله مشهد معروف ببغداد» (٢).

وهنالك عشرات الشهادات في حق الامام (عليه‌السلام) ، سردها الأستاذ باقر شريف القرشي ، وتطلب من مظانها للباحثين عن المزيد (٣).

والتأريخ حينما يصور هذه اللقطات ، فانما ينزع الي الموضوعية المحدودة بأقلام هؤلاء العلماء ، والا ففضائله أسمي رفعة ، وأكثر عائدية ، وأجل منزلة مما دونوه وأفادوه.

والذي بهرني حقا أن أجد هارون الرشيد يغتصب نفسه اغتصابا ، فيدلي برأيه في الامام ـ مضطرا ـ لولده المأمون ، وقد دهش المأمون باحترام الرشيد للامام وتقديمه وتعظيمه ، قال هارون : «يا بني : هذا امام الناس وحجة الله علي خلقه ، وخليفته في عباده ، أنا امام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وانه والله لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) مني ومن الخلق جميعا ، والله لو نازعني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناه ، فان الملك عقيم ...

يا بني : هذا وارث علم النبيين ، هذا موسي بن جعفر ، ان أردت العلم الصحيح تجده عند هذا» (٤).

ولئن ذكر القدامي جزءا يسيرا من ملامح الامام القيادية والمرجعية. فقد أورد المحدثون شيئا من ذلك. وقد أورده أغلبهم اقتضابا ، ومهما يكن من أمر ، فان ما ذكره القدامي والمحدثون يعتبر تبلورا محدودا التصق بمرآة التأريخ فحكي توهجا لامعا في سيرة الامام وآثاره.

قال الدكتور زكي مبارك من رواد النهضة الحديثة في مصر : «كان موسي

__________________

(١) الذهبي / سير اعلام النبلاء ٦ / ٢٧٠.

(٢) الذهبي / ميزان الاعتدال ٣ / ٢٠٩.

(٣) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ١٦٥ ـ ١٧٦.

(٤) القندوزي / ينابيع المودة ٣ / ٣٢.


بن جعفر سيدا من سادات بني‌هاشم ، واماما مقدما في العلم والدين» (١).

وقال الأستاذ خيرالدين الزركلي : «موسي بن جعفر الصادق بن الباقر ، أبوالحسن ، سابع الأئمة الاثني عشر عند الامامية ، كان من سادات بني‌هاشم ، ومن أعبد أهل زمانه ، وأحد كبار العلماء الأجواد» (٢).

وقال الدكتور عبدالجبار الجومرد وزير الخارجية العراقية الأسبق :

«الامام الكاظم ... كان ذا تأريخ حافل بالزهد والورع والكرم ودماثة الخلق ، وقد لقب بالكاظم لأنه كان يحسن الي من يسي‌ء اليه» (٣).

وقال العلامة محمد أمين السويدي البغدادي :

«موسي الكاظم هو الامام الكبير القدر ، الكثير الخير ، كان يقوم ليله ويصوم نهاره ، وسمي الكاظم لكثرة تجاوزه عن المعتدين» (٤).

وقال سيدنا الأستاذ السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي :

«موسي بن جعفر بن محمد : هو الامام السابع المنصوص علي امامته من قبل أبيه وأجداده الطاهرين ، سلام الله عليهم أجمعين» (٥).

وقال السيد محسن الأمين الحسيني العاملي :

«الامام موسي الكاظم : روي عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ، حاملا بطون الدفاتر ، وألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة : وكان يعرف بين الرواة بالعالم» (٦).

وقال السيد هاشم معروف الحسني :

__________________

(١) زكي مبارك / شرح زهر الآداب ١ / ١٣٢.

(٢) خيرالدين الزركلي / الأعلام ٣ / ١٠٨.

(٣) عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد ١ / ١٧٧.

(٤) السويدي / سبائك الذهب / ٧٣.

(٥) السيد الخوئي / معجم رجال الحديث ١٩ / ٤٤.

(٦) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة ٤ / ق ٣ / ٣٧.


«كان أبوالحسن موسي بن جعفر يتابع رسالة آبائه في نشر العلم والحديث والأخلاق والدفاع عن الاسلام ، وروي عنه أصحابه آلاف الأحاديث في مختلف المواضيع ... وقد روي عنه المحدثون في مختلف أبواب الفقه وغيره من المواضيع الاسلامية أكثر مما رووه عن غيره ممن جاء بعده من أئمة أهل البيت» (١).

وقال الشيخ باقر شريف القرشي :

«الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، فذ من أفذاذ العقل الانساني ، ومن كبار أئمة المسلمين ، وأحد شموع ذلك الثقل الأكبر الذي أضاء الحياة الفكرية في الاسلام» (٢).

وقال الشيخ محمدحسن آل‌ياسين :

«نشأ الامام موسي بن جعفر في حجر هذا الأب العظيم (الامام الصادق) متفيئا ظلال شجرة النبوة ودوحة الامامة ، حيث اختار الله موضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ، وحيث استقر ملتقي رافدي السماء والأرض ، واجتمع الثقلان اللذان لن يفترقا حتي يردا الحوض : كتاب الله وعترة الرسول. فكانت نشأة متميزة فذة لا يتسني مثلها الا لنظرائه من ذرية النبيين وسلالة المرسلين ، فاذا هو منذ صباه : بحر مواج بالعلم ، دفاق بالمعرفة ، زخار بفقه الكتاب وحقائق الدين وأسرار الشريعة» (٣).

وبعد هذه الاضمامة من الأقوال العطرة الندية ، أحسبني في غني عن القول : ان الامام موسي بن جعفر ، أحد عمالقة الفكر الانساني ، والنموذج الأرقي لحضارة العقل البشري ، شأنه بذلك شأن الأئمة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

__________________

(١) هاشم معروف / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٣.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٢٨.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٨ ـ ١٩.


من خصائص الامام

أ. المنظور المشترك في خصائص الأئمة

هنالك ملحظ جدير بالأهمية أن الأئمة (عليهم‌السلام) يشتركون بمميزات فريدة ، فلا يعني التأكيد علي خصائص امام منهم ، نفي تلك الخصائص عن الآخرين ، لأنهم يصدرون عن نبع واحد ، ويصبون في روافد متقاربة المصادر ، وكلها تتجاذب أطرافها من ذلك المورد الثر الذي أسال فيضه اللامتناهي جدهم الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله). الا أن لكل امام سمات بارزة تلوح وكأنها من مآثرة بخاصة. وما ذاك الا نتيجة الظروف الموضوعية لشتي الأحداث التي يحياها الامام بكل تداعياتها وملابساتها ، فيتجه الامام مبادرا للرد العملي علي الظواهر السلبية بظواهر ايجابية ، وعلي التناقضات بالقصد والاعتدال. فحينما نري الغضب والطيش والانتقام ضاربا أطنابه في المجتمع المسلم من قبل الطغاة ، نجد الامام يقابل ذلك بالحلم والأناة ورحابة الصدر ، وحينما تكون أموال المسلمين مبذر بالعبث والاسراف ، وموارد الحياة مصادرة لترفيه الحاكمين والولاة ، نجد الامام مشاركا للشعب المضطهد في رزقه وعيشه ، فيناهض ذلك الاحتكار والاختلاس بظاهرة الكرم والسخاء تلبية للضروريات الملحة في الاغاثة والانقاذ ، وحينما تكون


أوضار الجهل والضياع والتسيب متفشية في المناخ الاجتماعي ، نجد الامام مشمرا عن ساعديه في نشر العلم ، واذاعة المعارف ، وبث الدعاة والمبلغين للقضاء علي مظاهر الأمية وحياة التخلف.

وهكذا الأمر في بقية الظواهر المتجددة علي الشعوب المغلوبة وهي تساس بالارهاب والتسلط الغاشم ، فنجد الامام ـ أي امام لا علي التعيين ـ ينهد بمسؤوليته القيادية لصد الاعتداء المتلاحق الأثيم علي الحريات والحرمات والذمم؛ ومن هنا تبرز خصائص كل امام قائمة بذاتها ، تعبيرا عن الحالة المضادة التي يعني بمقاومتها ، والا فالأئمة (عليهم‌السلام) في ميزان واحد راجح بالعطاء والبر والتقوي والعلم والمجاهدة والنضال ، وينبغي لفت النظر بجدية معمقة الي أن الظرف الاجتماعي في كثير من الأحيان قد يملي التكليف الشرعي علي الامام ، فيؤدي رسالته تبعا لمسؤوليته ، علي الوجه الأتم.

ومن هنا رأينا أميرالمؤمنين عليا (عليه‌السلام) : محاربا ومجاهدا ، وزاهدا ومعرضا عن السلطان ، حتي جاءه الأمر يسعي اليه دون العمل من أجله ، فنهض بمسؤوليته الشرعية لا تأخذه في الله لومة لائم ، فكان النموذج الأرقي للخليفة الحاكم بأمر الله (تعالي). بينما نجد الامام الحسن بن علي (عليه‌السلام) صابرا محتسبا مترصدا ، لأنه رأي الغدر والخيانة تفتك بجيشه غير المقاتل ، ونظر الي الذمم وهي تشتري ، والي الضمائر وهي تباع ، فأعرض عن الحكم لتفاقم هذه الظواهر المعقدة ، وقد شكلت خطرا متفاقما ، كاد أن يعصف بكيان الاسلام ، فبادر الي الصلح المشروط الذي ما وفي به عدوه علي رؤوس الأشهاد ، وبذلك سجل الامام الحسن نصرا فعليا علي معاوية ، بأنه يغدر ويفجر ، وبأن من كان كذلك ليس أهلا للامامة الشرعية. في حين نلحظ الامام الحسين بن علي سيدالشهداء (عليه‌السلام) يتجه الي الكفاح المسلح


حينما رأي مسؤوليته تقتضي هذا الموقف. فأعلنها ثورة عارمة ضد الظلم والاستبداد والانحراف العقائدي ، فضحي بنفسه وآله وصحابته ، فكان مضرب المثل في الاباء والشمم والفداء والتضحية ، وذهب شهيد عظمته علي مذبح الحرية والوعي الديني ، وهو وان لم يحقق نصرا فعليا في معركة الطف ، ولكنه حقق نصرا مستقبليا قوض فيه أركان الحكم الأموي ، وأبقي جذوة النضال الديني متقدة مع الأجيال ، وظل رمزا شاخصا لكل عمل ثوري في تأريخ الاسلام. بينما نجد ولده الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) وقد عاش مأساة الطف بكل مشاهدها الدامية ، كن قد ادرع الصبر لباسا ، وأحيا ثبات الأبطال قائدا ، وجدد عهد الرسول الأعظم داعيا ، وأعلن حقوق الانسان مشرعا ، فعاد ما أثر عنه يفوق مقررات الأمم المتحدة ، ومنظمات حقوق الانسان الدولية.

وكان الامام محمد الباقر (عليه‌السلام) مؤسسا لمدرسة أهل البيت في فروعها العلمية المتعددة ، ومجددا للحضارة الاسلامية علي رأس القرن الثاني من الهجرة ، حينما كان الجهل مسيطرا علي الحياة الاجتماعية ، وحينما كانت الدعوات منحرفة عن النهج السوي ، ونزغات النزق واللهو متحكمة في ضمير الجيل الناشي‌ء ، فكانت ظاهرة العلم الرفيع الهادف يتزعمها الامام الباقر (عليه‌السلام) ، مبتعدا عن مظاهر الزيف المعقدة في الجهل والغرور والدجل السياسي ، متحفزا لخلق جيل تتكافأ فرصه الثقافية بما يتناسب مع حمل الاسلام نظاما وعقيدة وحياة ، فكان له ذلك.

وحينما تسلم الامام الصادق (عليه‌السلام) قيادة الأمة ، بعد وفاة أبيه ، عام (١١٤ ه) ، اتجه بالركب الحضاري ـ وقد رسخت أصوله ـ الي مبدأ جديد من القيم العليا ، في حين تتصارع الأحزاب ورجال المؤامرات في الساحة علي استصفاء الملك والسلطان ، الا أن تجربة الامام الصادق في السياسة


والحياة والاجتماع ، حددت له في ضوء مسؤوليته الرسالية التكليف الشرعي في بناء صرح الاسلام علي أسس رصينة لدي تنازع الأهواء ، وتعدد النحل والمذاهب.

أما حين يلتمع في الأفق بريق السلاح ، ويلتهب المناخ بالثورة اثر الثورة ، ويقرع الحديد بالحديد ، وتسفك الدماء بين أبناء الدين الواحد دون جدوي ودون أثر ، واذا بوريث النبوة يحتفظ بالبقية الباقية من حملة الاسلام ، ويشمر ساعديه لاعادة الدين غضا طريا نديا في مبادئه ، فتلتف حوله الأطراف كافة ، كما يلتف الورق حول الشجرة النضرة ، فكان زعيم الجماعة الاسلامية علما وعملا وكياسة ، كما كان زعيم مدرسة أهل البيت اصالة وموضوعية وازدهارا.

حتي اذا تسلم منصب الامامة سيدنا ومولانا الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عند وفاة أبيه الصادق عام (١٤٨ ه) وهو في العشرينات من العمر في ظل حكم ارهابي صارم ، وسيف دموي قاطع عالج الأمر بروية فائقة ، وبظواهر مضادة لتلك الممارسات اللاانسانية ، فضاقت به السلطات ذرعا ، وارتهن مغيبا بين أطباق السجون وأقبية المعتقلات ، ولم يمنعه ذلك من ارسال أشعته النافذة الي القلوب من خلال تلك الظواهر التي سنتحدث عنها اجمالا.

الورع والتقوي في ظاهرة ايجابية

وهي ميزة انفرد بها أئمة أهل البيت بأدق معانيها الهادئة ، وتجلت بنضائد تلك السيرة الزكية لأولئك الميامين الأبرار ، والامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) أحد النماذج الفضلي لهذا المنهج الدقيق ، والورع لديه ظاهرة ايجابية وليست انهزامية ، والتقوي لديه حقيقة ائتلافية وليست سلبية ،


والتعامل مع الورع والتقوي منظور متطور لا يوازيه ذلك التهرب من الواقع ، ولا التخفف من أعباء الحياة ، وهما يمثلان لدي الامام حقيقة تأريخية في الاجتماع والاندماج مع الناس ، ولأنهما مفهومان من مفاهيم الاسلام فهما يتأطران بالصلاح والاصلاح ورباطة الجأش ، وينزعان الي الصلابة والايثار والايمان المطلق ، نعم هما مرتبطان بذلك الوثاق النزيه الطاهر : خشية الله في السر والعلن ، والخوف منه في الشدة والرخاء ، وهما مظهران للعبودية الخالصة المطمئنة ، ومن هذا الخلال وصف الامام بأنه أعبد أهل زمانه وأفقههم ، وكان يصلي نوافل الليل فيصلها بصلاة الصبح ، فاذا طلعت الشمس خر ساجدا لله ، ويقول في دعائه :

«اللهم اني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب».

ومن دعائه : «عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك».

وكان يبكي من خشية الله حتي تخضل لحيته بالدموع ، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه (١).

وكان يجازي المسي‌ء باحسانه اليه ، ويقابل الجاني بعفوه عنه (٢) وهذه ظواهر ايمانية ايجابية تمثل الورع والتقوي في صور متعددة ، وكان عمله يكشف عن هذه الحقيقة في ملامح من رياضة السلوك ، تحتضن الزهد والتقشف والدربة كما حدث أخوه علي بن جعفر ، قال : «خرجنا مع أخي موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في أربع عمر يمشي فيها الي مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشي فيها ستة وعشرين يوما!! وأخري خمسة وعشرين يوما ، وأخري أربعة وعشرين يوما!! وأخري أحد عشر يوما» (٣).

وفي هذا المسلك توطين للنفس علي الشدائد ، ورغبة ملحة في

__________________

(١) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٢.

(٢) ابن‌طلحة الشافعي / مطالب السؤول ٢ / ٦١.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٠٠ وانظر مصدره.


تحصيل منازل الأولياء ، وهو يسير علي قدميه في طريقه الي حرم الله تعالي.

أما اذ لحظت حياته الخاصة ، فكان يقنع بالجشب من الطعام والخشن من الثياب ، والاقلال من الأكل ، والانشغال بالسنن والفروض.

وكان مع هذا العيش البسيط يلبي نداء الاحتياج ، ويقف مع الناس في الفرح والحزن ، ويشاطرهم الأسي في البؤس والفقر ، ويدفع بهم شوطا كبيرا (صفحه ٣٩) نحو الألفة والتوادد وحسن العشرة ، وهو فيما بينهم كأحدهم في اصلاح ذات البين ، وقضاء الحقوق ، وحل الاشكال الاجتماعي.

حلم الامام وكظمه للغيظ

وهذه مميزة أخري اتسم بها الامام ، وهي مرتبة في ترويض النفس لا ينالها الا ذو حظ عظيم ، وقد كان حظ الامام منها الأوفر ، ألا وهي الحلم وكظم الغيظ ، وليس هذا شيئا جديدا علي الامام فقد عرف به في أدوار حياته كلها ، حتي أصبح ذلك شعارا لاصقا به ، ولقبا يتسابق مع اسمه الشريف في العلمية عليه ، حتي قال ابن أبي‌الحديد عنه «موسي بن جعفر بن محمد ، هو العبد الصالح ، جمع بين الفقه والدين والنسك والحلم والصبر» (١).

وللامام في المشهد شواهد وأمثال وأحداث ، ذكرها التأريخ في طياته ، حتي عرف عنه أنه يحسن لمن يسي‌ء اليه ، فقد ذكر السيد الأمين عن الخطيب البغدادي : «أن الامام موسي بن جعفر كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث اليه بصرة فيها ألف دينار» (٢).

وحديث صراره في هذا الملحظ متواترة ، حتي روي أبوالفرج بسنده عن يحيي بن الحسن ، قال : (كان موسي بن جعفر اذا بلغه عن الرجل ما

__________________

(١) ابن أبي‌الحديد / شرح نهج‌البلاغة ٥ / ٢٩١.

(٢) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة ٤ / ق ٣ / ٣٩.


يكره ، بعث اليه بصرة دنانير ، وكانت صراره ما بين الثلثمائة الي المائتين الي المائة دينار ، وكانت صرار موسي مثلا» (١).

والامام (عليه‌السلام) يكظم غيظه عن أعدائه حتي يعودوا أولياءه ، وعن مبغضيه حتي يكونوا أحباءه ، وله في ذلك أخبار حسان.

قال الشيخ المفيد بسنده ، وكذلك الخطيب البغدادي عن جده عن أصحابه : «أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب (رض) كان بالمدينة يؤذي أباالحسن موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، ويسبه اذا رآه ، ويشتم عليا (عليه‌السلام) ، فقال للامام بعض جلسائه : دعنا نقتله ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي ، وزجرهم أشد الزجر ، وسأل عن العمري ، فذكر له أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة. فركب اليه في مزرعته فوجده فيها ، فدخل المزرعة بحماره ... ونزل فجلس عنده ، وضاحكه وقال له :

كم غرمت في زرعك هذا؟

قال : مائة دينار.

قال الامام : فكم ترجو أن تصيب؟

قال : أنا لا أعلم الغيب. قال الامام : انما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟

قال : أرجو أن يجيئني مائتا دينار.

فأعطاه الامام ثلاثمائة دينار ، وقال : هذا زرعك علي حاله ، فقام العمري فقبل رأسه ، وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسم اليه أبوالحسن (عليه‌السلام) وانصرف.

وذهب الامام الكاظم الي المسجد فوجد العمري جالسا ، فلما نظر الي الامام ، قال : «الله أعلم حيث يجعل رسالته».

__________________

(١) الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٩


فوثب أصحابه فقالوا له : ما قصتك؟ قد كنت تقول خلاف هذا ، قال : فخاصمهم وشاتمهم ، وجعل يدعو لأبي‌الحسن موسي كلما دخل وخرج» (١).

ومن برامج حلم الامام وكظمه الغيظ : مداراته للناس ، وذلك ما يحتاج الي رحابة صدر ، وسعة أفق ، وانفتاح نفس ، وله في ذلك أمثلة نابضة ، ولعل من أطرفها : «أنه اجتاز بشر ذمة وفيهم ابن‌هياج فأمر بعض اتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الامام ويدعيها ، فمضي الرجل الي الأمام ، وتعلق بلجام بغلته وادعاها ، فعرف الامام غايته ، فنزل عن بغلته ، وأعطاها له (٢).

ومن أمثلة حلمه الرائعة ضم الحلم الي الكرم ، والتجاوز عن أصحاب السيئات ، وقد روي الكليني عن معتب قال :

«كان أبوالحسن موسي (عليه‌السلام) في حائط له يصرم ، فنظرت الي غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمي بها وراء الحائط ، فأتيته فأخذته وذهبت به اليه ، فقلت : جعلت فداك؛ اني وجدت هذا وهذه الكارة ، فقال للغلام : فلان ، قال : لبيك ، قال : أتجوع؟ قال : لا يا سيدي ، قال : فتعري؟ قال : لا يا سيدي ، قال : فلأي شي‌ء أخذت هذه؟ قال : اشتهيت ذلك. قال : اذهب فهي لك ، وقال : خلوا عنه» (٣).

وقد يكون الحلم وكرم الأخلاق عسيرا في اللحظات الحاسمة ، وقد يخرج المرء عن طوره في الاتزان عند الحرج ، ولكن الامام في مثل هذا الموقع كان سيد الموقف ، فقد روي ابن أبي‌الحديد المعتزلي :

«أن عبدا لموسي بن جعفر (عليه‌السلام) قدم له صحفة فيها طعام حار ، فعجل فصبها علي رأسه ووجهه ، فغضب فقال له :

__________________

(١) المفيد / الارشاد / ٣٣٣ ، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ /.

(٣) الكليني / الكافي ٢ / ١٠٨.


(والكاظمين الغيظ) قال الامام : قد كظمت.

قال : (والعافين عن الناس) قال : قد عفوت.

قال : (والله يحب المحسنين) قال : «انت حر لوجه الله ، وقد نحلتك ضيعتي الفلانية» (١).

وأنت تري الامام في هذه الشواهد يصدر عن نفس مندمجة في معايير جديدة من الحلم والكظم ، فهو لا يكظم الغيظ فحسب ، بل يتفضل ويعفو ويجود ، فيخلق جوا نديا من المحبة والألفة والسلام.

والامام يقصد عامدا الي هذا المنهج ، فقد جمع أولاده وأوصاهم :

«يا بني؛ اني أوصيكم بوصية من حفظها انفتح بها ، اذا أتاكم آت ، فأسمع أحدكم في الأذن اليمني مكروها ، ثم تحول الي اليسري فاعتذر لكم ، وقال : اني لم أقل شيئا فاقبلوا منه» (٢).

والامام في هذا كله ينطلق من مفهوم قرآني بعيد النظر ، قوي الأسر ، وهو يطبقه فعلا ، ليدعم القول بالعمل.

قال تعالي : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (٣).

وقال تعالي : (ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (٤).

ومن أولي من عدل القرآن بتطبيق مبادي‌ء القرآن.

يضاف الي هذا كله؛ أن الامام يزين حلمه بالتواضع ، وسيرته هذه بمكارم الأخلاق ، وذلك مسلك عرفاني له شواهده عند الامام.

أورد السيد الأمين عن تحف العقول : ان الامام مر برجل من أهل

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٤٨ عن شرح النهج ١٨ / ٤٦.

(٢) ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / ٢٢٠ ، وقريب منه في كشف الغمة للاربلي ٣ / ٩.

(٣) سورة الأعراف / ١٩٩.

(٤) سورة فصلت / ٣٤.


السواد ، دميم المنظر ، فسلم عليه ونزل عنده ، وحادثه طويلا ، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجته ... فقيل الامام : يابن رسول الله ، أتنزل الي هذا؟ ثم تسأله عن حوائجه ، وهو أحوج اليك؟

فقال : «عبد من عبيدالله ، وأخ في كتاب الله ، وجار في بلاد الله ، يجمعنا واياه خير الآباء آدم ، وأفضل الأديان الاسلام ، ولعل الدهر يرد من حاجتنا اليه ، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه» (١).

وهذا النحو من التواضع فيه نظرة فاحصة لأصول الأخوة البشرية في ضوء انسانية الاسلام ، وفيه تلويح بأن بقاء الحال من المحال ، فهذا الرجل المحتاج اليوم ، قد يضطر الآخرون لاحتياجه يوما ما ، وتلك نظرات قل من يدقق فيها منفتحا عليها كما صنع الامام (عليه‌السلام).

ظاهرة السخاء والكرم النفسي

نظر الامام الي سرف أبي‌جعفر المنصور ، وسرف ولده المهدي ، وتبذير موسي الهادي ، ومجون هارون الرشيد ، وهم يتناوبون علي احتجان أموال المسلمين ، ويمعنون بمصادرة أملاكهم ، وحقوق الناس بأيدي الطغمة الحاكمة تدار بها الكؤوس وموائد القمار ، ومجالس العبث واللهو ، فكان الامام بظاهرة سخائه يمثل ردة فعل لاستبداد العباسيين في بخلهم علي الآخرين ، وجشعهم المفرط في الاستيلاء علي مصادر الغني والثروة ، فعمد الي انعاش الضعفاء ، وارفاد المحرومين ، واجراء الرزق علي أهل الفاقة ، فسارت الركبان بأنباء كرمه الفياض ، وتحدث الشعب المسلم عن أفضال هذا السخاء والعطاء. قال الشيخ المفيد : «وكان أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل ، فيحمل اليهم الزنبيل فيه العين والورق ،

________________

(١) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة ٤ / ق ٣ / ٤١.


والأدقة والتمور ، فيوصل ذلك ، ولا يعلمون من أي جهة هذا» (١).

وهذا منهج جديد في الاسرار بهذه الأعطيات ، لتكون خالصة لوجهه الكريم ، ولئلا يزري بالفقير فقره ، وقد كفاه الامام ذلك. ولم تكن بين الامام والفقراء أية وساطة ، وانما هو معهم في قضاء حوائجهم وجها لوجه. فقد أورد الأستاذ باقر شريف القرشي : ان بعض الفقراء دخل علي الامام يسأله العطاء ، فقال له الامام : لو جعل لك التمني في الدنيا ، ما كنت تتمني؟

قال : كنت أتمني أن أرزق التقية في ديني ، وقضاء حقوق اخواني ، فاستحسن الامام جوابه ، وأمر أن يعطي ألف دينار (٢).

وكان الامام في كرمه يقابل الألطاف بالاحسان ، والهدية بالعطاء الوفير ، فقد أهدي اليه أحد العبيد في بعض أسفاره شيئا من الألطاف فقبلها الامام بقبول حسن ، وسأل عن اسم العبد ومولاه ، فوقف عليه.

فقال الامام لمولاه : «غلامك فلان تبيعه؟ قال له : جعلت فداك؛ الغلام لك والضيعة ، فاشتري أبوالحسن الضيعة والرقيق بألف دينار ، وأعتق العبد ، ووهب له الضيعة ...» (٣).

وأمثلة كرم الامام عديدة ، وهدفها البر والاحسان ، وطبيعتها اغاثة الملهوف ، وامدادها ذلك الحلال الخالص الذي ينتقيه الامام من طيب ماله وغلات مزارعه ، وأراضيه الموروثة ، وتلك موارد سليمة الأصل ، وربما افتقرت أن يعمل الامام بنفسه علي انمائها ، وأن يتفقدها بذاته من أجل اعمارها؛ وقد يستغرب هذا من الامام مع توفر مساعديه وغلمانه من جهة ، ومع جلالة قدرة وعظيم منزلته من جهة أخري ، ولكنه العمل الذي يوجهنا

__________________

(١) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٣.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ١٥٤ وانظر مصدره.

(٣) ظ : الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد / ١٣ / ٢٩ ـ ٣٠ ، محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥١.


نحوه ، وليكون به قدوة تحتذي لأتباعه وأوليائه ، فالعمل شرف لا يدانيه شرف. وعمل الامام لا يقلل من قيمته القيادية علي الاطلاق ، بل يقربه من النفوس الوادعة المطمئنة ، ويعلي منزلته في أنظار ذوي الهمم العالية.

روي علي بن حمزة قال :

«رأيت أباالحسن (عليه‌السلام) يعمل في أرض له ، قد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت : جعلت فداك؛ أين الرجال؟

قال (عليه‌السلام) : يا علي؛ قد عمل باليد من خير مني في أرضه.

فقلت : ومن هو؟

فقال (عليه‌السلام) : رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأميرالمؤمنين (عليه‌السلام) وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم ، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين» (١).

فاذا علمنا أن للامام ضياعا موروثة ، وأن بعض المزارع كانت بحيازته بالاحياء لأراضيها ، وأن قسما منها تملكها بالشراء ، علمنا مصدر هذا الكرم ، ومورد هذا السخاء الرهيف (٢).

يقول الأستاذ الشيخ محمدحسن آل‌ياسين :

«وكلمة يجب أن تسجل هنا ... تلك هي أن هذا الكرم الواسع الذي أصبحت صرره مضرب المثل ، لم يكن بفضل ما يصل الامام من الأموال الشرعية من أتباعه وشيعته في شرق الأرض وغربها ، لأن ايصال تلك الأموال لمستحقيها لا يعد كرما وجودا. وانما تجسد ذلك السخاء الثر والعطاء المغدق بسبب ما كان يصله من حاصل ضياعه ومزارعه التي دخلت في ملكه شراء أو ارثا من أسلافه» (٣).

وهنا نسجل ظاهرة يرددها المعنيون بسيرة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام)

_________________

(١) الكليني / الكافي ٥ / ٧٥ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١١٥.

(٢) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٢٨ ، ياقوت / معجم البلدان ٥ / ٢٣.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥١.


وهي ظاهرة صراره التي يضرب بها المثل حتي قيل :

«عجبا لمن جاءته صرة موسي فشكا القلة» (١).

ومعني هذا أن في صراره الغني والاغناء ، وفي صلاته بها الكفاية والثراء ، واذا دققنا النظر في قيمة الدينار الذهبي في عصره عرفنا مدي قيمة صراره بالصلات بالمائة والمائتين والثلاث والأربع حتي الألف من الدنانير ، فهي تسبب لمن تصل اليه الغني بحدود معينة ، وللامام في ذلك أخبار طريفة تقدم بعضها في موقعها من الرسالة شاهدا أو نموذجا.

قال الاربلي : «وذكر جماعة من أهل العلم أن أباالحسن (عليه‌السلام) كان يصل بالمائتي دينار الي الثلاثمائة دينار ، وكانت صرار موسي (عليه‌السلام) مثلا» (٢).

وروي عن محمد بن عبدالله البكري قال : «قدمت الي المدينة أطلب دينا فأعياني ، فقلت : لو ذهبت الي أبي‌الحسن (عليه‌السلام) فشكوت اليه ، فأتيته ... وسألني عن حاجتي فذكرت له قصتي ، فدخل ولم يقم الا يسيرا حتي خرج الي ، فقال لغلامه : اذهب ، ثم مد يده الي فدفع الي صرة فيها ثلاثمائة دينار ...» (٣).

فاذا علمنا أن ثمن الدار في عصر الامام أربعون دينارا كما يقول المؤرخون ، عرفنا أن هذا المبلغ ضخم في حينه.

ومن النماذج الراقية لكرمه الفياض ما حدث به عيسي بن محمد بن مغيث القرظي ـ وكان قد بلغ تسعين سنة حينما حدث بهذا الحديث ـ (صفحه ٤٧) قال : «زرعت بطيخا وقثاء وقرعا في موضع بالجوانية علي بئر يقال لها : «أم عظام» فلما بلغ الخير واستوي الزرع ، بغتني الجراد فأتي علي الزرع كله ، وكنت قد غرمت علي الزرع وفي ثمن جملين : مائة وعشرين دينارا. فبينما أنا

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار / ٤٨ / ١٠٤ و ١٠٨.

(٢) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٢١.

(٣) المصدر نفسه ٣ / ٢٠.


جالس طلع موسي بن جعفر بن محمد ، فسلم ثم قال : ايش حالك؟ فقلت أصبحت كالصريم ، بغتني الجراد فأكل زرعي ، قال : وكم غرمت فيه؟ قلت : مائة وعشرين دينارا مع ثمن الجملين ، فقال : يا عرفة؛ زن لأبي المغيث مائة وخمسين دينارا ...

فقلت : يا مبارك ، ادخل وادع لي فيها ، فدخل ودعا ...

ثم علفت عليه الجملين وشيعته ، فجعل الله فيها البركة ، زكت فبعث منها بعشرة آلاف» (١).

وكان الامام (عليه‌السلام) يتصدق بالمزارع والضياع والبساتين ، ويوقف بعضها علي ذريته من بعده ، وقد جمع روايات ذلك وأشار اليه الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين (٣).

وهذا أيضا يضاف الي قاموس كرم الامام وفيضه الزاخر. ولنا أن نتساءل عن هذه النفس الكريمة في العطاء والايثار ، كيف اندفعت هذا الاندفاع لاحياء النفوس ، وبعث الأمل في القلوب البائسة والمنكوبة؟ والاجابة عن هذا لا تحتاج كثير تأمل أو طول تفكير ، فما يصدر عن الامام في هذا الصدد نابع من مفاهيم انسانية عليا سبق لها آباؤه وأجداده ، ولا حاجة بنا أن نذكر أن الامام الحسن بن علي أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) كان يوصف بأنه (كريم أهل البيت) وهذا أشهر من أن يذكر ، ولا كبير جهد لدينا أن نعتبر هذا الجود الغامر من صميم المفردات (صفحه ٤٨) الانسانية التي طرحها الامام بحيث اعتبر ذلك مثالا لشجرة في الجنة فقال : (السخاء شجرة في الجنة ، وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلق بغصين منها أدته الي الجنة. والبخل شجرة في النار ، وأغصانها في الدنيا ، من تعلق بغصن منها أدته الي النار) (٣).

__________________

(١) الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد ١٣ / ٢٩ ، الذهبي / سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٧٢.

(٢) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥١ ـ ٥٢.

(٣) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٥٢ ـ ٢٥٣.


الفصل الثاني

الامام والمسيرة العلمية الرائدة

١ ـ المدرسة الأولى.

٢ ـ مصادر علم الإمام عليه السلام.

٣ ـ سيرورة علم الإمام عليه السلام.

٤ ـ تلامذة الإمام والبراث العلمي.

٥ ـ تعليمات الإمام لتهذيب الشعب المسلم.



المدرسة الأولي

كانت جامعة أهل البيت (عليهم‌السلام) هي الأمل الباسم لصيانة التراث الاسلامي من الضياع ، ومؤسس هذه الجامعة هو أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) بما غرس من أصول معرفية ذات ارتباط عريق بالفيض النبوي الشامل ، فالنبي مدينة العلم وعلي بابها باجماع المسلمين ، وكان سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين يغذيان أصول هذه الجامعة بما سمح لها العصر ، وما وجدا الي ذلك سبيلا ، وكان الامام زين‌العابدين مشفقا علي هذه الجامعة من الانحلال والتدهور بعصر فقدت به مقاييس الفضيلة ، ولكنه استطاع من خلال قيادته ومناداته بحقوق الانسان ، وسيل أدعيته الهادرة أن يضفي ظلال الاستقرار علي المبادي‌ء العامة للجامعة دون الاغراق بالتفصيلات الدقيقة.

حتي اذا أوشك القرن الأول الهجري علي الغياب ، التمع في الأفق ذلك الشهاب الثاقب الامام محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام). فكان المجدد الحقيقي لحضارة التشريع ، وكان الرائد الصادق لمعارف الرسالة الاسلامية ، بناء


وتطويرا واذاعة ونشرا (١).

حتي اذا تسلم الامام جعفر بن محمد الصادق قيادة الأمة ، كان زعيم مدرسة أهل البيت الريادية دون منازع ، وبدأ التحرر الانساني في العقل يخطو خطوات رهيفة في الانفتاح علي كل جديد ، وبدأ الفكر المعرفي يتطلع الي المزيد من الثقافة العليا ، وانحسر المد العلمي عن كوكبة من المعارف السائرة مع الزمن ، فللتشريع أساطينه ، وللفقه جهابذته ، وللحديث رجاله ، وللعلم التجريبي متخصصوه ، وللعلوم الانسانية روادها الأوائل ، وللابداع في النظر والفنون والحياة العقلية جمهرة من المتتبعين والعاملين باخلاص وأمانة.

ولدي اضطلاع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالمسؤولية القيادية ، نهد بصيانة هذا التراث الضخم ، وعمل علي اذاعته في الآفاق ، وأصبح العلم الشاخص الذي ترنو له الأبصار والضمائر.

وكانت هذه المدرسة عالمية الدلالة ، انسانية العطاء ، اسلامية المصادر ، تتسم بالعمق والأصالة ، وتمتاز بالموسوعية النادرة ، وكان من خصائصها الشمولية والاستيعاب لمفردات الحضارة الاسلامية ، لا تجمد علي مادة ، ولا تقف عند موضوع ، فهي متجددة الآراء ، موضوعية النظرة ، سليمة الأداء.

وكان من رصانتها الاجتماعية أنها للانسان بكل شرائحه المتعددة ، وللمسلم المتحفز بكل آثارها الراسخة ، وهي بذلك تحقق مبدأ الرسالة العامة التي لا تقتصر علي موقع ، ولا تتحدد باقليم ، بعيدة عن الأثرة ، قريبة من التفاعل الاجتماعي.

واذا تدارسنا ببصيرة وامعان مركز الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من

__________________

(١) ظ : المؤلف / الامام محمد الباقر / مجدد الحضارة الاسلامية / مؤسسة العارف / بيروت / ٢٠٠٢ م.


هذه المدرسة؛ رأيناه القائم علي ادارتها واستمراريتها بعد أبيه ، ووجدناه المشفق الحدب علي اغناء هذه المدرسة واثرائها ، فكان العامل اليقظ علي تطبيق أهدافها المركزية من جهة ، والناشط الواعي في نمو حركتها من جهة أخري ، وقد حقق ذلك بما عرف عنه بأنه الرائد المتمرس لمعالم التحضر الانساني ، والقائد المجرب في ميادين التجديد والابداع.

ولم يكن الامام مخلي السرب ، آمن الجريرة ، وليس لديه من النفوذ ما يجعله في وضع استقراري يحمد عليه ، وليست له الحرية الكاملة في التحرك والانطلاق ، ومع هذا كله ، لم تكن السجون والمعتقلات التي تعرض لها ، ولا موجات الارهاب السياسي التي واجهها لتعيق مسيرة هذه المدرسة الصاعدة ، لأن الكفاح في غمرات هذا المناخ كان متواصلا علي أية حال ، حتي ان رسائله واجاباته وفتاواه لتصدر عنه وهو في غياهب السجون ، فيتلقاها تلامذته وأولياؤه بالنشر والاذاعة وابلاغ الناس.

ولم تكن الرقابة الصارمة لتحد من نشاط هذه المدرسة الا بحدود ، وذلك أن الامام قد غرس في كل دار منها نبتة طيبة تجد التربة الصالحة للازدهار والاثمار ، فيتناولها تلامذته المقربون بكل حرص وأمانة ، وهم أداة التبليغ الاسلامي الأمين.

ان معاناة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) كانت كفيلة بالقضاء علي كيان هذه المدرسة ، ولكن الشعلة ما كان لها أن تنطفي‌ء ، وقد خلق من حولها الرواة والمحدثون والأعلام يذكون جذوتها ، ويتابعون ايراءها وايقادها ، وهي تزدهر ما بين المغرب والمشرق. ومن هنا بلغت الذروة في العطاء السائر الذي يدان فيه للامام عبر تطلعاته في جعل العلم بديلا لجاهلية النظام العباسي في كل ممارساته التي تدل علي الجهل والضلال والزيغ المتعمد ، وكان ذلك خطرا داهما علي كيان الأمة يهددها بالدمار والبوار ،


لولا أن يتداركها الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في ذلك التوجه النابض.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي : «وكان من أهم ما عني به الامام موسي (عليه‌السلام) نشر الثقافة الاسلامية ، واشاعة المعارف العامة بين الناس ، وقد عملت تعاليمه الرفيعة علي تنمية العقول ، وتثقيف الأفكار ، وتقدم المسلمين في الميادين العلمية ... ونظرا لمركزه العلمي الخطير فقد شاع ذكره في البلاد ، وتحدث الركبان بوفرة مواهبه ومقدراته العلمية ، وقد دان شطر كبير من المسلمين بامامته ، وجعلوا مودته ، والأخذ بقوله ، فرضا من فروض الدين» (١).

وهنا يقترن الهدف الديني بالهدف العلمي ، فتكون الحصيلة المزدوجة من اقترانهما : أن ما يبلغ علميا يصدر عن قناعة دينية ، وبذلك يكتب لأي أثر في هذا المنظور السيرورة النافذة.

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد استشف من وراء الغيب أن حياته مهددة بالخطر سياسيا ، وليس في مقدوره تغيير هذا المنحني السياسي الطائش ، فاتجه الي الرسالة العلمية مناضلا في ميادينها كافة ، والتزم الخط المنهجي لجامعة أهل البيت في تخطيطها البعيد ، وهو يستشرف العالم الاسلامي في حركته العلمية الدائبة ، فغذاها ـ أعني الجامعة ـ بفيض امداده الذي لا ينضب ، وتبني الملتفين حول أغصانها بأبوة مانحة للتوجيه والنصح الكريم ، وتلقي هؤلاء هذا العطف المثالي بجد واجتهاد فما فرطوا في شي‌ء ، بل اهتبلوا الفرص المواتية ـ علي شدة الرقابة ـ للافادة والاضاءة ، وكان هذا الحافز الشريف ، يسترعي نظر الامام في العطاء ، فكتب ، وألف ، وحدث ، وأفتي ، وناظر ، وحاضر ، فصان الجامعة بأبنائها الواثقين ، ونشر مبادئها الكبري في شتي الممالك والأقاليم ، فكانت قبلة

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٣٣.


الطالبين والسالكين معا.

وعاد هذا التراث الهادي متوافرا لدي العلماء ، وفي أيدي العاملين علي ارفاد الثقافة الملتزمة ، والصابرين علي شدة المحنة في التحري والرصد. ونجم عن هذا كله : خلود هذه المدرسة السيارة بعطائها الجزل ، وكيانها المستقل.

واستقلالية مدرسة أهل البيت حقيقة زمنية شاخصة ، فهي لا تستمد كيانها من السلطات القائمة ، وهي لا تسير بركاب الحاكمين ، وهي لا تستعين بالقوة لفرض سيطرتها علي العقول ، وهي لا تتوسل بالمال علي تعزيز نفوذها ، وهي لا تلجأ الي الأساليب الشائعة في العصر للتغلغل في ضمائر الناس ، بل قامت علي سجيتها ، فطرية الأداء ، عفوية الارادة.

وكان دور الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) دور المجدد والمطور لمبادي‌ء هذه المدرسة بما أوتي من قوة عقلية وادراك علمي متميز ، وبما استقي من معارف متسلسلة من ذلك الرافد الأساس الذي تفجرت منه أمواج الثقافة عند أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام).

وعندما تتحقق هذه الظواهر في أي أثر معرفي يكون الخلود السرمدي الرابض في صدر الحياة ، وتكون الافادة من تراثه الأثير في الموقع المتجدد ، واذا كان الأمر كذلك ، وهو كذلك ، فما علينا الا أن نتحدث لماما عن موارد هذا العلم ومصادره.


مصادر علم الامام

هناك مسألة كبري تشغل مساحة كبيرة من التساؤل ، وتثير في طريقها جملة من الاشكاليات التي لا يستهان بها ، وقد يبدو عليها الاستغراب حينا ، والاستبعاد حينا آخر.

هذه المسألة تنحصر في مصادر علم الأئمة (عليهم‌السلام). وتشكل الاجابة عن هذه المسألة مشكلة معقدة عند بعض الباحثين الذين يجهلون كنه حقائق الأشياء.

وما دمنا في هذا الصدد ، فان الموروث الاستقرائي هو الذي يجيب عن هذه الحقيقة باعتبارها أرفع مستوي عن الأوهام ، فقد بحثنا من قبل موارد علم الامام الصادق (عليه‌السلام) فكانت من منبعين ، هما :

١ ـ العلم التكسبي الذي توارثه كل امام عن آبائه عن رسول الله (صلي الله عليه وآله).

٢ ـ العلم الموهبي الذي يرتبط بالله (تعالي) بما يفيضه من لدنه علي الأئمة لاكمال متطلبات الرسالة ، باعتبار الامامة امتدادا للنبوة (١).

ونحاول استقراء لمحات من الموضوع ، في ضوء مصادر علم الامام

__________________

(١) ظ : المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة اهل البيت / الباب الثاني الفصل الأول / موارد علم الامام الصادق (عليه‌السلام).


موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، حيث نجد المبدأ ثابتا بدلائله العلمية.

ان العلم الوراثي الذي احتضنه الامام الكاظم (عليه‌السلام) مما تدل عليه الآثار وتصرح به الروايات الصادرة عن آبائه (عليه‌السلام) :

وهذا النوع من العلم له مصدران هما الكتاب والسنة ليس غير. واذا كان الأمر كذلك ، خرجنا من عهدة التساؤل والاثارة ، فهو علم كسبي يتدارسه الامام في ظل من كان قبله من الأئمة شفاها أو تدوينا أو رواية ، أو هي كلها ، والامام موسي بن جعفر تلميذ أبيه الامام الصادق ، والصادق تلميذ أبيه الامام الباقر حتي ينتهي أمر ذلك الي أميرالمؤمنين ، وعلم أميرالمؤمنين فرع أثير من علم رسول الله (صلي الله عليه وآله) ما في ذلك من شك.

اذن نحن أمام مخزون مدخر لكنوز العلم السائر مصدره ، ذلك الباب الذي لا يوصد ، وهو مبني اما علي الرواية المتسلسلة حتي تتصل برسول الله (صلي الله عليه وآله) واما علي أساس العلم التكسبي الذي يتلقاه الامام من أبيه ، وهكذا.

وكان الامام أحمد بن حنبل زعيم الحنابلة شديد الاعجاب بما يرويه عن الامام موسي بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) ، فيقول : «حدثني موسي بن جعفر ، (صفحه ٥٥) قال : حدثني أبي‌جعفر بن محمد ، قال : حدثني أبي‌محمد بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي الحسين بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن أبي‌طالب ، قال : قال رسول الله (صلي الله عليه وآله)».

ثم قال أحمد بن حنبل بعد رواية هذا السند بالحرف الواحد : «هذا اسناد لو قري‌ء علي المجنون لأفاق» (١).

ومن كان هذا سنده في الرواية عرفت مصدر علمه الوراثي. لقد سأل خلف بن حماد الامام موسي بن جعفر مسألة ، فأجابه عليها ، فقال له خلف : جعلت فداك؛ من يحسن هذا غيرك؟ فرفع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) يده

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣١ ـ ٤٣٢.


الي السماء ، وقال : «اني والله ما أخبرك الا عن رسول الله عن جبرئيل عن الله (تعالي) (١) وهناك ما هو أصرح من هذا في النظر الي موقع علم الوراثة من علمه ، قال ابن المغيرة : «كنت أنا ويحيي بن عبدالله بن الحسن عند أبي‌الحسن (عليه‌السلام) (يعني الامام موسي بن جعفر) قال له يحيي : جعلت فداك ، انهم يزعمون أنك تعلم الغيب فقال : ... لا والله؛ ما هي الا وراثة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله)» (٢).

وهنالك انباء آخر عن العلم الوراثي التدويني لديه (عليه‌السلام) ، فقد سئل الحسين بن زيد عن معرفة الامام موسي بن جعفر ببعض الغيب ، فقال : «وكيف لا يعرفه ، وعنده خط علي (عليه‌السلام) ، واملاء رسول الله (صلي الله عليه وآله)» (٣).

وهذا العلم غير خاضع للاجتهاد ، وهو نص صريح مطلق ، ولا مصدر له الا الكتاب والسنة كما هو الواقع بما تفيده الآثار ، فقد روي سماعة عن الامام موسي بن جعفر ، قال : قلت له : أكل شي‌ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلي الله عليه وآله) ، أو تقولون فيه؟ قال : بل كل شي‌ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلي الله عليه وآله) (٤).

وبهذا يتضح للباحث المحايد أن مصدر علم الامام يستند الي الركنين الأساسيين في التشريع : القرآن العظيم والسنة النبوية.

وكان انتظام هذا المصدر متجانسا مع طبيعة حياة الامام الدراسية ، فما تحدث أحد أنه درس علي أحد ، أو أخذ عن أحد ، فليس له شيوخ أو أساتيذ كما هو شأن العلماء الآخرين ، ولم يحضر في حلقة أستاذ ، ولم يتخرج في معهد ما ، وانما تخرج في مدرسة أبيه ضمن التسلسل الاسنادي في الرواية والحديث والتفقه العام ، حتي أصبح قائد هذه المدرسة بعد حين.

_________________

(١) الكليني / الكافي ٣ / ٩٢ ، البحار ٤٨ / ١١٣.

(٢) الشيخ المفيد / الأمالي / ١٣.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٦٠ يرويه عن / الحميري / قرب الاسناد / ١٧٨.

(٤) الكليني / الكافي ١ / ٦٢.


ولا أدل علي صحة هذا القول وواقعه من شهادة هارون الرشيد في حق الامام ، وهو يشير اليه فيما قاله لولده المأمون :

«يا بني؛ هذا وارث علم النبيين ، هذا موسي بن جعفر بن محمد ، ان أردت العلم الصحيح فعند هذا» (١).

وكان من العلم الصحيح الذي أشار اليه الرشيد ، أن الامام (عليه‌السلام) يؤكد علي الكتاب والسنة فيما يتلقي من العلم ، ويدرأ الرأي والقياس في الافتاء ، فعن سماعة عنه (عليه‌السلام) قال : وسألته فقلت : ان أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك ، وسمعوا منهما الحديث ، فربما كان شي‌ء يبتلي به بعض أصحابنا ، وليس في ذلك عندهم شي‌ء يفتيه ، وعندهم ما يشبهه ، يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟

فقال : لا ، انما هلك من كان قبلكم بالقياس.

فقلت له : لم لا يقبل ذلك؟

فقال : لأنه ليس من شي‌ء الا وجاء في الكتاب والسنة» (٢).

واتساع السنة ، واستيعاب الكتاب كما يدور في الابتلاء العملي أو النظري للأمة ، مما لا شك فيه ، نعم قد يجهله من يجهل ، وقد يعلمه من يعلم ، وانما علم الكتاب والسنة عند أهله.

وقد أكد الامام هذا الملحظ في حديث آخر قال في آخره :

«... أتي رسول الله الناس بما استغنوا به في عهده ، وبما يكتفون به من بعده الي يوم القيامة».

فقلت له : فضاع منه شي‌ء؟ فقال : لا ، هو عند أهله» (٣).

وهو بهذا يشير الي وراثته لهذا العلم الذي انضوي عليه صدره. وبهذا

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٦.

(٢) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٨١.

(٣) المصدر نفسه / ٢٨٢.


يتجلي لنا مصدر علم الامام استقراء وواقعا.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«وهكذا يتضح أن كتاب الله وسنة رسوله الأكرم (صلي الله عليه وآله) كاناهما المصدرين الحقيقين الوحيدين حصرا وتعيينا لعلم الامام الكاظم ، ودائرة معارفه الكبري الشاملة ، وأن كل ما كان يحمله من فضل وفكر متفرع منهما ، وكان أبوه الامام الصادق ـ وهو بحر العلم وينبوع المعرفة باجماع المسلمين واتفاق الباحثين ـ طريقه الأوحد الي تناول ذلك كله ، وأستاذه الأكبر الذي لم يعرف أستاذا غيره ، وقد تلقي من نميره المتدفق صفو العطاء والرواء ، فكانت حصيلة تلك الأستاذية المثلي وذلك الارث العظيم بروز هذا الانسان الملائكي الفريد ، مجسدا علي الأرض بصورة الامام موسي بن جعفر» (١).

واننا اذ نثبت هذا الأصل ، وهو ثابت بالدليل ، فليس من قبيل التعصب أو المبالغة ، فلسنا منهما في شي‌ء ، وانما هو البحث الموضوعي الخالص لا القول الجزاف ، بل هناك ما هو صريح بالسنة التدوينية لدي الامام ، وفيه ما يحتاج اليه الناس ، بل فيه فوق هذا الانفتاح علي مغاليق الأمور ، وقد أكد الامام الصادق (عليه‌السلام) علي هذا الملحظ بقوله :

«ان عندنا ما لا نحتاج معه الي الناس ، وان الناس ليحتاجون الينا ، وان عندنا كتابا من املاء رسول الله (صلي الله عليه وآله) وخط علي (عليه‌السلام) ، صحيفة فيها كل حلال وحرام. وانكم لتأتون بالأمر ، فنعرف اذا أخذتم به ، ونعرف اذا تركتموه» (٢).

وأما العلم الموهبي الذي أشار له البحث ، فهو لطف الهي بعيد عن

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) الكليني / الكافي ١ / ٢٤٢.


المزاعم الغالية ، ولكنه فوق مدرسة الكسب والتعلم التقليدي ، وحقيقته نابعة فيما آتاه الله عباده المقربين في ضوء قوله (تعالي) ـ فيما اقتص من خبر موسي (عليه‌السلام) مع العالم الذي قد يعرف بالخضر ـ (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) (١) فهو علم لدني يهبه الله لمن يشاء من عباده الصديقين ، وكان أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) من أبرز مصاديق هؤلاء العباد.

وهذا ما يفسر لنا قول الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) :

«مبلغ علمنا علي ثلاثة وجوه : ماض ، وغابر ، وحادث ، فأما الماضي فمفسر ، وأما الغابر فمزبور ، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع» (٢).

وليس ما تحدث عنه الامام في الوجه الثالث وهو العلم الحادث ، من العلم بالغيب اختصاصا ، ولكنه من علم الغيب افاضة أو اخبارا ، فعلم الغيب بحد ذاته مما يختص به الله وحده ، وهو بوصفه مما يختص به الله غيره باعتباره حالة ممكنة يخص بها الله من يشاء من رسله وأصفيائه ضمن قوله (تعالي) :

(عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا ـ الا من ارتضي من رسول ..) (٣).

وهذا ليس من قبيل الوحي ، ولكنه يتأتي بوسائط تحدث عنها الامام ، فالقذف في القلوب ، والنقر في الأسماع ، والالهام اليقيني الخالص ، كل أولئك من مفردات هذا العلم.

فعن علي بن يقطين ، قال : قلت لأبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) :

«علم عالمكم؛ سماع أم الهام؟

__________________

(١) سورة الكهف / ٦٥.

(٢) الكليني / الكافي ١ / ٢٦٤.

(٣) سورة الجن / ٢٦ ـ ٢٧.


فقال : قد يكون سماعا ، ويكون الهاما ، ويكونان معا» (١).

وهذا ما يفسر لنا تلك الانباءات الغيبية المتواترة التي تحدث عنها الامام ببصر قاطع ، وأخبر عن وقوعها فوقعت. فكتب الامام الي الرشيد : «يقول موسي بن جعفر : رسولي يأتيك يوم الجمعة ، ويخبرك بما يري ، وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي علي صاحبه».

فأخبر هارون بذلك فقال :

(ان لم يدع النبوة بعد أيام ، فما أحسن حالنا).

فلما كان يوم الجمعة مات الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) (٢).

وكاخباره عن مدي بعض الأعمار ، وما تبقي منها ، وما أزيد عليها ، بلغة جادة ، فكان ذلك (٣).

وكالتماسه أن يدعو للمفضل وهو في النزع الأخير ، فأخبر بموته قائلا : قد استراح (٤).

وكتعظيمه لأجر بيان بن نافع بأبيه ، واخباره بأنه قبض في هذه الساعة ، فيقي ابن نافع متحيرا ، حتي أتاه الخبر مطابقا (٥).

وكاخباره بمن سيموت في سفره قبل أن يصل الي أهله (٦).

وكاخباره بحضور أجل من وصل عمته فزيد الي أجله عشرين (٧).

وكقوله (عليه‌السلام) لعبدالله بن يحيي الكاهلي :

«اعمل خيرا في سنتك هذه ، فان أجلك قد دنا».

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٨٦.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٩.

(٣) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٦٨.

(٤) المصدر نفسه ٤٨ / ٧٢.

(٥) المصدر نفسه ٤٨ / ٧٢.

(٦) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٣٦.

(٧) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٣٦.


فما لبث الا يسيرا حتي مات (١).

وكأمره الفوري لعثمان بن عيسي ، وقد نزل هو ورفاقه في منزل ، فأمره أن يخرجوا منه الساعة. فلما خرجوا انهارت الدار (٢).

وكقوله (عليه‌السلام) لاسحق بن عمار :

«يا اسحاق تموت الي سنتين ، ويتشتت أهلك وولدك ، وعيالك ، وأهل بيتك ...» فكان كما أخبر (٣).

وكالخبر المستفيض المعروف بدرهم شطيطة ، وهو درهم أرسلته هذه المرأة الصالحة حقا شرعيا للامام ، وقد أخفاه المرسل بيده عن الامام ، ازدراء بقلة المبلغ وتواضعه ، فطالبه الامام بذلك الدرهم عينه ، ووزنه درهم ودانقان ، في الكيس الذي فيه أربعمائة درهم (٤).

وكان هذا كله رصدا لحقائق الأشياء بلمح غيبي لا سبيل معه الي التردد والانكار ، فهو واقع بالفعل.

وقد سئل الامام الصادق (عليه‌السلام) عن الامام يعلم الغيب؟

فقال : «لا ، لكن اذا أراد أن يعلم الشي‌ء ، أعلمه الله» (٥).

وقد سئل الامام موسي بن جعفر نفسه : أتعلمون الغيب؟

فقال : قال أبوجعفر (عليه‌السلام) : «يبسط لنا العلم فنعلم ، ويقبض عنا فلا نعلم». وقال : «سر الله (عزوجل) ، أسره الي جبرئيل ، وأسره جبرئيل الي محمد (صلي الله عليه وآله) وأسره محمد الي من شاء» (٦).

__________________

(١) ظ : الكشي / الرجال / ٢٨٠.

(٢) الحميري / قرب الاسناد ١ / ١٩٤.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ٤٨٤.

(٤) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٧٤ وانظر مصدره.

(٥) الكليني / الكافي ١ / ٢٥٣ ، ١ / ٢٥٦.

(٦) الكليني / الكافي ١ / ٢٥٣ ، ١ / ٢٥٦.


وهذا الطرح الموضوعي للأئمة يوحي بصريح القول : أن علم الغيب خاصة الهية ، ولكن الله (تعالي) قد يفيض من هذا الرافد علي رسوله ، ورسوله يفيض علي أهل بيته ، وأهل بيته قد يتحدثون بجزء منه بضرس قاطع ، فينبئون عن الحدث المستقبلي بلغة الحتم.

وقد كان أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) دقيقا في الرد علي من نسب اليه علم الغيب ، فقال :

«ليس هو بعلم غيب ، وانما هو تعلم من ذي علم ، وانما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده الله بقوله :

(ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير) (١).

وما سوي ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ، ودعا لي أن يعيه صدري ، وتفتطم عليه جوانحي» (٢).

والامامية لا تستكثر امداد العلم الموهبي لأئمة أهل البيت ويشاركهم في هذا ذوو النظر العقلي من أهل الاسلام ، وأدلته في السيرة أكثر من أن تحصي ، ولقد قال الامام الصادق لعبدالله النجاشي : «والله ان فينا من ينكث في قلبه ، وينقر في اذنه ، وتصافحه الملائكة».

