

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
١ ـ المؤلف
بسم الله الرّحمن
الرحيم هو محمّد بن شمس الدّين أبي بكر بن عبد القادر بن عبد المحسن الرّازي (نسبة
إلى الرّي) الحنفي. كنيته : أبو عبد الله. ويلقب بزين الدّين. وذكر له صاحب كتاب
روضات الجنات (محمد باقر الخوانساري) ـ في ذيل ترجمته للفخر الرّازي صاحب التفسير
الكبير ـ لقبا آخر هو «فخر الدّين» ؛ ثم ردّه. وذكره مرّة صاحب «كشف الظنون» بلقب «شمس
الدين» ومرّة بلقب «زين الدين».
والمؤسف أن مصادر
الترجمات شحيحة بأخبار هذا الرّجل ؛ حيث لا نقف على تاريخ مولده ، أمّا تاريخ وفاته
فلا يمكن الجزم به. ففي «كشف الظنون» أنه توفي سنة ٦٦٠ ه ؛ غير أنه لا يمكن الأخذ
بقوله هذا ؛ لأنّ المترجم له كان قد رحل إلى تركية ، وكان حيّا في قونية إلى سنة
٦٦٦ ه. وذكر بعضهم أنه في هذه السنة التقى العارف الكبير صدر الدّين القونوي ،
وأخذ عنه ـ سماعا ـ كتاب جامع الأصول لابن الأثير. فإذا صحّ الخبر فإن الرازي يكون
قد عاش بعد هذا التاريخ (٦٦٦ ه) ؛ لأنه يبعد ـ عادة ـ أن ينهى أحد سماع كتاب بحجم
جامع الأصول في مدّة وجيزة.
من بين الأخبار
القليلة التي وصلتنا عن محمد بن أبي بكر الرازي ذكر أنه أقام بمصر فترة من حياته
وأخذ عن بعض علمائها ، كما يذكر أنّه زار الشام. غير أنّ المؤكد من أحوال الرّازي
أنه كان مشاركا في علوم عدة ، على عادة القدامى ، تدلنا على ذلك مؤلفاته التي طبع
بعضها.
٢ ـ مؤلفاته :
أ ـ مختار الصحاح.
وقد طبع عدة مرّات. وهو أشهر كتبه وبه يعرف.
ب ـ كتاب الأمثال
والحكم.
ج ـ شرح المقامات
الحريرية.
د ـ حدائق
الحقائق. وهو كتاب في المواعظ.
ه ـ الذهب الإبريز
في تفسير الكتاب العزيز.
و ـ تحفة الملوك.
وهو كتاب في الفقه.
ز ـ أسئلة القرآن
وأجوبتها. وهو هذا الكتاب.
ح ـ روضة الفصاحة.
وهو كتاب في البلاغة.
وذكرت له مصنفات
أخرى ، ولعل له غيرها ، كما يذكر الرّازي نفسه في هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
٣ ـ الكتاب
أوّل ملاحظة ينبغي
أن نسجلها هي تعدّد العناوين التي عرف بها الكتاب الذي نحن بصدده ؛ ومن هذه
العناوين ما هو مطوّل ومنها ما هو مختصر. وهي :
ـ أنموذج جليل في
أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل.
ـ أسئلة القرآن
المجيد وأجوبتها.
ـ من غرائب آي
التنزيل.
ـ مسائل الرّازي.
أما الملاحظة
الثانية فتتعلق بجنس الكتاب ؛ حيث يمكن أن يدرج باطمئنان في فن الكتابة في معاني
القرآن وتفسير غوامضه ، وهو فن قديم ، ولعلّ أقدم ما وصلنا من الكتب المؤلفة في
هذا الباب كتاب معاني القرآن للفرّاء (ت ٢٠٧ ه). وهذا الجنس من التأليف غرضه بيان
ما أشكل من القرآن الكريم ، والتصدي لدحض الإشكالات والتشكيكات الموجهة لكتاب الله
؛ سواء كانت واقعة فعلا أو مقدّرة. وبذلك ، فإن الرّازي الذي صنّف كتابه هذا في
القرن السابع الهجري قد وجد مؤلفات عديدة أفاد منها ، بلا أدني شك ، كما يصرح هو
نفسه في مقدمة كتابه. وعليه ، فليس هذا الكتاب (أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها)
تصنيفا مبتكرا ؛ فقد سبق أن ألف في هذا الفن (على غرار معاني الآثار ومعاني الشعر)
أبو عبيدة معمّر بن المثنّى وقطرب بن المستنير والأخفش والكسائي والفرّاء وأبو
عبيد وهي أسماء سيكرّر الرّازي ذكرها في هذا الكتاب ، تارة مستشهدا وأخرى مناقشا ؛
إضافة إلى أسماء مفسّرين كالطبري والزمخشري ... أو لغويين كالزّجّاج والجوهري (زيادة
على من تقدم ذكرهم).
لكن ، الملاحظة
الثالثة جديرة بأن نقف عندها ، وفحواها أنّ هنالك كتبا ـ من بين ما صنّف في معاني
القرآن ـ أقرب إلى غرض الرّازي ؛ غير أنّنا لا نجد إشارة لها أو لأصحابها. وبهذا
الصدد يمكن أن نذكر ، مثلا ، أنّنا في حين نجد ذكرا ، من الرازي ، لابن قتيبة صاحب
كتاب «تأويل مشكل القرآن» ، فإن علماء آخرين يغيب
ذكرهم تماما ؛
نخصّ بالذّكر منهم ، هنا ، القاضي عبد الجبّار الذي صنّف في معاني القرآن ومشكلاته
كتابين ، هما : «متشابه القرآن» و «تنزيه القرآن عن المطاعن» ، والشريف المرتضى
صاحب «غرر الفوائد ودرر القلائد» الذي يعرف بأمالي المرتضى ، وهي عبارة عن مجالس
ألقاها حين قفل من الحج. غير أن الأهم من هذا وذاك ، فيما نحسب ، هو كتاب الشريف
الرضي المسمى «حقائق التأويل في متشابه التنزيل» الذي لم يطبع منه سوى الجزء
الخامس ، أما باقي أجزاء هذا الكتاب الرّائع فهي مفقودة أو مجهولة المكان ، في
حدود اطلاعي. وما يعنينا من ذكر كتاب الرضي هنا ، هو الشبه الكبير الذي نجده بينه
وبين كتاب الرّازي الذي بين يدي القارئ ، ولعل أهم أوجه الشبه هي :
ـ وحدة الغرض من
التصنيف ...
ـ اتفاق الكتابين
في الشكل ، حيث ينقسم الكتابان إلى فقرات ، تتكفل كل فقرة بعرض المسألة (المشكلة)
أو السؤال ، ثم يردفه بالجواب ، وطريقة الشريف الرضي ، في ذلك ، أن يعرض المسألة
أو الإشكال مبتدءا بالقول : «ومن سأل عن معنى قوله تعالى ...» ، ثم يأتي بالجواب ،
معدّدا الوجوه فيه ، بقوله : «فالجواب ...» ، وهكذا دواليك. أما الرّازي فإنه يعرض
المسألة بقوله : «فإن قيل ...» ، ثم يتبعها الجواب مستهلا إياه بقوله : «قلنا ...»
على نسق واحد ، من بداية الكتاب إلى نهايته.
ـ تشابه كثير من
المسائل وأجوبتها ... أو بعض وجوه أجوبتها.
غير أن هناك أكثر
من فرق بين الكتابين (كتاب الرضي وكتاب الرّازي). منها : أن الرضي سعى إلى استقصاء
الأقوال ، وجمع شتات الآراء ، أمّا الرّازي فديدنه الانتقاء والاختصار. ومنها : أن
المسحة الأدبية في إنشاء الرضي واضحة ، في حين أن أسلوب الرّازي ينحو نحو البساطة
، وخال من الاعتناء بجمال اللّغة.
لم يكن الغرض من
هذا الاستطراد استيعاب وجوه المقارنة بين الكتابين ؛ بل التنويه بأثر كبير ، ولفت
نظر المهتمين إليه (أعني كتاب الرضي).
يبقى أن كتاب
الرّازي يكاد يتفرد بميزة نكاد لا نجدها في غيره من الكتب التي صنفت في بيان معاني
القرآن وحل مشكلاته ، وهي كثرة المسائل التي يعالجها ـ على صغر حجمه ـ وهي تزيد
على مائتي وألف سؤال ، وسهولة عبارته ، وإيجازه ؛ إضافة إلى وضوحه ؛ بحيث يكون في
متناول فهم أكبر عدد من القراء ، سواء في ذلك العالم والمتعلم ، أما المسائل
الدقيقة التي تتعلق بوجوه الإعراب أو المعاني ، وكثير من النكات البلاغية ، فإن
الرّازي قد تجنب غالبا الخوض فيها. وقد صرح هو نفسه ـ في مقدمة الكتاب ـ بالمنهج
الذي اختطه ، والغاية التي رامها ؛ حيث قال : «ولكنّي قصدت اختصار هذا الأنموذج [من
أسئلة القرآن] ، وتقريبه إلى الأفهام ، ليكثر الانتفاع به ، ولا
يهجر لدقّته
وغموضه.
وأمّا الأسئلة
التي تتعلق بوجوه الإعراب ، وبالمعاني التي هي أدق على الأفهام وأخفى فإني وضعت
لها مختصرا آخر ، وأودعته أنموذجا منها أيضا ...».
ومؤدّى ذلك ، أنّ
المؤلف قد التزم بطرح الأسئلة أو المشكلات التي قد تواجه القارئ العادي للقرآن ،
لا خصوص العلماء ؛ لذلك فإنه لم يكثر من ذكر الشواهد ، التي تغصّ بها كتب التفسير
والغريب والمعاني عادة ، وهو ما جعل الكتاب لا يحتاج إلى تعليقات كثيرة. ومن ثمّ ،
فقد كان عملنا لإخراج هذه الطبعة مناسبا لما يحتاجه الكتاب من ترقيم الآيات
القرآنية ، وتخريج الأحاديث النبويّة والآثار ، وتخريج الأشعار ، وشرح المفردات
الغريبة ؛ إضافة إلى مقارنة رأي المؤلّف ، في بعض المسائل ، بآراء علماء آخرين.
كما قمنا بترقيم
فقرات النصّ ؛ حيث تتضمن كل فقرة المسألة ، التي هي موضوع البحث ، وجوابها. وجعلنا
الإحالة في الحواشي والفهارس على أرقام الفقرات. وترجمنا للعلماء الذين يذكرهم
المؤلّف. وذيّلنا الكتاب بفهارس فنّيّة.
أخيرا ، نسأل الله
أن ينفع بهذا الكتاب ، إنّه سميع الدّعاء.
نجيب ماجدي
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف]
قال الفقير إلى
رحمة الله ربه ومغفرته : محمّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرّازي ، عفا الله عنه ،
وغفر له ولجميع المسلمين :
الحمد لله ربّ
العالمين ، هذا مختصر جمعت فيه أنموذجا يسيرا من أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها ؛
فمنه ما نقلته من كتب العلماء إلّا أني نقحته ولخصته ، ومنه ما فتح الله تعالى
عليّ به ، بسبب مذاكرة أخ لي من إخوان الصفاء في دين الله ومحبة كتابه ؛ وكان
صالحا تقيا سليم الفطرة وقّاد الذهن ، جامعا لجملة من مكارم الأخلاق وصفات الكمال
الإنساني. أنعم الله تعالى عليّ بصحبته ومذاكرته في معاني كتابه. وكان شديد
العناية بها ، كثير البحث والسؤال عنها ؛ قد هداه الله إليها ، وفتح عليه فيها
بغرائب لم نسمعها من العلماء ، ولا رأيناها في كتبهم. فحملتني فكرته القادحة
ونيّته الصالحة على جمع هذه الصبابة ؛ وهي تزيد على ألف ومائتي سؤال ؛ وإن كانت بالنّسبة إلى
ما في القرآن من العجائب والغرائب كالقطرة من الدّأماء ، والسها من نجوم السماء ؛ ولكن ، قصدت اختصار هذا الأنموذج منها
وتقريبه إلى الأفهام ، ليكثر الانتفاع به ، ولا يهجر لدقّته وغموضه.
وأما الأسئلة التي
تتعلّق بوجوه الإعراب ، وبالمعاني التي هي أدقّ على الأفهام وأخفى ، فإنّي وضعت
لها مختصرا آخر ، وأودعته أنموذجا منها أيضا ، فليطلب ثمّة. وبالله أستعين ، وعليه
أتوكّل ، وإليه أتضرع في أن يجعل علمي وعملي خالصا لوجهه الكريم ، ويتغمدني وأخي
الصالح بمغفرته ورحمته ؛ إنّه غفور رحيم.
__________________
سورة فاتحة الكتاب
[١] فإن قيل : الرّحمن أبلغ في الوصف بالرّحمة من الرّحيم ،
بالنقل عن الزّجّاج وغيره ، فكيف قدمه؟ وعادة العرب في صفات المدح الترقي من
الأدنى إلى الأعلى ، كقولهم : فلان عالم نحرير ؛ لأنّ ذكر الأعلى أوّلا ، ثمّ
الأدنى لا يتجدّد فيه ، بذكر الأدنى ، فائدة ؛ بخلاف عكسه؟
قلنا
: قال الجوهري
وغيره : إنّهما بمعنى واحد ، كنديم وندمان ؛ فعلى هذا لا يرد السؤال. وعلى القول
الأوّل : إنّما قدّمه ؛ لأن لفظ الله اسم خاص بالباري تعالى. لا يسمّى به غيره. لا
مفردا ولا مضافا ؛ فقدّمه. والرّحيم يوصف به غيره مفردا ومضافا فأخّره.
والرحمن يوصف به
غيره مضافا ولا يوصف به مفردا إلّا الله تعالى ؛ فوسّطه.
[٢] فإن قيل : كيف قدّم العبادة على الاستعانة ، والاستعانة
مقدّمة ؛ لأنّ العبد يستعين بالله على العبادة ؛ فيعينه الله تعالى عليها؟
قلنا
: الواو لا تدلّ
على الترتيب ، أو المراد بهذه العبادة التوحيد ، وهو مقدّم على الاستعانة على أداء
سائر العبادات ؛ فإنّ من لم يكن موحّدا لا يطلب الإعانة على أداء العبادات.
[٣] فإن قيل : المراد بالصراط المستقيم : الإسلام ، أو القرآن
، أو طريق الجنّة ، كما قيل بالنّقل ؛ والمؤمنون مهتدون إلى ذلك ؛ فما معنى طلب
الهداية لهم بقولهم : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ؛
إذا فيه تحصيل الحاصل؟
قلنا
: معناه ثبّتنا
عليه وأدمنا على سلوكه ؛ خوفا من سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما تقول
العرب للواقف : قف حتّى آتيك ، معناه : دم على وقوفك وأثبت
__________________
عليه ، أو معناه :
طلب زيادة الهدى كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧]. وقال
عزوجل : (وَيَزِيدُ اللهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦].
[٤] فإن قيل : ما فائدة دخول «لا» في قوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ) وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) والضّالين كاف في المقصود؟
قلنا
: فائدته تأكيد
النفي الذي دلّ عليه غير.
سورة البقرة
[٥] فإن قيل : كيف قال : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] على
سبيل الاستغراق؟ وكم ضالّ قد ارتاب فيه! ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا)؟ [البقرة : ٢٣].
قلنا
: المراد أنه ليس
محلا للرّيب ، أو معناه : لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين ، أو هو نفي معناه
النهي : أي لا ترتابوا فيه أنه من عند الله تعالى. ونظيره قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيها) [الحج : ٧].
[٦] فإن قيل : كيف قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والمتّقون مهتدون فكأنّ فيه تحصيل الحاصل؟
قلنا
: إنّما صاروا
متّقين بما استفادوا منه من الهدى ، أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى وزيادة فيه ،
أو خصّهم بالذّكر ، لأنّهم هم الفائزون بمنافعه ، حيث قبلوه واتّبعوه كقوله تعالى
: (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥]
أو أراد الفريقين من يتّقي ومن لم يتّق ، واقتصر على أحدهما ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النمل : ٨١].
[٧] فإن قيل : المخادعة إنّما تتصوّر في حقّ من يخفى عليه
الأمور ، ليتمّ الخداع في حقّه. يقال : خدعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم ؛
والله تعالى لا يخفى عليه شيء ؛ فكيف قال : (يُخادِعُونَ اللهَ)؟
قلنا
: معناه يخادعون
رسول الله ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ،
وقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ؛
أو سمّى نفاقهم خداعا لشبهه بفعل المخادع.
[٨] فإن قيل : كيف حصر الفساد في المنافقين ، بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : ١٢] ،
ومعلوم أنّ غيرهم مفسد؟
قلنا
: المراد بالفساد
الفساد بالنّفاق. وهم كانوا مختصّين به.
__________________
[٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥].
والاستهزاء من باب العبث والسخرية. وهو قبيح. والله تعالى منزّه عن القبيح؟
قلنا
: سمّي جزاء
الاستهزاء استهزاء مشاكلة ؛ كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].
فالمعنى : الله يجازيهم جزاء استهزائهم.
[١٠] فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩]
ومعلوم أنّ الصيّب لا يكون إلّا من السماء؟
قلنا
: فائدته أنه ذكر
السماء معرفة وأضافه إليها ليدلّ على أنّه من جميع آفاقها ، لا من أفق واحد ، إذ
كلّ أفق يسمّى سماء. قال الشّاعر :
ومن بعد أرض بيننا وسماء
[١١] فإن قيل : كيف قال : (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢] ،
مع أنّ المشركين لم يكونوا عالمين أنه لا ندّ له ، ولا شريك له ؛ بل كانوا يعتقدون
أنّ له أندادا وشركاء؟
قلنا
: معناه وأنتم
تعلمون أنّ الأنداد لا يقدرون على شيء ممّا سبق ذكره في الآية ، أو وأنتم تعلمون
أنّه ليس في التّوراة والإنجيل جواز اتّخاذ الأنداد.
[١٢] فإن قيل : كيف قال : (فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] ،
فعرّف النار هنا ، ونكّرها في سورة التّحريم؟
قلنا
: لأنّ الخطاب في
هذه مع المنافقين ، وهم في أسفل النار المحيطة بهم ، فعرّفت بلام الاستغراق أو
العهد الذّهني ، وفي تلك مع المؤمنين ، والذي يعذّب من عصاتهم بالنّار يكون في جزء
من أعلاها ، فناسب تنكيرها لتقللها.
وقيل : لأنّ تلك الآية نزلت بمكّة ، قبل هذه الآية ، فلم تكن
النار التي وقودها
__________________
الناس والحجارة
معروفة ، فنكّرها. ثم ، نزلت هذه الآية بالمدينة ، فعرّفت ؛ إشارة بها إلى ما
عرفوه أوّلا.
[١٣] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢] ،
ليسا فعلين متغايرين ، فينهوا عن الجمع بينهما ؛ بل أحدهما داخل في الآخر؟
قلنا
: هما فعلان
متغايران ، لأنّ المراد بتلبيسهم الحقّ بالباطل كتابتهم في التّوراة ما ليس منها ،
وبكتمانهم الحقّ قولهم : لا نجد في التّوراة صفة محمّد صلىاللهعليهوسلم.
[١٤] فإن قيل : قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] ،
ما فائدة الثاني والأوّل يدلّ عليه ويقتضيه؟
قلنا
: قوله : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ، أي : ملاقوا ثواب ربّهم ، وما وعدهم على الصبر والصلاة ؛
وقوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
راجِعُونَ) ، أي موقنون بالبعث ؛ فصار المعنى : أنهم موقنون بالبعث
وبحصول الثّواب الموعود ؛ فلا تكرار فيه.
[١٥] فإن قيل : كيف قال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] ؛
وهم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم ؛ لأنّهم قيل لهم ؛ قولوا حطّة ، فقالوا حنطة؟
قلنا
: معناه فبدّل
الّذين ظلموا قولا ، قيل لهم. وقالوا قولا ، غير الّذي قيل لهم.
[١٦] فإن قيل : قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠]
العثو : الفساد ؛ فيصير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
قلنا
: معناه ولا تعثوا
في الأرض بالكفر ، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي.
[١٧] فإن قيل : كيف قال : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى
طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١]
وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟
__________________
قلنا
: المراد أنّه دائم
غير متبدّل وإن كان نوعين.
[١٨] فإن قيل : كيف قال : (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١] ،
وقتل النبيين لا يكون إلّا بغير الحق؟
قلنا
: معناه بغير الحقّ
في اعتقادهم ؛ ولأن التّصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم ؛ وإن كانت تلك
الصفة لازمة للفعل ، كما في عكسه ؛ كقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢]
، لزيادة معنى في التّصريح بالصّفة ؛ ولأن قتل النبيّ قد يكون بحقّ ؛ كقتل إبراهيم
، صلوات الله على نبيّنا وعليه ، ولده ؛ لو وجد ، لكان بحقّ.
[١٩] فإن قيل : كيف قال : (فَقُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] ،
وانتقالهم من صورة البشر إلى صورة القردة ليس في وسعهم؟
قلنا
: هذا أمر إيجاد لا
أمر إيجاب ؛ فهو من قبيل قوله عزوجل : (كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].
[٢٠] فإن قيل : كيف قال : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] ،
ولفظة بين تقتضي شيئين فصاعدا. فكيف جاز دخولها على ذلك وهو مفرد؟
قلنا
: ذلك يشاء به إلى
المفرد والمثنى والمجموع ؛ ومنه قوله تعالى : (بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] ،
وقوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦]
وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ) [آل عمران : ١٤] ،
إلى قوله تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا). فمعناه عوان بين الفارض والبكر ، وسيأتي تمامه في قوله عزوجل : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ،
إن شاء الله تعالى.
__________________
[٢١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ
الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) [البقرة : ٧٤]
كلاهما بمعنى واحد ؛ فما فائدة الثّاني؟
قلنا
: التّفجّر يدلّ
على الخروج بوصف الكثرة ، والثاني يدلّ على نفس الخروج. وهما متغايران ؛ فلا
تكرار.
[٢٢] فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩]
والكتابة لا تكون إلّا باليد؟
قلنا
: فائدته تحقيق
مباشرتهم ذلك التّحريف بأنفسهم ؛ وذلك ، زيادة في تقبيح فعلهم ؛ فإنه يقال : كتب
فلان كذا ، وإن لم يباشره بنفسه ؛ بل أمر غيره به ، من كاتب له ونحو ذلك.
[٢٣] فإن قيل : التّولّي والإعراض واحد ، فكيف قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً
مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة : ٨٣].
قلنا
: معناه : ثمّ
تولّيتم عن الوفاء بالميثاق والعهد ، وأنتم معرضون عن الفكر والنظر في عاقبة ذلك.
[٢٤] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة : ٩٦] ،
ما فائدة قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) ، وهم من جملة الناس؟
قلنا
: إنّما خصّوا
بالذّكر بعد العموم ؛ لأنّ حرصهم على الحياة أشدّ ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.
[٢٥] فإن قيل : قوله عزوجل : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) [البقرة : ١٠٢]
يدلّ على أنّ الله تعالى أنزل علم السحر على الملكين ؛ فلم يكن حراما! قلنا : العمل به حرام ؛ لأنّهما كانا يعلّمان الناس السحر
ليجتنبوه. كما قال الله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [البقرة : ١٠٢].
نظيره لو سأل إنسان : ما الزّنا؟ لوجب بيانه له ، ليعرفه ، فيجتنبه.
[٢٦] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢].
كيف أثبت لهما العلم أوّلا ، مؤكّدا بلام القسم ، ثمّ نفاه عنهم.
قلنا
: المثبت لهم أنّهم
علموا علما إجماليا أنّ من اختار السحر ماله ، في الآخرة ، من نصيب ؛ والمنفي عنهم
أنّهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه من تحسّر الآخرة ، ولا يكون لهم نصيب منها ؛
فالمنفي غير المثبت ، فلا تنافي.
[٢٧] فإن قيل : كيف قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٣] ؛
وإنّما يستقيم أن يقال : هذا خير من ذلك ، إذا كان في كلّ واحد منهما خير ؛ ولا
خير في السحر؟
قلنا
: خاطبهم على
اعتقادهم أنّ في تعلّم السحر خيرا ؛ نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيوي به.
[٢٨] فإن قيل : كيف قال هنا : (رَبِّ اجْعَلْ هذا
بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦].
وقال في سورة إبراهيم صلوات الله عليه : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا
الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥].
قلنا
: في الدّعوة
الأولى ، كان مكانا قفرا ؛ فطلب منه أن يجعله بلدا وآمنا ؛ وفي الدّعوة الثّانية ،
كان بلدا غير آمن ؛ فعرّفه وطلب له الأمن ؛ أو كان بلدا آمنا ؛ فطلب له ثبات الأمن
ودوامه.
وكون هذه السورة
مدنيّة ، وسورة إبراهيم مكّية ، لا ينافي هذا ؛ لأنّ الواقع من إبراهيم ، صلوات
الله عليه ، بلغته على الترتيب الذي قلنا ؛ والإخبار عنه في القرآن على غير ذلك
الترتيب ؛ أو أنّ المكّيّ ، منه ، ما نزل قبل الهجرة ؛ فيكون المدنيّ متأخّرا عنه
؛ ومنه ما نزل بعد فتح مكّة ؛ فيكون متأخّرا عن المدنيّ ؛ فلم قلتم إنّ سورة
إبراهيم ، عليهالسلام ، من المكّي الّذي نزل قبل الهجرة؟!
[٢٩] فإن قيل : أي مدح وشرف لإبراهيم ، صلوات الله عليه ، في
قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة : ١٣٠] مع
ما له من شرف الرّسالة والخلّة؟
قلنا
: قال الزّجّاج :
المراد بقوله : (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي من الفائزين.
[٣٠] فإن قيل : الموت ليس في وسع الإنسان وقدرته ؛ حتّى تصحّ أن
ينهى عنه ، على صفة ، أو يؤمر به على صفة ؛ فكيف قال : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ)؟ [آل عمران : ١٠٢].
قلنا
: معناه : اثبتوا
على الإسلام ، حتّى إذا جاءكم الموت متّم على دين الإسلام. فهو في المعنى أمر
بالثّبات على الإسلام والدّوام عليه ، أو نهي عن تركه.
[٣١] فإن قيل : قوله عزوجل : (فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة : ١٣٧] ،
إن أريد به الله تعالى فلا مثل له ، وإن أريد به دين الإسلام فلا مثل له ، أيضا ؛
لأنّ دين الحق واحد؟
قلنا
: كلمة مثل زائدة.
معناه : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، يعني بمن آمنتم به ، وهو الله تعالى ، أو
بما آمنتم به ، وهو دين الإسلام. ومثل قد تزاد في الكلام ، كما في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ،
وقوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢].
ومثل ومثل بمعنى واحد ؛ وقيل : الباء زائدة ، كما في قوله
تعالى : (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] ، أي
مثل إيمانكم بالله أو بدين الإسلام.
[٣٢] فإن قيل : كيف قال : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] ،
وهو لم يزل عالما بذلك؟
قلنا
: قوله لنعلم : أي
لنعلم كائنا موجودا ما قد علمناه أنّه يكون ويوجد ، أو أراد بالعلم التّمييز
للعباد ، كقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧].
[٣٣] فإن قيل : كيف قال
: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها) [البقرة : ١٤٤] ،
وهذا يدلّ على أنّه صلىاللهعليهوسلم لم يكن راضيا بالتّوجه إلى بيت المقدس ؛ مع أنّ التّوجه
إليه كان بأمر الله تعالى وحكمه؟
قلنا
: المراد بهذا
الرّضا المحبّة بالطّبع ، لا رضا التّسليم والانقياد لأمر الله تعالى.
[٣٤] فإن قيل : كيف قال : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ
قِبْلَتَهُمْ) [البقرة : ١٤٥] ،
ولهم قبلتان : لليهود قبلة ، وللنّصارى قبلة؟
قلنا
: لمّا كانت
القبلتان باطلتين ، مخالفتين لقبلة الحقّ ؛ فكانتا ، بحكم الاتّحاد في البطلان ،
قبلة واحدة.
[٣٥] فإن قيل : كيف يكون للظّالمين من اليهود أو غيرهم حجّة على
المؤمنين ، حتى قال : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠]؟
قلنا
: معناه إلّا أن
يقولوا ظلما وباطلا ، كقول الرجل لصاحبه : مالك عندي حقّ إلّا أن تظلم أو تقول
الباطل ؛ وقيل معناه : والذين ظلموا منهم ؛ فإلّا هنا ، بمعنى واو العطف ، كما في
قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠ ، ١١]
؛ وقيل : إلّا فيهما بمعنى لكن. وحجتهم أنهم كانوا يقولون لمّا توجه
النبيّ ، عليه الصلاة والسلام ، إلى بيت المقدس : ما درى محمّد أين قبلته حتّى
هديناه ، وكانوا يقولون ، أيضا : يخالفنا محمّد في ديننا ، ويتبع قبلتنا ؛ فلمّا
حوّله الله تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجّة ؛ فعادوا يقولون : لم تركت قبلة
بيت المقدس؟ إن كانت باطلة فقد صلّيت إليها زمانا ، وإن كانت حقّا فقد انتقلت عنها
؛ فهذا هو المراد به بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] ؛ وقيل
: المراد به قولهم
: ما ترك محمّد قبلتنا إلّا ميلا لدين قومه وحبّا لوطنه ؛ وقيل
: المراد به قول
المشركين : قد عاد محمّد إلى قبلتنا ، لعلمه أنّ ديننا حقّ ؛ وسوف يعود إلى ديننا.
وإنّما سمّى الله باطلهم حجّة لمشابهته الحجّة في الصورة ، كما قال الله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) [الشورى : ١٦] ،
أي باطلة ، وقال : (فَرِحُوا بِما
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [غافر : ٨٣].
[٣٦] فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] ،
بعد قوله :
(وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢] ؛
والشّكر نقيض الكفر ؛ فمتى وجد الشّكر انتفى الكفر؟
قلنا
: قوله : (وَاشْكُرُوا لِي) معناه : استعينوا بنعمتي على طاعتي ، وقوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) معناه : لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي. وقيل
: الأوّل أمر
بالشكر. والثاني أمر بالثّبات عليه.
[٣٧] فإن قيل : كيف قال : (وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ) [البقرة : ١٦١] ،
وأهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟
قلنا
: المراد بالنّاس
المؤمنون فقط ؛ أو هو على عمومه ، وأهل دينه يلعنونه في الآخرة ؛ قال الله تعالى :
(ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] ،
وقال : (كُلَّما دَخَلَتْ
أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨].
[٣٨] فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (إِلهٌ) في : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] ؛
فهلّا قال : وإلهكم واحد ، فكان أخصر وأوجز؟
قلنا
: لو قال : وإلهكم
واحد ، لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في الإلهية ، يعني لا إله غيره ، ولم يكن
إخبارا عن توحّده في ذاته ؛ بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله.
والآية إنّما سيقت
لإثبات أحديته في ذاته ، ونفي ما يقوله النصارى أنّه واحد ، والأقانيم ثلاثة ، أي
الأصول ؛ كما أنّ زيدا واحدا ، وأعضاؤه متعدّدة. فلمّا قال : إله واحد دلّ على
أحديّة الذّات والصفة. ولقائل أن يقول : قوله : واحد يحتمل الأحديّة في الذّات ،
ويحتمل الأحديّة في الصفات ، سواء كرّر ذكر الإله أو لم يكرّر ؛ فلا يتمّ الجواب.
[٣٩] فإن قيل : ما وجه صحّة التّشبيه في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ) [البقرة : ١٧١]
وظاهره تشبيه الكفّار بالرّاعي؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: ومثلك يا محمّد ، مع الكفّار ، كمثل الرّاعي مع الأنعام ؛ أو تقديره : ومثل
الّذين كفروا كمثل بهائم الرّاعي ؛ أو ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الناعق بالبهائم
؛ أو مثل الّذين كفروا ، في دعائهم الأصنام ، كمثل الرّاعي.
[٤٠] فإن قيل : كيف خصّ المنعوق ، بأنّه لا يسمع إلّا دعاء
ونداء ؛ مع أنّ كلّ عاقل كذلك ؛ أيضا لا يسمع إلّا دعاء ونداء؟
قلنا
: المراد بقوله :
لا يسمع أنّه لا يفهم كقولهم : أساء سمعا فأساء إجابة ، أي أساء فيهما.
[٤١] فإن قيل : كيف قال : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤] ،
وقال في موضع آخر : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣].
قلنا
: المنفي كلام
التلطّف والإكرام ، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة ؛ فلا تنافي.
[٤٢] فإن قيل : كيف قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] ،
أي فرض ؛ والقصاص ليس بفرض ؛ بل الوليّ مخيّر فيه ؛ بل مندوب إلى تركه؟
قلنا
: المراد به فرض
على القاتل التّمكين ، لا أنّه فرض على الوليّ الاستيفاء.
[٤٣] فإن قيل : كيف قال : (الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠] ،
عطف الأقربين على الوالدين ، وهما أقرب الأقربين ، والعطف يقتضي المغايرة؟
قلنا
: الوالدان ليسا من
الأقربين ؛ لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة ، كالأخ والعمّ ونحوهما ؛
والوالدان ليسا كذلك ؛ ولو كانا منهم ، لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما ، كقوله تعالى
: (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].
[٤٤] فإن قيل : كيف قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] ،
وصوم هذه الأمّة ليس كصوم أمّة موسى وعيسى ، عليهماالسلام؟
قلنا
: التّشبيه في أصل
الصوم ، لا في كيفيّته ، أو في كيفيّة الإفطار ؛ فإنّه كان ، في أوّل الأمر ،
الإفطار مباحا ، من غروب الشّمس إلى وقت النوم ، فقط ؛ كما كان في صوم من قبلنا ؛
ثم نسخ بقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) [البقرة : ١٨٧]
الآية ، أو في العدد ، أيضا ؛ على ما روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أنّه قال
: فرض على النصارى صوم رمضان بعينه. فقدّموا عشرة ، أو أخّروا عشرة ؛ لئلّا يقع في
الصيف. وجبروا التّقديم والتّأخير ، بزيادة عشرين. فصار صومهم خمسين يوما ، بين
الصيف والشّتاء.
[٤٥] فإن قيل : ما فائدة قوله : (وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥] ،
بعد قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ)؟
قلنا
: ذكر أوّلا أنّه
هدى ؛ ثمّ ذكر أنّه بيّنات من الهدى ، أي من جملة ما هدى الله به عبيده ، وفرّق به
بين الحقّ والباطل ، من الكتب السماويّة الهادية الفارقة بين الحقّ والباطل ؛ فلا
تكرار.
[٤٦] فإن قيل : ما فائدة إعادة ذكر المريض والمسافر؟
قلنا
: فائدته أن الآية
المتقدمة نسخ ممّا فيها تخيير الصحيح ، وكان فيها تخيير المريض والمسافر ، أيضا ؛
فأعيد ذكرهما لئلّا يتوهّم أنّ تخييرهما نسخ ، كما نسخ تخيير الصحيح.
[٤٧] فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦]
يدلّ على أنّه يجيب دعاء الدّاعين ، ونحن نرى كثيرا من الدّاعين لا يستجاب لهم؟!
__________________
قلنا
: روي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أنّه قال : «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة
رحم ولا إثم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إمّا أن يعجّل دعوته ، وإمّا أن
يدّخرها له في الآخرة ، وإمّا أن يدفع عنه من السوء مثلها». ولأنّ قبول الدّعاء
شرطه الطّاعة لله تعالى ، وأكل الحلال ، وحضور القلب ، وقت الدّعاء ؛ فمتى اجتمعت
هذه الشّروط ، حصلت الإجابة. ولأنّ الدّاعي قد يعتقد مصلحته في الإجابة ، والله
تعالى يعلم أنّ مصلحته في تأخير ما سأل ، أو في منعه ، فيجيبه إلى مقصوده الأصلي
وهو طلب المصلحة ؛ فيكون قد أجيب ، وهو يعتقد أنّه منع عنه.
[٤٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ؛
ومعلوم أنّ ثلاثة وسبعة عشرة؟ ثمّ ، ما فائدة قوله : (كامِلَةٌ) ، والعشرة لا تكون إلّا كاملة ؛ وكذا جميع أسماء الأعداء
لا تصدق على أقلّ من المذكور ، ولا على أكثر منه؟
قلنا
: فائدة قوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) أن لا يتوهّم أن الواو بمعنى أو ، كما في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣] ،
وألّا تحلّ التّسع جملة.
فنفى بقوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) ظنّ وجوب أحد العددين ، فقط ؛ إمّا الثّلاثة في الحجّ ، أو
السبعة بعد الرّجوع ؛ وأن يعلم العددين من جهتين جملة وتفصيلا ، فيتأكد العلم به ؛
ونظيره فذلكة الحساب وتنصيف الكتاب. وأمّا قوله تعالى : (كامِلَةٌ) فتأكيد ، كما في قوله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] ،
أو معناه كاملة في الثّواب ؛ مع وقوعها بدلا عن الهدى ، أو في وقوعها موقع
المتتابع ؛ مع تفرّقها ، أو في وقوعها موقع الصوم بمكّة ؛ مع وقوع بعضها في غير
مكّة ؛ فالحاصل ، أنّه كمال وصفا لا ذاتا.
[٤٩] فإن قيل : ما فائدة تكرار الأمر بالذّكر في قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ
فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨]؟
قلنا
: إنّما كرّره
تنبيها على أنّه أراد ذكرا مكرّرا ، لا ذكرا واحدا ؛ بل مرّة بعد أخرى ؛ ولأنه زاد
في الثّاني فائدة أخرى ، وهي قوله تعالى : (كَما هَداكُمْ) ، يعني اذكروه بأحديّته ، كما ذكركم بهدايته ؛ أو إشارة
إلى أنّه أراد بالذّكر الأول الجمع بين الصلاتين بمزدلفة ، وبالثّاني الدّعاء ،
بعد الفجر ، بها ، فلا تكرار.
[٥٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) [البقرة : ١٩٨].
إلى أن قال : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [البقرة : ١٩٩]
وأراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف ، وبعد المجيء إلى مزدلفة والذّكر فيها مرّتين
، كما فسّرنا كيف يفيضون من عرفات.
قلنا
: فيه تقديم وتأخير
تقديره : من ربّكم. ثم ، أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإذا أفضتم من عرفات.
[٥١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] ،
ومعلوم أن المتعجّل التّارك بعض الرّمي إذا لم يكن عليه إثم لا يكون على المتأخّر
الآتي بالرّمي كاملا؟
قلنا
: كان أهل الجاهلية
فريقين : منهم من جعل المتعجّل آثما ، ومنهم من جعل المتأخّر آثما ؛ فأخبر الله
تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا ؛ أو معناه لا إثم على المتأخّر ، في تركه الأخذ
بالرخصة ؛ مع أنّ الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه ، كما يحبّ أن تؤتى عزائمه ؛ أو
أنّ معناه أنّ انتفاء الإثم عنهما موقوف على التّقوى ، لا على مجرّد الرّخصة أو
العزيمة في الرّمي.
ثم ، قيل : المراد
به تقوى المعاصي في الحجّ. وقيل : تقوى المعاصي بعد الحجّ ، في بقيّة العمر ، بالوفاء بما
عاهد الله تعالى عليه ، بعرفة وغيرها من مواقف الحجّ ، من التّوبة والإنابة.
والمشكل ، في هذه
الآية ، قوله تعالى : (فِي يَوْمَيْنِ) [البقرة : ٢٠٣] ،
والتّعجيل المرخّص فيه إنّما هو التّعجيل في اليوم الثّاني ، من أيّام التّشريق ؛
فكيف ذكر لفظ اليومين ، وأراد بهما اليوم الثّاني ، فقط؟
[٥٢] فإن قيل : كيف قال : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠]
وهو يدلّ على أنّها كانت إلى غيره ، كقولهم : رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟
__________________
قلنا
: هو خطاب لمن كان
يعبد غير الله ، وينسب أفعاله إلى سواه ؛ فأخبرهم أنّه إذا كشف لهم الغطاء ، يوم
القيامة ، ردّوا ما أضافوه لغيره ؛ بسبب كفرهم وظلمهم ؛ ولأنّ رجع يستعمل بمعنى
صار ووصل ، كقولهم : رجع عليّ من فلان مكروه ؛ قال الشّاعر :
وما المرء إلّا
كالشّهاب وضوئه
|
|
يحور رمادا بعد
إذ هو ساطع
|
ولأنّها كانت إليه
قبل خلق عبيده ؛ فلما خلقهم ملّكهم بعضها ، خلافة ونيابة ؛ ثم ، رجعت إليه ، بعد
هلاكهم ؛ ومنه قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] ،
وقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٦].
وإنّما قال : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠] ،
ولم يقل : إليه ، وإن كان قد سبق ذكره مرّة ، لقصد التّعميم والتّعظيم ؛ وذلك
ينافي الإيجاز والاختصار.
[٥٣] فإن قيل : كيف
طابق الجواب السؤال في قوله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ٢١٥] ،
فإنّهم سألوا عن بيان ما ينفقون ، وأجيبوا عن بيان المصرف؟
قلنا
: قد تضمن قوله
تعالى : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ خَيْرٍ) [البقرة : ٢١٥]
بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، ثم زيد على الجواب بيان المصرف ونظيره قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ
هِيَ عَصايَ) [طه : ١٧ ، ١٨]
الآية ، وقوله عليه الصلاة والسلام ـ وقد سئل عن الوضوء بماء البحر ـ «هو الطّهور
ماؤه الحلّ ميتته».
[٥٤] فإن قيل : كيف جاء يسألونك ثلاث مرات بغير واو (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٥ ـ ٢١٩]
ثم جاء ثلاث مرات بالواو : (وَيَسْئَلُونَكَ ما
ذا يُنْفِقُونَ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢١٩ ـ ٢٢٢].
قلنا
: لأن سؤالهم عن
الحوادث الأول وقع متفرقا ، وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع
دلالة على ذلك.
__________________
[٥٥] فإن قيل : كيف قال : (وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٢٧]
وعزمهم الطلاق ممّا يعلم لا ممّا يسمع؟
قلنا
: الغالب أن العزم
على الطلاق وترك الفيء لا يخلو عن مقاولة ودمدمة وإن خلا عنها فلا بد له أن يحدّث
نفسه ويناجيها بما عزم عليه ، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله تعالى كما يسمع وسوسة
الشيطان.
[٥٦] فإن قيل : كيف قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [البقرة : ٢٢٨] ،
ولا حق للنساء في الرجعة ، وأفعل يقتضي الاشتراك؟
قلنا
: المراد أن الزوج
إذا أراد الرجعة وأبت وجب إيثار قوله على قولها ؛ لأنّ لها حقّا في الرجعة.
[٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) [البقرة : ٢٢٨]
والزوج أحق بالرجعة سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها بتطويل العدة؟
قلنا
: المراد أن الرجعة
أصوب وأعدل إن أراد الزوج الإصلاح ، وتركها أصوب وأعدل إن أراد الإضرار.
[٥٨] فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ
أَحْياهُمْ) [البقرة : ٢٤٣]
وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦].
قلنا
: المراد بالآية
الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل ، وبالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل ،
نظيره قوله تعالى في قصة موسى عليهالسلام : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) [البقرة : ٥٦]
لأنها كانت إماتة عقوبة ، أو كان إحياؤهم آية لنبيهم على ما عرف في قصتهم ، فصار
كإحياء العزير حين مر على قرية وآيات الأنبياء نوادر مستثناة ، فكان المراد بالآية
الثانية الموتة التي ليست بسبب آية نبي من الأنبياء أو إحياء قوم موسى آية له أيضا
فكان هذا جوابا عاما ؛ مع أن في أصل السؤال نظرا لأن الضمير في قوله (لا يَذُوقُونَ) للمتقين وقوله فيها للجنات ، على ما يأتي بيانه ، في سورة
الدخان ، إن شاء الله تعالى ، على وجه يندفع به السؤال من أصله.
[٥٩] فإن قيل : كيف قال : (وَاللهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ) [البقرة : ٢٤٧]
والله تعالى لا يؤتي ملكه أحدا؟
قلنا
: المراد بهذا
الملك السلطنة والرئاسة التي أنكروا إعطاءها لطالوت ، وليس المراد بأنه يعطي ملكه
لأحد ؛ لأن سياق الآية يمنعه.
[٦٠] فإن قيل : كيف قال في الماء : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) [البقرة : ٢٤٩]
ولم يقل ومن لم يشربه ، والماء مشروب لا مأكول؟
قلنا
: طعم بمعنى أكل
وبمعنى ذاق ، والذوق هو المراد هنا وهو يعم.
[٦١] فإن قيل : كيف خص موسى ، وعيسى من بين الأنبياء بالذّكر في
قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ) [البقرة : ٢٥٣]
الآية؟
قلنا
: لما أوتيا من
الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة مع الكتابين العظيمين المشهورين.
[٦٢] فإن قيل : كيف قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] ،
وفي يوم القيامة شفاعة الأنبياء ، وغيرهم ، بدليل قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ،
وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ،
وقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣].
قلنا
: هذه الآيات لا
تدلّ على وجود الشفاعة يوم القيامة ؛ بل تدلّ على أنّها لا توجد ولا تنفع من غير
إذنه ؛ ولا توجد لغير مرضيّ عنده. وهذا لا ينافي نفي وجودها ؛ بل المنافي له
الإخبار عن وجودها ، لا الإخبار عن إمكان وجودها. ولو سلّم ، فالمراد به نفي شفاعة
الأصنام والكواكب ، التي كانوا يعتقدونها ؛ ولهذا عرّض بذكر الكفّار ، بقوله تعالى
: (وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ). وقيل : المراد أنه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات ؛ لأنّ الشّفاعة
، في الآخرة ، في زيادة الفضل لا غير ؛ والخطاب ، مع المؤمنين ، في النفقة الواجبة
، وهي الزّكاة.
[٦٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤]
على وجه الحصر وغيرهم ظالم أيضا؟
قلنا
: لأنّ ظلمهم أشدّ
، فكأنّه لا ظالم إلّا هم ؛ نظيره : (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].
[٦٤] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧]
بلفظ المضارع ؛ ولم يقل أخرجهم بلفظ الماضي ؛ والإخراج قد وجد ؛ لأنّ الإيمان قد
وجد؟
قلنا
: لفظ المضارع فيه
دلالة على استمرار ذلك الإخراج ، من الله تعالى ، في الزّمان المستقبل ؛ في حقّ من
آمن ، بزيادة كشف الشبه ومضاعفة الهداية ؛ وفي حق من لم يؤمن ، ممّن قضى الله أنّه
سيؤمن ، بابتداء الهداية وزيادتها ، أيضا. ولفظ الماضي لا يدلّ على هذا المعنى.
[٦٥] فإن قيل : متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر ، والكافرون في
نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟
قلنا
: الإخراج يستعمل
بمعنى المنع عن الدّخول ؛ يقال لمن امتنع عن الدّخول في أمر خرج منه ، وأخرج نفسه
منه ؛ وإن لم يكن دخل فيه. فعصمة الله تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضّلال
إخراج لهم منها ، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الّذي يصدّونهم به عن الحقّ
إخراج لهم من نور الهدى. ولأنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنّبيّ ، عليه الصلاة
والسلام ، قبل أن يظهر ، كان نورا لهم ؛ وكفرهم به ، بعد ظهوره ، خروج منه ، إلى
ظلمات الكفر. ولأنّه لما ظهرت معجزاته ، عليه الصلاة والسلام ، كان موافقه ومتّبعه
خارجا من ظلمات الجهل ، إلى نور العلم ؛ ومخالفه خارجا من نور العلم ، إلى ظلمات
الجهل.
[٦٦] فإن قيل : كيف انتقل إبراهيم ، صلىاللهعليهوسلم ، إلى حجّة أخرى ، وعدل عن نصرة الأولى ؛ مع أنّه لم ينقطع
بما عارضه به نمرود ، من قتل أحد المجوسيين وإطلاق الآخر ؛ فإن إبراهيم ، صلىاللهعليهوسلم ، ما أراد هذا الإحياء والإماتة؟
قلنا
: إمّا لأنّه رأى
خصمه قاصر الفهم عن إدراك معنى الإحياء والإماتة التي أضافها إبراهيم ، صلىاللهعليهوسلم ، إلى الله ؛ حيث عارض معارضة لفظيّة ، وعمي عن اختلاف
المعنيين ؛ أو لأنّه علم أنّه فهم الحجّة ، لكنّه قصد التمويه والتلبيس على أتباعه
وأشياعه ؛ فعدل إبراهيم إلى أمر ظاهر يفهمه كلّ أحد ، ولا يقع فيه تمويه ولا
تلبيس.
[٦٧] فإن قيل : كيف طبع الله على قلبه ، فلم يعارض بالعكس ، في
طلوع الشمس؟
قلنا
: لأنّه لو عارض به
لم يأت الله بها من المغرب ، لأن ذلك أمارة قيام الساعة فلا يوجد إلا قريبا من
قيامها ، ولأنّه وأتباعه كانوا عالمين أنّ طلوعها من المشرق سابق على وجوده ، فلو
ادّعاه لكذّبوه.
[٦٨] فإن قيل : كيف قال عزير ، عليهالسلام ، منكرا مستبعدا : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ
اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩] ،
وهو نبيّ ؛ والنبيّ لا تخفى عليه قدرة الله تعالى على إحياء قرية خربة وإعادة
أهلها إليها؟
قلنا
: ما قاله منكرا
مستبعدا لعظيم قدرة الله تعالى ؛ بل متعجّبا من عظيم قدرته تعالى أو طلبا لرؤية
كيفيّة الإعادة ؛ لأنّ أنّى بمعنى كيف ، أيضا. وقد نقل عن مجاهد أنّ المارّ على
القرية القائل ذلك كان رجلا كافرا شاكّا في البعث ؛ وإن كان الأوّل هو المشهور.
__________________
[٦٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى لإبراهيم عليهالسلام : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) [البقرة : ٢٦٠] ؛
وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟
قلنا
: ليجيب بما أجاب
به ؛ فتحصل به الفائدة الجليلة للسّامعين من طلبه لإحياء الموتى.
[٧٠] فإن قيل : كيف يجوز أن يكون النبيّ غير مطمئن القلب بقدرة
الله على إحياء الموتى ؛ حتّى قال إبراهيم : (لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي قالَ) [البقرة : ٢٦٠] ؛
مع أنّ قلبه مطمئن بقدرة الله على الإحياء؟
قلنا
: معناه ليطمئنّ
قلبي بعلم ذلك عيانا ، كما اطمأنّ به برهانا ؛ أو ليطمئنّ بأنّك اتّخذتني خليلا ؛
أو بأنّي مستجاب الدّعوة.
ولقائل أن يقول :
على الوجه الأول ، كيف يزداد يقينا بالمشاهدة ، وقد روي عن علي ، كرّم الله وجهه ،
أنّه قال : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» ، وإبراهيم صلوات الله عليه وسلامه
أعظم رتبة وأجلّ؟
وجوابه : أنّ
عليّا أراد بذلك قوّة يقينه قبل العيان ؛ حتّى كأنّ الزّيادة الحاصلة له بالعيان
يسيرة لا يعتدّ بها.
[٧١] فإن قيل : فما فائدة قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) [البقرة : ٢٦٠] أي
فضمّهنّ ، ولفظ الأخذ مغن عنه؟
قلنا
: الفائدة فيه
تأمّلها ، ومعرفة أشكالها وصفاتها ؛ لئلّا يلتبس عليه بعد الإحياء فيتوهّم أنّه
غيرها.
[٧٢] فإن قيل : كيف مدح الله المتّقين بترك المنّ ؛ ونهى عن
المنّ ، أيضا ، مع أنّه وصف نفسه بالمنّان ، في نحو قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤].
قلنا
: منّ بمعنى أعطى ؛
ومنه المنّان في صفات الله تعالى. وقوله : (فَامْنُنْ أَوْ
أَمْسِكْ) ؛ وقوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤]
، أي أنعم عليهم ؛ وقوله : (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ) [محمد : ٤] ، أي
إنعاما بالإطلاق ، من غير عوض ؛ ومنّ بمعنى اعتد بالنّعمة ، وذكرها ، واستعظمها ؛
وهو المذموم.
[٧٢
م] فإن قيل : قوله :
تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] من
القسم الثاني.
قلنا
: ذلك اعتداد بنعمة
الإيمان ؛ فلا يكون قبيحا ؛ بخلاف نعمة المال. ولأنه يجوز أن يكون من صفات الله
تعالى ما هو مدح في حقّه ، ذمّ في حقّ العبد ، كالجبّار ، والمتكبّر ، والمنتقم ،
ونحو ذلك.
[٧٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ؛ ثم قال له : (فِيها مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ) [البقرة : ٢٦٦].
قلنا
: لمّا كان النخيل
والأعناب أكرم الشّجر ، وأكثرها منافع ، خصّهما بالذّكر ، وجعل الجنّة منهما ؛ وإن
كان فيها غيرهما ؛ تغليبا لهما ، وتفضيلا.
[٧٤] فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ
النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] ،
يدل بمفهومه على أنّهم كانوا يسألون الناس برفق ؛ فكيف قال : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣].
قلنا
: المراد به نفي
السؤال والإلحاف جميعا ، كقوله تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ
الْأَرْضَ) [البقرة : ٧١]
وكقول الأعشى :
لا يغمز الساق من أين ولا وصب
معناه : ليس بساقه
أين ولا وصب ، فيغمزها.
[٧٥] فإن قيل : كيف قال : (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥]
الآية ؛ ألحق الوعيد بآكله ؛ مع أنّ لابسه ومدّخره وواهبه ، أيضا ؛ في الإثم سواء؟
قلنا
: لمّا كان أكثر
الانتفاع والهمم بالمال ، إنّما هو الأكل ؛ لأنّه مقصود لا غناء عنه ، ولا بدّ منه
؛ عبّر عن أنواع الانتفاع بالأكل ، كما يقال : أكل فلان ماله كله ، إذا أخرجه في
مصالح الأكل وغيره؟
[٧٦] فإن قيل : كيف خصّ الآكل بذكر الوعيد دون المطعم ، وكلاهما
آثم؟
قلنا
: لأنّ انتفاعه
الدّنيوي بالرّبا أكثر من انتفاع المطعم.
[٧٧] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ،
والكلام إذ ذاك في الرّبا ، ومقصودهم تشبيهه بالبيع ؛ فقياسه : إنّما الرّبا مثل
البيع ، في حلّه؟
قلنا
: جاءوا بالتّمثيل
على طريق المبالغة ؛ وذلك أنه بلغ من اعتقادهم استحلال الرّبا أنهم جعلوه أصلا في
الحلّ ، والبيع فرعا ، كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفّه ، إذا أرادوا
المبالغة.
__________________
[٧٨] فإن قيل : كيف قلتم إنّ أهل الكبائر لا يخلّدون في النار ،
وقد قال الله تعالى ، في حقّ آكل الرّبا : (وَمَنْ عادَ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٧٥].
قلنا
: الخلود يستعمل
بمعنى طول البقاء ، وإن لم يكن بصفة التأبيد ؛ يقال : خلّد الأمير فلانا في الحبس
، إذا أطال حبسه ؛ أو أن قوله : (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من عاد إلى استحلال الرّبا ، بقوله : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ،
بعد نزول آية التحريم ؛ وذلك يكون كافرا ، والكافر مخلّد في النار.
[٧٩] فإن قيل : إنظار المعسر فرض بالنصّ ، والتصدّق عليه تطوّع
؛ فيكف قال : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٨٠].
قلنا
: كلّ تطوّع كان
محصّلا للمقصود من الفرض ، بوصف الزّيادة ، كان أفضل من الفرض ؛ كما أنّ الزّهد في
الحرام فرض وفي الحلال تطوّع ، والزّهد في الحلال أفضل كما بيّنا ؛ كذلك ، هنا.
[٨٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (بِدَيْنٍ) [البقرة : ٢٨٢] ؛
وقوله تعالى : (تَدايَنْتُمْ) مغن عنه؟
قلنا
: فائدته رجوع
الضّمير إليه في قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) [البقرة : ٢٨٢] إذ
لو لم يذكره لقال : فاكتبوا الدّين ، فالأوّل أحسن نظما ؛ أو لأنّ التّداين مشترك
بين الإقراض والمبايعة وبين المجازاة ، وإنّما يميّز بينهما بفتح الدّال وكسرها ؛
ومنه قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] ،
أي الجزاء (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ) [الذاريات : ١٢]
فذكر الدّين ليتعيّن أي المعنيين هو المراد.
[٨١] فإن قيل : كيف شرط السفر في الارتهان بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) [البقرة : ٢٨٣]
الآية ، وجواز الرهن لا يختصّ بالسّفر؟
قلنا
: لم يذكره لتخصيص
الحكم به ؛ بل لمّا كان السفر مظنّة عوز الكاتب ، والشّاهد الموثوق بهما ، أمر ـ على
سبيل الإرشاد ـ لحفظ مال المسافرين بأخذ الرّهان.
[٨٢] فإن قيل : ما فائدة ذكر القلب في قوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة ٢٨٣] ، مع
أنّ الجملة هي الموصوفة بالإثم لا القلب وحده؟
قلنا
: كتمان الشهادة هو
أن يضمرها ولا يتكلم بها ؛ فلمّا كان ذلك إثما مقترنا بالقلب ومكتسبا له ، أسند
إليه ؛ لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها أبلغ ؛ كما يقال : هذا ما
أبصرته عيني ، وسمعته أذني ، ووعاه قلبي.
[٨٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ
أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] ،
وما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله ؛ إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز
عنه ، في الوسع والطاقة ، أو بالحديث المشهور فيه؟
قلنا
: قيل : أريد
بالآية العموم ثم نسخ بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦]. وقيل
: لا نسخ فيه ؛
لأنّه خبر لا أمر أو نهي ؛ بل العموم غير مراد ؛ وإنّما المراد ما يمكن الاحتراز
عنه ، وهو العزم القاطع ، والاعتقاد الجازم ؛ لا مجرّد حديث النفس والوسوسة.
ولأنّه أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة ؛ فهو يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا
وما أخفوا ، ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ؛ ثم يغفر لمن يشاء فضلا ، ويعذّب من
يشاء عدلا ، كما أخبر في الآية.
[٨٤] فإن قيل : أيّ شرف للرّسول صلىاللهعليهوسلم في مدحه بالإيمان ؛ مع أنّه في رتبة الرّسالة ودرجتها ،
وهي أعلى من درجة الإيمان ؛ فما فائدة قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢٨٥]؟
قلنا
: فائدة أن يبيّن
للمؤمنين زيادة شرف الإيمان ؛ حيث مدح به خواصّه ورسله ؛ ونظيره ، في سورة الصافات
، قوله تعالى ، في خاتمة ذكر كلّ نبيّ : (إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ٨١].
[٨٥] فإن قيل : روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أنّه قرأ : «ملائكته
وكتابه» ، فسئل عن ذلك ، فقال : «كتاب أكثر من كتب» فما وجهه؟
قلنا
: قيل فيه أنه أراد
أنّ الكتاب جنس والكتب جمع ، والجنس أكثر من الجمع ؛ لأنّ حقيقته في الكلّ على ما
ذهب إليه بعضهم. ويرد على هذا أن يقال : الكلام في الجمع المضاف والمفرد المضاف
للاستغراق ، عرفا وشرعا ، كقوله لعبده : أكرم أصدقائي ، وأهن أعدائي ؛ وقوله :
زوجاتي طوالق وعبيدي أحرار ؛ بخلاف قوله : صديقي وعدوي وعبدي وامرأتي ؛ فظهر أنّ
الجمع المضاف أكثر.
[٨٦] فإن قيل : قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ،
كيف قال ذلك ؛ مع أنّ بين لا تضاف إلّا إلى اثنين فصاعدا ، فكيف قال : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].
قلنا
: أحد هنا بمعنى
الجمع الذي هو آحاد كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ) [الحاقة : ٤٧]
فإنّه ثمّ بمعنى الجمع ، بدليل قوله تعالى : (حاجِزِينَ) فكأنه قال : لا نفرق بين آحاد من رسله ، كقولك : المال بين
آحاد الناس ؛ ولأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر والمؤنث ، وتثنيتهما وجمعهما نفيا
وإثباتا ، تقول : ما رأيت أحدا إلّا بني فلان ،
أو إلّا بنات فلان
سواء. وتقول : إن جاءك أحد بكتابي فأعطه وديعتي ، يستوي فيه الكلّ ؛ فالمعنى لا
نفرّق بين اثنين منهم ، أو بين جماعة منهم ، ومنه قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ
كَأَحَدٍ) [الأحزاب : ٣٢].
[٨٧] فإن قيل : من أين دلّ قوله : (لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦]
على أنّ الأوّل في الخير والثّاني في الشّر؟
قلنا
: قيل : هو من كسبت
واكتسبت ، فإنّ الأوّل للخير والثّاني للشرّ ، وليس بدليل ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) [النساء : ١١٢] ،
وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨] ،
وقوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا) [الشورى : ٣٤] ،
وقوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ
حَسَنَةً) [الشورى : ٢٣] ؛
والاقتراف والاكتساب بمعنى واحد.
وقيل : هو من اللّام وعلى ، وليس بدليل ، أيضا ؛ لقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] ،
وقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ،
وقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] ؛
اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ اللّام وعلى ، عند الإطلاق ، يقتضيان ذلك ؛ أو لأنّهما
يستعملان لذلك ، عند تقاربهما ، كما في هذه الآية ؛ لا نفرّق بين ذكر الحسنة
والسيئة ، أو الحسن والقبيح. ويدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤].
أطلقه وأراد به الشرّ ؛ بديل ما بعده. وقولهم : «الدّهر يومان ، يوم لك ويوم عليك».
وقولهم : فلان يشهد لك وفلان يشهد عليك. ويقول الرجل لصاحبه : هذا الكلام حجّة
عليك لا لك ، قال الشاعر :
على أنّني راض
بأن أحمل الهوى
|
|
وأخلص منه لا
عليّ ولا ليا
|
وأمّا قوله تعالى
: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] ، وإن
كان مقيّدا ، إلا أنّ فيه دلالة أيضا من جهة اللّام وعلى ؛ لأنّ القيد شامل
لطرفيه.
__________________
سورة آل عمران
[٨٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِ). ثمّ قال تعالى : (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣]؟
قلنا
: لأنّ القرآن أنزل
منجّما ، والتّوراة والإنجيل نزلا جملة واحدة ، كذا أجاب الزّمخشري وغيره. ويرد
عليه قوله تعالى ، بعد ذلك : (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٤]
فإنّ الزمخشري قال : أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة خصوصا ؛ أو
أراد به الزّبور ؛ أو أراد به القرآن ، وكرّر ذكره تعظيما. ويرد عليه ، أيضا قوله
تعالى ، بعد ذلك : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ،
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٤] ،
وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢].
والذي وقع لي فيه
ـ والله أعلم ـ أنّ التّضعيف ، في نزّل ، والهمزة في أنزل ، كلاهما للتّعدية ؛
لأنّ نزل فعل لازم ، في نفسه ؛ وإذا كانا للتّعدية ، لا يكونان لمعنى آخر ، وهو
التّكثير أو نحوه ؛ لأنّه لا نظير له ؛ وإنّما جمع بينهما ، والمعنى واحد ، وهو
التّعدية ؛ جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام ، وتصرّفهم فيه ، على وجوه
شتّى. ويؤيّد هذا قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الأنعام : ٣٧]
وقال ، في موضع آخر : (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد : ٧].
[٨٩] فإن قيل : كيف قال : (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ،
ومن للتبعيض؟ وقال : في موضع آخر : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ) [هود : ١] ؛ وهذا
يقتضي كون جميع آياته محكمة؟
__________________
قلنا
: المراد بقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ،
أي ناسخات. (وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ،
أي منسوخات.
وقيل : المحكمات : العقليات ؛ والمتشابهات : الشرعيات.
وقيل : المحكمات : ما ظهر معناها ؛ والمتشابهات : ما كان في
معناها غموض ودقة.
والمراد بقوله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] أنّ
جميع القرآن صحيح ثابت ، مصون عن الخلل والزّلل فلا تنافي.
[٩٠] فإن قيل : كيف قال ، هنا : (وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ،
جعل بعضه متشابها وقال ، في موضع آخر : (كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ،
وصفه كله بكونه متشابها؟
قلنا
: المراد بقوله : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ما سبق ذكره ، والمراد بقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) أنّه يشبه بعضه بعضا ، في الصحة ، وعدم التّناقض ، وتأييد
بعضه بعضا ؛ فلا تنافي.
[٩١] فإن قيل : ما فائدة إنزال المتشابهات ، بالمعنى الأخير ؛
والمقصود من إنزال القرآن إنّما هو البيان والهدى ؛ والغموض والدّقة في المعاني
ينافي هذا المقصود ، أو يبعده؟
قلنا
: لما كان كلام
العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعا ، ولا يحتمل غير ظاهره ، وإلى ما هو مجاز
وكناية وإشارة وتلويح ، والمعاني فيه متعارضة متزاحمة ، وهذا القسم هو المستحسن
عندهم والمستبدع في كلامهم ، نزل القرآن بالنّوعين تحقيقا لمعنى الإعجاز ، كأنه
قال : عارضوه بأي النوعين شئتم فإنه جامع لهما. وأنزله الله ، عزوجل ، محكما ومتشابها ، ليختبر من يؤمن بكلّه ، ويردّ علم ما
تشابه منه إلى الله ، فيثيبه ، ومن يرتاب فيه ويشكّ ، وهو المنافق ، فيعاقبه ؛ كما
ابتلى عباده بنهر طالوت وغيره. أو أراد أن يشتغل العلماء بردّ المتشابه إلى المحكم
بالنّظر والاستدلال والبحث والاجتهاد ؛ فيثابون على هذه العبادة. ولو كان كلّه
ظاهرا جليّا ، لاستوى فيه العلماء والجهال ؛ ولماتت الخواطر بعدم البحث والاستنباط
؛ فإنّ نار الفكر إنّما تقدح بزناد المشكلات. ولهذا قال بعض الحكماء : عيب الغنى
أنه يورث البلادة ويميت الخاطر ؛ وفضيلة الفقر أنّه يبعث على إعمال الفكر ،
واستنباط الحيل ، في الكسب.
[٩٢] فإن قيل : قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ، أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها ؛ أو
بالعكس ، على اختلاف القولين ؛ وكيفما كان ، فهو مناف لقوله تعالى ، في سورة
الأنفال : (وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ
قَلِيلاً
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] ؛
لأنّه يدلّ على أنّ الفئتين تساوتا في استقلال كلّ واحدة منهما للأخرى. فكلّ منهما
ترى الأخرى قليلة؟
قلنا
: التقليل
والتّكثير في حالين مختلفين. قلّل الله المشركين في نظر المؤمنين أوّلا ،
والمؤمنين في نظر المشركين ؛ حتّى اجترأت كلّ فئة على قتال صاحبتها. فلمّا التقتا
، كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين ؛ حتّى جبنوا وفشلوا ؛ فغلبوا. وكثّر الله
المشركين في نظر المؤمنين ، أو أراهم إيّاهم على ما هم عليه ، وكانوا في الحقيقة
أكثر من المؤمنين ، ليعلموا صدق ما وعدهم الله تعالى ، بقوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦]
الآية ، فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة وهي غزاة بدر. مع أنّهم كانوا أضعاف
عدد المؤمنين.
وقيل : أرى الله المسلمين المشركين مثل عدد المسلمين ، وكانوا
ثلاثة أمثالهم ؛ لكنه قلّلهم في أعين المسلمين ؛ وأراهم إياهم بقدر ما أعلمهم أنّهم
يغلبونهم ، لتقوى قلوبهم بما سبق من الوعد أنّ المائة ، من المؤمنين ، يغلبون
المائتين ، منهم.
[٩٣] فإن قيل : ما فائدة تكرار قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨]؟
قلنا
: الأوّل قول الله عزوجل ، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم.
وقال جعفر الصادق
، رحمهالله تعالى : الأوّل وصف ، والثّاني تعليم. أي قولوا واشهدوا ،
كما شهدت.
[٩٤] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ؛ في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [آل عمران : ٢٣] ؛
والتّولّي والإعراض واحد ، كما سبق في البقرة ؛ فلم جمع بينهما؟
قلنا
: معناه : يتولّون
عن الدّاعي ، ويعرضون عمّا دعاهم إليه ، وهو كتاب الله ؛ أو يتولون بأبدانهم ،
ويعرضون عن الحقّ بقلوبهم ؛ أو كان الّذين تولّوا علماءهم والذين أعرضوا أتباعهم.
__________________
[٩٥] فإن قيل : كيف قال : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران : ٢٦] ؛
خصّ الخير بالذّكر ، وبيده تعالى الخير والشرّ ، والنفع والضّرّ ، أيضا؟
قلنا
: لأنّ الكلام
إنّما ورد ردّا على المشركين ؛ فيما أنكروه ، ممّا وعد الله تعالى به نبيّه صلىاللهعليهوسلم على لسان جبريل عليهالسلام ، من فتح بلاد الرّوم وفارس. ووعد النبيّ صلىاللهعليهوسلم الصحابة بذلك. فلما كان الكلام في الخير خصّه بالذّكر ؛
باعتبار الحال. أو أراد الخير والشرّ. فاكتفى بأحدهما ، لدلالته على الآخر ؛ كقوله
تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) [النحل : ٨١].
وإنّما خصّ الخير
بالذّكر ؛ لأنّه المرغوب فيه ، المطلوب للعباد ، من الله تعالى.
[٩٦] فإن قيل : كيف قال : (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١] ،
وإيلاج الشّيء ، في الشّيء ، يقتضي اجتماع حقيقتهما ، بعد الإيلاج ؛ كإيلاج الخيط
في الإبرة ، والإصبع في الخاتم ، ونحوهما ؛ وحقيقة اللّيل والنهار لا يجتمعان؟
قلنا
: الإيلاج قد يكون
كما ذكرتم ؛ وقد يكون مع تبدّل صفة أحدهما ، بغلبة صفة الآخر عليه ؛ مع بقاء ذاته
فيه ؛ كإيلاج يسير من خبز في لبن كثير ؛ أو بالعكس.
فإنّ الحقيقتين
مجتمعتان ذاتا ؛ وصفة إحداهما غالبة على الأخرى. كذلك اللّيل والنهار ، إذا كان
اللّيل أربع عشرة ساعة ، بالنّسبة إلى زمن الاعتدال. ففيه من النهار ساعتان قطعا ؛
وكذا على العكس. أو معناه : يولج زمن اللّيل ، في زمن النهار ، وبالعكس. أو يولج
اللّيل ، في النهار ؛ وبالعكس. باعتبار أن ليل قوم هو نهار آخرين ؛ وبالعكس. أو
معناه أنه خلق ليلا صرفا خالصا. وخلق ما هو ممتزج منهما. وهو ما قبيل طلوع الشّمس
، وقبيل غروبها. والجواب الثّالث والرّابع يعمّان جميع السنة.
[٩٧] فإن قيل : ما فائدة قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] ،
وهو معلوم من غير ذكر؟
قلنا
: فائدته اعتذارها
عمّا قالته ظنّا ؛ فإنها ظنّت أنّ ما في بطنها ذكر ؛ ولهذا نذرت أن تجعله خادما
لبيت المقدس. وكان من شريعتهم صحّة هذا النذر في الذّكور ، خاصة ؛ فلمّا وضعت أنثى
، استحيت ؛ حيث خاب ظنّها ، ولم يتقبّل نذرها ؛ فقالت ذلك معتذرة. تعني ليست
الأنثى بصالحة ، لما يصلح له الذّكر ، في خدمة المسجد ؛ لا أنّها أرادت أنّ الأنثى
ليست كالذّكر صورة أو قوّة ، أو نحو ذلك. فلمّا قالت ذلك ، منكرة خجلة ، منّ الله
عليها ، بتخصيص مريم بقبولها في النذر ؛ دون غيرها من الإناث. فقال تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) [آل عمران : ٣٧].
[٩٨]
فإن قيل :
المستعمل في مثله إدخال حرف النفي على القاصر ، وحرف
__________________
التّشبيه على
الكامل كقولهم : ليس كالذّهب الفضّة ، وليس العبد كالحرّ ، فوزانه : وليس الأنثى
كالذّكر.
قلنا
: لما كان جعل
الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، في التّشبيه ، في حالة الإثبات ، يقتضي المبالغة في
المشابهة ، كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفّه ، كان جعل الأصل فرعا ، والفرع
أصلا ، في حالة النفي ، يقتضي نفي المبالغة في المشابهة ، لا نفي المشابهة ؛ وذلك
هو المقصود ، هنا ؛ لأنّ المشابهة واقعة بين الذّكر والأنثى ، في أعمّ الأوصاف ،
وأغلبها ؛ ولهذا يقاد أحدهما بالآخر ؛ وإنّما أرادت أمّ مريم نفي المشابهة بينهما
في صحّة النذرية ، خادما للبيت المقدس ؛ لا غير. فلذلك عكس.
الثّاني
: أن ذلك قوله
تعالى ، والمعنى ليس الذّكر الّذي طلبت أن يكون خادما للكنيسة كالأنثى التي وهبت ؛
لما علم الله من جعلها وابنها آية للعالمين. وهو تفسير للتّعظيم والتّفخيم المجمل
في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦].
وهي لا تعرف مقدار
شرفه ، واللّام في الذّكر والأنثى للعهد. هذا كلّه قول الزّمخشري ، وتمامه في
الكشّاف.
وقال الفقيه أبو
اللّيث رحمهالله تعالى : قال بعضهم : هذا قول الله تعالى لمحمّد ، عليه
الصلاة والسلام. أي (وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى) يا محمّد. وقال بعضهم : هو من كلام أمّ مريم.
[٩٩] فإن قيل : كيف نادت الملائكة زكريّا ، وهو قائم يصلّي في
المحراب ، وأجابها وهو في الصلاة ، كما قال الله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ
يُصَلِّي) [آل عمران : ٣٩]
الآية؟
قلنا
: المراد بقوله
يصلّي : أي يدعو ، كقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠]
أي بدعائك.
[١٠٠] فإن قيل : ما فائدة تخصيص يحيى ، عليهالسلام ، بقوله : (أَنَّ اللهَ
يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ٣٩] ،
وكلّ واحد من المؤمنين مصدّق بجميع كلمات الله تعالى؟
قلنا
: معناه مصدّقا
بعيسى الذي كان وجوده بكلمة من الله تعالى ؛ وهو قوله : (كُنْ) من غير واسطة أب في الوجود. وكان تصديق يحيى بعيسى أسبق من
تصديق كلّ أحد ، في الوجود ، أو في الرتبة.
__________________
[١٠١] فإن قيل : زكريّا سأل الولد بقوله : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً
طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨]
والله تعالى بشّره بيحيى ، عليهالسلام ، على لسان الملائكة ؛ فكيف أنكر ، بعد هذا كلّه ، قدرة
الله تعالى على إعطائه الولد ، حتى قال : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ
لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران : ٤٠].
قلنا
: إنّما قاله على
سبيل الاستفهام والتّعجّب من عظيم قدرة الله تعالى ، لا على طريق الإنكار
والاستبعاد ؛ أو اشتبه عليه كيف يعطى الولد ، وهو شيخ ، وامرأته عاقر ؛ أو تزول
عنهما هاتان الصفتان لكشف الحال. تقديره : (أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران : ٤٠].
ولقائل أن يقول : آخر الآية لا يناسب هذا الجواب.
[١٠٢] فإن قيل : ما فائدة تكرار ذكر الاصطفاء ، في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ
وَاصْطَفاكِ) [آل عمران : ٤٢].
قلنا
: الاصطفاء الأوّل
: العبادة التي هي خدمة البيت المقدّس ، وتخصيصها بقبولها في النذر ؛ مع كونها
أنثى. والاصطفاء الثّاني
: لولادة عيسى ، عليهالسلام ؛ أو أعيد ذكر الاصطفاء ، ليفيد بقوله : (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٤٢]
فيندفع وهم أنّها مصطفاة على الرّجال.
[١٠٣] فإن قيل : كيف نفى حضور النبيّ ، عليه الصلاة والسلام ، في
زمن مريم بقوله : (وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) [آل عمران : ٤٤] ،
الآية ؛ وذلك معلوم عندهم ، لا شكّ فيه ، وترك نفي استماعه ذلك الخبر من حفّاظه
وهو الّذي كانوا يتوهّمونه؟
قلنا
: كان معلوما ،
أيضا ، عندهم ، علما يقينا أنّه ليس من أهل القراءة والرّواية.
وكانوا منكرين
للوحي. فلم يبق إلّا المشاهدة والحضور ، وهي في غاية الاستحالة ؛ فنفيت ، على طريق
التهكّم بالمنكرين للوحي ؛ مع علمهم أنّه لا قراءة له ولا رواية.
ونظيره قوله تعالى
: (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [القصص : ٤٤ ـ ٤٦].
[١٠٤] فإن قيل : كيف قال : اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، والخطاب
مع مريم ، وهي تعلم أنّ الولد الّذي بشّرت به يكون ابنها؟
قلنا
: لأنّ الأبناء
ينسبون إلى الآباء ، لا إلى الأمهات ؛ فأعلمت ، بنسبته إليها ، أنه يولد من غير أب
؛ فلا ينسب إلّا إلى أمه.
[١٠٥] فإن قيل : أيّ معجزة لعيسى ، عليه الصلاة والسلام ، في
تكليم الناس كهلا؟ وأيّ خصوصيّة له في هذا ؛ حتّى قال : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦]؟
قلنا
: معناه ويكلّم
الناس ، في هاتين الحالتين ، بكلام الأنبياء ؛ من غير تفاوت بين حال الطفوليّة
وحال الكهوليّة الّتي يستحكم فيها العقل ، وينبّأ فيها الأنبياء. فكأنه
قال : ويكلّم
الناس في المهد ، كما يكلّمهم كهلا. وقال الزّجّاج : هذا ، خرج مخرج البشارة لمريم
أنّه ، عليه الصلاة والسلام ، سيبقى إلى زمن الكهولة. فهو بشارة لها بطول عمره. وقيل
: المقصود منه أنّ
الزّمان يؤثّر فيه ، كما يؤثّر في غيره ، وينقله من حال إلى حال ؛ ولو كان إلها لم
يجز عليه التغيير.
[١٠٦] فإن قيل : كيف قال : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥] ؛
والله تعالى رفعه ولم يتوفه؟
قلنا
: لمّا هدّده
اليهود بالقتل ، بشّره الله بأنه إنّما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل ؛ والواو لا
تفيد التّرتيب ؛ فلا يلزم من الآية موته قبل رفعه.
الثّاني
: أنّ فيه تقديما
وتأخيرا ، أي أنّي رافعك ومتوفيك.
والثّالث : أنّ معناه : قابضك من الأرض تامّا ، وافيا في أعضائك وجسدك
، لم ينالوا منك شيئا ؛ من قولهم : توفّيت حقّي على فلان ، إذا استوفيته تامّا
وافيا.
الرّابع
: أنّ معناه : إنّي
متوفّيك في نفسك بالنّوم ، من قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢]
ورافعك إليّ ، وأنت نائم ؛ حتّى لا تخاف ، بل تستيقظ وأنت في السماء.
[١٠٧] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] ،
وآدم خلق من التراب ، وعيسى خلق من الهواء ؛ وآدم خلق من غير أب وأمّ ، وعيسى خلق
من أمّ.
قلنا
: المراد به
التّشبيه في وجوده بغير واسطة أب. والتّشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه ،
بل من بعضها.
[١٠٨] فإن قيل : كيف خصّ أهل الكتاب بأنّ منهم أمينا وخائنا ،
بقوله : (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٧٥]
الآية ؛ والمسلمون وغيرهم من أهل الملل كذلك ، منهم الأمين والخائن.
قلنا
: إنّما خصّهم
باعتبار واقعة الحال ؛ فإنّ سبب نزول الآية أنّ عبد الله بن سلام أودع ألفا ومائتي
أوقية من الذّهب ، فأدّى الأمانة فيها ؛ وفنحاص بن عازوراء أودع دينارا ، فخانه ؛
ولأنّ خيانة أهل الكتاب المسلمين تكون عن استحلال ، بدليل آخر الآية ؛ بخلاف خيانة
المسلم المسلم ، فلذلك خصّهم بالذّكر.
[١٠٩] فإن قيل : كيف قال : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣]
وأكثر الجنّ والإنس كفرة؟
قلنا
: المراد بهذا :
الاستسلام والانقياد لما قضاه الله عليهم ، وقدّره من الحياة والموت ، والمرض
والصحة ، والشّقاء والسعادة ، ونحو ذلك.
[١١٠] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) [آل عمران : ٩٠] ؛
ومعلوم أن المرتدّ وإن ازداد ارتداده كفرا فإنّه مقبول التّوبة؟
قلنا
: الآية نزلت في
قوم ارتدّوا ، ثم أظهروا التّوبة بالقول ، لستر أحوالهم ، والكفر في ضمائرهم ؛
قاله ابن عباس.
وقيل : نزلت في قوم تابوا من ذنوبهم غير الشّرك.
وقيل : معناه : لن تقبل توبتهم وقت حضور الموت.
[١١١] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عمران : ٩٦]
وكم من بيت بني قبل الكعبة ، من زمن آدم إلى زمن إبراهيم عليهالسلام؟
قلنا
: معناه أن أول بيت
وضع قبلة للنّاس ومكان عبادة لهم ؛ أو وضع مباركا للنّاس ، أو لأنّ ابن عباس قال :
أوّل من بناه آدم عليهالسلام. لمّا هبط من السماء أوحى الله تعالى إليه ابن لي بيتا في
الأرض ، واصنع حوله نحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي ؛ فبناه ، وجعل يطوف حوله.
[١١٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠]
ولم يقل أنتم خير أمّة؟
قلنا
: معناه كنتم في
سابق علم الله ، أو كنتم يوم أخذ الميثاق على الذرية ؛ فأراد الإعلام بكون ذلك صفة
أصليّة فيهم ، لا عارضة متجددة. أو معناه خلقتم ووجدتم ؛ فهي كان التامة ؛ وخير
أمة نصب على الحال ؛ وتمام الكلام في كان يذكر في قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) [النساء : ٢٢].
[١١٣] فإن قيل : كيف قال : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : ١١٠]
ولا يصح أن يقال : هذا خير من ذلك إلّا إذا كان في كلّ واحد منهما خير ؛ مع أنّ
غير الإيمان لا خير فيه ؛ حتى يقال : إنّ الإيمان خير منه؟
قلنا
: معناه إيمانهم
بمحمد صلىاللهعليهوسلم مع إيمانهم بموسى وعيسى عليهماالسلام ، خير من إيمانهم بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقط.
[١١٤] فإن قيل : كيف قال : (مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها
__________________
صِرٌّ) [آل عمران : ١١٧]
، الآية ؛ والمقصود تشبيه نفقة الكفّار وأموالهم ، في تحصيل المفاخر ، وطلب الصيت
والسمعة ؛ أو ما ينفقونه في الطّاعات ، مع وجود الكفر ؛ أو ما ينفقونه في عداوة
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بالزرع الذي أصابته ريح شديدة البرد ، فأهلكته ، فضاع ،
ولم ينتفع به ؛ والتّشبيه في الحقيقة بالزّرع ، وفي لفظ الآية بالرّيح؟
قلنا
: فيه إضمار ،
تقديره : إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صرّ ؛ أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك
ريح ؛ ونظيره قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) [آل عمران : ٢٦١]
الآية ؛ وقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) [آل عمران : ١٧١]
، الآية. وقال ثعلب : فيه تقديم وتأخير تقديره : كمثل حرث قوم ، ظلموا أنفسهم ،
أصابته ريح فيها صرّ ، فأهلكته.
[١١٥] فإن قيل : كيف قال : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [آل عمران : ١٢٠]
فوصف الحسنة بالمسّ والسيئة بالإصابة؟
قلنا
: المسّ مستعار ،
بمعنى الإصابة ، توسعة في العبارة ؛ وإلّا فكان المعنى واحدا. ألا ترى إلى قوله
تعالى في الفريقين : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].
وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ١٩ ـ ٢١].
[١١٦] فإن قيل : كيف قال : (وَسارِعُوا) [آل عمران : ١٣٣]
؛ والنبيّ ، عليه أفضل التّحية ، يقول : «العجلة من الشّيطان والتأنّي من الرّحمن»؟
قلنا
: قد استثنى النبيّ
صلىاللهعليهوسلم خمسة مواضع ، فقال : «إلّا في التّوبة من الذّنب وقضاء
الدّين الحال ، وتزويج البكر البالغ ، ودفن الميّت وإكرام الضّيف إذا نزل».
والمسارعة المأمور
بها في الآية هي المسارعة إلى التّوبة وما في معناها من أسباب المغفرة.
[١١٧] فإن قيل : كيف قال : (وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران : ١٣٥]
عطف عليه بكلمة أو ، وفعل الفاحشة داخل في ظلم النفس ؛ بل هو أبلغ أنواع ظلم النفس؟
قلنا
: أريد بالفاحشة
نوع من أنواع ظلم النفس ، وهو الزنا ؛ أو كلّ كبيرة. فخصّ بهذا الاسم تنبيها على
زيادة قبحه ، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.
__________________
[١١٨] فإن قيل : كيف قال ، هنا : (وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ١٣٥]
وقال ، في موضع آخر : (وَإِذا ما غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى : ٣٧] ؛
وقال : (قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا) [الجاثية : ١٤]؟
قلنا
: معناه ومن يستر
الذنوب من جميع الوجوه إلّا الله ، ومثل هذا الغفران لا يوجد إلّا من الله.
[١١٩] فإن قيل : كيف قال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ) [آل عمران : ١٤٤]
؛ وهلّا اقتصر على قوله : (أَفَإِنْ ماتَ) ؛ وكان القتل يدخل فيه ، فإنه موت؟
قلنا
: القتل وإن كان
موتا ، لكن إذا أطلق الميّت في العرف لا يفهم منه المقتول ؛ فلذلك عطف أحدهما على
الآخر.
[١٢٠] فإن قيل : كيف قال : (وَمَنْ يَغْلُلْ
يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٦١]
؛ وقال ، في موضع آخر : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ٩٤].
قلنا
: معناه يأتي به
مكتوبا في ديوانه ؛ أو يأتي به حاملا إثمه. ومعنى فرادى منفردين عن الأموال والأهل
؛ أو عن الشّركاء في الغيّ ؛ أو عن الآلهة المعبودة من دون الله. وتمام الآية يشهد
للكلّ.
[١٢١] فإن قيل : قد جاء في الصحيحين ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنّ الغالّ يأتي يوم القيامة حاملا عين ما غلّه على عنقه
صامتا كان أو ناطقا ؛ هذا معنى الحديث ، فاندفع الجواب.
قلنا
: على هذا يكون
المراد بالآية الأخرى فرادى عن مال وأهل يعتزّون بهما ، ويستنصرون ؛ ويشهد بصحته
تمام الآية.
[١٢٢] فإن قيل : كيف قال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ) [آل عمران : ١٦٣]
والعبيد ليسوا نفس الدرجات؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: هم ذوو درجات أو أهل درجات ؛ فحذف المراد لعدم الإلباس.
وقيل : المراد بالدرجات الطّبقات ؛ فلا يكون فيه إضمار ، معناه
أنّهم طبقات عند الله متفاوتون كتفاوت الدّرجات.
[١٢٣] فإن قيل : كيف يجعل لكلّ الفريقين درجات ، وأحد الفريقين
لهم دركات لا درجات؟
قلنا
: الدّرجات تستعمل
في الفريقين ؛ بدليل قوله تعالى ، في سورة الأحقاف ، بعد ذكر الفريقين : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام : ١٣٢]
وتحقيقه أنّ بعض
أهل النار أخفّ
عذابا ، فمكانه فيها أعلى ؛ وبعضهم أشدّ عذابا ، ومكانه فيها أسفل.
ولو سلّم اختصاص
الدّرجات بأهل الدرجات ، كان قوله : «هم درجات» راجعا إليهم خاصّة ، تقديره : أفمن
اتّبع رضوان الله ، وهم درجات عند الله ، (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ
مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١٦٢]
، وهم دركات! إلّا أنّه حذف البعض لدلالة المذكور عليه.
[١٢٤] فإن قيل : (الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١]
كانوا في زمن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قالوا ذلك لمّا سمعوا قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥]
فكيف قال : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا
وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) [آل عمران : ١٨١]
أي ونكتب قتلهم الأنبياء ، وهم لم يقتلوا نبيّا قط؟
قلنا
: لمّا رضوا بقتل
أسلافهم الأنبياء ، كأنهم باشروا ذلك ؛ فأضيف إليهم. وقد تكرر هذا المعنى في
القرآن كثيرا.
[١٢٥] فإن قيل : كيف قال : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [آل عمران : ١٨٢]
وظلّام صيغة مبالغة من الظلم ؛ ولا يلزم من نفي الظلّام نفي الظّالم ؛ وعلى العكس
يلزم. فهلّا قال : ليس بظالم ليكون أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدّسة؟
قلنا
: صيغة المبالغة
جيء بها لكثرة العبيد ، لا لكثرة الظّلم ؛ كما قال الله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقال
: (عالِمُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٧٣] و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة : ٧٨].
لمّا أفرد المعمول لم يأت بصيغة المبالغة. ونظيره قولهم : زيد ظالم لعبده ، وعمرو
ظلّام لعبيده ؛ فهما في الظّلم سيّان. وكذلك قال الله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح : ٢٧] ،
فشدّد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل. أو الصيغة هنا للنّسب ، أي لا ينسب إليه
ظلم ؛ فالمعنى ليس بذي ظلم.
الثاني
: أنّ العذاب من
العظيم القدر الكثير العدل ، لو لا سبق الجناية ، يكون أفحش وأقبح من الظلم ممّن
ليس عظيم القدر كثير العدل. فيطلق عليه اسم الظلّام باعتبار زيادة قبح الفعل منه ،
لا باعتبار تكرره.
فحاصله ، أنّ صيغة
المبالغة تارة تكون باعتبار زيادة ذات الفعل ، وتارة باعتبار صفته. ففعل الظلم لو
وجد من الله تعالى وتقدس لكان أعظم من ألف ظلم يوجد من عبيده ؛ باعتبار زيادة وصف
القبح ؛ ونظيره قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا
الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢]
على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
[١٢٦] فإن قيل : في قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [آل عمران : ١٨٤]
من حقّ الجزاء أن يتعقّب الشّرط ، وهذا سابق له؟
قلنا
: جواب الشّرط
محذوف ، إذ لا يصلح قوله : (فَقَدْ كُذِّبَ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)
[آل عمران : ١٨٤]
، جوابا ؛ لأنه سابق عليه. ومعناه : وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرّسل قبلك ، وضعا
للسّبب ، وهو تكذيبهم ، موضع المسبّب ، وهو التأسي بهم.
[١٢٧] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُونَهُ) ، في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧]
، والأوّل مغن عن الثّاني؟
قلنا
: معناه ليبيّننّه
في الحال ، ويدومون على ذلك البيان ولا يكتمونه ، في المستقبل.
الثاني
: أن الضّمير
الأوّل للكتاب ، والثاني لنعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم وذكره ، فإنّه قد سبق ذكر النبيّ صلىاللهعليهوسلم قبيل هذا.
[١٢٨] فإن قيل : متى بيّنوا الكتاب لزم من بيانه بيان صفة النبيّ
صلىاللهعليهوسلم وذكره ؛ لأنّه من جملة الكتاب الّذي هو التّوراة والإنجيل
؛ فقوله ، بعد ذلك ، ولا يكتمونه تكرار.
قلنا
: على هذا يكون
تأكيدا.
[١٢٩] فإن قيل : كيف قال : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢]
، وقال : في موضع آخر : (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨٨] ؛
ويلزم من هذا أن لا يدخل المؤمنين النار كما قالت المعتزلة والخارجيّة؟
قلنا
: أخزيته بمعنى
أذللته وأهنته ، من الخزي وهو الذلّ والهوان ؛ وقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨٨] من
الخزاية وهي النكال والفضيحة.
فكل من يدخل النار
يذلّ. وليس كل من يدخلها ينكّل به ويفضح. أو المراد بالآية الأولى إدخال الإقامة
والخلود ، لا إدخال تحلّة القسم المدلول عليها بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١]. أو
إدخال التّطهير الّذي يكون لبعض المؤمنين ، بقدر ذنوبهم.
وقيل : إن قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨٨]
كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله.
__________________
[١٣٠] فإن قيل : كيف قال : (سَمِعْنا مُنادِياً) [آل عمران : ١٩٣]
، والمسموع نداء المنادي لا نفس المنادي؟
قلنا
: لما قال مناديا
ينادي ، صار تقديره : نداء مناد ، كما يقال : سمعت زيدا يقول كذا ، أي سمعت قول
زيد ، فمناديا مفعول سمع ، وينادي حال دالّة على محذوف مضاف للمفعول.
[١٣١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) [آل عمران : ١٩٣]
وتكفير السيئات داخل في غفران الذّنوب؟
قلنا
: المعنى مختلف ؛
لأنّ الغفران مجرد فضل ، والتكفير محو السيئات بالحسنات.
[١٣٢] فإن قيل : ما فائدة قولهم : (وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ) [آل عمران : ١٩٣]
؛ مع أنّهم لا ينفعهم توفّيهم مع الأبرار ؛ بل النافع لهم كونهم من الأبرار ؛ سواء
توفّاهم معهم ، أو قبلهم ، أو بعدهم؟
قلنا
: معناه وتوفّنا
مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم ، كما يقال :
أعطاني الأمير مع
أصحاب الخلع والجوائز ، أي جعلني من جملتهم ؛ وإن تقدّم إعطاؤه عنهم أو تأخّر.
[١٣٣] فإن قيل : كيف قال : (وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤]
، أي على لسان رسلك. دعوه بإنجاز الوعد ، مع علمهم ، وقولهم ، أيضا : إنه لا يخلف
الميعاد؟
قلنا
: الوعد من الله
تعالى على ألسنة الرّسل للمؤمنين عامّ ، يحتمل أن يراد به الخصوص ، كما في أكثر
عمومات القرآن ؛ فسألوا الله تعالى أن يجعلهم من الدّاخلين في حكم الوعد.
الثاني
: أنهم سألوا تعجيل
النصر الّذي وعدوا ؛ فإنه تعالى وعدهم النصر على أعدائهم ، غير موقّت بوقت خاصّ.
[١٣٤] فإن قيل : كيف يجوز أن يغترّ الرسول بنعم الذين كفروا حتّى
نهي عن الاغترار ، بقوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦]
، أي تصرّفهم فيها بالتجارات متنعّمين؟
قلنا
: معناه لا يغرنّكم
أيّها المؤمنون ، فإن رئيس القوم ومقدّمهم يخاطب بشيء ، والمراد به أتباعه
وجماعته.
الثاني
: أنه عليه الصلاة
والسلام كان غير مغترّ بحالهم ؛ فقيل له ذلك تأكيدا
وتثبيتا على
الدّوام عليه ، كما قيل له : (فَلا تَكُونَنَّ
ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) [القصص : ٨٦] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨].
[١٣٥] فإن قيل : كيف ينهى عن التّقلّب وهو ممّا ليس ينهى عنه؟
قلنا
: معناه لا تغترّ
بتقلّبهم ، فيكون تقلّبهم قد غرّك ، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبّب ؛ لأنّ
تقلّبهم لو غرّه لاغترّ به ، فمنع السبب ، وهو غرور تقلبهم إياه ، ليمتنع المسبّب
، وهو اغتراره بتقلّبهم.
[١٣٦] فإن قيل : كيف قال : (لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦]
؛ ولم يقل لا يغرنك نعمهم وأموالهم ؛ والذي يحتمل أن يغرّ الرّسول والمؤمنين النعم
والأموال لا التقلب في البلاد؟
قلنا
: المراد بتقلّبهم
تصرّفهم في التّجارات والنعم ، والتّلذّذ بالأموال ؛ والفقير إنّما يتألّم ،
وينكسر قلبه ، إذا رأى الغنيّ يتقلّب في النعمة ، ويتمتع بها ، فلذلك ذكر التقلّب.
وقيل : معناه لا يغرنّك تقلّبهم في المعاصي ، غير مأخوذين
بذنوبهم.
[١٣٧] فإن قيل : كيف قال : (أُولئِكَ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [آل عمران : ١٩٩]
؛ مع أنّ قوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) موضع البشارة بالثّواب ؛ وسرعة الحساب إنّما تذكر في موضع
التّهديد والعقاب؟
قلنا
: معناه لا يشترون
بآيات الله ثمنا قليلا ، خوفا من حسابه ، فإنّه سريع الحساب ؛ فهو راجع إلى ما
قبله.
سورة قصة النساء
[١٣٨] فإن قيل : قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) [النساء : ١] إذا
كانت حوّاء مخلوقة من آدم ، ونحن مخلوقون منه أيضا ، تكون نسبة حواء إلى آدم نسبة
الولد ؛ لأنها متفرعة منه ، فتكون أختا لنا لا أمّا.
قلنا
: قال بعض المفسرين
: «من» لبيان الجنس لا للتبعيض ، معناه : وخلق من جنسها زوجها ، كما في قوله تعالى
: (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] الثاني : وهو الّذي عليه الجمهور أنّها للتّبعيض ؛ ولكنّ خلق حوّاء
من آدم لم يكن بطريق التوليد ، كخلق الأولاد من الآباء ؛ فلا يلزم منه ثبوت
البنتية والأختية فيها.
[١٣٩] فإن قيل : كيف قال : (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٤] ،
واليتيم لا يعطى ماله حتّى يبلغ اتّفاقا؟
قلنا
: المراد به إذا
بلغوا ؛ وإنّما سمّوا يتامى لقرب عهدهم بالبلوغ ، باعتبار ما كان ، كما تسمّى
الناقة عشراء بعد الوضع ، وقد يسمّى البالغ يتيما باعتبار ما كان ، كما يسمّى الحي
ميتا والعنب خمرا ، باعتبار ما يكون. قال الله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠].
وقال : (إِنِّي أَرانِي
أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦]. ومنه
قولهم للنّبيّ عليه الصلاة والسلام ، بعد ما نبّأه الله : يتيم أبي طالب.
[١٤٠] فإن قيل : أكل مال اليتيم حرام وحده ، ومع أموال الأوصياء
؛ فلم ورد النهي مخصوصا عن أكله معها ، لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] أي
معها؟
قلنا
: لأنّ أكل مال
اليتيم ، مع الاستغناء عنه ، أقبح ؛ فلذلك خصّ بالنّهي.
ولأنّهم كانوا
يأكلونه ، مع الاستغناء عنه. فجاء النهي على ما وقع منهم.
[١٤١] فإن قيل : لمّا قال : (مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٧] ،
دخل
__________________
فيه القليل
والكثير ؛ فما فائدة قوله : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ
أَوْ كَثُرَ) [النساء : ٧]؟
قلنا
: إنما قال ذلك على
جهة التأكيد والإعلام أنّ كلّ تركة تجب قسمتها ، لئلّا يتهاون بالقليل من التّركات
ويحتقر ؛ فلا يقسم ، وينفرد به بعض الورثة.
[١٤٢] فإن قيل : كيف قال : (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء : ١١] ؛
مع أنه لو كان الولد بنتا فللأب الثلث؟
قلنا
: الآية وردت لبيان
الفرض دون التّعصيب ؛ وليس للأب مع البنت بالفرض إلّا السدس.
[١٤٣] فإن قيل : كيف قطع على العاصي الخلود في النار بقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [النساء : ١٤]؟
قلنا
: أراد به من يعص
الله بردّ أحكامه وجحودها ، وذلك كفر ؛ والكافر يستحق الخلود في النار.
[١٤٤] فإن قيل : كيف قال : (حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) [النساء : ١٥]
والتّوفي والموت بمعنى واحد ؛ فصار كأنّه قال : حتّى يميتهن الموت؟
قلنا
: معناه حتّى
يتوفّاهنّ ملائكة الموت.
الثّاني
: معناه : حتّى
يأخذهنّ ملائكة الموت ، وتتوفّى أرواحهنّ.
[١٤٥] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللهِ) [النساء : ١٧] ،
ولم يقل : إنّما التّوبة على العبد ؛ مع أنّ التّوبة واجبة على العبد؟
قلنا
: معناه إنّما قبول
التّوبة على الله بحذف المضاف.
الثاني
: أنّ معنى التّوبة
من الله رجوعه على العبد بالمغفرة والرّحمة ، لأنّ التّوبة في اللّغة الرّجوع.
[١٤٦] فإن قيل : كيف قال : (بِجَهالَةٍ) [النساء : ١٧] ،
ولو عمله بغير جهالة ، ثم تاب ، قبلت توبته؟
قلنا
: معناه بجهالة
بقدر قبح المعصية وسوء عاقبتها ، لا بكونها معصية وذنبا ، وكلّ عاص جاهل بذلك حال
مباشرة المعصية ، معناه أنّه مسلوب كمال العلم به ، بسبب غلبة الهوى ، وتزيين
الشّيطان.
[١٤٧] فإن قيل : كيف قال : (ثُمَّ يَتُوبُونَ
مِنْ قَرِيبٍ) [النساء : ١٧] ،
مع أنهم لو تابوا بعد الذّنب ، من بعيد ، قبلت توبتهم؟
قلنا
: ليس المراد
بالقريب مقابل البعيد إذ حكمهما واحد ؛ بل معناه قبل معاينة
سلطان الموت ، كذا
قاله ابن عباس ، رضي الله عنهما ، بقرينة قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨].
