
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
الفصل العاشر في السلم
ويقال له السلف
، وعرفوه بأنه بيع مضمون في الذمة مضبوط بمال معلوم مقبوض في المجلس إلى أجل معلوم
بصيغة خاصة ، فالكلام في هذا الفصل يقع في مقامين.
الأول ـ في
الشرائط، وهي الإيجاب والقبول ، وذكر الجنس ، وذكر الوصف ، وقبض الثمن قبل التفرق
، وتقدير المبيع والثمن بالكيل والوزن ، واعتبار الأجل بما لا يحتمل الزيادة
والنقصان ، وغلبة وجوده وقت الحلول.
وتفصيل الكلام
في هذه الشروط يقع في مواضع ، الأول ـ الإيجاب والقبول ، ودليل وجوبهما ظاهر ، لان
السلم قسم من أقسام البيع المتوقف على ذلك ، وينعقد الإيجاب بلفظ بعت ، وكذا ينعقد
بلفظ التمليك على ما ذكره بعض الأصحاب ، واستلمت منك كذا ، واما أسلفتك وأسلمت
إليك ، فهما من المشترى ، وكذا سلفتك بالتضعيف.
قال في التذكرة
: ويجيء سلمت الا ان الفقهاء لم يستعملوه ، وينبغي القول
بجوازه لدلالته صريحا على المقصود ، ووروده لغة فيه ، والإيجاب بأحد هذه
العبارات من المسلم وهو المشترى ، والقبول حينئذ من المسلم اليه ، وهو البائع ،
وهذا الحكم من خواص السلم بالنسبة إلى أقسام البيع ، ومثله في صحة الإيجاب من كل
من المتعاقدين الصلح ، وهل ينعقد البيع بلفظ السلم كما ينعقد السلم به؟ بأن يقول
أسلمت إليك هذا الدرهم في هذا الشيء قولان : المشهور الجواز ، ومثله ـ على ما
ذكره في القواعد ـ ما لو قال البائع : أسلمت إليك هذا الثوب في هذا الدينار ،
قالوا : ووجه الصحة ان البيع يصح بكل ما أدى ذلك المعنى المخصوص ، والسلم نوع من
البيع ، اعتبره الشارع في نقل الملك ، فجاز استعماله في الجنس مجازا تابعا للقصد ،
ولأنه إذا جاز استعماله لما في الذمة المحتمل للغرر كان مع المشاهدة أدخل ، لأنه
أبعد من الغرر ، إذ مع المشاهدة يحصل العلم أكثر من الوصف ، والحلول يتيقن معه
إمكان التسليم والانتفاع بخلاف الأجل ، فكان أولى بالصحة ، ووجه العدم أن لفظ
السلم موضوع حقيقة للنوع الخاص من البيع ، فاستعماله في غير ذلك النوع مجاز ،
والعقود اللازمة لا تثبت بالمجازات ، ولان الملك انما ينتقل بما وضعه الشارع ناقلا
، ولم يثبت جعل الشارع هذا ناقلا في موضع النزاع ، وفصل ثالث ـ فقال : الحق انا ان
قلنا باختصاص البيع بما يثبت شرعا من الألفاظ ، لم يصح هنا ، وان جوزناه بكل لفظ
دل صريحا على المراد صح ، لان هذا اللفظ مع قصد البيع صريح في المطلوب ، وكلام
الأصحاب في تحقيق ألفاظ البيع مختلف ، والقول بعدم انعقاد البيع بلفظ السلم لا
يخلو من قوة.
أقول : وهذا
التفصيل جيد إلا انك قد عرفت مما حققناه آنفا في صدر الفصل الأول في البيع في
البحث عن الصيغة انه لم يقم دليل على هذه الألفاظ التي اعتبروها وعينوها وزعموا أن
الشارع حصر النقل فيها على الكيفية التي أدعوها ، بل المفهوم من الاخبار ان كل ما
دل من الألفاظ على التراضي من الطرفين فهو كاف في الصحة ،
حتى تخطأ بعض المحدثين الى الحكم بالجواز بمجرد الرضا وان لم يقع بالألفاظ
، وظاهر هذا القائل الرجوع الى ما ذكره من الوجه الأول وهو مردود بما قلناه والله
العالم.
الثاني والثالث
ـ الجنس والوصف والمراد بالجنس هنا اللفظ الدال على الحقيقة النوعية ، كالحنطة
والشعير ونحوهما ، والوصف هو الفارق بين أصناف ذلك النوع ، فلو أخل بهما أو
بأحدهما بطل العقد ، والوجه في ذلك ـ مضافا الى الاخبار الاتية ـ لزوم الغرر
المنفي لو لم يذكر ويشير الى ذلك جملة من الاخبار.
منها ما رواه في
الكافي والتهذيب عن معاوية بن عمار عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا بأس بالسلم في المتاع إذا سميت الطول والعرض».
وما رواه في
الكافي عن جميل بن دراج في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول
والعرض».
وفي موثقة
سماعة قال : «وسألته عن السلم في الحيوان إذا وصفته إلى أجل معلوم فقال : لا بأس
به».
وفي صحيحة
زرارة المروية في الفقيه والتهذيب عن الباقر عليهالسلام قال : «لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض
، وفي الحيوان إذا وصفت أسنانه». وفي حسنة زرارة وصحيحة المروية في الكافي عن أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بالسلم في الحيوان إذا وصفت أسنانها».
__________________
وفي موثقة
لزرارة أيضا عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «لا بأس بالسلم في في الحيوان إذا سميت سنا
معلوما».
وفي موثقة
سماعة المروية في الكافي قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن السلم في الحيوان قال : أسنان معلومة وأسنان معدودة
إلى أجل معلوم لا بأس به».
وقول ابى عبد
الله عليهالسلام في رواية ابن الحجاج الكرخي «ومن اشترى من طعام موصوف ولم يسم فيه قرية ولا موضعا فعلى صاحبه أن يؤديه».
وفي صحيحة
الحلبي «قال سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن الرجل يسلم في وصفاء بأسنان معلومة ولون معلوم
الحديث». الى غير ذلك من الاخبار المتفرقة الاتى إنشاء الله تعالى جملة منها.
والضابط في
الوصف أن كل ما يختلف لأجله الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله عادة فإنه يجب ذكره ،
قالوا : والمرجع في هذه الأوصاف إلى العرف ، فإنه ربما كان العامي أعرف بها من
الفقيه وحظ الفقيه فيها البيان الإجمالي ، ثم انه متى وصفه فلا يبالغ في الوصف
ويستقصي فيه ، إذ ربما تعذر وجوده ، فيبطل السلم ، بل ينبغي الاقتصار على ما
يتناوله اسم الموصوف بالوصف الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد الداخلة في ذلك المعين
، فان استقصى ذلك ووجد الموصوف صح السلم ، والا بطل كما ذكرناه.
قالوا : ولو
شرط الأجود لم يصح لتعذره ، إذ ما من فرد جيد الا ويمكن أن يكون فرد أجود منه فلا
يتحقق حينئذ كون المدفوع من أفراد الحق ، وكذا لو شرط الأردى لعين ما تقدم ، وقيل
هنا بإمكان التخلص من ذلك بأن الأردى وان لم يمكن الوقوف عليه لما عرفت من انه لا
فرد كذلك الا ويمكن أن يكون فوقه ما هو أردى
__________________
منه ، الا انه يمكن التخلص من الحق بدونه ، وطريقه ان يدفع فردا من الافراد
، فإن كان هو الأردى فهو الحق وان لم يكن كذلك كان قد دفع الجيد عن الردى ، وهو
جائز كما سيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ ذكره ، فيحصل التخلص ، ولا يبطل العقد ،
بخلاف ما لو شرط الأجود.
وأورد عليه
بأنه وان أمكن التخلص بالوجه المذكور ، لكنه غير كاف في صحة العقد ، إذ الواجب
تعيين المسلم فيه بالضبط بحيث يمكن الرجوع اليه ، عند الحاجة ويمكن تسليمه ولو
بالقهر بان يدفعه الحاكم الشرعي من مال المسلم اليه لو فرض امتناعه من تسليمه ،
ومن الظاهر أن هذين الأمرين منتفيان عن الأردى لأنه غير متعين ، فلا يمكن تسليمه ،
والجيد غير مستحق عليه ، فلا يجوز للحاكم ونحوه دفعه من ماله. وكذا لا يجب عليه مع
المماكسة وحينئذ فيتعذر التخلص ، وبه يظهر ان الأقوى عدم الصحة في هذا الفرد ايضا
كسابقه.
ولشيخنا الشهيد
(عطر الله مرقده) في الدروس هنا كلام في ذكر أوصاف جملة من المبيعات سلما لا بأس
بذكره وان طال به زمام الكلام في المقام ، قال (قدسسره) ولنذكر مما يعم به البلوى ثلاثة عشر ، أحدها الرقيق ،
وليذكر فيه الذكورة والأنوثة ، والنوع واللون ، والسن والقد كالطويل والقصير
والربعة ، ولو قدره بالأشبار كالخمسة والستة احتمل المنع ، لإفضائه إلى العزة
ويحتمل وجوب ذكر الكحل والدعج والزجج وتكلثم الوجه في الجارية وكونها خميصة ريانة اللمس ،
ثقيلة الردف ، أو أضداد ذلك لتفاوت الثمن به وعدم عزته ، والأقرب تعيين البكارة
والثيوبة في الأمة ، فلو أطلق بطل ، ولا يشترط ذكر الملاحة فلو ذكرها روعي العرف
ويحمل على أقل درجة ، ويحتمل البطلان لعدم انضباطها ، فان مرجعها
__________________
الى الاستحسان والشهوة المختلفين باختلاف الطبائع ، ولا يجب التعرض لآحاد
الأعضاء لعدم تفاوت الثمن فيه بينا ، وربما ادى الى عزة الوجود ، وكذا لو شرط
الولد مع الام المقصود بها التسري ، ولو قصدها الخدمة كالزنجية جاز لقلة التفاوت
واولى بالجواز اشتراط كونها حاملا سواء كانت حسناء أو شوهاء ، ومنع في المبسوط منه
لعدم إمكان ضبطه ، ومنع ابن الجنيد من اشتراط الحمل في الحيوان كله ، والوجه
الجواز ولا يجب وصف الحمل لانه تابع.
وثانيهما الإبل
فيذكر السن كالثني والذكورة والأنوثة واللون كالأسود والأحمر ، والصنف كالعرابى
والبخاتي ، والنتاج إذا كان معروفا عام الوجوه كالعبادى.
وثالثها الخيل
فيذكر الذكورة والأنوثة والسن والنوع والعربي والتركي ، واللون ، ولو ذكر الشباب
والهيئات كالأغر والمحجل واللطبم جاز وان لم يجب ذكرها.
ورابعها ـ البقر
والحمير ، ويتعرض فيه للسن والنوع والذكورة والأنوثة واللون والبلد.
وخامسها ـ الطير
ويتعرض فيه للنوع واللون وكبر الجثة أو صغرها ، لان سنها غير معلوم ، وكلما لم
يعلم سنه يرجع فيه الى البينة فإن فقدت ، فالى السيد ان كان رقيقا صغيرا أو الى
الرقيق ان كان بالغا فإن فقد فالى ظن أهل الخبرة :
وسادسها زوائد
الحيوان كاللبن واللبأ والسمن والزبد والرائب والصوف والشعر والوبر فيتعرض في اللبن للنوع كالماغر
والمرعى فان قصد به الجبن أو الكشك احتمل ذكر الزمان في الصفا والغيم ، فان لهما
أثرا بينا في ذلك عند اهله ويلزم عند الإطلاق حليب يومه ، وفي اللبإ ذلك ويزيد في
اللون والطبخ أو عدمه وفي السمن النوع كالبقري ، واللون والحداثة والعتاقة وفي
الجبن ذلك ، والرطوبة أو اليبوسة وكذا القريش والأقط ، وربما وجب في القريش ذكر
اليومي أو غيره
__________________
لتفاوته بذلك ، وفي الزبد جميع ما تقدم ويتعرض في الصوف والشعر والوبر
للنوع والزمان والطول والقصر والنعومة والخشونة والذكورة والأنوثة ان ظهر لهما
تأثير في الثمن.
وسابعها ـ الثياب
ويذكر فيه النوع والبلد والعرض والصفافة والغلظ والنعومة أو أضدادها ولا يجب ذكر الوزن
لعسره ، وله الخام عند الإطلاق وان ذكر المقصور جاز ، فان اختلف البلدان ذكر بلد
القصارة كالبعلبكى والقبطي والروسى ويجوز اشتراط المصبوغ فيذكر لونه وإشباعه أو
عدمه ولا فرق بين المصبوغ بعد نسجه أو قبله على الأقوى ومنع الشيخ إذا صبغ بعد
غزله ، لان الصبغ مجهول ، ولانه يمنع من معرفة الخشونة والنعومة وفي وجوب ذكر عدد
الخيوط نظر أقربه ذلك لاشتهاره بين أهله وتأثير في الثمن.
ثامنها ـ الحرير
والكرسف والكتان : ويذكر فيهما البلد واللون والنعومة والخشونة ويختص الحرير
بالغلظ أو الرقة ، ويجوز السلف في جوز القز ، فيذكر اللون والطراوة أو اليبس
والبلدة وأبطله الشيخ إذا كان فيه دود ، لان الحي يفسد بالخروج ، والميت لا يصح
بيعة ، قلنا هو كنوى التمر في بلد لا قيمة له فيه ، والكرسف بوجوب ذكر حلجه أو
عدمه وقيل يحمل الإطلاق على عدمه وهو بعيد الا مع القرينة ، ولو سلف في الغزل وجب
ذكر ما سلف ، واشتراط الغلظ والدقة ولو أسنده إلى غزل امرأة بعينها بطل.
تاسعها ـ الحبوب
والفواكه والثمار فيذكر في الحنطة البلد والحداثة والعتق واللون والكبر والصغر
والصرابة أو ضدها ، ولا يشترط ذكر حصاد عام أو عامين ، وان ذكره جاز وفي الشعير
والقطنية ذلك كله وفي التمر البلد والنوع والكبير
__________________
والصغير والحداثة والعتاقة واللون ان اختلف النوع ، وفي الرطب ذلك كله إلا
العتاقة ويجب المتعارف ، ولو شرط المنصف أو المذنب لزم ، وفي الزبيب البلد والنوع
والكبر والصغر واللون ان اختلف نوعه ، والمزيت أو غيره ، وله الجاف من التمر
والزبيب الخالي من التفالة ، ولا يجب تناهي الجفاف.
وفي الفواكه
البلد والنوع والطراوة أو ضدها ، واللون ان اختلف.
وفي الجوز
الصنف والكبر والصغر والبلد والحديث أو العتيق ، وله منزوع القشرة العليا وكذا
اللوز.
وفي الطلاء
البلد والنوع والحديث والعتيق واللون والصفا والقوام ، ويجب كونه مما ذهب ثلثاه
فصاعدا خاليا من التفل غير المعتاد ، وان ضم اليه ظروفه ، ويشترط كونها مما يصح
فيه السلم فلو كانت من أديم احتمل المنع ، لعسر وصفه ، والأقرب الجواز لعدم تعلق
الغرض بجميع أوصافه.
وفي السيلان
والمعصر البلد والنوع والقوام واللون ، وفي الدبس كذلك ولا يمنع منه سليس النار ،
ويجوز السلم في المصفر من الرطب والتمر ويوصف بوصفهما.
وعاشرها ـ العسل
ويذكر فيه البلد والزمان واللون ويحمل الإطلاق على المصفى لا الشهد ، ويحمل المصفى
على ما لم تمسه النار الا ان يشترط ذلك.
وحادي عاشرها
الخشب والحطب فيذكر النوع واليبس والرطوبة والطول والثخن ، ولا يجيئان في الحطب ،
نعم يذكر فيه الغلظ والدقة والوزن وفي خشب العريش ذلك ويزيد السمع أو المعقد.
وثاني عاشرها ـ
الحجر واللبن والآجر ، ففي الحجر النوع واللون والقدر والوزن ، وللطحن يزيد الرقة
أو الثخن والبلد ، وفي اللبن القالب المشهور ، والمكان الذي يضرب فيه وكذا في
الآجر ويزيد فيه اللون.
وثالث عشرها ـ الآنية
فيذكر النوع والشكل والقدر والطول والسمك والسعة
وكونه مصبوبا أو مضروبا والوزن ، خلافا للشيخ ومدار الباب البناء على
الأمور العرفية ، وربما كان العوام اعرف بها من الفقهاء وحظ الفقيه البيان
الإجمالي ، انتهى.
وأنت خبير بان
الظاهر من الاخبار المتقدمة ونحوها هو الاكتفاء بالوصف في الجملة فإنها دلت في
الحيوان على الاكتفاء بوصف الأسنان ، وفي المتاع بوصف الطول والعرض دون الاستقصاء
في جميع الأوصاف كما هو ظاهر كلامهم ، وان كان ما ذكروه أحوط.
إذا عرفت ذلك
فهنا فوائد يجب التنبيه عليها الاولى ـ المشهور جواز إسلاف الاعراض في الاعراض إذا
اختلفت ، بل ادعى عليه المرتضى الإجماع ، وكون الثمن نقدا أو عرضا ما لم يؤد الى
الربا ، وعن ابن الجنيد انه منع من إسلاف عرض في عرض إذا كانا مكيلين أو موزونين
أو معدودين كالسمن بالزيت.
أقول : ويدل
على ما ذهب اليه ابن الجنيد هنا ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أسلف رجلا زيتا على ان يأخذ منه سمنا قال : لا
يصلح».
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن عبد الله بن سنان في الحسن قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام ، يقول : لا ينبغي إسلاف السمن بالزيت ولا الزيت بالسمن».
ويدل على
المشهور ما رواه في الفقيه والتهذيب عن وهب «عن جعفر عن أبيه عن على عليهمالسلام قال : لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال ، وما يكال فيما
يوزن». والشيخ جمع بين الخبرين الأولين والثالث ، بحمل الخبرين الأولين المذكورين
اما على المنع من حيث كونهما متفاضلين ، قال : لان التفاضل بين الجنسين
__________________
المختلفين انما يجوز إذا كان نقدا ، وإذا كان نسيئة فلا يجوز ، واما ان
يكون على الكراهة قال : ولأجل ذلك قال : «لا يصلح ولا ينبغي» ولم يقل انه لا يجوز
أو ذلك حرام والأصحاب حملوها على الثاني لمنع ما ذكره الشيخ من التحريم في
المتفاضلين نسيئة كما تقدم في تحقيق المسألة المذكورة.
وأنت خبير بأن
استعمال لا يصلح ولا ينبغي في التحريم في الاخبار أكثر كثير. نعم هما في العرف
الآن بمعنى الكراهة ، ونقل عن ابن ابى عقيل انه منع من إسلاف غير النقدين ، ولم
نقف له على دليل ، بل ظاهر جملة من الاخبار يرده واما إسلاف الأثمان في العروض فهو
متفق عليه نصا وفتوى ، واما إسلاف الأثمان وان اختلفا فالظاهر انه لا خلاف في عدم
جوازه لدخوله في باب الصرف المشترط فيه التقابض في المجلس.
نعم يأتي على
ما تقدم نقله عن الصدوق في باب الصرف من عدم اشتراط ذلك الصحة هنا إلا أنك قد عرفت
ضعف القول المذكور ، وفيه ايضا مع تماثل العوضين مانع آخر ، وهو الزيادة الحكمية
في الثمن المؤجل باعتبار الأجل ، فإن له حظا من الثمن ، فيلزم الربا حينئذ.
الثانية ـ قد
ذكر جملة من الأصحاب للسلم ضابطة ، وهي أن كلما ينضبط وصفه يصح السلم منه ،
كالأشياء المعدودة في كلام صاحب الدروس ، ومنعوا من السلم في اللحم والخبز والجلود
والنبل المعمول ، والجواهر واللئالي ، والعقار والأرض ، لتعذر الضبط ، وناقش بعض
محققي متأخر المتأخرين في هذا الضابط قال هذا الضابط ظاهر ، ولكن العلم بتحققه في
بعض الجزئيات غير ظاهر ، والفرق مشكل.
نعم قد يوجد في
بعض الافراد ، ولكن غير معلوم ، لنا كليته ، فان الفرق بين الحيوان ولحومه مشكل ،
وكذا بين اللحم والشحم حتى لا يصح في الأول منهما ويصح في الثاني ، وان تخيل الفرق
بينهما ، ويمكن ان يقال بالصحة فيما
ينضبط في الجملة إلا ما ورد النهى عن مثله ، وما علم التفات العظيم بين
افراده مثل اللحم ، فإنه ورد النهى عنه ، ومثل اللؤلؤ الكبير فان التفاوت بين
افراده باللون والوضع كثير جدا بحيث يشكل ضبطه في العبارة ، وكذا أكثر ما يباع
عددا مشاهدة كالبطيخ والباذنجان والقثاء والنارنج وغير ذلك. انتهى وهو جيد.
أقول : والذي
وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن جابر عن ابى جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن السلف في اللحم قال : لا تقربنه فإنه
يعطيك مرة السمين ، ومرة التساوي ومرة المهزول واشتره معاينة يدا بيد ، قال :
وسألته عن السلف في روايا الماء فقال : لا تقربنها فإنه يعطيك مرة ناقصة ومرة
كاملة ، ولكن اشتره معاينة وهو أسلم لك وله». والظاهر من هذا الخبر ان النهى عن
السلم في هذين الجنسين المذكورين انما هو من حيث عدم وفاء المسلم اليه بما اشترط
عليه لا من حيث عدم الانضباط ، ولهذا ان ظاهر بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) جعل
الخبر المذكور على الكراهة وهو جيد.
وما رواه المشايخ
الثلاثة عطر الله مراقدهم عن حديد بن حكيم قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل اشترى الجلود من القصاب فيعطيه كل يوم شيئا
معلوما قال : لا بأس به». والخبر وان كان مطلقا الا انه محمول على تعيين الأجل ،
واما احتمال ان يكون المراد بقوله يعطيه في كل يوم شيئا يعنى من الثمن ، فيكون من
باب النسية ، فالظاهر بعده ، نعم يحتمل حمله على وقوع البيع حالا وان تأخر التسليم
، وانه انما يعطيه آنا فآنا ويوما فيوما مع حصول التراضي ، فإنه لا ينافي الحلول ،
وبعض الأصحاب
__________________
استدل بهذا الخبر لما ذهب اليه الشيخ من جواز السلم في الجلود مع المشاهدة.
وفيه ما عرفت
من الاحتمال الذي ذكرناه ، الا انه قد روى في الكافي والتهذيب عن أبى مخلد السراج قال : «كنا عند أبى عبد الله عليهالسلام ، فدخل عليه معتب فقال : بالباب رجلان ، فقال أدخلهما
فدخلا فقال أحدهما : انى رجل قصاب وانى أبيع المسوك قبل ان أذبح الغنم؟ قال : ليس به بأس ، ولكن انسبها غنم
أرض كذا وكذا». وهذا الخبر كما ترى ظاهر في جواز السلم في الجلود ، والمشهور في
كلام الأصحاب العدم ، تمسكا بحصول الجهالة واختلاف الخلقة ، وتعذر الضبط حتى
بالوزن ، لأن القيمة لا ترتبط به.
وعن الشيخ
القول بالجواز مع المشاهدة وأورد عليه انه مع المشاهدة يخرج عن السلم ، لان المبيع
في السلم أمر في الذمة مؤجل إلى مدة ، وأجيب بأن المراد مشاهدة جملة كثيرة يكون
المسلم فيه داخلا فيها ، ولهذا لا يخرج عن السلم ، لان المبيع غير معين ، وانما
يخرج عن السلم مع تعيين المبيع ، وكلام الشيخ أعم منه فيمكن حمله على ما ذكرناه ،
أنت خبير بان النص المذكور ظاهر في الجواز كما عرفت فلا تسمع هذه المناقشات في
مقابلته ، وهو أيضا أحد الاحتمالين في الخبر
__________________
الأول كما عرفت ، ولذلك عده في الوسائل في جملة أخبار السلم.
والعلامة قد
نقل في المختلف الخبرين المذكورين حجة للشيخ ، وأجاب عن خبر مخلد السراج بضعف
السند الذي قد عرفت في غير موضع انه غير مرضى ولا معتمد وعن الأخر بأنه لا دلالة
فيه على بيع السلم ، والظاهر انه اشارة الى ما ذكرناه من الاحتمال في الخبر
المذكور.
واما الجواهر
واللئالي فظاهر جملة من الأصحاب عدم الفرق فيها بين الكبار والصغار ، لاشتراك
الجميع في علة المنع ، وهو تعذر ضبطها على وجه يرتفع بسببه اختلاف الثمن ، وفرق
آخرون فخصوا المنع بالكبار ، لما ذكر من تفاوتها باعتبارات لا تحصل بدون المشاهدة
أما الصغار التي تستعمل في الأدوية والكحل ونحوها فهي لا تشتمل على أوصاف كثيرة
بحيث يختلف القيمة باختلافها ، فيجوز السلم فيها وما ذكرنا من التفصيل مثل
المعاجين خيرة الشهيدين رحمهماالله وهو جيد.
واما ما ذكروه
من العقار والأرض فلم أقف فيه على خبر ، الا ان الحميري روى في قرب الاسناد عن على
بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام قال : سألته عن السلم في النخل قبل أن يطلع قال : لا
يصلح السلم في النخل وفي موضع آخر قال : «سألته عن الرجل يسلم في النخل قبل ان
يطلع قال : لا يصلح السلم في النخل».
والظاهر أن
المراد منه ما هو ظاهره من كون السؤال عن السلم في العقار لا في الثمرة ، إذ لا
اشكال ولا خلاف في جوازه ، فيكون الخبران المذكوران مستندا لعدم جواز السلم في
العقار ، الا ان موردهما النخل كما ترى.
الثالثة شرط
الشيخ في جواز السلم في البيض والجوز ضبطهما بالوزن لاختلافهما ، والأظهر الاكتفاء
بالعدد مع ذكر النوع الذي يقل الاختلاف فيه بحيث يختلف الثمن باختلافه ، ومنع
الشيخ من السلم في جوز القز محتجا بان في جوفه دودا ليس مقصودا ولا فيه مصلحة ،
فإنه إذا ترك فيه أفسده ، لانه يقرضه ويخرج منه ،
__________________
وان مات فيه لم يجز من حيث انه ميتة ، والأشهر الأظهر الجواز ، لان المقصود
بالبيع خال من هذه الموانع ، والدود غير مقصود ، وانما هو بمنزلة النوى الذي لا
فائدة فيه.
ومنع الشيخ
ايضا من السلم في الشاة معها ولدها ، محتجا بأنه لا يوجد الا نادرا ، وكذا في
الجارية الحامل لجهالة الحمل ، وعدم إمكان وصفه ، ورد الأول بإمكان الوصف بالصفات
المعتبرة في السلم من غير أداء الى عزة الوجود ، والثاني باغتفار الجهالة في الحمل
، لانه تابع ، ووافقه العلامة في الجارية الحسناء مع ولدها لعزة وجودها ، قيل وفي
الفرق نظر.
وبالجملة فضابط
المنع وعدمه عزة الوجود وعدمه ، ويجوز الإسلاف في شاة لبون ، والمراد بها ما من
شأنها ذلك ، بان يكون لها لبن ، وان لم يكن موجودا بالفعل حال البيع ، بل لو كان
موجودا حال البيع لم يجب تسليمه ، بل له أن يحلبه ويسلمها بعد ذلك ، وبالجملة
فضابط اللبون ما يكون لها لبن يحلب في اليوم أو الليلة.
واما الحامل
فالمراد بها ما كان الحمل موجودا فيها بالفعل ، لا ما يمكن ان تحمل فان الحامل لا
يطلق عرفا الا على الأول ، بخلاف اللبون ، فإنه يطلق على ما يحلب في اليوم أو
الليلة لا ما كان موجودا بالفعل خاصة.
الشرط الرابع :
قبض الثمن قبل التفرق فيبطل بدونه على الأشهر ، بل نقل في التذكرة عليه الإجماع ،
قال : فلا يجوز التفرقة قبله ، وان تفارقا قبل القبض بطل السلم عند علمائنا اجمع ،
وظاهره انه مع البطلان يحصل الإثم أيضا وقد تقدم.
قولهم في الصرف
ايضا بنحو ذلك. وقد بينا ما فيه ثمة ونقل عن ابن الجنيد جواز تأخير القبض ثلاثة
أيام ، ولم أقف في الحكم المذكور على نص ، والظاهر أن دليل الأصحاب انما الإجماع
المدعى مع ما عرفت من خلاف ابن الجنيد ، وكأنه غير ملتفت اليه عندهم بناء على
قاعدتهم من عدم الاعتداد بمخالفة معلوم النسب.
ولعله لعدم وجود النص هنا توقف صاحب البشرى في الحكم المذكور كما نقل عنه وهو في محله.
قالوا ولو قبض
بعض الثمن خاصة ، صح فيما يخصه من المبيع وبطل في الباقي ، ثم انه لو كان عدم
الإقباض بتفريط المسلم اليه وهو البائع فلا خيار له ، والا تخير لتبعيض الصفقة ،
ولو شرط تأجيل بعض الثمن قالوا : بطل في الجميع ، لجهالة ما يواذى المقبوض واحتمل في الدروس الصحة وانه يقسط فيما بعد البيع
سلعتين فيستحق إحديهما.
ولو كان
للمشتري دين في ذمة البائع فأراد جعله ثمنا فهنا صورتان إحديهما أن يشترط ذلك في
العقد بمعنى أن يجعل الثمن ما في الذمة بأن يقرنه بالباء ، والمشهور بين الأصحاب
بطلان العقد لانه بيع دين بدين ، قالوا : أما كون المسلم فيه دينا فواضح ، وأما ،
الثمن الذي في الذمة فلانه دين في ذمة المسلم اليه ، فإذا جعل عوضا للمسلم فيه
الذي هو دين كما عرفت صدق بيع الدين بالدين ، وقيل بالجواز على كراهة وهو اختيار
المحقق في الشرائع والعلامة في التحرير ووجهه أن ما في الذمة بمنزلة المقبوض.
الثانية ـ المحاسبة
به قبل التفرق ، بمعنى أن يتقابضا في المجلس من غير أن يعينه
__________________
ثمنا لانه استيفاء دين قبل التفرق ، مع عدم ورود العقد عليه فلا يقصر عما
لو أطلقا الثمن ، ثم أحضره في المجلس ، وينبغي أن يعلم انه انما يفتقر إلى
المحاسبة مع تخالفهما جنسا أو وصفا أو هما معا ، اما لو اتفق ما في الذمة وما عينه
ثمنا فيهما وقع التهاتر قهريا ولزم العقد ، وظاهر شيخنا الشهيد في الدروس الاستشكال في صحة العقد على هذا التقدير من حيث ان مورد
العقد دين بدين ، ورد بان بيع الدين بالدين المنهي عنه انما يتحقق إذا جعلا جميعا
في نفس العقد متقابلين في المعاوضة بمقتضى الباء وهي هنا منتفية ، لأن الثمن هنا
أمر كلي ، وتعيينه بعد العقد في شخص لا يقتضي كونه هو الثمن الذي جرى عليه العقد ،
ومثل هذا التقابض والتحاسب استيفاء لا معاوضة ، ولو اثر مثل ذلك للزم مثله فيما لو
أطلق ثم أحضره في المجلس ، لصدق بيع الدين بالدين ابتداء مع انه لا يقول به.
أقول : والذي
وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا الفرع ما رواه الشيخ عن إسماعيل بن عمر «انه كان له على رجل دراهم فعرض عليه الرجل ان يبيعه بها طعاما إلى أجل
مسمى فأمر إسماعيل من يسأله ، فقال : لا بأس بذلك قال : ثم عاد إليه إسماعيل فسأله
عن ذلك وقال : انى كنت أمرت فلانا فسألك عنها فقلت : لا بأس ، فقال : ما يقول فيها
من عندكم؟ قلت : يقولون : فاسد ، قال : لا تفعله فإني أوهمت».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن طلحة بن زيد عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يباع الدين بالدين».
__________________
وما رواه عبد
الله الجعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر
عن أخيه موسى عليهالسلام قال : «سألته عن المسلم في الدين قال : إذا قال :
اشتريت منك كذا وكذا بكذا وكذا فلا بأس».
والكلام في هذه
الاخبار مع أصل المسألة يتوقف على بيان مقدمة ، وهي ان بيع الدين بالدين الممنوع
منه كما دل عليه خبر طلحة هل هو عبارة عما كان دينا قبل العقد كان يكون العوضان
دينا قبل العقد كما لو باعه الذي في ذمته بدين آخر له في ذمته أيضا أو في ذمة ثالث
أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما بدين في ذمة غريم آخر للآخر فيخص المنع بهذه
الصورة ، أو يشمل ما صار دينا بسبب العقد وان لم يكن دينا قبله كما إذا بيع بمؤجل
في العقد ، ويدخل ذلك في بيع الدين بالدين بناء على ان الثمن مؤجل غير حال.
المشهور الثاني ، وقيل بالأول وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في كتاب الدين من
الروضة الا انه ناقض نفسه في باب السلم من الروضة أيضا في مسألة اشتراط قبض الثمن
قبل التفرق أو المحاسبة به من دين عليه فقال بعد ذكر المصنف «لو جعل الثمن نفس ما
في الذمة بطل لانه بيع الدين بالدين» ما لفظه اما كون المسلم فيه دينا فواضح واما
الثمن الذي في الذمة فلانه دين في ذمة المسلم اليه انتهى.
وفيه انما صار
دينا بالعقد لا قبله وهو في كتاب الدين قد منع من كون ذلك من باب بيع الدين بالدين
، حيث قال ـ بعد قول المصنف «ويصح بيعه اى الدين بحال لا بمؤجل ما صورته لانه بيع
الدين بالدين ، وفيه نظر لان الدين الممنوع منه ما كان عوضا حال كونه دينا بمقتضى
تعلق الباء به ، والمضمون عند العقد ليس بدين وانما يصير دينا بعد ، فلم يتحقق بيع
الدين بالدين الى آخر كلامه زيد في إكرامه.
__________________
وسؤال الفرق
متجه فان المسلم فيه ايضا كذلك انما يصير دينا بعد العقد لا قبله ، وبذلك يظهر ان
الحكم بالبطلان في الصورة الاولى من الصورتين المتقدمتين انما يتجه على القول
بالعموم ، كما هو المشهور ، واما على القول الأخر فلا ، وحينئذ فموافقة الأصحاب في
البطلان هنا غفلة عما اختاره ، وخالفهم فيه في تلك المسألة وعلى هذا فيمكن ان يقال
: ان نفى البأس في خبر إسماعيل بن عمر المتقدم انما وقع بناء على القول الثاني
الذي اختاره شيخنا المتقدم ذكره من عدم دخول بيع الطعام سلما في الدين وان صار
دينا بعد العقد فلا يدخل في بيع الدين بالدين ، وحينئذ يصح البيع سواء كان الدراهم
التي جعلت ثمنا حالة أو مؤجلة ، ويحتمل على بعد ، في الخبر المذكور ـ ان وجه الصحة
ونفى البأس انما هو من حيث الثمن ، وان تلك الدراهم التي في الذمة كانت حالة ،
والبيع انما وقع بعد حلولها ، وان بيع الطعام سلما داخل في الدين كما هو المشهور ـ
والصحة انما اتجهت من جهة كون الثمن حالا والمبيع وان كان دينا لكن الثمن حال فلا
يدخل في بيع الدين بالدين ، والى هذا الاحتمال جنح صاحب الوافي فذكر الخبر المشار
إليه في باب بيع الدين بالدين ، واما على ما ذكرناه فالأنسب به باب السلف كما
أوضحناه في حواشينا على الكتاب المذكور.
واما خبر قرب
الاسناد فالظاهر ان المراد بقوله وسألته عن السلم في الدين في حال كون الثمن دينا
وجوابه عليهالسلام بنفي البأس «فيما إذا قال : اشتريت منك كذا وكذا بكذا
وكذا» فالظاهر ان مراده كون الثمن كليا في الذمة ، لا عين ما في الذمة والا لقال :
بما في ذمتك ، وحينئذ يصير من قبيل الصورة الثانية المتقدمة ، وتحصل المقاصة
والمحاسبة بعد العقد أو التهاتر والتساقط على الوجهين المتقدمين.
واما رجوعه عليهالسلام عما افتى به أولا في رواية إسماعيل بن عمر ونسبة نفسه
الى الوهم فإنما خرج مخرج التقية كما ينادى به سياق الكلام ، وكيف كان فقد عرفت ان
أصل المسألة خال من النص ، وبه ينقدح الإشكال في بعض فروع
المسألة ، وان كان الاحتياط في الوقوف على ما ذكروه والله العالم.
الشرط الخامس
تقدير المبيع والثمن بالكيل والوزن ، ولا خلاف فيه نصا وفتوى لما تقدم في أحكام
البيع المطلق وهذا أحد أقسامه.
ومن الاخبار
هنا ما رواه المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم عن غياث بن إبراهيم عن ابى عبد الله عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام لا بأس بالسلف بكيل معلوم إلى أجل معلوم لا يسلم الى
دياس ولا الى حصاد». والدياس دق السنبل يخرج منه الحب.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن محمد الحلبي في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن السلف في الطعام بكيل معلوم قال : لا بأس به».
وما رواه في
الفقيه عن صفوان بن يحيى عن عبد الله بن سنان في الصحيح والحسن بإبراهيم بن هاشم عن ابى عبد الله عليهالسلام «قال سالته عن الرجل يسلم في غير زرع ولا نخل قال : يسمى كيلا معلوما إلى
أجل معلوم» الحديث.
وما رواه الشيخ
عن الشحام عن ابى عبد الله عليهالسلام «في رجل اشترى من رجل مأة من صفرا وليس عند الرجل شيء منه قال : لا بأس به
إذا وفى بالوزن الذي اشترط له». ورواه الصدوق بإسناده عن ابى الصباح الكناني عن الكناني عن ابى عبد الله عليهالسلام مثله.
وفي صحيحة
الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام «والزعفران يسلم فيه الرجل الدرهم في عشرين مثقالا أو أقل أو أكثر من ذلك
قال : لا بأس» الحديث.
__________________
ولا بد في الكيل والوزن من المعلومية فيما يكال به ويوزن كما صرح به في
رواية غياث المتقدمة ، وصحيحة محمد الحلبي ، فلا يجزى ما كان مجهولا من مكيال أو
ضنج وان تراضيا عليه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في البيع ، وظاهر الأصحاب هنا انه
لا فرق في ذلك بين ما يعتاد كيله ووزنه وما يعتاد بيعه جزافا كالحطب والقصب
والحجارة ونحوها ، لأن المشاهدة ترفع الضرر ، وفي السلم حيث كان ما سلم فيه غائبا
أو معدوما فلا بد من معلوميته بأحد الوجهين ليصح العقد عليه ، فعلى هذا لا يجوز
السلم في القصب اطنابا ولا في الحطب حزما ولا في المجز ورجزا لما عرفت من اختلاف
المذكورات الموجب للغرر في عقد السلف ، بخلاف ما لو بيع مشاهدا فإن المشاهدة ترفع
الغرر عنه ، ويجوز السلم في الثوب أذرعا وان قلنا بجواز بيعه مع المشاهدة بدون
الذرع ، لما عرفت من ان المشاهدة ترفع الغرر بخلاف ما لم يشاهد ، وهل يجوز الإسلاف
في المعدود عددا قيل لا ، لعدم انضباط المعدود فلا يحصل العلم بقدره بدون الوزن ، وقيل
بالتفصيل وعدم جواز ذلك في مثل الرمان لحصول التفاوت في أفراده ، وجواز ذلك في مثل
الجوز واللوز والبيض لعدم التفاوت في بعض وقلته في آخر بحيث يتسامح به.
وفي الدروس
الحق البيض بالرمان الممتنع فيه ، وعلى كل تقدير لا بد في البيض من تعيين الصنف ،
ولا بد في الثمن أيضا ان يكون مقدرا بالكيل أو الوزن ، فلا يكفى مجهولا كقبضة من
دراهم وصبرة من طعام ، ولا يجوز الاقتصار على مشاهدته إذا كان مما يكال أو يوزن أو
يعد ، اما لو كان مما يباع جزافا جاز الاقتصاد على مشاهدته كما لو بيع ، ولو كان
الثمن من المذروعات كالثوب فهل يكتفى بمشاهدته عن ذرعه كما لو بيع حسبما تقدم ،
فكذا إذا كان ثمنا أم لا بد من ذرعه ، قطع الشيخ باشتراط ذرعه وتوقف العلامة في
المختلف واختار في المسالك بناءه على جواز بيعه كذلك فان قلنا به في البيع أجزناه
هنا ، وخالف المرتضى رضى الله عنه في ذلك كله فاكتفى بالمشاهدة في الثمن مطلقا
مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا قال في المسائل
الناصرية حيث ذكر المسألة أن معرفة مقدار رأس المال شرط في صحة السلم ، ما
أعرف لأصحابنا إلى الان نصا في هذه المسألة ، الا أنه يقوى في نفسي أنه رأس مال
السلم إذا كان معلوما بالمشاهدة مضبوطا بالمعاينة لم يفتقر الى ذكر صفاته ومبلغ
وزنه وعدده ، وهو المعمول عليه من قول الشافعي ، ثم نقل عن أبي حنيفة القول بما
عليه الأصحاب من الاشتراط إذا كان مكيلا أو موزونا أو معدودا ، والمشهور الأول وبه
صرح الشيخ في المبسوط والخلاف.
احتج العلامة
في المختلف للقول المشهور قال : لنا انه غرر فيكون منهيا عنه ، لأن النبي صلىاللهعليهوآله «نهى عن الغرر». ولانه عقد لا يمكن إتمامه في الحال ولا تسليم المعقود عليه
، ولا يؤمن انفساخه فوجب معرفة مقدار رأس المال ليرد بدله ، ولانه لولاه لأفضى إلى
التنازع والشارع أرشد إلى المصالح النافية للتنازع ، كالشهادة وغيرها ، ومعلوم أن
الضرر الناشي من تجهيل الثمن أشد من ضرر ترك الشهادة ولانه لا يؤمن أن يظهر بعض
الثمن مستحقا فيفسخ العقد في قدره ، فلا يدرى كم بقي وكم انفسخ.
ونقل عن
المرتضى أنه احتج بما روى عن النبي (صلىاللهعليهوآله) «انه قال : من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم
إلى أجل معلوم». فاذن النبي صلىاللهعليهوآله في السلم على هذه الصفات ولم يشترط سواها» ثم أجاب عنه
بأنه بين أولا النهي عن الغرر ، ومن جملته جهالة الثمن ، فالإذن في السلم بعد ما
بين أولا غير دال على ما ادعاه انتهى. وحاصله أن الخبر مطلق يجب تقييده بما دل على
النهى عن الغرر.
وبالجملة
فالظاهر هو القول المشهور لأنه الأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية مع
موافقته للاحتياط المطلوب في الدين كما لا يخفى على الحاذق المكين.
__________________
ويمكن أن يستدل
على ذلك زيادة على ما ذكر بما رواه في الكافي عن ابى مريم الأنصاري في الصحيح عن ابى عبد الله عليهالسلام «أن أباه لم تكن يرى بأسا بالسلم في الحيوان بشيء معلوم إلى أجل معلوم». فان
الظاهر ان الشيء المعلوم عبارة عن الثمن بمعنى أنه يشتريه سلما بشيء معلوم ، ومن
الظاهر ان المعلومية في المكيل لا يتحقق الا بكيله والموزون الا بوزنه وهكذا في
المعدود والله العالم.
الشرط السادس
اعتبار الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقصان ، فلو ذكر أجلا مجهولا كان يقول : حتى
أردت أو ما يحتمل الزيادة والنقصان كقدوم الحاج أو إدراك الثمن كان كان باطلا ،
وقد تقدم ما دل عليه في رواية غياث بن إبراهيم وصحيحة الحلبي وصحيحة عبد الله بن
سنان أو حسنته ونحوها قوله عليهالسلام في رواية أبي مريم الأنصاري المتقدمة بشيء معلوم إلى
أجل معلوم وفر له عليهالسلام في رواية قتيبة الأعشى «أليس يسلم في أسنان معلومة إلى أجل معلوم قلت : بلى قال : لا بأس». الى
غير ذلك من الاخبار المؤيدة باتفاق الأصحاب.
وتحقيق الكلام
في هذا المقام يقع في مواضع الأول ـ قال في الشرائع ولو اشتراه حالا قيل يبطل ،
وقيل يصح ، وهو المروي ، لكن يشترط أن يكون عام الوجود في وقت العقد أقول قال
الشيخ في النهاية لو أخل بالأجل كان البيع غير صحيح ، وفي الخلاف السلم لا يكون
إلا مؤجلا ، ولا يصح أن يكون حالا ، وتبعه ابن إدريس وهو قول ابن أبى عقيل.
قال في المختلف
بعد نقل ذلك والتحقيق أن نقول ان قصد السلم وجب ـ الأجل ، واما لو قصد الحال مثل
ان يقول أسلمت إليك هذا الدينار في هذا الكتاب أو في قفيز حنطة فالأقرب الصحة ،
وينعقد بيعا مطلقا ، لا سلما ، لنا أن البيع جزء من السلم ويصح إطلاق اسم الكل على
جزئه فإذا قصداه وجب انعقاده عملا بالقصد ، ولانه عقد يصح مؤجلا فيصح حالا لبيوع
الأعيان ، ولأنه إذا جاز مؤجلا كان الحال
__________________
أولى بالجواز ، لانه من الغرر أبعد ، ثم نقل عن الشيخ انه احتج بإجماع
الفرقة ، وبالإجماع على الصحة مع الأجل ، وما عداه لا دليل عليه ، وبما رواه ابن
عباس عن النبي صلىاللهعليهوآله «أنه قال : من أسلف فليسلف في كيل معلوم وأجل معلوم». والأمر يقتضي الوجوب
، ولأنه أمر بهذه الأمور تثبيتا للسلم ، ولهذا لا يصح إذا انتفى الكيل أو الوزن ،
فكذا الأجل ، ثم أجاب بالقول بموجب هذه الأدلة قال : لأنا نسلم ان مع قصد السلم
يجب ذكر الأجل ، وليس صورة النزاع ، بل البحث فيما لو تبايعا حالا بحال بلفظ السلم
انتهى.
وظاهر كلامه (قدسسره) أن محل الخلاف في هذه المسألة صحة وبطلانا انما هو
فيما إذا تبايعا بقصد الحلول ، سواء صرح به في العقد أم لم يصرح به ، فإنه هل يكون
بيعا كسائر أفراد البيوع وان وقع بلفظ السلم كما اختاره ، أو يكون باطلا بناء على
أن وضع السلم على التأجيل. وأنت خبير بأنه على هذا التقدير يرجع الى الخلاف
المتقدم في صدر البحث في أن البيع المطلق هل ينعقد بلفظ السلم أم لا ، فعلى القول
بالانعقاد كما هو المشهور تثبت الصحة هنا ، وعلى العدم العدم.
وظاهر عبارة
المحقق المتقدمة أن موضع الخلاف انما هو فيما إذ قصد السلم لا البيع المطلق ، وأخل
بذكر الأجل على ذلك التقدير وأظهر منها عبارة الشهيد في الدروس حيث قال : الثالث
ان يكون المسلم فيه دينا لانه موضوع لفظ السلم لغة وشرعا ، فلو أسلم في عين كان
بيعا ، ولو باع موصوفا كان سلما نظرا الى المعنى في الموضعين
__________________
وليس المانع من السلف في العين اشتراط الأجل الذي لا يحتمله العين ، لأن
الأصح انه لا يشترط الأجل ، نعم يشترط التصريح بالحلول وعموم الوجود عند العقد ،
ولو قصد الحلول ولم يتلفظا به صح أيضا ، ولو قصد الأجل اشترط ذكره ، فيبطل العقد
بدونه ولو أطلقا العقد حمل على الحلول انتهى.
وظاهره أن
الأصح أنه لا يشترط الأجل في السلم بقول مطلق لجواز السلم في العين حالا بالشرطين
المذكورين ، وانما يشترط ذكر الأجل فيه فيما إذا قصد التأجيل وخلاف الأصح هو
اشتراط الأجل في السلم مطلقا ، كما هو ظاهر كلام الشيخ المتقدم ومن تبعه ، واستجود
في المسالك أن هذا هو محل الخلاف دون الأول.
والظاهر ان
الرواية التي أشار إليها في عبارة الشرائع هي ما رواه الصدوق في الفقيه عن عبد
الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يشترى الطعام من الرجل ليس عنده ، فيشترى منه
حالا قال : ليس به بأس قلت : انهم يفسدونه عندنا ، قال : وأي شيء يقولون في السلم؟
قلت : لا يرون به بأسا ، يقولون هذا إلى أجل ، وإذا كان الى غير أجل وليس عند
صاحبه فلا يصلح ، فقال : إذا لم يكن أجل كان أجود ، ثم قال : لا بأس بأن يشترى
الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل ، وحالا لا يسمى له أجلا ، الا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب
والبطيخ وشبهه في غير زمانه. فلا ينبغي شراء ذلك حالا».
__________________
أقول : والذي
يقرب عندي أنه لا ثمرة في هذا الخلاف على كل من التقديرين المذكورين ، وملخص
الكلام في المقام أنه اما ان قلنا بوقوع البيع بلفظ السلم كما هو المشهور فلا مانع
من البيع حالا بهذا اللفظ ، والا فلا ، وعلى هذا لو تبايعا بهذا اللفظ بشرط الحلول
بنى في الصحة والبطلان على الخلاف المذكور ، وأما لو قصد السلم الذي هو عبارة عن
شراء ما في الذمة فلا بد من الأجل ولا يصح بدونه كما صرح به الشيخ واتباعه ، واليه
أشار في الدروس في صدر العبارة المنقولة ، واما قوله في الدروس «وليس المانع من
السلف في العين اشتراط الأجل» الى آخره فإنه لا يخرج عما ذكرناه من جواز البيع
والاشتراء بلفظ السلم كما هو المشهور ، والرواية المذكورة لا دلالة فيها على أزيد
من جواز بيع الإنسان ما ليس عنده بشرط أن يكون عام الوجود وقت العقد ، ومثلها في
هذا المعنى أخبار عديدة ولا إشارة في شيء منها فضلا عن التصريح بكون ذلك سلما.
نعم المفهوم من
الاخبار أن البيع قد يقع على ما في الذمة من غير اشتراط التأجيل بل قصد الحلول كما
دلت عليه الأحاديث المذكورة ، وقد يقع مع اشتراط التأجيل وهو السلم المشهور وقد
يقع على العين المشخصة الموجودة ، فإن أريد أن الأول من حيث كونه في الذمة يطلق
عليه السلم كالثاني ويسمى سلما فلا مشاحة في ذلك.
والثاني قالوا
: ولا بد أن يكون الأجل معلوما للمتعاقدين على وجه يكون مضبوطا في نفسه بما لا
يحتمل الزيادة والنقصان ، فلا يكفى تعينه في نفسه بحيث يحتاج إلى مراجعة غيرهما في
معرفته كالنيروز الذي هو عبارة عن انتهاء الشمس إلى أول برج الحمل ، وهو الاعتدال
الربيعي ، والمهرجان الذي هو عبارة عن انتهائها إلى أول برج الميزان وهو الاعتدال
الخريفي ولو قال : الى جمادى فهل يحمل على أقربهما ويكون العقد صحيحا أم لا لكون
اللفظ مشتركا واحتمال الأمرين متساويا فلا يمكن حمل الإطلاق على أحدهما وجهان بل
قولان : للأول أنه قد
علق العقد على هذا الاسم وبدخول الأول من الشهرين يصدق الاسم فلا يعتبر
غيره فيكون الإطلاق دالا عليه بالتقريب المذكور فيحمل عليه ويصح العقد.
وللثاني ما
تقدم من أن اللفظ مشترك ومحتمل لهما معا فلا يمكن حمل الإطلاق على أحدهما ، وهل
يكون الحكم كذلك فيما لو شرط التأجيل إلى يوم معين من أيام الأسبوع كالخميس
والجمعة أم لا ، فرق في التذكرة فحكم في اليوم بحمله على الأول ، لدلالة العرف
عليه ، وتردد في الأول ، واحتمل في المسالك التساوي بينهما في الحمل على الأول.
والتحقيق أن
يقال : أنه ان كان فهم المتعاقدين متفقا على إرادة الأول فلا إشكال في الصحة ،
وحمل إطلاقهما عليه ، لان قصد ذلك في قوة ذكره في اللفظ والا كان باطلا ، سواء
اعتقد نقيضه أم لا لان ما جعلا ، من الأجل محتمل للزيادة والنقصان فلا يمكن حمل
الإطلاق على أحدهما.
الثالث يحمل
الشهر على الهلالي إن اتفق التأجيل في أوله سواء كان ثلاثين يوما أو أقل ، وعلى
ثلاثين يوما ان اتفق في الأثناء ، ويعتبر في الأولية والأثناء العرف لا الحقيقة
لانتفائها غالبا أو دائما ، إذ لا يتفق المقارنة المحضة لغروب الشمس ليلة الهلال ،
فعلى هذا لا يقدح فيه نحو اللحظة ، والظاهر أن الساعة غير قادحة ايضا ، أما نصف
الليل فقد صرحوا بأنه قادح ، فيرجع حينئذ إلى العدد.
ولو قال : الى
شهر كذا حل بأول جزء منه ليلة الهلال ، والغاية وان اختلفت دخولا وخروجا الا أن العرف هنا قاض بالخروج فيحكم به لانه المرجع حيث
لا حقيقة شرعية ، كما أنه قاض بالدخول لو قال : الى شهر وأطلق ، فإنه يتمه بآخره
ويكون الغاية داخلة ، والوجه فيه انه لولا ذلك للزم خلو السلم عن الأجل.
__________________
ولو قال : الى
شهرين فان كان في أول شهر فلا اشكال ولا خلاف في انه يعد شهرين هلاليين ، لأن
الأصل في الشهر عند الإطلاق هو الهلالي ، وانما يعدل عنه إلى العددي عند تعذر حمله
على الهلالي.
وان كان في
الأثناء فأقوال أحدها اعتبار الشهرين المذكورين بالهلالي ، اما الثاني فظاهر
لوقوعه بأجمعه هلاليا ، واما الأول فلصدق معنى القدر الحاصل منه عرفا كنصفه وثلثه
مثلا ، فيتم من الثالث قدر ما فات منه حتى لو كان ناقصا كفى إكمال ما يتم تسعة
وعشرين يوما ، لان النقص جاء في آخره ، وهو من جملة الأجل والثابت من الأول لا
يختلف بالزيادة والنقصان ، وهذا القول نقله المحقق في الشرائع.
وثانيها اعتبار
ما عدا الأول هلاليا وأنه يتمم الأول ثلاثين يوما ، والوجه فيه اما بالنسبة إلا ما
عدا الأول فلصدق الهلالي ، وقد عرفت ان الأصل في الشهر ذلك ، واما بالنسبة إلى
الشهر الأول المكسور فلأنه بإهلال الثاني لا يصدق عليه انه شهر هلالي فيكون عدديا
، ولا يمكن اعتبار الجميع بالهلالي لئلا يلزم اطراح المنكسر وتأخر الأجل عن العقد
مع الإطلاق ، وحينئذ فيكمل الأول ثلاثين يوما بعد انقضاء المقصود من الهلالي من
شهر أو أكثر قال في المسالك وهو قول الأكثر.
أقول : وهو
اختيار المحقق في الشرائع وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ونقله في المختلف عن
الشيخ ايضا وهو الأوفق بالقواعد المقررة.
وثالثها انكسار
الجميع بكسر الأول فيقدر الكل بالعدد ذهب اليه الشيخ في أحد قوليه ، ونفى عند
البعد في المختلف قال : ولا استبعد بكونها كلها عددية بناء على المتعارف من الحمل
عليه عند قرب الهلال ، وفيه ما يأتي ذكره إنشاء الله (تعالى) ، والوجه في هذا
القول أن الشهر الثاني لا يعقل دخوله الا بعد انقضاء الأول ، فالأيام الباقية اما
ان لا تحتسب من أحدهما أو من الثاني وكلاهما محال ، أو من الأول فلا يعقل دخول
الثاني حتى يتم الأول بعدد ما فات منه من الثاني فينكسر الثاني وهكذا ، وفيه ـ زيادة
على ما تقدم ـ أن الأشهر الباقية يمكن إجراؤها على حكم الأصل ، وهو
الاعتبار بالهلال إذ لا مانع منه فيتعين الحمل عليه ، ولا يلزم إكمال الشهر الأول
المنكسر من الذي يليه بلا فاصلة لصدق الإكمال مما بعده سواء كان مما يليه أو يتأخر
عنه ، إذ لا محذور لازم من الإكمال من غيره ، بخلاف ما لو أكمل من الذي يليه فإنه
يلزم اختلال الشهر الهلالي مع إمكان اعتباره بالهلالي ، ولأن الأجل إذا كان ثلاثة
أشهر مثلا فبعد مضى شهرين هلاليين وثلاثين يوما ملفقة من الأول والرابع يصدق أنه
قد مضى ثلاثة أشهر عرفا فيحل الأجل ، والا كان أزيد من المشترط ، ولأنه إذا وقع
العقد في نصف الشهر مثلا ومضى بعده شهران هلاليان يصدق انه مضى من الأجل شهران
ونصف ، فيكفي إكمالها خمسة عشر يوما لصدق الثلاثة معها ، وهذا أمر ثابت في العرف
حقيقة والله العالم.
الشرط السابع ـ
غلبة الوجود وقت الحلول إذا اشترط الأجل كما هو الأشهر الأظهر ، والمراد غلبة
الوجود في البلد الذي شرط تسليمه فيه ، أو بلد العقد حين يطلق على أحد الأقوال
الاتية. أو فيما قاربه بحيث ينتقل إليه عادة ، وظاهر الأكثر انه لا يكفى وجوده
نادرا ، وفي القواعد جعل الشرط إمكان وجوده في ذلك الوقت وهو يشعر بدخول النادر وتأولوه بما يرجع
الى قول الأكثر ، ولم نقف في أصل هذا الشرط على دليل واضح ، بل ربما الظاهر من
الاخبار ما ذكره القواعد ولم أقف على مخالف لما ذكروه في هذا المقام سوى المحقق
الأردبيلي طاب ثراه حيث قال بعد قول المصنف «وغلبة وجوده وقت الحلول» ما لفظه هذا
هو الثامن من الشروط ودليله غير واضح بل الظاهر عدم ذلك والاكتفاء بإمكان وجوده
كما هو ظاهر
__________________
عبارة القواعد والتذكرة على ما نقل في شرح الشرائع بمعنى القدرة على تسليم المبيع حين الأجل بناء على ظنه
، كما تشعر به عبارة الدروس حيث جعل الشرط القدرة على التسليم عند الأجل ويؤيده ما
في موثقة عبد الرحمن بن الحجاج عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بان يشترى الطعام وليس هو عند صاحبه إلى
أجل ، وحالا لا يسمي أجلا الا ان يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في
غير زمانه فلا ينبغي شراء ذلك حالا».
وصحيحة زرارة «قال سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل اشترى طعام قرية بعينها؟ فقال : لا بأس ان خرج
فهو له وان لم يخرج كان دينا عليه.
ورواية خالد بن
الحجاج عن ابى عبد الله عليهالسلام في الرجل يشترى طعام قرية بعينها ، وان لم يسم له قرية
بعينها أعطاه من حيث شاء».
وهما يدلان على
جواز اشتراط القرية المعينة ، والمشترطون غلبة وجود المسلم فيه لا يقولون به ، بل
صرحوا بأنه لو شرطت بطل السلم ، ويظهر ان ظن الوجود وإمكانه حين الأجل في الجملة
يكفي ، ولا شك في حصول الظن بحصول غلة قرية وان كانت صغيرة ، بل ولو أرضا معينة
قليلة ، ولهذا يتكل صاحبها على غلة تلك الأرض ، ولا يزرع غيرها ظنا بأنه يحصل له
منها غلة ، ويبيع ويشترى رجاء للوفاء منها ، وكذا غزل امرأة معينة ، ولا اعتبار
بإمكان موتها لحصول الظن بالحياة للاستصحاب ، ولهذا يكتب إليها كتابة ويبعث إليها
هدايا بعد الغيبة بمدة طويلة
__________________
وبمثل هذا جعل الاستصحاب دليلا فعدم صحة مثله على ما قالوه محل التأمل
انتهى وهو جيد وجيه.