فقلت : اليوم ، أو كان قبل اليوم؟

فقال الامام : «اليوم والله يابن النجاشي» (٣).

ولا أدل علي هذا من خوف الجبابرة وهلع الطغاة من هذه الظاهرة ، فهم يتحسسون منها ، وترتعد لها فرائصهم ، فقد تتحدث عن مستقبلهم ، وقد تكشف عما خبأ الدهر لهم.

__________________

(١) سورة لقمان / ٣٤.

(٢) محمد عبده / شرح نهج‌البلاغة / ٢٣٩ / طبعة دار الأندلس / بيروت.

(٣) الاربلي / كشف الغمة ٢ / ٤١٦.


وقد يبدأ الامام ذلك كما أخبر المأمون بأنه سيلي الخلافة (١).

ولا برهان علي حقيقة هذا الأمر مما اكده الدينوري في روايته :

ان الرشيد قال يوما للأصمعي ، وهو يحدثه عن ولديه الأمين والمأمون : «كيف بكم؟ اذا ظهر تعاديهما ، وبدا تباغضهما ، ووقع بأسهما بينهما؟ حتي تسفك الدماء ، ويود كثير من الأحياء أنهم كانوا موتي».

فسألنا الأصمعي : ... هذا شي‌ء قضي به المنجمون عند مولدهما ، أو شي‌ء أثرته العلماء في أمرهما؟

قال الرشيد : بل شي‌ء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما.

قال الرواة : «فكان المأمون يقول في خلافته : قد كان الرشيد سمع جميع ما جري بيننا من موسي بن جعفر بن محمد ، فلذلك قال ما قال» (٢).

وسواء استجاب أعداء الامام لهذا النوع من العلم الذي تحدث به القرآن فيما اقتص من نبأ موسي مع العالم ، وصفة هذا العالم بأنه علم من الله علما ، أم لم يستجيبوا ، فقد ألمحت الي نماذج من لمحات هذا العلم في ضوء ما نطقت به الوثائق التأريخية.

ومهما يكن من أمر؛ فان الامام موسي بن جعفر في علمه الوراثي واللدني قد بلغ الغاية القصوي ، فما سئل الا أجاب ، وما حدث الا استوفي ، وما أنبأ الا كان ، وما قال الا صدق.

وكان سبيل انتشار علمه وجوده الشريف مباشرة قبل اعتقاله ، فهو يدلي به لرواد المعرفة وقادة الفكر العلمي. وكان سبيل انتشاره بعد اعتقاله ، تلامذته المقربون ، وما صدر عنه من رسائل واجابات وهو في غياهب السجون. وقد ظهر من هذين ما طبق الخافقين.

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٣١ وانظر مصدره.

(٢) الدينوري / الأخبار الطوال / ٣٨٩. سيرورة علم الامام


سيرورة علم الامام

نهض الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بأعباء الامامة في ريعان الشباب وعنفوان الفتوة ، وعمره عشرون عاما. ورغم الظروف القاتلة للتحرك ، والليالي الحالكة التي قضاها في السجون ، فان المهمة الأساسية لديه هي «تعليم الانسان» وهذا التعليم الانساني له أبعاده في آفاق متعددة من الهداية والتشريع والمعارف الانسانية بمفرداتها الهائلة ، وكل هذه الآثار كانت تدور في فكر الامام ، فيجسدها بأطاريح تعبر عن آرائه المتميزة ، وهي تعبر عن الفكر الاسلامي ليس غير.

وقد بدأ المد الاسلامي العقلي بالانحسار نتيجة السياسة المترفة والحياة اللاهية التي انتهجها الطغاة ، فكان علي الامام التصدي للمفاهيم والنظريات الجديدة التي تسربت الي البيئة العربية جراء هذا التلاقح الحضاري بين الأمم والشعوب ، وكان عليه أن يرصد ذلك بحذر ويقظة واعداد ، من أجل الحفاظ علي جوهر الاسلام ، وكانت المبادي‌ء والنظريات الوافدة تشكل محورا جديدا فيه كثير من الأخطار ، وفيه كثير من التحديات ، وفيه كثير من الاضافة المعرفية أيضا.


وبدأ الامام في تصديه لهذه الظواهر ، فدرأ منها ما رآه يصطدم بتعاليم السماء ، وأقر منها الأفكار التي تحمل سمة التقاليد العريقة للحضارات بحيث يري مداليلها الموروثة تصب في روافد معرفية لا تتعارض مع مفاهيم الاسلام في رسالته الانسانية. وكل حرصه أن لا يهمش دور التراث الاسلامي في بناء الحياة العقلية الجديدة كما ستري هذا في الفصل القادم مفصلا.

وقد مهد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بذهنه الوقاد المتفجر ، بين يدي تلك الامدادات الداعية الي احياء التراث التشريعي في الاسلام ، ورفد القيم الدينية وتطويرها واغنائها بالعناصر النابعة من صميم العقيدة لا من خارجها ، وهو بذلك يوحد الفكر الانساني في ملامح متأصلة في خضم التيارات الكبري المتصارعة.

وكانت ثقافة الامام التكاملية ـ باعتباره قد أعد اعدادا خالصا ـ تفيض عبر صور مشرقة تحمل بين سماتها ألوان الأصالة والابداع ، فتشكل ألقا مذهلا في استيحاء الفكر الاسلامي الخالص من مصادره الأولي ، وهو يزخر برهافة عالية وحس مجرد.

وكانت نقطة الانطلاق في هذا الخط المحوري : التأكيد علي تلقي العلم الناهض ، والتحصن بسياجه المحكم ، ومن ثم الشروع بتحقيق الهدف المركزي الذي يسعي اليه.

ولتطبيق هذا المبدأ كانت دعوة الامام بادي‌ء ذي بدء تتمثل بتوجيهه النابض : «تعلم من العلم ما جهلت ، وعلم الجاهل ما علمت» (١).

وهذه الدعوة ترمي الي هدف ذي شقين رئيسيين في الارادة : تعلم ما تجهل ، وتعليم من يجهل ، وتلك هي النظرة الشمولية التي تدرأ الأنانية ، وتدعو الي السماح بانتشار العلم وضبطه ومدارسته وتعليمه.

_________________

(١) ابن‌شعبة / تحف العقول / ٢٩٤.


وقد ندب الامام لهذه المهمة من يستمع الي القول فيتبع أحسنه ، وأكد طلب العلم ، وعلل فضيلة ذلك بقوله : «زاحموا العلماء في مجالسهم ولو حبوا علي الركب ، فان الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» (١).

وهذا التشبيه التمثيلي الذي يسره الامام الكاظم (عليه‌السلام) ، صورة ناطقة حية تمثل احياء القلوب بنور الحكمة ، كاحياء الأرض الميتة بوابل المطر ، وهذا يقضي بأن الجاهل من الأموات ، والمزاحم للعلماء من أجل الافادة من الأحياء فعلا.

ودخل علي الامام الحسن بن عبدالله وكان زاهدا ، ومن أعبد أهل زمانه في المسجد ، فأومأ اليه الامام فأتاه ، فقال له الامام : يا أباعلي ما أحب الي ما أنت عليه وأسرني به ، الا أنه ليست لك معرفة ، فاطلب المعرفة. فقال له : جعلت فداك ، وما المعرفة؟ قال الامام : اذهب تفقه واطلب الحديث.

قال عمن؟ قال الامام : عن فقهاء المدينة ، ثم اعرض الحديث علي ...

ففعل ، فدله الامام علي ما يلزمه من المعرفة (٢).

وروي ابن‌حمدون في تذكرته :

قال موسي بن جعفر (عليه‌السلام) : وجدت علم الناس في أربع :

أولها : أن تعرف ربك.

والثانية : أن تعرف ما صنع بك.

والثالثة : أن تعرف ما أراد منك.

والرابعة : أن تعرف ما يخرجك عن دينك.

وقد فسر ابن‌حمدون هذه الأربع :

__________________

(١) المصدر نفسه / ٢٩٣.

(٢) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٢٨.


الأولي : وجوب معرفة الله تعالي التي هي اللطف.

الثانية : معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعين عليك لأجلها الشكر والعبادة.

الثالثة : أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك ، وندبك الي فعله لتفعله علي الحد الذي أراده منك ، فتستحق بذلك الثواب.

الرابعة : أن تعرف الشي‌ء الذي يخرجك عن طاعة الله فتجتنبه (١).

وبديهي أن الامام قد أراد بهذا العلم ذلك العلم الروحي ، وغايته أن ينبع من المعرفة الداخلية للانسان ، وهو العلم الالهي الذي يقف بالانسان علي الحقيقة ، فتصقل بها روحه ، ويمسك بها عمله ، ويتعلق بأضوائها ضميره. فهو يتحدث عن العلم ويريد غايته.

ولهذا نجد الامام يحث علي العلم ، ويفضله علي العبادة الساذجة ، فيقول : «فقيه واحد ... أشد علي ابليس من ألف عابد ، لأن العابد همه نفسه فقط ، والفقيه همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وارضائه ... ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد ، وألف ألف عابد» (٢).

ويعلل الامام قبول العمل مع العلم ، ورده مع الجهل ، فيقول :

«قليل العمل من العالم مقبول مضاعف ، وكثير العمل من أهل الهوي والجهل مردود» (٣).

وكان من غرر أقواله ، وعجيب نصائحه ، وبليغ وصاياه قوله : «محادثة العالم علي المزابل خير من محادثة الجاهل علي الزرابي» (٤).

والمزابل معروفة وهي مجتمع النفايات ، والزرابي هي البسط والفرش

_________________

(١) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٤٨.

(٢) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٠٧ عن الاحتجاج / ٢١٥.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ١٧.

(٤) المصدر نفسه ١ / ٣٩.


الفاخرة ، واذا كانت الأولي رفضها العلم طبيعة ومنطقا ، فهي خير من الثانية مع اقبال النفس عليها.

وهدف الامام في هذا التوجه هو التوصل الي حقائق ناصعة ومرضية عند الله تعالي ، لأنها الطريق الأمثل في استقراء المجهول. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«ولكي يكون العلم في جانبه الديني مرضيا عند الله تعالي ، ومحققا هدفه الكبير في تعزيز الايمان وترسيخ الاعتقاد والابتعاد عما يسخط الله عزوجل ، نهي الامام عن الأخذ بالبدع ، وحذر أشد التحذير من العمل بالرأي خلافا لحكم الله ونص رسوله (صلي الله عليه وآله) وفي ذلك يقول مخاطبا بعض أصحابه :

«لا تكونن مبتدعا ، من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلي الله عليه وآله) ضل ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه (صلي الله عليه وآله) كفر» (١).

ولما كان القياس في بعض حالاته ضربا من ضروب الابتداع ، ولونا من ألوان الأخذ بالرأي ، فقد نهي (عليه‌السلام) أصرح النهي عن العمل بالقياس في تقرير حكم النظير والمشابه ان لم تكن العلة المشتركة منصوصة بصريح اللفظ.

وجاء في الرواية عن سماعة بن مهران أنه قال للامام : «انا نجتمع فنتذاكر ما عندنا ، فلا يرد علينا شي‌ء الا وعندنا فيه شي‌ء مسطر ، وذلك مما أنعم الله به علينا بكم. ثم يرد علينا الشي‌ء الصغير ليس عندنا فيه شي‌ء ، فينظر بعضنا الي بعض ، وعندنا ما يشبهه ، فنقيس علي أحسنه». فقال الامام (عليه‌السلام) :

ما لكم وللقياس!! انما هلك من هلك قبلكم بالقياس (٢) (٣).

وكان علم الامام متنقل الأفياء في موضوعات متعددة ، ومفردات لا

__________________

(١) المصدر نفسه ١ / ٦٥.

(٢) الكليني / الكافي ١ / ٥٧.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٠٨.


حصر لها ، وقد اشتملت عليها المصادر المتخصصة ، وقد أوردت أحاديثه ورواياته واستنتاجاته وهي تزخر بالعطاء السمح الكثير ، وكان أبرزها ما ضم الكتاب واحتوته السنة من الروائع ، وقد تلقاها الناس في شتي القصبات والأقاليم فحدبوا علي مدارستها.

وله شذرات ثمينة استخرجها من القرآن الكريم ، تتجلي بتفسيرها منزلة أهل البيت القيادية ، وتؤكد دور الولاية الكبري في قبول الأعمال وتلقي الحسنات ، والانابة الي الله عزوجل.

ففي قوله تعالي : (بلي من كسب سيئة) (١).

قال الامام : بغضنا (٢).

وفي قوله تعالي : (وأحاطت به خطيئته ...) (٣).

قال الامام : «من أشرك في دمائنا» (٤).

وفي قوله تعالي : (فاكتبنا مع الشاهدين ...) (٥).

قال الامام : «نحن نشهد للرسل علي أممها» (٦).

وفي قوله تعالي : (واذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ...) (٧).

قال الامام : «هم عدونا أهل البيت ، اذا سألوا عنا قالوا ذلك.» (٨).

وفي قوله تعالي : (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (٩).

__________________

(١) سورة البقرة / ٨١.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٣.

(٣) سورة البقرة / ٨١.

(٤) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٣.

(٥) سورة آل‌عمران / ٥٣.

(٦) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٣.

(٧) سورة النحل / ٢٤.

(٨) ابن شهر آشوب ٣ / ٤٠٣.

(٩) سورة البقرة / ٥٧.


قال الامام : «ان الله أعز وأمنع من أن يظلم ، أو ينسب نفسه الي الظلم ، ولكن الله خلطنا بنفسه ، فجعل ظلمنا ظلمه ، وولايتنا ولايته» (١).

وفي قوله تعالي : (كلا ان كتاب الفجار لفي سجين ...) (٢).

قال الامام : «الذين فجروا في حق الأئمة ، واعتدوا عليهم» (٣).

وفي قوله تعالي : (ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكريا ويحيي وعيسي ...) (٤).

استدل فيهما الامام علي الرشيد بأن أبناء أميرالمؤمنين هم أبناء رسول الله (صلي الله عليه وآله) من جهة أمهم فاطمة (عليهاالسلام) ، فقال : «انما ألحق عيسي بذراري الأنبياء من قبل مريم ، وألحقنا بذراري الأنبياء من قبل فاطمة ، لا من قبل علي (عليه‌السلام)».

فقال له الرشيد : أحسنت أحسنت يا موسي ، زدني من قوله.

فقال الامام : اجتمعت الأمة برها وفاجرها ، أن حديث النصراني حين دعاه النبي (صلي الله عليه وآله) الي المباهلة ، لم يكن في الكساء الا النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم‌السلام) ، فقال تبارك وتعالي : (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا وأنفسنا وأنفسكم ...) (٥).

فكان تأويل (أبناءنا) الحسن والحسين ، و (نساءنا) فاطمة ، و (أنفسنا) علي بن أبي‌طالب.

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٤.

(٢) سورة المطففين / ٧.

(٣) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٤.

(٤) سورة الأنعام / ٨٤ ـ ٨٥.

(٥) سورة آل‌عمران / ٦١.


فقال الرشيد : أحسنت (١).

وفي هذا السياق أورد الامام موسي بن جعفر عند المهدي العباسي ، في قوله تعالي : (وآت ذا القربي حقه ...) (٢).

قال الامام : ، ان الله تبارك وتعالي لما فتح علي نبيه فداك وما ولاها ، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله علي نبيه (صلي الله عليه وآله) : (وآت ذا القربي حقه ...) (٣) ، فلم يدر رسول الله (صلي الله عليه وآله) من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل ، وراجع جبرئيل (عليه‌السلام) ربه ، فأوحي الله اليه : أن ادفع فدك لفاطمة (عليهاالسلام) (٤).

وفي مقام التحذير والانذار اتخذ الامام سبيلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أورده الامام رفيقا تارة ، وعنيفا تارة أخري ، ليحقق أبعاد هذه الفريضة التي ابتعد عنها الناس ، وهو يسير ذلك ـ مضافا الي التحذير ـ في سياق العبرة والموعظة ، وله في هذا مواقف أغمض التأريخ عنها عينا ، وأضرب عن ذكرها صفحا ، وأكتفي منها بنموذج صريح صارخ ، فيما أورده الشيخ المفيد بسنده : «فقد أدخل الامام علي الرشيد ، فكان مما قاله الرشيد له حين أدخل عليه ، ما هذه الدار؟

قال الامام : هذه دار الفاسقين ، قال الله تعالي : (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ...) (٤).

فقال له هارون : فدار من هي؟

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٥٦.

(٢) سورة الاسراء / ٢٦.

(٣) سورة الاسراء / ٢٦.

(٤) ظ : الكليني / الكافي ١ / ٥٤٣ ، المجلسي / البحار : ٤٨ / ١٥٧.

(٥) سورة الأعراف / ١٤٦.


قال الامام : هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة.

قال هارون : فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟

فقال الامام : أخذت منه عامرة ، ولا يأخذها الا معمورة.

قال هارون : أين شيعتك؟

فقرأ الامام : (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتي تأتيهم البينة) (١).

قال هارون : فنحن كفار؟

قال الامام : لا ، ولكن كما قال الله :

(... الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) (٢).

«فغضب عند ذلك الرشيد وغلظ عليه ، فقد لقيه الامام أبوالحسن (عليه‌السلام) بمثل هذه المقالة وما رهبه ، وهذا خلاف قول من زعم أنه هرب منه من الخوف» (٣).

وبهذه الشذرات النادرة نكتفي ايرادا لما فجره الامام موسي (عليه‌السلام) من طاقات قرآنية تهدي سواء السبيل فاذا وقفنا عند باب الفقه والأحكام تشريعا وانتقاء وافاضة ، فاجأنا ذلك البحر الخضم الذي استقت منه مصادر التشريع أحكامها في الفقه والحديث. وأبرزها : الكافي للكليني ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ، والاستبصار والتهذيب للشيخ الطوسي ، ووسائل الشيعة للحر العاملي ، وسواها من كتب الفقه والحديث والاستدلال بما هو متوافر فيها من فتاوي وأحاديث وروايات ، جعل لها القرآن شاهدا ، واستخرج من آياته دليلا ، وذلك من باب النوادر التي لا يمكن أن تقدر بثمن لأنها من الكنوز والذخائر النفيسة.

__________________

(١) سورة البينة / ١.

(٢) سورة ابراهيم / ٢٨.

(٣) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٦٢.


«سئل (عليه‌السلام) : ما يقول العالم (عليه‌السلام) في رجل قال : نذرت لله لأعتقن كل مملوك كان في رقي قديما ، وكان له جماعة من المماليك؟ فكان الجواب بخطه (عليه‌السلام) : ليعتقن من كان في ملكه من قبل ستة أشهر ، والدليل علي صحة ذلك قوله تعالي : (والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم) (١).

«والحديث ما ليس له ستة أشهر» (٢).

وفي السياق نفسه ، سئل (عليه‌السلام) : ما يقول العالم في رجل قال : والله لأتصدقن بمال كثير؛ فما يتصدق؟

فأجاب الامام بخطه : ان كان الذي حلف من أرباب شياه ، فليتصدق بأربع وثمانين شاة ، وان كان من أصحاب النعم ، فليتصدق بأربعة وثمانين بعيرا ، وان كان من أرباب الدراهم فليتصدق بأربعة وثمانين درهما ، والدليل عليه قوله تعالي :

(لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) (٣).

فعدت مواطن رسول الله (صلي الله عليه وآله) قبل نزول تلك الآية ، فكانت أربعة وثمانين موطنا (٤).

وسئل (عليه‌السلام) ، ما يقول العالم في رجل نبش قبر ميت ، وقطع رأس الميت وأخذ الكفن؟

فكان الجواب بخطه : يقطع السارق لأخذ الكفن من وراء الحرز ، ويلزم مائة دينار لقطع رأس الميت ، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح (٥).

__________________

(١) سورة ياسين / ٣٩.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٧٤ وانظر مصدره.

(٣) سورة التوبة / ٢٥.

(٤) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب : ٣ / ٤١٠ ـ ٤١١.

(٥) ظ : المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٧٥ وانظر مصدره.


وعن علي بن أبي‌حمزة ، قال : كنا بمكة سنة من السنين ، فأصاب الناس تلك السنة صاعقة كبيرة حتي مات من ذلك خلق كثير ، فدخلت علي أبي‌الحسن (عليه‌السلام) ، فقال مبتدئا من غير أن أسأله : يا علي ينبغي للغريق والمصعوق أن يتربص به ثلاثا الي أن تجي‌ء منه ريح يدل علي موته.

قلت : جعلت فداك ، كأنك تخبرني أن دفن ناس كثير أحياء؟ قال : نعم ، يا علي ، قد دفن ناس كثير أحياء ، وما ماتوا الا في قبورهم» (١).

ان هذه الاجابات وهي سمحة لا عسير فيها ، وواضحة لا ابهام بها ، توحي بالمستوي العلمي لموازين الشريعة وأحكامها ، وكانت استدلالاتها حجة لا تقبل الريب أو الشك ، وهي غيض من فيض.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«ويظهر من بعض النصوص المأثورة عن الامام أن هناك من كان يعترض عليه في أحكامه وفتاواه ، فلا يجد مناصا من اضافة شرح أو زيادة استدلال ، لاقناع خصمه بصواب قوله وصحة فتواه». وقد أورد بعض النماذج علي ذلك (٢).

ومن ذلك : أن أبايوسف أمره الرشيد بسؤال الامام. فقال للامام : ما تقول في التظليل للمحرم؟

قال الامام : لا يصلح.

قال أبويوسف : فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت؟

قال : نعم. قال : فما الفرق بين الموضعين؟

قال الامام : ما تقول في الطامث أتقضي الصلاة؟

قال : لا.

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١١.

(٢) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١١٢.


قال الامام : فتقضي الصوم؟ قال : نعم.

قال الامام : ولم؟ قال أبويوسف : هكذا جاء.

قال الامام : وهكذا جاء (١).

وقد دحض الامام في اجابته هذه مبدأ القول بالقياس ، كما أوضح بأن الأحكام توقيفية تؤخذ كما ورد بها النص ، وأن لا اجتهاد في مقابل النص.

وعن علي بن يقطين ، قال : سأل المهدي أباالحسن (عليه‌السلام) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ فان الناس انما يعرفون النهي عنها ، ولا يعرفون التحريم لها.

فقال له أبوالحسن (عليه‌السلام) : بل هي محرمة في كتاب الله عزوجل.

فقال له : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزوجل؟ يا أباالحسن.

فقال الامام : قول الله عزوجل : (انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق ...) (٢).

وأما الاثم فانها الخمرة بعينها (٣).

قال أبوعلي الطبرسي (ت ٥٤٨ ه) والاثم : قيل هو الذنوب والمعاصي عن الجبائي ، وقيل الاثم ما دون الحد عن الفراء ، وقيل : الاثم الخمر ، وأنشد الأخفش :

شربت الاثم حتي ضل عقلي

كذاك الاثم تفعل بالعقول

وقال الآخر :

__________________

(١) الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٤.

(٢) سورة الأعراف / ٣٣ /.

(٣) الكليني / الكافي ٦ / ٤٠٦ ، الحر العاملي / الوسائل ١٧ / ٢٤١.


نهانا رسول الله أن نقرب الخنا

وأن نشرب الاثم الذي يوجب الوزرا (١).

 وقد ظهر مما تقدم : أن الاثم لا يخلو من معنيين : اما أن يكون هو المعاصي والذنوب ، والخمرة أحد مفرداتها وأبرز مصاديقها ، واما أن يكون هو الخمرة بعينها كما تدل عليه الرواية عن الامام الكاظم ، ويؤيده لغة واستعمالا عند العرب الشاهدان الشعريان المتقدمان ، وعلي كلا المذهبين في المعني ، فالخمرة محرمة بهذه الآية ، اما لكونها أحد مصاديق الاثم ، واما لأنها الاثم ذاته ، واما بهما معا (٢).

ولم يكن علم الامام مقتصرا علي جانب معين ، وانما كان يعالج شتي المواضيع بأسلوبه الرقيق ، وبلغات متعددة؛ فقد كلم الامام غلاما بالحبشية ، وأمره ، ونهاه ، وأوصاه ... فعجب علي بن أبي‌حمزة من ذلك ، فقال الامام :

«لا تعجب ، فما خفي عليك من أمر الامام أعجب وأكثر ، وما هذا من الامام في علمه الا كطير أخذ بمنقاره من البحر قطرة من ماء ، أفتري الذي أخذ بمنقاره نقص من البحر شيئا؟ قال : فان الامام بمنزلة البحر لا ينفد ما عنده ، وعجائبه أكثر من ذلك ، والطير حين أخذ من البحر قطرة بمنقاره لم ينقص من البحر شيئا ، كذلك العالم لا ينقصه علمه شيئا ، ولا تنفد عجائبه» (٣).

ان هذه الظاهرة في التفوق العلمي تمثل ذاتية التحرك المعرفي لدي الامام ، حتي أنها جلبت انتباه السلاطين وهم لا يعبأون بالعلم ، ولكنهم تحلقوا حول الامام اختيارا ، وهم أدري الناس بكفايته العلمية ، فقد روي أن

__________________

(١) الطبرسي / مجمع البيان : ٢ / ٤١٤.

(٢) ظ : المؤلف / نظرات المعاصرة في القرآن الكريم / تحريم الخمر في القرآن / ٩٣.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٠١ عن قرب الأسناد / ١٩٤.


هارون الرشيد أنفذ الي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فأحضره ، فلما حضر عنده ، قال ان الناس ينسبونكم يابن فاطمة الي علم النجوم ، وان معرفتكم بها معرفة جيدة ، وفقهاء العامة يقولون : ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) قال : اذا ذكرني أصحابي فاسكتوا ، واذا ذكروا القدر فاسكتوا ، واذا ذكروا النجوم فاسكتوا. وأميرالمؤمنين علي (عليه‌السلام) كان أعلم الخلائق بعلم النجوم ، وأولاده وذريته الذين يقول الشيعة بامامتهم كانوا عارفين بها.

فقال له الكاظم (عليه‌السلام) : هذا حديث ضعيف ، واسناده مطعون فيه ، والله تبارك وتعالي قد مدح النجوم ، ولولا أن النجوم صحيحة لما مدحها الله عزوجل ، والأنبياء (عليهم‌السلام) كانوا عالمين بها ، وقد قال الله تعالي في حق ابراهيم الخليل (عليه‌السلام) :

(وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (١).

وقال في موضع آخر : (فنظر نظرة في النجوم ـ فقال اني سقيم) (٢).

فلو لم يكن عالما بعلم النجوم ما نظر فيها ، وقال : اني سقيم.

وادريس (عليه‌السلام) كان أعلم أهل زمانه بالنجوم.

والله تعالي قد أقسم بمواقع النجوم : (وانه لقسم لو تعلمون عظيم) (٣).

وقال في موضع : (والنازعات غرقا) الي قوله : (فالمدبرات أمرا) (٤).

يعني بذلك اثني عشر برجا ، وسبعة سيارات ، والذي يظهر بالليل والنهار بأمر الله عزوجل ، وبعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم ، وهو علم الأنبياء والأوصياء وورثة الأنبياء الذين قال الله عزوجل :

__________________

(١) سورة الأنعام / ٧٥.

(٢) سورة الصافات / ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) سورة الواقعة / ٧٦.

(٤) سورة النازعات / ١ ـ ٥.


(وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (١).

ونحن نعرف هذا العلم وما نذكره (٢).

وهذا الاتساع في الادراك المعرفي لا يصدر الا من تلك النجمة المختارة فيما وهبت من العلم الرفيع ، وكما قال هو (عليه‌السلام) :

«ان الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شي‌ء ، فيقول : لا أدري» (٣).

ولما كان الهدف العلمي معنيا باصلاح الذات أولا ، كان اهتمام الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بالنفس الانسانية وتهذيبها معلما بارزا من معالم تنمية الأخلاق وتقويمها لديه ، فعمل علي شحذ الهمم وصقلها ، وحدب علي معالجة ظواهر التخلف الاجتماعي ، وعني بالتربية الفاضلة المهذبة ، وأراد للانسان حياة الصدق والايثار ، وحبب اليه محاسبة نفسه ، وموازنة عمله.

قال الامام : «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فان عمل حسنا استزاد الله ، وان عمل شيئا استغفر الله منه ، وتاب اليه» (٤).

هذه المحاسبة أداة فاعلة في الازدياد من الخير ، والعمل علي ضبط النفس وصيانتها من السيئات ، ولو ارتطم بها كان عليه الانابة والاستغفار ، وهذا كله من سيماء الصالحين.

ويضيف الامام (عليه‌السلام) الي هذا التوجه خصائص أخري ينبغي لأهل الخير الارتباط بها علي الصعيد العملي فيقول : «التحدث بنعم الله شكر ، وترك ذلك كفر ، فأربطوا نعم ربكم بالشكر ، وحصنوا أموالكم بالزكاة ،

__________________

(١) سورة النحل / ١٦.

(٢) المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦ وانظر مصدره.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ٢٢٧.

(٤) المصدر نفسه : ٢ / ٤٥٣.


وادفعوا البلاء بالدعاء ، فان الدعاء جنة ترد البلاء وقد أبرم ابراما» (١).

وندب الامام الي تعظيم أمر الخير ، واجتناب قليل الذنب ، وأشار الي مراقبة النفس بخوف الله سرا ، ودعا الي مكارم أخري بقوله : «لا تستكثروا كثير الخير ، ولا تستقلوا قليل الذنوب ، فان قليل الذنوب يجتمع حتي يصير كثيرا ، وخافوا الله في السر حتي تعطوا من أنفسكم النصف ، وسارعوا الي طاعة الله ، وأصدقوا الحديث ، وأدوا الأمانة ، فان ذلك لكم ، ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم ، فانما ذلك عليكم» (٢).

وهذا المنطق الجزل منحي جديد في استباق الخير ، والانتهاء عن الفكر ، والاسراع في الطاعة ، وحمل معالي الأمور شعارا.

ونهي الامام النفس عن الهوي ، والنفس أثمن متاع ينبغي أن لا يفرط فيه جزافا ، ولا يلقي له القياد انحدارا ، قال الامام : «اتق المرتقي السهل اذا كان منحدره وعرا» (٣).

والحديث هذا من غرر الأحاديث بلاغة ودلالة وايجازا.

ودعا الامام الي الموازنة في استقبال أيام العمر ، فلا يستوي لدي الانسان الأريب يوماه ، ولا يستغل بيوم عما قبله ، وليكن يومه خيرا من أمسه ، وغده خيرا من يومه ، لئلا يغبن.

قال الامام : «من استوي يوماه فهو مغبون ، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون ، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في النقصان ، ومن كان الي النقصان فالموت خير له من الحياة» (٤).

وكانت دعوة الامام الي التقوي تمثل ملحظا ايجابيا يتوصل معه المرء

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٢٤٨.

(٢) الكليني / الكافي ٢ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨.

(٣) المصدر نفسه ٢ / ٣٣٦.

(٤) الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٤٦.


الي الحق ، فيقول :

«اتق الله وقل الحق وان كان فيه هلاكك ، فان فيه نجاتك. اتق الله ودع الباطل وان كان فيه نجاتك ، فان فيه هلاكك ، اياك أن تمنع في طاعة الله فتنفق مثليه في معصية الله. المؤمن مثل كفتي ميزان كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه» (١).

وكان من أروع ما تحدث به الامام بيانا ودلالة واستقطابا تلك النفحات الندية العطرة التي تختلج في جوانحه الحري ، وهي تسترعي مشاعر الانسان نحو أخيه الانسان ، وسعي المؤمن في قضاء حاجة أخيه المؤمن ، ووقوف الأخ جنب أخيه في الله لدي الشدائد ، ومتابعة الاحسان ، ذلك كله في توجيهات رائعة المساس بصلب حياة الناس وتفجير طاقاتهم ، واعادة جزء من حقوقهم اليهم ، مما أتاحه الله علي أيدي الساعين الي الخير. قال الامام : «ان لله عبادا في الأرض يسعون في قضاء حوائج الناس ، هم الآمنون يوم القيامة ، ومن أدخل علي مؤمن سرورا أفرح الله قلبه يوم القيامة» (٢).

أين نحن اليوم من هذه الحياة الحرة الكريمة التي يدعو الامام الي الالمام بها؟ وأين هو السعي الحثيث لقضاء حوائج الناس؟ وأين أصحاب الجاه والمال والسلطان عن هذه المعاني التي تنبع من الضمير في تلبية النداء الانساني؟ وأين هم الراغبون بالأمن يوم القيامة؛ مساكين هؤلاء الذين تتاح لهم الفرص في اجراء المعروف وهم يتخلفون عنه ، وما الحياة الا اصطناع الخيرات ، والأيام دول ... ألا وازع من شعور واحساس بالنفع الاجتماعي؟ ألا عودة بالغرائز الي ما فيه خير الدنيا والآخرة؟ ألا اصلاح لدخائل هذا الكائن

__________________

(١) الأمين الحسيني العاملي / أعيان الشيعة : ٤ / أول / ٥٩.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ١٩٧.


التائه فيلجأ الي مواني‌ء الايثار والعمل الصالح؟

يخيل الي أن الناس هم الناس في الأثرة والأنانية ، يسعي أكثرهم الي الشر والمكر ، ويسعي القليل منهم الي الخير والمعروف ، وقليل أولئك الذين يعانون من أجل مصلحة الآخرين ، ولكنهم الآمنون يوم القيامة.

وهنالك حديث ذو اسناد عال يرويه العبد الصالح علي بن جعفر الصادق عن أخيه الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فيه التحذير كل التحذير من التقصير في قضاء حاجة المسلم لأخيه المسلم ، وهو من مضامين الاختبار العملي لحقيقة ولاية أهل البيت ، وهو محك الاتصال بهذه الولاية والفوز بها ، والا فهو النهش في القبر من قبل أبشع ضروب الأفاعي حتي يوم القيامة.

يقول الامام : «من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فانما هي رحمة من الله تبارك وتعالي ساقها اليه ، فان قبل ذلك فقد وصله بولايتنا ، وهو موصول بولاية الله تبارك وتعالي ، وان رده عن حاجته وهو يقدر علي قضائها سلط الله سليه شجاعا من نار ينهشه في قبره الي يوم القيامة مغفورا له أو معذبا ، فان عذره الطالب كان أسوأ حالا» (١).

وكان الامام شديد الوطأة علي الرافضين لاصطناع هذا المعروف المفترض ، فهو ينذر ويحذر ، وهو ينبي‌ء ويخبر ، عسي أن تتسع ذهنية أهل الحول والطول والفاعلية لاستقبال هذا التوجيه والتسديد. قال الامام : «من قصد اليه رجل من اخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره وهو قادر ، فقد قطع ولاية الله عزوجل» (٢).

ولم ينس الامام أن يتعاهد الناس بضروب التوجيه نحو الخير بكل طرقه ووسائله وأساليبه ، وهو يريد للمسلم أن يتسم بالرجولة والاستقلالية

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٢٥٠.

(٢) الكليني / الكافي ٢ / ٣٦٦.


والقرار ، وأن لا يعيش ذنبا أو تبعا ، وأن لا يري مذبذبا لا الي هؤلاء ولا الي هؤلاء فالانسان موقف ، والموقف سمة ذوي الادراك العقلي في التمييز الدقيق بين الحق والباطل ، وافراز الخير عن الشر ، في رؤية مركزية.

فعن الفضيل بن يونس الكاتب ، قال : قال لي أبوالحسن موسي بن جعفر بن محمد (عليه‌السلام) :

«أبلغ خيرا ، وقل خيرا ، ولا تكونن امعة».

قلت : وما الأمعة؟

قال الامام : تقول أنا مع الناس ، وأنا كواحد من الناس. ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) ، قال :

«يا أيها الناس ، انهما نجدان ، نجد خير ونجد شر ، فما بال نجد الشر أحب اليكم من نجد الخير» (١).

ولقائل أن يقول ما علاقة هذا كله بسيرورة علم الامام ، وقد يكون الاعتراض وجيها ، الا أن نظرة فاحصة في المثل العليا التي يدعو اليها العلم ، تفترض أن هذه الانسانيات الصارخة من أهم أهداف ذلك العلم الذي يدعو (صفحه ٨٣) الي الحب والاخاء والسلام والمواساة ، وهو ما رأيته في هذا الطرح ، وكان استقبال النخبة الواعية لهذه المعطيات الخيرة سبيلا رائعا الي انتشار علم الامام في الآفاق ، وهذا ما يؤكد عليه الامام الرضا نجل الامام موسي بن جعفر (عليهما‌السلام) ، قال الامام الرضا : «رحم الله عبدا أحيا أمرنا؛ فقيل له : وكيف يحيي أمركم؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا» (٢).

أليس ما قدمناه من محاسن الكلام؟ أليس كلامهم جزءا من علومهم؟

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٣٤٣.

(٢) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٣٠٧.


واذا ودعت هذا الجانب من العطاء العلمي السمح ، وأردت الوقوف علي الحياة العقلية عند الامام ، فستجده عملاق النظر العقلي ، وبكل الجدل الكلامي المفعم بروح الحضارة والتألق الفكري ، بما سيره من مناظرات ومحاضرات ومحاورات تكفل بها الفصل القادم.

واذا أردت طلائع الاصرار علي افاضة العلم في أحلك الظروف ، فما عليك الا الوقوف علي تلك المراسلات والمكاتبات التي حررها الامام (عليه‌السلام) سواء أكان في المدينة المنورة في ظل الرقابة والرصد السياسي ، أم كان في محنة الارهاب في قعر السجون والمعتقلات ، فان الظاهرة اللائحة في هذا الأثر أن الامام كان علي أهبة الاستعداد المتكامل للاجابة الناجعة.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين في هذا الشأن :

«لم يكن بامكان السائلين والمستفهمين الراغبين في معرفة حكم الشرع ورأي الدين ، أن يحضروا الي المدينة لملاقاة الامام وسماع ما يغنيهم به فيما يريدون معرفته والوقوف علي وجه الصواب فيه ، بل كان بين هؤلاء المؤمنين المنتشرين في أصقاع العالم الاسلامي من لا يجد وسيلة الا مكاتبة الامام (صفحه ٨٤) للسؤال منه عما يخص شؤون دينه أو هموم دنياه ومشاكلها المستجدة علي الدوام ، وكان الامام يتلقي تلك الكتب برحابة صدر ، ويقرأها بامعان ، ويحرر لهم أجوبة ذلك كتابة أيضا (١).

ويبدو من قراءة تلك المكاتبات والجوابات أن الامام لم يكن يكتفي في بعض الأحيان بمجرد الرد علي مورد السؤال وبيان الحكم الشرعي فيه ، وانما كان يتعدي هذا الجانب بعد الاجابة عليه الي التنبيه علي أمور أخري

__________________

(٢) ظ : علي سبيل المثال : الكليني / الكافي ٣ / ١٨ ـ ١٥٥ ـ ١٩٧ ـ ٣١٥ ـ ٣٢٦ ـ ٣٢٨ ـ ٣٣٠ ـ ٣٣٢ ـ ٣٤٠ ـ ٣٤٦ ـ ٣٨٠ ـ ٥١٠ ـ ٥٣٩ ... الخ ، المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨ ، المفيد / الارشاد / ٣٣٠ ـ ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، المناقب ٣ / ٤٠٨ ، الفصول المهمة / ٢١٨ ـ ٢١٩ ، كشف الغمة ٣ / ١٦ ـ ١٧ ـ ١٨ وسواها.


ليست من صلب المطلب الذي حرر الكتاب لأجله ، ولكنها ذات مساس بصاحب الرسالة فيما يتعلق بوهم فكري قد سقط فيه ، أو شأن دنيوي قد جهله أو غفل عما ينطوي عليه من نتائج غير محمودة العاقبة ...» (١).

وهنالك آثار تدل علي هذا الملحظ بالاشارة الي تنبيهات خارجة عن الموضوع داخلة فيه ، فهي غيره وهي امتداد له (٢) والذي يعنينا هذا الزخم الهائل من الاجابات التي تندفع بدقة وامعان لتعيد الي الذهن ما رآه السيد أمير علي الهندي عندما تحدث عن مدي الخسارة الكبري التي مني بها العالم الاسلامي بوفاة الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) ، ولكنه استثني بقوله :

«غير أن الحلقة العلمية ـ لحسن الطالع ـ لم تتوقف بوفاته ، اذ طفقت تزدهر برئاسة ابنه موسي ، الملقب بالكاظم».

لقد كان هذا الازدهار علي يد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حقيقة علمية لا فرضية اعلامية ، فعلي الرغم من كل المعوقات الجامحة التي مني بها عصره ، وفي ظل جميع الافرازات السياسية المضنية ، رأينا عطاء الامام حثيثا في شموليته ، (صفحه ٨٥) مشرقا في انسانيته ، متوسعا في ترامي أطرافه. وكان من التوفيق الالهي واللمح الغيبي المتواصل أن نشأ في ظل الامام ورعايته جيل عتيد من أعاظم تلامذته وطلابه في مرافقتهم اياه وملازمتهم له ، فهم قد انتهلوا من نمير علمه العذب ، وهم أيضا قد بادروا الي تسجيل ذلك في الآثار ، مما أوجد حالة علمية تحدوها الرغبة الملحة في اشاعة المعرفة الانسانية ، وتدفعهم النيات الخالصة الي تعميق ما حصلوا عليه من الثقافية التشريعية النقية ، وتواكبهم الآمال المشرقة في تحصيل المعارف الاسلامية الجوهرية ، وكان هذا الترويض قد حرمهم كثيرا من الامتيازات والحقوق في

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٢٠.

(٢) ظ : تحف العقول / ٣٠٥ ، الارشاد للمفيد / ٣٢٩ ، البحار ٤٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨.


حياتهم السياسية ، فلم ينعموا برفاه اقتصادي ، ولم يحلموا بجاه اعتباري ، ولم يحصلوا علي مكسب اضافي ، وكان العكس هو الصحيح ، فالدولة لهم بالمرصاد ، تتعقب حركاتهم وسكناتهم ، وتحتجن حقوقهم العامة والخاصة ، وتصادر لهم كل حرية.

وبتعبير أوضح :

فان تلامذة الامام بالتفافهم حول علم أهل البيت (عليهم‌السلام) ، قد اتخذوا التضحية مبدأ ، والحرمان شعارا ، لما سوف يتعرضون له من النقمة والبؤس والشقاء ، ولما سوف يطرأ علي حياتهم واستقرارهم من جور وعسف ، ولما سوف تتعرض له حريتهم الشخصية من ملاحقة أجهزة القمع والارهاب.


تلامذة الامام والتراث العلمي

احتضن تلامذة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) خزانة التراث العلمي للامام ، ونهض هؤلاء التلامذة بعب‌ء الرواية والتحديث والتأليف والتصنيف ، وشرعوا بمهمة التلقي الحثيث لينهضوا بمهمة الابلاغ والتبليغ ، وما عتموا أن أجادوا فني المدارسة والبحث ، ومن ثم تخصصت كل طائفة منهم بفن من الفنون الأساسية كان أبرزها : علوم القرآن ، الحديث ، الفقه ، الأصول ، الكلام ، الغريب ، المنطق ، الفلسفة ، والانسانيات بعامة.

فكان منهم المفسرون والمحدثون والرواة وعلماء الأخبار ، ورجال التشريع ، وقادة الفكر الامامي ، ورواد الثقافة الحرة ، وحماة التراث.

ولم تكن معارف الامام لتفرض علي الطلاب فرضا في شي‌ء من مفرداتها الموسوعية الضخمة ، وانما كانت حرية الاختيار من ألمع ملامحها ، وارادة التخصص هي الحاكمة في المشروع العلمي ، دون أية ضغوط أو احراجات أو تعقيد ، فالاكراه غير وارد علي الاطلاق في فرض علم معين؛ نعم لا ريب أن علوم الشريعة أسماها منزلة ، وأجداها عائدية ، لأنها من سبل الهداية.

والظاهرة التي تلحظ في الاتجاه كثرة تلامذة الامام ، وتعدد نزعاتهم


العلمية ، والمنظور العام لهذه الظاهرة يؤكد حقيقتين :

الأولي : تتمثل بهذه الأعداد الهائلة لأولئك التلامذة مع وجود الصارف التعسفي لازديادها ، نظرا لاجراءات الضغط السياسي.

الثانية : تتمثل بذلك المخزون الثقافي المدخر وهو يفيض بالحرية والأكاديمية في مجالي التخصص والبحث الطليق علي حد سواء ، وهذا ما نهضت به في بداية القرن العشرين الجامعات الرصينة في العالم ، والا ما كان لدي الأثنيين والاغريقيين قبل المسيح (عليه‌السلام) ، حينما كان بعض الفلاسفة يتنعمون الهواء الطلق وهم يلقون دروسهم بحرية في حدود.

ولست أعلم مصدرا حديثيا أو روائيا من موسوعات الامامية الا وعرض لمئات الرواة والمحدثين والعلماء من أصحاب الامام وتلامذته ، يضاف لذلك كتب التراجم والسيرة والفهارس والببلغرافيا (١).

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

«لقد احتفي بالامام ـ موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ـ أثناء اقامته في يثرب جمع غفير من كبار العلماء ورواة الحديث ممن تتلمذ في جامعة أبيه الكبري التي أنارت العقل الانساني ، وأطلقته من عقال الجهل ، وقد أفاض عليهم الامام الشي‌ء الكثير من علومه ومعارفه المستمدة من علم جده الرسول (صلي الله عليه وآله) ، كما زود الفقه الاسلامي بطاقات كبيرة من آرائه ...» (٢).

وكان احتفاء هؤلاء التلامذة فيه كثير من الاعداد الحضاري ، وكثير من الحرص المعرفي ، وهناك نص ثمين في هذا السياق رواه ابن طاووس ، والنص هذا يشير الي : أن أصحاب الامام وخواصه كانوا يحضرون مجلسه ،

__________________

(١) ظ : علي سبيل المثال : رجال الكشي / رجال الطوسي / رجال النجاشي / مجمع الرجال / رجال بحرالعلوم / رجال المامقاني / خلاصة العلامة / معجم رجال الحديث / فهرست ابن‌النديم.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر : ١ / ٣٣.


ومعهم في أكمامهم ألواح أبنوس لطاف ، وأميال ، فاذا نطق الامام بكلمة ، أو أفتي في نازلة ، بادروا الي تسجيل ذلك (١).

وتلامذة الامام كتلامذة غيره من العظماء ، ليسوا في سوية واحدة ، وانما تختلف مراتبهم في الضبط والعدالة والوثاقة ، فمنهم الطبقة العليا الرفيعة المعبر عنهم : بأصحاب الاجماع الذين أشار اليهم الشيخ الطوسي (ت ٦٦٠ ه) بقوله :

«انه اجتمع أصحابنا علي تصديق ستة نفر من فقهاء الكاظم والرضا (عليهما‌السلام) ، وهم : يونس بن عبدالرحمن ، وصفوان بن يحيي بياع السابري ، ومحمد بن أبي‌عمير ، وعبدالله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب السراد ، وأحمد بن محمد بن أبي‌نصر ...» (٢).

ومنهم من هو دون ذلك ، وهو ما تتكفل بالاشارة اليه مصادر الجرح والتعديل عند الامامية.

وهؤلاء أصحاب الاجماع يمتازون بأن لهم مؤلفات وروايات تؤخذ بعين الرضا والتسليم لمضامينها كما قيل أن مراسيل ابن أبي‌عمير كمسانيد غيره من الثقات.

وقد ألف صفوان بن يحيي أكثر من ثلاثين مؤلفا ، وروي عن أربعين من تلامذة الامام الصادق (عليه‌السلام).

وألف يونس بن عبدالرحمن أكثر من ثلاثين مؤلفا نص عليها آل‌ياسين (٣).

وألف عبدالله بن المغيرة الكوفي الخزاز ثلاثين كتابا ، أبرزها : كتاب الزكاة ، وكتاب الصلاة ، وكتاب الفرائض ، وكتاب الوضوء ، وكتاب في

__________________

(١) أورده القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر : ١ / ١٠١ عن الأنوار البهية / ٩١.

(٢) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٨.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٤٤.


أصناف الكلام (١).

أما الحسن بن محبوب السراد فمؤلفاته كثيرة ، وهو من ثقات أصحاب الامامين موسي بن جعفر ، وولده علي الرضا (عليهما‌السلام) (٢).

ولأحمد بن محمد بن أبي‌نصر البزنطي عدة مؤلفات نص عليها ابن النديم (٣).

يقول الأستاذ هاشم معروف الحسني بعد ذكره لهؤلاء الثقات : «هؤلاء الستة ، وستة من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق ، قد أجمع المحدثون علي تصديقهم والأخذ بمروياتهم ، وهذا ما تعنيه تسميتهم بأصحاب الاجماع» (٤).

والحديث عن ثقات الأصحاب قد يطول بنا ، فهم من الكثرة بمكان ، والذي يعنينا من هذا كله : أن هؤلاء فرادي ومجتمعين قد شكلوا المحور الأساسي لنشر علم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فنهد كل منهم بمهمته ما استطاع الي ذلك سبيلا دون ملل أو كلل. فكانوا رجال المهمات الصعبة كما يقال اليوم.

ولا نريد أن نؤكد علي هؤلاء فحسب ، فقد كان من ثقاته : الحسن بن علي بن فضال الكوفي ، وعثمان بن عيسي ، وداود بن كثير الرقي ، وعلي بن الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام).

ومن خواص أصحابه : علي بن يقطين ، وأبوالصلت : عبدالسلام الهروي ، واسماعيل بن مهران ، وأحمد بن محمد الحلبي ، وموسي بن بكير

__________________

(١) المرجع نفسه / ١٣٤.

(٢) ظ : هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٥.

(٣) ابن النديم / الفهرست / ٢٧٦.

(٤) هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٥.


الواسطي ، وابراهيم بن أبي‌البلاد الكوفي (١).

وقد تحدث الأستاذ باقر شريف القرشي عن كوكبة أصحاب الامام وتلامذته والرواة عنه من المشهورين شهرة مستفيضة في مائة وخمسين صفحة احتضنت تراجم ثلاثمائة وواحد وعشرين علما من أعلامهم ، بما يعد مرجعا مهما في معرفة أحوالهم ، وتعداد مؤلفاتهم ، وبيان منزلة كل واحد منهم (٢).

وقد رصد الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين مهمات طائفة من هؤلاء المنفلين عن الامام ، وأكد دورهم في التصنيف والتأليف ، وتناول ضبطهم في تدوين الأمالي وتسجيل الأصول ، فقال : «وأمر يجب أن يسجل بفخز واعتزاز أن النوابغ والبارعين من حضار مجلس الامام وحلقة درسه ، ومن المتلقين الواعين الذين سمعوا منه وشافهوه ، قد بادروا أولا بأول الي تسجيل تلك الأمالي والمسموعات في مدونات خصصوها لهذا الغرض سماها بعضهم (الأصول) وربما أضافوا فيها الي تلك المشافهة من الامام الكاظم (عليه‌السلام) ما رووه مباشرة أو اسنادا عن أئمة أهل البيت السابقين (عليهم‌السلام) ، وكان منهم من بوب تلك الروايات بحسب مطالبها وموضوعاتها ، فجعل كل ما يتعلق بموضوع منها في كتاب خاص مستقل باسمه ومحتواه» (٣).

ثم قدم الأستاذ آل‌ياسين كشفا ببلغرافيا دقيقا للمؤلفين من تلامذة الامام (عليه‌السلام) وسجل أسماء كتبهم وموضوعاتها ، وأشار الي المصادر التي ذكرتها ، فكان عدد ما توصل اليه : مائة وخمسة عشر مؤلفا ، تصل بعض أعداد مؤلفات الواحد منهم الي ثلاثين كتابا ، وتلك لعمري ثروة طائلة. كما أشار الي الأحاديث التي جمعها أبوعمران موسي بن ابراهيم المروزي

__________________

(١) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٨.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر : ٢ / ٢٢٣ ـ ٣٧٤.

(٣) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٢٢.


مما سمعه من الامام (عليه‌السلام) ، ودونه عنه ، ويعرف ب «مسند الامام موسي بن جعفر».

وقد وقف علي نسخته المخطوطة في خزانة الكتب الظاهرية بدمشق ، وعرف بها في بحث تفصيلي في مجلته «البلاغ» الصادرة في الكاظمية : ١٣٩٦ ه (١).

وكان لتسجيل مرويات الامام من قبل طلابه النابهين وتدوينها في رسائل وكتب وأطاريح ـ حذر التلف والضياع والنسيان ـ أهمية كبري ذات هدفين في سياق واحد ، الأول : كونها سلاحا معرفيا متميزا بكفايته العالية المتقدمة يقضي فيه علي الجهل والأمية والتخلف.

والثاني : كونها عبارة عن وثائق مكتوبة عن الامام مباشرة لها قيمتها التأريخية الدقيقة. وهما معا مما تحتاج له مرحلة التدوين الموثق للاحتفاظ بذخائر أهل البيت من مصادرها الأولي.

وللأمانة والتقدير؛ فلله در تلك الصفوة المختارة في تحقيق هذه المهمة الريادية بتلك الأجواء القاتمة ، حتي ليعد عملهم هذا ثورة شعواء علي التقاليد السياسية (صفحه ٩١) الموروثة في الغاء دور أهل البيت في المجالات كافة. كما يعتبر هذا الجهد الجبار حيوية نابضة جديدة في احكام الروابط المصيرية الكبري بين الامام وتلامذته ، بحيث تحولت تلقائيا الي أواصر مثبتة من الحب والولاء والتفاني ، فتشابكت العلاقات الأساسية بينهما بحيث عادا ممثلين حقيقيين لتلك الثوابت الأخلاقية في وجه مشرق من الاخلاص والتضحية للمبادي‌ء التي يحملها فكر أهل البيت في ميادين العقيدة والحياة ، وبما يتطلب ذلك الاخلاص وتلك التضحية من ثبات ، وجرأة ، وألم ، وخوف ، وقلق ، ومداراة ، وترقب ، وحرمان ، ومأساة. وهذا سبيل النضال

__________________

(١) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٢٣ ـ ١٤٧.


المرير المعاكس لتيار الضغط والشر والارهاب ، وليس هو مجرد أفكار عابرة تنام حينا ، وتستيقظ حينا ، ولكنه الاعتداد بالفكر المناوي‌ء لحقائق الأشياء ، وهو لذلك يحسب له ألف حساب وحساب من قبل السلطان.

ولك أن تقدر مدي عناء هؤلاء العلماء من ملوك الزمان ، ولك أن تتصور تلك التضحيات الضخام التي قدموها من أجل اعلاء كلمة الله في الأرض ، فهم بين هلع واضطراب من الولاة ، وهم بين رقابة واستنفار من الأجهزة ، بل حتي قذف ببعضهم الي السجون.

فهذا محمد بن أبي‌عمير ، وهو من أوثق الرواة ، وتقدم أن مراسليه بمنزلة الصحاح ، وقد ألف أربعة وتسعين كتابا في مختلف الفنون ، فكان أحد أساطين الفقه والحديث (١).

وكان من عباد الله الصالحين ، شديد الورع ، معروفا بالتقوي ، ذا منزلة متميزة في العابدين ، مشتهرا بسجوده وتخنثه حتي ضرب به المثل (٢).

ويبدو أن سجلا خاصا بأعيان أصحاب الامام كان لديه ، أو أنه علي معرفة بعلية القوم كما يقال ، فأمر به الرشيد الي السجن ، وبقي في غياهبه (صفحه ٩٢) سبعة عشر عاما ، وجي‌ء به مكبلا بالقيود ، فطلب اليه الرشيد أن يعرفه بأسماء الشيعة ، فامتنع عن ذلك ، فأمر به أن يضرب مائة سوط ، فكاد أن يبوح بأسمائهم.

يقول هو نفسه : فكدت أن أبوح بأسمائهم ، الا أنني سمعت نداء يونس بن عبدالرحمن يقول لي : يا محمد بن أبي‌عمير؛ أذكر موقفك بين يدي الله ، فتقويت بقوله ، فصبرت ، ولم أخبر ، والحمد لله (٣) ويبدو أن يونس بن عبدالرحمن كان معه في السجن ، فناداه بذلك.

__________________

(١) ظ : النجاشي / الرجال / ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٢) ظ : الكشي / الرجال / ٣٦٤.

(٣) المصدر نفسه / ٣٦٤.


وهذا هشام بن الحكم ، وهو من أبرز علماء الكلام من الامامية ، وذو منزلة عليا عند الامام الصادق وولده الكاظم (عليهما‌السلام) ، وهو في الشرف الباذخ من التكريم والتجلة لديهم ، وله باع طويل في الاحتجاج لمبدأ الامامة ، ونصر فكر الأئمة في العقائد ، وله من المؤلفات العدد الأكثر كما ذكر ذلك ابن‌النديم والنجاشي (١).

وقد ذكر له القرشي ثلاثين كتابا فيما تتبعه (٢).

وقد عدد آل‌ياسين من مؤلفاته بأسمائها : اثنين وثلاثين كتابا (٣) وقد قوبل بالجحود ، ووجد عليه يحيي بن خالد البرمكي ، فوشي به الي الرشيد بأنه يقول بالامامة ، وأن الامام اذا أمره بأمر نفذ ذلك.

ووقف الرشيد علي هذا الأمر ، واستمع الي هشام يقول : «ان الامام اذا أمره بحمل السيف ، أذعن لأمره ، ونفذ طلبه».

فأمر الرشيد بالقاء القبض عليه ، فهرب هشام الي الكوفة مستخفيا ، ونزل علي بشير النبال ، وكان من حملة الحديث ، فأخفاه.

ثم اعتل علة شديدة ، والطلب عليه حثيث ، فقال له آتيك بطبيب؟ قال : لا؛ أنا ميت. ولما حضره الموت قال لبشير : اذا فرغت من جهازي ، فاحملني وضعني في الكناسة ، واكتب رقعة : هذا هشام بن الحكم الذي طلبه الرشيد مات حتف أنفه.

وكان الرشيد قد أخذ به اخوانه وأصحابه ، فاعتقلهم؛ ونفذ بشير الوصية ، فحضر القضاة والمعدلون فشهدوا بذلك ، وكتب به الي الرشيد (٤).

وهذا يونس به عبدالله ، كثر حساده وأعداؤه ، لقوله بهذا الأمر ، حتي

__________________

(١) ابن‌النديم / الفهرست / ٢٦٤ ، النجاشي / الرجال / ٣٣٨.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر / ٣ / ٣٤٣.

(٣) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٤) ظ : المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٢٠٢ وانظر مصدره.


ضجر ، وشكا ذلك الي الامام ، وقال له : انهم يقولون لي زنديق!! فنهنه الامام عن وجده ، وقال له : «ما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة ، فيقول الناس : هي حصاة. وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة ، فيقول الناس لؤلؤة» (١).

وكان سلاح الاتهام بالزندقة قد يشهر في وجوه أولياء أهل البيت ظلما وعدوانا ، فينكل بهم ، ويعتدي عليهم.

كل هذا المناخ الجاف البغيض لم يمنع أصحاب الامام موسي بن جعفر من التوجه اليه حتي وهو سجين ، وكان من بينهم : هند بن الحجاج ، وعلي بن سويد ، والمسيب بن زهرة الذي نيطت به حراسة الامام ، أو حبس عنده (٢).

الا أن الامام هداه السبيل ، فأصبح من أوليائه ، ومن حملة أسرار الأئمة (٣).