[١٤٨] فإن قيل : كيف قال : (وَآتَيْتُمْ
إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) [النساء : ٢٠]
الآية ؛ مع أنّ حرمة الأخذ ثابتة ، وإن لم يكن قد أعطاها المهر ؛ بل كان في ذمّته
، أو في يده؟
قلنا
: المراد بالإيتاء
الضّمان والالتزام ، كما في قوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما
آتَيْتُمْ) [البقرة : ٢٣٣] أي
ما غنمتم والتزمتم.
[١٤٩] فإن قيل : كيف قال : (أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتاناً) [النساء : ٢٠] ،
وأخذ مهر المرأة ظلم وليس ببهتان ؛ لأنّ البهتان الكذب؟
قلنا
: ابن عباس وابن
قتيبة قالا : المراد بالبهتان الظّلم. وقال الزّجّاج : المراد به الباطل. والمشهور
في كتب اللّغة أنّ البهتان أن يقول الإنسان على غيره ما لم يفعله.
قالوا : فالمراد
به أنّ الرّجل ربما رمى امرأته بتهمة ليتوصّل بذلك إلى أن يأخذ منها مهرها
ويفارقها. وقيل : المراد به إنكاره أن لها مهرا في ذمّته.
[١٥٠] فإن قيل : كيف قال : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ
، وَلا تَنْكِحُوا) [النساء : ٢٢] ؛
نهى عن الفعل المستقبل ، وإلّا ما قد سلف ماض ، فكيف يصحّ استثناء الماضي من
المستقبل؟
قلنا
: قيل إنّ إلّا ،
هنا بمعنى بعد ، كما في قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦]. وقيل
: هو استثناء من
محذوف تقديره : فإنّكم تعذّبون به ، إلّا ما قد سلف. وقيل
: فيه تقديم وتأخير
، تقديره : إنّه كان فاحشة إلّا ما قد سلف.
[١٥١] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً) [النساء : ٢٢]
بلفظ الماضي ، مع أنّ نكاح منكوحة الأب فاحشة في الحال وفي الاستقبال إلى يوم
القيامة.
قلنا
: كان تارة تستعمل
للماضي المنقطع كقوله : كان زيد غنيّا ، وكان الخزف
__________________
طينا ، وتارة
تستعمل للماضي المستمر المتّصل للحال ، كقول أبي جندب الهذلي :
وكنت إذا جاري
دعا لمضوفة
|
|
أشمّر حتّى ينصف
الساق مئزري
|
أي وإنّي الآن ،
لأنّه إنّما يتمدح بصفة ثابتة له في الحال ، لا بصفة زائلة ذاهبة.
والمضوفة بالفاء :
الأمر الّذي يشفق منه ، والقاف تصحيف. ومنه قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الأحزاب : ٤٠ ،
٢٧]. وما أشبه ذلك.
وما نحن فيه من
هذا القبيل ؛ وسيأتي الكلام في كان ، بعد هذا ، إن شاء الله ، في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء ؛ ١٠٣].
[١٥٢] فإن قيل : كيف قال : (وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) [النساء : ٢٣] ؛
قيّد التّحريم بكون الرّبيبة في حجر زوج أمّها ، والحرمة ثابتة مطلقا ، وإن لم تكن
في حجره؟
قلنا
: أخرج ذلك مخرج
العادة ، والغالب لا مخرج الشّرط والقيد ؛ ولهذا اكتفى في موضع الإحلال بنفي
الدّخول ، في قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٣] ،
فتأمل.
[١٥٣] فإن قيل : لمّا قال : (مِنْ نِسائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] ،
ثم قال في آخر الآية : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ،
علم من مجموع ذلك أنّ الرّبيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمّها ؛ فما فائدة قوله : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٣].
قلنا
: فائدته أن لا
يتوهّم أن قيد الدّخول خرج مخرج العادة والغالب لا مخرج الشّرط كما في الحجر.
[١٥٤] فإن قيل : كيف قال ، في نكاح الإماء : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٣] ؛
والمهر ملك المولى ؛ وإنّما يجب تسليمه إلى المولى لا إلى الأمة؟
قلنا
: لمّا كانت الأمة
وما في يدها ملك المولى ، كان أداؤه إليها كأدائه إلى المولى.
الثاني
: أنّ معناه :
وآتوا مواليهنّ أجورهنّ ، بطريق حذف المضاف.
[١٥٥] فإن قيل : كيف قال : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) [النساء : ٢٥] ؛
وجوزا نكاح الأمة ثابت من غير خوف العنت عند بعض العلماء؟
قلنا
: فيه إضمار ،
تقديره : ذلك أصوب وأصلح لمن خشى العنت منكم. فيكون شرطا لما هو الأرشد والأصلح ،
كما في قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور : ٣٣].
[١٥٦] فإن قيل : كيف قال : (يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦]
والإرادة إنّما تقرن بأن يقال : يريد أن يفعل ، وقال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النساء : ٢٨]؟
قلنا
: قد ورد في الكتاب
العزيز اللّام بمعنى أنّ كثيرا ؛ قال الله تعالى : (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى : ١٥].
وقال الله تعالى : (وَأُمِرْنا
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٧١] ،
وقال تعالى ، في موضع آخر : (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا) [الصف : ٨] ،
فكذلك هذا.
[١٥٧] فإن قيل : كيف خصّ التّجارة بالذّكر ، في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ
تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء : ٢٩] ؛
مع أنّ الهبة ، والصدقة ، والوصيّة ، والضّيافة ، وغيرها ، تقتضي الحلّ أيضا ،
كالتجارة؟
قلنا
: إنّما خصّها
بالذّكر ، لأنّ معظم تصرّف الخلق في الأموال إنّما هو بالتّجارة ؛ أو لأنّ أسباب
الرّزق أكثرها متعلق بها.
[١٥٨] فإن قيل : قوله تعالى : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ) [النساء : ٤٢] ،
قالوا : معناه أنّهم يتمنون أن يجعلوا يوم القيامة ترابا ، كما جاء في آخر سورة
النبأ ؛ وظاهر اللفظ يعطي أنّهم يتمنون أن تجعل الأرض مثلهم ناسا ، كما تقول :
سوّيت زيدا بعمرو ، ومعناه جعلت زيدا وهو المسوى مثل عمرو هو المسوى به.
قلنا
: قولهم سويت هذا
بهذا له معنيان :
أحدهما
: إجراء حكم الثاني
على الأوّل ، كقولك سويت زيدا بعمرو ؛ وكما تقول ساويت.
والثاني
: أن يكون المسوى
مفعولا والمسوى به آلة ، كقولك : سويت القلم بسكين ، والثوب بالمقراض ؛ بمعنى
أصلحته به. قلنا
: فقوله : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء : ٤٢]
يحتمل وجهين : أن يكون بمعنى ساويت ويكون من المقلوب ، أي لو يسوون بالأرض بجعلهم
ترابا ، كقوله تعالى : (لَتَنُوأُ) [القصص : ٧٦] قوله
: (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ؛
في قول من لم يجعل الباء زائدة ، كقولهم : أدخلت الخاتم في إصبعي ونحوه ، وأن يكون
بمعنى الآلة. معناه : ودّوا لو تمهّد بهم الأرض وتوطّد ، بأن يجعلوا ترابا ،
ويبثوا في وهادها وحضيضها ، لتساوي بقاعها وآكامها ، وقوله تعالى : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] ،
انخفاضا ولا ارتفاعا ، وإن كان يدلّ على أنّ الأرض يوم القيامة متساوية السطوح ،
فجعلها متساوية السطوح إن كان قبل البعث ، فإذا بعث الموتى من قبورهم خلت منهم
قبورهم وحفرهم فحصل في الأرض تفاوت ، وإن كان بعد البعث فيجوز أن يكون هذا التّمني
سابقا على جعلها متساوية السطوح.
[١٥٩] فإن قيل : قولنا هذا خير من ذلك يقتضي أن يكون في كلّ واحد
منهما
خير حتّى يصحّ
تفضيل أحدهما على الآخر ؛ لأنّ خيرا ، في الأصل ، أفعل تفضيل ؛ فكيف قال : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) [النساء : ٤٦] بعد
ما سبق من قولهم في أول الآية؟
قلنا
: المراد بالخير
هاهنا الخير الّذي هو ضد الشرّ ، لا الّذي هو أفعل التفضيل ، كما تقول : في فلان
خير.
[١٦٠] فإن قيل : كيف قال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧] ،
والمفعول مخلوق ، وأمر الله وقوله غير مخلوق؟
قلنا
: ليس المراد بهذا
الأمر ما هو ضدّ للنهي ؛ بل المراد به ما يحدث من الحوادث ، فإن الحادثة تسمّى
أيضا أمرا ؛ ومنه قوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] ،
وقوله : (أَتاها أَمْرُنا
لَيْلاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٢٤].
[١٦١] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] ؛
مع أنّ شرك الساهي والمكره والتّائب مغفور؟
قلنا
: المراد به شرك
غير هؤلاء المخصوص من عموم الآية بأدلة من خارج ؛ أو نقول قيد المشيئة متعلّق
بالفعلين المنفي والمثبت ، كأنه قال : إن الله لا يغفر الشّرك لمن يشاء ، ويغفر ما
دونه لمن يشاء.
[١٦٢] فإن قيل : هذه الآية تدلّ على أنّ غير الشّرك من الذّنوب
لا يقطع بانتفاء مغفرته ؛ بل ترجى مغفرته ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [النساء ، ١٦٨ ،
١٦٩] ، يدلّ على القطع بانتفاء المغفرة في الكفر والظلم وهما غير الشرك ، فكيف
الجمع بينهما؟
قلنا
: المراد بالظّلم
هنا الشرك ، قال مقاتل : والشّرك يسمّى ظلما ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ،
فكأنه قال : إن الذين أشركوا.
الثاني
: أو قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ،
ليس قطعا بالمغفرة لغير المشرك ، وهو تعليق للمغفرة له بالمشيئة ؛ ثمّ بيّن بالآية
الأخرى أنّ الكافر ليس داخلا فيمن يشاء المغفرة له ؛ فيتعين دخوله فيمن لا يغفر له
؛ لأنّه لا واسطة بينهما.
الثالث
: أنّه عام خصّ
بالآية الثانية ، كما خصّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣]
بالآية الأولى. ويؤيّد هذا إجماع الأمّة على أنّ الكافر والمشرك
__________________
سواء ، في عدم
المغفرة والتّخليد في النار ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها) [البينة : ٦].
[١٦٣] فإن قيل : كيف قال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ) [النساء : ٤٩] ،
ذمّهم على ذلك ، وقال أيضا : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) [النجم : ٣٢] ،
وقد زكّى النبيّ صلىاللهعليهوسلم نفسه فقال : «والله إنّي لأمين في السماء أمين في الأرض».
ويوسف ، عليهالسلام ، قال : (اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)؟.
قلنا
: إنّما قال ذلك
حين قال المنافقون : اعدل في القسمة ، تكذيبا لهم ؛ حيث وصفوه بخلاف ما كان عليه
من العدل والأمانة. وأمّا يوسف ، عليهالسلام ، فإنّه إنّما قال ذلك ليتوصّل به إلى ما هو وظيفة
الأنبياء ، وهو إقامة العدل وبسط الحقّ وإمضاء أحكام الله تعالى ؛ ولأنّه علم أنّه
لا أحد ، في ذلك الوقت ، أقوم منه بذلك العمل ؛ فكان متعيّنا عليه ؛ فلذلك طلبه
وأثنى على نفسه.
ومع ذلك كله ،
فإنّه روي عن النبيّ ، عليه الصلاة والسلام ، أنّه قال : «رحم الله أخي يوسف لو لم
يقل اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ؛ ولكنّه أخّر ذلك سنة».
[١٦٤] فإن قيل : كيف قال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء : ٥١] إلى
أن قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ) ، حصر لعنته فيهم ؛ لأن هذا الكلام للحصر ؛ وليست لعنة
الله منحصرة فيهم ؛ بل هي شاملة لجميع الكفّار.
قلنا
: قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى القائلين : (لِلَّذِينَ كَفَرُوا
هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١] ؛
وهذا القول موجود من جميع الكفّار ، فكانت اللّعنة شاملة للجميع.
[١٦٥] فإن قيل : كيف قال : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا
__________________
الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] ؛
أخبر أنّه يعذّب جلودهم الّتي لم تعص ، مكان الجلود العاصية ، وتعذيب البريء ظلم؟
قلنا
: الجلود المجددة
وإن عذبت فالألم بتعذيبها إنّما يحصل للقلوب ، وهي غير مجدّدة ؛ بل هي العاصية
باعتقاد الشّرك ونحوه.
الثاني
: أنّ المراد
بتبديلها إعادة النضيج غير نضيج ، والجلود هي الجلود بعينها ؛ وإنّما قال غيرها
باعتبار صفة النضيج وعدمه ، كما قال الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] ،
وأراد تبديل الصفات ، لا تبديل الذات ، وكما قال الشاعر :
وما الناس
بالنّاس الّذين عهدتهم
|
|
وما الدّار
بالدّار الّتي كنت أعهد
|
[١٦٦] فإن قيل : كيف قال : (وَنُدْخِلُهُمْ
ظِلًّا ظَلِيلاً) [النساء : ٥٧] ،
وليس في الجنّة شمس ، ليكون فيها حرّ يحتاج بسببه إلى ظلّ ظليل أو غير ظليل؟
قلنا
: هو مجاز عن
المستقرّ المستلذ المستطاب ، جريا على المتعارف بين الناس ؛ لأنّ بلاد الحجاز
شديدة الحرّ ؛ فأطيب ما عندهم موضع الظل ؛ فخاطبهم بما يعقلون ويفهمون ، كما قال عزوجل : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ٦٢] وليس
في الجنّة طلوع شمس ولا غروبها ، فيكون فيها بكرة وعشيا ؛ لكن ، لما كان في عرفهم
تمام نعمة الغذاء وكمال وظيفته أن يكون حاضرا مهيأ في طرفي النهار عبّر عن حضوره
وتهيئته بذلك.
[١٦٧] فإن قيل : كيف قال : (فَأُولئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩] ،
وهذا مدح لمن يطيع الله والرّسول ، وعادة العرب في صفات المدح الترقّي من الأدنى
إلى الأعلى ، وهذا عكسه لأنّه نزول من الأعلى إلى الأدنى! قلنا : هذا ليس من الباب الذي ذكرتموه ؛ بل هو كلام المقصود منه
الإخبار عن كون المطيعين لله ورسوله يكونون يوم القيامة مع الأشراف والخواص. ثمّ ،
كأنّ سائلا سأل ، من الأشراف والخواص ، ففصّلوا له ، زيادة في الفائدة ، بعد تمام
المعنى المقصود بالذّكر ، بقوله : (فَأُولئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [النساء : ٦٩] ؛
وأتى في تفصيلهم بذكر الأشرف فالأشرف والأخصّ فالأخص ، إذ هو الغالب في تعديد
الأشراف والخواص ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
__________________
الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ،
وقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] ،
الآية. والدّليل على أنّ المراد من الآية الإخبار جملة لا تفصيلا ، أنّه لمّا علّم
عباده أن يسألوه هذا المعنى أرشدهم إلى طلبه مجملا بقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٦ ، ٧].
[١٦٨] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦]
وقال ، في كيد النساء : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨] ؛
ومعلوم أن كيد الشّيطان أعظم من كيد النسوان؟
قلنا
: المراد أن كيد
الشيطان ضعيف في جنب نصرة الله وحفظه لأوليائه المخلصين من عباده ، كما قال الله
تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].
وقال : حكاية عن إبليس : (إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٤٠].
والمراد بالآية الأخرى أنّ كيد النسوان عظيم بالنسبة إلى الرجال.
الثاني
: القائل إنّ كيدكن
عظيم هو عزيز مصر لا الله تعالى ، فلا تناقض ولا معارضة.
[١٦٩] فإن قيل : كيف عاب على المشركين والمنافقين قولهم : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا
هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ
عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨]
وردّ عليهم ذلك ، بقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] ؛
ثمّ قال ، بعد ذلك : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] ،
وأخبره بعين قولهم المردود عليهم؟
قلنا
: قيل إنّ الثّاني
حكاية قولهم ، أيضا ؛ وفيه إضمار ، تقديره : (فَما لِهؤُلاءِ
الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨]
فيقولون : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ) [النساء : ٧٩] ،
الآية.
وقيل معناه : ما
أصابك أيها الإنسان من حسنة ، أي رخاء ونعمة ، فمن فضل الله ، وما أصابك من سيّئة
، أي قحط وشدّة ، فبشؤم فعلك ومعصيتك ، لا بشؤم محمّد ، عليه الصلاة والسلام ، كما
زعم المشركون. ويؤيّده قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠].
[١٧٠] فإن قيل : كيف قيل إنّ الشرّ والمعصية بإرادة الله ، والله
تعالى يقول : (وَما أَصابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].
قلنا
: ليس المراد
بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية ؛ بل القحط والرّخاء ، والنصر والهزيمة ، على ما
اختلف فيه العلماء. ألا ترى أنّه قال : (ما أَصابَكَ) ، ولم يقل ما عملت من سيّئة.
[١٧١] فإن قيل : قوله تعالى : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ؛
السؤال فيه من وجهين :
أحدهما
: أنّه يدلّ من حيث
المفهوم على أنّ في القرآن اختلافا قليلا ، وإلّا لما كان للتقييد بوصف الكثرة
فائدة ؛ مع أنّه لا اختلاف فيه أصلا.
الثاني
: أنّه إنّما يدلّ
عدم الاختلاف الكثير ، في القرآن ، على أنّه من عند الله ، أن لو كان كلّ كتاب من
عند غير الله فيه اختلاف كثير ؛ وليس الواقع كذلك ؛ لأنّ المراد من الاختلاف :
إمّا الكذب والتباين في نظمه ، وإما التناقض في معانيه ، أو التفاوت بين بعضه
وبعضه ، من الجزالة والبلاغة والحكمة وكثرة الفائدة.
قلنا
: الجواب عن السؤال
الأوّل : أنّ التقييد بوصف الكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة ، فكأنه قال : لو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فضلا عن القليل ؛ لكنه من عند الله
، فليس فيه اختلاف كثير ولا قليل ، فكيف يكون من عند غير الله؟ فهذا هو المقصود من
التقييد بوصف الكثرة ، لا أنّ القرآن مشتمل على اختلاف قليل. وعن السؤال الثاني : أنّ كلّ كتاب في فنّ من العلوم إذا كان من عند غير الله
يوجد فيه اختلاف ما بأحد التفاسير المذكورة لا محالة يعرف ذلك بالاستقراء ؛
والقرآن جامع لفنون من علوم شتّى ؛ فلو كان من عند غير الله لوجد فيه بالنسبة إلى
كل فنّ اختلاف ما ، فيصير مجموع الاختلاف اختلافا كثيرا.
[١٧٢] فإن قيل : كيف قال : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٨٣] ؛
استثنى القليل ، على تقدير انتفاء الفضل والرّحمة ؛ مع أنّه لو لا فضله بالهداية
والعصمة ورحمته لاتّبع الكلّ الشيطان ، من غير استثناء؟
قلنا
: الاستثناء راجع
إلى ما تقدّم ؛ تقديره : أذاعوا به إلّا قليلا.
وقيل : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلّا قليلا.
وقيل : معناه : ولو لا فضل الله عليكم بإرسال الرّسل لاتّبعتم
الشّيطان ، في الكفر والضّلال ، إلا قليلا منكم كانوا يهتدون بعقولهم إلى معرفة
الله تعالى وتوحيده ، كقسّ بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، ونحوهما ؛ قبل بعث النبيّ
عليه الصلاة والسلام.
[١٧٣] فإن قيل : على الجواب الأخير إذا كان المراد أنّ من لوازم
نفي الفضل والرّحمة بالطّريق الخاص ، وهو بإرسال الرّسل ، اتباع الشيطان ، ونفي
الفضل والرّحمة بالطّريق الخاص معلوم حقّ في الرّسول ؛ لأنّه لم يرسل إليه رسول
ومع هذا لم يتبع الشّيطان؟
قلنا
: لا نسلم أنه لم
يرسل إليه رسول ، بل أرسل إليه الملك وأنّه رسول.
الثاني
: التقييد في الفضل
والرّحمة بتعيين الطّريق يكون في حقّ الأمّة ، أمّا في
حقّ الرّسل ، ومن
آمن بغير رسول ، يكون اللّفظ باقيا على ظاهره.
[١٧٤] فإن قيل : هذه الآية تقتضي وجود فضله ورحمته المانع من
اتباع أكثر الناس للشيطان مع أنّ الواقع خلافه ؛ فإن أكثر الناس كفرة ؛ يؤيده قوله
صلىاللهعليهوسلم : «الإسلام في الكفر كالشّعرة البيضاء في الثّور الأسود».
قلنا
: الخطاب في هذه
الآية للمؤمنين لا لكلّ الناس.
[١٧٥] فإن قيل : إذا كان الخطاب خاصّا للمؤمنين فما معنى
الاستثناء؟ فإنه إن كان المراد به اتباعه فيما يدعو إليه ويوسوس من المعاصي فأكثر
المؤمنين متبعون له في ذلك ، ولو في العمر مرّة واحدة في بعض الكبائر ، وإن كان
المراد به اتباعه في دعائه إلى الكفر فأحد من المؤمنين لم يتبعه في الكفر.
قلنا
: معناه ولو لا فضل
الله عليكم أيها المؤمنون ورحمته بالهداية بالرسول لاتبعتم الشيطان في الكفر
وعبادة الأصنام وغير ذلك ، إلّا قليلا منكم ، كقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ونحوهما
، فإنهم لو لا الفضل والرحمة بالرسول لما اتبعوا الشيطان ؛ لفضل ورحمة خصّهم الله
تعالى بها غير إرسال الرسول ، وهو زيادة الهداية ونور البصيرة.
[١٧٦] فإن قيل : كيف قال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ حَدِيثاً) [النساء : ٨٧] ؛
مع أنّه لا تفاوت بين صدق وصدق في كونه صدقا ، كما في القول والعلم لا يقال هذا
القول أقول ، ولا هذا العلم أعلم ، ولا هذا الصدق أصدق ؛ لأنّ الصدق عبارة عن
الإخبار المطابق للواقع ؛ ومتى ثبت أنه مطابق للواقع لا يحتمل الزيادة والنقصان؟
قلنا
: أصدق هنا صفة
للقائل لا صفة للقول ، والقائلان يتفاوتان في الصدق في نفس الأمر وإن تساويا في
قصة واحدة أخبرا بها وكان كل واحد منهما صادقا فيها. وحاصله أن هذا استفهام معناه
النفي ، كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ١٣٥]
معناه لا أحد يغفرها إلّا الله ، فمعناه هنا ، لا أحد أصدق في حديثه من الله ،
فيكون ترجيحا للمحدّث على المحدّث في الصدق ، لا ترجيحا لأحد الصدقين على الآخر ،
ولا شك أنه لا أحد أصدق في حديث من الله ؛ لأن غيره يجوز عليه غير الصدق عقلا ،
ويقع منه أيضا ولو نادرا ، والله تعالى منزه عن الأمرين جميعا.
[١٧٧] فإن قيل : قوله تعالى : (كُلَّما رُدُّوا
إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) [النساء : ٩١]
يقال :
__________________
ركسه وأركسه ، أي
ردّه ، فيصير معناه كلّما ردّوا إلى الفتنة ردّوا فيها وهو تكرار.
قلنا
: جوابه أن الفاعل
مختلف فانتفى التكرار وصار المعنى : كلما دعاهم قومهم إلى الشرك ردّهم الله إليه
وقلبهم بشؤم نفاقهم ، فالرد الأول بمعنى الدّعاء ، والركس بمعنى الرد والنكس.
[١٧٨] فإن قيل : كيف قال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] ؛
مع أنه ليس له أن يقتله خطأ.
قلنا
: إلا بمعنى ولا ،
كما في قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ، وقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠].
الثاني
: معناه أنه ليس له
أن يقتله مع تيقن إيمانه ؛ بل له أن يقتله إذا غلب على ظنه أنه ليس بمؤمن ، وهو في
صف المشركين ، وإن كان في نفس الأمر مؤمنا.
[١٧٩] فإن قيل : كيف يقال إن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون
في النار والله تعالى يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء : ٩٣].
قلنا
: معناه متعمدا
قتله بسبب إيمانه ، والذي يفعل ذلك يكون كافرا.
الثاني
: أن المراد
بالخلود طول المكث ، لأن الخلود إذا لم يكن بالأبدية يطلق على طول المكث ، كما
يقال : خلّد السلطان فلانا في الحبس إذا أطال حبسه.
[١٨٠] فإن قيل : كيف قال : (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) [النساء : ٩٥] ،
ثم قال : (وَفَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ) [النساء : ٩٥ ، ٩٦]؟
قلنا
: المراد بالأوّل
التفضيل على القاعدين عن الغزاة بعذر ، فإن لهم فضلا لكونهم مع الغزاة بالهمة
والعزيمة والقصد الصالح ؛ ولهذا قال : (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥] ،
يعني الجنة ، أي من المجاهدين والقاعدين بعذر. والمراد بالثاني
__________________
التفضيل على
القاعدين عن الغزاة بغير عذر ، وأولئك لا فضل لهم ؛ بل هم مقصرون ومسيئون ؛ فظهر
فضل الغزاة عليهم بدرجات لانتفاء الفضل لهم؟
[١٨١] فإن قيل : كيف صح قولهم : (كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) [النساء : ٩٧] ،
جوابا لقول الملائكة ؛ (فِيمَ كُنْتُمْ) ؛ مع أنه ليس مطابقا للسؤال ، والجواب المطابق أن يقولوا
كنّا في كذا ، أو لم نكن في شيء؟
قلنا
: معنى فيم كنتم
التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدّين ؛ حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا
فصار قوله : فيم كنتم؟ مجازا عن قوله لم تركتم الهجرة؟
فقالوا كنا
مستضعفين ، اعتذارا عما وبخوا به تعلّلا ؛ فردت عليهم الملائكة ذلك بقولهم : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧] ،
يعني أنكم إن كنتم عاجزين عن الهجرة إلى المدينة لبعدها عليكم كنتم قادرين على الخروج
من مكّة إلى بعض البلاد القريبة منكم التي تقدرون فيها على إظهار دين الإسلام.
[١٨٢] فإن قيل : كيف قال : (فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠] ،
أي وجب ، والعبد لا يستحق على مولاه أجرا ؛ لأنه ليس بأجير له إنما هو عبد قنّ؟
قلنا
: معناه وجب من جهة
أنه وعد عباده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، والخلف في وعده عزوجل محال ، فالوجوب من هذه الجهة ؛ مع أن ذلك الوعد ابتداء فضل
منه.
[١٨٣] فإن قيل : كيف شرط في إباحة القصر للمسافر خوف العدو بقوله
: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٠١]
الآية ، والقصر جائز مع أمن المسافر؟
قلنا
: خرج ذلك مخرج
الغالب لا مخرج الشرط ، وغالب أسفار رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم تخل
من خوف العدو فصار نظير قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور : ٣٣].
الثاني
: أنّ الكلام قد تم
عند قوله تعالى : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ) وقوله : (إِنْ خِفْتُمْ) كلام مستأنف ، وجوابه محذوف تقديره : فاحتاطوا أو تأهبوا.
الثالث
: أن المراد به
القصر من شروطها وأركانها حالة اشتداد الخوف بترك الركوع والسجود والنزول عن
الدّابة واستقبال القبلة ونحو ذلك ، لا من عدد الركعات ، وذلك القصر مشروط بالخوف.
[١٨٤] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣] ،
وكان لفظ دال على المضيّ ، والصلاة في الحال وإلى يوم القيامة أيضا على المؤمنين
فرض موقت؟
قلنا «كان» في
القرآن العزيز على خمسة أوجه :
كان بمعنى الأزل
والأبد ، كما في قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) [النساء : ١٠٤].
وكان بمعنى المضيّ
المنقطع ، كما في قوله تعالى : (وَكانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) [النمل : ٤٨] ،
وهو الأصل في معاني كان ، كما تقول : كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا ونحو ذلك.
وكان بمعنى الحال
، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣].
وكان بمعنى
الاستقبال ، كما في قوله تعالى : (وَيَخافُونَ يَوْماً
كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) [الإنسان : ٧].
وكان بمعنى صار ،
كما في قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) [ص : ٧٤] ، أي
صار.
[١٨٥] فإن قيل : كيف قال : (وَتَرْجُونَ مِنَ
اللهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء : ١٠٤]
والكافرون أيضا يرجون الثواب في محاربة المؤمنين ؛ لأنهم يعتقدون أن دينهم حق ،
وأنهم ينصرون دين الله ويذبون عنه ويقاتلون أعداءه ، كما يعتقد المؤمنون ، فالرجاء
مشترك؟
قلنا
: قيل إن الرجاء
هنا بمعنى الخوف ، كما في قوله : (ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] ،
وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤].
وقول الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وعلى قول من قال
إنه بمعنى الأمل ، تقول : قد بشّر الله المؤمنين في القرآن ووعدهم بإظهار دينهم
على الدّين كله ؛ ومثل هذه البشارة والوعد لم يوجد في سائر الكتب فافترقا.
__________________
وقيل : الرّجاء ما يكون مستندا إلى سبب صحيح ومقدّمات حقة ،
والطمع ما يكون مستندا إلى خلاف ذلك ؛ فالرجاء للمؤمنين ، وأما الكافرون فلهم طمع
لا رجاء.
[١٨٦] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) ، بعد قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً) [النساء : ١١٠] ،
وظلم النفس من عمل السوء ، فلم لم يقتصر على الأول ؛ مع أنّ الثاني داخل فيه؟
قلنا
: «أو» بمعنى الواو ، فمعناه ويظلم نفسه بذلك السوء حيث
دسّاها بالمعصية.
وقيل : المراد بعمل السوء التلبس بما دون الشرك ، وبظلم النفس
الشرك.
وقيل : المراد بعمل السوء الذّنب المتعدّي ضرره إلى الغير ، وبظلم
النفس الذنب المقتصر ضرره على فاعله.
[١٨٧] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) [النساء : ١١٣] ،
ظاهره نفي وجود الهم منهم بإضلاله ، والمنقول في التفاسير أنهم هموا بإضلاله ،
وزادوا على الهمّ الذي هو القصد القول المضل أيضا.
يعرف ذلك من تفسير
أول القصّة ، وهو قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللهَ)؟ [النساء : ١٠٥].
قلنا
: قوله (لَهَمَّتْ) ليس جواب «لو لا» بل هو كلام مقدّم على لو لا ، وجوابها في
التقدير مقول على طريق القسم ، وجواب لو لا محذوف تقديره : لقد همت طائفة منهم أن
يضلوك ولو لا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك.
[١٨٨] فإن قيل : النجوى فعل ومن اسم ، فكيف صح استثناء الاسم من
الفعل في قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) [النساء : ١١٤]؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: إلا نجوى من أمر بصدقة ، فيكون استثناء الفعل من الفعل ، ونظيره قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ) [البقرة : ١٧٧]
تقديره : برّ من آمن بالله.
__________________
[١٨٩] فإن قيل : كيف قال : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) [النساء : ١١٤] ،
ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) [النساء : ١١٤]؟
قلنا
: ذكر الآمر بالخير
ليدل به على خيرية الفاعل بالطريق الأولى ، ثم ذكر الفاعل ووعده الأجر العظيم
إظهارا لفضل الفاعل المؤتمر على الآمر.
الثاني
: أنه أراد : ومن
يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر أنواع الفعل ، وإذا كان
الآمر موعودا بالأجر العظيم كان الفاعل موعودا به بالطّريق الأولى.
[١٩٠] فإن قيل : كيف قال : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) [النساء : ١١٧] ،
أي ما يعبدون من دون الله إلّا اللّات والعزّى ومناة ونحوها ، وهي مؤنثة ، ثم قال
: (وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) [النساء : ١١٧] ،
أي ما يعبدون إلّا الشّيطان؟
قلنا
: معناه أن عبادتهم
للأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان ، إمّا لأنّهم أطاعوا الشيطان فيما سوّل لهم
وزيّن من عبادة الأصنام بالإغواء والإضلال ، أو لأنّ الشّيطان موكل بالأصنام يدعو
الكفّار إلى عبادتها شفاها ويتزيّى للسدنة فيكلمهم ليضلّهم.
[١٩١] فإن قيل : كيف يقال إن العبد يحكم بكونه من أهل الجنة بمجرد
الإيمان ، والله تعالى شرط لذلك العمل الصالح بظاهر قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [النساء : ٥٧]
وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [النساء : ١٢٤]
وإلا لما كان للتقييد فائدة؟
قلنا
: قيل إن المراد
بالعمل الصالح الإخلاص في الإيمان ، وقيل
: الثبات عليه إلى
الموت ، وكلاهما شرط في كون الإيمان سببا لدخول الجنة.
[١٩٢] فإن قيل : كيف قال : و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣]
والتائب المقبول التّوبة غير مجزيّ بعمله ، وكذلك من عمل سيئة ثم أتبعها حسنة ،
لأنها مذهبة لها وماحية بنص القرآن؟
قلنا
: المراد من يعمل
سوءا ويمت مصرا عليه ، فإن تاب منه لم يجز به.
الثاني
: أن المؤمن يجازى
في الدّنيا بما يصيبه فيها من المرض وأنواع المصائب والمحن ، كما جاء في الحديث ؛
والكافر يجازى في الآخرة.
[١٩٣] فإن قيل : كيف خصّ المؤمنين الصالحين بأنّهم لا يظلمون
بقوله :
__________________
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ) [النساء : ١٢٤]
الآية ؛ مع أن غيرهم لا يظلم ، أيضا؟
قلنا
: قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء : ١٢٤]
راجع إلى الفريقين عمال السوء وعمال الصالحات لسبق ذكر الفريقين.
الثاني
: أن يكون من باب
الإيجاز والاختصار فاكتفى بذكره عقب الجملة الأخيرة عند ذكر أحد الفريقين لدلالته
على إضماره عقب ذكر الفريق الآخر ، ولا يظلم المؤمنون بنقصان أعمالهم ، ولا
الكافرون بزيادة عقاب ذنوبهم.
الثالث
: أن المراد بالظلم
نفي نقصان ثواب الطاعات ، وهذا مخصوص بالمؤمنين ، لأن الكافرين ليس لهم على
أعمالهم ثواب ينقص منه.
[١٩٤] فإن قيل : طلب الإيمان من المؤمنين تحصيل حاصل ، فكيف قال
: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]
الآية؟
قلنا
: معناه : يا أيها
الذين آمنوا بعيسى آمنوا بالله ورسوله محمد. وقيل
: معناه : يا أيها
الذين آمنوا يوم الميثاق آمنوا الآن. وقيل معناه : يا أيها الذين آمنوا علانية
آمنوا سرّا.
[١٩٥] فإن قيل : قوله تعالى : (الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) [النساء : ١٤١] لم
سمّى ظفر المؤمنين فتحا ، وظفر الكافرين نصيبا؟
قلنا
: تعظيما لشأن
المؤمنين وتحقيرا لحظ الكافرين ؛ لأنّ ظفر المسلمين أمر عظيم ؛ لأنه متضمن نصرة
دين الله وعزة أهله ؛ تفتح له أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله ، وظفر
الكافرين ليس إلا حظا دنيئا وعرضا من متاع الدنيا يصيبونه ، وليس بمتضمن شيئا مما
ذكرنا.
[١٩٦] فإن قيل : كيف قال : (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء : ١٤١] ،
وقد نصر الكافرين على المؤمنين يوم أحد ، وفي غيره أيضا ، إلى يومنا هذا؟
قلنا
: المراد به السبيل
بالحجة والبرهان ، والمؤمنون غالبون بالحجة دائما.
[١٩٧] فإن قيل : كيف كان المنافق أشد عذابا من الكافر ؛ حتّى قال
الله تعالى ، في حقهم : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ؛
مع أنّ المنافق أحسن حالا من الكافر ، بدليل أنه معصوم الدم وغيره محكوم عليه
بالكفر ، ولهذا قال الله تعالى في حقهم (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء : ١٤٣]
فلم يجعلهم مؤمنين ولا كافرين؟
قلنا
: المنافق وإن كان
في الظّاهر أحسن حالا من الكافر ، إلّا أنه عند الله ، في
الآخرة ، أسوأ
حالا منه ، لأنه شاركه في الكفر ، وزاد عليه الاستهزاء بالإسلام وأهله ، والمخادعة
لله وللمؤمنين.
[١٩٨] فإن قيل : الجهر بالسوء غير محبوب لله تعالى أصلا ؛ بل
المحبوب عنده العفو والصفح والتجاوز فكيف قال : (لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] أي
إلا جهر من ظلم.
قلنا
: معناه ولا جهر من
ظلم ، فإلّا بمعنى ولا ، وقد سبق نظيره وشاهده في قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢].
[١٩٩] فإن قيل : كيف يجوز دخول «بين» على أحد في قوله تعالى : (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ) [النساء : ١٥٢]
وبين تقتضي اثنين فصاعدا ، يقال فرقت بين زيد وعمرو ، وبين القوم ، ولا يقال فرقت
بين زيد؟
قلنا
: قد سبق هذا
السؤال وجوابه في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] في
آخر سورة البقرة ، أيضا.
[٢٠٠] فإن قيل : ما فائدة إعادة الكفر في الآية الثانية بقوله
تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٦]
بعد قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) [النساء : ١٥٥]
الآية.
قلنا
: لأنه قد تكرر
الكفر منهم فإنهم كفروا بموسى وعيسى عليهماالسلام ، ثم بمحمد عليه الصلاة والسلام ، فعطف بعض كفرهم على بعض.
[٢٠١] فإن قيل : اليهود كانوا كافرين بعيسى ابن مريم ، عليه
الصلاة والسلام ، يسمونه الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة ؛ فكيف أقرّوا
أنّه رسول الله بقولهم : (إِنَّا قَتَلْنَا
الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [النساء : ١٥٧]؟
قلنا
: قالوه على طريق
الاستهزاء ، كما قال فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.
[٢٠٢] فإن قيل : كيف وصفهم بالشك بقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) [النساء : ١٥٧] ،
ثم وصفهم بالظّن بقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧]
__________________
والشك تساوي
الطرفين ، والظن رجحان أحدهما ؛ فكيف يكونون شاكين ظانين ؛ وكيف استثنى الظن من
العلم ، وليس الظن فردا من أفراد العلم ؛ بل هو قسيمه؟
قلنا
: استعمل الظن
بمعنى الشك مجازا لما بينهما من المشابهة في انتفاء الجزم ؛ وأما استثناء الظن من
العلم فهو استثناء من غير الجنس ، كما في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا
سَلاماً) [مريم : ٦٢].
وقيل : لأنّ المراد بالشك هنا ما يشمل الظن ، واستثناء الظن من
العلم في الآية منقطع ؛ فإلّا فيها بمعنى لكن ، كما في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ،
٢٦] ، وما أشبهه.
[٢٠٣] فإن قيل : كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرّسل ، وهم
محجوجون بما نصبه لهم من الأدلة العقلية الموصلة إلى معرفته ، حتى قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥]؟
قلنا
: الرسل والكتب
منبهة من الغفلة ، وباعثة على النظر في أدلة العقل ومفصّلة لمجمل الدنيا وأحوال
التكليف التي لا يستقل العقل بمعرفتها ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام
الحجة ، لئلا يقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤]
فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.
[٢٠٤] فإن قيل : كيف قال : (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦]
ولم يقل أنزله بقدرته أو بعلمه وقدرته ؛ مع أن الله تعالى لا يفعل إلّا عن علم
وقدرة؟
قلنا
: معناه أنزله
متلبسا بعلمه : أي عالما به ، أو وفيه علمه ، أي معلومه أو معلمه من الشرائع
والأحكام. وقيل معناه : أنزله عليك بعلم منه أنّك أولى بإنزاله عليك من سائر خلقه.
[٢٠٥] فإن قيل : كلام الله صفة قديمة قائمة بذاته ، وعيسى عليه
الصلاة والسلام مخلوق وحادث فكيف صح إطلاق الكلمة عليه في قوله تعالى : (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) [النساء : ١٧١].
قلنا
: معناه أن وجوده
في بطن أمه كان بكلمة الله تعالى ، وهو قوله : (كُنْ) من غير واسطة أب ، بخلاف غيره من البشر سوى آدم. وقيل
: المراد بالكلمة
الحجة.
[٢٠٦] فإن قيل : على الوجه الأول ، لو كان صحة إطلاق الكلمة على
عيسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، لهذا المعنى لصح إطلاقها على آدم عليه الصلاة
والسلام لأن هذا المعنى فيه أتم وأكمل لأنه وجد بهذه الكلمة من غير واسطة أب ولا
أم أيضا.
قلنا
: لا نسلم أنه لا
يصح إطلاقها عليه لهذا المعنى ، بل يصح.
[٢٠٧] فإن قيل : لو صح إطلاقها عليه لجاء به القرآن كما جاء في
حق عيسى عليه الصلاة والسلام؟
قلنا
: خص ذلك بعيسى لأن
المجيء في حقّ عيسى ، عليه الصلاة والسلام ، إنما كان للرد على من افترى عليه وعلى
أمه ونسبه إلى أب ؛ ولم يوجد هذا المعنى في حقّ آدم ، عليه الصلاة والسلام ،
لاتفاق الناس كلهم على أنه غير مضاف إلى أب ولا إلى أم.
سورة المائدة
[٢٠٨] فإن قيل : كيف الارتباط والمناسبة بين قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١]
وقوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ
الْأَنْعامِ) [المائدة : ١]؟
قلنا
: المراد بالعقود
عهود الله عليهم في تحليل حلاله وتحريم حرامه ، فبدأ بالمجمل ثم أتبعه بالمفصل من
قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [المائدة : ١]
وقوله بعده : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣]
الآية.
[٢٠٩] فإن قيل : ما أكله السبع وعدم وتعذر أكله ، فكيف يحسن فيه
التحريم حتى قال : (وَما أَكَلَ
السَّبُعُ) [آل عمران : ٥]؟
قلنا
: معناه وما أكل
منه السبع ، يعني الباقي بعد أكله.
[٢١٠] فإن قيل : قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً) [المائدة : ٣] ،
يدل من حيث المفهوم عرفا على أنه لم يرض لهم الإسلام دينا قبل ذلك اليوم ، وليس
كذلك ، فإن الإسلام لم يزل دينا مرضيا للنبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه عند الله منذ أرسله عليه الصلاة والسلام.
قلنا
: قوله اليوم ظرف
للجملتين الأوليين لا للجملة الثالثة ؛ لأن الواو الأولى للعطف ، والثانية
للابتداء ؛ فالجملة الثالثة مطلقة غير موقتة.
[٢١١] فإن قيل : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [المائدة : ٤] كيف
صلح جوابا لسؤالهم والطيبات غير معلومة ولا متفق عليها لأنها تختلف باختلاف الطباع
والبقاع؟
قلنا
: المراد بالطيبات
هنا الذبائح ، والعرب تسمي الذبيحة طيّبا وتسمي الميتة خبيثا ، فصار المراد معلوما
لكنه عام مخصوص كغيره من العمومات.
[٢١٢] فإذا قيل : ما فائدة قوله : (مُكَلِّبِينَ) بعد قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ) [المائدة : ٤]
والمكلّب هو المعلم من كلاب الصيد؟
__________________
قلنا
: قد جاء في تفسير
المكلّب أيضا أنه المضري للجارح والمغري له فعلى هذا لا يكون تكرارا ، وعلى القول
الأول يكون إنما عمم ثم خصص فقال مكلبين بعد قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ) [المائدة : ٤] ؛
لأن غالب صيدهم كان بالكلاب ، فأخرجه مخرج الغالب الواقع منهم.
[٢١٣] فإن قيل : ظاهر قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) [المائدة : ٥]
يقتضي إباحة الجوارح المعلمة وهي حرام.
قلنا
: فيه إضمار
وتقديره : مصيد ما علمت من الجوارح ، يؤيده ما في تمام الكلام من قوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٤].
[٢١٤] فإن قيل : المؤمن به هو الله لقوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦]
فالمكفور به يكون هو الله أيضا ، ويؤيده قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨]
وإذا ثبت هذا فكيف قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ) [المائدة : ٥] مع
أنه لا يصح أن يقال آمن بالإيمان فكذلك ضده؟
قلنا
: المراد به : ومن
يرتد عن الإيمان يقال كفر فلان بالإسلام إذا ارتد عنه ، فكفر بمعنى ارتد ؛ لأن
الردة نوع من الكفر ، والباء بمعنى عن ، كما في قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١]
وقوله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ
خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩].
وقيل : المراد هنا بالإيمان المؤمن به تسمية للمفعول بالمصدر ،
كما في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة : ٩٦] ،
أي مصيده ، وقولهم : ضرب الأمير ، ونسج اليمن.
[٢١٥] فإن قيل : كيف قال : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٩] ولم
يقل : وعملوا السيئات ؛ مع أن الغفران يكون لفاعل السيئات لا لفاعل الحسنات؟
قلنا
: كل أحد لا يخلو
من سيئة صغيرة أو كبيرة ، وإن كان ممن يعمل الصالحات وهي الطاعات ، والمعنى : أن
من آمن وعمل الحسنات غفرت له سيئاته.
قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤].
[٢١٦] فإن قيل : كيف قال في آخر قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) [المائدة : ١٢]
الآية ، (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [المائدة : ١٢] مع
أن الذي كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل؟
قلنا
: نعم ولكن الضلال
بعد ما ذكر من النعم أقبح ؛ لأن قبح الكفر بقدر عظم النعم المكفورة ، فلذلك خصه
بالذكر.
[٢١٧] فإن قيل : كيف قال : (وَمِنَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة : ١٤]
ولم يقل ومن النصارى؟
قلنا
: لأن هؤلاء كانوا
كاذبين في دعواهم أنهم نصارى ، وذلك أنهم إنما سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله
تعالى ، وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله ، ثم اختلفوا بعده نسطورية ويعقوبية
وملكانية أنصارا للشيطان ، فقال ذلك توبيخا لهم.
[٢١٨] فإن قيل : كيف قال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ
الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة : ٥] مما
كتمتموه من الكتاب فلا يظهره ولا يبين كتمانكم إياه ، فكيف يجوز للنبي صلىاللهعليهوسلم أن يمسك عن إظهار حق كتموه مما في كتبهم؟
قلنا
: إنما لم يبين
البعض لأنه كان يتبع الأمر ولا يفعل شيئا من الأمور الدينية من تلقاء نفسه بل
اتباعا للوحي ، فما أمر ببيانه بينه ، وما لم يؤمر ببيانه أمسك عنه إلى وقت أمره
ببيانه ، وعلى هذا الجواب يكون لفظ العفو مجازا عن الترك ، فيكون قد أعلمه الله به
وأطلعه عليه ولم يأمره ببيانه لهم فترك تبيانه لهم.
الثاني
: أن ما كان في
بيانه إظهار حكم شرعي كصفته ونعته والبشارة به وآية الرجم ونحوها بينه ، وما لم
يكن في بيانه حكم شرعي ولكن فيه افتضاحهم وهتك أستارهم فإنه عفا عنه.
الثالث
: أن عقد الذمة
اقتضى تقريرهم على ما بدلوا وغيروا من دينهم ، إلا ما كان في إظهاره معجزة له
وتصديق لنبوته من نعته وصفته ، أو ما اختلفوا فيه فيما بينهم وتحاكموا إليه فيه
كحكم الزنا ونحوه.
[٢١٩] فإن قيل : كيف قال : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) [المائدة : ١٥ ،
١٦] ، مع أنّ العبد ما لم يهده الله أولا ، لا يتبع رضوانه ؛ فيلزم الدور؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: يهدي به الله من علم أنه يريد أن يتبع رضوانه ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ،
أي والذين أرادوا سبيل المجاهدة فينا لنهدينهم سبل مجاهدتنا.
[٢٢٠] فإن قيل : لم نر ولم نسمع أن قوما من اليهود والنصارى
قالوا نحن أبناء الله فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟
قلنا
: المراد بقولهم
أبناء الله خاصة الله ، كما يقال أبناء الدنيا وأبناء الآخرة.
وقيل : فيه إضمار تقديره : أبناء أنبياء الله.
[٢٢١] فإن قيل : كيف يصح الاحتجاج عليهم بقوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ) [المائدة : ١٨] مع
أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم ، ويدعون أن ما يذنبون بالنهار يغفر بالليل ، وما
يذنبون بالليل يغفر بالنهار.
قلنا
: هم كانوا مقرين
أنه يعذبهم أربعين يوما وهي مدة عبادتهم العجل ، في غيبة موسى عليهالسلام لميقات ربه ؛ ولذلك قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠].
وقيل : أراد به العذاب الذي أوقعه ببعضهم في الدنيا من مسخهم قردة
كما فعل بأصحاب السبت ، وخسف الأرض كما فعل بقارون ، وهذا لا ينكرونه ، وعلى هذا
الوجه يكون المضارع بمعنى الماضي في قوله : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) [المائدة : ١٨]
والإضافة إليهم بمعنى الإضافة إلى آبائهم ، كأنه قال : فلم عذب آباءكم.
[٢٢٢] فإن قيل : قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [المائدة : ١٨] إن
أريد به يغفر لمن يشاء منكم أيها اليهود والنصارى ، ويعذب من يشاء يلزم جواز
المغفرة لهم وأنه غير جائز لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] وإن
أريد به يغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب من يشاء لا يصلح جوابا لقولهم.
قلنا
: المراد به يغفر
لمن يشاء منهم إذا تاب من الكفر. وقيل : يغفر لمن يشاء ممن خلق وهم المؤمنون ، ويعذب من يشاء وهم
المشركون.
[٢٢٣] فإن قيل : كيف قيل : (يا قَوْمِ اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠]
ولم يكن قوم موسى عليهالسلام ملوكا؟
قلنا
: المراد جعل فيكم
ملوكا ، وهم ملوك بني إسرائيل ، وهم اثنا عشر ملكا ، لاثني عشر سبطا ، لكل سبط
ملك.
وقيل : المراد به أنه رزقهم الصحّة ، والكفاية ، والزوجة الموافقة
، والخادم ، والبيت ، فسماهم ملوكا لذلك.
وقيل : المراد به أنه رزقهم المنازل الواسعة التي فيها المياه
الجارية.
[٢٢٤] فإن قيل : من أين علم الرجلان أنهم الغالبون ، حتى قالا : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غالِبُونَ) [المائدة : ٢٣]؟
قلنا
: من جهة وثوقهم
بإخبار موسى صلىاللهعليهوسلم بذلك بقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١].
وقيل : علما ذلك بغلبة الظن ، وما عهداه من صنع الله تعالى بموسى
عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه.
[٢٢٤
م] فإن قيل : قوله
تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٢٣]
يدل على أن من لم يتوكل على الله لا يكون مؤمنا وإلا لضاع التعليق وليس كذلك.
قلنا
: «إن» هنا بمعنى إذ ، فتكون بمعنى التعليل ، كما في قوله
تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ
مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨].
[٢٢٥] فإن قيل : كيف التوفيق بين قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ
الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١]
وبين قوله : (فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٢٦].
قلنا
: معناه كتبها لكم
بشرط أن تجاهدوا أهلها ، فلما أبوا الجهاد قيل : فإنها محرمة عليهم.
الثاني
: أن كل واحد منهما
عام أريد به الخاص ، فالكتابة للبعض وهم المطيعون ، والتحريم على البعض وهم
العاصون.
الثالث
: أن التحريم موقت
بأربعين سنة والكتابة غير موقتة ، فيكون المعنى أن بعد مضي الأربعين يكون لهم.
وهذا الجواب تام على قول من نصب الأربعين بمحرمة وجعلها ظرفا ؛ فأمّا من جعل
الأربعين ظرفا لقوله : (يَتِيهُونَ) [المائدة : ٢٦]
مقدما عليه فإنه جعل التحريم مؤبدا فلا يتأتى على قوله هذا الجواب ؛ لأن التقدير
عنده : فإنها محرمة عليهم أبدا ، يتيهون في الأرض أربعين سنة ؛ وهو موضع قد اختلف
فيه المفسرون ، والفرّاء من جملة من جوّز نصب الأربعين بمحرمة ويتيهون ؛ والزّجّاج
من جملة من منع جواز نصبه بمحرمة ، ونقل أن التحريم كان مؤبدا ، وأنّهم لم يدخلوها
بعد الأربعين ، ونقل غيره أنه دخلها بعد الأربعين من بقي منهم وذرية من مات منهم.
ويعضد الوجه
الأوّل كون الغالب في الاستعمال تقدّم الفعل على الظرف الذي هو عدد لا تأخّره عنه
، يقال : سافر زيد أربعين يوما وما أشبه ذلك ، وقلما يقال على العكس.
[٢٢٦] فإن قيل : كيف قال : (إِذْ قَرَّبا
قُرْباناً) [المائدة : ٢٧]
ولم يقل قربانين ؛ لأنّ كل واحد منهما قرّب قربانا؟
__________________
قلنا
: أراد به الجنس
فعبّر عنه بلفظ الفرد ، كقوله تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧].
الثاني
: أن العرب تطلق
الواحد وتريد الاثنين ، وعليه جاء قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧]. وقال
الشاعر :
فإنّي وقيار بها لغريب
تقديره : فإني بها
لغريب وقيار كذلك ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) [البقرة : ٦٢]
الآية. وقيل : إنما أفرده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والمثنّى والمجموع.
[٢٢٧] فإن قيل : كيف صلح قوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧]
جوابا لقوله : (لَأَقْتُلَنَّكَ) [المائدة : ٢٧]؟
قلنا
: لما كان الحسد
لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له ذلك كناية عن حقيقة
الجواب وتعريضا ، معناه إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا منّي
فلم تقتلني؟
[٢٢٨] فإن قيل : كيف قال هابيل لقابيل : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩] ،
أي تنصرف بهما ؛ مع أن إرادة السوء والوقوع في المعصية للأجنبي حرام ، فكيف للأخ؟
قلنا
: فيه إضمار حرف
النفي تقديره : إنّي أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك ، كما في قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ) [النمل : ١٥] ، أي
أن لا تميد بكم ، وقوله تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا
تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف : ٨٥] ،
وقول امرئ القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
الثاني
: أن فيه حذف مضاف
تقديره : إني أريد انتفاء أن تبوء بإثمي وإثمك ، كما في قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ،
أي حبّ العجل.
الثالث
: أن معناه ، إنّي
أريد ذلك إن قتلتني لا مطلقا.
الرابع
: أنه كان ظالما ،
وجزاء الظالم تحسن إرادته من الله تعالى فتحسن من العبد أيضا.
__________________
[٢٢٩] فإن قيل : قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١] ،
يدل على أنّ قابيل كان تائبا ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «الندم توبة» ؛ فلا
يستحق النار.
قلنا
: لم يكن ندمه على
قتل أخيه ؛ بل على حمله على عنقه سنة ، أو على عدم اهتدائه إلى الدفن الذي تعلّمه
من الغراب ، أو على فقد أخيه لا على المعصية ، ولو سلمنا أن ندمه كان على قتل أخيه
، ولكن يجوز أن الندم لم يكن توبة في شريعتهم ، بل في شريعتنا ، أو نقول : التّوبة
تؤثر في حقوق الله تعالى لا في حقوق العباد ، والدّم من حقوق العباد ، فلا تؤثر
فيه التّوبة.
[٢٣٠] فإن قيل : كيف يكون قتل الواحد كقتل الكل ، وإحياء الواحد
كإحياء الكل والدليل يأباه من وجهين :
أحدهما
: أن الجناية كلما
تعددت وكثرت كانت أقبح فتناسب زيادة الإثم والعقوبة ، هذا هو مقتضى العقل والحكمة.
الثاني
: أن المراد بهذا
التشبيه إما أن يكون تساوي قتل الواحد والكل في الإثم والعقوبة ، أو تقاربهما ،
وإنما كان يلزم منه أنه إذا قتل الثاني أو الثالث وهلم جرا أن لا يكون عليه إثم
آخر ، ولا يستحق عقوبة أخرى ؛ لأنه أثم إثم قتل الكل ، واستحق عقوبة قتل الكل
بمجرد قتل الأول ، أو الأول والثاني ؛ لأن قتل الواحد إذا كان يساوي قتل الكل أو
يقاربه ، فقتل الاثنين يجعل عليه إثم قتل الكل وعقوبة قتل الكل ؛ فكيف يزداد بعد
ذلك بقتل الثالث والرابع وهلم جرا ، ولو قتل الكل لما ازداد عن قتل الكل وعقوبة
قتل الكل ، ولا يجوز أن يستحق بقتل الواحد أو الاثنين إثم قتل الكل ، وبقتل الكل
إثم قتل الكل! قلنا
: أقرب ما قيل فيه
أن المراد من قتل نفسا واحدة بغير حقّ كان جميع الناس خصومه في الدنيا إن لم يكن
له ولي ، وفي الآخرة مطلقا ، لأنهم من أب وأم واحدة.
وقيل : معناه من قتل نفسا نبيا وإماما عادلا فهو كمن قتل الناس
جميعا من حيث إبطال المنفعة على الكل ؛ لأن منفعتهما عامة للكل.
وقيل : المراد بمن قتل هو قابيل ، فإن عليه من الإثم بمنزلة إثم
قتل الكل ؛ لأنه أول من سن القتل ؛ فكل قتل يوجد بعده يلحقه شيء من وزره بغلبة
التسبب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «من سنّ سنّة حسنة» الحديث ؛ وهذا أحسن في
المعنى ؛ ولكن اللفظ لا يساعد عليه ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ
لَهُمْ ما) [المائدة : ٣٢] ؛
لأنّ هذا المعنى إذا أريد به قابيل لا تختص كتابته ببني إسرائيل.
__________________
[٢٣١] فإن قيل : كيف وجه قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣]
الآية ، وحقيقة المحاربة بين العبد والرب ممتنعة؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: يحاربون أولياء الله. وقيل : أراد بالمحاربة المخالفة.
[٢٣٢] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لِيَفْتَدُوا بِهِ) [المائدة : ٣٦]
ولم يقل بهما ، والمذكور شيئان؟
قلنا
: قد سبق جواب مثله
قبيل هذا في قوله : (إِذْ قَرَّبا
قُرْباناً) [المائدة : ٢٧] ،
وهنا جواب آخر وهو أن يكون وضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قال ليفتدوا بذلك ،
وذلك يشار به إلى الواحد والاثنين والجمع.
[٢٣٣] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢]
وحال النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الكتاب لا يخلو عن هذين القسمين ؛ لأنه إما
أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم؟
قلنا
: فائدته تخيير
النبي ، عليه الصلاة والسلام ، بين الحكم بينهم وعدمه ، ليعلم أنه لا يجب عليه أن
يحكم بينهم كما يجب عليه ذلك بين المسلمين إذا تحاكموا إليه ؛ وقيل
: إن هذا التخيير
منسوخ بقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٨]
وهو القرآن يدل عليه أول الآية (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٨] في
الحكم بالتوراة.
[٢٣٤] فإن قيل : لما أنزل الله القرآن صار الإنجيل منسوخا به ،
فكيف قال : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة : ٤٧]؟
قلنا
: هو عام مخصوص ،
أي ما أنزل الله فيه من صدق نبوة محمد ، عليه الصلاة والسلام ، بعلاماته المذكورة
في الإنجيل ، وذلك غير منسوخ.
[٢٣٥] فإن قيل : كيف قال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [المائدة : ٤٩] ؛
مع أن الكفار معاقبون بكل ذنوبهم؟
قلنا
: أراد به عقوبتهم
في الدنيا ، وهو ما عجله من إجلاء بني النضير وقيل بني قريظة وذلك جزاء بعض ذنوبهم
لأنه جزاء منقطع ، وأما جزاؤهم على شركهم فهو جزاء دائم لا يتصور وجوده في الدنيا.
وقيل : أراد بذلك البعض ذنب التولي عن الرضا بحكم القرآن ، وإنما
أبهمه تفخيما له وتعظيما.
[٢٣٦] فإن قيل : حسن حكم الله وصحته أمر ثابت على العموم بالنسبة
إلى الموقنين وغير الموقنين ، فكيف قال : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة : ٥٠]؟
قلنا
: لما كان الموقنون
أكثر انتفاعا به من غيرهم ، بل هم المنتفعون به في الحقيقة لا غير كانوا أخص به ،
فأضيف إليهم لذلك ، ونظيره : قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].
[٢٣٧] فإن قيل : قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١]
يقتضي أن يكون من وادّ أهل الكتاب وصادقهم كافرا وليس كذلك لقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة : ٨]
الآية.
قلنا
: المراد بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) [المائدة : ٥١] المنافقون
، لأنها نزلت في شأنهم وهم كانوا من الكفار في الدنيا ضميرا واعتقادا ، ومعناه أنه
منهم في الآخرة جزاء وعقابه أشد.
[٢٣٨] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٥١] ،
وكم من ظالم هداه الله تعالى فتاب وأقلع عن ظلمه؟
قلنا
: معناه لا يهديهم
ما داموا مقيمين على ظلمهم.
الثاني
: أن معناه : لا
يهدي من قضى في سابق علمه أنه يموت ضالا.
الثالث
: أن معناه : لا
يهدي القوم الظالمين يوم القيامة إلى طريق الجنة ، أي المشركين.
[٢٣٩] فإن قيل : كيف قال : (أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٥٤]
ولم يقل أذلة للمؤمنين ، وإنما يقال ذل له لا ذل عليه؟
قلنا
: لأنه ضمن الذل
معنى الحنوّ والعطف فعدّاه تعدّيته ، كأنه قال : حانين على المؤمنين عاطفين عليهم.
[٢٤٠] فإن قيل : كيف قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [المائدة : ٥٦]
وكم مرة غلب حزب الله تعالى في زمن النبيّ صلىاللهعليهوسلم وبعده إلى يومنا هذا؟
قلنا
: المراد به الغلبة
بالحجة والبرهان لا بالدولة والصولة ، وحزب الله هم المؤمنون غالبون بالحجة أبدا.
[٢٤١] فإن قيل : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف قال : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) [المائدة : ٦٠]
الآية؟
قلنا
: لا نسلم أن
الثواب والمثوبة مختص بالإحسان ؛ بل هو الجزاء مطلقا بدليل قوله تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا
يَفْعَلُونَ) [المطففين : ٣٦] ،
أي هل جوزوا ، وقوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍ) [آل عمران : ١٥٣]
وهو كلفظ البشارة لا اختصاص له
لغة بالخبر السار
؛ بل هو عام شامل للشر ؛ قال الله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١].
[٢٤٢] فإن قيل : ما فائدة إرسال الكتاب والرسول إلى أولئك
الكثيرين الذين قال في حقهم : (وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [المائدة : ٦٤]؟
قلنا
: فائدته إلزام
الحجة عليهم.
الثاني
: تبجيل الكتاب
والرسول فإنّ الخطاب بالكتاب إذا كان عامّا ، والرّسول إذا كان مرسلا إلى الخلق
كلهم ، كان ذلك أفخم وأعظم للرسول والمرسل.
[٢٤٣] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ٦٦]
الآية ، يقتضي تعلق الرخاء وسعة الرزق بالإيمان بالكتاب والعمل بما فيه ، وليس
كذلك ، فإن كثيرا من المؤمنين بالكتب الأربعة العاملين بما فيها ممّا لم ينسخ ،
عيشهم في الدنيا منكد ، ورزقهم مضيّق.
قلنا
: هذا التعليق خاص
في حقّ أهل الكتاب ؛ لأنهم اشتكوا من ضيق الرزق حتى قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤]
فأخبرهم الله تعالى أن ذلك التضييق عقوبة لهم بشؤم معاصيهم وكفرهم ، والله تعالى
يجعل ضيق الرزق وتقديره نعمة في حق بعض عباده ، ونقمة في حقّ بعضهم وكذلك الرخاء
والسعة فيعاقب بهما على المعصية ، ويثيب بهما على الطاعة ، ويختلف ذلك باختلاف
أحوال الأشخاص ، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام. ولا من تضييقه الإهانة ولا يلزم
عكسه أيضا ، ولهذا رد الله تعالى ذلك بقوله : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ
إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) [الفجر : ١٥] إلى
قوله تعالى : (كَلَّا) [الفجر : ١٧] ، أي
ليس الأمر كما ظن الإنسان وزعم من أن توسيع الرزق دليل الكرامة وتضييقه دليل
الإهانة ، بل دليل الكرامة هو الهداية والتوفيق للطاعات ، ودليل الإهانة هو
الإضلال وحرمة التوفيق.
[٢٤٤] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧]
ومعلوم أنه إذا لم يبلغ المنزل إليه لم يكن قد بلّغ الرسالة؟
__________________
قلنا
: المراد حثه على
تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود ومثالبهم. فالمعنى بلغ الجميع ، فإن كتمت منه
حرفا كنت في الإثم والمخالفة كمن لم يبلغ شيئا البتة ، فجعل كتمان البعض ككتمان
الكل.
وقيل : أمر بتعجيل التبليغ كأنه صلىاللهعليهوسلم كان عازما على تبليغ جميع ما نزل إليه ، إلا أنه أخر تبليغ
البعض خوفا على نفسه وحذرا ؛ مع عزمه على تبليغه في ثاني الحال ، فأمر بتعجيل
التبليغ ، يؤيد هذا القول قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].
[٢٤٥] فإن قيل : كيف ضمن الله تعالى لرسوله العصمة بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ثم
إنه شجّ وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟
قلنا
: المراد به العصمة
من القتل لا من جميع الأذى ، فإن جميع العصمة من جميع المكاره لا تناسب أخلاق
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ لأنهم جامعون مكارم الأخلاق ومن أشرف مكارم
الأخلاق تحمّل الأذى.
الثاني
: أن هذه الآية
نزلت بعد أحد ؛ لأن سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن.
[٢٤٦] فإن قيل : كيف قال : (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧٠] ؛
مع أن بعض الظالمين وهم العصاة من المؤمنين يشفع فيهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم يوم القيامة فيكون ناصرا لهم؟
قلنا
: المراد بالظالمين
هنا المشركون ، يعلم ذلك من أول الآية ووسطها.
[٢٤٧] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة :
٧٧] ، بعد قوله : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٧٧]؟
قلنا
: المراد بالضلال
الأول ضلالهم عن الإنجيل ، وبالضلال الثاني ضلالهم عن القرآن.
[٢٤٨] فإن قيل : قوله تعالى : (كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة :
٧٩] والنهي عن
المنكر بعد فعله ووقوعه لا معنى له؟
قلنا
: فيه إضمار حذف
مضاف تقديره : كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله ،
كما يرى الإنسان أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيّأ فينكر ، ويجوز أن يريد
بقوله : (لا يَتَناهَوْنَ) لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصرون عليه
ويداومون ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه بمعنى واحد : أي امتنع عنه وتركه.
[٢٤٩] فإن قيل : كيف قال : (وَلكِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [المائدة : ٨١]
والمراد بقوله منهم المنافقون أو اليهود على اختلاف القولين وكلهم فاسقون؟
قلنا
: المراد به فسقهم
بموالاة المشركين ودسّ الأخبار إليهم لا مطلق الفسق ، وذلك الفسق الخاص مخصوص
بكثير منهم ، وهم المذكورون في أوّل الآية في قوله :
(تَرى كَثِيراً
مِنْهُمْ) [المائدة : ٨٠]
الآية لا شامل لجميعهم.
[٢٥٠] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠]
وهذه الأعيان كلها مخلوقات لله تعالى فأين عمل الشيطان في وجودها؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: إنما تعاطي الخمر والميسر إلى آخره أو مباشرته إلخ.
[٢٥١] فإن قيل : مع هذا الإضمار كيف قال من عمل الشيطان ، وتعاطي
الخمر والقمار ونحوهما من عمل الإنسان حقيقة؟
قلنا
: إنما أضيف إلى
الشيطان مجازا ؛ لأنه هو السبب في وجود الفعل بواسطته ووسوسته وتزيينه ذلك للفساق
فصار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر فضربه ، فإنه يجوز أن يقال للمغري هذا من
عملك.
[٢٥٢] فإن قيل : كيف جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في
الآية الأولى ، ثم خص الخمر والميسر في الآية الثانية؟
قلنا
: لأن العداوة
والبغضاء بين الناس تقع كثيرا بسبب الخمر والميسر وكذلك يشتغلون بهما عن الطاعة ،
بخلاف الأنصاب والأزلام فإن هذه المفاسد لا توجد فيها ، وإن كانت فيها مفاسد أخر.
وقيل : إنما كرّر ذكر الخمر والميسر فقط لأن الخطاب للمؤمنين ؛
بدليل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة : ٩٤]
وهم إنما يتعاطون الخمر والميسر فقط ، وإنما جمع الأربعة في الآية الأولى إعلاما
للمؤمنين أن هذه الأربعة من أعمال الجاهلية ، وإنه لا فرق بين من عبد صنما أو أشرك
بالله تعالى بدعوى علم الغيب ، وبين من شرب الخمر أو قامر مستحلا لهما.
[٢٥٣] فإن قيل : كيف يحسن أن يفعل الله تعالى فعلا يتوسل به إلى
تحصيل علم حتى قال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة : ٩٤]؟
قلنا
: معناه ليميز الله
الخائف من غير الخائف عند الناس. وقيل : معناه ليعلم عباد الله من يخافه بالغيب وهو قريب من الأول.
وقيل : معناه ليعلم الخوف واقعا كما علمه منتظرا.
[٢٥٤] فإن قيل : كيف قال : (وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)
__________________
[المائدة : ٩٥]
ووصف العمدية ليس بشرط لوجوب الجزاء ، فإنه لو قتله ناسيا أو مخطئا وجب الجزاء
أيضا؟
قلنا
: عند ابن عباس
وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وصف العمدية شرط لوجوب الجزاء ، فلا
يرد عليهم السؤال ، وأما على قول الجمهور فإنما قيده بوصف العمدية ؛ لأن الواقعة
التي كانت سبب نزول الآية كانت عمدا على ما يروى عن الصحابة أنه اعترض حمار وحش
بالحديبية وهم محرمون ، فطعنه أبو اليسر برمحه فقطعه فنزلت الآية ، فخرج وصف
العمدية مخرج الواقع لا مخرج الشرط.
وقال الزهري : نزل
الكتاب بالعمد ، ووردت السنة بالوجوب في الخطأ.
[٢٥٥] فإن قيل : كيف قال : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ؛
مع أن الشرط بلوغه إلى الحرم لا غير؟
قلنا
: لما كان المقصود
من بلوغ الهدي إلى الحرم تعظيم الكعبة ذكر الكعبة تنبيها على ذلك. وقيل
: معناه بالغ حرم
الكعبة.
[٢٥٦] فإن قيل : قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ
وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة : ٩٧] أي
دلالة لهذه الأمور المذكورة على علم الله تعالى بما في السموات وما في الأرض وأنه
بكل شيء عليم؟
قلنا
: ذلك إشارة إلى كل
ما سبق ذكره من الغيوب في هذه السورة من أحوال الأنبياء والمنافقين واليهود لا إلى
المذكور في هذه الآية :
الثاني
: أن العرب كانت
تسفك الدماء وتنهب الأموال ، فإذا دخل الشهر الحرام أو دخلوا إلى البلد الحرام
كفوا عن ذلك ، فعلم الله تعالى أنه لو لم يجعل لهم زمانا أو مكانا يقتضي كفهم عن
القتل ونهب الأموال لهلكوا ، فظهرت المناسبة.
[٢٥٧] فإن قيل : كيف قال : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [المائدة : ١٠٣]
والجعل هو الخلق بدليل قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها
زَوْجَها) [الأعراف :
__________________
١٨٩] وقوله تعالى
: (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ) [الأنعام : ١]
وخالق هذه الأشياء هو الله تعالى؟
قلنا
: المراد بالجعل
هنا الإيجاب والأمر : أي ما أوجبها ولا أمر بها. وقيل
: المراد بالجعل التحريم.
[٢٥٨] فإن قيل : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة : ١٠٥]
يدل على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما واجبان؟
قلنا
: معنى قوله أنفسكم
: أي أهل دينكم كما قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] أي
أهل دينكم.
وقيل : المراد به آخر الزمان عند فساد الزمان وتعذر الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وهو زماننا هذا.
[٢٥٩] فإن قيل : كيف يقول الرسل (لا عِلْمَ لَنا) [المائدة : ١٠٩]
إذا قال الله تعالى لهم : (ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩]
وهم عالمون بما ذا أجيبوا؟
قلنا
: هذا جواب الدهشة
والحيرة حين تطيش عقولهم من زفرة جهنم نعوذ بالله تعالى منها ، ومثله لا يفيد نفي
العلم ولا إثباته.
الثاني
: أنهم قالوا ذلك
تعريضا بالتشكي من قومهم وإظهارا للالتجاء إلى الله تعالى في الانتقام منهم ،
كأنهم قالوا : أنت أعلم بما أجابونا به من التصديق والتكذيب.
الثالث
: معناه : لا علم
لنا بحقيقة ما أجابونا به ؛ لأنا نعلم ظاهره وأنت تعلم ظاهره ومضمره ، ويؤيده ما
بعده.
[٢٦٠] فإن قيل : أيّ معجزة لعيسى صلىاللهعليهوسلم في تكليم الناس كهلا حتى قال : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً) [المائدة : ١١٠]؟
قلنا
: قد سبق جوابه في
سورة آل عمران مستقصى.
[٢٦١] فإن قيل : كيف قال الحواريون (هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٢]
شكوا في قدرة الله تعالى على بعض الممكنات وذلك كفر ، ووصفوه بالاستطاعة وذلك
تشبيه ؛ لأن الاستطاعة إنما تكون بالجوارح ، والحواريون خلص أتباع عيسى عليهالسلام والمؤمنون به بدليل قوله تعالى حكاية عنهم (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا
مُسْلِمُونَ) [المائدة : ١١١].
قلنا
: هذا استفهام عن
الفعل لا عن القدرة ، كما يقول الفقير للغني القادر : هل تقدر أن تعطيني شيئا ،
وهذا يسمى استطاعة المطاوعة لا استطاعة القدرة ، أو المعنى :
هل يسهل عليك أن
تسأل ربك؟ كقولك لآخر : هل تستطيع أن تقوم معي؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك.
[٢٦٢] فإن قيل : لو كان المراد هذا المعنى فلم أنكر عليهم عيسى عليهالسلام بقوله : (قالَ اتَّقُوا اللهَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ١١٢]؟
قلنا
: إنكاره عليهم
إنما كان لأنهم أتوا بلفظ يحتمل المعنى الذي لا يليق بالمؤمن المخلص إرادته وإن
كانوا لم يريدوه.
[٢٦٣] فإن قيل : كيف قال عيسى عليهالسلام (وَلا أَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]
وكل ذي نفس فهو ذو جسم ؛ لأن النفس عبارة عن الجوهر القائم بذاته المتعلق بالجسم
تعلق التدبير ، والله تعالى منزه عن الجسم؟
قلنا
: النفس تطلق على
معنيين : أحدهما هذا والثاني حقيقة الشيء وذاته ، كما يقال : نفس الذهب والفضة
محبوبة ، أي ذاتهما ، والمراد به في الآية ثانيا هذا المعنى.
[٢٦٤] فإن قيل : كيف قال عيسى عليهالسلام : (ما قُلْتُ لَهُمْ
إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [المائدة : ١١٧]
الآية ، مع أنه قال لهم كثيرا من الكلام المباح غير الأمر بالتوحيد؟
قلنا
: معناه ما قلت لهم
فيما يتعلق بالإله.
[٢٦٥] فإن قيل : إذا كان عيسى لم يمت وإنما هو حي في السماء فكيف
قال (فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي) [المائدة : ١١٧]؟
قلنا
: أراد بالتوفّي
إتمام مدة إقامته في الأرض ، وإتمامه قد سبق في قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥]
والسؤال إنما يتوجه على قول من قال : إن السؤال والجواب وجدا يوم رفعه إلى السماء
، وأما من قال : إن السؤال إنما يكون يوم القيامة ، وعليه الجمهور ، فالجواب مطابق
ولا إشكال فيه.
[٢٦٦] فإن قيل : لو قال عيسى عليهالسلام : إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، وإن تغفر لهم فإنهم
عبادك ، كان أظهر مناسبة؟
قلنا
: معناه إن تعذبهم
فإنهم عبادك ، وتصرف المالك المطلق الحقيقي في عبيده مباح : أي تصرف كان ، وإن
تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم الذي لا ينقص من عزه شيء بترك العقوبة والانتقام
ممن عصاه ، الحكيم في كل ما يفعله من العذاب أو المغفرة.
[٢٦٧] فإن قيل : كيف قال : (يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩]
يعني يوم القيامة ، والصدق نافع في الدنيا والآخرة ، ولفظ الآية في قوة الحصر؟
قلنا
: لما كان نفع
الصدق في الآخرة هو الفوز بالجنة والنجاة من النار ونفعه في
الدنيا دون ذلك ،
كان كالعدم بالنسبة إلى نفعه في الآخرة فلم يقيد به في مقابلته.
[٢٦٨] فإن قيل : قوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩]
إن أراد به صدقهم في الآخرة فالآخرة ليست بدار عمل ، وإن أراد به صدقهم في الدنيا
فليس بمطابق لما ورد فيه ، وهو الشهادة لعيسى عليهالسلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟
قلنا
: أراد به الصدق
المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم وعن قتادة رحمهالله : متكلمان صدقا يوم القيامة ، فنفع أحدهما صدقه دون الآخر
: أحدهما إبليس قال : (إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢]
الآية ، وصدق يومئذ فلم ينفعه صدقه ؛ لأنه كان كاذبا قبل ذلك. والآخر عيسى عليهالسلام كان صادقا في الدنيا والآخرة فنفعه صدقه.
[٢٦٩] فإن قيل : ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهلّا
غلّب العقلاء فقال : لله ملك السموات والأرض ومن فيهن؟
قلنا
: لأن كلمة «ما»
تتناول الأجناس كلها تناولا عامّا بأصل الوضع و «من» لا تتناول غير العقلاء بأصل
الوضع ، فكان استعمالا «ما» في هذا الموضع أوفى.
__________________
سورة الأنعام
[٢٧٠] فإن قيل : كيف جمع الظلمة دون النور في قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١]؟
قلنا
: ترك جمعه استغناء
عنه بجمع الظلمة قبله فإنه يدل عليه ، كما ترك جمع الأرض أيضا استغناء عنه بجمع
السماء قبله في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١].
الثاني
: أن الظلمة اسم
والنور مصدر ، نقله المفضل ، والمصادر لا تجمع.
[٢٧١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام : ٣] بعد
قوله :
(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) [الأنعام : ٣]
ومعلوم أن من يعلم السر يعلم الجهر بالطريق الأولى؟
قلنا
: إنما ذكره للمقابلة
كما في قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] في
بعض الوجوه.
[٢٧٢] فإن قيل : كيف خص السكون بالذكر دون الحركة في قوله : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣]
على قول من فسره بما يقابل الحركة؟
قلنا
: لأن السكون أغلب
الحالتين على كل مخلوق من الحيوان والجماد ، ولأن الساكن من المخلوقات أكثر عددا
من المتحرك ، أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون من غير عكس ، أو لأن السكون هو
الأصل والحركة حادثة عليه وطارئة. وقيل : فيه إضمار تقديره : ما سكن وتحرك فاكتفى بأحدهما اختصار
لدلالته على مقابله ، كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي
والبرد.
[٢٧٣] فإن قيل : كيف قال : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا
يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤]
ولم يقل وهو ينعم ولا ينعم عليه ، وهذا أعم لتناوله الإطعام وغيره؟
قلنا
: لأن الحاجة إلى
الرزق أمس فخص بالذكر.
والثاني
: أن كون المطعم
آكلا متغوطا أقبح من كونه منعما عليه ، فلذلك ذكره.
[٢٧٤] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩]
يقتضي
__________________
أن يسمى الله
تعالى شيئا ، ولو صح ذلك لصح نداؤه به كالحي القيوم ونحوهما؟.
قلنا
: صحة ندائه تعالى
مخصوصة بما يدل على المدح وصفة الكمال كالحي والقيوم ونحوهما ، لا بكل ما يصح
إطلاقه عليه ؛ ألا ترى أن الموجود والثابت يصح إطلاقه عليه سبحانه وتعالى لا يصح
نداؤه به؟ كذا ذكروا.
[٢٧٥] فإن قيل : استشهاد المدعي بالله لا يكفي في صحة دعواه
وثبوتها شرعا حتى لو قال المدعى الله شاهدي لا يكفي هذا ، فكيف صح ذلك من النبي صلىاللهعليهوسلم حيث قال : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩]؟
قلنا
: إنما لم يصح ذلك
من غير النبي صلىاللهعليهوسلم لأنه لا يقدر على إقامة الدليل على أن الله تعالى يشهد له
، والنبي صلىاللهعليهوسلم أقام الدليل على ذلك بقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا
الْقُرْآنُ) [الأنعام : ١٩]
لأنه معجز.
[٢٧٦] فإن قيل : في قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]
كيف يكذبون يوم القيامة بعد معاينة حقائق الأمور ، وقد (بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ
ما فِي الصُّدُورِ) [العاديات : ٩ ،
١٠]؟
قلنا
: المبتلى يوم
القيامة ينطق بما ينفعه وبما يضره لعدم التمييز بسبب الحيرة والدهشة ، كحال
المبتلى المعذب في الدنيا يكذب على نفسه وعلى غيره ، ويتكلم بما يضره ، ألا تراهم
يقولون ربنا أخرجنا منها وقد أيقنوا بالخلود فيها ، وقالوا : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] وقد
علموا أنه (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦].
[٢٧٧] فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢]؟
قلنا
: القيامة مواقف
مختلفة ؛ ففي بعضها لا يكتمون ، وفي بعضها يحلفون كاذبين ، كما قال عزوجل : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣]
وقال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩]
وقيل إن حلفهم كاذبين يكون قبل شهادة جوارحهم عليهم ، (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢]
يكون بعد شهادتها عليهم.
[٢٧٨] فإن قيل : كيف قال : (وَلَلدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأنعام : ٣٢]
وهو خير لغير المتقين أيضا كالأطفال والمجانين؟
قلنا
: إنما خصهم بالذكر
لأنهم الأصل فيها من حيث أن درجتهم أعلى وغيرهم تبع لهم.
[٢٧٩] فإن قيل : كيف قال لمحمد صلىاللهعليهوسلم : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥]
فخاطبه بأفحش الخطابين ، وقال لنوح عليهالسلام : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ
تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] فخاطبه
بألين الخطابين مع أن محمدا صلىاللهعليهوسلم أعظم رتبة وأعلى منزلة منه؟
قلنا
: لأن نوحا عليه
الصلاة والسلام كان معذورا في جهله بمطلوبه ؛ لأنه تمسك بوعد الله تعالى في إنجاء
أهله ، وظن أن ابنه من أهله. ومحمد صلىاللهعليهوسلم ما كان معذورا ؛ لأنه كبر عليه كفرهم ؛ مع علمه أن كفرهم
وإيمانهم بمشيئة الله تعالى ، وأنهم لا يهتدون إلا أن يديهم الله.
[٢٨٠] فإن قيل : إذا بعث الله تعالى الموتى من قبورهم فقد رجعوا
إلى الله بالحياة بعد الموت ، فما فائدة قوله تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ
إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام : ٣٦]؟
قلنا
: المراد به وقوفهم
بين يديه للحساب والجزاء ، وذلك غير البعث وهو إحياؤهم بعد الموت فلا تكرار فيه.
[٢٨١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ
آيَةً) [الأنعام : ٣٧] لو
صح من النبي صلىاللهعليهوسلم هذا الجواب لصح لكل من ادعى النبوّة وطولب بآية أن يقول إن
الله قادر على أن ينزل آية؟
قلنا
: إذا ثبتت نبوته
بما شاء الله من المعجزة يصح له أن يقول ذلك ، بخلاف ما إذا لم تثبت نبوته ،
والنبي صلىاللهعليهوسلم كان قد ثبتت نبوته بالقرآن وانشقاق القمر وغيرهما.
[٢٨٢] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٨]
والدابة لا تكون إلا في الأرض ؛ لأن الدابة في اللغة اسم لما يدبّ على وجه الأرض ؛
وما فائدة (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]
والطير لا يكون إلا بالجناح؟
قلنا
: فيه فوائد :
الأولى
: للتأكيد كقولهم :
هذه نعجة أنثى ، وقولهم كلمته بلساني ، ومشيت إليه برجلي ، وكما قال الله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] وقال
تعالى : (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١].
__________________
الثانية
: نفي توهم المجاز
فإنه يقال : طار فلان في أمر كذا إذا أسرع فيه ، وطار الفرس إذا أسرع الجري.
الثالثة
: زيادة التعميم
والإحاطة ، كأنه قال جميع الدواب الدابة وجميع الطيور الطائرة.
[٢٨٣] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠]
إلى أن قال : (فَيَكْشِفُ ما
تَدْعُونَ إِلَيْهِ) [الأنعام : ٤١]
ومن جملة ما ذكر الدعاء فيه عذاب الساعة وهو لا يكشف عن المشركين؟
قلنا
: لم يخبر عن الكشف
مطلقا ؛ بل مقيدا بشرط المشيئة وعذاب الساعة لو شاء كشفه عن المشركين لكشفه.
[٢٨٤] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠] ،
كيف ذكر القول في الجملة الأولى والثالثة وترك ذكره في الجملة الثانية؟
قلنا
: لما كان الإخبار
بالغيب كثيرا مما يدّعيه البشر ، كالكهنة والمنجمين وواضعي الملاحم ، ثم إن كثيرا
من الجهال يعتقدون صحة أقاويلهم ويعملون بمقتضى أخبارهم بالغ في سلبه عن نفسه بسلب
حقيقته عنه بخلاف الإلهية والملكية ، فإن انتفاءهما عنه وعن غيره من البشر ظاهر
فاكتفى في نفيهما بنفي القول ، إذ غير الدعوى فيهما لا تتصور في نفس الأمر ولا في
زعم الناس ، بخلاف علم الغيب فافترقا ، والمراد بقوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزائِنُ اللهِ) [الأنعام : ٥٠] أي
لا أدعي الإلهية ، كذا قاله بعض المفسرين.
[٢٨٥] فإن قيل : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥]
كيف ذكر سبيل المجرمين ولم يذكر سبيل المؤمنين وكلاهما محتاج إلى بيانه؟
قلنا
: لأنه إذا ظهر
سبيل المجرمين ظهر سبيل المؤمنين أيضا بالضرورة إذ السبيل سبيلان لا غير.
[٢٨٦] فإن قيل : كيف قال : (وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [المائدة : ٦٠] أي
ما كسبتم ، وهو يعلم ما جرحوا ليلا ونهارا؟
قلنا
: لأن الكسب أكثر
ما يكون بالنّهار لأنه زمان حركة الإنسان ، والليل زمان سكونه لقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٢] بعد
قوله : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) [القصص : ٧٢].
[٢٨٧] فإن قيل : كيف قال : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢]
يعني
مولى جميع
الخلائق. وقال ، في موضع آخر : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ
لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١].
قلنا
: المولى الأول
بمعنى المالك أو الخالق أو المعبود ، والمولى الثاني بمعنى الناصر فلا تنافي
بينهما.
[٢٨٨] فإن قيل : كيف خص كون (قَوْلُهُ الْحَقُّ
وَلَهُ الْمُلْكُ) [الأنعام : ٧٣]
بيوم القيامة ، فقال : (قَوْلُهُ الْحَقُّ
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣] ؛
مع أن قوله الحق في كل وقت وله الملك في كل زمان؟
قلنا
: لأن ذلك اليوم
ليس لغيره فيه ملك بوجه من الوجوه ، وفي الدنيا لغيره ملك خلافة عنه أو هبة منه
وإنعاما بدليل قوله تعالى في حقّ داود عليهالسلام : (وَآتاهُ اللهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١]
وقوله : (وَاللهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٤٧]
وقوله في ذلك اليوم هو الحق الذي لا يدفعه أحد من العباد ، ولا يشك فيه شاكّ من
أهل العناد ، لانكشاف الغطاء فيه للكل ، وانقطاع الدعاوى والخصومات ، ونظيره قوله
تعالى : (وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩]
وإن كان الأمر له في كل زمان ، وكذا قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ) [غافر : ١٦]؟
[٢٨٩] فإن قيل : كيف قال تعالى في معرض الامتنان : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [الأنعام : ٨٤]
ولم يذكر إسماعيل ؛ مع أنه كان هو الابن الأكبر؟
قلنا
: لأن إسحاق وهب له
من حرة وإسماعيل من أمة ، وإسحاق وهب له من عجوز عقيم ؛ فكانت المنّة فيه أظهر.
[٢٩٠] فإن قيل : كيف قال في وصف القرآن : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الأنعام : ٩٢]
وكثير ممن يؤمن بالآخرة من اليهود والنصارى وغيرهم لا يؤمن به؟
قلنا
: معناه والذين
يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا هم الذين يؤمنون به إما تصديقا به قبل إنزاله
لما بشر به موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو اتباعا له بعد إنزاله والأمر
كذلك ، فإنّ من لم يصدق موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في بشارتهما بمحمد صلىاللهعليهوسلم وبالقرآن أو كان بعد بعثه ولم يؤمن به فإيمانه بالآخرة غير
معتدّ به ولا معتبر.
[٢٩١] فإن قيل : كيف أفرد قوله تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) [الأنعام : ٩٣]
بالذكر بعد قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١]
وذلك أيضا افتراء؟
قلنا
: لأن الأول عام
والثاني خاص ، والمقصود الإنكار فيهما ، ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص ، ولكن
يلزم من الذم على العام وإنكاره الذم على الخاص وإنكاره لا محالة ، وما نحن فيه من
هذا القبيل. والجواب المحقق أن يقال : إن هذا
الخاص لما كان
مخصوصا بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خصّه بالذكر تنبيها على مزيد العقاب فيه
والإثم.
[٢٩٢] فإن قيل : قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٠١]
الآية ، ما فائدة قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢]
بعد قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠١]؟
قلنا
: ذكره أولا
استدلالا به على نفي الولد ، ثم ذكره ثانيا توطئة وتمهيدا لقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) [المائدة : ٢٠١]
فإن كونه خالق كل شيء يقتضي تخصيصه بالعبادة والطاعة ، فكانت الإعادة لفائدة
جديدة.
[٢٩٣] فإن قيل : في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣]
كيف خص الأبصار بإدراكه لها ولم يقل وهو يدرك كل شيء مع أنه أبلغ في التمدح؟
قلنا
: لوجهين :
أحدهما
: مراعاة المقابلة
اللفظية فإنه نوع من البلاغة.
الثاني
: أن هذه الصفة
خاصة بينه وبين الأبصار أنه يدركها ، بمعنى الإحاطة بها وهي لا تدركه ، فأما غيره
مما يدرك الأبصار فهي تدركه أيضا ، فلهذا خصّها بالذّكر.
[٢٩٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤]
ولم يقل وهو الذي أنزل إليّ ؛ مع أن الله تعالى قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٨].
قلنا
: لما كان إنزاله
إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ليبلغه إلى الخلق ، ويهديهم به ، كان في الحقيقة منزلا
إليهم ، لكن بواسطة النبيّ صلىاللهعليهوسلم فصلح إضافة الإنزال إليه وإليهم.
[٢٩٥] فإن قيل : في قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ١١٨]
كيف علّق الكون من المؤمنين بأكل الذبيحة المسمّى عليها ، والكون من المؤمنين حاصل
وإن لم تؤكل الذّبيحة أصلا؟
قلنا
: المراد اعتقاد
الحل لا نفس الأكل ؛ فإن بعض من كان يعتقد حلّ الميتة من العرب كان يعتقد حرمة
الذبيحة.
[٢٩٦] فإن قيل : كيف أبهم فاعل التزيين هنا ، فقال : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٢٢]
وقال في آية أخرى (زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤] ،
وقال في آية أخرى (وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤] فمن
هو مزين الأعمال للكفار في الحقيقة؟
قلنا
: التزيين من
الشّيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة وإيراد الشبه ، ومن الله تعالى بخلق جميع ذلك
فصحت الإضافتان.
[٢٩٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] ،
والرسل إنما كانت من الإنس خاصة؟
قلنا
: المراد برسل
الجنّ هم الذين سمعوا القرآن من النبيّ صلىاللهعليهوسلم ثم ولّوا إلى قومهم منذرين ، كما قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩]
الآية.
الثاني
: أنه كقوله تعالى
: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢]
والمراد من أحدهما ؛ لأنه إنما يخرج من الملح.
والثالث : أنّه بعث إليهم رسل منهم ، قاله الضّحّاك ومقاتل.
[٢٩٨] فإن قيل : كيف ذكر شهادتهم على أنفسهم في قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأنعام : ١٣٠]
الآية ، والمعنى فيهما واحد؟
قلنا
: المعنى المشهود
به متعدد وإن كان في الشهادة واحدا ، إلا أنهم في الأولى شهدوا على أنفسهم بتبليغ
الرسل وإنذارهم ، وفي الثانية شهدوا على أنفسهم بالكفر وهما متغايران.
[٢٩٩] فإن قيل : كيف أقروا في هذه الآية بالكفر وشهدوا على
أنفسهم به وجحدوه في قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].
قلنا
: مواقف القيامة
ومواطنها مختلفة ، ففي بعضها يقرون وفي بعضها يجحدون ، أو يكون المراد هنا شهادة
أعضائهم عليهم حين يختم على أفواههم كما قال تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) [يس : ٦٥].
[٣٠٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٤٠]
والسفه لا يكون إلا عن جهل؟
قلنا
: معنى قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير حجة.
وقيل : بغير علم بمقدار قبحه ، ومقدار العقوبة فيه ؛ وعلى الوجهين
لا يكون مستفادا من الأوّل.
[٣٠١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [الأنعام : ١٤٠]
بعد قوله : (قَدْ ضَلُّوا) [الأنعام : ١٤٠]؟
__________________
قلنا
: فائدته الإعلام
بأنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرة أخرى ، فإن من الناس من يضل ثم يهتدي بعد ضلاله.
[٣٠٢] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (إِذا أَثْمَرَ) [الأنعام : ١٤١]
بعد قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) [الأنعام : ١٤١]
ومعلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر؟
قلنا
: فائدته نفي توهم
توقف الإباحة على الإدراك والنضج بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمر.
[٣٠٣] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَ) [الأنعام : ١٤٥]
الآية ، وفي القرآن تحريم أكل الربا ومال اليتيم ومال الغير بالباطل وغير ذلك؟
قلنا
: محرما مما كانوا
يحرمونه في الجاهلية ، وقيل : مما كانوا يستحلون فيها.
[٣٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [الأنعام : ١٤٧]
والموضع موضع العقوبة ، فكان يحسن أن يقال فيه ذو عقوبة شديدة أو عظيمة ونحو ذلك؟
قلنا
: إنما قال ذلك
نفيا للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته ، وذلك أبلغ في التهديد معناه :
لا تغتروا بسعة رحمته ، فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم.
وقيل معناه : فقل
ربكم ذو رحمة واسعة للمطيعين ، ولا يرد عذابه عن العاصين.
[٣٠٥] فإن قيل : كيف قال : (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] ،
ثم فسره بعشرة أحكام ، خمسة منها واجبة ، والتّلاوة وصف للفظ لا للمعنى كيلا يقال
أضدادها محرمة؟
قلنا
: قوله : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) لا ينفي تلاوة غيره فقد تلا ما حرم وتلا غيره أيضا.
الثاني
: أن فيه إضمارا
تقديره : أتل ما حرم ربكم عليكم وأوجب.
[٣٠٦] فإن قيل : كيف خص مال اليتيم بالنهي عن قربانه بغير الأحسن
ومال البالغ أيضا كذلك؟
قلنا
: إنما خصه بالنهي
لأن طمع الطامعين فيه أكثر لضعف مالكه وعجزه وقلة الحافظين له والناصرين ، بخلاف
مال البالغ.
__________________
الثاني
: أن التخصيص
لمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن ، ووجوب قربانه بالأحسن ، أو
جواز قربانه بالأحسن بغير إذن مالكه ؛ ومجموع الحكمين مختص بمال اليتيم ، وهذا هو
الجواب عن كونه مغيّا ببلوغ الأشد ؛ لأن المجموع ينتفي ببلوغ الأشد لانتفاء الحكم
الثاني. وقيل إن الغاية لمحذوف تقديره : حتّى يبلغ فسلموه إليه.
[٣٠٧] فإن قيل : كيف خص العدل بالقول فقال : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام : ١٥٢]
ولم يقل : وإذا فعلتم فاعدلوا ، والحاجة إلى العدل في الفعل أمس ؛ لأن الضرر
الناشئ من الجور الفعلي أقوى من الضرر الناشئ من الجور القولي؟
قلنا
: إنما خصه بالقول
ليعلم وجوب العدل في الفعل بالطريق الأولى كما قال تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣]
ولم يقل : ولا تشتمهما ولا تضربهما لما قلنا.
[٣٠٨] فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]
وبين قوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ،
وقوله : (لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] وقد
جاء في الحديث المشهور : «من عمل سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم
القيامة».
قلنا
: المراد بالآية
الأولى وزر لا يكون مضافا إليها بمباشرة أو تسبب لتحقيق إضافته إلى غيرها على
الكمال ، أما إذا لم يكن كذلك فهو وزرها من وجه فتزره.
وقيل معناه : لا
تزره طوعا كما زعم المشركون بقولهم للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : ارجع إلى ديننا ونحن كفلاء بما يلحقك من تبعة في دينك.
وقول الذين كفروا للذين آمنوا : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا
وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢]
إلى قوله تعالى : (عَمَّا كانُوا
يَفْتَرُونَ) [العنكبوت : ١٣]
ومعنى باقي النّصوص أنّنا نحمله كرها فلا تنافي بينهما.
سورة الأعراف
[٣٠٩] فإن قيل : النهي في قوله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [الأعراف : ٢]
متوجه إلى الحرج فما وجهه؟
قلنا
: هو من باب قولهم
لا أرينك هنا ، معناه : لا تقم هنا فإنك إن أقمت رأيتك ، فمعنى الآية ، فكن على
يقين منه ولا تشك فيه ؛ لأن المراد بالحرج الشك.
[٣١٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : ٤]
والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس وهو العذاب؟
قلنا
: معناه أردنا
إهلاكها كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦]
وقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨].
[٣١١] فإن قيل : ميزان القيامة واحد فكيف قال تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَمَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [الأعراف : ٨ ، ٩]؟
قلنا
: إنما جمعه لأنه
أراد بالميزان الموزونات من الأعمال.
وقيل : إنما جمعه لأنه ميزان يقوم مقام موازين ويفيد فائدتها ؛
لأنه يوزن به ذرات الأعمال وما كان منها في عظم الجبال.
[٣١٢] فإن قيل : كيف توزن الأعمال وهي أعراض لا ثقل لها ولا جسم
، والوزن من خواص الأجسام؟
قلنا
: الموزون صحائف
الأعمال.
الثاني
: أنه قد ورد أن
الله تعالى يحيلها في جواهر وأجسام ، فتتصور أعمال المطيعين في صورة حسنة ، وأعمال
العاصين في صورة قبيحة ، ثم يزنها والله على كل شيء قدير.
[٣١٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١] وكلمة
ثم للترتيب ، وخطاب الملائكة عليهمالسلام بالسجود سابق على خلقنا وتصويرنا؟
__________________
قلنا
: المراد ولقد
خلقنا أباكم ثم صورناه بطريق حذف المضاف.
وقيل : المراد : ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرناكم في ظهره. والقول
الأول أظهر.
[٣١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى لإبليس (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ
أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الأعراف : ١٣] ،
أي في السماء ، وليس له ولا لغيره أن يتكبر في الأرض أيضا؟
قلنا
: لما كانت السماء
مقر الملائكة المطيعين الذين لا توجد منهم معصية أصلا كان وجود المعصية منهم أقبح
، فلذلك خص مقرهم بالذكر.
[٣١٥] فإن قيل : كيف أجيب إبليس إلى الإنظار ، وإنما طلب الإنظار
ليفسد أحوال عباد الله تعالى ويغويهم؟
قلنا
: لما في ذلك من
ابتلاء العباد ، ولما في مخالفته من عظم الثواب ، ونظير ذلك ما خلقه الله تعالى في
الدنيا من أصناف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي ، وما ركّبه في الأنفس من الشهوات
ليمتحن بها عباده.
[٣١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٠]
ولم يكن غرضه من الوسوسة كشف عورتهما ؛ بل إخراجهما من الجنة ، ويؤيده قوله تعالى
: (فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦]؟
قلنا
: اللّام في ليبدي
لام العاقبة والصيرورة ، لا لام كي ، كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وقول
الشاعر :
لدوا للموت
وابنوا للخراب
|
|
فكلّكم يصير إلى
التّراب
|
[٣١٧] فإن قيل : أي آية لله تعالى في اللباس والكسوة حتّى قال
تعالى في آية اللباس والكسوة (ذلِكَ مِنْ آياتِ
اللهِ) [الأعراف : ٢٦]؟
قلنا
: معناه أن اللباس
والكسوة للإنسان خاصة علامة من العلامات الدالة على أن الله تعالى فضله على سائر
الحيوانات ، وقيل معناه : ذلك من نعم الله.
[٣١٨] فإن قيل : كيف قال تعالى في حقّ إبليس : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) [الأعراف : ٢٧]
ونازع لباسهما هو الله تعالى؟
قلنا
: لما كان ذلك
السبب بسبب وسوسته وإغوائه أضيف النزع إليه ، كما يقال : أشبعني الطعام وأرواني
الشراب ، والمشبع والمروي في الحقيقة إنما هو الله تعالى وهما سبب.