المقام الثاني في الأحكام
وفيه مسائل
الأولى ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط ذكر موضع التسليم في العقد ـ
مع اعتراف جملة منهم بأنه لا نص فيه ـ على أقوال : أحدها اشتراطه مطلقا ، وهو مذهب
الشيخ في الخلاف ، وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه ، واستقر به الشهيد (رحمة الله
عليه) وعللوه بان مكان التسليم مما يختلف فيه الأغراض ، ويختلف باختلافه الثمن
والرغبات ، فإنه قد يكون بعيدا من المشترى ولا يرغب في تكثير الثمن ، ولا في
الشراء على بعض الوجوه ، وقد يكون قريبا فينعكس الحكم ، وكذا القول في البائع.
أقول فيه ما
أشرنا إليه في غير مقام مما تقدم من ان مثل هذه التعليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام
الشرعية ، على انه لو صلح كون ذلك علة كما ذكروه لما خفي على الأئمة (صلوات الله
عليهم) فكيف لم ينبهوا عليه ، ولم يذكروا في شروط السلم موضع التسليم ، كما ذكروا
غيره مما تقدم ذكره ، أرأيت انهم (رضوان الله عليهم) اهتدوا الى ما لم يهتد إليه
الأئمة (صلوات الله عليهم) على تطاول مدتهم وأزمانهم ، ولم يهتد إليه أحد من نقلة
اخبارهم ، بل الحق ان ذلك انما هو من باب اسكتوا عما سكت الله عنه ، كما في جملة
من الاخبار .
__________________
وثانيها عدمه
مطلقا وهو ظاهر الشيخ في النهاية واختاره العلامة في التحرير والإرشاد والمحقق في
الشرائع وجمع آخرون وهو ظاهر ابن ابى عقيل على ما نقله في المختلف ووجهه مضافا الى
أصالة العدم إطلاق الأوامر بالوفاء بالعقود «وحل البيع» والإجماع على عدم اشتراطه
في باقي أنواع البيع وان كان مؤجلا وهذا هو الأظهر عندي.
واختار هذا
القول ابن إدريس وادعى عليه الإجماع ، قال : وليس من شرط صحة السلم ذكر موضع
التسليم بغير خلاف بين أصحابنا والأصل براءة الذمة وقوله تعالى «وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وهذا بيع وقوله «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» وما ذكره الشيخ في الخلاف لم يذهب إليه أحد من أصحابنا
ولا ورد به خبر عن أئمتنا (عليهمالسلام) وانما هو أحد قولي الشافعي اختاره شيخنا أبو جعفر (رحمة
الله عليه) الا تراه في استدلاله لم يتعرض بإجماع الفرقة ولا أورد خبرا في ذلك لا
من طريقنا ولا من طريق المخالفين.
واعترضه
العلامة في المختلف فقال : ومن العجب قول ابن إدريس انه لا يشترط بغير خلاف بين
أصحابنا ، مع وجود ما نقلناه من الخلاف بين أصحابنا وقوله الأصل براءة الذمة
يعارضه أصالة بقاء المال على صاحبه ، «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ»
مصروف الى
البيع الصحيح دون الفاسد ، ونحن نمنع من صحة المتنازع فيه.
وكذا قوله
تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»
ونسبة ما ذكره
الشيخ في الخلاف الى أحد قولي الشافعي وليس قولا لأحد من أصحابنا يدل على قلة
معرفته بمواضع الخلاف ، وقوله لم يوجد في أحاديث أصحابنا ولا غيرهم ممنوع ، لأنهم عليهمالسلام نصوا
__________________
على اشتراط الوصف ، وهو يتناول المكان ، لأن الأين من جملة الأوصاف اللاحقة
بالماهية ، فكون الشيخ لم يستدل بالإجماع ولا بالاخبار لا يدل على بطلان الحكم ،
لإمكان الاستدلال عليه بغيرها انتهى.
أقول : لا يخفى
عليك ما فيه من الوهن الظاهر لكل ناظر ، ولا سيما معارضته لأصالة براءة الذمة
بأصالة بقاء المال على صاحبه ، فان هذه الأصالة يجب الخروج عنها بالأدلة العامة
والخاصة بالسلف ، من الآيات والروايات الدالة على حل البيوع ، وصحتها بجميع أنواعها
ـ وخصوصا أخبار بيوع السلف حيث أنها خالية عن ذلك ـ الا ما قام الدليل الواضح على
فساده ، وكان الواجب عليه اقامة الدليل على فساد البيع في موضع البحث ، ليتجه له
تخصيص تلك الأدلة ، والا فتخصيصها بمجرد الدعوى مصادرة محضة ، ومجازفة ظاهرة ،
وأضعف من ذلك دعواه دلالة الاخبار على ذلك ، بتقريب أنها دلت على اشتراط الوصف ،
والمكان من جملة الأوصاف ، فإن الوصف عندهم انما هو عبارة عما يفرق به بين أصناف
النوع كما تقدم ذكره في كلام الدروس.
ولهذا انهم
عدوا من الشروط الوصف على حدة ، وعدوا ذكر موضع التسليم على حده ، على أنك قد عرفت
مما أشرنا إليه آنفا أنه ليس في الاخبار ما يدل على استقصاء الأوصاف على الوجه
الذي ذكروه ، حتى أنه يتعدى الى ما يحمله هنا ، وادعى أنه من جملة الأوصاف ،
وبالجملة فإن كلامه (قدسسره) انما هو محض تعصب على ابن إدريس كما هو عادته ، وقبله
المحقق «عطر الله مرقديهما» ، من الرد عليه غالبا بما هو حق تارة وباطل أخرى.
وثالثها
التفصيل بأنه ان كان في حمله مؤنة وجب تعيين محل حمله ، والا فلا ، وذهب اليه
الشيخ في المبسوط وابن حمزة ، ووجهه ظاهر مما تقدم في القول الأول ، فإن الأغراض
إنما تختلف في محل يفتقر الى المؤنة ، وأما غيره فلا ، وفيه ما أوردناه على القول
الأول.
ورابعها
التفصيل أيضا لكن بنحو آخر ، وهو أنه ان كانا في برية أو بلد غربة قصدهما مفارقته
اشترط تعيينه ، والا فلا ، اختاره العلامة في القواعد والمختلف ، والوجه فيه ما
ذكره في المختلف قال : لنا انهما متى كانا في برية أو بلد لا يجتمعان فيه لم يمكن
التسليم في مكان العقد ، ويتعين غيره ، وليس أحد الأمكنة أولى من الأخر ، وذلك
يفضى الى التنازع لجهالته ، وأما إذا كانا في بلد يجتمعان فيه فان إطلاق العقد
يفتضى التسليم في بلده ، ولأن في تعيين المكان غرضا ومصلحة لهما فالأشبه تعيين
الزمان.
أقول : وفيه ما
تقدم في القول الأول ، ويزيد هنا بأن مبنى الاشكال الذي أوجب له القول بالتفصيل
المذكور هو ما ذكروه من أن إطلاق العقد يقتضي وجوب التسليم في مكان العقد ، وهذا
مما لم نقف له على دليل من النصوص ، لا بالعموم ولا الخصوص ، بل الواجب مع حلول
الدين هو الأداء في أي مكان كان ، وسيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ ما فيه مزيد إيضاح
لما ذكرنا وبيان.
وخامسها أنه ان
كان لحمله مؤنة أو لم يكن المحل صالحا كالقرية اشترط تعيينه والا فلا ، وهو خيرة
العلامة في التذكرة ، ووجهه مركب من القولين السابقين عليه.
قال في المسالك
بعد نقل الأقوال المذكورة : ولكل من الأقوال وجه ، الا أن الأخير يضعف السابقين
عليه ، ويبقى الإشكال في ترجيح أحد الثلاثة ، فأصالة البراءة وحمل الإطلاق في
نظائره على موضع العقد يرجح الأول ، واختلاف الأغراض وعدم الدليل الدال على تعيين
موضع العقد في المتنازع يؤيد الثاني ، ووجه الأخير ظاهر ولا ريب أن التعيين مطلقا
أولى ، وانا في ترجيح أحدهما من
__________________
المترددين انتهى.
أقول والتحقيق
أن ما ذكروه من هذه التعليلات فيما عدا القول الأول غاية ما تفيده الأولوية دون
الوجوب كما يدعونه ، فإن الأحكام الشرعية من الوجوب والتحريم ونحوهما لا تثبت بمثل
هذه التخريجات ، بل لا بد فيها من التعليل الشرعي الواضح من آية أو رواية ، والا
كان قولا على الله بغير علم ، وقد استفاضت الآيات والروايات بالمنع منه والزجر عنه
، والتحقيق عندي في هذا المقام هو ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدسسره) وان كان قد هجس بفكري قبل الوقوف على كلامه (قدسسره) حيث قال بعد قول المصنف «وليس ذكر موضع التسليم شرطا»
ما صورته : دليل عدم الاشتراط هو عموم أدلة جواز هذا البيع وخصوصها مع خلوها عن
سبب اشتراط ذكر موضع التسليم مع عدم المانع ، والجهالة واحتمال النزاع واختلاف
الأغراض يندفع بانصرافه الى موضع يقتضيه العرف ، كما في سائر البيوع والعقود خصوصا
النسيئة.
نعم الأحوط ذلك
خصوصا مع وقوعه في موضع يعلمان مفارقته قبل حلول الأجل ، أو يحتاج نقله إلى مؤنة
ولم تكن عادة ، فإن كان مقتضى العادة والقرينة شيئا والا انصرف الى موضع الحلول ،
لان مقتضى العقد وجوب تسليم المبيع عند الحلول في أي مكان كان مع وجود المسلم فيه
عادة ، وعدم قرينة إرادة خلافه ، ولكن ظاهر كلام الأصحاب أن موضع التسليم موضع
العقد ، فان كان لهم دليل من الإجماع والا فالظاهر ما مر لما مر. انتهى وهو جيد
نفيس.
المسألة
الثانية لو أراد بيع ما أسلف فيه فهنا صور ، احديها بيعه قبل حلول الأجل حالا ،
والظاهر أنه لا خلاف في عدم الجواز لعدم استحقاقه له .
__________________
وثانيها الصورة
المذكورة الا انه يبيعه مؤجلا ، وظاهر الأصحاب العدم ايضا ، قال بعض المحققين بعد
نقل ذلك عنهم : وكان دليله الإجماع ، واحتمال دخوله تحت بيع الدين بالدين ، ثم قال
: فتأمل خصوصا على من هو عليه ، لانه مقبوض له انتهى.
وثالثها بيعه
بعد الحلول وبعد القبض ، ولا خلاف في صحة البيع.
ورابعها بعد
الحلول وقبل القبض ، والمشهور أنه يجوز بيعه من البائع بزيادة ونقصان ، سواء كان
من جنس الثمن أم لا ، ومنع الشيخ في التهذيب من بيعه بعد الأجل بجنس الثمن مع
الزيادة ، وبه قال ابن الجنيد وابن ابى عقيل وابن البراج وابن حمزة ، والروايات في
هذه الصورة لا يخلو من اختلاف ، فالواجب أولا نقل ما وصل إلينا منها ثم الكلام
فيما يحصل به الجمع بينها.
الاولى ما رواه
الشيخ في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس عن ابى جعفر عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام من اشترى طعاما أو علفا إلى أجل فلم يجد صاحبه وليس
شرطه الا الورق ، فان قال : خذ منى بسعر اليوم ورقا فلا يأخذ إلا شرطه ، طعامه أو
علفه ، فان لم يجد شرطه وأخذ ورقا لا محالة قبل ان يأخذ شرطه فلا يأخذ إلا رأس
ماله ، لا تظلمون ولا تظلمون». وروى هذه الرواية في الاستبصار بإسقاط قوله فلم يجد
الى قوله فان لم يجد وهو أوضح.
الثانية ما
رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس
__________________
عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) في رجل أعطى رجلا ورقا في وصيف إلى أجل مسمى فقال له
صاحبه : لا أجد لك وصيفا خذ منى قيمة وصيفك اليوم ورقا قال : لا يأخذ إلا وصيفه أو
ورقه الذي أعطاه أول مرة لا يزاد عليه شيئا».
الثالثة ما
رواه في التهذيب عن الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «لا بأس بالسلم في الحيوان إذا سميت الذي تسلم
فيه فوصفته ، فان وفيته والا فأنت أحق بدراهمك».
الرابعة ـ ما
رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى قال :
لا بأس ان لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه ، ان يأخذ صاحب الغنم نصفها
أو ثلثها أو ثلثيها ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم».
الخامسة ـ ما
رواه الشيخ عن على بن جعفر قال : «سألته عن رجل له على آخر تمرا وشعير أو حنطة أيأخذ
بقيمته دراهم؟ قال : إذا قومه دراهم فسد ، لأن الأصل الذي يشترى به دراهم ، فلا
تصلح دراهم بدراهم».
السادسة ما
رواه في التهذيب عن يعقوب بن شعيب في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل يسلف في الحنطة والتمر بمأة درهم فيأتي صاحبه
حين يحل له الذي له فيقول : والله ما عندي إلا نصف الذي لك فخذ منى ان شئت بنصف
الذي لك حنطة ، وبنصفه ورقا فقال : لا بأس إذا أخذ منه الورق كما أعطاه».
__________________
السابعة ما
رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبان عن بعض ، أصحابنا عن أبى عبد الله عليهالسلام ، «في الرجل يسلف الدراهم في الطعام إلى أجل فيحل
الطعام فيقول : ليس عندي طعام ، ولكن انظر ما قيمته فخذ منى ثمنه قال : لا بأس
بذلك».
الثامنة ما
رواه الشيخ عن الحسن بن على بن فضال قال : «كتبت الى ابى الحسن عليهالسلام الرجل يسلفني في الطعام فيجيء الوقت وليس عندي طعام
أعطيه بقيمته دراهم؟ قال : نعم».
التاسعة ما
رواه عن على بن محمد قال : «كتبت اليه رجل له على رجل تمر أو حنطة أو شعير
أو قطن فلما تقاضاه قال : خذ بما لك عندي دراهم يجوز ذلك له أم لا؟ فكتب عليهالسلام : يجوز ذلك عن تراض منهما إنشاء الله تعالى».
العاشرة ما
رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن سنان «قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، الى ان قال : أرأيت إن أوفاني بعضا وعجز عن بعض أيجوز
ان آخذ بالباقي رأس مالي؟ قال : نعم ما أحسن ذلك».
الحادي عشر ـ ما
رواه ايضا عن سليمان بن خالد في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يسلم في الزرع فيأخذ بعض طعامه ويبقى بعض ، لا
يجد وفاء فيعرض عليه صاحبه رأس ماله؟ قال : يأخذه فإنه حلال» الحديث.
الثانية عشر ما
رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل أسلفته دراهم في طعام فلما حل
طعامي عليه بعث الي بدراهم فقال :
__________________
اشتر لنفسك طعاما فاستوف حقك ، قال : أرى ان يولى ، ذلك غيرك وتقوم معه حتى
تقبض الذي لك ولا تتولى أنت شراءه».
الثالثة عشر ما
رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله في الموثق «قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أسلف دراهم في طعام فحل الذي له فأرسل إليه
بدراهم فقال : اشتر طعاما واستوف حقك ، هل ترى به بأسا؟ قال : يكون معه غيره يوفيه
ذلك».
الرابعة عشر ما
رواه في التهذيب عن يعقوب بن شعيب في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن الرجل يكون له على الرجل أحمال من رطب أو تمر
فيبعث اليه بدنانير فيقول : اشتر بهذه واستوف منه الذي لك قال لا بأس إذا ائتمنه».
ورواه في الفقيه عن صفوان عن يعقوب بن شعيب ، قال سألت أبا جعفر عليهالسلام ، مثله.
الخامس عشر ما
رواه في التهذيب والفقيه عن ابن بكير في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن رجل أسلفه في شيء يسلف الناس فيه من الثمار فذهب
زمانها ولم يستوف سلفه قال : فليأخذ رأس ماله أو لينظره».
السادس عشر ما
رواه في التهذيب عن ابن حجاج الكرخي عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : «كل طعام اشتريته في بيدر أو طسوج فأتى الله
عليه فليس للمشتري إلا رأس ماله ، ومن اشترى من طعام موصوف ولم يسم فيه قرية ولا
موضعا فعلى صاحبه ان يؤديه». ورواه في الفقيه مرسلا.
__________________
السابع عشر :
ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي في الصحيح قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل يسلف دراهم في خمسة مخاتيم حنطة أو شعير إلى أجل
مسمى وكان الذي عليه الحنطة والشعير لا يقدر على أن يقضيه جميع الذي له إذا حل
فشاء صاحب الحق أن يأخذ نصف الطعام أو ثلثه أو أقل أو أكثر ويأخذ رأس ماله ما بقي
من الطعام دراهم؟ قال : لا بأس به وسئل عن الزعفران يسلم فيه الرجل دراهم في عشرين
مثقالا أو أقل من ذلك أو أكثر قال : لا بأس ـ ان لم يقدر الذي عليه الزعفران ان
يعطيه جميع ماله ـ ان يأخذ نصف حقه أو ثلثه أو ثلثيه ويأخذ رأس مال ما بقي من حقه
دراهم». ولفظ دراهم في آخر الخبر في الفقيه دون الكتابين الآخرين.
الثامن عشر ما
رواه في الكافي والفقيه عن العيص بن القاسم عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر
الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابا ودقيقا ومتاعا أيحل له أن يأخذ من عروضه
تلك بطعامه ، قال : نعم يسمى كذا وكذا بكذا وكذا صاعا». هذا جملة ما حضرني من
الاخبار ، والمشهور بين الأصحاب في هذه المسألة هو جواز البيع على من عليه الحق
وغيره بزيادة أو نقيصة ، وان كان على كراهية في المكيل والموزون ، لان هذه المسألة
عندهم أحد جزئيات مسألة بيع الشيء قبل قبضه ، وقد تقدم الكلام عليها في فصل بيع
النقد والنسية والمشهور بينهم ثمة هو الجواز على كراهية في المكيل والموزون فجروا
هنا على ذلك ، وقد عرفت آنفا أن المختار في تلك المسألة هو التحريم ، وفاقا لجمع
من المتقدمين ولشيخنا الشهيد الثاني من المتأخرين.
ولكن أخبار هذه
المسألة كما سيظهر لك إنشاء الله مما يؤذن بمغايرة المسألتين ، ويعضده أن مورد
أخبار هذه المسألة كلها على كثرتها واختلافها مخصوصة بالبيع على من عليه الدين ،
بخلاف أخبار تلك المسألة فإنها بعد ضم مطلقها الى مقيدها ومجملها
__________________
الى مفصلها ظاهرة في البيع على الغير ، ويدل على القول المشهور الخبر
السابع والثامن والتاسع ، فإنها ظاهرة في الجواز بزيادة أو نقيصة.
ويؤيده أيضا
أنه كسائر أمواله له الاختيار في بيعها بزيادة عما اشترى أو نقيصة ، الا أن جل
الأخبار المتقدمة قد منعت من الزيادة على رأس المال صريحا في بعض وظاهرا في آخر ،
وهذا مما يؤذن بالمغايرة بين المسألتين أيضا ، والأصحاب رضوان الله عليهم لم
ينقلوا إلا صحيحتي محمد بن قيس ، وحملوهما على كراهة البيع قبل القبض ، أو
الاستحباب :
والأقرب في
الجمع بين الاخبار المذكورة انما هو حمل ما دل على أخذ رأس المال خاصة ـ والمنع من
الزائد ـ على ما إذا فسخ العقد الأول لتعذر المبيع كلا أو بالنسبة الى ما تعذر منه من نصفه
أو ثلثه ، فإنه في هذه الحال لا يجوز أخذ الزائد على رأس المال ، لاستلزامه الربا
، والاخبار الدالة على القول المشهور على ظاهرها من بقاء المبيع من غير فسخ ، فله
بيعه بما شاء زيادة ونقيصة.
وأما ما دل
عليه الخبر الثاني عشر والثالث عشر ـ من النهى عن الشراء بالدراهم المرسلة اليه
الا ان يكون معه آخر يشترى ويوفيه فهي محمولة على خوف التهمة ، بدليل الخبر الرابع
عشر ، لا ما حمله عليه في الوافي من فسخ البيع والوقوع في الربا ، فان ظاهر
الاخبار الثلاثة أنه أرسل إليه الدراهم وجعله وكيلا عنه في الاشتراء والإقباض ،
ولكن حصل النهي في بعضها للعلة التي ذكرناها ، كما أفصح به
__________________
البعض الأخر.
واستند الشيخ
فيما تقدم نقله عنه الى الخبر الخامس ، قال في التهذيب بعد إيراد الخبر السابع
والثامن ثم الخبر الخامس قال محمد بن الحسن : الذي افتى به ما تضمنه الخبر الأخير
من أنه إذا كان الذي أسلف فيه دراهم لم يجز له أن يبيع عليه بدراهم ، لانه يكون قد
باع دراهم بدراهم.
وربما كان فيه
زيادة ونقصان ، وذلك ربا ، ولا تنافي بين هذا الخبر والخبرين الأولين ، لأن الخبر
الأول مرسل غير مسند ، ولو كان مسندا لكان قوله «انظر ما قيمته على السعر الذي
أخذت منى» فإنا قد بينا أنه يجوز له أن يأخذ القيمة برأس ماله من غير زيادة ولا
نقصان ، والخبر الثاني أيضا مثل ذلك ، وليس في واحد من الخبرين أنه يعطيه القيمة
بسعر الوقت ، وإذا احتمل ما ذكرناه فلا تنافي بينهما على حال ، على أن الخبرين
يحتملان وجها آخر وهو أن يكون انما جاز له أن يأخذ الدراهم بقيمته إذا كان قد
أعطاه في وقت السلف غير الدراهم ، ولا يؤدى ذلك الى الربا لاختلاف الجنسين انتهى.
ولا يخفى بعد
ما ذكره ، سيما الاحتمال الأخير فإن أحد الخبرين المذكورين في كلامه وهو مرسلة
أبان صريح في كونه أسلف دراهم ، وقد اعترضه في هذا الاستدلال بعض من تأخر عنه ،
بأن الخبر الذي استند اليه يدل على خلاف ما ذهب اليه ، فلا يصح له الاعتماد عليه ،
لانه عليهالسلام منع من التقويم بالدراهم مطلقا سواء كان بقدر الثمن أو
أقل أو أزيد ، والشيخ قد جوز بالمساوي فما يدل عليه الحديث بإطلاقه لا يقول به ،
وما يقول به لا يدل عليه الخبر ، إذ لا دلالة للعام على الخاص فلا يمكنه الاحتجاج
به وهو جيد.
وكيف كان فان
روايات المسألة كلها متفقة على الجمع الذي قدمنا ذكره
__________________
وأما هذه الرواية فهي مخالفة للقواعد الفقهية المتفق عليها نصا وفتوى ،
فإنه بالبيع قد استحق المال المسلم فيه وصار ماله ، يتصرف فيه كيف شاء ، سواء
اشتراه بدراهم أو عروض ، وله بيعه بما شاء من الدراهم والعروض ، الا أن يفسخ البيع
، فيلزم رأس المال خاصة.
وأما مع عدم
الفسخ فلا وجه للمنع من تقويمه بالدراهم ، وكون المدفوع في قيمته دراهم وبيعه الان
بدراهم لا يوجب ذلك الربا ، لأنه إنما باع المتاع الذي أسلم فيه لا الثمن الذي
دفعه قيمة ، وأما ما دل عليه الخبر الخامس عشر فسيأتي الكلام فيه في محله إنشاء
الله تعالى.
وبالجملة
فالظاهر من الاخبار المذكورة بمعونة الجمع الذي قدمنا ذكره أنه مع عدم فسخ البيع
الأول فله ان يبيع ما في ذمة المسلم اليه بما أراد من زيادة ونقيصة عليه أو على
غيره ، لانه ماله يتصرف فيه كيف شاء ولا مانع من ذلك شرعا إلا ما ربما يتخيل مما
تقدم في مسألة البيع قبل القبض ، وان المختار ثمة هو التحريم كما دل عليه جل
روايات تلك المسألة.
والجواب عن ذلك
ان الظاهر عندي ان هذه المسألة غير مترتبة على تلك ، بل هي مسألة على حيالها كما
لا يخفى على المتأمل في أخبار المسألتين وموضوع اخبار هذه المسألة انما هو بيع مال
السلم على من هو عليه ، واخبار تلك المسألة انما هو الشراء على غير وجه السلم
وبيعه على الغير قبل قبضه كما لا يخفى على المتأمل
__________________
فيها وان اشترك الجميع في كونه بيعا قبل القبض ، والمختار عندنا هنا هو
الجواز كما عرفت من الاخبار التي أشرنا إليها ، وهي الخبر السابع والثامن والتاسع
بالتقريب المتقدم ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني اختيار التحريم هنا بناء على
اختياره التحريم في تلك المسألة كما قدمنا نقله عنه وهو غفلة عن ملاحظة روايات هذه المسألة المذكورة فإنها
صريحة في الجواز كلا وانما اختلفت في الزيادة عن رأس المال منعا وتجويزا وإلا فأصل
البيع لا خلاف فيه لا في الاخبار ولا في كلام الأصحاب بخلاف روايات تلك المسألة ،
فإنها مختلفة في جواز البيع وعدمه ، وجل الاخبار على العدم ، كما رجحناه ثمة ،
والظاهر ان الكراهة التي
__________________
ذكرها القائلون بالجواز في هذه المسألة حيث انهم صرحوا بجواز بيع السلم على
من هو عليه على كراهية ، إنما استندوا فيها الى اخبار تلك المسألة لاختلافها في
جواز البيع قبل القبض وعدمه ، فجمعوا بينها بالكراهة ، والا فأخبار هذه المسألة
على كثرتها متفقة على الجواز ، وانما اختلفت في الزيادة على رأس المال.
والظاهر ان
السبب في ذلك كله هو ادراجهم هذه المسألة تحت تلك المسألة والغفلة عن ملاحظة أخبار
هذه المسألة مع كثرتها وتعددها ، والتحقيق بالنظر الى اخبار كل من المسألتين هو
تغاير الحكمين ، وان الأظهر في هذه المسألة هو الجواز للاخبار المتقدم ذكرها بلا
كراهة بناء على ما جمعنا به بين اخبارها ، وفي تلك المسألة هو التحريم لما قدمناه
فيها والله العالم.
تذنيبان : الأول
ـ المشهور بين الأصحاب أنه إذا حل الأجل وتأخر التسليم لعارض.
ثم طالب
المشترى بعد انقطاعه كان بالخيار بين الفسخ والصبر ـ ونقل عن ابن إدريس إنكار
الخيار في هذه المسألة ، تمسكا بأن العقد ثابت بالإجماع ، وآية «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» وانه لا دليل على فسخه ، ويدل على القول المشهور الخبر
الخامس عشر من الاخبار المتقدمة ، وهو نص في الباب.
ويؤيده الأخبار
المذكورة ثمة الدالة على جواز أخذ رأس المال ، فإنك قد عرفت انها محمولة على فسخ
العقد ، مع ان ظاهرها أن المسلم فيه غير معدوم يومئذ وان لم يوجد عند البائع فإذا
جاز الفسخ مع وجوده ، فمع تعذره بطريق اولى ، وبه يظهر بطلان ما ذهب اليه ابن
إدريس ، وقيل في المسألة قول ثالث ، وهو انه لا يفسخ ولا يصبر بل يأخذ قيمته الآن
، قال في المسالك : وهو حسن لأن الحق هو العين ، فإذا تعذرت رجع الى القيمة حيث
يتعذر المثل.
أقول لا ريب ان
هذا القول هو الموافق للأصول الشرعية ، والقواعد المرعية
ويؤيده الأخبار المتقدمة الدالة على القول المشهور ، وهو بيعه على من هو
عليه ، وأخذ قيمته يومئذ ، الا ان موثقة ابن بكير المذكورة ظاهرة الدلالة على
القول المشهور هنا ، والمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال ، قالوا : لو كان العارض
الموجب لتأخر التسليم من جهة المشترى مع بذل البائع ، فإنه لا فسخ لاستناد الفوات
الى تقصير ، قالوا : والخيار ليس على الفور ، وحينئذ لا يسقط بالتأخير بل قيل انه
لو صرح بالإمهال لم يسقط وتوقف في الدروس.
ولو قبض البعض
قالوا : تخير بين الصبر به وبين فسخ العقد من أصله لتبعيض الصفقة التي هي عيب
عندهم ، وان لم نقف لها على دليل إذ المسلم فيه انما هو المجموع ، وقد تعذر ،
فتبعيضه ضرر عليه ، وبين الفسخ في المختلف خاصة لأنه الذي تعذر فله الرجوع الى
ثمنه ، لان الصبر ضرر لا يلتزم به ، ويدل على هذا الوجه الثالث ـ من الاخبار
المتقدمة ـ الخبر الرابع ، والخبر العاشر ، والحادي عشر والسابع عشر.
الثاني قد عرفت
في صدر المسألة أن من جملة صورها بيع السلف على من هو عليه ، أو على غيره قبل
حلوله ، يعنى حال كونه دينا وانه لا خلاف بينهم في عدم الجواز ، لعدم استحقاقه له
يومئذ ، وظاهرهم أن ذلك أعم من أن يبيعه حالا أو مؤجلا للعلة المذكورة ، وظاهر
المحقق المتقدم ذكره ثمة أن دليلهم الإجماع ، مع أنه في المسالك نقل عن العلامة في
التذكرة القول بالجواز ، واليه يميل ايضا كلامه في المسالك مستندا إلى أنه حق مالي
إلى آخر ما يعتبر في البيع فينبغي أن يصح بيعه على حالته التي هو عليها ، وان لم
يجز المطالبة قبل الأجل. ثم اعترض على نفسه بأنه ربما أشكل بعدم إمكان قبضه الذي
هو شرط في الصحة ، ثم أجاب بمنع اشتراط إمكان القبض حين العقد ، بل إمكانه مطلقا
ويمكن تحققه بعد الحلول ، كما لو باعه عينا غائبة منقولة لا يمكن قبضها الا بعد
مضى زمان يمكن فيه الوصول إليها.
أقول والاشكال
المذكور انما يتوجه فيما إذا كان البيع على غير من عليه الحق ،
والا فلو كان على من هو عليه فإنه مقبوض ، لكونه في ذمته ، والى ذلك يميل
أيضا كلام المحقق الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني في حواشيه على شرح اللمعة على
ما نقله عنه ابنه الشيخ محمد ، حيث أن شيخنا المشار إليه جرى في الكتاب المذكور
على القول المشهور ، فقال : واما بيعه قبل حلوله فلا ، لعدم استحقاقه حينئذ ، فكتب
عليه ابنه المحقق المذكور ان أريد بالاستحقاق استحقاق أصل الملك على أن المراد أنه
لا يملك أصل المسلم فيه الا بعد الأجل فتوجه المنع اليه ظاهر ، وان أريد به عدم
استحقاقه المطالبة ، فمنع ذلك البيع غير واضح انتهى : ثم ان ابنه الشيخ محمد كتب
على ما ذكره أبوه الجواب نختار الشق الثاني ومنعه البيع واضح ، لاشتراط القدرة على
التسليم انتهى.
أقول وكأنه غفل
عما ذكره جده في المسالك ، ولم يقف عليه من الجواب عما ذكره ، واليه يميل ايضا
كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد وهو الذي عبرنا عنه ببعض المحققين في صدر
المسألة ، وقد تقدم كلامه في صدر المسألة ، وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص لا
يخلو عن اشكال ، وان كان ما ذكره هؤلاء المحققون ظاهر القوة خصوصا في البيع على من
هو عليه ، وكذا في صورة ما لو كان البيع مع تأجيل المبيع إلى المدة المضروبة أو لا
، وان كان على غير من هو عليه ، لحصول الاستحقاق بعد المدة.
ثم ان ظاهر
القول المشهور من المنع من بيعه قبل حلوله أنه لا فرق بين أن يكون الثمن حالا أو
مؤجلا ، لما عرفت من التعليل المذكور في كلامهم ، وهو عدم الاستحقاق ، وأما على
القول بالجواز فلا إشكال في صحته بالحال ، مشخصا كان أو مضمونا ، ولا إشكال أيضا
في عدم الصحة لو كان الثمن دينا قبل العقد ، للزوم بيع الدين بالدين المنهي عنه ،
وانما الكلام فيما لو شرط تأجيله في العقد بمعنى أنه انما يكون دينا بعد العقد لا
قبله ، فظاهر جملة من الأصحاب دخوله في بيع الدين بالدين ، والظاهر انه المشهور.
وظاهر جملة
منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة العدم ، قال في المسالك بعد قول
المصنف في مسألة بيع الدين بعد حلوله بما شرط تأجيله قيل يبطل ، لانه بيع دين بدين
، وقيل يكره ، وهو الأشبه ما لفظه :
وأما بيعه
بمؤجل فقد ذهب جماعة إلى المنع منه ، اعتمادا على أن المؤجل يقع عليه اسم الدين ،
وفيه أنهم ان أرادوا إطلاق اسم الدين عليه قبل العقد ، وحالته فظاهر منعه ، لانه
لا يعد دينا حتى يثبت في الذمة ، ولا يثبت الا بعد العقد ، فلم يتحقق بيع الدين
بالدين ، وان أرادوا أنه دين بعد ذلك لزم مثله في المضمون الحال ، ولا يقولون
ببطلانه ، وأما دعوى إطلاق اسم الدين على المؤجل قبل ثبوته في الذمة دون الحال فهو
تحكم.
والحق أن اسم
بيع الدين بالدين لا يتحقق إلا إذا كان العوضان معا دينا قبل المعاوضة ، كما لو
باعه الدين الذي في ذمته بدين آخر له في ذمته ، أو في ذمة ثالث أو تبايعا دينا في
ذمة غريم لأحدهما بدين في ذمة غريم آخر للآخر ، ونحو ذلك لاقتضاء الباء كون الدين
نفسه عوضا ، والمضمون الذي لم يكن ثابتا في الذمة قبل ذلك لا يعد جعله عوضا بيع
دين بدين ، وأما ما يقال : اشترى فلان كذا بالدين ، مريدين به أن الثمن في ذمته لم
يدفعه ، فهو مجاز يريدون به أن الثمن بقي في ذمته دينا بعد البيع ، ولو لا ذلك لزم
مثله في الحال لإطلاقهم فيه ذلك نعم. الدين المبيع يطلق عليه اسم الدين قبل حلوله
وبعده ، فلا بد في المنع من دين آخر يقابله ، فظهر أن ما اختاره المصنف من جواز
ذلك على كراهية أوضح. انتهى وهو جيد ، الا ان ما ذكره من ان الدين المبيع كالسلم
مثلا يطلق عليه اسم الدين بعد الحلول أيضا وان كان هو الظاهر من كلام غيره من
الأصحاب أيضا ، الا ان الدين لغة كما صرح به جملة من أرباب اللغة مخصوص بالمؤجل
دون الحال ، قال في القاموس : الدين ماله أجل ، وما لا أجل له فقرض.
وقال في
النهاية الأثيرية فيه انه نهى عن الكالي أي النسيئة ، بالنسيئة وذلك ان يشترى
الرجل شيئا الى أجل ، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضى به فيقول بعينه
إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه منه ، ولا يجرى بينهما تقابض.
وقال في كتاب
الغريبين قوله تعالى «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ»
الدين ما له
أجل ، والقرض ما لا أجل له ، وهو عين ما ذكره في القاموس ، الا ان الظاهر من كلام
الفيومي في المصباح المنير خلاف ذلك ، قال بعد ذكر كلمات جملة من أهل اللغة في
مادة الاشتقاق : تشتمل على إطلاق الدين على القرض ، ثم ذكر قوله سبحانه «إِذا تَدايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ» اى تعاملتم بدين من سلم وغيره : ما لفظه فثبت بالآية
وبما تقدم ان الدين لغة هو القرض ، وثمن المبيع الى آخره ، وربما ظهر منه الاختصاص
بما ذكره ، والحال كما ترى لا يخلو من الاشكال ، ومثله يأتي فيما ألزمهم به من
إطلاق الدين على المضمون الحال ، فإنه يمكن الجواب عنه بأنه بناء على ما ذكره من
تخصيص الدين بالمؤجل لغة لا يرد ما أورده ، الا ان يكون مراده الإطلاق عرفا كما هو
ظاهر سياق الكلام ، وكيف كان فالمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال كما تقدمت الإشارة
اليه والله العالم.
المسألة
الثالثة إذا دفع دون الصفة ورضى المشترى فلا إشكال في الجواز ، وبراءة ذمة البائع
، وان دفع فوق الصفة فظاهر الأصحاب وجوب قبوله ، اما لو دفع أكثر لم يجب قبول
الزيادة.
قال في المسالك
: الفرق بين العين والصفة ان زيادة الصفة لا تنافي عين الحق ، بل تؤكده ، إذ
المفروض كونه مساويا للحق في النوع وغيره ، ويزيد الصفة ، اما العين فهي خارجة عن
الحق زائدة عليه ، فلا يجب قبولها ، لأنها عطية جديدة ، ويمكن تخليصها والحق معها
غير متعين انتهى.
ولا يخفى ما
فيه فان ما ذكره في العين يمكن إجراءه في زيادة الصفة ، فان الحق الذي له موصوف
بصفة خاصة ، والمدفوع موصوف بصفة أخرى ، وبه يحصل التغاير ، فكيف لا تنافي عين
الحق ، واما قوله في الزيادة فلا يجب قبولها لأنها عطية ، فإنه يجري في زيادة
الوصف ، فإنها مشتملة على المنة ، ولا يجب قبولها ايضا كما صرحوا به في غير موضع ،
ومنه قبول ما يوهب مما يستطيع به الحج ، والمنقول عن ابن الجنيد التسوية
بين الأمرين في عدم وجوب القبول ، ويدل عليه بعض الاخبار الآتية ، وبالجملة فإنه
مع التراضي من الطرفين لا اشكال ولا خلاف في جواز الأخذ ناقصا وزائدا في العين أو
الصفة ، وانما الكلام في وجوب القبول وتحتمه شرعا.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في المقام ما رواه في الكافي عن قتيبة الأعشى قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام وانا عنده فقال رجل : ان أخي يختلف الى الجبل فيجلب
الغنم فيسلم في الغنم في أسنان معلومة إلى أجل معلوم ، فيعطى الرباع جذاعا مكان
الثني فقال له : أبطيبة من نفس صاحبه؟ قال : نعم قال : لا بأس».
وما رواه المشايخ
الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم ، عن أبى بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن السلم في الحيوان؟ قال : ليس به بأس ، قلت : أرأيت
أن أسلم في أسنان معلومة أو شيء معلوم من الرقيق فأعطاه دون شرطه أو فوقه بطيبة
النفس منهم؟ قال : لا بأس».
وما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام ، عن الرجل يسلم في وصفاء أسنان معلومة ولون معلوم ثم
يعطى دون شرطه أو فوقه فقال : إذا كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس». ورواه الشيخ
عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليهالسلام مثله.
وعن معاوية بن
عمار عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل أسلف في وصفاء أسنان معلومة وغير
معلومة ثم يعطى دون شرطه؟ قال : إذا كان بطيبة النفس منك ومنه فلا بأس ، الى أن
قال : ولا يأخذ دون شرطه إلا بطيبة نفس صاحبه».
وعن الحلبي في الصحيح ورواه في الفقيه أيضا عن الحلبي في الصحيح
__________________
عن أبى عبد الله عليهالسلام ، في حديث قد تقدم قال : «ويأخذون دون شرطهم ولا يأخذون
فوق شرطهم ،».
ورواه الشيخ في
الصحيح أيضا عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليهالسلام مثله ، ويمكن الاستدلال بهذا الخبر لما نقل آنفا عن ابن
الجنيد من عدم وجوب أخذ ما زاد على الوصف ، والمراد أنه لا يجب عليهم قبول ما زاد
على الوصف ، ولا ينافيه ما تقدم في صحيحة الحلبي من نفى البأس مع طيبة النفس منهما
إذا كان فوقه ، لان الكلام كما عرفت في وجوب الأخذ عليه لا في الجواز ، بل هذه
الرواية أيضا ظاهرة فيما ذكره ابن الجنيد حيث شرط فيها أخذ ما فوق الشرط بطيبة
نفسي الآخذ ، فلا يجبر عليه ، كما هو ظاهر كلامهم من وجوب القبول.
وبالجملة فإن
الظاهر هو قوة ما ذهب اليه ابن الجنيد لما عرفت من ضعف التعليل الذي ذكره في
المسالك ، مع اعتضاد قول ابن الجنيد بظاهر الصحيحة المذكورة ، ولو دفع اليه ما هو
على الصفة المشروطة وجب القبول أو الإبراء من حقه ، ولو امتنع من الأمرين جبره
الحاكم ، والا قبضه له إذا سأل المسلم اليه ذلك ، والظاهر انه يبرئ لو عزله له ،
وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في المسألة الثالثة من المطلب الأول في النقد والنسيئة من الفصل الرابع في
أحكام العقود ومتى قبضه برئت ذمة المسلم إليه.
المسألة
الرابعة لو وجد في المبيع أو الثمن عيب بعد القبض فهنا مقامان الأول ـ لو وجد
بالمبيع عيبا بعد القبض فإنه يتخير بين الرضاء به مجانا وبين رده ، فيرجع الحق إلى
ذمة المسلم اليه ، بمعنى أن المدفوع لا يتعين بمجرد الدفع ، وان كان من الجنس وعلى
الوصف ، للعيب المذكور ، لأنه إنما أسلفه في صحيح ، ولا أرش هنا ، لانه لم يتعين
الحق حتى يجب قبوله ويجبر بالأرش ، بل الحق في الذمة أمر كلي ، ودفع هذا المعيب
عنه بعد ظهور العيب يكون ملكا متزلزلا يتخير فيه بين الرضاء به
__________________
مجانا فيستقر ملكه عليه ، وبين أن يرده ، فيرجع الحق إلى الذمة سليما بعد
ان خرج خروجا متزلزلا.
بقي الكلام في
النماء المنفصل المتجدد زمن الخيار بعد القبض وقبل الرد متى اختار الرد ، والظاهر
من كلامهم أنه للقابض ، فإنه متجدد في ملكه وان كان متزلزلا ، كنظائره من النماء
المتجدد زمن الخيار ، واما المتصل كالسمن فإنه تابع للعين.
الثاني : قالوا
: إذا ظهر في الثمن بعد قبضه عيب فان كان من غير الجنس كان يكون نحاسا والثمن فضة
، بطل العقد ، وان كان من جنسه رجع بالأرش ان اختار البيع ، وان اختار الرد كان له
ذلك ، وهو لا يخلو من إجمال ، وتفصيل الكلام في ذلك بمعونة ما تقدم في باب الصرف
أن يقال هنا ان العيب اما أن يكون من الجنس أو من غيره ، وعلى كل من التقديرين
فاما أن يكون في جملة الثمن أو بعضه ، وعلى كل من هذه التقادير اما ان يظهر قبل
التفرق أو بعده ، وعلى كل من هذه التقادير اما أن يكون الثمن معينا أو كليا.
وجملة الأقسام
تنتهي إلى ستة عشر ، أحدها ان يكون العيب من غير الجنس ، ويكون في جملة الثمن بعد
التفرق ، وكان معينا ولا إشكال في البطلان هنا ، لانتفاء شرط السلم ، وهو القبض
قبل التفرق ، كما تقدم.
ثانيها :
الصورة بحالها ولكن قبل التفرق ، والحكم هو المطالبة بالبدل قبل التفرق.
ثالثها :
الصورة الأولى بحالها ولكن كان العيب في بعض الثمن ، والحكم فيها صحة البيع فيما
هو من الجنس ، والبطلان في غيره.
رابعها :
الصورة بحالها ولكن قبل التفرق ، والحكم فيها الصحة فيما هو من الجنس ، والمطالبة
بالبدل قبل التفرق.
خامسها : العيب
من غير الجنس في جملة الثمن بعد التفرق ، ولكن الثمن كلي في
الذمة وحكمها كالصورة الأولى لعدم العيب للعلة المذكورة ثمة.
سادسها :
الصورة بحالها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الصورة الثانية سابعها : العيب
من غير الجنس بعد التفرق وكون الثمن كليا لكن العيب في بعض الثمن ، والحكم فيها
كما في الصورة الثالثة.
ثامنها :
الصورة كسابقها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الرابعة ، فهذه ثمان صور فيما
لو كان من غير الجنس.
تاسعها : العيب
من الجنس كخشونة الجوهر واضطراب السكة ونحوهما وكون ذلك في جملة الثمن بعد التفرق
، مع كون الثمن معينا والحكم فيها التخيير بين الرد والرضاع مع الأرش ، كما تقدم في
كلامهم.
عاشرها :
الصورة بحالها لكن مع كون الثمن كليا في الذمة ، فهل يكون العقد صحيحا لحصول
التقابض سابقا ولو في الجملة أو يكون باطلا لعدم التقابض حقيقة قبل التفرق؟ اشكال
تقدم بيانه في المسألة الحادية عشر من مسائل الصرف.
الحادي عشر :
الصورة كسابقتها لكن ظهور العيب قبل التفرق ، والحكم هنا وجوب الإبدال ، لأن الثمن
أمر كلي في الذمة محمول على الصحيح السالم من العيب ، فمتى كان المدفوع معيبا وجب
رده قبل التفرق ، لان المقبوض في حكم العدم ، ويرجع الحق إلى الذمة ، فيجب الأبدال
ولا خيار هنا ولا أرش ، لاختصاص ذلك بما إذا كان الثمن معينا.
الثانية عشر :
الصورة الاولى من صور العيب الجنسي لكن مع ظهور العيب قبل التفرق ، والحكم فيها
كما في تلك الصورة من التخيير ، وهذه الصور الأربع في العيب الجنسي مبنية على ما
إذا كان العيب في جملة الثمن ، وقس عليها ما إذا كان العيب في بعض الثمن ، فإنه
يأتي فيه الصور الأربع المذكورة ، والحكم فيما قابل الصحيح صحة البيع ، وفيما قابل
المعيب ما تقدم في كل من الصور الأربع من الخيار في الاولى ، والاشكال في الثانية
، ووجوب الإبدال في الثالثة ، والتخيير في الرابعة.
المسألة
الخامسة لو اختلفا في قبض الثمن هل كان قبل التفرق أو بعده؟ أو ادعى البائع انه
قبضه ثم رده قبل التفرق.
والكلام هنا في
موضعين الأول ـ ما إذا اختلفا في القبض هل هو قبل التفرق أو بعده؟ ومقتضى هذا
الكلام أنهما قد اتفقا على القبض ، الا أن أحدهما ادعى أن القبض وقع قبل التفرق ،
فيصح العقد حينئذ لوجود شرطه.
والأخر ادعى
انه بعده فيبطل ، ومقتضى قواعد الأصحاب أن القول قول مدعى الصحة ، وبه أفتوا في
المسألة ، أما لو اختلفا في أصل قبض الثمن ، فان القول قول منكر القبض وان تفرقا
واستلزم البطلان ، والنزاع في الحقيقة في كل من المسألتين يرجع الى طرو المفسد ،
والا فهما متفقان على أصل الصحة ، ولا نزاع بينهما فيها ، لاتفاقهما على وقوع
العقد.
ولكن في
المسألة الأولى ادعى أحدهما أن القبض انما وقع بعد التفرق ، وهو موجب لبطلان العقد
، وفي الثانية ادعى البائع عدم القبض ، وحصول التفرق الموجب للبطلان ، وفي الأولى قدم
قول مدعى الصحة المتفق عليها ، لأن الأصل عدم طرو المفسد ، وفي الثانية المقتضي
للفساد قائم وهو التفرق ، ويترتب على ما هو الأصل من عدم قبض الثمن ، فان مقتضى
الأصل ذلك ، فمن أجل ذلك حكم بالبطلان.
هذا مع عدم
البينة ، ولو أقام كل منهما بينة بالنسبة إلى المسألة الأولى ، بنى على تقدم بينة
الداخل ـ وهو هنا مدعى الصحة ـ أو الخارج ، واختار في المسالك الثاني ، ونقل عن
العلامة تقديم بينة الأول لقوة جانبه بدعوى أصالة عدم طرو المفسد ، ولكون دعواه
مثبتة ، والأخرى نافية ، وبينة الإثبات مقدمة.
الثاني لو قال
البائع : قبضت الثمن ثم رددته إليك ، وأنكر المشتري القبض ، وظاهرهم أن القول قول
البائع مع يمينه ، مراعاة لجانب الصحة ، وتفصيل ذلك أنهما الان متفقان على أن
الثمن عند المشترى ، اما في ذمته ، أو أمانة عنده وانما
__________________
اختلفا في كون ذلك على وجه مفسد للعقد بأن لا يكون البائع قبضه بل بقي في
ذمة المشترى ، فلم يحصل التقابض ، أو على وجه مصحح بأن يكون قبضه البائع ثم رده
اليه ، والأصحاب قدموا قول البائع رعاية لصحة العقد.
وقد يقال : ان
أصالة صحة العقد معارضة بأن الأصل عدم حصول القبض ، الا انه يمكن أن يقال أيضا أنه
مع تعارض الأصلين المذكورين يحصل الشك في طرو المفسد ، والأصل عدمه ، أو يقال
المقتضى للفساد مشكوك فيه ، إذ لا يعلم ان التفرق كان قبل القبض ، والأصل عدمه ،
فيتمسك بأصل الصحة.
وكيف كان فإنه
يبقى هنا إشكال في المقام ، وهو ان دعوى البائع مشتملة على شيئين ، قبض الثمن ورده
، وانما قدم قوله في القبض مراعاة لصحة العقد ، وأما في الرد فمقتضى القواعد
الشرعية أنه غير مقبول كنظائره ، إذ لا مدخل له في الصحة وحينئذ فمع قبوله في
القبض هل له مطالبة المشتري بالثمن أم لا؟ إشكال ينشأ من عدم قبوله في الرد مع
اعترافه بحصول القبض ، فليس له المطالبة ، ومن اتفاق المتبايعين على أن الثمن عند
المشترى ، اما على دعوى البائع فظاهر ، وأما على دعوى المشترى فلاعترافه بعدم
الإقباض ، فإذا قدم قول البائع في صحة العقد ألزم المشتري بالثمن ، فيجوز المطالبة
حينئذ ، الا أنه يشكل أيضا بأن المشتري بناء على فرض المسألة لا يدعى شيئا في ذمة
البائع ، لاعترافه بفساد البيع ، وأنه لم يقبضه الثمن قبل التفرق ، فلا تبقى الا
دعوى البائع ، وهي مشتملة على الاعتراف بالقبض ، ودعوى الرد ، والثانية غير مقبول
بمقتضى القواعد الشرعية فكيف تجوز له المطالبة.
وبالجملة
فأمثال هذه الفروع الخالية من النصوص على العموم والخصوص سيما مع تعارض الاحتمالات
العقلية فيها محل الاشكال ، وان كان الأقرب بالنظر الى هذه التعليلات هو عدم
المطالبة ، إلزاما له بالاعتراف بالقبض الذي بنوا عليه صحة العقد ، وعدم سماع دعوى
الرد ، والله العالم.
الفصل الحادي عشر في بيع الغرر والمجازفة
وفيه مسائل الاولى
قال الشيخ في النهاية من اشترى شيئا بحكم نفسه ولم يذكر الثمن بعينه كان البيع
باطلا ، فان هلك في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتياعه ، الا أن يحكم على نفسه
بأكثر من ذلك ، فيلزمه ما حكم به دون القيمة ، وان كان الشيء قائما بعينه كان
لصاحبه انتزاعه من يد المبتاع ، فإن أحدث المبتاع فيه حدثا نقص به ثمنه كان له
انتزاعه منه وأرش ما أحدث فيه ، فان كان الحدث يزيد في قيمته وأراد انتزاعه من يده
كان عليه أن يرد على المبتاع قيمة الزيادة لحدثه فيه ، فان ابتاعه بحكم البائع
فحكم بأقل من قيمته كان ذلك ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وان حكم بأكثر من
قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع ، الا أن يتبرع المبتاع بالتزام ذلك
على نفسه ، فان لم يفعل لم يكن عليه شيء وكذا قال الشيخ المفيد وابن البراج وأبو
الصلاح على ما نقله في المختلف.
وقال سلار : من
لم يسم ثمنا بطل بيعه وشراؤه فإن هلك المبيع في يد من ابتاع ولم يسم الثمن كان
عليه قيمته يوم أخذه ، فإن كان باقيا فللبائع أخذه ، فإن كان قد أحدث فيه حدثا فان
نقصت به قيمته فللبائع أرش النقصان ، وان زادت فالأرش للمبتاع.
وقال العلامة
في المختلف : لا يجوز البيع بحكم أحدهما في الثمن ، فان بيع كذلك بطل البيع ، ولو
حكم الحاكم منهما بأي شيء كان لم يلزم بل يبطل البيع ، فان كانت السلعة قائمة
استردها البائع ، وان كانت تالفة وجب على المشترى قيمتها ولا اعتبار بما يحكم به
أحدهما ، هذا إذا كانت من ذوات القيم ، وان كانت من ذوات الأمثال وجب عليه مثلها ،
فان تعذر المثل فقيمة المثل يوم الإعواز ثم قال : وقال ابن إدريس كما قلناه إلا في
موضعين.
أحدهما أن مع
التلف ولا مثل يجب عليه أكثر القيم من وقت القبض الى وقت التلف كالغصب.
والثاني ـ أن
الحدث الذي أبره المشترى ان كان عين مال له أخذه ، وان كان فعلا لم يكن له الرجوع
على البائع بشيء ، ثم انه احتج في المختلف على البطلان ، قال : لنا على بطلان
البيع مع الجهالة الإجماع عليه ، والنهى عن الغرر والحكم غير لازم ، إذ ذلك لا
يصير ما ليس بثابت في الذمة ثابتا ، أقول : الظاهر من كلام الشيخ ومن تبعه ممن
تقدم ذكره هو التفصيل في البيع بحكم أحدهما ، وأنه ان كان الحاكم هو المشترى
فالبيع عندهم باطل ، وان كان الحاكم هو البائع ، فإن حكم بأقل من قيمته كان البيع
ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وان حكم بأكثر فالبيع أيضا صحيح ولكن ليس له
أكثر من القيمة في حال البيع ، الا أن يرضى المشترى بتلك الزيادة ، وظاهر ابن
إدريس ومن تأخر عنه كالمحقق والعلامة وغيرهما من المتأخرين هو البطلان مطلقا.
وابن إدريس قد
خالف الشيخ في مواضع ، منها في قوله فان هلك في يد المبتاع كان عليه قيمة يوم
ابتاعه ، فقال : هكذا قال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والذي يقتضيه أصول المذهب أن
الشيء ان كان له مثل فعليه مثله لا قيمته ، وان أعوز المثل فعليه ثمن المثل يوم
الإعواز ، وان كان المبيع مما لا مثل له فإنه يجب عليه قيمة أكثر ما كانت الى يوم
الهلاك ، لان هذا بيع فاسد ، والبيع الفاسد عند المحصلين يجرى مجرى الغصب في
الضمان.
أقول : ما ذكره
من التفصيل بالمثلي والقيمي جيد كما هو المتكرر في كلامهم ، وأما تعيين وقت القيمة
فقد تقدم الكلام فيه ، ومنها في قول الشيخ فان كان الحدث يزيد في قيمته وأراد
انتزاعه من يده كان عليه أن يرد على المبتاع قيمة الزيادة لحدثه.
فقال : هكذا
قال شيخنا في نهايته ، والاولى أن يقسم الحدث فيقول : ان كان آثار أفعال لا أعيان
أموال ، فلا يرد على المبتاع شيء ، وان كان الحدث أعيان أموال فهو على ما قاله رحمهالله.
أقول : وبما
أطلقه الشيخ هنا أفتى المحقق في الشرائع ، ووافقه في المسالك لكن قيده بصورة الجهل
، والظاهر أن مراده الجهل بصحة البيع ثم قال : أما مع علمه فليس له الا الزيادة
العينية التي يمكن فصلها ، فالوصفية كالصنعة لا يستحق بسببها شيء ، وبالجملة حكمه
حكم الغاصب ، وهذا هو أصح الأقوال في المسئلة انتهى : وحينئذ يصير هذا قولا ثالثا
في المسألة.
ومنها في قوله «فان
ابتاعه بحكم البائع فحكم بأقل من قيمته» الى آخر الكلام فقال : هكذا أورده في
نهايته والاولى أن يقال البيع باطل ، لان كل مبيع لم يذكر فيه الثمن يكون باطلا
بغير خلاف بين المسلمين ، فإذا كان كذلك فان كان باقيا بعينه فللبائع انتزاعه من
يد المشترى ، وان كان تالفا وتحاكما فلصاحبه مثله ان كان له مثل ، وان كان لا مثل
له فله قيمته أكثر القيم الى يوم الهلاك ، لا قيمته في حال البيع ، فإن أقر البائع
بشيء لزمه إقراره على نفسه ، الا أن يقر بأزيد من قيمته التي يوجبها الشارع ،
وانما هذه أخبار آحاد أوردها في نهايته إيرادا لا اعتقادا انتهى.
وأنت خبير بأنه
قد تقدم في المسئلة السابعة من مسائل المقام الثالث من الفصل الأول نقل صحيحة
رفاعة الدالة على بيع الجارية بحكم المشترى وعدم قبول البائع لما حكم به بعد أن
دفع الجارية إلى المشترى ، ووطأها المشترى ، وحكمه عليهالسلام ، في الصورة المذكورة بأن يقوم الجارية قيمة عادلة ،
فإن كان قيمتها أكثر مما بعث اليه كان عليه أن يرد عليه ما نقص من القيمة ، وان
كان قيمتها أقل مما بعث فهو له ، ولا يسترد منه شيئا ، ولكن الأصحاب لم يذكروها ،
وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك بما خطر بالبال العليل ، والفكر الكليل.
وأما ما ذكره
الشيخ هنا من الصحة في صورة حكم البائع على الوجه الذي ذكره فلم أقف فيه على دليل
، واما ما ذكروه من الضمان على المشترى للقاعدة المقررة عندهم «من ان كل عقد يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده» فقد تقدم الكلام
فيه أيضا في بعض المواضع المشار إليها آنفا.
الثانية قال في
المختلف : لا خلاف بيننا في ان الثمن إذا كان مجهولا بطل البيع الا عن ابن الجنيد
ـ فإنه قال : لو وقع على مقدار معلوم بينهما ، والثمن مجهول لأحدهما جاز إذا لم
يكن بواجبه ، وكان للمشتري الخيار إذا علم ، وذلك كقول الرجل يعنى كر طعام بسعر ما
بعت ، فاما ان جهلا جميعا قدر الثمن وقت العقد لم يجز ، وكان البيع منفسخا ـ والا
من السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، فإنه قال : لا يشترط العلم برأس مال السلم
إذا كان معلوما بالمشاهدة مضبوطا بالمعاينة ـ والا من الشيخ في المبسوط في كتاب
الإجارة فإنه قال : إذا باع شيئا بثمن جزاف جاز إذا كان معلوما مشاهدا وان لم يعلم
وزنه ، وكذا مال السلم ، لنا انه غرر فيكون منهيا عنه انتهى.
أقول ـ ونحو
هذا الكلام ذكر في الدروس ، وقد تقدم نقل عبارته ، والكلام في حكم هذه المسألة صحة
وبطلانا تقدم في المسألة السابعة المشار إليها في سابق هذه المسألة.
الثالثة قال في
المختلف : بيع الصبرة باطل الا ان يعلما قدرها أو يعلمه أحدهما ويخبر الآخر حالة
العقد ، ولو جهلاها وقت العقد أو أحدهما بطل ، سواء شاهداها أم لا ، وسواء كالاها
بعد ذلك أو لا ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ، إلا ابن الجنيد فإنه جوز ذلك ، والشيخ
قال في المبسوط : إذا قال : بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم صح البيع ، لأن الصبرة
مشاهدة ، ومشاهدة المبيع تغني عن معرفة مقداره ، وقد روى أن ما يباع كيلا لا يباع
جزافا وهو الأقوى عندي ، ثم فرع على الوجهين بعض الفروع وهو مشعر بتردده ، وان قوى
أحدهما ، ورده المختلف بأنه غرر منهي عنه بالإجماع ، وجزم في الخلاف بالبطلان.