وكان من أبرز أصحابه الذين تشرفوا بخدمته في سجن السندي : موسي بن ابراهيم المروزي. وقد سمح له السندي بالاتصال بالامام ، والاستماع اليه ، لأنه كان معلما لولده.

وقد قام موسي هذا بدور مشرف حينما ألف كتابا مما رواه عن الامام مباشرة وسماه «مسند الامام موسي بن جعفر» (٤) وقد سبق الحديث عنه.

وهكذا تابع تلامذة الامام أستاذهم الأعظم ، ونشروا علمه بين الناس ، واستخدموا الوسائل المشروعة لاذاعته ، حتي بلغوا بهذه الغاية الذروة ، بما قضي علي الجمود والاخفاق المعرفي ، وبما حرر تلك الأحاسيس الكئيبة ـ نتيجة ظلم العصر ـ وأطلق منها بالثقافة الواعية.

__________________

(١) الكشي / الرجال / ٣٠٤.

(٢) الجهشياري / الوزراء والكتاب / ٩٧.

(٣) ظ : المامقاني / تنقيح المقال ٣ / ٢١٧.

(٤) ظ : النجاشي / الرجال / ٣١٩.


ان هذه الكوكبة اللامعة سلوكا وادراكا ومسؤولية ، لتستحق منا الاجلال والكرامة ، لأنها آثرت المصلحة الاسلامية علي مصالح الذات ، فعانت من الكيد السياسي والتخطيط الارهابي صابرة محتسبة ، لم تنزع الي منصب ، ولم تطمع بسلطان ، ولكنها فضلت ما عند الله مردا ، فزهدت بما عداه من الظواهر.


تعليمات الامام لتهذيب الشعب المسلم

في أعالي النصح البشري ، وقمة الوعي الاصلاحي تبدو للامام موسي بن جعفر وصايا وارشادات وحكم قصار ، تمثل عصارة الفكر التجريبي في حياة العقل ، أفاض بها الامام نضرة عطرة تتروح بها القلوب ، وتهفو لها المشاعر والأحاسيس ، وهي جزء لامع من ذلك الاشعاع المتوهج الداعي لتهذيب النفس الانسانية ، وانقاذ الهيكل (صفحه ٩٥) الاجتماعي من التداعي والانهيار ، والأخذ بكيان الشعب المسلم الي التماسك والاستمرار ، وكأنها تلك اليد التي تدفع به الي شواطي‌ء الأمن والدعة والحرية من وراء الغيب.

وهي بعد ألفاظ جارية مجري الأمثال في الذيوع والانتشار ، فيها بلاغة القول ، وفخامة المعني ، وجلاء الصورة ، جاءت برصف بياني عفوي جديد ، لاعنت فيه ولا تكلف به ، فهو حديث النفس للنفس. ونداء الضمير للضمير ، وأي ضمير أنقي وأطهر من ضمير الامام موسي بن جعفر ، وهو يريد للمستوي الأخلاقي أن يتطور ، وللذات أن ترتفع عن صغائر الأمور ، وللنفس أن تمتلي‌ء نورا وثباتا ويقينا ، وأن يلتقي الوجه الخارجي للانسان


بالمحتوي الداخلي ليشكل كلا لا ينفصل في تهذيب الأفكار. وتلك اشارات ورموز وشواخص لا تجد أمثالها في غير مشروع أهل البيت الحضاري ، فهم للبشرية جمعاء ، وهم للناس في كل زمان ومكان.

والامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قديس أهل البيت في السلوك والانابة ، ورهباني هذه الأمة في الخشوع والسمت العرفاني ، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر نجده رمز التصدي للانحلال والتدهور ، وقد نذر نفسه من موقع المسؤولية الرسالية لقيادة الأمة ، ومباشرة مشكلاتها في التربية والتعليم والأخلاق وجها لوجه ، فما استلان عودا ، ولا وهن تبليغا ، ولا ضعف أداء ، كيف لا؟ وهو الناطق الهادر بالابلاغ الرسالي ، لم تثنه عن مهمته العقبات ولا النكبات في أقسي الظروف ضراوة ، وأشد العصور استفزازا ، فكان الشاخص الماثل الذي تستطيل له العيون ، فيغمرها هيبة ووقارا وجلالا.

ان هذه النصائح والوصايا المختارة التي ستقرأها بالامكان ـ لو استثمرت استثمارا عقليا مجردا ـ أن تؤدي الي رحاب الحكمة ورياضة النفس بعيدا عن الأوهام والتعالي ، فهي تصور المبدأ العام للآداب الرفيعة ، وهي تعبد الطريق الي تفاعل الضمير مع الحياة ، وتدعو الي التعامل البشري السليم ، وهي بعد : ليست من قبيل الأصوات التي لا تجد لها صدي في التأثير ، بل هي نهج عالمي نظما وتكوينا وفكرا ، ينطلق من ذات عرفت بترسيخ القيم والمبادي‌ء ، ومن شأنها أن توفر علي الطالب قراءة عشرات الكتب في تهذيب النفس.

ولا يخالجنا أدني شك أن هذه المقتطفات السائرة من تعليمات الامام تعتبر كنزا من كنوز الاسلام ، حاولنا اختيار نماذج منها تعني بالأدب ، والخلق ، والبر ، والايثار ، والتراحم ، والاحسان ، والارتفاع بالانسان الي انسانيته الفاضلة ، وهي من خزائن علم الامام في الدين والاجتماع والحب


وفلسفة الحياة من نوادر الآثار العالمية.

وميزة أخري أنها من السهل الممتنع ، فهي في غاية الوضوح والسماح ، وكان دوري فيها : حسن الاختيار ، وترتيبها علي طريقة «الألفباء» تسهيلا للتداول ، وتنظيما للآخذ.

وكانت مواردها منتشرة ومزدهرة في طائفة من المصادر منها : أصول الكافي للكليني ، والتوحيد والمعاني للصدوق ، والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي / والارشاد للمفيد / وقرب الاسناد للحميري / والمحاسن للبرقي / وتحف العقول لابن شعبة / والاحتجاج للطبرسي / وكشف الغمة للاربلي / وبحارالأنوار للمجلسي ، ووسائل الشيعة للحر العاملي ، وأعيان الشيعة للأمين الحسيني العاملي / وحياة الامام موسي بن جعفر لباقر شريف القرشي / والامام موسي بن جعفر لمحمد حسن آل‌ياسين ، وسواها.

(أ)

١ ـ الله ينزل المعونة علي قدر المؤونة ، وينزل الصبر علي قدر المصيبة.

٢ ـ أداء الأمانة والصدق يجلبان الرزق ، والخيانة والكذب يجلبان الفقر والنفاق.

٣ ـ اتق الله ، وقل الحق وان كان فيه هلاكك فان فيه نجاتك.

٤ ـ اتق الله ، ودع الباطل وان كان فيه نجاتك ، فان فيه هلاكك.

٥ ـ اياك أن تمنع في طاعة الله ، فتنفق مثليه في معصية الله. قال عند قبر حضره :

٦ ـ ان شيئا هذا آخره ، لحقيق أن يزهد في أوله ، وان شيئا هذا أوله ، لحقيق أن يخاف آخره.

٧ ـ اذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتي يعرف ذلك منه.

٨ ـ ان العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره ، ولا يغلب الحرام صبره.


٩ ـ ان كان لا يغنيك ما يكفيك ، فليس شي‌ء من الدنيا يغنيك.

١٠ ـ ان أعظم الناس قدرا الذي لا يري الدنيا لنفسه خطرا.

١١ ـ أما أن أبدانكم ليس لها ثمن الا الجنة ، فلا تبيعوها بغيرها.

١٢ ـ أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقا.

١٣ ـ ان العاقل : لا يحدث من يخاف تكذيبه ، ولا يسأل من يخاف منعه ، ولا يعد ما لا يقدر عليه ، ولا يرجو ما يعنف برجائه ، ولا يتقدم علي ما يخاف العجز عنه.

١٤ ـ ان الرفق والبر وحسن الخلق يعمر الديار ، ويزيد في الرزق.

١٥ ـ اصبر علي طاعة الله ، واصبر عن معاصي الله ... (صفحه ٩٨)

١٦ ـ اياك والكبر ، فانه لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من كبر.

١٧ ـ اياك ومخالطة الناس والأنس بهم ، الا أن تجد منهم عاقلا ومأمونا فأنس به ، واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية.

١٨ ـ اياك والطمع ، وعليك باليأس من أيدي الناس.

١٩ ـ اياك والكسل والضجر ، فانهما مفتاح كل سوء.

٢٠ ـ اياك والمزاح فانه يذهب بنور ايمانك ، ويستخف بمروءتك.

٢١ ـ اياك والكسل والضجر ، فانهما يمنعانك من حظك في الدنيا والآخرة.

٢٢ ـ اياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها ، واياك أن يفقدك عند طاعة أمرك بها ...

٢٣ ـ أمت الطمع من المخلوقين؛ فان الطمع مفتاح الذل ، واختلاس العقل ، واختلاف المروات ، وتدنيس العرض ، والذهاب بالعلم.

٢٤ ـ ان ضوء الروح العقل ، فان كان العبد عاقلا كان عالما بربه ، واذا كان عالما بربه أبصر دينه.

٢٥ ـ ان كل الناس يبصر النجوم ، ولكن لا يهتدي بها الا من يعرف مجاريها


ومنازلها ، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ، ولكن لا يهتدي بها منكم الا من عمل بها.

٢٦ ـ ان لله عبادا في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة.

٢٧ ـ أفضل العبادة بعد المعرفة : انتظار الفرج.

٢٨ ـ اذا كان الرجل حاضرا فكنه ، واذا كان غائبا فسمه.

٢٩ ـ اتق المرتقي السهل اذا كان منحدره وعرا.

٣٠ ـ ان قوما يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفا؛ هم الآمنون يوم القيامة.

٣١ ـ ان أهل الأرض لمرحومون ما تحابوا ، وأدوا الأمانة ، وعملوا بالحق. ٣٢ ـ اذا لم تستح فاعمل ما شئت.

٣٣ ـ ان الصبر علي البلاء أفضل من العافية عند الرخاء.

٣٤ ـ ان الصمت باب من أبواب الحكمة ، وان الصمت يكسب المحبة ، وانه دليل كل خير.

٣٥ ـ أحسن من الصدق قائله ، وخير من الخير فاعله.

٣٦ ـ أما والله؛ لئن عز بالظلم في الدنيا ، ليذلن بالعدل بالآخرة.

(ت)

٣٧ ـ التدبير نصف العيش.

٣٨ ـ التودد الي الناس نصف العقل.

٣٩ ـ تفقهوا في دين الله ، فان الفقه مفتاح البصيرة ، وتمام العبادة ، والسبب الي المنازل الرفيعة والرتب العالية في الدنيا والدين.

(ث)

٤٠ ـ ثلاثة يجلين البصر : النظر الي الخضرة ، والنظر الي الماء الجاري ، والنظر الي الوجه الحسن.


(ر)

٤١ ـ رأس السخاء أداء الأمانة.

(ز)

٤٢ ـ زاحموا العلماء في مجالسهم ولو حبوا علي الركب ، فان الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر. (صفحه ١٠٠)

(ص)

٤٣ ـ الصنيعة لا تكون صنيعة الا عند ذي دين أو حسب.

(ع)

٤٤ ـ العجلة هي الخرق.

٤٥ ـ عليك بالرفق فان الرفق يمن والخرق شؤم.

٤٦ ـ عليك بالاعتصام بربك ، والتوكل عليه ، وجاهد نفسك لتردها عن هواها ، فانه واجب عليك كجهادك عدوك.

٤٧ ـ عونك للضعيف أفضل من الصدقة.

٤٨ ـ العجب كل العجب للمحتمين من الطعام والشراب مخافة الداء ان نزل بهم ، كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار اذا اشتعلت في أبدانهم.

(غ)

٤٩ ـ الغضب مفتاح الشر.

(ف)

٥٠ ـ فضل الفقيه علي العابد كفضل الشمس علي الكواكب.

(ق)

٥١ ـ قلة العيال أحد اليسارين.

٥٢ ـ قلة الوفاء عيب بالمروءة.


(ك)

٥٣ ـ كثرة الهم تورث الهرم.

٥٤ ـ كفارة عمل السلطان الاحسان الي الاخوان.

٥٥ ـ كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعملون ، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدون.

٥٦ ـ كن بارا واقتصر علي الجنة ، وان كنت عاقا فظا فاقتصر علي النار.

٥٧ ـ كذب سمعك وبصرك عن أخيك ...

٥٨ ـ كفي بالتجارب تأديبا ، وبممر الأيام عظة ، وبأخلاق من عاشرت معرفة ، وبذكر الموت حاجزا عن المعاصي ...

٥٩ ـ الكبر رداء الله ، فمن نازعه رداءه أكبه الله في النار.

(ل)

٦٠ ـ لا دين لمن لا مروءة له ، ولا مروءة لمن لا عقل له.

٦١ ـ لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

٦٢ ـ ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فان عمل حسنا استزاد منه ، وان عمل سيئا استغفر الله منه ، وتاب اليه.

٦٣ ـ لا تكونن مبتدعا.

٦٤ ـ لا خير في العيش الا لمسمع واع أو عالم ناطق.

٦٥ ـ لا تبذل لاخوانك من نفسك ما ضرره أكثر من منفعته لهم.

٦٦ ـ لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال.

٦٧ ـ لا تضيع حق أخيك اتكالا علي ما بينك وبينه ، فانه ليس بأخ من ضيعت حقه.

٦٨ ـ لا يكونن أخوك أقوي علي قطيعتك منك علي صلته.

٦٩ ـ ليس حسن الجوار كف الأذي ، ولكن حسن الجوار الصبر علي الأذي.


٧٠ ـ لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك ، وابق منها ، فان ذهابها ذهاب الحياء.

٧١ ـ لا تحدثوا أنفسكم بفقر ولا بطول عمر ، فان من حدث نفسه بالفقر بخل ، ومن حدثها بطول العمر يحرص.

(م)

٧٢ ـ من أيقن بالخلف جاد بالعطية.

٧٣ ـ ما عال امرؤ اقتصد.

٧٤ ـ من أحزن والديه فقد عقهما.

٧٥ ـ من ضرب بيده علي فخذه ، أو واحدة علي الأخري عند المصيبة ، فقد حبط أجره.

٧٦ ـ من اقتصده وقنع بقيت عليه النعمة.

٧٧ ـ من بذر وأسرف زالت عنه النعمة.

٧٨ ـ المصيبة لا تكون مصيبة يستوجب صاحبها أجرها الا بالصبر ، والاسترجاع عند الصدمة.

٧٩ ـ المؤمن كمثل كفتي ميزان ، كلما زيد في ايمانه زيد في بلائه.

٨٠ ـ من لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا.

٨١ ـ المصيبة للصابر واحدة ، وللجازع اثنتان.

٨٢ ـ ما عبد الا وملك آخذ بناصيته ، فلا يتواضع الا رفعه الله ، ولا يتعاظم الا وضعه الله.

٨٣ ـ مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة.

٨٤ ـ محادثة العالم علي المزابل ، خير من محادثة الجاهل علي الزرابي.

٨٥ ـ من نظر برأيه هلك.

٨٦ ـ من ترك أهل بيت نبيه (صلي الله عليه وآله) ضل.


٨٧ ـ مشاركة العاقل يمن وبركة ورشد وتوفيق من الله ، فاذا أشار عليك العاقل الناصح فاياك والخلاف ، فان في ذلك العطب.

٨٨ ـ من قصد اليه رجل من اخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه ، فقد قطع ولاية الله عزوجل.

٨٩ ـ من أدخل علي مؤمن سرورا فرح الله قلبه يوم القيامة.

٩٠ ـ المؤمن أعز من الجبل ، الجبل يستغل بالمعاول ، والمؤمن لا يستغل دينه بشي‌ء.

٩١ ـ من تكلف ما ليس من عمله ضاع عمله ، وخاب أمله.

٩٢ ـ ما أهان الدنيا قوم قط الا هنأهم الله اياها ، وبارك لهم فيها ، وما أعزها قوم الا بغضهم الله اياها.

٩٣ ـ من أتي الي أخيه مكروها فبنفسه بدأها.

٩٤ ـ من ولده الفقر أبطره الغني.

٩٥ ـ ما أستب اثنان الا انحط الأعلي منهما الي المرتبة السفلي.

٩٦ ـ المؤمن أخو المؤمن لأمه وأبيه ، وان لم يلده أبوه.

٩٧ ـ المعروف تلو المعروف غل لا يفكه الا مكافأة أو شكر.

٩٨ ـ ملعون من اتهم أخاه.

٩٩ ـ ملعون من لم ينصح لأخيه.

١٠٠ ـ ملعون من احتجب عن أخيه.

١٠١ ـ ملعون من اغتاب أخاه.

١٠٢ ـ من لم يكن له من نفسه واعظ تمكن عدوه منه.

١٠٣ ـ المغبون من غبن من عمره ساعة. (صفحه ١٠٤)

١٠٤ ـ من ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه فيها لم ينل جسيما.

١٠٥ ـ من تكلم في الله هلك ، ومن طلب الرئاسة هلك ، ومن دخله العجب


هلك.

١٠٦ ـ من قصده رجل من اخوانه مستجيرا في بعض أحواله ، فلم يجره أن يقدر عليه ، فقد قطع ولاية الله عزوجل.

١٠٧ ـ من استشار لا يعدم عند الصواب مادحا ، وعند الخطأ عاذرا.

١٠٨ ـ من اقتصد وقنع بقيت عليه النعمة ، ومن بذر وأسرف زالت عنه النعمة. ١٠٩ ـ من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فانما هي رحمة من الله تبارك وتعالي ساقها اليه ، فان قبل ذلك فقد وصله بولايتنا ، وهو موصول بولاية الله تبارك وتعالي ، وان رده عن حاجته وهو يقدر علي قضائها ، سلط الله تبارك وتعالي عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره الي يوم القيامة ، مغفورا له أو معذبا ، فان عذره الطالب كان أسوأ حالا.

(ي)

١١٠ ـ يعرف شدة الجور من حكم به عليه.

١١١ ـ ينادي مناد يوم القيامة : ألا من كان له علي الله أجر فليقم ، فلا يقوم الا من عفا وأصلح ، فأجره علي الله.

١١٢ ـ ينبغي لمن عقل من الله أن لا يستبطأه في رزقه ، ولا يتهمه في قضائه.



الفصل الثالث

الإمام وظواهر الحياة العقلية المبطوّرة

١ ـ العقل والمناخ العقلي المضطرب.

٢ ـ تعدد الاتجاهات العقائدية.

٣ ـ الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة.

٤ ـ الإمام في خضمّ التيار الكلامي.



العقل والمناخ العقلي المضطرب

قال الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) : «ان ضوء الروح العقل ، فاذا العبد عاقلا كان عالما بربه ، واذا كان عالما بربه أبصر دينه» (١).

وهذا القول أطروحة فريدة يضعها الامام بين يدي العارفين ، فالعقل عند الامام مدار الحجة علي الانسان ، وهو سبيل الاطراد العلمي بما يزنه من دقائق الأمور ، وهو أيضا منار الهداية في الحياة ، حتي اعتبره الامام عدلا لرسالة السماء وقيادة الأئمة فقال : «ان لله علي الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأما الباطنة فالعقول» (٢).

وبهذه الرؤية نجد اهتمام الامام بالعقل الانساني المجرد ، وعدة من الأصول التي لا غني عنها في تيسير الحياة وضبط النفس ، وهو يسلط الأضواء علي العقل في رصد منابع الخير كلها ، فيقول :

«من أراد الغني بلا مال ، وراحة القلب من الحسد ، والسلامة في الدين ، فليتضرع الي الله في مسألته بأن يكمل عقله ، فمن عقل قنع بما يكفيه ،

__________________

(١) ابن‌شعبة / تحف العقول / ٢٩٦.

(٢) الكليني / الكافي ١ / ١٦.


ومن قنع بما يكفيه استغني ، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغني أبدا» (١).

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين تعقيبا :

«ولما كان المراد من العقل في هذه النصوص هو النضج المثمر والوجود الفاعل المؤثر ـ وليس ما يقابل الجنون الذي يعني فقدان السيطرة علي الشعور المنضبط والاحساس المتزن ـ كان الانسان المجرد من المعرفة والمحروم من التعلم وان كمل عقله؛ محكوما بالنقص الذي لا ينكر ولا يستر ، بسبب جهله المخل بدوره الانساني النافع لنفسه ومجتمعه ، ولذلك أضاف الامام الي ما تقدم منه في تكريم العقل : التنبيه علي أهمية العلم وشأنه الكبير وأثره العظيم في بناء الأفراد والمجتمعات» (٢).

ولما كان العقل المتكامل منحة الهية من وجه ، وتجربة ذاتية من وجه آخر ، وجدنا القلة النادرة في الاجتماع البشري هي التي تتمتع به ادراكا ومعرفة وفلسفة. وحينما تطورت الحياة العلمية في عصر الامام بفضل الجهود المضنية للعلماء والباحثين والمترجمين ، فقد وجدنا في ضوء ذلك تطورا سريعا للحياة العقلية ، وكان هذا التطور مصاحبا لعلم الاحتجاج في أبرز فروعه ، وللفن الجدلي في مظاهره ، ولازدهار حياة المقالات والفرق والاتجاهات. وليس غريبا أن نجد الحياة العقلية قد نشأت في ظل المناخ السياسي ، بيد أننا نجد (صفحه ١٠٧) للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وثيقة تأريخية في العقل ، كانت وليدة الشعور بالمسؤولية ، ولم تتأثر بأية عوامل سياسية اطلاقا ، وهي عبارة عن رسالة مهذبة نابضة وجهها الامام الي تلميذه العظيم هشام بن الحكم ، وقد شرحها الفيلسوف المتأله الملا صدرالدين الشيرازي المعروف ب «الملاصدرا» في رسالة خاصة ، وقد تعقبها بالتحليل الموضوعي

__________________

(١) الكليني / الكافي ١ / ١٨ ، ابن‌شعبة / تحف العقول / ٢٨٩.

(٢) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٠٦.


الأستاذ باقر شريف القرشي (دام علاه) ، فكانت مع الأصل في أربعين صفحة» (١).

ولا أعلم رسالة في العقل قد مهدت للحياة العقلية المتطورة بهذا المستوي الفكري كهذه الرسالة التي ربط بها الامام بين ذوي العقول ومنزلتهم وما بين ما أفاض به القرآن الكريم من الاعتداد الرفيع بهم ، وثمة ظاهرة أخري يشير لها الامام فيما حققه أصحاب العقل السليم من المعرفة بأسرار الهداية والكون بافاضة من الله تعالي عليهم.

وقد أكد الامام أن الله عزوجل قد جعل العقل حجة يستدل بها علي عظيم خلقه في السماوات والأرض ، وما فيهما من الكائنات المرئية وغير المرئية ، والعوامل الحسية والمتصورة المعلومة والمجهولة والمتخيلة ، وما في ذلك من عجائب صنع الله في الخلق والايجاد والتصريف والادارة والابداع ، مما جعله الله برهانا علي معرفته الخارقة ، ودليلا علي عظيم قدرته التي لا تدرك (٢).

وبالامكان الاشارة الي نهج هادي‌ء لنقاط الارتكاز في الرسالة.

١ ـ أبان الامام (عليه‌السلام) أن الله خوف الذين لا يعقلون من عقابه ، وقرن العلم بالعقل ، فقال تعالي :

(وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون) (٣).

ثم ذم الله الذين لا يعقلون في آيات عديدة من قرآنه المجيد ، عرض الامام لها ، وختم ذلك بقوله تعالي :

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر : ١ / ١٨٣ ـ ٢٢٣.

(٢) ظ : نص رسالة الامام / الكليني / الكافي ١ / ١٣ ـ ٢٠ ، ابن‌شعبة / تحف العقل ٣٩٠ ـ ٤٠٠ ، وفيها زيادة علي ما ذكره الكليني.

(٣) سورة العنكبوت / ٤٣.


(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتي ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) (١).

ومدح الله تعالي القلة لأنهم العقلاء حقا ، فقال عزوجل :

(وقليل من عبادي الشكور) (٢).

وقال تعالي : (وقليل ما هم) (٣).

وقال تعالي : (وما آمن معه الا قليل) (٤).

وأشار الامام أن القرآن ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر ، وحلاهم بأحسن الحلية ، فقال : (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا أولوا الألباب) (٥).

وتحدث الامام عما مدح الله به لقمان بايتا الحكمة ، ويعني بذلك الفهم والعقل ، وما أوصي به لقمان ولده بالتواضع للحق ليكون أعقل الناس.

٢ ـ واعتبر الامام أن لكل شي‌ء دليلا «ودليل العقل التفكر ، ودليل التفكر الصمت ، ولكل شي‌ء مطية ، ومطية العقل التواضع». وصرح بأن الله تعالي ما بعث الأنبياء ورسله وعباده الا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا ، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة ، واعتبر الامام العقل حجة باطنة. وأن العاقل لا يشغل الحلال شكره ، ولا يغلب الحرام صبره.

وعد الامام طول الأمل ، وفضول الكلام ، وشهوات النفس ، مؤشرات تعين علي هدم العقل. «ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه».

٣ ـ واعتبر الامام : «الصبر علي الوحدة علامة قوة العقل ، فمن عقل من الله

__________________

(١) سورة الحشر / ١٣.

(٢) سورة سبأ / ١٣.

(٣) سورة ص / ٢٤.

(٤) سورة هود / ٤٠.

(٥) سورة البقرة / ٢٦٨.


اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند الله».

«كما اعتبر نصب الحق لطاعة الله ، ولا نجاة الا بالطاعة ، والطاعة بالعلم ، والعلم بالتعلم ، والتعلم بالعقل يعتقد ، ولا علم الا من عالم رباني ، ومعرفة العلم بالعقل».

٤ ـ ورأي الامام : «ان العاقل قد رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة ، فالعقلاء تركوا فضول الدنيا ، وان العاقل نظر الي الدنيا وأهلها فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة ، ونظر الي الآخرة فعلم أنها لا تنال الا بالمشقة ، فطلب بالمشقة أبقاهما».

ورأي الامام أن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وأن الله حكي عن قوم صالحين قولهم : (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب) (١).

وانه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه علي معرفة ... وروي عن جده أميرالمؤمنين : «ما عبدالله بشي‌ء أفضل من العقل».

وعقب الامام علي ذلك بافاضات رائعة تخص الموضوع.

٥ ـ ورأي الامام رؤية مجهرية : «أن العاقل لا يكذب ، وان كان فيه هواه» وقال أيضا : «لا دين لمن لا مروة له ، ولا مروة لمن لا عقل له» وروي عن جده أميرالمؤمنين صفة العاقل : «ان من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال :

يجيب اذا سئل ، وينطق اذا عجز القوم عن الكلام ، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله ، فمن لم يكن فيه هذه الخصال الثلاث فهو أحمق». الي آخر فقرات هذه الرسالة الثمينة.

____________________

(١) سورة آل‌عمران / ٨.


وكان الامام بذائقته الفطرية الخالصة يدرك دور العقل في الحياة الاجتماعية ، ولديه تصور عريق بتقلبات المناخ الاجتماعي ، ويعرف جيدا توجه السلطان لتسخير الحياة العقلية للسير في ركابه وتلبية رغباته ، فأراد الشعب التمتع بجوهرة العقل ، لتمنعه وتعصمه عن الانزلاق السياسي الذي تجهد السلطات علي احداثه وتوسيع ثغراته ، ومن البديهي أن يفيد قلة من المثقفين والعلماء من هذا الأمداد الطهور ، وتندفع أكثرية القوم نحو السراب.

ومهما يكن من أمر ، فان الاتجاهات السياسية المعقدة قد أذكت شرارة الجذوة الكلامية ، لا حبا بالعلم وتشجيعا له ، بل لتفيد منه في الابقاء علي النفوذ ، واشغال الشعب المسلم عن نفسه بنفسه ، وبمبادئه عن مشكلاته ، وقد مهد هذا التخطيط الي قيام الأشاعرة والمعتزلة والمرجئة والمفوضة ، وساعد علي ظهور الزندقة والمانوية والمزدكية والشعوبية وسواها في افرازات أحدثها البعد السياسي في المناخ العقلي ، وهو ينتقل من دور العلم بالشي‌ء الي دور النقاش ، ومن طور الفهم الي طور المناظرة ، ازاء اثبات هذا الأصل أو دحض ذلك المبدأ ، ومن هنا نشأت الحياة العقلية وهي تتدرج بالتصاعد من البسيط الي المركب ، ومن السهل الي الصعب ، ومن القاعدة الي القمة ، واذا بالأفق الحالم المتزن يتحول الي شعلة نار متلهبة تزيد في حرارة الجو وسعرات الحياة.

ولا أدل علي هذا من نشوء بدعة الارجاء في ظل الحكم الأموي ، واستمراريتها حتي اليوم ، لأن الارجاء قد ابتدع مقالة تعني بمجاراة السلطان ، والابقاء علي عروش الطغاة ، تثبيتا لأنظمة الحكم السائدة ، فالحاكم هو الحاكم المطاع ، ما دام يشهد الشهادتين ليس غير ، لا يغيره فسق ، ولا يعزله اسراف ، وان خاض في دماء المسلمين خوضا ، فأمره الي


الله ، وعلي المسلمين الطاعة ، وان ظلم عباد الله ، وغير أحكام الله ، وأكل أموال المسلمين ، وثوابه أو عقابه علي الله ، وليس لأحد أن يعتدي علي ذاته المقدسة!!.

الجديد في هذا المنحي في الاسلام أن الحاكم مصون غير مسؤول ، فقد أبيح له كل شي‌ء ، وقد خول بكل شي‌ء. وقد رحب الطغاة والجبابرة والملوك بهذا المبدأ الجديد.

فالارجاء اذن مذهب الطواغيت ، وهو المذهب الذي يبيح الانحراف والخروج عن الخط الديني ، ويجعل الحاكم مستقلا في برجه العاجي عن النقد والتجريح والرفض.

وطبيعي أن مذهب الارجاء قد ابتدعته الأعطيات الضخمة من السلاطين ، وجعلت منه مبدأ لا ينطق ، ولا يعترض ، ولا يحاجج ، بل يظل مسالما طول الخط.

يقول الأستاذ خودابخش : «ان أصل المرجئة ، يرجع الي ما كان من ضرورة استنباط وسيلة للعيش في وفاق مع الحكم» (١).

وأقره علي ذلك أستاذنا الدكتور يوسف خليف بقوله : «فقد وجد الحاكمون في هذا المذهب ضالتهم المنشودة التي كانوا يتمنون أن يعثروا عليها وسط الاتجاهات والمذاهب المتعددة المعادية لهم» (٢).

ولم يقف المسلمون بمنحي عن فكرة الارجاء ، بل وقفوا في الاتجاه المعاكس لمجابهة الارجاء فالامامية يرون في مذهب الارجاء احتضانا لتطلع الطواغيت في اباحة المحظورات ، يسوغ لهم الاستبداد وسفك الدماء دون أن يخرجهم ذلك عن حضيرة الايمان ، وكان في طليعة ذلك الامام محمد الباقر

__________________

(١) ظ : يوسف عبدالقادر خليف / حياة الشعر في الكوفة / ٣٠٩.

(٢) المرجع نفسه / ٣٠٩.


(ت ١١٤ ه) حينما قصده عمرو بن قيس الماصر ، وهو ممن يقول بالارجاء ، فقال للامام : انا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. فرد عليه الامام مستندا الي السنة الشريفة ، فقال :

«يا ابن‌قيس : أما رسول الله (صلي الله عليه وآله) فقد قال : لا يزني الزاني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق هو مؤمن. فاذهب أنت واصحابك حيث شئت» (١).

وكان ابراهيم النخعي (ت ٩٦ ه) عنيفا في مقاومة الارجاء. والمرجئة عنده هم أهل الرأي المحدث ، والارجاء بدعة ، وقد تركوا الدين أرق من الثوب السابري ، بل ذهب الي أكثر من هذا فقال : «لأنا علي هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة» (٢).

وفي قبال أهل الجبر والارجاء ، كانت عقيدة القدرية القائمة علي القول بحرية الارادة والاختيار ، وزعيم القائلين بالقدر ـ غير منازع ـ الحسن البصري (٣).

والذي يهمنا في الأمر أن العباسيين قد رحبوا بفكرة الاعتزال كالأمويين من ذي قبل ، لأنهم أزاحوا فكرة التقديس عن الأبدال والأئمة ، فهم بذلك يقفون في الصف المقابل للفكر الامامي الذي يعطي للأئمة (عليهم‌السلام) مكانتهم في الولاء والتقديس.

أما الخوارج فلم يكن لهم أمر ذو بال في العصر العباسي ، وكان الخروج علي الدولة من شأن الطالبيين فحسب ، والحسنيين منهم بالذات ، ولم يكن المسلمون ليعتبروا العلويين خوارج في المفهوم الاصطلاحي ، بل عدوهم من الثائرين.

الا أن الحياة العقلية في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد انفجرت

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام محمد الباقر ٢ / ٩٠ وانظر مصدره.

(٢) ابن‌سعد / الطبقات الكبري ١ / ١٩١.

(٣) ظ : شوقي ضيف / التطور والتجديد في الشعر الأموي / ٥٢.


بأفكار جديدة مضافا الي مخلفات الخوارج والمرجئة وأهل القدر المعتزلة. فكانت متاعب الامام مضنية في صد التيارات والرياح الوافدة ، وهو يعيش تبعات ذلك كله ، يعالجها حينا ، ويدفعها حينا آخر ، ويوفق بين المسلمين فيما بينهما ، حتي سجل له تأريخيا ذلك الدور المشرف.

لقد نشأت في عهد أبيه الامام الصادق فرق الغلاة والزنادقة والالحاد ، ونشأت في عهده فرق أخري وثيقة الصلة بما ابتلي به عصر أبيه. فأضاف ذلك جهدا الي جهده.

والذي يراه البحث أن الحياة الجديدة لم تكن هادئة أو مستقرة ، بل هي الي الصخب والضجيج أقرب ، وهي تمثل مدي الانشطار الاسلامي الي فرق وجماعات وجماعات وتكتلات.

وقد شجعت السياسة هذا الجو المحموم المضطرب ، ليصفو لها الأفق بعيدا عن المجابهة والرفض ، وبمعزل عن مشكلات التحسس الجماعي بالظلم والمأساة والاذلال.

وكانت حتمية تجربة السماء الفطرية تقتضي بالضرورة أن ينتصر الاتجاه العقلي الرصين علي تلك التهاويل الغريبة التي اجتاحت العالم الاسلامي في سرعة مذهلة. وهي تتضخم ضمن مخطط سياسي صاعق ، أبرم بنوده سلاطين الجور وأدعياء الفكر الوافد.


تعدد الاتجاهات العقائدية

ومع كل ذلك العمل التكاملي الرائد الذي فجره الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) لتوحيد الأمة ، ورأب الصدع ، الا أن بعض الظواهر العقلية قد برزت في الميدان ، نحاول القاء بعض الضوء علي مصادرها وأثرها في الظروف الاجتماعية ، كما نعرض لجزء من حياتها المترددة بتكثيف وضغط قد يؤديان المهمة دون الاغراق في التفصيلات الهامشية.

ولو أن أهداف هذه الاتجاهات كانت علمية خالصة ، أو تنافعية مشروعة ، لوصل الينا علم كثير خالص ، الا أن ما يحز في النفس أن ينحر الكثير منها الي مداخلات غير بريئة ، وأن تطغي لغة الهجوم والاسفاف علي لغة العقل والاناة ، فينشأ عن هذا وذاك احتدام لا مسوغ له في التعدي والتحدي والتداعي الذي قد يصل ببعض مفرداته الي تكفير هذا وتضليل ذاك ، وهنا تفقد الحياة العقلية هذا الوهج الحضاري في تلاقح القيم والأفكار. وتلك مأساة نتلقاها بمرارة وحزن عميق ، حتي عادت صراعا يطال المعتقدات بكثير من التهاون تارة والتجاهل تارة أخري.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :


«واتسم عصر الامام بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية والعنصرية والنحل الدينية ، والتجاهات العقائدية التي لا تمت الي الاسلام بصلة ، ولا تلتقي معه بطريق ، وقد تصارعت تلك الحركات الفكرية تصارعا لا هدوء فيه ولا استقرار ، حتي امتد ذلك الصراع الي أكثر العصور ، ويعود السبب في ذلك الي أن الفتح الاسلامي قد نقل ثقافات الأمم وسائر علومهم الي العالم الغربي والاسلامي ، بالاضافة الي أن السلام قد جاء بموجة عارمة من العلوم والأفكار ، ودعا المسلمين الي الانطلاق والتخصص في (صفحه ١١٥) جميع ألوان المعارف ، وقد أحدث ذلك انقلابا فكريا في المجتمع الاسلامي ، وتبلورت الأفكار بألوان من الثقافة لم يعهد لها المجتمع نظيرا في العصور السالفة ، وقد اتجهت تلك الطاقات ... الي الجانب العقائدي من واقع الحياة ، فحدثت المذاهب الاسلامية والفرق الدينية ، وتشعبت الأمة الي طوائف وقع فيما بينها من النزاع والمخاصمات والجدال الشي‌ء الكثير ، فكانت النوادي تعج بالمعارك الدامية والصراع العنيف ... وكان من أبرز المتصارعين في هذه الساحة هم علماء الكلام والمتكلمون» (١).

وقد ألمحنا لحياة كثير من هذه الصراعات فيما مضي من هذه الموسوعة في أعمال سابقة (٢).

وقد فصلنا القول في كتابنا «الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت» فتحدثنا عن الثورة المضادة التي قادها الامام ضد متناقضات العصر العباسي في المناخ العقلي ، وعرضنا لظاهرة الغلاة ومحاربة أئمة أهل البيت لتلك الظاهرة الضالة.

واستوفينا القول ـ بايجاز ـ في حركات الالحاد والزندقة ، وعرضنا

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ١٠٩.

(٢) ظ : المؤلف / الامام محمد الباقر مجدد الحضارة الاسلامية / ٨٨ ـ ١٠٦.


لحياة المذاهب الكلامية في عصر الامام الصادق (عليه‌السلام) ووجدنا أن الامام قد وظف نظره العقلي من خلال المحاورات والمناظرات مع زعماء علم الكلام. وكان هذا التوظيف الدقيق قد اشتمل علي ظاهرتين :

الأولي : الاستدلال العقلي والبديهي الذي لا سبيل الي انكاره.

الثانية : الاقناع المقبول الذي فجره هذا الاستدلال (١) ولا ضرورة لاعادة هيكلية ذلك البحث فقد سبق القول فيه.

وهنا لابد من رصد بعض المشاهد العقلية التي حفلت بها حياة عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) مما دأب المناخ السياسي الي التشجيع عليه ، للهدف المركزي في التخطيط السلطوي للاستبداد أني كان سبيله ، ولا مانع بعد هذا من تشعب آراء الأمة ، وتمزيق الصف الاسلامي.

روي محمد بن أبي‌عمير عن علي الأسواري ، قال :

كان ليحيي بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتج بعضهم علي بعض ، فبلغ ذلك الرشيد ، فقال ليحيي بن خالد :

يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ فقال : ... ما شي‌ء مما رفعني به أميرالمؤمنين ، وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فانه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتج بعضهم علي بعض ، ويعرف المحق منهم ، ويتبين فساد كل مذهب من مذاهبهم.

قال له الرشيد : فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ... وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم وعزموا

__________________

(١) ظ : المؤلف / الامام جعفر الصادق / زعيم مدرسة أهل البيت / الباب الأول / الفصل الثالث / الحياة العقلية وظواهرها الاجتماعية.


أن لا يكلموا هشاما الا في الامامة ، لعلمهم بمذهب الرشيد وانكاره علي من قال بالامامة.

ويحضر الرشيد هذه الجلسة ، وفيها هشام بن الحكم من الامامية وعبدالله بن يزيد الأباضي من الخوارج ، وحضر جماعة المعتزلة. ولك أن تختبر أهداف هذه الجلسة ، فمن رأي يحيي بن خالد البرمكي أن «يتبين فساد كل مذهب» من مذاهب القوم ، وهدف المعتزلة الايقاع بهشام بن الحكم لأنه امامي ، ويعرفون رأي الرشيد بمن قال ذلك ، فلا يسألونه الا بالامامة ، والرشيد يحضر ليعرف أعداءه من أوليائه ، والقوم في أخذ ورد من مبحث (صفحه ١١٧) الامامة ، وهشام يعطي الدليل اثر الدليل علي صحة مذهبه ، والمعتزلة يردون وينقضون ، وهشام يرد الرد والنقض معا ، والخوارج يعتذرون عن الخوض في الموضوع لأن هشاما شريك الأباضي في التجارة ، وتحتدم آراء القوم في جدل مستميت وخصام شديد ، حتي ينجر الحديث الي القول من قبل هشام أن الامام معصوم من الذنوب ، وأنه أشجع الناس ، وأسخي الناس ، وأعلم الناس ، وقرع الحجة بالحجة.

والرشيد يسمع هذا كله ، ومعه جعفر بن يحيي يسمع هذا كله ، فقال الرشيد لجعفر ، من يعني بهذا؟ قال : يا أميرالمؤمنين يعني موسي بن جعفر ، قال ، ما عني بها غير أهلها ، ثم عض علي شفته ، وقال : مثل هذا حي ويبقي لي ملكي ساعة واحدة؟ فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف.

وعلم يحيي بن خالد أن هشاما قد أتي ، فغمز الي هشام بالخروج ، وعلم هشام أنه قد أخذ علي حين غرة ، فانسل من المجلس وهرب ، وكان ذلك آخر العهد به حتي مات (١).

__________________

(١) ظ : هذه المحاورة كاملة / البحار للمجلسي : ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٢.


في هذه المحاورات والمناظرات عمق علمي لا شك في ذلك ، ولكن تبني السلطة لهذا النوع من الجهد العقلي يكشف أنهم بسبيل كشف من يواليهم ممن يخالف عليهم ، ولابانة من يؤيد مذهبهم السياسي ممن يحتمل عليه ، فهي وان كانت آفاقا معرفية في الجدل والحجاج والمناظرة ، الا أن عليها رصدا سياسيا جاثما ، يأخذ عليهم الأنفاس ، ويلتقط الاشارات فيذهب ضحية ذلك أمثال هؤلاء العلماء.

وظاهرة أخري أن الحكم يبارك هذه الخطوات أني كانت النتائج ، لأنها تصب في رافد مصالحهم الفئوية السياسية ، فما علي المتكلمين الا الجهد المضني في الجدل والاحتجاج ، وما علي الحكم الا استثمار ذلك في صراعات بين صفوف الأمة لا أول لها ولا آخر ، ولكنها تشغل الناس ، وتلك نقطة انطلاق كبري يسعي اليها الحكم والسلطان.


الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة

وكما انشق المسلمون الي مذاهب متعددة في القدر والارجاء والجبر والتفويض ، وكما نشأت المعتزلة والأشاعرة والخوارج ، فقد انشق الشيعة فيما بينهم ، فكانت الفرق الخارجة عن نظام أهل البيت مفارقة لتسلسل الأئمة الاثني عشر القائل بامامة أميرالمؤمنين علي (عليه‌السلام) وولايته الكبري ، ثم الحسن والحسين ، وعلي بن الحسين (عليهما‌السلام) ، ومحمد الباقر ، وجعفر الصادق. وموسي الكاظم ، وعلي الرضا ، ومحمد الجواد ، وعلي الهادي ، والحسن العسكري ، والحجة القائم المنتظر (عليهم‌السلام) أجمعين.

هذا التسلسل الامامي كان منظورا اليه ، ومتحدثا عنه ، منذ عهد مبكر ، بدأه رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعلي ، والحسن والحسين حتي عصر الامام الصادق (عليه‌السلام) بروايات متواترة وأحاديث مستفيضة وهو ما عليه الامامية ، وهو جزء لا يتجزأ من مبدأ الامامة.

ولدي الامعان في تأريخ الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة نجده أسبق عهدا من عصر الامام موسي بن جعفر ، فقد نشأت الكيسانية القائلة بامامة


محمد بن الحنفية ، وهو الأخ الثالث غير الشقيق لسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين (عليهما‌السلام).

فكانت الفتنة به عظيمة ـ ولا علاقة له بها ـ لأنه ابن أميرالمؤمنين ، وليس بأيدينا من المصادر ما يشير الي ادعائه الامامة لا من قريب ولا من بعيد؛ بينما رأي أتباعه بأنه المهدي المنتظر ، وأن وفاته كانت غيبة له ، بل هو حي لم يمت وانما احتجب عن الأنظار. وسميت هذه الفرقة بالكيسانية نسبة الي كيسان مولي المختار الثقفي ، بل قيل انه المختار نفسه.

وقد انقرضت هذه الفرقة ، فلا وجود لها اليوم.

ومن أبرز الفرق التي انشقت علي نظام أهل البيت «الزيدية» نسبة الي الشهيد زيد بن علي بن الحسين زين‌العابدين (عليه‌السلام) ، ولم يكن زيد قد ادعي لنفسه الامامة أبدا ، بل كان ثائرا ، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر ، حتي سفك في سبيل الله دمه ، وصلبت جثته بعد القتل وأحرقت ، وهو مرضي عند الأئمة (عليهم‌السلام) ، وقد دعا الي الرضا من آل محمد.

روي العيص بن القاسم ، قال : «سمعت أباعبدالله (الامام الصادق) يقول : عليكم بتقوي الله ... ان أتاكم آت منا ، فانظروا علي أي شي‌ء تخرجون؟ ولا تقولوا خرج زيد ، فان زيدا كان عالما ، وكان صدوقا؛ ولم يدعكم الي نفسه ، وانما دعاكم الي الرضا من آل محمد (صلي الله عليه وآله) ، ولو ظهر لوفي بما دعاكم اليه ، وانما خرج الي سلطان مجتمع ليفضه (ليقضه) (١).

ولم يكن للامام أن يسدد رأي زيد لو لم يكن علي حق. الا أن الزيدية اتخذت منهجا في دعوي الامامة يقوم علي مبدأ السيف ، من خرج بالسيف فهو الامام المفترض الطاعة ، ومن أقام امامته علي غير الكفاح المسلح ،

__________________

(١) الكليني / روضة الكافي / ٢٦٤.


فليس بامام ، فلا يجوز اتباعه بزعمهم ، ولا يجوز القول بامامته (١).

وهنالك فرق انطلقت في الميدان في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، وكان أبرزها : الاسماعيلية ، والفطحية ، والواقفة.

ولكل فرقة من هذه الفرق الثلاث دعواها في تسلم منصب الامامة لغير الامام الشرعي المنصوص عليه في سلسلة الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام).

فالاسماعيلية تنتسب الي اسماعيل بن الامام جعفر الصادق ، فعلي الرغم من وفاته في حياة أبيه ، فقد أنكروا ذلك بشدة ، وقالوا : لا يموت حتي يملك (٢).

وكان هذا الزعم مخالفا لحقائق الاحداث ، اذ توفي اسماعيل في عهد مبكر قبل الدعوة اليه ، فقد مات في حياة أبيه في «العريض» وحمل علي رقاب الرجال الي المدينة ، ودفن بالبقيع ، وتقدم الامام الصادق سريره ، وأمر بوضعه علي الأرض قبل دفنه مرارا كثيرة ، وكان يكشف عن وجهه وينظر اليه ، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده ، وازالة الشبهة عنهم في حياته (٣).

ويقوم مذهب هذه الطائفة علي الغلو ، وحصر الامامة في ذرية اسماعيل فيما يزعمون ، ويضفون علي زعمائهم أقدس النعوت التي يرفضها حتي شبابهم المثقف.

وفي هذا الجو الغائم نشأت (الفطحية) القائلة بامامة عبدالله بن الامام الصادق (عليه‌السلام) ، وقد لزمهم هذا اللقب لقولهم بامامته ، وهو أفطح الرجلين. ويقال أنهم لقبوا بذلك لأن داعيهم الي امامة عبدالله هذا كان رجلا يقال

__________________

(١) ظ : النوبختي / فرق الشيعة / ٧٥.

(٢) ظ : الأشعري / مقالات الاسلاميين / ٩٨.

(٣) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣١٩ ـ ٣٢٠.


له : عبدالله بن الأفطح (١) وقد تسمي هذه الفرقة العمارية ، نسبة الي أحد زعمائها المسمي «عمار» (٢).

وسرعان ما اختفت هذه الفرقة ، اذ لم يعش عبدالله بعد أبيه الا سبعين يوما ، ولم يعقب ولدا ذكرا (٣) وكأن مبدأ هذه الفرقة قد ولد ميتا ، وانتهي أمرها.

ونشأت أفكار فرقة ضالة ، كان لها الأثر في تفريق الكلمة ، وتشويه الحقائق المجردة ، وهي فرقة الواقفة ، وقد تسمي «الواقفية» وسبب هذه التسمية أنها وقفت علي امامة موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وادعت أنه حي لم يمت ولا يموت ، وأنه رفع الي السماء كما رفع عيسي بن مريم (عليه‌السلام) وأنه هو القائم المنتظر الذي يملأ الدنيا قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. وأن الذي في سجن السندي بن شاهك ليس هو الامام موسي بن جعفر بل شبه وخيل اليهم أنه هو (٤).

وكانت هذه المقالة مدعاة الي السخرية من قبل الامامية لأنها لا تقوم علي أساس نصي أو تأريخي علي الاطلاق.

قال الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ ه) :

«أما الذي يدل علي فساد مذهب الواقفة ... فما ظهر من موته (عليه‌السلام) ، واشتهر واستفاض كما اشتهر موت أبيه وجده ومن تقدمه من آبائه ... علي أن موته اشتهر ما لم يشتهر موت أحد من آبائه (عليهم‌السلام) ، لأنه أظهر ، فقد أحضروا القضاة والشهود ، ونودي عليه ببغداد علي الجسر ، وقيل : هذا الذي

__________________

(١) ظ : المصدر نفسه / ٣٢٠.

(٢) ظ : الأشعري / مقالات الاسلاميين.

(٣) ظ : الشهرستاني / مقالات الاسلاميين.

(٤) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٠٤.


تزعم الرافضة أنه حي لا يموت ، مات حتف أنفه» (١).

ويبدو أن العنصر المادي ، وخيانة الله ورسوله في احتجان الحق الشرعي ومال المسلمين ، هو الذي أدي بالقول الي الوقف.

فروي الثقات : ان اول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي‌حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندي ، وعثمان بن عيسي الرواسي ، طمعوا في الدنيا ، ومالوا الي حطامها ، واستمالوا قوما ، فبذلوا لهم مما اختانوه من الأموال ... فكان عند زياد بن مروان سبعون ألف دينار ... وعند عثمان بن عيسي ثلاثون ألف دينار وخمس جوار ، فبعث اليهم الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) : أن احملوا ما قبلكم من المال ، وما كان اجتمع لأبي عندكم من أثاث وجوار ، فاني وارثه ، وقائم مقامه ، فأنكر ذلك البطائني والقندي ، وأما عثمان بن عيسي الرواسي فكتب اليه : ان أباك (عليه‌السلام) لم يمت ، وهو حي قائم ، ومن ذكر أنه مات فهو مبطل ، واعمل علي أنه قد مضي كما تقول ، فلم يأمرني بدفع شي‌ء اليك ، وأما الجواري : فقد أعتقتهن ، وتزوجت بهن (٢).

وتهافت كثير من ذوي الأحلام القاصرة وذوي الأطماع الواهنة الي اعتناق مذهب الواقفة دون هدي من كتاب أو سنة أو عقل.

والطريف في الأمر أن يحمل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في حياته علي هذه الفرقة وعلي رئيسها بالذات ، فعن ابن أبي‌داود ، قال : «كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي‌حمزة البطائني ، ـ وكان رئيس الوافقة ـ فسمعته يقول : قال أبوابراهيم (عليه‌السلام) (موسي بن جعفر) : انما أنت

__________________

(١) الشيخ الطوسي / الغيبة / ٢٠.

(٢) ظ : الصدوق / علل الشرائع / ٢٣٦ طبع النجف ، الطوسي / الغيبة / ٤٦ ـ ٤٧ ، الصدوق / عيون أخبار الرضا : ١١٢ / ١ ، الكشي / الرجال / ٣٠٧ ، المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ٢٥٢.


وأصحابك يا علي أشباه الحمير!!.

فقال لي عيينة : أسمعت؟ قلت : اي والله لقد سمعت.

فقال : لا ، والله لا أنقل اليه قدمي ما حييت» (١).

وقال ربيع بن عبدالرحمن : «كان والله موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من المتوسمين ، يعلم من يقف عليه بعد موته ، ويجحد الامام بعد امامته» (٢).

وقد تمخض الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) ، لقيادة حملة واسعة ندد فيها بالواقفة ، وحذر منها ، وفند آراءها ، وأخبر عن الضلال والانحراف في خطواتها.

فقد سأل مرة ما فعل الشقي حمزة بن بزيع؟ فقال ابراهيم بن أبي‌البلاد : هو ذا قد قدم. فقال (عليه‌السلام) : يزعم أن أبي حي ، هم اليوم شكاك ، ولا يموتون غدا الا علي الزندقة.

يقول صفوان بن يحيي : فقلت في نفسي : شكاك قد عرفتهم ، فكيف يموتون علي الزندقة؟

فما لبثنا الا قليلا حتي بلغنا عن رجل منهم أنه قال عند موته : هو كافر برب أماته. فقلت : هذا تصديق الحديث (٣).

وعن محمد بن سنان؛ قال : ذكر علي بن أبي‌حمزة عند الامام الرضا (عليه‌السلام) فلعنه ثم قال : ان علي بن أبي‌حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه ، فأبي الله الا أن يتم نوره ولو كره المشركون ، ولو كره اللعين المشرك ، قلت : المشرك؟ قال : نعم والله رغم أنفه ، كذلك هو في كتاب الله : (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ...) (٤)

__________________

(١) الشيخ الطوسي / الغيبة / ٤٩ ، المجلس / البحار : ٤٨ / ٢٥٥.

(٢) الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا : ١ / ١١٢.

(٣) ظ : الشيخ الطوسي / الغيبة / ٤٩ ، المجلسي / البحار : ٤٨ / ٢٥٦.

(٤) سورة التوبة / ٣٢.


وقد جرت فيه وفي أمثاله ، انه أراد أن يطفي‌ء نور الله (١).

وقد روي جعفر بن محمد النوفلي ، أنه سأل الامام الرضا (عليه‌السلام) : قلت : جعلت فداك ، ان أناسا يزعمون أن أباك حي؟

فقال : «كذبوا لعنهم الله؛ لو كان حيا ما قسم ميراثه ، ولا نكح نساؤه ، ولكنه ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي‌طالب ...» (٢).

ومع هذا الشجب المستمر ، والانكار الصريح ، فان فتنة الواقفة قد استهوت جماعة من أعيان الشيعة فيهم الأكابر والأعاظم ، الا أن الله تعالي قد كشفها ببركة الامام الرضا (عليه‌السلام) ، فرجع عنها أولئك الذين شكوا بوفاة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، ثم عادوا لامامة الرضا (عليه‌السلام) بعد البراهين والأدلة. وقد استوعب الشيخ الطوسي ذكرهم بأسمائهم وأعيانهم ، بعد أن لزمتهم الحجة ، ولا داعي لاعادة ذلك مع عودتهم الي الهدي (٣).

وكان هذا بحسن التأتي لسيدنا ومولانا الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) وقوة حجته ، ونفاذ بصيرته ، وصدق تجاربه ، وقرعه الدليل بالدليل ، وجهره بمعاداة أولئك الأفاقين.

فقد روي أحمد بن محمد قال :

«وقف علي ، أبوالحسن (الامام الرضا) في بني زريق ، فقال لي وهو رافع صوته ، يا أحمد؛ قلت : لبيك ، قال :

انه لما قبض رسول الله (صلي الله عليه وآله) جهد الناس في اطفاء نور الله ، فأبي الله الا أن يتم نوره بأميرالمؤمنين (عليه‌السلام).

فلما توفي أبوالحسن (عليه‌السلام) (الامام موسي بن جعفر) جهد علي ابن أبي‌حمزة وأصحابه في اطفاء نور الله ، فأبي الله الا أن يتم نوره ، وان أهل الحق

__________________

(١) الشيخ الطوسي / الغيبة / ٥٠ ، المجلسي / البحار : ٤٨ / ٢٥٧.

(٢) ظ : الشيخ الصدوق / عيون أخبار الرضا ٢ / ٢١٦ ، البحار ٤٨ / ٢٦٠.

(٣) ظ : الشيخ الصدوق / عيون اخبار الرضا ٢ / ٢١٦ ، البحار ٤٨ / ٢٦٠.


اذا دخل عليهم داخل سروا به ، واذا خرج عنهم خارج لم يجزعوا عليه ، وذلك أنهم علي يقين من أمرهم ، وان أهل الباطل اذا دخل فيهم داخل سروا به ، واذا خرج عنهم خارج جزعوا عليه ، وذلك أنهم علي شك من أمرهم ، ان الله جل جلاله يقول : (... فمستقر ومستودع ...) (١).

قال : ثم قال أبوعبدالله (عليه‌السلام) : المستقر الثابت ، والمستودع المعار» (٢) ولما صرح الحق عن وجهه ، انتهي أمر هذه الفرقة ، وذهبت أدراج الرياح ، وكأنها لم تكن.

ولئن انشقت فرق الشيعة من الداخل ، فقد انشق المسلمون من الخارج ، فوفدت عليهم الرياح الصفراء يحملها الأعاجم في كثير من الضغط علي النفوس الضعيفة والأحلام الطائشة ، وقد استأثرت الشعوبية بطائفة منهم ، واستقطبت المزدكية والزرادشتية والمانوية جيلا من الناس ، وأسفرت حركات الالحاد والزندقة عن اتباع وسائرين بالركاب ، وقد شاء أربابها تزيين مبادئهم بشعارات براقة لم تظهر حتي اختفت ، ولكنها أثرت في الحياة الفعلية ايما تأثير ، ولكنها عاشت في أوهام العقول ولم تبلغ الأفئدة ، وقد وقف منها المسلمون موقف المناضل المستميت ، وكان الدور الأكبر للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بارز السمات والآثار ، فرفضها المجتمع المسلم ، وعادت ادعاءاتها باهتة الألوان ، فما استقرت حتي تبددت ، وما اجتمعت حتي تفرقت.

ولئن أتاح المناخ السياسي لهذه المبادي‌ء الوافدة أن تتطاول ، فقد أتاحت قيادة أهل البيت الفرصة للعمل علي الاطاحة بها ، كما ستشاهد هذا في المبحث الآتي.

__________________

(١) سورة الأنعام / ٩٨.

(٢) الكشي / الرجال / ٢٧٨ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٦١.


الامام في خضم التيار الكلامي

واستبق الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) خطا المتكلمين ، وبادر الي الدفاع عن التوحيد ، وأبطل شبهات الانحراف ، وحمل الفكر علي المحجة البيضاء ، كما حدب علي ايصال المفردات الرائدة الي الذهن الانساني بيسر وسماح من خلال ذلك الوهج اللماع لاستلهام الحقائق ناصعة مجردة. فللامام رسالة في التوحيد بلغ بها الذروة في الحديث عن الخالق وصفاته ، وتنزيه الباري‌ء المصور من كل المقولات الضالة ، وافتقار الناس اليه تعالي واستغناؤه عن الخلق ، بما يعتبر سجلا حافلا بأصول التوحيد ، وهو بمعطياته لا نظير له في تأريخ حضارة الانسان.