__________________
[٣١٩] فإن قيل : كيف قال : (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩] ،
وهو بدأنا أولا نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم لحما ، كما ذكر ؛ ونحن
لا نعود عند الموت ، ولا عند البعث بعد الموت ، على ذلك الترتيب؟
قلنا
: معناه كما بدأكم
أولا من تراب كذلك تعودون ترابا.
وقيل معناه : كما
أوجدكم أولا بعد العدم كذلك يعيدكم بعد العدم ، فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق لا
في الكيفية والترتيب.
وقيل معناه : كما
بدأكم سعداء وأشقياء ، كذلك تعودون ، ويؤيده تمام الآية.
وقيل معناه : كما
بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تعودون ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى) [الأنعام : ٩٤]
الآية.
[٣٢٠] فإن قيل : كيف قال تعالى مخبرا عن الزينة والطيبات : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) [الأعراف : ٣٢] مع
أن الواقع المشاهد أنها لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا ؛ لأن المشركين شاركوهم فيها ؛
خالصة للمؤمنين في الآخرة.
[٣٢١] فإن قيل : كيف قال : (وَنُودُوا أَنْ
تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣]
والميراث عبارة عما ينتقل من ميت إلى حي وهو مفقود هنا؟
قلنا
: هو على تشبيه أهل
الجنة وأهل النار بالوارث وبالموروث عنه. وذلك أن الله تعالى خلق في الجنة منازل
للكفار على تقدير الإيمان ، فمن لم يؤمن منهم جعل منزله لأهل الجنة.
الثاني
: أن نفس دخول
الجنة بفضل الله ورحمته من غير عوض ، فأشبه الميراث ، وإن كانت الدرجات فيها بحسب
الأعمال.
[٣٢٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ،
أما الخلق بمعنى الإيجاد والإحداث فظاهر أنه مختص به سبحانه وتعالى ، وأما الأمر
فلغيره أيضا بدليل قوله تعالى : (يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) [التوبة : ٧١]
وقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف : ١٩٩] ،
وقوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ) [طه : ١٣٢]؟
قلنا
: المراد بالأمر
هنا قوله تعالى : (كُنْ) عند خلق الأشياء ، وهذا الأمر الذي به الخلق مخصوص به
كالخلق.
الثاني
: أن المراد بالخلق
والأمر ما سبق ذكرهما في هذه الآية ، وهو خلق السموات والأرض ، وأمر تسخير الشمس
والقمر والنجوم كما ذكر ، وذلك مخصوص به عزوجل.
[٣٢٣] فإن قيل : لم قال نوح عليه الصلاة والسلام : ليس بي ضلالة
بالتاء ، ولم يقل ليس بي ضلال كما وصفه قومه به ، وذلك أشد مناسبة ليكون نافيا عين
ما أثبتوه؟
قلنا
: الضّلال أقل من
الضلال ، فكان نفيها أبلغ في نفي الضّلال عنه ، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال ،
كما لو قيل : ألك ثمر فقلت : ما لي ثمرة؟ كان ذلك أبلغ في النفي من قولك مالي ثمر.
[٣٢٤] فإن قيل : كيف وصف الملأ بالذين كفروا في قصة هود دون قصة
نوح عليهماالسلام؟
قلنا
: لأنه كان في
أشراف قوم هود من آمن به منهم عند هذا القول ، فلم يكن كل الملأ من قومه قائلين : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) [الأعراف : ٦٦]
بخلاف قوم نوح فإنه لم يكن منهم من آمن به عند قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠]
فكان كل الملأ قائلين ذلك ، هكذا أجاب بعض العلماء ، وهذا الجواب منقوض بقوله
تعالى في سورة هود في قصة نوح عليهالسلام (فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) [هود : ٢٧] وكذا
في سورة المؤمنين ، وجواب هذا النقض أنه يجوز أن القول كان وقع مرتين ، والمرة
الثانية بعد إيمان بعضهم.
[٣٢٥] فإن قيل : كيف قال صالح عليهالسلام لقومه ، بعد ما أخذتهم الرجفة وماتوا : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٧٩]
ولا يحسن من الحي مخاطبة الميت لعدم الفائدة؟
قلنا
: هذا مستعمل في
العرف ، فإن من نصح إنسانا فلم يقبل منه حتى قتل أو صلب ومر به ناصحه فإنه يقول له
: كم نصحتك يا أخي فلم تقبل حتى أصابك هذا.
وفائدة هذا القول
حث السامعين له على قبول النصيحة ممن ينصحهم لئلّا يصيبهم ما أصاب المنصوح الذي لم
يقبل النصيحة حتى هلك.
[٣٢٦] فإن قيل : لم قال شعيب عليهالسلام لقومه : (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦]
وهم ما زالوا كافرين مفسدين لا مصلحين؟
قلنا
: بعد أن أصلحها
الله تعالى بالأمر بالعدل وإرسال الرسل.
وقيل : معناه بعد أن أصلح الله تعالى أهلها بحذف المضاف.
وقيل : معناه بعد الإصلاح فيها ، أي بعد ما أصلح فيها الصالحون من
الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم ، فإضافته كإضافة قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] يعني
بل مكرهم في الليل والنهار.
[٣٢٧] فإن قيل : كيف خاطبوا شعيبا عليهالسلام بالعود في الكفر بقولهم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨]
وهو أجابهم
بقوله : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ
إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) [الأعراف : ٨٩]
وهو لم يكن في ملتهم ، قط ؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم شيء
من الكبائر خصوصا الكفر؟
قلنا
: العرب تستعمل عاد
بمعنى صار ابتداء ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى عادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩].
الثاني
: أنهم قالوا ذلك
على طريق تغليب الجماعة على الواحد ؛ لأنهم عطفوا على ضميره الذين آمنوا منهم بعد
كفرهم ، فجعلوهم عائدين جميعا إجراء للكلام على حكم التغليب ، وعلى ذلك أجرى شعيب عليهالسلام جوابه ، ومراده عود قومه المعطوفين عليه.
[٣٢٨] فإن قيل : لم قال فرعون : (فَأْتِ بِها) [الأعراف : ١٠٦]
بعد قوله : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ
بِآيَةٍ) [الأعراف : ١٠٦]؟
قلنا
: معناه إن كنت جئت
بآية من عند الله فأتني بها ، أي أحضرها عندي.
[٣٢٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩]
وفي سورة الشعراء : (قالَ لِلْمَلَإِ
حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء : ٣٤]
فنسب هذا القول إلى فرعون؟
قلنا
: قاله هو وقالوه
هم ، فحكى قوله ثمّ وقولهم هنا.
[٣٣٠] فإن قيل : السحرة إنما سجدوا لله تعالى طوعا ، لما تحققوا
معجزة موسى عليهالسلام ؛ فكيف قال تعالى : (وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) [الأعراف : ١٢٠]؟
قلنا
: لما زالت كل شبهة
لهم بما عاينوا من آيات الله تعالى على يد نبيه اضطرهم ذلك إلى مبادرة السجود ،
فصاروا من غاية المبادرة كأنهم ألقوا إلى السجود تصديقا لله والرسول.
[٣٣١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين
آمنوا وعن فرعون : (قالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٢١]
إلى قوله : (وَتَوَفَّنا
مُسْلِمِينَ) [الأعراف : ١٢٦]
ثم حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه وسورة الشعراء بزيادة ونقصان في الألفاظ
المنسوبة إليهم ، وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرة واحدة ، فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟
قلنا
: الجواب عنه أنهم
إنما تكلموا بذلك بلغتهم لا بلغة العربية ، وحكى الله ذلك عنهم باللغة العربية
مرارا لحكمة اقتضت التكرار والإعادة نبينها في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى ،
فمرة حكاه مطابقا للفظهم في الترجمة رعاية للّفظ ، وبعد ذلك
حكاه بالمعنى جريا
على عادة العرب في التفنن في الكلام والمخالفة بين أساليبه ، لئلا يمل إذا تمحض
تكراره.
[٣٣٢] فإن قيل : كيف قالوا : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ
مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) [الأعراف : ١٣٢]
سموها آية ، ثم قالوا لتسحرنا بها؟
قلنا
: ما سموها آية
لاعتقاد أنها آية ؛ بل حكاية لتسمية موسى عليهالسلام على طريق الاستهزاء والسخرية.
[٣٣٣] فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧]
أي أهلكنا ، وقوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٧ ـ ٥٩]؟
قلنا
: معنى ودمرنا : أي
أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المكر والمكيدة في حقّ موسى عليهالسلام : (وَما كانُوا
يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧]
أي يبنون من الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليصعد بواسطته إلى السماء.
وقيل : هو على ظاهره ؛ لأن الله تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدة
ثم دمره جميعه.
[٣٣٤] فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩]
قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ) إن كان إشارة إلى الإنجاء فليس فيه بلاء ؛ بل هو محض نعمة
، وإن كان إشارة إلى القتل والأسر فإضافته إلى آل فرعون بقوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩] أشد
مناسبة لسياق الآية وهو الامتنان ، ولهذا قال : يقتلون ويستحيون ، فأضاف إليهم
الفعلين.
قلنا
: البلاء مشترك بين
النعمة والمحنة ؛ لأنه من الابتلاء وهو الاختبار ، يقال بلاه وابتلاه ، أي اختبره
؛ والله تعالى يختبر شكر عباده بالنعمة ويختبر صبرهم بالمحنة ، يؤيده قوله تعالى :
(وَبَلَوْناهُمْ
بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨]
وقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥]
فمعنى الآية وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربكم عليكم.
[٣٣٥] فإن قيل : (وَواعَدْنا مُوسى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الأعراف : ١٤٢]
المواعدة كانت أمره بالصوم في هذا العدد ، فكيف ذكر الليالي مع أنها ليست محلا
للصوم ؛ بل يقع في القلب أن ذكر الأيام أولى ؛ لأنها محل الصوم الذي وقعت به
المواعدة؟
قلنا
: العرب في أغلب
تواريخها إنما تذكر الليالي ، وإن كان مرادها الأيام ؛ لأن الليل هو الأصل في
الزمان ، والنهار عارض ؛ لأنّ الظلمة سابقة في الوجود على النور.
وقيل : إنه كان في شريعة موسى عليهالسلام جواز صوم الليل؟
[٣٣٦] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢]
وقد علم مجموع الميقات من قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ
لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ)؟
قلنا
: فيه فوائد : إحداها
: التأكيد.
الثانية
: أن يعلم أن العشر
ليال لا ساعات.
الثالثة
: أن لا يتوهم أن
العشر التي وقع بها الإتمام كانت داخلة في الثلاثين ، يعني كانت عشرين وأتمت بعشر
، كما في قوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها
وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت : ١٠] على
ما نذكره مشروحا في حم السجدة.
[٣٣٧] فإن قيل : لم قال موسى عليه الصلاة والسلام : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣]
وقد كان قبله كثير من المؤمنين ، وهم الأنبياء ومن آمن بهم؟
قلنا
: معناه وأنا أول
المؤمنين بأنك يا الله لا ترى بالحاسة الفانية من الجسد الفاني في دار الفناء.
وقيل معناه : وأنا
أول المؤمنين من بني إسرائيل في زماني.
وقيل : أراد بالأول الأقوى والأكمل في الإيمان ، يعني لم يكن طلبي
للرؤية لشك عندي في وجودك أو لضعف في إيماني ؛ بل لطلب مزيد الكرامة.
[٣٣٨] فإن قيل : كيف قال : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الأعراف : ١٤٥]
أي التوراة ؛ وهم مأمورون بالعمل بكل ما في التوراة؟
__________________
قلنا
: معناه بحسنها
وكلها حسن.
الثاني
: أنهم أمروا فيها
بالخير ونهوا عن الشر ، ففعل الخير أحسن من ترك الشر.
الثالث
: أن فيها حسنها
وأحسن كالاقتصاص والعفو ، والانتصار والصبر ، والواجب والمندوب والمباح ، فأمروا
بالأخذ بالعزائم والفضائل وما هو أكثر ثوابا.
[٣٣٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨]
واتخاذهم العجل كان في زمن موسى عليهالسلام بالنقل ، وفي سياق الآية ما يدل على ذلك.
قلنا
: معناه من بعد
ذهابه إلى الجبل.
وقيل : من بعد الأخذ عليهم أن لا يعبدوا غير الله.
[٣٤٠] فإن قيل : كيف عبر عن الندم بالسقوط في اليد في قوله تعالى
: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : ١٤٩] وأي
مناسبة بينهما؟
قلنا
: لأنّ من عادة من
اشتد ندمه وحسرته على فائت أن يعض يده غما ، فتصير يده مسقوطا فيها ؛ لأن فاه قد
وقع فيها ؛ وسقط مسند إلى قوله في أيديهم ، وهو من كنايات العرب كقولهم للنائم :
ضرب على أذنه.
[٣٤١] فإن قيل : (غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠]
وهما متقاربان في المعنى؟
قلنا
: لأنّ الآسف
الحزين ، وقيل : الشديد الغضب ، ففيه فائدة جديدة.
[٣٤٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَخَذَ الْأَلْواحَ
وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأعراف : ١٥٤]
ولم يقل وفيها ، وإنما يقال نسختها لشيء كتب مرة ثم نقل ، فأما أول مكتوب فلا يسمى
نسخة ، والألواح لم تكتب من مكتوب آخر؟
قلنا
: لمّا ألقى
الألواح ، قيل إنه انكسر منها لوحان ، فنسخ ما فيهما في لوح ذهب وكان فيهما الهدى
والرحمة ، وفي باقي الألواح تفصيل كل شيء.
وقيل : إنما قال : (وَفِي نُسْخَتِها) [الأعراف : ١٥٤] ؛
لأن الله تعالى لقّن موسى عليهالسلام التوراة ثم أمره بكتابتها ، فنقلها من صدره إلى الألواح
فسماها نسخة.
[٣٤٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧] ،
أي مع النّبيّ صلىاللهعليهوسلم يعني القرآن ، والقرآن إنما أنزل مع جبريل عليهالسلام على النبيّ صلىاللهعليهوسلم لا مع النبي صلىاللهعليهوسلم.
قلنا
: معه ، أي مقارنا
لزمانه.
وقيل : معه ، أي عليه.
وقيل : معه ، أي إليه.
ويجوز أن يتعلق
معه باتبعوا لا بأنزل ، معناه : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي صلىاللهعليهوسلم والعمل بسنته ، أو واتبعوا القرآن كما اتبعه هو مصاحبين له
في اتباعه.
[٣٤٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [الأعراف : ١٦٢].
وهم إنما بدلوا القول الذي قيل لهم ؛ لأنهم قيل لهم : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [الأعراف : ١٦١].
فقالوا : حنطة؟
قلنا قد سبق هذا
السؤال وجوابه في سورة البقرة.
[٣٤٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الأعراف : ١٦٦]
وانتقالهم من صورة البشر إلى صورة القردة ليس في وسعهم؟
قلنا
: قد سبق هذا
السؤال وجوابه في سورة البقرة.
[٣٤٦] فإن قيل : الحلم من صفات الله تعالى فكيف قال : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) وسرعة العقاب تنافي صفة الحلم ؛ لأن الحليم هو الذي لا
يعجل بالعقوبة على العصاة؟
قلنا
: معناه شديد
العقاب.
وقيل : معناه سريع العقاب ، إذ جاء وقت عقابه ، لا يردّه عنه أحد.
[٣٤٧] فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها
إقامة الصلاة فكيف قال تعالى : (وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) [الأعراف : ١٧٠]؟
قلنا
: إنما خصها بالذكر
إظهارا لمزيتها لكونها عماد الدين بالحديث ، وناهية عن الفحشاء والمنكر بالآية.
[٣٤٨] فإن قيل : قوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) [الأعراف : ١٧٦]
تمثيل لحال بلعام ، فكيف قال بعده : (ساءَ مَثَلاً
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأعراف : ١٧٧]
والمثل لم يضرب إلا لواحد؟
قلنا
: المثل في الصورة
وإن ضرب لبلعام ولكن أريد به كفار مكة كلهم ؛ لأنهم صنعوا مع النبي صلىاللهعليهوسلم وسلّم بسبب ميلهم إلى الدنيا وشهواتها من الكيد والمكر ما
يشبه فعل بلعام مع موسى عليهالسلام.
الثاني
: أن (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) راجع إلى قوله تعالى : (مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧]
لا إلى أول الآية.
[٣٤٩] فإن قيل : كيف قال : (إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨]
وهو صلىاللهعليهوسلم كان بشيرا ونذيرا للناس كافة ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨]؟
قلنا
: المراد بقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨]
لقوم كتب عليهم في الأزل أنهم يؤمنون ، وإنما خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون
بالإنذار والبشارة دون غيرهم ؛ فكأنه نذير وبشير لهم خاصة ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].
ويجوز أن يكون
متعلق النذير محذوفا تقديره : إن أنا إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون ؛
فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر ، كما استغنى بالجملة عن التفصيل في تلك الآية ؛ لأن
المعنى : وما أرسلناك إلا كافة للنّاس بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين.
[٣٥٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى حكاية عن آدم عليهالسلام ، وحواء ، رضي الله عنها : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
فِيما آتاهُما) ، وقال عزوجل : (فَتَعالَى اللهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠]
والأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر فضلا عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر؟
قلنا
: المراد بقوله : (جَعَلا لَهُ) أي جعل أولادهما بطريق حذف المضاف. وكذا قوله تعالى : (فِيما آتاهُما) أي فيما آتى أولادهما ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠]
حيث ذكر ضمير الجمع ولم يقل يشركان ، ومعنى إشراك أولادهما فيما آتاهم الله تعالى
تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة وعبد شمس ونحو ذلك ، مكان عبد الله وعبد
الرحمن وعبد الرحيم.
وقيل : الضمير جعلا للولد الصالح وهو السليم الخلق ، وإنما قال جعلا
لأن حواء كانت تلد في بطن ذكرا وأنثى.
وقيل : المراد بذلك تسميتهما إياه عبد الحارث. والحارث اسم إبليس
في الملائكة ، وسبب تلك التسمية يعرف من تفسير الآية ، وإنما قال شركاء إقامة
للواحد مقام الجمع ، ولم يذهب آدم وحواء إلى أن الحارث ربه ؛ بل قصد أنه كان سبب
نجاته.
وقال جمهور
المفسرين : قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠]
في مشركي العرب خاصة ، وهو منقطع عن قصة آدم وحواء عليهماالسلام.
سورة الأنفال
[٣٥١] فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] إلى
آخر الآيتين ، يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات لا يكون مؤمنا ؛ لأن كلمة
إنما للحصر.
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: إنما المؤمنون إيمانا كاملا ، وإنما الكاملون في الإيمان ، كما يقال : الرجل من
تصبّر على الشدائد ، يعني الرجل الكامل.
[٣٥٢] فإن قيل : قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٧٤]
ينفي إرادة ما ذكرتم.
قلنا
: معناه أولئك هم
المؤمنون إيمانا كاملا حقا.
وقيل : إنّ حقا متعلق بما بعده لا بما قبله ، والمؤمنون تمام
الكلام.
[٣٥٣] فإن قيل : كيف يقال : إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان
، وقد قال تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢]؟
قلنا
: المراد هنا آثار
الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك ؛ لأن تظاهر الأدلة على المدلول
مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا ، فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار
بوحدانية الله تعالى. وكما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان ، فكذا
الإقرار بها.
[٣٥٤] فإن قيل : قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال : ٥]
تشبيه ، فأين المشبه والمشبه به؟
قلنا
: معناه أمض على ما
رأيته صوابا من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا ، كما مضيت في خروجك من
بيتك للحرب بالحق وهم كارهون.
وقيل معناه :
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فهو خير لكم وإن كرهتم ، كما كان إخراجك من بيتك
بالحق.
[٣٥٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : ٨]
وكلاهما متعذر ، لأنه تحصيل الحاصل؟
قلنا
: المراد بالحق
الإيمان ، والباطل الشرك ، فاندفع السؤال.
[٣٥٦] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَ) [الأنفال : ٧ ، ٨]؟
قلنا
: إنما ذكر أولا
لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة التي كانت فيها الغنيمة ، وإرادة
الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين. فذكره أولا للتمييز بين
الإرادتين ، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.
[٣٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧]
ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار ورماهم النبي عليه الصلاة والسلام بكف من
حصا الوادي في وجوههم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا وقع في عينيه شيء من
ذلك ، فشغلوا بعيونهم وانهزموا ، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟
قلنا
: لما كان السبب
الأقوى في قتلهم إنما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين وتثبيت قلوب
المؤمنين وأقدامهم ، وذلك كله فعل الله تعالى ، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه ، يعني
إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني ، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر ،
وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ؛ لأن أثرها الذي لا
يوجد مثله عن رمي البشر فعل الله تعالى ، ونظير هذا قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو
فعل مكروه بتسليط من هو أعلى رتبة منه : هذا ليس قولك ولا فعلك.
وقيل : معنى قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧]
وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم.
ولأهل الحقيقة في
هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة مباحث لا يحتملها هذا المختصر ، وهي
مستقصاة في كتب التصوف.
[٣٥٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠]
ثنّى في الأمر ثم أفرد في النهي؟
قلنا
: كما يذكر في لغة
العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع ، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به
ضمير الاثنين كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يغشيني ، والإنعام والمعروف لا ينفع مع
فلان ، وعليه جاء قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ،
أي يرضوهما ، فكذا هنا ، معناه : ولا تولوا عنهما.
__________________
الثاني
: أنه إنّما أفرد
باعتبار عود الضمير إلى الله وحده لأنه الأصل ، مع أن طاعة الله وطاعة رسوله
متلازمان ، قال الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ،
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] فكان
الإعراض عن الرسول إعراضا عن الله تعالى فاكتفى بذكره.
الثالث
: أن معناه : ولا
تولوا عن هذا الأمر وعن أمثاله ، فالضمير للأمر لا للرسول عليه الصلاة والسلام.
الرابع
: أنّه إنما لم يقل
ولا تولوا عنهما لئلّا يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي عليه الصلاة والسلام عند
نهيه للكفار في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى في ذكرهما بلفظ واحد من غير تقديم
اسم الله ، كما روي : أن خطيبا خطب فقال : من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن
عصاهما فقد غوى ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «بئس خطيب القوم أنت! هلّا قلت : ومن عصى الله ورسوله
فقد غوى»؟
[٣٥٩] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣]
الآية؟
قلنا
: معناه ولو علم
الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل لأسمعهم سماع فهم وقبول ، أو لأنطق لهم
الموتى يشهدون بصدق نبوتك كما طلبوا.
وقيل : معنى لأسمعهم : لرزقهم الفهم والبصيرة ، وأسمعهم وحالهم
هذه الحال ، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير ، لتولوا وهم معرضون ، لعنادهم وجحودهم
الحق بعد ظهوره.
[٣٦٠] فإن قيل : التولي والإعراض واحد ، فما فائدة قوله : (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٣٢].
قلنا
: معناه لتولوا عن
الإيمان وأعرضوا عن البرهان فلا تكرار.
[٣٦١] فإن قيل : فما فائدة ذكر السماء في قوله تعالى : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ
السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢]
والمطر إنما يكون من السماء؟
قلنا
: المطر المطلق.
إنما يكون من السماء ، ولكن المطر المضاف هنا وهو مطر الحجارة قد يكون من رءوس
الجبال ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها ، فكان ذكر السماء مفيدا لأن الحجارة
إذا نزلت من المساء كانت أشد نكاية وأكثر ضررا.
الثاني
: أنه لما كانت
الحجارة المسومة للعذاب وهي السجيل معهودة النزول من السماء ذكر السماء إشارة إلى
إرادة المعهود من الحجارة ، كأنه قال : فأمطر علينا حجارة من سجيل ، فوضع قوله من
السماء موضع قوله من سجيل كما تقول : صب عليه مسرودة من حديث ، يعني درعا.
[٣٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]
ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر وهو فيهم؟
قلنا
: معناه وأنت مقيم
فيهم بمكة ، وكان كذلك ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما دام بمكة لم يعذبوا ،
فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذبوا.
وقيل معناه : وما
كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال وأنت فيهم.
وقيل معناه : وما
كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة وأنت فيهم.
[٣٦٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى أولا : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]
الآية ، ثم قال : (وَما لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤]
الآية ، وهو يوهم التناقض؟
قلنا
: معناه وما لهم أن
لا يعذبهم الله بعد خروجك من بينهم وخروج المؤمنين والمستغفرين.
وقيل : المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وبالثاني عذاب غير
الاستئصال.
وقيل : المراد بالأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الآخرة.
[٣٦٤] فإن قيل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥]
والمكاء الصفير ، والتصدية التّصفيق ، وهما ليسا بصلاة؟
قلنا
: معناه أنهم
أقاموا المكاء والتّصدية مقام الصلاة ، كما يقول القائل : زرت فلانا ، فجعل الجفاء
صلتي ، أي أقام الجفاء مقام صلتي ، ومنه قول الفرزدق :
أخاف زيادا أن
يكون عطاؤه
|
|
أداهم سودا أو
محدرجة سمرا
|
أراد بالأداهم
القيود ، وبالمحدرجة السياط ، ووضعهما موضع العطاء.
[٣٦٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا) [الأنفال : ٣٨]
وهم لم ينتهوا عن الكفر ، فكيف قال : (وَإِنْ يَعُودُوا) ؛ والعود إلى الشيء إنما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟
__________________
قلنا
: معناه إن ينتهوا
عن عداوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومحاربته يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ، وإن يعودوا إلى
قتاله وعداوته فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر ، أو فقد مضت
سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية.
وقيل معناه : إن
ينتهوا عن الكفر بالإيمان يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، كما قال النبي ،
عليه الصلاة والسلام : «الإسلام يجبّ ما كان قبله». وإن يعودوا إلى الكفر
بالارتداد بعد ما أسلموا فقد مضت سنة الأولين من الأمم من أخذهم بعذاب الاستئصال.
[٣٦٦] فإن قيل : الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة
، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين وتثبيت أقدامهم وزيادة اجترائهم على القتال ،
فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفار حتى قال الله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] مع
أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين وتثبيت أقدامهم واجترائهم على القتال؟
قلنا
: فائدته أن لا
يستعد الكفار كل الاستعداد ، فيجترئوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم ، ثم تفجئهم
الكثرة فيدهشوا ويتحيروا ، وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق إذا
رأوا المؤمنين مع قلتهم في أعينهم منصورين عليهم.
وفي التقليل من
الطرفين معارضة تعرف بالتأمل.
[٣٦٧] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦]
يدل على حرمة المنازعة والجدال أيضا ؛ لأنه منازعة ، فكيف تجوز المناظرة وهي
منازعة وجدال؟
قلنا
: المراد بالمنازعة
هنا ، المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه ، لا المنازعة في إظهار الحق بالحجّة
والبرهان. والدليل عليه أن ذلك مأمور به.
قال الله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ؛
ولكن للجواز شروط يندر وجودها في زمننا هذا ، أحدها أن يكون كل المقصود منها ظهور
الحق على لسان أيّ الخصمين ، كما كانت مناظرة السلف ؛ وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور
الحق على لسانه أكثر مما يفرح بظهوره على لسان خصمه.
[٣٦٨] فإن قيل : كيف قال إبليس (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الأنفال : ٤٨]
وهو لا يخاف الله ، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضل عبيده؟
قلنا
: قال قتادة : صدق
عدوّ الله في قوله : (إِنِّي أَرى ما لا
تَرَوْنَ) [الأنفال : ٤٨]
يعني جبريل والملائكة عليهمالسلام معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر ، وكذب في
قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الأنفال : ٤٨].
والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له بهم.
وقيل : لما رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط خاف قيام
الساعة التي هي غاية إنظاره ، فيحل به العذاب الموعود.
وقيل : معنى أخاف الله : أعلم صدق وعده لنبيه بالنصر ، وقد جاء
الخوف بمعنى العلم ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩]. ويحتمل
عندي أن يكون خاف أن يحل به من الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف
الإهلاك.
ثم ، أقول : كيف
تؤخذ عليه كذبة واحدة ، وهو أفسق الفسقة ، وأكفر الكفرة ؛ فلا عجب في كذبه وإنما
العجب في صدقه!
[٣٦٩] فإن قيل : أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٤٩].
قلنا
: لما أقدم المؤمنون
وهم ثلاث مائة وبضعة عشر على قتال المشركين وهم زهاء ألف متوكلين على الله ، وقال
المنافقون : غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا أو أكثر. قال الله
تعالى ردّا على المنافقين وتثبيتا للمؤمنين (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) [الأنفال : ٤٩] ،
أي غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي وينصره عليه ، حكيم في جمع أفعاله.
[٣٧٠] فإن قيل : كيف قال (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال : ٥١]
ولم يقل ليس بظالم ، وهو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟
قلنا
: قد سبق هذا
السؤال وجوابه في سورة آل عمران.
[٣٧١] فإن قيل : قوله عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال : ٥٣]
وذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة وآل فرعون ولم تكن لهم حال مرضية غيروها؟
قلنا
: كما تغير الحال
المرضية إلى المسخوطة تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ ، وأولئك كانوا قبل
بعث الرسول إليهم عباد أصنام ، فلما بعث الرسول صلىاللهعليهوسلم إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وسعوا في قتله غيروا
حالهم إلى أسوأ منها ، فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم
بالعذاب.
[٣٧٢] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنفال : ٥٥]
بعد قوله : (إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥]؟
قلنا
: مراده أن يبين أن
شر الكفار الذين كفروا واستمروا على الكفر إلى وقت الموت.
[٣٧٣] فإن قيل : ما فائدة تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة
لأكثر منها قبل التخفيف وبعده في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥]
إلى قوله : (وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٦٦]؟
قلنا
: فائدته الدلالة
على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ؛ بل كما ينصر الله تعالى العشرين
على المائتين ينصر المائة على الألف ، وكما ينصر المائة على المائتين ينصر الألف
على الألفين.
[٣٧٤] فإن قيل : كيف أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة ونحن نشاهد
الأمر بخلافها ، فإن المائة من الكفار قد تغلب المائة من المسلمين ؛ بل المائتين
في بعض الأحوال؟
قلنا
: إنما أخبر الله عزوجل عن هذه الغلبة بشرط الصبر الذي هو الثبات في موقف الحرب ،
أو الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا وباطنا ؛ فمتى وجد الشرط تحققت الغلبة
للمسلمين مع قلتهم لا محالة. ولقائل أن يقول إن هذه الغلبة مخصوصة بطائفة كان
النبي صلىاللهعليهوسلم أحدهم ، وسياق الآية يدل عليه.
[٣٧٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] مع
أنه يريد الدّنيا أيضا ؛ لأنه لو لا إرادته إياها لما وجدت ، فما فائدة هذا
التخصيص؟
قلنا
: المراد بالإرادة
هنا الاختيار والمحبة ، لا إرادة الوجود والكون ، فالمعنى أتحبون عرض الحياة
الدنيا وتختارونه ، والله يختار ما هو سبب الجنة وهو إعزاز الإسلام بالإثخان في
القتل.
سورة التوبة
[٣٧٦] فإن قيل : لأي سبب تركت كتابة البسملة في أول هذه السورة
بخلاف سائر السور؟
قلنا
: لما تشابهت هي
والأنفال واختلفت الصحابة في كونهما سورتين أو سورة واحدة تركت بينهما فرجة عملا
بقول من قال هما سورتان ، وتركت البسملة بينهما عملا بقول من قال هما سورة واحدة ،
وممن قال بذلك قتادة رحمهالله.
الثاني
: أن اسم الله
تعالى سلام وأمان ، وبراءة فيها قتل المشركين ومحاربتهم فلا يناسب كتابتها.
[٣٧٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ) [التوبة : ١٢] خص
الأمر بالقتال بأئمة الكفر ، مع أن النكث والطعن ليس مخصوصا بهم ؛ بل هو مسند إلى
جميع المشركين؟
قلنا
: المراد بأئمة
الكفر رءوس المشركين وقادتهم. وقيل : كفار مكة ؛ لأنهم كانوا قدوة جميع العرب في الكفر ، فكأن
النكث والطعن لم يوجد إلا منهم لما كانوا هم الأصل فيه ، فلذلك خصهم بالذكر.
[٣٧٨] فإن قيل : كيف قال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]
ونحن نسأل اليهود والنصارى عن ذلك فينكرونه ويجحدونه؟
قلنا
: طائفة من اليهود
وطائفة من النصارى هم الذين يقولون ذلك لا كلّهم ، فالألف واللام للعهد لا للجنس
ولا للاستغراق ، أو أطلق اسم الكل وأراد البعض ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا
مَرْيَمُ) [آل عمران : ٤٢]
وإنما قال لها جبريل وحده.
[٣٧٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٠]
وقول كل أحد إنما يكون بفمه.
قلنا
: معناه أنه قول لا
تعضده حجة وبرهان ، إنما هو مجرد لفظ لا أصل له.
وقيل : ذكر ذلك للمبالغة في الرد عليهم والإنكار لقولهم ، كما
يقول الرجل لغيره : أنت قلت لي ذلك بلسانك.
[٣٨٠] فإن قيل : دين الحق هو جملة الهدى فما فائدة عطفه على
الهدى في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) [التوبة : ٣٣]؟
قلنا
: المراد بالهدى
هنا القرآن ، وبدين الحق الإسلام وهما متغايران.
الثاني
: أنه وإن كان
داخلا في جملة الهدى ولكنه خصه بالذكر تشريفا له وتفضيلا كما في قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨]
وقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].
[٣٨١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣] ولم
يقل على الأديان كلها ؛ مع أنه أظهره على الأديان كلها؟
قلنا
: المراد بالدين
هنا اسم الجنس ، واسم الجنس المعرف باللام يفيد معنى الجمع ، كما في قولهم : كثر
الدرهم والدينار في أيدي الناس.
[٣٨٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها
فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤]
والمذكور الذهب والفضة ، فأعاد الضمير على أحدهما؟
قلنا
: أعاد الضمير على
الفضة ؛ لأنها أقرب المذكورين ، أو لأنها أكثر وجودا في أيدي الناس ، فيكون كنزها
أكثر ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ
يا قَوْمِ) [البقرة : ٥٤].
الثاني
: أنه أعاد الضمير
على المعنى ؛ لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٤٩]
لأن كل طائفة مشتملة على عدد كثير ، وكذا قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] يعني
المؤمنين والكافرين.
الثالث
: أن العرب إذا
ذكرت شيئين يشتركان في المعنى تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما ، استغناء بذكره عن
ذكر الآخر ؛ لمعرفة السامع باشتراكهما في المعنى.
ومنه قول حسان بن
ثابت :
إنّ شرخ الشّباب
والشّعر الأس
|
|
ود ما لم يعاص
كان جنونا
|
ولم يقل ما لم
يعاصيا. وقول الآخر :
فمن يك أمسى
بالمدينة رحله
|
|
فإنّي وقيّار
بها لغريب
|
__________________
ولم يقل لغريبان ،
ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢]
وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠]
وليس قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ٢٦]
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] من
هذا القبيل ؛ لأن الإضمار ثم عن أحدهما لوجود لفظة أو ، وهي لإثبات أحد المذكورين
، فمن جعله نظير هذا فقد سها ؛ إلا أن يثبت أن أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو.
وفي هاتين الآيتين
لطيفة وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على
التجارة ، وإن كانت أبعد ، ومؤنثة أيضا ؛ لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله
تعالى من اللهو ؛ لأن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو ، أو لأنها أكثر
نفعا من اللهو ، أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا ؛ لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما
عرف من تفسير الآية ، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب
والتذكير.
[٣٨٣] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ
اثْنا عَشَرَ شَهْراً) [التوبة : ٣٦] وهي
عند الناس أيضا كذلك في كل ملة سواء كانت الشهور قمرية أو شمسية؟
قلنا
: فائدته أن يعلم
أن هذا التقسيم والعدد ليس مما أحدثه الناس وابتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم ؛
وإنما هو أمر أنزله الله في كتبه على ألسنة رسله.
[٣٨٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦] خص
الأربعة الحرم بذلك وظلم النفس منهي عنه في كل زمان؟
قلنا
: قال ابن عباس ،
رضي الله عنهما ، الضّمير في قوله تعالى : (فِيهِنَ) راجع إلى قوله : (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) لا الأربعة الحرم فقط ، فاندفع السؤال.
الثاني
: أن الضمير راجع
إلى الأربعة الحرم فقط ، إما لأنها أقرب ، أو لما قاله الفراء : إن العرب تقول في
العشرة وما دونها لثلاث ليال خلون وأيام خلون وهن وهؤلاء ، فإذا جاوزت العشرة قالت
خلت ومضت ، للفرق بين القليل وهو العشرة فما دونها ، وبين الكثير وهو ما زاد عليها
، ولهذا قال في الاثني عشر : منها ، وقال في الأربعة : فيهن. فعلى هذا يكون تخصيصها
بالذكر إما لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية فيكون ظلم النفس فيها أقبح ،
ونظيره قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧]
وإن كان ذلك منهيا عنه في غير الحج أيضا ، أو لأن المراد بالظلم النسيء ، وهو كان
مخصوصا بها ، أو قتال الكفار فيها ابتداء ، أو ترك قتالهم إذا ابتدءوا وكل ذلك
مخصوص بها؟
[٣٨٥] فإن قيل : الشهر مذكر فقياسه فيها؟
قلنا
: الضمير بالهاء
والنون لا يختص بالمؤنث ، ولو اختص فالمراد بقوله (فِيهِنَ) ساعات الأشهر وهي مؤنثة.
[٣٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) والإنسان لا يظلم نفسه ؛ بل يظلم غيره؟
قلنا
: لا نسلم أنه لا
يظلم نفسه قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠]
وقال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١].
الثاني
: أن معناه فلا
يظلم بعضكم بعضا كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤]
وقال تعالى : (فَتُوبُوا إِلى
بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤]
وقال تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١].
الثالث
: أن معناه فلا
تنقصوا حظ أنفسكم من الآخرة بالمعصية ، فإن من عصى فقد ظلم نفسه بنقصه ثوابها
وتوجيه العقاب والذم إليها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١].
الرابع
: أن كل ظالم لغيره فهو ظالم لنفسه في الحقيقة ؛ لأن ضرر ظلمه
في حق المظلوم ينقطع عن قريب ؛ لأنه لا يتعدى الدنيا ، وضرر ظلمه في حقّ نفسه يراه
في الآخرة حيث لا ينقطع ، أو يكون أشد وأدوم.
[٣٨٧] فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] يدل
على قبول الكفر للزيادة والنقصان ، فكذلك الإيمان الذي هو ضده ، فيكون حجة للشافعي
رحمة الله عليه في قوله : الإيمان يقبل الزيادة والنقصان.
قلنا
: معناه زيادة
معصية في الكفر.
[٣٨٨] فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٤٤] إن
كان نهيا فأين الجزم؟ وإن كان نفيا فقد وقع المنفي ؛ لأن كثيرا من المؤمنين
المخلصين استأذنوه في التخلف عن الجهاد لعذر ، ويعضده قوله تعالى :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور : ٦٢] فقيل
إن المراد به كل أمر طاعة اجتمعوا عليه كالجهاد والجمعة والعيد ونحوها؟
__________________
قلنا
: هو نهي بصيغة
النفي كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧].
الثاني
: قال ابن عباس ،
رضي الله عنهما ، هي منسوخة بقوله تعالى : (لَمْ يَذْهَبُوا
حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).
الثالث
: أن المراد بقوله
: (يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ) الآية ، الاستئذان في التخلف عن الجهاد من غير عذر ، وكذا
المراد بالآية التي بعدها ، وبقوله : (لَمْ يَذْهَبُوا
حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) إباحة الاستئذان في التخلف عن الأمر الجامع لعذر فلا نسخ
لإمكان العمل بالآيتين ؛ لأنّ محل الحكم مختلف ، وهو وجود العذر وعدمه.
[٣٨٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ
الْقاعِدِينَ) [التوبة : ٤٦]
أخبر أنهم أمروا بالقعود ، وذمهم على القعود والتخلف عن الخروج للجهاد والاستئذان
في القعود؟
قلنا
: ليس في الآية ما
يدل على أن الله تعالى هو الآمر لهم ، فقيل : الآمر لهم بذلك هو الشيطان بالوسوسة
والتزيين.
الثاني
: أن بعضهم أمر بعضا.
الثالث
: أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لهم ذلك غضبا عليهم.
الرابع
: أنه أمر توبيخ
وتهديد من الله تعالى لهم كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] يعضده
قوله تعالى : (مَعَ الْقاعِدِينَ) أي مع النساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم
في البيوت.
[٣٩٠] فإن قيل : إذا كان الله تعالى علم أن المنافقين لو خرجوا
مع المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلا خبالا : أي فسادا ، ولأوضعوا خلالهم ، أي
ولأسرعوا السعي بينهم بالنمائم ، فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين؟
قلنا
: أمرهم بالخروج
لإلزامهم الحجة ولإظهار نفاقهم.
[٣٩١] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً
فاسِقِينَ) [التوبة : ٥٣] يدل
على أن الفسق يمنع قبول الطاعات؟
قلنا
: المراد بالفسق
هنا الفسق بالكفر والنفاق لا مطلق الفسق ، وذلك محبط للطاعات ومانع من قبولها ؛
ويعضده قوله عزوجل : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) [التوبة : ٥٤]
الآية.
[٣٩٢] فإن قيل : لم عدل في آية الصدقات عن اللام إلى «في» في
المصارف الأربعة الأخيرة؟
قلنا
: للتنبيه على أنهم
أقوى في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره ؛ لأن «في» للظرفية والوعاء ، فنبه بها على
أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مصبا لها ، لما ورد في فك الرقاب من
الكتابة أو الرق أو الأسر وفي فك الغارمين عن الدين من التخليص والإنقاذ ، ولجمع
الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر ومثل هذه العبادة الشاقة ، وكذلك ابن
السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، ولا يرد المؤلفة قلوبهم ؛ لأن
بعضهم كفار وبعضهم مسلمون ضعيفو النية في الإسلام ، فكيف يعارض بهم من ذكرنا ، أو
لأن الله تعالى علم أن وجوب إعطائهم سينسخ ، فلذلك جعلهم في القسم المقدم الذي هو
أضعف.
[٣٩٣] فإن قيل : لم كرر «في» في الأربعة الأخيرة ولم يكرر اللام
في الأربعة الأولى؟
قلنا
: للتنبيه على
ترجيح استحقاق المصرفين الأخيرين على الرقاب والغارمين من جهة أن إعادة العامل تدل
على مزيد قوة تأكيد كقولك مررت بزيد وبعمرو.
[٣٩٤] فإن قيل : لم عدّى فعل الإيمان إلى الله تعالى بالباء وإلى
المؤمنين باللام في قوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١]؟
قلنا
: لأنه قصد التصديق
بالله الذي هو ضد الكفر به ، فعدّاه بالباء ، كما يعدّى ضده بها ، وقصد التسليم
والانقياد للمؤمنين فيما يخبرون به لكونهم صادقين عنده ، فعداه بما يعدّى به
التسليم والانقياد ، ويعضده قوله تعالى : (وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧] وقوله
تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥]
وقوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى
إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس : ٨٣] وقوله
تعالى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١]
وأما قوله تعالى : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [طه : ٧١] فمشترك
الدلالة ؛ لأنه قال في موضع آخر (قالَ فِرْعَوْنُ
آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف : ١٢٣].
وقال ابن قتيبة ، في الجواب عن أصل السؤال : إن الباء واللّام زائدتان ، والمراد
بالإيمان التصديق ، فمعناه يصدّق الله ويصدّق المؤمنين.
[٣٩٥] فإن قيل : قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً
فِيها) [التوبة : ٦٣] يدل
على تخليد أصحاب الكبائر في النار ؛ لأن المراد بالمحادة المخالفة والمعاداة؟
قلنا
: قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم ، فيكون المراد به
المحادة بالكفر والنفاق ، وذلك موجب للتخليد في النار.
[٣٩٦] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة : ٦٤] ،
وسور القرآن إنما تنزل على النبي صلىاللهعليهوسلم لا على المنافقين؟
قلنا
: معناه أن تنزل
فيهم ، فعلى هنا بمعنى في كما في قوله تعالى : (عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢]
وقولهم كان ذلك على عهد فلان.
الثاني
: أن الإنزال هنا
بمعنى القراءة ؛ فمعناه أن تقرأ عليهم.
[٣٩٧] فإن قيل : الحذر في هذه الآية واقع منهم على إنزال السورة
، فكيف قال تعالى : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا
إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) [التوبة : ٦٤]؟
قلنا
: قوله تعالى : (مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم بإنزال السورة ، وهو
مناسب لقوله تعالى : (تُنَبِّئُهُمْ بِما
فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٦٤].
الثاني
: أن معناه مظهر
ومبرز ما تحذرون من إنزال السورة.
[٣٩٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (تُنَبِّئُهُمْ بِما
فِي قُلُوبِهِمْ) وإنباؤهم بما في قلوبهم تحصيل الحاصل ؛ لأنّهم عالمون به
فما فائدته؟
قلنا
: معناه تنبئهم بأن
أسرارهم وما كتموه من النفاق شائعة ذائعة ؛ وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه
غيرهم ولا يطلع عليه سواهم ، وهذا ليس تحصيل الحاصل.
[٣٩٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧]
وقال بعده (وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١]
وكلمة «من» أدل على المشابهة والمجانسة من حيث أنها تقتضي الجزئية والبعضية ،
فكانت بالمؤمنين أولى وأحرى ؛ لأنهم أشد تشابها وتجانسا في الصفات والأخلاق؟
قلنا
: المراد بقوله
تعالى : (بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ) أي بعضهم على دين بعض ، أي على عادتهم وخلقهم بإضمار لفظة
الدين أو الخلق ونحوه ؛ لأن «من» تأتي بمعنى على ، ومنه قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأنبياء : ٧٧]
وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ) [البقرة : ٢٢٦] ،
أي يحلفون على وطء نسائهم ، وهذا هو المعنى المراد في قوله عليه الصلاة والسلام : «فمن
رغب عن سنّتي فليس منّي» وقوله عليه الصلاة والسلام : «من غشّنا فليس منّا» ،
والمراد بقوله تعالى : (بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، أي أنصارهم وأعوانهم في الدين ، وكل واحدة من العبارتين
صالحة للفريقين ، إلا أنه خص المنافقين بتلك العبارة تكذيبا لهم في حلفهم السابق
في قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة : ٥٦]
وتقريرا لقوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة : ٥٦]؟
[٤٠٠] فإن قيل : أيّ فائدة في قوله تعالى : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) [التوبة : ٦٩] مع
أن قوله تعالى : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ)
__________________
[التوبة : ٦٩]
بوضع الظاهر موضع الضمير مغن عنه ، كما قال تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي
خاضُوا) [التوبة : ٦٩] من
غير تكرار؟
قلنا
: فائدته تصدير
التشبيه بذم المشبه بهم باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا واشتغالهم بشهواتهم
الفانية عن النظر في العاقبة الباقية وطلب الفلاح في الآخرة ، وتهجين حالهم وتقبيح
صفتهم ؛ ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبهين بأولئك الأولين ، كما تريد أن
تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير حقّ ويظلم
ويفسق وأنت تفعل مثل فعله.
وأما قوله تعالى :
(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي
خاضُوا) فإنه لما كان معطوفا على ما قبله وهو التشبيه المصدّر بتلك
المقدمة أغنى ذلك عن إعادة تلك المقدمة المذكورة للتقبيح والتهجين.
[٤٠١] فإن قيل : قوله تعالى : (أُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [التوبة : ٦٩]
حبوط العمل إن كان عبارة عن بطلان ثوابه فذلك إنما يكون في الآخرة ، وإن كان عبارة
عن بطلان منفعته فأعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة ؛ لأنهم ينتفعون
بها في حقن دمائهم وأموالهم وجريان أحكام المسلمين عليهم؟
قلنا
: المراد بالأعمال
إن كانت نوعي أعمالهم الدينية والدنيوية ، فالحبوط في الدنيا راجع إلى أعمالهم
الدنيوية وهي كيدهم ومكرهم وخداعهم ونفاقهم الذي كانوا يقصدون به إطفاء نور الله
تعالى ورفع آياته وبيناته ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، فلم
ينالوا من ذلك ما أملوه وقصدوه عن إبطال دين الله تعالى وستر نبوة محمد عليه
الصلاة والسلام ، والحبوط في الآخرة راجع إلى أعمالهم الدينية وهي عباداتهم
وطاعاتهم ؛ لأنهم فعلوها نفاقا ورياء فبطل ثوابها في الآخرة ؛ وإن كان المراد بأعمالهم
مجرد الأعمال الدينية فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها ؛ لأنّ الله تعالى يقبل
العبادة في الدنيا ثم يثيب عليها في الآخرة ، والمراد بحبوطها في الدنيا عدم
قبولها وعدم إطلاق الأسماء الشريفة عليها ، كالعبادة والقربة والحسنة ونحو ذلك ،
وهذا ضد قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ
فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٢٧]
فدل على أن للطاعات أجرا معجلا في الدنيا غير الأجر المؤجل إلى الآخرة ، وهو
القبول وحسن الثناء والذكر وإلقاء المحبة في قلوب الخلق ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦] قيل
معناه : يحبهم ويحببهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب المحبة ، وكذلك على
العكس حال العصاة والفساق يبغضهم ويبغّضهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب
البغض.
[٤٠٢] فإن قيل : قوله تعالى : (وَما لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [التوبة : ٧٤]
لم خص الأرض
بالنفي ؛ مع أن المنافقين ليس لهم ولي ولا نصير من عذاب الله في الأرض ولا في
السماء ، في الدنيا ولا في الآخرة؟
قلنا
: لما كان
المنافقون لا يعتقدون الوحدانية ولا يصدقون بالآخرة ، كان اعتقادهم وجود الولي
والنصير مقصورا على الدنيا ، فعبّر عن الدنيا ، بالأرض ، وخصها بالذكر لذلك.
الثاني
: أنه أراد بالأرض
أرض الدنيا والآخرة فكأنه قال : وما لهم في الدنيا والآخرة من ولي ولا نصير.
[٤٠٣] فإن قيل : لم خص السبعين بالذكر في قوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] مع
أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين ولو استغفر لهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ألف مرة بدليل قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦]
ولأنهم مشركون ، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به؟
قلنا
: جرت عادة العرب
بضرب المثل في الآحاد بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، وفي المئات بسبعمائة
استعظاما لها واستكثارا ، لا أنهم يريدون بذكرها الحصر ، فكأنه قال : إن تستغفر
لهم أعظم الأعداد وأكثرها فلن يغفر الله لهم ، ويعضده ما ذكره بعد ذلك من بيان
الصارف عن المغفرة في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٨٠].
[٤٠٤] فإن قيل : لو كان ما ذكرتم لما خفي ذلك على النّبيّ صلىاللهعليهوسلم وهو أفصح العرب وأعلمهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ؛ حتّى
قال ، لما نزلت هذه الآية : إن الله تعالى قد رخص لي فسأزيد على السبعين. وفي
رواية أخرى : فسأستغفر لهم أكثر من السبعين لعل الله أن يغفر لهم؟
قلنا
: لم يخف عليه ذلك
وإنما أراد بما قال إظهار غلبة رحمته ورأفته بمن بعث إليهم ، كما وصفه الله تعالى
بقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨]
الآية وفي إظهار النبي صلىاللهعليهوسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، وحث لهم على التراحم ، وشفقة
بعضهم على بعض ، وهذا دأب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ألا ترى إلى قول
إبراهيم صلوات الله عليه (وَمَنْ عَصانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦].
[٤٠٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ٩١]
والمغفرة والرحمة إنما تكون للمسيئين لا للمحسنين؟
قلنا
: معناه والله غفور
رحيم للمسيئين إذا تابوا ، فهو متعلق بمحذوف لا بالمحسنين ؛ لأنهم قد سدوا
بإحسانهم طريق العقاب والذم ؛ فليس عليهم سبيل فيهما.
الثاني
: أن المحسن من
الناس وإن تناهى في إحسانه لا يخلو عن إساءة بينه وبين الله تعالى ، أو بينه وبين
الناس ، لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر غفر الله له صغائر سيئاته ورحمه ، كما قال
تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] [٤٠٦] فإن قيل : قوله تعالى : (فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ١٠٥] أي
سيعلم ؛ لأن السين للاستقبال ، والرؤية من الله تعالى بمعنى العلم ، والله تعالى
عالم بعملهم حالا ومآلا؟
قلنا
: معناه في حقّ
الله أنه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا ؛ لأن الله تعالى يعلم كل شيء على ما
هو عليه ، فيعلم المنتظر منتظرا ويعلم الواقع واقعا ، وأما في حق الرسول عليه
الصلاة والسلام فهو على ظاهره.
[٤٠٧] فإن قيل : إن الله تعالى قد وصف العرب بالجهل في القرآن
بقوله تعالى : (وَأَجْدَرُ أَلَّا
يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [التوبة : ٩٧]
فكيف يصح الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم؟
قلنا
: هذا وصف من الله
لهم بالجهل في أحكام القرآن لا في ألفاظه ، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام ؛
بل نحتج بلغتهم في بيان معاني الألفاظ ؛ لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم.
[٤٠٨] فإن قيل : كيف قال تعالى في صفة المنافقين : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١]
وقال في موضع آخر (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠]؟
قلنا
: هذه الآية نزلت
قبل تلك الآية فلا تناقض ؛ لأنه نفى علمه لهم في زمان ثم أثبته بعد ذلك في زمان
آخر.
[٤٠٦] فإن قيل : قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً
صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢] قد
جعل كل واحد منهما مخلوطا فأين المخلوط به؟
قلنا
: كل واحد مخلوط
ومخلوط به ؛ لأن معناه : خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن ،
تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه ، وفيه من المبالغة ما ليس في قولك : خلطت الماء
باللبن ، لأنك بالباء جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به ، وبالواو جعلت الماء
واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ؛
ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء كقولهم : بعت شاة ودرهما ، يعنون شاة بدرهم.
[٤١٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) [التوبة : ١١٢]
بالواو وما قبلها من الصفات بغير واو؟
قلنا
: لأنها صفة ثامنة
، والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد ، فإن السبعة عندهم هي العقد
التام كالعشرة عندنا ، فأتوا بحرف العطف الدال على المغايرة بين المعطوف والمعطوف
عليه ، ونظيره قوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] بعد
ما ذكر العدد مرتين بغير واو ، وقوله تعالى في صفة الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣]
بالواو لأنها ثمانية. وقال في صفة النار نعوذ بالله منها فتحت أبوابها بغير واو
لأنها سبعة ، وليس قوله تعالى : (ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] من
هذا القبيل ، لأن الواو لو أسقطت فيه لاستحال المعنى لتناقض الصفتين. وقيل
: إنما دخلت الواو
على الناهين عن المنكر إعلاما بأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره
بالمعروف ، فهما صفتان متلازمتان بخلاف باقي الصفات المذكورة فإنها ليست متلازمة ،
ولا ينقض هذا بقوله تعالى : (الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ) [التوبة : ١١٢] ؛
لأنهما ليستا صفتين متلازمتين ؛ لأن السجود يلزم الرّكوع ، أما الرّكوع فلا يلزم
السجود بدليل سجود التلاوة وسجود الشكر ، والزمخشري لم يتكلم على هذه الواو.
[٤١١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٢١] أي
بأحسن الذي كانوا يعملون بإضمار حرف الجر ، مع أنهم يجزون بحسنة أيضا لقوله تعالى
: (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧]؟
قلنا
: معناه بحسن الذي
كانوا يعملون ، وهو الطاعات كلها ، لا بسيئة وهو المعاصي ، فالأحسن هنا بمعنى
الحسن ، وسيأتي في سورة الرّوم في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ما
يوضح هذا إن شاء الله تعالى.
الثاني
: أنّ معناه
ليجزيهم الله أحسن من الذي كانوا يعملون.
[٤١٢] فإن قيل : قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤]
يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة؟
قلنا
: قال مجاهد :
معناه فزادتهم علما ؛ لأن العلم من ثمرات الإيمان فجعل مجازا عنه ، والله أعلم.
سورة يونس عليهالسلام
[٤١٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ) [يونس : ٥] والله
تعالى فصل الآيات للعلماء والجهال أيضا.
قلنا
: لما كان يقع
تفصيل الآيات مخصوصا بالعلماء وانتفاعهم بالتفصيل أكثر أضاف التفصيل إليه وخصهم
به.
[٤١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] مع أن
أقوال أهل الجنة وأحوالهم لا آخر لها ، لأن الجنّة دار الخلود؟
قلنا
: معناه وآخر
دعائهم في كل مجلس دعاء أو ذكر أو تسبيح ، فإن أهل الجنة يسبحون ويذكرون للتنعم
والتلذذ بالذكر والتسبيح.
[٤١٥] فإن قيل : قد أنكر الله تعالى على الكفار احتجاجهم بمشيئته
في قوله تعالى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨]
ولهذا لا يجوز للعاصي أن يحتج في وجود المعصية منه بقوله لو شاء الله ما فعلت هذه
المعصية فلا تقيموا عليّ حدها : فكيف قال النبي صلىاللهعليهوسلم : لو شاء الله ما تلوته عليكم؟
قلنا
: النبي صلىاللهعليهوسلم قال هذه الجملة بأمر الله تعالى ، لأن الله عزوجل قال له : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ
ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) [يونس : ١٦]
وللعبد أن يحتج بمشيئة الله إذا أمره الله أن يحتج بها ، أما ما ليس كذلك فليس له
أن يحتج بمجرد المشيئة ، وما أوردتموه كذلك.
[٤١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ
إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [يونس : ٢٣]
والبغي لا يكون إلا بغير الحق ؛ لأن البغي هو التعدي والفساد من قولهم بغى الجرح
إذا فسد ، كذا قاله الأصمعي ، فما فائدة التقييد؟
قلنا
: قد يكون الفساد
بالحق كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم ،
كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببني قريظة.
[٤١٧] فإن قيل : كيف شبه الله تعالى الحياة الدنيا بماء السماء
دون ماء الأرض
__________________
فقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) [يونس : ٢٤]؟
قلنا
: لأن ماء السماء
وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه ولا حيلة للعبد في زيادته ونقصانه ، كما أن
الحياة لا حيلة للعبد في زيادتها ونقصانها.
الثاني
: أن ماء السماء
يستوي فيه جميع الخلائق ، الوضيع والشريف ، والغني والفقير والحيوان وغيره كالمدر
والحجر والشوك والثمر ، كما أن الحياة كذلك ، فكأن تشبيه الحياة بماء السماء أشد
مناسبة ومطابقة.
[٤١٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكاؤُكُمْ) [يونس : ٢٨]. وقال
في موضع آخر : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤]؟
قلنا
: يوم القيامة
مواقف ومواطن ، ففي موقف لا يكلمهم ، وفي موقف يكلمهم ، ونظيره قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩]
وقوله : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ١٥].
الثاني
: المراد أنه لا
يكلمهم كلام إكرام ؛ بل كلام توبيخ وتقريع.
[٤١٩] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ٣١] إلى
آخر الآية يدل على أنهم معترفون أن الله تعالى هو الخالق والرازق والمدبر لجميع
المخلوقات ، فكيف يعترفون بذلك كله ثم يعبدون الأصنام؟
قلنا
: كانوا يعتقدون في
عبادة الأصنام أنهم يتقرّبون بها إلى عبادة الله ؛ فطائفة كانت تقول نحن لا نتأهل
لعبادة الله تعالى بغير واسطة لعظمة إجلاله ونقصنا وحقارتنا ، فجعلوا الأصنام
وسائط ، كما قال تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣]
وطائفة كانت تقول : نتخذ أصناما على هيئة الملائكة ونعبدهم لتشفع لنا الملائكة عند
الله ليقربونا إلى الله ، وطائفة كانت تقول : الأصنام قبلة لنا في عبادة الله ،
كما أن الكعبة قبلة في عبادته ، وطائفة وهي الأكثر كانت تقول : على كل صنم شيطان
موكل به من عند الله ، فمن عبد الصنم حقّ عبادته قضى الشيطان حوائجه على وفق مراده
بأمر الله ، ومن قصر في عبادة الصنم أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله ، فكل الطوائف
من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه ولكن
بطرق مختلفة.
[٤٢٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٣٤] وهم
غير معترفين بوجود الإعادة أصلا لا من الله ولا من غيره؟
قلنا
: لما كانت الإعادة
ظاهرة الوجود لظهور برهانها وهو القدرة على ابتداء
الخلق ، والإعادة
أهون بالنسبة إلينا لزمهم الاعتراف بها ، فصاروا كأنهم مسلّمون وجودها من حيث ظهور
الحجة ووضوحها.
[٤٢١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَإِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [يونس : ٤٦] رتب
كونه شهيدا على أفعالهم على رجوعهم إليه في القيامة ، مع أنه شهيد على أفعالهم في
الدنيا والآخرة؟
قلنا
: ذكر الشهادة
وأراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب والجزاء ، فكأنه قال : ثم الله يعاقب على ما
يفعلون أو مجاز على ما يفعلون. كما قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧]
ونظائره في القرآن العزيز كثيرة.
[٤٢٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (بَياتاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٥٠] ولم
يقل ليلا أو نهارا وهو أظهر في المطابقة استعمالا مع النهار في القرآن العزيز
وغيره؟
قلنا
: لأن المعهود
المألوف في كلام العرب عند ذكر البطش والإهلاك والوعيد والتهديد ذكر لفظ البيات
سواء قرن به النهار أو لا ، فلذلك لم يقل ليلا.
[٤٢٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ
مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) [يونس : ٥٠] أي ما
ذا يستعجلون منه ، وأول الآية للمواجهة؟
قلنا
: أراد بذكر
المجرمين الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأن من حقّ المجرم أن يخاف
التعذيب على إجرامه ويفزع من مجيئه ، وإن أبطأ فضلا عن أن يستعجله.
[٤٢٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] ولم
يقل فبذينك ، والمشار إليه اثنان الفضل والرحمة.
قلنا
: قد سبق مثل هذا
السؤال وجوابه في سورة البقرة في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].
[٤٢٥] فإن قيل : قوله تعالى : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [يونس : ٦٠] تهديد
؛ لأن فيه محذوفا تقديره : وما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم ، فكيف
يناسبه قوله تعالى بعده (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ٢٤٣]؟
قلنا
: هو مناسب لأن
معناه أن الله لذو فضل على الناس حيث أنعم عليهم بالعقل والوحي والهداية وتأخر
العذاب وفتح باب التوبة ، فكيف يفترون على الله الكذب مع توافر نعمه عليهم؟
[٤٢٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي
شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) [يونس : ٦١] فأفرد
ثم قال : (وَلا تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ) [يونس : ٦١] فجمع
، والخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم؟
قلنا
: قال ابن الأنباري
: إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أنّ الأمة داخلون مع النبي صلىاللهعليهوسلم في الفعلين الأولين. وقال غيره : المراد بالفعل الثالث
أيضا النبي صلىاللهعليهوسلم وحده ، وإنّما جمع تفخيما له وتعظيما كما في قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] على
قول ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وكما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١]
والمراد به النبي صلىاللهعليهوسلم ، كذا قاله ابن عباس والحسن وغيرهما ، واختاره ابن قتيبة
والزّجّاج.
[٤٢٧] فإن قيل : كيف قدم الأرض على السماء في قوله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ
مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [يونس : ٦١] وقدم
السماء على الأرض في قوله تعالى في سورة سبأ : (عالِمِ الْغَيْبِ لا
يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣]؟
قلنا
: حق السماء أن
تقدم على الأرض مطلقا لأنها أشرف ، لكنه كما ذكر هنا في صدر الآية شهادته على شئون
أهل الأرض وأقوالهم وأعمالهم ثم أردفه بقوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ) [يونس : ٦١] ناسب
ذلك تقديم الأرض على السماء.
الثاني
: أن العطف بالواو
نظير التثنية وحكمه حكمها ، فلا يعطى رتبة كالتثنية.
[٤٢٨] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (إِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] وقال
في موضع آخر [(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨]؟
قلنا
: أثبت الاشتراك في
نفس العزة التي هي في حقّ الله تعالى القدرة والغلبة ، وفي حق الرسول صلىاللهعليهوسلم علو كلمته وإظهار دينه ، وفي حقّ المؤمنين نصرهم على
أعدائهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] أراد
به العزة الكاملة التي يندرج فيها عزة الإلهية والخلق والإماتة والإحياء والبقاء
الدائم وما أشبه ذلك فلا تنافي.
[٤٢٩] فإن قيل : إذا كانت السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات
وما وراءهما كل ذلك لله تعالى ملكا وخلقا ، فما فائدة التخصيص في قوله تعالى : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ) [يونس : ٦٦]؟
قلنا
: إنما خص العقلاء
المميزين بالذكر وهم الملائكة والثقلان ، ليعلم أن هؤلاء إذا كانوا عبيدا له وهو
ربهم ، ولا يصلح أحد منهم للربوبية ولا للشركة معه ، فما وراءهم مما لا يعقل
كالأصنام والكواكب ونحوهما أحق أن لا تكون له ندا وشريكا.
[٤٣٠] فإن قيل : كيف قال لهم موسى عليهالسلام : (أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) [يونس : ٧٧] على
طريق الاستفهام ، وهم إنما قالوا ذلك على طريق الإخبار أو التحقيق المؤكد بإن
واللام لا على طريق الاستفهام ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٧٦].
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: أتقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين. ثم قال أسحر هذا إنكارا لما قالوه ،
فالاستفهام من قول موسى عليهالسلام لا مفعول لقولهم.
[٤٣١] فإن قيل : كيف نوّع الخطاب في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ
تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٨٧] فثنى
أولا ، ثم جمع ، ثم أفرد؟
قلنا
: خوطب أولا موسى
وهارون أن يتبوءا لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام ، ثم سبق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة
فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور ، ثم خص موسى عليهالسلام بالبشارة تعظيما لها أو تعظيما له عليهالسلام.
[٤٣٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُما) [يونس : ٨٩]
أضافها إليهما ، والدعوة إنما صدرت من موسى عليهالسلام ، قال الله تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا
إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) [يونس : ٨٨] إلى
آخر الآية؟
قلنا
: نقل أن موسى عليهالسلام كان يدعو وهارون كان يؤمن على دعائه ؛ والتأمين دعاء في
المعنى فلهذا أضاف الدعوة إليهما.
الثاني
: أنه يجوز أن يكون
هارون دعا أيضا مع موسى ، إلا أن الله تعالى خص موسى بالذكر ؛ لأنه كان أسبق
بالدّعوة أو أحرص عليها أو أكثر إخلاصا فيها.
[٤٣٣] فإنه قيل : لو كان كذلك لقال تعالى دعوتاكما بالتثنية؟
قلنا
: لما كانت الدعوة
مصدرا اكتفى بذكرها في موضع الإفراد والتثنية والجمع بصيغة واحدة كسائر المصادر ،
ونظيره قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧].
[٤٣٤] فإنه قيل : كيف قال تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤] وإن
إنما تدخل على ما هو محتمل الوجود ، وشك النبي صلىاللهعليهوسلم في القرآن منتف قطعا؟
قلنا
: الخطاب ليس للنبي
صلىاللهعليهوسلم بل لمن كان شاكّا في القرآن وفي نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فكأنه قال : «فإن كنت أيها الإنسان في شك».
[٤٣٥] فإن قيل : قوله تعالى : (مِمَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤] يدل
على أن الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم لا لغيره.
قلنا
: لا يدل ، قال
الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء : ١٧٤]
وقال تعالى : (يَحْذَرُ
الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة : ٦٤].
الثاني
: أن الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم والمراد غيره كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ
اللهَ
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١]
ويعضده قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء : ٩٤]
ويعضد هذا الوجه قوله تعالى بعده : (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) [يونس : ١٠٤].
الثالث
: أن تكون إن بمعنى
ما ، تقديره : فما كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل. المعنى لسنا نأمرك أن تسأل
أحبار اليهود والنصارى عن صدق كتابك ، لأنك في شك منه ، بل لتزداد بصيرة ويقينا
وطمأنينة.
الرابع
: أن الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم مع انتفاء الشك منه قطعا أو المراد به إلزام الحجة على
الشاكين الكافرين كما يقول لعيسى عليهالسلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦]
وهو عالم بانتفاء هذا القول منه لإلزام الحجة على النصارى.
[٤٣٦] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] ما
فائدة ذكر (جَمِيعاً) بعد قوله (كُلُّهُمْ) وهو يفيد الشمول والإحاطة؟
قلنا
: كل يفيد الشمول
والإحاطة ، ولا يدل على وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع. وجميعا يدل على وجوده
منهم في حالة واحدة ، كما تقول جاءني القوم جميعا ، أي مجتمعين ، ونظيره قوله
تعالى : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠].
[٤٣٧] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١] كيف
يصح هذا الأمر ؛ مع أنّا لا نعلم جميع ما فيهما ولا نراه؟
قلنا
: هو عام أريد ما
ندركه بالبصر مما فيهما ، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والمعادن
والحيوانات والنبات ونحو ذلك مما يدل على وجود الصانع وتوحيده وعظيم قدرته ،
فيستدل به على ما وراءه.
[٤٣٨] فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ) [الأنعام : ١٧]
الآية ما الحكمة في ذكر المس في الضر والإرادة في الخير؟
قلنا
: لاستعمال كل من
المس والإرادة في كل من الضر والخير ، وأنه لا مزيل لما يصيب به منهما ولا رادّ
لما يريده فيهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المس في أحدهما والإرادة في الآخر ليدل
بما ذكر على ما لم يذكر ؛ مع أنّه قد ذكر المس فيهما في سورة الأنعام. وإنما عدل
هنا عن لفظ المس المذكور في سورة الأنعام إلى لفظ الإرادة ، لأن الجزاء هنا قوله
تعالى : (فَلا رَادَّ
لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧]
والرد إنما يكون فيما لم يقع بعد ، والمس إنما يكون فيما وقع ، فلهذا قال ثم (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام : ١٧]
ومعناه فإن شاء أدام ذلك الخير ، وإن شاء أزاله ، فلا يطلب دوامه وزيادته إلا منه
تعالى.
سورة هود عليهالسلام
[٤٣٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٣] مع أن
التوبة مقدمة على الاستغفار؟
قلنا
: المراد استغفروا
ربكم من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة ، كذا قاله مقاتل. وهذا الاستغفار مقدّم على
هذه التّوبة.
الثاني
: أن فيه تقديما
وتأخيرا.
الثالث
: قال الفراء : ثم
هنا بمعنى الواو ، وهي لا تفيد ترتيبا فاندفع السؤال.
[٤٤٠] فإن قيل : من لم
يستغفر ولم يتب فإن الله يمتعه متاعا حسنا إلى أجله ، أي يرزقه ويوسع عليه كما قال
ابن عباس ، أو يعمره كما قال ابن قتيبة ، فما فائدة قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [هود : ٣]؟
قلنا
: قال غيرهما
المتاع الحسن المشروط بالاستغفار والتوبة هو الحياة في الطاعة والقناعة ، ومثل هذه
الحياة إنما تكون للمستغفر التائب التقي.
[٤٤١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ) [هود : ٦] كيف لم
يقل على الأرض ؛ مع أنه أشد مناسبة لتفسير الدابة لغة فإنها ما يدب على وجه الأرض؟
قلنا
: في هنا بمعنى على
، كما في قوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] وقوله
تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ
يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) [الطور : ٣٨].
الثاني
: أن لفظة «في» أعم
وأشمل ، لأنها تتناول كل دابة على وجه الأرض وكل دابة في باطن الأرض بخلاف على.
[٤٤٢] فإن قيل : كيف خص الدّابة بذكر ضمان الرزق ، والطير كذلك
رزقه على الله تعالى ، وهو غير الدّابة ، بدليل قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]؟
قلنا
: إنما خص الدابة
بالذكر ؛ لأنّ الدواب أكثر من الطيور عددا ، وفيها ما هو أكبر جثة من كل فرد من
أفراد الطير كالفيل والحوت ، فيكون أحوج إلى الرزق ، فلذلك خصه بالذكر.
[٤٤٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] وعلى
للوجوب ، والله
تعالى لا يجب عليه شيء وإنما يرزقها تفضلا منه وكرما.
قلنا
: على هنا بمعنى من
، كما في قوله تعالى : (إِذَا اكْتالُوا
عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) [المطففين : ٢].
الثاني
: أنه ذكره بصيغة
الوجوب ليحصل للعبد زيادة سكون وطمأنينة في حصوله.
[٤٤٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] والخطاب
عام للمؤمنين والكافرين ، فإنه امتحن الفريقين بالأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ،
وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى أحسن وأحسن ، فأما أعمال الفريقين فتفاوتها
إلى حسن وقبيح.
قلنا
: قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ) [هود : ٧] عام
أريد به الخاص وهو المؤمنون ؛ تشريفا لهم وتخصيصا ؛ فصح قوله أحسن عملا.
[٤٤٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَضائِقٌ بِهِ
صَدْرُكَ) [هود : ١٢] ولم
يقل وضيّق؟
قلنا
: ليدل على أن ضيقه
عارض غير ثابت ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان أفسح الناس صدرا ، ونظيره قولك : زيد سائد وجائد ،
فإذا أردت وصفه بالسيادة والجود الثابتين المستقرين قلت : زيد سيد وجواد ، كذا قال
الزمخشري.
[٤٤٦] فإن قيل : قال تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] أمرهم
بالإتيان بمثله وما يأتون به لا يكون مثله ، لأن ما يأتون به مفترى والقرآن ليس
بمفترى.
قلنا
: أراد به مثله في
البلاغة والفصاحة وإن كان مفترى. وقيل معناه : مفتريات ، كما أن القرآن مفترى في
زعمكم واعتقادكم فيتماثلان.
[٤٤٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا) [هود : ١٣] فأفرد
في قوله (قُلْ) ثم جمع فقال : (فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا) [هود : ١٤]؟
قلنا
: الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم في الكل ، ولكنه جمع في قوله : (لَكُمْ فَاعْلَمُوا) [هود : ١٤] تفخيما
له وتعظيما.
الثاني
: أن الخطاب الثاني
للنبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه كانوا يتحدونهم بالقرآن ، وقوله تعالى في موضع آخر
(فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ) [القصص : ٥٠] يعضد
الوجه الأول.
الثالث
: أن يكون الخطاب
في الثاني والثالث للمشركين ، والضمير في يستجيبوا لمن استطعتم ؛ يعني فإن لم
يستجب لكم من تدعونه المظاهرة على معارضته لعجزهم فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل
بعلم الله ، وهذا وجه لطيف.
[٤٤٨] فإن قيل : قوله تعالى : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا
فِيها) [هود : ١٦] يدل
على
بطلان عملهم ، فما
فائدة قوله بعده (وَبَطَلَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) [هود : ١٦]؟
قلنا
: المراد بقوله
تعالى : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا
فِيها) [هود : ١٦] أي بطل
ثواب ما صنعوا من الطاعات في الدنيا (وَبَطَلَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) [هود : ١٦] من
الرياء.
[٤٤٩] فإن قيل : كيف قال نوح عليهالسلام : (وَيا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) [هود : ٢٩] بالواو
وقال هود عليهالسلام : (يا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) [هود : ٥١] بغير
الواو؟
قلنا
: لأن الضمير في
قولهما عليه لتبليغ الرسالة المدلول عليه بأول الكلام في القصتين ، ولكن في قصة
نوح عليهالسلام وقع الفصل بين الضمير وبين ما هو عائد عليه بكلام آخر ،
فجيء بواو الابتداء. وفي قصة هود عليهالسلام لم يقع بينهما فصل فلم يحتج إلى واو الابتداء ، هذا ما وقع
لي فيه ، والله أعلم.
[٤٥٠] فإن قيل : قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] لا
يناسبه المستثنى في الظاهر وهو قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣] لأن
المرحوم معصوم ، فظاهره يقتضي لا معصوم إلا من رحم ، أي لا معصوم من الغرق
بالطوفان إلا من رحمة الله بالإنجاء في السفينة؟
قلنا
: عاصم هنا بمعنى
معصوم ، كقوله تعالى : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦]
مدفوق ، وقوله تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] ،
أي مرضية ، وقول العرب : سر كاتم ، أي مكتوم.
الثاني
: أن معناه : لا
عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، أي إلا الرّاحم وهو الله تعالى ، وليس معناه
المرحوم ، فكأنه قال : لا عاصم إلا الله.
الثالث
: أن معناه : لا
عاصم اليوم من أمر الله إلا مكان من رحم الله من المؤمنين
__________________
() فيه وجهان : أحدهما
، هو استثناء متصل و ()رحمهالله
:()رحمهالله
:
ونجاهم وهو
السفينة ، ويناسب هذا الوجه قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [هود : ٤١] وهذا
لأن ابن نوح عليهالسلام لما جعل الجبل عاصما من الماء رد نوح عليهالسلام ذلك ، ودله على العاصم وهو الله تعالى ، أو المكان الذي
أمر الله بالالتجاء إليه وهو السفينة.
[٤٥١] فإن قيل : كيف صح أمر السماء والأرض بقوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا
سَماءُ أَقْلِعِي) [هود : ٤٤] وهما
لا يعقلان ، والأمر والنهي إنما يكون لمن يعقل ويفهم الخطاب؟
قلنا
: الخطاب لهما في
الصورة ، والمراد به الخطاب للملائكة الموكلين بتدبيرهما.
الثاني
: أن هذا أمر إيجاب
لا أمر إيجاد ، وأمر الإيجاد لا يشترط فيه العقل والفهم ، لأن الأشياء كلها
بالنسبة إلى أمر الإيجاد مطيعة منقادة لله تعالى ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠]
وقوله تعالى : (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] كل
ذلك أمر إيجاد.
[٤٥٢] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقالَ رَبِ) [هود : ٤٥] بالفاء
، وقال في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام : (إِذْ نادى رَبَّهُ
نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِ) [مريم : ٣ ، ٤].
قلنا
: أراد بالنداء هنا
إرادة النداء فجاء بالفاء الدالة على السببية ، فإن إرادة النداء سبب للنداء ،
فكأنه قال : وأراد نوح نداء ربه فقال كيت وكيت ، وأراد به في قصة زكريا عليه
الصلاة والسلام حقيقة النداء ، فلهذا جاء بغير فاء لعدم ما يقتضي السببية.
[٤٥٣] فإن قيل : هود عليه الصلاة والسلام كان رسولا ولم يظهر
معجزة : ولهذا قال له قومه (يا هُودُ ما جِئْتَنا
بِبَيِّنَةٍ) [هود : ٥٣] فبأي
شيء لزمتهم رسالته؟
قلنا
: إنما يحتاج إلى
المعجزة من الرسل من يكون صاحب شريعة لتنقاد أمته لشريعته ، فإن في كل شريعة
أحكاما غير معقولة فيحتاج الرسول الآتي بها إلى معجزة لتشهد بصحة صدقه ، فأما الرسول
الذي لا تكون له شريعة ولا يأمر إلا بالعقليات فلا يحتاج إلى معجزة ؛ لأن الناس
ينقادون إلى ما يأمرهم به لموافقته للعقل ، وهود كان كذلك.
الثاني
: أنه نقل أن معجزة
هود كانت الريح الصرصر فإنها كانت سخرت له.
[٤٥٤] فإن قيل : على الوجه الأول لو كان أمره لهم مقصورا على
العقليات لما خالفوه وكذبوه ونسبوه إلى الجنون بقولهم : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [هود : ٥٣] إلى
قوله : (بِسُوءٍ) [هود : ٥٤].
قلنا
: إنما صدر ذلك
القول من قاصري العقول أو المعاندين المكابرين ، كما
قيل ذلك لكل رسول
، بعد إتيانه بالمعجزات الظاهرات والآيات الباهرات.
[٤٥٥] فإن قيل : هلا قال : إنّي أشهد الله وأشهدكم ، ليتناسب
الجملتان.
قلنا
: لأن إشهاد الله
تعالى على البراءة من الشرك إشهاد صحيح مفيد تأكيد التوحيد وشد معاقده ، وأما
إشهادهم فما هو إلا تهكم بهم وتهاون ودلالة على قلة المبالاة ؛ لأنهم ليسوا أهلا
للشهادة ، فعدل به عن اللفظ الأول وأتى به على صورة التهكم والتهاون ، كما يقول
الرجل لصاحبه إذا لاحاه : أشهد إني لأحبك ، تهكما به واستهانة له.
[٤٥٦] فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) [هود : ٥٧] ؛ جعل
التولي شرطا ، والإبلاغ جزاء ، والإبلاغ كان سابقا على التولي.
قلنا
: ليس الإبلاغ جزاء
التولي ، بل جزاؤه محذوف تقديره : فإن تولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ أو
تقصير فيه ، ودلّ على الجزاء المحذوف قوله : (لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ) [الأعراف : ٩٣].
الثاني
: قال مقاتل تقديره
: فإن تولوا فقل لهم قد أبلغتكم.
[٤٥٧] فإن قيل : ما فائدة تكرار التنجية في قوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨]؟
قلنا
: أراد بالتنجية
الأولى تنجيتهم من عذاب الدنيا الذي نزل بقوم هود ، وهو سموم أرسلها الله تعالى
عليهم فقطعتهم عضوا عضوا ، وأراد بالتنجية الثانية تنجيتهم من عذاب الآخرة الذي
استحقه قوم هود بالكفر ولا عذاب أغلظ منه ولا أشد.
[٤٥٨] فإن قيل : (بُعْداً) [هود : ٦٠] معناه
عند العرب الدعاء عليهم بالهلاك بعد هلاكهم.
قلنا
: معناه الدلالة
على أنهم مستأهلون له وحقيقون به ، ونقيضه قول الشاعر :
إخوتي لا تبعدوا
أبدا
|
|
وبلى والله قد
بعدوا
|
أراد بالدعاء لهم
بنفي الهلاك ، بعد هلاكهم ، الإعلام بأنهم لم يكونوا مستأهلين له ولا حقيقين به.
[٤٥٩] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤] نهى عن
النقص فيهما ، والنهي عن النقص أمر بالإيفاء معنى ، فما فائدة قوله تعالى بعد ذلك (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ
وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٥]؟
__________________
قلنا
: صرح أولا بنهيهم
عن النقص الذي كانوا يفعلونه لزيادة المبالغة في تقبيحه وتغييرهم إياه ، ثم صرح
بالأمر بالإيفاء بالعدل الذي هو حسن عقلا لزيادة الترغيب فيه والحث عليه.
[٤٦٠] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود : ٨٥] والعثو
الفساد ، فيصير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
قلنا
: قد سبق هذا
السؤال وجوابه في سورة البقرة. وجواب آخر معناه : ولا تعثوا في الأرض بالكفر ،
وأنتم مفسدون بنقص المكيال والميزان.
[٤٦١] فإن قيل : كيف قال : (بَقِيَّتُ اللهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [هود : ٨٦] فشرط الإيمان
في كون البقية خيرا لهم ، وهي خير لهم مطلقا ؛ لأن المراد ببقية الله ما يبقى لهم
من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن وذلك خير لهم وإن كانوا كفارا ؛ لأنهم يسلمون
معه من عقاب البخس والتطفيف؟
قلنا
: إنما شرط الإيمان
في خيرية البقية ؛ لأن خيريتها وفائدتها مع الإيمان أظهر ، وهو حصول الثواب مع
النجاة من العقاب ، ومع فقد الإيمان أخفى لانغماس صاحبها في عذاب الكفر الذي هو
أشد العذاب.
الثاني
: أن المراد إن
كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح.
[٤٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما قَوْمُ لُوطٍ
مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩] ولم
يقل ببعيدين والقوم اسم لجماعة الرجال ، وما جاء فى القرآن الضمير العائد إليه إلا
ضمير جماعة ، قال الله تعالى : (أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) [نوح : ١] وقال
تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ
مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) [الحجرات : ١١].
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: وما هلاك قوم لوط أو مكان قوم لوط ، ومكان قوم لوط كان قريبا منهم ، وإهلاكهم
أيضا كان قريبا من زمانهم.
الثاني
: أن فعيلا يستوي
فيه الواحد والاثنان والجمع ، قال الجوهري : يقال ما أنتم منا ببعيد ، وقال الله
تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] ،
وقال : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧].
[٤٦٣] فإن قيل : قولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ
لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١] كلام
واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ
اللهِ) [هود : ٩٢]؟
قلنا
: تهاونهم به وهو
نبي الله تهاون بالله ، فحين عز رهطه عليهم دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ، ألا
ترى إلى قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)
[النساء : ٨٠]
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].
[٤٦٤] فإن قيل : قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته ، ثم
أتبعه بذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ، فكان المطابق والموافق في ظاهر الفهم أن
يقول : من يأتيه عذاب يخزيه ؛ حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إليهم ، ومن هو صادق
إليه.
قلنا
: القياس ما ذكرت ،
ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال : ومن هو كاذب ، يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا
لهم.
[٤٦٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِذا أَخَذَ الْقُرى
وَهِيَ ظالِمَةٌ) [هود : ١٠٢] والقرى
لا تكون ظالمة ؛ لأن الظلم من صفات من يعقل أو من صفات الحيوان دون الجماد؟
قلنا
: هو من الإسناد
المجازي ، والمراد به أهلها ، كما قال تعالى ، في موضع آخر : (أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ
الظَّالِمِ أَهْلُها) [النساء : ٧٥] ؛
لكن لما أمن اللبس أسند الظلم إلى القرية لفظا كما في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].
[٤٦٦] فإن قيل : كيف التوفيق بين قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥] وقوله
: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١]
وقوله : (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ،
٣٦] فإن الآية الثالثة تناقض الآية الأولى بنفي الإذن ، وتناقض الآيتين جميعا بنفي
النطق!
قلنا
: أما التوفيق بين
الآيتين الأوليين فظاهر ؛ لأن معناه تجادل عن نفسها بإذنه فتوافقت الآيتان ، وأما
الآية الثالثة فإنها لا تناقض الآية الأولى بنفي الإذن ، إن قلنا إن الاستثناء من
النفي ليس بإثبات ؛ لأن الآية الأولى لا تقتضي وجود الإذن حينئذ ؛ بل تقتضي نفي
الكلام عند انتفاء الإذن ، فأما إن قلنا إن الاستثناء من النفي إثبات ناقضت الآية
الثالثة الأولى ، ولا تناقض الآيتين بنفي النطق ؛ لأن يوم القيامة يوم طويل فيه
مواقف ومواطن ؛ ففي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم فيه ، وفي بعضها يؤذن لهم
فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم ، وهذا جواب
عام عن مثل هذه الآيات ويرد على هذا أن يقال قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) [المرسلات : ٣٥]
نفي النطق عنهم يوم القيامة ، فيقتضي انتفاءه في جميع أجزاء ذلك الزمان عملا بعموم
النفي ، كما يعم النفي جميع أجزاء المكان في قولنا لا وجود لزيد في الدار ، فاندفع
الجواب باختلاف المواقف والمواطن ، فيكون الجواب أن الآية الثالثة أريد بها طائفة
خاصة غير الطائفتين الأوليين فلا تناقض.
[٤٦٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] وكلمة
من للتبعيض ، ومعلوم أن الناس كلهم إما شقي أو سعيد ، فما معنى التبعيض؟
قلنا
: التبعيض هنا على
حقيقته ؛ لأن أهل القيامة ثلاثة أقسام : قسم شقي وقسم سعيد وهم أهل النار والجنة
كما ذكر في هذه الآية مفصلا ، وقسم لا شقي ولا سعيد وهم أهل الأعراف.
الثاني
: أن معنى الكلام :
فمنهم شقي ومنهم سعيد ، وهذا يقتضي أن يكون الشقي بعض الناس والسعيد بعض الناس ،
والأمر كذلك ، ولا يقتضي أن يكون الشقي والسعيد كلاهما بعض الناس ؛ بل كل واحد
منهما بعض ، وكلاهما كل كما تقول من الحيوان إنسان ، ومن الحيوان غير إنسان ، وكل
الحيوان إما إنسان أو غير إنسان.
[٤٦٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] وأراد
به بيان دوام الخلود ، مع أن أهل الجنة وأهل النار مخلدون فيهما خلودا لا نهاية له
، والسموات والأرض ودوامهما منقطع لأنهما يوم القيامة ينهدمان ، قال الله تعالى : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا
دَكًّا) [الفجر : ٢١] وقال
تعالى : (إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١]
وقال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤]
ونظائره كثيرة مما يدل على خراب السموات والأرض؟
قلنا
: للعرب في معنى
الأبد ألفاظ تعبر بها عن إرادة الدوام دون التأقيت منها ، هذا ، يقولون : لا أفعل
كذا ما اختلف الليل والنهار ، وما دامت السماء والأرض ، وما أطمت الإبل ، ويريدون
بذلك لا أفعله أبدا مع قطع النظر عن كون المؤقت به له نهاية أولا نهاية له.
الثاني
: أنه خاطبهم على
معتقدهم أن السموات والأرض لا تزول ولا تتغير.
الثالث
: أنه أراد به كون
الفريقين في قبورهم إما منعمين أو معذبين ، كما جاء في الحديث أن «القبر إما روضة
من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». ومن كان في روضة من رياض الجنة فهو في الجنة
، ومن كان في حفرة من حفر النار فهو في النار ، فعلى هذا يكون المراد بالتأقيت
بدوام السموات والأرض مدة الخلود إلى يوم القيامة.
الرابع
: أن المراد بها
سماوات الآخرة وأرضها ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨]
وتلك دائمة لا تزول ولا تفنى ، ولأنه لا بد لأهل الجنة مما يقلهم ويظلهم ، إما
سماء يخلقها الله تعالى ، أو العرش ، كما جاء في الأخبار أن أهل الجنة تحت ظل
العرش ، وكل ما أظلك فهو سماء ، وجاء في الأخبار أيضا في صفة الجنة أن ترابها من
زعفران ، فدل أن لها أرضا ، والمراد تلك السموات وتلك الأرض.
[٤٦٩] فإن قيل : إذا كان المراد بهذا التأقيت دوام الخلود دواما
لا آخر له ،
فكيف يصح
الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) [هود : ١٠٧]؟
قلنا
: قال الفراء «إلا»
هنا بمعنى غير وسوى ، فمعناه : (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] سوى
ما شاء الله تعالى من الخلود والزيادة ؛ فكأنه قال : خالدين فيها قدر مدة الدنيا
غير ما شاء الله من الزيادة عليها إلى غير نهاية ، وهذا الوجه إنما يصح إذا كان
المراد سماوات الدنيا وأرضها. قال ابن قتيبة : ومثله في الكلام قولك : لأسكننك في
هذه الدّار حولا إلا ما شئت ، يريد سوى ما شئت أن أزيدك على الحول.
الثاني
: أنه استثناء لا
يفعله كما تقول : لأهجرنك إلا أن أرى غير ذلك ، وعزمك على هجرانه أبدا وهو معنى
قول ابن عباس رضي الله عنهما ، إلا ما شاء ربك وقد شاء أن يخلدوا فيها.
قال الزجاج :
وفائدة هذا الاستثناء إعلامنا أنه لو شاء أن لا يخلدهم لما خلدهم ، ولكنه ما شاء
إلا خلودهم.
الثالث
: أنه استثناء
لزمان البعث والحشر والوقوف للعرض والحساب ، فإن الأشقياء والسعداء في ذلك الزمان
كله ليسوا في النار ؛ ولا في الجنة.
الرابع
: أن «ما» بمعنى من
، والمستثنى من يدخل النار من الموحدين فيعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج من النار ويدخل
الجنة ، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من الأشقياء فقط.
الخامس
: أن المستثنى زمان
كون أهل الأعراف على الأعراف قبل دخولهم الجنة ، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من
السعداء ، لأنهم لم يدخلوا النار ؛ لأن مصيرهم إلى الخلود في الجنة.
السادس
: أنه استثناء من
الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة ، الأشقياء لا يخلدون في عذاب
النار بل يعذبون بالزمهرير وغيره من أنواع العذاب سوى النار وهو سخط الله عليهم
فإنه أشد ، وكذلك السعداء لهم سوى نعيم الجنة ما هو أجل منها ، وهو الزيادة التي
وعدهم الله تعالى إياها بقوله تعالى : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦]
ورضوان الله كما قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ
أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢]
وقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] فهو
المراد بالاستثناء ، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى ، بعد ذكر الاستثناء : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] وقوله
تعالى بعد ذكر السعداء : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٧] ،
يعني أنه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب ، ويعطي أهل الجنة أنواع العطاء
الذي لا انقطاع له ، فاختلاف المقطعين يؤكد صرف الاستثناء إلى ما ذكرنا ، فتأمل
كيف يفسر القرآن بعضه بعضا.
[٤٧٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود : ١٠٩] بعد
قوله :
(وَإِنَّا
لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [هود : ١٠٩]
والتوفية والإيفاء إعطاء الشيء وافيا ، أي تاما ، نقله الجوهري وغيره ، والتام لا
يكون منقوصا؟
قلنا
: هو من باب
التأكيد.
[٤٧١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] إشارة
إلى ما ذا؟
قلنا
: هو إشارة إلى ما
عليه الفريقان من حالي الاختلاف والرحمة ، فمعناه أنه خلق أهل الاختلاف للاختلاف
وأهل الرحمة للرحمة ، وقد فسره ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما ، فقال : خلقهم
فريقين : فريقا رحمهم فلم يختلفوا ، وفريقا لم يرحمهم فاختلفوا.
وقيل : هو إشارة إلى معنى الرحمة وهو الترحم ، وعلى هذا يكون
الضمير في خلقهم للذين رحمهم فلم يختلفوا.
وقيل : هو إشارة إلى الاختلاف والضمير في خلقهم للمختلفين ،
واللام على الوجه الأول والثالث لام العاقبة والصيرورة لا لام كي وهي التي تسمى
لام الغرض والمقصود ؛ لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة ، ونظير هذه
اللّام قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وقول
الشاعر :
لدوا للموت وابنوا
للخراب
|
|
فكلّكم يصير إلى
التّراب
|
وقيل : إنها لام التمكين والاقتدار كما في قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا
فِيهِ) [يونس : ٦٧] وقوله
تعالى : (وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨]
والتمكن والاقتدار حاصل وإن لم يسكن بعض الناس في الليل ولم يركب بعض هذه الدواب ،
ومعنى التمكين والاقتدار هنا أنه سبحانه وتعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف
ومكنهم منه.
وقيل : اللام هنا بمعنى على ، كما في قوله تعالى : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣]
وقوله تعالى : (يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) [الإسراء : ١٠٧].
[٤٧٢] فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْباءِ الرُّسُلِ) [هود : ١٢٠] وقوله
تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤]؟
قلنا
: معناه وكل نبأ
نقصه عليك من أنباء الرسل هو ما نثبت به فؤادك فما في موضع رفع خبر لمبتدإ محذوف ،
فلا يقتضي اللفظ قص أنباء جميع الأنبياء ، فلا تناقض بين الآيتين.
__________________
الثاني
: أن المراد بالكل
هنا البعض ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى
كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) [البقرة : ٢٦٠]
وقوله تعالى : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ
مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [يونس : ٢٢] وقوله
تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣]
وقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣]
وقول لبيد الشاعر :
ألا كلّ شيء ما
خلا الله باطل
|
|
وكلّ نعيم لا
محالة زائل
|
وكثير من الأشياء
غير الله تعالى حقّ ، كالنبي عليه الصلاة والسلام والإيمان والجنة وغير ذلك ،
وكذلك نعيم الجنة والآخرة ليس بزائل ، ولبيد صادق في هذا البيت لقوله صلىاللهعليهوسلم : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
إلى آخره.
[٤٧٣] فإن قيل : ما فائدة تخصيص هذه السورة بقوله تعالى : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) [هود : ١٢٠] مع
أنّ الحق جاء في كل سور القرآن؟
قلنا
: قالوا فائدة
تخصيص هذه السورة بذلك زيادة تشريفها وتفصيلها مع مشاركة غيرها إياها في ذلك كما
في قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ) [الجن : ١٨] وقوله
تعالى : (وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] بعد
قوله : (وَمَلائِكَتِهِ) [البقرة : ٩٨]
وقوله تعالى : (وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨]
بعد قوله : (الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨]
ووجه المشابهة بينهما أنه حمل قوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] على
التشريف والتفضيل عند تعذر حمله على تعليق العداوة به لئلّا يلزم تحصيل الحاصل ،
وكذا في المثال الأخير تعذر حمله على إيجاب المحافظة لما قلنا ، وهنا تعذر حمله
على حقيقته وهو الجنس بأن حقيقته انحصار كل حقّ في هذه السورة وهو منتف ، أو حمل
الحق على معهود سابق وهو منتف ، وحمله على بعض الحق يلزم منه وصف هذه السورة بوصف
مشترك بينها وبين كل السور ، وأنه لا يحسن كما لو قال : وجاءك في هذه الحق آيات
الله أو كلام الله أو كلام معجز ، فجعل مجازا عن التفضيل والتشريف.
وقيل : الإشارة بهذه إلى الدنيا لا إلى السورة ، والجمهور على
القول الأول.
ولا يقال إنما خصت
هذه السورة بذلك ؛ لأن فيها الأمر بالاستقامة بقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ
مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود : ١١٢]
والاستقامة من أعلى المقامات عند العارفين ، لأنا نقول الأمر بالاستقامة جاء أيضا
في سورة حمعسق قال الله تعالى (وَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [الشورى : ١٥] ولا
يصلح هذا علة للتخصيص ، والله أعلم.
سورة يوسف عليهالسلام
[٤٧٤] فإن قيل : كيف قال : (إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [يوسف : ٤] ولم
يقل ثلاثة عشر كوكبا وهو أوجز وأخصر ، والذي رآه كان أحد عشر كوكبا غير الشمس
والقمر؟
قلنا
: قصد عطفهما على
الكواكب تخصيصا لهما بالذكر وتفضيلا لهما على سائر الكواكب لما لهما من المزية
والرتبة على الكل ، ونظيره تأخير جبريل وميكائيل عن الملائكة عليهمالسلام ثم عطفهما عليهم ، إن قلنا إنهما غير مرادين بلفظ الملائكة
، وكذا قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] إن
قلنا إنّها غير مرادة بلفظ الصلوات.
[٤٧٥] فإن قيل : ما فائدة تكرار رأيت؟
قلنا
: قال الزمخشري :
ليس ذلك تكرارا ؛ بل هو كلام مستأنف وضع جوابا لسؤال مقدر من يعقوب عليهالسلام ، كأنه قال له بعد قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [يوسف : ٤] كيف
رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال مجيبا له (رَأَيْتُهُمْ لِي
ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] وقال الزّجاج
: إنّما كرر الفعل تأكيدا لما طال الكلام كما في قوله تعالى : (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) [الأعراف : ٤٥]
وقال غيره ، إنما كرره تفخيما للرؤية وتعظيما لها.
[٤٧٦] فإن قيل : كيف أجريت مجرى العقلاء في قوله : (رَأَيْتُهُمْ) ، وفي قوله : (ساجِدِينَ) ، وأصله رأيتها ساجدة؟
قلنا
: لما وصفها بما هو
من صفات من يعقل وهو السجود أجرى عليها حكمه كأنها عاقلة ، وهذا شائع في كلامهم أن
يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه فيعطى حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة
المقارنة ، ونظيره قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا) [النمل : ١٨]
وقوله تعالى ، في وصف السماء والأرض : (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) [فصلت : ١١].
[٤٧٧] فإن قيل : كيف قال : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) [يوسف : ١٢]
وكانوا عاقلين بالغين وأنبياء أيضا في قول البعض ، وكيف رضي يعقوب عليهالسلام لهم بذلك؟
قلنا
: على قراءة الياء
لا إشكال ، لأن يوسف عليهالسلام كان يومئذ دون البلوغ فلا يحرم عليه اللعب ، وعلى قراءة
النون نقول كان لعبهم المسابقة والمناضلة ليعودوا أنفسهم الشجاعة لقتال الأعداء لا
للهو وذلك جائز بالشرع ، ويعضد هذا قولهم (إِنَّا ذَهَبْنا
نَسْتَبِقُ) [يوسف : ١٧] وإنما
سمّوه لعبا لأنه في صورة اللّعب. ويرد على أصل السؤال أن يقال : كيف يتورعون عن
اللعب وهم قد فعلوا ما هو أعظم حرمة من اللعب وأشد وهو إلقاء أخيهم في الجب على
قصد القتل.
[٤٧٨] فإن قيل : كيف اعتذر إليهم يعقوب عليهالسلام بعذرين أحدهما
: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا
بِهِ) [يوسف : ١٣] لأنه
كان لا يصبر عنه ساعة واحدة ، والثاني
: خوفه عليه من
الذنب ، فأجابوه عن أحد العذرين دون الآخر؟
قلنا
: حبه إياه وإيثاره
له وعدم صبره على مفارقته هو الذي كان يغيظهم ويؤلمهم فأضربوا عنه صفحا ولم يجيبوا
عنه.
[٤٧٩] فإن قيل : كيف قال : (وَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ) [يوسف : ١٥] وهو
يومئذ لم يكن بالغا ، والوحي إنما يكون بعد الأربعين؟
قلنا
: المراد به وحي
الإلهام لا وحي الرسالة الذي هو مخصوص بما بعد الأربعين ؛ ونظيره قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ
أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] وقوله
تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨].
[٤٨٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف : ٢٢] ،
وقال في حقّ موسى عليهالسلام : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [القصص : ١٤].