أقول وقد تقدم
الكلام في ذلك في المسألة المشار إليها آنفا فيما يصح بيعه من صور بيع الصبرة وما
يبطل.
الرابعة قال
الشيخ في النهاية : لا بأس أن يعطى الإنسان الغنم والبقر بالضريبة مدة من الزمان
بشيء من الدراهم والدنانير والسمن ، وإعطاء ذلك بالذهب والفضة أجود في الاحتياط ،
ونقل عن المختلف عن ابن إدريس أنه لا يجوز ذلك ، وقال في المختلف بعد نقل ذلك :
والتحقيق أن هذا ليس ببيع ، وانما هو نوع معاوضة ومراضاة غير لازمة ، بل سائغة ولا
منع في ذلك.
أقول : والذي
حضرني من الاخبار الواردة في هذا المقام ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو
الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما
أو دراهم معلومة من كل شاة كذا وكذا قال : لا بأس بالدراهم ، ولست أحب أن يكون
بالسمن».
وما رواه في
الكافي عن إبراهيم بن ميمون «أنه سأل أبا عبد الله عليهالسلام فقال : نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها وله أصوافها
وألبانها ويعطينا الراعي لكل شاة درهما قال : ليس بذلك بأس ، فقلت : ان أهل المسجد
يقولون : لا يجوز لان منها ما ليس له صوف ولا لبن ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : وهل يطيبه الا ذاك يذهب بعضه ويبقى بعض».
ورواه في
التهذيب مثله. وما رواه في الكافي والتهذيب عن مدرك بن الهزهاز عن ابى عبد الله عليهالسلام في الرجل يكون له الغنم فيعطيها بضريبة شيئا معلوما من
الصوف أو السمن أو الدراهم فقال : لا بأس بالدراهم وكره السمن».
وما روياه في
الكتابين ايضا عن عبد الله بن سنان في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن رجل دفع الى رجل غنمه بسمن ودراهم معلومة لكل شاة
كذا وكذا في كل شهر قال : لا بأس بالدراهم ، واما السمن فما أحب ذلك الا ان تكون
حوالب فلا بأس بذلك».
__________________
وما رواه في
التهذيب عن إسماعيل بن الفضل قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يدفع الى الرجل بقرا وغنما على ان يدفع اليه
كل سنة من ألبانها وأولادها كذا وكذا قال : ذلك مكروه».
أقول : الظاهر
تقييد ما أطلق من الاخبار في كراهة أخذ الثمن بصحيحة عبد الله بن سنان الدالة على
الجواز إذا كانت حوالب ، ويستفاد من الجميع ان المراد السمن من تلك الغنم التي
يدفعها للراعي ، والمستفاد من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض هو أنه يجوز أن
يعطى الغنم ونحوها الى من يرعاها بضريبة يضربها المالك على الراعي من نقد أو سمن
بالشرط المتقدم ، وان ما عدا ما شرطه مما حصل من الغنم من لبن ودهن وصوف ونحو ذلك
فهو للراعي في مقابلة قيامه بها وحفظها ودورانه بها في مواضع القطر والعلف ،
وحينئذ يكون ذلك أجرة عمله.
لكن يشكل ذلك
على قواعد الأصحاب من وجوب معلومية الأجرة وتعيينها ، والمفهوم من كلام ابن إدريس
ان منعه لذلك ، لان دفعها على هذا الوجه من قبيل الإجارة ، وان الإجارة هنا باطلة
، لأن ثمرة الإجارة تمليك المنفعة ، دون العين ، والذي أخذه الراعي انما هو من
الأعيان لا المنافع.
قال في السرائر
: وقد روى «انه لا بأس ان يعطى الإنسان الغنم والبقر بالضريبة مدة من الزمان بشيء
من الدراهم والدنانير والسمن» وإعطاء ذلك بالذهب والفضة أجود في الاحتياط ويمكن ان
يعمل بهذه الرواية على بعض الوجوه وهو ان يحلب بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع
مدة من الزمان على ما وردت به الاخبار ، أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ويبيعه
مع ما في الضروع مدة من الزمان ، لأن الإجارة لا تصح هيهنا ، لأن الإجارة استحقاق
منافع السلعة المستأجرة دون الأعيان منها ، والأقوى عندي المنع من ذلك كله ، لانه
غرر وبيع مجهول والرسول عليهالسلام نهى عن بيع الغرر ، فمن اثبت ذلك عقدا يحتاج الى دليل
شرعي والذي ورد فيه اخبار
__________________
آحاد شذاذ ، وقد بينا أن اخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما ولا عملا ،
والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى إلى الأدلة القاطعة انتهى.
والمراد من
قوله «ويمكن ان يعمل بهذه الرواية الى آخره ، ان المالك يبيع الراعي ما في ضروع
الغنم من الألبان مدة من الزمان بضميمة يضمها الى ذلك من لبن يحلبه منها أو عرض ،
فتصير الألبان أو ما يخرج منها من سمن ونحوه للراعي بالبيع ، ويشترط عليه المالك
بما يريد من سمن أو لبن أو دراهم ، فيكون ما يأخذه الراعي من السمن والألبان حلالا
خاليا من الشبهة ، بخلاف ما لو لم يعمل كذلك ، فإنه لا وجه لاستحقاقه شيئا منها
حتى انه يشترط عليه المالك بعضا ويترك له بعضا ، لأن أخذه للغنم بطريق الإجارة لها
أو لالبانها غير صحيح ، لما ذكر من أن الإجارة انما تفيد تمليك المنفعة لا العين ،
ولهذا ان العلامة إنما تفصى عن ذلك بان هذه المعاملة ليست من قبيل البيع ، ولا
الإجارة ، وانما هي نوع معاوضة وتراض من الطرفين ، وان كان غير لازم شرعا لو أريد
فسخه وإبطاله ، وهو جيد وقوفا على ظواهر الأخبار المذكورة والله العالم.
الخامسة قال
الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع اللبن في الضرع ، فمن أراد بيع ذلك حلب منه شيئا
واشتراه مع ما بقي منه في الضرع في الحال أو مدة من الزمان ، وان جعل معه عرضا آخر
كان أحوط ، وبه قال ابن البراج وابن حمزة وابن الجنيد ، وقال الشيخ المفيد : لا
يجوز بيع اللبن من الغنم الى وقت انقطاعه ، لان ذلك جزاف ومجهول ، ولا بأس ببيعه
أرطالا مسماة ، وبه قال أبو الصلاح ، نقل جميع ذلك العلامة في المختلف.
ثم قال : وقال
ابن إدريس لا يجوز ذلك ، وهو المعتمد ، لنا انه بيع مجهول ضم الى معلوم ، وكان
المجهول أصلا في البيع ، فلم يصح لتطرق الجهالة ، إلى المبيع ، إذ انضمام المعلوم
اليه لا يصير جملة المبيع ـ بل المقصود الذاتي ـ معلوما ، فيكون غررا انتهى.
أقول أما ما
نقله عن ابن إدريس ففيه أن الذي وقفت عليه في كتابه ظاهر بل صريح في موافقة كلام
الشيخ المتقدم ، حيث قال في باب بيع الغرر والمجازفة ما لفظه : ولا يجوز أن يباع
اللبن في الضروع ، فمن أراد بيع ذلك حلب منه شيئا واشتراه مع ما بقي في الضروع في
الحال أو مدة من الزمان على ما رواه أصحابنا ، وان جعل معه عرضا آخرا كان أحوط انتهى.
وأنت خبير بأن
ظاهر الجميع الاتفاق على المنع من بيعه في الضروع حالا من غير ضم شيء الا أن
الشيخ ومن تبعه جوزوه مع الضميمة ، سواء كان بالنسبة إلى الموجود في الضروع وقت
العقد ، أو ما يتجدد في الزمان المستقبلة ، والشيخ المفيد جوز ذلك أرطالا معينة ،
ولم يتعرض لبيعه مع الضميمة نفيا ولا إثباتا ، والعلامة على الجواز مع الضميمة لكن
بشرط ان يكون الضميمة هي المقصودة بالبيع ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.
قال في المسالك
في مسألة بيع السمك في الآجام مع القصب : والقول بالجواز مع الضميمة مذهب الشيخ
وجماعة ، استنادا الى أخبار ضعيفة ، والذي أجازه المتأخرون أن المقصود بالبيع ان
كان هو القصب ، وجعل السمك تابعا له صح البيع ، وان انعكس أو كانا مقصودين لم يصح
، وهو الأقوى ، وكذا القول في كل مجهول ضم الى معلوم كالحمل واللبن في الضرع
وغيرهما انتهى.
ثم ان الذي
وقفت عليه من الاخبار هنا اما بالنسبة الى ما ذكره الشيخ المفيد (نور الله تعالى
مرقده) فهو ما رواه في الكافي والفقيه عن أبى ولاد الحناط في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون له الغنم يحلبها لها ألبان كثيرة في كل
يوم ما تقول فيمن يشترى منه الخمسمائة رطل أو أكثر من ذلك ، المأة رطل بكذا وكذا
درهما فيأخذ منه في كل يوم أرطالا حتى يستوفى ما يشترى منه؟ قال : لا بأس بهذا
ونحوه». ورواه الشيخ في التهذيب عن أبى ولاد في الموثق مثله على اختلاف
__________________
في ألفاظه :
وهذا الخبر
يحتمل أن يكون البيع حالا وان كان يأخذ منه في كل يوم ما يريده ويحتمل أن يكون
مؤجلا بآجال مختلفة فيكون من باب السلم ، ولعل الأظهر الأول كما هو ظاهر عبارة
الشيخ المفيد ، والرواية ظاهر الدلالة على ما ذكره (قدسسره).
وأما ما يدل
على ما ذكره الشيخ فهو ما رواه في الموثق ومثله الصدوق في الفقيه عن سماعة قال : «سألته عن اللبن يشترى وهو في الضرع فقال : لا ،
الا أن يحلب لك منه سكرجة فتقول : اشترى منك هذا الذي في السكرجة وما بقي في
ضروعها بثمن مسمى وان لم يكن في الضرع شيء كان ما في السكرجة».
والسكرجة بضم
السين والكاف والراء المشددة إناء صغير فارسي معرب ، وأجاب العلامة في المختلف ـ ومثله
غيره ممن تأخر ـ عن هذه الرواية بضعف السند ، وأنها غير مسندة الى امام ، وفيه ما
لا يخفى على المتأمل المنصف ، فإنهم قد صرحوا بالاعتماد على مضمرات سماعة وغيره ،
واستدلوا بها في غير موضع ، ثم قال في المختلف : ويحمل على ما إذا كان المحلوب
يقارب الثمن ، ويصير أصلا.
واما ما ذكروه
في اشتراط صحة البيع بالضميمة بأن يكون الضميمة هي المقصودة بالبيع دون المضموم
اليه فلا إشعار في شيء من روايات الضمائم على تعددها وكثرتها بذلك ، بل الظاهر
منها انما هو العكس ، وهو أن المقصود بالبيع انما هو المضموم اليه ، وانما جعلت
الضميمة تفاريا من ذهاب الثمن مجانا ، على تقدير عدم التمكن من البيع المقصود
بالذات ، ولذا اعتبروا في الضميمة بأن يكون مما يتمول في الجملة وان قل ، وكان الثمن
في غاية الكثرة كما لا يخفى على من نظر في تلك الاخبار بعين التأمل والاعتبار.
__________________
ومنها أخبار
بيع الآبق وغيرها ، وقد تقدم في المسألة السابعة من المقام الثالث من مقامات الفصل
الأول ما يوضح ما ذكرناه ، ومن اخبار المسألة أيضا ما رواه في الكافي عن عيص بن
القاسم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل له نعم يبيع ألبانها بغير كيل قال : نعم حتى
ينقطع أو شيء منها». وفيه إجمال موجب لتعدد الاحتمال وقد تقدم الكلام في المسألة
المشار إليها آنفا والله العالم.
السادسة اختلف
الأصحاب في بيع الصوف على ظهر الغنم مع المشاهدة ، فجوزه الشيخ المفيد (عطر الله
مرقده) ومنعه الشيخ الا أن يضم اليه غيره ، وتبعه أبو الصلاح وابن البراج ، واختار
العلامة في المختلف مذهب الشيخ المفيد ، وكذلك ابن إدريس نظرا إلى أنه مشاهد ،
والوزن فيه حال كونه على ظهور الغنم غير معتبر ، وإلا لما جاز بيع الثمر على رءوس
الأشجار ، وان كانت موزونة أو مكيلة بعد القطع ، وصرح المحقق في الشرائع بالمنع
وان ضم اليه غيره ، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة وقد تقدم تحقيق القول في هذه
المسألة أيضا في الموضع الثاني عشر من المسألة المتقدم ذكرها قريبا.
السابعة قال
الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع ما في بطون الانعام والأغنام وغيرهما من الحيوان ،
فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر ، فان لم يكن ما في البطون حاصلا كان الثمن في
مقابل الآخر ، وتبعه ابن البراج وابن حمزة ، وقال ابن إدريس : لا يجوز بيع ما في
بطون الانعام والأغنام من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر ليسلم من
الغرر ، وان لم يكن ما في البطون حاصلا كان الثمن في الأخر على ما روى في الاخبار
من طريق الآحاد ، والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع لأنه غرر وجزاف منهي عنهما ،
وقد روى أن من اشترى أصواف الغنم مع ما في بطونها في عقد واحد كان البيع صحيحا
ماضيا ، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنها زيادة غرر إلى
__________________
غرر انتهى.
أقول : ما ذكره
أخيرا من زيادة غرر الى غرر في الصورة المذكورة انما يتم بناء على المنع من بيع
الصوف على ظهور الغنم ، كما هو أحد الأقوال في المسألة وأما على ما اختاره من
الجواز كما قدمنا نقله عنه فليس الا غرر واحد ، كما لا يخفى.
والرواية التي
أشار إليها أخيرا هي رواية إبراهيم الكرخي قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مأة نعجة وما في
بطونها من حمل بكذا وكذا درهما؟ فقال : لا بأس ان لم يكن في بطونها حمل كان رأس
ماله في الصوف».
واما الاخبار
التي أشار إليها وطعن فيها بأنها من طريق الآحاد فلم نقف على شيء منها سوى
الرواية المذكورة ، وبالجملة فإن ما ذكره جيد على أصله الغير الأصيل ، وهذه
الرواية المذكورة مما يؤيد مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه في جواز بيع الصوف على ظهور
الانعام بمجرد المشاهدة ، لأن جعله ضميمة لما لا يجوز بيعه لولا ذلك أظهر ظاهر في
جواز بيعه وحده خاصة كما هو شأن سائر الضمائم ، فلا يتوهم من الرواية الدالة على
مذهب الشيخ في تلك المسألة ، بمعنى جعل الحمل ضميمة إلى جواز بيع الصوف كما يشعر
به كلام العلامة في المختلف ، لان الحمل لا يجوز بيعه وحده ، ومن شأن الضميمة صحة
بيعها وحدها ، لتكون مصححة لبيع ذلك المجهول.
ثم انه لا يخفى
أن ما ذكره ابن إدريس من عدم جواز البيع بالضميمة في هذا الموضع يجري في جميع ما
ورد جواز بيعه بالضمائم ، لعدم جواز بيعه منفردا مع تكاثر الاخبار بذلك في جملة من
المواضع.
وفي ارتكاب
ردها من الشناعة ما لا يرتكبه محصل ولا متدين ، لان مقتضى كلامه أن العلة المانعة
من جواز بيعه منفردا وهو الغرر هنا باقية مع الضميمة ، فكذلك العلة
__________________
المانعة من بيع الآبق مثلا ، وهو عدم التسليم الى المشتري باقية ، وهكذا في
كل موضع ورد صحة بيعه بالضميمة ، كما تقدم في فصل بيع الثمار ايضا وغيره ، مع أنه
في بيع الآبق جوزه مع الضميمة وهو ترجيح بغير مرجح ، وسؤال الفرق متجه.
الثامنة قال
الشيخ في النهاية : لا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشيء معلوم جزية رؤس أهل
الذمة ، وخراج الأرضين وثمرة الأشجار ، وما في الآجام من السموك إذا كان قد أدرك
شيء من هذه الأجناس ، وكان البيع في عقد واحد ولا يجوز ذلك ما لم يدرك منه شيء
على حال ، ومنع ابن إدريس من ذلك ، قال : لان هذا بيع مجهول ، ولا يرجع في مثل هذا
الى أخبار الآحاد ، وظاهر العلامة في المختلف موافقة ابن إدريس هنا.
أقول والذي يدل
على ما ذكره الشيخ ما رواه الشيخ والكليني عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يتقبل بجزية رؤس الرجال وبخراج النخل والآجام والطير ، وهو لا
يدرى لعله لا يكون من هذا شيء أبدا أو يكون؟ قال : إذا علم من ذلك شيئا واحدا أنه
قد أدرك اشتراه وتقبل به».
وما رواه في
الفقيه عن أبان بن عثمان عن إسماعيل بن الفضل عن ابى عبد الله (ع) قال : «سالته عن الرجل يتقبل خراج
الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصايد والسمك والطير ولا يدرى هذا
لا يكون أبدا أو يكون أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل به منه ، فقال : إذا كان
علمت ان من ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتراه وتقبل به». وطريق الصدوق الى أبان بن
عثمان هنا صحيح
__________________
والعلامة في
المختلف طعن في رواية إسماعيل بن الفضل بعد أن نقل استدلال الشيخ بها ، فقال :
والرواية ضعيفة السند ومقطوعة ، مع أنها محمولة على أنه يجوز شراء ما أدرك ،
ومقتضى اللفظ ذلك من حيث عود الضمير إلى الأقرب ، على أنا نقول : ان هذا ليس بيعا
في الحقيقة ، وانما هو نوع مراضاة غير لازمة ، ولا محرمة انتهى.
أقول : أما
الطعن بضعف السند فإنما يتجه على روايتي الشيخين الأولين ، والطعن بالقطع انما
يتجه على رواية الشيخ في التهذيب حيث أن في السند ابن سماعة عن غير واحد ، والا
فرواية الكليني ليست كذلك ، الا أن في طريقها عبد الله بن محمد ، وهو مجهول أو
مشترك ، وبالجملة فالرواية بطريق الصدوق صحيحة ، فينتفى الطعن بالضعف ، هذا مع
تسليم صحة هذا الاصطلاح ، والا فإن الطعن بالضعف لا يرد على الشيخ ونحوه من
المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح المحدث عندهم ، بل الاخبار عندهم كلها صحيحة
، كما اعترف به جملة من متأخري أصحاب هذا الاصطلاح ، وأما الحمل على شراء ما أدرك
خاصة دون الباقي فهو تعسف محض ، والظاهر من الخبرين المذكورين انما هو المجموع ،
وأن هذا الذي أدرك انما هو بمنزلة الضميمة المتقدم ذكرها ، بمعنى أنه لو لم يحصل
شيء من هذه الأشياء كان وجه القبالة بإزاء هذا الذي أدرك.
وبالجملة
فالظاهر هو ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) للخبرين المذكورين بالتقريب الذي قلناه
من كون ذلك ضميمة للصحة ، سواء كان المعاملة المذكورة بيعا أو صلحا أو قبالة.
بقي هنا شيء
وهو أن القبالة هل هي من قبيل الصلح ، أو عقد برأسها قال شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) : ظاهر الأصحاب أن للقبالة حكما خاصا زائدا على البيع
والصلح ، لكون الثمن والمثمن واحدا وعدم ثبوت الربا ، وظاهر الشهيد (رحمة الله
عليه) في الدروس أنها نوع من الصلح ، وقال في كتاب مجمع البحرين : والقبالة بالفتح
الكفالة. وهي في الأصل مصدر قبل إذا كفل ، وقبالة
الأرض أن يتقبلها الإنسان من الامام بأن يعطيها إياه مزارعة أو مساقاة وذلك
في ارضن الموات وأرض الصلح انتهى.
والظاهر أن ما
هنا من قبيل الكفالة ، فإنه تكفل بهذا المبلغ المعلوم الذي تراضيا به من هذه
الأشياء المعدودة في الخبرين ، سواء حصل منها ما هو أزيد أو أنقص والله العالم.
التاسعة قال
الشيخ في النهاية لا بأس أن يشترى الإنسان تبن البيدر لكل كر من طعام تبنة بشيء
معلوم وان لم يكل بعد الطعام ، وبه قال ابن حمزة ، وقال ابن إدريس لا يجوز بيعه ،
لانه مجهول وقت العقد غير معلوم ، ولا بد أن يكون معلوم القدر وقت العقد عليه ،
وهذا غير معلوم ولا محصل ، فالبيع باطل ، لانه لا فرق بين ذلك وبين من قال : بعتك
هذه الصبرة من الطعام كل قفيز بدينار ، ولم يختبر كم فيها وقت العقد ولا كالها ذلك
الوقت ، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها فإذا كالها صح البيع المتقدم ، وهذا
باطل بالإجماع انتهى.
واختار في
المختلف قول الشيخ (رحمة الله عليه) قال : لنا أنه مشاهد فيصح بيعه لانتفاء الغرر
فيه ، وما رواه زرارة في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام ، عن رجل اشترى تبن بيدر قبل أن يداس تبن كل بيدر بشيء
معلوم يأخذ التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام؟ قال : لا بأس». والجهالة ممنوعة إذ
من عادة الزراعة قد يعلم مقدار ما يخرج من الكر غالبا ولا يشترط الإحاطة بجميع
المبيع بحيث ينتفي الجهالة من كل أحواله ، بل يبنى في ذلك على المتعارف انتهى.
أقول : هذه
الرواية قد رواها الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن جميل عن زرارة في الصحيح
، الا أن الذي في الفقيه كل كر بشيء معلوم ، وهو أظهر.
__________________
ورواها أيضا المشايخ
الثلاثة في الصحيح عن جميل قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : اشترى رجل تبن بيدر كل كر بشيء معلوم فيقبض التبن ويبيعه
قبل أن يكال الطعام قال : لا بأس به».
قال بعض
مشايخنا (عطر الله مراقدهم) بعد نقل خبر جميل المذكور : هذا مخالف لقواعد الأصحاب
من وجهين الأول من جهة جهل المبيع ، لان المراد به اما كل كر من التبن ، أو تبن كل
كر من الطعام ، كما هو ظاهر من قوله قبل أن يكال الطعام ، وعلى التقديرين فيه
جهالة.
الثاني من جهة
البيع قبل القبض ، ثم أجاب عن الأول بما ذكره في المختلف وقال في الجواب عن الثاني
: فعلى القول بالكراهة لا اشكال ، وعلى التحريم فلعله لكونه غير موزون ، أو لكونه
غير طعام ، أو لأنه مقبوض وان لم يكتل الطعام يعد ، كما هو مصرح به في الخبر ،
انتهى.
أقول : لا يخفى
على من أحاط خبرا بما قدمناه في المسألة التي تقدم مكررا الإشارة إليها من سهولة
الأمر في معرفة المبيع الموجبة للخروج من الجهالة والغرر ، وانها تكفي ولو بوجه ما
، ان الأمر في هذه المسألة انما خرج ذلك المخرج ، فان التبن لا اشتباه ولا تعدد في
أفراده بحيث يحتاج الى وصفه ، وليس بمعدود ولا مكيل ولا موزون حتى يحتاج إلى شيء
من ذلك ، فيكفي في قصد بيعه تخصيصه ببيدر مخصوص ، واشتراط تبن كل كر من الطعام
بكذا وكذا كما تضمنته الرواية ، فإن بذلك تحصل المعلومية في الجملة ، وبالجملة
فالواجب الوقوف على النص المذكور وعدم الالتفات الى هذه التعليلات العليلة ، سيما
مع تأيده بما قدمناه من النصوص التي من هذا القبيل والله العالم.
العاشرة قد روى
الشيخ في التهذيب عن غياث بن إبراهيم عن جعفر
__________________
عن أبيه عن على عليهمالسلام «أنه كره بيع صك الورق حتى يقبض». قال في النهاية الأثيرية في حديث أبي
هريرة قال المروان : أحللت بيع الصكاك ، هي جمع صك وهو الكتاب ، وذلك أن الأمراء
كانوا يكتبون الناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها معجلا
، ويعطون المشترى الصك ليمضي ويقبضه فنهوا عن ذلك لانه بيع ما لم يملك ولم يقبض ،
انتهى.
وقال ابن إدريس
في السرائر : ولا يجوز أن يبيع الإنسان رزقه على السلطان قبل قبضة له ، لان ذلك
بيع غرر ، وبيع ما ليس يملك له ، لانه لا يملكه الا بعد قبضه إياه ، ولا يتعين
ملكه الا بعد قبضه إياه ، وكذلك بيع أهل مستحق الزكوات والأخماس قبل قبضها ، لانه
لا يتعين ملكها لهم الا بعد قبضها ، فجميع ذلك غير مضمون ، وبيعه غير جائز ولا
صحيح ، انتهى.
وقد تقدم كثير
من مسائل هذا الفصل في الفصول المتقدمة.
الفصل الثاني عشر
في نكت متفرقة وهي
بمنزلة النوادر لكتاب البيع ، الاولى : لو أمر العبد آمر أن يبتاع له نفسه من
مولاه فظاهر كثير منهم الجواز ، وقيل : بالعدم ، وعلل العدم بأمرين ، أحدهما
اعتبار التغاير بين المتعاقدين ، وعبارة العبد كعبارة سيده ، وثانيهما اشتراط اذن
المولى في تصرف العبد ، ولم يسبق له منه اذن ، ورد الأول بأن المغايرة الاعتبارية
كافية ، ومن ثم اجتزئنا بكون الواحد الحقيقي موجبا قابلا وهنا أولى ، والثاني بأن
مخاطبة السيد له بالبيع في معنى التوكيل له في تولى القبول ، ويظهر من بعض محققي
متأخري المتأخرين المناقشة في الثاني قال : إذ ينبغي ثبوت الوكالة قبل العقد ،
ويمكن القول بأنه حاصل هنا لان خطابه بأن يبيعه من موكله يدل على تجويز الوكالة
سابقا والرضا ، الا أن يقال : لا بد من التصريح حتى يعلم العبد الذي هو الوكيل ،
وذلك غير معلوم ، وقد يناقش في القبلية أيضا ، إذ قد يكفي المعية وحين العقد ،
بحيث لا يقع جزء من العقد قبل الوكالة ، انتهى.
أقول :
والمسألة لخلوها عن النص موضع إشكال ، فإن مقتضى قواعدهم وهو ظاهر الاخبار أيضا أن
المملوك محجور عليه ، لا يصح شيء من أفعاله من بيع وغيره الا بإذن مولاه ، وظاهر
تفرع الصحة على تقدم الاذن والوكالة ، والذي هنا ليس كذلك والله العالم.
الثانية : قد
صرح جملة من الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه ـ بأنه يجوز للحاكم الشرعي أن يبيع
على السفيه والمفلس والغائب مع المصلحة ، وظاهر أخبار نيابته عن الامام عليهالسلام يقتضي ذلك ، فإن للإمام عليهالسلام ذلك لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وكما ورد في
خصوص المفلس مثل رواية عمار عن أبى عبد الله عليهالسلام «قال كان أمير المؤمنين عليهالسلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله
بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسم بينهم يعنى ماله».
ومثلها رواية
غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام
وفي مرسلة جميل
عن جماعة من أصحابنا عنهما عليهماالسلام قالا الغائب يقضى عنه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله
ويقضى عنه دينه وهو غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم» الحديث.
وهو ظاهر في
بيع الحاكم الشرعي الذي قد ثبت الدين عنده بالبينة ، ويتعدى ذلك الى عدول المؤمنين
مع فقد الحاكم الشرعي كما يدل عليه بعض الاخبار من جواز تولى عدول المؤمنين لبعض
الحسبيات مع فقد الحاكم ، ولأنه إحسان محض ، ولا سبيل على المحسنين.
الثالثة : قد
صرح جملة من الأصحاب بأنه يجوز الجمع في عقد واحد بين لمختلفات كبيع ، واجارة ،
ونكاح ، وسلف ، بعوض واحد ، ويقسط عن ثمن المثل ،
__________________
وأجرة المثل ومهره ، كان يقول : بعتك هذا الثوب ، وآجرتك هذا الدار سنة ،
وأنكحتك ابنتي ، وبعتك مأة من حنطة إلى شهر ، بمأة دينار ، فيقول : قبلت ، فإنه
صحيح عندهم ، واعترضهم في هذا المقام المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) فقال : بعد
نقل ذلك عنهم ، دليله عموم أدلة جواز العقود ، وعدم ظهور المانع ، ويمكن عدم
الجواز ، لجهالة ثمن المبيع ، وأجرة السكنى ، ومهر الابنة حال البيع ، وهو ليس أقل
في الجهل مما إذا قال : بعتك هذه الصبرة كل قفيز بكذا ، وهو غير جائز عندهم
للجهالة ، ولهذا نقل في التذكرة عن الشيخ عدم جواز بيع عبدين يكون كل واحد منهما
لشخص وباعاهما صفقة لجهالة ثمن كل واحد ، ويمكن الفرق بأن هذا الكل لشخص واحد ،
والظاهر أنه لا ينفع على أن المهر للبنت ، وأنهم ما يفرقون ويؤيد عدم الجواز ما
روى من طرقهم وطرقنا المنع من جواز بيع وشرط مثل رواية عمار عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «بعث رسول الله صلىاللهعليهوآله رجلا من أصحابه واليا فقال له : انى بعثتك الى أهل الله
يعني الى أهل مكة فأنهاهم عن بيع ما لم يقبض وعن شرطين في بيع وعن ربح ما لم يضمن».
ويطلق الشرط على البيع كثيرا.
ورواية سليمان
بن صالح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله
عن سلف وبيع ،
وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن».
والمصنف في
التذكرة رد دليل الشيخ بأنه يكفي معلومية ثمن الكل ، ولا يحتاج إلى معرفة ثمن
الاجزاء لان الصفقة الواحدة يكفي معلومية الثمن الذي فيها وقال : ليس المراد
بالشرط كل الشرط لجواز البعض بالاتفاق فكأنه محمول على الشرط المخالف للكتاب
والسنة فحمل الشرط على معناه ، والظاهر ما قلناه كما يفهم من هذه الرواية ، ويمكن
أن يقال : الروايتان غير صحيحتي السند ، فلا يصلحان لمعارضة عموم أدلة الكتاب
والسنة والأصل ، ويمكن حملها على بعض الشرائط المخالفة للكتاب والسنة ، والبيوع
الغير الجائزة فتأمل والاحتياط واضح ، انتهى كلامه زيد مقامه.
__________________
أقول : ويمكن
تطرق النظر إليه في مقامين : أحدهما ما ذكره من جهالة ثمن المبيع وأجرة السكنى ،
فان فيه ما ذكره العلامة هنا ، وهو المفهوم من قواعدهم في أمثال هذا المقام ،
وحاصله أن اعتبار معلومية القيمة انما هو باعتبار العقد الواقع والصفقة التي انعقد
عليها البيع ، سواء كان ما وقع عليه متحدا أو متعددا وان احتيج بعد ذلك الى
التقسيط في المتعدد ، كما لو باع ملكه وملك غيره ، والجهالة بالنسبة إلى قسط كل
واحد مما وقع عليه العقد غير مؤثر.
قال في المسالك
: لا خلاف عندنا في صحة ذلك كله ، لان الجميع بمنزلة عقد واحد ، والعوض فيه معلوم
بالإضافة إلى الجملة ، وهو كاف في انتفاء الغرر والجهالة ، وان كان عوض كل منها
بخصوصه غير معلوم ، وكون كل واحد بخصوصه بيعا في المعنى ، وبعضه إجارة أو غيرها
الموجب لعوض معلوم لا يقدح ، لان لهذا العقد جهتين ، فبحسب الصورة هو عقد واحد ،
فيكفي العلم بالنسية اليه ، ثم ان احتيج الى التقسيط قسط على ما ذكر ، وهو نص فيما
قلنا ، الا أن يحمل كلامه (قدسسره) على منع ذلك ، وأنه حيث كان مرجع هذا العقد في المعنى
الى عقود متعددة فإنه يشترط في كل من تلك العقود ، وهذا التفريع الذي ذكره في
المسالك انما يتجه لو قام الدليل على صحة مثل هذا العقد ، وقد عرفت أنه لا دليل
عليه زيادة على ما يدعونه من الإجماع بينهم.
وثانيهما ما
استند اليه من الخبرين المذكورين ، فانى لا أعرف لذلك وجها ظاهرا وان سلمنا إطلاق
الشرط على البيع ، فإنه ليس في العقد المفروض أولا بيعان في بيع ، ليدخل تحت هذين
الخبرين ، وبيان معنى الخبرين المذكورين أن معنى بيعين في بيع على ما ذكره بعضهم
هو أن يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة ، ونسيئة بخمسة عشر ، قال : وانما نهى عنه
لانه لا يدرى أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد.
أقول فيه أن ما
ذكره ، وان كان هو المصرح به في كلام الأصحاب لكنه مردود بما صرحت به الاخبار من
صحة البيع ، وأنه ليس له الا أقلهما نظرة ، وقيل : ان
معناه هو أن يقول : بعتك هذا بعشرين على أن تبعني ذلك بعشرة ، وأما معنى
بيع وسلف فهو أن يقول : بعتك منا من طعام حالا بعشرة ، وسلفا بخمسة.
وأما النهي عن
بيع ما ليس عنده فيجب تخصيصه بما إذا كان البيع حالا ، والمبيع غير موجود في ذلك
الوقت ، كالبطيخ ونحوه في غير أوانه ، والا فلا مانع من الصحة اتفاقا نصا وفتوى.
وأما النهي عن
ربح ما لم يضمن فالمراد ان يبيع المتاع الذي اشتراه مرابحة قبل أن يوجب البيع ،
فإنه قد ورد النهى عنه في عدة أخبار.
وأما بيع ما لم
يقبض ، فقد تقدم الكلام والخلاف فيه تحريما وكراهة بالنسبة إلى المكيل والموزون ،
أو الطعام بخصوصه ، وبالجملة فإني لا أعرف لاستناده الى هذين الخبرين وجها ظاهرا.
نعم يمكن ان
يقال : ان الأصل بقاء كل شيء على أصله حتى يثبت الناقل شرعا ، ولم يثبت كون مثل
هذا العقد المشتمل على هذه الأشياء المختلفة ناقلا ، والذي علم من الاخبار وهو
الذي استمر عليه عمل الناس وعادتهم انما هو استقلال البيع بعقد على حدة ، والنكاح
بعقد على حدة ، والسلف كذلك ، والإجارة ونحو ذلك ، والأحكام التي بحثوا عنها في
هذه العقود انما تترتب على ذلك ، ثبوت ذلك في بيع أمتعة متعددة في عقد واحد وتقسيط
الثمن على الجميع لو سلم الدليل على صحته ، لا يقتضي قياس هذا العقد عليه كلية ،
لظهور الفارق ولا سيما بالنسبة إلى عقد النكاح ، فإنهم إنما حكموا هنا بمهر المثل
، مع أن الظاهر أن هذه من قبيل المفوضة ، وهي التي لم يعين لها مهر ، وقد صرحوا
بأنها ترجع الى مهر السنة لو زاد مهر المثل عنه ، فلا يتم إطلاق مهر المثل هنا ،
وبالجملة فالمسألة محل توقف واشكال.
واما كيفية
التقسيط بناء على ما ذكروه من صحة العقد المذكور فهو أن يقوم كل من تلك الأشياء
منفردا وتنسب قيمته الى المجموع ، ثم يؤخذ من ذلك
العوض الذي وقع عليه العقد بتلك النسبة .
الرابعة : لو
تضمن عقد البيع شرطا فاسدا قال الشيخ يبطل الشرط خاصة دون البيع ، وبه قال ابن
الجنيد وابن البراج ، وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : والمعتمد عندي بطلان
العقد والشرط معا ، قال لنا أن للشرط قسطا من الثمن ، فإنه قد يزيد باعتباره ، وقد
ينقص ، وإذا بطل الشرط بطل ما بإزائه من الثمن وهو غير معلوم فتطرقت الجهالة إلى
الثمن ، ويبطل البيع ، وأيضا البائع إنما رضي بنقل سلعته بهذا الثمن المعين على
تقدير سلامة الشرط له وكذا ، المشتري إنما رضي ببذل هذا الثمن في مقابلة العين على
تقدير سلامة الشرط ، فإذا لم يسلم لكل منهما ما شرطه ، كان البيع باطلا ، لانه
يكون تجارة عن غير تراض ثم نقل عن الشيخ انه احتج بقوله تعالى «وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وهذا بيع فيكون صحيحا ، والشرط باطلا ، لانه مخالف
للكتاب والسنة.
وبما روى عن
عائشة «أنها اشترت
بريرة بشرط العتق ، ويكون ولائها لمولاها فأجاز النبي صلىاللهعليهوآله البيع وأبطل الشرط ، وصعد المنبر ، وقال : ما بال أقوام
يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وكتاب الله
أحق ، وشرطه أوثق». ثم قال مجيبا عن ذلك : والجواب عن الأول أن المبيع انما يكون
حلالا لو وقع على الوجه المشروع ، ونحن نمنع من شرعيته ،
__________________
وعن الثاني من
وجوه الأول الطعن في السند ، الثاني الحديث ورد هكذا . «قالت عائشة : جائتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على
تسع أواق في كل عام أوقية فاعينينى فقالت لها عائشة : ان أحب أهلك ان أعدها لهم ،
ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم : ذلك فأبوا عليها ، فجائت
من عند أهلها ورسول الله (صلىاللهعليهوآله) جالس ، فقالت : انى عرضت ذلك عليهم فأبوا الا أن يكون
الولاء لهم ، فسمع ذلك النبي صلىاللهعليهوآله فسألها فأخبرت عائشة النبي صلىاللهعليهوآله فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن
أعتق ، ففعلت عائشة ، ثم قام : رسول الله صلىاللهعليهوآله فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فما بال رجال
يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عزوجل فهو باطل وان كان مأة شرط ، فقضاء الله أحق وشرط الله
أوثق ، وانما الولاء لمن أعتق».
وهذا ينافي ما
ذكره الشيخ واستدل به عليه ، لأن بريرة أخبرت بأنها كوتبت وطلبت الإعانة من عائشة
، فسقط الاستدلال به بالكلية.
الثالث المراد
بقوله عليهالسلام «اشترطي لهم الولاء» اى عليهم لانه عليهالسلام أمرها به ، ولا يأمرها بفاسد ، وكيف يتأتى عن الرسول مع
تحريم خائنة الأعين وهو الغمز وضع حيلة لا تتم انتهى كلامه زيد إكرامه.
ولا يخفى ما
فيه على الفطن النبيه الذي قد جاس خلال ديار الاخبار وما جرت به في هذا المضمار
وان كان قد تبعه على هذا القول جل المتأخرين بل كلهم على ما يظهر من كلام من وقفنا
على كلامه ، ومنهم شيخنا الشهيد الثاني وسبطه السيد السند في شرح النافع وغيرهم.
وما ذكره (قدسسره) من التعليل لبطلان العقد بالعلل الاعتبارية المذكورة
وان كان مما يتسارع الى الذهن قبوله ، الا أن الاخبار ترده وتدفعه ، وما ذكره من
خبري بريرة هنا من كلام الشيخ الذي نقله عنه وفي كلامه هو «قدسسره» الظاهر انه من طرق العامة.
__________________
والذي وقفت
عليه من طرقنا هو ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي «عن أبى عبد الله عليهالسلام ، أنه ذكر أن بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة
فاشترتها عائشة فأعتقتها ، فخيرها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقال : ان شائت تقر عند زوجها وان شائت فارقته ، وكان
مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أن لهم ولاءها فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الولاء لمن أعتق».
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن عيص بن القسم عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قالت عائشة لرسول الله صلىاللهعليهوآله : ان أهل بريرة اشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الولاء لمن أعتق».
والحديثان كما
ترى صحيحان صريحان في صحة البيع مع فساد الشرط ، وبه يظهر أن خبر الشيخ وان كان
عاميا الا انه هو الأصح لموافقته لاخبار أهل البيت عليهمالسلام بخلاف خبره. وبذلك ايضا يظهر بطلان ما ذكره من تلك
التعليلات العليلة.
ومن الاخبار
الواردة في المسألة المذكورة بالنسبة إلى النكاح ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن
قيس «عن أبى جعفر عليهالسلام في رجل يتزوج المرأة إلى أجل مسمى ، فان جاء بصداقها
إلى أجل مسمى فهي امرأته وان لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك
شرطهم بينهم حين انكحوا ، فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم». ونحوها
صحيحة ثانية له أيضا.
وما رواه في
الكافي عن الوشاء عن الرضا عليهالسلام قال : «سمعته يقول لو ان رجلا تزوج امرأة جعل مهرها
عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا والذي جعله لأبيها فاسدا».
__________________
قال السيد
السند في شرح مختصر النافع يستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا
الشرط الفاسد انتهى ، وقدم تقدم الكلام في هذه المسألة مرارا عديدا سيما في مقدمات
الكتاب في جلد كتاب الطهارة ، وقد ذكرنا ثمة ورود بعض الاخبار دالة أيضا على القول
المشهور وان الاولى هو الوقوف على الاخبار في كل جزئي من
الأحكام من غير أن يكون ذلك قاعدة كما ادعوه.
ثم انه لا يخفى
أن ما أجاب به عن حجة الشيخ الاولى محض مصادرة ، وأن حديثه الثاني الذي أورده على
الشيخ دال على ما دل عليه خبر الشيخ ، فان قوله صلىاللهعليهوآله لعائشة :
خذيها اشترطي
لهم الولاء ، ثم خط بعد ذلك بما يدل بطلان الشرط خاصة ، أظهر ظاهر في المدعى ،
والعجب منه «قدسسره» اعتذاره عما دل عليه الخبر المذكور من الغمز وخيانة
الأعين ، مع كون الخبر عاميا ، وأعجب من ذلك جعل الاعتذار المذكور وجها ثالثا من
وجوه الجواب عن حديث الشيخ ، مع أن ذلك انما هو في حديثه ، وبالجملة فإن الاستعجال
وعدم التدبر في المقال مما يوجب مزيد الاختلال.
الخامسة : قال
العلامة في المختلف : المشهور بين علمائنا الماضين ومن عاصرناه الا من شذ أنه يجوز
بيع الشيء اليسير بأضعاف قيمته بشرط أن يقرض البائع المشتري شيئا ، لأنهم نصوا
على جواز أن يبيع الإنسان شيئا ويشترط الإقراض أو الاستقراض ، أو الإجارة أو السلف
أو غير ذلك من الشروط السابقة ، وقد كان بعض من عاصرناه يتوقف في ذلك ، لنا وجوه.
__________________
الوجه الأول :
قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وهذا أحد جزئياته.
الثاني : قوله
تعالى «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ
تَراضٍ مِنْكُمْ» دل الاستثناء على تسويغ التجارة المقترنة بالرضا ، وصورة
النزاع داخل تحته.
الثالث : أنه
لا خلاف بين علماء الأمصار في جواز بيع الشيء بأضعاف قيمته ، فنقول انضمام الشرط
اليه لا يغير حكمه ، لأنه شرط سائغ يجوز اشتراطه في البيع بثمن المثل ، أو في
الإجارة أو غيرهما من العقود إجماعا فيجوز في صورة النزاع ، إذ الحكمة الداعية إلى
شرعيته في تلك الصور موجودة هنا ، ولقولهم عليهمالسلام «المؤمنون عند شروطهم».
الرابع : اتفاق
علماء الإمامية السابقين ، فإنهم قالوا لا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره متاعا أو
حيوانا أو غير ذلك بالنقد والنسية ، ويشترط أن يسلفه البائع شيئا في مبيع أو يقرضه
شيئا معلوما إلى أجل. أو يستقرض منه ، فيكون حجة ، لما ثبت من أن إجماع الإمامية
حجة.
قال المفيد :
لا بأس ان يبتاع الإنسان من غيره متاعا أو حيوانا أو عقارا بالنقد والنسيئة معا
على أن يسلف البائع شيئا في مبيع أو يستسلف منه في مبيع ، أو يقرضه مأة درهم الى
أجل أو يستقرض منه.
قال : وقد أنكر
ذلك جماعة من أهل الخلاف ولسنا نعرف لهم حجة في الإنكار وذلك ان البيع وقع على وجه
حلال ، والسلف والقرض جائزان ، واشتراطهما في عقد البيع غير مفسد له بحال ، قال :
وقد سئل الباقر
عليهالسلام عن القرض يجر النفع «فقال : خير القرض ما جر المنفعة».
الخامس : تظاهر
الروايات عليه وتطابقها من غير معارض ، فيتعين العمل عليه ، روى سليمان بن محمد
الديلمي عن أبيه عن رجل «كتب الى العبد
__________________
الصالح (عليهالسلام) : يسأله أنى أعامل قوما أبيعهم الدقيق أربح عليهم في
القفيز درهمين إلى أجل معلوم ، وهم يسألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم ، فهل
من حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه أقرضهم الدراهم قرضا وازدد عليهم في نصف
القفيز ما كنت تربح عليهم».
وفي الصحيح عن
عبد الملك بن عتبة قال : «سألته عن الرجل يريد أن أعينه المال ويكون لي
عليه مال قبل ذلك فيطلب منى مالا أزيده على مالي الذي عليه أيستقيم أن أزيده مالا
وأبيعه لؤلؤة تسوى مأة درهم بألف درهم ، فأقول له : أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم
على أن أؤخّرك بثمنها وبمالي عليك كذا وكذا شهرا؟ قال : لا بأس».
وعن محمد بن
إسحاق بن عمار قال : «قلت للرضا عليهالسلام : الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه يبيعه لؤلؤة
تسوى مأة درهم بألف درهم ويؤخر عنه المال الى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني أبي
ففعلت ذلك وزعم أنه سأل أبا الحسن عليهالسلام : عنها فقال له : مثل ذلك».
ثم أطال في
الاستدلال الى أن بلغ خمسة وعشرين دليلا وأوضحها ما ذكرناه. ثم نقل حجة المانعين
فقال : احتج المانعون بما رواه يعقوب بن شعيب في الصحيح عن الصادق عليهالسلام : قال : «سألته عن رجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينارا
ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا قال : لا يصلح ، إذا كان قرضها يجر
نفعا فلا يصلح».
وعن محمد بن
قيس عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «من أقرض رجلا ورقا
__________________
فلا يشترط الا مثلها ، فإن جوزي بأجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم
ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه».
وما رواه خالد
بن الحجاج قال : «جاء الربا من قبل الشروط».
وما رواه الوليد
بن صبيح عن الصادق عليهالسلام قال : «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والفضل بينهما هو
الربا المنكر». ولان البيع بالمحاباة نفع وهو مشترط في القرض ، فيجب ان يكون
حراما.
ثم أجاب عن ذلك
قال : والجواب عن الروايات بعد سلامة سندها أنها دالة على الكراهة لا التحريم ،
على أنا نقول الرواية الاولى ـ وهي الصحيحة ـ معارضة برواية محمد بن مسلم ، ونقول
بموجب الرواية الثانية ، فإن اشتراط النفع في القرض حرام بالإجماع ، وهو غير صورة
النزاع ، وكذا عن الرواية الثلاثة ، فإن كل شرط لو تضمن الربا لكان باطلا بالإجماع
، مع انا نصحح أكثر الشروط بالإجماع ، فإذا لا محل لها الا مع اشتراط الزيادة في
المتساوي جنسا مع عقد البيع ، وهذا هو الربا بعينه ، وهو غير محل النزاع.
وكذا الرابعة
فإنها صريحة في تناول الربا إذ لا قائل بإباحة الفضة بالفضة مع الزيادة ، ولا
الذهب بالذهب مع الزيادة.
وعن الثاني
بوجهين الأول ـ المعارضة بما روى من قولهم عليهمالسلام «خير القرض ما جر نفعا». ولان المتنازع اباحة البيع بالمحاباة مع اشتراط
القرض ، لا العكس انتهى ملخصا.
أقول منشأ شبهة
القائل المذكور هو أنه لما كان السبب في هذا القرض من
__________________
البائع للمشتري هو كون المشتري أخذ سلعته بأضعاف قيمتها ، فيصير الحامل للبائع
على القرض هو ذلك ، والقرض إذا جر المنفعة كان باطلا ، فالواجب الحكم ببطلان البيع
المذكور ، وهو توهم فاسد ، لان المستفاد من الاخبار ـ كما سيأتي ذكرها إنشاء الله
تعالى جميعا في كتاب الديون والجمع بينهما ـ هو أن المحرم انما هو القرض الذي
يشترط فيه النفع ، لا ما يجر النفع بقول مطلق ، والمستفاد من بعضها أن تحريم ما
يجر النفع مطلقا مذهب العامة ، كما تقدم ذكره في كلام شيخنا المفيد رحمهالله.
وحينئذ فما دل
على خلاف ما ذكرناه من الاخبار كصحيحة يعقوب بن شعيب المذكورة فهو محمول على
الاشتراط أو التقية ، والعلامة إنما أجاب عنها بالمعارضة لصحيحة محمد بن مسلم ،
والظاهر أنها ما رواه المشايخ الثلاثة عنه وعن غيره قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضا ويعطيه الرهن اما خادما
واما آنية واما ثيابا ، فيحتاج إلى شيء من منفعته ، فيستأذنه فيه فيأذن له؟ قال :
إذا طابت نفسه فلا بأس به ، فقلت : ان من عندنا يرون أن كل قرض يجر منفعة فهو فاسد
، فقال : أو ليس خير القرض ما جر منفعة».
وهذه الرواية
هي التي أشرنا إليها في الدلالة على ان ذلك مذهب العامة ونحوها في الدلالة على ان
خير القرض ما جر منفعة غيرها ايضا.
والعجب انه سكت
عن الجواب عن رواية محمد بن قيس ، مع انها ظاهرة في الدلالة على ان التحريم انما
هو من حيث الشرط لا مطلقا ، لقوله أو لا «فلا يشترط الا مثلها ، وان جوزي بأجود
منها فيقبل ، وقوله ثانيا «يشترط من أجل قرض ورقه» يعنى لا يجعل عارية المتاع أو
ركوب الدابة شرطا في القرض ، وهو ظاهر.
ومما ذكرنا
يعلم أن ما أطال به (قدسسره) من الوجوه التي ذكرها غير محتاج إليه ، لأن بيع الشيء
بأضعاف ثمنه مما لا نزاع فيه ، وكذا وقوع الشروط
__________________
في العقود في الجملة ، وانما منشأ الشبهة هو ما ذكرناه.
والجواب عنها
هو ما عرفت ، على أن النهى في الصورة المفروضة انما هو كون القرض شرطا في البيع ،
والممنوع منه شرعا انما هو شرط النفع في القرض ، واليه أشار العلامة آنفا ،
وبالجملة فالإشكال انما يقع فيما لو أقرضه بشرط أن يشترى ماله بأضعافه بأنه موجب لاشتراط النفع في القرض المنهي عنه في
الاخبار ، وان كانت الصورة المفروضة راجعة الى هذا في المعنى ، الا أنه انما يحلل
ويحرم الكلام ، كما ورد في بعض الاخبار لا مجرد القصد بأي وجه اتفق والله العالم.
السادسة : قال
الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) : إذا قوم التاجر على الواسطة المتاع بدراهم معلومة
ـ ثم قال له : بعه فما تيسر لك فوق هذه القيمة فهو لك والقيمة لي جاز ولم يكن بين
التاجر والواسطة بيع مقطوع ، فان باعه الواسطة بزيادة على القيمة كانت له ، وان
باعه بها لم يكن على التاجر شيء ، وان باعه بدونها كان عليه تمام القيمة لصاحبه ،
وان لم يبعه كان له رده ، ولم يكن للتاجر الامتناع من قبوله ولو هلك المتاع في يد
الواسطة من غير تفريط منه كان من مال التاجر ، ولم يكن على الواسطة ضمان ، وإذا
قبض الواسطة المتاع من التاجر على ما وصفناه لم يجز أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر
الفضيلة على القيمة في الشراء ، وإذا قال الواسطة للتاجر خبرني بثمن هذا الثوب
واربح على فيه شيئا لأبيعه ، ففعل التاجر ذلك وباعه الواسطة بزيادة على رأس المال
والربح كان ذلك للتاجر ، دون الواسطة ، الا أن يضمنه
__________________
الواسطة ، وأوجبه على نفسه ، فان فعل ذلك جاز له أخذ الفضل على الربح ، ولم
يكن للتاجر الا ما تقرر بينه وبينه انتهى ، ونحوه قال الشيخ في النهاية وابن
البراج.
وقال ابن إدريس
بعد إيراد كلام الشيخ في النهاية : ما أورده الشيخ غير واضح ، وأشار به الى ما
ذكره أولا من أنه إذا قوم التاجر متاعا على الواسطة بشيء معلوم ، وقال له بعه فما
زدت على رأس المال فهو لك والقيمة لي ، ثم زاد كانت الزيادة للواسطة ، ولا يجوز له
أن يبيعه مرابحة قال : لان هذا جميعه لا بيع مرابحة ولا اجارة ، ولا جعالة محققة ،
وإذا باع الواسطة بزيادة على ما قوم عليه لم يكن للواسطة في الزيادة شيء ، لأنها
من جملة ثمن المتاع ، والمتاع للتاجر لم ينتقل عن ملكه بحال وللواسطة أجرة المثل ،
لانه لم يسلم له العوض ، فيرجع الى المعوض ، وكذلك أن باعه برأس المال ، وان باعه
بأقل كان البيع باطلا ، وان تلف المبيع كان الواسطة هنا ضامنا ، ثم أى شراء بين
التاجر والواسطة حتى يخبر بالثمن ، وليس هذا موضع بيع المرابحة في الشريعة بغير
خلاف ، وانما أورد أخبار الآحاد في هذا الكتاب إيرادا لا اعتقادا ، وقول الشيخ
ثانيا وإذا قال الواسطة خبرني بثمن هذا المتاع واربح على فيه كذا ففعل كانت
الزيادة للتاجر ، وله أجرة المثل يوضح ما نبهنا عليه انتهى.
أقول : والذي
وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبى عبد الله عليهالسلام «أنه قال في رجل قال لرجل : بع ثوبي بعشرة دراهم فما فضل فهو لك ، قال ليس
به بأس».
وما رواه المشايخ
الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن سماعة في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوموا عليه قيمة ، فيقولون بع فما
ازددت فلك ، قال : لا بأس بذلك ، ولكن لا يبيعهم مرابحة».
__________________
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن زرارة في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يعطى المتاع فيقال : ما ازددت على كذا وكذا فهو
لك ، فقال : لا بأس». ورواه بسند آخر في الموثق عن زرارة عن أبى جعفر عليهالسلام مثله.
وهذه الاخبار
كما ترى متفقة الدلالة على ما قاله الشيخان ، وردها بأنها أخبار آحاد خارج عن جادة
السداد.
بقي الكلام في
ان الظاهر أن هذا من باب الجعالة ، ومال الجعالة يجب أن يكون معلوما ، وهنا ليس
كذلك ، وهذا هو السبب في منع ابن إدريس هنا من صحة ما ذكره الشيخ ، وفيه ما ذكره
جمع من الأصحاب من أن وجوب معلومية الجعالة انما هو في موضع يؤدى الجهل بها الى
التنازع ، وهو منفي هنا ، إذ الزيادة للواسطة متى زاد على ما قومه عليه التاجر
مهما كانت الزيادة قليلة أو كثيرة ، والا فلا شيء له لحصول التراضي على ذلك ،
بخلاف الجعالة المجهولة المؤدية إلى التنازع ، وبذلك يظهر الفرق بين ذلك ، وبين ما
إذا قال الواسطة : خبرني بثمن المتاع واربح على فيه ففعل ، فإن الزيادة للتاجر
وللواسطة أجرة المثل ، فإنه على هذه الصورة لا بيع ولا جعالة ، فمن أجل ذلك حكم
بالزيادة للتاجر ، وللواسطة بأجرة المثل ، فاعتضاد ابن إدريس بهذه الصورة في الرد
على الشيخ حيث قال : وقول الشيخ ثانيا الى آخره ليس في محله ، لظهور الفرق ، وقد
تقدم تحقيق القول في هذا المقام في الفصل الخامس في المرابحة والمواضعة والتولية
هذا.
والنهى عن
البيع مرابحة في موثق سماعة اما من حيث أنه لم ينتقل المبيع اليه بهذا الكلام الذي
وقع بينهما ، لعدم تحقق البيع بمجرد التقويم عليه هذا ان كان باع لنفسه ، وان كان
للتاجر وكالة فرأس المال غير معلوم ، لان تقويمه على الدلال بقيمة أعم من أن يكون
برأس المال أو بزيادة فيه ، بل الغالب هو الثاني ، والواجب في بيع المرابحة
معلومية رأس المال والربح ، وأما ما حكم به الشيخان ـ من صحة البيع لو باعه
__________________
بأقل مما قومه عليه ، وأن على الدلال تمام القيمة ، وقول ابن إدريس ان
البيع هنا باطل ـ فالظاهر أنه متفرع على الكلام في صحة البيع الفضولي وبطلانه
وظاهر ابن إدريس الثاني ، وأما على تقدير القول بصحته فينبغي التفصيل في المقام
بأنه ان رضى المالك ، وأجاز البيع المذكور فليس له المطالبة بما زاد على القيمة
التي باع بها الواسطة ، وان لم يجز البيع فان له المطالبة بعين ماله ان كانت العين
قائمة ، فيلزم الدلال بتخليصها وإرجاعها ، وان تعذر ذلك كان له الرجوع على الدلال
بالقيمة ، وعلى هذا فينبغي أن يحمل كلام الشيخين هنا على ما إذا لم يجز البيع ،
وتعذر الرجوع الى العين.
السابعة : قد
صرح الأصحاب بأن أجرة الكيال والوزان على البائع ، وأجرة الناقد ووزان الثمن على
المشترى ، وأجرة الدلال على الآمر ، ولو باع واشترى فأجرة البيع على الآمر به ،
وأجرة الشراء على الآمر به.
أقول : والوجه
في الأولين ظاهر ، لانه يجب على البائع توفية المشترى المبيع وتسليمه بعد معلوميته
بالكيل والوزن ، وحينئذ فأجرة هذا العمل عليه لو لم يفعله بنفسه ، ونقد الثمن
ووزنه ، واجب على المشترى ، لأنه يجب عليه توفية الثمن وتسليمه فيجب عليه أجرة هذا
العمل لو لم يفعله بنفسه.
واما الثالث
فكذلك ، لان الدلال بمنزلة الأجير ، فإن كان وكيلا في البيع فأجرته على البائع ،
وان كان في الشراء فأجرته على المشترى.
بقي هنا شيء
وهو أن الشيخ رحمهالله ، قال في النهاية : لو نصب نفسه لبيع الأمتعة كان له
أجر البيع على البائع ، ولو نصب نفسه للشراء كان له أجرة على المبتاع ، فان كان
ممن يبيع ويشترى كان له أجرة على ما يبيع من جهة البائع ، وأجرة على ما يشترى من
جهة المبتاع انتهى.
وقال ابن إدريس
: في قوله فان كان ممن يبيع ويشترى الى آخره ولا يظن ظان أن المراد بذلك في سلعة
واحدة يستحق أجرين ، وانما المراد بذلك ان من كان صنعته يبيع تارة للناس ، ويشترى
لهم تارة ، فيكون له أجرة على من يبيع له
في السلعة المبتاعة ، فإن اشترى للناس سلعة غيرها كان له أجرة على من اشترى
له تلك السلعة ، لا أنه يشترى سلعة واحدة ويبيعها في عقد واحد ، لأن المشتري غير
البائع ، والبائع غير المشترى ، وانما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه فليتأمل ذلك
انتهى.
واعترضه
العلامة في المختلف بأنه ليس بجيد ، لأنا يجوز كون الشخص الواحد وكيلا للمتعاقدين
كالأب يبيع على ولده من ولده الأخر ، وحينئذ يستحق اجرة البيع على آمره ، وأجرة
الشراء على آمره ، وقوله العقد لا يكون الا بين اثنين مسلم وهو هنا كذلك لتعدد
المنتسب اليه كالأب العاقد عن ولديه. انتهى.