بدأ الامام (عليه‌السلام) في هذه الرسالة : بحمد الله الدال علي وجوده بمخلوقاته ، والمستشهد بآياته علي قدرته.

وذهب الامام أن صفات الله عين ذاته ، فلا يحاط بحد ، بصير لا بأداة ، سميع لا بآلة ، لا تدركه العقول لقصورها عن ذلك ، وهو في غاية الظهور لتجرده عن الحجب ، الديانة معرفته ، وكمال معرفته توحيده ، الي آخر ما


أبان (عليه‌السلام) ؛ وان من كمال البحث العقلي اثبات نص هذه الرسالة.

قال الامام (عليه‌السلام) : «الحمد لله الملهم عباده حمده ، وفاطرهم علي معرفة ربوبيته ، الدال علي وجوده بخلقه ، المستشهد بآياته علي قدرته ، الممتنعة من الصفات ذاته ، ومن الأبصار رؤيته ، ومن الأوهام الاحاطة به ، لا أمد لكونه ، ولا غاية لبقائه ، لا تشمله المشاعر ، ولا تحجبه الحجب ، والحجاب بينه وبين خلقه بأخلقه اياهم ، لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ، ولا مكان مما يمتنع منه ، ولافتراق الصانع من المصنوع ، والحاد من المحدود ، والرب من المربوب ، والواحد بلا تأويل عدد ، والخالق لا بمعني حركة ، والبصير لا بأداة ، والسميع لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسة ، والباطن باجتنان ، والظاهر البائن لا بتراخي مسافة ، أزلة نهي لمجاول الأفكار ، ودوامه ردع لطامحات العقول ، قد حسر كنهه نوافذ الأبصار ، وقمح وجوده جوائل الأوهام.

أول الديانة به معرفته ، وكمال معرفته توحيده ، وكمال توحيده نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة الموصوف أنه غير الصفة ، وشهادتهما جميعا بالتثنية.

الممتنع من الأزل ، فمن وصف الله فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال : كيف؟ فقد استوصفه ، ومن قال : فيم؟ فقد ضمنه ، ومن قال : علي م؟ فقد جهله ، ومن قال : أين؟ فقد أخلي منه ، ومن قال : ما هو؟ فقد نعته ، ومن قال : الي م؟ فقد غاياه ، عالم اذ لا معلوم ، وخالق اذ لا مخلوق ، ورب اذ لا مربوب ، وكذلك يوصف ربنا ، وفوق ما يصفه الواصفون» (١).

ولا أعلم وثيقة توحيدية نابضة كهذه الوثيقة في أدلتها وايجازها

__________________

(١) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٣٩ ـ ١٤٠.


وبلاغتها ، الا أن تكون لأميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) وأولاده المعصومين ، فموردهم واحد ، ورافدهم واحد.

وفي مجال التجسيد ، دحض الامام الأقوال بالحركة ، ونزه الباري عزوجل عن الانتقال والتخطي ، لأن ذلك وصف للمتحرك ، والمتحرك لا يكون بمكانين في آن واحد ، والله تعالي فوق الزمان والمكان ، وهو علي سواء في القرب والبعد ، فلا يحد بمكان ، ولا يتحرك بجوارح ، ولا يتحدث بفم. قال الامام (عليه‌السلام) : «لا أقول انه قائم فأزيله عن مكانه ، ولا أحده بمكان يكون فيه ، ولا أحده أن يتحرك في شي‌ء من الأركان والجوارح ، ولا أحده بلفظ شق فم ، ولكن كما قال تعالي : (... كن فيكون) (١) بمشيئته من غير تردد في نفس ، صمدا فردا ، لم يحتج الي شريك يذكر له ملكه ، ولا يفتح له أبواب عمله» (٢).

وفي السياق نفسه نفي الامام نزول الله فيما تزعم بعض المرويات ، ونفي احتياجه للنزول ، فكل شي‌ء محتاج اليه ، وهو ليس بحاجة الي شي‌ء.

قال الامام (عليه‌السلام) :

«ان الله لا ينزل ، ولا يحتاج أن ينزل ، انما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج الي شي‌ء بل يحتاج اليه ، وهو ذو الطول لا اله الا هو العزيز الحكيم» (٣).

ثم دعم الامام هذا الرأي بالدليل العقلي ، فان النزول دليل الحركة ، والمتحرك له من يحركه ، وذلك من المحدثات ، والله تعالي هو الأزلي القديم. قال الامام (عليه‌السلام) :

_________________

(١) سورة ياسين / ٨٢.

(٢) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٢٥.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ١٢٥.


«أما قول الواصفين : انه ينزل تبارك وتعالي ، فانما يقول بذلك من ينسبه الي نقص أو زيادة ، وكل متحرك يحتاج الي من يحركه أو يتحرك به ، فمن ظن بالله الظنون فقد هلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له علي حد تحدونه بنقص ، أو زيادة ، أو تحريك ، أو تحرك ، أو زوال ، أو استنزال ، أو نهوض ، أو قعود ، فان الله جل وعز عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وتوهم المتوهمين» (١).

وكما نفي الامام الحركة وأبطلها ، فقد نفي القول بالجسم والصورة والمثلية.

قال الامام : «سبحان من ليس كمثله شي‌ء ، لا جسم ولا صورة» (٢).

وعرض علي الامام قول أهل التجسيم فيما نصه :

«ان الله جسم ليس كمثله شي‌ء ، عالم ، سميع ، بصير ، قادر ، متكلم ، ناطق ، والكلام والقدرة والعمل تجري مجري واحدا ، ليس شي‌ء منها مخلوقا».

فرد الامام هذه المزاعم الفجة ، وحمل علي قائلها ، بقوله : «قاتله الله ، أما علم أن الجسم محدود ، والكلام غير المتكلم ، معاذ الله!! وأبرأ الي الله من هذا القول. لا جسم ، ولا صورة ، ولا تحديد ، وكل شي‌ء سواه مخلوق. انما تكون الأشياء بارادته ومشيئته من غير كلام ، ولا تردد نفس ، ولا نطق لسان» (٣).

ان هذا المنطق الفياض بروائعه الكلامية ينطلق من معرفة خارقة بحقائق الأشياء ، ومن نفس أثيرة غمرها الايمان ، فنظرت في صفات الباري بعين البصيرة ، وكانت الأدلة البرهانية تتقاطر معها كالسيل اذا انحدر ، لذلك كان

__________________

(١) الكليني / الكافي ١ / ١٢٥.

(٢) المصدر نفسه ١ / ١٠٤.

(٣) المصدر نفسه ١ / ١٠٦.


المتكلمون ينتظمون في موقع الافادة والاستزادة من الامام ، لا في موضع الجدل والمناظرة ، فهم بازاء أحد عباقرة الدنيا في استقراء المفاهيم وابراز المصاديق ، وانارة السبيل بين أيدي الباحثين الالهيين.

لقد سئل الامام عن ارادة الله تعالي ، فأجاب بديهة :

«الارادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل. وأما من الله فارادته احداثه لا غير ، لأنه لا يروي ، ولا يهم ، ولا يفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي صفات الخلق ، فارادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له : (... كن فيكون) (١) بلا لفظ ، ولا نطق ، ولا لسان ، ولا همة ، ولا تفكر ، ولا كيف لذلك ، كما أنه لا كيف له» (٢).

أرأيت كيف أفرغت البلاغة جوهرها في هذا النص الفريد ، فميز فيه بين ارادة الخالق والمخلوق ، بأبلغ لفظ ، وأوجز بيان ، وأوضح أسلوب. فارادة الانسان قرار داخلي محدث فيما يبدو له من الأفعال بعد التأمل والتفكير ، وارادة الله تعالي احداثه للشي‌ء ليس غير ، وهذا الاحداث يتم بأمر الكينونة المطلقة منه ، دون لفظ وذبذبة لسان ، ولا نطق ولا هم ولا تفكير.

والطريف في هذا الملحظ أن الامام يتحدث عن ارادة الله في شقيها التكويني والتشريعي ، بما لم يسبق اليه من قبل فلاسفة عصره والمتكلمين. يقول الامام (عليه‌السلام) : «ان الله ارادتين ومشيئتين : ارادة حتم ، وارادة عزم ، ينهي وهو يشاء ، ويأمر وهو يشاء ، أو رأيت أنه نهي آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك؟ ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالي ، وأمر ابراهيم بذبح اسحاق (ولده) ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالي» (٣).

__________________

(١) سورة ياسين / ٨٢.

(٢) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٢٧.

(٣) الكليني / أصول الكافي ١ / ١٥١.


وقد عقب الأستاذ باقر شريف القرشي علي هذا بقوله : «وبيان مراده (عليه‌السلام) : أن الارادة تنقسم الي الارادة التكوينية الحقيقية ، والي الارادة التشريعية الاعتبارية ، فارادة الانسان التي تتعلق بفعل نفسه ارادة تكوينية تؤثر في أعضائه الي ايجاد المطاوعة الا لمانع ، وأما الارادة التي تتعلق بفعل الغير كما اذا أمر بشي‌ء أو نهي عنه ، فان هذه الارادة ليست تكوينية بل هي تشريعية لأنها لا تؤثر ايجاد الفعل أو تركه من الغير ، بل تتوقف علي الارادة التكوينية له.

واما ارادة الله التكوينية فهي التي تتعلق بالشي‌ء ، ولابد من ايجاده ، ويستحيل فيها التخلف.

وأما ارادته التشريعية فهي التي تتعلق بالفعل من حيث أنه حسن وصالح. وأما نهي الله لآدم عن الأكل ... وأمره لابراهيم بالذبح ... فان النهي والأمر فيهما تشريعيان ، كما أن المشيئة هي المشيئة التكوينية.

والأخبار الواردة عن أئمة الهدي (عليهم‌السلام) بأن الذي جعل قربانا للبيت الحرام هو اسماعيل دون اسحاق» (١).

وها أنت تري أن هذا المناخ العقلي المتطور لدي الامام كان زاخرا بعبارات تنبض بالجمال الفني لغة ، وتصقل بصفاء الأسلوب أداء ، مما حول المعركة الكلامية المتنافرة الي مادة تفاهم ونشاط عقلي يبتعد بأفكاره عن الانكفاء وراء التهم ، ويتحاشي الهجوم المرير. علي أن هذا المناخ الذي أوجده الامام كان يتردد في أفق ملتهب لا معقول ، الا أن الامام قد عدل من مساره وقاده الي شواطي‌ء الأمن.

ولم يكن الامام الا داعية الي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، عليه ابداء الحقائق مجردة ، ووضع الأعلام لائحة ، فمن أخذ

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ١٥٣.


بها فقد أخذ بالسهم الأرشد ، ومن أبي ذلك عليه فهو وشأنه.

فقد دحض الامام مزاعم أهل الجبر باستدلال بديهي أن الله تعالي بأمره ونهيه قد جعل السبيل ممهدا للأخذ بما أمر ، وجعله كذلك في ترك ما نهي عنه ، ولم يجبر أحدا علي عمل ، قال (عليه‌السلام) : «ان الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون ، فأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به شي‌ء فقد جعل لهم السبيل الي الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شي‌ء فقد جعل لهم السبيل الي تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين الا باذنه ، وما جبر الله أحدا من خلقه علي معصيته ، بل اختبرهم بالبلوي ، وكما قال :

(... ليبلوكم أيكم أحسن عملا ...) (١) (٢).

ومن هذا القبيل ما روي عن الامام الرضا (عليه‌السلام) أنه قال : سأل رجل أبي : هل منع الله عما أمر به؟ وهل نهي عما أراد؟ وهل أعان علي ما لم يرد؟

فقال (عليه‌السلام) : أما قولك هل منع عما أمر به ، فلا يجوز ذلك عليه ، ولو جاز ذلك لكان قد منع ابليس عن السجود لآدم ، ولو منعه لقدره ولم يلعنه.

وأما قولك هل نهي عما أراد؟ فلا يجوز ، ولو جاز ذلك لكان حيث نهي آدم عن أكل الشجرة أراد أكلها ... والله تعالي لا يجوز عليه أن يأمر بشي‌ء ويريد غيره.

وأما قولك : هل أعان علي ما لم يرد؟ فلا يجوز ذلك عليه ، وتعالي الله عن أن يعين علي قتل الأنبياء وتكفيرهم ، وقتل الحسين بن علي والفضلاء من ولده ، وكيف يعين علي ما لم يرد؟ وقد أعد جهنم لمخالفيه ، ولعنهم علي تكذيبهم لطاعته وارتكابهم لمخالفته ، ولو جاز أن يعين علي ما لم يرد

__________________

(١) سورة الملك / ٢.

(٢) الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٠.


لكان أعان فرعون علي كفره وادعائه أنه رب العالمين ، أفتري أنه أراد من فرعون أن يدعي الربوبية ...» (١)

وهذا أبوحنيفة ، النعمان بن ثابت ، يسأل الامام وهو صبي.

قال له : «يا ابن رسول الله؛ ما تقول في أفعال العباد؛ ممن هي؟

قال الامام : يا نعمان ، قد سألت فاسمع ، واذا سمعت فعه ، واذا وعيت فاعمل.

ان أفعال العباد لا تخلو من ثلاث خصال :

اما من الله علي انفراده ، أو من الله والعبد شركة ، أو من العبد بانفراده. فان كانت من الله علي انفراده ، فما باله سبحانه يعذب عبده علي ما لم يفعله مع عدله ورحمته وحكمته؟

وان كانت من الله والعبد شركة ، فما بال الشريك القوي يعذب شريكه علي ما قد شركه فيه ، وأعانه عليه؟

ثم قال الامام : استحال الوجهان يا نعمان؟ فقال : نعم.

قال الامام : فلم يبق الا أن يكون من العبد علي انفراده ...» (٢).

وهذا تأكيد علي أصل العدل من جهة ، وهو نفي للجبر والتفويض من جهة أخري.

وقد كرر أبوحنيفة نفسه هذا السؤال للامام بصيغة أخري تحوم حول الغرض ذاته ، الا أنه خصص السؤال بصدور المعصية.

فأجابه الامام الجواب نفسه تقريبا بطرح جديد.

قال أبوحنيفة للامام : «جعلت فداك ممن المعصية؟ ...

قال الامام : ان المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه ، أو منهما

__________________

(١) هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٢٩.

(٢) المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٧٥ وانظر مصدره.


جميعا ، فان كانت من الله تعالي فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ، ويأخذه بما لم يفعله. وان كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولي بانصاف عبده الضعيف. وان كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، واليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت له الجنة والنار.

قال أبوحنيفة : فقلت : (ذرية بعضها من بعض) (١) (٢).

ومع أن أباحنيفة من القائلين بالجبر ، وممن قيدوا حرية الارادة ، فانه قد سجل اعجابه بما أجاب به الامام ، سيما والرواية تقول بأن الامام كان آنذاك صغير السن.

وكان الامام لا يبخل علي أحد بالافادة منه في النظر العقلي ، لا سيما في أصول الدين وفروعه ، والظاهرة الماثلة للعيان أن جرت بينه وبين هارون الرشيد عدة مباحثات ومناظرات واحتجاجات ، يأتي بعضها في محلها ، ولكن الملفت للنظر حقا أن يطب اليه الرشيد أن يكتب له كلاما موجزا له أصول وفروع ، يفهم تفسيره ... فكتب الامام :

«بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمور الدنيا أمران : أمر لا اختلاف فيه ، وهو اجماع الأمة علي الضرورة التي يضطرون اليها ، والأخبار المجمع عليها ، المعروض عليها شبهة ، والمستنبط منها كل حادثة ، وأمر يحتمل الشك والانكار ، وسبيل استنصاح أهل الحجة ، فما ثبت لمنتحليه من كتاب مستجمع علي تأويله ، أو سنة عن النبي (صلي الله عليه وآله) لا اختلاف فيها ، أو قياس تعرف العقول عدله ، ضاق علي من استوضح تلك الحجة ردها ، ووجب عليه قبولها ، والاقرار والديانة بها ، وما لم يثبت لمنتحليه به حجة من كتاب مستجمع علي تأويله ، أو سنة عن النبي (صلي الله عليه وآله) لا اختلاف فيها ، أو قياس

__________________

(١) سورة آل‌عمران / ٣٤.

(٢) ظ : السيد المرتضي / أمالي المرتضي : ١ / ١٥١ ، ابن شهر آشوب / المناقب : ٣ / ٤٢٩ ، المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٠٩.


تعرف العقول عدله ، وسع خاص الأمة وعامها الشك فيه والانكار له كذلك ، هذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه الي ارش الخدش وما دونه ، فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين ، فما ثبت لك برهانه اصطفيته ، وما غمض عنك ضوؤه نفيته.

ولا قوة الا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل» (١).

وهذا الانفتاح علي المناخ العقلي لدي الامام لم يكن مقتصرا علي المسلمين وحدهم ، بل تجاوزه الي الملل والنحل الأخري ... فقد روي هشام بن الحكم أن الامام موسي بن جعفر قال لأبرهة النصراني : كيف علمك بكتابك؟ قال : أنا عالم به وبتأويله.

قال : فابتدأ الامام (عليه‌السلام) يقرأ الانجيل.

فقال أبرهة : والمسيح لقد كان يقرأها هكذا؛ وما قرأ هكذا الا المسيح ، وأنا كنت أطلبه منذ خمسين سنة. فأسلم علي يديه (٢).

واجتمع الامام موسي بن جعفر براهب ، وجرت بينهما المحاورة الآتية : قال الراهب للامام : يا هذا أنت غريب؟

قال الامام : نعم.

قال الراهب : منا أو علينا؟

قال الامام : لست منكم.

قال : أنت من الأمة المرحومة؟

قال الامام : نعم.

قال : أفمن علمائهم أنت أم جهالهم؟

قال الامام : لست من جهالهم.

__________________

(١) الشيخ المفيد / الاختصاص / ٥٨.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٦.


قال : كيف طوبي أصلها في دار عيسي وعندكم في دار محمد ، وأغصانها في كل دار؟

قال الامام : الشمس قد وصل ضوؤها الي كل مكان وكل موضع وهي في السماء.

قال الراهب : وفي الجنة لا ينفد طعامها وان أكلوا منه ، ولا ينقص منه شي‌ء؟

قال الامام : السراج يقتبس منه ولا ينقص منه شي‌ء.

قال الراهب : وفي الجنة ظل ممدود؟

فقال الامام : الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلها؛ ظل ممدود.

وقوله : (ألم تر الي ربك كيف مد الظل ...) (١).

قال الراهب : ما يؤكل ويشرب في الجنة لا يكون بولا ولا غائطا؟

قال الامام : الجنين في بطنه أمه ... قال الراهب : أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر؟

قال الامام : اذا احتاج الانسان الي شي‌ء عرفت أعضاؤه ذلك ، ويفعلون بما أرادوا من غير أمر.

قال الراهب : مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة؟

قال الامام : مفتاح الجنة لسان العبد : لا اله الا الله. قال صدقت ، وأسلم والجماعة معه (٢).

ولا تحسبن المناخ العقلي لدي الامام كان مقتصرا علي المناظرات والمحاورات ، وانما هو خصيصة رسالية سيرها الامام ما وجد الي ذلك سبيلا ، ومهمة قيادية وجه بها الأجيال نحو المعرفة الالهية والكمال النفسي.

__________________

(١) سورة الفرقان / ٤٥.

(٢) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٢٧.



الفصل الرابع

الامام وطواغيت عصره

١ ـ المبادئ السياسية المتقابلة.

٢ ـ في استخلاف المنصور.

٣ ـ في عهد المهدي العباسي.

٤ ـ في أيام موسى الهادي.

٥ ـ في مملكة هارون الرشيد.



المبادي‌ء السياسية المتقابلة

وكانت السلطات القائمة في عصر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تنطلق سياسيا من واقع أرستقراطي قائم علي أساس الأثرة والاستعلاء ، بينما كانت سياسة الامام وهي تنطلق من واقع اسلامي متوازن ، معنيا للعدل الاجتماعي المفقود ، وألقا من النصح الكريم في بعث القدرات الانسانية ، ودليلا من القيم التي تشجب عبادة الدولة والأصنام البشرية ، مؤكدة علي المبادي‌ء التي تعتبر الانسان مخلوقا رفيعا له كرامته المضمونة في اطار تعليمات الدولة الاسلامية التي تستنكر كون الفرد عبدا للدولة.

ومن هنا كانت الفروق المميزة بين واقعين متناقضين ، واقع الاستبداد المطلق المتمثل بسلاطين الجور ، وواقع الكرامة الانسانية المتمثلة بأفكار الامام.

وكان استنطاق الوثائق التأريخية المحايدة ، واستحضار النصوص الطريفة لحياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الرصد والتوجيه والتأثير ، قد أحدثت في الأفق العام صوتا مدويا حاول البحث القاء المزيد من الضوء علي معطياته ، وقد تأكد لنا من أبعاده وجوانبه استيعاب الامام المشروع


الطموح البشري في العدل والمساواة والحرية الاجتماعية ، مما أوجد حالة كبري في الاستنفار اليقظ من ركود الماضي الي الانبعاث الجديد من التحرر والانعتاق من تجاوزات السياسة الجافة التي انتهجتها خلائق السوء ودعاة التخريب الجماعي ، فكان الانقلاب الجذري في فكر الانسان المسلم الواعي وحياته الحقيقية منطلقا ـ في ضوء توجيه الامام ـ لمعالجته الوضع الشاذ في أنماطه المأساوية ، اذ انفتح العقل الانساني علي معايير جديدة في الأحكام والأعراف والتقييم الموضوعي تختلف علي تلك الأعراف الشائعة وراء حجز الأفكار ووأد المنطلق المنطقي للانسان ، مما جعل النظام العباسي يعيش في عزله قاتلة بين أفياء القصور وأحضان الجواري والمولدات ، وهو يبتعد عن هموم الشعب ، والشعب يبتعد عن همومه ، فهما مفترقان لا يلتقيان ، وان فرضت السيطرة بالقوة والاكراه نوعا من الطاعة ، ولكن هذا الفرض قد يتعكر صفوه بالانتفاضات المسلحة ـ كما ستري ـ فلم يكتب للدولة العباسية الاستقرار السياسي الا في ظل مسرحيات مفضوحة الغايات حاولها النظام للحل المؤقت ، كالتجائه الي نصب الامام الثامن من أئمة أهل البيت؛ الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) في مركز ولاية العهد للمأمون ريثما تهدأ العاصفة.

ولقد أصيب المجتمع الاسلامي بالشلل التام والانكماش علي الذات جراء ما يعانيه من مخلفات هذا الوضع الغريب حتي أسقط في يده ، ولكن التجربة الرافضة لظواهر التمزق الداخلي ، والتي نهض بها الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بصلابة وأناة ، تعطي الجماعة الاسلامية زخما متحركا في مجابهة المناخ المريض الملوث ، وتمد الأمة قوة وفتوة للانطلاق الغاضب علي العنف والتسلط.

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) نموذجا لا مثيل له في اشراق الضمير


وتوهج الذات ، فحقق مبدأ «الغيرية» الذي يعيش فيه القائد الفذ لغيره من الناس لا لنفسه ، وتلك هي التضحية التي ندبت لها شريعة السماء.

لقد كان بامكان الامام أن يغض طرفا عن تجاوزات الحكم العباسي فحسب ، لا أن يجاربه أو يؤيده ، فالحاكم لا يطمح بذلك ، ولو تجاوز الامام ما رسمه لنفسه لعاش في بحبوحة من النعيم ، بين القصور الفارهة والحياة الرغيدة ، ولكنه لم يخلق لهذا قط ، بل انتصب شاخصا ماثلا للمبادي‌ء الرسالية التي ترفض كل صيغ المحاباة والاستئثار بحقوق الفرد والأمة ، فكانت المجابهة للاضطهاد والاستبداد تشكل نظرة مستقبلية لارساء مرجعية أهل البيت في اثراء الضمير الانساني بالموقف الصلب ، والمبدأ الثابت ، والحياة الحرة الكريمة ، دونما اراقة دماء بريئة ، أو اثارة معارك عقيمة ، فليكن والحالة هذه هو الضحية لهذا التوجه الناهض ، فما خلق الامام ليريح أو يستريح ، بل ليناضل ما استطاع الي ذلك سبيلا ، وكان تكليفه الشرعي هو الذي يملي عليه طبيعة العمل والتعبير عن الموقف بطرقه الخاصة التي تتفادي الصراع المرير بين الجمهور الأعزل المضطهد ، وبين القوي الفاعلة وهي تتسلح بالجبروت والجيش المدرب ، وبذلك استطاع الامام تحقيق هدفين مهمين في سهم واحد :

الأول : مجابهة التعالي وشريعة الغاب؛ بالقول الصارم ، أو النضال السلبي الهادر ، أو الكلمة النافذة الي الأعماق ، وهي تزلزل عروش الطغاة وكبرياء الجبابرة.

الثاني : الابقاء بحدود كبيرة علي البقية المؤمنة ، دون التفريط بها في خنادق القتال وميادين الحروب المدمرة. فقد رأي الامام ـ علي قلة أنصاره ـ أن القتال لا يحقق له نصرا فعليا ولا مستقبليا ، فعليه أن يسلك بأتباعه بحلم ورؤية ، ويحفزهم باعداد القوة الي الظرف المناسب.


وكان عصر الامام قد أتاح له الالتقاء البغيض بطواغيت عصره من بني العباس ، فكانت مبادؤه متقاطعة مع كل من : أبي‌جعفر المنصور ، والمهدي العباسي ، وموسي الهادي ، وهارون الرشيد ، وهم يمثلون الدولة العباسية في قوتها وعنفوانها.

وسنلاحظ عن قرب مدي الاستهانة بالقيم الانسانية والأخلاقية لدي هؤلاء ، والامام موسي بن جعفر كالجبل الأشم رسوخا وثباتا وقيما.


في استخلاف المنصور

لم يكن المنصور حازما كما صوره مدونو التأريخ ، ولم يكن داهية كما يصفه رواة الأحداث ، بل كان من جبابرة الأرض الذين سفكوا الدماء ، وانتهكوا الحرمات. ولم يكن ليتعامل بمنظور ديني علي الاطلاق ، وانما هو الملك الدنيوي العقيم ، فهو لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم والموبقات ازاء تثبيت أركان مملكته ، ولا أدل علي ذلك ما اقترفه من قتل الحسنيين تحت كل حجر ومدر ، ومن تتبع آثار المعارضين ابادة وسجونا وطوامير ، حتي طفح الاناء بما فيه شدة وقسوة وتنكيلا.

ومع أن التأريخ الرسمي قد منح الطغاة هالة من التعظيم وشيئا من الاكبار ، الا أن شذرات من تقريراته قد فضحت ذلك الستار الشفاف الذي أحيط بتلك الأبراج العاجية التي استقل في ظلالها دعاة الجور وقتلة الأبرياء. لقد أنزل العباسيون بقيادة أبي‌جعفر المنصور أفدح العقوبات بأبناء عمومتهم من العلويين ، لم يمنعهم عن ذلك قرابة أو لحمة نسب ، ولم يردعهم دين أو ورع ، وانما هو الاستئثار الشامل بكل شي‌ء ، والأحكام العرفية الصارمة لأدني مخالفة ، ولم تكن جرائم المنصور نفسه بريئة من


القسوة الضارية التي أنست جرائم الجاهلية في عنفها وشدتها ، يضاف اليها الغدر بأقرب الناس ، وأنصار النظام ، وقادة الحركة العباسية أنفسهم ، حتي قال الأستاذ السيد أمير علي الهندي :

«كان المنصور خداعا لا يتردد البتة في سفك الدماء ، وتعزي قسوته الي حقده البالغ حد الافراط ... سادرا في بطشه ، ومستهترا في فتكه ، وتعتبر معاملته لأولاد علي (عليه‌السلام) صفحة من أسوأ صفحات التأريخ العباسي» (١).

ولم يكن أمر قسوته بمعزل عن تسليط الضوء علي برنامجه الدموي في استئصال شأفة المعارضين السياسيين من قبل التأريخ ، بل صرح بأكثر من مصدر ومورد بآثار ذلك النهج الارهابي المفجع في صوره المرعبة.

قال الطبري (ت ٣١٠ ه) : ان المنصور : «أمر بأسطوانة مبنية ففرغت ، ثم أدخل فيها محمد بن ابراهيم بن الحسن ، فبني عليه وهو حي» (٢).

بل أنه عمد الي جملة الأسري من الحسنيين فكبلهم بالقيود والأغلال حتي ماتوا في السجون (٣).

وقيل : انهم وجدوا مسمرين في الحيطان (٤).

قال السيوطي بأنه : «قتل خلقا كثيرا حتي استقام ملكه» (٥).

وهو الذي أمر بضرب أبي‌حنيفة النعمان بن ثابت ، ثم سجنه فمات بعد أيام (٦).

بل روي السيوطي : أنه قتل أباحنيفة بالسم (٧).

__________________

(١) أمير علي الهندي / مختصر تاريخ العرب / ١٨٤.

(٢) الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٧ / ٥٤٦.

(٣) المصدر نفسه ٧ / ٥٤٠.

(٤) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٠٦.

(٥) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٧٢.

(٦) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ١٤.

(٧) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٧٢.


وهذه أمثلة شاردة علي فظاظة أفعاله وسوء معاملته ، مع شرائح من الناس والأبرياء منهم بخاصة ، ولا أدل علي ذلك من قتله الامام الصادق (عليه‌السلام) فقضي مسموما بأمره.

وقد عرضنا لشي‌ء من سيرته في البطش الدموي في كتابنا : «الامام جعفر الصادق (عليه‌السلام) زعيم أهل البيت» ونضيف هنا أنه كان ممن يتلاعب بشريعة سيد المرسلين (صلي الله عليه وآله) ، ويخالف أحكامها بأحكام ما أنزل الله بها سلطانا.

«فقد دخل عليه ابن هرمة الشاعر المشهور بشرب الحمر ، فقال له المنصور : ما حاجتك؟ قال ابن هرمة : تكتب الي عاملك بالمدينة أن لا يحدني اذا وجدني سكران!! فقال :

لا أعطل حدا من حدود الله. قال : تحتال لي!!

فكتب المنصور الي عامله : من أتاك بابن هرمة سكرانا فاجلده مائة ، واجلد ابن‌هرمة ثمانين.

فكان من يراه سكران يقول :

من يشتري مائة بثمانين ، ثم يتركه ويمضي» (١).

وهكذا يجد المنصور المخرج لاباحة شرب الخمر وتعطيل الحدود ، علما بأنه كان يتناول الخمرة ، ولكنه لا يظهر لندمائه بشرب ولا غناء (٢) وكان معروفا بالفتك ، ولقد غدر بأب مسلم الخراساني قائد الدعوة العباسية ، وبأبي‌سلمة الخلال وزير آل محمد كما وصفوه ، وبعمه عبدالله بن علي ، وسواهم من أعيان رجاله.

وكان بخيلا يضرب المثل بشحه وبخله ، ويجد ذلك مكرمة وحسن تدبير ، ويحرص علي خزائنه جمعا واحتكارا ، والشعب المسلم يتضور

__________________

(١) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٧٨.

(٢) المصدر نفسه / ١٧٩.


جوعا وبؤسا ، ويعلل ذلك بقوله : «من قل ماله قل رجاله ، ومن قل رجاله قوي عليه عدوه ، ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه ، ومن اتضع ملكه استبيح حماه» (١).

وهكذا تري حاكما غادرا بخيلا فاتكا يتقمص الخلافة الاسلامية ، ويتبوأ مقعد ادارة المسلمين بهذه الصفات المهزوزة ، وكان حريا بالتأريخ أن يكشف سود صحائفه ، ولكن التأريخ يجري في ميدان الحكم سواء رضي الناس أم سخطوا.

وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد قضي أكثر من عشرين عاما في خلافة المنصور التي امتدت بين عام ١٣٦ ه حتي عام ١٥٨ ه ، وهي فترة ليست بالقصيرة ، اذ أفني زهرة شبابه في حياة هذا الحاكم ، وهو يسفك الدماء بغير الحق ، ويستبيح الذمام ابتداء من القضاء علي الحسنيين وانتهاء بسم الامام الصادق (عليه‌السلام). وما رافق ذلك من المظالم الهائلة والارهاب الجماعي ، مما ذهب ضحيته آلاف المسلمين الرساليين ، مضافا الي القضاء علي شباب الهاشميين وشيوخهم قتلا وتشريدا واعتقالا. كما حدث بذلك التأريخ (٢).

وكان الاضطهاد السياسي يتراوح في تلك الحقبة بين قطع الأعناق وقطع الأرزاق ومصادرة الحرية ، فكان علي الناس وهي ترافق هذه الانتهاكات أن تحيا شاهد الخوف والهلع والفقر.

والامام ينظر الي هذا كله ، ولا يستطيع تغيير ذلك جذريا ، وان استطاع أن يفضحه علي رؤوس الأشهاد سلبا أو ايجابا ، غاب عنه الأولياء الا صفوة تعد بأطراف الأصابع ، ادخرهم لتبليغ الرسالة ، واستتر عنه الزعماء فقد

__________________

(١) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٢١.

(٢) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٣٥٠.


ملئت غرائرهم بالأموال والرشاوي ، وبقي في ضعفاء من الناس لا حول لهم ولا طول ، والأمر يتنقل بالفوضي من سيي‌ء الي أسوأ ، والآفاق داكنة بين سحاب وضباب ، والحياة مضطربة بين السيف والحيف ، وقلق المسلمون علي الامام حينما كتب المنصور الي واليه علي المدينة عند وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) :

«ان كان الامام قد أوصي الي رجل بعينه ، فقدمه واضرب عنقه». فكتب الوالي الي المنصور أن الامام الصادق قد أوصي الي خمسة : أبي‌جعفر المنصور نفسه ، ومحمد بن سليمان والي المدينة ، وولده عبدالله الأفطح ، وولده موسي ، وزوجته حميدة.

فقال المنصور : ما الي قتل هؤلاء من سبيل (١).

وكانت جرائم المنصور تتجاوز الحدود في الانتقام والتشفي ، وأكتفي بحديث «الخزانة» التي احتجزها لنفسه ، ولم يطلع عليها أحدا ، وهي محاطة بالسرية والكتمان ، حتي ظهر أمرها بعد وفاته بما تحدث عنه محمد بن جرير الطبري بقوله :

«لما عزم المنصور علي الحج دعا (ريطة بنت أبي‌العباس السفاح) امرأة المهدي ، وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي‌جعفر ، فأوصاها بما أراد ، وعهد اليها ، ودفع اليها مفاتيح الخزائن ، وتقدم اليها وأحلفها ، ووكد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن ، ولا تطلع عليها أحدا الا المهدي ، ولا هي الا أن يصح عندها موته ، فاذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما أحد حتي يفتحا الخزانة ، فلما قدم المهدي من الري الي مدينة السلام دفعت اليه المفاتيح وأخبرته ألا تفتحه ، ولا يطلع عليه أحد حتي يصح عندها موته ، فلما انتهي الي المهدي موت المنصور ، وولي الخلافة

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٧ / ٣.


فتح الباب ومعه ريطة ، فاذا أزج (١) كبير فيه جماعة من قتلي الطالبيين ، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم ، واذا فيهم أطفال ، ورجال شباب ، ومشايخ عدة كثيرة ، فلما رأي المهدي ذلك ارتاع لما رأي ، وأمر فحفرت لهم حفيرة ، فدفنوا فيها ، وعمل فوقها دكانا» (٢).

وهكذا نجد شأن الطغاة الكبار في الانتقام اللاانساني بأقرب الناس صلة ونسبا ، ولا غرابة في ذلك ووصيته لولده المهدي تقول : «اني تركت بعض المسيئين من الناس ثلاثة أصناف : فقيرا لا يرجو الا غناك ، وخائفا لا يرجو الا أمنك ، ومسجونا لا يرجو الفرج الا منك» (٣).

ويعقب علي الرواية الأستاذ باقر شريف القرشي بقوله :

«انه لم يترك بعض المسيئين من الناس علي ثلاثة أصناف ، وانما ترك الناس جميعا كذلك ، فقد روعهم بخوفه ، وسلبهم الأمن والدعة ، ونشر الفقر والمجاعة بينهم ، وملأ السجون بالأحرار والمصلحين» (٤).

وكيف تري حياة الامام ، وهو يعايش كل المآسي التي اجترحها المنصور في حقده؟ بلي مات المنصور وعمر الامام ثلاثون عاما أبقت في قلبه ذكريات اللوعة والمرارة والأسي ، فكان بذلك يحيا الألم الكبير في كل ظواهره المروعة.

__________________

(١) الزُجُ المكان الذي يزج فيه المعتقلون أي السجن أو المعقل.

(٢) الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٦ / ٣٢٠.

(٣) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ٣٤٩.

(٤) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٤٣١.


في عهد المهدي العباسي

واستقبل المهدي بن المنصور خلافة أبيه عام ١٥٨ ه بموجة عارمة من اللهو والعبث والمجون ، فقد استولي علي مخزون الثراء الفاحش الذي تركه أبوه نتيجة بخله وتقتيره مما احتجز من مال المسلمين ، فأرخي لنفسه الزمام في التحلل والاستهتار والاسراف ، وولع بالغناء وموائد الفجور ، فأصاب منها ما شاء ، وأباح للمغنيين ما شاؤوا من الحرية والرخاء ، وأصبح شعر بشار في الغزل الاباحي ينشد جهارا ، وبمجونه ينتشر سرا وخفاء ، حتي عيب علي المهدي ذلك ، فضيق علي بشار ، ثم أطلق له العنان.

وقد فصل القول بذلك الدكتور أحمد أمين من مصادره (١).

وكان قد بلغ المهدي حسن صوت ابراهيم الموصلي وجودة غنائه ، فقربه اليه ، وأعلي من شأنه (٢).

وكان المهدي مولعا بشرب الخمر ، ومعروفا به ، حتي أثار ذلك وزيره يعقوب بن داود فنهاه عن ذلك فلم ينته ، وقال له : «أبعد الصلاة في المسجد

__________________

(١) ظ : أحمد أمين / ضحي الاسلام ١ / ١١٢ ـ ١١٤.

(٢) ظ : الأصبهاني / الأغاني ٥ / ٥.


تفعل هذا»؟

فما استمع له ، وشجعه علي الخمرة بعض شعرائه ، فقال :

فدع عنك يعقوب بن داود جانبا

وأقبل علي صهباء طيبة النشر (١).

وكان المهدي أول من فتح باب الخلاعة والمجون في بني العباس ، وأول من استجاب لشهواته ونزواته علنا ، فنشأ جيل من الشباب في ميعة وضياع ، وتجرأ علي الحرمات ذوو الفسق والفجور ، وكانت نقلة نوعية في حياة الترف والسرف أشرفت فيها الدولة علي التدهور ، وصاحب ذلك البذخ الطائل الذي تجلي في مراسم تزويجه لولده هارون الرشيد من زبيدة فيما استضاف به الناس في قصر الخلد علي دجلة ، فكان مجمل ما أنفق علي ذلك من بيت مال المسلمين خمسين ألف ألف درهم ، وألبست زبيدة قميصا كله من الدر الكبار ، وثوبا كله من الذهب (٢).

بل ذهب الشابشتي الي أكثر من هذا ، فقال : «ان المهدي لما زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه ، استعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة وصناديق الجوهر ، والحلي ، والتيجان ، والأكاليل ، وقباب الفضة والذهب ، والطيب ، وأعطاها بدلة هشام (بن عبدالملك) ولم ير في الاسلام مثلها ، ومثل الحب الذي كان فيها ، وكان في ظهرها وصدرها خط من ياقوت أحمر ، وباقيها من الدر الكبار الذي لا يوجد مثله» (٣).

أما الهبات الضخمة التي منحها لأبنائه وقواده وولاته فحدث عن ذلك ولا حرج ، فقد اشتري فصا من ياقوت أحمر بثلاثمائة ألف دينار ، ووهبه لولده الهادي مما أوجد حالة من الذهر والهلع لدي سواد المسلمين الجياع.

__________________

(١) ظ : ابن الطقطقي / الفخري / ١٦٧.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٤٣٩.

(٣) الشابشتي / الديارات / ١٠٠.


وفي هذا المناخ الساخن نشأ ولده ابراهيم فكان شيخ المغنين ، وشبت ابنته علية بنت المهدي ، فكانت زعيمة الغناء النسائي في العصر العباسي ، وتفرعنت زوجته الخيزران فكان لها الباع الأطول في شؤون السياسة وادارة السلطان.

وبذر أموال الدولة علي الشعراء ، فحينما أنشده مروان بن أبي‌حفصة :

هل تطمسون من السماء نجومها

بأكفكم أو تسترون هلالها

أو تدفعون مقالة من ربكم

جبريل بلغها النبي فقالها

شهدت من الأنفال آخر آية

بثرائهم فأردتم ابطالها

 سمع المهدي ذلك ، زحف من مصلاه حتي صار علي البساط ، وهو يقول : كم بيت هي؟ قال : مائة بيت.

فأمر له بمائة ألف درهم ، وقال له :

«انها لأول مرة أعطيها شاعرا في خلافة بني العباس» (١).

بهذا وأمثاله كانت تساس الدولة في عهد المهدي ، وتبذر الأموال بين أتباعه وشهواته ، أضف اليها تشجيعه الوضاعين الذين يخترعون الأخبار والروايات في ثلب العلويين ، وضمهم اليه بما افتروا من الكذب الصراح علي النبي (صلي الله عليه وآله) (٢).

ولم يكن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في منأي عن شرور الحكم وجرائره ، فقد كابد الكثير في عهد المهدي بما تحدث عنه الرواة ، لا لشي‌ء ،

_________________

(١) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ٣ / ١٤٤.

(٢) ظ : المصدر نفسه ٢ / ١٩٣ ، ٦ / ٣٤٦ ، الطبري / تاريخ الأمم والملوك ٦ / ٣٩٧ ، الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٤.


الا العداء السافر لآل بيت النبي (صلي الله عليه وآله) والا الخوف المستطير من مكانة الامام والتفاف المسلمين حول زعامته الدينية ، بما عرف عنه من الورع والتقوي ، وما اشتهر من الأثر العلمي العظيم.

ويبدو أن المهدي قد استدعي الامام عدة مرات ، واستقدمه الي بغداد. يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«وقد نجح ذوو النفوس الخبيثة في سعيهم لتأزيم الموقف بين الامام والسلطان ، فاستدعي الامام الي بغداد ، وحبس هناك باتفاق المؤرخين مدة من الزمن .. وان استدعاء الامام وحبسه في عهد المهدي قد تكرر أكثر من مرة ... وذكر (القدمة الأولي علي المهدي) دليل علي تعدد القدمات وتكرارها ، وان لم نعرف عددها وملابساتها بالتفصيل» (١).

وقد أشار الرواة الي حادثتين في هذا السياق :

فقد كتب المهدي الي عامله علي المدينة بارسال الامام الي بغداد ، فتجهز الامام للسفر ، والتقي أباخالد (الزبالي أو الرماني) وكان منقبضا ، فقال له الامام : مالي أراك منقبضا؟

قال : كيف لا أنقبض ، وأنت سائر الي هذا الطاغية ، ولا آمن عليك. فهدأ الامام من روعه ، وأخبره أن لا ضير عليه في سفره هذا ، ويبدو أن الامام سجن في هذا الاستدعاء ، قال الخطيب : ولما حبس المهدي موسي بن جعفر ، رأي المهدي في النوم علي بن أبي‌طالب ، وهو يقول :

(فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) (٢).

قال الربيع : فأرسل (المهدي) الي ليلا ، فراعني ذلك ، فجئته فاذا هو يقرأ هذه الآية ـ وكان أحسن الناس صوتا ـ وقال علي بموسي بن جعفر ،

__________________

(١) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥٨ وانظر مصادره.

(٢) سورة محمد / ٢٢.


فجئته به ، فعانقه ، وأجلسه الي جنبه ، وقال : يا أباالحسن ، اني رأيت أميرالمؤمنين علي بن أبي‌طالب في النوم يقرأ علي كذا ، فتؤمنني أن لا تخرج علي أو علي أحد من ولدي؟

فقال : الله ، لا فعلت ذاك ، ولا هو من شأني.

قال : صدقت. يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ، ورده الي أهله.

قال الربيع : فأحكمت أمره ليلا ، فما أصبح الا وهو في الطريق خوف العوائق (١) وقد روي هذا الخبر في أكثر من خمسة عشر مصدرا بالتفصيل (٢).

وسار الامام (عليه‌السلام) ، فالتقي أباخالد في «زبالة» أيضا ، وكان السرور ظاهرا عليه ، فقال له الامام : «ان لهم الي عودة لا أتخلص منها» (٣).

وهناك حادثة تروي في المناقب والبحار بالشكل الآتي :

«لما بويع محمد المهدي دعا حميد بن قحطبة نصف الليل ، وقال : ان اخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس ، وحالك عندي موقوف!!

قال : أفديك بالروح والمال والأهل والولد.

فلم يجبه المهدي؛ فقال : أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدين.

فقال : لله درك؛ فعاهده علي ذلك ، وأمره أن يقتل الامام الكاظم (عليه‌السلام) في السحر بغتة. فنام فرأي عليا (عليه‌السلام) ، يشير اليه ، ويقرأ الآية السابقة ... ، فانتبه مذعورا ، ونهي حميدا عما أمره ، وأكرم الكاظم ووصله» (٤).

ولدي المقارنة في ضوء الروايتين نلحظ أن الامام كان سجينا عند الربيع أولا ، وعند حميد بن قحطبة ثانيا ، وعلي هذا فان اعتقال الامام قد حدث مرتين في عهد المهدي بن المنصور ، كما نلحظ أن الامام قد استقدم مرتين

__________________

(١) الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد ٣ / ٣٠ ـ ٣١.

(٢) ظ : محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥٩.

(٣) الشبلنجي / نور الأبصار / ٣٦.

(٤) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤١٧ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٤٠.


عليه من المدينة الي بغداد ، فاذا علمنا مدي حقد المهدي علي العلويين وشدة بطشه بهم ، كان ما استنتجناه مقاربا للواقع الذي حدث. وهكذا كان شأنه مع أبناء علي بن أبي‌طالب سجنا وتشريدا وقتلا ، فقد روي الطبري عن يعقوب بن داود وزير المهدي أن المهدي قال له :

هذا فلان بن فلان من ولد علي ، أحب أن تكفيني مؤونته وتريحني منه ، وتعجل ذلك ... قال : قلت أفعل ، قال : فخذه اليك ... وأهدي له جارية حسناء.

قال يعقوب : وبعثت الي العلوي ، فأدخلته وسألته عن حاله ... واذا هو ألب الناس وأحسنهم ابانة ... قال لي : ويحك؛ يا يعقوب؛ تلقي الله بدمي ، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد؟ قلت : لا والله ، فهل فيك خير؟ قال ان فعلت خيرا شكرت لك.

فقلت له : أي الطرق أحب اليك؟ قال : طريق كذا ، قلت : فمن هناك من تأنس به وتثق بموضعه؟ قال : فلان وفلان.

قلت : فابعث اليهما ، وخذ هذا المال ، وامض معهما.

واذا الجارية (التي أهديت له) قد حفظت علي قولي ، فبعثت به مع خادم لها الي المهدي ... وبعث المهدي من وقته ذاك فشحن تلك الطرق ... فلم يلبثوا أن جاؤوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال.

قال يعقوب : وأصبحت من غد ذلك اليوم ، فاذا رسول المهدي يستحضرني ...

فقال : يا يعقوب ، ما حال الرجل؟

قلت : يا أميرالمؤمنين قد أراحك الله منه.

قال : مات؟ قلت : نعم ، قال : والله؟ ثم قال : قم فضع يدك علي رأسي ،

قال : فوضعت يدي علي رأسه وحلفت له به.


قال : يا غلام؛ اخرج الينا ما في هذا البيت.

قال : ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه. قال : فبقيت متحيرا وسقط في يدي. فقال المهدي : لقد حل لي دمك لو آثرت اراقته ، ولكن احبسوه (١).

وهذا نموذج فرد من نماذج كثيرة تمثل جور المهدي ، وما صاحب أيام حكمه من المظالم طيلة أحد عشر عاما من خلافته السوداء؛ ولقد عاش الامام الكاظم (عليه‌السلام) أحداثها المأساوية واجتراحها الدموي.

وربما انتبه المهدي لنفسه ، فرأي ما أحدثه من ثغرات عريضة في كيان الدولة ، فحاول ائتلاف القلوب بأسلوب من الدجل والتضليل يظهر فيه بصورة المنصف في مروءة مزعومة.

فقد عرض علي الامام موسي بن جعفر فيما يروي ، أن يرد عليه فدكا ، فرفض الامام ذلك ، ولما ألح عليه المهدي ، قال : لا أقبلها الا بحدودها. قال المهدي : وما حدودها؟

قال الامام : الحد الأول عدن. فتغير وجه المهدي.

والحد الثاني : سمرقند. فأربد وجهه.

والحد الثالث : افريقية.

فقال له المهدي : والحد الرابع؟

قال الامام : سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية. فقال له : لم يبق لنا شي‌ء ، فتحول الي مجلسي!!

قال الامام : لقد أعلمتك بأني ان حددتها لم تردها (٢).

والمهدي أراد تطييب بعض الخواطر الناطقة باغتصاب أرض الزهراء ،

__________________

(١) الطبري / تاريخ الأمم والملوك ٨ / ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) هاشم معروف الحسني / سيرة الأئمة الاثني عشر ٢ / ٣٤٠.


والامام أكد الأمر باغتصاب الخلافة والدولة لا الأرض وحدها. ومهما يكن من أمر ، فقد انتهت أيام المهدي بموته في المحرم ١٦٩ ه (١).

__________________

(١) المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٣٣.


في أيام موسي الهادي

وكانت أيام الهادي بن المهدي العباسي من أسوأ ما مر في حياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) علي قصر المدة واخترام الأجل ، اذ تملك عام ١٦٩ ه ، وهلك لليال بقيت من ربيع الأول عام ١٧٠ ه (١) وكان شابا نزقا تولي الخلافة العباسية وعمره خمس وعشرون سنة (٢).

«وكان سادرا في الطيش والغرور ، ومتماديا في الاثم والفجور ، وقد أراح الله منه العباد في بداية ملكه ، فلم تطل أيامه ، ولو امتد به العمر لواجه المسلمون في عهده أعنف المشاكل وأقساها ، فقد كان طاغيا جبارا لا يتحرج من سفك الدماء واراقتها بغير حق ، وقد أسرف في سفك دماء العلويين ، فأنزل بهم العقاب الصارم ، وقد أجمع رأيه علي التنكيل بالامام موسي (عليه‌السلام) ، الا أن الله قصم ظهره قبل أن يقوم بذلك» (٣).

وكان شديد الوطأة علي العلويين ، وقد امتلأ عليهم حقدا نتيجة العقد النفسية المتأصلة لديه ، وقد ورث هذا الحقد لا عن كلالة ، فقد رأيت جده وأباه وأخاه من ذي قبل ، فاذا أضفت الي هذا أنه «قاسي القلب ، شرس

__________________

(١) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٩ ، الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٨ / ٢٠٥.

(٢) ظ : ابن عبد ربه / العقد الفريد ٥ / ١١٦.

(٣) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٤٥٧.


الأخلاق ، صعب المرام» (١). كانت الحصلية المترقبة الدمالاء إثر الدماء تراق فيها الأخلاق والقيم ، وتحصد فيها النفوس البريئة من آل أبي طالب في قسوة من الإجراءت لا مثيل لها ، فهو يتعقبهم في الآفاق ، ويطلب شبابهم وكهولهم في الآقاليم ، فلم يفلت إلا القليل من قبضته ، حتي قال اليعقوبي أنّه : «ألخ في طلب الطالبين ، وأخافهم خوفاً شديداً ... وكتب إلي الآفاق في طلبهم» (٢).

وقد تابعهم تحت كل حجر ومدر بعى «مأساة فخ» الشهيرة التي سنأتي علي ذكرها في موقعها من البحث.

وكانت هذه الثورة التي قادها الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام قد استدفهت النظام العباسي ، وذلك بسببٍ من مظالمه وسوء الإدارة ، واضطهاد أهل البيت عليه السلام ومن يمت إليهم بصلةٍ ما ، وإذال المسلمين ومصادرة الحرية واختلاس الأموال ، وهي من أعنف الثورات في التأريخ الإسلامي ـ مأساة ـ بعد ثورة الطفّ ، فقد استؤصل قادتها ، وأبيد معسكر ها ، وقتل مفجرها في «فخ» علي سته أميال من مكّه المكرمة ، وبقي القتلي ثالثة أيام علي وجه الأرض بلا دفن (٣).

وقد احتُزَّت رؤوسهم ، ، فكانوا رأس ونيفاً (٤).

وقد اكتوي الإمام موسي بن جعفر عليه السلام بلهيب هذه الثورة فتوجّه إليه إصبع الاتّهام جزافأ ، حتي إنّ موسي الهادي قد همّ بقتل الإمام ، ثم أعرض عنه ، لعىم ثبوت تأييده لها (٥).

__________________

(١) المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٤٦.

(٢) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٧.

(٣) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٧ ، المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٤٨.

(٤) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٨ / ١٩٢ ، ٨ / ١٩٧.

(٥) الأبي / نثر الدر ١ / ٣٥٨ / طبعة القاهرة / ١٩٨٠ م.


وذكر ابن حجر أن موسي الهادي حسبه أولاً ، ثم أطلقه» (١).

يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين :

«وعندما نريد البحث والتعمّق في معرفة دوافع الخليفة الهادي إلى حبس الإمام ، أو إيصال الأذى إليه ، أو العزم على قبله ، فقد يرجّح في الظنّ أنّ ذلك مربتط بقضية ثورة الحسين بن علي في سنة ١٦٩ هـ ، كما يرجّح أيضاً أن ، يكون تراجعه عن تنفيذ ما عزم عليه بسبب ما علمه بعد ذلك من جلاوزته ومخبريه من عدم مشاركة الإمام في بلك الثورة ، ورفضه دعوة ابن عمّه للخروج معه» (٢).

ومع هذا فقد عاش الإمام مأساتها بكل أبعادها كما ستري. ولم يكن موسى الهادي رجل دولة ، والا صاحب قيادة ، وقد شغّل نفسه الآثمة والشهوات الموبقة ، فهو رجل خمر وغناء وخدين نديم ومجون ، فقد «كان يتناول المسكر» (٣) بل كان من المتهالكين على شرب الخمر ، فكان أول خليفة عباسي أغري بالخمر (٤) وتبعه على ذلك هارون الرشيد (٥).

وكان الهادي خليعاً ماجناً ، أقبل على اللهو والدعارة ، فبذل المال العظيم على شهواته وطربه ومحافل الغناء حتى قال إسحاق الموصلي : لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب» (٦). وقد غنّاه إبراهيم الموصلي بصوت فأطربه فوهب له ثلاثين ألف دينار (٧).

وهكذا تكون الشقة بين الشعب البائس اليائس وبين حكّايه وسلاطينه

__________________

(١) ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / ١٢٢.

(٢) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٦٠.

(٣) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٨ / ٢٢٢ ، السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٨٦.

(٤) الجهشياري / الوزراء والكتاب / ١٤٤.

(٥) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ٦ / ٤٨٩ ، الأصبهاني / الأغاني ٥ / ٢١٦.

(٦) ظ : الأصبهاني / الأغاني ٥ / ٢١٦.

(٧) المصدر نفسه ٥ / ٢٤١.


العابثين ، الشعب يتطلّع إلى رغيف الخبز ، والسلطان يسرف بإمعان تحقيقاً للذائذ الآثمة.

ويتدزع الإمام موسي بن جعفر عليه السلام ضروب الآسي في أيام هذا الطاغية المشهور ، فيصبر على الأذى ، يكظم غيظه ، حتىإذا توعّده بالقتل جازماً ، وأنهي إليه الخبر ، وعنده جماعة من بني هاشم وأهل بيته ، قال لأهل بيته : ما تشيرون؟

قالوا : نرى أي تتباعد عنه ، وأن تيّب شخصك منه ، فإنّه لا يؤمن شرّه ، فتبسّم الإمام ، وقال مستشهداً :

زعمت سخيهة أن ستغلب ربّها

ولِيُغلَين مغالبُ الغلّابِ

ثم رفع يده إلى السماء ، فقال :

«اللهم كم من عدوٍ شحذ لى ظبةَ مُديِتِه ، وأرهفَ لي شبا حدّهِ ، وداف لي قواتل سمومه ، ولم تنم عين حراسبه ، فلمّا رأيت عفي عن احتمال الفوادح ، وعجزي عن ملمّات الجوايح ، صرفَت ذلك بحولك وقوتك. لا بحولي وقوتي ، فألفيتُه في الحفير الذي احتفره خائباً مما أمّله في دنياه ، متباعداً مما رجاه في آخرته ، فلك الحمد على ذلك قدر اسحقاقك سيدي ، اللّهم فخذه بعزتك ، وافلل حدّه عني بقدرتك ، واجعل له شغلاً فيما يليه ، وعجزاً عمن يناويه.

اللّهم أعدني عليه عليه عدوي حاضرة ، تكون من غيظي شفاءً ، ومن حقي عليه وفاءً ، وصل اللّهم دائي بالإجابة ، وانظم شكايتي بالتغيير ، وعرّفه عمّا قليل ما ووعدت الظالمين ، وعظمني ما وعدت في إجابة المضطرين ، إنك ذو الفضل العظيم زوالمنّ القدم».

(ثم تفرق القوم ، فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الوارد عليه بموت


موسى بن المهدي) (١)

وكان دفاء الإمام مستجاباً وعلي الفور ، حيث ورد البريد يهلاك موسي الهادي ، وفي ذلك يقول بعض من حضر عند موسي بن جعفر من أهل بيته :

وسارية لم تسرِ في الأرضِ تبتغي

محلاً ... ولم يقطع بها البعدَ قطعُ

 سرتْ حيثُ لم تحدَ الركابُ ولم تُنخْ

لوردٍ ... ولم يقصر لها البعد مانعُ

 تمرُّ زراءَ الليل ... والليل ضاربٌ

بجثمانِهِ فيه سميرٌ وهاجعُ

 تفتحُ ابوابُ السماءِ ... ودونَها

إذا قرع الأبوابَ منهنّ قارعُ

 إذا وردتْ لم يردد اللّه وفدَها

على أهلها .. واللّه راءٍ وسامعُ

 وإني لأردو اللّه حتى كأنما

أرى بدمنل الظنّ ما الله صانعُ (٢)

 والأبيات إشارة تفصيلية إلى دعوة الإمام في ردّ كيد الهادي ، وهكذا كان ، فقد انتهت حياة الهادي بدعاء الإمام ، دون الدخول بتفصيلات مؤامرة القضاء على الهادي.

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢١٧.

(٢) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٧٩.


في مملكة هارون الرشيد

ولي هارون الرشيد الملك في ربيع الامام سنة ١٧٠ ه ، ومات لليال خلت من جمادي الآخرة سنة ١٩٣ ه ، وقد امتدت خلافته ثلاثة وعشرين عاما (١).