قلنا
: المراد ببلوغ
الأشد دون الأربعين سنة على اختلاف مقداره ، والمراد بالاستواء بلوغ الأربعين أو
الستين ، وكان إيتاء كل واحد منهما الحكم والعلم في ذلك الزمان فأخبر عنه كما وقع.
[٤٨١] فإن قيل : كيف وحد الباب في قوله (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) [يوسف : ٢٥] بعد
جمعه في قوله : (وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوابَ) [يوسف : ٢٣].
قلنا
: لأن إغلاق الباب
للاحتياط لا يتم إلا بإغلاق جميع أبواب الدار ، سواء كانت كلها في جدار الدار أو
لا ؛ وأما هربه منها إلى الباب فلا يكون إلا إلى باب واحد إن كانت كلها في جدار
الدار ، ولأن خروجه في وقت هربه لا يتصور إلا من باب واحد منها ، وإن كان بعض
الأبواب داخل بعض فإنه أول ما يقصد الباب الأدنى لقربه ، ولأن الخروج من الباب
الأوسط والباب الأقصى موقوف على الخروج من الباب الأدنى فلذلك وحد الباب.
[٤٨٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
أَهْلِها) [يوسف : ٢٦] ولم
يكن قوله شهادة؟
قلنا
: لما أدى معنى
الشهادة في ثبوت قول يوسف عليهالسلام وبطلان قولها سمي شهادة ، فالمراد بقوله شهد : أعلم وبيّن
وحكم.
[٤٨٣] فإن قيل : (قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ) [يوسف : ٢٨] يدل
على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته وجذبت قميصه من خلفه فقدّته ، وأما قدّه من
قبل فكيف يدل على أنها صادقة؟
قلنا
: يدل من وجهين :
أحدهما
: أنه إذا كان
طالبها وهي تدفعه عن نفسها بيدها أو برجلها فإنها تقد قميصه من قبل بالدفع.
الثاني
: أنه يسرع خلفها
وهي هاربة منه فيعثر في مقادم قميصه فيشقه. ويرد على الوجه الثاني أنه مشترك
الدلالة من جهة العثار الذي هو نتيجة الإسراع ؛ لأنه يحتمل أن يكون إسراعا في
الهرب منها وهي خلفه فيعثر فينقد قميصه من قبل.
[٤٨٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَ) [يوسف : ٣١] ،
وإنما يقال خرجت إلى السوق وطرقت عليه الباب فخرج إلي؟
قلنا
: إذا كان الخروج
بقهر وغلبة أو بجمال وزينة أو بآية وأمر عظيم فإنما يعدّى بعلى ، ومنه قولهم خرج
علينا في السفر قطّاع الطريق ، وقوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص : ٧٩]
وقوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) [مريم : ١١].
[٤٨٥] فإن قيل : كيف شبهن يوسف عليهالسلام بالملك فقلن : (ما هذا بَشَراً إِنْ
هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١] وهن
ما رأين الملائكة قط؟
قلنا
: إن كن ما رأين
الملائكة فقد سمعن وصفها.
الثاني
: أن الله تعالى قد
ركز في الطباع حسن الملائكة كما ركز فيها قبح الشيطان ، ولذلك يشبه كل متناه في
الحسن بالملك ، وكل متناه في القبح بالشيطان.
[٤٨٦] فإن قيل : كيف قال يوسف عليهالسلام : (إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [يوسف : ٣٧] وترك
الشيء إنما يكون بعد ملابسته والكون فيه ، يقال ترك فلان شرب الخمر وأكل الربا
ونحو ذلك إذا كان فيه ثم أقلع عنه ، ويوسف عليهالسلام لم يكن على ملة الكفار قط؟
قلنا
: الترك نوعان :
ترك بعد الملابسة ويسمى ترك انتقال ، وترك قبل الملابسة ويسمى ترك إعراض كقوله
تعالى في قصة موسى عليهالسلام : (وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧]
وموسى عليهالسلام ما لابس عبادة فرعون ولا عبادة آلهته في وقت
من الأوقات وما
نحن فيه من النوع الثاني ، وسيأتي نظير هذا السؤال في سورة إبراهيم عليهالسلام في قوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨].
[٤٨٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَمَرَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠] فسر
الأمر بالنهي أو بما جزؤه النهي وهما ضدان؟
قلنا
: فيه إضمار أمر
آخر تقديره أمر أمرا اقتضى أن لا تعبدوا إلا إياه وهو قوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦]
فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر كما قال في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].
الثاني
: أن فيه إضمار نهي
تقديره : أمر ونهي ، ثم فسر الأمرين بقوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠].
الثالث
: أن قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا) [يوسف : ٤٠] وإن
كان مضادا للأمر من حيث اللفظ فهو موافق له من حيث المعنى ، فلم قلتم إن تفسير
الشيء بما يضاده صورة ، ويوافقه معنى غير جائز. وبيان موافقته معنى من وجهين :
أحدهما
: أن النهي عن
الشيء أمر بضده ، وعبادة الله ضد عبادة غير الله.
الثاني
: أن معنى مجموع
قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠]
اعبدوه وحده فيكون تفسيرا للأمر المطلق بفرد من أفراده وأنه جائز.
[٤٨٨] فإن قيل : الأنبياء عليهمالسلام أعظم الناس زهدا في الدّنيا ورغبة في الآخرة ، فكيف قال
يوسف ، عليهالسلام : (اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ) [يوسف : ٥٥] ؛ طلب
أن يكون معتمدا على الخزائن متوليا لها وهو من أكبر مناصب الدنيا؟
قلنا
: إنما طلب ذلك
ليتوصل به إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل ونحوه مما يبعث له
الأنبياء ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء لوجه
الله تعالى وسعيا لمنافع العباد ومصالحهم لهم لا لحب الملك والدنيا ، ونظيره قوله
تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) [الأعراف : ١٨٨]
يعني لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط لادّخرت لزمن القحط طعاما كثيرا ، لا للحرص ؛
لكن لأتمكن من إعانة الضعفاء والفقراء وقت الضرورة والمضايقة ، ويحتمل أن يكون علم
تعينه بذلك العمل فكان طلبه واجبا عليه.
[٤٨٩] فإن قيل : كيف جاز ليوسف عليهالسلام ، أن يأمر المؤذّن أن يقول : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ
إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧٠] وذلك
بهتان وتسريق بالصّواع لمن لم يسرقه ، وتكذيب للبريء واتهام من لم يسرق بأنه سرق؟
قلنا قوله : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) تورية عما جرى منهم مجرى السرقة ، وتصور بصورتها ، من
فعلهم بيوسف ما فعلوه أولا.
الثاني
: أن ذلك القول كان
من المؤذن بغير أمر يوسف عليهالسلام ، كذا قاله بعض المفسرين.
الثالث
: أن حكم هذا الكيد
حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية ، كقوله تعالى لأيوب عليهالسلام : (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] وقول
إبراهيم ، عليهالسلام ، في حق زوجته هي أختي لتسلم من يد الكافر ، وما أشبه ذلك.
[٤٩٠] فإن قيل : كيف تأسف يعقوب عليهالسلام على يوسف دون أخيه بقوله : (يا أَسَفى عَلى
يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤]
والرزء الأحدث أشد على النفس وأعظم أثرا؟
قلنا
: إنما يكون أشد
إذا تساوت المصيبتان في العظم ولم يتساويا هنا ، بل فقد يوسف كان أعظم عليه وأشد
من فقد أخيه ، فإنما خصه بالذكر ليدل على أن الرزء فيه مع تقادم عهده ما زال غضا
طريا.
[٤٩١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَابْيَضَّتْ
عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) [يوسف : ٨٤]
والحزن لا يحدث بياض العين لا طبا ولا عرفا؟
قلنا
: قال ابن عباس ،
أي من البكاء ؛ لأن الحزن سبب البكاء ، فأطلق اسم السبب وأراد به المسبب. وكثرة
البكاء قد تحدث بياضا في العين يغشى السواد ، وهكذا حدث ليعقوب عليهالسلام.
وقيل : إذا كثرت الدموع محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر.
[٤٩٢] فإن قيل : كيف قال يعقوب عليهالسلام : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] مع أن
من المؤمنين من ييأس من روح الله ، أي من فرجه وتنفيسه أو من رحمته ، على اختلاف
القولين ؛ إما لشدة مصيبته أو لكثرة ذنوبه ، كما جاء في الحديث في قصة الذي أمر
أهله إذا مات أن يحرقوه ويذروا رماده في البر والبحر ففعلوا به ذلك ، ثم إن الله
غفر له كما جاء مشروحا في الحديث المشهور ، وهو من الصحاح ؛ مع أنه يئس من رحمة
الله تعالى ، وضم إلى يأسه ذنبا آخر وهو اعتقاده أنه إذا أحرق وذري رماده لا يقدر
الله على إحيائه وتعذيبه ، ومع هذا كله يغفر له ، فدلّ على أنه لم يمت كافرا؟
قلنا
: إنما ييأس من روح
الله الكافر لا المسلم عملا بظاهر الآية ، وكل مؤمن يتحقق منه اليأس من روح الله
فهو كافر في الحال حتى يعود إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح الله ، وأما الرّجل
المغفور له في الحديث فلا نسلم أنه لم يكفر ، ثم إن الله تعالى لما أحياه في
الدنيا عاد إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح الله تعالى فلذلك غفر له ، وقد يكون قد
عاد إلى رجاء روح الله تعالى قبل موتته الأولى ، ولم يتسع له الزمان
أن يرجع عن وصيته
التي أوصى بها أهله ؛ فمات مسلما ، فلذلك غفر له.
[٤٩٣] فإن قيل : في قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] كيف
جاز لهم أن يسجدوا لغير الله تعالى؟
قلنا
: لعله كان السجود
عندهم تحية وتكرمة كالقيام والمصافحة عندنا. وقيل
: كان انحناء
كالركوع ولم يكن بوضع الجبهة على الأرض ، إلا أن قوله تعالى : (وَخَرُّوا) يأبى ذلك ، لأن الخرور عبارة عن السقوط ، ولا يرد عليه
قوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً) [ص : ٢٤] لأنهم
قالوا أراد به ساجدا فعبر عن السجود بالركوع كما عبر عن الصلاة في قوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣] أي
صلوا مع المصلين.
وقيل له : أي
لأجله ، فاللام للسببية لا لتعدية السجود إلى يوسف عليهالسلام ، فالمعنى وخروا لأجل يوسف سجدا لله تعالى شكرا على جمع
شملهم به. وقيل : الضمير في له يعود إلى الله تعالى ، وهذا الوجه يدفعه قوله
تعالى : (يا أَبَتِ هذا
تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠].
[٤٩٤] فإن قيل : كيف ذكر يوسف عليهالسلام نعمة الله تعالى عليه في إخراجه من السجن فقال : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ) [يوسف : ١٠٠] ولم
يذكر نعمته عليه في إخراجه من الجب وهو أعظم نعمة ؛ لأن وقوعه في الجب كان أعظم
خطرا؟
قلنا
: إنما ذكر هذه
النعمة دون تلك النعمة لوجوه :
أحدهما
: أن محنة السجن
ومصيبته كانت أعظم لطول مدتها ، فإنه لبث فيه بضع سنين وما لبث في الجب إلا مدة
يسيرة.
الثاني
: أنه إنما لم يذكر
الجب كيلا يكون في ذكره توبيخ وتقريع لإخوته عند قوله لهم : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف : ٩٢].
الثالث
: أن خروجه من
السجن كان مقدمة لملكه وعزه فلذلك ذكره ، وخروجه من الجب كان مقدمة الذل والرق
والأسر فلذلك لم يذكره.
الرابع
: أن مصيبة السجن
كانت أعظم عنده لمصاحبة الأوباش والأراذل وأعداء الدين ، بخلاف مصيبة الجب فإنه
كان مؤنسه فيه جبريل وغيره من الملائكة عليهمالسلام.
[٤٩٥] فإن قيل : كيف قال يوسف : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) [يوسف : ١٠١] وهو
يعلم أنّ كلّ نبي لا يموت إلّا مسلما؟
قلنا
: يجوز أن يكون دعا
بذلك في حالة غلبة الخوف عليه غلبة أذهلته عن ذلك العلم في تلك الساعة.
الثاني
: أنه دعا بذلك مع
علمه إظهارا للعبودية والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة وتعليما للأمة
وطلبا للثواب.
[٤٩٦] فإن قلنا : كيف يجتمع الإيمان والشرك وهما ضدان ؛ حتّى قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦]؟
قلنا
: معناه وما يؤمن
أكثرهم بأن الله تعالى خالقه ورازقه وخالق السموات والأرض قولا إلا وهو مشرك
بعبادة الأصنام فعلا.
الثاني
: أن المراد بها
المنافقون يؤمنون بألسنتهم قولا ويشركون بقلوبهم اعتقادا.
الثالث
: أن المراد بها
تلبية العرب ، كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ؛
فكانوا يؤمنون بأول تلبيتهم بنفي الشريك ، ويشركون بآخرها بإثباته.
[٤٩٧] فإن قيل : هذه التلبية توحيد كلها ولا شرك فيها ؛ لأن معنى
قولهم إلّا شريكا هو لك : إلا شريكا هو مملوك لك موصوفا بأنك تملكه وتملك ما ملك ،
واللام هنا للملك لا لعلاقة الشركة ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون حقيقيا ويحتمل
أن يكون مجازيا ، بيان الأول أنا إن قلنا إن اللام حقيقة في المعنى العام في
مواردها وهو الاختصاص يكون قولهم : لا شريك لك ، عاما في نفي كل شريك يضاف إلى
الله تعالى بجهة اختصاص ما ، فيدخل في النفي من جهة لفظ الشريك المضاف بجهة المملوكية
، وهو شريك زيد وعمرو ونحوهما ثم يقطع عليه الاستثناء فيكون استثناء حقيقيا ، وإن
قلنا إنها مشتركة بين المعاني الثلاثة الموجودة في موارد استعمالها وهي الملك
والاستحقاق ، ويقال الاختصاص والعلية ، فقولهم : لا شريك لك يكون عاما أيضا عند من
يجوز حمل المشترك على مفهومه في حالة واحدة فيكون الاستثناء أيضا حقيقيا كما مر ،
وأما على قول من لا يجوّز ذلك يكون النفي واردا على أحد مفهوماته وهو علاقة الشركة
، فيكون الاستثناء بعده مجازيا ، من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو نوع من
أنواع البلاغة مذكور في علم البيان ، وشاهده قول الشاعر :
ولا عيب فيهم
غير أنّ سيوفهم
|
|
بهنّ فلول من
قراع الكتائب
|
معناه : إن كان
هذا عيبا ففيهم عيب ، وهذا ليس بعيب فلا يكون فيهم عيب ، فكذا هنا ، معناه : إن
كان الشريك المملوك لك يصلح شريكا فلك شريك ، وهو لا يصلح شريكا لك ، فلا يكون لك
شريك ؛ لأنّ كل ما يدّعى أنه شريك لك فهو مملوك
__________________
لك ، وهذا المعنى
هو المراد بقوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم : ٢٨]
الآية.
قلنا
: على الوجه الأول
إنه ليس بصحيح ؛ لأنه لو جعلنا اللام حقيقة في المعنى العام وهو الاختصاص يلزم منه
الكفر حيث وجد نفي الشريك من غير استثناء ، لأنه يلزم منه نفي ملكه تعالى شريك زيد
وعمرو ونحوهما وهو كفر ، واللازم منتف ؛ لأنه إيمان محض بلا خلاف.
[٤٩٨] فإن قيل : إنما لم يكن كفرا مع عمومه ؛ لأنّ الحقيقة
العرفية عند عدم الاستثناء نفي كل شريك يضاف إلى الله تعالى بعلاقة الشريك ، لا
نفي كل شريك يضاف إليه بجهة ما فصارت الحقيقة اللغوية مهجورة بالحقيقة العرفية عند
عدم الاستثناء. والجواب عن أصل السؤال أنه سؤال حسن محقق ، وأن هذه التلبية توحيد
محض على التقديرين ، فإن صح النقل أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عنها ، فإنما
نهى عنها لأنها توهم إثبات الشريك لمقتضى الاستثناء عند قاصري النظر وهم عوام
الناس ، فلهذه المفسدة نهى عنها.
سورة الرعد
[٤٩٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] ولم
يقل ومن هو سارب بالنهار ، ليتناول معنى الاستواء المستخفي والسارب ، وإلا فقد
تناول واحدا هو مستخف وسارب ، أي ظاهر ، وليتناسب لفظ الجملة الأولى والثانية ،
فإنه قال في الجملة الأولى
: (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ
بِهِ) [الرعد : ١٠]؟
قلنا
: قوله تعالى : (وَسارِبٌ) معطوف على «من» لا على مستخف ، فيتناول معنى الاستواء
اثنين.
الثاني
: أنه وإن كان
معطوفا على مستخف إلا أن من هنا في معنى التثنية كقوله :
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فكأنه قال سواء
منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار.
[٥٠٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [الرعد : ١٤] أي
في ضياع وبطلان ، والكفار يدعون الله تعالى في وقت الشدائد والأهوال ومشارفتهم
الغرق في البحر فيستجيب لهم؟
قلنا
: المراد : وما
عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال ، ويعضده قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) [الرعد : ١٤] أي
يعبدون.
[٥٠١] فإن قيل : كيف طابق قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد : ٢٧] قوله
: (قُلْ إِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) [الرعد : ٢٧]؟
قلنا
: هو كلام جرى مجرى
التعجب من قولهم ؛ لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله عليه
الصلاة والسلام لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية
__________________
وراء كل آية ،
فإذا جحدوا آياته ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأنّ آية لم تنزل عليه قط كان موضعا
يتعجب منه ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم.
[٥٠٢] فإن قيل : كيف المطابقة بين قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ
بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣]
وقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ) [الرعد : ٣٣].
قلنا
: فيه محذوف تقديره
: أفمن هو رقيب على كل نفس صالحة وطالحة يعلم ما كسبت من خير وشر ، ويعد لكل جزاء
كمن ليس كذلك وهو الصنم ، ثم ابتدأ فقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ) [الرعد : ٣٣] ، أو
تقديره : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء ، أو التقدير : أفمن كان
بهذه الصفة يغفل عن أهل مكة وأقوالهم وأفعالهم وجعلوا لله شركاء.
[٥٠٣] فإن قيل : كيف اتصل قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ) [الرعد : ٣٦] بما
قبله وهو قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَحْزابِ
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [الرعد : ٣٦]؟
قلنا
: هو جواب للمنكرين
معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به ، فإنكارهم لبعضه
إنكار لعبادة الله تعالى وتوحيده ، كذا أجاب به الزمخشري ، وفيه نظر.
[٥٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الرعد : ٤٢] أثبت
لهم مكرا ثم نفاه عنهم بقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ
جَمِيعاً) [الرعد : ٤٢]؟
قلنا
: معناه أن مكر
الماكرين مخلوق له ولا يصير إلا بإرادته ، فبهذه الجهة صحة إضافة مكرهم إليه.
الثاني
: أنه جعل مكرهم
كلا مكر ، بالإضافة إلى مكره ؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون ، فيعكس مكرهم عليهم.
فإثباته لهم باعتبار الكسب ، ونفيه عنهم باعتبار الخلق.
سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
[٥٠٥] فإن قيل : كيف قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤] هذا
في حق غير النبيّ عليه الصلاة والسلام من الرسل مناسب ؛ لأن غيره لم يبعث إلى
الناس كافة ، بل إلى قومه فقط ، فأرسل بلسانهم ليفقهوا عنه الرسالة ولا تبقى لهم
حجة بأنا لم نفهم رسالتك ، فأما النبيّ عليه الصلاة والسلام فإنه بعث إلى الناس
كافة ، قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ) [سبأ : ٢٨]
فإرساله بلسان قومه إن كان لقطع حجة العرب ، فالحجة باقية لغيرهم من أهل الألسن
الباقية ، وإن لم يكن لغير العرب حجة أن لو نزل القرآن بلسان غير العرب يكن للعرب
الحجة.
قلنا
: نزوله على النبيّ
عليه الصلاة والسلام بلسان واحد كاف ؛ لأن الترجمة لأهل بقية الألسن تغني عن نزوله
لجميع الألسن ، ويكفي مئونة التطويل كما جرى في القرآن العزيز.
الثاني
: أن نزوله بلسان
واحد أبعد عن التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والخلاف.
الثالث
: أنه لو نزل
بألسنة كل الناس وكان معجزا في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها
، كما كلم أمته التي هو منها لكان ذلك أمرا قريبا من القسر والإلجاء ، وبعثة الرسل
لم تبن على القسر والإلجاء ؛ بل على التمكين من الاختيار ، فلما كان نزوله بلسان
واحد كافيا كان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه وأفهم عنه.
[٥٠٦] فإن قيل : (يُذَبِّحُونَ) [البقرة : ٤٩] وفي
سورة الأعراف : (يُقَتِّلُونَ) [الأعراف : ١٤١]
بغير واو فيهما ، وقال هنا (وَيُذَبِّحُونَ) [إبراهيم : ٦]
بالواو والقصة واحدة؟
قلنا
: حيث حذف الواو
وجعل التذبيح والتقتيل تفسيرا للعذاب ، وبيانا له ، وحيث أثبتها جعل التذبيح كأنه
جنس آخر غير العذاب ؛ لأنه أوفى على بقية أنواعه وزاد عليها زيادة ظاهرة ، فعلى
هذا يكون إثبات الواو أبلغ.
[٥٠٧] فإن قيل : ما معنى التبعيض في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [إبراهيم : ١٠]؟
قلنا
: ما جاء هذا إلا
في خطاب الكافرين كقوله تعالى في سورة نوح عليهالسلام : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٤] وقوله
تعالى ، في سورة الأحقاف : (يا قَوْمَنا
أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف : ٣١]
وقال تعالى في خطاب المؤمنين في سورة الصف : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) [الصف : ١٠] إلى
قوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) [الصف : ١٢] وقال
تعالى ، في آخر سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الأحزاب : ٧٠ ،
٧١] ، وكذا باقي الآيات في خطاب الفريقين إذا تتبعتها ، وما ذلك إلا للتفرقة بين
الخطابين لئلا يسوى بين الفريقين في الوعد مع اختلاف رتبتهما ، لا لأنه يغفر
للكفار مع بقائهم على الكفر بعض ذنوبهم ، والذي يؤيد ما ذكرناه من العلة أنه في
سورة نوح عليهالسلام وفي سورة الأحقاف وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان
مطلقا. وقيل : معنى التبعيض أنه يغفر لهم ما بينهم وبينه لا ما بينهم
وبين العباد من المظالم ونحوها.
وقيل : «من» زائدة.
[٥٠٨] فإن قيل : كيف كرر تعالى الأمر بالتوكل وكيف قال أوّلا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) [إبراهيم : ١١]
وقال ثانيا : (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم : ١٢]؟
قلنا
: الأمر الأول
لاستحداث التوكل ، والثاني لتثبيت المتوكلين على ما استحدثوا من توكلهم فلهذا كرره
، وقال أولا المؤمنون وثانيا المتوكلون.
[٥٠٩] فإن قيل : كيف قالوا لرسلهم (أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا) [إبراهيم : ١٣]
والرسل لم يكونوا على ملة الكفار قط ، والعود هو الرجوع إلى ما كان فيه الإنسان؟
قلنا
: العود في كلام
العرب يستعمل كثيرا بمعنى الصيرورة ، يقولون : عاد فلان يكلمني ، وعاد لفلان مال
وأشباه ذلك ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى عادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩].
الثاني
: أنهم خاطبوا
الرسل بذلك بناء على زعمهم الفاسد واعتقادهم أن الرسل كانوا أولا على ملل قومهم ثم
انتقلوا عنها.
الثالث
: أنهم خاطبوا كل
رسول ومن آمن به فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد ، ونظير هذا السؤال ما سبق
في سورة الأعراف من قوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنا) [إبراهيم : ١٣]
وفي سورة يوسف عليهالسلام من قوله تعالى : (إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يوسف : ٣٧]
الآية.
[٥١٠] فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ
الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ
أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا
اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) [إبراهيم : ٢١].
قلنا
: لما كان قول
الضعفاء توبيخا وتقريعا وعتابا للذين استكبروا على استتباعهم إياهم واستغوائهم ،
أحالوا الذنب على الله تعالى في ضلالهم وإضلالهم ، كما قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا
آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] و
(لَوْ شاءَ اللهُ ما
عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل : ٣٥]
يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولون في الدنيا ، كما حكى الله تعالى عن
المنافقين : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨]
الآية.
وقيل : معنى جوابهم : لو هدانا الله في الآخرة طريق النجاة من
العذاب لهديناكم ، أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق
الهلكة في الدنيا.
[٥١١] فإن قيل : كيف اتصل وارتبط قولهم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ
صَبَرْنا) [إبراهيم : ٢١]
بما قبله؟
قلنا
: اتصاله به من حيث
إن عتاب الضعفاء للذين استكبروا كان جزعا مما هم فيه وقلقا من ألم العذاب ، فقال
لهم رؤساؤهم : (لَهَدَيْناكُمْ
سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١]
يريدون أنفسهم وإياهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين عليها في
الدنيا ، كأنهم قالوا للضعفاء : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة فيه كما لا
فائدة في الصبر ، فإن الأمر أعظم من ذلك وأعم.
[٥١٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [إبراهيم : ٢٢]
عبر عنه بلفظ الماضي ، وذلك القول من الشيطان لم يقع بعد وإنّما هو مترقب منتظر
يقوله يوم القيامة؟
قلنا
: يجوز وضع المضارع
موضع الماضي ، ووضع الماضي موضع المضارع إذا أمن اللبس ، قال الله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] أي
ما تلت ، وقال تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١]
وقال الحطيئة الشاعر :
شهد الحطيئة يوم
يلقى ربه
|
|
أنّ الوليد أحقّ
بالغدر
|
فقوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢]
نفى اللبس ، وكذا قوله تعالى : (مِنْ
__________________
قَبْلُ) [البقرة : ٢٥]
وقول الحطيئة يوم يلقى ربه ، وقوله تعالى : (لَمَّا قُضِيَ
الْأَمْرُ) [إبراهيم : ٢٢]
لأن قضاء الأمر إنما يكون يوم القيامة.
[٥١٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧]
وقد رأينا كثيرا من الظالمين هداهم الله بالإسلام وبالتوبة وصاروا من الأتقياء؟
قلنا
: معناه أنه لا
يهديهم ما داموا مصرين على الكفر والظلم معرضين عن النظر والاستدلال.
الثاني
: أن المراد منه
الظالم الذي سبق له القضاء في الأزل أنه يموت على الظلم ، فالله تعالى يثبته على
الضلالة لخذلانه ، كما يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت وهو كلمة التوحيد.
الثالث
: أن معناه : أن
يضل المشركين عن طريق الجنة يوم القيامة.
[٥١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) [إبراهيم : ٣٠]
والضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد وهي الأصنام ، وإنما عبدوها
لتقربهم إلى الله تعالى ، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا
إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣]؟
قلنا
: قد شرحنا ذلك في
سورة يونس عليهالسلام إذ قلنا هذه لام العاقبة والصيرورة لا لام الغرض ،
والمقصود كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وقول
الشاعر :
لدوا للموت وابنوا للخراب
وقول الآخر :
فللموت تغذو
الوالدات سخالها
|
|
كما لخراب الدّهر
تبنى المساكن
|
والمعنى فيه أنّهم
لمّا أفضى بهم اتخاذ الأنداد إلى الضّلال أو الإضلال صار كأنّهم اتخذوها لذلك ،
وكذا الالتقاط والولادة والبناء ، ونظائره كثيرة في القرآن العزيز وفي كلام العرب.
[٥١٥] فإن قيل : كيف طابق الأمر بإقامة الصلاة وإنفاق المال وصف
اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟
قلنا
: معناه قل لهم
يقدمون من الصلوات والصدقة متجرا يجدون ربحه يوم لا
__________________
تنفعهم متاجر
الدنيا من المعاوضات والصدقات التي يجلبونها بالهدايا والتحف لتحصيل المنافع
الدنيوية ، فجاءت المطابقة.
[٥١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خِلالٌ) [إبراهيم : ٣١] ،
أي لا صداقة ، وفي يوم القيامة خلال لقوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧]
ولقوله عليه الصلاة والسلام : «المرء مع من أحبّ»؟
قلنا
: لا خلال فيه لمن
لم يقم الصلاة ولم يؤد الزكاة. فأمّا المقيمون الصلاة والمؤتون الزّكاة فهم
الأتقياء ، وبينهم الخلال يوم القيامة ، لما تلونا من الآية.
[٥١٧] فإن قيل : كيف قال : (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [إبراهيم : ٣٣]
والمسخّر للإنسان هو الذي يكون في طاعته يصرّفه كيف شاء في أمره ونهيه كالدّابة
والعبد والفلك ، كما قال تعالى : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) [الزخرف : ١٣] ،
وقال تعالى : (لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢] ،
وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ) [إبراهيم : ٣٢].
ويقال : فلان مسخّر لفلان إذا كان مطيعا له وممتثلا لأوامره ونواهيه؟
قلنا
: لمّا كان طلوعهما
وغروبهما وتعاقب اللّيل والنهار لمنافعنا متّصلا مستمرا اتصالا لا تنقطع علينا فيه
المنفعة ولا تنخرم ، سواء شاءت هذه المخلوقات أم أبت ، أشبهت المسخّر المقهور في
الدنيا ، كالعبد والفلك ونحوهما.
والثّاني : أنّ معناه أنّها مسخّرة لله لأجلنا ومنافعنا. فإضافة
التّسخير إلى الله تعالى ، بمعنى أنّه فاعل التسخير ، وإضافة التّسخير إلينا بمعنى
عود نفع التّسخير إلينا ، فصحّت الإضافتان.
[٥١٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ) [إبراهيم : ٣٤]
والله تعالى لم يعطنا كل ما سألناه ولا بعضا من كل فرد مما سألناه؟
قلنا
: معناه : وآتاكم
بعضا من جميع ما سألتموه لا من كلّ فرد فرد.
[٥١٩] فإن قيل : لا يصح هذا المحمل لوجهين :
أحدهما
: أنه لا يحسن
الامتنان به.
الثّاني
: أنه لا يناسبه
قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤]؟
قلنا
: إذا كان البعض
الّذي أعطانا هو الأكثر من جميع ما سألناه وهو الأصلح والأنفع لنا في معاشنا
ومعادنا بالنّسبة إلى البعض الذي منعه عنّا لمصلحتنا ، أيضا ؛ لا يحسن الامتنان به
، ويكون مناسبا لما بعده.
__________________
وجواب آخر : عن
أصل السؤال : أنه يجوز أن يكون قد أعطى جميع السائلين بعضا من كلّ فرد مما سأله
جميعهم ، وبهذا المقدار يصح الإخبار في الآية وإن لم يعط كل واحد من السائلين بعضا
من كل فرد مما سأله ذاك ، وإيضاح ذلك أن يكون هذا قد أعطي شيئا مما سأله ذاك ،
وأعطي ذاك شيئا مما سأله هذا على ما اقتضته الحكمة والمصلحة في حقهما ، كما أعطي
النبيّ عليه الصلاة والسلام الرؤية ليلة المعراج وهي مسئول موسى عليهالسلام وما أشبه ذلك.
[٥٢٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ
اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤]
والإحصاء والعد بمعنى واحد كذا نقله الجوهري ، فيكون المعنى وإن تعدوا نعمة الله
لا تعدوها ، وهو متناقض كقولك : إن تر زيدا لا تبصره ، إذ الرؤية والإبصار واحد؟
قلنا
: بعض المفسرين
فسّر الإحصاء بالحصر ، فإن صحّ ذلك لغة ، اندفع السؤال. ويؤيّد ذلك قول الزّمخشري
لا تحصوها ، أي لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها ، وعلى القول الأول فيه
إضمار تقديره : وإن تريدوا عد نعمة الله لا تعدوها.
[٥٢١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤]
وهو يوهم أن نعم الله غير متناهية ، وكل نعمة ممتن بها علينا فهي مخلوقة ، وكل
مخلوق متناه؟
قلنا
: لا نسلم أنه يوهم
أنها لا تتناهى ، وذلك لأن المفهوم منه منحصر في أنا لا نطيق عدّها أو حصر عددها ،
ويجوز أن يكون الشيء متناهيا في نفسه ، والإنسان لا يطيق عدّه كرمل القفار وقطر
البحار وورق الأشجار وما أشبه ذلك.
[٥٢٢] فإن قيل : كيف قال إبراهيم عليهالسلام : (وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥]
وعبادة الأصنام كفر ، والأنبياء معصومون عن الكفر بإجماع الأمة ، فكيف حسن منه هذا
السؤال؟
قلنا
: إنما سأل هذا
السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم ؛ لأن الأنبياء عليهمالسلام أعلم الناس بالله فيكونون أخوفهم منه فيكون معذورا بسبب
ذلك.
وقيل إن في حكمة
الله تعالى وعلمه أن لا يبتلي نبيا من الأنبياء بالكفر بشرط أن يكون متضرعا إلى
ربه طالبا منه ذلك ، فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة.
[٥٢٣] فإن قيل : كيف قال : (رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦]
جعل الأصنام مضلة. والمضل ضار. وقال في موضع آخر : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) [يونس : ١٨] ،
ونظائره كثيرة فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا
: إضافة الإضلال
إليها مجاز بطريق المشابهة. ووجهه أنهم لما ضلوا بسببها فكأنها أضلتهم ، كما يقال
فتنتهم الدنيا وغرتهم ، أي افتتنوا بسببها واغتروا ، ومثله قولهم : دواء مسهل ،
وسيف قاطع ، وطعام مشبع ، وماء مرو وما أشبه ذلك. ومعناه : حصول هذه الآثار بسبب
هذه الأشياء ، وفاعل الآثار هو الله تعالى.
[٥٢٤] فإن قيل : كيف قال : (أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٧]
ولم يقل أفئدة الناس ، وقوله قلوب الناس أظهر استعمالا من قوله قلوبا من الناس؟
قلنا
: قال ابن عباس ،
رضي الله تعالى عنهما ، لو قال إبراهيم عليهالسلام في دعائه أفئدة الناس ، لحجت جميع الملل وازدحم عليه الناس
حتى لم يبق لمؤمن فيه موضع ، مع أن حج غير الموحدين لا يفيد ، والأفئدة هنا القلوب
في قول الأكثرين ، وقيل : الجماعة من الناس.
[٥٢٥] فإن قيل : إذا كان الله تعالى قد ضمن رزق العباد ، فلم سأل
إبراهيم عليهالسلام الرزق لذريته فقال : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَراتِ) [إبراهيم : ٣٧]؟
قلنا
: الله تعالى ضمن
الرزق والقوت الذي لا بد للإنسان منه ما دام حيا ولم يضمن كونه ثمرا أو حبا أو
نوعا معينا ، فالسؤال كان لطلب الثمر عينا.
[٥٢٦] فإن قيل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [إبراهيم : ٣٩]
شكر على نعمة الولد ، فكيف يناسبه بعده (إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) [إبراهيم : ٣٩]؟
قلنا
: لما كان قد دعا
ربه لطلب الولد بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠]
فاستجاب له ، ناسب قوله بعد الشكر : (إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) [إبراهيم : ٣٩] أي
لمجيبه من قولهم : سمع الملك قول فلان إذا أجابه وقبله ، ومنه قولهم في الصلاة «سمع
الله لمن حمده» أي أجابه وأثابه.
[٥٢٧] فإن قيل : كيف قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَ) [نوح : ٢٨] استغفر
إبراهيم لوالديه وكانا كافرين ، والاستغفار للكافرين لا يجوز ، ولا يقال إن هذا
موضع الاستثناء المذكور في قوله تعالى : (وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [التوبة : ١١٤]
الآية ، لأن المراد بذلك استغفاره لأبيه خاصة بقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ
الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦]
والموعدة التي وعدها إيّاه إنما كانت له خاصة بقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] ولهذا
قال تعالى : (إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤]؟
قلنا
: هذا الاستغفار
لهما كان مشروطا بإيمانهما تقديرا ، كأنه قال ولوالدي إن آمنا.
الثاني
: أنه أراد بهما
آدم وحواء صلوات الله عليهما ، وقرأ ابن مسعود وأبي
والنخعي والزهري
رضي الله عنهم «ولوالدي» يعني إسماعيل وإسحاق ، ويعضد هذه القراءة سبق ذكرهما ،
ولا إشكال على هذه القراءة.
وقيل : إن هذا الدّعاء على القراءة المشهورة كان زلة من إبراهيم
صلوات الله عليه ، وإليها أشار بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٢٨].
[٥٢٨] فإن قيل : الله تعالى منزه ومتعال عن الغفلة ، والنبي عليه
الصلاة والسلام أعلم الناس بصفات جلاله وكماله ، فكيف يحسبه النبي عليه الصلاة
والسلام غافلا وهو أعلم الخلق بالله حتى نهاه عن ذلك بقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢]؟
قلنا
: يجوز أن يكون هذا
نهيا لغير النبيّ عليه الصلاة والسلام ممن يجوز أن يحسبه غافلا لجهله بصفاته ،
وقوله تعالى ، بعده : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) [إبراهيم : ٤٤] ،
لا يدل قطعا على أن الخطاب الأول للنّبيّ عليه الصلاة والسلام ، لجواز أن يكون ذلك
النهي لغيره مع أن هذا الأمر له.
الثاني
: أنه مجاز معناه :
ولا تحسبن الله مهمل الظالمين وتاركهم سدى ، أي لكون هذا من لوازم الغفلة عنهم.
الثالث
: أن النهي وإن كان
حقيقة والخطاب للنّبيّ عليه الصلاة والسلام فالمراد به دوامه وثباته على ما كان
عليه من أنه لا يحسب الله غافلا كقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) [القصص : ٨٧]
وقوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الشعراء : ٢١٣]
ونظير هذا النهي من الأمر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]
وقول بعض المفسرين : إن معنى الآية يا أيها الذين آمنوا بموسى أو بعيسى آمنوا
بمحمّد عليه الصلاة والسلام لا يخرج الآية عن كونها نظيرا ؛ لأنّ الاستبدال
بالإيمان بالله باق ، فتأمّل.
سورة الحجر
[٥٢٩] فإن قيل : كيف قالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦]
اعترفوا بنبوته ، إذ الذّكر هو القرآن الّذي نزل عليه ، ثم وصفوه بالجنون؟
قلنا
: إنّما قالوا ذلك
استهزاء وسخرية ، لا تصديقا واعترافا ؛ كما قال فرعون لقومه : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧]
وكما قال قوم شعيب ، عليهالسلام : (إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] ،
ونظائره كثيرة.
الثاني
: أنّ فيه إضمارا
تقديره : يا أيها الّذي تدّعي أنك نزل عليك الذّكر.
[٥٣٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) [الحجر : ٢٣]
والوارث هو الّذي يتجدّد له الملك بعد فناء المورث ، والله تعالى إذا مات الخلائق
لم يتجدّد له ملك ؛ لأنه لم يزل مالكا للعالم بجميع ما فيه ومن فيه؟
قلنا
: الوارث في اللغة
عبارة عن الباقي بعد فناء غيره ، سواء تجدّد له من بعده ملك أو لا ؛ ولهذا يصح أن
يقال لمن أخبر أنّ زيدا مات وترك ورثة ، هل ترك لهم مالا أو لا؟ فيكون معنى الآية
: ونحن الباقون بعد فناء الخلائق.
الثاني
: أنّ الخلائق لمّا
كانوا يعتقدون أنّهم مالكون يسمون بذلك ، أيضا ، إمّا مجازا أو خلافة عن الله
تعالى ، كالعبد المأذون والمكاتب. ويدل عليه قوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦]
فإذا مات الخلائق كلهم سلمت الأملاك كلّها لله تعالى عن ذلك القدر من التعلق ،
فبهذا الاعتبار كانت الوراثة ، ونظير هذا قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦]
والملك له أزلا وأبدا.
[٥٣١] فإن قيل : قوله تعالى : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ) [الحجر : ٣٠] دلّ
على
__________________
الشمول والإحاطة
وأفاد التوكيد ؛ فما فائدة قوله : (أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠]؟
قلنا
: قال سيبويه
والخليل : هو توكيد بعد توكيد ، فيفيد زيادة تمكين المعنى وتقريره في الذّهن ، فلا
يكون تحصيل الحاصل ؛ بل تكون نسبة أجمعون كنسبة كلهم إلى أصل الجملة. وقال المبرد
: قوله تعالى : (أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠] يدل
على اجتماعهم في زمان السجود ، وكلهم يدل على وجود السجود من الكل ، فكأنّه قال : فسجد
الملائكة كلهم معا في زمان واحد. واختار ابن الأنباري هذا القول ، واختار الزّجّاج
وأكثر الأئمة قول سيبويه وقالوا : لو كان الأمر كما زعم المبرد لكان أجمعون حالا
لوجود حد الحال فيه ، وليس بحال لأنه مرفوع ولأنه معرفة كسائر ألفاظ التوكيد.
[٥٣٢] فإن قيل : ما وجه ارتباط قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [الحجر : ٥١] بما
قبله من قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي) [الحجر : ٤٩]
الآيتين؟
قلنا
: لما أنزل الله عزوجل : (نَبِّئْ عِبادِي) [الحجر : ٤٩]
الآيتين ولم يعين أهل المغفرة وأهل العذاب غلب الخوف على الصحابة رضي الله عنهم ،
فأنزل الله تعالى بعد ذلك قصة ضيف إبراهيم عليهالسلام ليزول خوف الصحابة وتسكن قلوبهم ، فإن ضيف إبراهيم عليهالسلام جاءوا ببشارة للولي وهو إبراهيم ، وعقوبة للعدو وهم قوم
لوط عليهالسلام وكذلك تنزل الآيتين المتقدمتين على الولي والعدو لا على
الولي وحده.
الثاني
: أن وجه الارتباط
أن العبد وإن كان كثير الذنوب والخطايا غير طامع في المغفرة ، لا يبعد أن يغفر
الله تعالى له على يأسه ، كما رزق إبراهيم الولد على يأسه بعد ما شاخ وبلغ مائة
سنة أو قريبا منها.
[٥٣٣] فإن قيل : كيف قالت الملائكة : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) [الحجر : ٦٠] أي
قضينا ، والقضاء لله تعالى لا لهم؟
قلنا
: إسناد التقدير
للملائكة هو مجاز ، كما يقول خواص الملك ، دبرنا كذا وأمرنا بكذا ونهينا عن كذا ،
ويكون الفاعل لجميع ذلك هو الملك لا هم ، وإنما يظهرون بذلك مزيد قربهم واختصاصهم
بالملك.
[٥٣٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ
أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) [الحجر :
__________________
٨٠] وأصحاب الحجر
قوم صالح ، والحجر اسم واديهم أو مدينتهم على اختلاف القولين ، وقوم صالح لم يرسل
إليهم غير صالح فكيف يكذبون المرسلين؟
قلنا
: من كذب رسولا
واحدا فكأنما كذب الكل ؛ لأن كل الرسل متفقون في دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى.
[٥٣٥] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣]
، وقال في سورة الرحمن : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩]؟
قلنا
: الجواب عنه من
وجهين :
أحدهما
: قد ذكرناه في مثل
هذا السؤال في سورة هود.
والثاني
: أن المراد هنا
أنهم يسألون سؤال توبيخ وهو سؤال لم فعلتم؟ والمراد ثم إنهم لا يسألون سؤال
استعلام واستخبار وهو سؤال هل فعلتم؟
أو يقال : إن في
يوم القيامة مواقف ، ففي بعضها يسألون ، وفي بعضها لا يسألون ، وتقدم نظيره.
سورة النحل
[٥٣٦] فإن قيل : لم قدمت الإراحة وهي مؤخرة في الواقع على السروح
وهو مقدم في الواقع في قوله تعالى : (حِينَ تُرِيحُونَ
وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦]؟
قلنا
: لأن الأنعام في
وقت الإراحة وهي ردها عشيا إلى المراح تكون أجمل وأحسن ، لأنها تقبل ملأى البطون
حاملة الضروع متهادية في مشيها يتبع بعضها بعضا ، بخلاف وقت السروح وهو إخراجها
إلى المرعى فإن كل هذه الأمور تكون على ضد ذلك.
[٥٣٧] فإن قيل : قوله تعالى : (لَمْ تَكُونُوا
بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل : ٧] إن
أريد به لم تكونوا بالغيه عليها إلا بشق الأنفس فلا امتنان فيه ، وإن أريد به لم
تكونوا بالغيه بدونها إلا بشق الأنفس فهم لا يبلغونه عليها أيضا إلا بشق الأنفس ،
فما فائدة ذلك؟
قلنا
: معناه وتحمل
أثقالكم ، أي أجسامكم وأمتعتكم معكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها
بأنفسكم من غير أمتعتكم إلا بجهد ومشقة ، فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟
والمراد بالمشقة : المشقة التي تنشأ من المشي ، أو من المشي مع الحمل على الظهر لا
مطلق مشقة السفر ، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل ، فظهر فائدة ذلك.
[٥٣٨] فإن قيل : قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٥] يقتضي
حرمة أكل الخيل كما اقتضاه في البغال والحمير من حيث أنه لم ينص على منفعة أخرى
فيها غير الركوب والزينة ، ومن حيث أن التعليل بعلة يقتضي الانحصار فيها كقولك :
فعلت هذا لكذا ، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره أوله مع غيره ؛ إلا إذا كان
أحدهما جهة في الآخر.
قلنا
: ينتقض بالحمل
عليها والحراثة بها ، فإن ذلك مباح ؛ مع أنه لم ينص عليه.
[٥٣٩] فإن قيل : إنما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام ، فإنه منصوص
عليه فيها بقوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) [النحل : ٥]
والمراد به كل منفعة معهودة منها عرفا لا كل منفعة ، فثبت مثل ذلك في الخيل
والبغال والحمير.
قلنا
: لو كان ثبوته
فيها بالقياس على ثبوته في الأنعام لثبت حل الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في
الأنعام أيضا ، ولو ثبت حل الأكل في الخيل بالقياس لثبت في البغال والحمير ، كما
ثبت الحمل والحراثة ثبوتا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام.
والجواب عن الجهة
الثانية في أصل السؤال أن هذه اللام ليست لام التعليل بل لام التمكين ، كقوله
تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ومع هذا يجوز في الليل غير السكون.
[٥٤٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى في وصف ماء السماء (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [النحل : ١١] ولم
يقل كل الثمرات ؛ مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟
قلنا
: كل الثمرات لا
تكون إلا في الجنة ، وإنما ينبت في الدنيا بعض منها أنموذجا وتذكرة ، فالتبعيض
بهذا الاعتبار ، فيكون المراد بالثمرات ما هو أعم من ثمرات الدنيا ، ومن يجوّز
زيادة «من» في الإثبات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا.
[٥٤١] فإن قيل : قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧]
المراد بمن لا يخلق الأصنام بدليل قوله تعالى بعده : (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] فكيف
جيء بمن المختصة بأولي العلم والعقل؟
قلنا
: خاطبهم على
معتقدهم ؛ لأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ، ونظير هذا قوله
تعالى في الأصنام أيضا : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥]
الآية ، فأجرى عليهم ضمير أولي العلم والعقل لما قلناه.
ويرد على هذا
الجواب أن يقال : إذا كان معتقدهم خطأ وباطلا فالحكمة تقتضي أن ينزعوا عنه ويقلعوا
، لا أن يبقوا عليه ويقروا في خطابهم على معتقدهم إيهاما لهم أن معتقدهم حقّ
وصواب.
وجوابه : أن الغرض
من الخطاب الإفهام ، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم ومفهومهم فقال : أفمن يخلق كما
لا يخلق ، لاعتقدوا أن المراد من الثاني غير الأصنام من الجماد.
الثاني
: قال ابن الأنبازي
: إنما جاز ذلك لأنها ذكرت مع العالم فغلب عليها حكمه في اقتضاء «من» كما غلب على
الدواب في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥]
الآية ، وكما في قول العرب : اشتبه عليّ الراكب ، وجمله : فما أدري من ذا ومن ذا.
[٥٤٢] فإن قيل : هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام وسموها آلهة
تشبيها بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فظاهر الإلزام يقتضي أن يقال لهم
: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟
قلنا
: لما سووا بين
الأصنام وخالقها سبحانه وتعالى في تسميتها باسمه وعبادتها كعبادته فقد سووا بينها
وبين خالقها قطعا ، فصح الإنكار بتقديم أيهما كان ، وإنما قدم في الإنكار عليهم
ذكر الخالق ، إما لأنه أشرف ، أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام تنزيها له
وإجلالا وتعظيما.
[٥٤٣] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى في وصف الأصنام (غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢١] بعد
قوله تعالى : (أَمُوتُ) [النحل : ٢١]؟
قلنا
: فائدته أنها
أموات لا يعقب موتها حياة احترازا عن أموات يعقب موتها حياة. كالنطف والبيض
والأجساد الميتة ، وذلك أبلغ في موتها ، كأنه قال : أموات في الحال غير أحياء في
المآل.
الثاني
: أنه ليس وصفا لها
بل لعبادها ؛ معناه : وعبادها غير أحياء القلوب.
الثالث
: أنه إنما قال غير
أحياء ، ليعلم أنه أراد أمواتا في الحال ، لا أنها ستموت كما في قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠].
[٥٤٤] فإن قيل : كيف عاب الأصنام وعبادها بأنهم لا يعلمون وقت
البعث فقال تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل : ٢١]
والمؤمنون الموحدون كذلك؟
قلنا
: معناه وما يشعر
الأصنام متى يبعث عبادها ، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟
أو معناه : وما
يشعر عبادها وقت بعثهم لا مفصلا ولا مجملا ؛ لأنهم ينكرون البعث ، بخلاف الموحدين
فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا أنه يوم القيامة وإن لم يشعروه مفصلا.
[٥٤٥] فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤] كيف
يعترفون بأنه من عند الله تعالى بالسؤال المعاد في ضمن الجواب ثم يقولون هو أساطير
الأولين؟
قلنا
: قد سبق مثل هذا
السؤال وجوابه في سورة الحجر في قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦].
[٥٤٦] فإن قيل : كيف قال هنا (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ
كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ
عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] وقال
في موضع آخر : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]؟
قلنا
: معناه ومن أوزار
إضلال الذين يضلونهم ، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة ووزر كفر من أضلوهم تسببا ،
فقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً) [النحل : ٢٥] يعني
أوزار الذنوب التي باشروها. وأما قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]
فمعناه : وزر لا مدخل لها فيه ولا تعلق له بها مباشرة ولا تسببا ، ونظير هاتين
الآيتين الآيتان الأخريان في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢]
إلى قوله تعالى : (وَأَثْقالاً مَعَ
أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣]
وجوابهما مثل جواب هاتين الآيتين.
[٥٤٧] فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) [النحل : ٤٠]
الآية ، يدل على أن المعدوم شيء ، ويدل على أن خطاب المعدوم جائز ، والأول منتف
عند أكثر العلماء ، والثاني منتف بالإجماع؟
قلنا
: أما تسميته شيئا
فمجاز باعتبار ما يئول إليه ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] وقوله
تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] وأما
الثاني فإن هذا خطاب تكوين يظهر به أثر القدرة فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا
قبل الخطاب ، لأنّه إنما يكون بالخطاب فلا يسبقه ، بخلاف خطاب الأمر والنهي.
[٥٤٨] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) [النحل : ٤٩] كيف
لم يغلب العقلاء من الدواب على غيرهم كما في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
ماءٍ) [النور : ٤٥]
الآية ، بل أولى لأنه ثم وصف ما لا يعقل بخصوصه بلفظ «من» وهو الحية والأنعام ،
وهنا لو قال من في السموات ومن في الأرض لا يلزم وصف ما لا يعقل بخصوصه وتعيينه
بلفظة «من» بل المجموع؟
قلنا
: لأنه أراد عموم
كل دابة وشمولها ، فجاء بما التي تعم النوعين وتشملهما ، ولو جاء بمن لخصّ
العقلاء.
[٥٤٩] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [النحل : ٦١]
يقتضي أنه لو آخذ الظالمين بظلمهم لأهلك غير الظالمين من الناس ، ولأهلك جميع
الدواب غير الناس ، ومؤاخذة البريء بسبب ظلم الظالم لا يحسن بالحكيم؟
قلنا
: المراد بالظلم
هنا الكفر ، وبالدابة الظالمة وهي الكافر ، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل
معناه : لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء.
الثاني
: يجوز أن يهلك
الجميع بشؤم ظلم الظالمين مبالغة في إعدام الظلم ونفي وجود أثره حتى لا يوجد بعد
ذلك من بقية الناس ظلم موجب للإهلاك ، كما وجد من الذين أهلكهم بظلمهم ، ودليل
جواز ذلك ما وجد في زمن نوح عليهالسلام ، فإنه أهلك بشؤم ظلم قوم نوح جميع دواب الأرض ، وما نجا
إلا من في السفينة ولم يبق على ظهر الأرض دابة ، ولذا قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ثم
إذا فعل ذلك للحكمة والمصلحة التي اقتضت فعله عوّض البريء في الآخرة ما هو خير
وأبقى.
الثالث
: أن كل إنسان مكلف
فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره ؛ لأنه لا يخلو عن ذنب صغير أو كبير ، فلو أهلك الناس
بذنوبهم لأهلك الدّواب أيضا ؛ لأنه إنما خلق الدواب لمصالح الناس وإذا عدم الناس
وقع استغناؤهم عن الدواب كلها.
[٥٥٠] فإن قيل : لا نسلم أن غير الإنسان من الحيوان مخلوق لمصالح
الإنسان ، ومستنده أنه كان مخلوقا قبل خلق الإنسان بالنقل عن الكتب الشرعية وغيرها
، وقد جاء مصرحا به في الحديث في باب الخلق من جامع الأصول سلمنا أنه مخلوق لمصلحة
الإنسان ، لكن هلاك غير الإنسان معه يخفف عنه ألم المصيبة ، لا سيما إذا كان
الهالك معه من جنسه ، ولهذا قيل : المصيبة إذا عمت طابت. سلمنا أن إهلاك غيره معه
مؤلم له ، لكن لو كان إهلاكه معه لأنه خلق لمصلحته أفنهلك تبعا له لاستغنائه عنه
أو لزيادة الإيلام فالبار أيضا خلق لمصلحته على قولكم ، فلم كان إهلاك الحيوان
عقوبة للإنسان أولى من إهلاك النبات ، ولم يقل : ما ترك عليها من دابة ونبات أو من
شيء؟
قلنا
: الجواب عن الأول
قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩]
وخلقه قبل الإنسان لا ينفي خلقه لمصلحة الإنسان ، كما يعد عظماء الناس الدور
والقصور والخدم والحشم والدواب والثياب لأولادهم وأولاد أولادهم قبل وجودهم.
وعن الثاني أنا لا
ندّعي أنه يهلك مع الإنسان بل قبله لتألمه بمشاهدة هلاك محبوبه ومألوفه. وعن
الثالث أن المراد ما ترك عليها من دابة بواسطة منع المطر فيعدم النبات ، ثم يعدم
بواسطة عدمه غير الإنسان من الحيوان ، ثم يعدم الإنسان ، كذا جاء في تفسير هذه
الآية والآية التي في آخر سورة فاطر ، وهذا الترتيب أبلغ في العذاب وأعظم في
العقاب من تقديم إهلاك الحيوان على النبات ؛ لأن الإنسان إذا بقي حيوانه بلا علف
كان أوجع مما إذا بقي علفه بلا حيوان.
[٥٥١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مِنَ الْجِبالِ
بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) [النحل : ٦٨] ولم
يقل في الجبال وفي الشجر ، والاستعمال وإنما هو بفي يقال اتخذ فلان بيتا في الجبل
أو في الصحراء أو نحو ذلك؟
قلنا
: قال الزمخشري رحمهالله : إنما أتى بلفظة من لأنه أراد معنى البعضية ، وأن لا تبنى
بيوتها في كل جبل وكل شجر ولا في كل مكان من الجبل والشجر. وأنا أقول : إنما ذكره
بلفظه «من» لأنه أراد كون البيت بعض الجبل وبعض الشجر كما نشاهد ونرى من بيوت
النحل ، لأنه يتخذ من طين أو عيدان في الجبل والشجر كما تتخذ الطيور ، فلو أتى
بلفظة «في» لم تدل على هذا المعنى ، ونظيره قوله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [الشعراء : ١٤٩].
[٥٥٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢]
وأزواجنا لسن من أنفسنا ، لأنهن لو كنّ من أنفسنا لكنّ حراما علينا ، فإن المتفرعة
من الإنسان لا يحل له نكاحها؟
قلنا
: المراد بهذا أنه
خلق آدم ثم خلق منه حواء ، كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١].
الثاني أن المراد
من خلقكم كما قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨].
[٥٥٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
وَلا يَسْتَطِيعُونَ) [النحل : ٧٣] فعبر
بالواو والنون وهما من خواص من يعقل؟
قلنا
: كان فيمن يعبدونه
من دون الله من يعقل كالعزير وعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام فغلبهم.
[٥٥٤] فإن قيل : لم أفرد في قوله تعالى : (ما لا يَمْلِكُ) ثم جمع في قوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ)؟ [النحل : ٧٣].
قلنا
: أفرد نظرا إلى
لفظ ما ، وجمع نظرا إلى معناها ، كما قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [النحل : ١٢ ، ١٣]
أفرد الضمير نظرا إلى لفظها ، وجمع الظهور نظرا إلى معناها.
[٥٥٥] فإن قيل : ما فائدة نفي استطاعة الرزق بعد نفي ملكه
والمعنى واحد ؛ لأن نفي ملك الفعل هو نفي استطاعته ، والرزق هنا اسم مصدر بدليل
إعماله في «شيئا»؟
قلنا ليس في
يستطيعون ضمير مفعول هو الرزق ؛ بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقا ؛ معناه لا يملكون
أن يرزقوا ، ولا استطاعة لهم أصلا في رزق أو غيره لأنهم جماد.
الثاني
: أنه لو قدر فيه
ضمير مفعول على معنى ولا يستطيعونه كان مفيدا أيضا على اعتبار كون الرزق اسما للعين
؛ لأن الإنسان يجوز أن لا يملك الشيء ولكن يستطيع أن يملكه بخلاف هؤلاء فإنهم لا
يملكون ولا يستطيعون أن يملكوا.
[٥٥٦] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (مَمْلُوكاً) بعد قوله : (عَبْداً) وما فائدة قوله : (لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) بعد قوله : (مَمْلُوكاً) [النحل : ٧٥]؟
قلنا
: لفظ العبد يصلح
للحر والمملوك ؛ لأن الكل عبيد الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ
الْعَبْدُ) [ص : ٣٠] فقال
مملوكا لتمييزه عن الحر ، وقال : (لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) [النحل : ٧٥]؟
لتمييزه عن المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف والاستقلال.
[٥٥٧] فإن قيل : المضروب به المثل اثنان وهما المملوك والمرزوق
رزقا حسنا فظاهره أن يقال هل يستويان ، فكيف قال تعالى : (يَسْتَوُونَ) [النحل : ٧٥]؟
قلنا
: لأنه أراد جنس
المماليك وجنس المالكين لا مملوكا معيّنا ولا مالكا معينا.
الثاني
: أنه أجرى الاثنين
مجرى الجمع.
الثالث
: أن «من» تقع على
الجمع ، ولقائل أن يقول على الوجه الثالث يلزم منه أن يصير المعنى ضرب الله مثلا
عبدا مملوكا وجماعة مالكين هل يستوون ، إنه لا يحسن مقابلة الفرد بالجمع في
التمثيل.
[٥٥٨] فإن قيل : «أو» في الخبر للشك ، والشك على الله تعالى محال
، فما معنى قوله : (إِلَّا كَلَمْحِ
الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧]؟
قلنا
: قيل «أو» هنا
بمعنى بل كما في قوله تعالى : (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧]
وقوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [النحل : ٧٤]
وقوله : (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] ويرد
على هذا أن بل للإضراب ، والإضراب رجوع عن الإخبار وهو على الله محال.
وقيل : هي بمعنى الواو في هذه الآيات.
وقيل : أو للشك في الكل لكن بالنسبة إلينا لا إلى الله تعالى ،
وكذا في قوله : (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] يعني
بالنسبة إلى نظر النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
وقال الزّجّاج :
ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ؛ ولكن المراد وصف قدرة الله على
سرعة الإتيان بها متى شاء.
[٥٥٩] فإن قيل ، كيف قال تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ،
ولم يقل والبرد ؛ مع أن السرابيل وهي الثياب تلبس لدفع الحر والبرد وهي مخلوقة
لهما؟
قلنا
: حذف ذكر أحدهما
لدلالة ضده عليه كما في قوله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران : ٢٦]
ولم يقل والشر ، وكما قال الشاعر :
وما أدري إذا
يمّمت أرضا
|
|
أريد الخير
أيّهما يليني
|
أي أريد الخير لا
الشر ، أو أريد الخير وأحذر الشر.
[٥٦٠] فإن قيل : لم كان ذكر الخير والحر أولى من ذكر الشر والبرد؟
قلنا
: لأن الخير مطلوب
العباد من ربهم ومرغوبهم إليه ، أو لأنه أكثر وجودا في العالم من الشر ، وأما الحر
فلأن الخطاب بالقرآن أول ما وقع مع أهل الحجاز ، والوقاية من الحر أهم عنده لأن
الحر في بلادهم أشد من البرد.
[٥٦١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ
يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) [النحل : ٨٣] مع
أن كلهم كافرون؟
قلنا
: قال الزمخشري :
الأحسن أن المراد بالأكثر هنا الجمع ، وفي هذا نظر ؛ لأن بعض الناس لا يجوز إطلاق
اسم البعض على الكل ؛ لأنه ليس لازما له بخلاف عكسه.
[٥٦٢] فإن قيل : ما فائدة قول المشركين عند رؤية الأصنام (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ
كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [النحل : ٨٦]
والله تعالى عالم بذلك؟
قلنا
: لما أنكروا الشرك
بقولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]
عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم وأنطق جوارحهم ، فقالوا عند معاينة آلهتهم (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) [النحل : ٨٦] أي
قد أقررنا بعد الإنكار وصدقنا بعد الكذب طلبا للرحمة وفرارا من الغضب ، فكان هذا
القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب لا على وجه إعلام من لا يعلم.
الثاني
: أنهم لما عاينوا
عظيم غضب الله تعالى وعقوبته قالوا (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) [النحل : ٨٦] رجاء
أن يلزم الله الأصنام ذنوبهم ؛ لأنهم كانوا يعتقدون لها العقل والتمييز فيخف عنهم
العذاب.
__________________
[٥٦٣] فإن قيل : لم قالت الأصنام للمشركين (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النحل : ٨٦]
وكانوا صادقين فيما قالوا؟
قلنا
: إنما قالت لهم
ذلك لتظهر فضيحتهم ، وذلك أن الأصنام كانت جمادا لا تعرف من يعبدها ، فلم تعلم
أنهم عبدوها في الدنيا فظهرت فضيحتهم حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم ، ونظير هذا
قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [النحل : ٨١ ، ٨٢].
[٥٦٤] فإن قيل : قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] فإذا
كان القرآن تبيانا لكل شيء من أمور الدين ، فمن أين وقع بين الأمة في أحكام
الشريعة هذا الخلاف الطويل العريض؟
قلنا
: إنما وقع الخلاف
بين الأئمة لأن كل شيء يحتاج إليه من أمور الدين ليس مبينا في القرآن نصا ، بل
بعضه مبين وبعضه مستنبط بيانه منه بالنظر والاستدلال ، وطريق النظر والاستدلال
مختلفة فلذلك وقع الخلاف.
[٥٦٥] فإن قيل : كثير من أحكام الشريعة لم تعلم من القرآن نصا
ولا استنباطا كعدد ركعات الصلاة ، ومقادير باقي الأعضاء ، ومدة السفر والمسح والحيض
، ومقدار حد الشرب ، ونصاب السرقة وما أشبه ذلك مما يطول ذكره؟
قلنا
: القرآن تبيان لكل
شيء من أمور الدين ؛ لأنه نص على بعضها ، وأحال على السنة في بعضها في قوله تعالى
: (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وقوله
تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى) [النجم : ٣] وأحال
على الإجماع أيضا بقوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥]
الآية ، وأحال على القياس أيضا بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢]
والاعتبار النظر والاستدلال ، فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ،
وكلها مذكورة في القرآن فصح كونه تبيانا لكل شيء.
[٥٦٦] فإن قيل : كيف وحّدت القدم ونكّرت في قوله تعالى : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) [النحل : ٩٤] ولم
يقل القدم أو الأقدام ، وهو أشد مناسبة لجمع الإيمان؟
قلنا
: وحّدت ونكّرت في
قوله تعالى لاستعظام أن تزل قدم واحدة على طريق الجنة فكيف بأقدام كثيرة؟
[٥٦٧] فإن قيل : «من» تتناول الذكر والأنثى لغة ، ويؤيده قوله
تعالى : (مَنْ جاءَ
__________________
بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠]
الآية ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧]
وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧]
الآية ، وقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥]
ونظائره كثيرة ، فكيف قال تعالى هنا : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [النحل : ٩٧]؟
قلنا
: إنما صرح بذكر
النوعين هنا لسبب اقتضى ذلك ، وهو أن النساء قلن : ذكر الله تعالى الرجال في
القرآن بخير ولم يذكر النساء بخير ، فلو كان فينا خير لذكرنا به ، فأنزل الله
تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥]
الآية ، وأنزل (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [النحل : ٩٧] فذهب
عن النساء وهم تخصيصهن عن العمومات.
[٥٦٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا
اللهُ) [النحل : ٧٩] وقد
رأينا كثيرا من الصلحاء والأتقياء قطعوا أعمارهم في المصائب والمحن وأنواع البلايا
باعتبار الأمثل فالأمثل إلى الأنبياء؟
قلنا
: المراد بالحياة
الطيبة الحياة في القناعة. وقيل : في الرزق الحلال. وقيل
: في رزق يوم بيوم. وقيل
: التوفيق للطاعات.
وقيل : في حلاوة الطاعات. وقيل
: في الرضا
بالقضاء. وقيل المراد به الحياة في القبر ، كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] وقيل
: المراد به الحياة
في الدار الآخرة ، وهي الحياة الحقيقية لأنها حياة لا موت بعدها دائمة في النعيم
المقيم ، والظاهر أن المراد به الحياة في الدنيا لقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) [النساء : ١٣٤]
وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة كما قال تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ
ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨].
[٥٦٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [النحل : ١٠٧]
وكثير من الصحابة وغيرهم كانوا كافرين فهداهم الله تعالى إلى الإيمان؟
قلنا
: المراد من هذا
الكافرون الذين علم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر ويؤيده ما بعد ذلك من
الآيتين.
[٥٧٠] فإن قيل : ما معنى إضافة النفس إلى النفس في قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ
عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١]
والنفس ليس لها نفس أخرى؟
قلنا
: النفس اسم للروح
وللجوهر القائم بذاته المتعلق بالجسم تعلق التدبير.
وقيل : هي اسم لجملة الإنسان لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥]
وقول تعالى : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥]
والنفس
أيضا اسم لعين
الشيء وذاته ، كما يقال : نفس الذهب والفضة محبوبة ، أي عينهما وذاتهما. فالمراد
بالنفس الأولى الإنسان وبالثانية ذاته ، فكأنه يوم يأتي كل إنسان يجادل عن نفسه ،
أي ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول نفسي نفسي ، فاختلف معنى النفسين.
[٥٧١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ
لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل : ١١٢]
والإذاقة لا تناسب اللباس وإنما تناسبه الكسوة؟
قلنا
: الإذاقة تناسب
المستعار له وهو الجوع من حيث أن الجوع يقتضي الأكل فيقتضي الذوق ، وإن كانت لا
تناسب المستعار وهو اللباس والكسوة تناسب المستعار وهو اللباس ، ولا تناسب
المستعار له وهو الجوع ، وكلاهما من دقائق علم البيان ، يسمى الأول تجريد
الاستعارة ، والثاني ترشيح الاستعارة فجاء القرآن العزيز في هذه الآية بتجريد
الاستعارة ، وقد ذكرنا تمام هذا في كتابنا «روضة الفصاحة». ولباس الجوع والخوف
استعارة لما يظهر على أهل القرية من أثر الجوع والخوف من الصفرة والنحول ، فهو
كقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى) [الأعراف : ٢٦]
استعار اللباس لما يظهر على المتقي من أثر التقوى.
وقيل : إن فيه إضمارا تقديره : فأذاقها الله طعم الجوع ، وكساها
لباس الخوف.
سورة الإسراء
[٥٧٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] ،
ولم يقل بنبيه أو برسوله أو بحبيبه أو بصفيه ونحو ذلك ، مع أن المقصود من ذلك
الإسراء تعظيمه وتبجيله؟
قلنا
: إنما سماه عبدا في أرفع مقاماته وأجله وهو هذا ، وقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ،
كيلا يغلط فيه أمته وتضل به كما ضلت أمة المسيح به فدعته إلها.
وقيل : كيلا يتطرق إليه العجب والكبر.
[٥٧٣] فإن قيل : الإسراء لا يكون إلا بالليل ، فما فائدة ذكر
الليل؟
قلنا
: فائدته أن ذكر
منكرا ليدل على قصر الزمان الذي كان فيه الإسراء والرجوع ، مع أنه كان من مكة إلى
بيت المقدس مسيرة أربعين ليلة ، وذلك لأن التنكير يدل على البعضية ، ويؤيده قراءة
عبد الله وحذيفة من الليل ، أي بعض الليل كقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩]
فإنه أمر بالقيام في بعضه.
[٥٧٤] فإن قيل : أي حكمة في نقله صلىاللهعليهوسلم من مكة إلى بيت المقدس ، ثم العروج به من بيت المقدس إلى
السماء ، وهلا عرج به من مكة إلى السماء دفعة واحدة؟
قلنا
: لأن بيت المقدس
محشر الخلائق ، فأراد الله تعالى أن يطأها قدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم
عليها ببركة أثر قدمه صلىاللهعليهوسلم.
الثاني
: أن بيت المقدس
مجمع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فأراد الله تعالى أن يشرفهم بزيارته صلىاللهعليهوسلم.
الثالث
: أنه أسرى به إلى
البيت المقدس ليشاهد من أحواله وصفاته ما يخبر به كفار مكّة صبيحة تلك الليلة ،
فيدلهم إخباره بذلك مطابقا لما رأوا وشاهدوا على صدقه في حديث الإسراء.
[٥٧٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١] ولم
يقل باركنا عليه أو باركنا فيه ، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد
وحوله خصوصا المسجد الأقصى؟
قلنا
: أراد البركة
الدنيوية بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة وذلك حوله لا فيه.
وقيل : أراد البركة الدينية فإنه مقر الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام ومتعبدهم ومهبط الوحي والملائكة ، وإنما قال : (بارَكْنا حَوْلَهُ) ليكون بركته أعم وأشمل ، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من
أرض بلاد الشام وما قاربه منها ، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس ، ولأنه إذا كان
هو الأصل وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى
، بخلاف العكس.
وقيل : المراد البركة الدنيوية والدينية ووجههما ما مرّ.
وقيل : المراد باركنا حوله من بركة نشأت منه فعمت جميع الأرض ،
فإن مياه الأرض كلها أصل انفجارها من تحت الصخرة التي في بيت المقدس (!) [٥٧٦] فإن قيل : ما وجه ارتباط قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : ٣] بما
قبله ومناسبته له؟
قلنا
: معناه لا تتخذوا
من دوني ربّا فتكونوا كافرين ، ونوح كان عبدا شكورا وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه
، فتأسوا به في الشكر كما تأسى به آباؤكم.
[٥٧٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ولم
يقل : فعليها ، كما قال الله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [الإسراء : ٤٦]؟
قلنا
: اللام هنا بمعنى
على كما في قوله تعالى : (وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣]
وقوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) [الإسراء : ١٠٩].
وقيل : معناه : فلها رجاء بالرحمة ، أو فلها مخلص بالتوبة
والاستغفار.
والصحيح أنّ اللام
هنا على بابها ؛ لأنّها للاختصاص ، وكل عامل مختص بجزاء عمله حسنة كانت أو سيئة ،
وقد سبق مثل هذا مستوفى في آخر سورة البقرة في قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦].
[٥٧٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى ، هنا : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
آيَتَيْنِ) [الإسراء : ١٢] ،
وقال في قصة مريم وعيسى عليهماالسلام (وَجَعَلْناها
وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٩١] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً) [المؤمنون : ٢٣]
مع أن عيسى صلىاللهعليهوسلم كان وحده آيات شتى ؛ حيث كلّم الناس في المهد ، وكان يحيى
الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق الطير وغير ذلك ، وأمه وحدها كانت آية حيث
حملت من غير فحل؟
قلنا
: إنما أراد به الآية التي كانت مشتركة بينهما ولم تتم إلا
بهما ، وهي ولادة ولد من غير فحل ، بخلاف الليل والنهار والشمس والقمر.
الثاني
: أن فيه آية
محذوفة إيجازا واختصارا تقديره : وجعلناها آية وابنها آية ، وجعلنا ابن مريم آية
وأمه آية.
[٥٧٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢]
والإبصار من صفات ما له حياة ، والمراد بآية النهار إما الشمس أو النهار نفسه ؛
وكلاهما غير مبصر؟
قلنا
: المبصرة في اللغة
بمعنى المضيئة ، نقله الجوهري.
وقال غيره : معناه
بينة واضحة ، ومنه قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] ،
أي آية واضحة مضيئة ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً) [النمل : ١٣].
الثاني
: معناه : مبصرا
بها إن كانت الشمس ، أو فيها إن كانت النهار ، ومنه قوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] أي
مبصرا فيه ، ونظيره قولهم : ليل نائم ونهار صائم : أي ينام فيه ويصام فيه.
الثالث
: أنه فعل رباعي
منقول بالهمزة عن الثلاثي الذي هو بصر بالشيء ، أي علم به ، فهو بصير ، أي عالم
معناه أنه يجعلهم بصراء ، فيكون أبصره بمعنى بصره ، وعلى هذا حمل الأخفش قوله
تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً) أي تبصّرهم فتجعلهم بصراء.
الرابع
: أن بعض الناس زعم
أن الشمس حيوان له حياة وبصر وقدرة ، وهو متحرك بإرادته امتثال أمر الله تعالى كما
يتحرك الإنسان! [٥٨٠] فإن قيل : ما الفائدة في ذكر عدد السنين ؛ مع أنّه لو
اقتصر على قوله لتعلموا الحساب دخل فيه عدد السنين إذ هو من جملة الحساب؟
قلنا
: العدد كله موضوع
الحساب كبدن الإنسان فإنه موضوع الطب ، وأفعال المكلفين موضوع الفقه ، وموضوع كل
علم مغاير له وليس جزءا منه ، كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب ، ولا أفعال المكلفين
جزءا من الفقه ؛ فكذا العدد ليس جزءا من الحساب ، وإنما ذكر عدد السنين وقدمه على
الحساب ، لأن المقصود الأصلي من محو الليل وجعل آية النهار مبصرة علم عدد الشهور
والسنين ، ثم يتفرع من ذلك علم حساب التاريخ وضرب المدد والآجال.
__________________
[٥٨١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى هنا : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً) [الإسراء : ١٤]
وقال في موضع آخر (وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧]؟
قلنا
: مواقف القيامة
مختلفة ، ففي موقف يكل الله حسابهم إلى أنفسهم وعلمه محيط به ، وفي موقف يحاسبهم
هو.
وقيل : هو الذي يحاسبهم لا غيره ، وقوله تعالى : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً) أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها عالم بذلك ، فهو توبيخ
وتقريع لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه.
وقيل : من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه ، ومن يريد
مسامحته فيه يكل حسابه إليه.
[٥٨٢] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥]
يرد ما جاء في الأخبار أن في يوم القيامة يؤخذ من حسنات المغتاب والمديون ويزاد في
حسنات رب الدّين والشخص الذي اغتيب ، فإن لم تكن لهما حسنات يوضع عليهما من سيئات
خصميهما ، وكذلك جاء هذا في سائر المظالم؟
قلنا
: المراد من الآية
أنها لا تحمله اختيارا ردا على الكافرين حيث قالوا للذين آمنوا (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ
خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢]
الآيتين ، والمراد من الخبر أنها تحمله كرها فلا تنافي ، وقد سبق هذا مرة في آخر
سورة الأنعام.
[٥٨٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) [الإسراء : ١٦]
وقال في آية أخرى (قُلْ إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨]؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
أمرناهم بالطاعة ففسقوا. وقال الزّجّاج : ومثله قولهم أمرته فعصاني ، وأمرته
فخالفني ؛ لا يفهم الأمر بالمعصية ولا الأمر بالمخالفة.
الثاني
: أن معناه كثرنا
مترفيها ، يقال أمرته وآمرته بالمد والقصر يعني كثرته ، وقد قرئ بهما ، ومنه
الحديث : «خير المال مهرة مأمورة وسكّة مأبورة» ، أي كثيرة النتاج والنسل.
الثالث
: أن معناه أمرنا
مترفيها بالتشديد ، يقال أمرت فلانا بمعنى أمرته : أي جعلته أميرا ، فمعنى الآية
سلطانهم بالإمارة ، ويعضد هذا الوجه قراءة من قرأ أمرنا بالتشديد.
__________________
وقال الزمخشري رحمهالله : لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؛ لأن حذف
ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز ، فكيف يقدر حذف ما قام الدليل في اللفظ على
نقيضه ؛ وذلك لأن قوله : (فَفَسَقُوا) يدل على أن المأمور به المحذوف هو الفسق وهو كلام مستفيض ،
يقال : أمرته فقام وأمرته فقعد وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به
القيام والقعود والقراءة ، بخلاف قولهم أمرته فعصاني وأمرته فخالفني ؛ حيث لا يكون
المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة ؛ لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون
ما يناقض الأمر وينافيه مأمورا به ، فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول
عليه ولا منوي ، والمتكلم بمثل هذا لا ينوي لأمره مأمورا به ؛ بل كأنه قال : كان
مني أمر فلم تكن منه طاعة ، أو كانت منه مخالفة ، كما تقول : مر زيدا يطعك ، وكما
تقول : فلان يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، ويضر وينفع ، فإنك لا تنوي
مفعولا.
[٥٨٤] فإن قيل : على هذا حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا
، وهذا لا يكون من الله ، فلا يقال يقدر الفسق محذوفا ولا مأمورا به.
قلنا
: الفسق المحذوف
المقدر مجاز عن إترافهم وصب النعم عليهم صبا أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي
ووسيلة إلى اتباع الشهوات ، فكأنهم أمروا بذلك لما كان السبب في وجوده الإتراف
وفتح باب النعم.
[٥٨٥] فإن قيل : لم لا يكون ثبوت العلم بأن الله لا يأمر
بالفحشاء ، وإنما يأمر بالطاعة والعدل والخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالطاعة
ففسقوا.
قلنا
: لو جاز مثل هذا
الإضمار والتقدير لكان المتكلم مريدا من مخاطبه علم الغيب ؛ لأنّه أضمر ما لا
دلالة عليه في اللفظ بل أبلغ ؛ لأنّه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه ، وهو قوله
: (فَفَسَقُوا) ؛ فكأنه أظهر شيئا وادعى إضمار نقيضه ، فكان صرف الأمر إلى
ما ذكرنا من المجاز هو الوجه. هذا كله كلام الزمخشري ، ولا أعلم أحدا من أئمة
التفسير صار إليه غيره ؛ ثم إنه أيّده فقال : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض
فيه الحذف لدلالة ما بعده تقول : لو شاء فلان لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ،
تريد لو شاء الإحسان لأحسن ولو شاء الإساءة إليك لأساء ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما
أظهرت وتعني ولو شاء الإساءة لأحسن إليك ، ولو شاء الإحسان لأساء إليك ، وتقول قد
دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان دائما ومن أهل الإساءة دائما ،
فيترك الظاهر المنطوق به ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم تكن على سداد.
[٥٨٦] فإن قيل : على الوجه الأول لو كان المضمر المحذوف الأمر
بالطاعة. كان مخصوصا بالمترفين ، لأن أمر الله تعالى بالطاعة عام للمترفين وغيرهم.
قلنا
: أمر الله بالطاعة
وإن كان عاما ، ولكن لما كان صلاح الأمراء والرؤساء
وفسادهم مستلزما
لصلاح الرعية وفسادها غالبا خصّهم بالذّكر ، ويؤيد هذا ما جاء في الخبر : «صلاح
الوالي صلاح الرّعيّة ، وفساد الوالي فساد الرّعيّة».
[٥٨٧] فإن قيل : قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ) [الإسراء : ١٨]
الآية ، يدل على أن من لم يزهد في الدنيا ولم يتركها كان من أهل النار ، والأمر
بخلافه.
قلنا
: المراد من كان
يريد بإسلامه وطاعته وعبادته الدنيا لا غير ، ومثل هذا لا يكون إلا كافرا أو
منافقا ، ولهذا قال ابن جرير : هذه الآية لمن لا يؤمن بالمعاد ، وأما من أراد من
الدنيا قدر ما يتزود به إلى الآخرة فكيف يكون مذموما ، مع أن الاستغناء عن الدنيا
بالكلية وعن جميع ما فيها لا يتصور في حق البشر ولو كانوا أنبياء ، فعلم أن المراد
ما قلنا.
[٥٨٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء : ٢٠] أي
ممنوعا ، ونحن نرى ونشاهد في الواقع أن واحدا أعطاه قناطير مقنطرة وآخر منعه
العطاء حتى الدانق والحبة؟
قلنا
: المراد بالعطاء
هنا الرزق ، والله تعالى سوّى في ضمان الرزق وإيصاله بين البر والفاجر والمطيع
والعاصي ، ولم يمنع الرزق عن العاصي بسبب عصيانه ، فلا تفاوت بين العباد في أصل
الرزق ، وإنما التفاوت بينهم في مقادير الأملاك.
[٥٨٩] فإن قيل : كيف منع الله تعالى الكفار التوفيق والهداية ولم
يمنعهم الرزق؟
قلنا
: لأنه لو منعهم
الرزق لهلكوا وصار ذلك حجة لهم يوم القيامة ، بأن يقولوا لو أمهلتنا ورزقتنا
لبقينا أحياء فآمنا.
الثاني
: أنه لو أهلكهم
بمنع الرزق لكان قد عاجلهم بالعقوبة ، فيتعطل معنى اسمه الحليم عن معناه ؛ لأنّ
الحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.
الثالث
: أن منع الطعام
والشراب من صفات البخلاء الأخساء ، والله تعالى منزه عن ذلك.
وقيل : إعطاء الرزق لجميع العبيد عدل ، وعدل الله عام ، وهبته
التوفيق والهداية فضل ، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
[٥٩٠] فإن قيل : ما فائدة قوله : «عندك» في قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) [الإسراء : ٢٣].
قلنا
: فائدته أنهما
يكبران في بيته وكنفه ويكونان كلّا عليه لا كافل لهما غيره ، وربما تولى منهما من
المشاقّ ما كانا يتوليان منه في حال الطفولية.
[٥٩١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى) [الإسراء : ٣٢]
ولم يقل ولا تزنوا؟
قلنا
: لو قال ولا تزنوا
كان نهيا عن الزنا لا عن مقدماته كاللمس والمعانقة والقبلة ونحو ذلك ، ولما قال : (وَلا تَقْرَبُوا) كان نهيا عنه وعن مقدماته ، لأن فعل المقدمات قربان للزنا.
[٥٩٢] فإن قيل : الإشارة بقوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) [الإسراء : ٣٨]
على ما ذا تعود؟
قلنا
: الإشارة إلى كل
ما هو منهي عنه من جميع ما ذكر من قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣]
إلى هذه الآية ؛ لا إلى جميع ما ذكر فإن فيه حسنا وسيئا.
وقال أبو علي : هو
إشارة إلى قوله : (وَلا تَقْفُ) [الإسراء : ٣٦]
وما بعده ؛ لأنه لا حسن فيه.
[٥٩٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٤]
فقوله ومن فيهن يتناول أهل الأرضين كلهم ، والمراد به العموم كما هو مقتضى الصيغة
بدليل تأكيده بقوله تعالى بعده (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤]
والتسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق بصفات جلاله وكماله ، والكفار يضيفون إليه
الزوج والولد والشريك وغير ذلك ، فأين تسبيحهم؟
قلنا
: الضمير في قوله
تعالى : (وَمَنْ فِيهِنَ) راجع إلى السموات فقط.
الثاني
: أنه راجع إلى
السموات والأرض ، والمراد بقوله تعالى : (وَمَنْ فِيهِنَ) يعني من المؤمنين ، فيكون عاما أريد به الخاص ، وعلى هذا
يكون المراد بالتسبيح إلى من فيهن التسبيح بلسان المقال.
الثالث
: أن المراد به
التسبيح بلسان الحال حيث تدل على وجود الصانع وعظيم قدرته ونهاية حكمته ، فكأنها
تنطق بذلك وتنزهه عما لا يجوز عليه وما لا يليق به من السوء ، ويؤيده قوله تعالى
بعده (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) والتسبيح العام لجميع الموجودات إنّما هو التسبيح بلسان
الحال.
[٥٩٤] فإن قيل : لو كان المراد هو التسبيح بلسان الحال لما قال :
(وَلكِنْ لا
__________________
تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ؛
لأنّ التسبيح بلسان الحال مفقوه لنا ، أي مفهوم ومعلوم؟
قلنا
: الخطاب بقوله
تعالى : (وَلكِنْ لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) للكفار ، وهم مع تسبيحهم بلسان الحال لا يفقهون تسبيح
الموجودات على ما ذكرنا من التفسير ؛ لأنّهم لما جعلوا لله شركاء وزوجا وولدا دل
ذلك على عدم فهمهم التسبيح للموجودات وتنزيهها وعدم إيضاح دلائل الوحدانية لهم ؛
لأن الله تعالى طبع على قلوبهم.
[٥٩٥] فإن قيل : (وَمَنْ فِيهِنَ) وهم الملائكة والثقلان يسبحون حقيقة والسموات والأرض
والجمادات تسبح مجازا ، فكيف جمع بين إرادة الحقيقة والمجاز من لفظ واحد وهو قوله
: (تُسَبِّحُ)؟
قلنا
: التّسبيح المجازي
بلسان الحال حاصل من الجميع ، فيحمل عليه دفعا لما ذكرتم من المجاز.
[٥٩٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٥٢] ،
والمستعمل الشائع دعاه فاستجاب لأمره أو بأمره ، أي أجاب؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما : المراد بقوله تعالى : (بِحَمْدِهِ) بأمره.
وقال سعيد بن جبير
رضي الله عنه : إذا دعا الله الخلائق للبعث يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن
رءوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. وقال غيره وهم يقولون : الحمد لله الذي
صدقنا وعده ، فعلى هذا تكون الباء بمعنى مع كما في قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠]
وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) [طه : ١٣٠].
[٥٩٧] فإن قيل : كيف أجمل ذكر الأنبياء كلهم بقوله : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٥٥] ثم
خص داود بالذكر فقال : (وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) [الإسراء : ١٧].
قلنا
: لأنه اجتمع له ما
لم يجتمع لغيره من الأنبياء ، وهو الرسالة والكتابة والخطابة والخلافة والملك
والقضاء في زمن واحد ، قال الله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [ص : ٢٠] وقال : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ) [ص : ٢٦].
__________________
الثاني
: أن قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) إشارة إلى تفضيل محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) دلالة على وجه تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأن أمته خير
الأمم ؛ لأن ذلك مكتوب في زبور داود عليه الصلاة والسلام ، وإليه الإشارة بقوله
تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥]
يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم وأمته.
[٥٩٨] فإن قيل : لم نكر الزبور هنا وعرفه في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ
بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥]؟
قلنا
: يجوز أن يكون
الزّبور من الأعلام التي تستعمل بالألف واللام وبغيرهما كالعباس والفضل والحسن
ونحوها.
الثاني
: أنه نكره هنا
لأنه أراد وآتينا داود بعض الزبور وهي الكتب.
الثالث
: أنه نكره لأنه
أراد به ما ذكر فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الزبور ، فسمى ذلك زبورا ؛ لأنه بعض الزبور ، كما سمى
بعض القرآن قرآنا ، فقال تعالى : (وَقُرْآناً
فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦]
الآية ، وقال : (بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : ٣] وأراد
به سورة يوسف عليهالسلام ، وقال : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء : ٧٨] أي
القرآن المتلو في صلاة الفجر.
[٥٩٩] فإن قيل : قوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [الإسراء : ٤٨] (كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) [الإسراء : ٥٦]
مغن عن قوله تعالى : (وَلا تَحْوِيلاً) [الإسراء : ٥٦]
لأنهم إذا لم يستطيعوا كشف الضر لا يستطيعون تحويله ، لأن تحويل الضر نقله من محل
وإثباته في محل آخر ، ومنه تحويل الفراش والمتاع وغيرهما ، وكشف الضر مجرد إزالة ،
ومن لا يقدر على الإزالة وحدها فكيف يقدر على الإزالة مع الإثبات؟ والمراد بالآية
كشف الضر والمرض والقحط ونحوها؟
قلنا
: التحويل له
معنيان : أحدهما ما ذكرتم. والثاني التبديل ، ومنه قولهم : حوّلت القميص قباء ،
والفضة خاتما ؛ وأريد بالتبديل هنا الكشف ؛ لأن في الكشف المنفي في الآية تبديلا ؛
فإن المرض متى كشف يبدل بالصحة ، والفقر متى كشف يبدل بالغنى ، والقحط متى كشف
يبدل بالخصب ، وكذا جميع الأضداد ، فأطلق التبديل
__________________
وأراد به الكشف ،
إلا أنه لم يرد به كشف الضر لئلّا يلزم التكرار ، بل أراد به مطلق الكشف الذي هو
الإزالة ، يعني فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا كشفا ما ، ولهذا لم يقل ولا
تحويله. وهذا الجواب مما فتح الله عليّ به من خزائن جوده ، ونظيره ما ذكرناه في
سورة النحل في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
وَلا يَسْتَطِيعُونَ) [النحل : ٧٣].
[٦٠٠] فإن قيل : قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩]
الآية فيها أسئلة : أولها : أنّ الله تعالى لا يمنعه عما يريده مانع ، فإن أراد
إرسال الآيات فكيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟ وإن لم يرد إرسالها كان وجود
تكذيبهم وعدمه سواء. وكان عدم الإرسال لعدم الإرادة.
الثاني
: أن الإرسال يتعدى
بنفسه ، قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] فأيّ
حاجة إلى الباء؟
الثالث
: أن المراد
بالآيات هنا ما اقترحه أهل مكة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم من جعل الصفا ذهبا ، وإزالة جبال مكة ليتمكنوا من الزراعة
، وإنزال مكتوب من السماء ونحو ذلك ، وهذه الآيات ما أرسلت إلى الأولين ولا
شاهدوها فكيف كذبوا بها؟
الرابع
: أن تكذيب الأولين
لا يمنع إرسالها إلى الآخرين لجواز أن لا يكذب الآخرون.
الخامس
: أيّ مناسبة
وارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)؟
السادس
: ما معنى وصف
الناقة بالإبصار؟
السابع
: أن الظلم يتعدى بنفسه ؛ قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] ،
فأيّ حاجة إلى الياء ؛ وهلّا قال فظلموها يعني العقر والقتل؟
الثامن
: أن قوله تعالى :
(وَما نُرْسِلُ
بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩]
يدل على الإرسال بها ، وقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ) [الإسراء : ٥٩]
يدل على عدم الإرسال بها؟
قلنا
: الجواب عن الأوّل
: أن المنع مجاز عبر به عن ترك الإرسال بالآيات ، كأنه تعالى قال : وما كان سبب
ترك الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.
وعن الثاني : أن الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به لا إلى المرسل ، لأن
المرسل محذوف وهو الرسول ، تقديره : وما منعنا أن نرسل الرسل بالآيات ، والإرسال
يتعدى إلى
المرسل بنفسه ،
وإلى المرسل به بالباء ، وإلى المرسل إليه بإلى ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا
وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [هود : ٩٦ ، ٩٧].
وعن الثالث : أن الضمير في قوله تعالى بها عائد إلى جنس الآيات المقترحة
لا إلى هذه الآيات المقترحة ، كأنه تعالى قال : وما منعنا أن نرسل بالآيات
المقترحة إلا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة ، يريد المائدة والناقة ونحوهما مما
اقترحه الأولون على أنبيائهم.
وعن الرابع : أن سنة الله تعالى في عباده أنّ من اقترح على الأنبياء آية
وأتوه بها فلم يؤمن عجل الله هلاكه ، والله تعالى لم يرد هلاك مشركي مكة ؛ لأنه
تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن ، أو لأنه قضى وقدّر في سابق علمه بقاء من بعث
إليهم محمد صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة ، فلو أرسل بالآيات التي اقترحوها فلم
يؤمنوا لأهلكهم ، وحكمته اقتضت عدم إهلاكهم ، فلذلك لم يرسلها ، فيصير معنى الآية
: وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة عليك إلا أن كذب بالآيات المقترحة الأولون
فأهلكوا ، فربما كذب بها قومك فأهلكوا.
وعن الخامس : أنه تعالى لما أخبر أن الأولين كذبوا بالآيات المقترحة
عيّن منها واحدة وهي ناقة صالح عليهالسلام ؛ لأن آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم
يبصرها صادرهم وواردهم.
وعن السادس : أن معنى مبصرة دالة ، كما يقال الدليل مرشد وهاد. وقيل
:
مبصرا بها ، كما
يقال : ليل نائم ونهار صائم : أي ينام فيه ويصام فيه. وقيل
: معناه مبصرة ،
يعني أنها تبصّر الناس صحة نبوة صالح عليهالسلام ، ويعضد هذا قراءة من قرأ (مبصرة) بفتح الميم والصاد : أي
تبصرة. وقيل : مبصرة صفة لآية محذوفة ، تقديره : آية مبصرة : أي مضيئة
بينة.
وعن السابع : أن الباء ليست لتعدية الظلم إلى الناقة ؛ بل معناه :
فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها. وقيل : الظلم هنا الكفر ، فمعناه : فكفروا بها ؛ فلما ضمن الظلم
معنى الكفر عداه تعديته.
وعن الثامن : أن المراد بالآيات ثانيا العبر والدلالات لا الآيات التي
اقترحها أهل مكة.
[٦٠١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٦٠]
وليس في القرآن لعن شجرة ما؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن.
الثاني
: أن معناه :
الملعون آكلوها وهم الكفرة.
الثالث
: أن الملعونة يعني
المذمومة كذا قال ابن عباس رضى الله عنهما ، وهي مذمومة في القرآن بقوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ
الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤]
وبقوله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ
رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات : ٦٥].
الرابع
: أن العرب تقول
لكل طعام مكروه أو ضار ملعون ، وفي القرآن الإخبار عن ضررها وكراهتها.
الخامس
: أن اللعن في
اللغة الطرد والإبعاد ، والملعون هو المطرود عن رحمة الله تعالى المبعد ، وهذه
الشجرة مطرودة مبعدة عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة لأنها في قعر جهنم وهذا
الإبعاد والطرد مذكور في القرآن بقوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٦٤]
وقال ابن الأنباري : سميت ملعونة لأنها مبعدة عن منازل أهل الفضل.
[٦٠٢] فإن قيل : كيف خص أصحاب اليمين بقراءة كتبهم بقوله تعالى :
(فَمَنْ أُوتِيَ
كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) [الإسراء : ٧١]
ولم خصهم بنفي الظلم عنهم بقوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) [الإسراء : ٧١] مع
أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم ولا يظلمون أيضا؟
قلنا
: إنما خص أصحاب
اليمين بذكر القراءة ؛ لأن أصحاب الشمال إذا رأوا ما في كتبهم من الفضائح والقبائح
أخذهم من الحياء والخجل والخوف ما يوجب حبسة اللسان وتتعتع الكلام والعجز عن إقامة
الحروف ، فتكون قراءتهم كلا قراءة ؛ فأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك ، لا
جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول
القارئ لأهل المحشر (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩]
وأما قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) فهو عائد إلى كل الناس لا إلى أصحاب اليمين.
الثاني
: أنه عائد إلى
أصحاب اليمين خاصة ، وإنما خصصهم بذلك لأنهم يعلمون أنهم لا يظلمون ، ويعتقدون ذلك
بخلاف أصحاب الشمال فإنهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون ، ويعضد هذا الوجه قوله
تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه : ١١٢].
[٦٠٣] فإن قيل : كيف قال موسى عليهالسلام لفرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
أَنْزَلَ هؤُلاءِ)
__________________
[الإسراء : ١٠٢]
يعني الآيات (إِلَّا رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢]
يعني بينات وحججا واضحات ، وفرعون لم يعلم ذلك ؛ لأنه لو علم ذلك لم يقل لموسى عليهالسلام (إِنِّي لَأَظُنُّكَ
يا مُوسى مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١]
أي مخدوعا أو قد سحرت أو ساحرا مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال ، بل كان يؤمن
به ؛ وكيف يعلم ذلك وقد طبع الله على قلبه وأضله وحال بينه وبين الهدى والرشاد ،
ولهذا قرأ عليّ كرم الله وجهه (لَقَدْ عَلِمْتَ) بضم التاء وقال : والله ما علم عدو الله ولكن موسى عليهالسلام هو الذي علم. واختار الكسائي وثعلب قراءة علي رضي الله عنه
ونصراها بأنه لما نسبه إلى أنه مسحور أعلمه بصحة عقله بقوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ)؟
قلنا
: معناه لقد علمت
لو نظرت نظرا صحيحا إلى الحجة والبرهان ، ولكنك معاند مكابر تخشى فوات دعوى
الإلهية لو صدقتني ، فكان فرعون ممن أضله الله على علم ، ولهذا بلغ ابن عباس قراءة
عليّ رضي الله عنهم ويمينه فاحتج بقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤].
[٦٠٤] فإن قيل : كيف قال موسى عليهالسلام (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ
يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [الإسراء : ١٠٢]
وموسى عليهالسلام كان عالما بذلك لا شك عنده فيه؟
قلنا
: قال أكثر
المفسرين : الظن هنا بمعنى العلم كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦]
وإنما أتى بلفظ الظن ليعارض ظن فرعون بظنه ، كأنه قال : إن ظننتني مسحورا فأنا
أظنك مثبورا والمثبور الهالك والمصروف عن الخيرات أو الملعون والخاسر.
[٦٠٥] فإن قيل : كيف كرر تعالى الإخبار بالخرور؟
قلنا
: كرره ليدل على
تكرار الفعل منهم.
الثاني
: أنه كرره لاختلاف
الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين وفي حال كونهم باكين.
الثالث
: أنه أراد بالخرور
الأول الخرور في حالة سماع القرآن وقراءته ، وبالخرور الثاني الخرور في سائر
الحالات وباقيها.
[٦٠٦] فإن قيل : الحمد إنما يكون على نعمة أنعم الله تعالى بها
على العبد ، كما في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] لأن
فيها من المنافع لنا ما لا يعد ولا يحصى ، فأي نعمة حصلت لنا من كون الله تعالى لم
يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولا ناصر حتى قال : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً) [الإسراء : ١١١]
الآية؟
قلنا
: النعمة في ذلك أن
الملك إذا كان له ولد وزوج فإنما ينعم على عبيده بما يفضل عن ولده وزوجته ، وإذا
لم يكن له ولد وزوج كان جميع إنعامه وإحسانه مصروفا إلى عبيده ، فكان نفي اتخاذ
الولد مقتضيا مزيد الإنعام عليهم ، وأما نفي الشريك فلأنه يكون أقدر على الإنعام
على عبيده لعدم المزاحم ، وأما نفي النصير فلأنه يدل على القوة والاستغناء ،
وكلاهما يقتضي القدرة على زيادة الإنعام ، والله أعلم وأحكم.
سورة الكهف
[٦٠٧] فإن قيل : قوله تعالى : (قَيِّماً) يعني مستقيما ، وقوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً) [الكهف : ١] مغن
عن قوله قيما لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة ؛ لأن العوج في المعاني كالعوج
في الأعيان ، والمراد به هنا نفي الاختلاف والتناقض في معانيه ، وأنه لا يخرج منه
شيء عن الصواب والحكمة. وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره : الحمد لله الذي أنزل على
عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا.
قلنا
: قال الفرّاء :
معنى قوله : (قَيِّماً) قائما على الكتب السماوية كلها مصدقا لها شاهدا بصحتها ناسخا
لبعض شرائعها ، فعلى هذا لا تكرار فيه ، وعلى القول المشهور يكون الجمع بينهما
للتأكيد سواء قدر قيما مقدما أو أقر في مرتبته ، ونصب بفعل مضمر تقديره : ولكن
جعله قيما. ولا بد من هذا الإضمار أو من التقديم والتأخير وإلا يصير المعنى : ولم
يجعل له عوجا مستقيما والعوج لا يكون مستقيما.
[٦٠٨] فإن قيل : اتخذ الله تعالى ولدا محال ، فكيف قال : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) [الكهف : ٥] وإنما
يستقيم أن يقال فلان ما له علم بكذا إذا كان ذلك الشيء مما يعلمه غيره أو مما يصح
أن يعلم ، كقولنا زيد ماله علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر ونحو ذلك.
قلنا
: معناه ما لهم به
من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وهذا لأن انتفاء العلم بالشيء تارة يكون
للجهل بالطريق الموصل إليه ، وتارة يكون لاستحالة العلم به ؛ لأنه في نفسه محال لا
يستقيم تعلق العلم به. وما نحن فيه من هذا القبيل.