وهو جيد الا ان
المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ـ حيث قال : المصنف وأجرة الدلال
على الأمر ولو أمراه فالسابق ولو أمراه بتولي الطرفين فعليهما ـ ان الذي عليهما متى
أمراه بتولي الطرفين الإيجاب والقبول انما هو أجرة واحدة بالتنصيف ، حيث قال بعد
قول المصنف في آخر العبارة المذكورة فعليهما : ما صورته أجرة واحدة بالتنصيف
اقترنا أم تلاحقا ، ثم قال : ولو منعنا من تولى الطرفين من الواحد امتنع أخذ
أجرتين ، لكن لا يتجه حمل كلام الأصحاب أنه لا يجتمع بينهما لواحد عليه ، لانه قد
عبر به من يرى جوازه ، بل المراد أنه لا يجمع بينهما لعمل واحد ، وان أمره البائع
بالبيع ، والمشترى بالشراء ، بل له أجرة واحد عليهما ، أو على أحدهما كما فصلناه
انتهى. وهو ظاهر في أنه مع تولى الطرفين ليس الا أجرة واحدة بالتنصيف ، ومن الظاهر
أنه لا فرق في تولى الطرفين بين الولي الشرعي كما تقدم في كلام العلامة ،
__________________
ولا بين الوكيل فيهما من جهة البائع والمشترى. وكيف كان فهو ظاهر المنافاة
لما تقدم في كلام العلامة ، وقوله ولو منعناه الى آخره خرج مخرج الرد على المصنف
في الدروس حيث قال : ولو منعنا من تولية الطرفين امتنع أخذ أجرتين ، وعليه يحمل
كلام الأصحاب أنه لا يجمع بينهما لواحد ، وحاصله أنه فسر كلامهم بأن معناه انه لا
يجمع بين الأجرتين لشخص واحد ، وان ذلك مبنى على المنع من تولية الطرفين لشخص واحد
بأن يتولى الإيجاب والقبول ، فقولهم ذلك إشارة إلى المنع في هذه الصورة على تقدير
القول به.
والشارح رده
بأنه قد صرح بهذا الكلام من جوز تولى الطرفين لشخص واحد ، وحينئذ فلا يصح تفسير
كلامهم بما ذكره ، بل مرادهم بذلك الكلام انما هو أنه لا يجمع بين الأجرتين لعمل
واحد ، وان كان هنا أمران أحدهما البيع ، والآخر الشراء ، فإنه عمل واحد يستحق
عليه أجرة واحدة منهما أو من أحدهما على التفصيل الذي قدمه ، ولا مدخل لبنائه على
تولى الطرفين وعدمه.
وبالجملة فإن
كلامه هنا ظاهر في أنه مع تولى الطرفين ليس له الا أجرة واحدة وهو ظاهر في خلاف ما
قدمنا نقله عن العلامة.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في هذا المقام ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الله
بن سنان قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام ، وأنا أستمع فقال له : ربما أمرنا الرجل فيشترى لنا
الأرض والغلام والدار والخادم والجارية ونجعل له جعلا قال : لا بأس بذلك». ورواه
الشيخ بسندين آخرين مثله.
وما رواه في
الكتابين المذكورين عن ابن ابى عمير في الصحيح عن بعض أصحابنا من أصحاب الرقيق قال : «اشتريت
لأبي عبد الله عليهالسلام ، جارية فناولني أربعة دنانير فأبيت قال : لتأخذنها
فأخذتها فقال : لا تأخذ من البائع».
وما رواه المشايخ
الثلاثة في الصحيح عن أبى ولاد عن أبى عبد الله عليهالسلام
__________________
وغيره عن ابى جعفر عليهالسلام «قالوا : قالا : لا بأس بأجر السمار انما هو يشترى للناس يوما بعد يوم بشيء
معلوم ، وانما هو مثل الأجير». والسمار بالكسر المتوسط بين البائع والمشترى ،
ومرسل ابن أبى عمير ظاهر في النهي عن أخذ الأجرة من البائع بعد أخذها من المشترى ،
والظاهر أن الوجه في ذلك أن الآمر له انما هو المشترى ، والبائع لم يأمره بالبيع
له ، فلا يستحق عليه شيئا ، بل لو فرضنا أن المشترى لم يدفع اليه أجرة فإنه لا
رجوع له ، على البائع متى كان لم يأمره ، وهو ظاهر.
الثامنة : قد
تكاثرت الاخبار باستحباب الإقالة ، وقدمنا طرفا منها في المقدمة الثانية من مقدمات
هذا الكتاب.
ومنها زيادة
على ما تقدم ما رواه الصدوق (قدس الله روحه) في المقنع مرسلا عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : «أيما مسلم أقال مسلما بيع ندامة أقاله الله
عثرته يوم القيامة».
والكلام فيها
يقع في مواضع الأول ـ الإقالة عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف
فسخ لا بيع ، سواء كان في حق المتعاقدين أو غيرهما ، وسواء وقعت بلفظ الفسخ أو
الإقالة ، وأشير بهذه القيود الى خلاف العامة في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى انها
بيع مطلقا ، وبعض آخر إلى أنها بيع ان وقعت بلفظ الإقالة ، وفسخ ان وقعت بلفظ
الفسخ ويلحقها أحكامه وذهب بعض إلى انها بيع بالنسبة إلى الشفيع خاصة ، فيستحق
الشفعة بها وان كانت فسخا في حق المتعاقدين ، وبطلان الجميع ظاهر ، إذ لا يطلق
__________________
عليها اسم البيع في شيء من هذه الصور ، وللبيع ألفاظ خاصة ليست هذه منها وصيغتها أن يقول كل منهما تقايلنا أو تفاسخنا ، أو يقول
أحدهما أقلتك العقد الواقع بيننا فيقبل الآخر ، أو يقول تفاسخنا ، ولا فرق في ذلك
بين النادم وغيره ، ولا يكفى التماس أحدهما عن قبوله أو إيجابه ، بل لا بد فيها من
الإيجاب والقبول بالألفاظ المذكورة ، ولا يعتبر فيها سبق الالتماس ، بل لو ابتدء
أحدهما بالصيغة فقبل الآخر صح.
الثاني ـ قالوا
: لا تصح بزيادة في الثمن الذي وقع عليه العقد ولا نقيصة لأنها فسخ ، ومقتضاه رجوع
كل عوض الى مالكه ، فلو شرط فيها ما يخالف مقتضاها فسد الشرط ، ويترتب عليه فسادها
كما في كل شرط فاسد ، لأنهما لم يتراضيا على الفسخ الا على ذلك الوجه ، ولم يحصل لبطلانه
، فما تراضيا عليه لم يحصل ، وما حصل لم يتراضيا عليه.
أقول ويشير الى
ما ذكروه من عدم الزيادة والنقيصة بعض الاخبار التي لا يحضرني الآن موضعها ، وأما
ما ذكروه من بطلان العقد هنا لاشتماله على شرط فاسد بناء على ما اشتهر بين
المتأخرين من جعل ذلك قاعدة كلية ، فقد عرفت ما فيه آنفا في بعض نكت هذا الفصل.
الا أن ما يؤيد
كلامهم هنا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) ، عن الحلبي في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ، ثم
رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة قال : لا يصلح أن يأخذه بوضيعة ، فإن جهل
فأخذه فباع بأكثر من ثمنه رد على الأول ما زاد».
__________________
وبه يظهر ما
قدمنا ذكره من أن الاولى الوقوف في كل حكم حكم على ما يرد به الاخبار فيه من غير
أن يكون ذلك قاعدة كلية كما ادعوه ، فإن الاخبار في بعض العقود توافق ما ذكروه ،
كهذا الخبر ونحوه غيره أيضا ، وبعض كالاخبار التي قدمناها تخالف ما ذكروه ، فكيف
يمكن جعل ذلك قاعدة كلية.
ثم انهم قالوا
بناء على هذه القاعدة ايضا : أنه لا فرق في المنع من الزيادة والنقيصة بين العينية
والحكمية ، فلو أقاله على أن ينظره بالثمن أو يأخذ الصحاح عوض المكسور ونحو ذلك لم
يصح.
الثالث ـ الظاهر
أنه لا خلاف بينهم في أنها تصح في العقد وفي بعضه ، سلما كان أو غيره ، خلافا لبعض
العامة حيث منع من الإقالة في بعض السلم ، محتجا بأنه يصير حينئذ سلما وبيعا ، وقد
نهى النبي صلىاللهعليهوآله عنه ، وفيه مع تسليم الخبر أنه مبنى على كون الإقالة
بيعا كما تقدم نقله عن بعضهم ، وهو ممنوع على أنه قد تقدم في النكتة الثالثة ذكر
معنى لهذا اللفظ ، فلا يتعين الحمل على ما ذكروه ، والاخبار الواردة باستحباب
الإقالة شاملة بإطلاقها للكل والبعض ، بل هو صريح جملة من الاخبار المتقدمة في
المسألة الثانية من المقام الثاني من الفصل العاشر في السلم كما أوضحناه ذيل تلك
الاخبار ، وعلى هذا فمتى وقع التقابل في البعض خاصة اقتضى تقسيط الثمن على المثمن
، فيرتجع في نصف المبيع نصف الثمن ، وفي ربعه ربعه وهكذا.
الرابع ـ قالوا
: ولا تسقط أجرة الدلال لسبق استحقاقه الأجرة ، فإنه كان على السعى المتقدم وقد
حصل ومثله أجرة الكيال والوزان والناقد وهو جيد.
الخامس ـ قد
عرفت أنه بالإقالة يرجع كل عوض الى مالكه وحينئذ فإن كان باقيا أخذه ونماءه المتصل
به فإنه تابع للعين ، واما المنفصل فلا رجوع به وان كان حملا لم تضعه يومئذ ولم
ينفصل ، أما اللبن في الضرع فهل يكون كالولد منفصلا أو يكون متصلا كالسمن؟ اشكال
وان كان الأقرب الأول.
وأما الصوف
والشعر قبل الجز فأشد إشكالا واستظهر في المسالك أنه من
المتصل مع احتمال العدم ، وان كان تالفا رجع بمثله ان كان مثليا وبقيمته ان
كان قيميا وكذا يرجع بالقيمة في المثلي لو تعذر المثل ، وفي تعيين وقت القيمة
الخلاف المتقدم في الأبحاث السابقة من أنه يوم تلف العين ، أو يوم القبض ، أو يوم
الإقالة ، أو الأعلى من هذه القيم ، ولو وجده معيبا فله أرش العيب ، لان الجزء
الفائت بالعيب بمنزلة التالف فيضمنه كما يضمن الجميع.
التاسعة : قد
تكاثرت الروايات بذكر العينة ولم أقف في الكتب الفقهية على من تعرض لذكرها بهذا
العنوان الا ما سيأتي من نقل كلام لابن إدريس في السرائر قال ابن الأثير في
النهاية وفي حديث ابن عباس أنه كره العينة ، وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم
إلى أجل مسمى ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به ، فان اشترى بحضرة
طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها فباعها من طالب العينة إلى أجل ،
فقبضها ثم باعها المشترى من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة ،
وهي أهون من الاولى ، وسميت عينة لحصول النقد الذي لصاحب العينة ، لأن العين هي
المال الحاضر من النقد ، والمشترى إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة يصل إليه معجلة
انتهى.
وقال ابن إدريس
في كتاب السرائر على ما نقله عنه بعض الأصحاب وذكر شيخنا في الاستبصار في كتاب
المكاسب باب العينة وهي بالعين غير المعجمة المكسورة ـ والياء الساكنة والنون
المفتوحة مخففة والهاء المنقلبة عن تاء ، ومعناها في الشريعة هو أن يشترى السلعة
بثمن مؤجل ثم يبيعها بدون ذلك نقدا ليقضى دينا عليه ممن قد حل له عليه ويكون الدين
الثاني وهو العينة من صاحب الدين الأول روى ذلك أبو بكر الحضرمي ، مأخوذ ذلك من
العين : وهو النقد الحاضر انتهى وهو يرجع الى المعنى الأول ، الذي ذكره في النهاية
، والواجب نقل ما وقفت عليه
__________________
من الاخبار الواردة بذلك في المقام. والكلام ذيل كل منها بما يكشف عن معناه
نقاب الإبهام.
الأول : ما
رواه في الكافي عن إسماعيل ابن عبد الخالق في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام ، عن العينة وذلك أن عامة تجارنا اليوم يعطون العينة
فأقص عليك كيف نعمل قال : هات قلت : يأتينا الرجل المساوم يريد المال فيساومنا
وليس عندنا متاع فيقول : أربحك ده يازده وأقول أنا : ده دوازده ، فلانزال نتراوض
حتى نتراوض على أمر ، فإذا فرغنا قلت له : أى متاع أحب إليك ان اشترى لك؟ فيقول :
الحرير لانه لا يجد شيئا أقل وضيعة منه ، فأذهب وقد قاولته من غير مبايعة فقال : أليس
إن شئت لم تعطه وان شاء لم يأخذ منك؟ قلت : بلى ، قلت فأذهب فأشترى له ذلك الحرير
وأماكس بقدر جهدي ثم أجيء به الى بيتي فأبايعه فربما ازددت عليه القليل على
المقاولة ، وربما أعطيته على ما قاولته ، وربما تعاسرنا ولم يكن شيء ، فإذا اشترى
منى لم يجد أحدا أغلى به من الذي اشتريته منه ، فيبيعه منه ، فيجيئني ذلك فيأخذ
الدراهم ، فيدفعها اليه وربما جاء فيحيله على ، فقال : لا تدفعها الا الى صاحب
الحرير ، قلت : وربما لم يتفق بيني وبينه البيع به ، فأطلب اليه ليقيله منى فقال :
أو ليس لو شاء لم يفعل وان شئت أنت لم ترد ، فقلت : بلى لو أنه هلك فمن مالي قال :
لا بأس بهذا إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس».
أقول : ما
اشتمل عليه هذا الخبر هو المعنى الثاني من المعنيين اللذين ذكرهما في النهاية ،
وإطلاق كلام ابن إدريس شامل لهذه الصورة أيضا ، لأن قوله ثم يبيعها بدون ذلك أعم
من أن يكون البيع على من اشترى منه أو على غيره.
وفي الخبر أيضا
دلالة على أنه لا يختص العينة بما إذا كان الغرض منها قضاء دين عليه كما يشعر به
كلام ابن إدريس ، وان كان قد ورد ذلك في جملة من أخبار المسألة لأن ظاهر الخبر
المذكور انما هو أخذ المال لينتفع به.
وظاهر هذا
الخبر وغيره من أخبار العينة أن الغرض من ذلك هو الحيلة في
__________________
الخروج من الربا ، بأن يجيء الرجل محتاجا الى مبلغ من النقد يريده إلى مدة
بنفع يكون لصاحب النقد في ذلك المال ضمن المدة المذكورة ، فيشتري منه متاعا بقيمة
زائدة على القيمة الواقعية مؤجلة عليه إلى مدة معلومة بينهما ، فإذا اشتراه واستقر
الثمن في ذمة المشترى وهو طالب العينة باعه من صاحبه الأول أو غيره بثمن أنقص مما
اشتراه وقبض ثمنه ، وبقي ذلك المبلغ الأول عليه الى حلول الأجل ، فربما تعذر عليه
بعد حلول الأجل فيتعين أيضا من ذلك الشخص أو غيره ليوفي دينه ، السابق.
فقوله في الخبر
يأتينا الرجل المساوم يريد المال ، أى المال النقد ، وانما يريد اقتراضه إلى مدة
بنفع يكون فيه ، وهذه المساومة بده دوازده ونحوها الى آخر ما ذكر انما هو حيلة في
التخلص من الوقوع في الربا ، قوله لم يجد أحدا أغلى به ، أى لم يجد أحدا يشترى منه
بثمن غال كثير ، وأما منعه عليهالسلام لقبول الحوالة ومنعه من الدفع الا الى صاحب الحرير فلا
أعرف له وجها ، ولهذا حمله بعض مشايخنا على الكراهة.
قوله وربما لم
يتفق بيني وبينه البيع الى آخر الخبر معناه أنه ربما لم يتفق بيني وبين طالب
العينة البيع ، فالتمس من الذي باعني المتاع أن يفسخ البيع الذي بيني وبينه ،
ويقبل متاعه ، فقال عليهالسلام أو ليس البيع الأول الذي وقع بينك وبينه لازما بحيث أنه
لو شاء لم يفسخ البيع ، ولو شئت أنت عدم الرد لم يجب عليك الرد ، فقال : بلى الأمر
كذلك ، ولو هلك المتاع قبل الفسخ كان من مالي فقال عليهالسلام إذا لم تعد هذا الشرط أي إنشاء لم يقبل ، وان شئت لم
ترد فلا بأس ، فهو من عدا يعدو أى تجاوز.
الثاني : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن المنذر. قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة فاشترى له المتاع من أجله
ثم أبيعه إياه ثم أشتريه منه مكاني قال : فقال : إذا كان بالخيار إنشاء باع ، وان
شاء لم يبع ، وكنت أيضا بالخيار ان شئت اشتريت وان شئت لم تشتر فلا بأس ، قال :
__________________
فإن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد ويقولون : ان جاء به بعد أشهر صلح فقال
انما هذا تقديم وتأخير فلا بأس به».
أقول ما ذكره
في هذا الخبر هو المعنى الأول من المعنيين المذكورين في النهاية ، ومن هذا الخبر
يظهر أن مذهب العامة تحريم العينة ، لأن المراد بأهل المسجد علماء العامة الذين
كانوا يجلسون في مسجد النبي صلىاللهعليهوآله ، لأجل نشر العلوم ، وتعليم الناس والى ذلك يشير كلام
صاحب النهاية المتقدم ، وقوله عليهالسلام «إذا كان بالخيار» الى آخره كناية عن تحقق البيع ولزومه واقعا ، بمعنى أنه
إذا تحقق البيع الأول وجميع شروط الصحة فلا بأس بشراءك منه ، وكان العامة كانوا
يشترطون الفصل بين البيعين بمدة مديدة ، فقال عليهالسلام : انما هذا تقديم وتأخير ، فلا مدخل له في الجواز ثم لا
يخفى أن الخبر المذكور وان كان مطلقا بالنسبة إلى التأجيل وعدمه ، وحصول النفع
وعدمه ، الا أنه يجب حمله على غيره من أخبار المسألة كالخبر المتقدم وغيره ، وكان
ذلك لمعلومية الحكم من لفظ العينة كما عرفت من معناها آنفا.
الثالث : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن منصور بن حازم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلب من رجل ثوبا بعينة ، فقال : ليس عندي وهذه
دراهم فخذها واشتر بها فأخذها ، واشترى ثوبا كما يريد ، ثم جاء به ليشتريه منه؟
فقال : أليس ان ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ فقلت : بلى ، فقال : ان شاء
اشترى وان شاء لم يشتر قال : فقال : لا بأس به».
أقول : الاشتراء
هنا قد وقع وكالة عن صاحب الدراهم ، والغرض هنا انما تعلق بالسؤال عن الشراء على
هذه الكيفية ، وقوله عليهالسلام ، «أليس ان ذهب الثوب» الى آخره بمعنى أن ضمان الثوب
على الذي اعطى الدراهم : وأن الذي اشتراه بالخيار بين أن يشتريه من صاحب الدراهم ،
وأن لا يشتريه ، مما يوضح أن الشراء الأول انما كان وكالة عن صاحب الدراهم ، لا
أنه أقرضه الدراهم فشرى بها لنفسه
__________________
لانه لو كان كذلك لكان الزيادة التي يوقعها صاحب العينة ربا ، ولا معنى
لقوله في الخبر ثم جاء به ليشتريه منه ، والظاهر كما استظهره بعض مشايخنا عطر الله
مراقدهم أنه قد سقط لفظ «قلت : بلى» بعد قوله «وان شاء لم يشتر» من قلم النساخ ،
فان المعنى لا يستقيم الا بذلك ، وحاصله أنه عليهالسلام قال للسائل أولا : أليس ان ذهب الثوب فمن مال الذي
أعطاه الدراهم ، فأجاب بلى ، فقال له ثانيا : «أليس ان شاء اشترى وان شاء لم يشتر»
فأجاب بلى ، قال : «فقال : لا بأس» والخبر لم يذكر فيه بقية أحكام العينة ، لأن
الغرض انما تعلق بالسؤال عن هذا الأمر الخاص.
الرابع : ما
رواه في التهذيب عن منصور بن حازم في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة ، فيقول له الرجل
أنا أبصر بحاجتي منك ، فأعطني حتى اشترى فيأخذ الدراهم فيشترى حاجته ثم يجيء بها
الى الرجل الذي له المال فيدفعها اليه ، فقال : أليس إنشاء اشترى وان شاء ترك ،
وان شاء البائع باعه وان شاء لم يبع؟ قلت : نعم ، قال : لا بأس». والتقريب في هذا
الخبر كما في سابقه وهو أوضح دلالة لما عرفت في الأول .
الخامس : ما
رواه المشايخ الثلاثة برد الله مضاجعهم ، عن بشار بن يسار قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يبيع المتاع بنسإ ويشتريه من صاحبه الذي
__________________
يبيعه منه؟ قال : نعم لا بأس ، فقلت : أشترى متاعي؟ قال : ليس هو متاعك ولا
بقرك ولا غنمك». أقول هذه هي العينة على ما عرفت ، وأنه يدفع له قيمة ما اشتراه
منه ويجعل الأول دينا عليه إلى الأجل المعلوم بينهما ، والسائل توهم المنع ، لأنه
يشترى متاع نفسه ، وأجابه عليهالسلام بأنه قد انتقل عنك بالبيع الأول الذي جعلت ثمنه نسيئة ،
فليس هو متاعك ، وانما هو متاع المشترى وأنت تريد شراءه منه».
السادس : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن أبى بكر الحضرمي في الحسن قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل تعين ثم حل دينه فلم يجد ما يقضى أيتعين من صاحبه
الذي عينه ويعطيه؟ قال : نعم».
السابع : ما
روياه أيضا عن الحضرمي قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : يكون لي على الرجل الدراهم فيقول لي : بعني شيئا
أقضيك فأبيعه المتاع ثم أشتريه منه فاقبض مالي؟ قال لا بأس به».
الثامن : ما
رواه في الكافي عن هارون بن خارجة «قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : عينت رجلا عينة فقلت له : اقضني فقال : ليس عندي
تعينى حتى أقضيك قال : عينه حتى يقضيك».
ورواه في
الفقيه عن صفوان الجمال قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ، عينت رجلا عينة فحلت عليه فقلت : اقضني» الحديث. دلت
هذه الاخبار على التعين ثانيا من صاحب العينة الأولى كما ذكره ابن إدريس ، وكأنه
لم يطلع إلا على خبر الحضرمي ولا اختصاص لها بهذه الصورة ، لما عرف في ما تقدم وهو
أن يشترى طالب العينة من صاحب الطلب متاعا بما يزيد على قيمته السوقية مؤجلا عليه
، ثم يشتريه البائع بأنقص ويدفع الثمن الى صاحب العينة ، ثم ان طالب العينة يدفعه
لصاحب الطلب عن طلبه
__________________
السابق ، ويبقى قيمة ما باعه عليه أولا في ذمته دينا عليه.
العاشرة قال
ابن الجنيد : العربون من جملة الثمن ، ولو شرط المشترى للبائع أنه ان جاء بالثمن ،
والا فالعربون له كان عوضا عما منعه من البيع ، وهو التصرف في سلعته ، قال في
المختلف بعد نقل ذلك عن ابن الجنيد : والمعتمد أن يكون من جملة الثمن ، فان امتنع
المشترى من دفع الثمن وفسخ البائع العقد وجب عليه رد العربون.
لنا الأصل بقاء
الملك على المشترى ، فلا ينتقل عنه الا بوجه شرعي ، وما رواه وهب عن الصادق عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام ، يقول : لا يجوز بيع العربون الا ان يكون هذا من الثمن».
ثم نقل عن ابن الجنيد انه احتج بقوله عليهالسلام «المؤمنون عند شروطهم». ثم أجاب عنه بان المراد الشروط السائغة.
أقول : ما نقله
من الرواية بلفظ هذا من الثمن هو الموجود في التهذيب ، وفي غيره ، «الا أن يكون
نقدا من الثمن» والظاهر على هذا أن يكون من الثمن بدلا من نقد.
وكيف كان
فالظاهر ضعف ما ذكره ابن الجنيد ان لم يكن ذلك الشرط في عقد صحيح لازم ، لوجوب
الوفاء بالشرط ـ ومنع كونه سائغا كما ذكره العلامة ـ لا أعرف له وجها ، نعم لو وقع
ذلك من غير أن يكون في عقد لم يلزم ، الا ان يقال : بوجوب الوفاء بالوعد كما دل
عليه ظاهر القرآن ، ويدل عليه أيضا بعض الاخبار ، واليه جنح بعض مشايخنا المتأخرين
وهو قوي.
الحادية عشر : روى
الشيخ في التهذيب عن حكم بن حكيم الصيرفي قال : «سمعت أبا الحسن عليهالسلام ، وسأله حفص الأعور فقال : ان السلطان يشرون منا القرب
والادواة فيوكلون الوكيل حتى يستوفيه منا ، فنرشوه حتى لا يظلمنا ، فقال :
__________________
لا بأس ما تصلح به مالك ، ثم سكت ساعة ثم قال : إذا أنت رشوته يأخذ أقل من
الشرط؟ قلت : نعم قال : فسدت رشوتك».
أقول : فيه
دلالة على جواز الرشوة لدفع الظلم المتعدي ، والظاهر أن الجواز انما هو بالنسبة
الى المعطى لا الى القابض ، فإنها محرمة عليه البتة ، لأنه إنما أعطى لأجل دفع
ظلمه ، وهذا انما يوجب زيادة في التحريم.
واما إعطاء
الوكيل هنا لأجل أن يقبل أقل من الحق الواجب أداؤه ، فإنه محرم البتة ، ولهذا قال عليهالسلام لما سأله أنه بعد أخذ الرشوة يأخذ أقل من الشرط يعني
الحق الذي شرط عليه فقال نعم : «فسدت رشوتك» فان ذلك خيانة وظلم ، وهو ظاهر. والله
العالم بحقائق أحكامه وأولياؤه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.
كتاب الدين
ولنقدم هنا
جملة من الاخبار الواردة في الاستدانة فإن كتابنا هذا كتاب أحكام وأخبار كما لا
يخفى على من تأمله بعين الفكر والاعتبار ، فروى سماعة في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلغ به وعليه دين أيطعمه
عياله حتى يأتي الله عزوجل بميسرة ، فيقضي دينه؟ أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان
وشدة المكاسب ، أو يقبل الصدقة؟ قال : يقضى بما عنده دينه ، ولا يأكل من أموال
الناس الا وعنده ما يؤدى إليهم حقوقهم ، ان الله عزوجل يقول «لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ
مِنْكُمْ» ولا يستقرض على ظهره الا وعنده وفاء ، ولو طاف على أبواب
الناس فردوه باللقمة واللقمتين والتمرة والتمرتين ، الا ان يكون له ولي يقضى دينه
من بعده ، ليس منا من يموت الا جعل الله له وليا يقوم في عدته ودينه فيقضى عدته
ودينه».
__________________
وروى عبد
الرحمن بن الحجاج في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «تعوذوا بالله من غلبة الدين ، وغلبة الرجال
وبوار الأيم». أقول الأيم التي لا زوج لها وبوارها كسادها ، وفي التهذيب «نعوذ
بالله».
وفي كتاب معاني
الأخبار روى عن الكاهلي «انه سأل أبا عبد الله عليهالسلام أكان على عليهالسلام يتعوذ من بوار الأيم؟ فقال : نعم ، وليس حيث تذهب انما
كان يتعوذ من العاهات ، والعامة يقولون بوار الأيم وليس كما يقولون».
قيل : لعل
المراد أن التعوذ منه انما هو البوار الذي يكون من جهة العاهة بها لا مطلق البوار
، وان كانت صحيحة ليس بها بأس.
وعن مسعدة بن
صدقة عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا وجع الا وجع العين ، ولا هم إلا هم الدين.
وبهذا الاسناد قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الدين ربقة الله عزوجل في الأرض ، فإذا أراد الله جل اسمه أن يذل عبدا وضعه في
عنقه.
وعن عبد الله
بن ميمون القداح عن أبى عبد الله عليهالسلام ، عن آبائه عن على عليهمالسلام قال : «إياكم والدين فإنه مذلة بالنهار مهمة بالليل ،
وقضاء في الدنيا وقضاء في الآخرة».
وروى ابن إدريس
في مستطرفات السرائر من كتاب المشيخة لابن محبوب عن أبي أيوب عن سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلغ به وعليه دين ، أيطعمه
عياله حتى يأتي الله بميسرة فيقضي دينه؟ أو يستقرض على ظهره في جدب الزمان وشدة
المكاسب أو يقضي بما عنده دينه ويقبل
__________________
الصدقة قال : يقضى بما عنده دينه ويقبل الصدقة ، وقال : لا يأكل أموال
الناس الا وعنده ما يؤدى إليهم حقوقهم ، ان الله تعالى يقول «يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ»
وقال ما أحب له
أن يستقرض الا وعنده وفاء بذلك ، اما في عقده أو تجارة ، ولو طاف على أبواب الناس
فردوه باللقمة واللقمتين ، الا أن يكون له ولي يقضى دينه عنه من بعده ، ثم قال :
انه ليس منا من يموت الا جعل الله له وليا يقوم في دينه فيقضى عنه».
وعن حنان بن
سدير عن أبيه ، عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله الا الدين ،
فإنه لا كفارة له الا أداؤه أو يقضي صاحبه ، أو يغفر الذي له الحق».
وعن معاوية بن
وهب في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انه ذكر لنا أن رجلا من الأنصار مات وعليه ديناران
دينا فلم يصل عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله وقال : صلوا على صاحبكم حتى ضمنها عنه بعض قرابته ،
فقال : أبو عبد الله عليهالسلام ذلك الحق ثم قال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآله انما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض ، ولئلا
يستخفوا بالدين ، وقد مات رسول الله صلىاللهعليهوآله وعليه دين ، وقتل أمير المؤمنين عليهالسلام ، وعليه دين ، ومات الحسن عليهالسلام وعليه دين ، وقتل الحسين عليهالسلام وعليه دين» .
__________________
وفي كتاب كشف
المحجة لابن طاوس قال : «رأيت في كتاب إبراهيم بن محمد الأشعري الثقة
بإسناده عن أبى جعفر عليهالسلام ، «قال : قبض على عليهالسلام وعليه دين ثمان مأة ألف درهم ، فباع الحسن عليهالسلام ضيعة له بخمسمأة ألف درهم ، وقضاها عنه وباع ضيعة له
بثلاثمائة الف فقضاها عنه وذلك أنه لم يكن يرزأ من الخمس شيئا وكانت تنوبه نوائب».
قال : ورأيت في
كتاب عبد الله بن بكير بإسناده عن أبى جعفر عليهالسلام «أن الحسين عليهالسلام قتل وعليه دين ، وأن على بن الحسين عليهماالسلام ، باع ضيعة له بثلاثمائة ألف فقضى دين الحسين عليهالسلام وعدات كانت عليه».
وعن موسى بن
بكر قال : «قال لي أبو الحسن عليهالسلام : من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله
كان كالمجاهد في سبيل الله عزوجل ، وان غلب عليه فليستدن على الله عزوجل وعلى رسوله صلىاللهعليهوآله ما يقوت به عياله ، فان مات ولم يقضه كان على الإمام
قضاؤه ، وان لم يقضه كان عليه وزره ، فان الله عزوجل «يقول (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) الى قوله (وَالْغارِمِينَ) فهو فقير مسكين مغرم».
وعن العباس بن
عيسى قال : «ضاق على على بن الحسين عليهماالسلام ضيقة فأتى مولى له فقال له : أقرضني عشرة آلاف درهم الى
ميسرة ، فقال : لا لانه ليس عندي ، ولكني أريد وثيقة ، قال : فنتف له من ردائه
هدبة ، فقال : هذه الوثيقة قال : فكان مولاه كره ذلك ، فغضب عليهالسلام فقال : أنا أولى بالوفاء أم حاجب بن زرارة ، فقال : أنت
أولى بذلك منه ، قال فكيف صار حاجب بن زرارة يرهن قوسا وهي خشبة على مأة حمالة ،
وهو كافر فيفي وأنا لا أفي بهدية ردائي؟ قال : فأخذها الرجل منه وأعطاه الدراهم
وجعل الهدبة في حق ، فسهل الله عزوجل له المال فحمله الى الرجل ، ثم قال : له أحضرت مالك فهات
وثيقتي ،
__________________
فقال له : جعلت فداك ضيعتها فقال : إذا لا تأخذ مالك منى ، ليس مثلي من
يستخف بذمته ، فقال : فأخرج الرجل الحق فإذا فيه الهدبة ، فأعطاها على بن الحسين عليهماالسلام الدراهم ، فأخذ الهدبة فرمى بها ثم انصرف».
وعن موسى بن
بكر قال : «ما أحصى ما سمعت أبا الحسن عليهالسلام ينشد :». قيل : المراد موسى بن عمران وانما قلب محافظة
على الوزن.
فان يك يا
أميم على دين
|
|
فعمران بن
موسى يستدين
|
وعن موسى بن
بكر قال : «من طلب الرزق من حله فغلب فليستقرض على الله عزوجل وعلى رسوله صلىاللهعليهوآله».
وعن أيوب بن
عطية الحذاء قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : أنا أولى من كل مؤمن بنفسه ، ومن ترك مالا فللوارث
، ومن ترك دينا أو ضياعا فالى وعلى». والضياع بالفتح العيال.
وعن أبى موسى قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك يستقرض الرجل ويحج؟ قال : نعم ، قلت :
يستقرض ويتزوج؟ قال : نعم انه ينتظر رزق الله غدوة وعشية».
أقول : الوجه
في الجمع بين هذه الاخبار هو جواز الاستدانة على كراهة ، وروايتا سماعة المتقدمتان
محمولتان على شدة الكراهة وتأكدها ، لما عرفت أولا من استدانة الأئمة عليهمالسلام ، وثانيا بما دلت عليه رواية موسى بن بكر ورواية أبي
موسى من أنه يستقرض على الله وأنه ينتظر رزق الله.
ويؤكده ما رواه
الشيخ عن صفوان بن يحيى عن على بن إسماعيل عن رجل
__________________
من أهل الشام «انه سأل أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن رجل عليه دين قد قدحه وهو يخالط الناس ، وهو يؤتمن يسعه شراء الفضول من
الطعام والشراب فهل يحل له أم لا وهل يحل له أن يتضلع من الطعام أم لا يحل له الا
قدر ما يمسك به نفسه ويبلغه؟ قال لا بأس بما أكل».
والظاهر أنه
تزول الكراهة مع الحاجة ، وعلى هذا يحمل استدانة الأئمة عليهمالسلام كما يشير اليه خبر استدانة على بن الحسين عليهماالسلام قال : في الدروس ولا كراهة مع الضرورة ، فقد مات رسول
الله ـ عليه وعلى آله الصلوات والسلام ـ والحسنان وعليهم دين ، قال : ولو كان له
مال بإزائه خفت الكراهة ، وكذا لو كان له ولى يقضيه وان لم يجب عليه قضاؤه ، فزالت
مناقشة ابن إدريس لأن عدم وجوب القضاء لا ينافي وقوع القضاء ، ثم نقل عن
الحلبي أنه حرم الاستدانة على غير القادر على القضاء ، وكان مراده عدم القدرة على
الأداء حالا ومؤجلا لعدم شيء عنده.
ويرده ما تقدم
من قوله عليهمالسلام في ما تقدم «يستقرض على الله وعلى رسوله ، وأنه ينتظر
رزق الله» وكذا ظواهر أخبار الجواز لإطلاقها في ذلك.
__________________
ثم انه حيث كان
الدين عبارة عما يوجب شغل الذمة ، فالظاهر شمول الكراهة هنا للبيع سلفا ونسيئة ،
بل ربما أمكن شموله للحال مع عدم إحضار النقد ، بل تأخيره إلى وقت آخر الا أن يخص
الدين بالمؤجل ، كما قيل : ان الدين ما له أجل ، والقرض ما لا أجل له.
وحيث ان الدين
الذي عنونا به الكتاب أعم من القرض ، فالكلام هنا يقع في مقصدين.
الأول في القرض
وثوابه جسيم
وأجره عظيم ، ومنعه من الطالب المحتاج اليه ذميم ، فروى الصدوق في كتاب ثواب
الأعمال عن محمد بن حباب القماط عن شيخ كان عندنا قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لأن أقرض قرضا أحب الى من أن أتصدق بمثله ، وكان
يقول : من أقرض قرضا وضرب له أجلا ولم يؤت به عند ذلك الأجل كان له من الثواب في
كل يوم يتأخر عن ذلك الأجل مثل صدقة دينار واحد في كل يوم».
وعن الفضيل قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : ما من مسلم أقرض مسلما قرضا حسنا يريد به وجه الله الا
حسب له اجره كحساب الصدقة حتى يرجع اليه».
وعن جابر عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من أقرض مؤمنا قرضا ينظر به ميسوره ، كان ماله في
زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه اليه».
وعن هيثم
الصيرفي وغيره عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «القرض الواحد بثمانية عشر وان مات حسبه من
الزكاة». وروى في كتاب الهداية قال : «قال
__________________
الصادق عليهالسلام : مكتوب على باب الجنة الصدقة بعشرة ، والقرض بثمانية
عشر». وانما صار القرض أفضل من الصدقة لأن المستقرض لا يستقرض الا من حاجة ، وقد
يطلب الصدقة من غير الاحتياج إليها.
وروى في كتاب
عقاب الأعمال في حديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «من شكى إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرم الله
عليه الجنة يوم يجزى المحسنين».
وروى الراوندي
في نوادره بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهمالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الصدقة بعشرة ، والقرض بثمانية عشر ، وصلة الإخوان
بعشرين ، وصلة الرحم بأربع وعشرين».
وروى في الأمالي
في خبر المناهي قال : «قال النبي صلىاللهعليهوآله ، من احتاج اليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه ولم
يفعل حرم الله عليه ريح الجنة».
وروى الشيخ
وجملة ممن تأخر عنه في الكتب الفقهية منهم العلامة في جملة من كتبه أن القرض أفضل
من الصدقة بمثله من الثواب ، والظاهر كما استظهره بعض مشايخنا المتأخرين أن الضمير
في مثله متعلق بأفضل ، بمعنى أن فضل القرض أكثر من الصدقة في الثواب بقدر المثل ،
اى أن ثواب القرض ضعف ثواب الصدقة ، وربما أشكل الجمع بينه وبين ما تقدم من أن
الصدقة الواحدة بعشرة ، والقرض بثمانية عشرة ، حيث ان ظاهر الخبر أن درهم الصدقة
بعشرة ، ودرهم القرض بعشرين ، وعند التأمل في ذلك لا إشكال ، لأن المفاضلة
والمضاعفة انما هي في الثواب ، ولا ريب انه إذا تصدق بدرهم ، فإنه إنما يصير عشرة
باعتبار ضم الدرهم المتصدق به حيث أنه لا يرجع ، والحاصل من الثواب الذي اكتسبه
بالصدقة في الحقيقة مع قطع النظر عن ذلك الدرهم انما هو تسعة ، وعلى هذا فثواب
القرض وهو ثمانية عشر ضعف التسعة ، لان المفاضلة والمضاعفة انما هي في الثواب
المكتسب.
__________________
ولك أن تقول ان
درهم الصدقة لما لم يكن بعشرة الا من حيث عدم رجوع الدرهم فدرهم القرض ، لما كان
يرجع بعينه ، ويرجع ما قابله من الثواب المخصوص بتلك العين ، يكون الباقي ثمانية
عشر ، وعلى كل من التقديرين فالمضاعفة حاصلة.
ثم انه ينبغي
أن يعلم أن تحقق أصل الثواب في القرض فضلا عن أفضليته على الصدقة انما يكون مع قصد
القربة لله سبحانه ، كما في نظائره من الطاعات ، فلو قصد به الأغراض الدنيوية لم
يترتب عليه ذلك.
ويدل عليه ما
رواه الثقة الجليل على بن إبراهيم القمي في تفسيره بسنده فيه عن حفص قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : الربا رباءان أحدهما حلال ، والأخر حرام ، فأما
الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا طمعا أن يزيده ، ويعوضه بأكثر مما يأخذه من
غير شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له
عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله «فَلا يَرْبُوا عِنْدَ
اللهِ» وأما الحرام فالرجل يقرض قرضا يشترط أن يرد أكثر مما
أخذه فهذا هو الحرام».
وكيف كان
فالكلام في هذا المقصد يقع في مواضع الأول ـ قد صرح الأصحاب رضوان الله عليهم ،
بأن القرض عقد يتوقف على الإيجاب والقبول مثل سائر العقود ، الا أنه عقد جائز لا
لازم ، مثل البيع ونحوه ، وهو ظاهر في تحقق الملك على المشهور من تملكه بالإيجاب
والقبول والقبض
وأما على القول
بأنه لا يملك الا بالتصرف فمقتضى ذلك أنه قبل التصرف انما هو بمنزلة الإباحة ،
وعلى هذا فينبغي أن لا يتوقف على العقد ، الا أن يقال : بأن الآثار
__________________
المترتبة على التصرف في هذا الباب ـ المغايرة للتصرف على وجه الإباحة ـ تتوقف
على ما يدل على جواز التصرف ، وليس الا العقد والقبض ، قالوا : وإيجابه أن يقول
أقرضتك أو أسلفتك أو ملكتك وعليك عوضه ، أو خذه أو تصرف فيه أو انتفع به ونحو ذلك.
وبالجملة فإن
صيغته لا تنحصر في لفظ كالعقود الجائزة ، بل كل لفظ دل عليه كفى ، الا ان أقرضتك
صريح في معناه ، فلا يحتاج إلى ضميمة عليك رد عوضه ، ونحوه وغيره من الألفاظ يحتاج
إليها ، فلو تركها وكان بلفظ التمليك أفاد الهبة ان لم يكن ثمة ما يدل على القرض
من قرائن المقام ، ولم يعلم قصده ، لان اللفظ المذكور صريح في ذلك ، ولو كان بلفظ
السلف كان فاسدا ، لأنه حقيقة في السلم ، ولم يوجد ما يصرف عنه كما هو المفروض ،
ولم يجتمع شرائطه ، ولو كان بغيرهما من الألفاظ الدالة على الإباحة فهو على ما
يقتضيه ظاهر اللفظ ، الا مع القصد إلى الهبة فيدخل فيها ، ولو اختلفا في القصد
فالقول قول الموجب ، لأنه أبصر بما قاله.
ولو اختلفا في
الهبة بأن ادعى القابض كونه هبة ، وادعى المعطى كونه قرضا فقد قطع في التذكرة
بتقديم قول صاحب المال محتجا بأنه أعرف بلفظه ، وأن الأصل عصمة ماله وعدم التبرع ،
ووجوب الرد على الأخذ لقوله صلىاللهعليهوآله «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». ثم احتمل تقديم دعوى الهبة.
واستشكل في
القواعد وأورد على ما احتج به في التذكرة بأن لفظ التمليك حقيقة في الهبة ، لأنه
تمام مفهومه الشرعي ، وأما كونه بمعنى القرض فيفتقر إلى ضميمة أخرى ، لأنه معنى
مجازي يتوقف الحمل عليه على القرينة ، والفرض انتفاؤها ، ولا خلاف ولا شبهة في أن
دعوى خلاف الظاهر والحقيقة ـ في سائر العقود ـ لا يلتفت إليها ، والقصد وان كان
معتبرا الا أن الظاهر في الألفاظ الصريحة اقترانها بالقصد ، وأنه لو أريد غيره
لذكرت القرينة معه ، ومن هنا أجمعوا على أنه لو ادعى عدم القصد الى البيع ونحوه مع
تصريحه بلفظه لم يلتفت اليه.
ومن ذلك يعلم
أن أصالة العصمة قد انقطعت باللفظ الصريح الدال على الانتقال ،
__________________
ومثله القول في الخبر فإنه مع وجود اللفظ الصريح في الدلالة على النقل عن
الملك الرافع للضمان يخرج موضع النزاع من ذلك ، والكلام في القبول كما تقدم في
الإيجاب من أنه لا ينحصر في لفظ ، بل كلما دل على الرضا بالإيجاب.
وهل يكفى
القبول الفعلي ويترتب عليه ما يترتب على القولي من تمام الملك أو إنما يكفي
بالنسبة إلى إباحة التصرف خاصة؟ قطع جمع من الأصحاب بالأول ، وتنظر فيه بعضهم ،
واستظهر الثاني إذا عرفت ذلك فالذي يظهر عندي من تتبع الاخبار ان الأمر هنا كما
قدمنا شرحه في كتاب التجارة من سعة الدائرة في العقود ، والاكتفاء فيها بما دل على
الرضا ، وعدم اشتراط شيء زائد على ذلك.
والاكتفاء هنا
بمجرد الطلب والإعطاء وأخذ ذلك بالألفاظ الدالة على ارادة القرض ، كما عرفت من
حديث استقراض على بن الحسين عليهماالسلام المتقدم ، فإنه ليس فيه بعد طلبه القرض من مولاه بقوله
أقرضني والمحاورة بينهما في الوثيقة ، الا انه أعطاه المال بعد قبض الوثيقة ، فأخذ
عليهالسلام المال وانصرف ، وليس هنا صيغة ولا عقد زائد على ما ذكر
في الخبر.
الثاني في حكم
النفع المترتب على القرض ، والكلام في ذلك يقتضي بسطه في موارد أحدها : لا خلاف
بين الأصحاب رضوان الله عليهم ، في تحريم اشتراط النفع في القرض ، بل نقل بعض
محققي متأخرين المتأخرين إجماع المسلمين على ذلك ، وربما ظهر من بعض الاخبار تحريم
حصول النفع ، وان كان لا بشرط ، والواجب نقل ما وصل إلينا من الاخبار في ذلك ، ثم
الجمع بين مختلفاتها وتأليف متشتتاتها.
فمنهما ما رواه
المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن محمد بن
__________________
مسلم وغيره قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضا ويعطيه الرهن اما خادما
واما آنية واما ثيابا فيحتاج إلى شيء من منفعته ، فيستأذنه فيه فيأذن له ، قال :
إذا طابت نفسه فلا بأس ، فقلت : ان من عندنا يرون أن كل قرض يجر منفعة فهو فاسد؟
قال : أو ليس خير القرض ما جر منفعة».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن محمد بن عبده قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن القرض يجر المنفعة؟ قال : خير القرض الذي يجر
المنفعة».
وما رواه في
الكافي عن بشر بن مسلمة وغير واحد عمن أخبره عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «خير القرض ما جر المنفعة» ورواه الشيخ في
التهذيب عن بشر بن مسلمة عن أبى عبد الله عليهالسلام «قال : قال أبو جعفر عليهالسلام» ، الحديث.
وما رواه الصدوق
والشيخ عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليهالسلام : الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا فيطول مكثه عند
الرجل ، لا يدخل على صاحبه منه منفعة ، فينيله الرجل الشيء كراهة ان يأخذ ماله
حيث لا يصيب منه منفعة أيحل ذلك له؟ قال : لا بأس إذا لم يكونا شرطاه».
وما رواه في
الكافي عن إسحاق بن عمار عن أبى الحسن عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يكون له مع الرجل مال قرضا فيعطيه
الشيء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه ، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه قال :
لا بأس».
وما رواه في
التهذيب عن محمد بن قيس في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط الا مثلها ، فإن
جوزي بأجود منها فليقبل ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترطه من أجل
قرض ورقه».
وما رواه في
التهذيب عن أبى بصير في الموثق عن أبى جعفر عليهالسلام ،
__________________
قال : «قلت له : الرجل يأتيه النبط بأحمالهم فيبيعها لهم بالأجر فيقولون : له
أقرضنا دنانير فانا نجد من يبيع لنا غيرك ، ولكنا نخصك بأحمالنا من أجل أنك تقرضنا
قال : لا بأس به ، انما يأخذ دنانير مثل دنانيره ، وليس بثوب ان لبسه كسر ثمنه ،
ولا دابة ان ركبها كسرها وانما هو معروف يصنعه إليهم».
وما رواه في
الفقيه وفي التهذيب عن جميل بن دراج عن رجل عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : أصلحك الله انا نخالط نفرا من أهل السواد
فنقرضهم القرض ، ويصرفون إلينا غلاتهم فنبيعها لهم بأجر ، ولنا في ذلك منفعة؟ قال
: فقال لا بأس ، ولا أعلمه ، الا وقال : لو لا ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم
نقرضهم ، فقال : لا بأس».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «إذا أقرضت الدراهم ثم جائك بخير منها فلا بأس
إذا لم يكن بينكما شرط».
وعن خالد بن
الحجاج قال : «سألته عن رجل كانت لي عليه مأة درهم عددا فقضاها
مأة ورقا قال لا بأس ما لم يشترط ، قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط انما
يفسده الشروط».
وعن الحلبي في الحسن عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يستقرض الدراهم البيض عددا ثم
يعطى وزنا وقد عرف أنها أثقل مما أخذ ويطيب نفسه ان يجعل له فضلها؟ فقال : لا بأس
به إذا لم يكن فيه شرط ، ولو وهبها له كملا كان أصلح».
وعن أبى الربيع
قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل أقرض رجلا
__________________
دراهم فرد عليه أجود منها بطيب نفسه ، وقد علم المستقرض والقارض انه انما
أقرضه ليعطيه أجود منها قال : لا بأس إذا طابت نفس المستقرض».
وما رواه في
التهذيب عن إسحاق بن عمار في الموثق عن العبد الصالح عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يرهن الثوب أو العبد أو الحلي أو
المتاع من متاع البيت ، فيقول صاحب الرهن للمرتهن : أنت في حل من لبس هذا الثوب
فالبس الثوب وانتفع بالمتاع ، واستخدم الخادم؟ قال : هو له حلال إذا أحله وما أحب
له أن يفعل».
وعن على بن
محمد قال : «كتبت اليه القرض يجر المنفعة هل يجوز أم لا؟ فكتب عليهالسلام ، يجوز ذلك عن تراض منهما ان شاء الله».
وعن يعقوب بن
شعيب في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينارا
ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا؟ قال : لا يصلح إذا كان قرضا يجر
شيئا ، فلا يصلح ، قال : وسألته عن الرجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرضه الدنانير
فيقرضه ، ولولا أن يخالطه ويحارفه ويصيب عليه لم يقرضه؟ فقال : ان كان معروفا
بينهما فلا بأس ، وان كان انما يقرضه من أجل أنه يصيب عليه فلا يصلح».
وما رواه في
الكافي عن غياث بن إبراهيم عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «ان رجلا أتى عليا عليهالسلام فقال له : ان لي على رجل دينا فأهدى الى هدية قال :
احسبه من دينك عليه».
وعن هذيل بن
حيان أخي جعفر بن حيان الصيرفي قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انى دفعت الى أخي جعفر مالا فهو يعطيني ما أنفقه وأحج
به وأتصدق ، وقد سألت من قبلنا فذكروا أن ذلك فاسد لا يحل ، وأنا أحب أن انتهى الى
قولك ،
__________________
فقال لي : أكان يصلك قبل ان تدفع اليه مالك؟ قلت : نعم ، قال : خذ ما يعطيك
فكل منه واشرب وحج وتصدق ، فإذا قدمت العراق فقل جعفر بن محمد أفتاني بهذا».
وما رواه الحميري
في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن رجل اعطى رجلا مأة درهم على أن يعطيه
خمسة دراهم ، أو أقل أو أكثر قال : هذا الربا المحض».
هذا ما حضرني
من اخبار المسألة وجلها كما ترى متفق الدلالة واضح المقالة على حل الانتفاع بما
يحصل في القرض ، ويترتب عليه من المنافع الا مع الشرط.
واما ما دل
عليه صحيح يعقوب بن شعيب مما ينافي ما ذكرناه فقد حمله الشيخ على الكراهة تارة ،
وعلى الشرط اخرى ، والأقرب عندي حمله على التقية لما يفهم من الخبر الأول وخبر
هذيل بن حيان ، فان ظاهرهما ان مذهب العامة تحريم القرض الذي يجر المنفعة مطلقا.
وقد رووا عن
النبي صلىاللهعليهوآله «ان كل قرض يجر المنفعة فهو حرام» . ولهذا تكاثرت الاخبار ردا عليهم ، بأن خير القرض ما جر
المنفعة ، وانما منعت في صورة الشرط خاصة ، كما تقدم في الاخبار خصوصا رواية خالد
بن الحجاج من قوله عليهالسلام «جاء الربا من قبل الشروط ، انما يفسده الشروط».
واما ما دل
عليه خبر غياث بن إبراهيم من حساب الهدية من الدين ، فحمله الشيخ على الهدية الغير
المعتادة أو المشترطة جمعا بين الاخبار ، وحمله بعضهم على الاستحباب ، ولا بأس به
، ويشير الى ذلك قول عليهالسلام في موثق إسحاق بن عمار «وما أحب له أن يفعل» بعد ان صرح
بالجواز ، ولا منافاة في ذلك لباقي الأخبار ، فإن غاية ما يدل عليه الجواز ، وهو
لا ينافي الكراهة.
__________________
وعلى هذا ينبغي
ان يحمل مفهوم رواية هذيل بن حيان ، فان ظاهرها تخصيص جواز القول بما إذا كان يصله
سابقا قبل دفع ماله اليه ، ومفهومه عدم الجواز لو كان بعد دفع المال ، وما ذاك الا
من حيث ترتب النفع على دفع المال ، فيحمل حينئذ على الكراهة جمعا ويشير الى ذلك ايضا قوله في آخر حسنة الحلبي المتقدمة «ولو
وهبها له كان أصلح» فكأنما بالهبة تزول الكراهة ، وحينئذ فيمكن القول بالجواز على
كراهة الا ان ظاهر قولهم عليهمالسلام «خير القرض ما جر المنفعة». ربما نافى ذلك ، فإنه لا تثبت الخيرية مع
الكراهة.
وبعدم الكراهة
صرح ايضا شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فقال بعد قول المصنف «لو تبرع المقترض
بزيادة في العين أو الصفة جاز» : لا فرق في الجواز بين كون ذلك من نيتهما أو عدمه
، ولا بين كونه معتادا أو عدمه بل لا يكره قبوله ، للأصل وإطلاق النصوص بذلك ، وقد
روى ان النبي صلىاللهعليهوآله «اقترض بكرا فرد باذلا رباعيا ، وقال : ان خير الناس أحسنهم قضاء». وروى مثله
كثيرا عن الصادق عليهالسلام انتهى.
__________________
ويؤيده ما ذكره
أيضا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن الرجل يستقرض من الرجل الدراهم فيرد عليه المثقال
أو يستقرض المثقال فيرد عليه الدراهم؟ فقال : إذا لم يكن شرط فلا بأس ، وذلك هو
الفضل كان أبى عليهالسلام يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد ،
فيقول : يا بنى ردها على الذي استقرضتها منه فأقول : يا أبت ان دراهمه فسولة وهذه
خير منها فيقول : يا بنى ان هذا هو الفضل فأعطه إياها».
أقول : الظاهر
أن قوله عليهالسلام ، «ان هذا هو الفضل» إشارة إلى قوله عزوجل «وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» ويمكن الجمع ـ بأن هذه الاخبار حيث أنك قد عرفت ظهور
الكراهة من الاخبار التي أشرنا إليها ـ بأن يقال : لا منافاة بين استحباب إعطاء
الفضل من المقترض وان كره على المقارض أخذه ، الا ان اجراء هذه الحمل في اخبار «خير
القرض ما جر المنفعة» لا يخلو من تعسف وتكلف.
وثانيها الظاهر
أن لا خلاف بين الأصحاب في بطلان القرض وعدم افادته الملك متى اشتمل على اشتراط
النفع.
بل نقل في
المسالك الإجماع على ذلك ، قال : ومستنده «ما روى عن النبي صلىاللهعليهوآله «أنه قال : كل قرض يجر منفعة فهو حرام». والمراد مع الشرط ، إذ لا خلاف في
جواز التبرع. انتهى. وحينئذ فمع شرط الزيادة تصير الزيادة والإقراض والاقتراض
حراما ، وكذا التصرف في المال المقترض مع العلم ، ويكون مضمونا كالمغصوب ، لان
المفروض بطلان العقد بذلك ، فيترتب الأحكام المذكورة ، فلو قبضه كان مضمونا عليه ،
كالبيع الفاسد للقاعدة المشهورة «من أن
__________________
كل عقد يضمن بصحيحه ، يضمن بفاسده» ونقل عن ابن حمزة أنه ذهب الى كونه
أمانة وهو ضعيف ، لما عرفت.
أقول : أما ما
ذكروه من تحريم الشرط المذكور فهو مما لا اشكال فيه ، وما ذكروه من بطلان أصل
العقد فان كان من حيث اشتماله على الشرط الفاسد ، وكل عقد كان كذلك فهو باطل ، فقد
عرفت الخلاف في ذلك فيما تقدم ، الا ان الظاهر أنه ليس البطلان هنا عندهم مبنيا
على ذلك ، ولهذا انما استند شيخنا المتقدم ذكره بعد دعوى الإجماع الى الخبر النبوي
المذكور ، وهو صريح فيما ذكره ، الا أن الظاهر أن الخبر المذكور انما هو من طريق
العامة ، فإني لم أقف عليه بعد التتبع في شيء من كتب أخبارنا ، وأخبار المسألة
المتقدمة على كثرتها وتعددها ليس فيها اشعار فضلا عن الدلالة الصريحة ببطلان أصل
العقد ، بل الظاهر منها انما هو بطلان الشرط ، فان مفهوم نفى البأس مع عدم الشرط
في كثير مما تقدم من الاخبار انما ـ توجه إلى الزيادة ، كما لا يخفى على المتأمل
فيها.
فمنها موثقة
إسحاق بن عمار المشتملة على أنه ينيله الشيء بعد الشيء كراهة أن
يأخذ ماله أيحل ذلك؟ «قال : لا بأس إذا لم يكونا شرطاه» وهو ظاهر في أن السؤال
انما هو عن حل الزيادة ، فأجاب عليهالسلام بالحل مع عدم الشرط ، ومفهومه أنه مع الشرط لا تحل ،
وأما أصل العقد فلا تعرض في الخبر له بوجه.
وقس على ذلك
غيره من الاخبار التي مثله في هذه العبارة مثل خبر إسحاق الثاني وحسنة الحلبي ونحو
ذلك قوله عليهالسلام في صحيحة محمد بن قيس : «ولا يأخذ أحدكم ركوب دابة أو
عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورقه». فإنه نهى عليهالسلام عن أخذ الزيادة بالشرط.
وبالجملة فإن
الأخبار المتقدم لا دلالة فيها ولو بنوع اشارة على بطلان العقد من أصله ، ولا أعرف
لهم دليلا إلا الإجماع المدعى كما عرفت ، والمسألة لذلك محل
__________________
أشكال .
وثالثها : لا
يخفى أن الزيادة التي يحرم اشتراطها في القرض ـ ويجوز أخذها مع عدم الشرط ـ اما أن
يكون عينية وهو ظاهر ، أو حكمية كدفع الجيد بدل الردى والصحيح بدل المكسور ،
والكبير بدل الصغير ، ولا إشكال في صورة عدم الاشتراط في أن المقرض يملك الزيادة
المذكورة ملكا مستقرا بقبضه ذلك ، لأنها تابعة للعين ، كان ذلك استيفاء لحقه.
وانما الإشكال
في الزيادة العينية كما لو دفع اثنا عشر من عليه عشرة ، فهل يكون الحكم في هذه
الزيادة كالزيادة الحكمية؟ بناء على أنها معاوضة عما في الذمة ، غايته كونه
متفاضلا ، وهو مع عدم الشرط جائزا أو أنه يكون الزائد بمنزلة الهبة ـ فيترتب عليه
أحكامها التي من جملتها الرجوع في العين ما دامت موجودة على بعض الوجوه ، نظرا الى
أن الثابت في الذمة انما هو مقدار الحق ، فالزائد تبرع خالص ، وإحسان محض ، وعطية
منفردة ـ اشكال.