وقد اتسعت رقعة الدولة الاسلامية في عصره اتساعا عريضا ، فضربت بأطنابها غربا وشرقا وجنوبا وشمالا ، فمن حدود البحر الأبيض المتوسط ومشارف البحر الأحمر حتي افريقيا ، ومن مضايق البسفور وبحر قزوين حتي أزبكستان وبخاري وسمرقند ، ومن شواطي‌ء الخليج ومضارب الهند والسند حتي تخوم الصين. يضاف الي هذا كله الجزيرة العربية من أقصاها الي أدناها ، وهي مساحات واسعة اشتملت علي نصف العالم تقريبا ، حتي أثر عنه مخاطبا السحابة «حيثما تمطرين ففي ملكي ..».

وقد صدق بتعبيره عن سلطانه بأنه ملك ، فهو من أعتي الملوك وان تظاهر برقة القلب ، وهو من أقسي الجبابرة وان بدا بطيبة البري‌ء ، وهو من أترف الحاكمين وان تجلبب برداء الزهد واظهار الورع ، وهو من المخططين البارزين لاقامة السلطة بقوة الحرب ، وحماية الملك بسفك الدماء.

وقد كان القلقشندي مهذب التعبير في رواية خطابه للسحب : «اذهبي

__________________

(١) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٩ ، الطبري ٨ / ٢٣٠.


الي حيث شئت بأنني خراجك» (١).

وقد حكي هذا التعبير ما في قلب الرشيد من الاعتداد بالمال والخراج ، لا بالاسلام ودولته ، فأحتجان الأموال ، وتكدس الأرصدة هو الذي يوفر له حياة البذخ والعبث ، وهو الذي يحقق له موائد الفسق واللهو والطرب ، والسيطرة علي المال من المهمات الأساسية في ملكه ، يستعين به في شراء الضمائر ، والقضاء علي المعارضين ، والترفيه عن ولاته وبطانته وحواشيه وجواريه ، والاغداق علي المغنين والمخنثين والقيان.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

«وجبي له الخراج من جميع الأقاليم الاسلامية ، وصارت عاصمته بغداد عروس الدنيا ، ومستودع أضخم بيت للمال في العالم ... وانتشر فيها الثراء الفاحش والتضخم النقدي عند التجار والموظفين والندماء والمطربين والمجان ، وتناثرت فيها القصور الرائعة التي شيدت علي طراز هندسي جميل مزيج من الذوقين العربي والفارسي ، وصارت بغداد بما فيها من الحدائق الغناء زينة الشرق ، وأعظم عاصمة لأهم امبراطورية شاهدها التأريخ» (٢).

ولا تحسبن هذه الامبراطورية جاءت لتطبيق مبادي‌ء الاسلام أو تحكيم شريعة السماء ، وانما استغلت استغلالا فظيعا للاستعلاء في الأرض ، وافترضت لتلبية رغبات المجون العابث ، فالشعب المسلم علي قارعة الطريق يتشكي البؤس والحرمان وفقد الحياة الكريمة ، وقصور الخلفاء تعج بالقيان والجواري والغلمان ، وأنفقت واردات الدولة في تشيد القصور الفارهة ، وبددت الميزانية العامة في اغراق أتباع النظام بالأعطيات الضخمة ،

__________________

(١) القلقشندي / صبح الأعشي ٣ / ٢٧٠.

(٢) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢١.


واتخام وعاظ السلاطين بالهبات الطائلة ، وكان لسوق المجان والفسوق نصيب مما قرره السلطان ، وكانت الثروات اثرة بين هؤلاء وهؤلاء. وقد قدر الدكتور عبدالجبار الجومرد واردات الدولة ب «مليارين ومائتين وعشرين مليون دينارا ، وتسعمائة وستين ألف دينار» (١).

وهذا القدر العظيم في الميزانية يجعلها أضخم ميزانية في العالم آنذاك بالنسبة للقيمة النقدية المتداولة وقيمة الأسعار ، فقد ذكر الدكتور أحمد أمين الأسعار في الأسواق ، فذهب أن الكبش يباع بدرهم ، والجمل بأربعة دنانير ، والتمر ستون رطلا بدرهم ، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم ، والسمن ثمانية أرطال بدرهم ، وأجرة البناء الأستاذ بخمس حبات ، والحبة ثلث الدرهم ، والدانق سدس الدرهم (٢).

وفي هذا الضوء كان ما أبداه الجهشياري دقيقا حينما اعتبر واردات الدولة عبارة عن : خمسمائة مليون درهم ومائتين وأربعين ألف درهم (٣).

وذلك بالدرهم الفضي المتعارف عليه في ذلك العصر.

فأين تري مصرف هذه الايرادات الضخمة من قبل السلطان؟

انّ هذه الايرادات الكبري لم تكن لتصرف في وجوه البر والاحسان ، ولا لنشر تعاليم الاسلام ، ولا لاعمار البلاد ، ولا لتلبية احتياج البائس (صفحه ١٦٠) الفقير ، ولا في وجوهها المشروعة الا لماما ، وانما كانت تبذر في سبيل الرغبات الخاصة ، والمسلمون بين جائع وعريان ، وشريد وطريد ، والعلماء في فقر وفاقة واذلال ، وقادة الفكر والمعرفة في بؤس وشقاء ، وعامة الناس كالعبيد في ذل واضطهاد ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، الا تلك الطبقة الأرستقراطية من الولاة وأبناء السلاطين وفقهاء البلاط ، فانها في

__________________

(١) عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد / ٢ / ٣٦٢.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٩ وانظر مصدره.

(٣) ظ : الجهشياري / الوزراء والكتاب / ٢٨٨.


نعيم من العيش الرغيد!! وهذا المال الذي هو مال المسلمين زكاة وخراجا ، يتقاسمه المغنون والجواري والغلمان في هبات جزيلة متتابعة ، فقد غني دحمان الأشقر الرشيد فطرب لذلك وقال له : تمن علي ، فتمني علي الرشيد ضيعتين واردهما أربعون ألف دينار فأعطاه اياهما (١).

وأنشده أبوالعتاهية أبياتا ، غناها للرشيد ابراهيم الموصلي ، فأعطي كل واحد منهما مائة ألف درهم ، ومائة ثوب (٢) وغناه يحيي المكي فأطربه ، فقال الرشيد : أعطوه ما في ذلك البيت ، فكان فيه ما قيمته خمسون ألف درهم (٣) وغناه يحيي المكي أيضا بيت من الشعر ، فسكر عليه حتي أمسي ، وأمر له بعشرة آلاف درهم (٤).

وغني اسحاق الموصلي للرشيد بأبيات وصف فيها بستانا بظهر الحيرة قيمته أربعة عشر ألف دينارا ، فأمر له الرشيد بأربعة عشر ألف دينار ، فاشتراها (٥).

وغناه ابراهيم الموصلي صوتا من مختاراته ، فطرب له الرشيد طربا شديدا ، واستعاده عامة ليله ... فأمر له بمائتي ألف درهم (٦).

وغناه ابراهيم الموصلي بعد أن أطلقه من الحبس بهذا البيت :

تضوع مسكا بطن نعمان

اذ مشت به زينب في نسوة خفرات

فأمر له بثلاثين ألف درهم (٧).

__________________

(١) ظ : السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١١٦.

(٢) الأصبهاني / الأغاني ٤ / ٧٤.

(٣) الأصبهاني / الأغاني ٦ / ١٨٧.

(٤) المصدر نفسه ٦ / ١٨٥.

(٥) المصدر نفسه ١٧٥ ـ ٥ / ١٧٤.

(٦) كتاب التاج / ٤١.

(٧) الأصبهاني / الأغاني ٦ / ٢٠٥.


وهذا غيض من فيض سقناه علي سبيل المثال لتبذير أموال المسلمين علي الغناء ومجالسه فحسب ، فما بالك في اعداد تلك المجالس وتهيئة مرافقها ومتطلباتها وما يقتضي لها من الأشربة والأنبذة وآلات الطرب والفرش الوثير والوسائد والستائر ، وما يتبع ذلك من الانفاق لدي اصطفاف الموائد؟؟

أما الجواري وشراؤها ، فقد بلغ حد الاسراف في الأسعار ، والمغالاة في استزادة منها ، وأسوق اليك هذا النموذج في عدد ما في القصر لنوع خاص من الجواري تشرف عليه زوجته أم‌جعفر ، وقد أقبلت في زهاء ألفي جارية من جواريها!!

وسائر جواري القصر ، عليهن غرائب اللباس ، وكان قد استقل بجارية عنها في غاية الجمال والكمال!! فأقبلت جواري أم‌جعفر في قبال جواريه الأخريات ، وهن في لحن واحد :

منفصل عني ...

وما قلبي عنه منفصل

 يا قاطعي اليوم لمن

نويت بعدي أن تصل

فطرب الرشيد ، وقام علي رجليه حتي استقبل أم‌جعفر قائلا : لم أر كاليوم قط.

ثم نادي مسرورا الخادم قائلا : يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما الا نثرته ، فكان مبلغ ما نثره يومئذ : ستة آلاف ألف درهم (١).

واذا لم يكن هذا عبثا بأموال الدولة فكيف يكون العبث؟

ومع هذا كله ، وفوق هذا كله ، فان الرشيد يسمي أميرالمؤمنين!! فيا

__________________

(١) الأصبهاني / الأغاني ١٠ / ١٧٢.


لله وللمسلمين ، فأي أمير هذا الذي يعيش بين خابية وزق ، ويحيا بين قينة ومغنية ، ويحظي بجارية وجارية ، ويشتمل قصره الملكي العامر علي آلاف الجواري من مختلف الجنسيات!!

ولك أن تعجب من بخله علي طبقات الشعب ، ولك أن تعجب من سخائه علي المجان والمخنثين ومرتزقة الشعراء ، فقد كان يجيز بعض الشعراء في قصائدهم عن كل بيت بألف دينار (١) وأعطي لأعرابي من باهلة أنشده بيتين ذكر فيهما ولديه الأمين والمأمون مائة ألف درهم (٢).

وكان أشجع السلمي ثقيلا علي الرشيد ، فأنشده قصيدتين طرب لهما الرشيد ، فقال له :

يا أشجع؛ لقد دخلت الي وأنت أثقل الناس علي قلبي ، وانك لتخرج وأنت أحب الناس الي.

قال أشجع : ما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟

قال الرشيد : الغني؟ فأسأل ما بدا لك.

قال : ألف ألف درهم ، قال الرشيد : ادفعوا له (٣).

هذه الهبات الضخمة لشعراء مغمورين؛ فما بالك في شعراء الطبقة الأولي؟

أما تبذير الرشيد واسرافه في شراء الجواهر والأحجار الكريمة ، والقلائد الثمينة فما لا رأت عين ولا سمعت اذن ، فكان خاتمه بمائة ألف دينار (٤).

وقد اشتري جواهر معدودة بمائتي ألف دينار ، فوهبها لدنانير البرمكية (٥).

__________________

(١) ظ : المسعودي / مروج الذهب ٢ / ٣٨٢.

(٢) ظ : الطبري / تاريخ الأمم والملوك ٣ / ٢٦١.

(٣) ظ : طبقات الشعراء / ٢٥٢.

(٤) ظ : ابن الأثير / الكامل في التاريخ ٦ / ٤٤.

(٥) البيهقي / المحاسن والمساوي / ٥٤٤.


وكان عند الرشيد قضيب زمرد أطول من ذراع ، وعلي رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه نظرا لنفاسته ، وقد قوم الطائر وحده بمائة ألف دينار (١).

وقد شاركته السيدة زبيدة بملحظ الاسراف في الجواهر وسواها ... فأمرت أن يتخذ لوصائفها من الدر المثقوب بالتصليب ، ثم اتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر تلبسها في قصرها ، واتخذت سبحة من يواقيت رمانية كالبندق ، اشترتها بخمسين ألف دينار (٢) واشترت غلاما يضرب علي العود بثلاثمائة ألف درهم (٣) وغناها ابن جامع هي والرشيد بثلاثة أبيات ، فأمرت زبيدة أن يدفع لابن جامع المغني عن كل بيت مائة ألف درهم (٤).

ووهبت زبيدة لمنصور النمري جوهرة لوصفه مدينة السلام ، اغراءا بالرشيد للرجوع اليها ، اذ كان يستطيب المقام بالرقة ، فأرادت عودته لبغداد ، فعمل النمري بيتين استحسنهما الرشيد ، فوهبت له جوهرة ، ثم دست من يشتريها منه بثلاثمائة ألف درهم (٥).

وصنعت لها بساطا من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الأجناس ، وصورة كل طائر من الذهب ، وأعينها من يواقيت وجواهر ، أنفقت عليه نحوا من ألف ألف دينار (٦).

يضاف الي هذا العبث بذخ البرامكة المستطير ، واسرافهم في العطاء للشعراء والزعماء والأتباع ووعاظ السلاطين ، حتي عرف عنهم أنهم من

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٦ وانظر مصدره.

(٢) غي لسترانج / بين الخلفاء والخلفاء / ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) مصطفي جواد / سيدات البلاط العباسي / ٤٨.

(٤) الأصبهاني / الأغاني ٦ / ٧٧.

(٥) طبقات الشعراء / ٢٤٦.

(٦) الأبشيهي / المستطرف في كل فن مستظرف ١ / ٩٨.


الأجواد ، فبذروا واردات الدولة في مآربهم وأغراضهم وشهواتهم وملذاتهم ، وما يكسبهم شهرة وصيتا ، عدا موائدهم العامرة بأنواع الأشربة والأطعمة ، يضاف اليها أندية الخمرة والطرب.

واذا عدنا الي الرشيد رأيناه مولعا بالخمر ، ويدعو خواص جواريه اذا أراد أن يشرب ، وربما تولي السقاية بنفسه (١).

وقد ذكر السيوطي عن الذهبي أن الرشيد كان صاحب أخبار وحكايات في اللهو واللذات المحظورة والغناء (٢).

وللتأريخ والحقيقة المرة ، فان الرشيد لم يكن ذا حراجة في دين ، ولا أثر من تقوي لديه ، وانما هو الرياء المقنع بالدجل السياسي ، فقد أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك ، قال :

«لما أفضت الخلافة الي الرشيد ، وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي. فراودها عن نفسها ، فقالت : لا أصلح لك؛ ان أباك قد طاف بي. فشغف بها ، فأرسل الي أبي‌يوسف فسأله : أعندك في هذا شي‌ء؟

فقال : يا أميرالمؤمنين؛ أو كلما ادعت أمه شيئا ينبغي أن تصدق؛ لا تصدقها فانها ليست بمأمونة».

قال ابن المبارك : «فلم أدر ممن أعجب : من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟

أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أميرالمؤمنين!!

أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها ، قال : اهتك حرمة أبيك ، واقض شهوتك ، وصيره في رقبتي» (٣).

هذه صورة اجمالية عجلي من صور هارون الرشيد في البذخ والاسراف ،

__________________

(١) الأصبهاني / الأغاني ٥ / ١٢٦.

(٢) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٣) السيوطي / تأريخ الخلفاء / ١٩٣.


وسأثبتك صوره في القتل والارهاب ، وصوره في الغدر والفتك ، فما يغني عنه دفاع ابن‌خلدون وعده له من أئمة المسملين ، وما يغني مناصرة الدكتور عبدالجبار الجومرد له ، فنفي عنه شرب الخمر ، ولعب النرد ، وما الي ذلك مما هو مستهتر به (١).

بينما لم نجد عصرا بلغ به العبث والتهتك الذروة كعصر الرشيد ، وقد ساد به اللهو والمجون فغمر البلاد وأفسد العباد ، وعمت المحرمات الشرعية ديار الاسلام وأقاليمه بستار رقيق من الادعاء الديني.

يقول العلامة الدكتور مصطفي جواد (رحمه الله) :

«ولو قدر لهارون الرشيد أن يبقي علي أريكة الخلافة أكثر مما بقي لانحطت الدولة الاسلامية الي مستوي سحيق أقبح الانحطاط» (٢).

ومهما يكن من أمر ، فقد بدأ هارون الرشيد خلافته «باخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين الي مدينة الرسول (صلي الله عليه وآله)».

وكان هذا الاجراء دقيقا في نظرته السياسية ، فحكم الرشيد ببغداد بحاجة الي الاستقرار السياسي ، ولابد أن يصفو الجو من المعارضة ، وأن تخلو الساحة من الرافضين لمظالم الحكم ، وهذا التفكير لم يكن بعيدا عن ذهنية الرشيد الأمنية ، ولابد له من تحقيق ذلك ، فبث الرصد والعيون لتتبع أخبار الطالبيين ، وتعقب تحركهم النضالي ضد النظام ، بما أذكي شرارة البغضاء والضغينة بين الحيين ، حتي استطال الظلم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وهو غير طامح في سلطان ، ولا طامع في عرش ، ولامتهالك علي حكم ، وكل ما يهمه هو احياء السنة واطفاء البدعة.

ومع الاعراض الواضح للامام عن مظاهر الأبهة والملك ، الا أن الرشيد

__________________

(١) ظ : عبدالجبار الجومرد / هارون الرشيد ١ / ٢٦٧.

(٢) مصطفي جواد / سيدات البلاط العباسي / ٤٨.


قد تحين الفرص وافتعل الحجج لاعتقال الامام مرة بعد مرة ، وعرضه علي السجون تارة بعد أخري.

ومما يحز في النفس أن الرشيد قد يستوقف الامام للاستجواب والمساءلة الغليظة الجافة دون مسوغ شرعي أو عرفي ، حتي استقر رأيه علي القضاء عليه.

وربما قيل ان الرشيد بادي‌ء ذي بدء «أكرم الامام وعظمه» (١) ولكن ذلك ان حصل فهو نوع من الدجل السياسي المفضوح ، علي أننا لم نجد شاهدا واحدا يؤكد اكرام الامام واعظامه من قبل الرشيد ، بلي قد تقهره الحقيقة فيعترف بما للامام من فضل وعلم وقيادة.

ومن الوضوح بمكان أن الرشيد كان حاقدا علي الطالبيين بعامة ، وعلي الامام بخاصة ، كما تحدثنا بذلك النصوص المتواترة في أكثر من موقع وموضع حتي لا يدري البحث من أن يبدأ.

كان الامام طيلة أيام الرشيد شديد الحذر ، وكانت الرقابة الصارمة من حوله تقضي بابتعاده عن أوليائه وأصحابه ، حتي أن تلامذته ورواة حديثة حينما يروون احاديثه وأفكاره ، قد يتجنبون التصريح باسمه الشريف ، فيقول أحدهم : حدثني الرجل ، وكتبت الي الرجل ، وأجاب الرجل ، وقد يذكر بكناه فيقال : قال أبوالحسن ، وتحدث أبوابراهيم ، وقد يعبر عنه بما اشتهر من ألقابه عند خاصته ، فيقال : سمعت العبد الصالح ، وقال السيد ، وتحدث (صفحه ١٦٧) العالم ، وروي الكاظم ، وأمثال هذا ، ويدل بوضوح علي مدي الرصد الذي يعاني منه الامام وشيعته ، ولعل ذلك كان بوصية منه (عليه‌السلام) حفظا لأوليائه من الخطر وتجنبا لمواطن التهم باستعمال الرموز الدالة عليه دون التصريح بالاسم الرفيع درءا لمكائد هؤلاء الطغاة.

__________________

(١) ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ١٨٥.


وكان الطالبيون قد استتروا عن الرشيد حذر القتل وغياهب السجون ، وذلك عقب العنف الثوري الذي صارع الحكم ، وكانت رده فعل الرشيد قاسية في اجراءات نفذت فيها الأحكام العرفية بأبشع صورها ، وكنموذج عليها ما رواه عبيدالله البزاز النيسابوري ، قال : «كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة ، فرحلت اليه في بعض الأيام ، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت ... وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر ، فلما دخلت عليه ... أحضرت المائدة ، وذهب عني أني صائم وأني في شهر رمضان ، ثم ذكرت فأمسكت ، فقال لي حميد : ما لك لا تأكل؟ فقلت : أيها الأمير هذا شهر رمضان ولست بمريض ، ولا بي علة توجب الافطار ، ولعل الأمير له عذر في ذلك ... فقال : ما بي علة توجب الافطار ، واني لصحيح البدن ثم دمعت عيناه وبكي!!

فقلت له : ما يبكيك أيها الأمير؟

فقال : «أنفذ الي هارون الرشيد ... أن خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم!! فتناول الخادم السيف وناولنيه ، وجاء بي الي بيت بابه مغلق ففتحه ، فاذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ، ففتح باب بيت منها ، فاذا فيه عشرون عليهم الشعور والذوائب ، شيوخ وكهول وشبان مقيدون. فقال لي : ان أميرالمؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، وكانوا كلهم من العلوية من ولد علي وفاطمة ، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد ، فأضرب عنقه حتي أتيت علي آخرهم ، ثم رمي أجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر. (صفحه ١٦٨) ثم فتح باب بيت آخر ، فاذا فيه عشرون نفسا من العلوية من ولد علي وفاطمة مقيدون. فقال لي : ان أميرالمؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد ، فأضرب عنقه ، ويرمي به في تلك البئر حتي أتيت علي آخرهم. ثم فتح باب البيت الثالث ، فاذا به مثلهم عشرون نفسا


من ولد علي وفاطمة مقيدون عليهم الشعور والذوائب.

فقال لي : ان أميرالمؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضا ، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد فأضرب عنقه ، فيرمي به في تلك البئر ، حتي أتيت علي تسعة عشر نفسا منهم ، وبقي شيخ منهم عليه شعر ، فقال لي : تبا لك يا مشوم!! أي عذر لك يوم القيامة اذا قدمت علي جدنا رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمة؟؟

فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي ، فنظر الي الخادم مغصبا وزبرني ، فأتيت علي ذلك الشيخ أيضا فتقلته ، ورمي به في تلك البئر.

فاذا كان فعلي هذا ، وقد قتلت ستين نفسا من ولد رسول الله (صلي الله عليه وآله) فما ينفعني صومي وصلاتي ، وأنا لا أشك أني مخلد في النار» (١).

ان أمثال هذه المظالم الكبري هي التي استنت للطغاة والجبابرة اللاحقين حتي القرن الحادي والعشرين : أساليب البطش والفتك ومعالم الارهاب الدموي والقتل الجماعي ، فاذا كان من يسمي بأميرالمؤمنين!! هذا صنعه ووكده ، فما بال هؤلاء الطواغيت الصغار ، وهم لا يوصفون بأكثر من كونهم حكاما دكتاتوريين ليس غير ، علي أن بعضهم قد زاد علي الرشيد أضعافا مضاعفة بوسيلة وأخري حماية للحكم الهزيل.

أما تعقب هارون الرشيد للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فهو من أبشع مظاهر الأجرام في تأريخ الانسانية نظرا لمكانة الامام الدينية والقيادية واتصاله (صفحه ١٦٩) برسول الله (صلي الله عليه وآله) نسبا وسببا ، وكونه الرافد الذي لا ينضب لموارد الشريعة الغراء.

لقد عزل الرشيد الامام عن شيعته ، ومنعه من ممارسة طقوسة الايجابية ، ورصد عليه حياته وأنفاسه ، واستطال عليه بالسلطان ، وغيبه في ظلمات

__________________

(١) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ١٠٨ ، البحار ٤٨ / ١٧٦ ـ ١٧٨.


السجون ، والامام صامد صابر ، والرشيد يتحين به الفرص ، ويسد عليه المنافذ والمسالك ، في معاناة رهيبة عبر عنها الامام في رسالة بليغة للرشيد قال فيها :

«انه لن ينقضي عني يوم من البلاء الا انقضي عنك معه يوم من الرخاء ، حتي نفضي جميعا الي يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون» (١).

ولم يكن هذا جزعا من الامام ، ولكنه احتجاج صارخ عن مدي ظلامته ، وتعبير ناطق عما يقاسيه دون جريرة ، الا تلك المنزلة العليا التي ينعم بها في نفوس الأبرار ، والا فالمعروف عن الامام أنه كان يردد في سجنه العبارة الآتية :

«اللهم انك لتعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم؛ وقد فعلت؛ فلك الحمد» (٢).

ان تعرض الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) للأزمات الخانقة ، ومظاهر الارهاب السياسي ، وحياة السجون المريرة من قبل الرشيد ، كفيل وحده أن يخرج الرشيد من منصب الخلافة المدعاة التي لم يمثل منها جزءا ضئيلا من الشرعية علي الاطلاق ، ولم تكن تصلح له الولاية العامة علي المسلمين بحال من الأحوال ، لأن ما حكم به عبارة عن أحكام عرفية طائشة صححها له فقهاء البلاط العباسي ، وحياة فاجرة داعرة غض عنها الطرف القضاة والمعدلون ، وموائد خمور وملاه وسهر ليال أحياها له المغنون المخنثون ، وكل أولئك مشاهد حمراء أباحها حكم السيف القاطع والجور المستديم ، وكان النظام مفقودا وحياة العيارين والشطار عامرة ، وان ضبطوا السيطرة علي الرقاب بالقسر والاكراه.

__________________

(١) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ البغداد ١٣ / ٣٢ ، ابن‌الأثير / الكامل ٥ / ١٠٨ ، ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / ٢٢٣ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٤٨.

(٢) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٧.


وفوق هذا كله فطالما روع الحكم الآمنين ، وطالما سفكت الدماء المحرمة بغير الحق ، وكان الاستهتار بالقيم والتجاوز علي المبادي‌ء المقدسة أمرا متعارفا حتي عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا!! كيف لا .. وقصور الخلفاء تعج بالفسق ومعاقرة الخمرة ، والبغاء العلني والسري يستشري ولا مانع ولا رادع ولا وازع ، وقد تقدم فيها سبق نهب الأموال واغتصاب الثروات والتلاعب بمقدرات الأمة ، بلي كانت هناك شعارات يتشدق بها الحاكمون مجاراة للناس من جهة ، وتثبيتا لدعائم الحكم من جهة أخري ، وهدف ذلك واضح للناقد البصير ، وهو يتمثل باضفاء شي‌ء من الشرعية جزافا علي ذلك الكيان المدعي ، وما عدا هذا الملحظ علي ضالته ، فاننا لا نري صيغة حقيقية لادعاء الولاية في الدين لأولئك الذين لا يمثلون الدين لا من قريب ولا من بعيد في نظامهم السياسي القائم علي الانحلال الخلقي والتخلي عن القيم الاسلامية علي كل الأصعدة.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«وكذلك اتضحت بما لا مجال فيه بشك أو تردد أيضا حقيقة أولئك المدعين للولاية الشرعية ، فراغا من مواصفات التأهيل ، وخلوا مما يجب أن يكونوا عليه من كفايات الاستحقاق. فلم يكن لديهم فقه بالشريعة وأحكامها ، ولا علم بمعاني القرآن والحديث ، ولا ورع يردعهم عن محارم الله ، ولا التزام يصدهم عن متابعة الهوي واطاعة شهوات النفس الأمارة بالسوء» (١).

وهنا تتجلي الفروق المميزة بين هذا الفراغ العقائدي الهائل ، وبين تلك القدرات العلمية الرائدة ، وظواهر الانابة والخشوع عند الامام موي بن جعفر (عليه‌السلام) بما يحقق ولايته الشرعية دون أولئك المتلاعبين بمثل القرآن ،

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٥٤.


وقيم الاسلام ، ورسالة السماء.

ولم يكن الرشيد نفسه ليجهل هذه الحقيقة الصارخة وان تجاهلها ، ولم يكن له أن يجحدها وان ألقي بستار كثيف علي نصاعتها ، فالملك عقيم كما يقول الرشيد ، ولا أدل علي ذلك من اعترافه واقراره لولده المأمون بالمنزلة العليا للامام ، وأنه حجة الله علي خلقه ، وخليفته الشرعي علي عباده!!

فقد حدث المأمون أن الرشيد هو الذي علمه التشيع!! وذلك أن الرشيد جلس لاستقبال الناس ، ومنع أن يدخل عليه أحد الا انتسب ، فدخل الفضل بن الربيع عليه وقال : علي الباب رجل زعم أنه موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي‌طالب (عليه‌السلام).

فقال له الرشيد : ائذن له ، ولا ينزل الا علي بساطي ... هذا والأمين والمأمون والمؤتمن والقواد شهود ... فاستقبله الرشيد ، وقبل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده حتي صيره في صدر المجلس ، وأجلسه معه فيه ، وجعل يحدثه ، ويقبل بوجهه عليه ، ويسأله عن أحواله ... «وبعد استقصاء السؤال» قال الامام موجها وناصحا للرشيد :

«ان الله قد فرض علي ولاة عهده أن ينعشوا فقراء هذه الأمة ، ويقضوا عن الغارمين ، ويؤدوا عن المثقل ، ويكسوا العاري ، ويحسنوا الي العاني ، وأنت أولي من يفعل ذلك».

فقال الرشيد : أفعل يا أباالحسن.

ثم قام الامام ، فقام الرشيد لقيامه ، وقبل عينيه ووجهه ، ثم أقبل علي وعلي الأمين والمؤتمن ، فقال ... بين يدي عمكم وسيدكم ، خذوا بركابه ، وسووا عليه ثيابه ، وشيعوه الي منزله ، فأقبل أبوالحسن موسي بن جعفر (عليهما‌السلام) سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة ، وقال لي : اذا ملكت هذا الأمر فأحسن الي ولدي ، ثم انصرفنا.


يقول المأمون : وكنت أجرأ ولد أبي عليه ، فلما خلا المجلس؛ قلت : يا أميرالمؤمنين؛ من هذا الرجل الذي قد عظمته وأجللته؟ وقمت من مجلسك اليه فاستقبلته؟ وأقعدته في صدر المجلس ، وجلست دونه ، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟

قال : هذا امام الناس ، وحجة الله علي خلقه ، وخليفته علي عباده. فقلت : يا أميرالمؤمنين؛ أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟

فقال : أنا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر ، وموسي بن جعفر امام حق ، والله يا بني انه لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه وآله) مني ، ومن الخلق جميعا ، وو الله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، فان الملك عقيم» (١).

ومع معرفة الرشيد بهذا المقام الأسمي للامام ، فان اصبع الاتهام يومي‌ء به للامام ، مما يعتبره الرشيد منافسة في سلطان ، وهو مما يلفق ويكذب به علي الامام ، فقد حدث الامام نفسه قائلا : «لما أمر هارون الرشيد بحملي ، دخلت عليه فسلمت فلم يرد علي السلام ، ورأيته مغضبا ، فرمي الي بطومار ، فقال : اقرأه.

فاذا فيه كلام ، قد علم الله عزوجل براءتي منه ، وفيه أن موسي بن جعفر يجبي اليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممن يقول بامامته ، يدينون الله بذلك ، ويزعمون أنه فرض عليهم ، الي أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ويزعمون أنه من لم يذهب اليه بالعشر ، ولم يصل بامامتهم ، ولم يحج باذنهم ، ويجاهد بأمرهم ، ويحمل الغنيمة اليهم ، ويفضل الأئمة علي جميع الخلق ، ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله ورسوله ، فهو كافر حلال ماله ودمه ... والكتاب طويل ، وأنا قائم أقرأ وهو ساكت ، فرفع رأسه وقال :

اكتفيت بما قرأت ، فكلم بحجتك بما قرأته.

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٩ ـ ١٣١ باختصار.


قلت ... والذي بعث محمدا (صلي الله عليه وآله) بالنبوة ما حمل الي أحد درهما ولا دينارا من طريق الخراج ، لكنا معاشر آل أبي‌طالب نقبل الهدية التي أحلها الله عزوجل لنبيه (صلي الله عليه وآله) في قوله :

«لو أهدي لي كراع لقبلت ذ ، ولو دعيت الي ذراع لأجبت.»

وقد علم أميرالمؤمنين ضيق ما نحن فيه ، وكثرة عدونا ، وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب ، فضاق بنا الأمر ، وحرمت علينا الصدقة ، وعوضنا الله عزوجل الخمس ، واضطررنا الي قبول الهدية ، وكل ذلك مما علمه أميرالمؤمنين ...» (١).

ولم يكتف الرشيد بهذا ، وانما استدعي الامام تارة أخري ، وأدخل عليه ، فقال له الرشيد :

يا موسي بن جعفر ، خليفتين يجبي لهما الخراج؟

قال الامام : أعيذك بالله أن تبوء باثمي واثمك ، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا ، فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله (صلي الله عليه وآله) بما علم ذلك عندك ... (٢).

ومع براءة الامام مما نسب اليه ، فهو يجتمع به ، ويتظاهر ببره ، ويسأله عن مدي حاجته ، ثم يبعث اليه بصرة فيها مائتا دينار ، فيعترض عليه المأمون ، فيقول له : أسكت لا أم لك ، فاني لو أعطيته هذا ما ضمنته له ، ما كنت آمنه (٣).

وتارة أخري يعلل الرشيد منعه العطاء للامام بقوله :

«ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢١ ـ ١٢٢ وانظر مصدره.

(٢) المصدر نفسه ٤٨ / ١٢٥ وانظر مصدره.

(٣) المصدر نفسه ٤٨ / ١٣١ وانظر مصدره.


ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم» (١).

ومنع أهل البيت حق الطبيعي من بيت المال أسوة ببقية المسلمين علي الأقل كان من الأهداف المركزية للبلاط العباسي ، بل كان من أهدافه أيضا منع أوليائهم وأصحابهم ومن يمت اليهم بصلة من أي نوع من العطاء ، واذا كان هذا صنيعهم مع شيعتهم ، فما بالك بهم؟

وليت الرشيد اكتفي بما صنعه مع الامام من الاستدعاء والاستنطاق الذي لا مبرر له ، ولكنه أغري به الفجرة من أولياء بني العباس ، وجلاوزة النظام الحاكم.

ذكر السيد المرتضي علم الهدي (ت ٤٣٦ ه) :

«انه حضر بباب الرشيد نفيع الأنصاري ، وحضر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) علي حمار له ، فتلقاه الحاجب بالاكرام ، وعجل له بالاذن.

فسأل نفيع عبدالعزيز بن عمرو من هذا الشيخ؟

قال : شيخ آل أبي‌طالب ، شيخ آل محمد ، هذا موسي بن جعفر.

قال : ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير ، أما ان خرج لأسوء نه ، قال له عبدالعزيز : لا تفعل فان هؤلاء أهل بيت ما تعرض لهم أحد بالخطاب الا وسموه في الجواب سمة يبقي عارها مدي الدهر.

وخرج الامام ، وأخذ نفيع بلجام حماره وقال :

من أنت يا هذا؟

فقال الامام ، يا هذا ان كنت تريد النسب؟ أنا ابن محمد حبيب الله ، ابن اسماعيل ذبيح الله ، ابن‌ابراهيم خليل الله. وان كنت تريد البلد؟ فهو الذي فرض الله علي المسلمين وعليك ـ ان كنت منهم ـ الحج اليه. وان كنت

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار : ٤٨ / ١٣٢.


تريد المفاخرة؟ فوالله ما (رضي) مشركو قومي مسلمي قومك أكفاء ، حتي قالوا : يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش.

وانت كنت تريد الصيت والاسم؟ فنحن الذين أمر الله بالصلاة علينا في الصلوات المفروضة تقول : «اللهم صل علي محمد وآل محمد» فنحن آل محمد ، خل الحمار ، فخلي عنه ويده ترعد ، وانصرف مخزيا ، فقال له عبدالعزيز : ألم أقل لك؟» (١).

وهكذا كان الامام يتجرع الغيظ من خلفاء الجور ، وولاة السوء ، وبطانة السلطان ، وهو صابر محتسب ، وكان أشدهم عليه ـ كما رأيت ـ هارون الرشيد في مجالات شتي ، وستري ما جري عليه يديه من استشهاد الامام مسموما في موقعه من الكتاب.

__________________

(١) ظ : المرتضي / الأمالي ١ / ٢٧٥ ، ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣١ ، المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٤٣ ـ ١٤٤.


الفصل الخامس

المناخ الثوري واجراءات الارهاب السياسي

١ ـ قمع التحرك الثوري.

٢ ـ ثورة الحسين صاحب فخ.

٣ ـ انتفاضة يحيى بن عبد الله المحض.

٤ ـ التصفية الجسدية للعلويين.

٥ ـ موقف الإمام من العنف الثوري.



قمع التحرك الثوري

وكان سوء الادارة العباسية سياسيا واجتماعيا ودينيا ، وحياة البذخ والسرف والتبذير ، واجراءات القمع الدموي ، والعمل بسنن الجبارين ، كل ذلك قد أثار مشاعر الأحرار والأخيار ضد النظام العباسي في عصر الامام (عليه‌السلام).

فأني تلفت رأيت مظاهر الابتعاد عن الاسلام ، وطمس آثار شريعة الرسول الأعظم ، واعادة الخلافة ملكا عقيما ، ومسخ المبادي‌ء الأخلاقية ، وتفجر المناخ الاجتماعي بثورة عارمة من العبث والمجون واباحة الخمور ، ومنع الناس حقوقهم في بيت المال ، واستباحة ذمم الأولياء ، واستطالة وعاظ السلاطين ، وكبت الحريات العامة ، واشغال الناس بالبعوث في جبهات القتال ، وتعطيل القرآن واطفاء السنن ، وجعل الخراج دولا بين الظلمة وأعوان الظلمة ، وتسخير الناس خدما ووخولا في مرافق الدولة ومصالح الطغاة ، كل أولئك الفقرات الضخمة كانت عوامل استياء منتشر لطبقات شعبية ودينية من المجتمع ، وكان الجيل الواعي لمشكلات هذه التداعيات ممن يريدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقامة الفروض ، وممن يحاولون استنقاذ الحقوق الانسانية قد أنكروا تلك البدع والأضاليل ، وحاولوا التغيير قدر المستطاع ، ولكن السجون كانت بانتظارهم ، ومعتقل


«المطبق» الرهيب الذي لا يعرف فيه الليل من النهار يزج بالمئات من الشباب المتحفز ، ولم يطل الأمر علي هذا الضيم المتوالي ، فتوالت الانتفاضات ، وبدأ التحرك الثوري المسلح وهو يقدم الشهداء قوافل ، والضحايا زرافات ووحدانا ، حتي طفح الكأس بما فيه.

وكان ردة فعل العباسيين كأعتي ما يتصوره الفكر الانساني قمعا وابادة وتقتيلا ، وأسرا وتغريبا وتشريدا ، كما سنشاهد هذا من خلال الأحداث الثورية وانعكاساتها السلبية علي الحاكمين.


ثورة الحسين صاحب فخ

والحسين هذا هو : الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي‌طالب صلوات الله عليه.

خرج بالمدينة المنورة ثائرا مناضلا في ذي‌القعدة سنة تسع وستين ومائة بعد موت المهدي ، وفي خلافة ولده الطاغوت موسي الهادي في جماعة كثيرة من العلويين ، فأبيدوا جميعا شر ابادة (١).

ولم يكن خروجه علي سلطان العباسيين اعتباطا ، ولا تحركه المسلح عنتا ، ولكن السياسة العباسية الخرقاء هي التي ألجأته الي اعلان ثورته ، وما جرت اليه من الفجائع والفظائع. فقد روي أبوالفرج الأصبهاني بأسانيد عدة ، قال :

كان سبب خروج الحسين أن الهادي ولي المدينة اسحاق بن عيسي بن علي ، فاستخلف عليها رجلا من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبدالعزيز ، فحمل علي الطالبيين وأساء اليهم ، وطالبهم بالعرض كل يوم في المقصورة. ووافي أوائل الحاج ، وقدم من الشيعة نحو من سبعين رجلا ، ولقوا حسينا وغيره ، فبلغ ذلك العمري ، وأغلظ أمر العرض ، وألجأهم الي الخروج؛ فجمع الحسين : يحيي صاحب الديلم ، وسليمان ، وادريس صاحب افريقيا ،

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٦١.


وكلهم أبناء عبدالله بن الحسن ، وعبدالله بن الحسن الأفطس ، وابراهيم بن اسماعيل طباطبا ، وعمر بن الحسن بن علي بن الحسن المثلث ، وعبدالله بن اسحاق بن ابراهيم بن الحسن المثني ، وعبدالله بن جعفر الصادق (عليه‌السلام) ووجهوا الي فتيان من فتيانهم ومواليهم ، فاجتمعوا ستة وعشرين رجلا من ولد علي (عليه‌السلام) وعشرة من الحاج ، وجماعة من الموالي. فلما أذن المؤذن الصبح ، نادوا : أجد أجد ، وصعد الأفطس المنارة ، وجبر المؤذن علي قول «حي علي خير العمل» فلما سمعه العمري أحس بالشر ودهش ، ومضي هاربا علي وجهه.

وصلي الحسين بالناس الفجر ، ولم يتخلف عنه أحد من الطالبيين ، الا الحسن بن جعفر بن الحسن ، والامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، وسيأتي موقفه من هذه الثورة.

وخطب الحسين بعد الصلاة ، وقال بعد الحمد لله والثناء عليه : «أنا ابن رسول الله ، علي منبر رسول الله ، وفي حرم رسول الله ، أدعوكم الي سنة رسول الله (صلي الله عليه وآله). أيها الناس أتطلبون آثار رسول الله في الحجر والمدر تمسحون بذلك ، وتضيعون بضعة منه.» (١).

فلما انتهي من هذا الخطاب أقبل عليه الناس يبايعونه علي كتاب الله وسنة نبيه ، والدعوة للرضا من آل محمد (صلي الله عليه وآله) (٢).

وهذا يعني استجابة الناس الفورية ، فالناس تطمع بالخلاص ولا تجد الي ذلك سبيلا ، حتي اذا أعلن الحسين ثورته هذه وهو من آل علي (عليه‌السلام) ، كان الاقبال علي البيعة تلقائيا.

وروي أنه قال لمن بايعه :

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٨٤.

(٢) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ١٠ / ٢٥.


«أبايعكم علي كتاب الله ، وسنة نبيه رسول الله ، وعلي أن يطاع الله ولا يعطي ، وأدعوكم الي الرضا من آل محمد ، وعلي أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلي الله عليه وآله) والعدل في الرعية ، والقسم بالسوية. وعلي أن تقيموا معنا ، وتجاهدوا عدونا ، فان نحن وفينا لكن وفيتم لنا ، وان نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم» (١).

وأنت تري الحسين في هذه البيعة قد أعطي النصف من نفسه ، وقد احتاط بذلك لدينه وأمته ، فالبيعة علي كتاب الله وسنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) والتأكيد علي طاعة الله وعدم معصيته ، والدعوة الي الرضا من آل محمد لا لنفسه ، والعمل بكتاب الله والسنة ، والعدل بين الرعية ، والاقامة معه وعدم التفرق عنه ، وجهاد الأعداء اذا وفي لهم بالتزامه ، والا فلا بيعة له عليهم.

ويبدو أن عنصر المفاجأة كان متوافرا في الثورة ، فقد اضطر الحكم الحسين الي استعجالها ، فما التحق به أحد من القصبات والأقاليم ، ولم يتهيأ لها مناخ اعلامي أو دعائي ، بل ولم يلتف أهل المدينة حولها بالشكل المطلوب ، ولم يسبق لها تمهيد سري تجتمع حوله الرجال وأعداء الحكم ، ويبدو أن الرصد الأمني لأجهزة النظام كان مسؤولا عن كثير من هذه التداعيات ، وكان احضار الطالبيين أمام المقصورة كل يوم يعني فرض الرقابة الصارمة من كل الوجوه.

ومهما يكن من شي‌ء ، فحينما أعلنت الثورة ، أقبل حماد البربري وكان مسلحة للسلطان في المدينة بالسلاح ، ومعه أصحابه حتي وافوا باب المسجد ، فقصده يحيي بن عبدالله وفي يده السيف ، فأراد حماد أن ينزل فبدره يحيي فضربه علي جبينه ، وعليه البيضة والمغفر والقلنسوة فقطع ذلك كله ، وأطار قحف رأسه ، وسقط عن دابته ، وحمل علي أصحابه

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٤٧ ، البحار ٤٨ / ١٦٩.


فتفرقوا وانهزموا. وبايعه الناس واحتفل به أهل بيته وأصحابه احتفالا عظيما.

وحج في تلك السنة مبارك التركي ، فبلغه خبر الحسين ـ ويبدو أن الرجل كان ذا عقل ودين ـ فبعث الي الحسين من الليل : اني والله ما أحب أن تبتلي بي ولا أبتلي بك ، فابعث الليلة الي نفرا من أصحابك ولو عشرة يبيتون عسكري حتي أنهزم ، وأعتل بالبيات. ففعل ذلك الحسين ، ووجه عشرة من أصحابه فجعجعوا بمبارك ، وصبحوا في نواحي عسكره ، فهرب وذهب الي مكة.

وحج في تلك السنة العباس بن محمد ، وسليمان بن أبي‌جعفر ، وموسي بن عيسي ، فصار مبارك معهم ، واعتل عليهم بالبيات.

وخرج الحسين قاصدا الي مكة ، ومعه من تبعه من أهله ومواليه وأصحابه ، وهم زهاء ثلاثمائة رجل ، واستخلف علي المدينة «دينار الخزاعي» ، فلما انتهي الركب الي «فخ» وهو موضع علي ستة أميال من مكة المكرمة (١)

هنالك تلقتهم الجيوش العباسية بقيادة العباس بن محمد ، فعرض العباس علي الحسين الأمان والعفو والصلة ، فأبي ذلك أشد الاباء.

وكان قادة الجيش متكونا من العباس ، وموسي بن عيسي ، وجعفر ومحمد ابني سليمان ، ومبارك التركي ، والحسن الحاجب ، وحسين بن يقطين. وتقررت الحرب ، وكان الالتقاء يوم التروية وقت صلاة الصبح ، فكان موسي بن عيسي أول من حمل علي القوم ، فاستطرد لهم شيئا حتي انحدروا في الوادي ، وحمل عليهم محمد بن سليمان ، وبعد معركة رهيبة طحنهم الجيش العباسي طحنة واحدة ، حتي قتل أكثر أصحاب الحسين ، وجعلت المسودة تصيح : يا حسين لك الأمان ، فيقول : لا أمان أريد ، وهو

__________________

(١) ظ : المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٤٨.


يحمل عليهم حتي فأجاه سهم غادر رماه حماد التركي فقتله ، وقتل معه سليمان بن عبدالله بن الحسن ، وعبدالله بن اسحاق بن ابراهيم بن الحسن ، وأصابت الحسن بن محمد نشابة في عينه فتركها وجعل يقاتل أشد القتال ، حتي آضوه ثم قتلوه ، وجاء الجند بالرؤوس وقد احتزوها فكان عددها مائة ونيفا (١).

وأبرد بالرؤوس الي موسي والعباس وعندهما جماعة من العلويين وفي طليعتهم الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، فلم يسألا أحدا الاه ، فقالا : هذا رأس الحسين؟

قال الامام : «نعم؛ ان لله وانا اليه راجعون ، مضي والله مسلما ، صالحا ، صواما ، وقواما ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله». فلم يجيبوه بشي‌ء (٢).

ودفن العباسيون قتلاهم جميعا ، وتركوا الحسين وأهل بيته وأصحابه بلا دفن ثلاثة أيام تصهرهم حرارة الشمس (٣).

وقد روي عن الامام محمد الجواد (عليه‌السلام) أنه قال :

«لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ» (٤).

وجي‌ء بالأسري من الحسنيين وأصحابهم ، مقيدين بالأغلال ، وقد جمعت أيديهم الي أرجلهم بالحديدة ، وهم في حالة يرثي لها جهدا وعناء وبلاء ، وقدموا بين يدي موسي الهادي ، فأمر بقتلهم جميعا ، فقتلوا صبرا ، وصلبوا علي باب الحبس» (٥).

__________________

(١) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ١٠ / ٢٨.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار / ٤٨ / ١٦١ ـ ١٦٥ وانظر مصادره.

(٣) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٣٧.

(٤) ابن عنبة / عمدة الطالب / ١٧٢.

(٥) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ١٠ / ٢٩.


قال المجلسي : وحملت الأسري الي الهادي فأمر بقتلهم ، ومات في ذلك اليوم (١).

وكان في الأسري رجل قد أنهكته العلة ، فقال للهادي يستعطفه : أنا مولاك يا أميرالمؤمنين. فصاح به الهادي : مولاي يخرج علي؟ وكان مع الهادي سكين ، فقال : والله لأقطعنك بهذه السكين مفصلا مفصلا ، ومكث الرجل ساعة ، فغلبت عليه العلة ، فمات حتف أنفه (٢).

وبعد أن قتل الهادي أسري «فخ» وضعت رؤوس القتلي من العلويين بين يديه ، والتي أبرد بها اليه ، فجعل ينشد هذه الأبيات : (٢)

بني عمنا لا تنطقوا الشعر بعدما

دفنتم بصحراء الغميم القوافيا

 فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله

فيقبل ضيما ... أو يحكم قاضيا

 ولكن حكم السيف فيكم مسلط

فنرضي اذا ما أصبح السيف راضيا

 فان قلتم انا ظلمنا ... فلم نكن

ظلمنا ... ولكنا أسأنا التقاضيا

وهكذا ذهبت هذه الدماء الزواكي جبارا ، وقتل الأسري جهارا ، ولم تكن هناك أدني رحمة انسانية بالرأفة والعفو المحمود.

وقد اكتوي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) بلهيب هذه الثورة ، فمدت نحوه أصابع الاتهام بتدبيرها ، والامام براء منها كما سيأتي.

وكان اتهام الامام صادرا من أعلي سلطة في الدولة العباسية من الهادي

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٦٥ وانظر مصدره.

(٢) الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٥٣.

(٣) ياقوت / معجم البلدان ٦ / ٣٠٨.


نفسه ، فحينما قضي علي شهداء «فخ» وقتل الأسري بمجزرة رهيبة دامية ، أخذ يتعقب العلويين ويتوعدهم ، ويشير الي موسي بن جعفر بالقول : «والله ما خرج حسين الا عن أمره ، ولا اتبع الا محبته ، لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت ، قتلني الله ان أبقيت عليه».

فقال له قاضي القضاة العباسيين أبويوسف يعقوب بن ابراهيم وكان جريئا عليه : يا أميرالمؤمنين أقول أم أسكت؟

فقال الهادي : «قتلني الله ان عفوت عن موسي بن جعفر ، ولولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور بما كان به جعفر من الفضل المبرز عن أهله في دينه وعلمه وفضله ـ يعني الامام الصادق ـ وما بلغني عن السفاح من تقريظه وتفضيله لنبشت قبره ، وأحرقته بالنار احراقا».

فقال أبويوسف القاضي : «نساؤه طوالق ، وعتق جميع ما يملك من الرقيق ، وتصدق بجميع ما يملك من المال ، وحبس دوابه ، وعليه المشي الي بيت الله الحرام ، اذ كان مذهب موسي بن جعفر الخروج ، لا يذهب اليه ، ولا مذهب أحد من ولده .. ولم يزل يرفق به حتي سكن غضبه» (١).

وكانت هذه اللفتة من أبي‌يوسف كلمة حق عند سلطان جائر ، وهي دليل حصافة رأيه ، ومتانة عقلة ، وصدق مروءته.

وقد عاجل الموت الهادي بدعاء الامام كما سبق بيانه في الفصل الماضي ، فما استطاع تنفيذ وعيده ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٥١ وانظر مصدره.


انتفاضة يحيي بن عبدالله المحض

وكان يحيي هذا من أنصار الحسين (صاحب فخ) فلما قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه ، فر بنفسه ، واستتر عن سلاطين بني العباس حقبة من الزمن ، وأخذ يجول البلدان بحثا عن ملجأ يلتجأ اليه ليظهر أمره فيه.

واستقر المكان بيحيي في بلاد الديلم ، وهو المراد بقول المؤرخين : «صاحب الديلم» فقد ظهر هناك ، واجتمع عليه الناس ، وبايعه أهل تلك الأعمال ، وعظم أمره ، وخاف الرشيد لذلك وأهمه ، وانزعج منه غاية الانزعاج ، فكتب الي الفضل بن يحيي البرمكي : «ان يحيي بن عبدالله قذاة في عيني ، فأعطه ما شاء ، واكفني أمره» (١).

ويري أبوالفرج الأصبهاني :

ان الفضل بن يحيي علم بمكان يحيي بن عبدالله في بعض النواحي ، فأمره بالانتقال عنه ، وقصد الديلم ، وكتب له منشورا لا يعرض له أحد ، فمضي متنكرا حتي ورد الديلم ، وبلغ خبره الرشيد ، وهو في بعض الطريق ، فولي الفضل بن يحيي نواحي المشرق ، وأمره بالخروج الي يحيي.

فكتب الفضل الي يحيي : اني أريد أن أحدث بك عهدا ، وأخشي أن

__________________

(١) ظ : ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ١٣٩ ، البحار ٤٨ / ١٨٠.


تبتلي بي وأبتلي بك ، فكاتب صاحب الديلم ، فاني قد كاتبته لك لتدخل الي بلاده فتمتنع به.

ففعل ذلك يحيي ، وكان صحبه جماعة من أهل الكوفة ... كانوا يخالفون يحيي في أمره ، وحينما ولي الرشيد الفضل جمع كور المشرق (صفحه ١٨٦) وخراسان ، أمره بقصد يحيي والجد به ، وبذل الأمان والصلة له ، ان قبل ذلك. فمضي الفضل فيمن ندب معه ، وراسل يحيي فأجابه الي قبوله ، لما رأي من تفرق أصحابه وسوء رأيهم فيه ، وكثرة خلافهم عليه ، الا أنه لم يرض الشرائط التي شرطت له ، ولا الشهود الذين شهدوا له ، وبعث بالكتاب الي الفضل ، فبعث به الي الرشيد. فكتب له الرشيد بما أراد ، وشهد له من التمس.

فلما ورد كتاب الرشيد علي الفضل ، وقد كتب له الأمان علي ما رسم يحيي ، وأشهد الشهود الذين التمسهم ، وجعل الأمان علي نسختين : احداهما مع يحيي ، والأخري معه. وشخص يحيي بن عبدالله ـ بناء علي الأمان الموثق ـ حتي وافي بغداد ، ودخلها معادلة في عمارية علي بغل ، فلما قدم يحيي أجازه الرشيد بجوائز سنية. يقال : ان مبلغها مائتا ألف دينار ، وغير ذلك من الخلع والحملان ، فأقام علي ذلك مدة ، وفي نفس الرشيد الحيلة علي يحيي ، والتتبع له ، وطلب العلل عليه وعلي أصحابه.

ثم ان نفرا من أهل الحجاز تحالفوا علي السعاية بيحيي ، وهم : عبدالله بن مصعب الزبيري ، وأبوالبختري وهب بن وهب ، ورجل من بني‌زهرة ، ورجل من بني‌مخروم ، فوافوا الرشيد لذلك ، واحتالوا الي أن أمكنهم ذكره له ، فأشخصه الرشيد اليه ، وحبسه عند مسرور الكبير في سرداب ، فكان في أكثر الأيام يدعوه ويناظره ، الي أن مات في حبسه ، واختلف في كيفية موته ، وكيف كانت وفاته؟

فقيل : ان الرشيد دعاه يوما ، وجمع بينه وبين ابن‌مصعب ليناظره ، فيما


رفع اليه ، فجبهه ابن‌مصعب بحضرة الرشيد قائلا : ان هذا دعاني الي بيعته.

فقال يحيي : يا أميرالمؤمنين أتصدق هذا علي وتستنصحه؟ وهو ابن عبدالله بن الزبير الذي أدخل أباك وولده الشعب ، وأضرم عليهم النار ، حتي تخلصهم أبوعبدالله الجدلي صاحب علي (عليه‌السلام) ، وهو الذي بقي أربعين يوما لا يصلي علي النبي (صلي الله عليه وآله) في خطبته حتي التاث الناس عليه ، فقال : ان أهل بيت سوء اذا ذكرته أشرأبت نفوسهم اليه ، وفرحوا بذلك ، فلا أحب أن أقرأ عينهم بذلك ، وهو الذي فعل بعبدالله بن العباس مالا خفاء به عليك ، وطال الكلم بينهما حتي قال يحيي : ومع ذلك هو الخارج مع أخي علي أبيك ، وقال في ذلك أبياتا منها :

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا

ان الخلافة فيكم يا بني حسن

وقرأ القصيدة ، فتغير وجه الرشيد عند سماع الأبيات ، فحلف ابن‌مصعب بالله الذي لا اله الا هو ، وبايمان البيعة : أن هذا الشعر ليس له ، فقال يحيي :

والله يا أميرالمؤمنين ما قاله غيره ، وما حلفت بالله كاذبا ولا صادقا قبل هذا ، وان الله اذا مجده العبد في يمينه استحيا أن يعاقبه ، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا الا عوجل.

قال الرشيد : حلفه ، قال : قل : برئت من حول الله وقوته ، واعتصمت بحولي وقوتي ، وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكبارا علي الله واستغناء عنه ، واستعلاء عليه ، ان كنت قلت هذا الشعر. فامتنع عبدالله منه ، فغضب الرشيد ، وقال للفضل بن الربيع : هنا شي‌ء ، ما له لا يحلف ان كان صادقا ، فرفس الفضل عبدالله برجله ، وصاح به : احلف ويحك ، وكان له فيه هوي ، فحلف باليمين ، ووجهه متغير وهو يرعد ، فضرب يحيي بين


كتفيه ثم قال : يا ابن‌مصعب قطعت والله عمرك ، والله لا تفلح بعدها ، فما برح من موضعه حتي أصابه الجذام ومات في اليوم الثالث.

قال أبوفراس الحمداني يذكر ذلك :

ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت

عن ابن‌فاطمة الأقوال والتهم

فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل بن يحيي : «رأيت يا عباسي؛ ما أسرع ما أديل يحيي من ابن‌مصعب».

ثم جمع الرشيد الفقهاء ، وفيهم محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي‌يوسف ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وأبوالبختري : وهب بن وهب القرشي المدني ، فجمعوا في مجلس ، فخرج اليهم مسرور الكبير بالأمان الذي أعطاه الرشيد ليحيي.

فبدأ بمحمد بن الحسن الشيباني ، فنظر فيه ، فقال : هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه ، فصاح عليه مسرور : هاته فدفعه الي الحسن بن زياد ، فقال بصوت ضعيف : هو أمان. فاستلبه أبوالبختري وقال : هذا باطل منتقض ، قد شق العصا ، وسفك الدم ، فاقتله ودمه في عنقي.

فدخل مسرور علي الرشيد وأخبره ، فقال : اذهب له وقل له : فرقه ان كان باطلا بيدك!!!

فجاء مسرور ، وقال له ذلك ، فقال : شقه أباهاشم!! قال مسرور : بل شقه أنت ان كان منتقضا ، فأخذ سكينا وجعل يشقه ويده ترتعد ، حتي صيره سيورا ، فأخله مسرور علي الرشيد ، فوثب ، فأخذه من يده وهو فرح ، ووهب لأبي‌البختري (ألف ألف وستمائة ألف) وولاه قضاء القضاة ، وصرف الآخرين ، ومنع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة.

وأجمع الرشيد علي انفاذ ما أراد بيحيي ، وكان محبوسا في المطبق


الذي لا يعرف به الليل من النهار ، فروي من كان مع يحيي ، قال كنت قريبا منه ، فكان في أضيق البيوت وأظلمها ، فبينا نحن ذات ليلة كذلك ، اذ سمعنا صوت الأقفال ، وقد مضي من الليل هجعة ، فاذا هارون قد أقبل علي بر ذون له ، فوقف ثم قال : أين هذا؟ يعني يحيي ، قالوا في فهذا البيت ، قال : علي به ، فأدني اليه ، فأخذ ، فضربه مائة عصا ، ويحيي يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله (صلي الله عليه وآله) ويقول : بقرابتي منك ، فيقول : ما بيني وبينك قرابة.