[٦٠٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ١٢] وهو
عالم بذلك في الأزل؟
قلنا
: معناه لنعلم ذلك
علم مشاهدة كما علمناه علم غيب.
[٦١٠] فإن قيل : كيف قال (فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ) [الكهف : ١٩] ولم
يقل واحدكم؟
قلنا
: لأنه أراد فردا
منهم أيهم كان ، ولو قال واحدكم لدلّ على بعث رئيسهم ومقدمهم ، فإن العرب تقول :
رأيت أحد القوم ، أي فردا منهم ولا تقول : رأيت واحدا لقوم إلا إذا أردت المقدم
المعظم.
[٦١١] فإن قيل : كيف جاء تعالى بسين الاستقبال في الفعل الأول
دون الآخرين في قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ) [الكهف : ٢٢]
الآية؟
قلنا
: أراد دخول
الفعلين الآخرين في حكم الأول بمقتضى العطف ، فاقتصر على ذكر السين في الأول
إيجازا واقتصارا كما تقول : زيد قد يخرج ويركب ، تريد وقد يركب.
[٦١٢] فإن قيل : كيف دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأولين
وهي قوله :
(وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢].
قلنا
: قال بعض المفسرين
هي واو الثمانية. وقد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة.
وقال الزّجاج :
دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة ، وجاء القرآن بهما.
وقال غيره : الواو
مرادة في الجملتين الأوليين وإنما حذفت فيهما تخفيفا ، وأتى بها في الجملة الثالثة
دلالة على إرادتها فيهما. ويرد على هذا القول ، أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في
الجملة الأولى ، محذوفة في الجملة الثانية والثالثة ، ليدل ذكرها أوّلا على حذفها
بعد ذلك ، كما سبق في سين الاستقبال.
وقال الزمخشري
وغيره : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، كما تدخل على الصفة
الواقعة حالا من المعرفة ، تقول : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف ،
ومنه قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤]
وفائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر
، وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم
وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم ، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع
القولين الأولين قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الكهف : ٢٢]
وأتبع القول الثالث قوله : (ما يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا قَلِيلٌ) [الكهف : ٢٢].
وقال ابن عباس :
وقعت الواو لقطع العدد : أي لم يبق بعدها عدد عاد يلتفت إليه ، ويثبت أنهم سبعة
وثامنهم كلبهم على القطع والبتات.
وقال الثعلبي :
هذه واو الحكم والتحقيق ، كأنّ الله تعالى حكى اختلافهم فتم
__________________
الكلام عند قوله
سبعة ، ثم حكى بأن ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام ، فحقق ثبوت العدد الأخير ؛ لأن
الثامن لا يكون إلا بعد السبعة ، فعلى هذا يكون قوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] من
كلام الله تعالى حقيقة أو تقديرا.
ويرد على هذا أن
قوله تعالى بعد هذه الواو (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِمْ) [الكهف : ٢٢]
وقوله تعالى : (ما يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا قَلِيلٌ) [الكهف : ٢٢] يدل
على بقاء الإبهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو.
[٦١٣] فإن قيل : كيف قال : (لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ١١٥]
وقال في موضع آخر : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١]
ويلزم من تبديل الآية بالآية تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟
قلنا
: معنى الأول لا
مغير للقرآن من البشر ، وهو جواب لقولهم للنبي صلىاللهعليهوسلم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله.
الثاني
: أن معناه لا خلف
لمواعيده ولا مغير لحكمه ، ومعنى الثاني النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافي
بينهما.
[٦١٤] فإن قيل : قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩]
إباحة وإطلاق للكفر؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما معناه : فمن شاء ربكم فليؤمن ومن شاء ربكم فليكفر ، يعني لا إيمان ولا
كفر إلا بمشيئته.
الثاني
: أنه تهديد ووعيد.
الثالث
: أن معناه لا
تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم ، فهو إظهار للغنى لا إطلاق للكفر.
[٦١٥] فإن قيل : لبس الأساور في الدنيا عيب للرّجال ، ولهذا لا
يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال ، فكيف وعدها الله تعالى المؤمنين في
الجنّة في قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [الكهف : ٣١]؟
قلنا
: كانت عادة ملوك
الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم ، فلذلك وعدها الله
تعالى المؤمنين ؛ لأنهم ملوك الآخرة.
[٦١٦] فإن قيل : كيف أفرد الله تعالى الجنة بعد التثنية فقال : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) [الكهف : ٣٥]؟
قلنا
: أفردها ليدل على
الحصر ، معناه : ودخل ما هو جنته لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التي وعد
المتقون ، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد جنة معينة منهما بل جنس
ما كان له.
[٦١٧] فإن قيل : كيف قال الأخ المؤمن لأخيه (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا
أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : ٣٨] وهذا
تعريض بأن أخاه مشرك وليس في كلام أخيه ما يقتضي الشرك بل الكفر وهو قوله (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف : ٣٦]؟
قلنا
: إشراك أخيه الذي
عرض له به هو اعتقاده أن زكاة جنته ونماءها بحوله وقوته ، ولهذا قال له : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [الكهف : ٣٩]
ولهذا قال هو أيضا لما أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي
أَحَداً) [الكهف : ٤٢]
فاعترف بالشرك.
[٦١٨] فإن قيل : ما فائدة أنا في قوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ) [الكهف : ٣٩]؟
قلنا
: أنا في مثل هذا
الموضع تفيد حصر الخبر في المخبر عنه ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : ١٢] وقوله :
(إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠]
ونظائره كثيرة.
[٦١٩] فإن قيل : ما معنى قوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) [الكهف : ٤٣]
وكذلك كل ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ) [الشورى : ٦] (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة : ١٠٧]
وكيف تحقيق معناه؟
قلنا
: «دون» يستعمل في كلام العرب بمعنى غير ، كقولهم : لفلان مال
دون هذا ، ومن دون هذا ، أي غير هذا. ونظيره قوله تعالى : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) [المؤمنون : ٦٣]
أي من غيره ، وتستعمل أيضا بمعنى قبل ، كقولهم المدينة دون مكة ، أي قبلها ، ومن
دونه خرط القتاد. ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء ، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقي ،
وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى قبل بل بمعنى غير فقط.
[٦٢٠] فإن قيل : كيف قال : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ
لِلَّهِ الْحَقِ) [الكهف : ٤٤] يعني
في يوم الآخرة أو في يوم القيامة ، والولاية بكسر الواو السلطان والملك ، وبفتح
الواو التولي والنصرة ، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والآخرة يعز من يشاء ويذل من
يشاء ، وينصر من يشاء ، ويخذل من يشاء ، ويتولى من يشاء بحراسته وحفظه ، فما فائدة
تخصيص يوم القيامة؟
قلنا
: فائدته أن
الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا ويوم القيامة تنقطع كلها ، ويسلم الملك لله
تعالى عن كل منازع ، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣].
[٦٢١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً
وَخَيْرٌ عُقْباً) [الكهف : ٤٤] أي
عاقبة ، وغير الله تعالى لا يثيب ليكون الله خيرا منه ثوابا؟
قلنا
: هذا على الفرض
والتقدير معناه : لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل ، ولكانت طاعته أحمد عاقبة
وخيرا من طاعة غيره.
[٦٢٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ) [الكهف : ٤٧] بلفظ
الماضي وما قبله مضارعان وهو قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] أي
لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟
قلنا
: للدلالة على أن
حشرهم كان قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قال :
وحشرناهم قبل ذلك.
[٦٢٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ
لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] مع
أنه أخبر أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١]؟
قلنا
: الآية الأولى في
حقّ الكافرين بدليل قوله تعالى : (فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ) [الكهف : ٤٩]
والمراد بهم هنا الكافرون ، كذا قال مجاهد ، وقال غيره : كل مجرم في القرآن
فالمراد به الكافر ، والآية الثانية المراد بها المؤمنون ؛ لأن اجتناب الكبائر لا
يكون متحققا مع وجود الكفر.
الثاني
: لو ثبت أن المراد
بالمجرم مطلق المذنب لم يلزم التناقض لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم
القيامة ثم تكفر عنه فيعلم قدر نعمة العفو فإن أكثر ذنوب العبد ينساها خصوصا
الصغائر.
[٦٢٤] فإن قيل : قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ
كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] يدل
على أنه من الجن وقوله تعالى في موضع آخر : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الكهف : ٥٠] يدل
على أنه من الملائكة ، فكيف الجمع بينهما؟
قلنا
: فيه قولان :
أحدهما
: أنه من الجن
حقيقة عملا بظاهر هذه الآية ، ولأن له ذرية قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠]
والملائكة لا ذرية لهم ، ولأنه أكفر الكفرة وأفسق الفسقة ، والملائكة معصومون عن
الكبائر لأنهم رسل الله ، وعن المعاصي مطلقا لأنهم عقول مجردة بغير شهوة ، ولا
معصية إلا عن شهوة ، ويؤيده قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦]
وقال تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩]
يعني الملائكة : (لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ،
٢٠] فكيف يكون إبليس منهم ويؤمر بالسجود فيمتنع ، فعلى هذا يكون استثناؤه من
الملائكة استثناء من غير الجنس ؛ أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود لا من
جنس الملائكة ، ويكون التقدير : وإذ قلنا للملائكة وإبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلا
إبليس كما تقول : أمرت إخوتي وعبدي بكذا فأطاعوني إلا عبدي ، والعبد ليس من الإخوة
ولا داخلا فيهم إلا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم ، فهذا كذلك.
القول الثاني : أنه كان من الملائكة قبل أن يعصي الله تعالى ، فلما عصاه
مسخه شيطانا. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فيكون معنى قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠]
لمخالفته ، فتكون كان بمعنى صار. وقيل معناه : أنه كان من الجن في سابق علم الله
تعالى وهذان القولان يدلان على أنه كان من الملائكة قبل المعصية. وروي عنه أيضا
أنه كان من خزان الجنة ، وهم جماعة من الملائكة يسمون الجن ، فعلى هذا يكون قوله
تعالى : (مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] أي
من الملائكة الذين هم خزّان الجنة (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠]
بمخالفته فيكون استثناء من الجنس. وقال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الكهف : ٥٠] هو
استثناء متصل ، لأنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم ،
فغلبوا عليه في قوله : (فَسَجَدُوا) قلت : وفي هذا التعليل نظر ؛ ثم قال بعده : ويجوز أن يجعل
منقطعا.
[٦٢٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠]
والأولياء : الأصدقاء والأحباب وهم ضد الأعداء ، ويؤيده قوله تعالى : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠] وليس
من الناس أحد يحب إبليس وذريته ويصادقهم؟
قلنا
: المراد بالموالاة
هنا إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي ويوسوسون في صدورهم وطاعتهم
إياهم ، فالموالاة مجاز عن هذا لأنه من لوازمها.
[٦٢٦] فإن قيل : قال تعالى هنا : (وَيَوْمَ يَقُولُ
نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [الكهف : ٥٢] أي
فلم يجب الأصنام المشركين ، فنفى عن الأصنام النطق ، وقال تعالى في سورة النحل : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ
دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النحل : ٨٦] يعني
فكذبتهم الأصنام فيما قالوا ، فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟
قلنا
: المراد بقوله هنا
: (نادُوا شُرَكائِيَ
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) [الكهف : ٥٢] أي
نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم ، فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك ، فنفى عنهم
النطق بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم ، وفي سورة النحل أثبت لهم النطق
بتكذيب المشركين
في دعوى عبادتهم ، فلا تناقض بين المنفي والمثبت.
[٦٢٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (شُرَكائِيَ) [الكهف : ٥٢] وقال
في سورة النحل (شُرَكاءَهُمْ) [النحل : ٨٦]؟
قلنا
: قوله تعالى : (شُرَكائِيَ) [الكهف : ٥٢]
معناه في زعمكم واعتقادكم ، ولهذا قال : (شُرَكائِيَ الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ) [الكهف : ٥٢]
وأخرجه مخرج التهكم بهم ، كما قال المشركون للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وقوله
تعالى : (شُرَكاءَهُمْ) [النحل : ٨٦] يعني
آلهتهم التي جعلوها شركاء ، فإضافتها إلى الله تعالى لجعلهم إياها شركاء ،
والإضافة تصح بأدنى ملابسة لفظية أو معنوية فصحت الإضافتان.
[٦٢٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١]
والناسي إنما كان يوشع وحده بدليل قوله لموسى عليه الصلاة والسلام معتذرا (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف : ٦٣] أي
قصة الحوت وخبره (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣]؟
قلنا
: أضيف النسيان
إليهما مجازا ، والمراد أحدهما. قال الفراء : نظيره قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢]
وإنما يخرج من الملح لا من العذب.
وقيل : نسي موسى عليهالسلام تفقد الحوت ونسي يوشع أن يخبره خبره ، وذلك أنه كان حوتا
مملوحا في مكتل قد تزوّداه ، فلما أصابه من ماء عين الحياة رشاش حيى وانسل ، وكان
قد ذهب لقضاء حاجة فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت ، فلما جاء موسى نسي
أن يخبره ، ونسي موسى تفقد الحوت والسؤال عنه.
[٦٢٩] فإن قيل : هذا التفسير يدل على أن النسيان من يوشع أو
منهما كان بعد حياة الحوت وذهابه في البحر ، وظاهر الآية يدل على أنّ النسيان كان
سابقا على ذهابه في البحر متصلا ببلوغ مجمع البحرين لقوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما
نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) [الكهف : ٦١].
قلنا
: في الآية تقديم
وتأخير تقديره : فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا فنسيا
حوتهما.
[٦٣٠] فإن قيل : كيف نسي يوشع مثل هذه الأعجوبة العظيمة في مدة
يسيرة ؛ بل في لحظة ؛ واستمر به النسيان يومه ذلك وليلته إلى وقت الغداء من اليوم
الثاني ؛ ومثل ذلك لا ينسى مع تطاول الزمان كيف وقد كان الله تعالى جعل فقدان
الحوت علامة لهما على وجدان الخضر عليهالسلام ، على ما نقل أن موسى عليهالسلام سأل الله تعالى علامة على موضع وجدانه ، فأوحى إليه أن خذ
معك حوتا في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم؟
قلنا
: سبب نسيانه أنه
كان قد اعتاد مشاهدة المعجزات من موسى عليهالسلام
واستأنس بها فكان
إلفه لمثلها من خوارق العادات سببا لقلة اهتمامه بتلك الأعجوبة وعدم اكتراثه لها.
[٦٣١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (حَتَّى إِذا رَكِبا
فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) [الكهف : ٧١] بغير
فاء و (حَتَّى إِذا لَقِيا
غُلاماً فَقَتَلَهُ) [الكهف : ٧٤]
بالفاء؟
قلنا
: جعل خرقها جزءا
للشرط فلم يحتج إلى الفاء كقولك إذا ركب زيد الفرس عقره ، وجعل قتل الغلام من جملة
الشرط فعطفه عليه بالفاء والجزاء قال أقتلت ، كقولك : إذا ركب زيد الفرس فعقره ،
قال له صاحبه أعقرته؟
[٦٣٢] فإن قيل : كيف خولف بين القصتين؟
قلنا
: لأن خرق السفينة
لم يتعقب الركوب ، وقتل الغلام تعقب لقاءه.
[٦٣٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى في قصة الغلام : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : ٧٤] وفي
قصة السفينة (لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً) [الكهف : ٧٤].
قلنا
: قيل إمرا معناه
نكرا ، فعلى هذا لا فرق في المعنى ؛ لأن الإمر والنكر بمعنى واحد.
وقيل : الإمر العجب أو الداهية وخرق السفينة كان أعظم من قتل نفس
واحدة ، لأن في الأول هلاك كثيرين.
وقيل : النكر أعظم من الإمر فمعناه : جئت شيئا أنكر من الأول ؛
لأن ذلك كان يمكن تداركه بالسد وهذا لا يمكن تداركه.
[٦٣٤] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في قصّة السفينة : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ) [الكهف : ٧٢] وفي
قصة الغلام : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ
إِنَّكَ) [الكهف : ٧٥]؟
قلنا
: لقصد زيادة
المواجهة بالعتاب على رفض الوصية مرة ثانية والتنبيه على تكرر ترك الصبر والثبات.
[٦٣٥] فإن قيل : ما فائدة إعادة ذكر الأهل في قوله : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) [الكهف : ٧٧]
وهلّا قال استطعماهم ، لأنه قد سبق ذكر الأهل مرّة؟
قلنا
: فائدة إعادته
التأكيد لا غير.
[٦٣٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] نسب
الإرادة إلى الجماد وهي من صفات من يعقل؟
__________________
قلنا
: هذا مجاز بطريق
المشابهة ؛ لأنّ الجدار بعد مشارفته ومداناته للانقضاض وللسقوط شابه من يعقل ،
ويريد في تهيئه للسقوط فظهر منه هيئة السقوط كما تظهر ممّن يعقل ، ويريد ، فنسبت
إليه الإرادة مجازا بطريق المشابهة في الصّورة. وقد أضافت العرب أفعال العقلاء إلى
ما لا يعقل مجازا قال الشاعر :
يريد الرّمح صدر
أبي براء
|
|
ويعدل عن دماء
بني عقيل
|
وقال حسان :
إنّ دهرا يلفّ
شملي بجمل
|
|
لزمان يهمّ
بالإحسان
|
ومن أمثاله «تمرّد
مارد ، وعزّ الأبلق» ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف : ١٥٤]
وقوله : (فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ) [محمد : ٢١] وقوله
: (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) [فصلت : ١١]
ونظائره كثيرة.
[٦٣٧] فإن قيل : لأي سبب لم يفارقه الخضر عليهالسلام عند الاعتراض الأول والثاني وفارقه عند الثالث؟
قلنا
: لوجهين :
أحدهما
: أن موسى عليهالسلام شرط على الخضر ترك مصاحبته على تقدير وجود الاعتراض الثالث
وقد وجد ، فكان راضيا به.
الثّاني
: أنّ اعتراض موسى
، عليهالسلام ، في المرة الأولى والثّانية كان تورّعا وصلابة في الدّين
، واعتراضه في المرّة الثّالثة لهوى نفسه وشهوة بطنه فأعقبه هواه هوانا.
[٦٣٨] فإن قيل : قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩]
علّته خوف الغصب ، فكان حقه أن يتأخر عن علّته فلم قدم عليها؟
قلنا
: هو متأخر عنه ؛
لأن علّة تعييبها أو علّة إرادته تعييبها خوف الغصب ، وخوف الغصب سابق ؛ لأنّه
الحامل للخضر عليهالسلام على ما فعله. وفي قراءة أبيّ وعبد الله رضي الله عنهما «كل
سفينة صالحة» ولا بد من إضمار هذه الزيادة على قراءة الجمهور وإلّا لم يفد الخرق.
[٦٣٩] فإن قيل : الشّمس في السماء الرابعة وهي بقدر كرة الأرض
مائة وستين مرة ، وقيل مائة وخمسين ، وقيل مائة وعشرين ، فكيف تسعها عين في الأرض
حتى أخبر الله تعالى
__________________
عن ذي القرنين
أنّه وجدها تغرب في عين حمئة أو حامئة على اختلاف القراءتين؟
قلنا
: المراد بقوله
تعالى : (وَجَدَها) أي في زعمه وظنه ، كما يرى راكب البحر إذا لجّ فيه وغابت
عنه الأطراف والسواحل أن الشمس تطلع من البحر وتغرب فيه ، فذو القرنين انتهى إلى
آخر البنيان في جهة المغرب فوجد عينا حمئة واسعة عظيمة فظن أن الشمس تغرب فيها.
[٦٤٠] فإن قيل : ذو القرنين كان نبيا أو تقيا حكيما على اختلاف
القولين ، فكيف خفي عليه هذا حتى وقع في الظن المستحيل الذي لا يقبله العقل؟
قلنا
: الأنبياء
والأولياء والحكماء ليسوا معصومين عن ظن الغلط الخطأ ، وإن كانوا معصومين عن
الكبائر. ألا ترى إلى ظن موسى عليهالسلام فيما أنكره على الخضر عليهالسلام في القضايا الثلاث ، وظنه أنه يرى الله تعالى في الدنيا
وهو من كبار الأنبياء ، وكذلك يونس عليهالسلام على ما أخبر الله تعالى بقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٧]
وكان الواقع بخلاف ظنه.
الثاني
: أن الله تعالى
قادر على تصغير جرم الشمس وتوسيع العين الحمئة وكرة الأرض بحيث تسع عين الماء عين
الشمس ، فلم لا يجوز أن يكون قد وقع ذلك ولم نعلم به لقصور علمنا عن الإحاطة بذلك!!
[٦٤١] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْنا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف : ٨٦] ،
يدل على أنه كان نبيا ، لأن الله تعالى خاطبه.
قلنا
: من قال إنه ليس
نبيا يقول هذا الخطاب له كان بواسطة النّبيّ الموجود في زمانه كما في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٤٩] وما
أشبه.
[٦٤٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى هنا ، في حقّ الكفار : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] ،
أي فلا ننصب لهم ميزانا ؛ لأنّ الميزان إنما ينصب لتوزن به الحسنات بمقابلة
السيئات ، والكافر لا حسنة له ولا طاعة لقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣]
وقال في موضع آخر : (وَأَمَّا مَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٨ ، ٩]
أي فمسكنه النار فأثبت له ميزانا.
قلنا
: معنى قوله تعالى
: (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] أي
لا يكون لهم عندنا قدر ولا خطر لخستهم وحقارتهم ، ولو كان معناه ما ذكرتم يكون
المراد بقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٨ ، ٩]
من غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين فإنه يستكين في النار ، ولكن لا يخلد فيها
بل بقدر ما يمحص عنه ذنوبه فلا تنافي بينهما.
سورة مريم عليهاالسلام
[٦٤٣] فإن قيل : النداء الصوت والصياح ، يقال ناداه نداء ، أي
صاح به ، فكيف وصفه تعالى بكونه (خَفِيًّا) [مريم : ٣]؟
قلنا
: النداء هنا عبارة
عن الدّعاء ، وإنّما أخفاه ليكون أقرب إلى الإخلاص ، أو لئلا يلام على طلبه الولد
بعد الشّيخوخة ، أو لئلّا يعاديه بنو عمّه ويقولوا : كره أن نقوم مقامه بعده فسأل
ربه الولد لذلك.
[٦٤٤] فإن قيل : كيف قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٦]
والنّبيّ لا يورّث ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة»؟
قلنا
: المراد بقوله
يرثني : أي يرثني العلم والنّبوّة ، ويرث من آل يعقوب الملك. وقيل الأخلاق ،
فأجابه الله تعالى إلى وراثته العلم والنّبوّة والأخلاق دون الملك ، والمراد بقوله
صلىاللهعليهوسلم : «لا نورث» المال ويؤيده قوله : «ما تركناه صدقة» ويعقوب
هنا أبو يوسف عليهماالسلام. وقيل لا ؛ بل هو أخو زكريا. وقيل لا بل هو أخو عمران الذي
هو أبو مريم.
[٦٤٥] فإن قيل : كيف قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٦] فعدّى
الفعل في الأوّل بنفسه والثّاني بحرف الجر وهو واحد؟
قلنا
: يقال ورثه وورث
منه ، فجمع بين اللغتين. وقيل : «من» هنا للتبعيض
لا للتعدية ، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء.
[٦٤٦] فإن قيل : كيف طلب الولد بقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] أي
ولدا صالحا ، فلما بشره الله تعالى بقوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ) [مريم : ٧] الآية
__________________
استبعد ذلك وتعجب
منه وأنكره بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلامٌ) [آل عمران : ٤٠]؟
قلنا
: لم يقل ذلك على
طريق الإنكار والاستبعاد ، بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الوالد وهو قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧] فيزداد
الموقنون إيقانا ويرتدع المبطلون ، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج
واحد في أن الله تعالى غني عن الأسباب.
والثاني : أنه قال ذلك تعجب فرح وسرور ، لا تعجب إنكار واستبعاد.
الثالث
: قيل إنه قال ذلك
استفهاما عن الحالة التي يهبه الله تعالى فيها الولد ، هل يهبه في حال الشيخوخة أم
يرده إلى حالة الشباب ثم يهبه ولكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا عليهالسلام بعد استفهامه.
[٦٤٧] فإن قيل : كيف قال : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي
آيَةً) [مريم : ١٠]
والآية العلامة ، فطلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشره الله تعالى به ، أكان
عنده شك بعد بشارة الله تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟
قلنا
: إنما طلب العلامة
على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر ويتعجل السرور ، فإن الحمل لا يظهر في أول العلوق
بل بعد مدة ، فأراد معرفته أول ما يوجد ، فجعل الله آية وجود الحمل عجزه عن الكلام
وهو سوي الجوارح ما به خرس ولا بكم.
[٦٤٨] فإن قيل : كيف قالت مريم : (قالَتْ إِنِّي
أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨] ؛
وإنّما يتعوذ من الفاسق لا من التقي.
قلنا
: معناه إن كنت ممن
يتّقي الله ويخشاه فانته عنّي بتعوّذي به منك. فمعنى أعوذ أحصل على ثمرة التعوّذ.
وعن ابن عبّاس رضي
الله عنهما أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي ، ولم يكن تقيّا بل كان فاجرا ، فظنته
إياه فتعوذت منه. والقول الأول هو الذي عليه المحققون.
وقيل : هو على المبالغة معناه : إني أعوذ منك إن كنت تقيّا فكيف
يكون حالي في القرب منك إلى الله تعالى إذا لم تكن تقيّا؟ قالوا : ونظير هذا ما
جاء في الخبر : «نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه». معناه : أنه إذا كان
بحال لو لم يخف الله تعالى لا يوجد منه عصيان ، فكيف يكون حاله إذا خاف الله
تعالى. وفي قراءة أبي رجاء وابن مسعود إلا أن تكون تقيا.
[٦٤٩] فإن قيل : اتفق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة
ولم يرسل جبريل
__________________
عليهالسلام برسالة إلى امرأة قط ، ولهذا قالوا في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ
أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] أنه
كان وحي إلهام ، وقيل : وحي منام ؛ فكيف قال تعالى هنا (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [مريم : ١٧] وقال
: (إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ) [مريم : ١٩]؟
قلنا
: لا نسلم أن الوحي
لم ينزل على امرأة قط ، فإن مقاتلا قال في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ
أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] أنه
كان وحيا بواسطة جبريل عليهالسلام ، وإنما المتفق
عليه بين العلماء أن جبريل عليهالسلام لم ينزل بوحي الرّسالة على امرأة لا بمطلق الوحي ، وهنا لم
ينزل على مريم بوحي الرسالة ؛ بل بالبشارة بالولد ، ولهذا جاء على صورة البشر (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧].
[٦٥٠] فإن قيل : ما وجه قراءة الجمهور (لِأَهَبَ لَكِ) [مريم : ١٩]
والواهب للولد هو الله تعالى لا جبريل عليهالسلام؟
قلنا
: قال ابن الأنباري
: معناه إنّما أنا رسول ربك بقوله لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك ، فيكون حكاية عن
الله تعالى لا عن قول جبريل عليهالسلام ، فيكون فعل الهبة مسندا إلى الله تعالى لا إليه.
الثاني
: أن معناه لأكون
سببا في هبة الولد بواسطة النفخ في الدرع ، فالإضافة إليه بواسطة السببية.
[٦٥١] فإن قيل : كيف قالت : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم : ٢٠] ولم
تقل بغية ؛ مع أنه وصف مؤنث؟
قلنا
: قال ابن الأنباري
: لما كان هذا الوصف غالبا على النساء ، وقلما تقول العرب رجل بغي ، لم يلحقوا به
علامة التأنيث إجراء له مجرى حائض وعاقر. وقال الأزهري : لا يقال رجل بغيّ ، بل هو
مختص بالمؤنث ، ولام الكلمة ياء يقال بغت تبغي. وهي فعول عند المبرد أصلها بغويّ
قلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت الغين اتباعا ، فهو كصبور وشكور في عدم دخول التاء.
وقال ابن جني في كتابه التمام : هي فعيل ، ولو كان فعولا لقيل بغو ، كما قيل هو
نهو عن المنكر. ثم قيل : هي فعيل بمعنى فاعل ، فهي كقوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦].
وقال الأخفش : هي مثل ملحفة جديد فجعلها بمعنى مفعول. وقيل
: إنما لم يقل بغية
مراعاة لبقية رءوس الآيات.
__________________
[٦٥٢] فإن قيل : ما كان حزن مريم وقولها : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ
نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] ألفقد
الطعام والشراب حتى تسلي بالسري والرّطب ، أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل
الفاحشة؟.
قلنا
: كان حزنها لمجموع
الأمرين ، وهو ما ذكرتم ، وجدب مكانها الذي ولدت فيه ، فإنه لم يكن فيه طعام ولا
شراب ولا ماء تتطهر به ، وكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء
، وإخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن ، أما دفع الجدب فظاهر ، وأما
دفع حزن التهمة فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتها من السوء
وأن الله تعالى قد خصها بأمور إلهية خارجة عن العادة خارقة لها ، فتبين لهم أن
ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها ولا بعيد في قدرة الله تعالى ، المخرج في
لحظة واحدة الرطب الجنيّ من النخلة اليابسة ، والمجري للماء بغتة في مكان لم يعهد
فيه.
[٦٥٣] فإن قيل : كيف أمرها جبريل عليهالسلام إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت بقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَداً) [مريم : ٢٦] الآية
، وذلك خلف في النذر؟
قلنا
: إنما أمرها بذلك
لأنه تمام نذرها ، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يندرج فيه الكف عن
الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها ، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس ، وإذا كان تمام
نذرها بقولها : (فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] لا
تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر.
[٦٥٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مَنْ كانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٩] وكل
أحد كان ، في المهد صبيا؟
قلنا
: كان هنا زائدة ،
وصبيا منصوب على الحال لا على أنه خبر كان تقديره : كيف نكلم من في المهد في حال
صباه. وقيل : كان بمعنى وقع ووجد ، وصبيا منصوب على الوجه الذي مرّ.
[٦٥٥] فإن قيل : خطاب التكليف في جميع الشرائع إنّما يكون بعد
البلوغ أو بعد التمييز والقدرة على فعل المأمور به ، وعيسى عليهالسلام كان رضيعا في المهد فكيف خوطب بالصلاة والزكاة حتى قال : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما
دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١]؟
قلنا
: تأخير الخطاب إلى
غاية البلوغ وغيرها إنما كان ليحصل العقل والتمييز ، وعيسى عليهالسلام كان واجد العقل والتمييز التام في تلك الحالة فتوجّه نحوه
الخطاب أن يفعلهما إذا قدر على ذلك ، ولهذا قيل : إنه أعطي النّبوّة في صباه أيضا.
[٦٥٦] فإن قيل : الزكاة إنما تجب على الأغنياء ، وعيسى عليهالسلام لم يزل فقيرا لابس كساء مدة مقامه في الأرض ، وعلم الله
تعالى ذلك من حاله ، فكيف أوصاه بالزكاة؟
قلنا
: المراد بالزكاة
هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي لا زكاة المال!!
[٦٥٧] فإن قيل : كيف جاء السلام في قصة يحيى عليهالسلام منكرا ، وفي قصة عيسى عليهالسلام معرفا؟
قلنا
: قد قيل إن النكرة
والمعرفة في مثل هذا سواء لا فرق بينهما في المعنى.
الثاني
: أنه سبق ذكره في
قصة يحيى عليهالسلام مرة فلما أعيد ذكره أعيد معرفا كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ
رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦]
كأنه قال ذلك السلام الموجه إلى يحيى عليهالسلام في المواطن الثلاثة موجه إليّ.
[٦٥٨] فإن قيل : كيف تكون الألف واللام في السلام للعهد ، والأول
سلام من الله تعالى على يحيى عليهالسلام ، والثاني سلام من عيسى على نفسه؟
قلنا
: التعريف راجع إلى
ماهية السلام ومواطنه لا إلى كونه واردا من عند الله تعالى.
[٦٥٩] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) [مريم : ٤١] وما
أشبهه ، ومثل هذا إنما يستعمل إذا كان المأمور مختارا في الذكر وعدمه ، كما تقول
لصاحبك وهو يكتب كتابا اذكرني في الكتاب ، أو اذكر فلانا في الكتاب ؛ والنبي عليهالسلام ما كان على سبيل من الزيادة والنقصان في الكتابة ليوصى
بمثل ذلك؟
قلنا
: هذا على طريق
التأكيد في الأمر بالإبلاغ ، كتأكيد الملك على رسوله بإعادة بعض فصول الرسالة
وتخصيصها بالأمر بالإبلاغ.
[٦٦٠] فإن قيل : الاستغفار للكافر لا يجوز ، فكيف وعد إبراهيم
أباه بالاستغفار له بقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي) [مريم : ٤٧] مع
أنّه كافر؟
قلنا
: معناه : سأسأل
الله تعالى لك توبة تنال بها مغفرته ، يعني الإسلام. والاستغفار للكافر بهذا
الطريق جائز ، وهو أن يقال : اللهم وفقه للإسلام أو اللهم تب عليه واهده وأرشده
وما أشبه ذلك.
الثاني
: أنه وعده ذلك
بناء على أنه يسلم فيستغفر له بعد الإسلام.
الثالث
: أنه وعده ذلك قبل
تحريم الاستغفار للكافر ، فإن تحريم ذلك قضية شرعية إنما تعرف بالسمع لا عقلية ،
فإن العقل لا يمنع ذلك.
[٦٦١] فإن قيل : الطور وهو الجبل ليس له يمين ، ولا شمال ، فكيف
قال تعالى : (مِنْ جانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢]؟
قلنا
: خاطب الله تعالى
العرب بما هو معروف في استعمالهم ، فإنهم يقولون عن يمين القبلة وشمالها ، يعنون
ما يلي يمين المستقبل لها وشماله ؛ لأن القبلة لا بدّ لها لتكون لها يمين وشمال.
وهذا اتساع منهم في الكلام لعدم اللبس. فالمراد بالأيمن هنا ما عن يمين موسى عليهالسلام من الطور ؛ لأن النداء جاءه من قبل يمينه ، هذا إن كان
الأيمن ضد الأيسر من اليمين ، وإن كان من اليمن وهو البركة من قولهم : يمن فلان
قومه فهو يامن ، أي كان مباركا عليهم. فلا إشكال ؛ لأنّه يصير معناه : من جانب
الطور المبارك.
[٦٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣]
وهارون كان أكبر من موسى عليهماالسلام فما معنى هبته له؟
قلنا
: معناه أن الله
تعالى أنعم على موسى عليه الصلاة والسلام بإجابة دعوته فيه حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي
هارُونَ أَخِي) [طه : ٢٩ و ٣٠]
الآية فقال : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥]
فالمراد بالهبة أنه جعله عضدا له وناصرا ومعينا كذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما.
[٦٦٣] فإن قيل : كيف وصف الله تعالى النبيين المذكورين في قوله :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) [مريم : ٥٨] الآية
بقوله تعالى : (إِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨]
والمراد بآيات الرحمن القرآن ، والقرآن لم يتل على أحد من الأنبياء المذكورين؟
قلنا
: آيات الرحمن غير
مخصوصة بالقرآن ؛ بل كل كتاب أنزله الله تعالى ففيه آياته ، ولو سلمنا أن المراد
بها القرآن فنقول : إن المراد بقوله : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا
وَاجْتَبَيْنا) [مريم : ٥٨] محمد صلىاللهعليهوسلم وأمته.
[٦٦٤] فإن قيل : قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) [مريم : ٥٩ ، ٦٠]
يدل على أن ترك الصلاة وإضاعتها كفر ؛ لأنه شرط في توبة مضيعها الإيمان؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما : المراد بهؤلاء الخلف هنا اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر
واستحلوا نكاح الأخت من الأب.
[٦٦٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ
وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم : ٦١] ولم
يقل آتيا ، كما قال تعالى : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ
لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤]؟
قلنا
: المراد بوعده هنا
موعده وهو الجنة ، وهي مأتية يأتيها أولياؤه.
الثاني
: أن مفعولا هنا
بمعنى فاعل ، كما في قوله تعالى : (حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥].
أيا ساترا.
[٦٦٦] فإن قيل : قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم : ٦٣] وقوله
تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣]
يدل من حيث المفهوم أن غير المتقين لا يدخلون الجنة؟
قلنا
: المراد بالتقوى
هنا التقوى من الشرك ، وكل المؤمنين سواء في ذلك.
[٦٦٧] فإن قيل : ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور
الجبال من دعوتهم الولد لله تعالى ، ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟
قلنا
: معناه أن الله
تعالى يقول : كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا على
قائلها لو لا حلمي وإمهالي وأن لا أعجّل العقوبة ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] يعني
أن تخر على المشركين وتنشق الأرض بهم ، ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١].
الثاني
: أن يكون استعظاما
لقبح هذه الكلمة وتصويرا لأثرها في الدين وهدما لأركانه وقواعده وأن مثال ذلك الأثر
في المحسوسات أن يصيب هذه الأجسام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق
وتخر.
[٦٦٨] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا ، في صفة الشرك : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٩٠] وهذا
يدل على قوة كلمة الشرك وشدّتها ، وقال تعالى في سورة إبراهيم ، صلوات الله عليه ،
في صفة كلمة الشرك : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ
قَرارٍ) [إبراهيم : ٢٦]
والمراد بالكلمة الخبيثة كلمة الشرك ، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، أو
بالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل ، كذا قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهذا يدل على ضعف كلمة الشرك وتلاشيها واضمحلالها ، فكيف
التوفيق بينهما؟
قلنا
: وصفت كلمة الشرك
في سورة إبراهيم عليهالسلام بالضعف وهنا بالقبح ، فهي في غاية الضعف وفي غاية القبح
والفظاعة فلا تنافي بينهما.
[٦٦٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم : ٩٤]
والإحصاء العد على ما نقله الجوهري ، أو الحصر على ما نقله بعض أئمة التفسير ،
__________________
كما سبق ذكره في
سورة إبراهيم صلوات الله عليه في قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤]
فإن كان الإحصاء العد فهو تكرار ، وإن كان الحصر فذكره مغن عن ذكر العد ؛ لأن
الحصر لا يكون إلا بعد معرفة العدد؟
قلنا
: الإحصاء قد جاء
بمعنى العلم أيضا ، ومنه قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ
شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨] أي
علم عدد كل شيء ، قال الشاعر :
وكن للذي لم
تحصه متعلّما
|
|
وأما الّذي
أحصيت منه فعلّم
|
وهو المراد هنا ،
فيصير المعنى لقد علمهم ، أي علم أفعالهم وأقوالهم وكل ما يتعلق بذواتهم وصفاتهم
وعددهم ، فلا تكرار ولا استغناء عن ذكر العد.
سورة طه عليهالسلام
[٦٧٠] فإن قيل : قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً) [طه : ٩ ، ١٠]
الآية ؛ كيف حكى الله تعالى قول موسى عليهالسلام لأهله عند رؤية النار في هذه السورة وفي سورة النمل وفي
سورة القصص بعبارات مختلفة ، وهذه القضية لم تقع إلا مرة واحدة ، فكيف اختلفت
عبارة موسى عليهالسلام فيها؟
قلنا
: قد سبق في سورة
الأعراف في قصة موسى عليهالسلام مثل هذا السؤال والجواب المذكور ، ثم هو الجواب هنا.
[٦٧١] فإن قيل : قوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) [طه : ١٦] ظاهر
اللفظ نهي من لا يؤمن بالساعة عن صد موسى عن الإيمان بها ، والمقصود هو نهي موسى
عن التكذيب بها ، فكيف تنزيله.
قلنا
: معناه كن شديد
الشكيمة في الدين ، صليب المعجم لئلا يطمع في صدك عن الإيمان بها من لا يؤمن بها ،
وهذا كقولهم : لا أرينك هاهنا ؛ معناه : لا تدن مني ولا تقرب من حضرتي لئلا أراك ؛
ففي الصورتين النهي متوجه إلى المسبب ، والمراد به النهي عن السبب ، وهو القرب منه
والجلوس بحضرته فإنه سبب رؤيته ، وكذلك لين موسى عليهالسلام في الدين وسلاسة قياده سبب لصدهم إياه.
[٦٧٢] فإن قيل : ما فائدة السؤال في قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] وهو
أعلم بما في يده جملة وتفصيلا؟
قلنا
: فائدته تأنيسه
وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب وهيبة الإجلال وقت التكلم معه ، كما يرى أحدنا
طفلا قد داخلته هيبة وإجلال وخوف وفي يده فاكهة أو غيرها فيلاطفه ويؤانسه بقوله ما
هذا الذي في يدك؟ مع أنه عالم به.
الثاني
: أنه أراد بذلك أن
يقر موسى عليهالسلام ويعترف بكونها عصا ويزداد علمه بكونها عصا رسوخا في قلبه
فلا يحوم حوله شك إذا قلبها ثعبانا أنها كانت عصا ثم انقلبت ثعبانا بقدرة الله
تعالى ، وأن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه فيتنبه
على القدرة الباهرة ، ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك ما هذه؟ فتقول
زبرة من حديد ، ثم يريك بعد أيام درعا سابغة مسرودة ويقول : هذه تلك الزبرة صيرتها
إلى ما تراه من عجيب الصنعة وأنيق السرد.
[٦٧٣] فإن قيل : كيف زاد موسى على حرف الجواب وليس ذلك من شيمة
البلغاء خصوصا في مخاطبة الملك الأعلى؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما إنه لما قال عصاي سئل سؤالا ثانيا ، فقيل ما تصنع بها؟ فأجاب بباقي
الآية.
الثاني
: أنه إنما عدد
فوائدها وبين حاجته إليها خوفا من أن يؤمر بإلقائها كما أمر بإلقاء النعلين!!
الثالث
: أنه ذكر ذلك لئلا
ينسب إلى العبث في حملها.
[٦٧٤] فإن قيل : قد نقل أنها كانت تضيء له بالليل وتدفع عنه
الهوام ، وتثمر له إذا اشتهى الثمار فيغرسها في الأرض فتثمر من ساعتها ، ويركزها
فينبع الماء من مركزها ، فإذا رفعها نضب ، وكان يستقي بها فتطول بطول البئر وتقصر
بقصرها ، فهلا عدد هذه المنافع.
قلنا
: كره أن يشتغل عن
سماع كلام الله تعالى بتفصيل منافعها ، ففصل البعض وأجمل الباقي بقوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] والله
أعلم بما أجمله.
الثاني
: أنه ذكر المنافع
التي هي ألزم له وحاجته إليها أمس ، وإن كانت المنافع التي أجملها أعجب وأغرب.
[٦٧٥] فإن قيل : قد ذكر الله تعالى عصا موسى عليهالسلام بلفظ الحية والثعبان والجان ، وبين الثعبان والجان تناف ؛
لأن الجان الحية الصغيرة كذا قاله ابن عرفة ، والثعبان الحية العظيمة ، كذا نقله
الأزهري عن الزجاج وقطرب.
قلنا
: أراد أنها في
صورة الثعبان العظيم وخفة الحية الصغيرة وحركتها ويؤيد قوله : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها
جَانٌ) [النمل : ١٠].
الثاني
: أنها كانت في
أوّل انقلابها تنقلب حية صغيرة صفراء دقيقة ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى تصير
ثعبانا ، فأريد بالجان أول حالها ، وبالثعبان مآلها.
__________________
[٦٧٦] فإن قيل : ما فائدة قول تعالى : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) [طه : ٣٨] وهذا لا
بيان فيه ، لأنه مجمل ، فما فائدته؟
قلنا
: فائدته الإشارة
إلى أنه ليس كل الأمور مما يوحى إلى النساء كالنبوة ونحوها ؛ بل بعضها.
الثاني
: أنه للتأكيد
كقوله تعالى : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤] كأنه
قال : إذ أوحينا إلى أمك إيحاء.
الثالث
: أنه أبهمه أولا
للتفخيم والتعظيم ، ثم بينه وأوضحه بقوله تعالى : (أَنِ اقْذِفِيهِ) [طه : ٣٩] الآية.
[٦٧٧] فإن قيل : كيف قدم هارون على موسى عليهماالسلام في قوله تعالى : (فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [طه : ٧٠] وهارون
كان وزيرا لموسى عليهماالسلام وتبعا له ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) [الفرقان : ٣٥].
قلنا
: إنما قدمه ليقع
موسى مؤخرا في اللفظ فيناسب الفواصل أعني رءوس الآيات.
[٦٧٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤] والموت
والحياة صفتان من صفات الإنسان وهما نقيضان ، فكيف يرتفعان؟
قلنا
: المراد لا يموت
فيها موتا يستريح به ، ولا يحيا حياة تنفعه ويستلذ بها.
الثاني
: أن المراد لا
يموت فيها موتا متصلا ولا يحيا حياة متصلة ؛ بل كلما مات من شدة العذاب أعيد حيّا
؛ ليذوق العذاب هكذا سبعين مرة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا.
[٦٧٩] فإن قيل : الخوف والخشية واحد في اللغة ، فكيف قال تعالى :
(لا تَخافُ دَرَكاً
وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧]؟
قلنا
: معناه لا تخاف
دركا : أي لحاقا من فرعون ، ولا تخشى غرقا في البحر ، كما تقول : لا تخاف زيدا ولا
تخشى عمرا ، ولو قلت ولا عمرا صح وكان أوجز ، ولكن إذا أعدت الفعل كان آكد. وأما
في الآية فلما لم يكن مفعول الخشية مذكورا ذكر الفعل ثانيا ليكون دليلا عليه ،
وخولف بين اللفظين رعاية للبلاغة.
وقيل معناه : لا
تخاف دركا على نفسك ، ولا تخشى دركا على قومك. والأول عندي أرجح.
[٦٨٠] فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ
قَوْمَهُ) [طه : ٧٩] يغني عن
قوله تعالى : (وَما هَدى) [طه : ٧٩] ومفيد
فوق فائدته فكيف ذكر معه؟
قلنا
: معناه : وما
هداهم بعد ما أضلهم ، فإن المضل قد يهدي بعد إضلاله.
الثاني
: أن معناه : وأضل
قومه وما هدى نفسه.
الثالث
: أن معناه : وأضل
فرعون قومه عن الدين وما هداهم طريقا في البحر.
الرابع
: أن قوله : (وَما هَدى) [طه : ٧٩] تهكم به
في قوله لقومه (وَما أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٤٠].
[٦٨١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ
مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) [طه : ٨٠] أضاف
المواعدة إليهم ، والمواعدة إنما كانت لموسى عليهالسلام ، واعده الله تعالى جانب الطور الأيمن لإتيانه التوراة؟
قلنا
: المواعدة وإن
كانت لموسى عليهالسلام ولكنها لما كانت لإنزال كتاب بسبب بني إسرائيل ، وفيه بيان
شريعتهم وأحكامهم وصلاح معاشهم ومعادهم ، أضيفت إليهم المواعدة بهذه الملابسة
والاتصال.
[٦٨٢] فإن قيل : قوله تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى) [طه : ٨٣] سؤال عن
سبب العجلة ، فإن موسى عليهالسلام لما واعده الله تعالى بإنزال التوراة عليه بجانب الطور
الأيمن وأراد الخروج إلى ميعاد ربه اختار من قومه سبعين رجلا يصحبونه إلى ذلك
المكان ثم سبقهم شوقا إلى ربه وأمرهم بلحاقه ، فعوتب على ذلك وكان الجواب المطابق
أن يقول : طلبت زيادة رضاك أو الشوق إلى لقائك وتنجيز وعدك ، فكيف قدم ما لا يطابق
السؤال وهو قوله : (هُمْ أُولاءِ عَلى
أَثَرِي) [طه : ٨٤]؟
قلنا
: ما واجهه ربه به
تضمن شيئين : إنكار العجلة في نفسها والسؤال عن سببها ، فبدأ موسى عليهالسلام بالاعتذار عما أنكره تعالى عليه بأنه لم يوجد منه إلا تقدم
يسير لا يعتد به في العادة ، كما يتقدم المقدم جماعته وأتباعه ، ثم عقب العذر
بجواب السؤال عن السبب بقوله : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضى) [طه : ٨٤].
[٦٨٣] فإن قيل : أليس أن أئمة اللغة قالوا : العوج بالكسر في
المعاني ، وبالفتح
__________________
في الأعيان ،
ولهذا قال ثعلب : وتقول في الأمر والدين عوج وفي العصا ونحوها عوج ، كالجبال
والأرض ، فكيف صح فيها المكسور في قوله تعالى : (لا تَرى فِيها
عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧]؟
قلنا
: قال ابن السكيت :
كل ما كان مما ينتصب كالحائط والعود قيل فيه عوج بالفتح ، والعوج بالكسر ما كان في
أرض أو دين أو معاش ، فعلى هذا لا إشكال.
الثاني
: أنه أراد به نفي
الاعوجاج الذي يدرك بالقياس الهندسي ولا يدرك بحاسة البصر ، وذلك اعوجاج لاحق
بالمعاني ، فلذلك قال فيه عوج بالكسر ، ومما يوضح هذا أنك لو سويت قطعة أرض غاية
التسوية بمقتضى نظر العين بموافقة جماعة من البصراء ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها
عوج قط ، ثم أمرت المهندس أن يعتبرها بالمقاييس الهندسية وجد فيها عوجا في غير
موضع ؛ ولكنه عوج لا يدرك بحاسة البصر. فنفى الله تعالى ذلك العوج لما لطف ودق عن
الإدراك ، فكان لدقته وخفائه ملحقا بالمعاني.
[٦٨٤] فإن قيل : إن الله تعالى أخبر أن آدم عليهالسلام نسي عهد الله ووصيته ، وأكل من الشجرة بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ
قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] وإذا
كان فعل ذلك ناسيا فكيف وصفه بالعصيان والغواية بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] فعاقبه
عليه بأعظم أنواع العقوبة ، وهو الإخراج من الجنة؟
قلنا
: النسيان هنا
بمعنى الترك كما في قوله تعالى : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) [السجدة : ١٤] أي
تركناكم في العذاب ، وقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧]
فمعناه أنه ترك عهد الله ووصيته ، فكيف يكون من النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقد
جرى بينه وبين إبليس من المجادلة والمناظرة في أكل الشجرة فصول كثيرة منها قوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ
الشَّجَرَةِ) [الأعراف : ٢٠]
الآية فكيف يبقى مع هذا نسيان؟
[٦٨٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ
فَتَشْقى) [طه :
١١٧] ولم يقل
فتشقيا ، والخطاب لآدم وحواء عليهماالسلام؟
قلنا
: لوجوه :
أحدها
: أن الرجل قيم
أهله وأميرهم ، فشقاؤه يتضمن شقاءهم كما أن معاداته تتضمن معاداتهم ، فاختصر
الكلام بإسناد الشقاء إليه دونها لما كان متضمنا له.
الثاني
: أنه إنما أسنده
إليه دونها للمحافظة على الفاصلة.
__________________
الثالث
: أنه أراد بالشقاء
: الشقاء في طلب القوت وإصلاح المعاش ، وذلك وظيفة الرجل دون المرأة ، قال سعيد بن
جبير أهبط إلى آدم عليهالسلام ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاؤه.
[٦٨٦] فإن قيل : هل يجوز أن يقال : كان آدم عاصيا غاويا أخذا من
قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى) [طه : ١٢١]؟
قلنا
: يجوز أن يقال عصى
آدم كما قال الله تعالى ، ولا يجوز أن يقال كان آدم عاصيا ، لأنه لا يلزم من جواز
إطلاق الفعل جواز إطلاق اسم الفاعل ؛ ألا ترى أنه يجوز أن يقال تبارك الله ، ولا
يجوز أن يقال الله تبارك ويجوز أن يقال تاب الله على آدم ، ولا يجوز أن يقال الله
تائب ، ونظائره كثيرة.
[٦٨٧] فإن قيل : أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية لا مدخل للقياس
فيها ؛ ولهذا يقال الله عالم ، ولا يقال علامة ؛ وإن كان هذا اللفظ أبلغ في
الدلالة على معنى العلم ، فأما أسماء البشر وصفاتهم فقياسية ؛ فلم لا يجرى فيها
على القياس المطرد؟
قلنا
: هذا القياس ليس
بمطرد في صفات البشر أيضا ألا ترى أنّهم قالوا ذره ودعه بمعنى اتركه ، وفلان يذر
ويدع ، ولم يقولوا منهما وذر ولا واذر ، ولا ودع ولا وادع ، فاستعملوا منها الأمر
والمضارع فقط.
ولقائل أن يقول :
هذا شاذ في كلام العرب ونادر ، فلا يترك لأجله القياس المطرد ، بل يجري على مقتضى
القياس.
[٦٨٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي) [طه : ١٢٤] أي عن
موعظتي أو عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه : ١٢٤] أي
حياة في ضيق وشدة ، ونحن نرى المعرضين عن الإيمان والقرآن في أخصب معيشة وأرغدها؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما : المراد بالمعيشة الضنك الحياة في المعصية وإن كان في رخاء ونعمة.
وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنها عذاب القبر.
الثاني
: أن المراد بها
عيشته في جهنم في الآخرة.
الثالث
: أن المراد بها
عيشة مع الحرص الشديد على الدنيا وأسبابها ، وهذه الآية في مقابلة قوله في سورة
النحل : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] فكل
ما ذكرناه في تفسير الحياة الطيبة فضده وارد في المعيشة الضنك.
[٦٨٩] فإن قيل : أي الكلمات التي سبقت من الله فكانت مانعة من
تعذيب هذه
__________________
الأمة في الدنيا
عذاب الاستئصال ، حتّى قال تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) [طه : ١٢٩].
قلنا
: قيل هي قوله
تعالى : «سبقت رحمتي غضبي» ويرد عليه أنه لا اختصاص لهذه الأمة بهذه الكلمة ، وقيل
هي قوله تعالى للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]
وقيل في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]
يعني لعالمي أمته بتأخير العذاب عنهم ، وقيل في الآية تقديم وتأخير تقديره : ولو
لا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى ، وهو الأجل الذي قدر الله تعالى بقاء العالم
وأهله إلى انقضائه لكان العذاب لزاما ، أي لازما لهم كما لزم الأمم التي قبلهم.
[٦٩٠] فإن قيل : أصحاب الصراط السوي والمهتدون واحد ، فما فائدة
التكرار في قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) [طه : ١٣٥].
قلنا
: المراد بأصحاب
الصراط السوي السالكون الصراط المستقيم السائرون عليه ، والمراد بالمهتدين
الواصلون إلى المنزل. وقيل : أصحاب الصراط السوي هم الذين ما زالوا على الصراط المستقيم
، والمهتدون هم الذين لم يكونوا على الطريق المستقيم ثم صاروا عليه. وقيل
: المراد بأصحاب
الصراط السوي أهل دين الحق في الدنيا ، والمراد بمن اهتدى المهتدون إلى طريق الجنة
في العقبى ؛ فكأنه قال : فستعلمون من المحق في الدنيا والفائز في الآخرة.
سورة الأنبياء
[٦٩١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١]
وصفه بالقرب وقد مضى من وقت هذا الإخبار أكثر من ستمائة عام ، ولم يوجد يوم الحساب
بعد؟
قلنا
: معناه أنه قريب
عند الله تعالى وإن كان بعيدا عند الناس ، كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ
قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧]
وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧].
الثاني
: أن معناه أنه
قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «إن مثل ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى كمثل خيط في ثوب».
الثالث
: أن المراد به قرب
حساب كل واحد في قبره إذا مات ، ويؤيده قوله صلىاللهعليهوسلم : «من مات فقد قامت قيامته».
الرابع
: أن كل آت قريب
وإن طالت أوقات استقباله وترقبه ، وإنما البعيد الذي وجد وانقرض ، ولهذا يقول
الناس إذا سافروا من بلد إلى بلد بعد ما ولوا ظهورهم البلد الأول : البلد الثاني
أقرب وإن كان أبعد مسافة.
[٦٩٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢]
والذكر الآتي من الله تعالى هو القرآن وهو قديم لا محدث؟
قلنا
: المراد محدث
إنزاله.
الثاني
: أن المراد به ذكر
يكون غير القرآن من مواعظ الرسول صلىاللهعليهوسلم وغيره ؛ ونسب إلى الله تعالى ؛ لأن موعظة كل واعظ بإلهامه
وهدايته.
الثالث
: أن المراد بالذكر
الذاكر وهو الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ويؤيده قوله تعالى ، في سياق الآية : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣]
وعلى هذا يكون معنى قوله : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) [الأنبياء : ٢] أي
إلا استمعوا ذكره وموعظته.
[٦٩٣] فإن قيل : النجوى المسارّة ، فما معنى قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) [طه : ٦٢]؟
__________________
قلنا
: معناه بالغوا في
إخفاء المسارة بحيث لم يفطن أحد لتناجيهم ومسارتهم تفصيلا ولا إجمالا ، فإن
الإنسان قد يرى اثنين يتساران فيعلم من حيث الإجمال أنهما يتساران ، وإن لم يعلم
تفصيل ما يتساران به ، وقد يتساران في مكان لا يراهما أحد.
[٦٩٤] فإن قيل : كيف قال تعالى لمشركي مكة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ٧]
يعني فسئلوا أهل الكتاب عمن مضى من الرسل ، هل كانوا بشرا أم ملائكة؟ مع أن
المشركين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا
الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١]؟
قلنا
: هم وإن لم يؤمنوا
بكتاب أهل الكتاب ، ولكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في القضية العقلية يفيد
العلم لمن يؤمن بكتابهم ولمن لا يؤمن به.
[٦٩٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩]
والاستحسار مبالغة في الحسور وهو الإعياء ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم
أدنى الحسور أو مطلقه لا أقصاه؟
قلنا
: إنما ذكر
الاستحسار إشارة إلى أن ما هم فيه من التسبيح الدائم والعبادة المتصلة يوجب غاية
الحسور وأقصاه.
[٦٩٦] فإن قيل : قوله تعالى في وصف الملائكة : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦]
إلى قوله تعالى : (مُشْفِقُونَ) يدل على أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، فإذا كانوا لا
يعصون الله تعالى فلم يخافون حتى قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ
خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨]؟
قلنا
: لما رأوا ما جرى
على إبليس وعلى هاروت وماروت من القضاء والقدر خافوا من مثل ذلك.
الثاني
: أن زيادة معرفتهم
بالله وقربهم في محل كرامته يوجب مزيد خوفهم ، ولهذا قال أهل التحقيق : من كان
بالله أعرف كان من الله أخوف ، ومن كان إلى الله أقرب كان من الله أرهب. وقال
بعضهم : يا عجبا من مطيع آمن ومن عاص خائف.
[٦٩٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠]
وهم لم يروا ذلك؟
قلنا
: معناه أولم
يعلموا ذلك بأخبار من قبلهم أو بوروده في القرآن الذي هو معجزة في نفسه ، ونظيره
قوله تعالى للنبي صلىاللهعليهوسلم : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٤١]
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣]
الآية ، ونظائره كثيرة.
[٦٩٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ؛
مع أن الملائكة أحياء والجن أحياء ، وليسوا مخلوقين من الماء بل من النور
والنار كما قال
تعالى : (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٥]
وكذا آدم مخلوق من التراب وناقة صالح مخلوقة من الحجر؟
قلنا
: المراد به البعض
وهو الحيوان كما في قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣]
وقوله تعالى : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ
مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [يونس : ٢٢]
ونظائره كثيرة.
الثاني
: أن الكل مخلوقون
من الماء ، ولكن البعض بواسطة والبعض بغير واسطة ، ولهذا قيل إنه تعالى خلق
الملائكة من ريح خلقها من الماء ، وخلق الجن من نار خلقها من الماء ، وخلق آدم من
تراب خلقه من الماء.
[٦٩٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء : ٣٧]
بعد قوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧]
وكأنه تكليف بما لا يطاق؟
قلنا
: هذا كما ركب فيه
الشهوة وأمره أن يغلبها ، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك
العجلة.
[٧٠٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) [الأنبياء : ٤٥] ؛
مع أن الصمّ لا يسمعون الدّعاء إذا ما يبشرون أيضا؟
قلنا
: اللام في الصم
إشارة للمنذرين السابق ذكرهم بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما
أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥]
فهي لام العهد لا لام الجنس.
[٧٠١] فإن قيل : كيف قال إبراهيم صلوات الله عليه : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣]
أحال كسر الأصنام على الصنم الكبير ، وكان إبراهيم هو الكاسر لها؟
قلنا
: قاله على طريق
الاستهزاء والتهكم بهم ، لا على طريق الجد.
الثاني
: أنه لما كان الحامل له على كسرها اغتياظه من رؤيتها مصفوفة
مرتبة للعبادة مبجلة معظمة ، وكان اغتياظه من كبيرها أعظم لمزيد تعظيمهم له أسند
الفعل إليه كما أسند إلى سببه ، وإلى الحامل عليه.
الثالث
: أنه أسنده إليه
معلقا بشرط منتف ، لا مطلقا ؛ تقديره : فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم.
[٧٠٢] فإن قيل : كيف صح مخاطبة النار بقوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً
وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩]
والخطاب إنما يكون مع من يعقل؟
قلنا
: خطاب التحويل
والتكوين لا يختص بمن يعقل ، قال الله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) [سبأ : ١٠] وقال
تعالى : (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] وقال
تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ) [هود : ٤٤].
[٧٠٣] فإن قيل : كيف وصف الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام بكونهم
من الصالحين بقوله
تعالى : (وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) [الأنبياء : ٨٥]
الآية ، مع أن أكثر المؤمنين صالحون خصوصا في الزمن الأول؟
قلنا
: معناه أنهم من
الصالحين للإدخال في الرحمة التي أريد بها النبوة على ما فسره مقاتل ، أو الجنة
على ما فسره ابن عباس ، رضي الله عنهما ؛ ويؤيد ذلك قول سليمان صلوات الله عليه : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩] أي
الصالحين للعمل المرضيّ الذي سبق سؤاله.
[٧٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١]
وقال في سورة التحريم : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢]؟
قلنا
: حيث أنّث أراد
النفخ في ذاتها ، وإن كان مبدأ النفخ من الفرج الذي هو مخرج الولد أو جيب درعها
على اختلاف القولين ، لأنه فرجة ، وكل فرجة بين شيئين تسمى فرجا في اللغة ، وهذا
أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها مما لا يحل كانت لنفسها أمنع ،
وحيث ذكّر فظاهر.
[٧٠٥] فإن قيل : قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥]
بدل على أنه يجب أن يرجعوا ، لأن كل ما حرم أن لا يوجد وجب أن يوجد فكيف معنى
الآية؟
قلنا
: معناه وواجب على
أهل قرية عزمنا على إهلاكهم أو قدّرنا إهلاكهم أنهم لا يرجعون عن الكفر إلى
الإيمان ، أو أنهم لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا ، فالحرام هنا بمعنى الواجب ،
كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، ويؤيده قول الشاعر :
فإنّ حراما لا
أرى الدّهر باكيا
|
|
على شجوة إلّا
بكيت على عمرو
|
وقيل لفظ الحرام
على ظاهره ، ولا زائدة ، والمعنى ما سبق ذكره ، والحرمة هنا بمعنى المنع كما في
قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢]
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [الأعراف : ٥٠].
[٧٠٦] فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١]
وقال في موضع آخر : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١]
وواردها يكون قريبا منها لا بعيدا.
قلنا
: معناه مبعدون عن
ألمها وعذابها مع كونهم وارديها ، أو معناه
__________________
مبعدون عنها بعد
ورودها بالإنجاء المذكور بعد الورود ، فلا تنافي بينهما.
[٧٠٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]
مع أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يكن رحمة للكافرين الذين ماتوا على كفرهم بل نقمة ؛
لأنه لو لا إرساله إليهم لما عذبوا بكفرهم لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥].
قلنا
: بل كان رحمة
للكافرين أيضا من حيث أن عذاب الاستئصال أخر عنهم بسببه.
الثاني
: أنه كان رحمة
عامة من حيث أنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ، ومن لم يتبعه فهو الذي قصر في حقّ
نفسه وضيع نصيبه من الرّحمة ؛ ومثله صلىاللهعليهوسلم كمثل عين ماء عذبة فجرها الله تعالى ، فسقى ناس زروعهم
ومواشيهم منها فأفلحوا ، وفرّط ناس في السقي منها فضيعوا ، فالعين في نفسها نعمة
من الله تعالى للفريقين ورحمة ، وإن قصر البعض وفرطوا.
الثالث
: أن المراد
بالرحمة الرحيم ؛ وهو صلىاللهعليهوسلم كان رحيما للفريقين ؛ ألا ترى أنهم لما شجّوه يوم أحد
وكسروا رباعيته حتى خر مغشيا عليه ، فلما أفاق قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا
يعلمون؟
[٧٠٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٩]
مع إخباره تعالى إياهم بقرب الساعة بقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وقوله
تعالى : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ) [القمر : ١]
ونحوهما؟
قلنا
: معناه ما أدري أن
العذاب الذي توعدونه وتهدون به ينزل بكم عاجلا أو آجلا ، وليس المراد به قيام
الساعة. ويرد على هذا الجواب أنه قريب على كل تقدير ؛ لأنه إن كان قبل قيام الساعة
فظاهر ، وإن كان بعد قيام الساعة فهو كالمتصل بها لسرعة زمن الحساب ، فيكون قريبا
أيضا.
[٧٠٩] فإن قيل : إذا كان المؤمنون يعتقدون أن الله تعالى لا يحكم
إلا بالحق ، فما فائدة الأمر والإخبار المتعلق بهما بقوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢]؟
قلنا
: ليس المراد بالحق
هنا ما هو نقيض الباطل ؛ بل المراد به ما وعده الله تعالى إياه من نصر المؤمنين
وخذلان الكافرين ، ووعده لا يكون إلا حقا ، فكأنه قال : عجل لنا وعدك وأنجزه ،
ونظيره قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩].
الثاني
: أنه تأكيد لما في
التصريح بالصفة من المبالغة وإن كانت لازمة للفعل ، ونظيره في عكسه من صفة الذم
قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢].
سورة الحج
[٧١٠] فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] يدل
على أن المعدوم شيء.
قلنا
: لا نسلم ،
ومستنده أن المراد أنها إذا وجدت كانت شيئا لا أنها شيء الآن ، ويؤيد هذا قوله
تعالى : (عَظِيمٌ) مع أن المعدوم لا يوصف بالعظم.
[٧١١] فإن قيل : كيف قال تعالى أوّلا : (يَوْمَ تَرَوْنَها) [الحج : ٢] بلفظ
الجمع ، ثم أفرد فقال : (وَتَرَى النَّاسَ) [الحج : ٢]؟
قلنا
: لأن الرؤية أوّلا
علقت بالزلزلة ، فجعل الناس كلهم رائين لها وعلقت آخرا بكون الناس على هيئة
السكارى ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
[٧١٢] فإن قيل : كيف قال تعالى في حقّ النضر بن الحارث (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ) [الحج : ٣] إلى أن
قال : (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) [الحج : ٩] وهو ما
كان غرضه في جداله الضلال عن سبيل الله ، فكيف علل جداله به وما كان أيضا مهتديا
حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟
قلنا
: هذه لام العاقبة
والصيرورة ، وقد سبق ذكرها غير مرة ، ولما كان الهدى معرّضا له فتركه وأعرض عنه
وأقبل على الجدال بالباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.
[٧١٣] فإن قيل : النفع والضر منفيان عن الأصنام مثبتان لها في
الآيتين ، فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا
: معناه يعبد من
دون الله ما لا يضره بنفسه إن لم يعبده ، ولا ينفعه بنفسه إن عبده ، ثم قال : يعبد
من يضره الله بسبب عبادته ، وإنما أضاف الضرر إليه لحصوله بسببه.
[٧١٤] فإن قيل : قوله تعالى : (أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ) [الحج : ١٣] يدل
على أن في عبادة الصنم نفعا وإن كان فيها ضرر؟
قلنا
: معناه أقرب من
النفع المنسوب إليه في زعمهم ، وهو اعتقادهم أنه يشفع لهم.
[٧١٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] أي
بسبب كونهم مظلومين ، ولم يبيّن ما الشيء الذي أذن لهم فيه؟
قلنا
: تقديره : أذن
للذين يقاتلون في القتال ، وإنما حذف لدلالة يقاتلون عليه ولدلالة الحال أيضا ،
فإن كفار مكة كانوا يؤذون المؤمنين بأنواع الأذى وهم يستأذنون النبي صلىاللهعليهوسلم في قتالهم ، فيقول : لم يؤذن لي في ذلك ، حتى هاجر إلى
المدينة فنزلت هذه الآية ، وهي أول آية نزلت في الإذن في القتال ، فنسخت سبعين آية
ناهية عن القتال ، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما ؛ فكان المأذون فيه ظاهرا
لكونه مترقبا منتظرا.
[٧١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] مع
أنهم ما كانوا يقاتلون قبل نزول هذه الآية؟
قلنا
: معناه أذن للذين
يريدون أن يقاتلوا ، سماهم مقاتلين مجازا باعتبار ما يئولون إليه كما في النظائر ،
وقرئ : (لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) بفتح التاء ، ولا إشكال على تلك القراءة.
[٧١٧] فإن قيل : كيف صح الاستثناء في قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٤٠]؟
قلنا
: هو استثناء منقطع
تقديره : لكن أخرجوا بقولهم ربنا الله.
الثاني
: أنه بمنزلة قول
الشاعر :
ولا عيب فيهم
غير أنّ سيوفهم
|
|
بهنّ فلول من
قراع الكتائب
|
تقديره : إن كان
فيهم عيب فهو هذا ، وليس بعيب فلا يكون هذا فيهم عيبا.
[٧١٨] فإن قيل : أي منّة على المؤمنين في حفظ الصوامع والبيع
والصلوات ، أي الكنائس عن الهدم حتى امتن عليهم بذلك في قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [الحج : ٤٠] الآية؟
قلنا
: المنة في ذلك أن
الصوامع والبيع والكنائس في حرم المسلمين وحراستهم وحفظهم ، لأن أهلها ذمة
للمسلمين.
الثاني
: أن المراد به
لهدمت صوامع وبيع في زمن عيسى صلىاللهعليهوسلم ، وصلوات ، أي كنائس في زمن موسى صلىاللهعليهوسلم ، ومساجد في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فالامتنان على أهل الأديان الثلاثة لا على المؤمنين
خاصة.
__________________
[٧١٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَكُذِّبَ مُوسى) [الحج : ٤٤] ولم
يقل وقوم موسى ، كما قال الله تعالى فيما قبله؟
قلنا
: لأن موسى عليهالسلام ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم
القبط.
الثاني
: أن يكون التنكير
والإبهام للتفخيم والتعظيم كأنه قال تعالى بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم : وكذب
موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره.
[٧٢٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦]؟
قلنا
: فائدته المبالغة
في التأكيد كما في قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]
وقوله تعالى : (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ) [الفتح : ١١] وما
أشبه ذلك.
الثاني
: أن القلب هنا
يستعمل بمعنى العقل ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] أي عقل
في أحد القولين ، فكان التقييد احترازا على قول من زعم أن العقل في الرأس.
[٧٢١] فإن قيل : المغفرة إنما تكون لمن يعمل السيئات لا لمن يعمل
الصالحات والحسنات ، فكيف قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) [فاطر : ٧]؟
قلنا
: المراد بالعمل
الصالح هنا الإخلاص في الإيمان. قال الكلبي : كل موضع جاء في القرآن (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) [البقرة : ٨٢]
فالمراد به الإخلاص في الإيمان ، فيصير المعنى : فالذين آمنوا عن إخلاص تغفر لهم
سيئاتهم.
[٧٢٢] فإن قيل : ما الفرق بين الرّسول والنبي ؛ مع أن كليهما
مرسل بدليل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الحج : ٥٢].
قلنا
: الفرق بينهما أن
الرّسول من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جمع له بين
__________________
المعجزة وأنزل
الكتاب عليه ، والنبي فقط من لم ينزل عليه كتاب ، وإنما أمر أن يدعو أمته إلى
شريعة من قبله. وقيل : الرسول من كانت له معجزة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
، والنبي من لم تكن له منهم معجزة ، وفي هذا نظر. وقيل
: الرسول من كان
مبعوثا إلى أمة ، والنبي فقط من لم يكن مبعوثا إلى أحد مع كونه نبيا. والجواب عن
الآية على هذا القول أن فيه إضمارا تقديره : وما أرسلنا من رسول ولا نبأنا من نبي
أو ولا كان من نبي ، ونظيره قول الشاعر :
ورأيت زوجك في
الوغى
|
|
متقلّدا سيفا
ورمحا
|
أي ومتعلقا رمحا
أو حاملا رمحا.
[٧٢٣] فإن قيل : أين المثل المضروب في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣]
والمذكور بعده وهو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الحج : ٧٣] إلى
آخره ليس بمثل ، بل هو كلام مبتدأ مستقل بنفسه؟
قلنا
: الصفة والقصة
الغريبة أو المستحسنة تسمى مثلا ، ومنه قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧]
فالمعنى يثبت بصفة ، وهي عجز الصنم عن خلق الذباب واستنقاذ ما يسلبه ، وقيل
: هو إشارة إلى
قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١]
وإنما أبهمه هنا لأنهم كانوا لا يصغون إلى سماع القرآن ، ولهذا قالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٤١]
وكانوا يحبون الأمثال ، فذكر لفظ المثل استدراجا لهم إلى سماع القرآن والإصغاء
إليه.
[٧٢٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] مع أن
قطع اليد التي تساوي خمسة آلاف درهم بسبب سرقة عشرة دراهم حرج في الدين ؛ وكذا رجم
المحصن بسبب الوطء مرة واحدة ، ووجوب صوم شهرين متتابعين بسبب إفطار يوم واحد من
رمضان بوطء ، والمخاطرة بالنفس والمال في الحج والعمرة ، كل ذلك حرج بيّن؟
قلنا
: المراد بالدين
كلمة التوحيد ، فإنها تكفر شرك سبعين سنة ، ولا يتوقف تأثيرها على الإيمان
والإخلاص سبعين سنة ، ولا على أن يكون الإتيان بها في بيت الله تعالى أو في زمان
أو مكان معين. وقيل : المراد به أن كل ما يقع فيه الإنسان من الذنوب والمعاصي
يجد له مخرجا في الشرع بتوبة أو كفارة أو رخصة. وقيل
: المراد به فتح
باب التوبة للمذنبين ، وفتح أبواب الرخص للمعذورين ، وشروع الكفارات والأروش
والديات. وقيل : المراد به نفي الحرج الذي كان على بني إسرائيل من الإصر
والتشديد.
[٧٢٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨]
وإبراهيم صلوات الله عليه لم يكن أبا للأمة كلها؟
قلنا
: هو أبو رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ، فكان أبا لأمته! لأن أمة الرسول بمنزلة أولاده من جهة
العطف والشفقة ، هذا إن كان الخطاب لعامة المسلمين ، وإن كان للعرب خاصة فإبراهيم
أبو العرب قاطبة.
[٧٢٦] فإن قيل : متى سمانا إبراهيم صلوات الله عليه المسلمين من
قبل حتى قال الله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨]؟
قلنا
: وقت دعائه عند
بناء الكعبة حيث قال : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨]
فكل من أسلم من هذه الأمة فهو ببركة دعوة إبراهيم عليهالسلام ، وهذا السؤال سئلت عنه في المنام وأجبت بهذا الجواب في
المنام إلهاما من الله سبحانه وتعالى.
سورة المؤمنون
[٧٢٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) [المؤمنون : ٥ ، ٦]
وحفظ الفرج إنما يعدى بعن لا بعلى ، يقال فلان يحفظ فرجه عن الحرام ، ولا يقال على
الحرام؟
قلنا
: «على» هنا بمعنى عن ، كما في قول الشاعر :
إذا رضيت عليّ
بنو قشير
|
|
لعمر الله
أعجبني رضاها
|
الثاني
: أنه متعلق بمحذوف
تقديره : فلا يرسلونها إلا على أزواجهم.
[٧٢٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦]
ولم يقل أو من ملكت أيمانهم ، مع أن المراد من يعقل؟
قلنا
: لأنه أراد من جنس
العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث.
[٧٢٩] فإن قيل : قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ
بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٥ ،
١٦] كيف خص الإخبار عن الموت الذي لم ينكره الكفار بلام التأكيد دون الإخبار عن البعث
الذي أنكروه ، والظاهر يقتضي عكس ذلك؟
قلنا
: لما كان العطف
يقتضي الاشتراك في الحكم استغنى به عن إعادة لفظ اللام الموجبة لزيادة التأكيد ،
فإنها ثابتة معنى بقضية العطف ، ولا يلزم على هذا عدم إعادة أن لأنها الأصل في
التأكيد ، ولأنها أقوى والحاجة إليها أمس.
[٧٣٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ) [المؤمنون :
٢٠] والمراد بها
شجرة الزيتون. وهي تخرج من الجبل الذي يسمى طور سيناء ومن غيره؟
قلنا
: قيل إن أصل شجرة
الزيتون من طور سيناء : ثم نقلت إلى سائر المواضع.
وقيل : إنما أضيفت إلى ذلك الجبل لأن خروجها فيه أكثر من خروجها
في غيره من المواضع.
__________________
[٧٣١] فإن قيل : قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ) خبر عن كفار مكة ، فكيف قال تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي بالتوحيد أو بالقرآن (وَأَكْثَرُهُمْ
لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠]
ولم يقل وكلهم ، مع أن كلهم كانوا للتوحيد كارهين بدليل قولهم (بِهِ جِنَّةٌ) [المؤمنون : ٧٠]
قلنا
: كان فيهم من ترك
الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه ؛ لئلا يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة
للحق ، كما يحكى عن أبي طالب وغيره.
[٧٣٢] فإن قيل : كيف جمع فقال : (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩]
ولم يقل ارجعني ، والمخاطب واحد وهو الله تعالى؟
قلنا
: هو جمع للتفخيم
والتعظيم كقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى) [يس : ١٢]
وأشباهه.
[٧٣٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١]
وقال ، في موضع آخر : (وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)؟ [الصافات : ٢٧].
قلنا
: يوم القيامة
مقدار خمسين ألف سنة ، ففيه أحوال مختلفة ، ففي بعضها يتساءلون ، وفي بعضها لا
ينطقون لشدة الهول والفزع.
سورة النور
[٧٣٤] فإن قيل : كيف قدّمت المرأة في آية حدّ الزنا ، وقدّم
الرجل في حد السرقة؟
قلنا
: لأن الزنا إنما
يتولد من شهوة الوقاع ، وشهوة المرأة أقوى وأكثر ، والسرقة إنما تتولد من الجسارة
والجراءة والقوة ، وذلك في الرجل أكثر وأقوى.
[٧٣٥] فإن قيل : كيف قدم الرجل في قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور : ٣].
قلنا
: لأن الآية الأولى
سبقت لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي الأصل في تلك الجناية لما ذكرنا. والآية
الثانية سبقت لذكر النكاح ، والرجل هو الأصل فيه عرفا ؛ لأنه هو الراغب والخاطب
والبادئ بالطلب ، بخلاف الزنا فإن الأمر فيه بالعكس غالبا.
[٧٣٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ
إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ، أي لا يتزوج (وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور : ٣] ونحن
نرى الزاني ينكح العفيفة والمسلمة ، والزانية ينكحها العفيف والمسلم؟
قلنا
: قال عكرمة نزلت
هذه الآية في بغايا موسرات كنّ بمكة ، وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المرضية ،
وكان لا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة ، أو مشرك من أهل الأوثان ، فأراد جماعة
من فقراء المهاجرين أن ينكحوهن فنزلت هذه الآية زجرا لهم عن ذلك.
[٧٣٧] فإن قيل : ما فائدة دخول «من» في غض البصر دون حفظ الفرج
في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور : ٣٠].
__________________
قلنا
: فائدته الدلالة
على أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج ، ولهذا يحل النظر في ذوات المحارم والإماء
المستعرضات إلى عدة من أعضائهن ، ولا يحل شيء من فروجهن.
[٧٣٨] فإن قيل : ما حكمة ترك الله ذكر الأعمام والأخوال في قوله
تعالى : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَ) يعني الزينة الخفية (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) [النور : ٣١]
الآية ، وهم من المحارم وحكمهم حكم من استثنى في الآية؟
قلنا
: سئل الشعبي عن
ذلك فقال : لئلا يصفها العم عند ابنه وهو ليس بمحرم لها ، وكذا الحال فيفضي إلى
الفتنة ، والمعنى فيه أن كل من استثنى يشترك هو وابنه في المحرمية ، إلا العم
والخال ، وهذا من الدلالة البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن. ولقائل أن يقول :
هذه المفسدة محتملة في آباء بعولتهن ، لاحتمال أن يذكرها أبو البعل عند ابنه الآخر
، وهو ليس بمحرم لها ، وأبو البعل أيضا نقض على قولهم إن كل من استثني يشترك هو
وابنه في المحرمية.
[٧٣٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] مع
أن إكراههن على الزنا حرام في كل حال؟
قلنا
: لأن سبب نزول
الآية أن الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنا مع إرادتهن التحصن ، فورد النهي
على السبب وإن لم يكن شرطا فيه.
الثاني
: أنه تعالى إنما
شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن ، لأن الأمة إذا لم
ترد التحصن فإنها تزني بالطبع ؛ لأن إرادتها الجماع مستمرة في جميع الأحوال طبعا ،
ولا بد له من أحد الطريقين.
الثالث
: أن «إن» بمعنى إذ
كما في قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ
مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨]
وقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٣٩].
الرابع
: أنّ في الكلام
تقديما وتأخيرا تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن
أردن تحصنا ويبقى قوله : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) [النور : ٣٣]
مطلقا غير معلق.
[٧٤٠] فإن قيل : كيف مثل الله تعالى نوره ، أي معرفته وهداه في
قلب المؤمن بنور المصباح في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥] ولم
يمثله بنور الشمس ، مع أن نورها أتم وأكمل؟
قلنا
: المراد تمثيل
النور في القلب ، والقلب في الصدر ، والصدر في البدن
بالمصباح : وهو
الضوء أو الفتيلة في الزجاجة ، والزجاجة في الكوة التي لا منفذ لها ، وهذا التمثيل
لا يستقيم إلا فيما ذكر.
الثاني
: أن نور المعرفة
له آلات يتوقف على اجتماعها كالذهن والفهم والعقل واليقظة وانشراح القلب وغير ذلك
من الخصال الحميدة ، كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيلة
، وغير ذلك.
الثالث
: أن نور الشمس
يشرق متوجها إلى العالم السفلي لا إلى العالم العلوي ، ونور المعرفة يشرق متوجها
إلى العالم العلوي كنور المصباح.
الرابع
: أن نور الشمس لا
يشرق إلا بالنهار ونور المعرفة يشرق بالليل والنهار كنور المصباح.
الخامس
: أن نور الشمس يعم
جميع الخلائق ، ونور المعرفة لا يصل إليه إلا بعضهم كنور المصباح الموصوف.
[٧٤١] فإن قيل : إنه تعالى لم يمثله بنور الشمس لما ذكرتم فكيف
لم يمثله بنور الشمع مع أنه أتم وأكمل وأشرق من نور المصباح؟
قلنا
: إنما لم يمثله
بنور الشمع لأن في الشمع غشا لا محالة بخلاف الزيت الموصوف ، ولو مثله تعالى بنور
الشمع لتطاول المنافق المغشوش إلى استحقاق نصيب في المعرفة.
الثاني
: أنه تعالى إنما
لم يمثله بنور الشمع لأنه مخصوص بالأغنياء ، بخلاف نور المعرفة فإنه في الفقراء
أغلب.
[٧٤٢] فإن قيل : التجارة تشمل الشراء والبيع ، فما فائدة عطف
البيع عليها في قوله تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧].
قلنا
: التجارة هي
الشراء والبيع الذي يكون صناعة للإنسان مقصودا به الربح ، وهو حرفة الشخص الذي
يسمى تاجرا ، والبيع أعم من ذلك. وقيل : المراد بالتجارة هنا مبادلة الآخرة بالدنيا ، كما في قوله
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦]
والمراد بالبيع مبادلة الدين بالدنيا كما في قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩]. وقيل
: إنما عطف البيع
على التجارة لأنه أراد بالتجارة الشراء إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقيل
: إنما عطف عليها
للتخصيص والتمييز من حيث أنه أبلغ في الإلهاء ؛ لأن البيع الرابح يعقبه حصول الربح
، بخلاف الشراء الرابح فإن الربح فيه مظنون مع كونه مترقبا منتظرا. وقيل
: التجارة مخصوصة
بأهل الجلب بخلاف البيع.
[٧٤٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
ماءٍ) [النور : ٤٥] وبعض
الدواب ليس مخلوقا من الماء كآدم عليهالسلام وناقة صالح وغيرهما؟
قلنا
: المراد بهذا
الماء : الماء الذي هو أصل جميع المخلوقات ، وذلك أن الله تعالى خلق قبل خلق
الإنسان جوهرة ونظر إليها نظر هيبة فاستحالت ماء ، فخلق من ذلك الماء جميع
الموجودات ، وقد سبق مثل هذا السؤال في قوله تعالى : (مِنَ الْماءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا) [الأنبياء : ٣٠].
[٧٤٤] فإن قيل : إذا كان الجواب هذا فما فائدة تخصيص الدابة
بالذكر أو تخصيص الشيء الحي؟
قلنا
: إنما خص الدابة
بالذكر ؛ لأن القدرة فيه أظهر وأعجب منها في الجماد وغيره.
[٧٤٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) وقال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] وهي
مما لا يعقل؟
قلنا
: لما كان اسم
الدابة يتناول المميّز وغيره غلب المميّز على غيره فأجرى عليه لفظه.
[٧٤٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مَنْ يَمْشِي عَلى
بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] وذلك
إنما يسمى زحفا لا مشيا ، ولا يسمى مشيا إلا ما كان بالقوائم.
قلنا
: هو مجاز بطريق
المشابهة ، كما يقال : مشى هذا الأمر ، وفلان لا يتمشى له أمر ، وفلان ماشي الحال.
[٧٤٧] فإن قيل : كيف أمر الله تعالى بالاستئذان للأطفال الذين لم
يبلغوا الحلم بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور : ٥٨] أي
من الأحرار؟
قلنا
: هو في المعنى أمر
للآباء والأمهات بتأديب الأطفال وتهذيبهم لا للأطفال.
[٧٤٨] فإن قيل : كيف أباح تعالى للقواعد من النساء وهن العجائز
التجرد من الثياب بحضرة الرجال بقوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ) [النور : ٦٠]
الآية.
قلنا
: المراد بالثياب
هنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار لا جميع الثياب ، وقوله تعالى : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) [النور : ٦٠] أي
غير قاصدات بوضع الثياب الظاهرة إظهار زينتهن ومحاسنهن ؛ بل التخفيف ، ثم أعقبه
بأن التعفف بترك الوضع خير لهن.
[٧٤٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)
__________________
[النور : ٦١] مع
أن انتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم لا شك فيه ولا شبهة؟
قلنا
: المراد بقوله
تعالى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] أي
من بيوت أولادكم ، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، فلهذا عبر عنه به ، وفي
الحديث : «إنّ أطيب ما يأكل الرّجل من كسبه ، وإنّ ولده من كسبه». ويؤيد ذلك أنه
ذكر بيوت جميع الأقارب ولم يذكر بيوت الأولاد. وقيل
: المراد بقوله
تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ
بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] ، أي
من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جملة عيالكم. وقيل
: المراد بقوله
تعالى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١]
البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال لغيرهم ، كبيت ولد الرجل وزوجته وخادمه ونحو
ذلك.
[٧٥٠] فإن قيل : معنى السلام هو السلامة والأمن ، فإذا قال الرجل
لغيره السلام عليك ؛ كان معناه سلمت مني وأمنت ، فما معنى قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ)؟ [النور : ٦١].
قلنا
: المراد به فإذا
دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلكم وعيالكم. وقيل
: معناه إذا دخلتم
المساجد أو بيوتا ليس فيها أحد فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ،
يعني من ربنا.
[٧٥١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣]
وإنما يقال خالف أمره؟
قلنا
: «عن» زائدة ؛ كذا قاله الأخفش.
الثاني
: أن فيه إضمارا
تقديره : فليحذر الذين يخالفون الله تعالى ويعرضون عن أمره ، أو ضمّن المخالفة
معنى الإعراض فعدي تعديته.
سورة الفرقان
[٧٥٢] فإن قيل : الخلق هو التقدير ؛ ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] ،
أي تقدر ؛ فما معنى قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] ؛
فكأنّه تعالى قال : وقدر كل شيء فقدره تقديرا؟
قلنا
: الخلق سن الله
تعالى بمعنى الإيجاد والإحداث ، فمعناه : وأوجد كل شيء مقدرا مسوى مهيأ لما يصلح
له ، لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ؛ ولا ناقصا عن ذلك.
الثاني
: أن معناه : وقدر
له ما يقيمه ويصلحه ؛ أو قدر له رزقا وأجلا وأحوالا تجري عليه.
[٧٥٣] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الجنة : (الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً
وَمَصِيراً) [الفرقان : ١٥]
وهي ما كانت بعد وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟
قلنا
: إنما قال كانت
لأن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ أو معناه كانت في علم الله
مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم ومصيرهم.
[٧٥٤] فإن قيل : ما فائدة تأخير الهوى في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) [الفرقان : ٤٣]
والأصل اتخذ الهوى إلها كما تقول : اتخذ الصنم معبودا؟
قلنا
: هو من باب تقديم
المفعول الثاني على الأول للعناية به ، كما تقول علمت منطلقا زيدا ، لفضل عنايتك
بانطلاقه.
[٧٥٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)؟ [الفرقان : ٤٤].
قلنا
: قد مر مثل هذا
السؤال وجوابه في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠].
[٧٥٦] فإن قيل : كيف شبههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال
بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] مع
أن الأنعام تعرف الله سبحانه وتعالى وتسبحه بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤]
وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)؟ [الجمعة : ١].
قلنا
: المراد تشبيههم
بالأنعام في الضلال عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى بواسطة دعوة الرسول صلىاللهعليهوسلم.
الثاني
: أن المراد
تشبيههم في الضلال والعمى عن أمر الدين بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين.
[٧٥٧] فإن قيل : إن كانوا كالأنعام في الضلال ؛ فكيف قال تعالى :
(بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤]
وإن كانوا أضل من الأنعام فكيف قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤]
وإن كانوا كالأنعام في الضلال وأضل منها أيضا فكيف يجتمع الوصفان؟
قلنا
: المراد بقوله
تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤]
التشبيه في أصل الضلال لا مقداره.
والثاني : بيان لمقداره. وقيل
: المراد بالأول
التشبيه في المقدار أيضا ؛ ولكن المراد بالأول طائفة وبالثاني طائفة أخرى ، ووجه
كونهم أضل من الأنعام أن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من
يحسن إليها ممّن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا
ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا
يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العذاب الذي هو أشد المضار
والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الرّوي.
[٧٥٨] فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الفرقان : ٤٨ ،
٤٩] كيف ذكر الصفة والموصوف مؤنث ولم يؤنثها كما أنثها في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس : ٣٣].
قلنا
: إنما ذكرها نظرا
إلى معنى البلدة وهو البلد والمكان لا إلى لفظها.
[٧٥٩] فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا
خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) [الفرقان : ٤٨ ،
٤٩] ، فإنزاله موصوفا بالطهورية ، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي يشعر بأنّ الطهورية
شرط في حصول تلك المصلحة ، كما تقول : حملني الأمير على فرس سابق لأصيد عليه الوحش
وليس كذلك.
قلنا
: وصف الطهورية ذكر
إكراما للأناسي الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء ، وإتماما للمنة
والنعمة عليهم ، لا لكونه شرطا في تحقق تلك المصالح والمنافع ، بخلاف النظير فإنه
قصد بكونه سابقا الشرطية ؛ لأن صيد الوحش على الفرس لا يتم إلا بها.
[٧٦٠] فإن قيل : كيف خص تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من
الحيوان الصامت؟
قلنا
: لأن الوحش والطير
تبعد في طلب الماء ولا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام.
الثاني
: أن الأنعام قنية
الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها ، فكأن الأنعام يسقي الأنعام ، كالأنعام يسقي
الأناسي ، فلذلك خصها بالذكر.
[٧٦١] فإن قيل : كيف قدم تعالى إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي
الأناسي؟
قلنا
: لأن حياة الأناسي
بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.
الثاني
: أن سقي الأرض
بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به.
[٧٦٢] فإن قيل : ما وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)؟ [الفرقان : ٥٧].
قلنا
: هو استثناء منقطع
تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فأنا أدله على ذلك وأهديه إليه. وقيل
تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا بإنفاق ماله في مرضاته فليفعل ذلك.
[٧٦٣] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [الفرقان : ٥٧] ،
أي أجرا ؛ لأن «من» لتأكيد النفي وعمومه. وقال في آية أخرى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الفرقان : ٢٣]
فأثبت سؤال الأجر عليه؟
قلنا
: هذه الآية منسوخة
بقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] رواه
مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. والصحيح الذي عليه المحققون أنها غير
منسوخة ؛ بل هو استثناء من غير الجنس تقديره : لكن أذكركم المودة في القربى.
[٧٦٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤]
ولم يقل أئمة؟
قلنا
: مراعاة لفواصل
الآيات ، وقيل تقديره : واجعل كل واحد منا إماما.
[٧٦٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها
تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان : ٧٥]
وهما بمعنى واحد ويؤيده قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤]
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «تحيّة أهل الجنّة في الجنّة سلام».
__________________
قلنا
: قال مقاتل :
المراد بالتحيّة سلام بعضهم على بعض أو سلام الملائكة عليهم ، والمراد بالسلام أن
الله تعالى سلمهم مما يخافون وسلّم إليهم أمرهم.
وقيل : التّحية من الملائكة أو من أهل الجنة ، والسلام من الله
تعالى عليهم لقوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. وقيل
: التحية من الله
تعالى لهم بالهدايا والتحف والسلام بالقول. وقيل
: التحية الدعاء
بالتعمير ، والسلام الدعاء بالسلامة فمعناه أنهم يلقون ذلك من الملائكة أو بعضهم
من بعض ، أو يلقون ذلك من الله تعالى ، فيعطون البقاء والخلود مع السلامة من كل
آفة.
سورة الشعراء
[٧٦٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤]
والأعناق لا تخضع؟
قلنا
: قيل أصل الكلام :
فظلوا لها خاضعين فاقتحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله ،
كقولهم ذهبت أهل اليمامة ، كأنّ الأهل غير المذكور ، ومثله قول الشاعر :
رأت مرّ السنين
أخذن منّي
|
|
كما أخذ السرار
من الهلال
|
أو لما وصفت
الأعناق بالخضوع الذي هو من صفات العقلاء جمعت جمع العقلاء كقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ
لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤]. وقيل
: الأعناق رؤساء
الناس ومقدموهم شبهوا بالأعناق ، كما قيل لهم الرءوس والنواصي والوجوه.
وقيل : الأعناق الجماعات ؛ يقال : جاءني عنق من الناس ، أي جماعة.
وقيل : إن ذلك لمراعاة الفواصل.
[٧٦٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَقُولا إِنَّا
رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦]
فأفرد ، وقال تعالى في موضع آخر (إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ) [طه : ٤٧] فثنّى؟
قلنا
: الرسول يكون
بمعنى المرسل فيلزم تثنيته ، ويكون بمعنى الرسالة التي هي المصدر فيوصف به الواحد
والاثنان والجماعة كما يوصف بسائر المصادر ، والدليل على أنه يكون بمعنى الرسالة
قول الشاعر :
لقد كذب الواشون
ما بحت عندهم
|
|
بسرّ ولا
أرسلتهم برسول
|
أي برسالة.
الثاني
: أنهما لاتفاقهما
في الأخوة والشريعة والرسالة جعلا كنفس واحدة.
الثالث
: أن تقديره : إن
كل واحد منا رسول رب العالمين.
الرابع
: أن موسى عليهالسلام كان الأصل ، وهارون عليهالسلام كان تبعا له ، فأفرد إشارة إلى ذلك.
__________________
[٧٦٨] فإن قيل : كيف قال موسى عليهالسلام معتذرا عن قتل القبطي (فَعَلْتُها إِذاً
وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠]
والنبيّ لا يكون ضالا؟
قلنا
: أراد به وأنا من
الجاهلين ، وكذا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وقيل
: أراد من المخطئين
، لأنه ما تعمد قتله ، كما يقال : ضل عن الطريق إذا عدل عن الصواب إلى الخطأ. وقيل
: من الناسين كقوله
تعالى : (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢].
[٧٦٩] فإن قيل : كيف قال فرعون (وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣]
ولم يقل ومن رب العالمين؟
قلنا
: هو كان أعمى
القلب عن معرفة الله سبحانه وتعالى ، منكرا لوجوده فكيف ينكر عليه العدول عن «من»
إلى «ما».
الثاني
: أن «ما» لا تختص
بغير المميّز ؛ بل تطلق عليهما ، قال الله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] وقال
الله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ١٠٩].
[٧٧٠] فإن قيل : كيف قال موسى عليهالسلام : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٤]
علق كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما بشرط كون فرعون وقومه موقنين ، وهذا
الشرط منتف والربوبية ثابتة فكيف صح التعليق؟
قلنا
: معناه إن كنتم
موقنين أن السموات والأرض وما بينهما موجودات وهذا الشرط موجود.
الثاني
: أن «إن» نافية لا
شرطية.
[٧٧١] فإن قيل : كيف ذكر السموات والأرض وما بينهما قد استوعب ذكر
المخلوقات كلها فما فائدة قوله تعالى بعد ذلك (رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦]
وقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ) [الشعراء : ٢٨].
قلنا
: أعاد ذكرها
تخصيصا لها وتمييزا ، لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد
وعاين من الدلائل على الصانع والنقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ولادته
إلى وقت وفاته ، ثم خص المشرق والمغرب ؛ لأن طلوع الشمس من أحدهما وغروبها في
الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما يستدل به على وجود
الصانع ، ولظهوره انتقل خليل الله صلوات الله عليه وسلامه إلى الاحتجاج به عن
الاحتجاج بالإحياء والإماتة (فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨].
[٧٧٢] فإن قيل : كيف قال أولا (إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٤]
وقال آخرا (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ) [الشعراء : ٢٨].
قلنا
: لاينهم ولاطفهم
أوّلا ، فلمّا رأى عنادهم وإصرارهم خاشنهم وعارض قوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٧٢]
بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ).
[٧٧٣] فإن قيل : قوله : لأسجننك أخصر من قوله : (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء : ٢٩]
فكيف عدل عنه؟
قلنا
: كان مراده تعريف
العهد ، فكأنه قال لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجني ، وكان إذا سجن إنسانا
طرحه في هوة عميقة جدا مظلمة وحده لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أوجع من القتل
وأشد نكاية.
[٧٧٤] فإن قيل : قصة موسى عليهالسلام مع فرعون والسحرة ذكرت في سورة الأعراف ثم في سورة طه ثم
في هذه السورة ، فما فائدة تكرارها وتكرار غيرها من القصص؟
قلنا
: فائدته تأكيد
التّحدي وإظهار الإعجاز ، كما أن المبارز إذا خرج من الصف قال : «نزال نزال هل من
مبارز هل من مبارز» مكررا ذلك ، يقال : ولهذا سمى الله تعالى القرآن مثاني ؛ لأنه
ثنيت فيه الأخبار والقصص.
الثاني
: أن أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم كان بعضهم حاضرين وبعضهم غائبين في الغزوات ، وكانوا يحبون
حضور مهبط الوحي ، وكانوا إذا رجعوا من غزوهم أكرمهم الله تعالى في بعض الأوقات
بإعادة الوحي تشريفا لهم وتفصيلا.
[٧٧٥] فإن قيل : كيف كرر الله تعالى ذكر قصة موسى عليهالسلام أكثر من قصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟
قلنا
: لأن أحواله كانت
أشبه بأحوال النبي صلىاللهعليهوسلم من أحوال غيره منهم في إقامته الحجج وإظهاره المعجزات لأهل
مصر وإصرارهم على تكذيبه والجفاء عليه كما كان حال النبيّ صلىاللهعليهوسلم مع أهل مكّة.
[٧٧٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ) [الشعراء : ٦١]
والترائي تفاعل من الرؤية ، فيقتضي وجود رؤية كل جمع الجمع الآخر والمنقول أنهم لم
ير بعضهم بعضا ، فإن الله تعالى أرسل غيما أبيض فحال بين العسكرين حتى منع رؤية
بعضهم بعضا؟
قلنا
: الترائي يستعمل
بمعنى التداني والتقابل أيضا ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «المؤمن والكافر لا يتراءيان» ، أي لا يتدانيان ، ويقال
: دورنا تتراءى ، أي تتقارب وتتقابل.
[٧٧٧] فإن قيل : كيف قال : (وَإِذا مَرِضْتُ) [الشعراء : ٨٠]
ولم يقل وإذا أمرضني ، كما قال ، قبله : (خلقني ويهدين)؟
قلنا
: لأنه كان في معرض
الثناء على الله تعالى وتعديد نعمه ، فأضاف إليه الخير المحض حفظا للأدب ، وإن كان
الكل مضافا إليه ، ونظيره قول الخضر عليهالسلام (فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩]
وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ
أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) [الكهف : ٨٢].
[٧٧٨] فإن قيل : هذا الجواب يبطل بقوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) [الشعراء : ٨١]
وبقول الخضر (فَأَرَدْنا أَنْ
يُبْدِلَهُما) [الكهف : ٨١].