قال في المسالك
بعد ذكر نحو ذلك وبعد أن اعترف بأنه لم يقف فيه على شيء ما صورته : ولعل الثاني
أوجه ، خصوصا مع حصول الشك في انتقال الملك عن مالكه على وجه اللزوم انتهى وهو
جيد.
ويؤيده أن غاية
ما يفهم من الاخبار المتقدمة هو حل ذلك له ، وان كان على كراهية كما قدمنا ذكره ،
وهو لا ينافي جواز الرجوع مع وجود العين ، وأما ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدسسره) في هذا المقام ـ حيث قال ـ بعد نقل حسنة الحلبي
المتقدمة الدالة على أن الرجل يستقرض الدراهم البيض عدد اثم يعطى وزنا الى آخره ـ :
وفيها دلالة على أن الزيادة هبة مستأنفة يجرى فيها أحكامها ، ولا يحتاج إلى صيغة
على حدة ، بل يكفي الإعطاء بطيب النفس عوضا ، فيجري فيه أحكام المعوضات ،
__________________
كما هو مقتضى الأصل والقواعد ، وقد تردد فيه في شرح الشرائع ، ثم رجح ما
رجحناه ، وقال : ولم أقف ثم نقل باقي العبارة كما قدمناه.
ففيه أولا أنه
لا يخفى أن كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم انما هو في الزيادة العينية ، والذي
تضمنه الخبر انما هو الزيادة الحكمية ، فإن الثقل الحاصل في الدرهم انما هو من
قبيل الحكمية ، كما تقدم في دفع الكبير بدل الصغير ، وقد عرفت أنه لا إشكال في
انتقالها وملك المقرض لها.
وثانيا أن
عبارة الخبر «ولو وهبها له كان أصلح» ظاهرة في أن ما تضمنه السؤال والجواب أولا
انما يعطى مجرد الإباحة التي قد بنينا سابقا على دخول الكراهة فيها ، وقد ذكرنا أن
قوله «ولو وهبها» الى آخره إنما أريد به الإشارة إلى دفع الكراهة ، بأن يهبه
الزيادة بصيغة شرعية ، ليخرج بذلك من الكراهة ، فظاهر الخبر انما هو ان الدفع انما
كان على جهة الإباحة والعطية المطلقة ، وأن الامام عليهالسلام ، استدرك ذلك بقوله «ولو دفع ذلك على وجه الهبة لكان
أصلح».
وفيه إشارة الى
أن الذي ذكر في الخبر أولا على غير الوجه الأصلح لا أن الرواية دلت على كون
الزيادة هبة كما فهمه ، وفرع عليه ما ذكره ، فان توسط (لو) في المقام ظاهر في
تغاير ما قبلها ، وما بعدها وأن ما بعدها ، فرض آخر ، بمعنى أن الأصلح أن يكون
كذلك ، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه ظاهر للناظر.
ورابعها : قد
عرفت تحريم اشتراط النفع في القرض مطلقا عينيا كان أو حكميا ، وقال الشيخ في
النهاية : وان أعطاه الغلة وأخذ منه الصحاح شرط ذلك أو لم يشترط لم يكن به بأس ،
وقال أبو الصلاح يجوز القرض بشرط أن يعطيه عوض الغلة صحاحا ، وعوض المصوغ من الذهب
عينا ، ومن الفضة ورقا ، وعوض نقد مخصوص من خالص الذهب والفضة العتيق من نقد غيره
، ويلزم ذلك مع الشرط ، ومع عدمه ليس له الا مثل ما أقرض الا أن يتبرع أحدهما.
وقال ابن حمزة
يصح اشتراط الصحيح عن الغلة ، وكذا قال ابن البراج ، وظاهر كلام أكثر هؤلاء هو
استثناء اشتراط أخذ الصحاح عن الغلة من القاعدة
المتقدمة ، وزاد أبو الصلاح على ذلك ما هو مذكور في عبارته.
وقال ابن إدريس
لا يجوز أن يشترط رد الصحاح عوضا عن المكسرة ، وبه أفتى جملة من تأخر عنه ، وهو
كذلك.
ونقل عن الشيخ
ومن معه الاستناد فيما ذكروه الى ما رواه عن يعقوب بن شعيب في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلة ويأخذ منه الدراهم
الطازجية طيبة بها نفسه قال : لا بأس». وذكر ذلك عن علي عليهالسلام.
ورده الأصحاب
بأنه لا دلالة فيه على ما ادعاه ، إذ لم يذكر فيه الشرط ، وغايته أنه مطلق ، فيجب
تقييده بعدم الشرط ، جمعا بينه وبين ما دل من الاخبار المتقدمة على تحريم الاشتراط
، ولا سيما صحيح محمد بن قيس فإنه نص في المطلوب حيث قال فيه : «من أقرض رجلا ورقا
فلا يشترط الا مثلها».
وظاهر المحقق
الأردبيلي (رحمهالله عليه) هنا الميل الى ما ذكره الشيخ ومن تبعه ، وتعميم
الحكم في المنفعة الحكمية لا بخصوص ما في عبارة النهاية ، بل نقل عن الشيخ والجماعة
المذكورين العموم أيضا ، قال «قدسسره» : وأما اشتراط الزيادة وصفا مثل أن يشترط الصحيح عوضا
عن المكسور فنقل عن الشيخ وجماعة جوازه ، ولأنه مثل اشتراط الجيد عوض الردى ،
وللأصل ، وعدم ظهور دخوله تحت الربا ، وعدم دليل آخر من إجماع ونحوه ، وخبر العامة
ليس بصحيح ، ومعارض بخبر محمد بن مسلم ثم ذكر جملة من الاخبار المتقدمة المطلقة في
جواز
__________________
أخذ نفع القرض ، الى أن قال : نعم يمكن حملها على ما إذا لم يشترط جمعا بين
الأدلة.
ثم أورد جملة
من الروايات الدالة على نفى البأس ما لم يشترط ، ثم ذكر صحيحة محمد بن قيس ، وقال
: هذه صريحة في المنع والتحريم عن الزيادة الوصفية ، الى أن قال : فلو لا الحمل ،
بل ولو لا هذه الرواية لكان قول الشيخ والجماعة قويا بما تقدم ، مع عدم نص صحيح في
المنع في الوصف ، لأن الأخبار المتقدمة إنما دلت بالمفهوم على البأس مع الشرط ،
وهو أعم من الكراهة والتحريم ، فكان الحمل على الكراهة أولى فتأمل.
وفيه أولا أن
ما نقله عن الشيخ والجماعة من عموم الجواز في الزيادة الوصفية مطلقا لا أعرف له
وجها ، وقد قدمنا لك عبائرهم ، وكيف لا والشيخ في النهاية مصرح في غير موضع بتحريم
الزيادة وصفية أو عينية مع الشرط وانما استثنى هذا الفرد الذي قدمنا نقله عنه ، وهو
مدلول روايته التي نقل عنه الاستناد إليها.
وثانيا أنه قد
تقدم في رواية خالد بن الحجاج «انما يفسده الشروط» وهو أعم من أن يكون الزيادة
المشروطة عينية أو وصفية ، ولكن له الجواب هنا بأن الخبر غير صحيح ، كما يشير اليه
قوله «مع عدم نص صحيح في المنع في الوصف».
وثالثا قوله «فكان
الحمل على الكراهة أولى» فإن فيه أن الاولى انما هو العكس ، لان ثبوت البأس
المدلول عليه بالمفهوم في تلك الاخبار وان كان أعم من الكراهة والتحريم كما ذكره ،
الا أن صحيحة محمد بن قيس لما صرحت بالتحريم ـ كما اعترف به ـ فالمناسب حمل هذا
الإطلاق في هذه الاخبار عليها ، وتقييده بها ، كما
__________________
والقاعدة المشهورة والله العالم.
وخامسها : قال
المحقق الأردبيلي (قدسسره) بعد البحث في المسألة وتقديم جملة من الاخبار التي
قدمناها : ثم ان ظاهر الاخبار المتقدمة وجوب أخذ الأجود ، ذكره في التذكرة ، وليس
ببعيد ، وعدم الأخذ بعيد ، وتكليف المقترض بغير الأجود منفي بالأصل ، وبأنه فضل
ماله وزيادة بلا مانع ، فيجب القبول ، ولدخوله تحت مثل المال. نعم يمكن المنع في
الزيادة العينية ، وهنا أيضا لا ينبغي مع عدم المنة ، بل قد يكون المنة له لو قبل
، الى آخر كلامه (زيد في إكرامه).
وفيه نظر أما
أولا فإن ما نقله عن التذكرة ونفى عنه البعد من ظهور الاخبار في وجوب أخذ الأجود ـ
لا اعرف له وجها ، فإن غاية ما تدل عليه الاخبار المشار إليها هو نفى البأس عن أخذ
الأجود ، كما تضمنته صحيحة الحلبي ورواية خالد بن الحجاج ، وحسنة الحلبي ، ورواية أبي الربيع ، وهو ان لم يدل على البأس ـ كما قيل ان نفى البأس ، يشير
إلى البأس ـ لم يدل على الوجوب ، على أن الوجوب حكم شرعي يحتاج الى دليل صريح
واضح.
وأما ثانيا
فلما عرفت فيما تقدم في المورد الأول من أنه يكره للمقرض قبول الزيادة عينية أو
وصفية ، فكيف يتم الوجوب عليه ، وقد أوضحنا ذلك من جملة من الاخبار ، وبذلك أيضا
صرح الشيخ في النهاية حيث أنه ـ بعد أن عد جملة من المواضع التي يجوز قبول الزيادة
فيها عينية أو وصفية مع عدم الشرط ، قال : «والاولى تجنب ذلك أجمع ، وهو مؤيد لما
ذكرناه حيث فهم من الاخبار ما فهمناه.
وأما ثالثا فان
ما ذكره من الوجوه التخريجية زاعما دلاتها على الوجوب حيث قال بعدها : فيجب القبول
عجيب من مثله (قدسسره) فان مثل هذه العلل التخريجية لا تصلح لتأسيس الأحكام
الشرعية ، إذ الأدلة عندنا منحصرة في الكتاب والسنة ، وعلى تقدير زيادتهم الإجماع
ودليل العقل فلا إجماع في المقام ، ولا دليل عقليا ، لانحصار ذلك عندهم في
الاستصحاب والبراءة الأصلية.
__________________
على أن قوله
وتكليف المقترض بغير الأجود منفي بالأصل ، معارض بأن مقتضى القواعد أن التكليف
انما يقع بما استقر في الذمة ، وجواز الزائد على ذلك انما خرج هنا مخرج الرخصة ،
فالأصل ان أريد به بمعنى القاعدة ، فالدليل مقلوب عليه ، كما عرفت ، وغير هذا
المعنى لا وجه لاحتماله هنا ، وبالجملة فإن الكلام المذكور لا يخلو عن مجازفة
وقصور والله العالم.
الموضع الثالث
المشهور بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن القرض يملك بالقبض ، وكثير منهم لم يذكر خلافا في
ذلك ، وقيل : بأنه يملك بالتصرف ، ونقل عن الشهيد (رحمة الله عليه) في بعض حواشيه
أنه نسب هذا القول الى الشيخ ، وفي الدروس نسب القول المشهور الى الشيخ ، وحكى
الأخر بلفظ قيل.
احتجوا للقول
المشهور بأن التصرف فرع الملك وتابع له ، فيمتنع كونه شرطا فيه ، والا لزم الدور.
وتوجيهه أن التصرف فيه لا يجوز حتى يصير ملكا ، لقبح التصرف في مال الغير ، فلو
كان لا يصير ملكا حتى يتصرف فيه للزم توقف التصرف على الملك ، والملك على التصرف
وهو دور.
ورد بمنع تبعية
التصرف للملك ، وعدم تسليم قولكم أن التصرف لا يجوز حتى يصير ملكا ، فإنه يكفي في
جواز التصرف اذن المالك ، كما في غيره من المأذونات ، ولا شك في حصول الإذن
بالإيجاب والقبول ، فيكون ذلك سببا تاما في جواز التصرف ، وناقصا بالنسبة إلى
إفادة الملك ، فإذا تصرف حصل تمام الملك ، كذا ذكره في المسالك.
وأورد عليه
المحقق الأردبيلي (رحمهالله عليه) بأن الاذن انما حصل من المالك بأن يكون مالكا
ويكون عليه العوض لا مطلقا ، كما في سائر المعاوضات فإنها على تقدير بطلانها لا
يجوز التصرف بأن الإذن قد حصل ، ولانه يشكل جميع التصرفات ، لأن الوطي مثلا لا يمكن
الا بالملك أو التحليل ، ومعلوم عدم الثاني ، فإذا لم يكن
الأول لم يجز ، وكذا البيع ونحوه ، فإنه لا يجوز لغير مالكه إلا بالوكالة ،
أو فضولا ان جوز ، ومعلوم انتفاؤهما انتهى وهو جيد.
ثم انه في
المسالك ايضا قال ـ على أثر الكلام المتقدم : ثم انه ان كان التصرف غير ناقل للملك
واكتفينا به ، فالأمر واضح ، وان كان ناقلا أفاد الملك الضمني قبل التصرف بلحظة
يسيرة ، كما في العبد المأمور بعتقه عن الآمر غير المالك. ونقل في الدروس أن هذا
القائل يجعل التصرف كاشفا عن الملك مطلقا ، وعلى هذا فلا اشكال من هذا الوجه بالنسبة
إلى التصرف الناقل انتهى.
واعترضه أيضا
المحقق المتقدم ذكره هنا فقال : على أثر الكلام المتقدم ـ ولا يجعل حصول الملك قبل
التصرف بلحظة كما في العبد المأمور بعتقه للضرورة ، إذ لا ضرورة هنا ، مع أن فيه
ما فيه ، لانه ليس بواضح ، ولا موجب له ، ولهذا ترك المحقق الثاني ذلك التأويل.
وفيه أيضا وقال
: نقول : ان هذا العبد ملك للمأمور بالدليل الشرعي ، وبما نصرف فيه وموجبه ولا يضر
ذلك انتهى.
ثم انه قال في
المسالك ايضا : ويؤيد هذا القول أصالة بقاء الملك على أصله الى أن يثبت المزيل ،
وان هذا العقد ليس تبرعا محضا ، إذ يجب فيه البدل ، وليس على طريق المعاوضات ،
فيكون كالإباحة بشرط العوض ، ولا يتحقق الملك معه الا مع استقرار بدله ،
وكالمعاطاة ، ومع ذلك كله فالعمل على المشهور ، بل لا يكاد يتحقق الخلاف انتهى.
__________________
وظاهر كلامه (قدسسره) هو ان الأقوى بحسب القواعد المقررة بينهم هو هذا القول
، لعدم تمامية الدليل الذي احتج به للقول المشهور بناء على ما قرره ، وتأيد هذا
القول بما ذكره من هذه الأمور ، وأنه انما صار الى القول المشهور من حيث الشهرة ،
بل عدم تحقق المخالف في ذلك.
أقول وعلى هذا
النهج كلام غيره في هذا المقام من علمائنا الاعلام ، والعجب منهم (قدس الله
أرواحهم ونور أشباحهم) في الركون الى هذه التعليلات. وما أكثروا فيها من التطويلات
، وأخبار أهل البيت عليهمالسلام ظاهرة في القول المشهور أتم الظهور ، بل هي كالنور على
الطور ومنها صحيحة زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (ع) : رجل دفع الى رجل مالا قرضا
على من زكاته على المقرض أو على المقترض؟ قال : لا بل زكاتها ان كانت موضوعة عنده
حولا على المقترض ، قال : قلت : فليس على المقرض زكاتها قال : لا يزكى المال من
وجهين في عام واحد ، وليس على الدافع شيء ، لأنه ليس في يده شيء ، إنما المال في
يد الآخذ ، فمن كان المال في يده زكاه ، قال : قلت : أفيزكى مال غيره من ماله؟ قال
: انه ماله ما دام في يده ، وليس ذلك المال لأحد غيره ، ثم قال : يا زرارة أرأيت
وضيعة ذلك المال أو ربحه لمن هو وعلى من هو؟ قلت : للمقترض ، قال : فله الفضل
وعليه النقصان ، وله أن ينكح ويلبس منه ويأكل منه ، ولا ينبغي له أن يزكيه فإنه
عليه جميعا».
فانظر إلى
صراحة هذا الخبر المذكور في الدلالة على القول المشهر بأوضح دلالة ، لا يقترنها
شائبة القصور ، ويؤيده غيره من الاخبار الدالة على وجوب الزكاة على المقترض ، وان
لم تكن بهذه الصراحة.
وبذلك يظهر لك
ان ما قدمنا نقله عنهم كله من قبيل التطويل بغير طائل ، والترديد الذي لا يرجع الى
حاصل ، ولا سيما دعوى قوة هذا القول النادر ، وانما
__________________
أطلنا الكلام بنقله لتحيط علما بالحال ، وأنه لا ينبغي الاقتصار على مراجعة
كلامهم بدون الرجوع الى كتب الاخبار ، فكم لهم من غفلة مثل ما عرفت في هذا المضمار
، ولما في ذلك أيضا من مزيد الفائدة في تشحيذ الذهن بممارسة هذه التحقيقات ، وما
يترتب عليها من الفوائد في أمثال هذه المقامات.
ثم انه بناء
على ما ذكروه من الخلاف فرعوا عليه بأن يظهر فائدة الخلاف في مواضع ، منها جواز الرجوع
في العين ما دامت باقية ، ووجوب قبولها لو ردها المقترض ، وفي النماء قبل التصرف ،
وفي نفقته لو كان حيوانا ، وفي وقت انعتاقه لو كان ممن ينعتق على المقترض.
أقول : ومن
أظهر ذلك أيضا الزكاة الا أنهم لم يذكروها ، ثم انه على تقدير القول المذكور
فالمراد بالتصرف الذي يوجب الملك هل هو التلف للعين أو الناقل للملك ، أو مطلق
التصرف وان لم يزل الملك ، أو كل تصرف يستدعي الملك؟ فلا يكفى الرهن احتمالات ،
وحيث قد عرفت ضعف القول المذكور بما ذكرنا من الصحيحة الصريحة الدالة على القول
المشهور ، فلا فائدة في التطويل بما يتعلق به زيادة على ما ذكرنا للفرض المتقدم
ذكره.
الموضع الرابع
قد عرفت فيما
نقدم أن من جملة ما جعلوه مظهرا للخلاف المتقدم هو جواز الرجوع في العين ما دامت
باقية على القول الغير المشهور ، لأنها لم يخرج عن ملك المقرض ، وعدم الجواز بناء
على المشهور ، حيث أن المستقرض ملكها بالعقد والقبض ، ولم يبق للمقرض إلا عوضها من
القيمة أو المثل ، فليس له الرجوع فيها ، الا أنه يظهر من جملة منهم تفرع ذلك أيضا
على القول المشهور من الملك بمجرد القبض ، فإن القائلين بهذا القول اختلفوا في ذلك
، فقال الشيخ في المبسوط والخلاف : يجوز للمقرض أن يرجع في عين القرض.
وقال ابن إدريس
: ليس له ذلك الا برضا المقرض ، وهو مذهب العلامة والمحقق ومن تأخر عنهما ،
واستدلوا عليه بأنه ملكه بالقرض والقبض ، فلا يتسلط المالك على أخذه منه لانتقال
حقه الى المثل أو القيمة.
احتج الشيخ (رحمة
الله عليه) بأنه كالهبة في جواز الرجوع فيها ، وأجيب بالمنع من المساواة بين
المسألتين ، وتوضيحه أنه قد ثبت ملك المستقرض للعين بالقرض والقبض ، وأن اللازم
للمقرض في الذمة إنما هو المثل أو القيمة ، وثبوت التخيير في الرجوع في الهبة
بدليل خارج لا يستلزم انسحابه الى ما لا دليل فيه.
وعندي فيه
إشكال ، فإن المفهوم من كلامهم وقواعدهم أن الفسخ موجب لرجوع كل شيء إلى أصله ،
لأن معناه إبطال أثر العقد السابق الذي رتبه الشارع عليه قبل العقد ، وهو هنا كونه
ملكا للمقترض ، فإذا لم تخرج العين الموجودة بالفسخ عن ملك المقترض وأن الذي
للمقرض انما هو المثل أو القيمة فهذا مقتضى العقد أولا ، فأي أثر لهذا الفسخ يترتب
عليه.
وبما ذكرناه
يشكل ما ذكره المتأخرون من ابن إدريس ومن تبعه من أن القرض عقد جائز يجوز فسخه من
الطرفين ، ثم يدعون بعد الفسخ أنه ليس له الرجوع الى العين ، وانما يرجع بالمثل أو
القيمة ، وكذا عدم وجوب قبوله مع رد المقترض له على مالكه ، مع أن هذا هو مقتضى
أصل العقد كما عرفت ، فأي أثر ظهر هنا للفسخ.
وبما ذكرنا
يظهر لك أيضا ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني ـ في الاستدلال للقول المشهور ـ حيث
قال : ويمكن الاحتجاج للمشهور بناء على الملك بالقبض بأن الأصل في ملك الإنسان ان
لا يتسلط عليه غيره الا برضاه ، والثابت بالعقد والقبض للمقرض انما هو البدل ،
فيستصحب الحكم الى أن يثبت المزيل ، ولأسند له يعتد به الا كون العقد جائزا يوجب
فسخه ذلك.
وفيه منع ثبوت
جوازه بالمعنى الذي يدعيه ، إذ لا دليل عليه ، وما أطلقوه من كونه جائزا لا يعنون
ذلك ، لانه قد عبر به من ينكر هذا المعنى وهو الأكثر ، وانما
يريدون بجوازه تسلط المقرض على أخذ البدل إذا طالب به متى شاء ، وإذا
أرادوا بالجواز هذا المعنى فلا مشاحة في الاصطلاح ، وان كان مغايرا لغيره من
العقود الجائزة من هذا الوجه ، وحينئذ فلا اتفاق على جوازه بمعنى يثبت به المدعى ،
إذ لا دليل صالحا على ثبوت الجواز له بذلك المعنى المشهور ، فيبقى للملك وما ثبت
في الذمة حكمها الى ان ثبت خلافه وهذا هو الوجه انتهى .
وفيه أنك قد
عرفت بما ذكرنا أن الاستصحاب ـ الذي أعتمده في بقاء الحكم الأول وهو الذي أشار
إليه في آخر كلامه فيبقى للملك الى آخره ـ قد ارتفع وزال بالفسخ ، سواء فسر به
الجواز أم لا والا لم يكن لهذا الفسخ أثر بالكلية ، والمعلوم من القواعد الشرعية
خلافه.
__________________
فالتحقيق أن
كلامه (قدسسره) في هذا المقام يرجع الى القول باللزوم ، وان تستر عنه
بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، وذلك فان مظهر الجواز واللزوم هنا انما هو بالنسبة
الى مال المقرض ، فان قلنا بكون عقد القرض من العقود الجائزة ، ترتب عليه صحة
الرجوع مع وجود العين ، وان قلنا أنه من العقود اللازمة فليس له الا العوض المستقر
في الذمة وان كانت العين موجودة.
وما تستر به من
تسميته جائزا باعتبار استحقاق العوض الذي في الذمة فيرجع اليه كلام قشري ، فإن ذلك
ثابت بأصل العقد ، سواء سمى جائزا أو لازما ، ومجرد التسمية بذلك من غير ثمرة ترتب
عليها لا معنى له ، وبالجملة فإن المستفاد من الصحيحة المتقدمة في سابق هذا الموضع
هو حصول الملك بالقبض ، ومقتضاه أن الثابت في الذمة انما هو العوض من قيمة أو مثل
، وأما أنه بعد رجوع المالك فيما دفعه مع وجود عينه هل له العين أو العوض؟ فلم أقف
فيه على نص.
والموافق
لقواعدهم من أن القرض عقد جائز ـ وأنه ينفسخ بالفسخ من الطرفين ، أو أحدهما ، وأن
الفسخ يوجب رد كل شيء إلى أصله ، لأنه يرجع الى إبطال العقد السابق ـ هو ما ذكره
الشيخ من الرجوع الى العين مع وجودها ، والا فالعوض الا أن أكثرهم كما عرفت على خلافه ، من أنه انما يرجع
الى العوض وان كانت العين موجودة ، ولا مخرج من ذلك الا بالقول بأن العقد لازم ،
وانه بالفسخ يرجع الى العوض الذي في الذمة ، كما نبه عليه شيخنا المشار اليه آنفا
، مع أنهم لا يقولون
__________________
باللزوم.
وكيف كان فإن
المسألة لعدم النص مع تدافع كلامهم في المقام محل اشكال والله العالم.
الموضع الخامس :
قد عرفت ان المشهور ان القرض من العقود الجائزة التي يجوز الرجوع فيها من الطرفين
بل ادعى عليه الإجماع ، وعلى هذا فلو شرط التأجيل فيه لم يلزم ، وبذلك صرحوا أيضا
، وكذا كل شرط سائغ ، وان كان يستحب الوفاء بذلك ، وعللوا الأول بأن القرض تبرع ،
والمتبرع به ينبغي له الخيار في تبرعه متى أراد الرجوع إليه في المجلس أو غيره ،
الا أن يشترط التأجيل في عقد آخر لازم ، أما في نفس عقد القرض فلا ، لأنه جائز فلا
يلزم ما شرط فيه ، حيث أن الشرط جزء من العقد يتبعه في لزومه وجوازه.
ويظهر من المحدث
الكاشاني في المفاتيح القول بلزوم العقد المذكور ، ولزوم التأجيل متى اشترط في
العقد ، وهو الظاهر من الأدلة الشرعية كما ستقف عليه.
والى ذلك أيضا
يميل كلام المحقق الأردبيلي (رحمهالله) وظاهر الفاضل الخراساني الميل الى ذلك ايضا.
والذي وقفت
عليه من الأدلة الشرعية في المقام مما يدخل في سلك هذا النظام قوله عزوجل «إِذا تَدايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»
وهي شاملة
للسلم والنسية والقرض ، ونحوها من الديون ورواية الحسين بن سعيد قال : «عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ثم مات
المستقرض أيحل مال القارض بعد موت المستقرض منه؟ أم لورثته من الأجل ما للمستقرض
في حياته فقال : إذا مات فقد حل مال القارض».
__________________
والتقريب فيها
من وجهين أحدهما ـ تقريره عليهالسلام للسائل في أن الأجل لازم في القرض مطلقا بل ظاهره كون ذلك في عقد القرض ، وثانيهما ـ دلالته
بمفهوم الشرط الذي هو حجة عند المحققين ، وعليه دلت الاخبار ايضا على صحة التأجيل
ورواية ثواب
الأعمال المتقدمة في صدر المقصد وقوله عليهالسلام «من أقرض قرضا وضرب له أجلا» الحديث.
وما ذكره الرضا
عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي حيث قال «وروى من أقرض قرضا ولم يرد عليه عند انقضاء
الأجل كان له من الثواب في كل يوم صدقة دينار».
وهذان الخبران
ـ كما ترى كالاية والخبر المتقدم ـ صريحان في صحة التأجيل في عقد القرض ، وارتكاب
التأويل فيها بأن الأجل قد وقع في عقد آخر لازم لما يتجشمه من له أدنى فهم وروية
بمعرفة سياق الكلام ، ومتى ثبت صحة الشرط ولزومه ثبت لزوم أصل العقد لاتفاقهم على
أن لزوم الشرط تابع للزوم العقد ، وهم انما منعوا من لزوم التأجيل في عقد القرض
بناء على اتفاقهم على جوازه ، وحملوا رواية الحسين بن سعيد على الاستحباب تفاريا
من طرحها.
وفيه أن الحمل
على الاستحباب فرع وجود المعارض ، وليس الا مجرد اتفاقهم المدعى في المقام مع تأيد
الرواية المذكورة بما ذكرنا من عموم الآية وخبري ثواب الأعمال وكتاب الفقه وغيرهما
مما ستعرف إنشاء الله تعالى.
قال المحدث
الكاشاني (قدسسره) بعد نقل نحو ما قدمنا عنهم : «وفيه نظر» مع أنه ينفيه
عمومات الوفاء بالعقود ، والتزام الشروط ، وخصوص «من مات وقد أقرض إلى أجل يحل» ، وأيضا ينافيه قول الأكثر بعدم جواز
الارتجاع
__________________
كما مر ، الا أن يقال : المراد بالجواز تسلط المقرض على أخذ البدل متى
شاء
وفيه أنه لا
فرق بينه وبين اللازم حينئذ ، غير أنه لا يقع مؤجلا ، وفيه كما ترى ، مع أن قوله
إلى أجل والحديث المذكور يناديان بخلافه ، مضافا الى العمومات فان كان إجماعا والا
فالعمل على الظواهر انتهى.
وهو جيد وأيده
المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) ايضا بما دل على وجوب الوفاء بالوعد ، قال في
شرح الإرشاد ـ بعد أن نقل عنهم الاستدلال على بطلان اشتراط التأجيل في العقد
بالأصل مع عدم موجبه ، إذ القول ليس بموجب عندهم والإجماع : ـ ما ملخصه ولكن نفهم
وجوب الوفاء بالوعد من العقل والنقل ، الا أن عدم العلم بالقول به يمنع عن ذلك ،
والا كان القول به جيدا كما نقل عن بعض العامة الى أن قال بعد نقل كلام لهم في البين : والظاهر أن
دليله الإجماع ، والأصل مع عدم الموجب ، كما مر ، الا أن ما قلناه مما يدل على
وجوب الوفاء بالوعد والعقد مثل «أَوْفُوا»
«ولِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ» «والمسلمون عند شروطهم» وغير ذلك يدل على اللزوم ، ولو وجد القائل به
لكان القول به جيد جدا ، وان لم يكن بعدم الخروج عن قولهم ايضا دليل واضح ، إذ
الإجماع غير واضح
__________________
ولا دليل غيره ، الا أنه يحتاج إلى جرأة انتهى ملخصا.
أقول : لا يخفى
أن ما ذكره هنا وكرره من توقف القول ـ بعد وجود الدليل عليه على قائل بذلك من
المتقدمين ـ ضعيف واه ، بل أوهن من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ، إذ لا يخفى
على الخائض في الفن والمتدبر لما وقع للأصحاب سيما المتأخرين من الاختلاف ، وكثرة
الأقوال في المسائل الشرعية أنهم لم يجروا على هذه القاعدة التي ذكرها.
وتوضيح ذلك هو
أنه لا يخفى أن أول من فتح هذا الباب من التفريع في الأحكام وكثرة الأقوال هو
الشيخ والمرتضى (رضى الله عنهما) ، وقد نقل بعض الأصحاب انحصار الفتوى في زمن
الشيخ وبرهة من الزمان بعده فيه (قدسسره) ولم يبق الا حاك عنه وناقل حتى انتهت النوبة الى ابن
إدريس ، ففتح باب الطعن على الشيخ ، ثم انتشر الخلاف في المسائل الشرعية ، وتعددت
الأقوال فيها على ما هي عليه الآن ، حتى أنك لا تجد حكما من الأحكام الا وقد تعددت
فيه أقوالهم بل من الواحد منهم في كتبه الا الشاذ النادر منها ولو أنهم اتفقوا على
كلام الشيخ والمرتضى اللذين هما أول من فتح هذا الباب لما اتسعت الدائرة الى هذا
التعدد في الأقوال الموجودة الان ، فكيف استجاز هذا المحقق المنع من الفتوى بما
قام عليه الدليل ، لعدم قائل به من المتقدمين ، مع أن من تقدمه من المتأخرين لم
يلتزموا به ، ولم يقفوا عليه ،
ولله در شيخنا
الشهيد الثاني (طيب الله مرقده) حيث قال في المسالك في مسئلة «ما لو أوصى له بأبيه
فقبل الوصية» ، بعد الطعن في الإجماع ونعم ما قال : وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه
المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل. التي ادعوا فيه الإجماع ، إذا قام
الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلة المتقدم متسامحة
بين الناس دون المتأخر انتهى وهو جيد رشيق كما لا يخفى على من نظر بعين التحقيق.
وبالجملة فإن
مقتضى ما ذكرنا من الآية والاخبار والمؤيدات المذكورة هو صحة التأجيل في القرض
ولزوم عقده ، وليس لها مقابل يمنع من العمل بها ، ويوجب ارتكاب التأويل فيها سوى
مجرد دعويهم الاتفاق على الجواز ، وعدم صحة التأجيل حيث أنه لا يصح تأجيل الحال.
قال في الشرائع
: «ولو شرط التأجيل في القرض لم يلزم ، وكذا لو أجل الحال لم يتأجل ، وفيه رواية
مهجورة يحمل على الاستحباب» ، وأشار بها الى رواية الحسين بن سعيد المتقدمة.
وفيه زيادة على
ما عرفت أن ثبوت الحلول له مع إطلاق العقد لا ينافي التأجيل مع اشتراطه ، فإن
إطلاق عقد البيع يقتضي حلول الثمن الا أن يشترط تأجيله ، وبعين ذلك يقال في القرض
، فإنه عقد أوجب انتقال العين المقترضة إلى المقترض وثبوت عوضها في ذمته حالا ،
ولا مانع من اشتراط تأجيله إذا حصل التراضي عليه ، وبالجملة ان مجرد كونه حالا لا
ينافي التأجيل إذا اشترط.
ثم ان الذي
يظهر من شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هو لزوم العقد ، ولزوم شرط التأجيل ، حيث
قال في شرح قول المصنف : «ولو شرط التأجيل في القرض» الى آخره : ويجيء على ما
قررناه من لزومه على ذلك الوجه احتمال لزوم هذا الشرط ، مضافا الى عموم قوله صلىاللهعليهوآله «المؤمنون عند شروطهم». وغير ذلك مما دل على لزوم ما شرط في العقد اللازم ،
إذ ليس هذا العقد على حد العقود الجائزة ليقطع فيه بعدم لزوم الشرط ، ولا على حد
اللازمة ليلحقه حكمها ، ويمكن على هذا أن يرجع الى عموم الأدلة الدالة على لزوم
الالتزام بالشرط ، والوفاء بالعقود انتهى.
أقول : أشار
بقوله ما قررناه الى ما قدمنا نقله عنه في سابق هذا الموضع من قوله «ويمكن
الاحتجاج للمشهور» الى آخره وقد عرفت ما فيه ، وأنه يرجع
__________________
في الحقيقة إلى القول بلزوم عقد القرض كما اخترناه ، وفاقا لمن ذكرناه ،
وتسميته له جائزا باعتبار ما ذكره من الرجوع الى العوض الذي في الذمة كلام شعري لا
ثمرة له لما عرفت آنفا.
ثم ان قوله «انه
ليس على حد العقود الجائزة ولا اللازمة» لا أعرف له معنى بالنسبة إلى سلب اللزوم
عنه ، أما سلب الجواز فقد عرفته مما قدمناه من الاخبار ، ومما ذكره أيضا ، وأما
سلب اللزوم فلا أعرف له مستندا الا مجرد دعواهم ذلك ، والا فظواهر الأدلة التي
قدمناها والمؤيدات التي ذكرناها كلها شاهدة باللزوم.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن المشهور أنه متى وقع اشتراط تأجيل القرض في عقد لازم فإنه يصح الشرط
المذكور ، وانما منعوا من ذلك في عقد القرض من حيث أن عقد القرض من العقود الجائزة
، فلا يلزم الشرط ، لانه يتبع في اللزوم وعدمه ، العقد في لزومه وجوازه ، وحيث كان
العقد عندهم غير لازم فكذا ما اشتمل عليه ، بخلاف العقد المتفق على لزومه ، كالبيع
بأن يبيعه شيئا ويشترط في متن العقد تأجيل ما يستحقه عنده من القرض أو الدين ،
وقيل : بالعدم ، بل ان اشتراطه في العقد اللازم يقلب اللازم جائزا.
قال في الدروس
: ولو شرط تأجيله لم يلزم ، ولو شرط تأجيله في عقد لازم قال الفاضل : يلزم تبعا
للازم ، ويشكل بأن الشرط في اللازم يجعله جائزا ، فكيف ينعكس ، وفي رواية الحسين
بن سعيد «في من اقترض إلى أجل فمات يحل» وفيها اشعار بجواز التأجيل ، فيمكن حملها
على الندب انتهى.
أقول : الحمل
على الندب فرع وجود المعارض ، مع أنك عرفت تأيد الرواية المذكورة بالآية
والروايتين المتقدمتين ، وغيرهما من المؤيدات المتقدمة الظاهر جميعه في جواز
التأجيل ، فلا التفات الى ما ذكره ، والمراد من قولهم أن الشرط الجائز في العقد
اللازم يقلب اللازم جائزا ، وجعلوا ذلك قاعدة كلية يعنى أن المشروط عليه لو أخل
بالشرط تسلط الأخر على فسخ العقد المشروط فيه ، وفيه أن ذلك هو أحد القولين
في المسألة كما تقدم ذكره في المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام
الخيار من الفصل الثاني الخيار ، والذي اخترناه ثمة وبه صرح
جملة من الأصحاب هو أنه يجب الوفاء بالشرط ، ويأثم بتركه ، ويجبر على الوفاء به لو
امتنع ، ولو برفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، فإن تعذر تحصيل الشرط من جميع الوجوه
تسلط على الفسخ ان شاء ، وهذا الأمر العارض للعقد لا ينافي لزومه في أصله ، وبذلك
يحصل الجمع بين الحقين ، والأدلة التي في البين من الجانبين.
الموضع السادس :
قد قرروا لما يصح إقراضه ضابطة ، وهي كلما يضبط وصفه وقدره ، فإنه يجوز إقراضه ،
فيجوز إقراض الذهب والفضة وزنا ، والحنطة والشعير كيلا ووزنا فلو اقترض شيئا من
ذلك من غير الاعتبار بما يعتبر به لم يفد الملك ، ولم يجز له التصرف فيه وان
اعتبره بعد ذلك ، ولو تصرف فيه قبل الاعتبار ضمنه ، ولا طريق الى التخلص منه الا
بالصلح ، لكونه مجهولا ، ويجوز اقتراض الخبز وزنا بلا اشكال ، وكذا يجوز عددا ولا
يضر التفاوت اليسير المتسامح به عادة بين أفراده.
ويظهر من
التذكرة أنه إجماعي عندنا ، ونحوه البيض والجوز ، وشرط في الدروس في قرض الخبز
عددا عدم التفاوت ، والا اعتبر وزنا ، ولعله محمول على التفاوت الذي لا يتسامح به
عادة وعرفا ، مع أنه قد روى الصدوق (عطر الله مرقده) في الفقيه عن الصباح بن سيابة
قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان عبد الله بن أبى يعفور أمرني أن أسألك قال : انا
نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه ، أو أكبر فقال عليهالسلام : نحن نستقرض الجوز الستين والسبعين عددا فيه الصغيرة
والكبيرة فلا بأس».
وروى الشيخ عن
إسحاق بن عمار قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : استقرض
__________________
الرغيف من الجيران ونأخذ كبيرا ونعطي صغيرا أو نأخذ صغيرا ونعطي كبيرا؟ قال
: لا بأس».
وعن غياث عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام قال : «لا بأس باستقراض الخبز».
والروايتان
الأولتان مصرحتان بالجواز مع التفاوت ، فيجب حمل كلامه (قدسسره) على التفاوت الزائد على المعتاد ، ثم ان الثابت في
الذمة في المثلي هو المثل ، وفي القيمي هو القيمة.
وضابط الأول هو
ما يتساوى أجزاؤه في القيمة والمنفعة وان تفاوتت بعض صفاته ، بمعنى أن قيمة نصفه
تساوى قيمة النصف الأخر ، ويقوم مقامها في المنفعة ، وهكذا كل جزء بالنسبة إلى
نظيره كالحبوب والادهان ، والظاهر أن ذلك بناء على الغالب ، والا فإن الحنطة مثلا
قد يتفاوت أفرادها وأوصافها ، فإنا نرى بعض أفراد الحنطة ليس قيمته كقيمة غيره
وهكذا الادهان.
وضابط الثاني
هو ما يختلف أجزاؤه في القيمة والمنفعة كالحيوان ، فالمثلي يجب قبول مثله ،
والظاهر أنه يجب قبول عين ماله بالطريق الأولى ، لأنه مخير في جهات القضاء بين
العين والمثل ، وان كان الثابت في الذمة انما هو المثل ، ولو تعذر وجود المثل رجع
الى القيمة ، وهل هي عبارة عن قيمته يوم القرض ، أو التعذر ، أو المطالبة؟ أوجه :
اختار في المسالك منها الأخير ، قال : لانه وقت الانتقال إلى القيمة ، لأن الثابت
في الذمة أنما هو المثل الى أن يطالب به.
أقول : الظاهر
أنه ينبغي تقييد هذا القول باقتران المطالبة بالتسليم بمعنى أنه لما طالبه بالمثل
وتعذر وسلم إليه القيمة في ذلك الوقت ، لانحصار الحق فيها ، والا فلو فرضنا أنه
طالب ولم يسلم اليه ثم اتفق وجود المثل فالظاهر انحصار الحق فيه ، لا في القيمة ،
والظاهر أن مراد هذا القائل ما ذكرناه.
ونقل في
المختلف عن ابن إدريس أنه مع التعذر فالواجب القيمة يوم المطالبة
__________________
ثم قال : والأجود يوم الدفع ، ثم احتج على ذلك بأن الثابت في الذمة المثل ،
ولا يبرئ الا بالمعاوضة عليه انتهى. وفيه تأييد لما ذكرناه من أن مجرد المطالبة لا
يوجب الانتقال إلى القيمة استصحابا لبقاء ما كان ثابتا قبلها الى وقت التسليم ،
فإنه هو الذي يوجب الانتقال إلى القيمة كما عرفت.
وعلل الوجه
الأول بسبق علم الله تعالى بتعذر المثل وقت الأداء ، فيكون الواجب حينئذ انما هو
القيمة يومئذ. ورد بأنه لا منافاة بين وجوب المثل وقت القرض طردا للقاعدة
الإجماعية ، والانتقال إلى القيمة عند المطالبة لتعذره.
أقول ويؤيده ان
الأحكام الشرعية لا يناط بعلم الله سبحانه ، ولا بالواقع ونفس الأمر ، وانما تبتنى
على الظاهر من حال المكلف ويسره وعسرة ، وقدرته وعدم قدرته وعلمه وجهله ، ونحو
ذلك.
وعلل الوجه
الثاني بأنه وقت الانتقال الى البدل الذي هو القيمة. ورد بأن التعذر بمجرده لا
يوجب الانتقال إلى القيمة لعدم وجوب الدفع ، وحينئذ فيستصحب الواجب الى أن يجب
دفعه بالمطالبة ، فحيث لم يوجد وقت المطالبة ينتقل إلى القيمة ، وأنت خبير بما في
هذه التعليلات من عدم الصلاحية لتأسيس الأحكام الشرعية مع فرض سلامتها من
المناقشات ، وان كان القول بالقيمة وقت المطالبة والتسليم أقرب الى الاعتبار ، وقد
تقدم الكلام في نظير هذه المسئلة ، هذا بالنسبة إلى المثلي.
وأما القيمي
فالكلام فيه في موضعين : أحدهما في بيان ما هو الواجب في عوضه وفيه أقوال : أحدها
ـ وهو المشهور قيمته مطلقا ، لعدم تساوى أجزائه واختلاف صفاته ، فالقيمة فيه أعدل.
وثانيها ـ ما
أشار إليه في الشرائع بعد ذكر القول الأول بقوله : «ولو قيل يثبت مثله أيضا كان
حسنا» وظاهره عدم وجود القائل به ، وان كان ظاهر كلامه اختياره ، واعترف في
المسالك بأنه لا قائل به من أصحابنا.
والمراد من هذا
القول ضمانه بالمثل مطلقا ، لان المثل أقرب الى الحقيقة ،
وربما احتج عليه بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة أخرى» . وحكم بضمان عائشة إناء حفصة وطعامها لما كسرته ، وذهب
الطعام بمثلهما» قال في المسالك : والخبران عاميان ، ومع ذلك فهما حكاية حال لا
تعم ، فلعل الغريم رضى بذلك ، وموردهما مطلق الضمان ، وعورضا بحكمه صلىاللهعليهوآله بالقيمة في المعتق الشقص انتهى.
وثالثها المثل
الصوري فيما يضبطه الوصف ، وهو ما يصح السلم فيه كالحيوان والثياب ، وضمان ما ليس
كذلك بالقيمة كالجواهر والقسي ، اختاره العلامة في التذكرة محتجا على الأول بأن النبي
صلىاللهعليهوآله «اقترض بكرا ورد بازلا». وأنه استقرض بكرا وأمر برد مثله.
وأجيب بأن فيه
على تقدير صحة السند ان مطلق الدفع أعم من الوجوب ، ولا شبهة في جواز ذلك مع
التراضي كيف وقد زاده خيرا فيما دفع.
أقول ما ذكره
من الخبرين المذكورين لا وجود له في أخبارنا ، بل الظاهر أن ذلك من طريق العامة ،
وهم كثيرا ما يحتجون الى مثل هذه الاخبار في موضع الضرورة ، مع ردهم الأخبار
المروية في الأصول المعتمدة ، بزعم أنها ضعيفة باصطلاحهم المحدث ، وصورة الرواية
العامية على ما نقله بعض المحققين أن النبي صلىاللهعليهوآله «اقترض قرضا من رجل بكرا فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقتضي
الرجل بكره ، فرجع أبو رافع وقال : لم أجد فيها الا جملا جبارا رباعيا ، فقال : أعطه
إياه ان خير الناس أحسنهم قضاء». ومما ذكرنا يظهر أن أظهر الأقوال هو الأول.
الموضع الثاني
: أنه على اعتبار القيمة مطلقا كما هو الأول من الأقوال المتقدمة أو على بعض
الوجوه كما تضمنه القول الثالث ، فهل المعتبر قيمته وقت القبض أو وقت القرض؟ قولان
: اختار أولهما المحقق في الشرائع ، وثانيهما العلامة في القواعد.
__________________
وعلل الأول
بأنه وقت الثبوت في الذمة ، بناء على ما هو المشهور من أن القرض يملك بالقبض ،
وعلل الثاني في شرح القواعد بذلك ايضا.
ورد بأنه غير
واضح ، إذ لا انتقال إليها قبل القبض ، ويمكن الجمع بين القولين بناء على ما هو
الغالب من القبض بعد صيغة القرض من غير فاصل ، أو جعل القبض قبولا بناء على
الاكتفاء بالقبول الفعلي كما هو الغالب ايضا ، فيحمل القرض في القول الثاني على
القبض لعدم تخلفه عنه ، بناء على ما هو الغالب من كون القرض مستلزما للقبض.
والا فلو أريد
به مجرد الصيغة وان تأخر القبض فبطلانه أظهر من أن يذكر ، لان الملك لا يترتب على
مجرد الصيغة من دون قبض اتفاقا نصا وفتوى ، ومتى لم يحصل الملك لم يستقر القيمة في
الذمة ، ويأتي على القول بأنه انما يملك بالتصرف الانتقال إلى القيمة وقت التصرف ،
حيث ان الملك لا ينتقل الا به ، ولا اعتبار بالقيمة يوم المطالبة هنا قولا واحدا ،
الا على القول بضمان المثل وتعذره ، فيعتبر يوم المطالبة على الوجه الذي قدمنا
بيانه والله العالم.
تذنيبان
الأول : قد صرح
الأصحاب (رضوان الله عليهم) بجواز إقراض الجواري ، قال في المسالك لا خلاف فيه ،
للأصل والضبط ، وجواز السلف فيهن فجاز قرضهن كالعبيد ، وخالف في ذلك بعض العامة مع
اطباقهم على جواز اقتراض العبيد ، والجارية التي لا يحل وطؤها بنسب أو رضاع أو
مصاهرة : انتهى. مع أن الشهيد في الدروس نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط انه قال
: لا نص لنا ولا فتيا في إقراض الجواري وقضية الأصل الجواز. انتهى.
والذي وقفت
عليه في نسخة كتاب المبسوط وهي نسخة صحيحة ما هذه عبارته لا اعرف نصا لأصحابنا في
جواز إقراض الجواري ولا في المنع ، والأصل جوازه ، وعموم الاخبار في جواز القرض
يقتضي جوازه ، فلعل العبارة المنقولة
في الدروس صورة ما في الخلاف أو نقل بالمعنى.
وكيف كان فان
كلامه (قدسسره) ظاهر في أن هذه الشهرة التي ادعى في المسالك انها
إجماع انما هي من الشيخ ومن تأخر عنه ، واما ما ذكره في المبسوط من ان عموم
الاخبار في جواز القرض يقتضي الجواز ، فلا يخلو من اشكال ، إذ غاية ما تدل عليه
ترتب تلك الأحكام المذكورة فيها على القرض ، فلا بد أولا من معرفة ما يجوز قرضه
وما لا يجوز ، ليحمل عليه ذلك الإطلاق ، وترتب تلك الأحكام ويقضى عنه.
وبالجملة
فالمسألة لخلوها عن النص الواضح غير خالية عندي من الاشكال سيما مع ما ورد عنهم عليهمالسلام في تأكيد الاحتياط في الفروج.
ثم ان مقتضى ما
ذكروه من جواز اقتراض الجواري انه يملكها بالقبض ، كما هو المشهور ، فإنه يحل له
وطئوها كما يباح له غيره من المنافع ، وعلى القول الأخر من توقف الملك على التصرف
لا يحل ، ولو كان ممن ينعتق عليه ايضا بالملك انعتقت عليه بناء على ذلك.
ثم انه لو طالب
المقرض بحقه بنى الكلام في ذلك على ما تقدم من الواجب في عوض القيمي هل هو القيمة
مطلقا ، أو ضمان مثله ، أو التفصيل.
قال في المسالك
: وأولى بالجواز لو رد العين ، لان الانتقال إلى القيمة انما وضع بدلا عن العين ،
فإذا أمكنت ببذل المقترض كانت أقرب الى الحق من القيمة انتهى.
ولو حملت من
المقترض امتنع ردها ، وتعينت القيمة أو المثل على الخلاف المتقدم ، ولو ظهر النقص
فيها تعينت القيمة أيضا الا ان يتراضيا بالأرش.
الثاني ـ قال
في الدروس لو ظهر في العين المقترضة عيب فله ردها ولا أرش ، وان أمسكها فعليه
مثلها أو قيمتها معيبة ، وهل يجب اعلام المقترض الجاهل بالعيب؟ عندي فيه نظر ، من
اختلاف الأغراض وحسم مادة النزاع ، ومن قضية الأصل.
نعم لو اختلفا
في العيب حلف المقرض مع عدم البينة ، ولو تجدد عنده عيب آخر منع من الرد ، الا ان
يرضى المقرض به مجانا بالأرش ، انتهى.
الموضع السابع :
قال الشيخ في النهاية : من أقرض غيره الدراهم ثم سقطت تلك الدراهم وجازت غيرها لم
يكن له عليه الا الدراهم التي أقرضها إياه أو سعرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه ،
وكذا قال ابن البراج ، وابن إدريس.
وقال الصدوق في
المقنع : وان استقرضت من رجل دراهم ثم سقطت تلك الدراهم وتغيرت فلا يباع بها شيء
فلصاحب الدراهم ، الدراهم التي تجوز بين الناس.
وقال في كتاب
من لا يحضره الفقيه : كان شيخنا محمد بن الحسن يروى حديثا «في أن له الدراهم التي
تجوز بين الناس» ، عقيب رواية يونس عن الرضا عليهالسلام ، «أن له الدراهم الاولى» ثم قال الصدوق : والحديثان
متفقان غير مختلفين فمتى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له الا ذلك
النقد ، ومتى كان له على رجل دراهم بوزن معلوم بنقد غير معروف فإنما له الدراهم
التي تجوز بين الناس.
وقال ابن
الجنيد : من أعطى رجلا له عليه دنانير عروضا من فلوس ، وغيرها أو دراهم في وقت ثم
تغيرت الأسعار حسب المعطى على الآخر سعر يوم أخذه ، لأن ذلك من ماله ، فان كان ما
أعطاه قرضا فارتفعت الفلوس كان على المستقرض رد ما أخذه على من أقرضه لا برأس ماله
، ولا قيمته يوم القرض ولا يختار المستقرض الا أن يعطى ما ينفق بين الناس كما أخذ
ما ينفق بين الناس.
وقال ابن إدريس
في موضع آخر : من كان له على انسان دراهم أو دنانير أو غيرهما من السلع جاز له أن
يأخذ مكان ماله من غير الجنس الذي له عليه بسعر الوقت ، فان كانت دراهم وتعامل
الناس بغيرها ، وأسقط الاولى السلطان فليس له الا مثل دراهمه الاولى ، ولا يلزمه
غيرها مما يتعامل الآن به الا بقيمتها من غير الجنس ، لانه لا يجوز بيع الجنس
بالجنس متفاضلا.
__________________
وقال العلامة
في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والمعتمد أن نقول : لصاحب الدراهم من النقد
الأول ، فإن تعذر فقيمته الآن من غير الجنس ، لنا انها من ذوات الأمثال وحكم المثل
ما قلناه.
أقول : ومنشأ
اختلاف هذه الأقوال اختلاف ظواهر الأخبار المتعلقة بهذه المسألة :
ومنها ما رواه الكليني
والشيخ (نور الله مرقديهما) عن يونس قال : «كتبت الى أبى الحسن الرضا عليهالسلام ، ان لي على رجل ثلاثة آلاف درهم ، وكانت تلك الدراهم
تنفق بين الناس تلك الأيام ، وليست تنفق اليوم ، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو
ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب عليهالسلام لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس ، كما أعطيته ما ينفق
بين الناس».
وما رواه في
التهذيب والفقيه عن يونس قال : «كتبت الى ابى الحسن الرضا عليهالسلام ، أنه كان لي على رجل دراهم وأن السلطان أسقط تلك
الدراهم ، وجائت دراهم على تلك الدراهم الاولى ولها اليوم وضيعة ، فأي شيء لي
عليه؟ الاولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان فكتب عليهالسلام الدراهم الاولى».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن صفوان في الصحيح قال : «سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض
دراهم من رجل وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت ولا يباع بها شيء ، ألصاحب الدراهم
الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ قال : فقال : لصاحب الدراهم
الدراهم الاولى».
والشيخ رحمهالله قد جمع بين هذه الاخبار بحمل ما ينفق بين الناس في
الخبر الأول على معنى قيمة ما كان ينفق أولا وكذلك أول الدراهم الاولى في الخبرين
الأخيرين بقيمة الدراهم الاولى دفعا للتنافي. قال : لانه يجوز ان تسقط الدراهم
الأولة حتى لا يكاد يؤخذ ، فلا يلزم أخذها وهو لا ينتفع بها وانما له قيمة الدراهم
الأولة وليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال : انتهى.
__________________
ولا يخلو من
بعد ، لعدم قرينة يونسه بهذا المضاف الذي قدره في الكلام ، بل السياق ظاهر في أن
الجواب وقع على حسب السؤال المتعلق بعين كل من النقد الأول أو الثاني ، وان أجيب
في الخبر الأول بالنقد الثاني ، وفي الأخيرين بالنقد الأول.
واما ما جمع به
الصدوق فأبعد ، لعدم القرينة المونسة بهذا التفصيل في شيء من اخبار المسألة ، مع
انه يرد عليه لزوم الربا في صورة ما ان كان له عليه بوزن معلوم ونقد غير معروف ،
فإنه حكم بأخذ الدراهم التي تجوز بين الناس. وربما أمكن التفاوت بالزيادة والنقصان
بينها وبين ما في ذمته ، فإنه متى كان له في ذمته ألف درهم بوزن معلوم من تلك
الدراهم الأولة وأخذ عوضها ألف درهم من هذه الأخيرة فربما حصل الزيادة والنقصان
بين الاولى والثانية ، فيلزم الربا الا ان يحمل كلامه على أخذ الثانية وزنا ايضا ،
لكنه خلاف ظاهر كلامه.
والموافق
للقواعد ـ وهو ظاهر كلام من عدا الصدوق في المقنع والفقيه وابن الجنيد ـ هو انه
ليس له الا الاولى ان وجدت ، والا فقيمتها ، لكن من غير ذلك الجنس أو منه مع
التساوي حذرا من الربا ، لان ذلك حكم المثلي كما تقدم ، وتخرج الروايتان الأخيرتان
شاهدا على ذلك ويبقى الكلام في الرواية الاولى وقد عرفت ما في جمع الشيخ والصدوق
من البعد
والعلامة في
المختلف بعد ان احتج بما قدمنا نقله احتج بالخبرين الأخيرين ثم نقل عن الصدوق
الاحتجاج بالرواية الاولى وأجاب عنها بضعف السند وأطال في الطعن به ثم ذكر جواب
الشيخ عنها بالحمل على أخذ ما ينفق بين الناس على جهة القيمة عن الدراهم الاولى.
وفيه ان قوله عليهالسلام كما أعطيته ما ينفق بين الناس لا يخلو من المنافرة لذلك
__________________
وبعض محدثي متأخري المتأخرين حمل الروايتين الأخيرتين على القرض ، كما صرح به في
رواية صفوان ، قال : لئلا يحصل الربا ، وحمل الاولى على مهر الزوجة أو ثمن المبيع
، قال : لان المطلق ينصرف إلى الرائج .
وفيه أولا أن
ظاهر الرواية الاولى أن ذلك كان قرضا ايضا ، حيث قال عليهالسلام «كما أعطيته ما ينفق بين الناس» فحملها على ما ذكره من ثمن المبيع ومهر
الزوجة خروج عن حاق لفظها وظاهر سياقها.
وثانيا بأن
المبلغ الذي استقر في الذمة حال البيع انما هو رائج ذلك الوقت لأن الإطلاق ينصرف
اليه كما تقدم بيانه ، فإذا سقط ولم يتعامل به وظهرت دراهم
__________________
آخر في المعاملة رجع حكمه الى حكم القرض ، ولم أقف لهم على كلام هنا في ثمن
المبيع ومهر الزوجة لو كسرت سكة المعاملة الأولى ـ التي انصرف العقد إليها ، وظهرت
سكة أخرى ـ في أن له الأولى أو الأخيرة؟ الا أن مقتضى قواعدهم هو ما ذكرناه ، من
رجوعه بالأخرة إلى حكم القرض.
وبالجملة فإن
العمل بمقتضى الخبرين الأخيرين هو الأوفق بالقواعد الشرعية ، ويبقى الكلام في الرواية
الاولى ولا يبعد خروجها مخرج التقية التي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية ،
فإن جميع ما ذكر من المحامل المتقدمة لا يخلو من تعسف وبعد عن ظواهر الأخبار
المذكورة كما عرفت ، والاحتياط في المسألة يقتضي الرجوع الى الصلح من الطرفين ،
وأحوط منه الإبراء بعد ذلك من الجانبين والله العالم بحقائق أحكامه.
المقصد الثاني في الدين
والبحث فيه يقع
في مقامين الأول ـ في الدين المطلق ، وفيه مسائل.
الأولى ـ قد
صرح جملة من الأصحاب بأنه لو غاب المدين وجب نية القضاء والعزل عند امارة الموت ،
ولو آيس منه تصدق به عنه ، وان قطع بموته وانتفاء الوارث كان للإمام عليهالسلام.
أقول : وتفصيل
هذه الجملة يقع في مواضع : أحدها ـ ما ذكروه من وجوب نية القضاء هو ظاهر جملة من
الاخبار من غير تقييد بالغيبة.
قال شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك : وجوب نيته القضاء ثابت على كل من عليه حق ، سواء كان ذو
الحق غائبا أم حاضرا ، لان ذلك من أحكام الإيمان انتهى.
ومقتضى كونه من
أحكام الايمان كما ذكره الخروج عنه لو لم ينو ، وهو مشكل لعدم الوقوف على دليله ،
الا ان يراد الايمان الكامل ، وكان تخصيصهم وجوب النية بالغائب انه في المدين
الحاضر يجب الدفع اليه عند الطلب ، وأما
الغائب فإن النية تقوم مقام ذلك ، الا ان فيه ان مع الحضور قد لا يتمكن من
الدفع ، فتجب النية حينئذ متى امكنه ذلك.
واما الاخبار
التي أشرنا إليها فمنها ما رواه في الكافي عن عبد الغفار المجازي عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل مات وعليه دين قال : ان كان أتى
على يديه من غير فساد لم يؤاخذه الله عزوجل إذا علم بنيته الا من كان لا يريد ان يؤدى عن أمانته
فهو بمنزلة السارق ، وكذلك الزكاة أيضا وكذلك من استحل ان يذهب بمهور النساء».