ثم حمل فرد الي موضعه ، فقال : كم أجريتم عليه؟ قالوا : أربعة أرغفة وثمانية أرطال ماء ، قال : اجعلوها علي النصف ، ثم خرج ، ومكث ليالي ثم سمعنا وقعا ، واذا نحن به ، فدخل وقال : علي به ، فأخرج ففعل به مثل فعله ذلك ، وضربه مائة عصا أخري ، وقال : كم أجريتم عليه؟ قالوا رغيفين وأربعة أرطال ماء ، قال : اجعلوها علي النصف. ثم خرج وعاد الثالثة ، وقد مرض يحيي وثقل ، قال : علي به ، قالوا : هو عليل مدنف لما به ، قال : كم أجريتم عليه؟ قالوا : رغيفا ورطلين ماء ، قال : اجعلوه علي النصف ، ثم خرج. فلم يلبث يحيي أن مات ، فأخرج الي الناس فدفن.

عن ابراهيم بن رياح : أنه بني عليه أسطوانة بالرافقة (بلدة في الرقة) وهو حي.

وعن علي بن محمد بن سليمان أنه دس اليه في الليل من حنقه حتي تلف ، قال : وبلغني أنه سقاه سما.

وعن محمد بن أبي‌الحسناء ، أن الرشيد أجاع السباع ، ثم ألقاه اليها فأكلته.

وعن عبدالله بن عمر العلوي ، قال :

دعينا الي مناظرة يحيي بن عبدالله بحضرة الرشيد وهو يقول له : يحيي


اتق الله وعرفني أصحابك السبعين لئلا ينتقض أمانك!! وأقبل علينا فقال : ان هذا لم يسم أصحابه ، فكلما أردت أخذ انسان يبلغني عنه شي‌ء أكرهه ، ذكر أنه ممن أمنت.

فقال يحيي : يا أميرالمؤمنين أنا رجل من السبعين فما الذي نفعني من الأمان؟ أفتريد أن أدفع اليك قوما تقتلهم معي؟ لا يحل لي هذا ، قال : ثم خرجنا ذلك اليوم ، ودعانا له يوما آخر ، فرأيته أصفر اللون متغيرا ، فجعل الرشيد يكلمه فلا يجيبه ، فقال : ألا ترون اليه لا يجيبني؟ فأخرج يحيي الينا لسانه قد صار أسود مثل الفحمة ، يرينا أنه لا يقدر علي الكلام ، فاستشاط الرشيد غضبا وقال : انه يريكم أني سقيته السم ، والله لو رأيت قتله لضربت عنقه صبرا ، ثم خرجنا من عنده ، فما صرنا في وسط الدار حتي سقط يحيي علي وجهه لآخر ما به.

وعن ادريس بن محمد بن يحيي كان يقول :

قتل جدي بالجوع والعطش في الحبس.

وعن الزبير بن بكار عن عمه : أن يحيي لما أخذ من الرشيد المائتي الألف الدينار ، قضي بها دين الحسين صاحب فخ ، وكان الحسين خلف مائتي ألف دينار دينا (١).

هذا مجمل ما حصل ليحيي بن عبدالله المحض في حركته وأمانه وتسييره الي بغداد ، وسجنه ، حتي استشهاده ، وبالامكان القاء الضوء الكاشف علي تداعيات هذه المأساة.

١ ـ ان يحيي كان قذاة في حلق الرشيد كما صرح بذلك لأنه قام بتحرك علي نطاق واسع في بلاد الديلم ، ولأنه أخ الثائرين في عهد المنصور : محمد

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٦٥ ـ ٤٨٥ بتصرف واختصار ، المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٨٢ ـ ١٨٧.


النفس الزكية ، وابراهيم أحمر العينين اللذين تحدثنا عن تورتيهما في كتابنا عن الامام الصادق (عليه‌السلام).

وظهر أن الرجل كان من الثائرين مع الحسين بن علي (صاحب فخ) وقد اختفي عن السلطة العباسية ، حتي أثر اختفاؤه في الحياة السياسية ، وانتابت الحاكمين منه هواجس وتحسبات عدة ، وأنه في اختفائه قد تنقل متنكرا بين عدة كور وقصبات وبلدان حتي استقر به المطاف في بلاد الديلم في عهد الرشيد مع سبعين من أصحابه ، ولعل اختفاءه في احدي خانات (حلوان) شمال العراق من مظاهر هذا التواري عن أنظار السلطة.

ذكر الأستاذ باقر شريف القرشي عن أحد عيون الرشيد ، قوله : «كنت في خان من خانات حلوان ، فاذا بيحيي بن عبدالله في دراعة صوف غليظة ، وكساء صوف أحمر غليظ ، ومعه جماعة ينزلون اذا نزل ، ويرتحلون اذا رحل ، ويكونون معه ناحية ، فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه ، وهم أعوانه» (١).

ويبدو أنه في هذا المنزل كان في سبيله الي بلاد الديلم عن طريق شمال العراق الشرقي.

٢ ـ ان الرشيد قد علم بالتحرك السري ليحيي ، وقد عرف استجابة بعض العراقيين له ، وجملة من العلويين ، وكان ذلك مما يقلق الرشيد ، فرماه بالفضل بن يحيي البرمكي بجيش مكثف مدرب علي القتال ، قيل أنه بلغ خمسين ألف رجل ، وأن أصحاب يحيي قد فزعوا من أنباء هذا الجيش ، فتفرقوا عنه ، وخالفوه كثيرا ، وأخيرا يبدو أنهم قد أسلموه عند الوثبة ، حتي اضطر الي التفاوض مع الفضل ضمن شروط معينة ، فيها الأمان له ولأصحابه ، وقد أمضي الرشيد تلك الشروط ، وأشهد عليها يحيي ،

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٩٢ وانظر مصدره.


ودعمت بالايمان الغليظة المؤكدة.

٣ ـ ان الرشيد قد استقبله بادي‌ء ذي بدء بالأكرام ظاهريا ، وبالعفو أمام الآخرين ، وقد رحب به ودفع له مائتي ألف دينار فأخذها ، ووفي بها دينا للحسين صاحب فخ ، ولكن الرشيد كان يدبر له المكيدة ويحكم الخطة لقتله أو اغتياله ، فبدأ بسجنه ، وعاوده مرارا بالاستجواب ، وساءله عن أسماء أصحابه وأعيانهم ، فأبي عليه يحيي ذلك ، لأنه علم يقينا أنه سيقتلهم ، فلا أمان لأهل الغدر والبهتان.

٤ ـ يبدو أن طبقة من أهل المكر والخيانة ، وممن يتقرب الي السلطان بالدماء ، قد ائتمروا فيها بينهم للسعاية بيحيي ، فغادروا الحجاز ، ووصلوا بغداد ، واحتالوا بالوصول الي الرشيد فنالوا من يحيي ، فأمر الرشيد بحبسه عند مسرور الكبير في سجن المطبق.

٥ ـ وكان الذي تولي كبر الافتراء عليه هو عبدالله بن مصعب الزبيري ، فاتهمه بأنه دعاه الي الخروج معه علي الرشيد ، فأنكر يحيي ذلك ، وجرت بينهما أيمان قاتلة ، انتهت بالانتقام من الزبيري عاجلا.

٦ ـ وقد استدعي الرشيد جمهرة من الفقهاء الرسميين وعرض عليهم الأمان ، فأبي اثنان منهم الطعن فيه ، وتجرأ أبوالبختري القرشي علي الطعن ولم يعده أمانا ، فخرق الأمان ، وقطعه بسكين سيورا ، فأجازه الرشيد علي ذلك بأعطية ضخمة ، وحرم محمد بن الحسين الشيباني من القضاء والافتاء مدة طويلة ، مما يؤكد أن الرشيد كان يسخر الفقهاء لارادته ورغبته ، فمن أبي عليه ذلك أبعده فورا.

٧ ـ وفي خاتمة المطاف رأينا الرشيد عازما علي التخلص من يحيي ، فيضربه ضربا مبرحا ، ويحيي يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله (صلي الله عليه وآله) فلا يستجيب الرشيد لشي‌ء ، حتي أجهز عليه جوعا وعطشا ، وقيل سما ،


ولم تكن لديه رأفة أو شفقة أو حمية ، حتي انتهت حياته بالشكل الذي ألمحنا اليه باختصار ، ورحم الله أبافراس الحمداني وهو يذكر ذلك :

يا قاصدا لمساويهم يكتمها

غدر الرشيد بيحيي كيف ينكتم

 لا بيعة ردعتهم عن دمائهم

ولا يمين ، ولا قربي ، ولا رحم


التصفية الجسدية للعلويين

تعقب الرشيد العلويين ، وتتبع آثارهم ، ورصد أعيانهم وزعماءهم ، وشدد الرقابة علي من اتصل بعناصر التحرك الثوري. فقبض علي قبض منهم ، وهرب من هرب ، وأكتفي بالرشيد وحده نموذجا لبني العباس.

قال الرشيد للفضل بن يحيي : هل سمعت بخراسان ذكرا لأحد من العلويين؟ فقال : لا والله؛ لقد جهدت فما ذكر أحد لي منهم ، الا أني سمعت رجلا يذكر أن موضعا ينزله عبدالله بن الحسن بن علي بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام). سمع الرشيد ذلك فاستشاط غضبا لأن عبدالله هذا هو الذي عهد اليه من بعده الحسين (صاحب فخ).

وبعث الرشيد بأعوانه وجلاوزته يتعقبون عبدالله هذا ، فجاؤوا به ، قال له : بلغني أنك تجمع الزيدية ، وتدعوهم الي الخروج معك؟ فأنكر عبدالله ذلك قائلا :

«يا أميرالمؤمنين ، ناشدتك الله في دمي ، فوالله ما أنا من هذه الطبقة ، ولا لي ذكر فيهم ، وان أصحاب هذا الشأن بخلافي ، أنا غلام نشأت بالمدينة ، وفي صحاراها أسعي علي قدمي ، وأتصيد بالبواشق؛ ما هممت بغير ذلك.»

وعبدالله في هذا نفي عن نفسه أية تهمة بالخلاف تنسب اليه ، وبرأ من


فكر القائلين بالخروج ، وأنه نشأ في المدينة علي الاصطياد ، الا أن الحديث هذا لم يرق للرشيد ، ولم يقتنع به ، فأمر به الي السجن ، فلم يزل محبوسا حتي ضاق صدره ، فبعث برسالة للرشيد ضمنها شتمه وسبابه ، فلما قرأها الرشيد ، دعا جعفر بن يحيي البرمكي ، فأمره أن يجعله عنده ، وفي اليوم الثاني كان «النوروز» فقدمه جعفر وضرب عنقه ، وغسل رأسه ، وجعله في منديل ، وأهداه الي الرشيد ، فلما نظر الرأس قال لجعفر : ويحك لم فعلت هذا؟ قال : ما علمت أبلغ في سرورك من حمل رأس عدوك اليك ...» (١).

وهكذا كانت الدماء تسفك سفها ، والأرواح تزهق قسرا ، وقتل الأبرياء يقع موقع الرضا من السلطان ، ولم يكن هذا بأعجب من شأن ادريس بن عبدالله بن الحسن بن الامام الحسن بن أميرالمؤمنين (عليهما‌السلام) ، فقد أفلت ادريس من وقعة «فخ» وهرب مع مولي له يقال له «راشد» فخرج به في جملة حاج افريقيا ومصر حتي أقدمه مصر ، وبقي مختفيا بهامدة وجيزة ، ثم سلكا طريقا انتهيا معه الي فاس وطنجة ، وبث ادريس هناك دعوته ، وعظم أمره ، والتف حوله البربر ، فدعاهم الي الدين فملكوه عليهم ، وبلغ الرشيد ذلك فغمه الأمر حتي امتنع عليه النوم ، فدعا سليمان بن جرير الرقي فأعطاه سما ، وسيره نحو ادريس ، فورد سليمان علي ادريس متوسما بالمذهب فسر به ، ثم جعل سليمان يطلب غرته حتي وجد خلوة من مولاه راشد ، فسقاه السم وهرب ، بعد أن حكم خمس سنين وستة أشهر ، فقد بويع له في رمضان ١٧٢ ه وقضي في ربيع الثاني ١٧٧ ه (٢).

وقد يتفنن الرشيد بالتصفية الجسدية ، فيقتل من يشاء صبرا ، كما حصل هذا للعباس بن محمد بن عبدالله بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) ، اذ

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٣ ، المسعودي / مروج الذهب ٢ / ٢٣٤ به تصرف.

(٢) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين ٤٨٧ ، الطبري / التأريخ ١٠ / ٢٩.


قبض عليه ، وأدخل علي الرشيد ، وجري بينهما كلام طويل ، فاستهان به الرشيد قائلا : يا ابن الفاعلة ، فرده العباس ردا عنيفا : «تلك أمك التي تواردها النخاسون»!!

فغضب الرشيد غضبا شديدا ، وما أكثر غضبه في هذه المجالات ، وأمر بأن يدني منه ، فقام اليه بنفسه وضربه بعمود من حديد حتي قتله (١).

وكان هذا وكد الرشيد في ابادة أعيان الطالبيين ، وتحري رجالهم والقضاء عليهم بالقتل تارة وبالسجن أخري ثم التعذيب والسم والابادة أخيرا. وقد جري له أمثال ذلك في كل من :

١ ـ اسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن بن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام).

٢ ـ محمد بن يحيي بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن أميرالمؤمنين (عليه‌السلام).

٣ ـ الحسين بن عبدالله بن اسماعيل بن عبدالله بن جعفر بن أبي‌طالب. فقد قبض علي هؤلاء جميعا ، وأودعهم السجون الرهيبة ، وأذاقهم صنوف العذاب والتنكيل ، حتي قضوا فيها صابرين محتسبين (٢). وقد أورد الأستاذ باقر شريف القرشي جملة من تفصيلات هذه المآسي التي مر بها العلويون في عهد الرشيد بخاصة (٣).

وقد استظل كثير من الطالبيين بالهرب ، ولاذوا بالاستتار والتخفي من جور الرشيد وبطشه ، فقد كان يجد لذة لا تعدلها لذة في قتلهم ، ويستشعر متاعا أي متاع بالقضاء عليهم ، وكان في طليعة الهاربين : أحمد بن عيسي بن زيد بن الامام زين‌العابدين (عليه‌السلام) وكان عالما فقيها كبيرا زاهدا (٤).

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٨.

(٢) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

(٣) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٨٦ ـ ١٠٣.

(٤) ظ : ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ٢٥٩.


وقد هرب من الارهاب الدموي العنيف الي البصرة ، والتف حوله الناس ، ودعا الي نفسه سرا ، واستجاب له جملة من الأولياء ، فساء ذلك الرشيد ، وجد في طلبه ، فما استطاع القبض عليه ، الا أن جلاوزته قبضوا علي صاحبه «حاضر» وحملوه الي الرشيد ، فلما صار بباب الكرخ رفع صوته قائلا : أيها الناس أنا حاضر صاحب أحمد بن عيسي بن زيد العلوي وقد أخذني السلطان» فمنعته الشرطة من الكلام (١).

وجي‌ء به الي الرشيد مقيدا ، فسأله عن أحمد وأنصاره متوعدا ، فقال حاضر : والله ، لو كان تحت قدمي هذه ما رفعتهما عنه ، وأنا شيخ قد جاوز التسعين ، أفأختم عملي بأن أدل علي ابن رسول الله حتي يقتل؟ فغضب الرشيد ، وأمر بضربه ضربا مبرحا فمات تحت السياط ، وأمر بصلبه ، فصلب ببغداد (٢).

فاذا كان هذا الضيم من صنع الرشيد وحده ، فما بالك بأسلافه الهادي والمهدي والمنصور فيما ابتكروه من تصفية العلويين؟؟

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ١٠٤.

(٢) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٥٤.


موقف الامام من العنف الثوري

وفي ضوء ما رأيت من ثورة الحسين بن علي (صاحب فخ) وحركة يحيي بن عبدالله المحض (صاحب الديلم) وانتفاضات جملة من الطالبيين ، ان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، لم يستجب لهؤلاء جميعا بالخروج معهم ، أو الانضمام الي تحركهم الثوري. وبغض النظر أن عليهم أن يستجيبوا له ، وليس عليه الاستجابة لهم ، لأنه الامام المفترض الطاعة ، فان الامام بتجربته السياسية النافذة كان قد علم مسبقا بما تؤول اليه هذه الانتفاضات الدموية من الفشل والخذلان ، وأنها لا تستطيع أن تغير بحركاتها الانتحاري شيئا من الواقع السياسي لا فعليا ولا مستقبليا ، وانما هي الدماء وقوافل الشهداء ، وان جلبت النقمة عاطفيا شيئا ما ، لذلك كان موقف الامام منها موقف الحذر المتيقظ ، كما كان موقفه من الثائرين موقف الناصح والموجه.

فقد أورد الكليني عن مولي عبدالله بن جعفر بن أبي‌طالب ، قال : لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخ ، واحتوي علي المدينة ، دعا موسي بن جعفر (عليه‌السلام) الي البيعة ، فأتاه الامام ، وقال له : يا ابن عم؛ لا تكلفني ما كلف


ابن عمك عمك أباعبدالله (عليه‌السلام) ، فيخرج مني ما لا أريد ، كما خرج من أبي‌عبدالله (عليه‌السلام) ما لم يكن يريد (١).

فقال له الحسين : انما عرضت عليك أمرا فان أردته دخلت فيه ، وان كرهته لم أحملك عليه ، والله المستعان ، ثم ودعه وانصرف.

فقال له أبوالحسن موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حين ودعه : «يا ابن عم؛ انك مقتول فأجد الضراب ، فان القوم فساق ، يظهرون ايمانا ، ويسرون شركا ، وانا لله وانا اليه راجعون ، أحتسبكم عند الله من عصبة» (٢).

وأنت تري الامام يدعي الي البيعة والتأييد رفيقا بالثائرين ، مشفقا عليهم ، لا يريد أن يصطدم معهم في شي‌ء ، وبالوقت نفسه لم يثبط من العزم ، ولم يقدح بالقضية ، وكان صاحب فخ مرنا فيما استقبله به الامام ، فلم يرد اكراهه علي شي‌ء ، وانما عرض عليه أمرا لو شاء أن يدخل فيه لرحب به ، ولو كره ذلك لم يحمل عليه ، وقد لمس الامام تصميم صاحب فخ ، فأشعره مصرحا بالحقيقة التي تلقاها من فيض ذلك العلم المخزون ، بأنه مقتول ، وعليه أن يجد في القتال ، فالحاكمون فسقة يظهرون الايمان ويسرون الشرك ، فاستقبل صاحب فخ ذلك برحابة صدر وصدق عزيمة ، فهو يعلم أن الامام يعني ما يقول.

يقول الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين :

«ولم يكن امتناع الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عن تأييد ابن عمه بالخروج معه ، أو حث الناس علي بيعته ، أو اعلان وجوب الانخراط في صفوف الثائرين ، ناشئا من خوف من بطش السلطة ، أو ايثار للحياة علي

__________________

(١) كان محمد النفس الزكية قد دعا الامام الصادق (عليه‌السلام) الي الانضمام لحركته الثورية ضد المنصور ، فأبي عليه الامام الصادق ذلك ، وأخبره بفشل ثورته ، كما أخبر بقتله وقتل أخيه من قبل المنصور ، وكان الاخبار بالواسطة عن طريق أبيه وسواه ، والامام الكاظم يشير الي هذا.

(٢) الكليني / الكافي ٣ / ٣٦٦ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٦١.


الموت ، أو حب الدنيا وزبارجها الخداعة ، وأين منه كل ذلك؟ وهو يعيش بطش السلطة وأذاها في كل يوم ، ويتمني لقاء الله وقدومه عليه في كل دعاء وابتهال.

«ان هؤلاء القادة ـ أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ـ ليسوا من حيث المنطلق والمبدأ هواة حكم أو عشاق سلطان ، ولم يكن من أهدافهم في الدنيا كرسي الملك أو عرض الخلافة ، وانما يتمثل همهم الأكبر وشغلهم الشاغل في العمل علي تطبيق أحكام الدين ، وتجسيد ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله (صلي الله عليه وآله) علي صعيد الواقع المعاش للمسلمين ، فان علموا بتحقيق الثورة لذلك ـ ولو بالقوة لا بالفعل كما ثورة الحسين (عليه‌السلام) ـ قاموا بها ، ولم يأبهوا بفداحة الخسائر وعظم التضحيات.

وان لم يضمنوا هذه النتيجة لا في الحال ولا في المستقبل المنظور ، امتنعوا عن اراقة الدماء ، وتأجيج نيران الحروب والفتن ، لأنها بلا جدوي ولا مردود» (١).

وثمة ملحظ آخر جدير بالأهمية ، أن الشعب المسلم وهو يعاني المحن والشدائد في حكم الارهاب والجبروت ، قد ضربت أغلب فصائله صفحا عن السياسة ومشكلاتها ، واتجه شبابها نحو الاغتراف من نمير أهل البيت العلمي ، فكانت قوافل العلماء تؤم ساحة أهل البيت الرعيل اثر الرعيل ، للاستضاءة بنور العلم ، وكانت عائدية التمتع بهذا البرنامج المعرفي تعود بما هو أجدي نفعا للمسلمين ، وبما هو أكثر تحريرا للعقول ، وهي ترفض الاعتساف السياسي ، وتأبي التضحية بالنفس دون جدوي متوافرة.

ان ما قام به الحسين بن علي (صاحب فخ) عبارة عن انكار للمفهوم السلطوي العام ، وكان هذا الانكار في أقصي درجاته وأعظم عطائه ، وهذه

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٦١ ـ ٦٢.


الطريق مسنونة في انكار المنكر والأمر بالمعروف ، فقد يري بعضهم ذلك لازما له أني اتفق حتي مع عدم أمن الضرر فيعتبره جهادا ، وهذا اجتهاد قد يخطي‌ء فيه المجتهد وقد يصيب ، أما الامام (عليه‌السلام) فله حكمه الخاص الذي ينطلق من موازين أخري يحددها تكليفه الشرعي ليس غير.

ولم يكن الامام لينجذب للأحاسيس وهي شلاء ، ولم يكن ليتأثر بالعواطف الصارخة وهي موقتة ، وكان عمله الفعلي الهادف يستوعب الأجيال المتعاقبة لا الأيام القليلة الزائلة ، ولم يكن همه لينحصر بالتغيير السياسي والعدة غير متكاملة لدرئه ، والنصرة غير متيسرة لردعه ، وللامام أن يري ، ولأتباعه وأوليائه أن يمتثلوا ، فالآراء لا تفرض علي الامام مهما كان مصدرها البشري الا اذا اقترنت بقناعته المنطقية ، لهذا نجد أن دأب الأئمة (عليهم‌السلام) ومنهم الامام موسي بن جعفر استثمار توجه الناس اليهم بالاتجاه العلمي ، فأذكوا شرارته ، وألقحوا جذوته ، فكانت ثماره بناء الأمة عقليا وفكريا ، وذلك هو الهدف المركزي الذي تقصر عن تحقيقه عروش الظالمين ، بل وتتضاءل أمام زحفه صولة السلاطين ، فقد ذهبت جبروتهم أدراج الرياح كأمس الدابر ، وخلد علم أهل البيت في مدرجة التأريخ الانساني المتحضر ، وكان هذا الاتجاه امتدادا طبيعيا لمسيرة الأئمة في حياتهم العملية في ضوء تعليمات القرآن الكريم والسنة النبوية لا يحيدون عنهما قيد شعرة قط.

ولك هنا أن تعرف موقف الامام من حركة يحيي بن عبدالله المحض كما عرفت من ثورة الحسين (صاحب فخ) فكلاهما يصدران عن رافد العنف الثوري ، ولم يكونا أحرص علي الثورة من الامام لو أن ظروفها كانت مواتية ، ولما لم يكن الأمر بهذه السهولة واليسر ، فالامام لم يجد شرعية تتبع ، ولا مشروعية تستهدف في زج نفسه أو أوليائه في دوامة محكوم عليها


بالفشل والنهاية المحزنة دون حصيلة مرجوة في التغيير والانقلاب الجذري سياسيا وعقائديا.

فقد روي أن يحيي حينما عزم عن حركته كتب للامام :

«أما بعد : فاني أوصي نفسي بتقوي الله ، وبها أوصيك ، فانها وصية الله في الأولين ، ووصيته في الآخرين.

خبرني من ورد علي من أعوان الله علي دينه ونشر طاعته؛ وبما كان من تحننك مع خذلانك ، وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (صلي الله عليه وآله) وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك ، وقديما ادعيتم ما ليس لكم!! وبسطتم آمالكم الي ما لم يعطكم الله!! فاستهويتم وأضللتم!! وأنا محذرك ما حذرك الله من نفسه».

تقول الرواية فكتب اليه الامام موسي بن جعفر في الجواب : «... أما بعد؛ فاني أحذرك الله ونفسي ، وأعلمك أليم عذابه وشديد عقابه وتكامل نقماته ، وأوصيك ونفسي بتقوي الله فانها زين الكلام وتثبيت النعم ، أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع وأبي من قبل ، وما سمعت ذلك مني ... وذكرت أني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك ، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه ـ لو كنت راغبا ـ ضعف عن سنة ، ولا قلة بصيرة بحجة ... وأنا متقدم اليك أحذرك معصية الخليفة ، وأحثك علي بره وطاعته ، وأن تطلب لنفسك أمانا قبل أن ، تأخذك الأظفار ....» (١).

وأنت تري رسالة يحيي في التهجم علي الامام ، وهي بعيدة الصدور عنه ، فانه أدري بمنزلة الامام ومنزلة أبيه من ذي قبل ، واذا كان يدعو للرضا من آل محمد ، فالامام هو الرضا من آل محمد.

وأنت تري الرد فيما نسب للامام ، واذ شككنا في الأصل ثم لنا الشك

__________________

(١) ظ : الكليني / الكافي ١ / ٣٦٦ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٦٦.


فيما يتفرع عنه.

وقد تولي تفنيد هذه الرسالة ورواياتها الأستاذ باقر شريف القرشي : «والرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأنها مرسلة أولا. وقد جاء في سندها روي بعض أصحابنا ، بالاضافة الي أن الكثيرين من رجال السند مجهولون ... فلا مجال للاعتماد عليها والتشكيك في حال يحيي» (١).

ومهما يكن من أمر ، فان الامام كان قاطعا بفشل حركة يحيي في الأساس ، ولا يستطيع تأييدها في حال من الأحوال ، وهو علي رصد تام ، ولكنه كان يري ضرورة الثورة المضادة للحكم العباسي سلبيا لا عن طريق العنف ، فلا هدنة معه ولا تأييد له ، ولا انخراط في صفوفه ، فهو في مجابهة معه غير دموية. ولكنها مجابهة تجرد الحكم عن صفة الشرعية ، وهي أرقي درجات المجابهة سياسيا في مقاومة الانحراف العباسي كما ستري هذا في الفصل الآتي من الكتاب.

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٩٩.


الفصل السادس

البعد الاستراتيجي لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي

١ ـ الإمام وسياسة الضال السلبي.

٢ ـ الإمام واختراق النظام العباسي.

٣ ـ الإمام ومجابهة الانحراف والتضليل الديني.



الامام وسياسة النضال العباسي

في المناخ السياسي العام يبرز عاملان مهمان في مهمة الاصلاح الديني والتغيير السياسي ، وهما :

١ ـ النضال الايجابي ، ويعني بمقومات الاندماج الكلي في العالم السياسي واستيحاء ايجابياته الايدولوجية ، والافادة بالقوة وغير القوة ، وفي كل المفردات المتفرعة عليهما ، في سبيل الكسب السياسي والانعاش الاقتصادي والاستيلاء علي السلطة ، فالهدف هو السلطان ، فما يؤخذ بالقوة يسترجع بالقوة ، والحق يؤخذ ولا يعطي.

وقد يستعين هذا المبدأ بنظرية الغاية التي تبرر الواسطة ، وبالوسائل الأخري التي تحقق هذا المبدأ ، ولا نريد أن نناقش هذا المبدأ في التسمية ولا في المكاسب المترتبة عليه ، فهو نفسه له ايجابيته وله سلبيته بوقت واحد.

وقد يتوج النضال الايجابي بالأسلوب الدبلوماسي ، وقد يعتمد المناورة والدوران في التماس ما يراد ، سواء أكان ذلك حقا أم باطلا!! اذ المهم العائدية بالنفع المرتقب ، وقد يغلف هذا المناخ بستار من الضبابية القاتمة ، والمجاملة الكاذبة ازاء الغاية المتوخاة بهذا المنهج أو ذاك.

٢ ـ النضال السلبي : ويعني بمفارقة النظام السياسي قولا وعملا وموضوعية ،


وذلك يقتضي الاعراض حينا ، والانكار حينا آخر ، وقد يدعو الي المقاطعة للحكم في كل شي‌ء فيجعل حركته مشلولة متعثرة ، وبهذا تكون المعارضة الرافضة شعارا ودثارا ، ويد يعني بالمطالبة لتحقيق العدل واستنقاذ الحقوق المهدورة ، وقد يدعو الي الحياة الحرة الكريمة في ضمن ذلك ، وقد يكون مقتصرا علي رفض التعاون والتعامل مع الجهات الحاكمة في مؤسساتها ومرافقها ودواوينها بشكل عام.

وأئمة أهل البيت بالتزامهم منهج التقية لدي تفجر حياة القسر والارهاب الدموي ، قد يلتزمون النضال السلبي خطا في عدة طرق ، فينطلقون من مبدأ اضعاف الأنظمة ورفضها ، واحكام عزلتها السياسية من قبلهم ، واشعار الشعب المسلم بانكارهم لأعمال السلطان وأعوان السلطان.

وقد يستقبل الأئمة الوجه المشرق للنضال الايجابي لاقامة دولة العدل ، كما مثل ذلك أميرالمؤمنين الامام علي (عليه‌السلام) في قتاله للناكثين والقاسطين والمارقين.

وقد يكون النضال الايجابي انكارا عمليا لبسط حكام الجور وولاة السوء فيلتجأ الي الكفاح المسلح ، كما مثل ذلك سيدالشهداء الامام الحسين بن علي (عليهما‌السلام) في ثورة الطف.

والامام المعصوم هو صاحب القرار وحدة في هذا الاتجاه أو ذاك بما تمليه عليه ضرورة الوظيفة الرسالية الملقاة علي عاتقه ، دون النظر للعواطف والأحاسيس والانفعالات الذاتية ، فهي بعيد منها ومنزه عنها ، فهو حينما يتصرف فبوحي من التكليف الشرعي ، وبعناية من التسديد الالهي ، ناظرا المصلحة العليا وحدها دون التأثر بالأهواء أو الانصياع للضغوط مهما كان ، وكلا المنهجين الذين يسلكهما الامام لهما منطلق واحد هو الحفاظ علي بيضة الاسلام من وجه ، وقيادة الأمة بأمانة واخلاص من وجه آخر.


فالامام اذن مصدر القرار في الجو السياسي المحموم ، وله البصيرة النافذة بكيفية تنفيذ القرار سلبا أو ايجابا ، فهو قد يتوسط عند السلطان لقضاء حوائج أوليائه ، واستنقاذ حقوق المسلمين ، ولكنه في الوقت نفسه يمانع ممانعة شديدة من الانضواء تحت راية السلطان ، أو الانخراط في ديوانه وحاشيته وبطانته ، فذلك شي‌ء وهذا شي‌ء آخر.

والامام الصامد موسي بن جعفر (عليه‌السلام) قد تبني الأمرين ، وسلك النهج بأناة وروية وتطلع سليم.

كان لرجل من أهل الري بقايا أموال يطالبه بها بعض الولاة ، فطلب للامام أن يسعفه بمفاتحة الوالي في أمره ، فاستجاب الامام ملبيا طلبه. وكتب الي الوالي بالنص الآتي :

«بسم الله الرحمن الرحيم؛ اعلم أن لله تحت عرشه ظلا لا يسكنه الا من أسدي الي أخيه معروفا ، أو نفس عنه كربة ، أو أدخل عليه سرورا ، وهذا أخوك والسلام».

فذهب الرجل برسالة الامام الي الوالي فلبي حاجته ، وما اكتفي بذلك بل قاسمه دينارا بدينار ، ودرهما بدرهم ، وثوبا بثوب ، وأعطاه قيمة ما لم يمكن قسمته ، وهو يقول له :

يا أخي هل سررتك؟ فيقول : أي والله ... (١).

ولما حمل الامام موسي بن جعفر الي هارون الرشيد ، جاء اليه هشام بن ابراهيم العباسي ، فقال للامام : يا سيدي قد كتب لي صك الي الفضل بن يونس ، تسأله أن يروج أمري!!

قال : فركب اليه أبوالحسن (عليه‌السلام) ، فدخل عليه حاجبه ، فقال : يا سيد أبوالحسن موسي بن جعفر بالباب.

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٧٤ عن الاختصاص.


قال : ان كنت صادقا فأنت حر ...

فدخل الامام ، فخرج اليه الفضل بن يونس حافيا ، ووقع علي قدميه يقبلهما ، فقال له الامام : اقض حاجة هشام بن ابراهيم فقضاها (١).

هذه الايجابية بهذه الحدود ، كانت بتقدير الامام وساطة ناجحة لاستباق الخيرات والمسارعة بانجازها ، وقضاء حق من حقوق الأخوة في الله ، وفيها تنفيس كرب واغاثة ملهوف.

ولكن الامام يقف الموقف الصارم والحازم تجاه الانضمام لعمل السلطان ، والانضواء في رف معيته وسطوته.

فقد حدث زياد بن أبي‌سلمة ، قال :

«دخلت علي أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) ، فقال : يا زياد انك لتعمل عمل السلطان؟

قلت : أجل؛ قال لي : ولم؟ قلت : أنا رجل لي مروة وعلي عيال ، وليس وراء ظهري شي‌ء. فقال لي : يا زياد لئن أسقط من حالق فأنقطع قطعة قطعة؛ أحب الي من أتولي لأحد منهم عملا ، أو أطأ بساط رجل منهم ، الا لماذا؟ قلت : لا أدري جعلت فداك ، قال : الا لتفريج كربة عن مؤمن ، أو فك أسرة ، أو قضاء دينه.

يا زياد : ان أهون ما يصنع الله بمن تولي لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار الي أن يفزع الله من حساب الخلائق.

يا زياد : فان وليت شيئا من أعمالهم فأحسن الي اخوانك ، فواحدة بواحدة ، والله من وراء ذلك.

يا زياد : أيما رجل منكم تولي لأحد منهم عملا ثم ساوي بينكم وبينهم فقولوا له : أنت منتحل كذاب.

__________________

(١) ظ : الكشي / الرجال / ٣١١ ، البحار ١٠٩ / ٤٨.


يا زياد : اذا ذكرت مقدرتك علي الناس فاذكر مقدرة الله عليك غدا ، ونفاد ما أتيت اليهم عنهم ، وبقاء ما أتيت اليهم عليك» (١).

ان هذا التحدير المخيف الصادر عن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تجاه مغبة العمل عند السلاطين ، والانخراط في صفوف الظلمة ، لحري بكل مسلم أن يجعله نصب عينيه وهو يتولي المسؤولية في الحكم ، أية مسؤولية أصغيرة كانت أم كبيرة ، لأنه قد ينحرف وتأخذه العزة بالاثم ، أو قد يتيه بولايته علي الآخرين فيضل عن الطريق السوي ، وما أكثر من تورطوا في هذا الانهيار السحيق فتجاهلوا الخدمة العامة ، وحدبوا علي المصالح الذاتية ، ولم يعيروا أذنا صاغية لظلامات الناس ومشكلات الأمة ، فصاروا من جبابرة الأرض ، متجاهلين أن المسؤولية عبارة عن نيابة فعلية عن الشعب يفترض فيها الاحسان الي الاخوان ، وتفريج كروب الانسان ، ودرء أحداث الزمن عن الأسري وذوي الاحتياج ، وما يجري هذا المجري في ضوء توجيه الامام.

ولو استعرضت مصادر حياة الامام في هذا الملحظ الخاص لرأيت عجبا كبيرا فيما يستفز الامام من تولية أبسط الأمور لدي الحاكمين ، وقد لا نري فيها بأسا كثيرا ، ولكنه ينكرها ويشجبها ويستحسن تركها والاعراض عنها. (صفحه ٢٠٨) فهذا صفوان الجمال ، ومنزلته لدي من عاصر من الأئمة غير مجهولة ، وهو علي قدر عظيم ، ومع هذا فان الامام يتجه نحوه بالقول :

«يا صفوان؛ كل شي‌ء منك حسن جميل ما عدا شيئا واحدا!!

قال صفوان : جعلت فداك؛ أي شي‌ء؟

قال الامام : كراؤك جمالك من هذا الطاغية (الرشيد).

قال صفوان : والله ما أكريته أشرا ، ولا بطرا ، ولا للصيد ، ولا للهو ،

__________________

(١) الكليني / الكافي ٥ / ١٠٩ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ١٧٢ ـ ١٧٣.


ولكن أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق الحج ـ ولا أتولاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني.

فقال له الامام : أيقع كراك عليهم؟

قال صفوان : نعم جعلت فداك.

قال الامام : أتحب بقاءهم حتي يخرج كراك؟

فقال الامام : من أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان واردا للنار» (١).

فما كان من صفوان الا أن باع جماله وترك المهنة ، وكان هذا النكير من الامام والتشديد فيه لئلا ينتظم أولياؤه في عداد أولياء الظلمة وأعوانهم ، وهو ما تحرمه الشريعة الغراء.

ولئن حقق الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) عزل النظام في نضاله السلبي هذا ، فانه قد اخترق هذا النظام من الداخل بما لم يسبق اليه تأريخ الامامية السياسي ، وكان ذلك باقرار من الامام ، حيث استطاع اولياءه المقربون أن يصلوا الي أعالي مراكز السلطة ، وأن يكافحوا أمن النظام العباسي ضدهم بالأمن المضاد الذي ستراه في المبحث الآتي

__________________

(١) ظ : الكشّي / الرجال / ٢٧٦.


الامام واختراق النظام العباسي

واخترق النظام العباسي من الداخل علي يد أولياء الامام ويعلم من الامام ، وكان ذلك يحظي باهتمامه ورعايته ومباركته فيما توصلنا اليه.

فهذا علي بن يقطين ذو الشرف الأصيل والولاء العريق لأهل البيت ، وكان أبوه من دعاة الدولة العباسية ، ونشأ ولده بالقرب منهم ، فكانت ثقة العباسيين به متناهية ، واخلاصه ـ في الظاهر ـ لهم متواترا ، فكان من رجال الدولة أيام المهدي والهادي ، وتقلد منصب الوزير الأول في عهد الرشيد ، والامم يسدد خطاه ، ويخترق بوجوده النظام ، ويدعو له ، ويعضد سيرته في اغاثة الملهوفين ، والدفع عن الضعفاء ، وقد طلب الاذن من الامام أن يتخلي عن منصبه هذا ، فنهاه الامام عن ذلك نهيا شديدا ، معللا ذلك ، ومبرمجا له ، بقوله (عليه‌السلام) :

«لا تفعل ، فان لنا بك أنسا ، ولاخوانك بك عزا ، وعسي أن يجبر الله بك كسيرا ، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه ، يا علي : كفارة أعمالكم الاحسان الي اخوانكم ، اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثا ، اضمن لي أن لا تلقي أحدا من أوليائنا الا قضيت حاجته وأكرمته ، وأضمن أن لا يظلك سقف سجن أبدا ، ولا ينالك حد سيف أبدا ، ولا يدخل الفقر بيتك أبدا ، يا


علي من سر مؤمنا فبالله بدأ ، وبالنبي (صلي الله عليه وآله) ثني ، وبنا ثلث» (١).

والامام بهذا النحو من التوجيه ، يبدي تفهمه الدقيق لمهمة علي بن يقطين من خلال موقعه الخطير ، وهو يشجعه علي البقاء فيه ، وهو ينهاه عن الاستقالة منه ، وهو يتوسم فيه جبر الكسير واطفاء نائرة المخالفين عليه ، والامام يلمس منه ايجابية مطلقة ، فيبين له ما يكفر به عن عمل السلطان في الاحسان الي الاخوان ، وقضاء احتياج المؤمن ، ويحدد له بعض الآثار الوضعية في اكرامه لأولياء الله ، ويلخصها له في ثلاث :

الاعتصام من السجن ، والاحتزاز من السيف ، والاستعاذة من الفقر ، فليت أولياء الامام التزموا بذلك لدي تسلمهم لبعض المناصب في الدولة ، ونظروا ببصائرهم لهذه المكاسب الكبري التي يحققها من عمل بنصح الامام وتوجيهه الكريم.

اننا نلمس في سيرة علي بن يقطين ألقا من هدي أهل البيت ووهجا من عمق تطلعهم لحقائق الأشياء ، فهو القدوة في هذا المجال الرفيع ، ومع ذلك نراه يضيق ذرعا بعمل السلطان لئلا يقصر بالتزامه الانساني ، ويكتب للامام : «ان قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان ، فان ، أذنت لي جعلني الله فداك ، هربت منه؟»

ويرد عليه جواب الامام بالنص :

«لا آذن لك بالخروج عن عملهم ، واتق الله ...» (٢).

لقد تراءي للامام بلمح بعيد يعسر رصده علي الكثيرين ، أن بقاء علي بن يقطين في موقعه هو الأصلح لأمور الدنيا والدين ، فهو لا يأذن له في الخروج منه ، ومع ذلك فهو يأمره بتقوي الله ، تأكيدا علي مراقبة النفس من

__________________

(١) المجلسي / بحار الأنوار ٤٨ / ١٣٩ وانظر مصدره.

(٢) ظ : المجلسي / بحار الأنوار ٤٨ / ١٥٨ يرويه عن قرب الإسناد / ١٧٠.


الاصطدام بالأهواء.

ولما قدم الامام (عليه‌السلام) الي العراق في احدي استدعاءاته من قبل الرشيد ، زاره علي بن يقطين ، فشكا الي الامام حاله ، وطلب منه الاذن في التخلي عن منصبه فنهاه الامام ، وقال له : «يا علي ، ان لله أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه ، وأنت منهم يا علي» (١).

ان هذا الاعتداد بعلي بن يقطين يعني أن الامام قد أخلصه لمهمة رسالية يتعاهدها ، ويؤديها علي الوجه الأمثل ، فهو يعتمده في اختراق النظام لا لارادة الحكم بل لانعاش حياة المضطهدين ، ـ وما أكثرهم ـ وانقاذهم من جور السلطان ، وللنظر في شأن أولياء الله من وراء ستار حديدي من السرية التامة من خلال هذا الجندي المجهول ، فهو في الظاهر من رجال النظام ، وهو في الواقع من أولياء الامام ، وأي ولي هذا والامام يشهد له بالجنة ، ويدعو له أن يكون في أعلي عليين.

أورد الأستاذ باقر شريف القرشي : ان ابن يقطين أقبل علي الامام ذات مرة ، فقال الامام :

من أراد أن يري رجلا من أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وآله) فلينظر الي هذا المقبل ، وأشار الي علي ، فقال بعض من حضر :

أو في الجنة؟ قال الامام : أما أنا فأشهد أنه من أهل الجنة. وقال الامام في مورد آخر : ضمنت لعلي بن يقطين أن لا تمسه النار أبدا. بل وأكثر من هذا ، فقد دعا له الامام ، وهو علي الصفا بقوله :

«الهي؛ في أعلي عليين ، اغفر لعلي بن يقطين» (٢).

ان هذه الرعاية التامة لهذا الرجل تعبر عن مدي ما قدمه من خدمات

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٨٧.

(٢) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٢٨٧.


للأمة ، وما وفي به من التزامات للامام ، وما أسداه من أعمال جباره تجاه الشعب الضائع في عواصف النظام ، مما استحق معه هذا الثناء العاطر والدعاء العظيم.

وهذا يلزمنا جميعا أن نتوجه هذا التوجه في رعاية شؤون الناس ، ومتابعة احتياج الآخرين ، كل بحسب موقعه من المنصب والمكانة والجاه ، والا فهي الأيام القصيرة مهما طالت ، ومن وراثها المساءلة والمحاسة فيما قدم الانسان وما ترك.

ولسنا ندري بالضبط حجم هذه المكرمات التي انتهجها ابن‌يقطين في خلال منصبه ، ولسنا نعلم مدي اتساع عطائه الانساني وهو علي رأس السلطة ، لأن أعماله محاطة بكثير من الكتمان لئلا يفتضح أمره لدي السلطان ، الا أننا نستشعر أهميتها القصوي من خلال اعتداد الامام به ، ومتابعته من قبله في تصرفاته ، وتسديده له في كثير من شؤونه التي يقصر ادراكها الا بعد حين ، ناظرين بذلك ما ذكره الشيخ المفيد (ت ٤١٣ ه) وهو أقرب الي عهد الامام ، وما يرويه لنا نعتبره من أصول الروايات.

أولا : روي عبدالله بن ادريس عن ابن منان ، قال : حمل الرشيد في بعض الأيام الي علي بن يقطين ثيابا أكرمه بها ، وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك. فأنفذ ابن‌يقطين بالدراعة وبعض الثياب الي الامام الكاظم (عليه‌السلام) ومعها خمس ماله ، فلما وصلت ، قبل الامام الثياب والمال ، ورد الدراعة ... وكتب اليه : أن احتفظ بها ...

فلما كان بعد أيام تغير علي بن يقطين علي غلام فصرفه ... فسعي به الي الرشيد ، وقال : انه يقول بامامة موسي بن جعفر ، ويحمل اليه خمس ماله في كل سنة ، وقد حمل اليه الدراعة ... فأنفذ الرشيد الي ابن‌يقطين من


يحضره ... فحضر ... قال له : ما فعلت بالدراعة؟ .. قال هي عندي في سفط مختوم ...

قال الرشيد : أحضرها الساعة ،

فاستدعي بعض خدمه وقال له : ... افتح الصندوق الفلاني ، وجئني بالسفط الذي فيه بختمه ، فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط مختوما ، فوضع بين يدي الرشيد ... ففتح ونظر الي الدراعة فيه بحالها ... فقال لعلي بن يقطين : أرددها الي مكانها ، وانصرف راشدا ، فلن أصدق عليك بعدها ساعيا ، وأمر أن يتبع بجائزة سنية ، وتقدم بضرب الساعي ألف سوط ، فضرب نحوا من خمسمائة سوط ، فمات في ذلك (١).

ولك أن تسأل : أني توافر هذا العلم بهذه الحال في الاستدعاء والسؤال عن الدراعة من قبل الامام؟ وكيف احتاط الامام لذلك بهذه الصورة التي حكمت ببراءة ابن‌يقطين يمثل هذا الموقف الحرج؟

ولنا أن نجيب : ان هذا العلم لدي الامام قد فتح عليه كما تقدم في موارد علم الامام ـ من ذلك الباب الذي فتح لجده أميرالمؤمنين (عليه‌السلام) «علمني رسول الله ألف باب من العلم ، يفتح لي من كل باب ألف باب» (٢). واذا كان الأمر كذلك ، وهو كذلك ، فقد انتفي الاستغراب والعجب والاستبعاد ، وليس هو بأعجب مما ترويه الحادثة الأخري في الموضوع نفسه.

ثانيا : روي محمد بن اسماعيل عن محمد بن الفضل ، قال : اختلفت الرواية بين أصحابنا في الوضوء ، فكتب علي بن يقطين بذلك للامام ، فكتب اليه الامام : فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي أمرك

__________________

(١) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٢) ظ : الشيخ المفيد / الاختصاص ٢٨٢ ـ ٢٨٣ في طرق وأسانيد هذا الحديث ، وبما روي فيه عن الأئمة (عليهم‌السلام) بعبارات متقاربة.


به في ذلك : .... أن تغسل وجهك ثلاثا ، وتخلل شعر لحيتك ، وتغسل يدك من أصابعك الي المرفقين ، وتمسح رأسك كله ... وتغسل أصابعك الي المرفقين.

فلما وصل الكتاب عجب بما رسمه له ... ثم قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثل أمره ...

وسعي بعلي بن يقطين لدي الرشيد ، فقيل له : اختبره بالوضوء ... فلما دخل وقت الصلاة ، وقف الرشيد وراء حجاب ينظر وضوءه ، فتوضأ علي الصورة التي رسمها له الامام. فقال الرشيد : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة.

وورد علي ابن‌يقطين كتاب الامام (عليه‌السلام) :

«ابتداء من الآن يا علي بن يقطين توضأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرة فريضة ، وأخري اسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح مقدم رأسك ، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك ، والسلام» (١).

ومع كل هذه المنزلة لعلي بن يقطين عند الامام ، فقد يجابهه بما يصحح سيرته ، ويخفف من غلوائه ، رائده في ذلك ايقافه عند المنهج السوي الذي لا يحاد عنه ، فقد حجبه ، وامتنع عن مقابلته ، لأنه حجب ابراهيم الجمال ، وهو من أولياء الامام.

فقال علي بن يقطين للامام موسي بن جعفر : يا سيدي ما ذنبي؟

فقال (عليه‌السلام) : حجبتك لأنك حجبت أخاك ابراهيم الجمال.

وقد أبي الله أن يشكر سعيك ، أو يغفر لك ابراهيم الجمال.

فدخل علي بن يقطين علي ابراهيم داره ، وقال له : ان المولي أبي أن

__________________

(١) ظ : الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٠ ـ ٣٣١.


يقبلني أو يغفر لي.

فقال إبراهيم : يغفر الله لك ، فألحّ علي بن يقين عليه أن يطأ خدّه ، ففعل ذلك بعد ممانعة ، فقبله الإمام بعد هذل (١).

ومن هنا نستشعر أن رعاية الإمام لعلي بن يقطين لم تكن لذابه ، وإيما كانت بأسباب موضوعية أهمها أن يكون عند حسن ظن القاصدين من ذوي المشكلات ، وأن يكون في تواضع المؤمن لدى استقبال ذوي الدين ، وأن يكون لإخوايه حصناً منيعاً تردّ به عاديه الزمن.

وبتوافر هذه الشروط وإمثالها ، يكون العمل عند السلطان مبرراً ، ويكون الاندماج كلياّ بهذه الشروط ضرورياً لتنفيذ ذلك ، فبهذا وذاك دفع الظلامة وإقرارالعدالة وتلبية الاحتياج ، وهذا كلّه هو الذي يسوع اخبراق البظام من الداخل لهدف أسمى.

وهكذا بمكن الإمام موسى بن جعفر عليه السالم ، وبشكل إيجابي بنّاء ، أن يتجاوز كثيراً من العبات التي اعترضت مسيرته النضالية والعلمية من خلال أوليائه الأمناء.

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٨٥.


الامام ومجابهة الانحراف والتضليل الديني

ومع الصورة الناصعة لأدب المجاملة الفاعل لدي الامام ، وحفاظه المتكامل علي شعيرة التقية الواجبة ، الا أننا نجده وباصرار قد يجابه المركز الأول في السلطة مجابهة صريحة صارمة ، اذا اقتضت الضرورة الدينية ذلك ، واذا كان لابد من الاصحار بالرأي الخارق للأباطيل.

نلمس هذا الاتجاه عند الامام متجاوب الأصداء اذا حاذر من التضليل الديني وخداع المسلمين ، ليصد بذلك الانحراف المتعمد ، ويصون الحقيقة الكبري من الابتذال والضياع.

ومبدأ المجابهة لاعلاء كلمة الحق لدي الامام من خصائصه الثابتة التي أذهلت الكثيرين في عصره ، لأنها ـ عادة ما ـ تكون بأشد اللحظات حراجة ، وعند أصعب المجالات محاججة ، وهي قد تستلزم التضحية ، وتتطلب الجرأة العالية ، وتعني قطع خطوط العلاقات القائمة.

وسجل الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حافل بهذا التوجه الفريد اذ كان لابد منه لتمييز الواقع عن الدجل ، وتخليص الحق من الشوائب ، وكشف الأقنعة دون محاباة.


فحينما دخل الرشيد المدينة توجه الي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله) ومعه الناس ، فتقدم الرشيد نحو القبر وقال :

السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يابن العم ـ مفتخرا بذلك علي غيره ـ فتقدم الامام موسي بن جعفر الي القبر ، وقال :

السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبتاه.

فتغير وجه الرشيد ، وتبين الغيظ فيه (١).

ان الملحظ الدقيق لهذه الحادثة يشير الي أن الرشيد أراد اضفاء صيغة الشرعية علي خلافته ، لأنه ابن عم رسول الله (صلي الله عليه وآله) فأراد الامام ابطال ذلك ، واحتج علي الرشيد بلغته نفسها ، فسلم علي النبي (صلي الله عليه وآله) باعتباره أباه ، فهو أولي بالشرعية ـ اذن ـ من الرشيد.

وكان الرشيد كثيرا ما يفتح الحوار مع الامام ، بيد أنه يتحري مواطن الاحراج في ذلك ، وكان الامام بين خيارين : اما أن يغضب السلطان ، واما أن تشوه الحقائق ، فكان الامام (عليه‌السلام) يختار الخيار الأول ، وكان هذا قدره عند الحاكمين.

قال الرشيد للامام : لم زعمتم أنكم أقرب الي رسول الله (صلي الله عليه وآله) منا ، وأنتم بنو علي ... والنبي جدكم من قبل أمكم؟

فقال الامام : لو أن النبي (صلي الله عليه وآله) نشر فخطب اليك كريمك هل كنت تجيبه؟

فقال الرشيد : سبحان الله! ولم لا أجيبه؟ بل أفتخر علي العرب والعجم وقريش بذلك.

فقال الامام : لكنه (عليه‌السلام) لا يخطب الي ، ولا أزوجه.

فقال : لم؟

__________________

(١) الطبرسي / الاحتجاج / ٢١٤ ، البحار ٤٨ / ١٠٣.


فقال الامام : لأنه ولدني ولم يلدكم (١).

وفي رواية : ان الامام قال للرشيد في هذه المسألة أو سواها :

هل يجوز أن يدخل علي حرمك ـ يعني النبي ـ وهن منكشفات؟

فقال لا ، قال الامام : لكنه يدخل علي حرمي كذلك ، وكان يجوز له (٢).

ويبدو أن مسألة النسب كانت الذريعة الوحيدة لبني العباس ، لاثبات أنهم أولي بالنبي من أهل بيته ، لكثرة ما سألوا الامام عن ذلك عسي أن يفحم ، ولكنهم كانوا في وهم ، فمتي كل الأئمة عن الاجابة في شي‌ء؟

سأل الرشيد الامام : كيف قلتم أنا ذرية النبي ، والنبي لم يعقب ، وانما العقب للذكر لا للأنثي ، فائتني بحجة من كتاب الله ...

فقال الامام : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكريا ويحيي وعيسي ...) (٣).

من أبوعيسي؟ فقال : ليس لعيسي أب.

فقال الامام : «انما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم‌السلام) من طريق مريم وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلي الله عليه وآله) من قبل أمنا فاطمة.

وزاده الامام قوله (تعالي) : (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين) (٤).

ولم يدع أحد أن النبي أدخل تحت الكساء الا علي بن أبي‌طالب ،

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) ظ : الآبي / نثر الدر ١ / ٣٥٩.

(٣) سورة الأنعام / ٨٤ ـ ٨٥.

(٤) سورة آل‌عمران / ٦١.


وفاطمة ، والحسن والحسين ، وكان تأويل قوله عزوجل «أبناءنا» الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا علي بن أبي‌طالب ، ان العلماء قد (صفحه ٢١٨) أجمعوا علي أن جبرئيل قال يوم أحد : يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي. قال : لأنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما يا رسول الله ، ثم قال : لا سيف الا ذوالفقار ولا فتي الا علي ...» (١).

وكان الرشيد قد جند لقضية البنات ووراثة الأعمام شعراء البلاط العباسي وفقهاء السلاطين ، لاثبات أن قرابتهم للنبي أولي من قرابة أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وقد تولي كبر ذلك مروان بن أبي‌حفصة قائلا :

أني يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

 فرده جعفر بن عفان الطائي ، وكان يلعن مروان ويقبح قوله ، وأجابه :

لم لا يكون وان ذاك لكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

 للبنت نصف كامل من ماله

والعم متروك بغير سهام

 ما للطليق ... وللتراث ...

وانما صلي الطليق مخافة الصمصام (٢).

وهي قضية باءت بالفشل ، ولم تكن لتنطلي علي الشعب المسلم.

وكان الأسلوب الاستفزازي للرشيد الذي يجابه به الامام ، يدعو الامام أن يجيب بصراحة متناهية ، وذلك بسبب من الاحراج الكبير الذي تثيره هذه الأسئلة ، فتجعل الامام مضطرا لبيان الأمر الواقع علي حقيقته المجردة ،

__________________

(١) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٨١ ، البحار ٤٨ / ١٢٨.

(٢) ظ : الأصبهاني / الأغاني ١٠ / ٩٤ وما بعدها.


ولكنه يسنده الي القرآن العظيم الذي هو عدله.

قال الرشيد للامام موسي بن جعفر : أسألك عن العباس وعلي ، بم صار علي أولي بميراث رسول الله (صلي الله عليه وآله) من العباس ، والعباس عم رسول الله ، وصنو أبيه؟

قال الامام : «ان النبي (صلي الله عليه وآله) لم يورث من قدر علي الهجرة فلم يهاجر ، وان عليا (عليه‌السلام) آمن وهاجر ، وقال الله :

(والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي‌ء حتي يهاجروا)» (١) «فالتمع وجه الرشيد وتغير» (٢).

وأضاف في البحار ، فسأله الرشيد : أسألك يا موسي ، هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا؟ أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشي‌ء؟

فقال الامام : «اللهم لا ....» (٣).

وتارة أخري يحرج الرشيد الامام بتنطعه في السؤال ، وقد يستعفيه الامام من ذلك ، ولكن الرشيد يصر اصرارا كبيرا ، ويعطي الامام الأمان ، فكان لابد للامام من الجواب.

قال الرشيد : لم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلي الله عليه وآله) والعم يحجب ابن العم ، وقبض رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقد توفي أبوطالب قبله والعباس حي؟ ...

قال الامام : ان في قول علي بن أبي‌طالب (عليه‌السلام) : اذ ليس مع ولد الصلب ـ ذكرا كان أو أنثي ـ لأحد سهم الا للأبوين والزوج والزوجة ، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب (٤).

وبمثل هذا العنت ، وبمثل هذه الأسئلة ، وبمثل هذه الاجابة ، كان قلب

__________________

(١) سورة الأنفال / ٧٢.

(٢) ابن شعبة / تحف العقول / ٣٠٢.

(٣) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٧.

(٤) المصدر نفسه ٤٨ / ١٢٦.


الرشيد يمتلي‌ء حقدا علي الامام ، والامام يعلم ذلك ، ولا يستطيع الا قول الحق ، اذ ليس مما ليس منه بد ، وهكذا يشكل الامام موقفا حاسما لا تردد فيه ولا اضطراب.

ولم تكن مجابهة الامام (عليه‌السلام) لفقهاء البلاط العباسي بأقل شأوا من مجابهته للسلاطين ، فقد أورد الشيخ المفيد : ان محمد بن الحسن الشيباني سأل الامام موسي بن جعفر بمحضر من الرشيد وهم بمكة؛ قال له : أيجوز للمحرم أن يظلل عليه محمله؟

فقال الامام (عليه‌السلام) : لا يجوز له ذلك مع الاختيار. فقال محمد بن الحسن : أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا؟

فقال له الامام : نعم ، فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك.