قلنا
: إنما أضاف الموت
إلى الله تعالى ؛ لأنه سبب لقائه إياه وانتقاله إلى دار كرامته ، فكان نعمة من هذا
الوجه. وقيل : إنما أضاف المرض إلى نفسه ؛ لأن أكثر الأمراض تحدث بتفريط
الإنسان في مطاعمه ومشاربه.
[٧٧٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء : ٨٨]
والمال الذي أنفق في طاعة الله تعالى وسبيله ينفع ، والولد الصالح ينفع ، والولد
الذي مات صغيرا يشفع ، وشواهد ذلك كثيرة من الكتاب والسنة خصوصا قوله صلىاللهعليهوسلم : «إذا مات ابن آدم ينقطع عمله إلّا من ثلاث» الحديث؟
قلنا
: المراد بالآية أنهما
لا ينفعان غير المؤمن ، فإنه هو الذي يأتي بقلب سليم من الكفر ، أو المراد بهما
مال لم ينفق في طاعة الله تعالى وولد بالغ غير صالح.
[٧٨٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الشعراء : ٩٠] أي
قربت ، والجنة لا تنقل من مكانها ولا تحول؟
قلنا
: فيه قلب معناه :
وأزلفت المتقون إلى الجنّة ، كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا. وقيل
معناه : أنها كانت محجوبة عنهم ، فلما رفعت الحجب بينهم وبينها كان ذلك تقريبا
لها.
[٧٨١] فإن قيل : كيف جمع الشافع ووحد الصديق في قوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ،
١٠١].
قلنا
: لكثرة الشفعاء في
العادة وقلة الصديق ، ولهذا روي أن بعض الحكماء سئل عن الصديق؟ فقال : هو اسم لا
معنى له ، أراد بذلك عزة وجوده ، ويجوز أن يراد بالصديق الجمع كالعدو.
[٧٨٢] فإن قيل : كيف قرن بين الأنعام والبنين في قوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء : ١٣٣]؟
__________________
قلنا
: لأن الأنعام كانت
من أعز أموالهم عندهم ، وكان بنوهم هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها ،
فلهذا قرن بينهما.
[٧٨٣] فإن قيل : قوله تعالى : ((أَوَعَظْتَ) أو لم تعظ) أخصر من قوله : (أَمْ لَمْ تَكُنْ
مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء : ١٣٦]
فكيف عدل عنه؟
قلنا
: مرادهم سواء
علينا أفعلت هذا الفعل أم لم تكن من أهله أصلا ، وهذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه
من قولهم أو لم تعظ.
[٧٨٤] فإن قيل : قوله تعالى : (فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) [الشعراء : ١٥٧ ،
١٥٨] كيف أخذهم العذاب بعد ما ندموا على جنايتهم ، وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «الندم توبة»؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما : ندموا حين رأوا العذاب ، وذلك ليس وقت التوبة كما قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨]
الآية. وقيل : كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل لا ندم توبة فلذلك لم
ينفعهم.
[٧٨٥] فإن قيل : كيف طلب لوط عليهالسلام تنجيته من اللواطة بقوله : (رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١٦٩]
واللواطة كبيرة ، والأنبياء معصومون من الكبائر؟
قلنا
: مراده رب نجني
وأهلي من عقوبة عملهم أو من شؤمه ، والدليل على ذلك ضمه أهله إليه في الدعاء ، واستثناء
الله تعالى امرأته من قبول الدعوة.
[٧٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى في قصة شعيب عليهالسلام (إِذْ قالَ لَهُمْ
شُعَيْبٌ) [الشعراء : ١٧٧]
ولم يقل أخوهم ، كما قال تعالى في حقّ غيره هنا ، وكما قال في حقه في موضع آخر؟
قلنا
: لأنه هنا ذكر مع
أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم ، وإنما كان من نسل مدين ، كذا قال مقاتل. وفي
الحديث أن شعيبا عليهالسلام أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة. وقال ابن جرير
الطبري : أهل مدين هم أصحاب الأيكة ، فعلى هذا يكون حذف الأخ تخفيفا.
[٧٨٧] فإن قيل : ما الفرق بين حذف الواو في قصة صالح عليهالسلام وإثباتها
__________________
في قصة شعيب في
قولهم : (ما أَنْتَ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٥٤] (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٨٦]؟
قلنا
: الفرق بينهما أنه
عند إثبات الواو المقصود معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم التسخير والبشرية ،
وعند حذف الواو المقصود معنى واحد مناف لها وهو كونه مسخرا ثم قرروا التسخير
بالبشرية ، كذا أجاب الزمخشري رحمهالله.
[٧٨٨] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الكهنة والمتنبئة كشق
وسطيح ومسيلمة (وَأَكْثَرُهُمْ
كاذِبُونَ) [الشعراء : ٢٢٣]
بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك أثيم ، والأفاك الكذاب ، والأثيم الفاجر ،
ويلزم من هذا أن يكون كلهم كذابين؟
قلنا
: الضمير في قوله :
(وَأَكْثَرُهُمْ) عائد إلى الشياطين لا إلى كل أفاك.
سورة النمل
[٧٨٩] فإن قيل : ما فائدة تنكير الكتاب في قوله تعالى : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) [النمل : ١]؟
قلنا
: فائدته التفخيم
والتعظيم كقوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].
[٧٩٠] فإن قيل : العطف يقتضي المغايرة ، فكيف عطف الكتاب المبين
على القرآن والمراد به القرآن؟
قلنا
: قيل إن المراد
بالكتاب المبين اللوح المحفوظ ، فعلى هذا لا إشكال ؛ وعلى القول الآخر فنقول :
العطف يقتضي المغايرة مطلقا إما لفظا وإما معنى ؛ بدليل قول الشاعر :
فألفى قولها كذبا ومينا
وقولهم : جاءني
الفقيه والظريف ، والمغايرة لفظا ثابتة.
[٧٩١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤] وقال
تعالى في موضع آخر (وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤].
قلنا
: تزيين الله تعالى
لهم الأعمال بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم ، وتزيين الشيطان بالوسوسة
والإغواء والغرور والتمنية ، فصحت الإضافتان.
[٧٩٢] فإن قيل : كيف قال هنا (سَآتِيكُمْ) [النمل : ٧] وقال
في سورة طه (لَعَلِّي آتِيكُمْ) [طه : ١٠] وأحدهما
قطع والآخر ترجّ والقصة واحدة؟
قلنا
: قد يقول الراجي
إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا ، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
[٧٩٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ
فِي النَّارِ) [النمل : ٨] مع
أنه لم
__________________
يكن في النار أحد
، بل لم يكن المرئي نارا ، وإنما كان نورا في قول الجمهور ، وقيل
: كان نارا ثم انقلب
نورا؟
قلنا
: قال ابن عباس
والحسن رضي الله عنهما : معناه قدس من ناداه من النار وهو الله عزوجل ، لا على معنى أن الله تعالى يحل في شيء ؛ بل على معنى أنه
أسمعه النداء من النار في زعمه.
الثاني
: أن من زائدة ؛
والتقدير بورك في النار وفيمن حولها ، وهو موسى عليهالسلام والملائكة.
الثالث
: أن معناه بورك من
في طلب النار ؛ وهو موسى عليهالسلام.
[٧٩٤] فإن قيل : إنما يقال بارك الله على كذا ، ولا يقال بارك
الله كذا؟
قلنا
: قال الفراء :
العرب تقول باركه الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد ، ومنه قوله تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) [الصافات : ١١٣]
ولفظ التحيات : وبارك على محمد وعلى آل محمد.
[٧٩٥] فإن قيل : ما وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ
الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠ ، ١١]
الآية؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنه استثناء
منقطع بمعنى لكن.
الثاني
: أنه استثناء متصل
، كذا قاله الحسن وقتادة ومقاتل رحمهمالله ، ومعناه : إلا من ظلم منهم بارتكاب الصّغيرة كآدم ويونس
وداود وسليمان وإخوة يوسف وموسى وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم ، فإنه يخاف مما
فعل مع علمه أني غفور رحيم ، فيكون تقدير الكلام : إلا من ظلم منهم فإنه يخاف فمن
ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ؛ ولهذا قال بعضهم : إن هنا وقفا على قوله
: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) وابتداء الكلام الثاني محذوف كما قدرنا.
الثالث
: أن «إلا» بمعنى
ولا كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] أي
ولا الذين ظلموا منهم.
الرابع
: أن تقديره : أني
لا يخاف لديّ المرسلون ولا غير المرسلين (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) الآية.
[٧٩٦] فإن قيل : كيف قال سليمان عليهالسلام (عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ وَأُوتِينا) [النمل : ١٦] بنون
العظمة وهو من كلام المتكبّرين؟
قلنا
: لم يرد به نون العظمة
، وإنما أراد به نون الجمع وعنى نفسه وأباه.
الثاني
: أنه كان ملكا مع
كونه نبيا فراعى سياسة الملك وتكلم بكلام الملوك.
[٧٩٧] فإن قيل : كيف حل له تعذيب الهدهد حتّى قال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) [النمل : ٢١]؟
قلنا
: لعل ذلك أبيح له
خاصة كما خص بفهم منطق الطير وتسخيره له وغير ذلك.
[٧٩٨] فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك
سليمان عليهالسلام حتى قال ولها عرش عظيم؟
قلنا
: يجوز أنه استصغر
حالها بالنسبة إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش.
الثاني
: أنه يجوز أن لا
يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون
للملك مثله.
[٧٩٩] فإن قيل : كيف قال الهدهد (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] مع
قول سليمان صلوات الله وسلامه عليه (وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ١٦]
فكأنه سوّى بينهما؟
قلنا
: بينهما فرق ؛ وهو
أن الهدهد أراد به ، وأوتيت من كلّ شيء من أسباب الدنيا ؛ لأنه عطف على الملك ،
وسليمان أراد به وأوتينا من كل شيء من أسباب الدين والدنيا ويؤيد ذلك عطفه على
المعجزة وهي منطق الطير.
[٨٠٠] فإن قيل : كيف سوّى الهدهد بين عرشها وعرش الله تعالى في
الوصف بالعظم حتى قال : (وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] ،
وقال : (رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ) [النمل : ٢٦]؟
قلنا
: بين الوصفين بون
عظيم ؛ لأنّه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش
الله تعالى بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض وما بينهما.
[٨٠١] فإن قيل : قوله تعالى : (فَأَلْقِهْ
إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) [النمل : ٢٨] إذا
تولى عنهم ، فكيف يعلم جوابهم؟
قلنا
: معناه ثم تول
عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ما ذا يرجعون.
الثاني
: أن فيه تقديما
وتأخيرا تقديره : فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم.
[٨٠٢] فإن قيل : كيف استجاز سليمان عليهالسلام تقديم اسمه في الكتاب على اسم الله تعالى حتى كتب فيه (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [النمل : ٣٠].
قلنا
: لأنه عرف أنها لا
تعرف الله تعالى وتعرف سليمان ، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى إذا كان أول ما يقع
نظرها عليه ، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى. وقيل
: إن اسم سليمان
كان على عنوانه ، واسم الله تعالى كان في أول طيه.
[٨٠٣] فإن قيل : كيف يجوز أن يكون آصف وهو كاتب سليمان عليهالسلام ووزيره وليس بنبي يقدر على ما لا يقدر عليه النبي ، وهو
إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟
قلنا
: يجوز أن يخص غير
الرسول بكرامة لا يشاركه فيها الرسول ، كما خصت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة
الجنة وزكريا لم يرزق منها ، وكما أن سليمان صلوات الله عليه خرج مع قومه يستسقون
فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تستسقي ، فقال لقومه :
ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ، ولم يلزم من ذلك فضلها على سليمان. وقد نقل أن
النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين والأنصار
: ادعوا لنا بالنصرة ، فإن الله تعالى ينصرنا بدعائكم ، ولم يكونوا أفضل منه صلىاللهعليهوسلم ، مع أن كرامة التابع من جملة كرامات المتبوع. قالوا :
والعلم الذي كان عنده هو اسم الله الأعظم ، فدعا به فأجيب في الحال ، وهو عند أكثر
العلماء كما قال البندنيجي اسم الله. ثم ، قيل : هو يا حي يا قيوم ، وقيل
: يا ذا الجلال
والإكرام ، وقيل : يا الله يا رحمن ، وقيل
: يا إلهنا وإله كل
شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ، فمن أخلص النية ودعا بهذه الكلمات مع استجماع
شرائط الدعاء المعروفة فإنه يجاب لا محالة.
[٨٠٤] فإن قيل : كيف قالت : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ
سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [النمل : ٤٤] وهي
إنما أسلمت بعده على يده لا معه ؛ لأنّه كان مسلما قبلها؟
قلنا
: إنما عدلت عن تلك
العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة ، فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة
له بإسلامها على يده وإن كان الواقع كذلك.
[٨٠٥] فإن قيل : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا ، فأتوا
بالخبر على خلاف المخبر عنه؟
قلنا
: كأنهم اعتقدوا
أنهم إذا جمعوا بين البيانين ثم قالوا : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ
أَهْلِهِ) [النمل : ٤٩]
يعنون ما شهدناه وحده كانوا صادقين ، لأنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله.
[٨٠٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] ونحن
نعلم الجنة والنار وأحوال القيامة وكلها غيب؟
قلنا
: معناه لا يعلم
الغيب بلا دليل إلا الله أو بلا معلم إلا الله ، أو جميع الغيب إلا الله. وقيل
معناه : لا يعلم ضمائر السموات والأرض إلا الله.
[٨٠٧] فإن قيل : قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [النمل : ٦٦] أو
أدرك على اختلاف القراءتين ، هل مرجع الضمير فيه وفيما قبله واحد أم لا؟ وكيف
مطابقة الإضراب لما قبله ، ومطابقته لما بعده من الإضرابين؟ وكيف وصفهم بنفي
الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى؟
قلنا
: مرجع الضمير في
قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ) هو الكفار فقط ، وفيما قبله جميع من في السموات والأرض ،
وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ) معناه بل تتابع وتلاحق واجتمع كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها
جَمِيعاً) [الأعراف : ٣٨]
وأصله تدارك ، فأدغم التاء في الدال ، وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ) معناه بل كمل وانتهى. قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد
ما جهلوه في الدنيا علموه في الآخرة. وقال السدّي : يريد اجتمع علمهم يوم القيامة
فلم يشكوا ولم يختلفوا. وقال مقاتل : يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه وعموا عنه
في الدنيا ، وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْها) [النمل : ٦٦]
معناه : بل هم اليوم في شك من الساعة (بَلْ هُمْ مِنْها
عَمُونَ) [النمل : ٦٦] جمع
عم وهو أعمى القلب. ومطابقة الإضراب الأول لما قبله أن الذين لا يشعرون وقت البعث
لما كانوا فريقين : فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة وهم
المؤمنون ، وفريق منهم لا يعلمون وقته لإنكارهم أصل وجوده أفرد الفريق الثاني
بالذكر بقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) تأكيدا لنفي علمهم في الدنيا ، كأنه تعالى قال : بل فريق
منهم لا يعلمون شيئا من أمر البعث في الدنيا أصلا ، ثم أضرب عن الإخبار بتتابع
علمهم وتلاحقه بحقيقة البعث في الآخرة إلى الإخبار عن شكهم في الدنيا في أمر البعث
والساعة ؛ مع قيام الأدلة الشرعية على وجودها لا محالة ، وأما وصفهم بنفي الشعور
ثمّ بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى فلا تناقض فيه ، لاختلاف الأزمنة ، أو لاختلاف
متعلقات تلك الأمور الأربعة ، وهي الشعور والعلم والشك والعمى.
[٨٠٨] فإن قيل : قضاء الله تعالى وحكمه واحد فما معنى قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
بِحُكْمِهِ) [النمل : ٧٨] وهو
بمنزلة قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ) بقضائه أو يحكم بينهم بحكمه.
قلنا
: معناه بما يحكم
به وهو عدله المعروف المألوف ؛ لأنه لا يقضي إلا بالحق وبالعدل ، فسمى المحكوم به
حكما. وقيل : معناه بحكمته ؛ ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة.
__________________
[٨٠٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [النمل : ٨٦] ولم
يراع المقابلة بقوله تعالى : (وَالنَّهارَ
مُبْصِراً) فيه؟
قلنا
: راعى المقابلة
المعنوية دون اللفظية ؛ لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه ، وقد سبق ما يشبه هذا في قوله
تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩].
[٨١٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النمل : ٨٦] ؛ مع
أن في ذلك علامات على وحدانية الله تعالى لجميع العقلاء؟
قلنا
: إنما خصهم بالذكر
لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم.
[٨١١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ فَفَزِعَ) [النمل : ٨٧] ولم
يقل فيفزع وهو أظهر مناسبة؟
قلنا
: أراد بذلك
الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ؛ لأن الفعل الماضي يدل على الثبوت
والتحقق قطعا.
[٨١٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ
داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] أي
صاغرين أذلاء بعد البعث ، مع أن النبيين والصديقين والشهداء يأتونه عزيزين مكرمين؟
قلنا
: المراد به صغار
العبودية والرّق وذلهما لا ذل الذنوب والمعاصي ، وذلك يعم الخلق كلهم ، ونظيره
قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣].
سورة القصص
[٨١٣] فإن قيل : ما فائدة وحي الله تعالى إلى أم موسى عليهالسلام بإرضاعه وهي ترضعه طبعا سواء أمرت بذلك أم لا؟
قلنا
: أمرها بإرضاعه
ليألف لبنها فلا يقبل ثدي غيرها بعد وقوعه في يد فرعون ، فلو لم يأمرها بإرضاعه
ربما كانت تسترضع له مرضعة فيفوت ذلك المقصود.
[٨١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي) [القصص : ٧] والشرط
الواحد إذا تعلق به جزاءان صدق مع كل واحد منهما وحده ، فيئول هذا إلى صدق قوله :
فإذا خفت عليه فلا تخافي ، وأنه يشبه التناقض.
قلنا
: معناه فإذا خفت
عليه من القتل فألقيه في اليم ولا تخافي عليه من الغرق ، ولا تناقض بينهما.
[٨١٥] فإن قيل : ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على
الآخر في قوله تعالى : (وَلا تَخافِي وَلا
تَحْزَنِي) [القصص : ٧]؟
قلنا
: الخوف غم يصيب
الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل ، والحزن غم يصيبه لأمر قد وقع ومضى.
[٨١٦] فإن قيل : كيف جعل موسى عليهالسلام قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان ، وسمى نفسه ظالما
واستغفر منه؟
قلنا
: إنما جعله من عمل
الشيطان لأنه قتله قبل أن يؤذن له في قتله ، فكان ذلك ذنبا يستغفر منه مثله. قال
ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر.
[٨١٧] فإن قيل : إن موسى عليهالسلام ما سقى لابنتي شعيب عليهالسلام طلبا للأجر ، فكيف أجاب دعوتها لما قالت : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ
أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) [القصص : ٢٥]؟
__________________
قلنا
: يجوز أن يكون قد
أجاب دعوتها ودعوة أبيها لوجه الله تعالى على سبيل البر والمعروف ابتداء لا على
سبيل الإجزاء وإن سمته هي إجزاء ، ويؤيد هذا ما روي أنه لما قدم إليه الطعام امتنع
وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا ، ولا نأخذ على المعروف أجرا
حتى قال له شعيب عليهالسلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا.
[٨١٨] فإن قيل : كيف قال له شعيب عليهالسلام : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [القصص : ٢٧] ومثل
هذا النكاح لا يصح لجهالة المنكوح ، والنبي عليهالسلام لا ينكح نكاحا فاسدا ، ولا يعتد به؟
قلنا
: إنما كان ذلك
وعدا بنكاح معينة عند الواعد وإن كانت مجهولة عند الموعود ومثله جائز ، ويكون
التعيين عند إنجاز الوعد كما وقع منه.
[٨١٩] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص : ٣٢] فجعل
الجناح هنا مضموما وقال في سورة طه (وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ) [طه : ٢٢] فجعل
الجناح هناك مضموما إليه والقصة واحدة؟
قلنا
: المراد بالجناح
المضموم هنا هو اليد اليمنى ، والمراد بالجناح المضموم إليه في سورة طه ما بين
العضد إلى الإبط من اليد اليسرى فلا تناقض بينهما.
[٨٢٠] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ
الرَّهْبِ)؟
قلنا
: لما رهب من الحية
أمره الله تعالى أن يضم إليه جناحه ليذهب عنه الفزع ، وإنما قال تعالى : (مِنَ الرَّهْبِ) ؛ لأنه جعل الرهب الذي أصابه علة وسببا لما أمر به من ضم
الجناح. قال مجاهد : كل من فزع من شيء فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع. وقيل
: حقيقة ضم الجناح
غير مرادة ؛ بل هو مجاز عن تسكين الروع وتثبيت
__________________
الجأش. قال أبو
علي : لم يرد به الضم بين شيئين ، وإنما أمر بالعزم والجد في الإتيان بما طلب منه
، ومثله قولهم :
اشدد حيازيمك
للموت
|
|
.......................
|
فليس فيه شد
حقيقة.
وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره : ولّى مدبرا من الرّهب.
[٨٢١] فإن قيل : أيّ فائدة في تصديق هارون لموسى عليهماالسلام ؛ حتّى قال : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي
رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤]؟
قلنا
: ليس مراده بقوله
ردءا يصدقني أن يقول له صدقت في دعوى الرسالة فإن ذلك لا يفيده عند فرعون وقومه
الذين كانوا لا يصدقونه مع وجود تلك الآية الباهرة والمعجزات الظاهرة ؛ بل مراده
أن يلخص حججه بلسانه ، ويبسط القول فيها ببيانه ، ويجادل عنه بالحق ، فيكون ذلك سببا
لتصديقه. ألا ترى إلى قوله : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤].
وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لما قلنا لا لقوله صدقت ، فإن سحبان وائل وباقلا في
ذلك سواء.
[٨٢٢] فإن قيل : قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤] أي
أحكمنا إليه الوحي مغن عن قوله تعالى : (وَما كُنْتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ) [القصص : ٤٤] أي
من الحاضرين عند ذلك؟
قلنا
: معناه وما كنت من
الشاهدين قصته مع شعيب عليهالسلام فاختلفت القضيتان.
[٨٢٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٥٠] وكم
رأينا من الظالمين بالكفر والكبائر من قد هداه الله للإسلام والتوبة؟
قلنا
: قد سبق مثل هذا
السؤال وجوابه في سورة المائدة.
[٨٢٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) [القصص : ٦٤]
وإنما يرى العذاب من كان ضالا لا مهتديا.
قلنا
: جواب لو محذوف
تقديره ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون لما اتبعوهم أو لما رأوا العذاب.
[٨٢٥] فإن قيل : كيف قال تعالى في آخر آية الليل (بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) [القصص : ٧١] وقال
في آخر آية النهار (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ
فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [القصص : ٧٢]؟
قلنا
: السماع والإبصار
المذكوران لا تعلق لهما بظلمة الليل ولا بضياء النهار ، فلذلك لم يقرن الإبصار
بالضياء ؛ وبيانه أن معنى الآيتين أفلا يسمعون القرآن سماع
تأمل وتدبر
فيستدلوا بما فيه من الحجج على توحيد الله تعالى ، أفلا تبصرون ما أنتم عليه من
الخطأ والضلالة.
[٨٢٦] فإن قيل : كيف وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : ٨٦]؟
قلنا
: قال الفراء : هو
استثناء منقطع تقديره رحمة من ربك ، أي للرحمة.
سورة العنكبوت
[٨٢٧] فإن قيل : قال تعالى : (وَما هُمْ
بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ١٢]
ثم قال : (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣]؟
قلنا
: معناه وما
الكافرون بحاملين شيئا من خطايا المؤمنين التي ضمنوا حملها ، وليحملن الكافرون
أثقال أنفسهم وهي ذنوب ضلالهم ، وأثقالا مع أثقالهم وهى ذنوب إضلالهم غيرهم من
الكفار ، لا خطايا المؤمنين التي نفى عنهم حملها ؛ وقد سبق نظير هذا في قوله تعالى
: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]
في سورة الأنعام وفي سورة بني إسرائيل.
[٨٢٨] فإن قيل : ما فائدة العدول عن قوله «تسعمائة وخمسين عاما»
إلى قوله : (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عاماً) [العنكبوت : ١٤]
مع أن عادة أهل الحساب هو اللفظ الأول؟
قلنا
: لما كانت القصة
مسوقة لتسلية النّبيّ صلىاللهعليهوسلم بذكر ما ابتلي به نوح عليهالسلام من أمّته وكابده من طول مصابرتهم ، كان ذكر أقصى العدد
الذي لا عقد أكثر منه في مراتب العدد أفخم وأعظم إلى الغرض المقصود ، وهو استطالة
السامع مدة صبره. وفيه فائدة أخرى وهي نفي وهم إرادة المجاز بإطلاق لفظ التسعمائة
والخمسين على أكثرها ، فإن هذا الوهم مع ذكر الألف والاستثناء منتف أو هو أبعد.
[٨٢٩] فإن قيل : كيف جاء المميز أولا بلفظ السنة والثاني بلفظ
العام؟
قلنا
: لأن تكرار اللفظ
الواحد مجتنب في مذهب الفصحاء والبلغاء إلا أن يكون لغرض تفخيم أو تهويل أو تنويه
أو نحو ذلك.
[٨٣٠] فإن قيل : كيف نكر الرزق ثم عرفه في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت : ١٧]؟
قلنا
: لأنه أراد أنهم
لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق فابتغوا عند الله الرزق كله ، فإنه هو
الرازق وحده لا يرزق غيره.
[٨٣١] فإن قيل : كيف أضمر اسمه تعالى في قوله عزوجل : (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ٢٠]
ثم أظهره في قوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ
يُنْشِئُ
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٠]
وكان القياس كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟
قلنا
: إنما عدل إلى ما
ذكر لتأكيد الإخبار عن الإعادة التي كانت هي المنكرة عندهم بالإفصاح باسمه تعالى
في ذكرها وجعله مبتدأ لزيادة الاهتمام بشأنها؟
[٨٣٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ
فِي الدُّنْيا) [العنكبوت : ٢٧]
في معرض المدح أو في معرض الامتنان عليه ، وأجر الدنيا فإن منقطع ، بخلاف أجر
الآخرة فإنه النعيم المقيم الباقي ، فكان الأولى بالذكر؟
قلنا
: المراد به :
وآتيناه أجره في الدنيا مضموما إلى أجره في الآخرة من غير أن ينقص من أجر الآخرة
شيئا. قال ابن جرير : وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٢٧]
يعني له في الآخرة جزاء الصالحين وافيا كاملا. وأجره في الدنيا ، قيل : هو الثناء
الحسن من الناس والمحبة من أهل الأديان. وقيل
: هي البركة التي
بارك الله فيه وفي ذريته.
[٨٣٣] فإن قيل : كيف قالوا : (إِنَّا مُهْلِكُوا
أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) [العنكبوت : ٣١]
يعنون مدينة قوم لوط عليهالسلام ، ولم يقولوا تلك القرية ، مع أن مدينة قوم لوط كانت بعيدة
عن موضع إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، غائبة عند وقت هذا الخطاب؟
قلنا
: إنما قالوا هذه
القرية لأنها كانت قريبة حاضرة بالنسبة إليهم وإن كانت بعيدة بالنسبة إلى إبراهيم عليهالسلام.
[٨٣٤] فإن قيل : كيف قالوا : (أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ) [العنكبوت : ٣١]
ولم يقولوا أهل هذه القرى؟ مع أن مدائن قوم لوط كانت خمسا فأهلكوا منها أربعا؟
قلنا
: إنما اقتصروا في
الذكر على قرية واحدة لأنها كانت أكبر وأقرب وهي سدوم مدينة لوط عليهالسلام ، فجعلوا ما وراءها تبعا لها في الذكر.
[٨٣٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) [العنكبوت : ٣٨]
أي ذوي بصائر ، يقال فلان مستبصر : إذا كان عاقلا لبيبا صحيح النظر ، ولو كانوا
كذلك لما عدلوا عن طريق الهدى إلى طريق الضلال؟
قلنا
: معناه وكانوا
مستبصرين في أمور الدنيا ، وقيل : معناه وكانوا عارفين الحق بوضوح الحجج والدلائل ؛ ولكنهم
كانوا ينكرونه متابعة للهوى ؛ لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤]. وقيل
: معناه وكانوا
مستبصرين لو نظروا نظر تدبر وتفكر.
[٨٣٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت : ٤١]
وكل أحد يعلم أن أضعف بيوت يتخذها الهوام بيت العنكبوت؟
قلنا
: معناه لو كانوا
يعلمون أن اتخاذهم الأصنام أولياء من دون الله مثل اتخاذ العنكبوت بيتا لما
اتخذوها.
[٨٣٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ
الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت : ٤٦]
وكل أهل الكتاب ظالمون ؛ لأنهم كافرون ، ولا ظلم أشد من الكفر ، ويؤيده قوله تعالى
: (وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤].
قلنا
: المراد بالظلم
هنا الامتناع عن قبول عقد الذمة وأداء الجزية أو نقض العهد بعد قبوله.
الثاني
: أن هذه الآية
منسوخة بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩]
الآية.
[٨٣٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [٤٨]؟
قلنا
: فائدته تأكيد
النفي ، كما يقال في الإثبات للتأكيد. هذا الكتاب مما كتبه فلان بيده وبيمينه ،
ورأيت فلانا بعيني ، وسمعت هذا الحديث بأذني ونحو ذلك.
[٨٣٩] فإن قيل : كيف لم يؤكد سبحانه وتعالى في التلاوة ولم يقل
وما كنت تتلو من قبله من كتاب بلسانك؟
قلنا
: الأصل في الكلام
عدم الزيادة ، وكل ما جاء على الأصل لا يحتاج إلى العلة ؛ إنما يحتاج إلى العلة ما
جاء على خلاف الأصل.
[٨٤٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩]
ومعلوم أن المجاهدة في دين الله تعالى أو في حقّ الله تعالى مع النفس الأمارة
بالسوء أو مع الشيطان أو مع أعداء الدين ؛ كل ذلك إنما يكون بعد تقدم الهداية من
الله تعالى ، فكيف جعل الهداية من ثمرات المجاهدة؟
قلنا
: معناه والذين
جاهدوا في طلب التعلم لنهدينهم سبلنا بمعرفة الأحكام وحقائقها. وقيل
: معناه لنهدينهم
طريق الجنة. وقيل : معناه والذين جاهدوا لتحصيل درجة لنهدينّهم إلى درجة أخرى
أعلى منها. وحاصله : لنزيدنهم هداية وتوفيقا للخيرات كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] وقوله
تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦]. وقال
أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه : معناه والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم
إلى ما لم يعلموا. وعن بعض الحكماء : من عمل بما علم وفق لما لا يعلم. وقيل
: إن الذي نرى من
جهلنا بما لا نعلم هو من تقصيرنا فيما نعلم.
سورة الروم
[٨٤١] فإن قيل : كيف ذكر الضمير في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ،
والمراد به الإعادة لسبق قوله : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم : ٢٧]؟
قلنا
: معناه ورجعه أو
وردّه أهون عليه ، فأعاد الضمير على المعنى لا على اللفظ ، كما في قوله تعالى : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الفرقان : ٤٩] أي
بلدا أو مكانا.
[٨٤٢] فإن قيل : كيف أخرت الصلة في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]
وقدمت في قوله تعالى : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٢١]؟
قلنا
: لأنّ هناك قصد
الاختصاص وهو يحسن الكلام ، فقيل هو عليّ هين وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين
همّ وعاقر ، وأما هنا فلا معنى للاختصاص فجرى على أصله ، والأمر مبني على ما يعقل
الناس من أن الإعادة أسهل من الابتداء ، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى.
[٨٤٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ،
والأفعال كلها بالنسبة إلى قدرة الله تعالى في السهولة سواء ، وإنما تتفاوت في
السهولة والصعوبة بالنسبة إلى قدرتنا؟
قلنا
: معناه وهو هين
عليه ، وقد جاء في كلام العرب أفعل بمعنى اسم الفاعل من غير تفضيل ، ومنه قولهم في
الأذان الله أكبر ، أي الله كبير في قول بعضهم ، وقال الفرزدق :
إنّ الّذي سمك
السماء بنى لنا
|
|
بيتا دعائمه
أعزّ وأطول
|
أي عزيزة طويلة ،
وقال معن بن أوس المزني :
لعمرك ما أدري
وإني لأوجل
|
|
على أيّنا تعدو
المنية أوّل
|
__________________
أي وإني لوجل.
وقال آخر :
أصبحت أمنحك
الصّدود وإنّني
|
|
قسما إليك مع
الصّدود لأميل
|
أي لمائل ، وقال
آخر :
تمنّى رجال أن
أموت وإن أمت
|
|
فتلك سبيل لست
فيها بأوحد
|
أي بواحد.
الثاني
: أن معناه ، وهو
أهون عليه في تقديركم وحكمكم ؛ لأنكم تزعمون وتعتقدون فيما بينكم أن الإعادة أهون
من الابتداء ، كيف وأن الابتداء من ماء والإعادة من تراب ، وتركيب الصورة من
التراب أهون عندكم.
الثالث
: أن الضمير في
قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] راجع
إلى المخلوق لا إلى الله تعالى ، معناه : أنه لا صعوبة على المخلوق فيه ولا إبطاء
؛ لأنه يعاد دفعة واحدة بقوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] وفي
الابتداء خلق نطفة ، ثم نقل إلى مضغة ، ثم إلى عظام ، ثم إلى كسوة اللحم.
الرابع
: أن الابتداء من
قبيل التفضل الذي لا مقتضي لوجوبه ، والإعادة من قبيل الواجب ؛ لأنها لا بدّ منها
لجزاء الأعمال. وجزاؤها واجب بحكم وعده سبحانه وتعالى.
[٨٤٤] فإن قيل : ما معنى قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً) [الروم : ٣٩] ،
الآية ؛ على اختلاف القراءتين بالمد والقصر.
قلنا
: قال الحسن رحمهالله : المراد به الربا المحرم والخطاب لدافعي الربا لا لآخذيه.
معناه : وما أعطيتم أكلة الربا من زيادة لتربو وتزكو في أموالهم فلا تزكو عند الله
ولا يبارك فيها ، ونظيره قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧٦] لا
فرق بينهما. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور : المراد به أن يهب الرجل غيره
هبة أو يهدي إليه هدية على قصد أن يعوّضه أكثر منها. وقالوا : وليس في ذلك أجر ولا
وزر ، وإنما سماه ربا لأنه مدفوع لاجتلاب الربا وهو الزيادة فكان سببا لها فسمي
باسمها ، ومعنى قراءة المد ظاهر ، وأما قراءة القصر فمعناها : وما جئتم ، أي وما
فعلتم من إعطاء ربا ، كما تقول أتيت خطأ وأتيت صوابا ، أي فعلت ؛ وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم : ٣٩] أي
ذوو الأضعاف من الحسنات ، وهو التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
[٨٤٥] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) [الروم : ٤٩] بعد
قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) [الروم : ٤٩]؟
قلنا
: فائدته التأكيد
كما في قوله تعالى : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)
[الحجر : ٣٠]. وقيل
: الضمير لإرسال
الرياح أو السحاب فلا تكرار.
[٨٤٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الروم : ٥٤]
والضعف صفة الشيء الضعيف ، فكيف يخلق الإنسان من تلك الصفة ؛ مع علمنا أنه خلق من
عين وهو الماء أو التراب لا من صفة.
قلنا
: أطلق المصدر وهو
الضعف ، وأراد به اسم الفاعل وهو الضعيف كقولهم رجل عدل ، أي عادل ونحوه ؛ فمعناه
من ضعيف وهو النطفة. وقيل : معناه على ضعف ، فمن بمعنى على ، كما في قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأنبياء : ٧٧]
والمراد به ضعف جثة الطفل حال طفوليته.
[٨٤٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ
فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦] وهم
إنما لبثوا في الأرض في قبورهم؟
قلنا
: معناه لقد لبثتم
في قبوركم على ما في علم كتاب الله أو في خبر كتاب الله. وقيل
: معناه في قضاء
الله. وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره : وقال الذين أوتوا العلم في كتاب
الله الذين علموه وفهموه ، وذلك كقوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٠٠].
[٨٤٨] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) [الروم : ٥٧] وقال
في موضع آخر (وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت : ٢٤]
فجعلهم مرّة طالبين الإعتاب ومرة مطلوبا منهم الإعتاب؟
قلنا
: معنى قوله تعالى
: (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) [الروم : ٥٧] أي
ولا هم يقالون عثراتهم بالرد إلى الدنيا ، ومعنى قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ) [فصلت : ٢٤] ، أي
وإن يستقيلوا فما هم من المقالين ، هذا ملخص الجواب وحاصله ، وقد أوضحنا معناه في
شرح غريب القرآن.
سورة لقمان
[٨٤٩] فإن قيل : كيف يحل الغناء بعد قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ) [لقمان : ٦] الآية
، وقد قال الواحدي في تفسير وسيطه : أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث
الغناء. وروى هو أيضا عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «والّذي نفسي بيده ما رفع رجل قطّ عقيرته يتغنّى
إلّا ارتدّ فيه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره وصدره حتّى يسكت». وقال سعيد بن
جبير ومجاهد وابن مسعود رضي الله عنهم : لهو الحديث هو والله الغناء واشتراء
المغني والمغنية بالمال. وروى أيضا حديثا آخر عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم مسندا «أنه قال في هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ) [لقمان : ٦]
اللّعب والباطل كثير النفقة سمح فيه ؛ لا تطيب نفسه بدرهم يتصدّق به».
وروى أيضا حديثا
آخر مسندا عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من ملأ سمعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت
الرّوحانيين يوم القيامة. قيل : وما الرّوحانيون؟ قال : قرّاء أهل الجنّة».
قال أهل المعاني :
ويدخل في هذا كلّ من اختار اللهو واللعب والمزامير والمعازف على القرآن وإن كان
اللفظ ورد بالاشتراء ، لأنّ هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيرا. وقال
قتادة رحمهالله : حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث
الحق. هذا كله نقله الواحدي رحمهالله ، وكان من كبار السلف في العلم والعمل.
وقال غيره : قال
ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة : المراد بلهو الحديث
الغناء. وعن الحسن رحمهالله تعالى أنه كل ما ألهى عن الله تعالى. وفي معنى يشتري قولان
: أحدهما
: أنه الشراء
بالمال. والثاني ، أنه الاختيار كما مرّ.
وقيل : الغناء منفدة للمال ، مفسدة للقلب ، مسخطة للرب.
قلنا
: جوابه أنهم
يؤولون هذه الآية ونظائرها ، وهذه الأحاديث ونظائرها ، فيصرفونها عن ظاهرها متابعة
للهوى وميلا إلى الشهوات ، ولو نظروا بعقولهم فيما ينشأ عن جمعيات السماع في
زماننا هذا من المفاسد لعلموا حرمته بلا خلاف بين المسلمين ، فإن شروط إباحة
السماع عند من أباحه لا تجتمع في زماننا هذا على ما هو
مسطور في كتب
المشايخ وأرباب الطريق ، ولو اشتغلنا بتفصيل مفاسده وعدد شروطه عند من أباحه
لخرجنا عن مقصود كتابنا هذا.
[٨٥٠] فإن قيل : كيف وقع قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) [لقمان : ١٤]
الآيتين ، في أثناء وصية لقمان لابنه ، وما الجامع بينهما؟
قلنا
: هي جملة وقعت
معترضة على سبيل الاستطراد تأكيدا لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك.
[٨٥١] فإن قيل : قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] كيف
اعترض بين الوصية ومفعولها؟
قلنا
: لما وصّى
بالوالدين ذكر ما تكابده الأم خاصة وتعانيه من المشاق والمتاعب تخصيصا لها بتأكيد
الوصية وتذكير تعظيم حقها بإفرادها بالذّكر ، ومن هنا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن قال له : من أبر؟ قال : «أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك» ، ثم
قال بعد ذلك «ثمّ أباك».
[٨٥٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان : ١٩] فجمع
الأصوات وأفرد صوت الحمير.
قلنا
: ليس المراد ذكر
صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس ، حتّى يجمع ، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان
الناطق وغيره له صوت ؛ وأنكر الأصوات من هذه الأجناس صوت هذا الجنس ؛ فوجب إفراده
لئلّا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك.
[٨٥٣] فإن قيل : قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [لقمان : ٢٧]
يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد فكيف عدل عنه إلى قوله : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧]؟
قلنا
: استغنى عن ذكر
المداد بقوله يمده ، لأنه من قولك مد الدواة وأمدها : أي زادها مدادا ، فجعل البحر
المحيط بمنزلة الدواة ، والأبحر السبعة مملوءة مدادا تصب فيه أبدا صبا لا ينقطع ،
فصار نظير ما ذكرتم ، ونظيره قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩]
الآية.
[٨٥٤] فإن قيل : كيف قال : (مِنْ شَجَرَةٍ) [لقمان : ٢٧] ولم
يقل من شجر؟
قلنا
: لأنه أراد تفصيل
الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلا وقد بريت
أقلاما.
__________________
[٨٥٥] فإن قيل : الكلمات جمع قلّة والمقصود التفخيم والتعظيم ،
فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة؟
قلنا
: جمع القلّة هنا
أبلغ فيما ذكرتم من المقصود ؛ لأن جمع القلة إذا لم يفن بتلك الأقلام وذلك المداد
، فكيف يفنى جمع الكثرة.
[٨٥٦] فإن قيل : في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ١. ٥ ،]
الآية كيف أضاف فيها العلم إلى نفسه في الأمور الثلاثة من الخمسة المغيبات ، ونفى
العلم عن العباد في الأمرين الآخرين ، مع أنه الأمور الخمسة سواء في اختصاص الله
تعالى بعلمها وانتفاء علم العباد بها؟
قلنا
: إنما خص الأمور
الثلاثة الأول بالإضافة إليه تعظيما لها وتفخيما ؛ لأنها أجل وأعظم ، وإنما خص
الأمرين والآخرين بنفي علميهما عن العباد ، لأنهما من صفاتهم وأحوالهم ، فإذا
انتفى علم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الأمور الخمسة أولى.
[٨٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤] ولم
يقل بأي وقت تموت وكلاهما غير معلوم ، بل نفي العلم بالزمان أولى ، لأن من الناس
من يدّعي علمه وهم المنجمون ، بخلاف المكان فإن أحد لا يدعي علمه؟
قلنا
: إنما خص المكان
بنفي علمه لوجهين :
أحدهما
: أن الكون في مكان
دون مكان في وسع الإنسان واختياره ، فيكون اعتقاده علم مكان الموت أقرب بخلاف
الزمان.
الثاني
: أن للمكان تأثيرا
في جنب الصحة والسقم بخلاف الزمان ، أو تأثير المكان في ذلك أكثر.
سورة السجدة
[٨٥٨] فإن قيل : كيف قال تعالى ، هنا : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ
إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ،
وقال تعالى ، في سورة المعارج : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ) [المعارج : ٤]؟
قلنا
: المراد بالأول
مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى السطح الأعلى من سماء الدنيا وذلك ألف سنة ،
خمسمائة سنة مسافة ما بين السماء والأرض وخمسمائة سنة مسافة سمك سماء الدنيا ،
والمراد بالثاني مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى العرش.
الثّاني
: أن المراد به في
الآيتين يوم القيامة ، ومقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا لقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] ومعنى
قوله تعالى : (خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ) [المعارج : ٤] ،
أي لو تولى فيه حساب الخلق غير الله تعالى.
الثّالث
: أنه كألف سنة في
حقّ عوام المؤمنين ، والخمسين ألف سنة في حق الكافرين لشدة ما يكابدون فيه من
الأهوال والمحن ، وكساعة من أيام الدنيا في حق خواص المؤمنين. ويؤيده ما روي أنه
قيل : «يا رسول الله يوم مقداره خمسون ألف سنة ما أطوله ، فقال : والذي نفسي بيده
ليخفف على المؤمنين حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا». وروي أن
ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن هاتين الآيتين؟ فقال : يومان ذكرهما الله تعالى في
كتابه ، وإني أكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم.
[٨٥٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] أو (كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] على
اختلاف القراءتين ، ومقتضى القراءتين أن لا يكون في مخلوقات الله تعالى شيء قبيح
والواقع خلافه ، ولو لم يكن إلا الشرور والمعاصي فإنها مخلوقة لله تعالى عند أهل
السنة والجماعة مع أنها قبيحة؟
__________________
قلنا
: أحسن بمعنى أحكم
وأتقن ، وهذا الجواب يعم القراءتين.
الثاني
: أن فيه إضمارا
تقديره : أحسن إلى كل شيء خلقه.
الثالث
: أن أحسن بمعنى
علم كما يقال فلان لا يحسن شيئا : أي لا يعلم شيئا.
وقال علي كرّم
الله وجهه : «قيمة كلّ امرئ ما يحسنه» ، أي ما يعلمه ؛ فمعناه أنه علم خلق كل شيء
، أو علم كل شيء خلقه ولم يتعلمه من أحد ؛ وهذان الجوابان يخصّان بقراءة فتح
اللام.
[٨٦٠] فإن قيل : كيف قال تعالى ، هنا : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٨] ،
وقال ، في موضع آخر : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
طِينٍ) [المؤمنون : ١٢].
قلنا
: المذكور هنا صفة
ذرية آدم ، والمذكور هناك صفة آدم عليهالسلام يعلم ذلك من أول الآيتين فلا تنافي.
[٨٦١] فإن قيل : كيف قال. الله تعالى : (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) [السجدة : ٩]
والله تعالى منزه عن الروح؟
قلنا
: معناه نفخ فيه من
روح مضافة إلى الله بالخلق والإيجاد لا بوجه آخر.
[٨٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى ، هنا : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] ،
وقال تعالى : في موضع آخر : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] ،
وقال تعالى : في موضع آخر : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢]؟
قلنا
: الله تعالى هو
المتوفي بخلق الموت وأمر الوسائط بنزع الروح ، والملائكة المتوفون أعوان ملك الموت
، وهم يجذبون الروح من الأظفار إلى الحلقوم ، وملك الموت يتناول الروح من الحلقوم
، فصحت الإضافات كلها.
[٨٦٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) [السجدة : ١٥]
الآية ، وليس المؤمنون منحصرين فيمن هو موصوف بهذه الصفة ولا هذه الصفة شرط في
تحقق الإيمان؟
قلنا
: المراد بقوله
تعالى : (ذُكِّرُوا بِها) [السجدة : ١٥] أي
وعظوا ، والمراد بالسجود الخشوع والخضوع والتواضع في قبول الموعظة بآيات الله
تعالى ، وهذه الصفة شرط في تحقق الإيمان. ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) [الإسراء : ١٠٧]
الآية.
الثاني
: أن معناه إنما
يؤمن بآياتنا إيمانا كاملا من اتصف بهذه الصفة ، وقيل المراد بالآيات فرائض
الصلوات الخمس ، والمراد التذكير بها بالأذان والإقامة.
[٨٦٤] فإن قيل : قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] يدل
على أن الفاسق لا يكون مؤمنا؟
قلنا
: الفاسق هنا بمعنى
الكافر بدليل قوله تعالى بعده (وَقِيلَ لَهُمْ
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ٢٠]
والتقسيم يقتضي كون الفاسق المذكور هنا كافرا ، لا كون كل فاسق كافرا ، ونظيره
قوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم : ٣٥]
وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١]
ولم يلزم من ذلك أن كلّ مجرم كافر ، ولا أن كلّ مسيء كافر.
[٨٦٥] فإن قيل : ما فائدة العدول عن قوله تعالى : (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) [الزخرف : ٤١] في
قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) [السجدة : ٢٢]
الآية؟
قلنا
: لما جعله أظلم
الظلمة ثم توعد كل المجرمين بالانتقام منه دل على أن الأظلم يصيبه النصيب الأوفر
من الانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
[٨٦٦] فإن قيل : قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْفَتْحُ) [السجدة : ٢٨]
سؤال عن وقت الفتح ، وهو يوم القضاء بين المؤمنين والكافرين ، يعني يوم القيامة ،
فكيف طابقه ما بعده جوابا؟
قلنا
: لما كان سؤالهم
سؤال تكذيب واستهزاء بيوم القيامة لا سؤال استفهام أجيبوا بالتهديد المطابق
للتكذيب والاستهزاء لا ببيان حقيقة الوقت.
[٨٦٧] فإن قيل : على قول من فسر الفتح بفتح مكة أو بفتح يوم بدر
، كيف وجه الجواب عن قوله : (قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [السجدة : ٢٩]
الآية ، وقد نفع بعض الكفار إيمانهم في ذينك اليومين وهم الطلقاء الذين آمنوا؟
قلنا
: المراد أن
المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند
إدراك الغرق.
سورة الأحزاب
[٨٦٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [الأحزاب : ٢٨]
ولم يقل يا محمد كما قال تعالى يا موسى ، يا عيسى ، يا داود ونحوه؟
قلنا
: إنما عدل عن
ندائه باسمه إلى ندائه بالنبي والرسول إجلالا له وتعظيما كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) [التحريم : ١] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) [المائدة : ٦٧].
[٨٦٩] فإن قيل : لو كان ذلك كما ذكرتم لعدل عن اسمه إلى نعته في
الإخبار عنه كما عدل في النداء في قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ) [الفتح : ٢٩]
وقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران : ١٤٤].
قلنا
: إنما عدل عن نعته
في هذين الموضعين لتعليم الناس أنه رسول الله وتلقينهم أن يسموه بذلك ويدعوه به ،
ولذلك ذكره بنعته لا باسمه في غير هذين الموضعين من مواضع الإخبار ، كما ذكره في
النداء (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) [الفرقان : ٣٠] (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالنَّبِيِ) [المائدة : ٨١]
ونظائره كثيرة.
[٨٧٠] فإن قيل : ما فائدة ذكر الجوف في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) [الأحزاب : ٤]؟
قلنا
: قد سبق مثل هذا
السؤال وجوابه في سورة الحج في قوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].
[٨٧١] فإن قيل : ما معنى قولهم : أنت عليّ كظهر أمي؟
قلنا
: أرادوا أن يقولوا
أنت عليّ حرام كبطن أمي ، فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب
ذكره ذكر الفرج ، وإنما كنوا عن البطن بالظهر لوجهين :
أحدهما
: أنه عمود البطن ،
ويؤيّده قول عمر رضي الله تعالى عنه : «يجيء به أحدهم على عمود بطنه» أي على ظهره.
الثاني
: إتيان المرأة من
قبل ظهرها كان محرما عندهم ، وكانوا يعتقدون أنّها إذا أتيت من قبل ظهرها جاء
الولد أحول ، فكان المطلق في الجاهلية إذا قصد تغليظ الطلاق قال أنت عليّ كظهر
أمي.
[٨٧٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٣٣]
جعل أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم بمنزلة أمهات المؤمنين حكما ، أي في الحرمة والاحترام وما
جعل النبي صلىاللهعليهوسلم بمنزلة أبيهم حتى قال تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠]؟
قلنا
: أراد الله بقوله
تبارك وتعالى : (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] أن
أمته يدعون أزواجه بأشرف الأسماء ، وأشرف أسماء النساء الأمّ وأشرف أسماء النبيّ صلىاللهعليهوسلم رسول الله لا الأب.
الثاني
: أنّه تعالى جعلهن
أمهات المؤمنين تحريما لهن ، إجلالا وتعظيما له صلىاللهعليهوسلم كيلا يطمع أحد في نكاحهن بعده. فلو جعل النبي صلىاللهعليهوسلم أبا للمؤمنين لكان أبا للمؤمنات أيضا ، فلم يجعل له نكاح
امرأة من المؤمنات ؛ بل يحرمن عليه ، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه. وقد جعله أعظم من
الأب في القرب والحرمة بقوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦]
فجعل صلىاللهعليهوسلم أقرب إليهم من أنفسهم ، وكثير من الآباء يتبرأ من ابنه
ويتبرأ منه ابنه أيضا ، وليس أحد يتبرأ من نفسه.
[٨٧٣] فإن قيل : كيف قدم النبي صلىاللهعليهوسلم على نوح ومن بعده في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧]؟
قلنا
: لأن هذا العطف من
باب عطف الخاص على العام الذي هو جزء منه لبيان التفضيل والتخصيص بذكر مشاهير
الأنبياء وذراريهم ؛ فلما كان النبي صلىاللهعليهوسلم أفضل هؤلاء المفضلين قدم عليهم. وفي الميثاق المأخوذ قولان
:
أحدهما
: أنه تعالى أخذ
منهم الميثاق يوم أخذ الميثاق بأن يصدق بعضهم بعضا.
والثاني : أخذ منهم الميثاق أن يوحدوا الله تعالى ويدعوا إلى توحيده
ويصدق بعضهم بعضا.
[٨٧٤] فإن قيل : فكيف قدم نوح عليهالسلام في نظير هذه الآية وهي قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى
بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ١٣]؟
قلنا
: لأن تلك الآية
سيقت لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة ، كأنه قال : شرع لكم الدين الأصيل
الذي بعث عليه نوح عليهالسلام في العهد القديم ، وبعث عليه محمد صلىاللهعليهوسلم في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسطهما من الأنبياء
المشاهير ،
فكان تقديم نوح عليهالسلام أشد مناسبة بالمقصود من سوق الآية.
[٨٧٥] فإن قيل : ما فائدة إعادة أخذ الميثاق في قوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [الأحزاب : ٧]؟
قلنا
: فائدته التأكيد
ووصف الميثاق المذكور أوّلا بالجلالة والعظم استعاذة من وصف الأجرام به. وقيل
: إن المراد
بالميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا ، فلا إعادة لاختلاف
الميثاقين.
[٨٧٦] فإن قيل : كيف قال تعالى وصف حال المؤمنين التي امتن عليهم
فيها : (وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] ،
ولو بلغت القلوب الحناجر لماتوا ولم يبق للامتنان وجه؟
قلنا
: قال ابن قتيبة :
معناه كادت القلوب تبلغ الحناجر من الخوف ، فهو مثل في اضطراب القلوب ووجيبها.
ورده ابن الأنباري فقال : العرب لا تضمن كاد ولا تعرف معناه ما لم تنطق به. وقال
الفراء : معناه أنهم جبنوا وجزعوا ، والجبان إذا اشتد خوفه انتفخت رئته فرفعت قلبه
إلى حنجرته ، وهي جوف الحلقوم وأقصاه ؛ وكذلك إذا اشتد الغضب أو الغم ، وهذا
المعنى مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومن هنا قيل للجبان : انتفخ منخره.
[٨٧٧] فإن قيل : كيف علّق الله تعالى عذاب المنافقين بمشيئته
بقوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) [الأحزاب : ٢٤]
وعذابهم متيقن مقطوع به لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥]؟
قلنا
: إن شاء تعذيبهم
بإماتتهم على النفاق. وقيل : معناه إن شاء ذلك وقد شاءه.
[٨٧٨] فإن قيل : ما حقيقة قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١]؟
قلنا
: فيه وجهان :
أحدهما
: أنه نفسه أسوة
حسنة ، أي قدوة ، والأسوة اسم للمتأسى به ، أي المقتدى به ، كما تقول : في البيضة
عشرون منّا حديدا ، أي هي في نفسها هذا المقدار.
الثاني
: أن فيه خصلة من
حقها أن يتأسّى بها وتتبع ، وهي مواساته بنفسه أصحابه وصبره على الجهاد وثباته يوم
أحد حين كسرت رباعيته وشجّ وجهه.
[٨٧٩] فإن قيل : كيف أظهر تعالى الاسمين ؛ مع تقدم ذكرهما في
قوله تعالى : (وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ
اللهُ وَرَسُولُهُ) [الأحزاب : ٢٢]؟
قلنا
: لئلا يكون الضمير
الواحد عائدا على الله تعالى وغيره.
[٨٨٠] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف بني قريظة : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) [الأحزاب : ٢٧]
والله تعالى إنما ملكهم أرضهم بعد ما وطئوها وظهروا عليها؟
قلنا
: معناه ويورثكم
بطريق وضع الماضي موضع المستقبل مبالغة في تحقيق الموعود وتأكيده.
الثاني
: أن فيه إضمارا
تقديره : وأرضا لهم تطئوها سيورثكم إياها ، يعني أرض مكة ، وقيل أرض فارس والروم ،
وقيل أرض خيبر ، وقيل كل أرض ظهر عليها المسلمون بعد ذلك إلى يوم القيامة.
الثالث
: أن معناه وأورثكم
ذلك كله في الأزل بكتابته لكم في اللّوح المحفوظ.
[٨٨١] فإن قيل : كيف خص الله تعالى نساء النبي صلىاللهعليهوسلم بتضعيف العقوبة على الذنب والمثوبة على الطاعة في قوله
تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الأحزاب : ٣٠]
الآية؟
قلنا
: أما تضعيف
العقوبة فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب ما لا يشاهد غيرهن.
الثاني
: أن في معصيتهن
أذى لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وذنب من آذى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعظم من ذنب غيره ، والمراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق ،
كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وأما تضعيف المثوبة فلأنهن أشرف من سائر النساء
بقربهن من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكانت الطاعة منهن أشرف كما كانت المعصية منهن أقبح ،
ونظير ذلك الوزير والنواب في طاعتهما للملك ومعصيتهما.
[٨٨٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢]
ولم يقل كواحدة من النساء؟
قلنا
: قد سبق نظير هذا
مرة في آخر سورة البقرة في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].
[٨٨٣] فإن قيل : كيف أمر الله تعالى نساء النبيّ بالزكاة في قوله
تعالى : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ
وَآتِينَ الزَّكاةَ) [الأحزاب : ٣٣]
ولم يملكن نصابا حولا كاملا؟
قلنا
: المراد بالزكاة
هنا الصدقة النافلة ، والأمر أمر ندب.
[٨٨٤] فإن قيل : ما الفرق بين المسلم والمؤمن حتى عطف أحدهما على
الآخر في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥] مع
أنهما متحدان شرعا؟
قلنا
: المراد بالمسلم
الموحد بلسانه ، وبالمؤمن المصدق بقلبه.
[٨٨٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠] ،
مع أنه كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم عليهمالسلام؟
قلنا
: قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠]
يخرجهم من حكم النفي من وجهين :
أحدهما
: أنهم لم يبلغوا
مبلغ الرجال بل ماتوا صبيانا.
والثاني : أنه أضاف الرجال إليهم ، وهم كانوا رجاله لا رجالهم.
[٨٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَخاتَمَ
النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : ٤٠]
وعيسى عليهالسلام ينزل بعده وهو نبي؟
قلنا
: معنى كونه خاتم
النبيين أنه لا يتنبأ أحد بعده ، وعيسى ممن نبّئ قبله ؛ وحين ينزل ينزل عاملا
بشريعة محمد صلىاللهعليهوسلم مصليا إلى قبلته كأنّه بعض أمته؟
[٨٨٧] فإن قيل : قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) [الأحزاب : ٤٣]
معناه يرحمكم ويغفر لكم فما معنى قوله تعالى : (وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب : ٤٣]
والرحمة والمغفرة منهم محال؟
قلنا
: جعلوا لكونهم
مستجابي الدعوة بالرحمة والمغفرة كأنهم فاعلو الرحمة والمغفرة ، ونظيره قولهم :
حياك الله ، أي أحياك وأبقاك ، وحيا زيد عمرا : أي دعا له بأن يحييه الله اتكالا
منه على إجابة دعوته ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦].
[٨٨٨] فإن قيل : قد فهم من قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ) [الأحزاب : ٤٥ ،
٤٦] أنه مأذون له في الدعاء إلى الله تعالى ، فما فائدة قوله تعالى : (بِإِذْنِهِ)؟
قلنا
: معناه بتسهيله
وتيسيره ، وقيل : معناه بأمره لا أنك تدعوهم من تلقاء نفسك.
[٨٨٩] فإن قيل : كيف شبه الله تعالى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالسّراج دون الشمس ، والشمس أتم وأكمل في قوله تعالى : (وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٦]؟
قلنا
: قيل إن المراد
بالسراج هنا الشمس كما في قوله تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ
سِراجاً) [نوح : ١٦] وقيل
: إنما شبه بالسراج
لأن السراج يتفرع ويتولد منه سرج لا تعد ولا تحصى بخلاف الشمس ، والنبي صلىاللهعليهوسلم تفرع منه بواسطة إرشاده وهدايته جميع العلماء من عصره إلى
يومنا هذا ، وهلم جرا إلى يوم القيامة. وقيل
: إنما شبهه
بالسراج لأنه بعثه في زمان يشبه الليل بظلمات الكفر والجهل والضلال.
[٨٩٠] فإن قيل : كيف شبهه بالسراج دون الشمع ، والشمع أشرف ونوره
أتم وأكمل؟
قلنا
: قد سبق الجواب عن
مثل هذا في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥].
[٨٩١] فإن قيل : كيف خص تعالى المؤمنات بعدم وجوب العدة في
الطلاق قبل المسيس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) [الأحزاب : ٤٩]
الآية ، مع أن حكم الكتابية كذلك أيضا؟
قلنا
: هذا خرج مخرج
الأغلب والأكثر لا تخصيص.
[٨٩٢] فإن قيل : كيف أفرد سبحانه العم وجمع العمات ، وأفرد الخال
وجمع الخالات في قوله تعالى : (وَبَناتِ عَمِّكَ
وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) [الأحزاب : ٥٠]؟
قلنا
: لأن العم اسم على
وزن المصدر الذي هو الضم ونحوه ، وكذا الخال على وزن القال ونحوه ، فيستوي فيه
المفرد والتثنية والجمع ، بخلاف العمّة والخالة ، ونظيره قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى
سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٧].
[٨٩٣] فإن قيل : هذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة النور : (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ) [النور : ٦١]؟
قلنا
: العم والخال ليسا
مصدرين حقيقة ، بل على وزن المصدر ، فاعتبر هنا شبههما بالمصدر ، وهناك حقيقتهما
عملا بالجهتين ؛ بخلاف السمع ، فإنه لما كان مصدرا حقيقة ما جاء قط في الكتاب
العزيز إلا مفردا.
[٨٩٤] فإن قيل : كيف ذكر الأقارب في قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) [الأحزاب : ٥٥]
الآية ، ولم يذكر العم والخال وحكمهما حكم من ذكر في رفع الجناح؟
قلنا
: سبق مثل هذا
السؤال وجوابه في سورة النور في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) [النور : ٣١] فالأولى
أن تستتر المرأة عن عمّها وخالها لئلّا يصف محاسنها عند ابنه فيفضي إلى الفتنة.
[٨٩٥] فإن قيل : السادة والكبراء بمعنى واحد ، فكيف عطف أحدهما
على الآخر في قوله تعالى : (إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا) [الأحزاب : ٦٧]؟
قلنا
: هو من باب عطف
اللفظ على اللفظ المغاير له ؛ مع اتحاد معناهما ، كقولهم : فلان عاقل لبيب ، وهذا
حسن جميل ، وقول الشاعر :
معاذ الله من كذب ومين
[٨٩٦] فإن قيل : المراد بالإنسان آدم عليه الصلاة والسلام في
قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا
الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢]
فكيف قال سبحانه (إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢]
وفعول من أوزان المبالغة فيقتضي تكرار الظلم والجهل منه وأنه منتف؟
قلنا
: لما كان عظيم
القدر رفيع المحل كان ظلمه وجهله لنفسه أقبح وأفحش ، فقام عظيم الوصف مقام الكثرة
، وقد سبق نظير هذا في سورة آل عمران في قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) [آل عمران : ١٨٢].
وقيل : إنما سماه ظلوما جهولا لتعدّي ضرر ظلمه وجهله إلى جميع
الناس ، فإنهم أخرجوا من الجنة بواسطته وتسلط عليهم إبليس وجنوده.
سورة سبأ
[٨٩٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ) [سبأ : ٩] ولم يقل
إلى ما فوقهم وما تحتهم من السماء والأرض؟
قلنا
: ما بين يدي
الإنسان هو كل شيء يقع نظره عليه من غير أن يحوّل وجهه إليه ، وما خلفه هو كل شيء
لا يقع نظره عليه حتى يحول وجهه إليه فكان اللفظ المذكور أتم مما ذكر.
[٨٩٨] فإن قيل : هلا ذكر سبحانه الأيمان والشمائل هنا كما ذكرها
في قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ
شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧]؟
قلنا
: لأنه وجد هنا ما
يغني عن ذكرها ، وهو لفظ العموم وذكر السماء والأرض ولا كذلك ثمة.
[٨٩٩] فإن قيل : كيف استجاز سليمان عليهالسلام عمل التماثيل وهي التصاوير؟
قلنا
: قيل إن عمل الصور
لم يكن محرما في شريعته ، ويجوز أن يكون صور غير الحيوان كالأشجار ونحوها ، وذلك
غير محرم في شريعتنا أيضا.
[٩٠٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ) [سبأ : ١٥] ولم
يقل آيتان جنتان ، وكل جنة كانت آية ، أي علامة على توحيد الله تعالى؟
قلنا
: لما تماثلتا في
الدلالة واتحدت جهتهما فيها جعلهما آية واحدة ، ونظيره قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً) [المؤمنون : ٥٠].
[٩٠١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [سبأ :
٢٢] ، أي الذين
زعمتموهم آلهة من دون الله ، مع أن المشركين ما زعموا غير الله إلها دون الله ، بل
مع الله على وجه الشركة؟
قلنا
: النصّ لا يدل على
زعمهم حصر الآلهة في غير الله نصّا ، بل يوهم ذلك ، ولو دل فنقول : فيه تقديم
وتأخير تقديره : ادعوا الذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء لله.
[٩٠٢] فإن قيل : ما معنى التشكيك في قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً
أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤]؟
قلنا
: قيل إن «أو» هنا
بمعنى الواو في الموضعين ، فيصير المعنى : نحن على الهدى وأنتم في الضلال. وقيل
معناه : وإنا لضالون أو مهتدون وإنكم لكذلك ، وهو من التعريض بضلالهم كما يقول
الرجل لصاحبه إذا أراد تكذيبه : والله إن أحدنا لكاذب ، ويعني به صاحبه.
[٩٠٣] فإن قيل : كيف قالت الملائكة عليهمالسلام في حقّ المشركين (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سبأ : ٤١] ولم
ينقل عن أحد من المشركين أنه عبد الجن؟
قلنا
: معناه كانوا
يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به من عبادتنا أكثرهم بهم مؤمنون : أي أكثر
المشركين مصدقون بالشّياطين فيما يخبرونهم به من الكذب أن الملائكة بنات الله
تعالى الله ، عن ذلك ؛ فالمراد بالجن الشياطين.
سورة فاطر
[٩٠٤] فإن قيل : قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [فاطر : ٩] كيف
جاء فتثير مضارعا دون ما قبله وما بعده؟
قلنا
: هو مضارع وضع
موضع الماضي ، كما في قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٣٧].
[٩٠٥] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) [فاطر : ١١]؟
قلنا
: معناه وما يعمر
من أحد ، وإنما سماه معمرا بما هو سائر إليه.
[٩٠٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] وكم
من أمة كانت في الفترة بين عيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم ولم يخل فيها نذير؟
قلنا
: إذا كان آثار
النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث محمد
عليهما الصلاة والسلام.
[٩٠٧] فإن قيل : كيف اكتفى سبحانه وتعالى بذكر النذير عن البشير
في آخر الآية بعد سبق ذكرهما في أولها؟
قلنا
: لما كانت النذارة
مشفوعة بالبشارة لا محالة استغنى بذكر أحدهما عن الآخر بعد سبق ذكرهما.
[٩٠٨] فإن قيل : ما الفرق بين النصب واللغوب حتى عطف أحدهما على
الآخر؟
قلنا
: النصب المشقة
والكلفة ، واللغوب الفتور الحاصل بسبب النصب فهو نتيجة النصب ، كذا فرق بينهما
الزمخشري رحمهالله. ويرد على هذا أن يكون انتفاء الثاني معلوما من انتفاء
الأول.
[٩٠٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] مع
أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه ، وهم ما عملوا صالحا قط ؛
بل سيئا؟
قلنا
: هم كانوا يحسبون
أنّهم على سيرة صالحة ، كما قال تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] ؛
فمعناه غير الّذي كنا نحسبه صالحا فنعمله.
سورة يس
[٩١٠] فإن قيل : كيف قال تعالى ، أولا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) [يس : ١٤] ، وقال
سبحانه ، ثانيا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ) [يس : ١٦]؟
قلنا
: لأنّ الأول
ابتداء إخبار فلم يحتج إلى التأكيد باللّام ؛ بخلاف الثاني ، فإنّه جواب بعد
الإنكار والتّكذيب فاحتاج إلى التأكيد.
[٩١١] فإن قيل : كيف أضاف الفطر إلى نفسه بقوله : (فَطَرَنِي) [يس : ٢٢] ، وأضاف
البعث إليهم بقوله : (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) [يس : ٨٣] ، مع
علمه أنّ الله تعالى فطره وفطرهم ، وسوف يبعثه ويبعثهم ، فهلا قال فطرنا وإليه
نرجع أو فطركم وإليه ترجعون؟
قلنا
: لأنّ الخلق
والإيجاد نعمة من الله تعالى توجب الشّكر ، والبعث بعد الموت وعيد وتهديد ، يوجب
الزّجر ؛ فكان إضافته النعمة إلى نفسه أظهر في الشكر ، وإضافته البعث إليهم أبلغ
في الزّجر.
[٩١٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ) [يس : ٣٠]
والتّحسّر على الله تعالى محال؟
قلنا
: هو تحسير للخلق ،
معناه : قولوا يا حسرتنا على أنفسنا ، لا تحسّر من الله تعالى.
[٩١٣] فإن قيل : كيف نفى الله سبحانه وتعالى الإدراك عن الشمس
للقمر دون عكسه وهو : ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس؟
قلنا
: لأنّ سير القمر
أسرع ، فإنّه يقطع فلكه في شهر والشمس لا تقطع فلكها إلّا في سنة ؛ فكانت الشمس
جديرة بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها ، والقمر خليقا بأن توصف بالسّبق لسرعة
سيره ، هذا سؤال الزمخشري رحمهالله وجوابه. ويرد عليه أن سرعة سير القمر يناسب أن ينفي
الإدراك عنه ؛ لأنه إذا قيل : لا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس ، مع سرعة سيره ،
علم بالطّريق الأولى أن الشّمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر مع بطء سيرها ، فأمّا
إذا قيل : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أمكن أن يقال إنّما لم تدركه لبطء
سيرها ، فأمّا القمر فيجوز أن يدركها لسرعة سيره.
[٩١٤] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ) [يس : ٤١] أي لأهل
مكة
(أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) [يس : ٤١] أي ذرية
أهل مكة أو ذرية قوم نوح عليهالسلام (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] والذرية
اسم للأولاد ، والمحمول في سفينة نوح عليه الصلاة والسلام آباء أهل مكة لا أولادهم؟
قلنا
: الذرية من أسماء
الأضداد تطلق على الآباء والأولاد بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً
وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ
بَعْضٍ) [آل عمران : ٣٣ ،
٣٤] ، وصف جميع المذكورين بكونهم ذرية ، وبعضهم آباء ، وبعضهم أبناء ؛ فمعناه
حملنا آباء أهل مكة أو حملنا أبناءهم ؛ لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين.
[٩١٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] يعنون
الوعد بالبعث والجزاء والوعد كان واقعا لا منتظرا؟
قلنا
: معناه متى إنجاز
هذا الوعد وصدقه ، بحذف المضاف أو بإطلاق اسم الوعد على الموعود ، كضرب الأمير
ونسج اليمن.
[٩١٦] فإن قيل : قولهم : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢] سؤال عن
الباعث فكيف طابقه ما بعده جوابا؟
قلنا
: معناه بعثكم
الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل ؛ إلا أنه جيء به على هذه الطريقة
تبكيتا لهم وتوبيخا.
[٩١٧] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في صفة أهل الجنّة (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) [يس : ٥٦] والظل
إنما يكون حيث تكون الشمس ، ولهذا لا يقال لما في الليل ظل والجنة لا يكون فيها
شمس لقوله تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها
شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الإنسان : ١٣]؟
قلنا
: ظل أشجار الجنة
من نور العرش لئلّا تبهر أبصار أهل الجنة فإنه أعظم من نور الشمس ، وقيل
: من نور قناديل
العرش.
[٩١٨] فإن قيل : كيف سمّى سبحانه وتعالى نطق اليد كلاما ونطق
الرجل شهادة في قوله : (وَتُكَلِّمُنا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) [يس : ٦٥]؟
قلنا
: لأنّ اليد كانت
مباشرة والرجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه ليس
بشهادة ؛ بل إقرار بما فعل. قلت : وفي الجواب نظر.
[٩١٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ) [يس : ٦٩] مع أنه صلىاللهعليهوسلم قد روي عنه ما هو شعر ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم :
أنا النبيّ لا
كذب
|
|
أنا ابن عبد
المطّلب
|
وقوله صلىاللهعليهوسلم :
هل أنت إلّا
إصبع دميت
|
|
وفي سبيل الله ما
لقيت
|
قلنا
: هذا ليس بشعر ،
لأنّ الخليل لم يعد مشطور الرجز شعرا ، وقوله : «هل أنت إلا إصبع دميت» من مشطور
بحر الرجز ؛ كيف وقد روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : دميت ولقيت بفتح الياء وسكون التاء وعلى هذا لا يكون
شعرا ، وإنّما الراوي حرّفه فصار شعرا.
الثاني
: أن حدّ الشعر قول
موزون مقفّى مقصود به الشعر ، والقصد منتف فيما روي عنه صلىاللهعليهوسلم ، فكان كما يتّفق وجوده في كل كلام منثور من الخطب
والرّسائل ومحاورات الناس ، ولا يعده أحد شعرا.
[٩٢٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] والله
تعالى منزه عن الجارحة؟
قلنا
: هو كناية عن
الانفراد بخلق الأنعام والاستبداد به بغير شريك ، كما يقال في الحب وغيره من أعمال
القلب هذا مما عملته يداك ، ويقال لمن لا يد له يداك أو يديك ، وكذا قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥].
[٩٢١] فإن قيل : كيف سمى قوله : (مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] مثلا ،
وليس بمثل ، وإنما هو استفهام إنكار؟
قلنا
: سماه مثلا لما دل
عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهو إنكار الإنسان قدرة الله تعالى على إحياء
الموتى ؛ مع أن العقل والنقل كلاهما يشهد بقدرة الله على ذلك.
سورة الصافات
[٩٢٢] فإن قيل : كيف جمع تعالى المشارق هنا وثناهما في سورة
الرحمن ، وكيف اقتصر هنا على ذكر المشارق وذكر ثمة المغربين أيضا وذكر المغارب مع
المشارق ، مجموعين في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠]
وذكرهما مفردين في قوله تعالى : (قالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء : ٢٨]؟
قلنا
: لأن القرآن نزل
بلغة العرب على المعهود من أساليب كلامهم وفنونه ، ومن أساليب كلامهم وفنونه
الإجمال والتفصيل والبسط والإيجاز ، فأجمل تارة بقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧]
أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما على الإجمال ، وفصل تارة بقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠]
أراد جمع مشارق السنة ومغاربها وهي تزيد على سبعمائة ، وبسط مرة بقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠]
وأوجز واختصر مرة بقوله تعالى : (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) [الصافات : ٥]
لدلالة المذكور وهي المشارق على المحذوف وهو المغارب ، وكانت المشارق أولى بالذكر
لأنها أشرف إما لكون الشروق سابقا في الوجود على الغروب ، أو لأن المشارق منبع
الأنوار والأضواء.
[٩٢٣] فإن قيل : كيف خص سبحانه وتعالى سماء الدنيا بقوله تعالى :
(إِنَّا زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات : ٦] مع
أن غير سماء الدنيا مزينة بالكواكب أيضا؟
قلنا
: إنما خصها بالذكر
لأنا نحن نرى سماء الدنيا لا غير.
[٩٢٤] فإن قيل : كيف وجه قراءة الضم في قوله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ) [الصافات : ١٢]
وهي قراءة علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم واختيار الفرّاء ، والتعجّب
روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء ، والله تعالى لا تجوز عليه الروعة؟
__________________
قلنا
: أراد بالتعجب
الاستعظام وهو جائز من الله تعالى ، كما استعظم كيد النساء ، وإنكار الكفار معجزات
الأنبياء عليهمالسلام.
الثاني
: أن معناه قل يا
محمد بل عجبت ، وكان شريح يقرأ بالفتح يقول : إنّ الله تعالى لا يعجب من شيء
وإنّما يعجب من لا يعلم ، فقال إبراهيم النخعي : إنّ شريحا كان يعجبه علمه وعبد
الله أعلم منه. وكان يقرأ بالضمّ يريد عبد الله ابن مسعود.
قال الزّجّاج :
وإنكار هذه القراءة غلط ، لأنّ العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين ،
ونظيره قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ) [آل عمران : ٥٤]
وقوله : (سَخِرَ اللهُ
مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩] وما
أشبهه ، وفي الّذي وقع منه العجب قولان : أحدهم كفرهم بالقرآن. والثاني : إنكارهم البعث.
[٩٢٥] فإن قيل : كيف مدح سبحانه نوحا عليهالسلام بقوله : (إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ٨١] ؛
مع أن مرتبة الرّسل فوق مرتبة المؤمنين؟
قلنا
: إنما مدحه بذلك
تنبيها لنا على جلالة محل الإيمان وشرفه ، وترغيبا في تحصيله والثّبات عليه
والإزدياد منه ، كما قال تعالى ، في مدح إبراهيم عليهالسلام : (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٢٧].
[٩٢٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ) [الصافات : ٨٨] ،
والنظر إنما يعدّى بإلى ، قال الله تعالى : (وَلكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ) [الأعراف : ١٤٣]
وقال : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ
رَحْمَتِ اللهِ) [الروم : ٥٠].
قلنا
: «في» هنا بمعنى إلى كما في قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي
أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩].
الثاني
: أن المراد به نظر
الفكر لا نظر العين ، ونظر الفكر إنما يعدّى بفي قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥] ،
فصار المعنى ففكر في علم النجوم أو في حال النجوم.
[٩٢٧] فإن قيل : كيف استجاز إبراهيم عليهالسلام أن يقول : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩]
ولم يكن سقيما؟
قلنا
: معناه سأسقم ،
كما في قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) [الزمر : ٣٠] فهو
من معاريض الكلام قاله ليتخلف عنهم إذا خرجوا إلى عيدهم فيكيد أصنامهم. وقال ابن
الأنباري : أعلمه الله تعالى أنه يمتحنه بالسقم إذا طلع نجم كذا ، فلما رآه علم
أنه سيسقم. وقيل معناه : إنّي سقيم القلب عليكم إذ عبدتم الأصنام وتكهنتم بنجوم لا
__________________
تضر ولا تنفع. وقيل
: إنه عرض له مرض
وكان سقيما حقيقة. وقال الزمخشري : قد جوز بعض الناس الكذب في المكيدة في الحرب
والتقية وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. قال : والصحيح أن الكذب
حرام إلا إذا عرّض وورّى ، وإبراهيم صلوات الله عليه عرّض بقوله وورّى ، فإنه أراد
أن من في عنقه الموت سقيم ، كما قيل في المثل : «كفى بالسلامة داء». وقال لبيد :
ودعوت ربي
بالسّلامة جاهدا
|
|
ليصحّني فإذا
السلامة داء
|
وروي أن رجلا مات
فجأة فاجتمع عليه الناس وقالوا مات وهو صحيح. فقال أعرابي : أصحيح من الموت في
عنقه؟
[٩٢٨] فإن قيل : لم لا يجوز النظر في علم النجوم ؛ مع أن إبراهيم
عليه الصلاة والسلام قد نظر فيه وحكم منه؟
قلنا
: إذا كان المنجّم
كإبراهيم في أن الله تعالى أراه ملكوت السموات والأرض أبيح له النظر في علم النجوم
والحكم منه.
[٩٢٩] فإن قيل : قوله تعالى : (فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) [الصافات : ٩٣ ،
٩٤] أي يسرعون ، يدل على أنهم عرفوا أنه هو الكاسر لها ، وقوله تعالى في سورة
الأنبياء (قالُوا مَنْ فَعَلَ
هذا بِآلِهَتِنا) [الأنبياء : ٥٩]
وما بعده يدل على أنهم ما عرفوا أنه الكاسر لها ، فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا
: يجوز أن يكون
الذي عرفه وزفّ إليه بعضهم ، والّذي جهله وسأل عنه بعض آخر ، ويجوز أنّ الكلّ
جهلوه وسألوا عنه ، فلمّا عرفوا أنّه الكاسر لها زفوا إليه كلهم.
[٩٣٠] فإن قيل : ما معنى قوله صلوات الله عليه (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩]؟
قلنا
: معناه إلى حيث
أمرني ربّى بالمهاجرة وهو الشام. وقيل : إلى طاعة ربي ورضاه. وقيل
: إلى أرض ربّي ؛
وإنّما خصها بالإضافة إلى الله تعالى تشريفا لها وتفضيلا ؛ لأنها أرض مقدسة مبارك
فيها للعلمين ، كما في قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ) [الجن : ١٨] ،
وقوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣].
[٩٣١] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩]
وهو كان مهتديا؟
قلنا
: معناه : سيثبتني
على ما أنا عليه من الهدى ويزيدني هدى. وقيل
: معناه :
سيهدين إلى الجنة.
وقيل : إلى الصواب في جميع أحوالي ، ونظيره قول موسى عليه الصلاة
والسلام : (كَلَّا إِنَّ مَعِي
رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٢].
[٩٣٢] فإن قيل : كيف شاور إبراهيم ولده عليهماالسلام في ذبحه بقوله : (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) [الصافات : ١٠٢]
مع أنه كان حتما على إبراهيم لأنه أمر به ، لأن معنى قوله : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ) [الصافات : ١٠٢]
أنه أمر بذبحه في المنام ، ورؤيا الأنبياء حقّ فإذا رأوا شيئا من المنام فعلوه في
اليقظة كذا قاله قتادة ؛ والدّليل على أنّ منامه كان وحيا بالأمر بالذبح قوله : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصافات : ١٠٢]؟
قلنا
: لم يشاوره ليرجع
إلى رأيه في ذلك ، ولكن ليعلم ما عنده من الصبر فيما نزل به من بلاء الله تعالى ،
فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه الزّلل إن صبر وسلّم ، وليعلم القصّة فيوطن نفسه
على الذّبح ، ويهونه عليها فيلقى البلاء وهو كالمستأنس به ، ويكتسب الثواب
بالانقياد والصبر لأمر الله تعالى قبل نزوله ، وليكون سنة في المشاورة ، فقد قيل :
لو شاور آدم الملائكة في أكل الشجرة لما فرط منه ذلك.
[٩٣٣] فإن قيل : كيف قيل له : (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٥]
وإنما يكون مصدقا لها لو وجد منه الذبح ولم يوجد؟
قلنا
: معناه قد فعلت
غاية ما في وسعك مما يفعله الذابح من إلقاء ولدك وإمرار الشفرة على حلقه ؛ ولكن
الله تعالى منع الشفرة أن تقطع. وقيل : إن الذي رآه في المنام معالجة الذّبح فقط لا إراقة الدّم ،
وقد فعل ذلك في اليقظة فكان مصدّقا للرؤيا.
[٩٣٤] فإن قيل : أين جواب «لما» في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما)؟ [الصافات : ١٠٣].
قلنا
: قيل هو محذوف
تقديره : استبشرا واغتبطا وشكرا الله تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء ؛ أو
تقديره : سعدا ، أو أجزل ثوابهما. وقيل : الجواب هو قوله تعالى : (نادَيْناهُ) [الصافات : ١٠٤]
والواو زائدة كما في قول امرئ القيس :
فلمّا أجزنا
ساحة الحيّ وانتحى
|
|
بنا بطن خبت ذي
خفاف عقنقل
|
أي فلما أجزنا
ساحة الحيّ انتحى ، كذا نقله ابن الأنباري في شرحه.
[٩٣٥] فإن قيل : كيف قال تعالى في قصة إبراهيم عليهالسلام (كَذلِكَ نَجْزِي
__________________
الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ١١٠]
وفي غيرها من القصص قبلها وبعدها (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ٨٠].
قلنا
: لما سبق في قصة
إبراهيم عليهالسلام مرة (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ٨٠]
طرحه في الثاني تخفيفا واختصارا واكتفاء بذكره مرة ، بخلاف سائر القصص.
[٩٣٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) [الصافات : ١٣٣ ،
١٤٣] وهو كان من المرسلين قبل زمان التنجية؟
قلنا
: قوله : (إِذْ نَجَّيْناهُ) [الصافات : ١٣٤]
لا يتعلق بما قبله بل يتعلق بمحذوف تقديره : واذكر لهم يا محمّد إذ نجيناه أو
أنعمنا عليه إذ نجيناه ، وكذا السؤال في قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الصافات : ١٣٩ ،
١٤٠].
[٩٣٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] و
«أو» كلمة شك والشك على الله محال؟
قلنا
: قيل أو هنا بمعنى
بل فلا شك ، وقيل بمعنى الواو كما في قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) [النساء : ٤٣]
وقوله تعالى : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) [المرسلات : ٦].
وقيل : معناه أو يزيدون في تقديركم ، فلو رآهم أحد منكم لقال هم
مائة ألف أو يزيدون ، فالشك إنّما دخل في حكاية قول المخلوقين ، ونظيره قوله تعالى
: (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩].
[٩٣٨] فإن قيل : ما فائدة تكرار الأمر بالتولية والإبصار في قوله
تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ) [الصافات : ١٧٤ ،
١٧٥] الآيات؟
قلنا
: فائدته تأكيد
التهديد والوعيد.
[٩٣٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَبْصِرْهُمْ) [الصافات : ١٧٥]
ثم قال ثانيا : (وَأَبْصِرْ) [الصافات : ١٧٩].
قلنا
: طرح ضمير المفعول
تخفيفا واختصارا واكتفاء بسبق ذكره مرّة ، وقيل معنى الأول : وأبصرهم إذا نزل بهم
العذاب ، ومعنى الثاني
: وأبصر العذاب إذا
نزل بهم ، فلا فرق بينهما في المعنى.
سورة ص
[٩٤٠] فإن قيل : أين جواب القسم في قوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١]؟
قلنا
: فيه وجوه : أحدها
: أنه لما ذكر حرفا من حروف المعجم على سبيل التّحدي والتنبيه على الإعجاز كما قيل
في كل سورة مفتتحة بحرف أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه ، كأنه قال :
والقرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز ، وكذلك إذا كان الحرف مقسما به كأنه قال : أقسمت
بص والقرآن ذي الذكر إن هذا الكلام معجز.
الثاني
: أن ص خبر مبتدأ
محذوف على أنه اسم للسورة ، كأنه قال هذه ص ، يعني هذه السورة التي أعجزت العرب
والقرآن ذي الذكر ، كما تقول : هذا حاتم والله ، تريد هذا هو المشهور بالسخاء
والله.
الثالث
: أن جواب القسم كم
أهلكنا ، وأصله لكم أهلكنا ، فلمّا طال الكلام حذفت اللام تخفيفا ، كما في قوله
تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ١ ، ٩].
الرابع
: أن قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ) [ص : ٦٤] وهو قول
الكسائي. وقال الفرّاء : وهذا لا يستقيم في العربية لتأخره جدا عن القسم.
[٩٤١] فإن قيل : ما وجه المناسبة والارتباط بين قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) وبين قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا
داوُدَ)؟ [ص : ١٧].
قلنا
: وجه المناسبة
بينهما أنه أمر أن يتقوى على الصبر بذكر قوة داود عليهالسلام على العبادة والطاعة.
الثاني
: أن المعنى عرفهم
أن داود عليهالسلام مع كرامته وشهرة طاعته وعبادته التي منها صوم يوم دون يوم
، وقيام نصف الليل ، كان شديد الخوف من عذابي ، لا يزال باكيا مستغفرا. فكيف حال
هؤلاء مع أفعالهم؟
[٩٤٢] فإن قيل : كيف قال الملكان لما دخلا على داود عليهالسلام (خَصْمانِ بَغى
بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) [ص : ٢٢]
والملائكة لا يوجد منهم البغي والظلم ، وكيف قال :
(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [ص : ٢٣] إلى آخره
، ولم يكن كما قال؟
قلنا
: إنما قالا ذلك
على سبيل الفرض والتصوير للمسألة ، ومثل ذلك لا يعد كذبا كما تقول في تصوير
المسائل ، زيد له أربعون شاة وعمرو له أربعون وأنت تشير إليهما ، فخلطاها وحال
عليها الحول ، كم يجب فيها وليس لهما شيء ، وتقول لي أربعون شاة ولك أربعون
فخلطناها وما لكم شيء.
[٩٤٣] فإن قيل : كيف حكم داود عليهالسلام على المدعى عليه بكونه ظالما قبل أن يسمع كلامه؟
قلنا
: لم يحكم عليه إلا
بعد اعترافه كذا نقله السدّي ، إلا أنه حذف ذكر الاعتراف في القصة اختصارا لدلالة
الحال عليه ، كما تقول العرب : أمرته بالتجارة فكسب الأموال ، أي فاتجر فكسب
الأموال.
[٩٤٤] فإن قيل : ما معنى تكرار الحبّ في قوله عليهالسلام : (إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ) [ص : ٣٢] وما معنى
تعديته بعن وظاهره أحببت حبا مثل حب الخير ، كما تقول أحببت حب زيد ، أي أحببت حبا
مثل حب زيد؟
قلنا
: أحببت في الآية
بمعنى آثرت ، كما يقول المخيّر بين شيئين : أحببت هذا ، أي آثرته ، وقد جاء استحب
بمعنى آثر ، قال الله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي آثروه : لأن من أحب شيئا فقد آثره على غيره ، وعن بمعنى
على كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْخَلْ
فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) [محمد : ٣٨] فيصير
المعنى أي آثرت حب الخير على ذكر ربّي.
الثاني
: وهو اختيار
الجرجاني صاحب معاني القرآن أن أحببت بمعنى قعدت وتأخرت مأخوذ من أحب الجمل إذا
برك ، ومنه قول الشاعر :
دعتك إليها
مقلتاها وجيدها
|
|
فملت كما مال
المحب على عمد
|
فالمحب هنا الجمل
، والعمد علة تكون في سنام الجمل ، وكل من ترك شيئا وتجنب أن يفعله فقد قعد عنه ،
فتأويل الآية : إني قعدت عن ربي لحب الخير ، فيكون انتصاب حب على أنه مفعول له.
[٩٤٥] فإن قيل : كيف قال سليمان عليهالسلام : (وَهَبْ لِي مُلْكاً
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
__________________
بَعْدِي) [ص : ٣٥] وهذا
أشبه بالحسد والبخل بنعم الله تعالى على عبيده بما لا يضر سليمان عليهالسلام؟
قلنا
: قال الحسن وقتادة
رحمهماالله : المراد به لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي كما فعله
الشيطان الذي لبس خاتمه وجلس على كرسيه.
الثاني
: أن الله تعالى
علم أنه لا يقوم غيره من عباده بمصالح ذلك الملك ، فاقتضت حكمته تخصيصه به فألهمه
أن يسأله تخصيصه به.
الثالث
: أنه أراد بذلك
ملكا عظيما فعبر عنه بتلك العبارة ، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول
لفلان : ما ليس لأحد مثله من الفضل أو من المال ، وتريد بذلك عظم فضله أو ماله ،
وإن كان في الناس أمثاله.
[٩٤٦] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف أيوب عليهالسلام : (إِنَّا وَجَدْناهُ
صابِراً) [ص : ٤٤] مع أن
الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى على ما قيل ، وهو قد شكا؟
قلنا
: الشكوى إلى الله
لا تنافي الصبر ولا تسمى جزعا ، لما فيها من إظهار الخضوع والعبودية لله تعالى
والافتقار إليه ، ويؤيده قول يعقوب عليهالسلام (قالَ إِنَّما
أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى) [يوسف : ٨٦] مع
قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨]
وقولهم : الصبر ترك الشكوى ، يعني إلى العباد.
الثاني
: أنه صلىاللهعليهوسلم إنما طلب الشفاء من الله تعالى بعد ما لم يبق منه إلا قلبه
ولسانه خيفة على قومه أن يفتنهم الشيطان بما كان يوسوس إليهم به ويقول إنه لو كان
أيوب نبيا لما ابتلي بما هو فيه ولدعا الله تعالى بكشف ضره. وروي أنه عليه الصلاة
والسلام قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي
بصري ، ولم يلهني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلّا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا
كاسيا ومعي جائع أو عريان ، فكشف الله تعالى ضره.
[٩٤٧] فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص : ٧٨] يدل على
أن غاية لعنة الله لإبليس يوم القيامة ثم تنقطع؟
قلنا
: كيف تنقطع وقد
قال تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ) يعني يوم القيامة (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤٤]
وإبليس أظلم الظلمة ، ولكن مراده في الآية أن عليه اللعنة في طول مدة الدنيا ،
فإذا كان يوم القيامة اقترن له باللعنة من أنواع العذاب ما تنسى عنده اللغة وكأنها
انقطعت.
سورة الزمر
[٩٤٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر : ٣] ، وكم
من كاذب كفار قد هداه الله تعالى فأسلم وصدق؟
قلنا
: معناه لا يهديه
إلى الإيمان ما دام على كفره وكذبه. وقيل معناه : لا يهديه إلى حجة يلزم بها
المؤمنين.
[٩٤٩] فإن قيل : كيف يصلح قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [الزمر : ٤] ، ردا
لقول من ادّعى أن له ولدا وإبطالا لذلك ؛ مع أنه كل من نسب إليه ولدا قال إنه
اصطفاه من خلقه بجعله ولدا ، فاليهود يدّعون أنه عزير ، والنصارى يدّعون أنه
المسيح عليهماالسلام ، وطائفة من مشركي العرب يدّعون أن الملائكة بنات الله
تعالى؟
قلنا
: هذا إن جعل ردا
على اليهود والنصارى كان معناه لاصطفى الولد من الملائكة لا من البشر ؛ لأن
الملائكة أشرف من البشر بلا خلاف بين اليهود ولا بين النصارى ، وإن كان ردا على
مشركي العرب كان معناه لاصطفى له ولدا من جنس يخلق كل شيء يريده ، ليكون ولدا
موصوفا لصفته ، ولم يصطف من الملائكة الذين لا يقدرون على إيجاد جناح بعوضة ولا
يرد على هذا خلق عيسى عليهالسلام الطير ؛ لأنه ليس بعام. أو لأن معنى خلقه التقدير من الطين
، ثم الله تعالى يخلقه حيوانا بنفخ عيسى عليهالسلام وإظهارا لمعجزته.
[٩٥٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦] وخلق
حواء من آدم عليهالسلام سابق على خلقنا منه ، فكيف عطفه عليه بكلمة ثم؟
قلنا
: ثم هنا للترتيب
في الإخبار لا في الإيجاد ، كما تقول لصاحبك أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس أكثر
منه ، أي ثم أخبرك بكذا ، ومنه قول الشاعر :
إنّ من ساد ثمّ
ساد أبوه
|
|
ثم قد ساد قبل
ذلك جدّه
|
__________________
الثاني
: أن ثم متعلقة
بمعنى واحدة وعاطفة عليه لا على خلقكم ، فمعناه خلقكم من نفس واحدة ، وأفردت
بالإيجاد ثم شفعت بزوج.
الثالث
: أن ثم على ظاهرها
، لأن الله تعالى خلق آدم ثم أخرج أولاده من ظهره كالذر ، وأخذ عليهم الميثاق ثم
ردهم إلى ظهره ثم خلق منه حواء ، فالمراد بقوله تعالى خلقكم خلقا يوم أخذ الميثاق
دفعة واحدة ؛ لأنّ هذا الخلق الذي نحن فيه بالتوالد والتناسل.
[٩٥١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] مع أن
الأنعام مخلوقة في الأرض لا منزلة من السماء؟
قلنا
: قيل إن الله
تعالى خلق الأزواج الثمانية في الجنة ثم أنزلها على آدم عليهالسلام بعد إنزاله.
الثاني
: أن الله تعالى
أنزل الماء من السماء ، والأنعام لا توجد إلا بوجود النبات ، والنبات لا يوجد إلا
بوجود الماء ، فكأن الأنعام منزلة من السماء ، ونظيره قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا
عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] ،
وإنما أنزل الماء الذي لا يوجد القطن والكتان والصوف إلا به.
[٩٥٢] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الذي جاء بالصدق وصدق به (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا
يَعْمَلُونَ) [الزمر : ٣٥] ؛ مع
أنه سبحانه وتعالى يكفر عنهم سيئ أعمالهم ويجزيهم بحسنها أيضا؟
قلنا
: قد سبق مثل هذا
السؤال وجوابه في سورة التّوبة.
[٩٥٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر : ٤٤] ؛ مع
أنه جاء في الأخبار أن للأنبياء والعلماء والشهداء والأطفال شفاعة يوم القيامة؟
قلنا
: معناه أن أحدا لا
يملكها إلا بتمليكه ، كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥]
وقال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا
لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].
[٩٥٤] فإن قيل : كيف ذكر الضمير في أوتيته وهو للنعمة في قوله
تعالى : (ثُمَّ إِذا
خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) وقال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ)؟ [الزمر : ٤٩].
قلنا
: إنما ذكره نظرا
إلى المعنى ؛ لأن معنى نعمة شيئا من النعمة وقسما منها ، أو لأن النعمة والإنعام
بمعنى واحد.
[٩٥٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٥]
والقرآن كله حسن؟
قلنا
: معناه اتبعوا
أحسن وحي أو كتاب أنزل إليكم من ربكم وهو القرآن كله.
وقيل : أحسن القرآن الآيات المحكمات. وقيل
: أحسنه كلّ آية
تضمنت أمرا بطاعة أو إحسان وقد سبق نظير هذه الآية في سورة الأعراف في قوله تعالى
: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الأعراف : ١٤٥]
والأجوبة المذكورة ثمّ تصلح هنا ، وكذا الأجوبة المذكورة هنا تصلح ثمة إلا الجواب
الأول.
[٩٥٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ) [الزمر : ٦٥] ، مع
أن الموحى إليهم جماعة ، ولما أوحى إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟
قلنا
: معناه ولقد أوحى
إلى كل واحد منك ومنهم لئن أشركت.
الثاني
: أنّ فيه إضمارا
تقديره : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك التوحيد ، ثم ابتدأ فقال لئن أشركت.
الثالث
: أنّ فيه تقديما
وتأخيرا تقديره : ولقد أوحي إليك لئن أشركت ، وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك.
[٩٥٧] فإن قيل : كيف عبّر سبحانه عن الذّهاب بأهل الجنة والنار
بلفظ السوق في قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) [الزمر : ٧١]
الآيتين وفيه نوع إهانة؟
قلنا
: المراد بسوق أهل
النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا
سيقوا إلى حبس أو قتل ، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم حثّا وإسراعا بهم إلى
دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على السلطان ، فشتان ما
بين السوقين.
[٩٥٨] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف النار (فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١] بغير
واو وقال : في صفة الجنة : (وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها) [الزمر : ٧٥]
بالواو؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنها زائدة قاله
الفراء وغيره.
الثاني
: أنها واو
الثمانية وأبواب الجنة ثمانية.
الثالث
: أنها واو الحال
معناه : جاءوها وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم ؛ بخلاف أبواب النار ، فإنها إنّما
تفتح عند مجيئهم ؛ والحكمة في ذلك من وجوه :
أحدها
: أن يستعجل أهل
الجنة الفرح والسرور إذا رأوا الأبواب مفتحة ، وأهل النار يأتون النار وأبوابها
مغلقة ليكون أشدّ لحرها.
الثاني
: أن الوقوف على
الباب المغلق نوع ذل وهوان ، فصين عنه أهل الجنة لا أهل النار.
الثالث
: أن الكريم يعجل
المثوبة ويؤخر العقوبة ، فلو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثر انتظار فتحه في كمال
الكريم ؛ بخلاف أهل النار.
سورة المؤمن (غافر)
[٩٥٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] ، مع
أن الذين آمنوا يجادلون أيضا فيها ، هل هي منسوخة أم محكمة؟ وهل فيها مجاز أم كلها
حقيقة؟ وهل هي مخلوقة أم قديمة وغير ذلك؟
قلنا
: المراد الجدال
فيها بالتكذيب ودفعها بالباطل والطعن بقصد إدحاض الحق وإطفاء نور الله تعالى ،
ويدل عليه قوله تعالى عقيبه (وَجادَلُوا
بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [غافر : ٥].
[٩٦٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى ، في وصف حملة العرش : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر : ٧] ؛ ولا
يخفى على أحد أنّ حملة العرش يؤمنون بالله تعالى؟
قلنا
: فائدته إظهار شرف
الإيمان وفضله والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاح
والإيمان فى غير موضع من كتابه لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧].
[٩٦١] فإن قيل : في قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] كيف
صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة؟
قلنا
: هذا كما تقول :
سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ، وكما تقول للحفار : ضيق فم الركية ووسع
أسفلها ، وليس فيهما نقل من كبر إلى صغر ومن صغر إلى كبر ، ولا من سعة إلى ضيق ولا
من ضيق إلى سعة ، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات ، والسبب في صحته أن الصغر
والكبر جائزان معا على ذات المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما ، وكذلك الضيق
والسعة ، وإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف
المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه.