وما رواه في
الفقيه عن أبى خديجة عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «أيما رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا وفي نيته أن
لا يؤديه فذلك اللص العادي».
وما رواه في
الكافي عن ابن فضال عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «من استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق».
وما ذكره الرضا
عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي في كلام له عليهالسلام في الدين قال : «فان لم ينو قضاءه فهو سارق ، فاتق الله
وأد الى من له عليك ، وارفق بمن لك عليه» الخبر.
ويدل على خصوص
الغائب رواية زرارة بن أعين في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر على صاحبه ، ولا على
ولى له ، ولا يدرى بأي أرض هو ، قال : لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته
الأداء».
__________________
ويؤكد هذه
الاخبار ما رواه في الكافي عن حمدان بن إبراهيم الهمداني رفعه الى بعض الصادقين عليهمالسلام قال : «انى لأحب للرجل أن يكون عليه دين ينوي قضاءه».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابن رباط قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام ، يقول : من كان عليه دين ينوي قضائه كان معه من الله عزوجل حافظان يعينانه على الأداء عن أمانته فإن قصرت نيته عن
الأداء قصرا عنه من المعونة بقدر ما قصر من نيته».
وثانيها : ما
ذكروه من وجوب العزل عند امارة الموت ، والذي صرح به الشيخ رحمهالله هو الوجوب مطلقا ، وابن إدريس قد منع ذلك.
قال في السرائر
: وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ومن وجب عليه دين وغاب عنه صاحبه غيبة لم يقدر
عليها معها وجب عليه أن ينوي قضاءه ، ويعزل ماله عن ملكه ، وهذا غير واجب ، أعنى
عزل المال بغير خلاف من المسلمين ، فضلا عن طائفتنا انتهى.
وقال في
المسالك : وأما العزل عند الوفاة فظاهر كلامهم خصوصا على ما يظهر من المختلف أنه
لا خلاف فيه ، والا لأمكن تطرق القول بعدم الوجوب ، لأصالة البراءة مع عدم النص
انتهى.
أقول : الذي
وقفت عليه في المختلف هو أنه بعد أن نقل عبارة النهاية المتقدمة وكلام ابن إدريس
قال : ليس عندي بعيدا من الصواب حمل قول الشيخ على من حضرته الوفاة ، أو حمل العزل
على استبقاء ما يساوى الدين بمعنى أنه يجوز له التصرف في جميع أمواله بالصدقة
وغيرها الا ما يساوى الدين ، فإنه يجب عليه إبقاءه للايفاء انتهى.
وفي فهم عدم
الخلاف من هذه العبارة نظر ، إذ لعل ذلك بالنسبة الى ما يرجحه
__________________
ويختاره في المسألة.
وكيف كان
فأصالة العدم مع عدم ورود نص في المقام أقوى مستمسك ، قال المحقق الأردبيلي (قدسسره) : وأما وجوب العزل فذكروه ايضا ، ودليله غير ظاهر ،
الا ما يتخيل أنه غاية ما يمكن وأنه أقرب الى الوفاء ، وبعيد عن تصرف الغير ، ولكن
تمسك الأصحاب بمثل هذا مشكل ، الا أن يكون إجماع ونحوه ، ويشكل أيضا تعينه بذلك
بحيث لو تلف يكون من مال الغريم من غير ضمان الا مع التفريط والتقصير ، والقول به
بعيد انتهى وهو جيد.
نعم يمكن القول
بوجوب الوصية به كما ذكره بعض الأصحاب أيضا لأنه مع ترك الوصية ربما أدى الى فواته
، وبقاء ذمته مشغولة بالدين ، لعدم علم الورثة ، بل ظاهر جملة من الأصحاب القول
بوجوب الوصية مطلقا بما له وعليه ، ويدل عليه جملة من الاخبار الآتية في محلها
إنشاء الله تعالى والله العالم.
وثالثها :
الصدقة به عنه ، قال العلامة في المختلف : إذا غاب المالك غيبة منقطعة ومات ولم
يعرف له وارث قال الشيخ في النهاية : يجتهد المديون في طلب الوارث ، وان لم يظفر
به تصدق عنه ، وتبعه ابن البراج ، وقال ابن إدريس : يدفعه الى الحاكم إذا لم يعلم
له وارثا ، فان قطع أنه لا وارث له كان لإمام المسلمين لأن الإمام يستحق ميراث من
لا وارث له.
والمعتمد أن
نقول : ان لم يعلم انتفاء الوارث وجب حفظه ، فان آيس من وجوده والظفر به أمكن أن
يتصدى به ، وينوي القضاء عند الظفر بالوارث ، وان علم انتفاء الوارث كان للإمام.
أما الأول
فلأنه مال معصوم يجب حفظه على مالكه ، كغيره من الأموال ومع اليأس من الظفر
بالوارث ، وعدم العلم به يمكن التصدق به ، لئلا يعطل المال إذ لا يجوز له التصرف
فيه ، ولا يمكن إيصاله إلى مستحقه فأشبه اللقطة فحكمه ، ان الحكم المنوط بها حكم
اللقطة موجود هنا ، فيثبت الحكم عملا بوجود المقتضى.
وأما الثاني
فلأن له ميراث من لا وارث له ، فيكون للإمام (عليهالسلام)
انتهى.
وقال شيخنا
الشهيد الثاني (نور الله تعالى مرقده) في المسالك بعد أن ذكر الاجتهاد في طلبه :
فان آيس منه قال الشيخ «رحمة الله عليه» : يتصدق عنه ، وتبعه عليه جماعة من
الأصحاب وتوقف المصنف هنا ، والعلامة في كثير من كتبه لعدم النص على الصدقة ومن ثم
ذهب ابن إدريس الى عدم جوازها ، لأنها تصرف في مال الغير غير مأذون فيه شرعا ، ولا
شبهة في جوازه ، انما الكلام في تعينه ، ووجه الصدقة أنها إحسان محض بالنسبة إلى المالك
، لأنه ان ظهر ضمن له عوضها أن لم يرض بها ، والا فالصدقة أنفع له من بقائها
المعرض لتلفها بغير تفريط ، المؤدي إلى سقوط حقه ، وقد قال الله تعالى «ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ».
خصوصا ورود
الأمر بالصدقة في نظائره كثيرة ، وحينئذ فالعمل بهذا القول أجود ، خصوصا مع تعذر
قبض الحاكم لها ، أما معه فهو أحوط ، وحيث يمكن مراجعته فهو اولى من الصدقة بغير
اذنه ، وان كان جائزا لأنه أبصر بمواقعها ومصرفها انتهى.
أقول : هذه
جملة من كلماتهم في المقام أطلنا بنقلها لتحيط خبرا بالأقوال في المسألة
والتعليلات التي اعتمدوها أدلة لما صار كل منهم اليه ، وظاهرهم بل صريح عبارة
المسالك عدم وجود نص في المسألة ، مع أن النصوص موجودة ، وان كانت لا تخلو عن تناف
بحسب الظاهر.
والذي وقفت
عليه منها ما تقدم من صحيح زرارة «الدال على أنه لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء».
قال العلامة في
التذكرة بعد نقله أنه يدل من حيث المفهوم على منع التصدق ووجوب الطلب دائما : ولا
يخفى ما فيه لان الطلب مع اليأس وعدم إمكان الوجدان عبث لا يحسن أن يأمر به عليهالسلام فيمكن حمله على عدم اليأس ، والأظهر عندي أن الغرض
__________________
من السؤال انما هو أنه هل يؤاخذ لشغل الذمة على هذه الحال أم لا؟ فأخبره
بأنه لا جناح عليه إذا علم الله سبحانه من نيته الأداء.
ومنها ما رواه المشايخ
الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح عن معاوية بن وهب «عن أبى عبد الله عليهالسلام في رجل كان له على رجل حق ففقده ولا يدرى أين يطلبه ،
ولا يدرى أحي هو أم ميت ، ولا يعرف له وارثا ولا نسبا ولا ولدا ، قال : أطلب قال :
ان ذلك قد طال ، فأتصدق به؟ قال : أطلبه». قال : في الفقيه وقد روى في هذا خبر آخر
«ان لم تجد له وارثا وعلم الله منك الجهد فتصدق به».
أقول : ربما
أشعر ظاهر هذا الخبر أيضا بوجوب الطلب دائما ، ولو مع اليأس ، وفيه ما عرفت آنفا ،
والواجب حمله على إمكان الوجود وعدم اليأس ، أو الاستحباب والتخيير جمعا بينه وبين
ما يأتي ، ومنه المرسلة المذكورة ، وهذا المرسلة ظاهرة فيما ذهب الى الشيخ ، ومن
تبعه من وجوب الصدقة.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب عن (نصر بن) حبيب صاحب الخان قال : «كتبت الى عبد صالح عليهالسلام قال : قد وقعت عندي مائتا درهم (وأربعة دراهم) ، وانا
صاحب فندق فمات صاحبها ، ولم أعرف له ورثة فرأيك في إعلامي حالها ، وما أصنع بها
فقد ضقت بها ذرعا؟ فكتب أعمل فيها وأخرجها صدقة قليلا قليلا حتى تخرج». قال في
الاستبصار : «إنما له أن يتصدق بها إذا ضمن لصاحبها أو أنها
للإمام ، فأمره أن يتصدق عنه».
أقول : الظاهر
بعد الاحتمال الثاني ، لأن عدم معرفته الورثة لا يدل على العدم ، سيما أنه لم يطلب
ولم يفحص ، وكون ذلك للإمام مشروط بالعلم بعدم الوارث كما لا يخفى ، وبه يظهر أن
هذا الخبر دليل على قول الشيخ ومن تبعه ، وأن ما ذكره
__________________
الأصحاب من عدم النص على ذلك غفلة عن الوقوف عليه وعلى أمثاله.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الهيثم ابن أبى روح صاحب الخان . قال : «كتبت الى عبد صالح عليهالسلام أنى أتقبل الفنادق فينزل عندي الرجل فيموت فجأة ولا
أعرفه ولا أعرف بلاده ، ولا ورثته فيبقى المال عندي كيف أصنع به؟ ولمن ذلك المال؟
فقال : اتركه على حاله». وظاهر هذا الخبر بقاؤه أمانة عنده حتى يظهر له طالب.
وعن هشام بن
سالم قال : «سأل «خطاب الأعور» أبا إبراهيم عليهالسلام وأنا جالس ، فقال : انه كان عند أبي أجير يعمل عنده
بالأجر ففقدناه ، وبقي من أجره شيء ولا نعرف له وارثا قال : فاطلبوه قال : قد
طلبناه ولم نجده ، فقال : مساكين وحرك يديه ، قال : فأعاد عليه قال : اطلب واجهد
فإن قدرت عليه ، والا هو كسبيل مالك حتى يجيء له طالب ، فان حدث بك حدث فأوص به
ان جاء له أن يدفع اليه».
قال المحدث
الكاشاني : في ذيل هذا الحديث «مساكين» يعنى أنتم مساكين حيث ابتليتم بهذا ، أو
حيث لم تعرفوا أنه لمن هو فإنه للإمام عليهالسلام ، فكأنه عليهالسلام ، لم ير المصلحة في الإفصاح بذلك ، ويؤيد هذا المعنى ما
يأتي في باب من مات وليس له وارث ، أو فقد وارثه من كتاب الجنائز من الاخبار ،
ويحتمل أن يكون المراد بقوله «مساكين» يدفع الى المساكين أو رأيك أن تدفع الى
المساكين على سبيل الاخبار أو الاستفهام كما يدل عليه الخبران الإتيان انتهى.
أقول : الظاهر
عندي بعد ما ذكره من الاحتمالين ، فان عجز الخبر ينادى بصريحه أنه بعد مراجعة
السائل أمره أنه يكون عنده في ذمته حتى يجيء طالبه ، وهو أحد الوجوه في المسألة
كما سيأتي إيضاحه إنشاء الله تعالى ، وحينئذ فالمراد بقوله مساكين انما هو الترحم
لهم لأجل ابتلائهم بذلك كما هو المعنى الأول الذي ذكره.
__________________
وما رواه في
التهذيب عن هشام بن سالم في الموثق قال : «سأل حفص الأعور أبا عبد الله عليهالسلام ، وأنا عنده جالس ، فقال : أنه كان لأبي أجير كان يقوم
في رحاه وله عندنا دراهم ، وليس له وارث ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : تدفع الى المساكين ، ثم قال : رأيك فيها ، ثم أعاد
عليه المسألة فقال له : مثل ذلك فأعاد عليه المسألة ثالثة ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : تطلب له وارثا ، فان وجدت له وارثا ، والا فهو كسبيل
مالك ، ثم قال : ما عسى أن نصنع بها ، ثم قال : توصي بها فان جاء طالبها والا فهي
كسبيل مالك».
أقول : قوله «وليس
له وارث» يعنى باعتبار علمنا ، والا فلو كان عدم الوارث معلوما كان من الأنفال ،
ولم يتجه الجواب هنا بما ذكره عليهالسلام ، ثم أن الخبر قد تضمن أولا جوابه عليهالسلام بالدفع الى المساكين ، يعنى الصدقة به كما دل عليه
الخبران المتقدمان ، فيكون مؤيدا لقول الشيخ ومن تبعه ، ثم انه بعد مراجعة السائل
ثانيا أجابه بذلك ايضا ، وبعد المراجعة ثالثا أجابه بأنه بعد طلب الوارث وعدم
وجوده يكون كسبيل ماله.
والظاهر أن
المراد بذلك الكناية عن جواز التصرف فيه ، والتملك له بشرط الرد ان ظهر طالب ،
والوصية بذلك عند الموت ، كما دل عليه هذا الخبر ، وخبر خطاب الأعور المتقدم ،
وحينئذ فيجب حمل الخبر على التخيير بين الأمرين المذكورين كما يجمع به بين الاخبار
المتقدمة ، فإن بعضا منها دل على الصدقة ، وبعضا على أنه كسبيل ماله ، وربما أشعر
هذا الخبر بأن الأفضل هو الصدقة ، وان جاز التملك مع الضمان ، حيث أنه عليهالسلام ، انما سوغ له الثاني بعد المراجعة ثلاثا ، ولعل قصد
السائل في هذه المراجعات مع أمره له بالصدقة أولا وثانيا هو أنه قد سمع جواز
التملك مع الضمان ، وكان رغبته في ذلك فجوزه عليهالسلام له أخيرا.
وما رواه في
الفقيه في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن ابن جنيد عن هشام
__________________
بن سالم قال : «سأل حفص الأعور أبا عبد الله عليهالسلام ، وأنا حاضر فقال : كان لأبي أجير وكان له عنده شيء ،
فهلك الأجير ولم يدع وارثا ولا قرابة ، وقد ضقت بذلك فكيف أصنع؟ فقال : رأيك
المساكين ، فقلت : جعلت فداك انى ضقت بذلك ، فكيف أصنع؟ فقال : هو كسبيل مالك ،
فان جاء طالب أعطيته».
وهذا الخبر
موافق لعجز سابقه ، ولخبر خطاب الأعور وأنت خبير بما ذيلنا به هذه الاخبار ، أن
بعضا منها دل على الصدقة ، وبعضا على الأمانة في يده ، وبعضا دل على التملك ، وأنه
كسبيل ماله يتصرف فيه كما شاء مثل سائر أمواله مع الضمان والوصية به ، والجمع
بينهما بالحمل على التخيير بين الأمور الثلاثة.
والأصحاب
القائلون بالصدقة قيدوها بأنه يتصدق به عن المالك ، ومتى ظهر المالك ورضى بذلك فلا
اشكال : ومع عدم رضاه فيغرم للمتصدق له ، ويكون ثواب الصدقة للمتصدق ، ولا بأس به
، وان كانت الأخبار مطلقة إذ التصدق بمال الغير بغير اذنه والتصرف فيه كذلك ممنوع
عقلا ونقلا ، وأما التصدق به على الوجه المذكور فاحسان محض ، «وما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» لانه قد نوى التصدق به على المالك ، فان اتفق موته قبل
الصدقة أو بعدها فقد وصل اليه ثواب الصدقة ، وان اتفق حياته ورجوعه الى ماله ، فهو
مخير بين قبول ثواب الصدقة ، وغرامة ماله ، ورجوعه عليه ، فالاحسان ظاهر ، وفي
بقائه أمانة ـ من خطر التلف بغير تفريط الموجب لعدم الضمان ـ ما هو ممكن ، وكذا في
جواز التصرف فيه وتملكه مع الوصية من حيث احتمال عدم رجوعه وظهوره ، فالتصدق على
كل حال أرجح .
__________________
ثم ان ما ذكره
الأصحاب من الرجوع للحاكم الشرعي وأطالوا به ، وفرعوا عليه لا وجود له في أخبار
المسألة كما سمعت ، الا أن العذر لهم ظاهر من جهة عدم ذكرهم لما نقلناه من هذه
الاخبار ، بل عدم وقوفهم عليها ، وأن كانوا غير معذورين من جهة التتبع للأدلة من
مظانها ، والاستعجال في التصنيف وجمود من اللاحق على ما ذكره السابق ، نسأل الله
سبحانه لنا ولهم المسامحة في زلات الاقدام ، والعفو عن هفوات الأقلام ، وزيغ
الأفهام في الأحكام.
قال في المسالك
: ومصرف هذه الصدقة مصرف المندوبة ، وان وجبت على المديون أو وارثه بالعارض ، فإنه
بمنزلة الوكيل والوصي الذي يجب عليه الصدقة وان كانت في أصلها مندوبة انتهى.
ورابعها : ما
ذكروه من أنه مع القطع بموته وعدم وجود الوارث فهو للإمام عليهالسلام وهو مما لا خلاف فيه بين علمائنا الاعلام ، وبه استفاضت
الاخبار كما تقدمت الإشارة إليه في كتاب الخمس في بحث الأنفال ، وحيث أنا لم نعط
المسألة حقها ثمة من التحقيق ونقل جملة الأخبار المتعلقة بها ، حيث أن هذا الخاطر
انما خطر لنا في الكتب الأخيرة فتنقل هنا جملة أخبار المسألة وما يتعلق بها من
البحث والتحقيق.
فمنها ما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم «عن أبى جعفر عليهالسلام قال : من مات وليس له وارث من قرابته ، ولا مولى عتاقه
قد ضمن جريرته فماله من الأنفال».
وفي رواية حماد
بن عيسى الطويلة المتقدمة في الكتاب المشار اليه آنفا قال : «فيه
وهو وارث من لا وارث له».
__________________
وما رواه الصدوق
في الفقيه عن أبان بن تغلب «عن أبى عبد الله عليهالسلام في رجل يموت لا وارث له ولا مولى له؟ قال : هو من أهل
هذه الآية «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ».
وما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من مات وترك دينا فعلينا دينه وإلينا عياله ،
ومن مات وترك مالا فلورثته ، ومن مات وليس له موالي فماله من الأنفال».
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن والشيخ في الموثق عن محمد الحلبي عن أبى عبد الله عليهالسلام «في قول الله عزوجل «يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ» قال : من مات وليس له مولى فماله من الأنفال».
وأما ما رواه في
الكافي والتهذيب عن داود عمن ذكره عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «مات رجل على عهد أمير المؤمنين (عليهالسلام) لم يكن له وارث فدفع أمير المؤمنين عليهالسلام ميراثه الى همشهريجه».
وما رواه في
الكافي عن خلاد السندي «عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : كان على عليهالسلام يقول في الرجل يموت ويترك مالا وليس أحد : أعط الميراث
همشاريجه».
وما رواه في
التهذيب عن خلاد عن السري رفعه الى أمير المؤمنين عليهالسلام ، «في الرجل يموت ويترك مالا ليس له وارث قال : فقال
أمير المؤمنين عليهالسلام : أعط همشاريجه». فقد أجاب الشيخ عن هذه الروايات بعد
الطعن
__________________
في الأسانيد ـ بالحمل على تبرعه بحقه ، لا أن هذا حكم كل مال لا وارث له ،
وهو جيد.
وقال الصدوق في
الفقيه : متى كان الامام ظاهرا فماله للإمام عليهالسلام ومتى كان الإمام غائبا فماله لأهل بلده متى لم يكن له
وارث ، ولا قرابة أقرب إليه بالبلدية.
أقول : أنت
خبير بما فيه فان قصد بذلك الجمع بين هذه الاخبار بما ذكره ففيه أن اخبار الدفع
الى أهل البلد صريحة في وجود الامام عليهالسلام ، فان الدافع هو أمير المؤمنين عليهالسلام فكيف يصح حملها على زمن الغيبة ، والاخبار الاولى وان
كانت مطلقة الا أن هذه الاخبار ظاهرة في زمن الحضور ، وان كان ذلك حكما كليا لا
بالنظر الى هذه الاخبار فلا دليل عليه والله العالم.
المسألة
الثانية : لو كان لأحد في ذمة آخر دين فباعه بأقل منه عينا أو قيمة على وجه لا
يحصل فيه الربا ، ولا الإخلال بشروط الصرف لو كان العوضان من الأثمان ، فالمشهور
بين الأصحاب أنه يجب على الذي عليه الدين دفع ذلك الدين كملا إلى المشتري ، لأنه
قد انتقل اليه بالعقد الصحيح كما انتقل الثمن بأجمعه إلى البائع.
وقال الشيخ
وجماعة : انه لا يلزم المدين أكثر مما دفعه المشترى من الثمن ، ولا ريب في مخالفة
هذا القول للقواعد الشرعية ، والضوابط المرعية ، الا أنه قد وردت به الاخبار
وعليها اعتمد الشيخ (رحمة الله عليه) فيما أفتى به هنا.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل كان لرجل عليه دين ، فجاء رجل فاشترى منه بعرض ،
ثم انطلق إلى الذي عليه الدين ، فقال له : أعطني مال فلان عليك ، فانى قد اشتريته
منه ، كيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر (عليهالسلام) يرد عليه الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من
الرجل الذي له الدين».
__________________
وعن محمد بن
الفضيل قال : «قلت للرضا عليهالسلام : رجل اشترى دينا على رجل ، ثم ذهب الى صاحب الدين ،
فقال له : ادفع الى ما لفلان عليك فقد اشتريته منه؟ قال : يدفع اليه ما دفع الى صاحب
الدين ، وبريء الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه».
والمشهور بين
المتأخرين رد الخبرين بضعف الاسناد ، ومخالفة القواعد الشرعية كما ذكرناه آنفا ،
خصوصا الرواية الثانية المتضمنة لبراءة المدين عليه المال من جميع ما بقي عليه ،
فإنه لا يعقل هيهنا وجه للبراءة لأنه قبل البيع ملك البائع وبعد البيع فاما أن
ينتقل بالبيع إلى المشتري أم لا؟ فان انتقل فالواجب دفع الجميع إلى المشترى ، والا
فلا موجب لخروجه عن ملك الأول.
وأما الرواية
الأولى فيمكن حملها على مساواة ما اشترى به الدين الذي اشتراه فإنها وان كانت
مطلقة ، لكن تنزيلها على ما ذكرناه ممكن لئلا يخرج عن مقتضى القواعد الصحيحة
والضوابط الصريحة.
وبالجملة
فالمسألة بمحل من الإشكال ، إذ الخروج عن مقتضى القواعد المذكورة مشكل ، وطرح
الخبرين من غير معارض في المقام أشكل ، ولو وقع بطريق الصلح صح ولا اشكال ، ولا
يراعى فيه شروط الصرف ، لاختصاصه بالبيع ، أما الربا فينبغي مراعاته للقول بعدم
اختصاصه بالبيع ، كما تقدم في بابه .
__________________
وللعلامة في
المختلف هنا مع ابن إدريس كلام قد بسط فيه لسان الطعن على ابن إدريس والتشنيع
لنسبته الى التجهيل مع التأويل للخبرين المذكورين لا بأس بنقله في المقام ، وان
طال به زمام الكلام ، لما فيه من الفوائد الظاهرة لذوي الأفهام.
قال (قدسسره) في الكتاب المذكور : لو باع الدين بأقل مما له على
المديون ، قال الشيخ : لم يلزم المدين أكثر مما وزن المشترى من المال ، وتبعه ابن
البراج على ذلك ، وقال ابن إدريس : قول الشيخ طريف عجيب يضحك الثكلى ، وهو أنه إذا
كان الدين ، ذهبا كيف يجوز أن يبيعه بذهب أقل منه ، وان كان فضة كيف يجوز بيعه
بفضة أقل منه ، أو ان كان ذهبا فباعه بفضة ، أو فضة فباعه بذهب ، كيف يجوز
انفصالهما من مجلس البيع الا بعد أن يتقابضا الثمن والمثمن ، يقبض البائع الثمن ،
والمشترى المثمن ، فان هذا لا خلاف فيه بين طائفتنا ، بل لا خلاف فيه بين المسلمين
، وقوله لم يلزم المدين أكثر مما وزن المشترى من المال ان كان البيع صحيحا لزم
المدين تسليم ما عليه جميعه إلى المشتري ، لأنه صار مالا من أمواله بالشراء ، وقد
يشتري الإنسان ما يساوى خمسين قنطارا بدينار واحد ، إذا كان البائع من أهل الخبرة
، وانما هذه أخبار آحاد أوردها على ما وجدها إيرادا لا اعتقادا.
ثم قال العلامة
: واعلم أن كلام الشيخ قد اشتمل على حكمين ، الأول ـ جواز بيع الدين بأقل منه. ولا
ريب في جوازه ، ونسبة ابن إدريس كلام الشيخ فيه الى أنه طريف عجيب يضحك به الثكلى
جهل منه ، وقلة تأمل وسوء فهم ، وعدم بصيرة وانتفاء التحصيل لكلام العلماء ، وعدم
معرفة بمدلول أقوالهم ، فإن الشيخ لم يحصر هو ولا غيره من المحصلين الدين في
النقود ، بل يجوز أن يكون ذهبا أو فضة أو غيرهما من الأقمشة والأمتعة ، ثم لم يحصروا
بيع الدين بالنقود ، ولا أوجبوا أن يكون الثمن من الذهب ، أو الفضة حتى يتعجب من
ذلك ، ويظهر للعامة قلة إدراكه وعدم تحصيل وسوء أد به ومواجهة مثل هذا الشيخ
المعظم الذي هو رأس المذهب والمعلم له ، والمستخرج للمعاني من كلام الأئمة (عليهمالسلام) ، بمثل هذه السفه
والقول الردى ، وهل منع أحد من المسلمين بيع قفيز حنطة في الذمة يساوي
دينارا بربع دينار ، أو بيع الدينار الدين بربع القفيز ، فإن أداه سوء فهمه وقلة
تحصيله الى اشتراط المساواة في الجنس باعتبار لفظة أقل كان ذلك غلطا ظاهرا ، وجعل
المال ما لا يدخل فيه الربا فيه ، لظهور مثل هذه القواعد الممهدة والقوانين
الموطدة من تحريم الربا ، على انه في باقي كلامه صرح بجواز ذلك حيث تعجب من عدم
التزام المديون بجميع الدين ، وسوغ بيع ما يساوى خمسين قنطارا بدينار ، لكن هذا
الرجل لقلة تحصيله لا يفهم وقوع التناقض في كلامه ، وتعجبه بنفسه لا يبالي أين
يذهب.
الحكم الثاني ـ
عدم إلزام المديون بأكثر مما وزنه المشترى والشيخ عول في ذلك على رواية محمد بن
الفضيل ، ثم ذكر الرواية كما قدمناه ، ثم ذكر رواية أبي حمزة ، ثم قال : ولا ريب
في صحة البيع ولزومه ووجوب إيفاء المشتري ما على المديون.
ولا بد حينئذ
من محمل للروايتين وليس بعيدا من الصواب أن يحملا على أحد الأمرين ، الأول ـ الضمان
ويكون إطلاق البيع عليه والشراء بنوع من المجاز ، إذ الضامن إذا أدى عن المضمون
باذنه عرضا عوضا عن الدين كان له المطالبة بالقيمة ، وهو نوع من المعاوضة يشبه
البيع ، بل هي هو في الحقيقة ، وانما ينفصل عنه بمجرد اللفظ لا غير.
المحمل الثاني
أن يكون البيع وقع فاسدا فإنه يجب على المديون دفع ما ساوى مال المشتري إليه
بالإذن الصادر من صاحب الدين ، ويبرئ من جميع ما بقي عليه من المشترى ، لا من
البائع ، ويجب عليه دفع الباقي الى البائع لبرائته من المشترى ، وهذان المحملان
قريبان ، يمكن صرف الروايتين إليهما ، وكلام الشيخ أيضا يحمل عليهما من غير أن
ينسب الشيخ الى ما نسبه ابن إدريس انتهى كلامه زيد مقامه.
ولا يخفى ما في
كل من محمليه للخبرين من التكلف والتعسف ، الذي يقطع
بعدمه ، وربما يفهم من مثل هذا التشنيع من العلامة هنا ومثله ما وقع في
كلام شيخنا المفيد في مقام الرد على الصدوق ـ في مسألة نفى السهو عن المعصوم ، وفي
شرح الاعتقادات ومثلهما غيرهما أيضا من المتأخرين ـ جواز الغيبة واستثنائها من
التحريم المتفق عليه في مثل هذه المواضع ، والا فالأمر مشكل ، فان جلالة مثل هؤلاء
المشايخ وعدالتهم وورعهم وتقواهم الظاهر كالشمس في رابعة النهار ، يمنع من قدومهم
على هذا الأمر المتفق على تحريمه نصا وفتوى ، وان كانوا لم يصرحوا بذلك في
مستثنيات الغيبة. والله سبحانه العالم.
تذنيب : قال في
المختلف : قال ابن إدريس : الدين المؤجل لا يجوز بيعه على غير من هو عليه بلا خلاف
، والوجه عندي الكراهة ، للأصل الدال على الجواز والإجماع ممنوع ، وأما ان كان
حالا لم يجز بيعه بدين آخر مثله ، وهل يجوز بيعه نسيئة؟ قال في النهاية : يكره ذلك
مع أنه منع من بيعه بدين آخر مثله ، وقال ابن إدريس : لا يجوز بيعه نسيئة ، بل هو
حرام محظور ، لانه بعينه بيع الدين بالدين ، وهو حسن انتهى.
أقول : قد تقدم
في مباحث الفصل الثاني في السلف ما يتعلق بهذا المقام ويأتي إنشاء الله تعالى في
بعض مسائل هذا الكتاب ما فيه كفاية لذوي الأفهام.
المسألة
الثالثة ـ قال الشيخ في النهاية : إذا رأى صاحب الدين المديون في الحرم لم يجز له
مطالبته فيه ولا ملازمته ، بل ينبغي أن يتركه حتى يخرج من الحرم ، ثم يطالبه كيف
شاء.
وقال على بن
بابويه على ما نقله عنه العلامة في المختلف والشهيد في الدروس : إذا كان لك على
رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم فلا تطالبه ، ولا تسلم عليه ، فتفزعه الا أن يكون
أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس بأن تطالبه به في الحرم.
وقال ابن إدريس
: قول الشيخ محمول على أن صاحب الدين طالب المديون خارج الحرم ، ثم هرب منه فالتجأ
الى الحرم ، فلا يجوز لصاحب الدين مطالبته ولا إفزاعه ، فأما إذا لم يهرب الى
الحرم ولا التجأ اليه خوفا من المطالبة بل وجده
في الحرم وهو مليء بماله موسر بدينه ، فله مطالبته وملازمته ، وقول ابن
بابويه ـ الا ان يكون أعطيته حقك في الحرم فلك أن تطالبه في الحرم ـ يلوح ما
ذكرناه ، ولو كان ما روى صحيحا لورد ورود أمثاله متواترا ، والصحابة والتابعون
والمسلمون في جميع الأمصار يتحاكمون الى الحكام في الحرم ، ويطالبون الغرماء
بالديون ، ويحبس الحاكم على الامتناع من الأداء الى عصرنا هذا من غير تناكر منهم
في ذلك ، والإنسان مسلط على أخذ ماله ، والمطالبة عقلا وشرعا.
وقال العلامة
في المختلف : والأقرب عندي كراهة ذلك على تقدير الإدانة خارج الحرم ، دون التحريم
، عملا بالأصل والإباحة مطلقا على تقدير الإدانة في الحرم ، وبما ذهب اليه الشيخ
في النهاية من التحريم صرح ابن إدريس وأبو الصلاح ، إلا أنهما أضافا إلى الحرم
مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) ومشاهد الأئمة (عليهمالسلام).
أقول : أما ما
ذهب اليه الشيخ من التحريم في الحرم فيدل عليه موثق سماعة عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل لي عليه مال فغاب عنى زمانا فرأيته
يطوف حول الكعبة ، فأتقاضاه؟ قال : فقال : لا تسلم عليه ولا تروعه حتى يخرج من
الحرم». وظاهر العلامة الاستدلال بهذه الرواية على الكراهة كما اختاره.
وفيه أن النهى
حقيقة في التحريم كما صرح به هو وغيره في الأصول ، والحمل على خلافه يحتاج إلى
قرينة ، وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه فهو مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي على
النهج الذي كررنا ذكره في كتب العبادات ، حيث إنه قال (عليهالسلام) «ان كان لك على رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم فلا
تطالبه ، ولا تسلم عليه فتفزعه ، الا أن تكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس أن
تطالبه في الحرم».
وهي عين عبارة
الشيخ المذكور ، كما قدمنا ذكره في جملة من المواضع ، سيما في كتب العبادات في
إفتاء الشيخ المذكور في رسالة الى ابنه بعبارات الكتاب ،
__________________
ونحوه ابنه الصدوق في الفقيه ، كما تقدم التنبيه عليه في الكتب المذكورة ،
ومن ثم اعتمدنا على الكتاب المذكور لاعتماد هذين العمدتين عليه.
وأنت خبير بأنه
لا منافاة بين الخبرين ، فان الخبرين متفقان على أن تحريم المطالبة انما هو في
صورة ما إذا كان الدين خارج الحرم ، ثم انه وجده في الحرم ، وأما لو كانت
الاستدانة في الحرم فحكمها في موثق سماعة غير مذكور ، إذ مورده ظاهرا انما هو ما
قلناه ، فاشتمال رواية الكتاب المذكور على حكم الاستدانة في الحرم لا معارض لها ،
فيجب العمل بها كما عمل بها الشيخ المذكور.
وقال المحدث
الكاشاني (رحمهالله عليه) في المفاتيح في ضمن عد جملة من المستحبات : وأن
لا يطالبه في الحرم ، بل لا يسلم عليه ، ولا يروعه حتى يخرج ، كذا في الخبر ، أما
لو التجأ المديون اليه لم يجز مطالبته فيه ، بل يضيق عليه في المطعم والمشرب ، الى
أن يخرج ، لقوله تعالى «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً» كذا قالوه انتهى.
أقول : ما نقله
عنهم من الكلام الأخير لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم في الدين. نعم ذلك في
الجناية كما وردت به الأخبار ، وصرح به الأصحاب.
وأما ما ذكره
ابن إدريس وطول به من الكلام فهو نفخ في غير ضرام ، وأى موجب لتأويل كلام الشيخ مع
وجود الرواية به ، وأي منافاة في الخبر المذكور مع ما علم من اختصاص الحرم بأحكام
عديدة لا يشاركه غيره فيها ، فتخصص به العمومات ، وهذا من جملتها. ثم من الذي
اشترط في الاخبار ـ الواردة في الأحكام ـ ورودها متواترة في كل حكم حكم ، وجزئي
جزئي حتى أنه يرد هذه الرواية لعدم كونها كذلك.
ثم أى دليل
فيما احتج به من فعل الصحابة والتابعين ومن بعدهم الى يومه ، والجميع انما هم من
قضاة المخالفين ، وعلمائهم ـ الذين نسبهم إلى الإسلام هنا ـ
__________________
مع قوله بكفرهم ونجاستهم ونحو ذلك مما تقدم في كتب العبادات ، وهل يدعي أحد
أنه منذ وقت موت النبي صلىاللهعليهوآله الى يومنا هذا صار للشيعة حكم وقضاة ، يحكمون ويقضون في
الحرم أو غيره ، يحسبون ونحو ذلك مما ذكره حتى أنه يمكنه الاحتجاج بما ذكره ، ما
هذا الا تحكمات باردة ، وتمحلات شاردة.
والعجب منه عفى
الله تعالى عنه في رده هذا الاخبار وأمثالها ، وتكذيبه بها مع ما استفاض عنهم عليهمالسلام من النهى عن التكذيب بما جاء عنهم ولو جاء به خارجي أو
قدري ، وأن ما رانت له قلوبكم فاقبلوه ، وما اشمأزت منه فردوه إلينا ، ما هذه الا
جرءة زائدة من هذا الفاضل النحرير ، وخروج عن الدين من حيث لا يشعر صاحبه نسأل
الله ـ تعالى ـ المسامحة لنا وله من هفوات الأقلام ، وزلات الاقدام.
وأما ما ذكره
العلامة من التفصيل ـ تبعا لابن بابويه لكنه حكم بالكراهة فيما حكم به ابن بابويه
بالتحريم ـ ففيه ما عرفت من أن ظاهر الرواية هو التحريم ، وحمله لها على الكراهة
يحتاج الى دليل.
والاستناد الى
الأصل في مقابلة الخبر الذي ظاهره التحريم غير مسموع ، هذا بالنسبة إلى الاستدانة
خارج الحرم ، وأما مع وقوعها في الحرم فجيد ، لما عرفت من كلام الرضا عليهالسلام في الكتاب المتقدم ، والأنسب له هنا الاستناد الى الأصل
، فإنه في محله ، وتخرج الرواية المذكورة شاهدة على ذلك.
وأما إضافة
مسجد النبي صلىاللهعليهوآله والمشاهد المقدسة إلى الحرم كما ذكره الفاضلان
المتقدمان فلم نقف له على مستند ، وكأنهما لاحظا اشتراك الجميع في شرف المكان ،
وهو قياس محض والله العالم.
المسألة
الرابعة ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه بموت ـ المديون تحل ديونه
المؤجلة ، وانما الخلاف في الحل بموت الغريم ، فذهب جماعة منهم الشيخ في النهاية
وأبو الصلاح وابن البراج والطبرسي الى ذلك.
والمشهور وهو
قول الشيخ في الخلاف ، والمبسوط خلافه ، وعلل الأول بأن بقاء الدين على الميت بعد
موته لا معنى له ، ومعلوم أنه لم ينتقل إلى ذمة الورثة ،
للأصل ، ولعدم تكليف أحد بفعل غيره ، وعلل الثاني بأن المال
كان مؤجلا وانتقل الى الوارث ، وينبغي أن يكون كما كان ، لعدم لزوم شيء على أحد
بموت غيره ، وللاستصحاب.
والذي وقفت
عليه من الاخبار في المقام ما رواه في الكافي مسندا عن أبى بصير قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام والصدوق في الفقيه مرسلا «قال : قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : إذا مات الرجل حل ماله ، وما عليه من الدين».
وما رواه في
التهذيب والفقيه عن السكوني عن جعفر عن أبيه ع «أنه قال : إذا كان على رجل دين إلى
أجل ومات الرجل حل الدين».
وما رواه في
التهذيب عن الحسين بن سعيد في الصحيح قال : «سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل
مسمى ، ثم مات المستقرض أيحل مال القارض عند موت المستقرض منه ، أو للورثة من
الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال : إذا مات فقد حل مال القارض».
والقائلون
بالحلول بموت الغريم استندوا إلى رواية أبي بصير المذكورة ، وظاهر الصدوق بناء على
قاعدته المذكورة في صدر كتابه القول بذلك أيضا ، ولكن لم أطلع على من نقله عنه ،
الا أنه لازم مما ذكرناه ، حيث أنهم يستندون المذهب إليه في هذا الكتاب بما ذكرناه
، وغاية ما أجاب به المتأخرون عن الخبر المذكور
__________________
هو رده بضعف السند ، كما ذكره جملة منهم ، وهو مشكل عند من لا يرى العمل
بهذا الاصطلاح المحدث ، سيما ان الخبر من مرويات الفقيه التي يعتمدونها في غير
مقام.
وحمله بعض
الأفاضل ـ في حواشيه على كتاب الفقيه ـ على سائر الحقوق غير الدين
، مثل العمرى الموقت بحياته ، والإجارة ، والعارية ، والشركة ، والقراض ،
والأمانات ، قال : ومعنى حلولها انتهاء العقد ، فيلزم تسليمها إلى الورثة ، أو
تسليم العقد انتهى.
ولا يخفى ما
فيه من البعد عن الظاهر ، فان الخبر مصرح بالدين ، فكيف يحمل على غير الدين ، ومع
قطع النظر عن ذلك فهو ظاهر في مساواة ماله لما عليه ، مع اتفاقهم على الحلول فيما
عليه من الدين ، فيكون ماله كذلك.
وبالجملة فإن
الخبر لا معارض له الا ما تقدم من التعليلات العقلية الراجعة إلى الاستصحاب ،
وفيها ما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب ، والحكم لذلك موضع اشكال والله
العالم.
تذنيب : قال
المرتضى رضى الله عنه في المسائل الناصرية : هذه المسألة ـ وأشار بها الى أن الدين
المؤجل لا يصير حالا بموت من عليه الدين ـ لا أعرف إلى الان لأصحابنا فيها نصا
معينا فأحكيه ، وفقهاء الأمصار كلهم يذهبون الى أن الدين المؤجل يصير حالا بموت من
عليه ، ويقوى في نفسي ما ذهب اليه الفقهاء ، ويمكن أن يستدل عليه بقوله ـ تعالى «مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ»
علق القسمة
بقضاء الدين ، فلو أخرت تضررت الورثة ، ولانه يلزم انتقال الحق من ذمة الميت إلى
ذمة الورثة ، والحق لا ينتقل الا برضاء من له انتهى.
وليت شعري كيف
غفل عن الروايات الواردة في المسألة ، ولكنه قليل
__________________
المراجعة للاخبار ، كما لا يخفى على من له أنس بطريقته (رضى الله عنه)
وقاعدته.
المسألة
الخامسة : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجوز اقتضاء الدين من أثمان
المحرمات على المسلم ، إذا كان المديون البائع ذميا مستترا ، والتقييد بالذمي
لإخراج الحربي ، إذ لا يجوز أخذ ثمن ذلك منه ، لعدم إقرار الشريعة له على ذلك ،
والمسلم لعدم جواز بيعه وبطلانه ، وبالاستتار الاحتراز عما لو تظاهر به ، فإنه لا
يجوز أخذ ذلك لما ذكر ، فان من شرائط الذمة عدم التظاهر بأمثال ذلك.
والواجب أولا
ذكر ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام فيها بما يسر الله سبحانه فهمه
منها.
ومن الاخبار
المذكورة ما رواه ثقة الإسلام والشيخ (عطر الله مرقديهما) عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام ورواه الشيخ أيضا في التهذيب بسند آخر عن داود بن سرحان
في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام «في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمرا أو خنازير وهو ينظر اليه فقضاه؟
قال : لا بأس به ، أما للمقتضي فحلال ، وأما للبائع فحرام».
وما رواه في
الكافي عن زرارة في الصحيح عن أبى عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا أو
خنزيرا ثم يقضى عنها فقال : لا بأس أو قال : خذها».
وما رواه الشيخ
عن محمد بن يحيى الخثعمي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر والخنازير
فيقضينا فقال : لا بأس به ليس عليك من ذلك بأس.
وعن أبى بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا أو
خنازير يأخذ ثمنه قال لا بأس».
__________________
وما رواه في
الكافي عن منصور قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : لي على رجل ذمي دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا
حاضر فهل لي أن آخذها؟ فقال : انما عليه دراهم فقضاك دراهمك».
وأنت خبير بأن
إطلاق الروايات الأربع المتقدمة ظاهر في حل أخذ ذلك ولو من المسلم ، إذ لا تقييد
فيها بالذمي ، ولا قائل به فيما أعلم إلا ما يظهر عن صاحب الكفاية ، حيث قال : قال
بعضهم : ولو كان البائع مسلما لم يجز ، وهو مناف لإطلاق أخبار كثيرة ، فالحكم به
مشكل ، الا أن يكون المقصود المنع بالنسبة إلى البائع انتهى ملخصا.
أقول : ويمكن
تأييد ما ذكره من حمل المنع على البائع خاصة ، وان جاز لصاحب الطلب أخذه بقوله عليهالسلام أما للمقتضي فحلال ، وأما للبائع فحرام ، الا أنه لا
يخلو من الإشكال أيضا ، فإن تحريمه على البائع يوجب رده على مالكه ، لبطلان البيع
فكيف يكون حلالا على المقتضى.
ومما يؤيد ما
دل عليه ظاهر إطلاق الاخبار المذكورة ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن محمد
بن مسلم عن أبى جعفر عليهالسلام «في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصره
خمرا ثم باعه قال : لا يصلح ثمنه ، ثم قال : ان رجلا من ثقيف اهدى الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم روايتين من خمر بعد ما حرمت فأمر بهما رسول الله صلىاللهعليهوآله فأهريقتا وقال : ان الذي حرم شربها قد حرم ثمنها ، ثم
قال : أبو عبد الله عليهالسلام ان أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها».
وما رواه في
الكافي عن أبي أيوب الخراز قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام
__________________
: رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيرا فباعه خمرا ثم أتاه بثمنه؟ فقال : ان
أحب الأشياء الى أن يتصدق بثمنه».
والأمر بالتصدق
في هذين الخبرين مع بطلان البيع وتحريم الثمن الموجب لرده على صاحبه لا يجتمعان ،
الا أن يحمل على عدم معرفة المشتري ، أو عدم إمكان تحصيله ، وهو غاية البعد.
وبالجملة فإن
ظاهر الخبرين مشعر بالحل في هذه الصورة واليه يميل كلام بعض مشايخنا من متأخري
المتأخرين حيث قال : ولا يبعد القول بكون البائع مالكا للثمن ،
لأنه أعطاه المشترى باختياره وان كان فعل فعلا حراما ، ثم قال : المقطوع به في
كلام الأصحاب وجوب الرد انتهى.
ويمكن تأييده
أيضا بما رواه في الكافي عن يونس «في مجوسي باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمى ثم أسلم قبل أن يحل المال؟ قال
: له دراهمه ، وقال : ان أسلم رجل وله خمر وخنازير ثم مات وهي في ملكه وعليه دين
قال : يبيع ديانه أو ولى له غير مسلم خمره وخنازيره ويقضى دينه ، وليس له أن يبيعه
وهو حي ولا يمسكه». الا أن الاخبار متظافرة بتحريم بيع الخمر والخنازير كما تقدم
شطر منها في المقدمة الثالثة ، وان ذلك من السحت ، ومن الممكن وان كان لا يخلو عن
بعد تقييد هذه الاخبار بالذمي كما اشتمل عليه الخبر الأخير.
لكن يبقى
الإشكال أيضا عن وجهين أحدهما ما اشتمل عليه بعضها صريحا وبعضها ظاهرا من حضور
المسلم البيع ، مع ان الأصحاب قيدوا الجواز بالتستر كما عرفت ، وصرحوا بالعدم مع
عدمه ، والحمل على أن الذمي يبيع في بيته أو نحوه من الأماكن المستورة ، وان اطلع
عليه صاحب الطلب من حيث لا يشعر به بعيد غاية البعد ، أو يقال : بعدم كون التستر
مشروطا عليهم في الذمة ، ولعله الأقرب وان كان خلاف ما
__________________
عليه ظاهر الأصحاب فإن الذي وقفت عليه في الاخبار بالنسبة إلى شرائط الذمة
خال من ذلك ، بل من أكثر الشروط التي ذكرها الأصحاب رضوان الله عليهم .
وثانيا ما
اشتمل عليه الخبر الأول من قوله «أما للمقتضي فحلال ، وأما للبائع فحرام» والظاهر
أنه لا اشكال فيه بعد حمل الخبر على أهل الذمة ، لما ورد في أخبار أخذ الجزية مع
التصريح بحل أخذها من ثمن خمورهم وخنازيرهم ، كما في
صحيحة محمد بن
مسلم عن أبى عبد الله عليهالسلام «حيث قال : فيها عليهم الجزية في أموالهم ، تؤخذ منهم من ثمن لحم الخنزير
أو الخمر ، فكل ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم ، وثمنه للمسلمين حلال ،
ويأخذونه في جزيتهم».
ونحوه روى
شيخنا المفيد في المقنعة عن محمد بن مسلم عن أبى عبد الله عليهالسلام.
وظاهر هذين
الخبرين هو عدم التستر ايضا ، واحتمال كون المراد ذلك بحسب الواقع مع عدم علم
المسلمين الظاهر بعده ، وبذلك يظهر ما في توقف بعض
__________________
المحققين في تحريمه على البائع وحله للقابض ـ مع تسليمه حمل الخبر على
الذمي فإنه لا وجه له بعد تصريح هذه الاخبار بذلك ، والفرق بين الجزية وقضاء الدين
غير ظاهر.
وكيف كان فان
القول المشهور هو الأوفق بالاحتياط المطلوب في الدين ، كما لا يخفى على الحاذق
المكين ، فيتعين حمل إطلاق الاخبار المتقدمة على أهل الذمة وارتكاب جواز ذلك
للمسلم مع استفاضة الأخبار بتحريم ذلك عليه ، وبطلان بيعه مضافا الى اتفاق الأصحاب
على ذلك لا يخلو من شناعة ، وحينئذ فلا يلتفت الى ما ذكره أولئك الفضلاء المشار
إليهم آنفا والله العالم.
المسألة
السادسة ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه إذا كان لاثنين فصاعدا
مال في ذمم غيرهم وأرادوا قسمته ، فإنه لا تصح ما لم يقبض ، ولو اقتسموا والحال
كذلك لم يصح ، بل يكون كل ما خرج فهو على الشركة ، وما توى على الجميع.
ويدل على ذلك
جملة من الاخبار منها ما رواه الشيخ في الصحيح عن سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجلين كان لهما مال بأيديهما ومنه متفرق عنهما ،
فاقتسما بالسوية ما كان في أيديهما ، وما كان غائبا عنهما ، فهلك نصيب أحدهما مما
كان غائبا ، واستوفى الآخر عليه أن يرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله». ورواه
الصدوق بإسناده عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد مثله.
وعن عبد الله
بن سنان في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين ،
فاقتسما العين والدين ، فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر أيرد
على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله».
__________________
وعن أبي حمزة قال : سئل أبو جعفر (عليهالسلام) عن رجلين بينهما مال منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما
فاقتسما الذي بأيديهما وأحال كل واحد منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم
يقتض الأخر ، قال : ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، وما يذهب بينهما».
نعم روى
الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهماالسلام قال : «سألته عن رجلين اشتركا في السلم أيصلح لهما أن
يقتسما قبل أن يقبضا قال : لا بأس». وحمل على الجواز دون اللزوم.
وبما ذكرنا من
الاخبار الصريحة الدلالة على القول المذكور يظهر لك ما في كلام المحقق الأردبيلي (رحمهالله عليه) هنا من القصور ، حيث انه لم يقف في المقام الا
على رواية غياث المذكورة ، فقال بعد ذكر كلام الأصحاب : ما لفظه الحكم مشهور بينهم
، ومستندهم رواية غياث ثم ساق الرواية الى أن قال : والشهرة ليست بحجة ، وابن
إدريس مخالف ، ونقل عنه ان لكل واحد ما اقتضى كما هو مقتضى القسمة ، والمستند غير
معتبر ، لوجود غياث كأنه ابن إبراهيم البتري ، وأدلة لزوم الشرط تقتضيه ، وكذا
التسلط على مال نفسه ، وجواز الأكل مع التراضي والتعيين التام ليس بمعتبر في
القسمة ، بل يكفي في الجملة كما في المعاوضات ، فإنه يجوز البيع ونحوه ، ولان
الدين المشترك بمنزلة دينين لشخصين ، وللمالك ان يخص أحدهما دون الأخر ، فلو كان
قابل بتخصيص كل واحد قبل القسمة بحصة لأمكن ذلك أيضا ، فإن الثابت في الذمة أمر
كلي قابل للقسمة ، وانما يتعين بتعيين المالك فله ان يعين ، ولكن الظاهر انه لا
قائل به قبل القسمة ، وبعدها القول به نادر من غير دليل ، والشهرة مع الخبر
المجبور بها يمنع ذلك ، ويؤيد بالاستصحاب
__________________
والاحتياط فتأمل انتهى.
وليت شعري كيف
ذهب عليه الوقوف على هذه الاخبار مع تعددها ـ وروايتها في الأصول متكثر الطرق ـ حتى
ارتكب ما ارتكب من هذه التمحلات ـ التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ـ وتجاوز
ذلك الى احتمال القول بتخصيص كل واحد قبل القسمة بحصة ، ولم يمنعه منه الا عدم
وجود القائل ، والكل كما عرفت نفخ في غير ضرام ، كما لا يخفى على من وقف على ما
نقلناه من أخبارهم عليهمالسلام.
وقال شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك : والحيلة في تصحيح ذلك أن يحيل كل منهما صاحبه بحصته
التي يريد إعطائها صاحبه ، ويقبل الآخر بناء على صحة الحوالة ممن ليس في ذمته دين
، فلو فرض سبق دين له عليه فلا إشكال في الصحة ، ولو اصطلحا على ما في الذمم بعضها
ببعض فقد قرب في الدروس صحته ، وهو حسن بناء على أصالته انتهى.
أقول : ما ذكره
من الحيلة ـ في تصحيح ذلك بالحوالة ـ فيه أن رواية أبي حمزة ورواية غياث ظاهرتان
في عدم صحتها ، وأنها لا تفيد فائدة ، بل الواجب هو اقتسام ما خرج وما ذهب فهو على
الجميع ، ويمكن بناؤه على ما ذكره من عدم صحة الحوالة ممن ليس في ذمته دين ، فيكون
الخبران المذكوران حجة لذلك ، وأما ما ذكره من الصلح فالظاهر صحته لعموم أدلة
الصلح.
ويؤيده ما رواه
في الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح أو الحسن عن أحدهما عليهماالسلام «أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحد
منهما كم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما : لك ما عندك ولي ما عندي قال : لا
بأس إذا تراضيا ، وطابت أنفسهما».
ومن هذه
الرواية وأمثالها يظهر أن الصلح عقد برأسه ، لا متفرع على البيع كما أشار إليه ،
لعدم صحة البيع في الصورة المذكورة ، والرواية المذكورة وان لم تكن من محل البحث ،
الا أن صحة الصلح على هذه الكيفية مستلزمة للصحة
__________________
فيما نحن فيه ، فإنه إذا جاز مع هذه الجهالة التامة ففيما نحن فيه اولى ،
والجميع مشترك في كون المال في الذمم والله العالم.
المسألة
السابعة ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو دفع المديون عروضا عما في ذمته من غير
مساعرة ، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القبض ، لأنه إنما دفعها عوضا عما في ذمته ،
والظاهر أنها تدخل في ملك الغريم بمجرد القبض ، وان لم تحصل المساعرة.
ويدل على ذلك
ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار قال : «كتبت إليه في رجل كان له على رجل مال فلما حل
عليه المال أعطاه بها طعاما أو قطنا أو زعفرانا ولم يقاطعه على السعر ، فلما كان
بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الزعفران والطعام والقطن أو نقص بأي السعرين يحسبه؟ قال
: لصاحب الدين سعر يومه الذي أعطاه وحل ماله عليه ، أو يوم حاسبه؟
فوقع عليهالسلام ليس له الا على حسب سعر وقت ما دفع اليه الطعام إنشاء
الله ، قال : وكتبت اليه الرجل استأجر أجيرا ليعمل له بناء أو غيره من الأعمال
وجعل يعطيه طعاما وقطنا أو غيرهما ثم يتغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان أعطاه
إلى نقصان أو زيادة ، أفيحتسب له بسعره يوم أعطاه أو بسعر يوم شارطه؟ فوقع عليهالسلام يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه ان شاء الله».
وروى في الكافي
عن محمد بن يحيى في الصحيح قال : «كتب محمد بن الحسن الى أبى محمد عليهالسلام رجل استأجر أجيرا يعمل له بناء وغيره وجعل يعطيه طعاما
وقطنا أو غير ذلك ثم تغير الطعام والقطن من سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو
زيادة أفيحتسب له بسعره يوم أعطاه أو سعر يوم شارطه؟ فوقع عليهالسلام : يحسب له بسعر يوم شارطه فيه إنشاء الله ، وأجاب عليهالسلام في المال
__________________
يحل على الرجل فيعطى به طعاما عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر ، فوقع عليهالسلام : له سعر يوم أعطاه الطعام». والخبران صريحان في المدعى
بالنسبة إلى محل المسألة.
وأما بالنسبة
إلى الأجرة وقوله عليهالسلام بسعر يوم شارطه فلا يخلو من اشتباه وخفاء ، والأظهر
عندي رجوعه الى يوم القبض ايضا ، كما في السؤال الأخر وتوضيحه أنه لا ريب أنه
بالاستيجار يستحق الأجرة وان توقف وجوب الدفع على العمل ، وحينئذ فإذا دفع عروضا
في ذلك الوقت انتقل اليه بالملك ، وصار عوضا عن أجرته كما أنه بالحلول ـ في السؤال
الآخر ـ يستحق المال ، وكل ما يدفع اليه من العروض فإنه يملكه عوضا عما في ذمة
المستدين ، وحينئذ فيعتبر في كلا المسألتين قيمة ذلك الوقت الذي دخل فيه في ملك
القابض ، فكأنه بمنزلة نقد دفعه إليه في ذلك الوقت ، ولا ينافيه حصول مدة مثلا لو
فرض بين يوم الإجارة ويوم القبض ، لان ظاهر الخبر أن السعر واحد في ذلك المدة ،
وانما تغير بعد تمام القبض ، كما يشير اليه قوله في أحد الخبرين «بعد شهرين أو
ثلاثة» يعنى من وقت القبض.
وحينئذ فلا
منافاة في إطلاق سعر يوم الشرط على يوم القبض ، فإنه مبنى على عدم الفاصلة المعتد
بها على استمرار القيمة وامتدادها ، وأنه لم يحصل التغير الا بعد مدة مديدة ، وباب
التجوز في الكلام أوسع من ذلك.
والظاهر ايضا
انسحاب الحكم في النقدين لو كان أحدهما في ذمته وأعطاه الأخر قضاء عن دينه من غير
محاسبة ثم تغير السعر بعد مدة ، فإنه يحتسب يوم القبض.
ويدل عليه جملة
من الاخبار منها ما رواه المشايخ الثلاثة نور الله مراقدهم عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يكون لي عليه المال فيقضيني بعضا دنانير وبعضا
دراهم ، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدنانير ، أى السعرين أحسب له؟
الذي يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي الذي
__________________
أحاسبه؟ فقال : سعر يوم أعطاك الدنانير ، لأنك حبست منفعتها عنه» .
والظاهر أن
قوله «حبست منفعتها عنه» كناية عن انتقالها الى القابض بالملك ، وبزوال ملك الدافع
عنها ، فلا انتفاع له بها بالكلية ، لخروجها عن ملكه ، وبه يحصل حبس منفعتها عنه ،
وإذا انتقلت الى ملك القابض سقط بإزائها من تلك الدراهم ما قابلها بصرف ذلك اليوم
، لأنها لم ينتقل اليه مجانا ، وانما انتقلت عوضا فلا بد من سقوط عوضها ذلك اليوم
بذلك الصرف الأول.
ومنها ما رواه في
التهذيب عن يوسف بن أيوب شريك إبراهيم بن ميمون عن أبى عبد الله عليهالسلام «قال في الرجل يكون له على الرجل دراهم فيعطيه دنانير ولا يصارفه ، فتغير
الدنانير بزيادة أو نقصان قال : له سعر يوم أعطاه».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن عبد الملك بن عتبة الهاشمي قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ مكانها
ورقا في حوائجه وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلب صاحب المال بعض
الورق ، وليست حاضرة فيبتاعها له من الصيرفي بهذا السعر ، ثم يتغير السعر قبل ان
يحتسبا حتى صار الورق اثنى عشر درهما بدينار ، فهل يصلح له ذلك وانما هي بالسعر
الأول من يوم قبضت كانت سبعة؟ وسبعة ونصف بدينار ، قال : إذا دفع اليه الورق بقدر
الدينار فلا يضره كيف كان الصرف ، ولا بأس».