فقال له الامام الكاظم (عليه‌السلام) : أفتعجب من سنة النبي (صلي الله عليه وآله) وتستهزي‌ء بها؟ ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) كشف ظلاله في احرامه ، ومشي تحت الظلال وهو محرم ، وان أحكام الله يا محمد لا تقاس ، فمن قاس بعضها علي بعض فقد ضل سواء السبيل. فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا (١).

وقد يفجأ الامام هؤلاء بنوع من علمه لا تصل اليه أحلامهم ، ولا ترقي الي ادراكه عقولهم ، فقد ورد في عدة مصادر :

أن أبايوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني زار الامام في السجن ، وقال أحدهما للآخر : نحن علي أحد أمرين؛ اما أن نساويه أو نشكله ، فجلسا بين يديه ، فجاء رجل كان موكلا بالامام من قبل السندي ، فقل : ان نوبتي قد انقضت وأنا علي الانصراف ، فان كان لك حاجة أمرتني حتي آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة؛ فقال : مالي حاجة.

فلما أن خرج ، قال الامام لأبي‌يوسف وصاحبه :

__________________

(١) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٤ ـ ٣٣٥.


ما أعجب هذا؟ يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع ، وهو ميت في هذه الليلة!!

فقاما ، وقال أحدهما للآخر : انا جئنا لنسأله عن الفرض والسنة؛ وهو الآن جاء بشي‌ء آخر كأنه من علم الغيب!!

ثم بعثا برجل مع الرجل ، فقالا : اذهب حتي تلزمه ، وتنظر من أمره في هذه الليلة ... فمضي الرجل فنام في مسجد في باب داره ، فلما أصبح سمع الناعية ورأي الناس يدخلون داره ، فقال : ما هذا؟

قالوا : مات فلان في هذه الليلة ... فانصرف الرجل الي أبي‌يوسف ومحمد وأخبرهما الخبر ، فأتيا أباالحسن (عليه‌السلام) ، فقالا : قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام ، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت الليلة؟

قال الامام (عليه‌السلام) : من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (صلي الله عليه وآله) علي بن أبي‌طالب (عليه‌السلام).

فلما رد عليهما هذا ، بقيا لا يحيران جوابا (١).

وهذا باب ملتئب لدي الامام فيه عشرات الأحداث شواهد علي الاخبار بعلم المنايا وآجال الناس ، وكأنها مرهونة بكلامه ، ولا تخطي‌ء ولا مرة واحدة ، ودلائلها منتشرة في أمهات المصادر ، وقد تقدم قسم كبير منها علم الامام الموهبي ، ومنها :

عن اسحاق بن عمار ، قال : سمعت العبد الصالح أباالحسن (عليه‌السلام) ينعي الي رجل نفسه ، فقلت في نفسي : وانه ليعلم متي يموت الرجل من شيعته؟

فقال الامام شبه المغضب : يا اسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم

__________________

(١) ظ : الراوندي / الخرائج والجرائح / ٢٠٢ ، البحار ٤٨ / ٦٤ ـ ٦٥.


المنايا والبلايا ، فالامام أولي بذلك (١).

وفي رواية أخري عن اسحاق أيضا قال :

كنت عند أبي‌الحسن (عليه‌السلام) ، ودخل عليه رجل فقال له أبوالحسن : يا فلان انك تموت الي شهر.

قال : فأضمرت في نفسي كأنه يعلم آجال شيعته؟

فقال الامام : «يا اسحاق ، وما تنكرون من ذلك؟ وقد كان رشيد الهجري مستضعفا ، وكان يعلم علم المنايا والبلايا ، فالامام أولي بذلك ، ثم قال ، يا اسحاق تموت الي سنتين ، ويتشتت أهلك وولدك وعيالك ، وأهل بيتك ...» (٢).

ولا نريد الاسترسال في هذا الشأن لئلا نخرج عن صلب الموضوع.

وفي ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الامام في اللحظات الحاسمة؛ لا يتردد مطلقا في ابداء الحقائق مجردة حذر التضليل.

__________________

(١) الصفار / بصائر الدرجات ٦ / ٧٣.

(٢) المجلسي / البحار ٤٨ / ٥٤ عن المصدر السابق ٦ / ٧٣.



الفصل السابع

الامام في غياهب السجون

١ ـ رؤية مجهرية لأسباب سجن الإمام.

٢ ـ إيديو لوجية تنقل الإمام بين عدة سجون.

٣ ـ حياة الإمام في طوامير السجون.

٤ ـ الإمام يوصي بأموالهو يوقف أراضيه.



رؤية مجهرية لأسباب سجن الامام

رأيت فيما سبق بيانه في الفصول المتقدمة ، ما كان عليه الامام من عظيم المنزلة وسمو الذات ، وما احتل من شعبية عند الجماهير ، وما هو عليه من كيان رفيع لدي العلماء وقادة الفكر وحملة القرآن ورجال الحديث ، وما امتاز به من الخلق العظيم وكريم الشمائل ، وما جبل عليه نفسه من كظم الغيظ وضبط النفس وسخاء اليد ، وما عرف به من الحلم والصبر الجميل. وفوق هذا كله توجه النظر العقلي الي قيادته الدينية وامامته الشرعية ، يضاف الي ذلك اندماجه الكلي في ذات الله ، ونفاذ بصيرته بأمر الله ، وتمتعه بتلك القابليات الفذة من العلم الفياض بشقيه الكسبي واللدني ، وكونه الامام الماثل الذي تشخص نحوه الأبصار عند الأزمات والملمات.

وقد رأيت فيما مضي آراء الأساطين والفحول وهي تقوم فضله وتشيد بمكارم أخلاقه وتنص علي خصائصه ومميزاته.

كل أولئك مؤشرات بارزة السمات في حياة الامام ، وقيادة الامام ، ومكونات شخصية الامام.

والرشيد في تركيبه النفسي المعقد ، وفي طبيعة ما جبلت عليه ذاته


من الأنانية ، وما اشتملت عليه تصرفاته الدالة علي حقده الدفين لأهل البيت (عليهم‌السلام) ، وهو في قرارة نفسه يعلم من هو الامام ، ويقر بما للامام من مثل وقيم لا تتوفر في سواه ، وهو يري تدافع الفقهاء والمحدثين وأهل العلم علي جامعة الامام ، وهو يري مدرسة الامام تشق طريقها في التشريع والحياة والاجتماع ، وهو يري شطر المسلمين يقولون بامامة موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، حتي عاد الامام حديث المجالس والأندية ، وشغل المحافل والدواوين.

وهذا كله من أبرز العوامل المساعدة علي استفزاز الرشيد. والرشيد أحرص الناس علي الحياة ، وأحب الناس للسلطان ، وأشد الناس طلبا للملك ، فقد تسلمه بعد هن وهن ، فهو لهذا لا يتورع عن اقتراف أية جريمة مهما كان نوعها ، للابقاء ـ فيما زعم ـ علي الحكم ، وقد هاله هذا الزخم الهائل من فضائل الامام ، وقد روعه ذلك الرصيد الشعبي للامام ، فهو يحمي ملكه ، ويبقي علي نفسه ، فيما يعتقده عندما يقدم علي اعتقال الامام.

يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

«لقد كان هارون يقظا ، فكان يخرج بغير زيه متنكرا ليسمع أحاديث العامة ، ويقف علي اتجاهاتهم ورغباتهم ، فكان لا يسمع الا الذكر العاطر للامام والثناء عليه ، وحب الناس له ، ورغبتهم في أن يتولي شؤونهم ، فلذلك أقدم علي ارتكاب الموبقة» (١).

وكانت البنية الخلفية للرشيد تتكي‌ء علي تركيب متدهور مريض ، يفيض لؤما وحساسية من أهل هذا البيت الكريم ، وهذا موسي بن جعفر زعيم العلويين وكبير الطالبيين ، وهذا هو موقعه من الأمة وتلك مآثره في الآفاق ، وأولاء شيعته في الحياة ، فلماذا يبقي طليقا؟ وهو مصدر قلق وهلع ، ولماذا

__________________

(١) باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٥٠.


لا يسجن؟ عسي أن تتفرق الجموع ، وتتلاشي المخاوف ، ويثبت السلطان.

علي حين رأينا الامام في سيرته ومسيرته : صاحب دين لا صاحب دنيا ، ورائد ايمان لا رائد سلطان ، ورجل رسالة لا رجل سلطة. ولم تكن هذه الحقائق لتثني الرشيد عن عزمه في القضاء علي الامام.

وكان للسعاية والوشاية أثرهما في حنق الرشيد علي الامام ، فبعض الأخبار تعزو سبب ذلك ليحيي بن خالد البرمكي ، فقد سعي بالامام لدي الرشيد ، لأن الرشيد جعل ابنه الأمين في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث وهو امامي ، فساء ذلك يحيي ، واعتقد أن دولته ودولة أبنائه ستنتهي لدي تولي الأمين الخلافة ، فهو سيستوزر ابن الأشعث باعتباره أستاذه ، فسعي به الي الرشيد بحجة : أنه لا يصل اليه مال الا أخرج خمسه ووجه به الي موسي بن جعفر ... فبعث الرشيد من يكتشف له أمر هبة أعطاها لابن الاشعث وهي عشرون ألف دينار ، فأدخل عليه بعد الترويع ليلا ... قال له : انك تبعث الي موسي بن جعفر من كل ما يصير اليك بخمسه ، وانك قد فعلت ذلك في العشرين ألفا ، فأمر باحضارها علي حالها.

وجعل يحيي يحتال في اسقاط جعفر ، فأرسل الي علي بن اسماعيل بن جعفر (وقيل محمد بن جعفر) وقال له : أخبرني عن عمك ، وعن شيعته ، وعن المال الذي يحمل اليه ... فقال : ان من كثرة ماله أنه اشتري ضيعة بثلاثين ألف دينار ، فقال البائع : لا أريد هذا المال ، وأريد نقدا آخر ، فأمر بها الامام فصبت ببيت ماله ، وأعطاه ذلك النقد الآخر ... فلما أراد الرشيد الرحلة الي العراق ، بلغ الامام أن عليا ابن أخيه يريد الخروج مع السلطان ، فأرسل اليه : مالك والخروج مع السلطان؟ قال : لأن علي دينا.

قال الامام : دينك علي. قال : وتدبير العيال؟

قال : أنا أكفيهم.


فأبي الا الخروج ، فأرسل اليه الامام بيد أخيه محمد بن جعفر بثلاثمائة دينار ، وأربعة آلاف درهم ، فقال :

اجعل هذا في جهازك ولا توتم ولدي (١).

وفي رواية أخري أن محمد بن جعفر دخل علي الرشيد ثم قال له :

ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتي رأيت أخي موسي بن جعفر يسلم عليه بالخلافة.

وكان ممن سعي بالامام يعقوب بن داود وكان يري رأي الزيدية (٢).

وقيل : ان الواشي بالامام عند الرشيد : محمد بن اسماعيل بن جعفر (٣).

وقد تعتبر هذه الوشاية أو تلك بداية المبررات لسجن الامام من قبل الرشيد ، أو في الأقل من المشجعات عليه.

بينما يري الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين أن سبب سجن الامام كان مرتبطا بحج الرشيد أول مرة بعد استخلافه ، وزيارته قبر النبي ، وقوله : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا بن العم.

فتقدم الامام الي القبر ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبه.

فتغير وجه الرشيد ، وتبين الغيظ فيه فكتمه ، وقال : هذا هو الفخر يا أباالحسن.

والمستنبط من مجموع روايات هذه الحادثة ، وقد وردت في عدد غير قليل من المصادر المعتمدة (٤) أن الرشيد قد صدمته هذه المفاخرة الصريحة أو المباهلة الجريئة ، فأفسدت عليه مشاعر التعالي ولذة المباهلة ، وحرمته

__________________

(١) ظ : الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٦٩ باختصار.

(٢) المصدر نفسه ١ / ٧٢.

(٣) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٦.

(٤) رويت هذه الحادثة في أكثر من عشرين مصدرا معتمدا.


من توهم قدرته علي خداع السامعين والمشاهدين بأنه أقرب الناس الي رسول الله (صلي الله عليه وآله) ويكون الأحق بالخلافة بحكم هذه القربي المتصلة الوشائج.

ويبدو أن الامام قد أحس بهدف الرشيد من هذا الاعلان ، فبادر الي اعلام جماهير الحاضرين : بأنه الأقرب رحما ونسبا ، والألصق لحمة وسببا ، وأنه ابن رسول الله (صلي الله عليه وآله) حقا علي رغم زيف المزيفين ، وتضبيب المضببين. وتدلنا الأخبار المعنية بهذا الموضوع أن الرشيد بعد أن كتم غضبه وغيظه ، لم يستطع نسيان ذلك أو اغفال أمره ، بل يظهر بجلاء أن تلك المجابهة العنيفة المؤدبة من الامام موسي بن جعفر ، قد هيمنت علي نفس الخليفة وأفكاره فأصبحت شغله الذهني الشاغل (١).

ومهما يكن من أمر ، فقد يكون هذا هو السبب الرئيسي في اعتقال الامام ، ويضاف اليه : أن لشخصية الامام القيادية أثرا كبيرا في اعتقاله ، لأنه صاحب الكيان المتميز في الشعب المسلم.

ولحقد الرشيد أثره الفاعل في اعتقال الامام ، وللسعايات أثرها في التعجيل باعتقال الامام ، ولحاشية السوء وبطانة الشر الأثر الكبير في تهييج الأحاسيس المضادة للامام ، كما أن للأطماع سبيلها الي ذلك كله ، فقد أجيز علي بن اسماعيل بمائتي ألف درهم ، فجي‌ء بها اليه وهو في النزع الأخير ، اذ زحر زحرة خرجت بها حشوته وأمعاؤه ، فقال : ما أصنع بالمال وأنا في الموت (٢).

وقد اعتبر الأستاذ باقر شريف القرشي أن أهم أسباب اعتقال الرشيد للامام : سمو شخصية الامام ـ حقد هارون علي الامام ـ حرص الرشيد علي الملك ـ بغضه للعلويين ـ الوشاية بالامام ـ احتجاج الامام علي الرشيد ـ

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٧٠ ـ ٧١.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٣٢.


تعيين الامام لحدود فدك ـ صلابة موقف الامام موسي بن جعفر (١).

وأخيرا أقدم الرشيد علي فعلته النكراء فكان سفيها حقا ، فحج البيت مبتدئا بقبر النبي (صلي الله عليه وآله) مخاطبا له :

«يا رسول الله؛ اني أعتذر اليك من شي‌ء أريد أن أفعله ، أريد أن أحبس موسي بن جعفر ، فانه يريد التشتت بين أمتك وسفك دمائها» (٢).

ولست أدري كيف يقبل عذره؟ أو يقبل رسول الله عذره؟ وهو يريد اعتقال بضعة منه ، ومن ذا الذي يصدق هذا السفه اللا مسؤول الذي أطلقه الرشيد علي عواهنه؟ ومتي أراد الامام تشتيت الأمة وهو الداعي الي وحدتها ، ومتي أراد سفك دمائها؟ والحل والعقد بيد أبناء الطلقاء من العباسيين.

ان هذا الاعتداء السافر علي حرمة رسول الله (صلي الله عليه وآله) كان علي مسمع ومشهد من المسلمين ، وهم يستمعون ذلك ويسخرون منه ، والرشيد ينتهك الحرمة ومقاييس الأدب بحضرة الرسول الأعظم ، والامام تقطع عليه صلاته ولا يمهل لاتمامها ، ويؤخذ مكبلا بالحديد من مسجد جده ، وهناك قبتان ضربت من دونهما الأشعار ، لا يعلم الامام بأيهما هو ، وتؤخذ واحدة بطريقها الي البصرة ، والأخري نحو الكوفة ، ليعمي علي الناس خبره ، وكان الامام في التي مضت الي البصرة (٣). (صفحه ٢٢٩) وهكذا ينتزع الامام جهارا من مدينة جده ، ويتولي شؤونه في مسيرة هذا زمرة من الغلاظ الشداد ، حيث تنتظره معتقلات الطاغية. وكان الامام قد استدعي الي بغداد في عهد المهدي وسجن في بغداد ، فليس السجن علي الامام بجديد (٤).

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٤٣ ـ ٤٦٠.

(٢) المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٣٢.

(٣) ظ : تفصيلات ذلك؛ المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٣٢.

(٤) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٢٧ ، ابن كثير / البداية والنهاية ١٠ / ١٥٣ ، القندوزي / ينابيع المودة / ٣٨٢.


ايديولوجية تنقل الامام بين عدة سجون

كان الهدف الاستراتيجي من عملية سجن الامام ـ فيما يحسب الرشيد ـ هو تضييع خبر الامام ، وايقاف زحفه الهادر ، سي أن يتناساه الناس ، وتمحي صورته عن الذاكرة ، ومن ثم يتم تنفيذ المخطط اللا انساني باغتياله مع سبق الاصرار ، دون أدني ريب.

ولم يكن الامام بالشخص الذي يتجاهل تأثيره الحكام ولا الطغاة ، ولا هو بالرجل الاعتيادي الذي ان حضر لا يعد ، وان غاب لا يفتقد ، فالصورة علي العكس تماما ، فهو في ضمير الناس أمثولة تقتدي ، وهو في حياة الناس الامام البر التقي النقي ، وهو في الميدان العام سيد الموقف ورائد الحق الصريح ، والسجن في مثل هذا الواقع الشاخص لا يغير شيئا من منزلة الامام ، ولا يطوي صفحة لذكر الامام ، ولا يحقق غاية يسعي لها النظام ، فآثار الامام في حياة المجتمع المسلم لا تختفي بحال من الأحوال.

ولم يكن الاستعجال بقتل الامام يمثل خطة سليمة في نظر الرشيد ، فكان السجن هو الاختيار الأمثل عنده ، عسي أن يكون السجن بديلا يستطيع فيه القضاء علي ذيوع شهرته ، وعسي أن يقال : مرض ، واعتل ، أو

__________________

+القندوزي / ينابيع المودّه / ٣٨٢.


مات حتف أنفه ، ليتخلص من أية مسؤولية.

هكذا أراد الرشيد ، وهكذا خطط الرشيد.

وذهبت مصادر دراسة حياة الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) الي أن سجونه قد تعددت وتكررت ، وأن مواضعها قد تنوعت وتوزعت ، وأنه سجن في البصرة مرة ، وسجن في بغداد مرات. وكان في البصرة في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور الدوانيقي ، وهو والي البصرة من قبل الرشيد ، وقد نظر في شأن الامام وأمره ، فذهل الرجل بعبادته وانابته ، وأعجب بصبره وخلقه الرفيع ، واستمع الي الامام في دعائه ، واذا به يقول :

«اللهم ، انك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت ، فلك الحمد» (١).

وكان عيسي بن جعفر ـ فيما يبدو ـ عاقلا متأنيا ، فما أراد أن يتورط في شي‌ء من أمر الامام ، ويبدو أن الامام كان عنده موسعا عليه في سجنه ، وقد أتيحت له فيه الحرية بعض الشي‌ء ، اذ تمكن جملة من رواة الحديث من الاتصال بالامام والاستماع اليه ، وكان منهم ياسين الزياتي ، فقد روي عن الامام بعض الأحكام وهو في سجن البصرة.

ومكث الامام في سجن البصرة سنة ، فتململ عيسي بن جعفر بذلك ، ثم كتب الي الرشيد : أن خذه مني ، وسلمه الي من شئت ، والا خليت سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما أقدر علي ذلك ، حتي اني لأتسمع عليه اذا دعا ، لعله يدعو علي أو عليك ، فما أسمعه يدعو الا لنفسه ، يسأل الرحمة والمغفرة. فوجه الرشيد من تسلمه منه (٢).

ويبدو أن هذه الرسالة من عيسي الي الرشيد قد كتبت بعد أن اضطرب

__________________

(١) ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٢ ، البحار ٤٨ / ١٠٧.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٣٣.


الوضع بالبصرة احتجاجا علي سجن الامام ، وقد بلغ الرشيد ذلك ، فبادر بالطلب الي عيسي أن يقوم باغتيال الامام (عليه‌السلام) فجمع عيسي مستشاريه وعرض عليهم أمر الرشيد ، فحذروه من قتل الامام فاستجاب لهم ، وقد كان كارها لذلك ، وكتب الي الرشيد يستعفيه من هذه المهمة ، ويدل علي هذا الرسالة المفصلة التي بعث بها عيسي الي الرشيد ، يقول فيها :

يا أميرالمؤمنين ، كتبت الي في هذا المجال ، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه ، لينظروا حيلته وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الانسان مجري الدم ، فلم يكن منه سوء قط ، ولم يذكر أميرالمؤمنين الا بخير ، ولم يكن عنده تطلع الي ولاية ، ولا خروج ، ولا شي‌ء من أمر الدنيا ، ولا دعا قط علي أميرالمؤمنين ، ولا علي أحد من الناس ، ولا يدعو الا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين ، مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فان رأي أميرالمؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفذ من يتسلمه مني ، والا سرحت سبيله ، فاني منه في غاية الحرج (١).

ويبدو من عرض هذه الرسالة وأسلوبها الرقيق أن عيسي بن جعفر أراد أن يخفف ما في نفس الرشيد عن الامام ، فأنبأه بأنه في ظل رقابة صارمة ، وأن عينا عليه في السجن يلحظه بدقة متناهية ، ينظر في أمره ويوافيه بأخباره ، وأنه لم يذكر الرشيد الا بخير ، وأنه اختبره فوجده عازفا عن السلطان ، لا يتطلع الي ولاية ، وليس من رأيه الخروج علي الرشيد ، وطلب اليه تخلية سبيله ، واطلاقه من سجنه ، والا أطلق سراحه.

وكان الامام قد قضي سنة كاملة في سجن عيسي ، واستجاب الرشيد لطلب عيسي فنقله الي الفضل بن الربيع في بغداد (٢).

__________________

(١) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٥٠٢ ، الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٧ ، الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٢٥.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٣٣.


ولكن الذي يبدو من الأخبار ، ويظهر للبحث أن الرشيد أودع الامام معه في قصره لدي جلبه الي بغداد ، ومن ثم سلمه لمدير شرطته عبدالله بن مالك الخزاعي ، وهو ما رواه المسعودي ، وأكده ابن‌طاووس ، ونقله ابن‌خلكان ، وذكر عند القندوزي ، وابن‌حجر ، وأورده المجلسي ، وفي هذا السجن لدي مدير الشرطة تم اطلاق سراح الامام ، ويبدو أنه الاطلاق ، ثم قبض عليه ، وأودع سجن الفضل بن الربيع.

هذا ما توصل اليه البحث ، فقد حدث عبدالله الخزاعي بسند صحيح قال : دعاني هارون ... فقال امض الي تلك الحجرة وخذ من فيها ، واحتفظ به الي أن أسألك عنه ، فدخلت واذا هو موسي بن جعفر ، فحملته وأدخلته داري ، وكنت أتولي خدمته بنفسي ، ومضت الأيام فلم أشعر الا برسول الرشيد يقول :

أجب أميرالمؤمنين ، فذهبت الي الرشيد ، وأذن لي بالدخول ، فوجدته قاعدا علي فراشه ، فسلمت ، فسكت ساعة ، ثم قال لي :

يا عبدالله أتدري لم طلبتك في هذا الوقت؟ اني رأيت الساعة حبشيا قد أتاني ومعه حربة ، فقال : ان لم تخل عن موسي بن جعفر الساعة ، نحرتك بهذه الحربة.

فاذهب فخل سبيله. فقلت : أطلق موسي بن جعفر؟ ثلاثا ، قال : نعم؛ امض الساعة حتي تطلق موسي بن جعفر ، وأعطه ثلاثين ألف درهم ، وقل له : ان أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب. وان أحببت المضي الي المدينة فالأذن في ذلك اليك. قال : فمضيت الي الحبس ... وخليت سبيله (١).

واذا صحت هذه الرواية باطلاق سراح الامام فانه قد أبقي في بغداد

__________________

(١) ظ : المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، ابن‌طاووس / مهج الدعوات / ٢٤٥ ، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان ٤ / ٩٣٤ ، القندوزي / ينابيع المودة / ٣٦٣ ، ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / ١٢٢.


في ظل اقامة جبرية ، حتي استثني الرشيد من قراره فاعتقله عند الفضل بن الربيع أحد وزرائه ، فصيره في داره ، ويبدو أن الفضل كان متحرجا من سجن الامام ، أو في الأقل كان مرفها عليه في سجنه ، فقد أعجب الفضل بعبادة الامام ، وأطلع علي ذلك عبدالله الشزويني (القروي) وهو علي سطح داره ، وحدثه عنه بقوله : «اني أتفقده الليل والنهار ، فلم أجده الا علي الحال التي أخبرك بها : انه يصلي الفجر ، ويعقب ساعة ، ويسجد سجدة لا يزال بها حتي تزول الشمس ... ثم يثب لصلاة الظهر ... الي أن يفرغ من صلاة العصر ... فاذا غابت الشمس وثب فصلي المغرب ... ولا يزال في صلاته وتعقيبه الي صلاة العتمة ، ثم يفطر علي شوي ... ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتي يطلع الفجر ... فاذا طلع وثب لصلاة الفجر (١)

وأراده الرشيد علي قتل الامام فأبي ذلك (٢).

وقال القروي للفضل : «اتق الله ولا تحدث في أمره حدثا يكون منه زوال النعمة ... فقال الفضل : قد أرسلوا الي غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم لذلك ، وأعلمتهم أني لا أفعل ذلك ، ولو قتلوني ما أجبتهم الي ما سألوني» (٣).

ويبدو أن الفضل بن الربيع أراد من الرشيد اطلاق الامام ، وعاتبه علي التضييق عليه في الحبس ، فأجابه هارون : هيهات لابد من ذلك.

ويبدو أن هارون قد أطلق الامام بما رواه حاجب الفضل بن الربيع عن الفضل نفسه ، اذ دخل عليه مسرور الكبير ، قائلا : أجب الأمير ... فخرج معه الي الرشيد فقال له : تداخلك رعب؟ قلت : نعم ، قال : صر الي حبسنا ، فأخرج موسي بن جعفر بن محمد ... وخيره بين المقام أو الرحيل ، فقلت :

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢١١.

(٢) ظ : الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٢٥.

(٣) الصدوق / الأمالي / ١٤٦ ، البحار ٤٨ / ٢١١.


تأمر باطلاق موسي بن جعفر ، قال : نعم؛ ويلك تريد أن أنكث بالعهد (١).

وأطلق سراح الامام موقنا ، وقبض عليه ، فسجن عند الفضل بن يحيي. فوسع علي الامام وأكرمه ـ في رواية ـ فاتصل ذلك بالرشيد وهو في الرقة ، فكتب اليه الرشيد ينكر عليه توسيعه علي الامام ، وأمره بقتله ، فتوقف الفضل ، ولم يقدم علي ذلك (٢).

فأنفذ الرشيد مسرورا الخادم الي بغداد علي البريد ، وأمره من فوره أن يدخل الي موسي بن جعفر فيعرف خبره ، فان كان الأمر علي ما بلغه أوصل كتابا منه الي العباس بن محمد وأمره باعتقاله ، وأوصل كتابا آخر الي السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس.

فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيي ، ولا يدري أحد ما يريد ، ثم دخل علي الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) فوجده علي ما بلغ الرشيد من السعة والرفاهية ، فأوصل لهما الكتابين ، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض الي الفضل بن يحيي فركب معه ، وخرج مشدوها دهشا حتي دخل علي العباس ، فدعا بسياط وعقابين ، فوجه ذلك الي السندي بالفضل فجرد ، ثم ضربه مائة سوط ، فخرج الفضل متغير اللون خلاف ما دخل ، فأذهبت نخوته ، فجعل يسلم علي الناس يمينا وشمالا.

وكتب مسرور بالخبر الي الرشيد فأمر بتسليم الامام الي السندي بن شاهك ، وجلس مجلسا حافلا سب به الفضل بن يحيي وأمر بلعنه ، حتي تدارك ذلك أبويحيي بن خالد ، فساوي الأمر (٣).

وهذه المرويات تشير أن الفضل بن يحيي قد وسع علي الامام لما رآه من حسن سمته ، ورفيع عبادته ، وانقطاعه الي الله تعالي ، وعزوفه عن الدنيا

__________________

(١) ظ : المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٦٥.

(٢) ظ : الاربلي / كشف الغمة ٣ / ٢٦.

(٣) ظ : الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٥٠٣ ، الطوسي / الغيبة / ٢٢.


والجاه والسلطان.

بينما تقول بعض الروايات : ان البرامكة بما فيهم الفضل وأبوه كانوا من أعداء الامام ، حتي روي أن الفضل قدم للامام مائدة فيها السم ، واستدعي له الطبيب ، فأراه الامام راحته وكانت خضرة ، تدل علي أنه قد سم ، فانصرف الطبيب قائلا : والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم (١).

وقد ورد عن الامام علي بن موسي الرضا تصديق ذلك ، فقد قال لأحمد بن محمد بن أبي‌نصر من حديث :

«ان الله يدافع عن أوليائه ، وينتقم لأوليائه من أعدائه ، أما رأيت ما صنع الله بآل برمك ، وما انتقم لأبي‌الحسن (عليه‌السلام(٢).

هذا ملخص تأريخي اجمالي بسجون الامام في عهد الرشيد ، وقد تناوب عليها : في سجن عيسي بن جعفر بن المنصور في البصرة ، ونقل الي بغداد فسجن فيها عدة مرات ، فكان من سجونه قصر الرشيد ، ثم سلمه الي مدير شرطته والموكل بقصره : عبدالله بن مالك الخزاعي ، ثم أطلق ، وأبقي في بغداد ، وقبض عليه وسجن عند الفضل بن الربيع مرفها عليه ، ثم أطلق لكرامة له ، وقبض عليه أخيرا ، فسجن عند الفضل بن يحيي بن خالد البرمكي ، فوسع علي الامام ، وعاقبه الرشيد علي ذلك ، وقيل علي العكس من هذا ، ثم أمر به الي سجن السندي بن شاهك ، وكان سجنه من أضيق السجون معاملة مع الامام ، ومن أشد المعتقلات عليه.

وكان موقع هذا السجن في دار المسيب قرب باب الكوفة ، وباب الكوفة يقع اليوم ـ كما في خارطة بغداد ـ في منطقة «الوشاش» وهي احدي أحياء محلة الكرخ ببغداد.

__________________

(١) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٢١٢ عن الصدوق / الأمالي / ١٤٦.

(٢) ظ : المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٤٩.


يقول الأستاذ باقر شريف القرشي :

«وسمعت من الأفواه أن المحل الذي سجن به الامام معروف لدي الأوساط البغدادية ، وهو أحد قصور آل الباججي» (١).

وقيل : ان الامام سجن في دار السندي بن شاهك نفسه ، وقد يدل علي ذلك أن أخت السندي سألت أخاها أن تتولي أمر هذا العبد الصالح في حبسه ـ وكانت من المتدينات ـ فوافق علي ذلك فكانت علي خدمته ، وحكي أنها قالت :

«كان اذا صلي العتمة حمد الله ومجده ودعاه ، فلم يزل كذلك حتي يزول الليل ، فاذا زال الليل قام يصلي حتي يصلي الصبح ، ثم يذكر حتي تطلع الشمس ، ثم يقصد الي ارتفاع الضحي ، ثم يتهيأ ويستاك ، ويأكل ، ويرقد الي الزوال ، ثم يتوضأ ويصلي ، ثم يذكر في القبلة حتي يصلي للمغرب ، ثم يصلي ما بين المغرب الي العتمة ، فكانت تقول : خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل» (٢).

وقد ضيق السندي علي الامام أشد التضييق بأمر مباشر من هارون الرشيد ، وأوعز اليه أن يقيده بثلاثين رطلا من الحديد ، ويقفل الباب في وجهه ، ولا يدعه يخرج الا للوضوء ، فامتثل السندي ذلك ، ونفذ ما أراد الرشيد (٣).

وكان القبض علي الامام قد تم من قبل الرشيد لأول مرة لعشر ليال بقين من شهر شوال عام ١٧٩ ه ، وما انفك كما رأيت ، ينقل بين السجون ، حتي توفي مسموما في سجن السندي بن شاهك لخمس بقين من شهر رجب عام

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٨٧.

(٢) ظ : الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٣١ ، ابن‌الأثير / الكامل ٥ / ١٠٨ ، أبوالفداء / التأريخ ٢ / ١٥ ، الذهبي / سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٧٣.

(٣) ظ : القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ٢ / ٤٨٧.


١٨٣ ه علي المشهور (١).

وعلي هذا فقد قضي الامام في غياهب السجون خمس سنوات الا شهرين ونصف الشهر بالضبط.

وكانت هذه المدة حقبة انقطاع للامام عن شيعته الا لماما ، وكانت حياته في السجن حياة ابتهال وتهجد وصلوات ودعاء ، ولم تكن تقتصر علي ذلك من النشاط الروحي ، فهناك أنشطة ذات بال ستراها في المبحث الآتي.

__________________

(١) ظ : الطبري / تأريخ الأمم والملوك ١ / ٧٠ ، ابن‌الأثير / الكامل ٦ / ٥٤ ، الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١٣ / ٣٢ ، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان ٢ / ٧٣ ، الكليني ١ / ٤٧٦ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٠٦.


حياة الامام في طوامير السجون

أرأيت طهر السماء ، ونقاء الأفق ، وصفاء البحر؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر في ضميره الزكي النابض ، واذا به يمني بعصف الرياح ، وتلبد الأجواء ، ومرارة الارهاب.

أرأيت عزة الخليل ، ومهابة الكليم ، وقداسة المسيح؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر ، وهو يعايش سلاطين الجور ، وجلاوزة الطغيان ، وأجهزة القمع.

أرأيت محمدا في قيادته ، وعليا في شجاعته ، والزهراء في عفتها ، والحسن في صبره ، والحسين بنضاله ، وزين‌العابدين في دعائه ، ومحمدا الباقر في أصالته ، وجعفر الصادق في علمه؟ ذلك هو الامام موسي بن جعفر ، وارثهم جميعا؛ مغيبا بين جدران السجون ، ومكبلا بأثقال الحديد ، يتجرع الغصص والاغتراب.

هكذا أراد الرشيد ، وهو القائل عن الامام :

«أما ان هذا من رهبان بني‌هاشم».

فقيل له : فما لك قد ضيقت عليه في الحبس؟.


قال : هيهات ، لابد من ذلك (١)

أجل ، لقد ضيق الرشيد علي الامام ، وفي سجن السندي بالذات ، فما بدا من الامام اعتراض ، ولا حاول اطلاق سراحة بوسيلة ، بل ترفع عن التنازل لهارون ، وأبي‌وساطة أي انسان في شأنه ، وامتنع عن تلبية الراغبين بذلك ، وقال لهم :

«حدثني أبي عن آبائه ، أن الله عزوجل أوحي الي داود : يا داود ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ، وعرفت ذلك منه ، الا قطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته» (٢).

وكان منهجه في السجن المواظبة المثلي علي العبادة الخالصة ، والانابة والخشوع والتسليم ، قال الشيخ المفيد ، وهو يتحدث عن حال الامام في السجن :

«وكان (عليه‌السلام) مشغولا بالعبادة ، يحيي الليل كله صلاة ، وقراءة قرآن ، ودعاء ، واجتهادا ، ويصوم النهار أكثر الأيام ، ولا يصرف وجهه عن المحراب» (٣).

وفي قبال هذا التوجه العبادي ، كان الامام محاطا بزمر أهل المعاصي ومرتكبي الكبائر ، ولا حول ولا طول لديه علي التغيير. فقد حدث كاتب عيسي بن جعفر ، والامام سجين لديه ، قال : «لقد سمع هذا الرجل الصالح ـ يعني الامام ـ في أيامه هذه؛ في هذه الدار التي هو فيها من ضروب الفواحش والمناكير ما أعلم ولا أشك أنه لم يخطر بباله» (٤).

وكانت الحياة العلمية وهو سجين تنام وتستيقظ ، فقد يسمح السندي

__________________

(١) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٩٥.

(٢) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٢٥.

(٣) المفيد / الارشاد / ٣٣٨.

(٤) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٢١ وانظر مصدره.


بلقاء الامام من قبل العلماء ، وقد يسمح بتبليغه الرسائل من أوليائه ، وقد يوصل الأجوبة من قبل الامام الي السائلين.

ويعتبر الأستاذ محمدحسن آل‌ياسين : أن هذه الأساليب التي سلكها السندي من جملة طرائقه في التغطية والتمهيد لقتل الامام (١).

وقد يكون ذلك من بواعث التعتيم علي معاناة الامام لجملة الضغوط والمضايقات ، فيشاع أنه يتمتع بحرية واستقلالية ، بحيث تصله رسائل شيعته ، وحيث يجيب عليها بمحض ارادته واختياره.

فقد روي عن علي بن سويد الطائي ، قال :

كتب الي أبوالحسن الأول (عليه‌السلام) في كتاب :

«ان أول ما أنعي اليك نفسي في ليالي هذه ، غير جازع ، ولا نادم ، ولا شاك فيما هو كائن ، مما قضي الله وحتم ، فاستمسك بعروة آل محمد ، والعروة الوثقي الوصي بعد الوصي ، والمسالمة والرضا بما قالوا» (٢).

وكما في رواية الحسين بن المختار ، قال :

«خرجت الينا ألواح من أبي‌الحسن موسي ، وهو في الحبس ...» (٣).

وقد تتأخر اجابة السؤال من قبل الامام لأسباب أمنية فرضت عليه ، أو لأسباب تتعلق بالامام ، فعن علي بن سويد ، قال : كتبت الي أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) وهو في الحبس كتابا ، أسأله عن حاله ، وعن مسائل كثيرة ، فاحتبس الجواب علي أشهرا!! ثم أجابني بجواب مفصل ، ورد فيه بعد حمد الله والثناء عليه ، قوله : «أما بعد؛ فانك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة ، وحفظ ما استرعاك من دينه ، وما ألهمك من رشده ، وبصرك من أمر دينك ...»

__________________

(١) محمدحسن آل‌ياسين / الامام موسي بن جعفر / ٨٨.

(٢) الحميري / قرب الأسناد / ١٩٢ ، البحار ٤٨ / ٢٢٩.

(٣) الكليني / الكافي ١ / ٣١٢.


ثم نعي الامام نفسه لابن سويد ، وأجابه عن عدة مسائل مسائل فقهية في الغصب والشهادات ، ومسألة كلامية في مدي علم أهل البيت (١).

وكانت مدرسة الامام قد انتشر روادها في الآفاق وهو في السجن ، فكانت اجابات الامام يذاع خبرها بانتظام رغم الرصد والعيون ، وسبب ذلك أن التشيع قد استطار في الأقاليم الاسلامية وشاع ، وكان العلماء والوكلاء يقومون بالمهمات في التبليغ والدعوة ، ويتعاونون علي تسلم الحقوق المالية ويصرفونها في مواقعها الشرعية ، كما أشار لمواليه بالامام من بعده ، ونص علي ولده علي الرضا قائلا : «ان ابني «علي» أكبر ولدي ، وآثرهم عندي ، وأحبهم الي ، وهو ينظر معي في الجفر ، ولم ينظر فيه الا نبي أو وصي نبي» (٢).

وكما عن الحسين بن المختار ، قال : خرجت الينا ألواح من أبي‌الحسن موسي (عليه‌السلام) وهو في الحبس : عهدي الي أكبر ولدي (٣).

وبذلك لم يترك الامام الأمة سدي بل نص علي حجة الله في خلقه. وأدي الأمانة التي استحفظ عليها ، كما أوصي وأوقف وحرر كما سنري.

__________________

(١) الكليني / الكافي ٨ / ١٢٤ ـ ١٢٦ ، البحار ٤٨ / ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٢) المفيد / الارشاد / ٣٤٣.

(٣) المصدر نفسه / ٣٤٣.


الامام يوصي بأمواله ويوقف أراضيه

وشعر الامام (عليه‌السلام) بدنو أجله ونهاية أيامه واخترام عمره الشريف ف «لكل أجل كتاب» ولكل بداية نهاية ، ولأنه يتعايش مع الخطر المحدق به ليل نهار ، يصبح الوحدة القاتلة في سجنه ، ويمسي الغربة الموحشة في ليله.

وكان هذا الشعور من الامام يمثل انقداحا روحيا في لمح الغيب القريب ، فأعد لذلك عدته في وصية كثبية ، أشهد عليها الأعيان من أهل بيته وأصحابه ، وكانت هذه الوصية نموذجا فريدا لما ينبغي علي المسلم لدي احساسه بالموت.

أشهد الامام الشهود ، وأشهد نفسه :

«أنه يشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آيتة لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن البعث بعد الموت حق ، وأن الحساب والقصاص حق ، وأن الوقوف بين يدي الله عزوجل حق ، وأن ما جاء به محمد (صلي الله عليه وآله) حق ، وأن ما نزل به الروح الأمين حق ، علي ذلك أحيا ، وعليه أموت ، وعليه أبعث ان شاء الله ، أشهدهم أن هذه وصيتي بخطي ... وأوصيت بها الي «علي» ابني ، وبني بعده


ان شاء وأنس منهم رشدا ، وأحب اقرارهم فذلك له ، وان كرههم وأحب أن يخرجهم فذلك له ، ولا أمر لهم معه.

وأوصيت اليه بصدقاتي وأموالي وصبياني الذين خلفت وولدي ... والي علي أمر نسائي دونهم ، وثلث صدقة أبي وأهل بيتي يضعه حيث يري ، ويجعل منه ما يجعل ذو المال في ماله ... وان أحب أن يبيع ، أو يهب ، أو ينحل ، أو يتصدق علي غير ما وصيته فذاك اليه ، وهو أنا في وصيتي في مالي ، وفي أهلي وولدي.

وان رأي أن يقر اخوته الذين سميتهم في صدر كتابي هذا أقرهم ، وان كره أن يخرجهم غير مردود عليه ، وان أراد رجل أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها الا باذنه وأمره.

وأي سلطان كشفه عن شي‌ء ، أو حال بينه وبين شي‌ء مما ذكرت في كتابي ، فقد بري‌ء من الله تعالي ومن رسوله ...

ولي عنده مال ، وهو مصدق فيما ذكر من مبلغه ان أقل أو أكثر ، فهو الصادق ... وليس لأحد أن يكشف وصيتي ، ولا ينشرها وهي علي ما ذكرت وسميت ... ومن أساء فعليه ، ومن أحسن فلنفسه ، وما ربك بظلام للعبيد» (١).

وأنت تري ما في هذه الوصية ـ وقد اختزلتها لك اختزالا ـ من التأكيد علي عقيدة التوحيد ، والنبوة ، والمعاد يوم القيامة ، وما يستلزم ذلك من بعث ونشور وحساب ووقوف بين يدي الله تعالي ، وأن ما نزل به روح الأمين من القرآن والشريعة حق ، وأنه يحيا ويموت ويبعث علي هذا.

والملفت في الوصية حقا تأكيده الشامل علي ولده الامام علي بن موسي الرضا (عليه‌السلام) ، في تمييزه علي ولده ، ورعايته لشؤونه ، وعنايته بادارته ، واقراره علي ادارة أمواله وصدقاته والقصر من أبنائه ، بل علي جميع ولده ،

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٧٦ ـ ٢٨٠.


كما جعل له أمر نسائه وأخواته دونهم ، وبصرف ثلث صدقة أبيه أني يري ، وحيث يشاء ، كما خوله تخويلا مطلقا بأمواله ، وما يصنع فيها من هبة أو نحلة أو بيع أو صدقة ونحو ذلك فيما لم تشتمل عليه الوصية. ثم اعتره نفسه في الوصية والمال والأهل والولد ، وله اقرار أبناء الامام الذين ذكرهم في وصيته ، وله أيضا اخراجهم. وجعل أمر بناته بيده ، ولا يزوج أحد احداهن الا باذن الرضا وأمره ، ولا سلطان لأحد عليه في جميع وصيته ، وأي سلطان حال بينه وبين تنفيذها فقد بري‌ء من الله ورسوله ، وأبان الامام في ختام الوصية أن له مالا عند ولده الرضا ، وهو مصدق فيما ذكره عنه قل أو كثر ، وشهد بحقه بأنه الصادق.

ويبدو بكل وضوح من لوازم هذه الوصية ونصوصها وفقراتها ، أنها نص لا يقبل الشك علي امامة ولده الرضا ، وهو كذلك ، ويأتي هذا بعد أن نص عليه أمام جماعات كثيرة وأشهدهم علي ذلك. ويبدو أن للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) صدقات جارية ، وأراضي زراعية عامرة ، نص علي جعلها وقفا ذريا في وصيته قال فيها :

«بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما تصدق به موسي بن جعفر ، تصدق بأرضه مكان كذا وكذا ... كلها ، نخلها ، ومائها ، وأرجائها ، وحقوقها ، وشربها من الماء ، وكل حق هو لها ، في مرفع ، أو مظهر ، أو عنصر ، أو مرفق ، أو ساحة ، أو مسيل ، أو عامر ، أو غامر ، تصدق بجميع حقه من ذلك علي ولده من صلبه الرجال والنساء ، يقسم ما أخرج الله عزوجل من غلتها ـ بعد الذي يكفيها في عمارتها ومرافقها ، وبعد ثلاثين عذقا يقسم في مساكين أهل القرية ـ بين ولد موسي بن جعفر ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، فان تزوجت امرأة من ولد موسي بن جعفر ، فلا حق لها في هذه الصدقة حتي ترجع اليها بغير زوج ، فان رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج


من بنات موسي ، ومن توفي من ولد موسي وله ولد ، فولده علي سهم أبيهم للذكر مثل حظ الأنثيين علي مثل ما شرط موسي بين ولده من صلبه ، ومن توفي من ولد موسي ولم يترك ولدا رد حقه علي أهل الصدقة.

وليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق ، الا أن يكون آباؤهم من ولدي. وليس لأحد في صدقتي حق من ولدي وولد ولدي وأعقابهم ما بقي منهم أحد ، فان انقرضوا ولم يبق منهم أحد ، فصدقتي علي ولد أبي من أمي ـ ما بقي منهم أحد ـ ما شرطت بين ولدي وعقبي ، فان انقرض ولد أبي ، وأعقابهم ما بقي منهم أحد ، فان لم يبق منهم أحد ، فصدقتي علي الأولي فالأولي حتي يرث الله الذي ورثها وهو خير الوارثين.

تصدق موسي بن جعفر بصدقته هذه ، وهو صحيح صدقة حبيسا بثا بثلا ، لا مثنوية فيها ولا رد أبدا ، ابتغاء وجه الله تعالي والدار الآخرة ، ولا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها ، أو يبتاعها ، أو يهبها ، أو يغير شيئا مما وضعتها عليه ، حتي يرث الله الأرض ومن عليها» (١).

ويخلص لنا من هذه الوقفية أن الامام (عليه‌السلام) بضبطها واحكامها ، وتفصيلها وجزئياتها ، وادخال من أراد ادخاله ، واخراج من أراد اخراجه ، انما يريد أن يوجهنا في أعمالنا ووصايانا وأموالنا وصدقاتنا الوجه الصحيح المحكم ، بحيث يكون ما يريده صاحب المال هو الأصل فيما يعمل به ، وأن تكون الوصية جامعة مانعة فلا يدخل فيها ما يراد اخراجه ، ولا يخرج منها ما يراد ادخاله ، وأن ذلك جميعا ابتغاء وجه الله تعالي واليوم الآخر.

ومن هنا نعرف أن موارد سخاء الامام وعطاياه وهباته وصراره ومنحه ، انما كانت من خالص ماله وطيب حلاله.

__________________

(١) المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.



الفصل الثامن

الامام في مدارج الشهادة

١ ـ فزع الرشيد من منزلة الإمام.

٢ ـ اغيال الإمام بالسم.

٣ ـ الإشهاد على وفاة الإمام.

٤ ـ تجهيز الإمام وتشييعه إلى مقررّه الأخير.



فزع الرشيد من منزلة الامام

انتشر ذكر الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في الأقاليم الاسلامية انتشار النار في الحطب الجزل ، فقد تناقل الناس أخباره في العلم والحلم والورع والتقوي والانابة والاخبات لله تعالي.

وكان الرشيد أعرف الناس بهذه الحقائق ، وأجرأ الناس علي تغافلها ، وكان الترف السياسي قد طفح الكأس بأنبائه بين صفوف الشعب ، وبلغ الاستياء حده من الأثر والطغيان اللذين طبع عليهما النظام العباسي ، وانكمش الناس من الجور والاستعباد ، وسئم المجتمع العراقي بخاصة من حياة اللهو والعبث والمجون.

هذا وأمثاله كاد أن يطوي بساط الشرعية من تحت هارون وولاته وعماله في الميدان السياسي ، أما في الميدان الديني فلا شرعية للحكم من قبل أبناء الطلقاء تجاه أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وكان لابد للرشيد من اشغال الناس عن النظر في شأن الحكم ، فأعلن الأحكام العرفية ليقمع كل تفكير ـ فضلا عن التحرك ضد النظام في مآسي الحكم وشؤون الدولة حتي قال الناس : انج سعد فقد هلك سعيد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخري عمد الرشيد الي سياسة التبعيد والتشريد مضافا


الي سياسة كبت الحرية ، فقد قذف بالشباب المسلم في لهوات الحروب ، وأشغل الفكر العام بالبعوث وارسال الكتل البشرية نحو الثغور ، وهو لا يهمه بذلك أمر الاسلام في شي‌ء ، وانما همه الوحيد هو تثبيت دعائم الملك.

وكانت شعبية الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) تخترق كل الحواجز التي وضعها الرشيد في سبيله ، لا بقوة عسكرية ، وانما بذلك التغلغل العقائدي الذي تتنطوي عليه قلوب المسلمين ولاء وايمانا وحبا بقيادة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وهنا مصدر الخطر علي السلطة حيث أن هذا التغلغل في الفكر والضمير انما يكتسب نفوذه العام من خلال قناعات ثابتة ، تجعل القوة الي جنب الكتاب في استيحاء الأسس الفكرية للاسلام ، وهذا ما يخيف الحاكمين ويجعلهم في فزع وهلع شديدين ، لأن هذا المنظور الخارق انما ينطلق من صميم المشاعر الانسانية دون تأثير خارجي ، أو دعم سلطوي ، أو اجراء سياسي ، فهو انطلاق داخلي يجري في الانسان مجري الدم في الأوردة والشرايين.

وكان الرشيد يعرف هذا جيدا بالنسبة للامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، فهو وريث هذه الأطروحة الضخمة التي تجعل مصير السلطان في مهب الريح ، وتجعل أتباعه وأولياءه في قلق مستمر ، اذن الدولة في نظره في معرض الخطر من هذه الأحاسيس التي يمتلك أمرها الامام.

ومع علم الرشيد أن ليس من وكد الامام ولا من شأوه نشدان الحكم ولا تطلب السلطان ، الا أن هواجس الخوف والذعر من مكانة الامام تجعله يفكر جديا في التخلص منه بشتي الوسائل ، دون أن يثير حفيظة المتسائلين أو الاهتمام الجماهيري.


وكان الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) من أدري الناس بهذه الارهاصارت لدي الرشيد ، فقد يجامله مرة ، وقد يتقيه أخري ، وقد يتقرب منه ثالثة ، وقد يذكره الرحم فيمسه سوي ذلك ، وقد يروي له في ذلك «أن الرحم اذا مست الرحم تحركت واضطربت» (١) كما قد يجابهه في مرارة واصرار اذا اقتضت المصلحة العليا ذلك (٢).

وقد رأيت فيما سبق أن الرشيد كان مصمما علي سجن الامام فسجنه حتي انتهي به المطاف الي سجن السندي بن شاهك ، فكانت كرامات الامام يتصل بعضها ببعض ، وفضائله تسير مسير الشمس ، فاستنجد الرشيد بيحيي بن خالد البرمكي ، وقال له :

«يا أباعلي؛ أما تري ما نحن فيه من هذه العجائب؟

ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا يريحنا من غمه؟

فقال يحيي بن خالد : الذي أراه لك أن تمن عليه ، وتصل رحمه ، فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا.

فقبل ذلك منه ، وأمره بفك القيود عنه واطلاقه بشرط الاعتراف بالاساءة. فامتنع الامام (عليه‌السلام) ، وقال ليحيي :

يا أباعلي؛ أنا ميت ، وانما بقي من أجلي أسبوع ...

يا أباعلي؛ أبلغه عني ، يقول لك موسي بن جعفر :

رسولي يأتيك يوم الجمعة ، فيخبرك بما تري ، وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي علي صاحبه؟ والسلام.

فأخبر يحيي الرشيد بذلك ، فقال الرشيد :

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٦.

(٢) ظ : علي سبيل المثال : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ـ ١٤٥ ـ ١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨ ... الخ.


«إن لم يدع النبوة بعد أيام ، فما أحسن حالنا.»

فلما كان يوم الجمعه بوفي الإمام. (١)

ومهما يكن من أمر ، فإي الإمام قضى في سجن السيدي أضيق أيام حياته ، ولم يمكث بعدها في السجن ، إذ قضى عليه الرشيد بالسم. وهذل ما يحتاج إلى شيء من العرض الدقيق.

__________________

(١) ظ : ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٠٨ ـ ٤٠٩ ، المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.


اغتيال الامام بالسم

ذهب أغلب المؤرخين الي أن الامام مات مسموما في سجن السندي بن شاهك ، وانفرد أبوالفرج الأصبهاني بأن الامام لف في بساط وهو حي ، فجلس عليه السجانون حتي توفي (١).

ووافقه ابن‌عنبة بالقول : بأنه لف في بساط وغمز حتي مات (٢).

الا أن الروايات الأكثر شيوعا : أن الامام دس له السم في سجن السندي بأمر الرشيد فمات مسموما ، وهذه الروايات يمكن تصنيفها كالآتي :

١ ـ ان السندي بن شاهك حضر ، بعدما كان بين يدي الامام السم في عشر رطبات ، وأنه (عليه‌السلام) أكلها.

فقال له السندي : تزداد؟ فقال (عليه‌السلام) له : حسبك فقد بلغت ما يحتاج اليه في ما أمرت به.

ثم ان السندي أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيام ، وأخرجه اليهم ، وقال : ان الناس يقولون : ان أباالحسن موسي في ضنك وضر ، وها هو ذا لا علة به ولا مرض ، ولا ضر.

__________________

(١) الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / ٥٠٤.

(٢) ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ١٨٥.


فالتفت الامام (عليه‌السلام) ، فقال لهم : اشهدوا علي أني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام ، اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم ، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة ، وأصفر غدا صفرة شديدة منكرة ، وأبيض بعد غد ، وأمضي الي رحمة الله ورضوانه ، فمضي (عليه‌السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث (١).

٢ ـ ان يحيي بن خالد البرمكي خرج علي البريد حتي وافي بغداد ، فماج الناس وأرجفوا بكل شي‌ء ، وأظهر أنه ورد لتعديل السواد ، والنظر في أمور العمال ، وتشاغل ببعض ذلك أياما ، ثم دعا السندي بن شاهك ، فأمره بأمره فامتثل ، وكان الذي تولي به السندي قتله (عليه‌السلام) ، سما جعله في طعام قدمه اليه.

ويقال : انه جعله في رطب أكل منه ، فأحس بالسم ، ولبث بعده ثلاثا موعوكا منه ، ثم مات في اليوم الثالث (٢).

٣ ـ ان يحيي بن خالد البرمكي هو الذي سم الامام بأمر الرشيد مباشرة : فعن عبدالله بن طاووس ، قال :

قلت للرضا (عليه‌السلام) : ان يحيي بن خالد سم أباك موسي بن جعفر صلوات الله عليهما؟ قال : نعم ، سمه في ثلاثين رطبة (٣).

٤ ـ وفي عيون الأخبار جاء النص الآتي :

«ثم حبس ـ يعني الامام موسي بن جعفر ـ وسلم الي السندي بن شاهك ، فحبس ، وضيق عليه ، ثم بعث اليه الرشيد بسم في رطب ، وأمره أن يقدمه اليه ، ويحتم عليه في تناوله منه ، ففعل ، فمات صلوات الله

__________________

(١) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨ عن عيون المعجزات / ٩٥.

(٢) المفيد / الارشاد / ٣٣٩ ، الأربلي / كشف الغمة ٣ / ٢٧.

(٣) النجاشي / الرجال / ٣٧١ ، المجلس / البحار ٤٨ / ٢٤٢.


عليه» (١).

وكانت هنالك محاولة سابقة لسم الامام في الرطب في رواية عمر بن واقد ، قال :

ان هارون الرشيد لما ضاق صدره مما كان يظهر له من فضل موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، وما كان يبلغه من قول الشيعة بامامته ، واختلافهم في السر اليه بالليل والنهار خشية علي نفسه وملكه ، ففكر في قتله بالسم ، فدعا برطب فأكل منه ، ثم أخذ صينية فوضع فيها عشرين رطبة ، وأخذ سلكا فعركه في السم ، أدخله في سم الخياط ، وأخذ رطبة من ذلك الرطب ، فأقبل يردد اليها ذلك السم بذلك الخيط ، حتي علم أنه قد حصل السم فيها ، فاستكثر منه ، ثم ردها في ذلك الرطب ، وقال لخادم :

احمل هذه الصينية الي موسي بن جعفر ، وقل له : ان أميرالمؤمنين أكل من هذا الرطب ، وتنغص لك به ، وهو يقسم عليك بحقه لما أكلتها عن آخر رطبة ... فتحاشي الامام هذه الرطبة في حديث طويل ، فباءت المحاولة بالفشل (٢).

ولئن باءت هذه المحاولة بالفشل فما باءت المحاولات الأخري.

ومهما يكن من أمر فان الوثائق التأريخية المعتمدة تشير أن الامام (عليه‌السلام) مات مسموما علي يد السندي بأمر الرشيد (٣).

ومما يؤكد هذا الرأي ما رواه الشيخ المفيد :

__________________

(١) الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٨٥ ، البحار ٤٨ / ٢٢٢.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٢٣ وانظر مصدره.

(٣) ظ : المفيد / الارشاد / ٣٣٩ ، المسعودي / مروج الذهب ٣ / ٢٧٣ ، ابن الطقطقي / الفخري / ١٧٢ ، الطوسي / التهذيب ٦ / ٨١ ، ابن شهر آشوب / المناقب ٣ / ٤٣٧ ، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان ٤ / ٣٩٥ ، ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / ١٢٢ ، ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / ٢٢٢ ، القندوزي / ينابيع المودة / ٣٦٣ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٠٧.


ان الامام لما حضرته الوفاة سأل السندي بن شاهك أن يحضر مولي له مدنيا ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولي غسله وتكفينه ففعل ذلك.

قال السندي : فكنت أسأله في الاذن أن أكفنه فأبي ، وقال : «انا أهل بيت مهور نسائنا ، وحج صرورتنا ، وأكفان موتانا ، من طاهر أموالنا ، وعندي كفني ، وأريد أن يتولي غسلي وجهازي مولاي فلان ، فتولي ذلك منه» (١).

وهكذا تنطوي حياة الامام في ظل الارهاب السياسي.

__________________

(١) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٩.