[٩٦٢] فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦] بيان
وتقرير لبروزهم في قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ) [غافر : ١٦] والله
تعالى لا يخفى عليه شيء برزوا أو لم يبرزوا؟
قلنا
: معناه لا يخفى
على الله منهم شيء في اعتقادهم أيضا ، فإنهم كانوا في الدنيا يتوهمون إذا تستروا
بالحيطان والحجب لا يراهم الله ، ويؤيده قوله تعالى :
(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ
أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٢].
[٩٦٣] فإن قيل : كيف قال المؤمن ، في حقّ موسى عليهالسلام : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر : ٢٨] ؛ مع
أنه صادق في زعم القائل لهذا القول وفي نفس الأمر أيضا ، ويلزم من ذلك أنّ يصيبهم
جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أن لفظة بعض صلة.
الثاني
: أنها بمعنى «كل»
كما في قول الشاعر :
إن الأمور إذا الأحداث
دبّرها
|
|
دون الشّيوخ ترى
في بعضها خللا
|
ومنه قول لبيد :
أو لم تكن تدري
نوار بأنني
|
|
وصّال عقد حبائل
جذّامها
|
ترّاك أمكنة إذا
لم أرضها
|
|
أو يرتبط بعض
النفوس حمامها
|
قلنا
: ولقائل أن يقول :
إن لفظة بعض في البيتين على حقيقتها ، وكنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه كأنه قال :
أتركها إلى أن أموت ، وكذا فسره ابن الأنباري.
على أن أبا عبيدة
قال : إنّ بعض في الآية بمعنى كل ؛ واستدل ببيت لبيد ، وأنكر الزمخشري على أبي
عبيدة هذا التفسير. على أن غير أبي عبيدة قال في قوله تعالى ، حكاية عن عيسى عليهالسلام لأمته : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف : ٦٣] ،
أن بعضا فيه بمعنى كل.
الثالث
: أنها على أصلها.
ثم في ذلك وجهان :
__________________
أحدهما
: أنه وعدهم النجاة
إن آمنوا والهلاك إن كفروا ، فذكر لفظة بعض ؛ لأنهم على إحدى الحالتين لا محالة.
الثاني
: أنه وعدهم على
كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وكان هلاكهم في الدّنيا بعضا ، فمراده
يصيبكم في الدنيا بعض الذي يعدكم.
الرابع
: أنه ذكر البعض
بطريق التنزل والتلطف وإمحاض النصيحة من غير مبالغة ولا تأكيد ليسمعوا منه ولا
يتّهموه ؛ فيردّوا عليه ، وينسبوه إلى ميل ومحاباة لموسى عليهالسلام ، كأنه قال : أقل ما يصيبكم البعض وفيه كفاية ، ونظيره قول
الشاعر :
قد يدرك
المتأنّي بعض حاجته
|
|
وقد يكون من
المستعجل الزّلل
|
كأنه يقول أقل ما
يكون في التأني إدراك بعض المطلوب ، وأقل ما يكون في الاستعجال الزلل ، فقد بان
فضل التأني على العجلة بما لا يقدر الخصم على دفعه ورده. والوجه الرابع هو اختيار
الزمخشري رحمة الله عليه.
[٩٦٤] فإن قيل : التّولي والإدبار واحد فما فائدة قوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ)؟ [غافر : ٣٣].
قلنا
: هو تأكيد ، كقوله
تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦]
ونظائره كثيرة.
الثاني
: أنه استثارة
لحميتهم واستجلاب لأنفتهم لما في لفظ «مدبرين» من التّعريض بذكر الدّبر ، فيصير نظير
قوله تعالى : (وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥].
[٩٦٥] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ
السَّماواتِ) [غافر : ٣٦ ، ٣٧]
وهلّا قال : أبلغ أسباب السموات؟ أي أبوابها وطرقها.
قلنا
: إذا أبهم الشيء
ثم أوضح كان تفخيما لشأنه وتعظيما لمكانه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب
السموات أبهمها ثم أوضحها.
[٩٦٦] فإن قيل : مثل السيئة سيئة فما معنى قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها) [غافر : ٤٠]؟
قلنا
: معناه أن جزاء
السيئة له حساب وتقدير لا يزيد على المقدار المستحق ، فأمّا جزاء العمل الصالح
فبغير تقدير حساب ، كما قال تعالى في آخر الآية.
[٩٦٧] فإن قيل : قوله تعالى : (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠]
ينافي ذلك.
قلنا
: ذلك لمنع النقصان
لا لمنع الزيادة ، كما قال الله تعالى : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].
[٩٦٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) [غافر : ٤٩] ولم
يقل : وقال الذين في النار لخزنتها مع أنّه أخصر؟
قلنا
: لأنّ في ذكر
جهنّم تهويلا وتفظيعا. وقيل : إن جهنّم هي أبعد النار قعرا ، وخزنتها أعلى الملائكة
الموكلين بالنّار مرتبة ، فإنّما قصدهم أهل النار بطلب الدّعاء منهم لذلك.
[٩٦٩] فإن قيل : كيف قال المشركون : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ
شَيْئاً) [غافر :
٧٤] ؛ مع قولهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا
نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [النحل : ٨٦].
قلنا
: معناه أن الأصنام
التي كنا نعبدها لم تكن شيئا ؛ لأنها لا تنفع ولا تضر.
الثاني
: أنهم قالوا كذبا
وجحودا كقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].
[٩٧٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ) [غافر : ٨٠] ولم
يقل : وفي الفلك تحملون ، كما قال تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠]؟
قلنا
: معنى الوعاء
ومعنى الاستعلاء كلاهما صحيح في الفلك ؛ لأنه وعاء لمن يكون فيه وحمولة لمن
يستعليه ، فلما صح المعنيان استقامت العبارتان معا.
سورة فصلت
[٩٧١] فإن قيل : ما فائدة زيادة «من» في قوله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] مع أن
المعنى حاصل بقوله تعالى : (بَيْنِنا وَبَيْنِكَ
حِجابٌ) [فصلت : ٥]؟
قلنا
: لو قيل كذلك لكان
المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة من فمعناه أن الحجاب ابتداؤه منا
ومنك ، فالمسافة المتوسطة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
[٩٧٢] فإن قيل : قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] إلى
قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] يدل
على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام. وقال تعالى في سورة
الفرقان : (الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الفرقان : ٥٩]
فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا
: معنى قوله تعالى
: (فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ) [فصلت : ١٠] في
تتمة أربعة أيام ، لأنّ اليومين اللذين خلق فيهما الأرض من جملة الأربعة ، أو
معناه كل ذلك في أربعة أيام يعني خلق الأرض وما ذكر بعدها فصار المجموع ستة ، وهذا
لا اختلاف فيه بين المفسرين.
[٩٧٣] فإن قيل : السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها بأضعاف
مضاعفة فما الحكمة في أن الله خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ، والسموات وما
فيها في يومين؟
قلنا
: لأن السموات وما
فيها من عالم الغيب ومن عالم الملكوت ومن عالم الأمر ؛ والأرض وما فيها من عالم
الشهادة والملك. وخلق الأول أسرع من الثاني ، ووجه آخر وهو أنه فعل ذلك ليعلم أن
الخلق على سبيل التدريج والتمهيل في الأرض وما فيها لم يكن للعجز عن خلقها دفعة
واحدة ؛ بل كان لمصالح لا تحصل إلا بذلك ، ولهذه الحكمة خلق العالم الأكبر في ستة
أيام ، والعالم الأصغر وهو الإنسان في ستة أشهر.
[٩٧٤] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف أهل النار : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ
مَثْوىً
لَهُمْ) [فصلت : ٢٤] مع
أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار وجزعوا فالنار مثوى لهم أيضا؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم. على كل حال ، ولا ينفعهم الصبر في
الآخرة كما ينفع الصبر في الدنيا ، ولهذا قيل الصبر مفتاح الفرج ، وقيل من صبر
ظفر.
الثاني
: أن هذا جواب لقول
المشركين في حث بعضهم لبعض على إدامة عبادة الأصنام (أَنِ امْشُوا
وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٨٦] فقال
الله تعالى فإن يصبروا على عبادة الأصنام في الدنيا فالنار مثوى لهم في العقبى.
[٩٧٥] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الكفار : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٧] أي
بأسوإ أعمالهم ، مع أنهم يجزون بسيّئ أعمالهم أيضا؟
قلنا
: قد سبق نظير هذا
السؤال في آخر سورة التوبة ، والجواب الأول هناك يصلح جوابا هنا.
[٩٧٦] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت : ٣٧] بعد
قوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ) [فصلت : ٣٧] وهو
مستفاد من الأول بالطريق الأولى؟
قلنا
: فائدته ثبوت
الحكم بأقوى الدليلين وهو النص ، والله أعلم.
سورة الشورى
[٩٧٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الشورى : ٣] بلفظ
المضارع ، والوحي إلى من قبل النبي صلىاللهعليهوسلم ماض؟
قلنا
: قال الزمخشري :
قصد بلفظ المضارع كون ذلك عادة وسنة لله تعالى ، وهذا لا يوجد في لفظ الماضي. قلت
: ويحتمل أن يكون باعتبار وضع المضارع موضع الماضي ، كما في قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) [الجاثية : ٢٦] ،
أو بإضمار وأوحى إلى الذين من قبلك.
[٩٧٨] فإن قيل : إلى ما ذا يرجع الضمير في قوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشورى : ١١] ،
أي يكثركم ، وقيل يخلقكم ، وقيل يعيشكم فيه؟
قلنا
: معناه في هذا
التدبير أو في الجعل المذكور ، وقيل في الرّحم الذي دل عليه ذكر الأزواج.
[٩٧٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١]
وظاهره يقتضي إثبات المثل ونفي مثل المثل ، كما يقال : ليس كدار زيد دار. فإنه
يقتضي وجود الدار لزيد؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أن المثل في لغة
العرب كناية عن الذات ، ومنه قولهم : مثلي لا يقال له كذا ، ومثلك لا يليق به كذا
، فمعناه ليس كهو شيء.
الثاني
: أن الكاف زائدة
للتأكيد ، والمعنى ليس كمثله شيء.
الثالث
: أن مثل زائدة ،
فيصير المعنى ليس كهو شيء كما مر في الوجه الأول ، والفرق بين الوجهين أن المثل في
الوجه الأول كناية عن الذات ، وفي الوجه الثالث زائد مطروح كأنه لم يذكر.
[٩٨٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ولم
يقل إلا مودة القربى : أي القرابة ، أو إلا المودة للقربى.
قلنا
: جعلوا محلّا
للمودة ومقرا لها للمبالغة ، كأنه قال : إلا المودة الثابتة المستقرة في القربى ،
كما يقال ، في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد.
[٩٨١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) [الشورى : ٢٩]
والدواب إنما هي في الأرض فقط؟
قلنا
: فيهما بمعنى فيها
، باعتبار إطلاق لفظ التثنية على المفرد كما في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٥٥]
وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح. وقيل : إن الملائكة لهم دبيب مع طيرانهم أيضا وهم مبثوثون في
السماء ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٨]
فتقييده بالأرض يدل على وجود الدابة في غير الأرض من حيث المفهوم.
[٩٨٢] فإن قيل : كيف قدم سبحانه وتعالى الإناث على الذكور في
قوله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] مع
تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم عليهن ، ولم نكر الإناث وعرف الذكور؟
قلنا
: إنما قدم الإناث
لأن الآية إنما سيقت لبيان عظمة ملكه ونفاذ مشيئته ، وأنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء
عبيده ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه عبيده أهم ، والأهم واجب
التقديم ، فلما قدمهن وأخر الذكور لذلك المعنى تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم
بتعريفهم ؛ لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام
المشهورين الذين لا يخفون على أحد ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم
والتأخير ، فعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال تعالى : (ذُكْراناً وَإِناثاً) [الشورى : ٥٠] كما
قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣]
وقال : (فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩].
[٩٨٣] فإن قيل : قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١]
الآية ؛ كيف يقال إن الله تعالى كلم محمدا صلىاللهعليهوسلم ليلة المعراج مواجهة بغير حجاب ولا واسطة ، وقد خص الله
تعالى تكليمه للبشر في طريق الوحي وهو الإلهام ، كما كلم أم موسى ، والإسماع من
وراء حجاب كما كلم موسى عليهالسلام ، وإرسال الرسول كما كلم الأنبياء بواسطة جبريل عليهالسلام ، وكما كلم الأمم بواسطة الرسل؟
قلنا
: قيل المراد
بالوحي الأول هنا الإشارة ، ومنه قولهم وحي العين ووحي الحاجب ، أي إشارتهما ،
ومنه قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ
أَنْ سَبِّحُوا) [مريم : ١١]
فتكليمه لمحمد صلىاللهعليهوسلم ليلة المعراج كان مواجهة بالإشارة.
[٩٨٤] فإن قيل : قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] كيف
كان لا يعلم الإيمان قبل أن يوحى إليه ، والإيمان هو التصديق بوجود
الصانع وتوحيده ،
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم كانوا مؤمنين بالله قبل أن يوحى إليهم بأدلة
عقولهم؟
قلنا
: المراد بالإيمان
هنا شرائع الإيمان وأحكامه ، كالصّلاة والصوم ونحوهما. وقيل المراد به الكلمة التي
بها دعوة الإيمان والتّوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، والإيمان بهذا
التفسير إنّما علمه بالوحي كما علم الكتاب وهو القرآن لا بالعقل.
سورة الزخرف
[٩٨٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] ولم
يقل قلناه أو أنزلناه ، والقرآن ليس بمجعول ، لأن الجعل هو الخلق ، ومنه قوله
تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ) [الأنعام : ١]
وقوله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩]؟
قلنا
: الجعل أيضا يأتي
بمعنى القول ، ومنه قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ) [النحل : ٥٧]
وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠] أي
قالوا ووصفوا ، لا أنهم خلقوا كذلك هنا.
[٩٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥]
والنبي صلىاللهعليهوسلم ما لقيهم حتى يسألهم؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: واسأل أتباع من ، أو أمة من أرسلنا من قبلك.
الثاني
: أنه مجاز عن
النظر في أديانهم والبحث عن مللهم هل فيها ذلك.
الثالث
: أن النبي صلىاللهعليهوسلم حشر له الأنبياء عليهمالسلام ليلة المعراج ، فلقيهم وأمّهم في مسجد بيت المقدس ، فلما
فرغ من الصلاة نزلت عليه هذه الآية والأنبياء حاضرون ، فقال : لا أسأل قد كفيت ،
وقيل إنه خطاب له والمراد به أمته.
[٩٨٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨]
يعني الآيات التسع التي جاء بها موسى صلىاللهعليهوسلم ، فإن كان المراد
به أن كل واحدة منهن أكبر ممّا سواها لزم أن يكون كل واحدة فاضلة ومفضولة. وإن كان
المراد به أن كل واحدة منهن أكبر من أخت معينة لها فأيتها هي الكبرى ، وأيتها هي
الصغرى؟
قلنا
: المراد بذلك أنهن
موصوفات بالكبرى لا يكدن يتفاوتن فيه ، ونظيره بيت الحماسة :
من تلق منهم تقل
لاقيت سيّدهم
|
|
مثل النجوم التي
يسري بها الساري
|
__________________
[٩٨٨] فإن قيل : كيف قال عيسى عليهالسلام لأمته : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي
تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف : ٦٣]؟
قلنا
: كانوا يختلفون
فيما يعنيهم من أمر الديانات وفيما لا يعنيهم من أمور أخرى ، فكان يبين لهم
الشرائع والأحكام خاصة ، وقيل : إن البعض هنا بمعنى الكل كما سبق في سورة المؤمن في قوله
تعالى : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر : ٢٨].
[٩٨٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بعد قوله : (بَغْتَةً) [الزخرف : ٦٦] أي
فجأة.
قلنا
: فائدته أنها
تأتيهم وهم غافلون مشغولون بأمور دنياهم ، كما قال تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) [يس : ٤٩] فلولا
قوله : (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) جاز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون حذرون مستعدون لها.
[٩٩٠] فإن قيل : كيف وصف أهل النار فيها بكونهم مبلسين ، والمبلس
هو الآيس من الرحمة والفرج ، ثم قال تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧]
فطلبوا الفرج بالموت؟
قلنا
: تلك أزمنة
متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف فيها أحوالهم ، فيغلب عليهم اليأس تارة فيسكنون ،
ويشتد ما بهم من ألم العذاب تارة فيستغيثون.
[٩٩١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤]
ظاهره يقتضي تعدد الآلهة ، لأن النكرة إذا أعيدت تعددت كقوله : له عليّ درهم ودرهم
، وأنت طالق وطالق ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين؟
قلنا
: الإله هنا بمعنى
المعبود بالنقل ، كما في قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣]
فصار المعنى : وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود ، والمغايرة ثابتة بين
معبوديته في السماء ومعبوديته في الأرض ؛ لأن العبودية من الأمور الإضافية فيكفي
في تغايرهما التغاير من أحد الطرفين فإذا كان العابد في السماء غير العابد في
الأرض صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض ، مع أن المعبود واحد.
سورة الدخان
[٩٩٢] فإن قيل : الخلاف بين النبي صلىاللهعليهوسلم ومنكري البعث إنما كان في الحياة بعد الموت لا في الموت ،
فكيف قال تبارك وتعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) [الدخان : ٣٤ ، ٣٥]
ولم يقل إلا حياتنا ، كما قال تعالى في موضع آخر (إِنْ هِيَ إِلَّا
حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩]
وما معنى وصف الموتة بالأولى ، كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا
الموتة الأولى؟
قلنا
: لما وعدوا موتة
تكون بعدها حياة نفوا ذلك ، كأنهم قالوا لا تقع في الوجود موتة تكون بعدها حياة
إلا ما كنا فيه من موتة العدم وبعثنا منه إلى حياة الوجود. وقيل
: إنهم نفوا بذلك الموتة
الثانية في القبر بعد إحيائهم لسؤال منكر ونكير.
[٩٩٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٨٤]
والعذاب لا يصب ، وإنما يصب الحميم كما قال في موضع آخر (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ
الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩] قلنا : هو استعارة ليكون الوعد أهول وأهيب ، ونظيره قوله تعالى : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ
عَذابٍ) [الفجر : ١٣]
وقوله تعالى : (أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً) [البقرة : ٢٥٠] ،
وقول الشاعر :
صبّت عليهم صروف الدّهر من صبب
[٩٩٤] فإن قيل : كيف وعد الله أهل الجنة بلبس الإستبرق وهو غليظ
الديباج في قوله تعالى : (يَلْبَسُونَ مِنْ
سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الدخان : ٥٣] مع
أن لبس الغليظ من الديباج عند السعداء من أهل الدنيا عيب ونقص؟
قلنا
: كما أن رقيق
ديباج الجنة وهو السندس لا يماثل رقيق ديباج الدنيا إلا في الاسم فقط ، فكذلك غليظ
ديباج الجنة. وقيل السندس لباس السادة من أهل الجنة ، والإستبرق لباس العبيد
والخدم إظهارا لتفاوت المراتب.
[٩٩٥] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف أهل الجنة : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] مع
أن الموتة الأولى لم يذوقوها في الجنة؟
قلنا
: قال الزّجاج
والفرّاء : إلّا هنا بمعنى سوى ، كما في قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] ،
وقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) [هود : ١٠٧].
الثاني
: أن إلا بمعنى بعد
كما قال بعضهم في قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) [النساء : ٢٢].
الثالث
: أن السعداء إذا
حضرتهم الوفاة كشف لهم الغطاء وعرضت عليهم منازلهم ومقاماتهم في الجنة ، وتلذذوا
في حال النزع بروحها وريحانها ، فكأنهم ماتوا في الجنة ، وهذا قول ابن قتيبة رحمهالله.
سورة الجاثية
[٩٩٦] فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الجاثية : ٢٥ ،
٢٦]؟
قلنا
: وجه المطابقة
أنهم ألزموا بما هم مقرّون به من أن الله تعالى هو الذي أحياهم أوّلا ثم يميتهم ،
ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على جمعهم يوم القيامة ، فيكون قادرا على إحياء
آبائهم.
[٩٩٧] فإن قيل : كيف أضاف الكتاب إلى الأمة وإليه في قوله تعالى
: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى
إِلى كِتابِهَا) [الجاثية : ٢٨] ثم
قال : (هذا كِتابُنا) [الجاثية : ٢٩].
قلنا
: الإضافة تصح
بأدنى ملابسة وقد لابسهم الكتاب بكون أعمالهم مثبتة فيه ، ولابسه بكونه مالكه
وكونه آمرا لملائكته أن يكتبوا فيه أعمالهم.
سورة الأحقاف
[٩٩٨] فإن قيل : كيف قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٦] مع
أن حسن ما عملوا يتقبل عنهم أيضا.
قلنا
: أحسن بمعنى حسن ،
وقد سبق نظيره في سورة الروم.
[٩٩٩] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الفريقين : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٩] مع
أن أهل النار لهم دركات لا درجات؟
قلنا
: الدرجات الطبقات
من المراتب مطلقا من غير اختصاص.
الثاني
: أن فيه إضمارا
تقديره : ولكل فريق درجات أو دركات مما عملوا ؛ إلا أنه حذفه اختصارا لدلالة
المذكور عليه.
[١٠٠٠] فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) [الأحقاف : ٢٢ ،
٢٣]؟
قلنا
: طابقه من حيث أن
قولهم ذلك استعجال للعذاب الذي توعدهم به بدليل قوله تعالى بعده (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) [الأحقاف : ٢٤]
فقال لهم لا علم لي بوقت تعذيبكم ؛ بل الله تعالى هو العالم به وحده.
[١٠٠١] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف الريح : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّها) [الأحقاف : ٢٥]
وكم من شيء لم تدمره؟
قلنا
: معناه تدمر كل
شيء مرّت به من أموال قوم عاد وأملاكهم.
[١٠٠٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف : ٣١]
ولم يقل يغفر لكم ذنوبكم؟
قلنا
: لأن من الذنوب ما
لا يغفر بالإيمان كمظالم العباد ونحوها.
سورة محمد صلىاللهعليهوسلم
[١٠٠٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ) [محمد : ٣] ، ولم
يسبق ضرب مثل؟
قلنا
: معناه كذلك يبين
الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين ، وقيل أراد به أنه جعل اتباع
الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، أو أنه جعل الإضلال
مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.
[١٠٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى في حقّ الشهداء بعد ما قتلوا في
سبيل الله (سَيَهْدِيهِمْ) [محمد : ٥]
والهداية إنما تكون قبل الموت لا بعد؟
قلنا
: معناه سيهديهم
إلى محاجة منكر ونكير. وقيل : سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة.
[١٠٠٥] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) [محمد : ١٥] إلى
قوله تعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ
فِي النَّارِ) [محمد : ١٥]؟
قلنا
: قال الفراء :
معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار. وقال غيره تقديره : مثل الجنة
الموصوفة كمثل جزاء من هو خالد في النار ، فحذف منه ذلك إيجازا واختصارا.
[١٠٠٦] فإن قيل : كيف قال تبارك وتعالى للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] ، وهو
عالم بذلك قبل أن يوحى إليه وبعده؟
قلنا
: معناه أثبت على
ذلك العلم. وقال الزّجّاج : الخطاب له صلىاللهعليهوسلم ، والمراد أمته ، كما ذكرنا في أول سورة الأحزاب.
سورة الفتح
[١٠٠٧] فإن قيل : كيف جعل فتح مكّة علة للمغفرة ، فقال تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) [الفتح : ١ ، ٢]
الآية.
قلنا
: لم يجعله علة
للمغفرة ؛ بل لاجتماع ما وعده من الأمور الأربعة ، وهي المغفرة وإتمام النعمة
وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، وقبل الفتح لم يكن إتمام النعمة والنصر
العزيز حاصلا ، وإن كان الباقي حاصلا. ويجوز أن يكون فتح مكّة سببا للمغفرة ، من
حيث أنّه جهاد للعدو.
[١٠٠٨] فإن قيل : قوله تعالى : (ما تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، إن
كان المراد بما تأخر ذنبا يتأخر وجوده عن الخطاب بهذه الآية فهو معدوم عند نزولها
، فكيف يغفر الذنب المعدوم ، وإن كان المراد به ذنبا وجد قبل نزولها فهو متقدم
فكيف سماه متأخرا.
قلنا
: المراد بما تقدم
قصة مارية ، وبما تأخر قصة امرأة زيد. وقيل
: المراد بما تقدم
ما وجد منه ، وبما تأخر ما لم يوجد منه على معنى أنه موعود بمغفرته على تقدير وجوده
، أو على طريق المبالغة كقولهم : فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه ؛ بمعنى يضرب كل
أحد ، فكذا هنا معناه ليغفر لك الله كل ذنب : فالحاصل أن الذنب المتأخر متقدم على
نزول الآية ، وإن كان متأخرا بالنسبة إلى شيء آخر قبله أو متأخرا عن نزولها وهو
موعود بمغفرته ، أو على طريق المبالغة كما بينا.
[١٠٠٩] فإن قيل : ما معنى قوله : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً) [الفتح : ٢] وهو
مهدي إلى الصراط المستقيم ، ومهدي به أمته أيضا؟
قلنا
: معناه ويزيدك هدى
، وقيل : ويثبتك على الهدى ، وقيل
: معناه ويهديك
صراطا مستقيما في كل أمر تحاوله.
[١٠١٠] فإن قيل : كيف يقال إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان
وقد قال الله تعالى : (لِيَزْدادُوا
إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤]؟
قلنا
: الإيمان الذي
يقال إنه لا يقبل الزيادة والنقصان هو الإقرار بوجود الله تعالى ، كما أن إلهيته
لا تقبل الزيادة والنقصان ، فأما الإيمان بمعنى الأمن أو اليقين أو التصديق فإنه
يقبلهما ، وهو في
الآية بمعنى التصديق ؛ لأنهم بسبب السكينة التي هي الطمأنينة وبرد اليقين كلما
نزلت فريضة وشريعة صدقوا بها فازدادوا تصديقا مع تصديقهم.
[١٠١١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦] بعد
قوله : (وَكانُوا أَحَقَّ
بِها) [الفتح : ٢٦]؟
قلنا
: الضمير في بها
لكلمة التوحيد ، وفي أهلها للتقوى فلا تكرار.
[١٠١٢] فإن قيل : ما وجه تعليق الدخول بمشيئة الله تعالى في
إخباره سبحانه وتعالى ؛ حتى قال : (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الفتح : ٢٧]؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أن «إن» بمعنى إذ
، كما في قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ
مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨].
الثاني
: أنه استثناء من
الله تعالى فيما يعلم تعليما لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون.
الثالث
: أنه على سبيل
الحكاية لرؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإنّه رأى أنّ قائلا يقول له : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧].
الرابع
: أنّ الاستثناء
متعلق بقوله تعالى : (آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] فأما
الدخول فليس فيه تعليق.
[١٠١٣] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (لا تَخافُونَ) [الفتح : ٢٧] بعد
قوله : (آمِنِينَ)؟
قلنا
: معناه آمنين في
حال الدّخول لا تخافون عدوكم أن يخرجكم منه في المستقبل.
[١٠١٤] فإن قيل : قوله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ) [الفتح : ٢٩]
تعليل لما ذا؟
قلنا
: لما دل عليه
تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم كأنه قال : إنما كثّرهم وقوّاهم ليغيظ بهم
الكفار.
[١٠١٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً) [الفتح : ٢٩] وكل
أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح وبغيرهما من الصفات
الحميدة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية فما معنى التبعيض هنا؟
قلنا
: من هنا لبيان
الجنس لا التبعيض كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].
سورة الحجرات
[١٠١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١]
والمراد به نهيهم أن يتقدموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقول أو فعل ، لا أن يقدموا غيرهم؟
قلنا
: قدم هنا لازم
بمعنى تقدم كما في قولهم بين وتبين ، وفكر وتفكر ، ووقف وتوقف ، ومنه قول الشاعر :
إذا نحن سرنا
سارت الناس خلفنا
|
|
وإن نحن أومأنا
إلى الناس وقّفوا
|
أي توقفوا ، وقيل
معناه : لا تقدموا فعلا قبل أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
[١٠١٧] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) [الحجرات : ٢] ،
بعد قوله : (لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الحجرات : ٢].
قلنا
: فائدته تحريم
الجهر في مخاطبته صلىاللهعليهوسلم باسمه نحو قولهم يا محمد ويا أحمد ، فهو أمر لهم بتوقيره
وتعظيمه صلىاللهعليهوسلم في المخاطبة ، وأن يقولوا يا رسول الله ويا نبي الله ونحو
ذلك ، ونظيره قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣].
[١٠١٨] فإن قيل : كيف قال : (أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ) [الحجرات : ٢] ،
أي مخافة أن تحبط أعمالكم ؛ مع أن الأعمال إنما تحبط بالكفر لا بغيره من المعاصي ،
ورفع الصوت في مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم ليس بكفر ؛ كيف وقد روي أنّ الآية نزلت في أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما لما رفعا أصواتهما بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جهوري الصوت ،
فربما تأذى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بصوته؟
قلنا
: معناه لا تستخفوا
به ، فإن الاستخفاف به ربما أدى خطؤه إلى عمده ، وعمده كفر يحبط العمل. وقيل
: حبوط العمل مجاز
عن نقصان المنزلة وانحطاط المرتبة.
[١٠١٩] فإن قيل : ما وجه الارتباط والتعلق بين قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ) [الحجرات : ٧]
وبين ما قبله؟
__________________
قلنا
: معناه فاتركوا
عبادة الجاهلية فإن الله تعالى لم يترككم عليها ، ولكن الله حبب إليكم الإيمان. وقيل
: معناه فتثبتوا في
الأمور كما يليق بالإيمان ، فإن الله حبب إليكم الإيمان.
[١٠٢٠] فإن قيل : إن كان الفسوق والعصيان بمعنى واحد ، فما فائدة
الجمع بينهما ، وإن كان العصيان أعم من الفسوق فذكره مغن عن ذكر الفسوق لدخوله فيه
فما فائدة الجمع بينهما؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما المراد بالفسوق هنا الكذب ، وبالعصيان بقية المعاصي ، وإنما أفرد الكذب
بالذكر ، لأنه سبب نزول الآية.
[١٠٢١] فإن قيل : كيف يقال إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد ،
والله سبحانه وتعالى يقول : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤].
قلنا
: المنفي هنا
الإيمان بالقلب بدليل قوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]
يعني لم تصدقوا بقلوبكم (وَلكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنا) أي استسلمنا وانقدنا خوف السيف ، ولا شك في الفرق بين
الإيمان والإسلام بهذا التفسير ، والذي يدعي اتحادهما لا يريد به أنهما حيث
استعملا كانا بمعنى واحد ؛ بل يريد به أن أحد معاني الإيمان هو الإسلام.
[١٠٢٢] فإن قيل : كيف يقال إن العمل ليس من الإيمان ، والله تعالى
يقول : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحجرات : ١٥]
الآية؟
قلنا
: معناه إنما
المؤمنون إيمانا كاملا كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وقوله
صلىاللهعليهوسلم : «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده».
وقولهم : الرّجل
من يصبر على الشدائد. ويرد على هذا الجواب أن المنفي في أول الآية عن الأعراب نفس
الإيمان الكامل ، فلا يناسب أن يكون المثبت بعد ذلك الإيمان الكامل ؛ بل نفس
الإيمان.
سورة ق
[١٠٢٣] فإن قيل : أين جواب القسم في قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق : ١]؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنه مضمر تقديره
: إنهم مبعوثون بعد الموت.
الثاني
: أن قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ) [ق : ٤] واللام
محذوفة لطول الكلام تقديره : لقد علمنا كما في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩].
الثالث
: أنه قوله تعالى :
(ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ) [ق : ١٨].
[١٠٢٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩] وأراد به
الحب الحصيد فأضاف الشيء إلى نفسه والإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف
إليه؟
قلنا
: معناه وحب الزرع
الحصيد أو النبات الحصيد.
الثاني
: أنّ إضافة الشيء
إلى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين ، كما في قوله تعالى : (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ودار
الآخرة و (وَعْدَ الصِّدْقِ) [الأحقاف : ١٦].
[١٠٢٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] ، ولم
يقل قعيدان ، وهو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) [ق : ١٧]؟
قلنا
: معناه عن اليمين
قعيد وعن الشمال قعيد ؛ إلا أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه كما قال الشاعر :
نحن بما عندنا
وأنت بما
|
|
عندك راض
والرّأي مختلف
|
__________________
وقال آخر :
رماني بأمر كنت
ووالدي
|
|
بريئا ومن أجل
الطّوي رماني
|
الثاني
: أنّ فعيلا يستوي
فيه الواحد والاثنان والجمع ، قال الله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] وقيل
: إنما لم يقل
قعيدان رعاية لفواصل السورة.
[١٠٢٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَلْقِيا) [ق : ٢٤] ،
والخطاب لواحد ، وهو مالك خازن النار؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: ما قاله المبرّد
أنّ تثنية الفاعل أقيمت مقام تثنية الفعل للتأكيد باتحادهما حكما ، كأنه قال : ألق
ألق ؛ ونظيره قول امرئ القيس :
* قفا نبك ...
أي قف قف.
الثاني
: أن العرب كثيرا
ما يرافق الرجل منهم اثنين ، على ألسنتهم خطاب الاثنين فقالوا : خليلي وصاحبي وقفا
واسمدا وعوجا ونحو ذلك. قال الفراء : سمعت ذلك من العرب كثيرا. قال وأنشدني بعضهم
:
فقلت لصاحبيّ لا
تحبسانا
|
|
بنزع أصوله
واجتزّ شيحا
|
فقال لا تحبسانا
والخطاب لواحد ، بدليل قوله لصاحبيّ. قال : وأنشدني أبو ثور :
فإن تزجراني يا
ابن عفّان أنزجر
|
|
وإن تدعاني أحم
عرضا ممنّعا
|
وقال امرؤ القيس :
خليليّ مرّا بي
على أمّ جندب
|
|
نقضي لبانات
الفؤاد المعذّب
|
ثم قال :
ألم تر أنّي
كلّما جئت طارقا
|
|
وجدت بها طيبا
وإن لم تطيّب
|
__________________
الثالث
: أنه أمر للملكين
اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١].
[١٠٢٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق : ٣١] ، ولم
يقل غير بعيدة وهو وصف للجنة؟
قلنا
: لأنه على زنة
المصادر كالزبير والصليل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث ، أو على
حذف الموصوف ، أي مكانا غير بعيد ، وكلا الجوابين للزمخشري رحمهالله تعالى.
[١٠٢٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (غَيْرَ بَعِيدٍ) بعد قوله : (وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ) [ق : ٣١] بمعنى
قربت؟
قلنا
: فائدته التأكيد ،
كقولهم : هو قريب غير بعيد ، وعزيز غير ذليل.
[١٠٢٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] ، وكل
إنسان له قلب ؛ بل كل حيوان؟
قلنا
: المراد بالقلب
هنا العقل ، كذا قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال ابن قتيبة : لما كان
القلب موضعا للعقل كنى به عن.
الثاني
: أنّ المراد لمن
كان له قلب واع ؛ لأن من لا يعي قلبه ، فكأنّه لا قلب له ؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى :
(وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩]
الآية.
سورة الذاريات
[١٠٣٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ) [الذاريات : ٥] ،
والصادق وصف القائل لا وصف الوعد؟
قلنا
: قيل صادق بمعنى
مصدوق ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] و (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] وقيل
معناه لصدق ، فإن المصدر قد جاء على وزن اسم الفاعل كقولهم : قمت قائما ، وقولهم :
لحقت بهم اللائمة ، أي اللّوم.
[١٠٣١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الذاريات : ١٥]
والمتقون لا يكونون في الجنة في العيون؟
قلنا
: معناه أنهم في
الجنات والعيون الكثيرة محدقة بهم من كل ناحية وهم في مجموعها لا في كل عين ،
ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) [القمر : ٥٤] لأنه
بمعنى أنهار ، إلا أنه عدل عنها رعاية للفواصل.
[١٠٣٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَتَرَكْنا فِيها
آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [الذاريات : ٣٧]
أي في قرى قوم لوط ، وقرى قوم لوط ليست موجودة ، فكيف توجد فيها العلامة؟
قلنا
: الضمير في قوله
فيها عائد إلى تلك الناحية والبقعة لا إلى مدائن قوم لوط.
الثاني
: أنه عائد إليها ،
ولكن «في» بمعنى من ، كما في قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [النحل : ٨٩]
وقوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) [النساء : ٥]
ويؤيد هذا الوجه مجيئه مصرحا به في سورة العنكبوت بلفظ من في قوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً
بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت : ٣٥]
ثم قيل الآية آثار منازلهم الخربة. وقيل هي الحجارة التي أبقاها الله تعالى حتى
أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي الماء الأسود الذي يخرج من الأرض.
[١٠٣٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا
زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩]
أي صنفين ، مع أن العرش والكرسي والقلم واللوح لم يخلق منها إلا واحد؟
قلنا
: قيل معناه ومن كل
حيوان خلقنا ذكرا أو أنثى. وقيل معناه : ومن كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل
والنهار ، والصيف والشتاء ، والنور والظلمة ، والخير والشر ،
والحياة والموت ،
والبحر والبر ، والسماء والأرض ، والشمس والقمر ، ونحو ذلك.
[١٠٣٤] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (فَفِرُّوا إِلَى
اللهِ) [الذاريات : ٥٠]
وقال سبحانه في موضع آخر (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]؟
قلنا
: معنى قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي الجئوا إليه بالتوبة. وقيل معناه : ففروا من عقوبته إلى
رحمته ، ومعنى قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه. وقال الزجاج : معنى
نفسه إياه كأنه قال : ويحذركم الله إياه ، كما قال سبحانه وتعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] ، أي
إيّاه ؛ فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين.
[١٠٣٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ،
وإذا قلنا ، خلقهم للعبادة كان مريدا لها منهم ؛ فكيف أرادها منهم ولم توجد منهم؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنه عام أريد به
الخاص وهم المؤمنون ؛ بدليل خروج البعض منه بقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقا للعبادة.
الثاني
: أنه على عمومه ،
والمراد بالعبادة التوحيد ، وقد وحده الكل يوم أخذ الميثاق ، وهذا الجواب يختص
بالإنس ، لأنّ أخذ الميثاق مخصوص بهم بالآية. وقيل معناه : إلا ليكونوا عبيدا لي.
وقيل : معناه إلا ليذلوا ويخضعوا وينقادوا لما قضيته وقدّرته
عليهم فلا يخرج عنه أحد منهم.
وقيل : معناه إلا ليعبدون إن اختاروا العبادة لا قسرا وإلجاء.
وقيل : إلا ليعبدون العبادة المرادة في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد : ١٥]
والعموم ثابت في الوجوه الخمسة.
[١٠٣٦] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧] ،
بعد قوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ) [الذاريات : ٥٧]؟
قلنا
: معناه ما أريد
منهم من رزق لأنفسهم ، وما أريد أن يطعمون ، أي أن يطعموا عبيدي ؛ وإنما أضاف
الإطعام إلى ذاته المقدسة ؛ لأن الخلق عياله وعبيده ، ومن أطعم عيال غيره فكأنه
أطعمه ، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح : «إنّ الله عزوجل يقول ، يوم القيامة : يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني» ،
أي استطعمك عبدي فلم تطعمه.
سورة الطور
[١٠٣٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ
بِحُورٍ عِينٍ) [الطور : ٢٠] ؛ مع
أنّ الحور العين في الجنة مملوكات ملك يمين لا ملك نكاح؟
قلنا
: معناه قرناهم
بهنّ ، من قولهم زوّجت إبلي ، أي قرنت بعضها إلى بعض ؛ وليس من التزويج الذي هو
عقد النكاح ، ويؤيده أنّ ذلك لا يعدّى بالباء ؛ بل بنفسه ، كما قال تعالى : (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧].
ويقال زوجه امرأة. ولا يقال بامرأة.
[١٠٣٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى في وصف أهل الجنة (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور : ٢١] أي مرهون
في النار بعمله؟
قلنا
: قال الزمخشري :
كأن نفس كل عبد ترهن عند الله تعالى بالعمل الصالح الذي هو مطالب به ، كما يرهن
الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحا فكها وخلصها وإلا أوبقها. وقال غيره : هذه
جملة من صفات أهل النار وقعت معترضة في صفات أهل الجنة ، ويؤيده ما روي عن مقاتل
أنه قال معناه : كل امرئ كافر بما عمل من الكفر مرتهن في النار ، والمؤمن لا يكون
مرتهنا لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ) [المدثر : ٣٨ ، ٣٩
، ٤٠].
[١٠٣٩] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في حقّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم : (فَما أَنْتَ
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] وكل
واحد غيره كذلك لا يكون كاهنا ولا مجنونا ، بنعمة الله تعالى؟
قلنا
: معناه فما أنت
بحمد الله وإنعامه عليك بالصدق والنبوة بكاهن ولا مجنون كما يقول الكفار. وقيل
: الباء هنا بمعنى
مع ، كما في قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] ،
وقوله تعالى : (فَتَسْتَجِيبُونَ
بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٥٢].
ويقال : أكلت الخبز بالتمر ، أي معه.
[١٠٤٠] فإن قيل : ما معنى الجمع في قوله تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨]؟
قلنا
: معناه التفخيم
والتعظيم ، والمراد بحيث نراك ونحفظك ؛ ونظيره في معنى العين قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] ؛
ونظيره في الجمع للتفخيم والتعظيم قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] ،
وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١].
سورة النجم
[١٠٤١] فإن قيل : الضلال والغواية واحدة ، فما فائدة قوله تعالى :
(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ
وَما غَوى) [النجم : ٢]؟
قلنا
: قيل إن بينهما
فرقا لأن الضلال ضد الهدى والغي ضد الرشد وهما مختلفتان مع تقاربهما. وقيل معناه
ما ضل في قوله ولا غوى في فعله ، ولو ثبت اتحاد معناهما يكون من باب التأكيد
باللفظ المخالف ، مع اتحاد المعنى.
[١٠٤٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] ،
أدخل كلمة الشك ، والشك محال على الله تعالى؟
قلنا
: أو هنا للتخيير
لا للشك ، كأنه قال سبحانه وتعالى : إن شئتم قدروا ذلك القرب بقاب قوسين ، وإن
شئتم قدروه بأدنى منهما. وقيل معناه : بل أدنى. وقيل هو خطاب لهم بما هو معهود
بينهم. وقيل هو تشكيك لهم لئلّا يعلموا قدر ذلك القرب ، ونظيره قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧]
والكلام فيهما واحد.
[١٠٤٣] فإن قيل : قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠]
من رؤية القلب لا من رؤية البصر ، فأين مفعولها الثاني؟
قلنا
: هو محذوف تقديره
: أفرأيتموها بنات الله وأنداده ، فإنهم كانوا يزعمون أن الملائكة وهذه الأصنام
بنات الله عزوجل.
[١٠٤٤] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٢٠] فوصف
الثالثة بالأخرى والعرب إنما تصف بالأخرى الثانية لا الثالثة ، فظاهر اللفظ يقتضي
أن يكون قد سبق ثالثة أولى ، ثم لحقتها الثالثة الأخرى فتكون ثالثتان؟
قلنا
: الأخرى نعت للعزى
، تقديره : أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة ؛ لأنها ثالثة الصنمين في
الذكر ؛ وإنما أخّر الأخرى رعاية للفواصل ، كما قال : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] ، ولم
يقل أخر ، رعاية للفواصل.
[١٠٤٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [النجم : ٢٨] أي
لا يقوم مقام العلم ، مع أنه يقوم مقام العلم في صورة القياس؟
قلنا
: المراد به هنا
الظن الحاصل من اتباع الهوى دون الظن الحاصل من النظر والاستدلال ، ويؤيده قوله
تعالى قبل هذا (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٢٣].
[١٠٤٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وقد
صح في الأخبار وصول ثواب الصدقة والقراءة والحج وغيرها إلى الميت؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: ما قاله ابن عباس
رضي الله عنهما أنها منسوخة بقوله تعالى : (وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١] ، معناه
أنه أدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء ، قالوا وهذا لا يصح ؛ لأن الآيتين خبر ولا
نسخ في الخبر.
الثاني
: أنّ ذلك مخصوص
بقوم إبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام ، وهو حكاية ما في صحفهم ، فأمّا هذه
الأمة فلها ما سعت وما سعي لها.
الثالث
: أنه على ظاهره ،
ولكن دعاء ولده وصديقه وقراءتهما وصدقتهما عنه من سعيه أيضا ؛ بواسطة اكتسابه
للقرابة أو الصداقة أو المحبة من الناس بسبب التقوى والعمل الصالح.
[١٠٤٧] فإن قيل : كيف قال تعالى بعد تعديد النقم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) [النجم : ٥٥]
والآلاء النعم؟
قلنا
: إنما قال سبحانه
بعد تعديد النعم والنقم ، والنعم نعم لما فيها من الزّواجر والمواعظ فمعناه : فبأي
نعم ربك الدالة على وحدانيته تشك يا وليد بن المغيرة؟
سورة القمر
[١٠٤٨] فإن قيل : ما فائدة إعادة التكذيب في قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) [القمر : ٩] وهلّا
قال تعالى كذّبت قبلهم قوم نوح عبدنا؟
قلنا
: معناه كذبوا
تكذيبا بعد تكذيب. وقيل : إن التكذيب الأول منهم بالتوحيد ، والثاني بالرسالة. وقيل
: التكذيب الأول
منهم لله تعالى ، والثاني لرسوله صلىاللهعليهوسلم.
[١٠٤٩] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف ماء الأرض والسماء (فَالْتَقَى الْماءُ) [القمر : ١٢] ولم
يقل فالتقى الماءان؟
قلنا
: أراد به جنس
المياه.
[١٠٥٠] فإن قيل : الجزاء إنما يكون للكافر لا للمكفور ، فكيف قال
تعالى : (جَزاءً لِمَنْ كانَ
كُفِرَ) [القمر : ١٤].
قلنا
: جزاء مفعول له
فمعناه : ففتحنا أبواب السماء وما بعده مما كان يسبب إغراقهم جزاء لله تعالى ؛
لأنه مكفور به ، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه ، كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥].
والجزاء يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول كسائر المصادر.
الثاني
: أنه نوح عليهالسلام إما لأنه مكفور به بحذف الجار كما مر من الكفر الذي هو ضد
الإيمان ، أو لأن كل نبي نعمة من الله على قومه ، ومنه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]
وقال رجل للرشيد : الحمد لله عليك ، فقال ما معنى هذا : فقال أنت نعمة حمدت الله
عليها ، فكأنه قال : جزاء لهذه النعمة المكفورة ، وكفران النعمة يتعدى بنفسه قال
الله تعالى : (وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢].
الثالث
: أن «من» بمعنى ما
فمعناه : جزاء لما كان كفر من نعم الله تعالى على العموم. وقرأ قتادة كفر بالفتح ،
أي جزاء للكافرين.
[١٠٥١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ، أي
منقلع ، ولم يقل منقعرة؟
قلنا
: إنما ذكر الصفة ؛
لأن الموصوف ، وهو النخل ، مذكر اللفظ ليس فيه علامة تأنيث ، فاعتبر اللفظ وفي
موضع آخر اعتبر المعنى وهو كونه جمعا فقال : (أَعْجازُ نَخْلٍ
خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧]
ونظيرهما قوله تعالى : (لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ
الْحَمِيمِ) [الواقعة : ٥٢ ـ ٥٤]
وقال أبو عبيدة : النخل يذكر ويؤنث ، فجمع القرآن اللغتين. وقيل
: إنّما ذكر رعاية
للفواصل.
سورة الرّحمن عزوجل
[١٠٥٢] فإن قيل : أيّ مناسبة بين رفع السماء ووضع الميزان ؛ حتى
قرن بينهما؟
قلنا
: لما صدّر هذه
السورة بتعديد نعمه سبحانه على عبيده ، ذكر من جملتها وضع الميزان الذي به نظام
العالم وقوامه ؛ لا سيما أن المراد بالميزان العدل في قول الأكثرين ، والقرآن في
قول ، وكل ما تعرف به المقادير في قول ، كالمكيال والميزان والذراع المعروف
ونحوها.
[١٠٥٣] فإن قيل : قوله تعالى : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي
الْمِيزانِ) [الرحمن : ٨] ، أي
لا تجاوزوا فيه العدل مغن عما بعده من الجملتين فما فائدتهما؟
قلنا
: المراد بالطغيان
فيه أخذ الزائد ، وبالإخسار فيه إعطاء الناقص وأمر بالتّوسط الذي هو إقامة الوزن
بالقسط ؛ ونهى عن الطرفين المذمومين.
[١٠٥٤] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤] وهو
الطين اليابس الذي لم يطبخ ؛ لكن له صلصلة ، أي صوت إذا نقر ، وقال تعالى ، في
موضع آخر : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ
حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦].
وقال تعالى : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١].
وقال تعالى : (مِنْ تُرابٍ) [الروم : ٢٠]؟
قلنا
: الآيات كلها
متفقة في المعنى ؛ لأنه تعالى خلقه من تراب ثم جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا.
[١٠٥٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧]
فكرر ذكر الرب ولم يكرره في سورة المعارج بل أفرده فقال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ
وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠]
وكذا في سورة المزمل (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ) [المزمل : ٩] (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ
وَكِيلاً) [المزمل : ٩]؟
قلنا
: إنما ذكر الرب
تأكيدا ، فكان التأكيد بهذا الموضع أليق منه بذينك الموضعين ؛ لأنه موضع الامتنان
وتعديد النعم ، ولأن الخطاب فيه مع جنسين وهما الإنس والجن.
[١٠٥٦] فإن قيل : بعض الجمل المذكورة في هذه السورة ليست من النعم
كقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) [الرحمن : ٢٦]
وقوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما
شُواظٌ مِنْ نارٍ
وَنُحاسٌ
فَلا تَنْتَصِرانِ) [الرحمن : ٣٥]
فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٣]؟
قلنا
: من جملة الآلاء
دفع البلاء وتأخير العقاب ، فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة. وتأخير العقاب عن
العصاة أيضا نعمة فلهذا امتن علينا بذلك.
[١٠٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] ،
والله تعالى لا يشغله شيء؟
قلنا
: قال الزّجّاج :
الفراغ في اللغة على ضربين : أحدهما الفراغ من شغل ، والآخر القصد للشيء والإقبال
عليه ، وهو تهديد ووعيد ، ومنه قولهم : سأتفرغ لفلان ، أي سأجعله قصدي ؛ فمعنى
الآية سنقصد لعقابكم وعذابكم وحسابكم.
[١٠٥٨] فإن قيل : كيف وعد سبحانه الخائف جنتين فقط؟
قلنا
: لأن الخطاب
للثقلين ، فكأنه قيل لكل خائفين من الثقلين جنتان ، جنة للخائف الإنسي ، وجنة
للخائف الجني. وقيل : المراد به أن لكل خائف جنتين ، جنة لفعل الطاعات ، وجنة
لترك المعاصي. وقيل : جنة يثاب بها ، وجنة يتفضل بها عليه زيادة لقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] أي
الجنة وزيادة.
[١٠٥٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ
الطَّرْفِ) [الرحمن : ٥٥] ولم
يقل فيهما ، والضمير للجنتين؟
قلنا
: الضمير لمجموع
الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة وغيرهما مما سبق ذكره. وقيل
: هو للجنتين ،
وإنما جمعه لاشتمال الجنتين على قصور ومنازل. وقيل
: الضمير للمنازل
والقصور التي دلّ عليها ذكر الجنتين. وقيل
: الضمير لمجموع
الجنان التي دل عليها ذكر الجنتين. وقيل
: الضمير عائد إلى
الفرش ، لأنها أقرب ؛ وعلى هذا القول «في» بمعنى على ، كما في قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ
فِيهِ) [الطور : ٣٨].
[١٠٦٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ
وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦] أي
لم يفتضهن ، ونساء الدّنيا لا يفتضهن الجان ، فما فائدة تخصيص الحور بذلك؟
قلنا
: معناه أن تلك
القاصرات الطرف إنسيات للإنس وجنيات للجن ، فلم يطمث الإنسيات إنسي ، ولا الجنيات
جني ، وهذه الآية دليل على أن الجن يواقعون كما يواقع الإنس. وقيل
: فيها دليل على أن
الجني يغشى الإنسية في الدّنيا.
سورة الواقعة
[١٠٦١] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [الواقعة : ١٠]؟
قلنا
: فيه وجهان :
أحدهما
: أنه تأكيد مقابل
لما سبقه من التأكيد في (فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ) [الواقعة : ٨ ، ٩]
؛ كأنه قال تعالى : والسابقون هم المعروف حالهم المشهور وصفهم ، ونظيره قول أبي
النجم :
أنا أبو النجم وشعري شعري
الثاني
: أن معناه :
والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى جنته وكرامته. ثم قيل المراد بهم
السابقون إلى الإيمان من كل أمة. وقيل الذين صلوا إلى القبلتين.
وقيل : أهل القرآن. وقيل
: السابقون إلى
المساجد إلى الخروج في سبيل الله. وقيل : هم الأنبياء صلوات الله عليهم ، فهذه خمسة أقوال.
[١٠٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة : ١٧] ؛
مع أنّ التخليد ليس صفة مخصوصة بالولدان في الجنة ؛ بل كل أهل الجنة مخلدون فيها
لا يشيبون ولا يهرمون ؛ بل يبقى كل واحد أبدا على صفته التي دخل الجنة عليها؟
قلنا
: معناه أنهم لا
يتحولون عن شكل الوالدان وهي الوصافة. وقيل
: مقرطون. وقيل
مسورون ، ولا إشكال على هذين القولين.
[١٠٦٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ
الْحَمِيمِ) [الواقعة : ٥٢ ـ ٥٤]
أنث ضمير الشجر ثم ذكّره؟
قلنا
: قد سبق جوابه في
سورة القمر.
[١٠٦٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة : ٥٧] ،
أي فهلّا تصدقون ؛ مع أنهم مصدقون أنه خلقهم ، بدليل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧].
قلنا
: هم وإن كانوا
مصدقين بألسنتهم إلا أنهم لما كان مذهبهم على خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم
مكذبون به.
الثاني
: أنه تخصيص على
التصديق بالبعث بعد الموت بالاستدلال بالخلق الأول ، فكأنه قال تعالى : هو الذي
خلقكم أوّلا باعترافكم ، فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيا ، فهلا تصدقون بذلك.
[١٠٦٥] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في الزرع : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة : ٦٥]
باللام وقال تعالى في الماء : (لَوْ نَشاءُ
جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الواقعة : ٧٠]
بغير لام؟
قلنا
: الأصل أن تذكر
اللام في الموضعين ، إذ لا بد منها في جواب «لو» إلا أنها حذفت في الثاني اختصارا
، وهي مؤدية لدلالة الأولى عليها.
الثاني
: أن أصل هذه اللام
للتأكيد ، فذكرت مع المطعوم دون المشروب ، لأنّ المطعوم مقدم وجودا ورتبة ، لأنه
إنما لا يحتاج إلى الماء تبعا له ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب ، فلما
كان الوعيد بفقد المطعوم أشد وأصعب أكد تلك الجملة مبالغة ، في التهديد.
[١٠٦٦] فإن قيل : التسبيح التنزيه عن السوء ، فما معنى باسم في
قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤]
وهلّا قال تعالى فسبح ربك العظيم؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أن الباء زائدة
والاسم بمعنى الذّات ، فصار المعنى ما قلتم.
الثاني
: أن الاسم بمعنى
الذكر ، فمعناه فسبح بذكر ربك.
الثالث
: أن الذكر فيه
مضمر ، فمعناه فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك.
الرابع
: قال الضحّاك :
معناه فصلّ باسم ربك ، أي افتتح الصلاة بالتكبير.
[١٠٦٧] فإن قيل : إذا كان القرآن صفة من صفات الله تعالى قديمة
قائمة بذاته المقدسة ، فكيف قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : ٧٧ ،
٧٨] أي اللوح المحفوظ أو المصحف على اختلاف القولين؟
قلنا
: معناه مكتوب في
كتاب مكنون ، ولا يلزم من كتابة القرآن في الكتاب أن يكون القرآن حالا في الكتاب ،
كما لو كتب إنسان على كفه ألف دينار لا يلزم منه وجود ألف دينار في كفه ، وكذا لو
كتب في كفه العرش أو الكرسي ، وكذا وكذا ، قال تعالى في صفة النبيّ صلىاللهعليهوسلم : (يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧].
الثاني
: أن القرآن لو كان
حالا في المصحف فإما أن يكون جميعه حالا في مصحف واحد ، أو في كل مصحف ، أو في
بعضه ، ولا سبيل إلى الأول ، لأن المصاحف كلها سواء في الحكم في كتابته فيها ؛
ولأن البعض ليس أولى بذلك من
البعض ، ولا سبيل
إلى الثاني وإلا يلزم تعدد القرآن وأنه متحد ، ولا سبيل إلى الثالث ؛ لأنه كله
مكتوب في كل مصحف ، ولأن هذا المصحف ليس أولى بهذا البعض من ذلك المصحف ، وكذا
الباقي ، فثبت أنه ليس حالا في شيء منها ؛ بل هو كلام الله تعالى وكلامه صفة قديمة
قائمة به لا تفارقه!!
[١٠٦٨] فإن قيل : فإذا لم تفارقه فكيف سماه تعالى منزلا وتنزيلا ،
وقال سبحانه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ) [الشعراء : ٩٣]
ونظائره كثيرة ، وإذا فارقه وباينه يكون مخلوقا ، لأن كل مباين له فهو غيره ، وكل
ما هو غيره فهو مخلوق؟
قلنا
: معنى إنزاله أنه
سبحانه وتعالى علمه لجبريل فحفظه ، وأمره أن يعلمه للنبي صلىاللهعليهوسلم ويأمره أن يعلمه لأمته ، مع أنه لم يزل ولا يزال صفة لله
تعالى قائمة به لا تفارقه!!
سورة الحديد
[١٠٦٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الحديد : ٨] ثم
قال سبحانه : (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) [الحديد : ٨]؟
قلنا
: معناه إن كنتم
مؤمنين بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، فإن شريعتهما تقتضي الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم.
الثاني
: إن كنتم مؤمنين
بالميثاق الذي أخذه عليكم يوم أخرجكم من ظهر آدم عليهالسلام.
الثالث
: أن معناه ، أي
عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين
والحجج ، وقد ركب الله تعالى فيكم العقول ونصب لكم الأدلة ومكنكم من النظر وأزاح
عللكم ، فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين بموجب ما ، فإنّ هذا الموجب لا مزيد
عليه.
[١٠٧٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) [الحديد : ١٠] ولم
يذكر مع من لا يستوي ، والاستواء لا يتم إلا بذكر اثنين ، كقوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ
وَالطَّيِّبُ) [المائدة : ١٠٠] (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ
وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠٠]؟
قلنا
: هو محذوف تقديره
: ومن أنفق وقاتل من بعد الفتح ، وإنّما حذف لدلالة ما بعده عليه.
[١٠٧١] فإن قيل : كيف يقال إن أعلى الدرجات بعد درجة الأنبياء
درجة الصديقين ، والله تعالى قد حكم لكل مؤمن بكونه صدّيقا بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الحديد : ١٩]؟
قلنا
: قال ابن مسعود
ومجاهد : كل مؤمن صديق.
الثاني
: أن الصديق هو
كثير الصدق ، وهو الذي كل أقواله وأفعاله وأحواله صدق ، فعلى هذا يكون المراد به
بعض المؤمنين لا كلهم. وقد روي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض
في زمانهم إلى الإسلام ، وهم أبو بكر وعثمان وعلي وحمزة بن عبد المطلب وطلحة
والزبير وسعد وزيد ، وألحق بهم عمر رضي الله عنهم فصاروا تسعة.
[١٠٧٢] فإن قيل : كيف ذكر سبحانه هؤلاء المذكورين بكونهم شهداء
ومنهم من لم يقتل؟
قلنا
: معناه أن لهم أجر
الشهداء.
الثاني
: أنه جمع شهيد
بمعنى شاهد ، فمعناه أنهم شاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان.
الثالث
: أنه مبتدأ منقطع
عما قبله لا معطوف عليه ؛ معناه : والشّهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.
[١٠٧٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١]
والمسابقة من المفاعلة التي لا تكون إلا بين اثنين كقولك : سابق زيد عمرا؟
قلنا
: قيل معناه سارعوا
مسارعة المسابقين لأقرانهم في الميدان ، ويؤيد هذا القول مجيئه بلفظ المسارعة في
سورة آل عمران. وقيل : سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال التي
توصلكم إلى الجنة. وقيل : سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغروره وخداعه عن ذلك.
[١٠٧٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١]
وقال تعالى ، في سورة آل عمران : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [النساء : ١٣٣]
فكيف يكون عرضها كعرض السماء الواحدة وكعرض السموات السبع؟
قلنا
: المراد بالسماء
جنس السموات لا سماء واحدة ، كما أن المراد بالأرض في الآيتين جنس الأرضين ، فصار
التشبيه في الآيتين بعرض السموات السبع والأرضين السبع.
[١٠٧٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] ولا
أحد يملك نفسه عند مضرة تناله أن لا يحزن ، ولا عند منفعة تناله أن لا يفرح ،
وليرجع كل واحد منا في ذلك إلى نفسه؟
قلنا
: ليس المراد بذلك
الحزن والفرح الذي لا ينفك عنه الإنسان بطبعه قسرا وقهرا ؛ بل المراد به الحزن
المخرج لصاحبه إلى الذهول عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين
، والفرح المطغي الملهي عن الشكر ، نعوذ بالله منهما.
[١٠٧٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا
مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥] ،
والميزان لم ينزل من السماء؟
قلنا
: قيل المراد
بالميزان هنا العدل. وقيل العقل : وقيل السلسلة التي أنزلها الله تعالى على داود عليهالسلام. وقيل : هو الميزان المعروف أنزله جبريل فدفعه إلى نوح عليهالسلام وقال له : مر قومك يزنوا به.
[١٠٧٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) [الحديد : ٢٨] ؛
مع أن المؤمنين مؤمنون برسوله صلىاللهعليهوسلم؟
قلنا
: معناه يا أيها
الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهماالسلام آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فيكون خطابا لليهود والنصارى خاصة ، وعليه الأكثرون.
وقيل معناه : يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق اتقوا الله وآمنوا برسوله اليوم.
وقيل معناه : يا أيها الذين آمنوا بالله في العلانية باللسان اتقوا الله وآمنوا
برسوله في السر بتصديق القلب.
سورة المجادلة
[١٠٧٨] فإن قيل : لأي معنى خصّ الله تعالى الثّلاثة والخمسة
بالذّكر في النجوى ، دون غيرهما من الأعداد ، في قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) [المجادلة : ٧]
الآية؟
قلنا
: لأنّ قوما من
المنافقين تخلفوا للتناجي على هذين العددين مغايظة للمؤمنين ، فنزلت الآية على صفة
حالهم تعريضا بهم وتسميعا لهم وزيد فيها ما يتناول كل متناجيين غير تلك الطائفتين
، وهو قوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ
ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) [المجادلة : ٧].
[١٠٧٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) [المجادلة : ١٤]؟
قلنا
: فائدته الإخبار
عن المنافقين أنهم يحلفون على أنهم ما سبوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه مع اليهود كاذبين متعمدين للكذب فهي اليمين الغموس
، فكان ذلك نهاية في بيان ذمهم.
سورة الحشر
[١٠٨٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر : ٩]
والإيمان ليس مكانا يتبوأ لأنّ معنى التبوء اتخاذ المكان منزلا؟
قلنا
: فيه إضمار تقديره
: وأخلصوا الإيمان ، كقول الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا
أي وسقيتها ماء
باردا.
الثاني
: أنّه على ظاهره
بغير إضمار ولكنه مجاز ، فمعناه أنهم جعلوا الإيمان مستقرا وموطنا لتمكنهم منه
واستقامتهم عليه ، كما جعلوا دار الهجرة كذلك وهي المدينة.
[١٠٨١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) [الحشر : ١٢] بعد
الإخبار بأنهم لا ينصرونهم وحرف الشرط إنما يدخل على ما يحتمل وجوده وعدمه.
قلنا
: معناه : ولئن
نصروهم على الفرض والتقدير كقوله تعالى للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]
وقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
والله تعالى كما يعلم ما يكون قبل كونه ، فهو يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
[١٠٨٢] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى للمؤمنين : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي
صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) [الحشر : ١٣] ، أي
في صدور المنافقين أو اليهود على اختلاف القولين ، وظاهره لأنتم أشدّ خوفا من الله
؛ فإن كان «من» متعلقا بأشد لزم ثبوت الخوف لله
__________________
تعالى ، كما تقول
: زيد أشدّ خوفا في الدار من عمرو ، وذلك محال ، وإن كان من الله متعلقا بالخوف
فأين الذي فضل عليه المخاطبون ، وأيضا فإن الآية تقتضي إثبات زيادة الخوف للمؤمنين
؛ وليس المراد ذلك باتفاق المفسرين؟
قلنا
: رهبة مصدر رهب
مبنيا لما لم يسم فاعله ، فكأنه قيل أشد مرهوبية ، يعني أنكم في صدورهم أهيب من
الله فيها ، كذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما ، ونظيره قولك : زيد أشد ضربا في
الدار من عمرو ، يعني مضروبية.
[١٠٨٣] فإن قيل : كيف يستقيم التفضيل بأشدية الرّهبة ، مع أنّهم
كانوا لا يرهبون الله ، لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق والكفر؟
قلنا
: معناه أن رهبتهم
في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم ، وكانوا يظهرون للمؤمنين
رهبة شديدة من الله تعالى.
[١٠٨٤] فإن قيل : كيف قال إبليس : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الحشر : ١٦] وهو
لا يخاف الله تعالى ؛ لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضل عبيده؟
قلنا
: قد سبق هذا
السؤال وجوابه في سورة الأنفال.
[١٠٨٥] فإن قيل : ما فائدة تنكير النفس والغد في قوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ) [الحشر : ١٨]؟
قلنا
: أما تنكير النفس
فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمت للآخرة كأنه قال : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ،
وأين تلك النفس. وأما تنكير الغد فلعظمته وإبهام أمره كأنه قال لغد لا يعرف كنهه
لعظمه.
[١٠٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِغَدٍ) [الحشر : ١٨]
وأراد به يوم القيامة ، والغد عبارة عن يوم بينه وبيننا ليلة واحدة؟
قلنا
: الغد له مفهومان
: أحدهما ما ذكرتم. والثاني مطلق الزمان المستقبل ، ومنه قول الشاعر :
وأعلم ما في
اليوم والأمس قبله
|
|
ولكنّني عن علم
ما في غد عمي
|
وأراد به مطلق الزّمان
المستقبل ، كما أراد بالأمس مطلق الزمان الماضي ؛ فصار لكل واحد منهما مفهومان.
ويؤيده أيضا قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بِالْأَمْسِ) [يونس : ٢٤] وقيل
إنما أطلق على يوم القيامة اسم الغد تقريبا له كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] وهو
قوله تعالى : (وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل :
__________________
٧٧] ، وكأنه تعالى
قال : إن يوم القيامة لقربه يشبه ما ليس بينكم وبينه إلا ليلة واحدة ، ولهذا روي
عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : «اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة». قالوا أراد
بتلك اللّيلة ليلة الموت.
[١٠٨٧] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ) [الحشر : ٢١]
الآية؟
قيل : معناه : أنه
سبحانه لو جعل في جبل على قساوته تمييزا ، كما جعل في الإنسان ثم أنزل عليه القرآن
، لتشقق خشية من الله تعالى وخوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن. والمقصود توبيخ
الإنسان على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن ، وإعراضه عن تدبر قوارعه
وزواجره.
[١٠٨٨] فإن قيل : ما الفرق بين الخالق والبارئ حتى عطف تعالى
أحدهما على الآخر؟
قلنا
: الخالق هو المقدر
لما يوجده ، والبارئ هو المميز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة. وقيل
: الخالق المبدئ
والبارئ المعيد.
سورة الممتحنة
[١٠٨٩] فإن قيل : من ما ذا استثنى قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [الممتحنة : ٤]؟
قلنا
: من قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة : ٤] ،
لأنه سبحانه أراد بالأسوة الحسنة قوله الذي حكاه عنه وعن أتباعه وأشياعه ليقتدوا
به ويتخذوه سنة يستنون بها ، واستثنى سبحانه استغفاره لأبيه ، لأنه كان عن موعدة
وعدها إياه.
[١٠٩٠] فإن قيل : فإن كان استغفاره لأبيه أو وعده لأبيه
بالاستغفار مستثنى من الأسوة ، فكيف عطف عليه قوله : (وَما أَمْلِكُ لَكَ
مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤]
وهو لا يصح استثناؤه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ
لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ١٧]؟
قلنا
: المقصود
بالاستثناء هو الجملة الأولى فقط ، وما بعدها ذكر لأنه من تمام كلام إبراهيم صلوات
الله عليه لا بقصد الاستثناء ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا
الاستغفار.
[١٠٩١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) [الممتحنة : ١٢] ،
ومعلوم أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم لا يأمر إلا بمعروف ، فهلا اقتصر على قوله تعالى ولا
يعصينك؟
قلنا
: فائدته سرعة
تبادر الأفهام إلى قبح المعصية منهن ، لو وقعت ، من غير توقف الفهم على المقدمة
التي أوردتم في السؤال.
سورة الصف
[١٠٩٢] فإن قيل : ما فائدة «قد» في قوله تعالى : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ
اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف : ٥]؟
قلنا
: فائدتها التأكيد
، كأنه قال : وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.
هذا جواب
الزمخشري. وقال غيره : فائدتها التكثير ، لأن قد مع الفعل المضارع تارة تأتي
للتقليل كقولهم : إن الكذوب قد يصدق ، وتارة تأتي للتكثير كقول الشاعر :
قد أعسف النازح
المجهود معسفه
|
|
في ظلّ أخضر
يدعو هامة البوم
|
وإنما يمتدح بما
يكثر وجوده منه لا بما يقل.
[١٠٩٣] فإن قيل : كيف قال عيسى عليهالسلام : (وَمُبَشِّراً
بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ولم
يقل محمّد ومحمّد أشهر أسماء النبيّ صلىاللهعليهوسلم؟
قلنا
: إنما قال أحمد ،
لأنه مذكور في الإنجيل بعبارة تفسيرها أحمد لا محمد ، وإنما كان كذلك ، لأن اسمه
في السماء أحمد وفي الأرض محمّد ، فنزل في الإنجيل اسمه السماوي. وقيل
: إن أحمد أبلغ في
معنى الحمد من محمّد ، من جهة كونه مبنيا على صيغة التفضيل. وقيل
: محمد أبلغ من جهة
كونه على صيغة التفضيل الذي هو للتكثير.
[١٠٩٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦] ولم
يقل سبحانه هذه ، والمشار إليه البينات وهي مؤنثة؟
قلنا
: معناه هذا الذي
جئت به ، فالإشارة إلى المأتيّ به.
__________________
[١٠٩٥] فإن قيل : ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصار
الله بقول عيسى عليهالسلام (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) [الصف : ١٤]؟
قلنا
: التشبيه محمول
على المعنى تقديره : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارا لعيسى عليهالسلام حين قال لهم من أنصاري إلى الله.
سورة الجمعة
[١٠٩٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩]
والسعي العدو ، والعدو إلى صلاة الجمعة وإلى كلّ صلاة مكروه؟
قلنا
: المراد بالسعي
القصد. وقال الحسن : ليس هو السعى على الأقدام ، ولكنّه على النيات والقلوب. ويؤيد
قول الحسن قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ،
وقول الدّاعي في دعاء القنوت : وإليك نسعى ونحفد ، وليس المراد به العدو والإسراع
بالقدم.
[١٠٩٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١]
والمذكور شيئان اللهو والتجارة؟
قلنا
: قد سبق جواب هذا
في سورة التوبة في قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها
فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤] ،
والذي يؤيده هنا ما قاله الزّجاج معناه : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا
انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه
إليهما بضمير التثنية ، وعليه فلا حذف.
سورة المنافقون
[١٠٩٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : ١]؟
قلنا
: لو قال تعالى : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللهِ) ، والله يشهد إنّهم لكاذبون [المنافقون : ١] لكان يوهم أن
قولهم هذا كذب ، وليس المراد أن شهادتهم هذه كذب ؛ بل المراد أنهم كاذبون في غير
هذه الشهادة. وقال أكثر المفسرين : إنه تكذيب لهم في هذه الشهادة لأنهم أضمروا
خلاف ما أظهروا ولم يعتقدوا أنه رسول الله بقلوبهم ، فسماهم كاذبين لذلك ، فعلى
هذا يكون ذلك تأكيدا.
[١٠٩٩] فإن قيل : المنافقون ما برحوا على الكفر ، فكيف قال تعالى
: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون : ٣].
قلنا
: معناه ذلك الكذب
الذي حكم عليهم به ، أو ذلك الإخبار عنهم بأنهم ساء ما كانوا يعملون بسبب أنهم
آمنوا بألسنتهم (ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون : ٣]
بقلوبهم (فَطُبِعَ عَلى
قُلُوبِهِمْ) [المنافقون : ٣]
كما قال تعالى في وصفهم (وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) [البقرة : ١٤]
الآية.
الثاني
: أن المراد به أهل
الرّدّة منهم.
[١١٠٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤]
ولم يقل هي العدو؟
قلنا
: عليهم هو ثاني
مفعولي يحسبون تقديره : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم : أي لجبنهم وهلعهم ، فالوقف
على قوله تعالى عليهم وقوله سبحانه : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤]
ابتداء كلام. وقيل : إن المفعول الثاني هو قوله تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤]
ولكن تقديره : يحسبون أهل كل صيحة عليهم هم العدوّ ، والأول أظهر بدليل عدم نصب
العدو.
سورة التغابن
[١١٠١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] قدم
الكافر في الذكر؟
قلنا
: الواو لا تعطي
رتبة ولا تقتضي ترتيبا كما قال تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] وقال
تعالى : (لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] وقال
سبحانه : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] وقال
تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] وقد
ذكرنا في الآية الأخيرة معنى آخر في موضعها.
[١١٠٢] فإن قيل : قوله تعالى : (وَتَوَلَّوْا
وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦] ،
يوهم وجود التولي والاستغناء معا بعد مجىء رسلهم إليهم ؛ والله تعالى لم يزل غنيا؟
قلنا
: معناه وظهر
استغناء الله تعالى عن إيمانهم وعبادتهم ؛ حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم
إليه ؛ مع قدرته تعالى على ذلك.
[١١٠٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] مع
أن الهداية سابقة على الإيمان ، لأنه لو لا سبق الهداية لما وجد الإيمان؟
قلنا
: ليس المراد يهد
قلبه للإيمان ، بل المراد يهد قلبه لليقين عند نزول المصائب ، فيعلم أن ما أصابه
لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
الثاني
: يهد قلبه للرضا
والتسليم عند نزول المصائب.
الثالث
: يهد قلبه
للاسترجاع عند نزول المصائب ، وهو أن يقول : (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).
الرابع
: يهد قلبه ، أي
يجعله ممن إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر.
الخامس
: يهد قلبه لاتّباع
السنة إذا صح إيمانه ، وقرئ يهدأ بفتح الدال وبالهمز من الهدوّ وهو السكون ،
فمعناه : ومن يؤمن بالله إيمانا خالصا يسكن قلبه ويطمئن عند نزول المصائب والمحن
ولا يجزع ويقلق.
سورة الطلاق
[١١٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١].
أفرد الخطاب أوّلا
، ثم جمعه ثانيا؟
قلنا
: أفرد سبحانه
النبيّ صلىاللهعليهوسلم أوّلا بالخطاب ؛ لأنّه إمام أمته وقدوتهم ، إظهارا لتقدمه
ورئاسته ؛ وأنه وحده في حكم كلهم وسادّ مسدّ جميعهم.
الثاني
: أنّ معناه : يا
أيها النبيّ قل لأمتك إذا طلقتم النساء.
[١١٠٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ، ٣]
، ونحن نرى كثيرا من الأتقياء مضيقا عليهم رزقهم؟
قلنا
: معناه يجعل له
مخلصا من هموم الدنيا والآخرة. وعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن
شدائد يوم القيامة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ينجيه من كلّ كرب في الدّنيا
والآخرة. والصحيح أنّ هذه الآية عامة ، وأن الله يجعل لكلّ متّق مخرج من كلّ ما
يضيق على من لا يتقي ؛ ولهذا قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم (وَمَنْ يَتَّقِ) [الطلاق : ٢] وجعل
يقرؤها ويعيدها». وأما تضييق رزق الأتقياء فهو ، مع ضيقه وقلته ، يأتيهم من حيث لا
يأملون ولا يرجون ؛ وتقليله لطف بهم ورحمة ليتوفر حظهم في الآخرة ويخف حسابهم ،
ولتقل عوائقهم عن الاشتغال بمولاهم ، ولا يشغلهم الرخاء والسعة عما خلقوا له من
الطاعة والعبادة ، ولهذا اختار الأنبياء والأولياء والصديقون الفقر على الغنى.
[١١٠٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣] ، أي
من يتق به فيما نابه كفاه الله شر ما أهمه. وقد رأينا كثيرا من الناس يتوكل على
الله في بعض أمورهم وحوائجهم ولا يكفيهم الله تعالى همها؟
قلنا
: محال أنه يتوكل
على الله حقّ التوكل ولا يكفيه همه ؛ بل ربما قلق وضجر واستبطأ قضاء حاجته بقلبه
أو بلسانه أيضا ففسد توكّله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق : ٣] ، أي
نافذ حكمه ، يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب ، وبقوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً) [الطلاق : ٣] ، أي
جعل
لكلّ شيء من الفقر
والغنى والمرض والصحة والشّدة والرخاء ونحو ذلك أجلا ومنتهى ينتهي إليه لا يتقدم
عنه ولا يتأخر.
[١١٠٧] فإن قيل : قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ) [الطلاق : ٤] علقه
بشكنا ، مع أن عدتهن ذلك سواء وجد شكنا أم لا؟
قلنا
: المراد بالشك
الجهل بمقدار عدة الآيسة والصغيرة ، وإنما علقه به ؛ لأنه لمّا نزل بيان عدة ذوات
الأقراء في سورة البقرة قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : قد بقي الكبار والصغار لا
ندري كم عدتهن ، فنزلت هذه الآية على هذا السبب ، فلذلك جاءت مقيدة بالشك والجهل.
[١١٠٨] فإن قيل : إذا كانت المطلقة طلاقا بائنا تجب لها النفقة
عند بعض العلماء ، فما فائدة قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) [الطلاق : ٦] ،
عند ذلك القاتل؟
قلنا
: فائدته أن لا
يتوهم أنه إذا طالت مدة الحمل بعد الطلاق حتى مضت مدة عدة الحامل سقطت النفقة ،
فنفى هذا الوهم بقوله : (أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤].
[١١٠٩] فإن قيل : كيف قال هنا (آتاها سَيَجْعَلُ
اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧] وقال
تعالى في موضع آخر : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً) [الشرح : ٦] فكيف
التوفيق بينهما؟
قلنا
: المراد بقوله
تعالى (مَعَ) بعده ؛ لأن الضدين لا يجتمعان.
[١١١٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً
وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) [الطلاق : ٨] ،
فنسب العتوّ إليها ، وقال تعالى : (فَحاسَبْناها
وَعَذَّبْناها) [الطلاق : ٨] ،
بلفظ الماضي ؛ مع أن الحساب والعذاب المرتبين على العتو إنما هما في الآخرة لا في
الدنيا؟
قلنا
: معناه عتا أهلها
، وإنما جيء به على لفظ الماضي تحقيقا له وتقريرا ، لأن المنتظر من وعد الله تعالى
ووعيده آت لا محالة ، وما هو كائن فكأنه قد حصل ، ونظيره قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : ٥٠] ،
وما أشبهه.
__________________
سورة التحريم
[١١١١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) [التحريم : ٤] إن
كان المراد به الفرد ، فأي فرد هو ؛ وأيضا فإنه لا يناسب مقابلة الملائكة الذين هم
جمع ؛ وإن كان المراد به الجمع فهلا كان مكتوبا في المصحف بالواو؟
قلنا
: هو فرد أريد به
الجمع كقولك : لا يفعل هذا الفعل الصالح من الناس ، تريد به الجنس كقولك : لا
يفعله من صلح منهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩]
وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢] وقوله
تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧]
وقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً) [غافر : ٦٧].
ونظائره كثيرة.
الثاني
: أنه يجوز أن يكون
جمعا ، ولكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف
على اللفظ دون اصطلاح الخط.
[١١١٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] ؛
ولم يقل ظهراء ، وهو خبر عن الجمع ، وهم الملائكة؟
قلنا
: هو فرد وضع موضع
الجمع كما سبق.
الثاني
: اسم على وزن
المصدر كالزميل والدبيب والصليل ، فيستوي فيه الفرد والتثنية والجمع.
الثالث
: أن فعيلا يستوي
فيه الواحد والاثنان والجمع بدليل قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧].
[١١١٣] فإن قيل : قوله تعالى (بَعْدَ ذلِكَ) [التحريم : ٤]
تعظيم للملائكة ومظاهرتهم ، وقد تقدمت نصرة الله تعالى وجبريل وصالح المؤمنين ،
ونصرة الله سبحانه أعظم؟
قلنا
: مظاهرة الملائكة
من جملة نصرة الله تعالى ، فكأنه فضل نصرته بهم على سائر وجوه نصرته لفضلهم وشرفهم
، ولا شك أن نصرته بجميع الملائكة أعظم من نصرته بجبريل وحده أو بصالح المؤمنين.
[١١١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) [التحريم : ٥] إلى
آخر الآية ، فأثبت الخيرية لهن باتصافهن بهذه الصفات ، وإنما تثبت لهن الخيرية
بهذه الصفات لو لم تكن تلك الصفات ثابتة في نساء النبيّ صلىاللهعليهوسلم وهي ثابتة فيهن؟
قلنا
: المراد به خيرا
منكن في حفظ قلبه ومتابعة رضاه ، مع اتصافهن بهذه الصفات المشتركة بينكن وبينهن.
[١١١٥] فإن قيل : كيف أخليت الصفات كلها عن الواو وأثبتت بين
الثيبات والأبكار؟
قلنا
: لأنهما صفتان
متضادتان لا تجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات ، فلم يكن بدّ من الواو ، ومن جعلها
واو الثمانية فقد سها ؛ لأن واو الثمانية لا يفسد الكلام بحذفها بخلاف هذه.
[١١١٦] فإن قيل : هذه الصفات إنما ذكرت في معرض المدح ، وأيّ مدح
في كونهن ثيبات؟
قلنا
: التثييب مدح من
وجه ، فإن الثيّب أقبل للميل بالنقل ، وأكثر تجربة وعقلا ، والبكارة مدح من وجه
فإنها أطهر وأطيب وأكثر مراغبة وملاعبة.
[١١١٧] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ؛
بعد قوله سبحانه : (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ) [التحريم : ٦]؟
قلنا
: قيل المراد
بالأمر الأول الأمر بالعبادات والطاعات ، وبالأمر الثاني الأمر بتعذيب أهل النار. وقيل
: هو تأكيد.
[١١١٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ولم
يقل توبة نصوحة؟
قلنا
: لأنّ فعولا من
أوزان المبالغة الذي يستوي في لفظه الذكور والإناث ، كقولهم : امرأة صبور وشكور
ونحوهما.
[١١١٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (مِنْ عِبادِنا) ؛ بعد قوله تعالى : (كانَتا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ) [التحريم : ١٠].
قلنا
: فائدته مدحهما
والثناء عليهما بإضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص ، كما في قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) [الفرقان : ٦٣] ،
وقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي
عِبادِي) [الفجر : ٢٩]. وهو
مبالغة في المعنى المقصود. وهو أن الإنسان لا ينفعه إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره ؛
وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى.
[١١٢٠] فإن قيل : وكيف قال تعالى : (وَكانَتْ مِنَ
الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢]
ولم يقل سبحانه من القانتات؟
قلنا
: معناه كانت من
القوم القانتين ، أي المطيعين لله تعالى ، يعني رهطها وأهلها ، فكأنه تعالى قال :
وكانت من بنات الصالحين. وقيل : إن الله تعالى لما تقبلها في النذر وأعطاها مرتبة الذّكور
الذين كان لا يصلح النذر إلا بهم ، عاملها معاملة الذكور في بعض الخطاب إشارة إلى
ذلك ، وقال تعالى : (وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣] ،
وقال تعالى : (وَكانَتْ مِنَ
الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢] ،
أو رعاية للفواصل.
سورة الملك
[١١٢١] فإن قيل : ما فائدة تقديم الموت على الحياة في قوله تعالى
: (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ)؟ [الملك : ٢].
قلنا
: إنما قدم سبحانه
الموت لأنه هو المخلوق أوّلا. قال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد به خلق الموت في
الدنيا والحياة في الآخرة ، ولو سلّم أن المراد به الحياة في الدنيا فالموت سابق
عليها لقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨].
[١١٢٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ؛ مع
أن في خلقه سبحانه تفاوتا عظيما ، فإن الأضداد كلها من خلقه عزوجل وهي متفاوتة ؛ والسموات أيضا متفاوتة في الصغر والكبر
والارتفاع والانخفاض وغير ذلك؟
قلنا
: المراد بالتفاوت
هنا الخلل والعيب والنقصان في مخلوقه تعالى الذي هو السموات ، ويؤيده قوله تعالى :
(فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] ، أي
من شقوق وصدوع في السماء.
[١١٢٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] ،
والله سبحانه وتعالى ليس في السماء ولا في غير السماء ؛ بل هو سبحانه منزه عن كل
مكان؟
قلنا
: من ملكوته في
السماء ؛ لأنّها مسكن ملائكته ، ومحل عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل
أقضيته وكتبه وأوامره ونواهيه.
الثاني
: أنهم كانوا
يعتقدون التشبيه ، وأنه سبحانه وتعالى في السماء ، فخوطبوا على حسب اعتقادهم.
سورة ن (القلم)
[١١٢٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يَسْتَثْنُونَ) [القلم : ١٨] أي
ولا يقولون إن شاء الله فسمّى الشرط استثناء؟
قلنا
: إنما سماه
استثناء لأنه في معناه ، فإن معنى قولك لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء
الله واحد. وقال عكرمة : المراد به حقيقة الاستثناء : أي أنهم لا يستثنون حقّ
المساكين. والجمهور على الأول.
[١١٢٥] فإن قيل : كيف سمّى أوسطهم الاستثناء تسبيحا فقال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا
تُسَبِّحُونَ) [القلم : ٢٨] ، أي
لو لا تستثنون؟
قلنا
: إنما سماه تسبيحا
لاشتراكهما في معنى التعظيم ؛ لأن الاستثناء تفويض إليه وإقرار بأنه لا يقدر أحد
أن يفعل فعلا إلا بمشيئته ، والتسبيح تنزيه له عن السوء.
الثاني
: أنه كان
استثناؤهم قول سبحان الله.
الثالث
: أنّ معناه لو لا
تنزهون أنفسكم وأموالكم عن حقّ الفقراء.
[١١٢٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقَدْ كانُوا
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [القلم : ٤٣] ولا
تكليف في الدار الآخرة؟
قلنا
: لا يدعون إليه
تكليفا وتعبّدا ، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركه في الدنيا.
[١١٢٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقَدْ كانُوا
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [القلم : ٤٣] ،
وهم إنّما كانوا يدعون إلى الصلاة ، فإن المراد بالآية دعاؤهم إلى الجماعات بأذان
المؤذن ، حين يقول حي على الصلاة؟
قلنا
: عبر سبحانه عن
الصلاة بالسجود لأنه من أركانها ، بل هو أعظم الأركان وغايتها ، كما عبر عنها
بالركوع وبالقرآن.
[١١٢٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣] أي
صحيحون ، مع أن الصحة ليست شرطا لوجوب الصلاة؟
قلنا
: وجوب الخروج إلى
الصلاة بالجماعة مشروط بالصحة وهو المراد.
سورة الحاقة
[١١٢٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) [الحاقة : ٦] ؛
ولم يقل صرصرة ، كما قال تعالى : (عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٦] ،
وهو صفة لمؤنث ؛ لأنها الشديدة الصوت ، أو الشديدة البرد؟
قلنا
: لأنّ الصرصر وصف
مخصوص بالرّيح لا يوصف به غيرها ، فأشبه باب حائض وطامث وحامل ، بخلاف عاتية فإن
غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به.
[١١٣٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ
فِيها صَرْعى) [الحاقة : ٧] ، أي
في تلك الليالي والأيام ، والنبيّ صلىاللهعليهوسلم ما رآهم ولا يراهم فيها؟
قلنا
: فيها ظرف لقوله
تعالى (صَرْعى) ، لا لقوله تعالى (فَتَرَى) ، والرؤية هنا من رؤية العلم والاعتبار ، فصار المعنى
فتعلمهم صرعى في تلك الليالي والأيام بإعلامنا حتى كأنك تشاهدهم.
[١١٣١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] إلى
قوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ) [الحاقة : ١٨] ،
والمراد بها هنا النفخة الأولى ، وهي نفخة الصعق ؛ بدليل ما ذكر بعدها من فساد
العالم العلوي والسفلي ، والعرض إنما يكون بعد النفخة الثانية ، وبين النفختين من
الزمان ما شاء الله تعالى فكيف قال سبحانه (يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ) [الحاقة : ١٨].
قلنا
: وضع اليوم موضع
الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان وما بعدهما.
[١١٣٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ
أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠]؟
قلنا
: معناه تيقنت.
والظنّ يطلق بمعنى اليقين ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦].
[١١٣٣] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف أهل النار : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ
وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٥ ، ٣٦].
وقال سبحانه ، في موضع آخر : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦] ،
وفي موضع آخر : (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤]
، وفي موضع آخر : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ
فَمالِؤُنَ
مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة : ٥١ ـ ٥٣]
، وفي موضع آخر : (أُولئِكَ ما
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) [البقرة : ١٧٤].
قلنا
: معناه إلا من
غسلين وما أشبهه ، أو وضع الغسلين موضع كل طعام مؤذ كريه.
الثاني
: أن العذاب ألوان
والمعذبون طبقات ؛ فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع ،
لكل باب منهم جزء مقسوم.
[١١٣٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٤٠] ،
يعني أن القرآن قول جبريل عليهالسلام ؛ مع أنه قول الله تعالى لا قول جبريل؟
قلنا
: معناه ، عند
الأكثرين ، أن المراد به النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى أنه يقوله ويتكلم به على وجه الرّسالة من عند
الله ، لا من تلقاء نفسه ، كما تزعمون.
[١١٣٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] ؛
فوصف الفرد بالجمع؟
قلنا
: قد سبق مثل هذا
السؤال وجوابه في آخر سورة البقرة.
سورة المعارج
[١١٣٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ
هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] ؛
ويفسره ما بعده والإنسان في حال خلقه ما كان موصوفا بهذه الصفات؟
قلنا
: هلوعا حال مقدرة.
فالمعنى مقدرا فيه الهلع كما في قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ
رُؤُسَكُمْ) [الفتح : ٢٧] ،
وهم ليسوا محلقين حال الدخول.
[١١٣٧] فإن قيل : كيف قال تعالى أوّلا : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ) [المعارج : ٢٣] ،
ثم قال تعالى ثانيا : (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المعارج : ٣٤] ؛
فهل بينهما فرق؟
قلنا
: المراد بالدوام
المواظبة والملازمة أبدا. وقيل : المراد به سكونهم فيها بحيث لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ؛
واختاره الزجاج ، وقال : اشتقاقه من الدائم بمعنى الساكن ، كما جاء في الحديث : «أنه
صلىاللهعليهوسلم نهى عن البول في الماء الدّائم». قلت : وقوله «على» ينفي
هذا المعنى ؛ فإنّه لا يقال هو على صلاته ساكن ؛ بل يقال : هو في صلاته ساكن.
والمراد بالمحافظة عليها أداؤها على أكمل وجوهها ، جامعة لجملة سننها وآدابها ؛
فالدّوام يرجع إلى نفس الصلاة ، والمحافظة إلى أحوالها.
__________________
سورة نوح (عليهالسلام)
[١١٣٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) [نوح : ٤] ، فإن
كان المراد به تأخيرهم عن الأجل المقدر لهم في الأزل فهو محال ، لقوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا
جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١]
، وقوله تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ
إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح : ٤] ، وإن
كان المراد به تأخيرهم إلى مجيء الأجل المقدّر لهم في الأزل ، فما فائدة تخصيصهم
بهذا وهم وغيرهم في ذلك سواء ، على تقدير وجود الإيمان منهم وعدم وجوده؟
قلنا
: معناه ويؤخركم عن
العذاب إلى منتهى آجالكم على تقدير الإيمان ، فلا يعذّبكم في الدنيا ، كما عذّب
غيركم من الأمم الكافرة فيها.
الثاني
: أنه سبحانه قضى
أنهم إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن لم يؤمنوا أهلكهم بالعذاب لتمام خمسمائة سنة ،
فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى هذا الأجل.
[١١٣٩] فإن قيل : كيف أمرهم بالاستغفار ، والاستغفار إنما يصح من
المؤمن دون الكافر؟
قلنا
: معناه استغفروا
ربكم من الشرك بالتوحيد.
[١١٤٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ،
والحيوان ضد النبات ، فكيف يطلق على الحيوان أنه نبات؟
قلنا
: هو استعارة
للإنشاء والإخراج من الأرض بواسطة آدم عليهالسلام.
[١١٤١] فإن قيل : كيف دعا نوح عليهالسلام على قومه بقوله : (وَلا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) [نوح : ٢٤] ؛ مع
أنه أرسل ليهديهم ويرشدهم؟
قلنا
: إنما دعا عليهم
بذلك بعد ما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون.
[١١٤٢] فإن قيل : كيف قال نوح : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا
فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] وصفهم
بالفجور والكفر في حال ولادتهم وهم أطفال ، وكيف علم أنهم لا يلدون إلا فاجرا
كفارا؟
قلنا
: إنهم لا يلدون
إلا من يفجر ويكفر إذا بلغ ، وإنما علم ذلك بإعلام الله تعالى ، أو وصفهم بما
يئولون إليه من الفجور والكفر ؛ وعلم ذلك بإعلام الله إيّاه.
سورة الجن
[١١٤٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا
قامَ عَبْدُ اللهِ) [الجن : ١٩] ، ولم
يقل سبحانه رسول الله أو نبيّ الله ، والمراد به النبيّ صلىاللهعليهوسلم؟
قلنا
: لأنه صلىاللهعليهوسلم لم يكن في ذلك المقام مرسلا إليهم ؛ بل اتفق مرورهم به
وجوازهم عليه ؛ فلو قال تعالى رسول الله أو نبي الله لأوهم ذلك قصد أداء الرسالة
إليهم.
[١١٤٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) [الجن : ٢٥] مع أن
الأمد اسم للغاية ، والغاية تكون زمانا قريبا وزمانا بعيدا ، ويؤيده قوله تعالى : (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ
أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠].
قلنا
: أراد بالقريب
الحال ، وبالمجعول له الأمد المؤجل ؛ سواء كان الأجل قريبا أو بعيدا.
سورة المزمّل
[١١٤٥] فإن قيل : ما معنى وصف القرآن بالثقل في قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً
ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنه كان يثقل
نزول الوحي على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، حتى يعرق عرقا شديدا في اليوم الشاتي.
الثاني
: أن العمل بما فيه
من التكاليف ثقيل شاق.
الثالث
: ثقيل في الميزان
يوم القيامة.
الرابع
: أنّه ثقيل على
المنافقين.
الخامس
: أنه كلام له وزن
ورجحان ، كما يقال للرجل العاقل : رزين راجح.
السادس
: أنّه ليس بسفساف ؛
لأنّ السفساف من الكلام يكون خفيفا.
[١١٤٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) [المزمل : ١٨] ،
ولم يقل سبحانه منفطرة به ، والسماء مؤنثة؟
قلنا
: هو على النسبة ،
أي ذات انفطار. وقيل : ذكر السماء على معنى السقف.
وقيل : معناه السماء شيء منفطر به. وقيل
: السماء تذكر
وتؤنث.
[١١٤٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [المزمل : ٢٠] ولم
يقل تعالى أن لن تحصوهما ، أي لن تعرفوا تحقيق مقادير ساعات اللّيل والنهار؟
قلنا
: الضمير عائد إلى
مصدر يقدر معناه : لن تحصوا تقديرهما.
سورة المدّثر
[١١٤٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ١٠] ؛
بعد قوله سبحانه : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ) [المدثر : ٩ ، ١٠].
قلنا
: قيل معناه أنه
عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا ، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. وقيل
: إنه تأكيد.
[١١٤٩] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) [المدثر : ٢٨] ،
ومعناهما واحد؟
قلنا
: معناه لا تبقي
للكفار لحما ولا تذر لهم عظما. وقيل : معناه لا تبقيهم أحياء ولا تذرهم أمواتا.
[١١٥٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يَرْتابَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) [المدثر : ٣١] ،
وما سبق من وصفهم بالاستيقان وازدياد الإيمان دلّ على انتفاء الارتياب.
والجمل كلها
متعلقة بعدد خزنة النار ؛ والمعنى ليستيقن الّذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم حق ؛ حيث أخبر عن عدد خزنة النار بمثل ما في التوراة ،
ويزداد الّذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا بالنّبيّ صلىاللهعليهوسلم والقرآن ؛ حيث
وجدوا ما أخبرهم به مطابقا لما في كتابهم؟
قلنا
: فائدته التأكيد
والتعريض أيضا بحال من عداهم من الشّاكين ، وهم الكفار والمنافقون ؛ فمعناه : ولا
يرتاب هؤلاء ، كما ارتاب أولئك.
[١١٥١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ
بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦] ،
يعني حصر عدد الخزنة في تسعة عشر ، وذلك ليس بمثل.
قلنا
: هو استعارة من
المثل المضروب مما وقع غريبا وبديعا في الكلام استغرابا منهم لهذا العدد واستبعادا
له ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأيّ حكمة قصد في جعل الخزنة
تسعة عشر لا عشرين.
الثاني
: أن المثل هنا
بمعنى الصفة ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥].
والمعنى : ما ذا أراد الله بهذا العدد صفة للخزنة.
[١١٥٢] فإن قيل : كيف طابق قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢] ،
وهو سؤال للمجرمين
، قوله تعالى : (يَتَساءَلُونَ عَنِ
الْمُجْرِمِينَ) [المدثر : ٤٠ ، ٤١]
، وهو سؤال عنهم ؛ وإنّما المطابق يسألون المجرمين أو يتساءلون عن المجرمين ما
سلكهم في سقر ، أي يسأل أهل الجنّة بعضهم بعضا عن أهل النار؟
قلنا
: قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ) [المدثر : ٤٢] ليس
بيانا للتساؤل عنهم ؛ وإنما هو حكاية قول المسئولين عن المجرمين ، فالمسئولون من
أهل الجنة ألقوا إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، وذلك أن المؤمنين إذا
أخرجهم الله تعالى من النار بعد ما عذبهم بقدر ذنوبهم وأدخلهم الجنة يسألهم بعض
أصحاب اليمين عن حال المجرمين ، وسبب تخليدهم ؛ فقال المسئولون : قلنا لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢]
الآية ؛ وهؤلاء المؤمنون بعد إخراجهم من النار وإدخالهم الجنة صاروا من أصحاب
اليمين. وقيل : المراد بأصحاب اليمين الملائكة عليهمالسلام. وقيل : الأطفال لأنّهم لا يرتهنون بذنوب إذ لا ذنوب لهم.
سورة القيامة
[١١٥٣] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة : ١٨] ؛
والقارئ على النبيّ صلىاللهعليهوسلم إنّما هو جبرائيل عليهالسلام؟
قلنا
: معناه فإذا
جمعناه في صدرك ؛ ويؤيده أول الآية : (إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] ،
أي إنّ علينا جمعه وضمّه في صدرك ، فلا تعجل بقراءته قبل أن يتم حفظه. وقيل
: إنما أضيفت
القراءة إلى الله تعالى ، لأن جبريل عليهالسلام يقرؤه بأمره ، كما تضاف الأفعال إلى الملوك والأمراء بمجرد
الأمر ؛ مع أنّ المباشر لها أعوانهم أو أتباعهم.
[١١٥٤] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ،
٢٣] ، والذي يوصف بالنظر الذي هو الإبصار والإدراك إنما هو العين دون الوجه؟
قلنا
: قيل إن المراد
بالوجوه هنا السعداء وأهل الوجاهة يوم القيامة ، لا الوجه الذي هو العضو ؛ ولا أرى
هذا الجواب مطابقا لقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
باسِرَةٌ) [القيامة : ٢٤] ؛
لأن العبوس والقطوب إنّما يوصف به الوجه الذي هو العضو. ومما يؤيد أنّ المراد
بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ) [القيامة : ٢٢]
الأعضاء المعروفة ، قوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤].
[١١٥٥] فإن قيل : النطفة المني ، فما فائدة قوله تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنى) [القيامة : ٣٧]؟
قلنا
: النطفة استعملت
هنا بمعنى القطرة ؛ لأن النطفة تطلق على الماء القليل والكثير ، ومنه الحديث : «حتّى
يسير الرّاكب بين النطفتين لا يخشى جوازا». أراد بحر المشرق والمغرب.
سورة الإنسان
[١١٥٦] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢]
فوصف المفرد وهي النطفة بالجمع وهو الأمشاج لأنّه جمع مشج ، والأمشاج الأخلاط ،
والمراد أنّه مخلوق من نطفة مختلطة من ماء الرّجل والمرأة؟
قلنا
: قال الزمخشري
رحمة الله تعالى عليه : أمشاج لفظ مفرد لا جمع ، كقولهم : برمة أعشار ، وبيت أكباش
، وبر أهدام. وقال غيره الموصوف به أجزاء النطفة وأبعاضها.