__________________
أقول : لعل
المعنى في قوله عليهالسلام «إذا دفع اليه الورق» الى آخره أنه إذا كان دفع الورق على جهة العوض عن
الدنانير ، وأداء لها فإنه ينصرف مقدار قيمة الدينار في ذلك الوقت الى ما يقابلها
من تلك الدنانير ، لان الفرض ان دفع تلك الورق انما هو لتفريغ ذمته من الدنانير
التي عليه ، لا لغرض آخر. وحينئذ فلا يضره زيادة الصرف أو نقصانه بعد وقوع التهاتر
والتساقط بين تلك الورق والدنانير ، فإنه قد برئت الذمة وخلت العهدة بما دفعه عن
قدر ما دفعه كلا أو بعضا.
ومنها ما رواه الشيخ
في الموثق عن إبراهيم بن عبد الحميد عن عبد صالح عليهالسلام ، قال : «سألته عن الرجل يكون له عند الرجل دنانير أو
خليط له ، يأخذ مكانها ورقا في حوائجه وهي يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد
يطلبها الصيرفي وليس الورق حاضرا فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة نصف
ثم يجيء يحاسبه وقد ارتفع سعر الدنانير فصار باثني عشر كل دينار ، هل يصلح ذلك له؟
أو انما هي له بالسعر الأول يوم قبض منه الدراهم فلا يضره كيف كان السعر؟ قال :
يحسبها بالسعر الأول فلا بأس به».
ومنها ما رواه الصدوق
والشيخ عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليهالسلام : الرجل يكون له على الرجل الدنانير فيأخذ منه دراهم ثم
يتغير السعر؟ قال : فهي له على السعر الذي أخذها منه يومئذ ، وان أخذ دنانير فليس
له دراهم عنده ، فدنانيره عليه يأخذها برؤسها متى شاء». كذا في رواية الشيخ ، وفي
رواية الصدوق «وليس له دراهم عنده» الى آخره.
قال المحدث
الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر برواية التهذيب ما صورته : بيان : يعنى وقع
الفضل بينهما بأخذه الدراهم أو لإمكان دنانيره ثم ان أخذ دنانير ثانيا بعد ذلك ،
فليس للمعطي أن يجعلها في مقابلة دنانيره التي كانت
__________________
له عليه أولا ، ويطلب منه دراهمه ، إذ لا دراهم له عليه حينئذ بل ليس له
الا دراهمه التي أعطاها ثانيا يأخذها متى شاء انتهى.
أقول : ما ذكره
جيد بالنظر الى ما نقله من رواية الشيخ ، وأما على تقدير رواية الصدوق بالواو
فالظاهر أن المعنى أن صاحب الطلب إذا أخذ دنانير عوض دنانيره ، والحال أنه لم يقبض
دراهم عوض طلبه كما في الفرض الأول ، فهذه الدنانير عوض دنانيره التي في ذمة
المديون يأخذها برؤسها متى شاء.
والحق أن الخبر
لا يخلو من إجمال بالنسبة إلى قوله ثم «تغير السعر» الى آخره ، وأنه هل أراد سعر
الدراهم أو سعر الدنانير؟ فيحتمل أن يكون المراد سعر الدنانير ، ويكون حاصل المعنى
أنه إذا أقرض رجل رجلا دنانير ثم أخذ المقرض عوض دنانيره دراهم من غير مساعرة ، ثم
تغير سعر الدنانير بالزيادة أو النقصان ، فما الذي يعمل عليه يوم المحاسبة؟ فأجاب عليهالسلام بقوله «فهي له» أى الدنانير للمقرض ، بسعر اليوم
اقترضها فيه للمستدين ، فعليه أداء قيمتها بسعر ذلك اليوم ، وحينئذ فيحسب له قيمة
الدنانير من تلك الدراهم التي دفعها اليه بالسعر المذكور ، وان أخذ المقرض من
المستدين دنانير بجنسها لا بالتبديل ، والحال أنه ليس له دراهم عنده بالتبديل ،
فهذه الدنانير عوض دنانيره حسبما قدمناه في كلامنا على صاحب الوافي.
وأنت خبير بان
هذا المعنى مبنى على نسخة (الواو) كما في الفقيه ، ويحتمل أن المراد سعر الدراهم وضمير
هي راجع إليها ، بمعنى أنه إذا تغير سعر الدراهم من وقت دفعها الى سعر آخر يوم
المحاسبة ، فتلك الدراهم للمقرض يأخذها بسعر يوم أخذها ، لا يوم المحاسبة ، ثم ذكر
صورة أخرى بقوله «وان أخذ» يعنى المقرض دنانير والحال أنه لم يكن دراهم سابقة في
ذمة معطي الدنانير ليكون أخذه عوضا عنها ، فليس له ذلك ، بل هي عليه يأخذها صاحبها
برؤسها هذا على نسخة الواو ، وعلى نسخة الفاء يكون المعنى ما قدمنا نقله عن الوافي
ـ والله العالم.
المسألة
الثامنة ـ إذا قتل المديون عمدا ولا مال له قال الشيخ في النهاية : لم
يكن لأوليائه القود الا بعد تضمين الدين عن صاحبهم ، فان لم يفعلوا ذلك لم
يكن لهم القود ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم ، وبه قال أبو الصلاح وابن
البراج ونسب هذا القول في الدروس الى المشهور ، وقال أبو منصور الطبرسي : إذا بذل القاتل الدية لم يكن للأولياء القود الا بعد
ضمان الدين ، وان لم يبذل جاز لهم القود من غير ضمان ، وقال ابن إدريس والمحقق
والعلامة : ان للورثة استيفاء القصاص ، وان بذل الجاني الدية من غير ضمان للدين ،
واحتجوا على ذلك بأن موجب العمد القصاص ، وأخذ الدية اكتساب ، وهو غير واجب على
الوارث في دين مورثه ، ولعموم قوله تعالى «فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» وقوله تعالى «النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ».
ونقل العلامة
في المختلف عن الشيخ أنه احتج بما رواه عبد الحميد بن سعيد قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدية
من قاتله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : نعم ، قال : قلت : وهو لم يترك شيئا ،
قال : إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا عنه الدين».
ثم أجاب عن
الرواية المذكورة بالمنع من الدلالة على محل النزاع ، قال : أما أولا فلاحتمال أن
يكون القتل خطاء أو شبهة ، واما ثانيا فلان السؤال وقع عن أولياء أخذوا الدية ،
ونحن نقول بموجبه ، فإن الورثة لو صالحوا القاتل على الدية وجب قضاء الدين منها
انتهى.
__________________
أقول : ما أجاب
به عن الرواية المذكورة جيد ، الا أن إيراده هذه الرواية دليلا للشيخ رحمة الله
عليه ليس في محله ، بل هنا رواية أخرى صريحة فيما ذهب اليه الشيخ ، والظاهر أنها
هي المستند له فيما ذهب إليه في نهايته.
والذي وقفت
عليه مما يتعلق بهذا المقام من الروايات منها ما رواه في التهذيب والصدوق في
الفقيه عن أبى بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل قتل وعليه دين وليس له مال ، فهل لأوليائه أن
يهبوا دمه لقاتله وعليه دين؟ فقال : أن أصحاب الدين (هم الخصماء) للقاتل ، وان وهب
أولياؤه دمه للقاتل ضمنوا الدية للغرماء ، والا فلا».
ورواه الشيخ
أيضا بطريق آخر عن أبى بصير ايضا مثله ، الا انه قال : «فان وهبوا أولياؤه دية
القاتل فهو جائز ، وان أرادوا القود ليس لهم ذلك ، حتى يضمنوا الدين للغرماء ،
والا فلا». وهذه الرواية هي التي أشرنا إليه بأنها دليل لما ذهب اليه الشيخ ، قال
في الوافي في ذيل هذا الخبر : انما جاز لهم الهبة ولم يجز القود حتى يضمنوا ، لانه
مع الهبة يتمكن الغرماء من الرجوع الى القاتل بحقهم ، بخلاف ما إذا قيد منه.
أقول : ان
الخبر الأول قد دل على أنهم يضمنون الدين مع الهبة أيضا ، ويدل على ذلك أيضا الخبر
الاتى ، ومقتضاهما أن الورثة بالهبة يضمنون دين الغرماء ، وأنه ليس لهم العفو بدون
ذلك ، وهو أحد الأقوال في المسألة أيضا على ما نقله في المسالك ، فكيف يتم الحكم
بجواز الهبة لهم ، ورجوع الغرماء على القائل بالدين ، كما يظهر من كلامه.
والعجب أنه نقل
هذه الاخبار كلها في باب واحد ، ولم يتفطن لما ذكرناه ، ولا يحضرني وجه للجواب عن
ذلك الا بأن تحمل الرواية على جواز الهبة فيما يخصهم من الدية ،
__________________
إذا كان فيها زيادة على الدين ، كما يشير اليه كلام الشيخ فيما تقدم من
عبارته ، وقوله «وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم» فان حاصل كلامه أنهم ان لم
يفعلوا ذلك أى ان لم يضمنوا الدين لم يكن لهم القود ، بل تعين عليهم أخذ الدية ،
وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم من الدية بعد الدين ، بحمل ذلك على زيادة الدية
على الدين.
ومنها ما رواه في
الفقيه عن محمد بن أسلم عن على بن أبي حمزة عن أبى الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام ، قال : «قلت له : جعلت فداك رجل قتل رجلا متعمدا أو
خطأ وعليه دين ومال فأراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ فقال : ان وهبوا دمه ضمنوا
الدين ، قلت : فإنهم أرادوا قتله فقال : ان قتل عمدا قتل قاتله ، وأدى عنه الامام
الدين من سهم الغارمين ، قلت : فان هو قتل عمدا وصالح أولياؤه قاتله على الدية
فعلى من الدين؟ على أوليائه من الدية أو على امام المسلمين؟ فقال : بل يؤدوا دينه
من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه فإنه أحق بديته من غيره».
وأجاب الشهيد (قدسسره) في كتاب نكت الإرشاد عن رواية أبي بصير التي برواية
الشيخ خاصة ، لأنها هي المتضمنة لمحل البحث ، بضعف السند وندورها ، فلا تعارض
الأصول ، وحملها الطبرسي المتقدم ذكره على ما إذا بذل القاتل الدية ، فإنه يجب على
الأولياء قبولها ، ولا يجوز للأولياء القصاص الا بعد الضمان ، حسبما قدمنا من نقل
كلامه.
وأنت خبير بأن
رد الخبر بضعف السند غير مرضى على رأينا ولا معتمد ، وكذا ارتكاب تأويله من غير
معارض ، ولا معارض له الا ما نقلناه عنهم آنفا من العمومات ، والواجب تخصيصها به ،
إذ لا منافاة بين المطلق والمقيد والخاص والعام ، وهذا مقتضى قواعدهم في غير مقام.
ويؤيد الخبير
المذكور ما دل من الخبرين المذكورين ، على أنه ليس لأولياء الدم هبته حتى يضمنوا
الدين ايضا .
__________________
وإذا عرفت ذلك
فاعلم ان الأشهر الأظهر أن الدية في حكم المال المقتول يقضى منها دينه ويقضى منه
وصاياه وترثها ورثته ، وقيل انها لا تصرف في الدين لتأخر استحقاقها عن الحياة التي
هي شرط الملك ، والدين كان متعلقا بالذمة حال الحياة ، وبالمال بعدها ، والميت لا
يملك بعد وفائه.
ولا يخفى ما
فيه ، فإنه اجتهاد في مقابلة النصوص ، وجرءة على أهل الخصوص ، وقد عرفت دلالة
الروايات المتقدمة على وجوب أداء الدين منها.
ونحوها ما رواه
في الكافي في الصحيح عن يحيى الأزرق وهو مجهول عن أبى الحسن عليهالسلام «في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا فأخذ أهله الدين من قاتله أعليهم أن
يقضوا الدين؟ قال : نعم قال : قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : قال : إنما أخذوا
الدية فعليهم أن يقضوا دينه».
ونحوها رواية
أخرى له ، وأصرح من ذلك ما ورد من الاخبار الدالة على انه يرثها الورثة على كتاب
الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله مثل صحيحة سليمان بن خالد وصحيحة عبد الله بن سنان
وصحيحة محمد بن قيس وفي بعضها عدم إرث الأخوات من الام من الدية.
وبالجملة فإن
القول المذكور ظاهر القصور ، وقيل : أيضا بالفرق بين دية الخطاء ودية العمد ، إذا
رضي الوارث بها معللا بأن العمد انما يوجب القصاص ، وهو حق للوارث فإذا رضي بالدية
كانت عوضا عنه ، فكانت أبعد من استحقاق الميت
__________________
من دية الخطاء وفيه ما في سابقه من الضعف والقصور ، لعموم جملة من الاخبار
المتقدمة وخصوص روايات أبى بصير الثلاثة ولا سيما الأخيرة لقوله فيها «بل يؤدوا
دينه من ديته التي صالح عليها أولياؤه فإنه أحق بديته من غيره».
بقي الكلام في
أن خبر أبى بصير الثالث ظاهر في أنه مع اختيار الورثة القتل في العمد فالدين على
الإمام يؤديه عن الميت من سهم الغارمين ، وخبره الثاني يدل على انه على الورثة كما
هو فول الشيخ رحمهالله ، وأنه لا يجوز لهم اختيار القتل الا بعد ضمان الدين ،
ويمكن الجمع بينهما بحمل الخبر الثالث على وجود الامام وتمكنه من القيام بذلك وحمل
الأخر على عدم ذلك والله العالم.
المسألة
التاسعة : إذا جحد المديون المال ولا بينة للمدعى فهنا صورتان الاولى ـ أن يحلف
المديون ، والأشهر الأظهر عدم جواز مطالبته ، وان أقام البينة بذلك ، لان اليمين
قد ذهب بحقه ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في المسألة الخامسة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع وأركانه.
وقد ورد
بإزائها من الاخبار ما يدل على خلاف ذلك. وقد تقدم وجه الجمع بينها ثمة ، وفي
المسألة أقوال آخر شاذة يأتي ذكرها إنشاء الله تعالى في بابها.
نعم لو رجع
الحالف بعد ذلك وأتى بالمال من قبل نفسه من غير طلب ، وأكذب نفسه فإنه يجوز قوله ،
صرح بذلك الشيخ في النهاية ، فقال : إذا جحد المديون المال ولا بينة فحلفه المدعى
عند الحاكم لم يجز له بعد ذلك مطالبته بشيء ، فإن جاء الحالف ثانيا ورد عليه ماله
جاز له أخذه ، فإن أعطاه مع رأس المال ربحا أخذ رأس المال ونصف الربح انتهى. وبه
صرح ابن البراج.
__________________
وقال ابن إدريس
: ان كان المال دينا أو قرضا أو غصبا واشترى الغاصب في الذمة ، ونقد المغصوب
فالربح كله له دون المالك ، وان اشترى بالعين المغصوبة فالصحيح بطلان البيع ،
والأمتعة لأصحابها ، والأرباح والأثمان لأصحابها ، وان كان مضاربة شرط له من الربح
النصف صح قول الشيخ وحمل عليه ، وخص ما ورد من الاخبار بذلك ، فان العموم قد يخص ،
للدلالة ، وقال العلامة في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : أقول : الشيخ رحمهالله لم يتعرض لبيان مستحق الربح ، وانما قال : إذا دفع
الحالف المال والربح أخذ المالك المال لاستحقاقه إياه ، وأخذ نصف الربح من حيث ان
الحالف أباحه الأخذ ، وكان ينبغي ان يأخذ نصفه على عادات العاملين في التجارات
انتهى.
أقول : الذي
وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق والشيخ في كتابيهما عن مسمع قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انى كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي ، ثم انه
جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي كنت استودعته إياه ، فقال : هذا مالك فخذه ،
وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك ، واجعلني في حل فأخذت المال
منه ، وأبيت أن آخذ الربح منه ، ووقفت المال الذي كنت استودعته ، وأتيت حتى أستطلع
رأيك فما ترى؟ قال : فقال : خذ نصف الربح ، وأعطه النصف ، وحلله ان هذا رجل تائب
والله يحب التوابين». وبمضمونه أفتى الصدوق في باب بطلان حق المدعى بالتحليف ، وان
كان له بينة من كتاب الفقيه ، فقال : متى جاء الرجل الذي حلف على حق ثانيا وحمل ما
عليه ما ربح فيه فعلى صاحب الحق أن يأخذ منه رأس المال ونصف الربح ، ويرد عليه نصف
الربح ، فان هذا رجل تائب انتهى.
وما في كتاب
الفقه الرضوي حيث قال عليهالسلام ، وإذا أعطيت رجلا مالا فجحدك وحلف عليه ثم أتاك بالمال
بعد مدة وبما ربح فيه وندم على ما كان منه فخذ منه رأس
__________________
مالك ، ونصف الربح ، ورد عليه نصف الربع هذا رجل تائب انتهى .
ثم ان الظاهر
ان مناقشة ابن إدريس هنا واهية ، وتخصيصه جواز الأخذ بالمضاربة وشرط نصف الربح
أبعد بعيد ، فإنه لا يخفى أن المتعارف بين التجار كما هو الآن المعمول عليه بينهم
فكذا في الأزمنة السابقة أن الاشتراء انما يقع في الذمة ، فالبيع صحيح بلا اشكال ،
والربح للمشتري بلا خلاف ، ولكن الرجل لما قصد التوبة وندم على ما وقع منه ظن أن
ما حصله من الربح بواسطة هذا المال انما هو لصاحب المال فاتى به ليطلب طيب نفسه ،
وأن يحلله ويبرئ ذمته ، والامام عليهالسلام أمره بأخذ رأس المال لانه حقه في ذمته ، وان لم يجز له
المطالبة به بعد الرضا باليمين ، فلما بذله الرجل واعترف به جاز له أخذه وامره
بأخذ نصف الربح في مقابلة تحليله وإبراء ذمته ورضاء نفسه لا تكون ذلك حقا شرعيا ،
فهو من قبيل الصلح على ذلك ، وانما خصه بالنصف إيثارا للرجل المديون من حيث توبته
، وأن الله تعالى يحبه من هذه الجهة ، فينبغي أن يسامحه له نصف الربح ، وان كان هو
قد سمح بالربح ، هذا هو الظاهر من سياق الخبرين المذكورين.
ثم ان الظاهر
من كلام الأصحاب أنه لو أكذب نفسه وان لم يأت بالمال فإنه يجوز مطالبته ، وتحل
مقاصته مما يجده الغريم من أمواله متى امتنع من التسليم ، ولم أقف فيه على نص :
ومورد الروايتين المتقدمتين انما هو بذل المديون المال ، والإتيان به ، بل ربما
ظهر من رواية المسئلة ـ الدالة على أنه إذا استحلفه فليس
__________________
له أن يأخذ منه شيئا ، وان لم يستحلفه فهو على حقه ـ هو عدم الجواز ، لأنها
شاملة بإطلاقها لما لو أكذب نفسه ، أو بقي على إنكاره ، نعم خرج منها مورد النص
المذكور من إعطائه المال من قبل نفسه ، ويبقى ما عداه والى ما ذكرنا يشير كلام
صاحب الكفاية .
الثانية ـ أن
يجحد نفسه ويتعذر استيفائه منه ، ولا إشكال في جواز الأخذ منه مقاصة ، وان أمكن
إقامة البينة بالحق عند الحاكم ، وقيل : بعدم الجواز مع إمكان الإثبات عند الحاكم
الشرعي ، وقد تقدم تحقيق في هذا المقام في المسألة المشار إليها في صدر هذا الكلام
مفصلا جليا والله العالم.
المسألة
العاشرة ـ من المستحبات في هذا الباب هو أنه يستحب للغريم الإرفاق بالمديون في
الاقتضاء والمسامحة في الحساب وعدم الاستقضاء ، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في
التهذيب عن حماد بن عثمان قال : «دخل رجل على أبى عبد الله عليهالسلام فشكى اليه رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو فقال
له : أبو عبد الله عليهالسلام ما لأخيك فلان يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني استقضيت منه
حقي قال : فجلس مغضبا فقال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ أرأيت ما حكى الله تعالى
في كتابه فقال «وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ»
أترى أنهم
خافوا الله أن يجور عليهم ، لا والله ما خافوا الا الاستقضاء فسماه الله عزوجل سوء الحساب ، فمن استقضى
__________________
فقد أساء». وروى العياشي في تفسيره عن حماد بن عثمان مثله وروى الصدوق في كتاب معاني الاخبار عن حماد بن
عثمان عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه قال : لرجل يا فلان مالك ولأخيك؟ قال : جعلت فداك
كان لي عليه شيء فاستقضيت عليه حقي فقال أبو عبد الله عليهالسلام : أخبرني عن قول الله عزوجل «يَخافُونَ سُوءَ
الْحِسابِ» أتريهم يخافون أن يحيف الله عليهم أو يظلمهم ولكن خافوا
الاستقضاء والمداقة».
وما رواه في
الكافي عن محمد بن يحيى رفعه الى أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : قال له رجل : ان لي على بعض الحسنيين مالا وقد
أعياني أخذه وقد جرى بيني وبينه كلام ، ولا آمن أن يجرى بيني وبينه ما اغتم له ،
فقال له أبو عبد الله عليهالسلام ليس هذا طريق التقاضي ، ولكن إذا أتيته فاطل الجلوس ،
والزم السكوت قال الرجل : فما فعلت ذلك الا يسيرا حتى أخذت مالي».
ومنها الانظار
والتحليل ـ ويدل على الأول بعد الآية أعنى قوله عزوجل (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)» ـ الأخبار فروى في الكافي عن معاوية بن عمار في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من أراد أن يظله الله يوم لا ظل الا ظله ، قالها
ثلاثا وهابه الناس أن يسألوه فقال : فلينظر معسرا أو يدع له من حقه». وبهذا
المضمون أخبار عديدة في كتاب ثواب الأعمال.
وروى في
التهذيب عن إبراهيم بن عبد الحميد في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان لعبد الرحمن بن سيابة دينا على رجل قد مات ،
وكلمناه أن يحلله فأبى ، قال : ويحه أما يعلم أن له بكل درهم عشرة دراهم إذا حلله
، فان لم يحلله فإنما له درهم بدرهم».
__________________
وأما ما رواه
في التهذيب عن هيثم الصيرفي عن رجل عن أبى عبد الله عليهالسلام «في رجل كان له على رجل دين وعليه دين ، فمات الذي عليه فسأل أن يحلله منه
أيهما أفضل يحلله منه أو لا يحلله قال : دعه ذا بذا». فقيل : انه محمول على ما إذا
كان صاحب الدين معسرا عن أداء ما عليه من الدين ، فإنه لعل الله أن يتيح له من
يقضى دين ذلك الميت فيقضى به الحي دينه.
ومنها حسن
القضاء ، فروى في الفقيه مرسلا «قال النبي صلىاللهعليهوآله : ليس من غريم ينطلق من عند غريمه راضيا الا صلت عليه
دواب الأرض ، ونون البحور ، وليس من غريم ينطلق صاحبه غضبان وهو مليء إلا كتب
الله له بكل يوم يحبسه وليلة ظلما».
وروى في الكافي
عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : المدين ثلاثة ، رجل كان له فأنظر ، وإذا كان عليه
أعطى ولم يمطل ، فذاك له ولا عليه ، ورجل إذا كان له استوفى ، وإذا كان عليه أوفى
فذاك لا له ولا عليه ، ورجل إذا كان له استوفى ، وإذا كان عليه مطل فذاك عليه ولا
له».
ومنها أن لا
ينزل على غريمه ، ولا يأكل طعامه وشرابه ، فان فعل فلا يزيد على ثلاثة أيام ، وأن
يحتسب ما يهديه اليه من دينه.
فروى في الكافي
والتهذيب عن جراح المدائني عن ابى عبد الله عليهالسلام أنه كره أن ينزل الرجل على الرجل وله عليه دين ، وان
كان قد صرها له الا ثلاثة أيام».
وروى المشايخ
الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم ، عن سماعة في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل ينزل على الرجل وله عليه دين أياكل من طعامه
فقال : نعم يأكل من طعامه ثلاثة أيام ، ثم لا يأكل بعد ذلك شيئا».
__________________
وروى في
التهذيب عن جميل بن دراج في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يأكل عند غريمه أو يشرب من شرابه أو يهدي له الهدية؟ قال : لا
بأس به».
وروى في
التهذيب عن الحلبي في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام «أنه كره للرجل أن ينزل على غريمه ، قال : لا يأكل من طعامه ، ولا يشرب من
شرابه ، ولا يعتلف من علفه».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «وسئل أبو جعفر عليهالسلام عن الرجل يكون له على الرجل الدراهم والمال ، فيدعوه
الى طعامه أو يهدي له الهدية قال : لا بأس».
وروى في الكافي
والتهذيب عن غياث بن إبراهيم عن أبى عبد الله عليهالسلام «ان رجلا أتى عليا فقال له : ان لي على رجل دينا فأهدى الى هدية فقال عليهالسلام : احسبه من دينك عليه».
أقول :
المستفاد من هذه الاخبار ـ بعد ضم بعضها الى بعض بحمل مطلقها على مقيدها ومجملها
على مبينها وبه صرح الأصحاب أيضا ـ هو كراهة النزول على الغريم مطلقا ، وان كانت
الثلاثة أخف كراهة وهي وان كانت سنة بالنسبة إلى الضيف النازل على أهل البلد ، لكن
في غير صورة الدين ، والمنقول عن الحلي التحريم فيما زاد على الثلاثة ، ويحتمل
خروج الثلاثة من الكراهة بالنظر الى ما قلناه ، وتخصيصها بما عدا الثلاثة ، وأنه ،
يستحب احتساب الهدية من الدين ، كما قدمنا ذكره في صدر الكلام.
ومثل رواية غيث
في الدلالة على ذلك مفهوم رواية هذيل بن حيان الصيرفي المتقدمة في الموضع الأول من
المقصد الأول في القرض ، وقوله فيها «ان كان يصلك
__________________
قبل أن تدفع اليه مالك فخذ ما يعطيك» فان مفهومه المنع من قبول ذلك لو لم
يكن كذلك ، وقد قدمنا ثمة بيان حمله على الكراهة ، والاستحباب أن يحسبه من الدين
قال في الدروس
: ويستحب احتساب هدية الغريم من دينه ، للرواية عن على عليهالسلام ويتأكد فيما لم يجر عادته به انتهى. والظاهر أنه أشار
بقوله ويتأكد الى آخره الى ما ذكرنا من رواية هذيل بن حبان ، فإنها هي المتضمنة
لذلك مما وصل إلينا من الاخبار.
وكيف كان فما
ذكرناه من كراهة النزول ينبغي حمله على ما لم يظهر من المديون كراهة النزول عليه ،
والتأذي بالجلوس عنده وأكل طعامه ، والا فلا يبعد التحريم ، والاحتياط لا يخفى.
ومنها ترك
التعرض للمديون في الحرم وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في المسألة الثالثة
من هذا المقصد.
ومنها استحباب
التقصير على نفسه لأجل التوصل إلى أداء دينه ، وبه يجمع بين ما دل من الاخبار على
وجوب ذلك ، كروايتي سماعة المتقدمتين في صدر هذا الكتاب ، وبين ما دل على العدم ،
كرواية أبي موسى ورواية موسى بن بكر ومرسلة على بن إسماعيل المتقدم جميعه ثمة .
قال في الدروس
: ويجب على المديون الاقتصاد في النفقة ، ويحرم الإسراف ، ولا يجب التقتير ، وهل
يستحب؟ الأقرب ذلك إذا رضي عياله.
ومنها استحباب
الاشهاد على الدين فروى في الكافي عن جعفر بن إبراهيم عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «أربعة لا يستجاب لهم دعوة ، الرجل جالس في بيته يقول اللهم ارزقني ،
فيقال له : ألم آمرك بالطلب ، ورجل كانت له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم
أجعل أمرها إليك ، ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهم ارزقني ، فيقال : ألم
آمرك بالاقتصاد ، ألم آمرك بالإصلاح ، ثم قال :
«وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا
__________________
لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً»
ورجل كان له
مال فأدانه بغير بينة ، فيقال له : ألم آمرك بالشهادة». وعن عمران بن أبى عاصم قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام أربعة لا يستجاب لهم دعوة ، أحدهم رجل كان له مال
فأدانه بغير بينة ، يقول : الله عزوجل ألم آمرك بالشهادة». وعن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من ذهب حقه على غير بينة لم يؤجر».
ومنها استحباب
ترك الاستدانة مع الاستغناء وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في صدر هذا الكتاب.
ومنها انه
يستحب أداء الدين على الأبوين ويتأكد بعد الموت ، فروى الحسين بن سعيد في كتاب
الزهد عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «ان العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم
يموتان فلا يقضى عنهما الدين ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقا ، وانه ليكون غير
بار لهما في حياتهما فإذا ماتا قضى عنهما الدين ، واستغفر لهما ، فيكتبه الله بارا
، قال : وقال أبو عبد الله عليهالسلام أن أحببت أن يزيد الله في عمرك فبر أبويك ، وقال : البر
يزيد في الرزق».
وعن سالم
الحناط عن أبى جعفر عليهالسلام قال : قلت له : أيجزي الولد الوالد؟ قال : لا إلا في
خصلتين يجده مملوكا فيشترى فيعتقه ، أو يكون عليه دين فيقضيه عنه». ورواه الكليني
وكذا الذي قبله.
المسألة
الحادية عشر ـ لو ضمن أحد عن الميت دينه ، فالظاهر أنه لا خلاف في أنه تبرأ ذمته
وينتقل المال إلى ذمة الضامن ، سواء كان في مرض الموت أو قبله أو بعده ، واستدل
عليه بأن الضمان ناقل فهو بمنزلة الأداء ، والمعتمد في ذلك انما هو الاخبار
المتفقة على الحكم المذكور.
ومنها ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله
__________________
بن سنان عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : إذا رضى به الغرماء
فقد برئت ذمة الميت».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن إسحاق بن عمار في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يكون عليه دين فحضره الموت فيقول وليه : على دينك قال : يبرؤه
ذلك وان لم يوفه وليه من بعده ، وقال : أرجو ان لا يأثم وانما إثمه على الذي يحبسه».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الحسين بن الجهم في الموثق قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل مات وله على دين وخلف ولدا رجالا ونساء وصبيانا
فجاء رجل منهم فقال : أنت في حل مما لأبي عليك من حصتي ، وأنت في حل مما لإخوتي
وأخواتي وأنا ضامن لرضاهم عنك ، قال : تكون في سعة من ذلك وحل ، قلت : فان لم
يعطهم؟ قال : ذلك في عنقه ، قلت : فان رجع الورثة على؟ فقالوا أعطنا حقنا فقال :
لهم ذلك في الحكم الظاهر ، فأما ما بينك وبين الله عزوجل فأنت في حل إذا كان الرجل الذي أحل لك يضمن لك عنهم
رضاهم فيحتمل لما ضمن لك ، قلت : فما تقول في الصبي لامه أن تحلل؟ قال : نعم إذا
كان لها ما ترضيه أو تعطيه ، قلت : وان لم يكن لها ، قال : فلا ، قلت : فقد سمعتك
تقول : أنه يجوز تحليلها ، فقال : إنما أعني بذلك إذا كان لها ، قلت : فالأب يجوز
تحليله على ابنه فقال له : ما كان لنا مع أبى الحسن عليهالسلام أمر يفعل في ذلك ما شاء ، قلت : فان الرجل ضمن لي عن
ذلك الصبي ، وأنا من حصته في حل فان مات الرجل قبل أن يبلغ الصبي فلا شيء عليه؟
قال الأمر جائز على ما شرط لك».
وأنت خبير بأنه
بالنظر الى هذه الاخبار لا اشكال فيما ذكرنا من الحكم المذكور ، انما الإشكال في
أن المشهور اشتراط صحة الضمان برضا المضمون
__________________
له ، ونقل عن الشيخ العدم ، وهذه الاخبار قد اختلفت في ذلك ، فظاهر صحيحة
عبد الله بن سنان المذكورة بل صريحها الدلالة على القول المشهور.
وظاهر الخبرين
الأخيرين الدلالة على القول الأخر ، ومثلهما أيضا في الدلالة على ذلك ، ما رواه الشيخ
عن حبيب الخثعمي عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه
بغير اذن صاحبه؟ قال : لا يأخذ الا أن يكون له وفاء ، قال : قلت : أرأيت ان وجد من
يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال : نعم».
قال في الوافي
يعني وأشهد الضامن على نفسه بأنه ضامن ، وينبغي حمله على ما إذا كان الضامن مليا ،
لما تقدم في موثقة الحسين بن الجهم ، والمسألة لذلك محل اشكال ، حيث أنه لا يحضرني
الان وجه يجمع به بين هذه الاخبار ـ ثم انه لا يخفى ان موثقة الحسين بن الجهم قد
اشتملت على فوائد لطيفة ، ونكت شريفة يحسن التنبيه عليها في المقام.
الفائدة الأولى
ـ يفهم من الخبر المذكور أن الأحكام الشرعية انما تبنى على ما هو الظاهر دون
الواقع ونفس الأمر ، كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم ، سيما في كتب العبادات
، فإنه حكم بجواز رجوع الورثة عليه في الحكم الظاهر ، وان كان في الواقع صار بريء
الذمة بضمان الولي.
الفائدة
الثانية ـ فيه دلالة على القاعدة المشهورة من تقييد المطلق وتخصيص العام ، حيث أنه
بعد ان أفتى بأن تحليل الام مشروط بأن يكون لها مال ، قال له السائل : انى سمعت
تقول أنه يجوز تحليلها مطلقا ، أجاب عليهالسلام بأني إنما أردت بذلك أن يكون لها مال ، فصار فتواه في
هذا الخبر مخصصا لما أطلقه أولا مما سمعه الراوي قبل هذه المسألة.
الثالثة ـ ما
ذكره عليهالسلام من جواز تحليل الأب على ابنه ، لعله محمول على
الاستحباب ، بمعنى أنه يستحب للابن الرضا بذلك ، كما يشير حكايته عن أبيه عليهالسلام
__________________
وأنه ليس لهم معه أمر ، وأنه يفعل في أموالهم ما يشاء ، وقد تقدم تحقيق
المسألة وأن الحق انه ليس للأب التصرف في مال ابنه زيادة على النفقة الواجبة الا
على جهة القرض ، وان دل جملة من الاخبار على الجواز مطلقا ، مثل ظاهر هذا الخبر ،
وقد ذكرنا أن الأظهر حملها على التقية ، واما هذا الخبر فالظاهر حمله على
الاستحباب كما ذكرناه.
الرابعة ـ فيه
دلالة على اشتراط أن يكون الضامن مليا لانه عليهالسلام شرط في تحليل الام أن يكون لها مال ـ وبه صرح الأصحاب
أيضا ـ إلا مع رضاء المستحق بضمان المعسر ، فإنه يلزم أيضا ، ويدل عليه حديث ضمان
على بن الحسين عليهالسلام لدين عبد الله بن الحسن .
الخامسة ـ ظاهر
الخبر المذكور وكذا خبر إسحاق بن عمار صحة الضمان بغير الصيغة التي اشترطها
الأصحاب ، حتى أن بعضهم صرح بأنه لو قال : على دينه أو ما عليه على ، فإنه لا يوجب
الضمان ، لجواز إرادته أن للغريم تحت يده مال ، أو أنه قادر على تخليصه ، مع أن
موثقة إسحاق صريح في براءة ذمته ، لقوله على دينك ، وهو مما يؤيد ما قدمناه من سعة
الدائرة في العقود الشرعية.
المسألة
الثانية عشر ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يجب على المديون
دفع جميع ما يملكه في الدين مع حلول الدين وطلب صاحبه ، ولا يجوز تأخيره والحال
هذه ، فإن أخره كان عاصيا ، ووجب على الحاكم حبسه.
__________________
ويستثني له من
ما يملكه دار السكنى ، وعبد الخدمة وفرس الركوب ان كان من أهلهما ، وقوت يوم وليلة
له ولعياله ، وثياب تجمله ، وكذا ثياب عياله ، وزاد بعض استثناء كتب العلم.
ولعل مستندهم
في الحكم الأول عموم أدلة وجوب أداء الدين وإبراء الذمة من أموال الناس مع القدرة
والتمكن ، وكأنه مجمع عليه بينهم ، بل قيل : بين المسلمين وحينئذ فلا بد لكل ما
استثنى من دليل ، فأما دار السكنى فنقل في التذكرة إجماع علمائنا على عدم جواز
بيعها ، خلافا للعامة.
ويدل على ذلك
جملة من الاخبار ، منها ما رواه في الكافي عن عثمان بن زياد قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان لي على رجل دينا وقد أراد أن يبيع داره فيقضيني
فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : أعيذك بالله ان تخرجه من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن
تخرجه من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه».
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن إبراهيم بن هاشم «أن محمد بن أبى عمير كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر ، وكان له على رجل
عشرة آلاف درهم فباع دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم ، وحمل المال الى بابه
فخرج اليه محمد بن أبى عمير فقال : ما هذا فقال : هذا مالك الذي لك على قال :
ورثته؟ قال : لا ، قال : وهب لك؟ قال : لا ، قال : فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟ قال :
لا ، قال : فما هو؟ قال : بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني ، فقال : محمد بن أبى
عمير حدثني ذريح المحاربي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : لا يخرج الرجل عن مسقط رأسه بالدين ، ارفعها فلا
حاجة لي فيها ، والله انى لمحتاج في وقتي هذا الى درهم واحد ، وما يدخل ملكي منها
درهم واحد».
وما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله
__________________
عليهالسلام قال : «لا تباع الدار ولا الجارية في الدين ، وذلك أنه
لا بد للرجل من ظل يسكنه وخادم يخدمه».
وما رواه الشيخ
عن مسعدة بن صدقة قال : «سمعت جعفر بن محمد عليهماالسلام يقول وسئل عن رجل عليه دين وله نصيب في دار وهي تغل غلة
فربما بلغت غلتها فوته ، وربما لم تبلغ حتى يستدين ، وان هو باع الدار وقضى دينه
بقي لا دار له؟ فقال : ان كان في داره ما يقضى به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله
فليبع الدار والا فلا».
وعن ذريح
المحاربي في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه قال : لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين.
وقال الصدوق :
كان شيخنا محمد بن الحسن رضى الله عنه «يروى انه ان كانت الدار واسعة يكتفى صاحبها ببعضها فعليه أن يسكن منها ما
يحتاج ويقضى ببقيتها دينه ، وكذا ان كفته دار بدون ثمنها باعها واشترى بثمنه دارا
ليسكنها ويقضى بباقي الثمن دينه».
وهذه الروايات
كما ترى ظاهرة في استثناء الدار كما ذكره الأصحاب ، ودلت صحيحة الحلبي أو حسنته
على استثناء الجارية أيضا ، وفي معناها العبد أيضا ، ولعل ذكر الجارية إنما خرج
مخرج التمثيل.
والظاهر أن
الاستثناء انما هو بالنسبة الى ما يجب عليه من وجوه الأداء ، بمعنى أنه لا يجب
عليه بيع داره لوفاء دينه ، ولا يجبره الحاكم على ذلك ، أو يبيع عليه قهرا ، أما
لو اختار هو قضاء دينه ببيع داره فالظاهر أنه لا مانع منه ، وأما حديث ابن ابى
عمير وامتناعه من القبول ، فالظاهر أنه لمزيد ورعه وتقواه ، فعلى هذا ينبغي أن
يحمل كلام الأصحاب بقولهم لا يجوز بيع الدار ونحوها على ما ذكرناه بمعنى أنه لا
يقهر على ذلك ويلزم به.
__________________
وأما ما رواه الشيخ
بسنده عن سلمة بن كهيل قال : «سمعت عليا عليهالسلام يقول لشريح : انظر الى أهل المعك والمطل ورفع حقوق
الناس من أهل القدرة واليسار ممن يدلي بأموال المسلمين الى الحكام فخذ للناس
بحقوقهم منهم ، وبع فيها العقار والديار ، فانى سمعت رسول الله عليهالسلام يقول : مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم ، ومن لم يكن له
عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه» الحديث.
ورواه الصدوق
عن الحسن بن محبوب عن عمر بن أبى المقدام عن أبيه عن سلمة بن كهيل مثله ، فقيل انه مخصوص بالغني إذا أمطل وأخفى ماله ،
واحتمل فيه أيضا الحمل على ما يزيد على قدر الحاجة ، والأقرب عندي الحمل على
التقية كما يفهم من عبارة التذكرة المتقدمة ، وممن نقل عنه ذلك لشريح المذكور في
هذا الخبر ، الشافعي ومالك في تتمة الخبر ـ مما لم نذكره ـ ما يساعد على هذا
الاحتمال أيضا .
وما نقله
الصدوق عن شيخه المذكور يدل عليه خبر مسعدة بن صدقة والعمل به متجه ، ولا منافاة فيه ، لباقي أخبار المسألة
لأن الظاهر منها كما يشير اليه قوله عليهالسلام في خبر عثمان بن زياد «أعيذك بالله أن تخرجه». الى آخره
انما كونه مع بيع الدار يبقى بلا دار بالكلية» واليه يشير أيضا قوله في رواية
الحلبي لا بد للرجل من ظل يسكنه.
وأما ما يدل
على استثناء الخادم فالظاهر أنه الإجماع ، مضافا الى رواية الحلبي
__________________
المتقدمة ، واما غيرهما فلم أقف عليه في شيء من الاخبار ، والظاهر انه من
أجل ذلك اقتصر المحدث الكاشاني في المفاتيح عليهما ، مع أن عادته غالبا اقتفاء اثر
المشهور في هذا الكتاب ، ولعل المستند فيه هو الضرورة والحاجة مع انه قد روى في
الكافي عن عمر بن يزيد قال : «اتى رجل أبا عبد الله عليهالسلام يقتضيه وانا حاضر فقال له : ليس عندنا اليوم شيء ولكن
يأتينا خطر ووسمة فتباع ونعطيك إنشاء الله تعالى فقال له الرجل : عدني فقال له :
كيف أعدك وانا لما لا أرجو أرجى منى لما أرجو».
وأنت خبير بما
في هذا الخبر من الدلالة على التوسعة وعدم ما ذكروه من التضييق ، فإنه يبعد كل
البعد ان لا يكون له (عليهالسلام) مال بالكلية سوى المستثنيات المذكورة ، إذ المستفاد من
الاخبار أنه كان ذا ثروة وأملاك وان تعذر عليه النقد في ذلك الوقت.
ويؤيده أيضا ما
رواه في الكافي والتهذيب والفقيه عن بريد العجلي في الصحيح في بعضها قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان على دينار ـ وأظنه قال : ـ لأيتام ـ وأخاف ان بعت
ضيعتي بقيت وما لي شيء ، فقال : لا تبع ضيعتك ولكن أعطه بعضا وأمسك بعضا». واحتمال
انظار الولي له ، أو انه عليهالسلام رخص له لولايته العامة كما قيل الظاهر بعده ، سيما انا
لم نقف لهم لما ذكروه من التضييق هنا على الوجه المذكور في كلامهم على دليل واضح
من كتاب وسنة ، ونحو صحيحة بريد المذكور فيما دلت عليه قوله عليهالسلام في كتاب فقه الرضوي «وان كان له ضيعة أخذ منه بعضها ، وترك البعض إلى ميسرة». على أنه مما يبعد
كل البعد استثناء مثل الخادم والفرس ونحوهما مما تقدم مع عدم جواز أزيد من قوت يوم
وليلة ، مع أن القوت أضر ، وبالجملة فالمسألة لا يخلو من شوب الإشكال .
__________________
وأما ما تقدم
من أنه مع القدرة على الوفاء والمقابلة بالمطل فإنه يحبس ، فيدل عليه ما رواه في
الكافي والتهذيب عن عمار بن موسى في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر فيقسم ماله
بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه بينهم يعنى ماله».
وعن غياث «عن جعفر عن أبيه عن على عليهمالسلام ، انه كان يحبس بالدين فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى
سبيله حتى يستفيد مالا». وفي معناهما أخبار أخر.
وما رواه في
التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام أن عليا عليهالسلام ، كان يحبس في الدين ثم ينظر فان كان له مال اعطى
الغرماء ، وان لم يكن له المال دفعه الى الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم ، ان
شئتم آجروه وان شئتم استعملوه». الحديث هذا ـ ولا يخفى ما فيه.
أما ما دل عليه
خبر السكوني من أنه دفعه الى الغرماء ليؤجروه أو يستعملوه مع ظهور إفلاسه ، ظاهر
المنافاة لما دل عليه خبر غياث ، وما في معناه من أنه يخلى سبيله حتى يستفيد مالا
،
وظاهر جملة من
الأصحاب حمل خبر السكوني على من يمكنه التكسب وأنه مع إمكان ذلك يجب عليه ، وهو
أحد القولين في المسألة ، وبه قال ابن حمزة والعلامة في المختلف والشهيد في الدروس
ومنع ذلك الشيخ في الخلاف
__________________
وابن إدريس لأصالة البراءة ، وللاية وهي قوله عزوجل «وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ»
أقول : ويدل
عليه أيضا خبر غياث المذكور.
ونحوه ما رواه الصدوق
والشيخ مرسلا عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) في خبر قال فيه : «وقضى (عليهالسلام) في الدين أنه يحبس صاحبه ، وان تبين إفلاسه والحاجة
فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا».
ويؤيد أيضا ما
رواه الشيخ عن السكوني «عن جعفر عن أبيه عن على عليهالسلام أن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان
زوجها معسرا فأبى أن يحبسه ، وقال (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً)». والتقريب فيه أنه لو وجب الاكتساب لأمره به ، وحيث ان
الشيخ في الخلاف انما احتج بالآية أجاب في المختلف عنها
__________________
بانا نمنع من إعسار المكتسب ، ولهذا تحرم عليه الزكاة ، والظاهر أن له أن
يجيب عن هذه الاخبار بالحمل على من لا يمكنه التكسب جمعا بينها وبين خبر السكوني
المذكور الا أن الظاهر بعده ، والمسألة لا تخلو من الاشكال ولا يحضرني الآن مذهب
العامة في هذه المسألة ، ولعل رواية السكوني إنما خرجت مخرج التقية.
المسألة
الثالثة عشر ـ الظاهر انه لا خلاف بينهم في تحريم بيع الدين بالدين ، ويدل ، على
ذلك من طريق الخاصة رواية طلحة ابن زيد عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا يباع الدين بالدين».
ومن طريق
العامة ما رووه عن النبي صلىاللهعليهوآله «لا يجوز بيع الكالي بالكالي». قال في النهاية الأثيرية : أنه نهى عن بيع
الكالي بالكالي اى النسيئة بالنسيئة وذلك أن يشترى الرجل شيئا الى أجل فإذا حل
الأجل لم يجد ما يقضى به ، فيقول بعنيه الى آخر بزيادة شيء فيبيعه منه ، ولا يجرى
بينهما تقابض انتهى.
والحكم مما لا
إشكال فيه في الجملة إلا أن الاشكال هنا في موضعين أحدهما أن المفهوم من كلام أكثر
أهل اللغة اختصاص اسم الدين بالمؤجل ، وبه صرح في القاموس والغريبين الا أن المفهوم
من كتاب المصباح للفيومى على الحال ، وقد تقدم ذلك في آخر المسألة الثانية من
المقام الثاني في أحكام السلم من الفصل العاشر في السلم لا أن الظاهر من كلام
الأصحاب هو ما صرح به في القاموس.
وثانيهما أن
المشهور إطلاق الدين على ما يقع تأجيله في العقد ، وقيل : وهو
__________________
اختيار شيخنا الشهيد الثاني بأنه مخصوص بما كان كذلك قبل العقد ، وأما ما
يقع فيه التأجيل بالعقد ، فإنه لا يصدق عليه بيع الدين بالدين ، وقد تقدم نقل ذلك
في الموضع المشار اليه آنفا ، وكذا قبله في الشرط السابع من شروط السلم.
ومنع ابن إدريس
من بيع الدين على غير المديون ، استنادا الى دليل قاصر ، وتقسيم غير حاصر ، كما
أوضحه شيخنا العلامة في المختلف ، والمشهور الصحة لعموم الأدلة.
وقال في الدروس
: ولو كان الدين مؤجلا لم يجز بيعه مطلقا ، وقال ابن إدريس : لا خلاف في تحريمه
على من هو عليه ، ويلزم بطريق أولى تحريمه على غيره ، وجوز الفاضل بيعه على من هو
عليه ، فيباع بالحال لا بالمؤجل ، ولو كان حالا جاز بيعه بالعين والدين ، والحال
لا بالمؤجل أيضا انتهى.
أقول : أما ما
ذكره من عدم جواز بيع الدين المؤجل مطلقا ، يعنى لا بحال ولا مؤجل فهو المشهور
بينهم ، لانه لا يستحقه قبل حلول الأجل وهو مذهب العلامة في التذكرة ووافقه في
المسالك الجواز وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام
السلم.
واما ما ذكره
من أولوية التحريم على غير من هو عليه ، بناء على ما ذكره ابن إدريس ، فلأنه إذا
امتنع فيمن عليه المال مع أنه مقبوض بالنسبة إليه فإن يمتنع في غيره لعدم
المقبوضية أولى ، الا أنه قد أجاب في المسالك بأنه لا يشترط المقبوضية حين العقد ،
بل يكفي إمكانه وتحققه بعد الحلول ، وقد تقدم ذكر ذلك في الموضع المشار اليه.
وأما اشتراط
العلامة مع الجواز البيع بالحال لا بالمؤجل ، فلانه بالمؤجل يدخل تحت بيع الدين
بالدين ، وأما البيع بالحال فلا مانع منع. الا ما يدعونه من عدم استحقاقه يومئذ ،
واشتراط القبض وقت العقد ، وفيهما ما عرفت كما أوضحه في المسالك.
وأما أنه مع
الحلول فإنما يجوز بالحال دون المؤجل ، فالظاهر أنه مبنى على
ما قد قدمنا نقله عن المسالك من صدق اسم الدين على المبيع قبل حلوله وبعده
، كما تقدم نقله عنه في الموضع المشار إليه ، فإنه يلزم على ذلك بيع الدين بالدين
المنهي عنه ، ولم نقف لهم في هذه الدعوى على مستند ، سيما مع تصريح أكثر أهل اللغة
بأن الدين اسم للمؤجل خاصة ، وموافقتهم على ذلك في الأثمان فليتأمل المقام ، فإنه
حرى بالتدبر التام والله العالم.
المسألة
الرابعة عشر : ظاهر الاخبار وهو ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب أنه لا يؤدى عن المديون
من سهم الغارمين الا مع إنفاق الدين في غير معصية ، وأنه لا يعطى منه ، وانما
الخلاف فيما إذا جهل حاله ، فقال الشيخ : انه كالثاني ، وقال ابن إدريس : بالأول ،
وبه صرح الأكثر.
ونقل عن الشيخ
أنه احتج بما رواه في الكافي عن محمد بن سليمان «عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا (نجاد) قال : سأل الرضا عليهالسلام رجل وأنا أسمع ، فقال له : جعلت فداك ان الله عزوجل يقول «وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ»
أخبرني عن هذه
النظرة التي ذكرها الله عزوجل في كتابه لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من
أن ينظر؟ وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله ، وليس له غلة ينتظر إدراكها ،
ولا دين ينتظر محله ، ولا مال غائب ينتظر قدومه ، قال : نعم فينظر بقدر ما ينتهى خبره
الى الامام ، فيقضي عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة
الله عزوجل ، وان كان أنفقه في معصية الله فلا شيء على الامام له
، قلت : فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم فيما أنفقه في طاعة الله عزوجل أم في معصيته؟ قال : يسعى له في ماله فيرده عليه وهو
صاغر».
وردها الأكثر
بضعف الاسناد فلا يمكن التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل ، لأن الأصل في
تصرفات المسلمين وقوعها على وجه الصحة والمشروع ،
__________________
ولان تتبع مصارف الأموال عسير.
أقول : قد سبق
البحث في هذه المسألة في كتاب الزكاة من كتب العبادات وأوضحنا ثمة ان الرواية لا
دلالة فيها على ما ادعوه ، من أنه لو جهل حال إنفاقه لم يدفع له من سهم الغارمين ،
فليرجع اليه من أراد تحقيق الحال.
فروع : الأول
والثاني مما فرعوه على وجوب أداء الدين مع الحول وطلب صاحب وإمكان دفعه حبسه ، كما
تقدم ، وبطلان صلاته ما لم يتضيق الوقت ، قال في التذكرة إذا ثبت هذا فلو أصر على
الالتواء كان فاسقا لا تقبل شهادته ، ولا تصح صلاته في أول الوقت ، بل إذا تضيق ،
ولا يصح شيء من الواجبات الموسعة المنافية للقضاء في أول وقتها ، وكذا غير الدين
من الحقوق الواجبة كالزكاة والخمس ، وان لم يطالب به الحاكم ، لأن أربابها في
العادة يطالبون ، وأيضا الحق ليس لشخص معين حتى يتوقف على الطلب.
أقول لا يخفى
أن ما ذكروه هنا مبنى على ثبوت أن الأمر بالشيء يستلزم النهى عن ضده الخاص ، وهو
مما لم يقم عليه دليل شرعي ان لم تكن الأدلة قائمة على عدمه ، وقد تقدم الكلام في
ذلك في مواضع من كتب العبادات ، وبالعدم صرح جملة من المحققين ، منهم شيخنا الشهيد
الثاني عطر الله مرقده.
الثالث ـ الظاهر
من جملة الاخبار أنه لو مات المديون ولم يتمكن من القضاء أو تمكن ولكن لم يطالب
بالحق ، سواء خلف ما يقضى به عنه أو لم يخلف ، وسواء قضى عنه أو لم يقض ، والحال
أن عزمه ونيته كانت على القضاء في جميع هذه الصور وكان مصرف الدين الذي عليه في
الأمور المباحة ، فإنه لا يؤاخذ ولا يعاقب وأما مع عدم شيء من هذه القيود ،
فالظاهر الإثم والمؤاخذة والملخص أنه في جميع ما ذكرنا أولا لا يجب الأداء ، وعليه
ترتب عدم المؤاخذة.
ومما يدل على
ما قلناه رواية عبد الغفار الجازي المتقدمة في صدر هذا المقصد
__________________
فيمن مات وعليه دين حيث قال عليهالسلام : «ان كان أتى على يديه من غير فساد لم يؤاخذه الله عزوجل إذا علم نيته» الخبر.
وفي صحيحة زرارة المتقدمة ثمة أيضا «في الرجل عليه الدين لا يقدر
على صاحبه ، ولا على ولى له ، قال : لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته
الأداء» ، ونحو ذلك رواية نضر بن سويد ومجمل ذلك انه متى كان من نيته الأداء واتفق موته على
أحد الوجوه المذكورة فإنه غير مؤاخذ.
الرابع : المفهوم
من جملة من الاخبار انه متى لم يتمكن المديون من أداء الدين وجب على الامام ان
يؤدى عنه من سهم الغارمين إذا كان قد أنفق ما استدانه في طاعة أو في مباح ، فلو
أنفقه في معصية لم يكن له ذلك.
ومنها رواية «أبي
نجاد» المتقدمة ومنها رواية موسى بن بكر وقد تقدمت في صدر هذا الكتاب.
ورواية صباح بن
سيابة عن ابى عبد الله عليهالسلام قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أيما مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا
إسراف فعلى الامام ان يقضيه ، وان لم يقضه فعليه اثم ذلك ، ان الله تبارك وتعالى
يقول «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ
وَالْمَساكِينِ» ـ الاية ـ فهو من الغارمين ، وله سهم عند الإمام ، فإن
حبسه عنه فإثمه عليه».
ورواية أيوب بن
عطية الحذاء قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : كان
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : انا أولى بكل مؤمن من نفسه ، ومن ترك مالا
فللوارث ، ومن ترك دينا أو ضياعا فالى وعلى». أقول الضياع بالفتح العيال.
ورواية عطاء عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «قلت له : جعلت فداك ان على دينا إذا ذكرته فسد
على ما انا فيه ، فقال : سبحان الله أما بلغك أن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يقول في خطبته من ترك ضياعا فعلى ضياعه ، ومن ترك
دينا فعلى دينه ، ومن ترك مالا (فأكله) فكفالة رسول الله صلىاللهعليهوآله ميتا ككفالته حيا فقال الرجل : نفست عني جعلني الله
فداك».
قيل انما كان
له صلىاللهعليهوآله يأكله لأنه وارث من لا وارث له ، وان معنى قوله نفست
عني لأنه علم به انه يقضى دينه بضمان النبي صلىاللهعليهوآله على يد من شاء الله.
أقول : وينبغي
ان يزاد على ما ذكره انه ان لم يتفق الأداء في الدنيا ، فإنه صلىاللهعليهوآله في الآخرة يقضيه عنه ، ولو بإرضاء غريمه ، وتعويضه كما
يستفاد من بعض الاخبار.
وقال في كتاب
الفقه الرضوي «فإن كان غريمك معسرا وكان أنفق ما أخذ منك في طاعة الله فانظره إلى ميسرة
، وهو ان يبلغ خبره الى الامام فيقضي عنه ، أو يجد الرجل طولا فيقضى دينه وان كان
أنفق ما أخذه منك في معصية الله فطالبه بحقك ، فليس هو من أهل هذه الآية».
أقول : ويحتمل
بالنظر الى هذا الكلام منه عليهالسلام في هذا المقام حمل رواية السكوني الدالة على دفعه الى
الغرماء على ما إذا كان ما أخذه قد صرفه في معصية الله وانه لا يسامح ولا يترك
مؤاخذة له بسوء عمله ، وان كان معسرا فإنه غير داخل تحت الآية على الإنظار إلى
ميسرة ، وتحمل تلك الروايات الدالة على انه يخلى سبيله على ما إذا كان مصرف الدين
في طاعة أو مباح ، وهو بمقتضى كلامه عليهالسلام في هذا الكتاب وجه حسن في الجمع بين هذه الاخبار ، الا
ان الذي صرح به في
__________________
الدروس هو عموم وجوب الانظار ، وهو ظاهر أكثر عباراتهم.
قال في الكتاب
المذكور ولا فرق في وجوب انظار المعسر بين من أنفق بالمعروف وغيره ، وقال الصدوق
ولو أنفق في المعصية طولب وان كان معسرا وفيه بعد ، مع ان المنفق في المعروف أوسع
مخرجا بحل الزكاة له انتهى.
أقول الظاهر ان
مستند الصدوق هنا فيما ذكره هو ما ذكره عليهالسلام في هذا الكتاب ، كما أوضحناه عما يكشف عن وجهه نقاب
الارتياب في مواضع عديدة من كتب العبادات ، وقبله والده في رسالته اليه.
ويمكن تأييده
أيضا بما يشير اليه قوله عليهالسلام في رواية أبي نجاد المتقدمة ، فيرد عليه ماله وهو صاغر
، فان المراد بذلك ـ كما يعطيه سياق الخبر ـ انه مع الفقر والاستحقاق ، فإن الإمام
يؤدى عنه من سهم الغارمين ان أنفق ما استدانه في طاعة ، وان أنفق في معصية فلا شيء
له على الامام ، بل عليه ان يرد عليه ماله وهو صاغر ، وهو كناية عن عدم إنظاره كما
لا يخفى ، وانه يطالب وان كان معسرا كما ذكره الصدوق.
وأما قوله في
الدروس مع أن المنفق في المعروف أوسع مخرجا مشيرا به الى انه متى كان يجب إنظاره
في صورة تحل له الزكاة ففي الصورة التي لا تحل له بطريق اولى.
ففيه انه يمكن
ان يقال ان وجوب المطالبة في الصورة المذكورة ، وعدم إنظاره انما وقع عقوبة له ،
ومؤاخذة بما فعله من الأمر الغير المشروع ، كما قدمنا الإشارة إليه ، فلا تثبت
الأولوية بظهور الفارق.
الخامس : الظاهر
انه لا خلاف في انه يقضى على الغائب إذا قامت البينة ، ولكن بالكفلاء ويكون الغائب
على حجته.
ويدل عليه ما
رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليهالسلام» قال : الغائب يقضى عنه إذا قامت البينة عليه ويباع
ماله ويقضى عنه وهو
__________________
غائب ، ويكون الغائب على حجته إذا قدم ، ولا يدفع المال إلى الذي أقام
البينة إلا بكفلاء إذا لم يكن مليا».