الاشهاد علي وفاة الامام

وحينما وقعت الجريمة النكراء باغتيال الامام مسموما ، قام الرشيد والسندي كلا علي سبيله ، وفي طريقته الخاصة ، بحملة اعلانية لغرض التعتيم علي الحدث ، والتستر علي الجريمة ، وذلك باستدعاء الشهود ، وايقافهم علي جثمان الامام ليشهدوا أنه مات حتف أنفه.

أورد الصدوق عن محمد بن صدقة العنبري ، قال :

«لما توفي أبوابراهيم موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، جمع هارون الرشيد شيوخ الطالبية ، وبني العباس ، وسائر أهل المملكة ، والحكام؛ وأحضر أباابراهيم موسي بن جعفر فقال :

هذا موسي بن جعفر قد مات حتف أنفه ، وما كان بيني وبينه ما أستغفر الله منه في أمره ، يعني في قتله ، فدخل عليه سبعون رجلا من شيعته ، فنظروا الي موسي بن جعفر وليس به أثر جراحة أو خنق» (١).

وقام السندي بدوره عندما أخذ السم يسري في بدن الامام ، وهو في سبيله الي الشهادة ، فقد روي أن السندي جمع ثمانين رجلا من الوجوه ممن ينسب الي الخير ، فأدخلهم علي الامام موسي بن جعفر ، وقال :

__________________

(١) ظ : الصدوق / كمال‌الدين واتمام النعمة ١ / ١١٩ ، عيون أخبار الرضا ١ / ١٥.


يا هؤلاء انظروا الي هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فان الناس يزعمون أنه قد فعل مكروه به ، ويكثرون في ذلك ، وهذا منزله وفرشه موسع عليه غير مضيق ، ولم يرد به أميرالمؤمنين سوءا ، وانما ينتظره أن يقدم فيناظره أميرالمؤمنين ، وها هو ذا صحيح موسع عليه في جميع أمره فاسألوه.

قال الراوي : ونحن ليس لنا هم الا النظر الي الامام ، والي فضله وسمته ، فقال الامام : أما ما ذكر من التوسعة وما أشبه ذلك فهو علي ما ذكر ، غير أني أخبركم أيها النفر :

«أني قد سقيت السم في تسع تمرات ، واني أخضر غدا ، وبعد غد أموت».

قال الراوي : فنظرت الي السندي بن شاهك يرتعد ويضطرب مثل السعفة (١).

وفي رواية عمر بن واقد ، قال : أرسل الي السندي في الليل يستحضرني ... فحضرت ، فقال : أتعرف موسي بن جعفر؟ فقلت : أي والله اني لأعرفه. وبيني وبينه صداقة منذ دهر. فقال : من ههنا ببغداد يعرفه ممن يقبل قوله؟ فسميت أقواما ... فبعث وجاء بهم ، وقال : هل تعرفون أقواما يعرفون موسي بن جعفر؟ فسموا له قوما فجاء بهم ، فأصبحنا ونحن في الدار (نيف وخمسون) (٢) رجلا ممن يعرف موسي بن جعفر (عليه‌السلام) وقد صحبه ... فأدخلنا ، فقال لي : يا أباحفص؛ اكشف الثوب عن وجه موسي بن جعفر ، فكشفته فرأيته ميتا فبكيت واسترجعت.

ثم قال للقوم؛ انظروا اليه؛ فدنا واحد بعد واحد فنظروا اليه؛ ثم قال :

__________________

(١) ظ : الكافي ١ / ٢٥٨ ، المناقب ٣ / ٤٤١ ، البحار ٤٨ / ٢١٢.

(٢) كذا في الأصل.


تشهدون كلكم أن هذا موسي بن جعفر؟ فقلنا نعم نشهد ... فقال : أترون به أثرا تنكرونه؟ فقلنا : ما نري به شيئا ولا نراه الا ميتا (١) وفي ذلك أورد اليعقوبي : أن السندي أحضر القواد والهاشميين والقضاة ، ومن حضر ببغداد من الطالبيين» (٢) لغرض الشهادة أن الامام مات حتف أنفه.

وفي رواية أن السندي أدخل علي الامام الفقهاء ووجوه بغداد ، وفيهم الهيثم بن عدي وغيره ، فنظروا اليه لا أثر به من جراح ولا خنق ، وأشهدهم أنه مات حتف أنفه ، فشهدوا علي ذلك (٣).

وحينما أخرج جثمان الامام ، وضع علي الجسر ببغداد ، ونودي عليه : هذا موسي بن جعفر قد مات ، فانظروا اليه ، فجعل الناس يتفرسون في وجهه وهو ميت؛ وقد كان قوم زعموا في أيام موسي (عليه‌السلام) أنه القائم المنتظر ، وجعلوا حبسه هو الغيبة المذكورة للقائم ، فأمر يحيي بن خالد أن ينادي عليه عند موته :

«هذا موسي بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه هو القائم الذي لا يموت ، فانظروا اليه ، فنظر الناس اليه ميتا» (٤)

واستمر هذا التضليل الاعلامي بالتمويه ، أن الامام مات حتف أنفه حتي نقله الي مثواه الأخير ، ووضعه علي شفير القبر ، فقد أمر السندي بن شاهك خليفته وكان مع الجنازة ، وقد وضعت علي شفير القبر ، أن اكشف وجهه للناس ، قبل أن تدفنه حتي يروه صحيحا لم يحدث به حدث قال : فكشفت عن وجه مولاي حتي رأيته وعرفته ، ثم غطي وجهه ...» (٥).

__________________

(١) ظ : الصدوق / عيون أخبار الرضا ١ / ٩٧ ، المجلسي / البحار ٤٨ / ٢٢٦.

(٢) اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٤٥.

(٣) ظ : ابن‌الطقطقي / الفخري / ١٧٢ ، الشبلنجي / نور الأبصار / ١٣٩.

(٤) الشيخ المفيد / الارشاد / ٣٣٩.

(٥) الطوسي / الغيبة / ٢٠ ، المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٢٩.


وهكذا تمر هذه المأساة الارهابية في ظل اجراءات ارهابية ، فالشهود ان لم يشهدوا فمصيرهم القتل أو السجن أو التشريد ، والنظام ممعن بالتغطية خوف (صفحه ٢٥٤) الفتنة فيما يزعمون ، والامام تنتهك حرمته دون أن ، يهتز لذلك الضمير العباسي ، والناس لا حول لهم ولا طول ، فالارهاب أفظع ما يدركه التصور قسوة وشدة.

والأعظم مصابا ، والأبلغ وقعا ، أن الامام بقي مسجي في جثمانه الشريف ثلاثة أيام لم يدفن (١).

وكان هذا الاجراء للتحقيق في وفاته ، واستدعاء الشهود ، ووضعه علي الجسر ببغداد ، والمنادي ينادي عليه بذلك النداء الفظيع (٢) بغية اطفاء نور الله تعالي :

(ويأبي الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (٣) صدق الله العلي العظيم

__________________

(١) ابن‌عنبة / عمدة الطالب / ١٨٥.

(٢) ظ : المجلسي / بحارالأنوار ٤٨ / ٢٢٧.

(٣) سورة التوبة / ٣٢.


تجهيز الامام وتشييعه الي مقره الأخير

وانتخي سليمان بن أبي‌جعفر المنصور ، وهو عم الرشيد ، فتولي بنفسه الاشراف علي تجهيز الامام وتشييعه ، بعد أن استمع الي شرطة الرشيد تنادي علي جثمان الامام بما لا نستطيع ذكره.

سمع سليمان ـ اذن ـ الضوضاء في النداء ، ورأي تجمعا غير معهود علي الجسر ، فقال لولده وغلمانه : ما هذا؟ قالوا :

السندي بن شاهك ينادي علي موسي بن جعفر علي نعش.

فقال لولده وغلمانه : يوشك أن يفعل هذه به في الجانب الغربي ، فاذا عبر به ، فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم ، فان مانعوكم فاضربوهم ، وخرقوا ما عليهم من السواد ...

فامتثل الغلمان ذلك ... ووضعوا الجثمان في مفترق أربعة طرق ، ونادوا : ألا من أراد أن يحضر الطيب ابن الطيب موسي بن جعفر فليخرج ، وحضر الخلق ، فكان التشييع الجماهيري.

وكان هذا الموقف المشرف من سليمان؛ اما بدافع الغيرة والحمية ، واما بدافع الرحم الماسة ، واما بدافع سياسي ، أو بشعور انساني ، أو بذلك بعضه أو كله.


ومهما يكن من أمر ، فقد كان ذلك بتقدير من الله عزوجل لرفع الظلامة عن الامام في حرمة جثمانه الطاهر ، فأتاح لذلك سليمان ، فقام بما قام.

وجهز الامام علي خير ما يكون غسلا وتحنيطا وكفنه سليمان بكفن فيه حبرة استعملت له بألفين وخمسمائة دينار ، عليها القرآن كله ، ومشي في جنازته مستلبا مشقوق الجيب الي مقابر قريش (١).

وتناهي الاعلام بوفاة الامام الي الناس فتنادوا بذلك ، وسارت المواكب الكبري تشق طريقها في بغداد الي مثواه الأخير في مقابر قريش حيث ضريحه المقدس اليوم في الكاظمية زادها الله شرفا ببركته وبركة حفيده الامام محمد الجواد بن الرضا (عليهما‌السلام).

وكانت وفاة الامام (عليه‌السلام) في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رجب عام ١٨٣ ه كما هو المشهور عند الامامية ، وعليه العمل ، وعند أغلب المؤرخين (٢).

وقيل كان ذلك عام ١٨٦ ه ، وقيل كان ذلك عام ١٨١ ه (٣).

ودفن الامام في «مقابر قريش» غربي بغداد ، بما يسمي اليوم ب «الكاظمية» المقدسة ، وضريحه وضريح حفيده محمد الجواد من المشاهد المنورة في تلك الروضة البهية التي ضمت الجثمانين الطاهرين ، ويعتمر فيه يوميا عشرات الآلاف من الزائرين والوفاد من مختلف الأقاليم ، وعليه قبتان ذهبيتان ، الي جانبهما أربع منائر ذهبية تطلان علي بهوين عظيمين ، يشرفان عليهما وعلي الصحن الشريف ، وداخل الحرم مزين بالكاشاني المعرق ،

__________________

(١) الشيخ الصدوق / كمال‌الدين ١ / ١١٨ ، عيون أخبار الرضا ١ / ٩٩.

(٢) ظ : اليعقوبي / التأريخ ٣ / ١٤٥ ، الطبري / التاريخ ٨ / ٢٧١ ، الكليني / الكافي ١ / ١٨٦ ، المفيد / الارشاد / ٣٣٩ ، الطوسي / التهذيب ٦ / ٨١ ، الخطيب البغدادي / التأريخ ١٣ / ٣٥ ، ابن‌خلكان / الوفيات ٤ / ٣٩٥.

(٣) ظ : الكليني / الكافي ١ / ٤٧٦ ، المفيد / الارشاد / ٣٠٧ ، المناقب ٣ / ٤٣٧.


والفسيفساء والأحجار الكريمة ، واستنارته تتمثل بمئات الشموع والمصابيح الكهربائية ، وأرضه ذات بلاط مرمري جذاب يرتفع تدريجيا الي الحيطان من كل جوانب الحرم الشريف بما يقارب ثلاثة أذرع ، حيث تتبع ذلك الزخارف والمرايا وقطع الزجاج الملون حتي يتصل بسقف الحرم الشريف ، فاذا أنير بالكهرباء وقناديل الانارة ، التمست الشعاع يصطدم بالشعاع ، والنور يقترن بالنور ، بما يسر الناظر ، وتدخل روعته في الضمائر ، وهذا الحرم الشامخ يحتضن في وسطه مشبكا فضيا دقيق الصنع ، ينتهي في أعلاه الي زخارف فضية وذهبية بأشكال متنوعة ، وفي داخله صندوقان ثمينان صنعا من الخشب الثمين الموصل بالعاج علي شكل مثلثات ومربعات ومخمسات ، هذان الصندوقان وضعا علي قبري الامامين (عليهما‌السلام) وقد وصف هذا المشهد قبل ثمانية قرون ابن‌خلكان فقال : «وعليه مشهد عظيم فيه من قناديل الذهب والفضة ، وأنواع الآلات والفرش ما لا يحد» (١).

وقد فرش الحرم الشريف بأنواع السجاد الايراني المعروف بنفاسته ودقته ، وتحوط بالحرم أربعة أروقة من الجهات الأربع ، تتصل بالشمال بالمسجد الصفوي ، وعلي يمين الداخل لها من الشرق ضريح صغير عليه مشبك فضي للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري اشتمل علي (صفحه ٢٥٧) قبره وقبر أستاذه أبي‌جعفر بن قولويه. وعلي يسار الداخل مما يلي الرأس الشريف ضريح في الرواق الغربي لنصيرالدين الطوسي ، وهنالك في الأروقة حجر صغيرة في بناء هندسي جميل ضمت أضرحة العلماء والأولياء والأسر الكاظمية العريقة.

والمشهد يتوسط الصحن الكاظمي في سعته وروعته وفضائه الرحب ، وتحيط به الغرف والحجر من جوانبه الأربعة ، وهي تتقلص من الجانب

__________________

(١) ابن‌خلكان / وفيات الأعيان ٤ / ٣٩٥.


الشمالي بحسب هندسة البناء ، وهذه الغرف كانت قد أعدت للزائرين ، ومن ثم كانت لطلاب العلم من الوافدين ، وهي اليوم مقر لقبور العلماء ومشاهير الناس.

وللصحن الشريف أبواب متعددة ، أهمها : ثلاثة أبواب من جهة القبلة ، وبابان من الجهة الشرقية ، وبابان من الغرب. أما الجانب الشمالي فقد التصق بعمارة الحرم الطاهر.

وحسبك في مشهد الكاظمين (عليهما‌السلام) ، أنه ملاذ الأمة ، وكعبة الوفاد ، ومجتمع المبتهلين وأهل الدعاء ، حتي قال شيخ الحنابلة : أبوعلي الحسن الخلال.

«ما همني أمر فقصدت موسي بن جعفر فتوسلت به الا سهل الله تعالي لي ما أحب» (١)

وقال الامام الشافعي : «قبر موسي الكاظم الترياق المجرب» (٢).

وقال عبدالباقي العمري :

لذ واستجر متوسلا

ان ضاق أمرك أو تعسر

 بأبي الرضا ... جد الجوا

د محمد ... موسي بن جعفر (٣).

وقد وصف كاتب هذه السطور ضريح الامام وقبته الذهبية ، كما أبان منزلة الامام وعظمته بقصيدة ستجدها بعد هذا البحث.

وعادة الاستجارة بمشهد الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) حقيقة روحية لدي المسلمين بعامة ، لا يختلف بعائديتها اثنان مع تعدد المذاهب

__________________

(١) الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد ١ / ١٢٠.

(٢) بحرالعلوم / تحفة السالم ٢ / ٢٠.

(٣) عبدالباقي العمري / الديوان / ١٣٣.


والمشارب حتي قال القائل في مدح يحيي بن جعفر (١).

وفي الجانب الشرقي يحيي بن جعفر

وفي الجانب الغربي موسي بن جعفر

فذاك الي الله الكريم شفيعنا

وهذا الي المولي الامام المطهر

وما هذا الا لتمكن حب الامام من قلوب العباد ، ولتلك الكرامة الباهرة بقضاء حاجة من استجار به في الشدائد والملمات.

والحمد لله أولا وآخرا علي حسن توفيقه في اكمال هذا السفر ، ذاكرا شاكرا مصليا علي النبي المصطفي وآله الطيبين الطاهرين.

__________________

(١) ظ : باقر شريف القرشي / حياة الامام موسي بن جعفر ١ / ٥٣.


قصيدتان للمؤلف في الامام

نظم المؤلف قصيدتين في الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، كانت الأولي بتأريخ نيسان عام ١٩٧٥ م ، وكانت الثانية في شوال ١٤٢٢ ه.

الامام موسي الكاظم

الشعرعي ... والعواطف ضلع

وأمامك الفكر المحلف يخشع

 وتمر السنة البيان بليغة

فاذا أتتك ثني الزمام المطلع

 ماذا أحدث عنك يابن محمد

ولأنت أسمي ... والمكانة أرفع

 شرف علي شرف يضمك مجده

وحقيقة تبقي ... وذكر أروع

 يستقبل التأريخ منك مواهبا

بالعبقرية تستفيض فيكرع

 العالم العلوي فيها ناطق

والكوكب الأرضي فيها يصدع


فكأن (عيسي) في تراثك عائد

والشمس قد ردت ... وذاتك (يوشع)

 وعصا (ابن‌عمران) الكليم بكفه

فكأن (موسي) جنب (موسي) يرفع

 ما نار (ابراهيم) الا جذوة

خمدت لنور من جبينك يسطع

 وعليك من نور النبي صباحة

في المشرقين سناؤها يتشعشع

 ومن (الامام المرتضي) آثاره

وبنوه تثري ... والأئمة تتبع

 سر الشهادة من (حسين) رمزه

ألق بسجنك يستطيل فيلمع

 وعصارة (للمجتبي) من سمه

أحشاؤه كحشاك اذ تتقطع

 ذرية من بعضها ... قد أنجبت

بعضا فمن (كسري) هناك و (تبع)

 * * *

يابن النبي المصطفي ... ووصيه

حقا ... ومن في حبه نتذرع ...

 لله من كيد الزمان وغدره

ومن الحساب ... وما به نتوقع

 باب الحوائج والامام المرتجي

في النائبات ... ومن به نستشفع


موسي بن جعفر ... وهي أعظم نسبة

نفحاتها بطيوبه تتضوع

 ما مر ذكرك في الرؤي الا هفا

مني الفؤاد ... وسال هذا المدمع

 فرحا بحبك ... فالضمير يشدني

حبلا ... ويدفعني الولاء فأدفع

 لله أمر باصطفائك انه

رمز الوجود ... وسره المستودع

 ما سعرت منك الكفاح جوانح

الا وطيفك للطغاة المفزع

 حتي انطوي ذاك الضلال ، وما انطوي

الا وقبرك للهداة المفزع

 تتعفر الجبهات في أعتابه

وقعا ... وتلثمه القلوب فتخشع

 ويزين سدته (الجواد) طلاقة

فيهش مكلوم ... ويوسر مدقع

 نور علي نور ... وتلك مشيئة

لله .. أن طاب الجناب الممرع

 فكأنه النجم المحلق في السما

يعنو له طرف ... ويومي‌ء اصبع

 يتموج الضوء البهي بأفقه

ويفوح مجمره الذكي ويفرع


وتؤمه غر الملائك سجدا

وتحل ساحته الملوك فتركع

 يا أيها البطل الموحد أمة

والليل داج ... والطريق مروع

 عاصرت جمهرة الطغاة .. فما وني

عزم .. ولا وهن الجهاد الأروع

 تحيا من المحن الصعاب .. وترتمي

غضبا علي المتجبرين يوزع

 وتقيتك الأزمات صلب عقيدة

عصماء .. لا تلوي ولا تتزعزع

 حتي دعاك السجن تعرك قيده

وتعيش وحدته .. ونهجك مهيع

 متلفعا بضراوة من بأسه

صلت الجبين ... ورب تاو يهطع

 قضيت عمرك بالسجون ... وانه

مجد بكل كريمة يتلفع

 حتي سقيت السم تجرع كأسه

غصصا ... وترتقب الخلاص فتكرع

 صبرا علي مضض الحتوف ... وانما

طبع الزمان بكل حر مولع

 ما قيمة الدنيا اذا هي زينت

بالأمنيات .. وطال دهر ممتع


ابمثل (موسي) تستخف عصابة

وهو الهزبر المستميت المصقع

رجل العقيدة والهدي بنهاره

وبليله قديسها المتورع

 ما مر في خلد ... ولا في مسمع

مثل له ... والوتر أني يشفع

 يتدفق القرآن في نبراته

وهو الامام العبقري الأورع

 دنياه تزخر بالعطاء ... وعمره

خصب .. وعمر ذوي الدخائل بلقع

 ما مرت (الخمسون) الا توجت

بالطيبات .. وفاض ذاك المنبع

 بعلوم آل محمد ... وتراثه

وبما يلذ السامعين ويمتع

 فكأن روح (محمد) في جنبه

وهدي (علي) في يديه مجمع

في رحاب الامام موسي بن جعفر

بضريحه أنخ الركابا

وافتح من البركات بابا

 (موسي بن جعفر) من أشا

د بكل مكرمة قبابا


هو باب (حطة) للذنو

ب فعنده ازدلفوا اقترابا

 من عنده فصل الخطا

ب .. فليس يبلغه خطابا

 وبه حمي الله (العرا

ق) من المكاره أن يصابا

 وبتلكم الأعتاب فال

تمسوا دعاء مستجابا

 وبظلها ادرئوا العقا

ب .. وعندها اطلبوا الثوابا

 فبها نجاة اللائذيـ

ـن حمي ، وقربي ، وانتجابا

 أنزل بساحته المني

واظفر بأفضلها طلابا

 وأقم بحضرته الزكيـ

ـة مستجيرا أو متابا

 هي بقعة قدسيـ

ـة بالمجد عامرة جنابا

 روح الجنان يفوح من

جنباتها أرجا مذابا

 وشذا الامامة بالكرا

مة .. ينضح الطيب انسيابا


سبحان ربك ... ما أعز

شموخه ... صقرا ... عقابا

 يجتاح كل طريدة

ويبز ناطحة سحابا (١)

 (باب الحوائج) ما أتا

هُ ـ قاصدا ـ أحد فخابا

 رجل الصلابة والأصا

لة ما استلان ولا استجابا

 يتجرع الغصص العظا

مَ ويصطلي المحن الصعابا

 المستميت بحيث كل

الناس تضطرب اضطرابا

 حتي اذا ضاق (الرشيـ

ـد) به مقاما ... واسترابا

 أحصي له الأنفاس لو

مر النسيم بها لآبا

 ورماه بالحكم الرهيـ

ـب يعيش نفيا ... واغترابا

 متنقلا بين السجو

ن كأن فيهن الرغابا

__________________

(١) قال زكريا بن آدم ، وهو من وجود أصحاب الأئمة للامام الرضا : اني أريد الخروج عن أهل بيتي ، فقد كثر السفهاء فيهم ، فقال الامام الرضا : لا تفعل ، فان أهل (قم) يدفع عنهم بك ، كما يدفع عن أهل بغداد بأبي‌الحسن (عليه‌السلام) ، يعني الامام موسي بن جعفر.


يحيا حياة الشامخيـ

ن تعض بالقيد الرقابا

 وتكبل الأصفاد والـ

أغلال أطرافا غضابا

 ويطالها بالعسف والار

هاب أعصابا صلابا

 حتي اذا انقلب الزما

ن ... ولا حق الدهر الذئابا

 قلبت موازين الحيا

ة ومست الشمس الضبابا

 فاذا الطغاة بمأزق

يحتر بالذل العذابا

 ولو ارعويت مصيرهم

أثرا ... وعودا ... واختطابا

 لعلمت أن الله بالـ

مرصاد ... أعجزهم غلابا

 حتي تعود ديارهم حتي تعود ديارهم

قفراء موحشة ... يبابا

 وينزل النقمات باللـ

ـلعنات تنصب انصبابا

 من كان يؤخذ بالحنا

ن .. غدا سيأخذه اغتصابا


حتي يعود كيانه

ظفرا لمنتقم ونابا

 ويصب فوق الرأس من

غصص الحميم لظي مذابا

 كالمهل يغلي في البطو

ن .. وحسبه منه شرابا

 والمتقون بجنة

فيحاء .. ظلا وانجذابا

 تجري بها الأنهار بالـ

ألبان تنساب انسيابا

 والخمر والعسل المصـ

في راق مصطحبا وطابا

 و «الحور» في جنباتهم

أدني من القوسين قابا

 من «قاصرات الطرف عيـ

ن» لا اكتحالا أو خضابا (١).

 وأجل منها ... قطفهم

رضوان ربك والثوابا

 هذا هو الحرم الذي

من حوله طوفوا احتسابا

 والقبة الزهراء فو

ق ضراحه التبر التهابا

__________________

(١) قال تعالي : (وعندهم قاصرات الطرف عين) الصافات / ٤٨.


ومنائر ذهبية

غمرت أشعتها الهضابا

 تهدي المضلين السبيـ

ل .. وتستبيح الارتيابا

 ما الشمس اذ تبدي السنا

الا كضاربة نقابا

 واذا بدت شهب السما

ء رأيت بينهما حجابا

 وتساقط الأمطار يبـ

عث من لآليها الرطابا

 يجلو ملامح ضوئها

كالفجر لطفا وانسكابا

 وكأن مثقلة الغيو

م .. بجنبها .. خل تصابي

 يتعانقان اذا بدا

شبح الأصيل لها اقترابا

 فاضرب بطرفك حيث شئـ

ت تري به الصور العذابا

 نور (الجواد) ونار «مو

سي) حققا العجب العجابا

 وكذاك «أهل البيت» منـ

زلة .. ومجدا ... وانتسابا


في كل قلب منهم

جذوات حب لن تشابا

 وبكل بيت قبلة

بنت المحاريب الرحابا

 ولئن حججنا شطرها

فزنا بأوفرها نصابا

 أنا لا أغالي ... انما

أزجي علي الدهر العتابا

 ألمثل هذين الاما

مين الزمان نضا الحرابا؟

 (والكاظمية) روضة

غناء ... تحتضن الشعابا

 أما النسيم .. فانه

أرج بماء الورد ذابا

 وصباحها ومساؤها

يتسابقان بها عرابا

 وشبابها وشيوخها

يتباريان بها غلابا

 بـ «المرتضي» علما ، وبالشـ

يخ «المفيد» لها شهابا

 وطلائع الأبرار ممن

شيدو الشم الصلابا


أمناء دين الله هد

يا واحتسابا واكتسابا

 الحاملين رسالة الـ

اسلام والعلم اللبابا

 والاجتهاد علي الجمو

د يقود ثورته انقلابا

 والفكر يبرز كالسنا

سيفا ... وينزعه قرابا

 أولاء أسرار الحيا

ة .. وكنز معدنها عيابا

 قد توجوا التأريخ اكـ

ليلا وغارا واعتصابا

 و «بآل ياسين» زها

علما وحلما وانتجابا (١).

 ما فيهم الا النقـ

ي لوجه بارئه أنابا

 أخلاقهم زهر الربيـ

ع تكاد ترشفه رضابا

 والعلم في نداوتهم

كالبحر تمخره عبابا

__________________

(١) آل‌ياسين : الأسرة العلمية الشهيرة في الكاظمية ، برز منها العلماء الأعلام والمراجع العظام ، كان أشهرهم المرجع الأعلي الآية الكبري الشيخ محمدرضا آل‌ياسين (قدس سره).


وهداة «آل الصدر» تحـ

تضن العقيدة والصوابا (١).

 كانوا مع الاسلام آ

سادا تحصن منه غابا

 ويريك «آل الحيدري»

لكل مسألة جوابا (٢).

 عازوا الي الدين الشبا

ب .. وأفعموا منه الوطابا

 و (الخالصي) وما اصطفت

كفاه .. سيفا أو كتابا (٣).

 رجل العراق ... ونجله

علم الشريعة والمهابا

 وشبيبة رأد الضحي

من دون روعتها انجذابا

 وكذلك المجد المؤثل

يبعث الدنيا شبابا

__________________

(١) أل الصدر : الأسرة الموسوية العريقة في الكاظمية برز منها السيد حسن الصدر صاحب (تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام) والسيد اسماعيل الصدر والسيد محمدباقر الصدر صاحب (فلسفتنا) و (اقتصادنا) وسواهم.

(٢) أل الحيدري : من أعرق الأسر العريقة في الكاظمية ، برز منهم السيد مهدي الحيدري من قواد الثورة العراقية ، والسيد علي نقي والسيد محمد طاهر والسيد محمد الشهير بالخلاني.

(٣) الامام الشيخ مهدي الخالصي الكبير قائد الثورة العراقية ، وولده الأكبر الشيخ محمد الخالصي (قدس سره).


خاتمة المطاف والنتائج

كانت هذه الرحلة المباركة قد اصطحبت الامام الكاظم موسي بن جعفر (عليه‌السلام) ، في حياته الخاصة وحياته العامة ، فوجدت الامام (عليه‌السلام) باختصار : ملك قيادته وأمته لا ملك نفسه ، وخلصت الي نتائج موضوعية في رؤية معاصرة لتأريخ الامام العلمي والعقلي والسياسي والنضالي بما أوضح صورة الامام دون تزيد أو اضافة ، وانما هو الحقيقة القائمة علي أساس المنهج التحليلي للوقائع والأحداث والقيم ، في أسلوب جديد ، وعرض جديد في ثمانية فصول رئيسية :

١ ـ كان الفصل الأول متحدثا عن الامام موسي بن جعفر (عليه‌السلام) في سماته ومميزاته الأساسية منذ الولادة الطاهرة ، فالنشأة المباركة ، وتسليط الضوء علي تلك المكانة المرموقة ، مرورا بحكم التأريخ في مرآته الكاشفة عن رؤية الامام لدي أصحاب الرأي والقرار الثابت النزيه في أبعاد شخصية الامام ، ومن ثم ابراز الخصائص المميزة للامام في الورع والتقوي والحلم والزهد وكظم الغيظ وسخاء النفس ، بما يعتبر المشترك الأعظم في خصائص الأئمة.


٢ ـ وكان الفصل الثاني قد تناول المسيرة العلمية الرائدة للامام في ايجاز وتكثيف ملحوظين اقتصر فيهما البحث علي مدرسة أهل البيت الأولي في ريادتها التراثية : سننا وتشريعا ومعارف ، وموقع الامام البارز البصمات علي المدرسة ، متعقبا مصادر علم الامام الكسبية والموهبية في أدلتها وشواهدها البرهانية؛ ناظرة الي سيرورة علم الامام في الآفاق وذيوعه في الأقاليم رغم الرقابة الصارمة والتضبيب الاعلامي ، مؤكدة الدور البارز الذي نهض به تلامذة الامام في التأليف والتصنيف ، ونشر تراث أهل البيت ، وختم الفصل بشذرات من تعليمات الامام وهو يقود الأمة تهذبا وتنظيما وهداية.

٣ ـ وكان الفصل الثالث حافلا بظواهر الحياة العقلية المتطورة ، بما تلمس به من لذة فكرية ومتاع عقلي رصين ، فقد كشف عن اهتمام الامام بالعقل الانساني واستقلاليته بالادراك ، وحرص علي تتبع الاضطراب في المناخ العقلي في عصر الامام ، واتجاهات التعددية في المذاهب الكلامية والاحتجاجية والفلسفية ، والاشارة الي الانشقاق الداخلي في فرق الشيعة مما أوجد حالة جديدة من العب‌ء والمسؤولية اضطلع بها الامام بقيادته الفذة ، وهو يخوض خضم التيار الكلامي المتقلب ، ألق الجبين ، أصيل الرأي ، قوي الحجة ، بما يعبر تعبيرا رساليا عن رأي الاسلام المشرق في هذا المناخ.

٤ ـ وكان الفصل الرابع حاشدا بمفارقات عصر الامام في ظل الطواغيت من السلاطين والملوك ، وهم يسنمون مناصب الدولة العليا ، ويدعون الخلافة الشرعية دون حق ، والجور والطغيان يملأ الأرض ويتعالي الي عنان السماء ، في أرقام طويلة من الاستئثار بكل شي‌ء دون الشعب المضطهد ، وباستعلاء لا مثيل له الا في تأريخ الفراعنة والأباطرة


والقياصرة ، واستخفاف بالقيم والمثل لا نظير له الا في العهد الجاهلي ، والامام يعاني بصبر تارة ، وبكفاح تارة أخري ، وبمعتقلات سواهما ، من تلك الافرازات البغيضة الثقيلة التي مثلث الارهاب والظلم المقيت من خلال أبي‌جعفر المنصور ، والمهدي العباسي ، وموسي الهادي ، وهارون الرشيد ، بما يخرق أسطورة العصر الذهبي المزعوم.

٥ ـ وكان الفصل الخامس ملتهبا بحريق المناخ الثوري ضد النظام العباسي الجائر ، وما قوبل به هذا المناخ من اجراءات الارهاب الدموي ، وقمع التحرك السياسي بأعنف الأساليب ، وأقسي صنوف القتل والتعذيب ، ومجابهة ذلك التوجه الثوري لصاحب فخ وصاحب الديلم وأنصارهما بالحرب الضروس والابادة الشاملة ، وقطع رؤوس القتلي ، وتسيير الأسري مكبلين بالحديد ، وهدم البيوت ، ومصادرة الممتلكات ، وقتل الأسري جميعا دون استثناء.

وأعقب هذا وذاك التصفية الجسدية المنظمة لأقطاب المعارضين من العلويين ، حتي استطال المهدي والرشيد الي سجن الامام ، بعد الاتهام بتأييد الثائرين ، وهو براء من ذلك ، فالامام لا يتحرك بدافع من العواطف ، ولا يؤيد العنف الثوري ، وهو يهدر دون أية عائدية.

وكان موقف الامام جليا في الترقب والانتظار ، وآراؤه مبرمجة بالنصح الكريم وتحاشي الاثارة الدموية ، حفاظا علي أرواح الشعب البري‌ء الأعزل من الازهاق.

٦ ـ وكان الفصل السادس كفيلا باستيحاء البعد الاستراتيجي الدقيق ، والتخطيط المنهجي الرائد لسياسة الامام في مقاومة الانحراف العباسي ، واتخاذه سياسة النضال السلبي طريقا لمقاطعة النظام والقول بعدم شرعية


الحكم ، والابتعاد عن معالم السلطان والولاة والقضاة ووعاظ السلاطين ، في حين يخترق الامام النظام العباسي من الداخل بأعيان من أصحابه لهم الأثر البارز في تحقيق الحد الأدني من دفع الظلم الاجتماعي عن الناس ، وقضاء مهمات أولياء الله وأنصاره والمستضعفين في الأرض ، هذا في الوقت الذي نجد فيه الامام يشمر عن ساعديه في الموقف الحاسم الذي تدعو له الضرورة الشرعية ، فيجابه التضليل الديني ببيان الحقائق ، ويقاوم الانحراف السياسي بابداء الرأي الجري‌ء.

٧ ـ وكان الفصل السابع حافلا بمعاناة الامام في غياهب السجون ، وهو يقاسي العزلة والاغتراب في تلك الأقبية ، فبحث باستيضاح الرؤية المجهرية لدوافع سجن الامام ، وكشف الأسباب الكامنة وراء تنقل الامام في عدة سجون ، ومن ثم الرصد الاستقرائي لحياة الامام في السجن ، وهو يرفع راية العبادة المجردة ، ويعطف بالعلم النافع علي مريديه ، ويوصي بأمواله وصدقاته ، وقد لاحت امارات انتقاله الي الرفيق الأعلي.

٨ ـ وكان الفصل الثامن مقتصرا علي تسنم الامام لمدارج الشهادة بصبر وثبات ، بعد أن أذهلت الرشيد جماهيرية الامام وتأثيره في الأمة ، فدأب مخططا لاغتيال الامام مرة بعد مرة ، حتي أقدم علي قتله بالسم ، وأساغ لجلاوزته أسلوب الدجل السياسي المفضوح بالاشهاد علي وفاة الامام بأنه مات حتف أنفه ، ومن ثم كان الحديث عن مراسم تجهيز الامام وتشييعه الي مثواه الأخير في مقابر قريش حيث ضريحه المقدس مع وصف ميداني للمشهد والروضة والصحن الكاظمي والقبتين والمنائر الأربع.

وارتأي البحث أن يكمل هذه المسيرة الحافلة للامام باثبات قصيدتين


للمؤلف قالهما في حق الامام وشموخه ونضاله واحتسابه حتي كتب له الخلود السرمدي ، وعاد بحق شهيد عظمته ، وقتيل منزلته الكبري.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

النجف الأشرف

محمدحسين علي الصغير



المصادر والمراجع

المصادر والمرادجع

١. القرآن العظيم.

٢. الآبي / أبو سعيد / منصور بن الحسين الوزير. نثر الدر / الهيئه المصرية للكتاب / القاهرة / ١٩٨٠ م.

٣. الأبشيهي / شهاب الدين / محمد بن أحمد المحلي (ت ٨٥٠ هـ).

٤. ابن الأثير / أبو الحسن / علي بن أبي الكرم ، محمد بن محمد الجزري (ت ٦٣٠ ه) الكامل في التاريخ / دار الكتاب العربي / بيروت / د. ت.

٥. أحمد أمين / الدكتور / أستاذ في المجادله المصرية. ضحي الإسلام / مطبعة الاعتماد / القاهرة / ١٩٣٣.

٦. أحمد بن حنبل (ت ٢٤١ ه). مسند أحمد / دار صادر / بيروت / د. ث.

٧. الإربلّي / أبو الحسن / علي بن عيسي بن أبي الفتح / (ت ٦٩٣ ه). كشف الغمه في معرفة الأئمة. مطبعة النجف / النجف اللأشرف / ١٣٨٥.

٨. الأشعري / سعد بن عبد الله (ب ٣٠١ ه). المقالات والفرق / طبع طهران / ١٩٦٣ م.

٩. الأصيهاني / أبو الفرج / علي بن الحسين (ت ٣٥٦ ه). الأغاني / تحقيق : محمد ابو الفضل إبراهيم. دار الكتب المصرية / القاهرة / ١٩٦٨ م.

١٠. الأصبهاني / نفسه. مقاتل الطالبين / المطلعة الحيدرية / النجف


الأشرف / ١٩٥٦ م.

١١. أمير علي اهندي / أستاذ في الحضارة الإسلامية. مختصر تاريتخ العرب / الترجمة العربية / القاهرة / ١٩٣٨ م.

١٢. باقر شريف القرشي / استاذ في الحوزة العلمية في اليدف الأشرف. حياة الإمام محمد الباقر عليه السلام مطبعة النعمان / النجف الأشرف / ١٣٩٧ ه ـ ١٩٧٧ م.

١٣. باقر شريف القرشي / نفسه. حياة الإمام موسي بن جعفر عليه السلام الطبعة الثانية / مطبعة الآداب / النجف الأشرف / ١٩٧٠ م.

١٤. بحر الغلوم / الزعيم الأكبر السيد محمد مهدي الطباطبائي النجفي (١٢١٢ ه). رجال السيد بحر العلوم / الفوائد الرجالية. بحقيق : محمد صادق بحر العلوم / مطبعة الآداب / النجف الأشرف ١٣٨٥ ه.

١٥. البخاري / أبو عبد الله ، محمد بن اسماعيل (ت ٢٥٦ ه). الجامع الصحيح / المطبعة الأميرية الكبرى / بولاق / القاهرة / ١٣١٤ ه.

١٦. البرقي / أبو عبدالله / محمد بن خالد (ت ٢٨٠ ه). كتاب المحاسن / دار الكتب الإسلامية / طهران / د. ت.

١٧. البلاذري / أحمد بن يحيي (ب ٢٧٩ ه). أنساب الأشراف / دار المعارف بمصر / القاهرة / ١٩٥٩ م.

١٨. البيهقي / إبراهيم بن محمد / من أعلام القرن الثالث الهجري. المحاسن والمساوي / طبع مكتبة النهضة / القاهرة.

١٩. الترمذي / محمد بن عيسى بن سورة (ت ٢٧٩ ه) , سنن الترمذي / نشر المكتبة الإسلامية / القاهرة / د. ت.

٢٠. ابن تغزي بردي / أبوالمحاسن / جمال الدين / يوسف بن تغري بردي


(ت ٨٧٤ ه). النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة / طبعة وزارة الثقافة والإرشاد المصرية / القاهرة.

٢١. ابن تيمية / أحمد بن عبد الحليم الحراني (ت ٧٢٨ ه). منهاج السنة / القاهرة / ١٣٢١ ه.

٢٢. جعفر آل بحر العلوم. تحفة الفالم / المطبفة الحيدرية / النجف الأشرف.

٢٣. الجواهري / الفقيه الأكبر الشيخ محمد حسن الجواهري النجفي (ت ١٢٦٦ ه) جواهر الكلام / طبع النجف الأشرف / ١٣٨٩ ه.

٢٤. الجهشياري / محمد بن عبدوي. الوزراء والكتاب / مطبعة مصطفى البابي الحلبي / القاهرة / ١٣٥٧ ه.

٢٤. الجهشياري / محمد بن عبدوس. الوزراء والكتاب / مطبعة مصطفى البابي الحبلي / القاهرة / ١٣٥٧ ه.

٢٥. الحاكم النيشابوري / أبو عبدالله / محمد بن عبد الله (ت ٤٠٥ ه). المستىرك على الصحيحين / طبع الهند / ١٣٣٤ ه.

٢٦. ابن حجر / أبو الفضل / أحمد بن علي العسقلاني (ت ٨٥٢ ه). تهذيب التهذيب / دار صادر / بيروت / د. ت.

٢٧. ابن حجر / شهاب الدين / أحمد بن محمد الهيثمي المكي (ت ٦٥٦ ه). الصواعق المحرقة / طبعة القاهرة / ١٣١٢ ه.

٢٨. ابن أبي الحديد / أبو حامد / عز الدين / عبد الحميد بن هبة الله (ت ٦٥٦ ه). شرح نهج البالغة الأمير المؤمنين عليه السلام تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / دار إحياء الكتب العربية / القاهرة / ١٩٥٩ م.

٢٩. الحر العاملي / محمد بن الحسن (ت ١١٠٤ ه) , وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة دار إحياء التراث / بيروت / د. ت.

٣٠. ابن حمدون / أبو العالي / بهاء الدين / محمد بن الحسن البغدادي (ت ٥٦٢ ه). تذكرة ابن حمدون ابن حمدون / مطبعة النه ة / القاهرة / ١٣٤٥ ه.


٣١. الحميري / عبد الله بن جعفر / من علماء القرن الثالث الهجري. قرب الإسناد / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٦٩ ه.

٣٢. الخطيب البغدادي / أبو بكر / أحمد بن علي بن ثابت (ت ٤٦٣ ه). تاريخ بغداد / دار الكتاب العربي / بيروت / د. ت.

٣٣. ابن خلّكان / أحمد بن محمد بن أبي بكر (ت ٦٨١ ه). وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد / مطبعة السعادة / القاهرة / ١٩٤٩ م.

٣٤. الخوئي / أبو القاسم الموسوي الخوئي (المرجع الديني الأعلى الراحل) (ت ١٤١٣ ه). معجم رجال الحديث / إخراج : مرتضى الحكمي. مطبعة اللآداب / النجف الأشرف / ١٣٩٠ ه.

٣٥. خير الدين الزركلي (الببلغرافي المعاصر). الأعلام / الطبعة الثالثة / بيروت / ١٣٨٩ ه.

٣٦. الذهبي / شمس الدين / محمد بن أحمد بن عثمان (ت ٧٤٨ ه). تذكرة الحفاظ / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٨٣ ه.

٣٧. الذهبي / نفسه سير أعلام النبلاء / مؤسسة الرسالة / بيروت / ١٤٠٦ ه.

٣٨. الذهبي / نفسه ميزان الاعتدال / دار معرفة / بيروت / د. ت.

٣٩. الراوندي / أبو الحسن ، سعيد بن هبة الله (ت ٥٧٣ ه) , الخرائج والجرائح / طبع المصطفوي / طهران.

٤٠. زكي مبارك (الدكتور). شرح زهر الآداب / طبع القاهرة.

٤١. سبط بن الجوزي / يوسف بن فرغلي البغدادي (ت ٦٥٤ ه). تذكرة الخواص / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٨٣ ه.

٤٢. ابن سعد / أبو عبد الله / محمد بن سعد بن منيع البصري (ت ٢٣٠ ه). الطبقات الكبى / دار صادر / بيروت / ١٣٨٨ ه.


٤٣. السيوطي / أبو بكر / جلال الدين / عبد الرحمن بن أبي بكر (ت ٩١١ ه). تاريخ الخلفاء / مطبعة السعادة / القاهرة / ١٩٥٠ م.

٤٤. الشابشتي / الدبارات / طبع القاهرة.

٤٥. الشبراوي / عبد الله بن محمد القاهري / شيخ الأزهر (ت ١١٧٢ ه). الإنحاف بحب الأشراف / المطبعة الأدبية / القاهرة / ١٣١٦ ه.

٤٦. الشبلنجي / مؤمن بن حسن الشافعي (من علماء القرن الثالث عشر الهجري). نور الأبصار في مناقب آل النبي المخبار / مطبعة عاطف / القاهرة / ١٣٨٤ ه.

٤٧. ابن شعبة / أبو محمد / الحسن بن علي الحراني الحلبي / من أعلام القرن الرابع تحف العقول قن آل الرسول / تحقيق محمد صادق بحر العلوم. المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٨٠ ه.

٤٨. ابن شهر آشوب / أبو جعفر / رشيد الدين / محمد بن علي السروي (ت ٥٥٨ ه). المناقب + مناقب آل أبي طالب. المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٧٥ ه.

٤٩. الشهرستاني / أبو الفتح / محمد بن عبد الكريم (ت ٥٤٨ ه). الملل والنحل / مطبعة مصطفى البابي الحلبي / القاهرة / ١٤١٠ ه.

٥٠. شوقي ضيف / الدكتور / / رئيس المجمع اللغوي في القاهرة. التطور والتجديد في الشعر الأموي / مطبعة لجنة النشر والتأليف / القاهرة ١٩٥٢ م.

٥١. ابن الصبّاغ / علي بن محمد المغربي المالكي (ت ٨٨٥ ه). الفصول المهمّة في معرفة الأئمة / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٨١ ه.

٥٢. الصدوق / محمد بن علي بن الحسين بن بابويه (ت ٣٨١ ه). إكمال الدين وإتمام النعمة / دار الكتب الإسلامية / طهران / ١٣٩٥ ه.


٥٥. الشيخ الصدوق نفسه. أمالي الصدوق / مؤسسة الاعلمي للمطبوعات / بيروت / ١٤٠٠ ه.

٥٤. الشيخ الصوق نفيه : علل الشرائع / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٨٥ ه.

٥٥. الصدوق نفسه : معاني الأخبار / نشر جماعة المدرسين / قم / ١٣٦١ ه. ش

٥٦. الصدوق نفسه : معاني الأخبار / نسر جماعة المدرسين / قم / ١٣٦١ ه. ش.

٥٧. الصدوق نفسه : من لايحضره الفقيه / بحقيق : السيد حسن الموسوي الخرسان مطبعة النجف / النجف الاشرف / ١٣٧٧ ه.

٥٨. الصفار / محمد بن الحسن بن فروخ (ت ٢٩٠ ه). بصائر الدرجات الكبرى / منشورات الأعمي / بيروت / د ت.

٥٩. ابن طاووس / رضي الدين / أبو القاسم / علي بن موسى بن جعفر الحسني (ت ٦٦٤ ه). مهج الدعوات / طبعة طهران / ١٣٢٣ ه.

٦٠. الطبرسي / أحمد بن علي بن أبي طالب / ت ٥٨٨ ه. الاحتجاج / دارالنعمان / النجف الأشرف / ١٣٨٦ ه.

٦١. الطبرسي نفسه : إفلام الورى بأعلام الهدى / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٩٠ ه.

٦٢. الطبري / أبو جعفر / محمد بنجرير (ت ٣١٠ ه). تاريح الأمم والملوك / المطبعة الحسينية / القاهرة / ١٣٢٦ ه + طبعة دار المعارف.

٦٣. ابن اللطقطقى / فحر الدين / محمد بن نقيب النقياء علي الحسني (ت ٧٠٩ ه). الفخري في الآداب السلطانية / القاهرة / ١٩٣٨ م.

٦٤. الطوسي / أبوجعفر / محمد بن الحسن (ت ٤٦٠ ه). تهذيب الأحكام / تحقيق : السيد حسن الموسوي الخرسان. دار الكتب الإسلامية / النجف


الأشرف / ١٣٧٧ ه.

٦٥. الشيح الطوسي نفسه : رجال الطوسي / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٨١ ه.

٦٦. الشيح الطوسي نفسه : العيبة / تقديم الشيخ آقا بزرك الطهراني. مطبعة النعمان / النجف الأشرف.

٦٧. عباس محمد رضا القمي النجفي (ت ١٣٥٩ ه). الكنى والألقب / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف.

٦٨. عبد الباقي العمري / الشاعر المعروف. الديوان +الترياق الفاروقي / طبع النجف / ١٣٨٤ ه.

٦٩. عبد الجبار الجومرد / الدكتور. هارون الرشيد / طبع بغداد / ١٩٥٦ م.

٧٠. ابن عبد ريه / أحمد بن محمد الأندلسي (ت ٣٢٧ ه). العقد الفريد / تحقيق أحمد الزين وجماعته. مطبعة دار التأليف والنشر والترجمة / القاهرة / ١٩٦٧ م.

٧١. ابن عنبة / جمال الدين / أبو العباس / أحمد بن علي الحسني الدودي (ت ٨٢٨ ه). عمده الطالب / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٨٠ ه.

٧٢. $Z لسترانج : بين الخلفاء والخلعاء / تعريب : رشيد يوسف فرنسيس.

٧٣. أبوالفداء / الأمير إسماعيل بن علي بن محمود (ت ٧٣٢ ه). تاريخ أبي الفداء / القاهرة / ١٣٢٥ ه.

٧٤. القندوزي / سليمان بن أبي إبراهيم الحيفي (ت ١٢٩٤ ه). ينابيع المودة / مطبعة أحتر / استانبول / ١٣٠١ ه.

٧٥. الفهبائي / عناية الله بن شرف الدين علي القهبائي (من علماء القرن العاشر).


٧٦. مجمع الرجال / طبعه طهران / ١٣٨٤ ه. ابن كثير / أبو الفداء / إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت ٧٧٤ ه). البداية والنهاية / طبعة مطتبة المعارف / بيروت / ١٩٦٦ م.

٧٧. الكشّي / أبو عمرو / محمد بن عبد العزيز (من علماء القرن الرابع الهجري). رجال الكشّي / تحقيق السيد أحمد الحسيني. مطبعة الآداب / النجف الأشرف / ١٩٧٠ م.

٧٨. الكليني / أبو جعفر / محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي البغدادي (ت ٣٢٩ ه). أصول الكافي / دار الكتب الإسلامية / طهران / ١٣٨٣ ه.

٧٩. الكليني نفسه : فروعالكافي / بحقيق : علي أكبر الغفاري ونجم الدين الآملي. المطبعهالإإسلامية / طهران / ١٣٨٨ ه.

٨٠. الكيجي الشافعي / أبو عبد الله / محمد بن يوسف بن محمد (ت ٦٥٨ ه). كفاية الطالب / المكبعة الحيدرية / النجف الأشرف / ١٣٩٠ ه.

٨١. المتقي الهندي / علاء الدين / علي بن حسام الدين (ت ٩٧٥ ه). كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال / مؤسسة الرسالة / بيروت.

٨٢. المجلسي / شيخ الإسلام / محمد باقر بن محمد تقي (ت ١١١١ ه). بحار الأنوار / ج ٤٨ / تحقيق : محمد مهدي الموسوي الخرسان. المطبعة الإسلامية / طهران / ١٣٨٥ ه.

٨٣. محسن الأمين الحسيني العاملي الشقرائي (ت ١٩٥٢ م). اعيان الشيعة / ج ٤ / القسم الثالث / مطبعة كرم / بيروت / ١٣٧٣ ه ـ ١٩٥٤ م.

٨٤. محسن الأمين الحسيني نفسه : المجالس السنية / ج ٥ / الطبعة الثالثة / دار النعمان / النجف الأشرف / ١٣٨٤ ه.

٨٥. محمد أمين السويدي (من علماء بغداد). سلائك الذهب / طبع بغداد / د. ت.


٨٦. محمد حسن آل ياسين (من علماء الكاظمية المقدسة). الإمام موسى بن جعفر / المطبعة العربية / بيروت / ١٤٢٠ ه ـ ١٩٩٩ م.

٨٧. محمد حسن آل ياسين / نفسه : مسند الإمام موسى بن جعفر / بحث / مجلة البلاغ / الكاظمية / عدد ٧٧ / السنة ٦ / ١٣٩٦ ه.

٨٨. محمد حسين علي الصغير / الؤلف. الإمام زين العابدين عليه السلام / القائد / الداعية / لاإنسان. الطبعة الثانية / مؤسسة العارف للمطبوعات / بيروت / ٢٠٠٢ م.

٨٩. محمد حسين علي الصغير / نفسه : الإمام محمد الباقر عليه السلام / مجدد الحضارة الإسلامية. موسسة العارف للمطبوعات / بيروت ٢٠٠٢ م.

٩٠. محمد حسين علي الصغير / نفسه : الفكر الإمامي من النص حتى المرجعية الطبعة الأولى / دار المؤرخ العربي / بيروت / ٢٠٠٠ م.

٩٢. المرتضى / علم الهدى / علي بن الموسوي (ت ٤٣٦ ه) أمالي المرتضى / غرر الوائد ودرر القلائد / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. مطبعة عيسى البابي الحلبي / القاهرة / ١٩٥٤ م.

٩٣. المسعودي / علي بن الحسين بن علي البغداغي (ت ٣٤٦ ه). التيبيه والإشراف / دار الكتب المصرية / القاهرة / د. ت.

٩٤. المسعودي / نفسه. مروج الذهب / دار الاندلس / بيروتم ١٩٦٥ م.

٩٥. مصطفى جواد (الدكتور). سيدات البلاط العباسي / طبعة بغداد.

٩٦. المفيد / الشيخ الأكبر / محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (ت ٤١٣ ه). الاختصاص / تعليق علي أكبر الغفاري / مكتبة الصدوق / طهران / ١٣٧٩ ه.


٩٧. الشيخ المفيد نفسه : الإشاد / الطبعة الثانية / المطبعة الحيدرية / الندف الأشرف / ١٣٩٢ ه.

٩٨. الشيخ المفيد نفسه : الامالي / منشورات جماعة المدرسين / قم +طبعة النجف / ١٣٦٧ ه.

٩٩. النداشي / أحمد بن علي بن أحمد (ت ٤٥٠ ه). رجال النجاشي / نشر جماعة المدرسين / قم / ١٤٠٧ ه.

١٠٠. ابن النديم / أبو الفرج / محمد بن إسحاق البغدادي (ت ٣٨٥ ه). الفهرست / نشر الاستاذ فلوجل / لايبزك / ١٨٧١ م ـ ١٨٧٢ م+ تحقيق : رضا تجدد / طهران ١٩٧١ م.

١٠١. النعماني / محمد بن إبراهيم بن جعفر (من علماء القرن الرابع). الغيبه / تحقيق / : علي أكبر الغفاري / مكبتة الصدوق / طهران.

١٠٢. النوبختي / أبو محمد / الحسن بن موسى (من أعلام القرن الثالث). فرق الشيعة / بحقيق : محمد صارق بحر العلوم / المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف.

١٠٣. هاشم معروف الحسني (من علماء لبنان). سيرة الأئمة الاثني عشر / الطبعة الثانية / دار العلم / بيروت / ١٩٧٠ م.

١٠٤. اليافعي / أبو محمد / عبد الله بن أسعد اليمني (ت ٧٦٨ ه). مرآة الجنان / مؤسسة الأعلمي للمطبوعات / بيوت / ١٣٩٠ ه.

١٠٥. ياقوت / شهاب الدين / ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي (ت ٦٢٦ ه). معجم البلدان / دار صادر ـ دار بيروت / بيروت / ١٩٥٥ م.

١٠٦. اليعقوبي / أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر (ت ٢٥٤ ه). باريخ البعقوبي : بحقيق كمحمد صادق بحر العلوم / المطبعة الحيدرية النجف الأشرف / ١٣٨٤ ه.


١٠٧. يوسف خليف / الدكبور / رئيس قسم اللغة العربية وآدابها / كلية الآداب / جامعة القاهرة. حياة الشعر في الكوفة / دار الكاتب العربي / القاهرة / ١٩٦٨ م.



المحتويات

المقدمة....................................................................... ٧

الفصل الأول................................................................. ١٥

الوليد العظيم................................................................ ١٧

النشاة المباركة................................................................ ٢٠

المنزلة العليا.................................................................. ٢٥

الإمام في مرآة التاريخ......................................................... ٣٢

من خصائص الإمام.......................................................... ٣٩

أ. المنظور المشترك في خصائص الأئمة.......................................... ٣٩

ب. الورع والتقوى في ظاهرة إيجابية............................................. ٤٢

ب. الورع والتقوى في ظاهرة إيجابية............................................. ٤٢

جـ. حلم الإمام وكظمه للغيظ.................................................. ٤٤

د. ظاهرة السخاء والكرم النفسي.............................................. ٤٨

الفصل الثاني................................................................. ٥٣

المدرسة الاولى............................................................... ٥٥

مصادر علم الإمام........................................................... ٦٠

سيرورة علم الإمام............................................................ ٧٠


تلامذة الإمام والتراث العلمي.................................................. ٩٢

بعليمات الإمام لتهذيب الشعب المسلم....................................... ١٠٢

الفصل الثالث............................................................... ١١٣

العقل والمناخ العقلي المضطرب................................................ ١١٥

تعدد الاتداهات العقائدية................................................... ١٢٤

الانشقاق الداخلي عي فِرق الشيعة........................................... ١٢٩

الإمام في خضم التيار الكلامي............................................... ١٣٧

الفصل الرابع................................................................ ١٤٩

المبادئ السياسية المتقابلة.................................................... ١٥١

في استخلاف المنصور....................................................... ١٥٥

في عثد المهدي العباسي..................................................... ١٦١

في أيام موسى الهادي....................................................... ١٦٩

في مملكة هارون الرشيد...................................................... ١٧٤

الفصل الخامس............................................................. ١٩٣

قمع التحرك الثوري......................................................... ١٩٥

ثورة الحسين صاحب فخّ.................................................... ١٩٧

انتفاضة يحيى بن عبد الله المحض.............................................. ٢٠٤

التصفية الجسدية للعلويين................................................... ٢١٣

موقف الإمام من العنف الثوري.............................................. ٢١٧

الفصل السادس............................................................. ٢٢٣

الإمام وسياسة اليضال السلبي................................................ ٢٢٥

الإمام واختراق النظام العباسي................................................ ٢٣١


الإمام ومجابهة الانحراف والتضليل الديني....................................... ٢٣٨

الفصل السابع.............................................................. ٢٤٨

رؤية مجدهرية لأسباب سجن الإمام........................................... ٢٤٩

إيديولوجية تنقّل الإمام بين عدة سجون....................................... ٢٥٥

حياة الإمام يوصي بأمواله ويوقف أراضيه...................................... ٢٦٨

الفصل الثامن............................................................... ٢٧٣

فزع الرشية من منزلة الإمام................................................... ٢٧٥

اغتيال الإمام بالسم........................................................ ٢٧٩

الإشهاد على زفاة الإمام..................................................... ٢٨٣

تجهيز الإمام وتشييعه إلى مقرّه الأخير......................................... ٢٨٧

قصيدتان للمؤلف في الإمام................................................. ٢٩٢

الإمام موسى الكاظم عليه السلام............................................ ٢٩٢

في رحاب الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.................................. ٢٩٦

خاتمةُ المطاف والنتائج....................................................... ٣٠٥

المصادر والمراجع........................................................... ٣١١

المصادر والمراجع............................................................ ٣١٣

الامام موسى بن جعفر عليه السلام ضحية الارهاب السياسي

المؤلف:
الصفحات: 327