[١١٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (نَبْتَلِيهِ
فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان : ٢] ،
والابتلاء متأخر عن جعله سميعا بصيرا؟
قلنا
: قال الفراء : فيه
تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه. وقال غيره : معناه ناقلين له من
حال إلى حال نطفة ثم علقة ثم مضغة ، فسمى ذلك ابتلاء استعارة.
[١١٥٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها
تَقْدِيراً) [الإنسان : ١٦]
والقوارير اسم لما يتخذ من الزّجاج؟
قلنا
: معناه أن تلك
الأكواب مخلوقة من فضة ، وهي مع بياض الفضّة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. قال
ابن عباس رضي الله عنهما : لو ضربت فضة الدّنيا حتى جعلتها جناح الذباب لم ير
الماء من ورائها ، وقوارير الجنة من فضة ويرى ما فيها من ورائها.
[١١٥٩] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (كانَتْ قَوارِيرَا) [الإنسان : ١٥]؟
قلنا
: معناه تكونت ،
فهي من قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، وكذا
قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها
كافُوراً) [الإنسان : ٥].
__________________
[١١٦٠] فإن قيل : كيف شبه الله تعالى الولدان باللؤلؤ المنثور دون
المنظوم؟
قلنا
: إنما شبههم
سبحانه وتعالى باللؤلؤ المنثور ؛ لأنه أراد تشبيههم باللؤلؤ الذي لم يثقب بعد ؛
لأنه إذا ثقب نقصت مائيته وصفاؤه ، واللؤلؤ الذي لم يثقب لا يكون إلا منثورا. وقيل
: إنّما شبههم الله
تعالى باللؤلؤ المنثور لأن اللؤلؤ المنثور على البساط أحسن منظرا من المنظوم. وقيل
: إنّما شبههم
باللؤلؤ المنثور لانتشارهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وتفريقهم في الخدمة
بدليل قوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) [الإنسان : ١٩] ،
ولو كانوا وقوفا صفا لشبهوا بالمنظوم.
[١١٦١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١] ؛
مع أنّ ذلك في الدّنيا إنما هو عادة الإماء ومن في مرتبتهن؟
قلنا
: القرآن أول من
خوطب به العرب ، وكان من عادة رجالهم ونسائهم من بيت المملكة التحلي بالذّهب
والفضّة منفردين ومجتمعين :
الثاني
: أن الاسم وإن كان
مشتركا بين فضّة الدّنيا والآخرة ، ولكن شتّان ما بينهما! قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «المثقال من فضّة الآخرة خير من الدّنيا وما فيها». وكذا
الكلام في السندس والإستبرق وغيرهما ممّا أعده الله تعالى في الجنة.
[١١٦٢] فإن قيل : أيّ شرف لتلك الدّار يسقي الله تعالى عباده
الشّراب الطّهور فيها ؛ مع أنه تعالى في الدنيا سقاهم ذلك بدليل قوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [المرسلات : ٢٧] ،
وقوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) [الحجر : ٢٢].
قلنا
: المراد به في
الآخرة سقيهم بغير واسطة ، وشتّان ما بين الشرابين! والآنيتين أيضا ، والمنزلتين! [١١٦٣] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] ،
الضمير لمشركي مكّة بلا خلاف ؛ فما معنى تقسيمهم إلى الآثم والكفور ، وكلهم آثم
وكلّهم كفور؟
قلنا
: المراد بالآثم
عتبة بن ربيعة ، فإنه كان ركّابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق ؛ والمراد بالكفور
الوليد بن المغيرة ، فإنه كان متغاليا في الكفر شديد الشكيمة فيه ؛ مع أن كليهما
آثم وكافر ، والمراد به نهيه عن طاعتهم فيما كانوا يدعونه إليه من ترك الدّعوة
وموافقتهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلال.
__________________
[١١٦٤] فإن قيل : ما معنى النهي عن طاعة أحدهما ، وهلّا نهى عن
طاعتهما؟
قلنا
: قال بعضهم إن أو
هنا بمعنى الواو كما في قوله تعالى : (أَوِ الْحَوايا) [الأنعام : ١٤٦].
الثاني
: أنه لو قال تعالى
: ولا تطعهما جاز له أن يطيع أحدهما ، وأما إذا قيل له : ولا تطع أحدهما كان منهيا
عن طاعتهما بالضّرورة.
[١١٦٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى ، هنا : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) [الإنسان : ٢٨] أي
خلقهم ، وقال تعالى ، في موضع آخر : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨]؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما والأكثرون : المراد به أنه ضعيف عن الصبر عن النساء ، فلذلك أباح
الله تعالى له نكاح الأمة كما سبق قبل هذه الآية. وقال الزّجّاج : معناه أنه يغلبه
هواه وشهوته فلذلك وصف بالضعف. وأما قوله تعالى : (وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ) [الإنسان : ٢٨]
فمعناه ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب. وقيل
: المراد بالأسر
العصعص ، فإن الإنسان في القبر يصير رفاتا إلا عصعصة فإنه لا يتفتت. وقال مجاهد :
المراد بالأسر مخرج البول والغائط ، فإنه يسترخي ، حتى يخرج منه الأذى ، ثم ينقبض
ويجتمع ويشتد بقدرة الله تعالى.
سورة المرسلات
[١١٦٦] فإن قيل : قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ) [المرسلات : ٣٥]
ينفي وجود الاعتذار منهم ؛ لأنّ الاعتذار إنّما يكون بالنّطق ، فما فائدة نفي
الاعتذار ، بعد نفي النطق؟
قلنا
: معناه أنهم لا
ينطقون ابتداء بعذر مقبول وحجة صحيحة. ولا بعد أن يؤذن لهم في الاعتذار ؛ فإن
الأسير والجاني الخائف عادة قد لا ينطق لسانه بعذره وحجّته ابتداء لفرط خوفه
ودهشته ؛ ولكن إذا أذن له في إظهار عذره وحجته انبسط وانطلق لسانه ؛ فكانت الفائدة
في الجملة.
الثاني
: نفي هذا المعنى :
أي لا ينطقون بعذر ابتداء ولا بعد الإذن.
[١١٦٧] فإن قيل : قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) [غافر : ٥٢] ، يدل
على وجود الاعتذار منهم ، فكيف التوفيق بينه وبين ما نحن فيه؟
قلنا
: قيل المراد بتلك
الظالمون من المسلمين ، وبما نحن فيه الكافرون. وآخر تلك الآية يضعف هذا الجواب ،
أي قوله : (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥٢].
سورة النبأ
[١١٦٨] فإن قيل : كيف اتصل وارتبط قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] بما
قبله؟
قلنا
: لمّا كان النبأ
العظيم الذي يتساءلون عنه هو البعث والنشور وكانوا ينكرونه ، قيل لهم : ألم يخلق
من وعد بالبعث والنشور هذه المخلوقات العظيمة العجيبة الدّالة على كمال قدرته على
البعث.
[١١٦٩] فإن قيل : لو كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه ما ذكرتم
، لما قال الله تعالى الذي هم فيه مختلفون ؛ لأن كفار مكّة لم يختلفوا في أمر
البعث ؛ بل اتفقوا على إنكاره؟
قلنا
: كان فيهم من يقطع
القول بإنكاره ، وفيهم من يشك فيه ويتردد فثبت الاختلاف ؛ لأن جهة الاختلاف لا
تنحصر في الجزم بإثباته والجزم بنفيه.
الثاني
: أن بعضهم صدّق به
فآمن ، وبعضهم كذّب به فبقي على كفره ؛ فثبت الاختلاف بالنفي والإثبات.
الثالث
: أنّ الضمير في
يتساءلون وفي هم عائد إلى الفريقين من المسلمين والمشركين ؛ وكلهم كانوا يتساءلون
عنه لعظم شأنه عندهم ، فصدق به المسلمون فأثبتوه ، وكذب به المشركون فنفوه.
[١١٧٠] فإن قيل : قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ مَآباً) [النبأ : ٣٩] هو
جزاء الشّرط فأين الشّرط ؛ وشاء وحده لا يصلح شرطا ؛ لأنه لا يفيد بدون ذكر مفعوله
، وإن كان المذكور هو الشّرط فأين الجزاء؟
قلنا
: معناه فمن شاء
النجاة من اليوم الموصوف اتّخذ إلى ربه مرجعا بطاعته.
الثاني
: أنّ معناه فمن
شاء أن يتّخذ إلى ربه مآبا ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، أي
فمن شاء الإيمان فليؤمن ، ومن شاء الكفر فليكفر.
سورة النازعات
[١١٧١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ وَالنَّاشِطاتِ) [النازعات : ١ ، ٢]
؛ ذكرها بلفظ التأنيث ، وكذا ما بعده ، والكل أوصاف الملائكة ، والملائكة ليسوا
إناثا؟
قلنا
: هو قسم بطوائف
الملائكة وفرقها ، والطوائف والفرق مؤنثة.
[١١٧٢] فإن قيل : كيف أضاف الله تعالى الإبصار إلى القلوب في قوله
تعالى : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ
واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ) [النازعات : ٨ ، ٩]
، أي ذليلة لمعاينة العذاب ؛ والمراد بها الأعين بلا خلاف؟
قلنا
: المراد أبصار
أصحابها بدليل قوله تعالى : (يَقُولُونَ) [النازعات : ١٠].
[١١٧٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) [النازعات : ٢٠] ؛
مع أن موسى عليه الصلاة والسلام أراه الآيات كلها ؛ بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها
فَكَذَّبَ) [طه : ٥٦] ، وكل
آية كبرى؟
قلنا
: الإخبار في هذه
الآية عن أوّل ملاقاته إياه ، وإنما أراه في أوّل ملاقاته العصا واليد ، فأطلق
عليهما الآية الكبرى لاتحاد معناهما. وقيل
: أراد بالآية
الكبرى العصا ؛ لأنها كانت المقدمة ، والأصل ، والأخرى كالتّبع لها ؛ لأنه كان يتبعها
بيده ؛ فقيل له أدخل يدك في جيبك.
[١١٧٤] فإن قيل : كيف أضاف الله تعالى اللّيل إلى السماء ، بقوله
تعالى : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) [النازعات : ٢٩] ؛
مع أنّ اللّيل إنّما يكون في الأرض لا في السماء؟
قلنا
: إنما أضافه إليها
لأنه أوّل ما يظهر عند غروب الشمس إنما يظهر من أفق السماء من موضع الغروب ، وأمّا
قوله تعالى : (وَأَخْرَجَ ضُحاها) [النازعات : ٢٩]
فالمراد به ضوء الشمس بدليل قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] ، أي
وضوئها فلا إشكال في إضافته إليها.
سورة عبس
[١١٧٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) [عبس : ١١] ، ثم
قال سبحانه وتعالى : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [عبس : ١٢] ، ولم
يقل ذكرها؟
قلنا
: الضمير المؤنث
لآيات القرآن أو لهذه السورة ، والضمير في قوله تعالى ذكره راجع إلى القرآن. وقيل
: راجع إلى معنى
التذكرة وهو الوعظ والتذكير لا إلى لفظها.
[١١٧٦] فإن قيل : في قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٣١] روي أن
عمر رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية وقال : كل هذا قد عرفنا فما الأب؟ ثم قال :
هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب ، ثم قال : اتبعوا ما
تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه ، وهذا شبيه النهي عن تتبع معاني القرآن
والبحث عن مشكلاته؟
قلنا
: لم يرد بقوله ما
ذكرت ، ولكن الصحابة رضي الله عنهم كانت أكثر هممهم عاكفة على العمل ، وكان
الاشتغال بعلم لا يعمل به تكلفا عندهم ، فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على
الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره ، وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله
تعالى للإنسان متاعا له ولأنعامه ، فكأنه قال : عليك بما هو الأهم فالأهم ، وهو
الشكر على ما تبين لك ، ولم يشكل مما عدد من نعمه تعالى ، ولا تتشاغل عنه بطلب
معنى الأب ومعرفة النبات الخاص ، واكتف بمعرفته منه جملة إلى أن يتبين لك في وقت
آخر. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال : أي سماء تظلني وأي
أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله بما لا علم لي به. وأكثر المفسرين قالوا : الأب
كل ما ترعاه البهائم.
سورة التكوير
[١١٧٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير : ٨ ، ٩]
، والسؤال إنّما يحسن للقاتل لا للمقتول؟
قلنا
: إنما سؤالها
لتبكيت قاتلها وتوبيخه بما تقوله من الجواب ، فإنّها تقول : قتلت بغير ذنب ،
ونظيره في التبكيت والتّوبيخ قوله تعالى ، لعيسى عليهالسلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [المائدة : ١١٦] ؛
حتى قال : سبحانك (ما يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة : ١١٦].
[١١٧٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤]
فأثبت العلم لنفس واحدة ؛ مع أن كلّ نفس تعلم ما أحضرت يوم القيامة ؛ بدليل قوله
تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠]؟
قلنا
: هذا مما أريد به
عكس مدلوله ، ومثله كثير في كلام الله تعالى ، وكلام العرب كقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] ؛ فإن
رب هنا بمعنى كم للتكثير ، وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام لقومه :
(وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف : ٥] ، وقول
الشاعر :
قد أترك القرن
مصفرّا أنامله
|
|
كأنّ أثوابه
مجّت بفرصاد
|
__________________
سورة الانفطار
[١١٧٩] فإن قيل : لأيّ
فائدة تخصيص ذكر صفة الكرم دون سائر صفاته في قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦]؟
قلنا
: قال بعضهم :
إنّما قال ذلك لطفا بعبده وتلقينا له حجته وعذره ليقول : غرّني كرم الكريم. وقال
الفضيل رحمهالله : لو سألني الله تعالى هذا السؤال لقلت : غرّني ستورك
المرخاة. وروي أنّ عليّا كرم الله وجهه صاح بغلام له مرات فلم يلبه ، ثم أقبل فقال
: مالك لم تجبني؟ فقال : لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه. ولهذا
قالوا : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. والحقّ أنّ الواجب على الإنسان أن لا يغتر
بكرم الله تعالى وجوده في خلقه إياه وإسباغه النعمة الظاهرة والباطنة عليه فيعصيه
ويكفر نعمته اغترارا بتفضّله الأول ، فإن ذلك أمر منكر خارج عن حدّ الحكمة ، ولهذا
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما قرأها : غرّه جهله. وقال عمر رضي الله تعالى عنه : غره
حمقه وجهله. وقال الحسن : غره والله شيطانه الخبيث الذي زين له المعاصي ، فقال له
: افعل ما شئت فإن ربك كريم.
[١١٨٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ
شَيْئاً) [الانفطار : ١٩]
والنفوس المقبولة الشفاعة تملك لمن شفعت فيه شيئا وهو الشفاعة؟
قلنا
: المنفي ثبوت
النصرة بالملك والسلطنة والشفاعة ليست بطريق الملك والسلطنة فلا تدخل في النفي ،
ويؤيده قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].
وقال مقاتل : المراد بالنفس الثانية الكافرة ، والأصح أنه على العموم في النفسين.
سورة المطففين
[١١٨١] فإن قيل : هلّا قال الله تعالى إذا اكتالوا أو اتزنوا على
الناس يستوفون ، كما قال سبحانه في مقابله (وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ٣]؟
قلنا
: لأنّ المطففين
كانت عادتهم أنهم لا يأخذون ما يكال وما يوزن إلّا بالمكيال ؛ لأنّ استيفاء
الزّيادة بالمكيال كان أمكن لهم وأهون عليهم منه بالميزان ، وإذا أعطوا كالوا أو
وزنوا لتمكنهم من البخس فيهما.
[١١٨٢] فإن قيل : كيف فسر سبحانه وتعالى سجينا بكتاب مرقوم فقال
تعالى : (وَما أَدْراكَ ما
سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين : ٨؟ ٩]
وكذا فسر تعالى عليين به ؛ مع أن سجينا اسم للأرض السابعة ، وهو فعيل من السجن ،
وعليين اسم للجنة أو لأعلى الأمكنة ، أو للسماء السابعة ، أو لسدرة المنتهى؟
قلنا
: قوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين : ٩]
وصف معنوي لكتاب الفجّار ولكتاب الأبرار ، لا تفسير لسجّين ولعليين تقديره : وهو
كتاب مرقوم.
سورة الانشقاق
[١١٨٣] فإن قيل : أين جواب «إذا» في قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١]؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنه متروك لتكرر
مثله في القرآن.
الثاني
: أنه أذنت والواو
فيها زائدة.
الثالث
: أنه محذوف تقديره
بعد قوله تعالى : (وَحُقَّتْ) [الانشقاق : ٢]
بعثتم أو جوزيتم أو لاقيتم ما عملتم ، ودلّ على هذا المحذوف قوله تعالى : (فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦].
الرابع
: أن فيه تقديما
وتأخيرا ، تقديره : (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦] (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١].
سورة البروج
[١١٨٤] فإن قيل : أين جواب القسم؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنه متروك.
الثاني
: أنه قوله تعالى :
(قُتِلَ) [البروج : ٤] أي
لقد قتل ، أي لعن.
الثالث
: أنه قوله تعالى :
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢].
الرابع
: أنه محذوف تقديره
: لتبعثن أو نحوه.
الخامس
: أنّه قوله تعالى
: (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا) [البروج : ١٠].
سورة الطارق
[١١٨٥] فإن قيل : أين جواب القسم؟
قلنا
: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) [الطارق : ٤] فإن
بمعنى ما ، ولمّا بالتّشديد بمعنى إلّا ؛ فيكون المعنى : ما كل نفس إلا عليها حافظ
، ولما بالتخفيف ما فيه زائدة وإن هي المخففة من الثقيلة ، فيكون المعنى : إن كل
نفس لعليها حافظ ، والقسم يتلقى بمعنى إن (كذا).
[١١٨٦] فإن قيل : ما وجه ارتباط قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) [الطارق : ٥] بما
قبله؟
قلنا
: وجهه أنه لما ذكر
أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في أول أمره ونشأته الأولى ؛
ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته ومجازاته ، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، فلا
يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.
[١١٨٧] فإن قيل : ما فائدة الجمع بين فمهّل وأمهل ومعناهما واحد؟
قلنا
: التأكيد ، وإنما
خولف بين اللفظين طلبا للخفة.
سورة الأعلى
[١١٨٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) [الأعلى : ٩] مع
أنه كان صلىاللهعليهوسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع؟
قلنا
: معناه إذ نفعت. وقيل
: معناه قد نفعت. وقيل
: إن نفعت وإن لم
تنفع ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الماوردي أنها بمعنى ما ؛ وكأنه
أراد معنى ما الظرفية ؛ وإن بمعنى ما الظرفية ليس بمعروف.
[١١٨٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى : ١٣] مع
أن الحيوان لا يخلو عن الاتصاف بأحد هذين الوصفين؟
قلنا
: معناه لا يموت
موتا يستريح به ، ولا يحيا حياة ينتفع بها. وقال ابن جرير ، رحمة الله تعالى عليه
: تصعد نفسه إلى حلقومه ، ثم لا تفارقه فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم
فيحيا ؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________________
سورة الغاشية
[١١٩٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ
ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٢ ـ ٤]
؛ مع أنّ جميع أبدانهم أيضا تصلى النار؟
قلنا
: الوجه يطلق ويراد
به جميع البدن كما في قوله تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١١١] وقيل
: إن المراد
بالوجوه هنا الأعيان والرؤساء ، كما يقال : هؤلاء وجوه القوم ، ويا وجه العرب ، أي
ويا وجيههم ، ويؤيد هذا القول ما روي عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما ، أنّه
قال : إن المراد به الرّهبان وأصحاب الصوامع.
[١١٩١] فإن قيل : كيف ارتبط قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧]
بما قبله ، وأيّ مناسبة بين السماء والإبل والجبال والأرض ؛ حتى جمع بينها؟
قلنا
: لما وصف الله
تعالى الجنّة بما وصف ، عجب من ذلك الكفار ، فذكرهم عجائب صنعه. وقال قتادة : لما
ذكر ارتفاع سرر الجنة قالوا : كيف نصعدها؟ فنزلت هذه الآية : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) [الغاشية : ١٧]
نظر اعتبار ، كيف (خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧]
للنهوض بالأثقال وحملها إلى البلاد البعيدة ، وجعلت تبرك حتى تحمل وتركب عن قرب
ويسر ثم تنهض بما حملت ، فليس في الدواب ما يحمل عليه وهو بارك ويطيق النهوض إلا
هي ، وسخرت لكل من قادها حتى الصبي الصغير ، ولما جعلت سفائن البر أعطين الصبر على
احتمال العطش عشرة أيام فصاعدا وجعلت ترعى كل نبات في البراري والمفاوز مما لا
يرعاه سائر البهائم ، وإنما لم يذكر الفيل والزرافة والكركند وغيرها مما هو أعظم
من الجمل ؛ لأن العرب لم يروا شيئا من ذلك ولا كانوا يعرفونه ؛ ولأن الإبل كانت
أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ولا يفارقونها ؛ وإنما جمع بينها وبين ما بعدها
لأن نظر العرب قد انتظم هذه الأشياء في أوديتهم وبواديهم ، فانتظمها الذكر على حسب
ما انتظمها نظرهم وكثرة ملابستهم ومخالتهم ، ومن فسر الإبل بالسحاب والماء قصد
بذلك طلب المناسبة بطريق تشبيه الإبل
__________________
بالسحاب في السير
وفي النشط أيضا ، في بعض الأوقات ؛ لا أنه أراد أنّ المراد من الإبل السحاب حقيقة.
وقد جاء في أشعار العرب تشبيه السحاب بالإبل كثيرا ، وقد شبهه ابن دريد أيضا
بالسّحاب في قصيدته. وقرأ أبيّ بن كعب وعائشة رضي الله عنهما الإبل بتشديد اللام.
قال أبو عمرو وهو اسم للسحاب الذي يحمل الماء ، والله أعلم.
سورة الفجر
[١١٩٢] فإن قيل : كيف نكر الليالي العشر دون سائر ما أقسم به ،
وهلّا عرّفها بلام العهد وهي ليالي معلومة معهودة فإنها ليالي عشر ذي الحجة في قول
الجمهور؟
قلنا
: لأنها مخصوصة من
بين جنس الليالي العشر بفضيلة ليست لغيرها فلم يجمع بينها وبين غيرها بلام الجنس ،
وإنما لم تعرف بلام العهد لأن التنكير أدل على التفخيم والتعظيم بدليل قوله تعالى
: (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣]
ونظيره قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ) [البلد : ١] فعرفه
ثم قال : (وَوالِدٍ) [البلد : ٣] فنكره
، والمراد به آدم وإبراهيم أو محمد صلّى الله عليهم أجمعين ، ولأن الأحسن أن تكون
اللامات كلها متجانسة ، ليكون الكلام أبعد عن الألغاز والتعمية ، وهي في الباقي
للجنس.
[١١٩٣] فإن قيل : كيف ذم الله تعالى الإنسان على قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الفجر : ١٥] ، مع
أنّه صادق فيما قال : لأنّ الله تعالى أكرمه ، بدليل قوله تعالى : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) [الفجر : ١٥] ،
كيف وأن هذا تحدث بالنعمة وهو مأمور به؟
قلنا
: المراد به أن
يقول ذلك مفتخرا على غيره ، ومتطاولا به عليه ، ومعتقدا استحقاق ذلك على ربّه ،
كما في قوله تعالى : (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨]
ومستدلا به على علو منزلته في الدار الآخرة ؛ وكل ذلك منهي عنه. وأما إذا قاله على
وجه الشكر والتحدث بنعمة الله فليس بمذموم ولا منهي عنه.
[١١٩٤] فإن قيل : كيف قال الله تعالى في الجملة الأولى : (فَأَكْرَمَهُ) [الفجر : ١٥] ولم
يقل في الجملة الثانية فأهانه؟
قلنا
: لأن بسط الرزق
إكرام ، لأنه إنعام وإفضال من غير سابقة ؛ وقبضه ليس بإهانة ؛ لأن ترك الإنعام
والإفضال لا يكون إهانة ، بل هو واسطة بين الإكرام والإهانة ؛ فإن المولى قد يكرم
عبده وقد يهينه ، وقد لا يكرمه ولا يهينه. وتضييق الرزق ليس إلّا عبارة عن ترك
إعطاء القدر الزائد ، ألا ترى أنه يحسن أن تقول زيد أكرمني إذا أهدى لك هدية ، ولا
يحسن أن تقول أهانني إذا لم يهد لك.
[١١٩٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢]
والحركة والانتقال على الله محالان ؛ لأنهما من خواص الكائن في جهة؟
سورة البلد
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما : وجاء أمر ربك لأن في القيامة تظهر جلائل آيات الله تعالى ؛ ونظيره
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام : ١٥٨] وقيل
: معناه وجاء ظهور
ربك لضرورة معرفته يوم القيامة. ومعرفة الشيء بالضرورة تقوم مقام ظهوره ورؤيته ،
فمعناه : زالت الشكوك وارتفعت الشبه كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه.
سورة البلد
[١١٩٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) [البلد : ٣] ، ولم
يقل سبحانه وتعالى ومن ولد؟
قلنا
: لأنّ في «ما» من
الإبهام ما ليس في من ، فقصد به التفخيم والتعظيم ، كأنه تعالى قال : وأيّ شيء
عجيب غريب ولد ، ونظيره قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦].
سورة الشمس
[١١٩٧] فإن قيل : كيف نكّر الله تعالى النفس ، دون سائر ما أقسم
به ، حيث قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها) [الشمس : ٧]؟
قلنا
: لأنه لا سبيل إلى
لام الجنس ؛ لأنّ نفوس الحيوانات غير الإنسان خارجة عن ذلك ، بدليل قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨] ، ولا
سبيل إلى لام العهد ، لأن المراد ليس نفسا واحدة معهودة. وعلى قول من قال إن
المراد منه نفس آدم عليهالسلام ، فالتنكير للتفخيم والتعظيم ، كما سبق في سورة الفجر.
[١١٩٨] فإن قيل : أين جواب القسم؟
قلنا
: قال الزجاج وغيره
: إنه قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها) [الشمس : ٩] ،
وحذفت اللّام لطول الكلام.
وقال ابن الأنباري
: جوابه محذوف.
وقال الزمخشري :
تقديره ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما دمدم على ثمود ، لتكذيبهم صالحا عليهالسلام. قال : وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها) [الشمس : ٩] فكلام
تابع لما قبله على طريق الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء.
سورة الليل
[١١٩٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) [الليل : ١٥] مع
أنّ الشقي أيضا يصلاها : أي يقاسي حرّها وعذابها؟
قلنا
: قال أبو عبيدة :
الأشقى هنا بمعنى الشقي ، والمراد به كل كافر ، والعرب تستعمل أفعل في موضع فاعل
ولا تريد به التفضيل ، وقد سبق تقرير ذلك والشواهد عليه في سورة الرّوم في قوله
تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقال
الزجاج : هذه نار موصوفة معينة ، فهو درك مخصوص ببعض الأشقياء ، ورد عليه ذلك
بقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا
الْأَتْقَى) [الليل : ١٧] ،
والأتقى يجنب عذاب أنواع نار جهنم كلّها ، والمراد بالأتقى هنا أبو بكر الصديق رضي
الله عنه بإجماع المفسرين ؛ ولهذا قال الزمخشري : إن الأشقى ليس بمعنى الشّقي ؛ بل
هو على ظاهره ؛ والمراد به أبو جهل أو أمية بن خلف ، فالآية واردة للموازنة بين
حالتي أعظم المؤمنين وأعظم المشركين ، فبولغ في صفتيهما المتناقضتين ، وجعل هذا
مختصا بالصلي كأنّ النار لم تخلق إلا له لوفور نصيبه منها وجاء قوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) [الليل : ١٧] على
موازنة ذلك ومقابلته ، مع أن كل تقي يجنبها.
قال بعض العلماء :
هذه الآية تدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الصحابة ، لأنه وصفه بالأتقى ،
وقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] ،
وإذا كان أكرم عند الله كان أفضل.
سورة الضحى
[١٢٠٠] فإن قيل : كيف وصف صلىاللهعليهوسلم بالضال والنبيّ صلىاللهعليهوسلم معاذ الله أن يكون ضالّا ، أي كافرا ، لا قبل النبوّة ولا
بعدها ؛ والضّال أكثر ما ورد في القرآن بمعنى الكافر؟
قلنا
: المراد به هنا
أنه تعالى وجده ضالا عن معالم النبوة وأحكام الشريعة فهداه إليها. هذا قول
الجمهور.
الثاني
: أنّه ضل وهو صغير
في شعاب مكة فردّه الله تعالى إلى جدّه عبد المطلب.
الثالث
: أن معناه ووجدك
ناسيا فهداك إلى الذكر ؛ لأن الضلال جاء بمعنى النسيان ، ومنه قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ
إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢].
[١٢٠١] فإن قيل : لو كان الضّلال بمعنى النسيان لما جمع بينهما في
قوله تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي
وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢]؟
قلنا
: لا ندعي أنه حيث
ذكر كان بمعنى النسيان ، فهو في تلك الآية. بمعنى الخطأ ، وقيل بمعنى الغفلة.
الرابع
: أن معناه : ووجدك
جاهلا فعلمك.
[١٢٠٢] فإن قيل : كيف منّ سبحانه عليه بإخراجه من الفقر إلى الغنى
بقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً
فَأَغْنى) [الضحى : ٨] أي
فقيرا ، والعائل الفقير سواء كان له عيال أو لم يكن؟
قلنا
: قال ابن السائب ،
واختاره الفرّاء : أنه لم يكن غناه بكثرة المال ، ولكن الله أرضاه بما آتاه ، ولم
يكن ذلك الرضا قبل النبوة ، وذلك حقيقة الغنى ، ويؤيده قوله صلىاللهعليهوسلم : «الغنى غنى القلب». وقال غيره : المراد به أنه أغناه
بمال خديجة عن مال أبي طالب ، والمراد به الإغناء بتسهيل ما لا بد منه وتيسيره ،
لا الإغناء بفضول المال الذي لا يجامع صفة الفقر.
__________________
سورة الانشراح
[١٢٠٣] فإن قيل : أيّ فائدة في زيادة ذكر لك وعنك والكلام تام
بدونهما؟
قلنا
: فائدته الإبهام
ثم الإيضاح ، وهو نوع من أنواع البلاغة ، فلمّا قال تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) [الشرح : ١] فهم
أن ثم مشروحا له ثم قال : (صَدْرَكَ) [الشرح : ١] فأوضح
ما علم مبهما بلفظ لك ، وكذا الكلام في (وَوَضَعْنا عَنْكَ) [الشرح : ٢].
[١٢٠٤] فإن قيل : قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥] وكلمة
مع للمصاحبة والقران ، فما معنى اقتران العسر واليسر؟
قلنا
: سبب نزول هذه
الآية أن المشركين عيروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله عنهم بالفقر والضائقة التي كانوا فيها ،
فوعدهم الله تعالى يسرا قريبا من زمان عسرهم ؛ وأراد تأكيد الوعد لتسليتهم وتقوية
قلوبهم ، فجعل اليسر الموعود كالمقارن للعسر في سرعة مجيئه.
[١٢٠٥] فإن قيل : ما معنى قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم
وابن مسعود رضي الله عنه : لن يغلب عسر يسرين ، ويروى ذلك عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أيضا؟
قلنا
: هذا عمل على
الظّاهر وبناء على قوة الرّجاء ، وإن وعد الله لا يحمل إلا على أحسن ما يحتمله
اللفظ وأكمله ، وأما حقيقة القول فيه فهو أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تأكيدا
للأولى ، كما في قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ٤٩]
وما أشبهه ، وكما في قولك : جاءني رجل جاءني رجل ؛ وأنت تعني واحدا في الجملتين ،
فعلى هذا يتحد العسر واليسر ، أو يكون تعريف العسر لأنه حاضر معهود ، وتنكير اليسر
لأنه غائب مفقود ؛ وللتفخيم والتعظيم. ويحتمل أن تكون الجملة الثانية وعدا مستأنفا
فيتعدد اليسر حينئذ على ما قيل ، ويؤيد أن الجملة الثانية للتأكيد أنه ليس في مصحف
عبد الله بن مسعود إلا مرة واحدة.
[١٢٠٦] فإن قيل : وإذا ثبت في قراءته غير مكرر ، فكيف قال : والذي
نفسي بيده لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين؟
قلنا
: كأنه نزل ما فيه
من التفخيم والتعظيم بالتنكير منزلة التثنية ؛ لأن المعنى يسرا وأي يسر ، وأما من
فسره بيسرين فإنه قال : أحد اليسرين ما تيسر من الفتوح في
زمن النبيّ صلىاللهعليهوسلم. والثاني ما تيسر بعده في زمن الخلفاء. وقيل
: هما يسر الدنيا
ويسر الآخرة ، كقوله تعالى : (هَلْ تَرَبَّصُونَ
بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢]
وهما حسن الظفر وحسن الثواب.
سورة التّين
[١٢٠٧] فإن قيل : كيف وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦]؟
قلنا
: قال الأكثرون :
المراد بالإنسان هنا الجنس ، وبردّه أسفل سافلين إدخاله النار ، فعلى هذا يكون
الاستثناء متّصلا ظاهر الاتصال ، ويكون قوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦] قائما
مقام قوله تعالى فلا نردهم أسفل سافلين. وأما على قول من فسر أسفل سافلين بالهرم
والخرف وقال السافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال والشيخ الهرم أسفل هؤلاء كلهم ،
فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن.
ومعنى قوله تعالى
: (فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦] أي
غير مقطوع بالهرم والضعف الحاصل من الكبر ، أي إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في
حال شبابهم وقوتهم ، فإنهم إذا عجزوا عن العمل كتب لهم ثواب ما كانوا يعملونه من
الطاعات والحسنات إلى وقت موتهم ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما : من قرأ
القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.
وقال بعض العلماء
: الذين آمنوا وعملوا الصالحات في شبابهم وقوتهم فإنهم لا يردون إلى الخرف وأرذل
العمر وإن عمروا طويلا ، وتمسك بظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما.
سورة العلق
[١٢٠٨] فإن قيل : أين مفعول خلق الأول :
قلنا
: يحتمل وجهين :
أحدهما
: أن لا يقدّر له
مفعول ؛ بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه ؛ كما قال
تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ) [الملك : ١٤] في
أحد الوجهين ، وقولهم : فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع.
الثاني
: أن يكون مفعوله
مضمرا تقديره : الذي خلق كل شيء ، ثم أفرد الإنسان بالذكر تشريفا له وتفضيلا.
[١٢٠٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ عَلَقٍ) [العلق : ٢] على
الجمع ولم يقل : من علقة؟
قلنا
: لأن الإنسان في
معنى الجمع بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ٢ ، ٣] ،
والجمع إنما خلق من جمع علقة لا من علقة.
[١٢١٠] فإن قيل : هذا الجواب يرده قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج : ٥]؟
قلنا
: المراد فإنا
خلقنا أباكم من تراب ، ثم خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة.
وقيل : إنما قال من علق رعاية للفاصلة الأولى وهي خلق.
سورة القدر
[١٢١١] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر : ٤]
وتنزلهم من الأمر لا معنى له؟
قلنا
: من هنا بمعنى
الباء ، كما في قوله تعالى : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ
أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١]
وقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ) [غافر : ١٥] أي
بكلّ أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة من ليلة القدر إلى مثلها تنزل الملائكة به
من اللّوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وقيل
: إلى الأرض.
سورة البيّنة
[١٢١٢] فإن قيل : المراد بالرسول هنا محمد صلىاللهعليهوسلم بلا خلاف ، فكيف قال تعالى : (يَتْلُوا صُحُفاً) [البينة : ٢]
وظاهره يدل على قراءة المكتوب من الكتاب وهو منتف في حقه صلىاللهعليهوسلم ، لأنه كان أميّا؟
قلنا
: المراد يتلو ما
في الصحف عن ظهر قلبه ؛ لأنه هو المنقول عنه بالتواتر.
[١٢١٣] فإن قيل : ما الفرق بين الصحف والكتب ؛ حتى قال تعالى : (صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ) [البينة : ٢ ، ٣]؟
قلنا
: الصحف القراطيس ،
وقوله تعالى (مُطَهَّرَةً) ، أي من الشرك الباطل ، وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة : ٣] ، أي
مكتوبة مستقيمة ناطقة بالعدل والحق ، يعني الآيات والأحكام.
[١٢١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] ، أي
النبي صلىاللهعليهوسلم أو القرآن ، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، وهم ما
زالوا متفرقين مختلفين يكفر كل فريق منهم الآخر قبل مجيء البينة وبعدها؟
قلنا
: المراد به تفرقهم
عن تصديق النبيّ صلىاللهعليهوسلم والإيمان به قبل أن يبعث ، فإنهم كانوا مجتمعين على ذلك
متفقين عليه بأخبار التوراة والإنجيل ، فلما بعث إليهم تفرقوا ، فمنهم من آمن
ومنهم من كفر. وقال بعض العلماء : المراد بالبينة ما في التوراة والإنجيل من الإيمان
بنبوته صلىاللهعليهوسلم ، ويؤيّد هذا القول أن أهل الكتاب أفردوا بالذكر في هذا
التفرق مع وجود التفرق من المشركين أيضا بعد ما جمعوا مع المشكرين في أول السورة ،
فلا بد أن يكون مجيء البينة أمرا يخصهم ، ومجيء النبي صلىاللهعليهوسلم والقرآن العزيز لا يخصهم.
سورة الزلزلة
[١٢١٥] فإن قيل : قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] ما
معنى إضافة الزلزال الذي هو المصدر إلى الأرض ، وهلّا قال زلزالا ، كما قال تعالى
: (كَلَّا إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر : ٢١] وما
أشبهه؟
قلنا
: معناه الزلزال
الذي تستوجبه في حكمة الله تعالى ومشيئته في ذلك اليوم ، وهو الزلزال الذي ليس
بعده زلزال ، ونظيره قولك : أكرم التقي إكرامه ، وأهن الفاسق إهانته ، تريد ما
يستوجبانه من الإكرام والإهانة ، ويجوز أن يكون المراد بالإضافة الاستغراق ؛ معناه
: زلزالها كله الذي هو ممكن لها.
[١٢١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [الزلزلة : ٧] على
العموم فيهما ، وحسنات الكافر محبطة بالكفر ، وسيئات المؤمن معفو عنها ، مغفورة
باجتناب الكبائر ؛ فكيف تثبت رؤية كل عامل جزاء عمله؟
قلنا
: معناه فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا من فريق السعداء ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرا من فريق الأشقياء ؛
لأنه جاء بعد قوله تعالى : (يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتاتاً) [الزلزلة : ٦].
وذكر مقاتل أنها
نزلت في رجلين من أهل المدينة كان أحدهما يستقل أن يعطي السائل الكسرة أو التمرة
ويقول : إنما نؤجر على ما نعطيه ونحن نحبه ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير
ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر.
سورة العاديات
[١٢١٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَخَبِيرٌ) [العاديات : ١١] ؛
مع أنّه تعالى أخبر بهم في كلّ زمان ، فما وجه تخصيص ذلك اليوم؟
قلنا
: معناه أن ربهم
سبحانه مجازيهم يومئذ على أعمالهم ، فالعلم مجاز عن المجازاة ، ونظيره قوله تعالى
: (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) [النساء : ٦٣].
معناه يجازيهم على
ما فيها ؛ لأنّ علمه شامل لما في قلوب كلّ العباد ، ويقرب منه قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦].
سورة القارعة
[١٢١٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٨] ،
أي رجحت سيئاته على حسناته : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٩] ،
أي فمسكنه النار ؛ وأكثر المؤمنين سيئاتهم راجحة على حسناته.
قلنا
: (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٩] لا
يدل على خلوده فيها ، فيسكن المؤمن بقدر ما تقتضيه ذنوبه ، ثم يخرج منها إلى
الجنة.
وقيل : المراد بخفة الموازين خلوها من الحسنات بالكلية ، وتلك
موازين الكفار.
سورة التكاثر
[١٢١٩] فإن قيل : أين جواب (لَوْ تَعْلَمُونَ)؟ [التكاثر : ٥].
قلنا
: هو محذوف تقديره
: لو تعلمون الأمر يقينا لشغلكم عن التكاثر والتفاخر ، ثم ابتدأ تعالى بوعيد آخر
فقال سبحانه : (لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ) [التكاثر : ٦].
[١٢٢٠] فإن قيل : كل أحد لا يخلو عن نيل نعيم في الدنيا ولو مرة
واحدة ، فما النعيم الذي يسأل عنه العبد؟
قلنا
: فيه سبعة أقوال :
أحدها
: أنه الأمن
والصحة.
الثاني
: أنه الماء
البارد.
الثالث
: أنه خبز البرّ
والماء العذب.
الرابع
: أنّه مأكول
ومشروب لذيذان.
الخامس
: أنه الصحة
والفراغ.
السادس
: أنه كل لذّة من
لذّات الدنيا.
السابع
: أنه دوام الغداء
والعشاء.
وقيل إن السؤال
خاص للكفار. والصحيح أنه عام في كل إنسان وفي كل نعيم ، فالكافر يسأل توبيخا
والمؤمن يسأل عن شكرها ، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث أنّه صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله تعالى : ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهنّ
وأسأله عمّا سوى ذلك : بيت يكنّه ، وما يقيم به صلبه من الطّعام ، وما يواري به
عورته من اللّباس».
سورة العصر
[١٢٢١] فإن قيل : الاستثناء الذي في السورة لا يدلّ على أنّ
المؤمنين الموصوفين في ربح ؛ مع أن الاستثناء إنما سيق لمدحهم بمضادة حالهم لحال
من لم يتناوله الاستثناء؟
قلنا
: الاستثناء وإن لم
يدل بصريحه على أنّهم في أعظم ربح ؛ ولكن اتصافهم بتلك الصفات الأربعة الشريفة يدل
على أنهم في أعظم ربح ؛ مع أنا لو قدرنا أنهم ليسوا في ربح فالمضادة حاصلة أيضا ،
لأنهم ليسوا في خسر ، بمقتضى الاستثناء.
سورة الهمزة
[١٢٢٢] فإن قيل : ما الفرق بين الهمزة واللمزة؟
قلنا
: قيل إنهما بمعنى
واحد لا فرق بينهما ، وإنما الثاني تأكيد للأول. وقيل
: إنهما مختلفان ،
فقيل الهمزة المغتاب ، واللمزة العياب. وقيل
: الهمزة العياب في
الوجه ، واللّمزة في القفا ، وقيل : الهمزة الطعان في الناس ، واللّمزة الطعان في أنساب الناس.
وقيل : الهمزة يكون بالعين ، واللمزة باللّسان. وقيل
: عكسه. فهذه ستة
أقوال.
سورة الفيل
[١٢٢٣] فإن قيل : ما معنى الأبابيل ، وهل هو واحد أو جمع؟
قلنا
: معناها جماعات في
تفرقة ، أي حلقة حلقة. وقيل : التي يتبع بعضها بضعا. وقيل
: الكثيرة. وقيل
: المختلفة
الألوان. وقال الفراء وأبو عبيدة : لا واحد لها. وقيل
: واحدها أبال
وأبول وأبيل.
سورة قريش
[١٢٢٤] فإن قيل : بأيّ شيء تتعلق اللّام في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)؟ [قريش : ١].
قلنا
: قيل إنها متعلقة
بآخر السورة التي قبلها ، أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، ويؤيد هذا أنهما في
مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة بلا فصل. والمعنى أنه أهلك أصحاب الفيل الذي
قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيهابوهم ويحترموهم ، فينتظم لهم الأمر في رحلتهم ولا
يجترئ أحد عليهم.
وقيل : معناه أهلكهم ليألف قريش رحلة الشّتاء والصيف بهلاك من كان
يخيفهم ويمنعهم.
وقيل : إنها متعلقة بما بعدها ، وهو قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) [قريش : ٣]
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. معناه أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى ، فإن لم
يعبدوه لسائر نعمه فليعبدون لهذه النعمة الظاهرة.
وقيل : هي لام التعجب معناه اعجبوا لإيلاف قريش. وكانت لقريش في
كل سنة رحلتان للتجارة التي بها معاشهم ، رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في
الصيف إلى الشام.
ثم قيل : الإيلاف
هنا مصدر بمعنى الإلف تقول : آلفته إيلافا بالمد ، كما تقول ألفته إلفا بالقصر
كلاهما متعد إلى مفعول واحد ، فيكون لإيلاف قريش لإلف قريش ، أي لحبهم الرحلتين.
وقيل آلف بالمد متعد إلى مفعولين ، يقال ألف زيد المكان وآلف زيد عمرا المكان ،
فيكون معنى الآية لإيلاف الله تعالى قريشا الرحلتين ؛ فعلى هذا الوجه يكون المصدر
مضافا إلى المفعول ، وعلى الوجه الأول يكون مضافا إلى الفاعل.
وأمّا تكرار إضافة
المصدر في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ
إِيلافِهِمْ) [قريش : ١ ، ٢] ،
فقيل : إن الثاني بدل من الأول. وقيل : إنه للتأكيد ، كما تقول : أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة
عن ذل السؤال.
سورة الماعون
[١٢٢٥] فإن قيل : كيف توعّد الله الساهي عن الصلاة ، والحديث ينفي
مؤاخذته ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان»؟
قلنا
: المراد بالسّهو
هنا ، التغافل عنها ، والتكاسل في أدائها ، وقلّة الالتفات إليها ؛ وذلك فعل
المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين ؛ وليس المراد ما يتفق فيها من السهو
بوسوسة الشّيطان أو حديث النفس ممّا لا صنع للعبد فيه ولا اختيار ، وهو المراد في
الحديث ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره ، ولهذا قال تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥] ولم
يقل في صلاتهم. وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : الحمد لله على أن لم يقل في
صلاتهم.
__________________
سورة الكوثر
[١٢٢٦] فإن قيل : ما الكوثر؟
قلنا
: فيه قولان :
أحدهما
: وهو قول ابن عباس
رضي الله عنهما أنه الخير الكثير فوعل من الكثرة ، كقولهم : رجل نوفل ، أي كثير
النوافل. ومنه قول الشاعر :
وأنت كثير يا
ابن مروان طيّب
|
|
وكان أبوك ابن
العقائل كوثرا
|
قيل لأعرابية رجع
ابنها من سفر : كيف آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر. ولقد أعطى النبيّ صلىاللهعليهوسلم خيرا كثيرا ، فإنه آتاه الحكمة ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي
خيرا كثيرا ، ومنهم من فسّر هذا الخير الكثير بالنبوة ، ومنهم من فسره بالعلم
والحكمة ، ومنهم من فسره بالقرآن.
والقول الثاني : أنّ الكوثر اسم نهر في الجنّة ، وهو قول أكثر المفسرين ،
وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الكوثر نهر وعدنيه ربّي في الجنّة ، عليه خير
كثير ، ترد عليه أمّتي يوم القيامة». وعنه صلىاللهعليهوسلم أيضا ، في الحديث أنّه قال : «بينا أنا أسير في الجنّة
فإذا بنهر حافّتاه قباب اللّؤلؤ المجوّف ، فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا
الكوثر الّذي أعطاك ربّك ، فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر». وروي عن صفته
أنّه أحلى من العسل ، وأشد بياضا من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزّبد ،
حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء ، لا يظمأ من شرب منه أبدا.
__________________
سورة الكافرون
[١٢٢٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] ؛
ولم يقل «من» ، مع أنّه القياس؟
قلنا
: فيه وجهان :
أحدهما
: أنه إنما قال «ما»
رعاية للمقابلة في قوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون : ٢].
الثاني
: أن «ما» مصدرية ،
أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي. وقال الزّمخشري : إنّما قال «ما» لأنّ
المراد الصفة ؛ كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق. وقال غيره : «ما» في
الكل بمعنى الذي ، والعائد محذوف.
[١٢٢٨] فإن قيل : ما فائدة التكرار؟
قلنا
: فيه وجهان :
أحدهما
: أنّه للتأكيد
وقطع أطماعهم فيما طلبوه منه.
الثاني
: أنّ الجملتين
الأوليين لنفي العبادة في الحال ، والجملتين الأخريين لنفي العبادة في الاستقبال
فلا تكرار فيه ؛ وهذا قول ثعلب والزجاج. والخطاب لجماعة علم الله تعالى أنهم لا
يؤمنون. وقال الزمخشري : ما يرد الوجه الثاني ، وذلك أنه قال لا أعبد أريد به
العبادة في المستقبل ؛ لأنّ «لا» لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال ،
فالجملتان الأوليان لنفي العبادة في المستقبل ، والجملتان الأخريان لنفي العبادة
في الماضي ، فقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ) [الكافرون : ٤] أي
ما عهدتم من عبادة الأصنام في الجاهلية. فكيف يرجى مني بعد الإسلام ، وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] ،
أي ما عبدتم في وقت ما ما أنا على عبادته ، ويرد على قوله والجملتان الأخريان لنفي
العبادة في الماضي أن اسم الفاعل المنون العامل عمل الفعل لا يكون إلا بمعنى الحال
أو الاستقبال ، وعابد هنا عامل في «ما» وكذلك عابدون ، وجوابه أنه على الحكاية كما
قال تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ
ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨] ،
وأورد على هذا التقدير فقال :
[١٢٢٩] فإن قيل : هلّا قال تعالى : ولا أنتم عابدون ما عبدت ،
بلفظ الماضي ، كما قال : (وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ) [الكافرون : ٤].
قلنا
: لأنهم كانوا
يعبدون الأصنام قبل بعثه ، وهو ما كان يعبد الله تعالى قبل بعثه ، بل بعد بعثه.
ويرد على هذا التقدير : أن أعظم العبادة التوحيد ، وكل الأنبياء كانوا موحدين
بعقولهم قبل البعثة. وقال بعض العلماء : إنما جاء الكلام مكررا لأنه ورد جوابا
لسؤالهم مناوبة ، وكان سؤالهم مكررا ، فإنهم قالوا : يا محمد تعبد آلهتنا كذا مدة
ونعبد إلهك كذا مدة ، ثم تعبد آلهتنا كذا مدة ونعبد إلهك كذا مدة ، فورد الجواب
مكررا ليطابق السؤال ، وهذا قول حسن لطيف.
سورة النصر
[١٢٣٠] فإن قيل : أيّ مناسبة بين الأمر بالاستغفار وبين ما قبله ،
فإن مجيء الفتح والنصر يناسب الشكر والحمد لا الاستغفار والتوبة؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما لما نزلت هذه السورة علم النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه نعيت إليه نفسه. وقال الحسن : أعلم النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قد اقترب أجله ، فأمر بالتسبيح والاستغفار والتوبة
ليختم له في آخر عمره بالزّيادة في العمل الصالح ، فكان يكثر من قوله : سبحانك
اللهم اغفر لي إنك أنت التّواب الرّحيم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن هذه السورة
تسمى سورة التوديع. وروي أن النبي صلىاللهعليهوسلم عاش بعد نزولها سنتين.
سورة تبّت
[١٢٣١] فإن قيل : كيف ذكره الله تعالى بكنيته دون اسمه ، مع أن
ذلك إكرام واحترام؟
قلنا
: فيه وجوه :
أحدها
: أنه يجوز أنه لم
يعرف له اسم ولم يشتهر إلا بكنيته ، فذكره بما اشتهر به لزيادة تشهيره بدعوة السوء
عليه.
الثاني
: أنه نقل أنه كان
اسمه عبد العزّى ، وهو كان عبد الله لا عبد العزّى ، فلو ذكره باسمه لكان خلاف
الواقع.
الثالث
: أنه ذكره بكنيته
لموافقة حاله لكنيته ، فإن مصيره إلى النار ذات اللهب ، وإنما كنّي بذلك لتلهب
وجنتيه وإشراقهما.
سورة الإخلاص
[١٢٣٢] فإن قيل : فالمشهور في كلام العرب أن الأحد يستعمل بعد
النفي ، والواحد يستعمل بعد الإثبات ، يقال : في الدار واحد ، وما في الدار أحد.
وجاءني واحد وما جاءني أحد ، ومنه قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) [التوبة : ٨٤] (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٣٦] (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) [الأحزاب : ٣٢] (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [الحاقة : ٤٧]
فكيف جاء هنا أحد في الإثبات؟
قلنا
: قال ابن عباس رضي
الله عنهما : لا فرق بين الواحد والأحد في المعنى ، واختاره أبو عبيدة ، ويؤيده
قوله تعالى : (فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) [الكهف : ١٩] ،
وقولهم أحد وعشرون وما أشبهه. وإذا كانا بمعنى واحد لا يختص أحدهما بمكان دون مكان
، وإن غلب استعمال أحدهما في النفي والآخر في الإثبات. ويجوز أن يكون العدول عن
الغالب هنا رعاية لمقابلة الصمد.
سورة الفلق
[١٢٣٣] فإن قيل : قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [الفلق : ٢]
يتناول كل ما بعده ، فما الفائدة في الإعادة؟
قلنا
: خصّ شر هذه
الأشياء الثّلاثة بالذكر تعظيما لشرها ، كما في عطف الخاص على العام تعظيما لشرفه
وفضله ، أو خصّها بالذّكر لخفاء شرّها ، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يشعر به ؛
ولهذا قيل : شر الأعداء المداجي ، وهو الذي يكيد الإنسان من حيث لا يعلم.
[١٢٣٤] فإن قيل : كيف عرّف سبحانه النفّاثات ونكّر ما قبلها وما
بعدها؟
قلنا
: لأن كل نفاثة لها
شر وليس كل غاسق وهو الليل له شر ، وكذا ليس كل حاسد له شر ؛ بل ربّ حسد محمود وهو
الحسد في الخيرات ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا حسد إلّا في اثنتين» الحديث. وقال أبو تمام :
وما حاسد في المكرمات بحاسد
وقال :
إنّ العلى حسن في مثلها الحسد
__________________
سورة الناس
[١٢٣٥] فإن قيل : كيف خصّ الناس بالذّكر ، في قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١] ، وهو
ربّ كلّ شيء ومالكه وإلهه؟
قلنا
: إنّما خصّهم
بالذّكر تشريفا لهم ، وتفضيلا على غيرهم ؛ لأنهم أهل العقل والتمييز.
الثاني
: أنّه لمّا أمر
بالاستعاذة من شرّهم ذكر مع ذلك أنه ربهم ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم.
الثالث
: أنّ الاستعاذة
وقعت من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي هو إلههم ومعبودهم ، كما يستغيث بعض
العبيد إذا اعتراه خطب بسيده ومخدومه وولي أمره.
[١٢٣٦] فإن قيل : هل قوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) [الناس : ٦] بيان
للذي يوسوس على أن الشيطان الموسوس ضربان جنّي وإنسي ، كما قال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢]
أو بيان للناس الذي أضيفت الوسوسة إلى صدورهم ، والناس المذكور آخرا بمعنى الإنس؟
قلنا
: قال بعض أئمة
التفسير : المراد المعنى الأول ؛ كأنه قال : من شرّ الوسواس الجنّي ، ومن شرّ
الوسواس الإنسي ، فهو استعاذة بالله تعالى من شر الموسوسين من الجنسين ، وهو
اختيار الزّجّاج ، وفي هذا الوجه إطلاق لفظ الخنّاس على الإنسي ، والنقل أنه اسم
للجنّي. وقال بعضهم : المراد المعنى الثاني ، كأنه قال : من شر الوسواس الجنّي
الذي يوسوس في صدور الناس ، من جنّهم وإنسهم ؛ فسمى الجنّ ناسا كما سماهم نفرا
ورجالا ، في قوله تعالى : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] ،
وقوله تعالى : (يَعُوذُونَ بِرِجالٍ
مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦]. فهو
استعاذة بالله من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الجنّ ، كما يوسوس في صدور الإنس
، وهو اختيار الفرّاء. والمراد من الجنّة هنا ، الشّياطين من الجنّ على الوجه
الأوّل ، ومطلق الجنّ على الوجه الثّاني ؛ لأنّ الشيطان منهم هو الذي يوسوس لا
غيره ؛ ومطلقهم يوسوس إليه. واختار الزّمخشري الوجه الأول. وقال : ما أحق أن اسم
الناس ينطلق على الجنّ ؛ لأنّ الجن سموا جنا لاجتنانهم ، أي لاستتارهم ، والناس
سموا أناسا لظهورهم من الإيناس وهو الإبصار ، كما سموا بشرا لظهورهم من البشرة ،
ولو صح
هذا الإطلاق لم
يكن هذا المجمل مناسبا لفصاحة القرآن. قال : وأجود منه أن يراد بالناس الأول الناسي
، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ) [القمر : ٦] وكما
قرئ (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ
النَّاسُ) ثم بيّن بالجنّة والناس ؛ لأن الثقلين هما الجنسان
الموصوفان بنسيان حقوق الله تعالى ، والله أعلم ، وصلّى الله على سيدنا محمّد وعلى
آله وصحبه وسلّم.
الفهارس
١
ـ فهرس الأحاديث النبوية
٢
ـ فهرس الآثار
٣
ـ فهرس الأبيات الشعرية
٤
ـ فهرس أنصاف الأبيات
٥
ـ فهرس الأعلام
٦
ـ فهرس المحتويات
١
فهرس الأحاديث النبوية
[حرف الألف]
ـ أحلى من العسل ، وأشدّ بياضا من اللّبن ، وأبرد من الثّلج (يصف
الكوثر)...... [١٢٢٦]
ـ إذا مات ابن آدم
ينقطع عمله ، إلّا من ثلاث................................. [٧٧٩]
ـ أصدق كلمة قالها
شاعر كلمة لبيد........................................... [٤٧٢]
ـ الإسلام في الكفر كالشعرة البيضاء في الثور
الأسود............................ [١٧٤]
ـ الإسلام يجب ما كان قبله.................................................. [٣٦٥]
ـ اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة........................................... [١٠٨٦]
ـ أمّك ، ثم أمّك ، ثم أمّك.................................................. [٨٥١]
ـ إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من
كسبه...................... [٧٤٩]
ـ إن الله عزوجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم
استطعمتك فلم تطعمني........... [١٠٣٦]
ـ إن الغالّ يأتي يوم القيامة حاملا عين ما غلّه
على عنقه....................... [١١٦١]
ـ إن مثل ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى ، كمثل
خيط في ثوب.............. [٦٩١]
ـ إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ ...)............... [١١٠٥]
[حرف الباء]
ـ بئس خطيب القوم أنت (لرجل
خطب فأساء)................................. [٣٥٨]
ـ بينا أنا أسير في
الجنّة ، فإذا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوّف.................... [١٢٢٦]
[حرف التاء]
ـ تحية أهل الجنّة في
الجنّة سلام................................................ [٧٦٥]
[حرف الحاء]
ـ حتى يسير الرّاكب
بين النطفتين لا يخشى جوازا............................... [١١٥٥]
[حرف الخاء]
ـ خير المال مهرة
مأمورة وسكّة مأبورة........................................... [٥٨٣]
[حرف الرّاء]
ـ رحم الله أخي يوسف.
لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ؛ ولكنّه أخر ذلك سنة [١٦٣]
ـ رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان............................................... [١٢٢٥]
[حرف الصاد]
ـ صلاح الوالي صلاح
الرّعية ، وفساد الوالي فساد الرعية.......................... [٥٨٦]
[حرف العين]
ـ العجلة من الشيطان ،
والتّأني من الرحمن...................................... [١١٦]
[حرف الغين]
ـ الغنى غنى القلب......................................................... [١٢٠٢]
[حرف الفاء]
ـ فمن رغب عن سنتي
فليس مني.............................................. [٣٩٩]
[حرف القاف]
ـ القبر إما روضة من
رياض الجنة أو حفرة من حفر النار........................... [٤٦٨]
[حرف الكاف]
ـ كثير النفقة سمح
فيه. لا تطيب نفسه بدرهم يتصدق به......................... [٨٤٩]
ـ الكوثر نهر وعدنيه
ربي في الجنة............................................. [١٢٢٦]
[حرف اللّام]
ـ لا حسد إلّا في
اثنتين..................................................... [١٢٣٤]
[حرف الميم]
ـ المؤمن والكافر لا
يتراءيان................................................... [٧٧٦]
ـ ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم............................... [٤٧]
ـ المثقال من فضة الآخرة خير من الدنيا وما فيها............................... [١١٦١]
ـ المرء مع من أحب......................................................... [٥١٦]
ـ المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده................................... [١٠٢٢]
ـ من سن سنة حسنة........................................................ [٢٣٠]
ـ من عمل سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها.................................. [٣٠٦]
ـ من مات فقد قامت قيامته................................................. [٦٩١]
ـ من ملأ سمعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت
الروحانيين................... [٨٤٩]
[حرف النون]
ـ نحن معاشر الأنبياء
لا نورث ما تركناه صدقة................................... [٦٤٤]
ـ الندم توبة................................................................ [٢٢٩]
ـ نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه.................................. [٦٤٨]
[حرف الهاء]
ـ هلّا قلت : ومن عصى
الله ورسوله فقد غوى.................................. [٣٥٨]
ـ هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته................................................. [٥٣]
[حرف الواو]
ـ والله إني لأمين في
السماء أمين في الأرض..................................... [١٦٣]
ـ والذي نفسي بيده ليخفف على المؤمن....................................... [٨٥٨]
ـ والذي نفسي بيده ما رفع رجل قط عقيرته يتغنى............................... [٨٤٩]
[حرف الياء]
ـ يقول الله تعالى :
ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهن.......................... [١٢١٨]
٢
فهرس الآثار
ـ الأول وصف ،
والثاني تعليم (الإمام الصادق).................................. [٩٣]
ـ الدهر يومان : يوم
لك ، ويوم عليك (الإمام علي)............................... [٨٧]
ـ فرض على النصارى صوم
رمضان بعينه. فقدّموا عشرة ، أو أخروا عشرة ؛ لئلّا يقع في الصيف ... (ابن عباس) [٤٤]
ـ قيمة كل امرئ ما
يحسنه (الإمام علي)........................................ [٨٥٩]
ـ كتاب أكثر من كتب (ابن
عباس)............................................. [٨٥]
ـ لو كشف [لي] الغطاء
ما ازددت يقينا (الإمام علي).............................. [٧٠]
٣
فهرس الأبيات الشعرية
[حرف الألف]
ودعوت ربّي
بالسّلامة جاهدا
|
|
ليصحّني فإذا
السلامة داء [٩٢٧]
|
[حرف الباء]
ولا عيب فيهم
غير أنّ سيوفهم
|
|
بهن فلول من
قراع الكتائب [٤٩٧]
|
لدوا للموت
وابنوا للخراب
|
|
فكلكم يصير إلى
التراب [٣١٦]
|
خليلي مرّا بي
على أم جندب
|
|
نقضي لبانات
الفؤاد المعذب [١٠٢٦]
|
فمن يك أمسى
بالمدينة رحله
|
|
فإنّي وقيّار
بها لغريب [٣٨٢]
|
ألم تر أنّي
كلما جئت طارقا
|
|
وجدت بها طيبا
وإن لم تطيب [١٠٢٦]
|
[حرف الحاء]
ولقد رأيت زوجك
في الوغى
|
|
متقلّدا سيفا
ورمحا [٧٢٢]
|
فقالت لصاحبيّ
لا تحبسانا
|
|
بنزع أصوله
واجتز شيحا [١٠٢٦]
|
[حرف الدال]
إخوتي لا تبعدوا
أبدا
|
|
وبلى والله قد
بعدوا [٤٥٨]
|
قد أترك القرن
مصفرّا أنامله
|
|
كأن أثوابه مجت
بفرصاد [١١٧٨]
|
تمنى رجال أن
أموت وإن أمت
|
|
فتلك سبيل لست
فيها بأوحد [٨٤٣]
|
دعتك إليها
مقلتاها وجيدها
|
|
فملت كما مال
المحب على عمد [٩٤٤]
|
وما الناس
بالناس الذين عهدتهم
|
|
وما الدّار
بالدّار التي كنت أعهد [١٦٥]
|
[حرف الراء]
وأنت كثير يا
ابن مروان طيّب
|
|
وكان أبوك ابن
العقائل كوثرا [١٢٢٦]
|
أخاف زيادا أن
يكون عطاؤه
|
|
أداهم سودا أو
محدرجة سمرا [٣٦٤]
|
من تلق منهم تقل
لاقيت سيّدهم
|
|
مثل النجوم التي
يسري بها الساري [٩٨٧]
|
شهد الحطيئة يوم
يلقى ربّه
|
|
أنّ الوليد أحق
بالغدر [٥١٢]
|
وكنت إذا جاري
دعا لمضوفة
|
|
أشمّر حتى ينصف
الساق مئزري [١٥١]
|
فإن حراما لا
أرى الدهر باكيا
|
|
على شجوة إلا
بكيت على عمرو [٧٠٥]
|
[حرف العين]
وما المرؤ إلا
كالشهاب وضوئه
|
|
يحور رمادا بعد
إذ هو ساطع [٥٢]
|
فإن تزجراني يا
ابن عفّان انزجر
|
|
وإن تدعاني أحم
عرضا ممنّعا [١٠٢٦]
|
[حرف الفاء]
إذا نحن سرنا
سارت الناس خلفنا
|
|
وإن نحن أومأنا
إلى الناس وقفوا [١٠١٦]
|
نحن بما عندنا
وأنت بما
|
|
عندك راض
والرّأي مختلف [١٠٢٥]
|
[حرف اللّام]
ألا كل شيء ما
خلا الله باطل
|
|
وكل نعيم لا
محالة زائل [٤٧٢]
|
فلمّا أجزنا
ساحة الحي وانتحى
|
|
بنا بطن خبت ذي
خفاف عقنقل [٩٣٤]
|
رأت مرّ السنين
أخذن منّي
|
|
كما أخذ السرار
من الهلال [٧٦٦]
|
إن الأمور إذا
الأحداث دبّرها
|
|
دون الشيوخ ترى
في بعضها خللا [٩٦٣]
|
قد يدرك المتأني
بعض حاجته
|
|
وقد يكون من
المستعجل الزّلل [٩٦٣]
|
لعمرك ما أدري
وإنّي لأوجل
|
|
على أيّنا تعدو
المنية أوّل [٨٤٣]
|
لقد كذب الواشون
ما بحت عندهم
|
|
بسرّ ولا
أرسلتهم برسول [٧٦٧]
|
إن الذي سمك
السماء بنى لنا
|
|
بيتا دعائمه أعز
وأطول [٨٤٣]
|
يريد الرّمح صدر
أبي براء
|
|
ويعدل عن دماء
بني عقيل [٦٣٦]
|
أصبحت أمنحك
الصدود وإنني
|
|
قسما إليك مع الصدود
لأميل [٨٤٣]
|
[حرف الميم]
وأعلم ما في
اليوم والأمس قبله
|
|
ولكنّني عن علم
ما في غد عمي [١٠٨٦]
|
وكن للذي لم
تحصه متعلّما
|
|
وأمّا الذي
أحصيت منه فعلّم [٦٦٩]
|
قد أعسف النازح
المجهول معسفه
|
|
في ظلّ أخضر
يدعو هامة البوم [١٠٩٢]
|
[حرف النون]
إنّ دهرا يلف
شملي بجمل
|
|
لزمان يهمّ
بالإحسان [٦٣٦]
|
رماني بأمر كنت
منه ووالدي
|
|
بريئا ومن أجل
الطّوي رماني [١٠٢٥]
|
فللموت تغذوا
الوالدات سخالها
|
|
كما لخراب
الدّهر تبنى المساكن [٥١٤]
|
إن شرخ الشباب
والشعر الأس
|
|
ود ما لم يعاص
كان جنونا [٣٨٢]
|
وما أدري إذا
يمّمت أرضا
|
|
أريد الخير
أيهما يليني [٥٥٩]
|
[حرف الهاء]
إنّ من ساد ثم
ساد أبوه
|
|
ثم قد ساد قبل
ذلك جدّه [٩٥٠]
|
إذا رضيت علي
بنو قشير
|
|
لعمر الله
أعجبني رضاها [٧٢٧]
|
أولم تكن تدري
نوار بأنّني
|
|
وصّال عقد حبائل
جذّامها [٩٦٣]
|
ترّاك أمكنة إذا
لم أرضها
|
|
أو يرتبط بعض
النفوس حمامها [٩٦٣]
|
[حرف الياء]
على أنّني راض
بأن أحمل الهوى
|
|
وأخلص منه لا
علي ولا ليا [٨٧]
|
٤
فهرس أنصاف الأبيات
١ ـ الأعجاز
[حرف الألف]
ومن
بعد أرض بيننا وسماء...................................................... [١٠]
[حرف الباء]
فإنّي
وقيّار بها لغريب........................................................ [٢٢٦]
[حرف النون]
نكن
مثل من يا ذئب يصطحبان.............................................. [٤٩٩]
فألفى
قولها كذبا ومينا....................................................... [٧٩٠]
معاذ
الله من كذب ومين..................................................... [٨٩٥]
٢ ـ الصدور
[حرف
الألف]
إذا
لسعته النحل لم يرج لسعها............................................... [١٨٥]
أشدد
حيازيمك للموت...................................................... [٨٢٠]
أنا
أبو النجم وشعري شعري................................................ [١٠٦١]
[حرف العين]
علفتها
تبنا وماء باردا...................................................... [١٠٨٠]
[حرف الفاء]
فقلت
يمين الله أبرح قاعدا.................................................... [٢٢٨]
[حرف القاف]
قفا
نبك [من ذكرى حبيب ومنزل].......................................... [١٠٢٦]
٥
فهرس الأعلام
[حرف الألف]
آدم (ع) : ١٠٧ ،
١١١ ، ١٣٨ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٣١٣ ، ٣٥٠ ، ٥٢٧ ، ٥٥٢ ، ٦٢٤ ، ٦٨٤ ، ٦٨٥ ، ٦٨٦ ،
٦٩٨ ، ٧٤٣ ٧٩٥ ، ٨٩٦ ، ٩٢٤ ، ٩٣٢ ٩٥٠ ، ١١٤٠ ، ١١٩٢.
آصف : ٨٠٣.
آل محمد (ع) :
٧٩٤.
آل يعقوب (ع) :
٦٤٤ ، ٦٤٥.
إبراهيم (ع) :
١٨ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٦٦ ، ٦٩ ، ٧٠ ، ١١١ ، ٤٠٤ ، ٤٨٩ ، ٥٢٢ ، ٥٢٤ ، ٥٢٥ ، ٥٢٧ ، ٥٣٢ ،
٦٥٩ ، ٦٦٠ ، ٧٠١ ، ٧٠٢ ، ٧٢٥ ، ٧٢٦ ، ٨٣٣ ، ٨٧٣ ، ٩٢٥ ، ٩٢٧ ، ٩٢٨ ، ٩٣٢ ، ١٠٨٩
، ١١٩٢.
إبراهيم النخعي
: ٩٢٤.
إبليس : ١٦٨ ،
٢٦٨ ، ٣١٤ ، ٣١٥ ، ٣١٨ ، ٣٥٠ ، ٣٦٨ ، ٦٢٤ ، ٦٨٤ ، ٦٩٦ ، ٨٩٦ ، ٩٤٧ ، ١٠٧٣ ،
١٠٨٤.
ابن الأنباري :
٤٢٦ ، ٥٣١ ، ٥٤١ ، ٦٠١ ، ٦٥٠ ، ٨٧٦ ، ٧٢٧ ، ٩٣٤ ، ٩٦٣ ، ١١٩٨.
ابن جريج : ٨١٦.
|
|
ابن جرير ـ (الطبري)
: ٥٨٧ ، ٧٨٦ ، ٨٣٢ ، ١١٨٩.
ابن جنّي : ٦٥١.
ابن دريد :
١١٩١.
ابن السائب :
١٢٠٢.
ابن السكّيت :
٦٨٣.
ابن عباس : ٤٤ ،
٨٥ ، ١١٠ ، ١١١ ، ١٤٧ ، ١٤٩ ، ٢٥٤ ، ٣٨٤ ، ٣٨٨ ، ٤٢٦ ، ٤٤٠ ، ٤٦٩ ، ٤٧١ ، ٤٩١ ،
٥٢٤ ، ٥٤٩ ، ٥٩٦ ، ٦٠١ ، ٦٠٣ ، ٦١٢ ، ٦١٤ ، ٦٢٤ ، ٦٤٨ ، ٦٦٢ ، ٦٦٤ ، ٦٧٣ ، ٦٨٨ ،
٧٠٣ ، ٧٠٥ ، ٧١٥ ، ٧٦٣ ، ٧٨٤ ، ٧٩٣ ، ٨٠٧ ، ٨٤٤ ، ٨٤٩ ، ٨٥٨ ، ٨٧٦ ، ٨٨١ ، ٩٢٤ ،
٩٩١ ، ١٠٢٠ ، ١٠٢٩ ، ١٠٤٦ ، ١٠٨٢ ، ١١٠٥ ، ١١٢١ ، ١١٥٨ ، ١١٦٥ ، ١١٩٠ ، ١١٩٥ ،
١٢٠٥ ، ١٢٠٧ ، ١٢٩٦ ، ١٢٣٠ ، ١٢٣٢.
ابن عرفة : ٦٧٥.
ابن عمر : ١٢٠٥.
ابن قتيبة : ١٤٩
، ٣٩٤ ، ٤٢٦ ، ٤٤٠ ، ٤٦٩ ، ٨٧٦ ، ١٠٢٩.
|
__________________
ابن مسعود : ٥٢٧
، ٥٧٣ ، ٦٣٨ ، ٦٤٨ ، ٧٦٨ ، ٨٤٩ ، ٩٢٤ ، ١٠٧١ ، ١٠٩٧ ، ١٢٠٥ ، ١٢٣٠.
أبو بكر : ١٠١٨
، ١٠٧١ ، ١١٧٦ ، ١١٩٩.
أبو ثور : ١٠٢٦.
أبو جندب الهذلي
: ١٥١.
أبو جهل : ١١٩٩.
أبو رجاء : ٦٤٨.
أبو سليمان
الدّاراني : ٨٤٠.
أبو طالب : ٧٣١
، ١٢٠٢.
أبو عبيدة : ٩٦٣
، ١٠٥١ ، ١١٩٩ ، ١٢٢٣ ، ١٢٣٢.
أبو علي : ٨٢٠.
أبو اللّيث (الفقيه)
: ٩٨.
أبيّ بن كعب :
٥٢٧ ، ٦٣٨ ، ١١٩١ ، ١٢٢٤.
الأخفش : ٥٧٩ ،
٦٥١ ، ٧٥١.
إدريس (ع) :
٧٠٣.
الأزهري : ٦٥١ ،
٦٧٥.
إسحاق (ع) : ٢٨٩
، ٥٢٦ ، ٥٢٧ ، ٧٩٤.
الإسلام : ٣٠ ،
٣١ ، ٨٧٤ ، ١٢٢٨.
إسماعيل (ع) :
٢٨٩ ، ٥٢٦ ، ٥٢٧ ، ٧٠٣.
الأصمعي : ٤١٦.
الأعشى : ٧٤.
امرئ القيس :
٢٢٨ ، ٩٣٤ ، ١٠٢٦.
أميّة بن خلف :
١١٩٩.
أنس بن مالك :
١٢٢٥.
الإنجيل : ١١ ،
٨٨ ، ١٢٨ ، ٢٣٤ ، ٢٤٣ ، ٢٤٧ ، ١٠٦٧ ، ١٠٩٣ ، ١٢١٤.
أهل الكتاب : ٦٥
، ١٠٨ ، ٢١٨ ، ٢٣٣ ، ٢٣٧ ، ٨٣٧ ، ١١٥٠ ، ١٢١٤.
أيّوب (ع) : ٤٨٩
، ٩٤٦.
|
|
[حرف الباء]
بلعام : ٣٤٨.
البندنيجي :
٨٠٣.
بنو إسرائيل :
٢١٦ ، ٢٢٣ ، ٢٣٠ ، ٣٣٣ ، ٣٣٧ ، ٦٤١ ، ٦٨١ ، ٧١٩.
بنو قريظة : ٢٣٥
، ٤١٦ ، ٨٨٠.
بنو النضير :
٢٣٥.
بيت المقدس : ٣٣
، ٣٥ ، ٩٧ ، ٥٧٣ ، ٥٧٤ ، ٥٧٥ ، ٩٨٦.
[حرف التاء]
التوراة : ١١ ،
١٣ ، ٨٨ ، ١٢٨ ، ٢٤٣ ، ٣٣٨ ، ٦٨٢ ، ١٠٦٧ ، ١١٥٠ ، ١٢١٤.
[حرف الثاء]
ثابت بن قيس :
١٠١٨.
ثعلب : ١١٤ ،
٦٠٣ ، ٦٨٣ ، ١٢٢٢.
الثعلبي : ٦١٢.
ثمود : ٨٠٩ ،
١١٩٨.
[حرف الجيم]
جبريل (ع) : ٩٥
، ٣٤٣ ، ٣٦٨ ، ٣٧٨ ، ٣٨٠ ، ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، ٤٩٤ ، ٦٤٩ ، ٦٥٠ ، ٦٥٣ ، ٩٨٣ ، ١٠٦٨ ،
١٠٧٦ ، ١١١٣ ، ١١٥٣ ، ١٢٢٦.
الجرجاني : ٩٤٤.
جعفر الصادق :
٩٣.
الجوهري : ١ ،
٤٦٢ ، ٤٧٠ ، ٥٢٠ ، ٥٧٩ ، ٦٦٩.
[حرف الحاء]
الحجاز : ١٦٣.
|
حذيفة : ٥٧٣.
حسّان بن ثابت :
٣٨٢ ، ٦٣٦.
الحسن : ٤٢٦ ،
٧٩٣ ، ٧٩٥ ، ٨٤٤ ، ٨٤٩ ، ٩٤٥ ، ١٠٩٦ ، ١١٧٩ ، ١٢٣٠.
الحطيئة : ٥١٢.
حمزة بن عبد
المطّلب : ١٠٧١.
حوّاء : ١٣٨ ،
٣٥٠ ، ٥٢٧ ، ٥٥٢ ، ٦٨٥ ، ٩٥٠.
الحواريّون :
٢٠٦١.
[حرف الخاء]
الخارجية ـ (الخوارج)
: ١٢٩.
خديجة (ع) :
١٢٠٢.
الخضر (ع) : ٦٣٠
، ٦٣٧ ، ٦٣٨ ، ٦٤٠.
الخليل : ٥٣١ ،
٩١٩.
[حرف الدّال]
داود (ع) : ٢٨٨
، ٥٥٦ ، ٥٩٧ ، ٥٩٨ ، ٧٩٥ ، ٨٦٨ ، ٩٤١ ، ٩٤٢ ، ٩٤٣ ، ١٠٧٦.
[حرف الذّال]
ذو القرنين :
٦٣٩ ، ٦٤٠ ، ٦٤١.
ذو الكفل (ع) :
٧٠٣.
[حرف الرّاء]
الرّشيد : ١٠٥٠.
الرّوم : ٦١٥.
[حرف الزّاي]
الزّبور : ٨٨ ،
٥٩٧ ، ٥٩٨.
الزّبير : ١٠٧١.
الزّجّاج : ١ ،
٢٩ ، ١٠٥ ، ١٤٩ ، ٢٢٥ ، ٤٢٦ ، ٤٦٩ ، ٥٣١ ، ٥٥٨ ، ٥٨٣ ، ٦١٢ ، ٦٧٥ ،
|
|
٩٢٤ ، ٩٩٥ ،
١٠٠٦ ، ١٠٣٤ ، ١٠٥٧ ، ١٠٩٧ ، ١١٣٧ ، ١١٦٥ ، ١١٩٨ ، ١١٩٩ ، ١٢٢٨ ، ١٢٣٦.
زكريا (ع) : ٩٩
، ١٠١ ، ٤٥٢ ، ٦٤٦ ، ٨٠٣.
الزّمخشري : ٨٨
، ٩٨ ، ٤١٠ ، ٤٤٥ ، ٤٧٥ ، ٥٠٣ ، ٥٢٠ ، ٥٥١ ، ٥٦١ ، ٥٨٣ ، ٥٨٥ ، ٦١٢ ، ٦٢٤ ، ٧٨٧
، ٩١٣ ، ٩٢٧ ، ٩٦٣ ، ٩٧٧ ، ١٠٢٧ ، ١٠٣٨ ، ١٠٩٢ ، ١١٥٦ ، ١١٩٨ ، ١١٩٩ ، ١٢٢٧ ،
١٢٢٨ ، ١٢٣٦.
الزّهري : ٢٥٤ ،
٥٢٧.
زيد : ١٠٧١.
[حرف السين]
سبأ : ٩٠٠.
سدوم : ٨٣٤.
السدّي : ٨٠٧ ،
٩٤٣.
سطيح : ٧٨٨.
سعد : ١٠٧١.
سعيد بن جبير :
٥٩٦ ، ٦٨٥ ، ٨٤٩.
سليمان (ع) :
٣٩٦ ، ٥١٢ ، ٥٥٦ ، ٧٠٣ ، ٧٩٥ ، ٧٩٦ ، ٧٩٨ ، ٧٩٩ ، ٨٠٢ ، ٨٠٣ ، ٨٠٤ ، ٨٩٩ ، ٩٤٥.
سيبويه : ٥٣١.
[حرف الشين]
الشّافعي : ٣٨٧.
الشام : ٥٧٥ ،
٩٣٠ ، ١٢٢٤.
شريح : ٩٢٤.
الشعبي : ٧٣٨.
شعيب (ع) : ٣٢٦
، ٣٢٧ ، ٧٨٦ ، ٨١٧ ، ٨١٨ ، ٨٢٢.
شق : ٧٨٨.
|
[حرف الصاد]
الصابئون : ٢٢٦.
صالح (ع) : ٣٢٥
، ٥٣٤ ، ٦٠٠ ، ١١٩٨.
[حرف الضّاد]
الضّحّاك : ٢٩٧
، ٧٦٣ ، ١٠٦٦ ، ١٠٧١.
[حرف الطّاء]
طالوت : ٥٩ ،
٩١.
طلحة : ١٠٧١.
الطّور : ٦٦١ ،
٦٨١ ، ٦٨٢ ، ٧٣٠.
[حرف العين]
عائشة : ١١٩١.
عبد الله بن
سلام : ١٠٨.
عبد المطلب :
١٢٠٠.
عتبة بن ربيعة :
١١٦٣.
عثمان : ١٠٧١.
العرب : ١ ، ٣ ،
٨٨ ، ٩١ ، ١٦٧ ، ٢١١ ، ٢٥٦ ، ٢٩٥ ، ٣٢٧ ، ٣٤٠ ، ٣٥٠ ، ٣٥٨ ، ٣٧٧ ، ٣٨٢ ، ٤٠٣ ،
٤٠٤ ، ٤٠٧ ، ٤١٠ ، ٤٢٢ ، ٤٥٠ ، ٤٥٨ ، ٤٩٦ ، ٥٠٥ ، ٥٠٩ ، ٥١٤ ، ٥٤١ ، ٦٠٠ ، ٦٠١ ،
٦١٠ ، ٦١٩ ، ٦٣٦ ، ٧٢٥ ، ٧٩٤ ، ٨٤٣ ، ٨٧٦ ، ٩٤٠ ، ٩٤٣ ، ١٠٢٦ ، ١٠٤٤ ، ١١٦١ ،
١١٧٨ ، ١١٩١ ، ١١٩٩ ، ١٢٣٢.
عرفات (عرفة) :
٤٩ ، ٥٠ ، ٥١.
عزير (ع) : ٥٨ ،
٦٨ ، ٣٧٨ ، ٥٥٣ ، ٩٤٩.
عزيز مصر : ١٦٨.
عكرمة : ٧٣٦ ،
٨٤٩ ، ١١٢٤.
علي (بن أبي
طالب) : ٧٠ ، ٦٠٣ ، ٩٢٤ ، ١٠٧١ ، ١١٧٩.
|
|
عمر : ٨٧١ ،
١٠١٨ ، ١٠٧١ ، ١١٧٦ ، ١١٧٩.
عيسى (ع) : ٤٤ ،
٦٠ ، ١٠٠ ، ١٠٢ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٧ ، ١١٣ ، ١٩٤ ، ٢٠١ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢١٧ ،
٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، ٢٦٨ ، ٢٩٠ ، ٤٣٥ ، ٥٢٨ ، ٥٥٣ ، ٥٧٨ ،
٦٥٥ ، ٦٥٦ ، ٦٥٨ ، ٧١٨ ، ٨٦٨ ، ٨٧٣ ، ٨٨٦ ، ٩٠٦ ، ٩٤٩ ، ٩٦٣ ، ٩٨٨ ، ١٠٦٩ ، ١٠٧٧
، ١٠٩٣ ، ١٠٩٥.
[حرف الفاء]
الفرّاء : ٢٢٥ ،
٣٨٤ ، ٤٣٩ ، ٤٦٩ ، ٦٠٧ ، ٦٢٨ ، ٧٩٤ ، ٨٢٦ ، ٨٧٦ ، ٩٢٤ ، ٩٤٠ ، ٩٥٨ ، ٩٩٥ ، ١٠٠٥
، ١٠٢٦ ، ١١٥٧ ، ١٢٠٢ ، ١٢٢٣ ، ١٢٣٦.
الفرزدق : ٣٦٤ ،
٨٤٣.
الفرس : ٦١٥.
فرعون : ٣٢٨ ،
٣٢٩ ، ٣٣١ ، ٣٣٣ ، ٣٩٤ ، ٤٠٠ ، ٤٣٢ ، ٤٨٦ ، ٥٢٩ ، ٦٠٠ ، ٦٠٣ ، ٦٠٤ ، ٦٧٩ ، ٦٨٠ ،
٧٦٩ ، ٧٧٠ ، ٧٧٤ ، ٨٢١ ، ٨٦٧.
الفضيل : ١١٧٩.
فنحاص بن
عازوراء : ١٠٨.
[حرف القاف]
قابيل : ٢٢٨ ،
٢٢٩ ، ٢٣٠.
قارون : ٢٢١.
القبط : ٧١٩.
قتادة : ٢٦٨ ،
٣٦٨ ، ٣٧٦ ، ٧٩٥ ، ٨٤٩ ، ٩٣٢ ، ٩٤٥ ، ١٠٥٠ ، ١١٩١.
القرآن : ٢٨ ،
٨٨ ، ٨٩ ، ٩١ ، ١٧١ ، ١٨٤ ، ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٤٥ ، ٢٤٧ ، ٢٧٥ ، ٢٨١ ،
|
٢٩٠ ، ٢٩٧ ، ٣٠٣
، ٣٤٣ ، ٣٨٠ ، ٣٩٦ ، ٤٠٧ ، ٤٢١ ، ٤٢٢ ، ٤٣٤ ، ٤٤٦ ، ٤٤٧ ، ٤٦٢ ، ٤٧٣ ، ٥٠١ ، ٥٠٥
، ٥١٤ ، ٥٢٩ ، ٥٦٠ ، ٥٦٤ ، ٥٦٥ ، ٥٦٧ ، ٥٧١ ، ٥٩٨ ، ٦٠١ ، ٦٠٥ ، ٦١٢ ، ٦١٣ ، ٦١٩
، ٦٢٣ ، ٦٦٣ ، ٦٨٨ ، ٦٩٢ ، ٦٩٤ ، ٦٩٧ ، ٧٢٣ ، ٧٣١ ، ٧٧٤ ، ٧٩٠ ، ٨٢٥ ، ٨٤٩ ، ٩٢٢
، ٩٢٤ ، ٩٤٠ ، ٩٥٥ ، ٩٨٥ ، ١٠٢٣ ، ١٠٥١ ، ١٠٥٢ ، ١٠٦٧ ، ١٠٨٧ ، ١١٣٤ ، ١١٤٥ ،
١١٥٠ ، ١١٦١ ، ١١٧٥ ، ١١٨٣ ، ١٢٠٤ ، ١٢٠٧ ، ١٢١٤ ، ١٢٢٦.
قريش : ١٢٢٤.
قس بن ساعدة :
١٧٢ ، ١٧٥.
قطرب : ٦٧٥.
[حرف الكاف]
الكسائي : ٦٠٣ ،
٩٤٠.
الكعبة : ٣٥ ،
١١١ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٤١٩ ، ٧٢٦.
الكلبي : ٧٢١.
[حرف اللّام]
لبيد : ٤٧٢ ،
٩٦٣.
لوط (ع) : ٤٦٢ ،
٧٨٥ ، ٩٣٦.
[حرف الميم]
ماروت : ٦٩٦.
مالك (ع) (خازن
النار) : ١٠٢٦.
الماوردي :
١١٨٨.
المبرّد : ٥٣١ ،
٦٥١ ، ١٠٢٦.
مجاهد : ٦٨ ،
٤١٢ ، ٦٢٣ ، ٨٢٠ ، ٨٤٩ ،
|
|
١١٦٥.
المجوس : ٦٦.
محمّد (ص) : ١٣
، ٣٥ ، ٣٩ ، ٩٨ ، ١١٣ ، ١٦٩ ، ١٩٤ ، ٢٠٠ ، ٢٣٤ ، ٢٧٩ ، ٢٩٠ ، ٤٠١ ، ٤٣٤ ، ٥٢٨ ،
٥٩٧ ، ٦٠٠ ، ٦٦٣ ، ٧٩٤ ، ٨٦٨ ، ٨٦٩ ، ٨٧٢ ، ٨٧٤ ، ٨٨٥ ، ٩٠٦ ، ٩٢٤ ، ٩٣٦ ، ٩٨٣ ،
٩٨٤ ، ١٠٦٩ ، ١٠٧٧ ، ١٠٩٣ ، ١١٥٠ ، ١١٩٢ ، ١٢١٢ ، ١٢٢٩.
المدينة : ١٢ ،
١٣ ، ١٨١ ، ٣٨٢ ، ٦١٩ ، ٧١٥.
مريم (ع) : ٩٧ ،
١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ٣٧٨ ، ٥٧٨ ، ٦٤٨ ، ٦٥٢ ، ٧٠٤ ، ٨٠٣.
مزدلفة : ٤٩ ،
٥٠.
المسجد الأقصى ـ
(بيت المقدس).
المسلمون : ٨٤٩ ،
١١٦٧ ، ١١٦٩ ، ١٢٢٥.
مسيلمة : ٧٨٨.
المعتزلة : ١٢٩.
معن بن أوس
المزني : ٨٤٣.
مقاتل : ١٦٢ ،
٢٩٧ ، ٤٣٩ ، ٤٥٦ ، ٧٠٣ ، ٧٦٣ ، ٧٦٥ ، ٧٨٦ ، ٧٩٥ ، ٨٠٣ ، ٨٠٧ ، ١٠٣٨ ، ١١٨٠ ،
١٢١٦.
مكّة : ١٢ ، ٢٨
، ٤٨ ، ١٨١ ، ٣٤٨ ، ٣٦٢ ، ٣٧١ ، ٣٧٧ ، ٥٠٢ ، ٥٧٣ ، ٥٧٤ ، ٦١٩ ، ٧١٥ ، ٧٣١ ، ٧٣٦
، ١٠٠٧.
ملكانية : ٢١٧.
موسى (ع) : ٤٤ ،
٥٣ ، ٥٨ ، ٦٠ ، ١١٣ ، ٢٠٠ ، ٢٢١ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٩٠ ، ٣٣٠ ، ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٣٣٥ ،
٣٣٦ ، ٣٣٧ ، ٣٣٩ ، ٣٤٢ ، ٣٤٨ ، ٣٩٤ ، ٤٣٠ ، ٤٣١ ، ٤٣٢ ، ٤٨٠ ، ٤٨٦ ، ٥١٩ ، ٥٢٨ ،
٦٠٠ ، ٦٠٣ ، ٦٠٤ ، ٦٢٨ ، ٦٣٠ ، ٦٣٦ ، ٦٣٧ ، ٦٤٠ ، ٦٦١ ، ٦٦٢ ، ٦٧٠ ، ٦٧١ ، ٦٧٢ ،
٦٧٣ ،
|
٦٧٧ ، ٦٨١ ، ٦٨٢
، ٧١٨ ، ٧١٩ ، ٧٦٧ ، ٧٦٨ ، ٧٧٠ ، ٧٩٣ ، ٧٩٥ ، ٨٦١ ، ٨١٧ ، ٨٢١ ، ٨٢٢ ، ٨٦٨ ، ٨٧٣
، ٩٦٣ ، ٩٨٣ ، ٩٨٧ ، ١٠٥٠ ، ١٠٦٩ ، ١٠٧٧ ، ١١٧٣ ، ١١٧٨.
ميكائيل (ع) :
٣٨٠ ، ٤٧٣ ، ٤٧٤.
[حرف النون]
النخعي : ٥٢٧.
نسطورية : ٢١٧.
النصارى : ٣٤ ،
٣٨ ، ٤٤ ، ٢١٧ ، ٢٢٠ ، ٢٢٢ ، ٢٢٦ ، ٢٩٠ ، ٣٧٨ ، ٤٣٥ ، ٩٤٩ ، ١٠٧٧ ، ١٢١٤.
النضر بن الحارث
: ٧١٢.
نمرود : ٦٦.
نوح (ع) : ٢٧٩ ،
٣٢٣ ، ٣٢٤ ، ٤٤٩ ، ٤٥٠ ، ٤٥٢ ، ٥٧٦ ، ٨٢٨ ، ٨٧٣ ، ٨٧٤ ، ٩١٤ ، ٩٢٥ ، ١٠٥٠ ، ١٠٧٦
، ١١٤١ ، ١١٤٢.
[حرف الهاء]
هابيل : ٢٢٨.
هاروت : ٦٩٦.
هارون (ع) : ٤٣١
، ٤٣٢ ، ٦٦٢ ، ٦٧٧ ، ٧٦٧ ، ٨٢١.
|
|
هامان : ٣٣٣.
هود (ع) : ٣٢٤ ،
٤٤٩ ، ٤٥٣ ، ٤٥٧.
[حرف الواو]
الواحدي : ٨٤٩.
ورقة بن نوفل :
١٧٢ ، ١٧٥.
الوليد : ٥١٢.
الوليد بن
المغيرة : ١٠٤٧ ، ١١٦٣.
[حرف الياء]
يحيى (ع) : ١٠٠
، ١٠١ ، ٦٥٧ ، ٦٥٨.
يعقوب (ع) : ٢٨٩
، ٤٧٥ ، ٤٧٧ ، ٤٧٨ ، ٤٩٠ ، ٤٩١ ، ٤٩٢ ، ٦٤٤ ، ٩٤٦.
يعقوبية : ٢١٧.
اليمن : ١٢٢٤.
اليهود : ٣٤ ،
٣٥ ، ١٠٦ ، ٢٠١ ، ٢٢٠ ، ٢٢٢ ، ٢٤٤ ، ٢٤٩ ، ٢٥٦ ، ٢٩٠ ، ٣٧٨ ، ٤٣٥ ، ٦٦٤ ، ٩٤٩ ،
١٠٧٧ ، ١٠٧٩ ، ١٠٨٢ ، ١٢١٤.
يوسف (ع) : ١٦٣
، ٢٢٨ ، ٤٧٧ ، ٤٨٢ ، ٤٨٥ ، ٤٨٦ ، ٤٨٨ ، ٤٨٩ ، ٤٩٠ ، ٤٩٣ ، ٤٩٤ ، ٤٩٥ ، ٦٤٤.
يوشع (ع) : ٦٢٨
، ٦٢٩ ، ٦٣٠.
يونس (ع) : ٦٤٠
، ٧٩٥ ، ٩٣٦.
|
٦
فهرس المحتويات
مقدمة
|
٥
|
سورة الإسراء
|
١٦٨
|
١ ـ المؤلف
|
٥
|
سورة الكهف
|
١٨٢
|
٢ ـ مؤلفاته
|
٥
|
سورة مريم عليهاالسلام
|
١٩٢
|
٣ ـ الكتاب
|
٦
|
سورة طه عليهالسلام
|
٢٠٠
|
مقدمة المؤلف
|
٩
|
سورة الأنبياء
|
٢٠٧
|
سورة فاتحة
الكتاب
|
١٠
|
سورة الحج
|
٢١٢
|
سورة البقرة
|
١٢
|
سورة المؤمنون
|
٢١٧
|
سورة آل عمران
|
٣٢
|
سورة النور
|
٢١٩
|
سورة قصة النساء
|
٤٦
|
سورة الفرقان
|
٢٢٤
|
سورة المائدة
|
٦٦
|
سورة الشعراء
|
٢٢٨
|
سورة الأنعام
|
٨٢
|
سورة النمل
|
٢٣٤
|
سورة الأعراف
|
٩١
|
سورة القصص
|
٢٤٠
|
سورة الأنفال
|
١٠١
|
سورة العنكبوت
|
٢٤٤
|
سورة التوبة
|
١٠٨
|
سورة الرّوم
|
٢٤٧
|
سورة يونس عليهالسلام
|
١١٩
|
سورة لقمان
|
٢٥٠
|
سورة هود عليهالسلام
|
١٢٥
|
سورة السجدة
|
٢٥٣
|
سورة يوسف عليهالسلام
|
١٣٦
|
سورة الأحزاب
|
٢٥٦
|
سورة الرعد
|
١٤٤
|
سورة سبأ
|
٢٦٣
|
سورة إبراهيم
عليه الصلاة والسلام
|
١٤٦
|
سورة فاطر
|
٢٦٥
|
سورة الحجر
|
١٥٤
|
سورة يس
|
٢٦٦
|
سورة النحل
|
١٥٧
|
سورة الصافات
|
٢٦٩
|
سورة ص
|
٢٧٤
|
سورة الملك
|
٣٣٢
|
سورة الزمر
|
٢٧٧
|
سورة ن (القلم)
|
٣٣٣
|
سورة المؤمن (غافر)
|
٢٨٠
|
سورة الحاقة
|
٣٣٤
|
سورة حم السجدة
|
٢٨٤
|
سورة المعارج
|
٣٣٦
|
سورة الشورى
|
٢٨٦
|
سورة نوح (عليهالسلام)
|
٣٣٧
|
سورة الزخرف
|
٢٨٩
|
سورة الجن
|
٣٣٨
|
سورة الدخان
|
٢٩١
|
سورة المزّمل
|
٣٣٩
|
سورة الجاثية
|
٢٩٣
|
سورة المدّثر
|
٣٤٠
|
سورة الأحقاف
|
٢٩٤
|
سورة القيامة
|
٣٤٢
|
سورة محمد صلىاللهعليهوسلم
|
٢٩٥
|
سورة الإنسان
|
٣٤٣
|
سورة الفتح
|
٢٩٦
|
سورة المرسلات
|
٣٤٦
|
سورة الحجرات
|
٢٩٨
|
سورة النبأ
|
٣٤٧
|
سورة ق
|
٣٠٠
|
سورة النازعات
|
٣٤٨
|
سورة الذاريات
|
٣٠٣
|
سورة عبس
|
٣٤٩
|
سورة الطور
|
٣٠٥
|
سورة التكوير
|
٣٥٠
|
سورة النجم
|
٣٠٦
|
سورة الانفطار
|
٣٥١
|
سورة القمر
|
٣٠٨
|
سورة المطففين
|
٣٥٢
|
سورة الرّحمن عزوجل
|
٣١٠
|
سورة الانشقاق
|
٣٥٣
|
سورة الواقعة
|
٣١٢
|
سورة البروج
|
٣٥٤
|
سورة الحديد
|
٣١٥
|
سورة الطارق
|
٣٥٥
|
سورة المجادلة
|
٣١٨
|
سورة الأعلى
|
٣٥٦
|
سورة الحشر
|
٣١٩
|
سورة الغاشية
|
٣٥٧
|
سورة الممتحنة
|
٣٢٢
|
سورة الفجر
|
٣٥٩
|
سورة الصف
|
٣٢٣
|
سورة البلد
|
٣٦١
|
سورة الجمعة
|
٣٢٥
|
سورة الشمس
|
٣٦٢
|
سورة المنافقون
|
٣٢٦
|
سورة الليل
|
٣٦٣
|
سورة التغابن
|
٣٢٧
|
سورة الضحى
|
٣٦٤
|
سورة الطلاق
|
٣٢٨
|
سورة الانشراح
|
٣٦٥
|
سورة التحريم
|
٣٣٠
|
سورة التّين
|
٣٦٧
|
سورة العلق
|
٣٦٨
|
سورة الكافرون
|
٣٨١
|
سورة القدر
|
٣٦٩
|
سورة النصر
|
٣٨٣
|
سورة البيّنة
|
٣٧٠
|
سورة تبّت
|
٣٨٤
|
سورة الزلزلة
|
٣٧١
|
سورة الإخلاص
|
٣٨٥
|
سورة العاديات
|
٣٧٢
|
سورة الفلق
|
٣٨٦
|
سورة القارعة
|
٣٧٣
|
سورة الناس
|
٣٨٧
|
سورة التكاثر
|
٣٧٤
|
الفهارس
|
|
سورة العصر
|
٣٧٥
|
١ ـ فهرس
الأحاديث النبوية
|
٣٩١
|
سورة الهمزة
|
٣٧٦
|
٢ ـ فهرس الآثار
|
٣٩٤
|
سورة الفيل
|
٣٧٧
|
٣ ـ فهرس
الأبيات الشعرية
|
٣٩٥
|
سورة قريش
|
٣٧٨
|
٤ ـ فهرس أنصاف
الأبيات
|
٣٩٨
|
سورة الماعون
|
٣٧٩
|
٥ ـ فهرس
الأعلام
|
٤٠٠
|
سورة الكوثر
|
٣٨٠
|
٦ ـ فهرس المحتويات
|
٤٠٦
|
|