وذهب جمع من
الأصحاب إلى ضم اليمين هنا إلى البينة ، كما في الدعوى على الميت ، والخبر كما ترى
خال من ذلك ، وليس في المسئلة غيره فيما أعلم ، وتعليلهم بما ذكروه من الوجوه
التخريجية. عليل.
السادس : المعروف
من كلام جل الأصحاب (رضوان الله عليهم) وبه صرح جملة منهم أنه لا يبطل الحق بتأخير
المطالبة ، وان طالت المدة ، وقال الصدوق من ترك دارا أو عقارا أو أرضا في يد غيره
فلم يتكلم ولم يطالب. ولم يخاصم في ذلك عشر سنين فلا حق له.
ويدل عليه ما
رواه في الكافي والتهذيب عن يونس عن العبد الصالح عليهالسلام قال : «قال : ان الأرض لله عزوجل جعلها وقفا على عباده ، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية
بغير سبب ، أو علة أخرجت من يده ، ودفعت الى غيره ، ومن ترك مطالبة حق له عشر سنين
فلا حق له». وروى الشيخان المذكوران عن يونس أيضا عن رجل عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من أخذت منه أرض ثم مكث ثلاث سنين لا يطلبها لا
يحل له بعد ثلاث سنين أن يطلبها». ومن ذكر هذه المسألة من الأصحاب رد هذه الاخبار
بضعف الاسناد حتى صاحب المفاتيح.
أقول : أما
الكلام في الأرض فهو محمول على أنها من أرض الخراج وقد تقدم البحث فيها في المقدمة
الرابعة من مقدمات كتاب البيع ، وبيان هذه المسألة ثمة فليراجع.
وأما بالنسبة
إلى ترك الحق عشر سنين كما دل عليه عجز الخبر الأول فإن مما يؤيده أيضا ما رواه الشيخان
المتقدمان عن على بن مهزيار قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن دار كانت لامرأة وكان لها ابن وابنة ، فغاب الابن في
البحر ، وماتت
__________________
المرأة فادعت ابنتها ان أمها كان صيرت هذه الدار لها ، فباعت أشقاصا منها ،
وبقيت في الدار قطعة الى جنب دار لرجل من أصحابنا وهو يكره أن يشتريها لغيبة الابن
، ويتخوف من أن لا تحل له شراؤها ، وليس يعرف للابن خبر ، فقال لي : ومنذ كم غاب؟
فقلت : منذ سنين كثيرة ، فقال : ينتظر به غيبته عشر سنين ثم يشترى ، فقلت فإذا
انتظرته غيبة عشر سنين حل شراؤها؟ قال : نعم».
وطريق هذه
الرواية وان كان ضعيفا في الكافي حيث أن فيه سهل بن زياد ، الا أنه في التهذيب
صحيح ، لروايته لها عن على بن مهزيار ، وطريقه إليه في المشيخة صحيح ، وهي ظاهرة
الدلالة فيما ذكره الصدوق من زوال حقه بعد عشر سنين ، وهي وان كان موردها الغائب
الا أن ظاهرهم عدم الفرق في ذلك بين الغائب والحاضر ، فان من ملك مالا لم يزل ملكه
عنه بغير ناقل شرعي ولم يعد هذا عندهم منها ، ولم يفرقوا بين الغائب والحاضر.
وبه يظهر أن
قول الصدوق قريب سيما مع ما عرفت ، من أن الطعن بضعف الاسناد ليس عندنا بمحل من
الاعتماد ، الا أن ظاهر الشيخ المفيد تخصيص هذا الخبر بالمفقود ، حيث أن الأصحاب
اختلفوا في مال المفقود على أقوال.
منها قول الشيخ
المذكور بأنه بالنسبة إلى عقاره ينتظر به عشر سنين ، ومع ذلك يكون البائع ضامنا
درك الثمن ، فان رجع المفقود خرج اليه من حقه ، وبالسنة إلى سائر أمواله جوز
اقتسام الورثة لها بشرط الملائة والضمان على تقدير ظهوره ، واستدل على الأول
بصحيحة على بن مهزيار المذكورة ، وعلى الثاني بموثقة إسحاق بن عمار ، وفي ما ذكره رحمهالله من الاستدلال في كلا الموضعين بحث ليس هنا موضع ذكره ،
وسيأتي إنشاء الله تعالى في محله.
وبالجملة
فالمسألة غير خالية من شوب الاشكال لما عرفت والله العالم :
السابع : يجوز
تعجيل بعض الديون المؤجلة بنقصان منها بإبراء أو صلح أو بمد الأجل في الباقي ، ولا
يجوز تأجيل منها بزيادة.
ويدل على ذلك
ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان في الصحيح عمن حدثه عن أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سالته عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيقول
له قبل أن يحل الأجل : عجل النصف من حقي على أن أضع عنك النصف ، أيحل ذلك لواحد
منهما؟ قال : نعم».
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه
غريمه فيقول له : انقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيته ، أو يقول : انقدني بعضه وأمد لك
في الأجل فيما بقي عليك؟ قال : لا ارى به بأسا انه لم يزدد على رأس ماله ، قال
الله جل ثناؤه «فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا
تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ». وفي التهذيب «الرجل يكون عليه الدين». وهو أظهر وعلى تقدير هذه النسخة كان
اللام بمعنى على ، وقد تقدم ما يتعلق بهذا المقام أيضا في المسألة العاشرة من
الفصل السادس.
الثامن : الظاهر
انه لا خلاف في ان الكفن مقدم على الدين ، ويدل عليه ايضا ما رواه المشايخ الثلاثة
(نور الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل مات وعليه دين بقدر كفنه قال : يكفن بقدر ما ترك
، الا أن يتجر عليه انسان فيكفنه ، ويقضى بما ترك دينه».
وما رواه الشيخ
عن إسماعيل بن ابى زياد «عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ان أول ما يبدأ به من المال الكفن ، ثم الدين ، ثم
الوصية ، ثم الميراث».
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي : «وإذا مات رجل عليه دين ولم يكن
له الا قدر ما يكفن به كفن به ، فان تفضل عليه رجل بكفن ، كفن به ويقضى ما ترك
دينه ، وإذا مات رجل وعليه دين ولم يخلف شيئا فكفنه رجل من زكاة ماله ،
__________________
فهو جائز له ، فان اتجر عليه رجل آخر بكفن كفن من الزكاة وجعل الذي اتجر
عليه لورثته يصلحون به حالهم لان هذا ليس بتركة الميت انما هو شيء صار إليهم بعد
موته وبالله الاعتصام».
أقول : فيه
دلالة على أن ما يصير الى الميت بعد الموت ويوهب له لا يجب صرفه في الدين ، ويحل
للورثة أكله ، سيما مع الإعسار والحاجة.
التاسع : يجوز
القرض في بلد مع شرط أن يقضيه في بلد آخر ، وادعى عليه في التذكرة الإجماع.
وعليه تدل جملة
من الاخبار منها صحيحة أبي الصباح عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يبعث مالا إلى أرض ، فقال الذي يريد ان يبعث به : أقرضنيه وانا
أوفيك إذا قدمت الأرض قال : لا بأس بهذا» وفي التهذيب «يريد ان يبعث به معه». وهو
أظهر.
وعن زرارة في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام ، ويعقوب بن شعيب عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : يسلف الرجل الرجل الورق على أن ينقده إياه
بأرض أخرى ، ويشترط عليه ذلك؟ قال : لا بأس».
وروى السكوني عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : لا بأس أن يأخذ الرجل الدراهم بمكة ، ويكتب سفاتج أن
يعطوها بالكوفة».
أقول : السفاتج
جمع سفتجة بالضم والمراد أنه يدفع ماله لأحد في
__________________
بعض البلدان فيكتب ذلك المدفوع اليه كتابا بأن يدفع اليه ذلك المال في بلد
أخرى ، وأن الكتاب بهذه الصورة يسمى سفتجة.
وصحيحة إسماعيل
بن جابر عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «قلت له ، ندفع الى الرجل الدراهم فاشترط عليه أن
يدفعها بأرض أخرى سودا بوزنها ، وأشترط ذلك؟ قال : لا بأس».
قال بعض
المحققين بعد ذكر الحكم المذكور وإيراد صحيحة يعقوب بن شعيب : هذا ظاهر ، انما
البحث في أنه يلزم ذلك أم لا؟ بل يجوز له أن يطلب أينما يريد ، ظاهر كلامهم في عدم
لزوم الأجل في القرض ـ وان القرض جائز دائما الا أن يشترط في عقد لازم ـ الجواز ،
ومقتضى أدلة لزوم الشرط عدمه ، وكذا نفى الضرر إذا فرض ، إذ قد يتعسر أو يكون
قليلا في بلد المطالبة دون بلد الشرط ، ونحو ذلك من الضرر ، وأما العكس فالظاهر
أنه ليس بلازم ، بل كان للمقترض دفع ذلك ويجب القبول ، تأمل في الفرق انتهى.
أقول : الظاهر
من لزوم العقد بناء على القول به هو اللزوم من الطرفين ، فكما أنه لا يجوز للمقرض
المطالبة في غير ذلك المكان كما ذكره ، كذلك لا يجوز للمقترض الدفع في غيره ،
وحديث الضرر الذي ذكره جار أيضا في الجانب الآخر ، بل ربما كان أظهر فإن ظاهر هذه
الاخبار أن الغرض من هذه المعاملة المذكورة هو خوف المقرض على ماله بالسفر به الى
تلك البلد ، وهو مضطر الى نقله الى تلك البلاد على وجه لا يحصل عليه ، فدفعه الى
ذلك الرجل ليدفعه له في تلك البلد بنفسه أو وكيله أو سفاتج تكتب بينهم ، فلو جوزنا
للمقترض أن يدفع ذلك في بلد القرض مثلا أو بلد أخرى غير البلد التي وقع الاشتراط
عليها ، لربما تضرر المقرض بإيصاله إلى
__________________
تلك البلد باحتمال الخطر ، وخوف الطريق في السفر.
وبالجملة فلزوم
العقد يقتضي تعلقه بالطرفين كما في البيع وغيره ، وما ذكره من الفرق غير ظاهر ، بل
الظاهر ، انما هو عدمه ، فإنه قضية اللزوم كما عرفت والله العالم.
العاشر : قد
اشتهر بين جملة من الأصحاب وجود القول بأنه متى قتل أحد أحدا ظلما ، فإنه ينتقل
جميع ما في ذمة المقتول من الحقوق المالية وغيرها الآدمية الإلهية إلى ذمة القاتل
، وربما نسب الى شيخنا الشهيد (عطر الله مرقده) وردوه بالضعف وعدم الدليل ، وقد
وقفت في بعض الأجوبة المنسوبة إلى السيد العلامة السيد ماجد البحراني ـ المدفون
بشيراز في تحت قبة السيد أحمد بن مولانا الكاظم عليهالسلام المشهور بشاة چراغ ـ الجواب عن هذه المسألة بما هذه
صورته حيث قال السائل : سيدنا ما قولكم فيمن قتل شخصا هل ينتقل كلما على ذمة
المقتول الى القاتل من الإلهية والآدمية مالية وغيرها؟ فأجاب السيد المشار اليه (قدسسره) بما لفظه أما انتقال ما على المقتول إلى ذمة القاتل من
الحقوق المالية والإلهية فلا نعرف له وجها ، وان وجد في بعض الفوائد منقولا عن بعض
الأعيان انتهى.
أقول : وقد
وقفت في بعض الاخبار على ما يدل بظاهره على القول المذكور وهو ما رواه شيخنا
الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب عقاب الأعمال بسنده عن الباقر عليهالسلام قال : من قتل مؤمنا أثبت الله على قاتله جميع الذنوب ، وبريء
المقتول منها ، وذلك قول الله عزوجل «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ».
وهو كما ترى
صريح الدلالة في انتقال الحقوق الإلهية من ذمة المقتول إلى ذمة القاتل وبه يظهر أن
ما ذكره المفسرون في معنى الآية المذكورة نفخ في
__________________
غير ضرام ، المعتمد عندنا في تفسير القرآن انما هو ما ورد عنهم عليهمالسلام حيث تأولوا الاية بتقدير مضاف ، في قوله «بِإِثْمِي»
أى بإثم قتلي
ان قتلتني ، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي» أو المراد اثمى لو بسطت يدي إليك ،
وإثمك ببسط يدك الى. ومما يؤيد القول المذكور أيضا بالنسبة إلى الحقوق المالية ما
رواه في الكافي بسند حسن عن الوليد بن صبيح قال : «جاء رجل الى أبى عبد الله عليهالسلام يدعى على المعلى بن خنيس دينا فقال : ذهب بحقي فقال أبو
عبد الله عليهالسلام : ذهب بحقك الذي قتله ، ثم قال للوليد : قم الى الرجل
فاقضه من حقه ، فإني أريد أن أبرد عليه جلده وان كان باردا».
فان ظاهر قوله «ذهب
بحقك الذي قتله» يعطي أن القاتل هو المؤاخذ بذلك ، وهو الذي ذهب بحقه دون المقتول
، واحتمال التجوز ـ باعتبار حيلولة القاتل بينه وبين أداء الدين بسبب قتله إياه ،
فكأنه ذهب به ـ ان أمكن لكن ينافيه قوله عليهالسلام أريد أبرد جلده وان كان باردا فإنه انما يكون باردا
ببراءة الذمة من الدين ، الحال أنه ليس هنا شيء موجب للبراءة سوى ما يدعيه من
القتل ، وانما أراد الإمام بدفعه ذلك زيادة تبريده ، وان لم يستحق عنده شيئا.
وبالجملة فإن
ظاهر الخبر هو ما قلناه وارتكاب التأويلات ـ وان بعدت والتكلفات وان غمضت ـ غير
عسير الا أن الاستدلال انما بنى على الظواهر ، وارتكاب التأويل إنما يلجئ اليه
وجود معارض أقوى ، والحال أنه ليس هنا ما يعارض ذلك ، بل الموجود انما هو ما يؤيده
، ولا سيما الاعتضاد بظاهر الآية ، والخبر المتقدم ، وبما ذكرنا يظهر أن المسألة
لا يخلو عن شوب الاشكال ، والله سبحانه وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.
__________________
المقام الثاني في دين العبد
والواجب أولا
نقل الأخبار الواردة في هذا المقام ، ثم الكلام فيما ذكره الأصحاب من الأحكام وما
يستفاد من كلامهم عليهمالسلام الأول : ما رواه في الكافي والتهذيب عن ظريف الأكفاني قال : «كان اذن لغلام له في الشراء والبيع فأفلس ولزمه
دين ، فأخذ بذلك الدين الذي عليه ، وليس يساوى ثمنه ما عليه من الدين ، فسأل أبا
عبد الله عليهالسلام ، فقال : ان بعته لزمك الدين وان أعتقت لم يلزمك الدين
، فأعتقه ولم يلزمه شيء».
الثاني : ما
رواه الشيخان المذكوران عن زرارة في الموثق قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل مات وترك عليه دينا وترك عبدا له مال في التجارة
وولدا ، وفي يد العبد مال ومتاع ، وعليه دين استدانه العبد في حياة سيده في تجارته
، فإن الورثة وغرماء الميت اختصموا في ما في يد العبد من المال والمتاع وفي رقبة
العبد ، فقال : ارى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد ، ولا على ما في يده من
المتاع والمال الا أن يضمنوا دين الغرماء جميعا فيكون العبد وما في يده من المال ،
للورثة ، فإن أبوا كان العبد وما في يده للغرماء ، يقوم العبد وما في يده من المال
، ثم يقسم ذلك بينهم بالحصص فان عجز قيمة العبد وما في يده عن أموال الغرماء رجعوا
على الورثة فيما بقي لهم ان كان الميت ترك شيئا ، وان فضل من قيمة العبد وما كان
في يديه عن دين الغرماء رد على الورثة».
الثالث : ما
رويا عن أبى بصير والظاهر أنه ليث المرادي بقرينة رواية عاصم وحميد عنه
في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام ، قال : «قلت له : رجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير
دين عليه؟ قال : ان كان أذن له أن يستدين؟ فالدين على
__________________
مولاه ، وان لم يكن أذن له أن يستدين؟ فلا شيء على المولى ، ويستسعى العبد
في الدين.
الرابع : ما
رواه الشيخ في الموثق عن وهب بن حفص عن أبى جعفر عليهالسلام ، قال : «سألته عن مملوك يشترى ويبيع قد علم بذلك مولاه
حتى صار عليه مثل ثمنه؟ قال : يستسعى فيما عليه».
الخامس ـ ما
رواه الشيخ أيضا عن شريح قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام في عبد بيع وعليه دين قال : دينه على من أذن له في
التجارة ، وأكل ثمنه».
السادس ـ ما
رواه بهذا الاسناد عن أشعث «عن الحسن عليهالسلام في رجل يموت وعليه دين قد أذن لعبده في التجارة ، وعلى
العبد دين قال : يبدأ بدين السيد».
السابع ـ ما
رواه عن روح بن عبد الرحيم «عن أبى عبد الله عليهالسلام ، في رجل مملوك استئجره مولاه فاستهلك مالا كثيرا ، قال
: ليس على مولاه شيء ولكنه على العبد ، وليس لهم أن يبيعوه ، ولكن يستسعى وان حجر
عليه مولاه فليس على ـ مولاه شيء ولا على العبد».
الثامن ـ ما
رواه عن أبى بصير والظاهر انه المرادي بقرينة الراوي في الصحيح عن أبى
عبد الله عليهالسلام «في رجل يستأجر مملوكا فيستهلك مالا كثيرا فقال : ليس على مولاه شيء وليس
لهم ان يبيعوه ، ولكن يستسعى وان عجز عنه فليس على مولاه شيء ولا على العبد شيء».
التاسع ـ ما
رواه ايضا عن ظريف بياع الأكفان قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام
__________________
عن غلام لي كنت أذنت له في الشراء والبيع فوقع عليه مال للناس ، وقد أعطيت
به مالا كثيرا فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ان بعته لزمك ما عليه ، وان أعتقته فالمال على الغلام
وهو مولاك».
إذا عرفت ذلك
فتحقيق القول في هذا المقام يقع في مواضع الأول ـ قد تقدم ان الأصح هو ان المملوك
يصح تملكه وان كان محجورا عليه التصرف فيما يملكه بدون اذن السيد ، وبطريق الاولى
تصرفه في نفسه بإجارة أو استدانة أو نحو ذلك من الحقوق ، فإنه لا يجوز بدون اذن
السيد .
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنه لو أذن السيد لعبده في الاستدانة لنفسه ، أى لنفس العبد ، كان الدين
لازما للمولى ان استبقاه أو باعه ، وأما لو أعتقه فقيل : انه يستقر الدين في ذمة
العبد ، وقيل : يكون باقيا في ذمة المولى ، والقولان للشيخ (رحمهالله) أولهما في النهاية ، وتبعه عليه جماعة منهم العلامة في
المختلف ، وهو ظاهر الشهيد في اللمعة ، والثاني في الاستبصار ، وبه قال ابن إدريس
، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، والروضة ، وهو الأظهر.
وأما لو كانت
الاستدانة للسيد ، فلا خلاف في كونه عليه دون العبد ، كما ذكره في المسالك ، احتج
القائلون بالقول الأول بالرواية الاولى والتاسعة ، وأنت خبير بأن غاية ما يدل عليه
الخبران المذكوران هو الاذن في التجارة ، وهو لا يستلزم الاذن في الاستدانة ، كما
دل عليه الخبر الثالث.
__________________
وحينئذ
فالخبران ليسا من محل البحث في شيء ، فلا يحتاج الى ردهما بمخالفة القواعد
الشرعية كما ذكره في المسالك ، بل ما تضمناه بناء على ما قلناه موافق للقواعد ،
إلا أنهما ليسا من محل البحث في شيء ، ومقتضاهما بناء على ما ذكرناه أن الدين
انما هو على العبد حيث أنه لم يؤذن له في الاستدانة كما صرح به في الخبر الثالث.
وأنه انما يلزم
المالك إذا باعه من حيث حيلولته بين أصحاب الدين وبين العبد ببيعه ، لا من حيث أن
المال لازم له بأصل الاذن في التجارة ، والحال أنه لم يحصل الاذن في الاستدانة كما
عرفت.
ومما يدل على
لزوم ذلك للمولى في صورة البيع خبر شريح ، مع قضية الاذن في التجارة خاصة ، وليس
ذلك الا لما قلناه ، لما عرفت من أن الاذن في التجارة لا يستلزم الاذن في
الاستدانة ، فلا وجه لكونه على المولى الا من هذه الجهة المذكورة.
وأما الاستدلال
على هذا القول برواية عجلان عن الصادق عليهالسلام «في رجل أعتق عبدا وعليه دين ، قال : دينه عليه ، لم يزده العتق الا خيرا».
واستدل به العلامة في المختلف فلا دلالة فيه ، لإمكان حمله على الاستدانة بغير اذن
المولى كما ذكرنا في ذينك الخبرين.
وبالجملة فإن
الاستدانة إن وقعت باذن المولى سواء كانت للمولى أو للعبد فالغرم على المولى ،
والا فهو على المملوك ، ويعضده ما ذكره في المسالك من أن العبد هنا بمنزلة الوكيل
، وإنفاقه المال على نفسه في المعروف باذن المولى إنفاق لمال المولى ، فيلزمه كما
لو لم ينعتق.
وبذلك يظهر أن
ما ذهب اليه الشيخ ـ ومن تبعه هنا من تخصيص كون الدين على العبد في صورة العتق دون
صورة الاستبقاء ـ لا وجه له.
واحتج القائلون
بالقول الثاني بالرواية الثانية ، وهي ظاهرة بل صريحة ،
__________________
فيما ذكروه ، مع صحة السند هذا خلاصة تحريم الكلام في المقام.
وأما ما ذكره
في المختلف احتجاجا لما ذهب اليه فهو لا يخلو من تهافت بمنع التعويل عليه.
الثاني : لو
اذن له في التجارة دون الاستدانة ، وحصل عليه ديون ، قال الشيخ في النهاية : ما
يحصل عليه من الدين يستسعى فيه ، ولا يلزم مولاه من ذلك شيء ، وقال في المبسوط :
إذا أذن لعبده في التجارة فركبه دين ، فان كان أذن له في الاستدانة ، فإن كان في
يده مال قضى عنه ، وان لم يكن في يده مال كان على السيد القضاء عنه ، وان لم يكن
أذن له في الاستدانة كان ذلك في ذمة العبد يطالبه به إذا أعتق ، وقد روى أنه
يستسعى العبد في ذلك ، وكذا قال في الخلاف ، الا انه أسقط ذكر الرواية.
وقال ابن حمزة
: ان كان المدين علم أنه غير مأذون في الاستدانة بقي في ذمته الى أن يعتق ، وان لم
يعلم استسعى فيه إذا تلف المال ، وأبو الصلاح لم يفصل إلى المأذون له في التجارة
وغيره ، بل إلى المأذون له في الاستدانة وغيره ، وقال عن الثاني : انه لا ضمان على
المولى ، ولا على العبد الا أن يعتق فيلزمه الخروج إلى مدينة مما عليه.
وقال ابن إدريس
: لا يستسعى بل يتبع بعد العتق ، وقال في المختلف : والمعتمد أن يقول : ان استدان
لمصلحة التجارة لزم المولى أداءه كالأجنبي ، وان لم يكن لمصلحته لم يلزم مولاه شيء
وتبع به بعد العتق عملا بأصالة براءة ذمة المولى ، ولانه فعل غير مأذون فيه ،
والحديث الذي رواه أبو بصير في المسألة السابقة يعطى وجوب الاستسعاء ، وليس ببعيد
، فان المولى عاد بالإذن في التجارة فوجب عليه التمكين من السعى انتهى.
أقول الظاهر من
الاخبار المتقدمة بعد ضم بعضها الى بعض وحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها
أنه متى استدان العبد بغير اذن مولاه فالدين لازم للعبد ، وأنه يستسعى في الدين ،
لكن بشرط اذن المولى ، فان لم يأذن المولى ـ حيث إن المولى غر صاحب الدين بالاذن
للعبد في التجارة ـ مردود بما تضمنه رواية
روح «من أنه متى حجر عليه مولاه فليس على مولاه شيء ، ولا على العبد شيء»
وحينئذ فالواجب تقييد إطلاق الصحيحة المذكورة بهذه الرواية ، وحمل ما تضمنته من
الاستسعاء على رضى المولى ، جمعا بين الخبرين ، ولكنه معذور بعدم اطلاعه على الخبر
المذكور حيث لم يورده في المقام.
وأما استثناء
ما استدانه لمصلحة التجارة مع عدم الاذن له في الاستدانة وأنه يكون على المالك ،
فالظاهر أن وجهه عندهم أنه حيث كان مأذونا في التجارة فهو مأذون فيما يتعلق
بمصالحها التي من جملتها ذلك ، وهو وان احتمل ، الا أن إطلاق صحيحة أبي بصير يرده
، وتخصيصها بمجرد ما ذكروه بعيد.
الثالث : قد
صرح الأصحاب بأنه لو مات المولى الدين في تركته ، ولو كان له غرماء كان غريم العبد
من جملتهم ، والوجه فيه ظاهر بعد الحكم بلزوم دينه للمولى ، وعليه يدل الخبر
الثاني ، وحينئذ فيسقط الدين على الغرماء أجمع ، الا أن ظاهر الخبر السادس بل
صريحه تقديم غرماء المولى ، فعلى هذا لو لم يبق شيء سقط غرماء العبد مع أن الجميع
لازم لذمة المولى ، وهو مشكل ، ولم أر من تعرض لنقل الرواية المذكورة ، فضلا عن
الجواب عما اشتملت عليه من الحكم المذكور ، ومقتضي اصطلاح المتأخرين طرح الرواية
المذكورة لضعفها ، ويعضده مخالفتها للقواعد الشرعية والله العالم.
الرابع ـ قال
الشيخ في النهاية لو لم يأذن له في التجارة ولا في الاستدانة لا يلزم المولى منه
شيء ، ولا يستسعى المملوك بل كان ضائعا ، وقال ابن حمزة يكون ضائعا إلا إذا بقي
المال في يده ، أو كان قد دفع الى سيده.
وقال ابن إدريس
: يتبع به بعد العتق وبه فسر قول الشيخ كان ضائعا ، وهو اختيار أبى الصلاح أيضا
قال في المختلف : وهو المعتمد.
أقول : ظاهر
الرواية الرابعة أنها من هذا القبيل ، فان قوله يشترى ويبيع قد علم بذلك مولاه
يشعر بأنه غير مأذون منه في شيء من الأمرين ، وانما رآه يشترى ويبيع ، ولم ينكر
ذلك عليه ، مع أنه حكم بأنه يستسعى فيما عليه ، وظاهره الاستسعاء
في حياة المالك ، وهو مشكل ، لان منافع العبد مملوكة للمالك ، وكسبه له
فاستسعاؤه متفرع على ضمان المالك ، مع أنه لا ضمان عليه ، لعدم الإذن بالكلية ،
فلا بد من حمل الاستسعاء على كونه بعد العتق ، وحينئذ يكون الرواية دالة على قول
ابن إدريس ، وهو الأوفق بالقواعد الشرعية.
الخامس : إذا
اقترض المملوك مالا فأخذه المولى وتلف في يده تخير المقرض في المطالبة للعبد أو
المولى ، وعلل بان كلا منهما قد ثبت يده على المال ، فيتخير في الرجوع على من شاء
منهما ، فان رجع على المولى قبل ان يعتق العبد لم يرجع المولى على العبد وان عتق ،
لاستقرار التلف في يده ، ولان المولى لا يثبت له مال في ذمة عبده ، وان كان الرجوع
على المولى بعد عتق العبد ، فان كان عند أخذه المال عالما بأنه قرض فلا رجوع له
على العبد أيضا ، وان كان قد غره العبد بأن المال له ، ومن جملة أمواله وليس بقرض
اتجه رجوعه على العبد ، للغرور.
ولو رجع المقرض
على العبد بعد عتقه ويساره فله الرجوع على المولى لاستقرار التلف في يده ، الا ان
يكون قد غر المولى ، فلا رجوع عليه كما تقدم ، كذا قيل ، وفي بعض المواضع منه تأمل
، ومنها قوله لا يثبت له مال في ذمة عبده ، فان الظاهر أنه مبنى على أن العبد لا
يملك ، والا فمع القول بملكه وان كان محجورا عليه كما هو الأظهر ، فإنه لا مانع من
رجوعه عليه.
ومنها أنه إذا
كان العبد مأذونا في الاقتراض وقلنا بملكه فإنه يكون المال للعبد. قد ملكه
بالاقتراض والقبض ، فلا يجوز للمالك أخذه ، ومقتضى ذلك رجوع المقرض على العبد.
لاستقرار المال في ذمته وملكه له ، ورجوع العبد على سيده لانه غاصب.
ومنها إذا كان
الاقتراض للمولى وكان عن إذنه فإنه لا رجوع للمولى على العبد ، وبالجملة فإن
كلامهم هذا انما يتم فيما إذا كان القرض بغير اذن المولى ، سواء اقترضه لنفسه أو
للمولى ، فان القرض يكون حينئذ باطلا فيلزمه لوازم القبض بالعقد الفاسد والله
العالم.
كتاب الرهن
والرهن لغة
الثبوت والدوام ، يقال : رهن الشيء رهونا : كقعد قعودا إذا ثبت ودام ، ومنه نعمة
راهنة : أى دائمة ثابتة ، قال في كتاب المصباح المنير :
ويتعدى بالألف
فيقال أرهنته : إذا جعلته ثابتا ، وإذا وجدته كذلك ، ورهنته المتاع بالدين رهنا
حبسته به ، فهو مرهون ، والأصل مرهون بالدين ، فحذف للعلم به ، وأرهنته بالدين
بالألف لغة قليلة ومنعها الأكثرون. انتهى.
وبه يظهر ما في
قوله في المسالك بعد نسبة المعنى الأول إلى اللغة ، ويطلق على الحبس بأي سبب كان ،
قال الله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» أي محبوسة بما كسبته من خير وشر ، وأخذ الرهن الشرعي من
هذا المعنى أنسب ، فإن ظاهره أن المعنى اللغوي للفظ انما هو الأول ، وبه صرح غيره
أيضا ، وأن الثاني انما هو معنى مجازي يطلق عليه ، ويستعمل فيه مع أن مقتضى كلام
المصباح ان الثاني أيضا معنى لغوي ، فاستعماله شرعا في هذا المعنى هو أحد معنييه
لغة.
والكلام في هذا
الكتاب يجب بسطه في فصول الفصل الأول ـ في الرهن وفيه مسائل ، الأولى ـ في الصيغة
المشتملة على الإيجاب والقبول ، ظاهر كلام بعض الأصحاب الاكتفاء في الإيجاب بكل
لفظ دل على الارتهان ، كقوله رهنتك أو هذا وثيقة عندك ، وهذا رهن عندك وزاد في
الدروس أنه لو قال : خذه على مالك أو بمالك فهو رهن.
أقول : في قوله
خذه بمالك ما يوهم المعاوضة ، ودخوله في قسم البيع ، بناء على عدم اشتراط الصيغة
الخاصة ، ووقوعه لكل ما دل على التراضي من الطرفين ، فلا ينبغي عده في سياق هذه
الألفاظ.
وبالجملة فإنه
يستفاد منه أنه أن الرهن لا يختص بلفظ. وربما ظهر من عبائر جملة منهم في التعبير
عنه بأنه عقد ، أنه يشترط فيه ما يشترط في العقود اللازمة من الإيجاب
__________________
والقبول باللفظ العربي على صيغة الماضي والمقارنة ، وتقديم الإيجاب كما في
غيره من العقود اللازمة ، لأنه المتبادر من لفظ العقد.
قيل : لعل
دليله أن الأصل عدم الانعقاد وترتب أحكام الرهن الا على ما ثبت كونه رهنا بالإجماع
ونحوه والإجماع هنا غير ثابت ، وكذا غيره.
أقول : فيه ما
عرفت مما تقدم في صدر الفصل الأول من كتاب البيع من عدم الدليل على ما ذكروه ، واستفاضة الاخبار في
العقود بخلاف ما اعتبروه ، مضافا الى أصالة العدم ، ويؤيده ـ ما ذكره بعض المحققين
ـ من أن الرهن ليس على حد العقود اللازمة ، لأنه جائز من طرف المرتهن ، فترجيح
جانب اللزوم ـ ولزوم ما يعتبر في اللازم ـ ترجيح من غير مرجح ، وأما القبول فهو
عبارة عن الرضا بذلك الإيجاب ، والقبول فيه كما تقدم في الإيجاب.
وقال في
التذكرة : الخلاف في الاكتفاء بالمعاطاة ـ والاستيجاب والإيجاب المذكور في البيع ـ
آت هنا ، واعلم أن الرهن اما أن يكون مبتدأ متبرعا به ، وهو الذي لا يقع شرطا في
عقد لازم ، بل يقول الراهن : رهنت هذا الشيء عندك على الدين الذي على ، فيقول
المرتهن : قبلت ، واما أن يقع شرطا في عقد لازم كبيع أو إجارة أو نكاح أو غير ذلك
، فيقول : بعتك هذا الشيء بشرط أن ترهنني عبدك ، فيقول : اشتريت ورهنت ، أو زوجتك
ابنتي على مهر قدره كذا ، بشرط أن ترهنني دارك على المهر ، فيقول الزوج : قبلت
ورهنت.
والقسم الأول
لا بد فيه من الإيجاب والقبول عند من اشترطهما ولم يكتف بالمعاطاة.
وأما القسم
الثاني فقد اختلفوا فيه ، فقال بعض الشافعية : إذا قال البائع : بعتك كذا بشرط أن
ترهنني كذا ، فقال المشترى : شريت ورهنت ، لا بد وأن يقول البائع بعد ذلك : قبلت
الرهن ، وكذا إذا قالت المرأة : زوجتك نفسي بكذا بشرط أن
__________________
ترهنني كذا ، فقال الزوج : قبلت النكاح ورهنتك كذا ، فلا بد وأن تقول
المرأة بعد ذلك : قبلت الرهن. لانه لم يوجد في الرهن سوى مجرد الإيجاب ، وهو
بمجرده غير كاف في إتمام العقد.
وقال آخرون :
ان وجود الشرط من البائع والزوجة ، يقوم مقام القبول لدلالته عليه انتهى. وظاهر
نقله الخلاف في القسم الثاني من غير ترجيح شيء يؤذن بالتوقف في ذلك ، واحتمال
الاكتفاء بالإيجاب هنا.
وفيه اشكال ـ كما
أشار إليه بعض المحققين ـ من أن مقتضى الشرط أنه لا يقع البيع والتزويج الا بعد
الرهن ، مع أن الرهن متأخر. ولانه يلزم أن يرهن على الثمن قبل إتمام الشراء ولزومه
، ويتحقق الشراء قبل الرهن ، مع أنه قد جوز المعاطاة في البيع ، فيجوز هنا أيضا بل
بالطريق الاولى ، فيحتمل الاكتفاء بها ، وعدم اشتراط الإيجاب والقبول انتهى وهو
جيد.
قالوا ولو عجز
من النطق كفت الإشارة ، ولو كتبه والحال هذه وعرف ذلك من قصده جاز ، وقيد بعضهم
الإشارة أيضا بأنه لا بد أن تكون مفهمة للمقصود ، وهو كذلك.
وبالجملة فإنه
كما يعتبر في اللفظ افهام المقصود ، كذلك يعتبر فيما قام مقامه مع تعذره ، ولهذا
مال بعض المحققين الى الاكتفاء بالإشارة والكتابة المفهمين ، وان كان مع القدرة
على اللفظ ، لان الغرض فهم ذلك ، فحيثما وجد كفى.
المسألة
الثانية ـ اختلف الأصحاب في أن قبض الرهن شرط في الرهن أم لا؟ وبالأول قال الشيخ
في النهاية ، والشيخ المفيد ، وابن الجنيد ، وأبو الصلاح ، وابن البراج ، وسلار ،
وأبو منصور الطبرسي ، وابن حمزة ، والمحقق في الشرائع ، والشهيد في الدروس ، وكتاب
النكت واللمعة.
وبالثاني قال
في الخلاف ، فإنه صرح بأنه يلزم بالإيجاب والقبول خاصة ، وبه قال ابن إدريس ،
والعلامة في المختلف ، وهو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، واختلف كلامه في
المبسوط ، ففي كتاب الرهن كما في النهاية
وقال فيه أيضا كما قال في الخلاف في فصل بيع الخيار : الأحوط أن نقول ان
الرهن من قبل الراهن بالقول ، ويلزمه إقباضه.
احتج الأولون
بقوله عزوجل «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ»
والتقريب فيها
أنه سبحانه أمر بالرهن المقبوض فلا يتحقق المطلوب شرعا بدونه ، كما اشترط التراضي
في التجارة ، والعدالة في الشهادة ، حيث قرنا بهما وبما رواه الشيخ في الموثق عن
محمد بن قيس عن أبى جعفر عليهالسلام ، قال : «لا رهن الا مقبوضا» .
أقول : وروى
العياشي في تفسيره أيضا عن محمد بن عيسى عن أبى جعفر عليهالسلام : قال : «لا رهن إلا مقبوضا».
أجاب العلامة
في المختلف أما عن الآية فبأنها انما تدل من حيث دليل الخطاب وليس حجة عند
المحققين ، ثم قال : على أنا نقول : دليلنا ، أما أولا فلان القبض لو كان شرطا
كالإيجاب والقبول لكان قوله تعالى «مَقْبُوضَةٌ»
تكرارا لا
فائدة تحته ، وكما لا يحسن أن يقول : مقبولة ، كذا كان يحسن أن لا يقول : مقبوضة ،
واما ثانيا فلان الآية سيقت لبيان الإرشاد إلى حفظ المال ، وذلك انما يتم بالإقباض
كما أنه لا يتم الا بالارتهان فالاحتياط يقتضي القبض كما يقتضي الرهن ، وكما أن الرهن
ليس شرطا في الدين ، فكذا القبض ليس شرطا في الرهن ، ثم أجاب عن الرواية بضعف
السند مع أنها مشتملة على إضمار ، فلا تبقى حجة انتهى.
__________________
وأجاب الشهيد
في نكت الإرشاد عن ذلك ، قال : والجواب ان الآية دلت على شرعية الرهن مع القبض ،
فإذا لم يقبض كان منفيا بالأصل ، لا بدليل الخطاب ، وحفظ المال واجب ، فيجب مقدمة
، والحديث متلقى بالقبول ، فلا يضره ضعف سنده ، والإضمار بالصحة أولى ، ولا تكرار
في قوله «مَقْبُوضَةٌ»
لأن اللغوي
صادق فيصير شرعيا بالقبض انتهى.
ويمكن تطرق
المناقشة إليه بما يخرجه عن الاعتماد عليه ، أما قوله ان الآية دلت على شرعية
الرهن مع القبض ـ الى آخر دليله ـ ففيه أن صدق الرهن ـ وتحقق عقد بدون القبض
الموجب لدخوله تحت قوله «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» «والمؤمنون عند شروطهم» مما يمنع ذلك ، ويعضده إطلاق
الاخبار الواردة في جملة من أحكام الرهن التي لا تكاد تحصى كثرة ، كما ستمر بك
إنشاء الله تعالى ـ فإنها كلها اشتملت على ذكر الرهن من غير تقييد بالقبض ، فلو
كان شرطا كما هو المدعى لم يحسن ذلك ، بل يجب التفصيل ، وقد تقرر في كلامهم أن عدم
التفصيل دليل على العموم.
وأما قوله ان
حفظ المال واجب فيجب مقدمة ، ففيه أنه لا قائل بوجوب أخذ الرهن ، فالوجوب هنا غير
ظاهر.
وأما قوله : ان
الحديث متلقى بالقبول ، ففيه أنه وان كان كذلك الا أن الدلالة غير صريحة ، بل ولا
ظاهرة ، ودعوى أولوية ترجيح إضمار الصحة لا دليل عليها.
وأما قوله لا
تكرار في قوله «مَقْبُوضَةٌ»
الى آخره ففيه
أنه متى وجد المعنى الشرعي فمقتضى القاعدة الحمل عليه ، وانصراف معنى اللفظ اليه ،
على أن الوصف بالقبض لا يناسب المعنى اللغوي عندهم الذي هو الثبوت والدوام ، الا
أن يكون بمعنى المرهون.
وأما ما أجاب
به هنا ـ في المسالك ـ من أن الصفة قد يكون للكشف ، ففيه أن الأصل في الوصف عدم
كونه كذلك ، لما تقرر من «أن التأسيس خير من
التأكيد» كما هو مشهور في كلامهم ، وبالجملة فالمسألة لما عرفت محل اشكال
والله العالم.
بقي الكلام هنا
في شيئين : أحدهما ـ في تعيين محل الخلاف في المسألة ، وان شرطية القبض هل هي في
الصحة ، أو اللزوم؟ قد اضطرب في ذلك كلامهم ، فظاهر جملة منهم أن محل الخلاف نفيا
وإثباتا انما هو في كونه شرطا في الصحة ، فالقائل بشرطيته يحكم بكون الرهن بدونه
باطلا ، والقائل بكونه شرطا في اللزوم يحكم بالجواز.
فممن ظاهره
الأول العلامة في الإرشاد والقواعد ، والشهيد في نكت الإرشاد والمحقق الثاني في
شرح القواعد ، والشهيد في الدروس ، وفرع عليه فروعا كثيرة
قال في كتاب
نكت الإرشاد بعد قول المصنف ـ ولا يفتقر الى القبض : هذا قول الشيخ في الخلاف الى
أن قال : وذهب الشيخ في النهاية ـ وموضع من المبسوط ـ الى أن القبض شرط في صحته ،
وهو مذهب المفيد وابن الجنيد الى آخره وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه.
وممن ظاهره
الثاني العلامة في التذكرة حيث قال : اختلف علماؤنا في القبض هل هو شرط في لزوم
الرهن أولا على قولين : الى آخره ، ثم ذكر جملة من الفروع المرتبة على ذلك.
ومنهم الشهيد
الثاني في المسالك حيث قال : اختلف أصحابنا في اشتراط القبض في الرهن بمعنى كونه
جزء لسبب لزومه من قبل الراهن ، كالقبض في الهبة في كونه كذلك بالنسبة إلى ملك
المتهب وعدمه ، وهو أيضا كالأول ، ظاهر فيما قلناه.
ومن هنا قال بعض
المحققين : إنه يمكن أن تكون المذاهب ثلاثة ، أحدها ـ عدم اشتراط القبض بوجه ،
وثانيها ـ اشتراطه في الصحة ، وثالثها اشتراطه في اللزوم فقط ، كما في الهبة ،
فإنه نقل فيها في الدروس ثلاثة أقوال ، مثل ما قلناه هنا ، وان قال في شرح الشرائع
ـ بعد تقرير الخلاف ـ في لزوم الرهن من جانب
الراهن ، كالقبض في الهبة ، وهو مشعر بكون الخلاف في الهبة أيضا في اللزوم
وعدمه والظاهر أنه ليس كذلك ، ولهذا قال في القواعد وغيره : لو مات الواهب بطلت
الهبة ، ولهذا يحصل الجمع بين كلام القوم انتهى وهو جيد.
وثانيهما ـ أنه
قد صرح في المسالك بأن إطلاق الشرطية على القبض انما هو بطريق المجاز ، لان الشرط
مقدم على المشروط في الوجود ، وهنا لا يعتبر تقدمه إجماعا ، فكونه جزء من السبب
أنسب ، وقيل عليه : ان الظاهر أن المراد بالشرط هنا انما هو الأمر الذي لا بد من
حصوله ، لحصول المشروط ، لا الخارج المقدم على المشروط الذي يجب حصوله قبله ، وهو
إطلاق شائع خصوصا عند الفقهاء في مثل هذا الباب وهو جيد.
فروع
الأول ـ لو قبض
المرتهن الرهن بغير اذن الراهن ، فان قلنا : بأن القبض شرط في الصحة كان عقد الرهن
باطلا ، لان القبض على هذا الوجه كلا قبض ، وان قلنا : أنه شرط في اللزوم كان
العقد صحيحا غير لازم.
ويمكن التفصيل
بناء على الأول بأنه ان كان قبضه بغير اذنه من حيث امتناع الراهن من الإقباض ،
فالظاهر أنه لا وجه للبطلان ، لانه من قبيل الحقوق المستحقة عليه ، فإذا أخل
بدفعها جاز لصاحب الحق التوصل إلى أخذ حقه وان كان لا كذلك فما ذكروه صحيح والله
العالم.
الثاني ـ لو
عرض للراهن الجنون أو الإغماء أو الموت بعد العقد وقبل القبض ، وقلنا : باشتراط
القبض كما هو المشهور ، فان قلنا : بكون القبض شرطا في الصحة فإنه يبطل العقد من
أصله ، وبذلك صرح في القواعد والدروس تفريعا على ما اختاراه من كون القبض شرطا في
الصحة كما تقدم نقله عنهما.
وان قلنا بكونه
شرطا في اللزوم كان العقد صحيحا ، وبه قطع في التذكرة تفريعا على ما اختاره فيها
من كون القبض شرطا في اللزوم ، كما تقدم نقله عنه ، فعلى
الثاني يقوم الولي مقام الراهن في استحقاق الإقباض ، لكن ولى المجنون يراعى
مصلحته في ذلك ، فان رأى أن المصلحة في الإقباض كما إذا كان في بيع يتضرر بفسخه أو
نحو ذلك من المصالح التي يقتضيها الحال أقبضه ، والا فلا.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام صاحب المسالك في هذا المقام ، حيث أنه فرع البطلان وعدمه على القول
بكون القبض شرطا في اللزوم ، كما اختاره وغفل عن الخلاف الذي قدمنا ذكره من أن
جملة منهم انما جعله شرطا في الصحة ، وآخرين في اللزوم ، والصحة والبطلان هنا انما
تفرعا على ذلك كما أوضحناه ، ولو كان عروض أحد هذه الأشياء المتقدمة للمرتهن قبل
قبضه.
فالظاهر ان
العقد صحيح على كل من القولين المتقدمين ، وينتقل حق القبض إلى الولي ، ولهذا انه
في الدروس مع قوله بالبطلان بموت الراهن أو جنونه قال : بالصحة هنا ووجه ذلك هو الفرق بين المقامين ، فإنه في صورة موت
الراهن قبل الإقباض تعلق حق الورثة والديان به ، فلا يستأثر به أحد ، بخلاف موت المرتهن
فان الدين باق فتبقى وثيقة لعدم المنافي ، هذا كله على تقدير القول باشتراط القبض واما على القول
__________________
الأخر فلا اثر لهذا البحث ولا لما قبله لحكم هذا القائل بصحة العقد ولزومه
قبل القبض فلا تؤثر فيه هذه العوارض والله العالم.
الثالث ـ قد
صرحوا بأنه ليس استدامة القبض شرطا ، فلو عاد الى الراهن أو تصرف فيه لم يخرج عن
الرهانة ، وظاهرهم أنه موضع وفاق ، بل نقل عن التذكرة دعوى الإجماع عليه .
الرابع ـ لو
رهن ما في يد المرتهن قبل الرهن ، فان كان بعارية أو وديعة أو إجارة ونحو ذلك مما
كان قبضا مأذونا فيه شرعا ، فالظاهر أنه لا خلاف في الصحة ، لأن المعتبر تحقق
القبض وهو حاصل ، ولو بالاستصحاب ، فان استدامة القبض قبض حقيقة ، فيصدق عليه أنه
رهن مقبوض ، وأما انه يشترط كون القبض واقعا ابتداء بعد الرهانة ، فلا دليل عليه ،
وحينئذ فلا فرق بين السابق والمقارن.
وان كان قبضا
غير مأذون فيه شرعا كقبض الغاصب ، والمستام ، والمشترى فاسدا ، فقد أطلق الأكثر
الاكتفاء به أيضا ، لما تقدم من الدليل ، ولانه متى اشترط القبض في الرهن كان
مستحقا على الراهن ، فإذا كان في يد المرتهن وصل الى حقه وعلى تقدير كون القبض
منهيا عنه لا يقدح هنا ، لأن النهي في غير العبادة لا يقتضي الفساد.
وقيل : بعدم
الاكتفاء به ، لان القبض على تقدير اشتراطه ركن من أركان العقد من الجهة التي
تعتبر لأجلها وهو اللزوم ، ولهذا أوجبوا عليه الإقباض لو كان الرهن مشروطا عليه ،
وإذا وقع منهيا عنه لا يعتد به شرعا ، وانما لا يقتضي النهي
__________________
الفساد في مثل ذلك حيث تكمل أركان العقد ، مع أنهم قطعوا بأنه لو قبض بلا
اذن الراهن لم يعتد به ، فلو كان مطلق القبض كافيا ، لزم مثله في ذلك القبض
المبتدأ بغير اذن الراهن ، ونمنع استحقاقه على الراهن بمجرد الصيغة.
أقول :
والمسألة لما كانت عارية عن النص تطرق إليها الإشكال ، الا انه يمكن أن يقال : ان
المقبوض بيد أحد هؤلاء المذكورين وان كان قبل الرهن غير مأذون فيه شرعا وهو منهي
عنه ، الا أنه بعد عقد الرهن وحصول الرضا من الراهن ببقائه في يد المرتهن من أحد
هؤلاء لا مانع من ذلك ، واما القياس على القبض بغير اذن الراهن فهو قياس مع الفارق
إذ المفروض هنا كما ذكرنا هو رضا الراهن ببقائه رهنا عند أحد هؤلاء واذنه في ذلك ،
وكونه سابقا مقبوضا بغير وجه شرعي لا يمنع من ذلك مع تجدد الرضا والاذن أخيرا ،
بخلاف المقبوض بعد الرهن بغير اذن على ما تقدم من التفصيل فيه.
ونقل عن
العلامة في التذكرة أنه قطع باشتراط الاذن ومضى زمان يمكن فيه تجدد القبض هنا ،
قال في المسالك : وهو متجه ، بل ربما قيل : باشتراطهما في المقبوض صحيحا ثم أطال
في بيان تعليل ذلك بعلل عليلة.
أقول : أما
اشتراط الاذن فلا ريب أن قرينة المقام شاهدة به ، لانه مع جعله رهنا ، والعلم
باشتراط القبض في الرهن لا يتجه ولا يتم الا مع الرضا والاذن في القبض ، والا فكيف
يجعله رهنا يجب عليه إقباضه للمرتهن ، مع عدم الرضا والاذن في قبضه ، ولا ريب أنه
وان كان مقبوضا سابقا على غير وجه شرعي ، الا انه بعد جعله رهنا صار الأمر على
خلاف ما كان سابقا ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا خفاء عليه.
وأما اشتراط
مضى زمان يمكن فيه تجدد القبض فلا وجه له ، وما علل به مما طوينا نقله لا يخفى ما
فيه على من راجعه.
الخامس ـ لو
رهن ما هو غائب وقلنا باشتراط القبض ، فلا بد من حضور المرتهن أو وكيله عند الرهن
وقبضه ، وأنه لا يصير رهنا صحيحا أو لازما بناء على القولين المتقدمين الا بذلك.
والمعتبر في
القبض ما تقدم في كتاب البيع من اعتباره في كل بما يناسبه من النقل في المنقولات ،
والكيل والوزن في المكيلات والموزونات ، والتخلية فيما لا يكون كذلك ـ حسبما تقدم
تحقيقه.
وبالجملة فإن
القبض هنا كالقبض في البيع ، فجميع ما تقدم آت هنا ، ولو قلنا بعدم اشتراط القبض
سقط البحث.
السادس ـ قالوا
ـ : لو أقر الراهن بالإقباض قضى عليه به ، إذا لم يعلم كذبه ولو رجع لم يقبل رجوعه
، وتسمع دعواه لو ادعى المواطاة على الاشهاد ، فيتوجه اليمين على المرتهن على
الأشبه.
أقول : أما
القضاء عليه بإقراره فظاهر ، لما ورد من أن «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ». وأما عدم ذلك مع علم كذبه فظاهر أيضا ، كما لو قال :
رهنته اليوم داري التي بالحجاز وأقبضته إياها مع كونهما في الشام مثلا فإنه لا
يسمع ، لانه محال عادة ، وقد عرفت أن شرطه وصول المرتهن أو وكيله الى موضع الرهن
وقبضه.
وأما أنه لو
رجع عن إقراره بالإقباض لم يقبل رجوعه ، فلانه بإقراره أولا دخل تحت مضمون الخبر
المتقدم فيجب إلزامه والحكم عليه ، ولا تسمع دعواه ، بحيث تتوجه على المرتهن
اليمين.
نعم لو ادعى
الغلط في إقراره وأظهر تأويلا ممكنا في حقه كما لو قال استندت فيه الى كتاب كتبه
وكيلي فظهر مزورا ونحو ذلك فان الظاهر سماع دعواه ، بمعنى توجه اليمين على المرتهن
بان القبض حقيقي ، أو على نفى ما يدعيه الراهن ، لأن الأصل صحة الإقرار ومطابقته
للواقع.
واستقرب
العلامة في التذكرة توجه اليمين له على المرتهن وان لم يظهر تأويلا ، محتجا بأن
الغالب في الوثائق كون الشهادة قبل تحقق ما فيها ، فلا حاجة
__________________
الى تلفظه به.
وأما لو ادعى
المواطاة في الإشهاد إقامة لرسم الوثيقة أي لأجل كتابتها والشهادة عليها حذرا من
تعذر ذلك إذا تأخر الى أن يتحقق القبض ، فالأقوى أنها مسموعة ، بمعنى توجه اليمين
بها كما على المرتهن أيضا ، حسبما تقدم ، لجريان العادة بوقوع مثل ذلك ، وقيل :
انه يحتمل عدم السماع لانه مكذب لإقراره الأول.
وينبغي أن يعلم
أن سماع دعواه انما يتم لو شهد الشاهدان على إقراره ، فادعى الغلط أو المواطاة كما
تقدم ، أما لو شهدا على نفس الإقباض وفعله لم تسمع دعواه ، لتضمنها تكذيب الشاهدين
، بخلاف الشهادة على الإقرار ، فإنها لا تنافي دعواه بأحد الوجهين المذكورين ،
وعلى هذا فلا يثبت على المرتهن باليمين لو وقعت الشهادة على نفس الإقباض ، وكذا لو
شهدا على إقراره بالإقباض فأنكر الإقرار ، فإنه لا يلتفت الى إنكاره ، لما تقدم من
استلزامه تكذيب الشاهدين.
السابع ـ لو
رهن ما هو مشترك بينه وبين غيره على سبيل الإشاعة. فإن كان مما ينقل ويحول فإنه لا
يجوز الإقباض إلا بإذن الشريك ، لاستلزامه التصرف في مال الغير بغير اذنه ، فلو
أقبضه والحال هذه فعل محرما.
وهل يحصل
الإقباض بذلك ويتم شرط الرهن أم لا؟ قولان : ثانيهما للشهيد (رحمة الله عليه) لانه
كما لو قبضه بدون اذن المرتهن ، وأولهما للعلامة وجماعة ، ووجهه أن النهى انما هو
من حيث حق الشريك فقط ، والا فالإذن حاصل من الراهن بالنسبة إلى حقه ، واشتمال
المقبوض على حق الراهن وغيره لا يمنع من تحقق القبض لحق الراهن الذي هو شرط في صحة
الرهن على القول به ، وان فعل محرما بالتصرف في حق الغير ، وهذا القول بحسب
الاعتبار أقوى.
وان كان مما لا
ينقل ولا يحول فان ظاهر المحقق في الشرائع إلحاق ذلك بالصورة الاولى في اشتراط
الاذن ، حيث قال : ولا يجوز تسليم المشاع الا برضاء شريكه ، سواء كان مما ينقل أو
لا ينقل على الأشبه.
وظاهر شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك العدم ، حيث قال : وأما ما يكفى
فيه مجرد التخلية ففي اشتراط اذنه نظر ، أقربه العدم ، لان الغرض مجرد رفع
يد الراهن وتمكين المرتهن من قبضه ، وهو لا يستدعي تصرفا في ملك الغير انتهى وهو
جيد.
المسألة
الثالثة ـ المشهور بل ادعى عليه الشيخ الإجماع أن الرهن أمانة في يد المرتهن ، لا
يضمن الا مع التفريط ، فلا يسقط بتلفه شيء مع عدم التفريط.
ويدل عليه جملة
من الاخبار منها ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن جميل بن دراج قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام في رجل رهن عند رجل رهنا فضاع الرهن قال : هو من مال
الراهن ، ويرجع المرتهن عليه بماله».
وعن أبان بن
عثمان «عن رجل عن أبى
عبد الله عليهالسلام في رجل رهن عند رجل دارا فاحترقت أو انهدمت؟ قال : يكون
ماله في تربة الأرض ، وقال في رجل رهن عنده مملوك فجذم أو رهن عنده متاع فلم ينشر
المتاع. ولم يتعاهده ولم يتحركه فتأكل هل ينقص من ماله بقدر ذلك؟ فقال : لا».
وفي الصحيح أو
الحسن عن الحلبي عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يرهن الرهن عند الرجل فيصيبه شيء أو يضيع قال : رجع بماله عليه».
وعن عبيد بن
زرارة قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل رهن سوارين فهلك أحدهما قال : يرجع عليه بحقه
فيما بقي ، وقال في رجل رهن عند رجل دارا فاحترقت» الحديث. كما تقدم في مرسلة أبان
بأدنى تفاوت ، وفيه «فأكل» يعني أكله السوس.
وفي الصحيح عن
الفضيل بن عبد الملك عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون
حقه في الأخر؟ قال : نعم ،
__________________
قلت : أو دارا فاحترقت أيكون حقه في التربة؟ قال : نعم ، أو دابتين فهلكت
إحداهما أيكون حقه في الأخرى؟ قال : نعم ، قلت : أو متاعا فهلك من طول ما تركه ،
أو طعاما ففسد أو غلاما فأصابه جدري فعمي أو ثيابا تركها مطوية لم يتعاهدها ولم
ينشرها حتى هلكت؟ قال : هذا نحو واحد يكون حقه عليه».
وعن أبان عن رجل «عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : سألته كيف يكون الرهن بما فيه ان كان حيوانا أو
دابة أو ذهبا أو فضة أو متاعا فأصابته جائحة حريق أو لص فهلك ماله أو نقص متاعه ،
وليس له على مصيبته بينة ، قال : إذا ذهب متاعه كله فلم يوجد له شيء فلا شيء
عليه ، وان قال : ذهب من بيتي مالي وله مال فلا يصدق».
وعن إسحاق بن
عمار في الموثق «عن أبي إبراهيم عليهالسلام ، قال : قلت له : الرجل يرتهن العبد فيصيبه عور أو ينقص
من جسده شيء على من يكون نقصان ذلك؟ قال : على مولاه ، قال : قلت : ان الناس
يقولون ان رهنت العبد فمرض أو انفقأت عينه فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال الرجل
بقدر ما ـ ينقص من العبد ، قال أرأيت لو أن العبد قتل قتيلا على من يكون جنايته؟
قال : جنايته في عنقه».
وعن إسحاق بن
عمار أيضا في الموثق قال : «قلت : لأبي إبراهيم عليهالسلام الرجل يرهن الغلام أو الدار فتصيبه الآفة على من يكون؟
قال : على مولاه ، ثم قال : أرأيت لو قتل هذا قتيلا على من يكون؟ قلت : هو في عنق
العبد ، قال : ألا ترى فلم يذهب من مال هذا؟ ثم قال : أرأيت لو كان ثمنه مأة دينار
فزاد وبلغ مأتي دينار لمن كان يكون؟ قلت : لمولاه ، قال : وكذلك يكون عليه ما يكون
له».
__________________
الا أن بإزاء
هذه الاخبار أيضا ما يدل على خلاف ما دلت عليه وهو وجوب الضمان على المرتهن.
ومنها ما رواه في
الفقيه عن محمد بن قيس في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «قضى ـ أمير المؤمنين عليهالسلام إذا كان الرهن أكثر من مال المرتهن فهلك ـ ان يؤدى
الفضل الى صاحب الرهن ، وان كان أقل من ماله فهلك الرهن ادى الى صاحبه فضل ماله ،
وان كان الرهن يسوى ما رهنه فليس عليه شيء».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابن بكير في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرهن؟ فقال : ان كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن
يؤدى الفضل الى صاحب الرهن ، وان كان أقل من ماله فهلك الرهن أدى اليه صاحبه فضل
ماله ، وان كان سواء فليس عليه شيء».
وما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزة قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن قول على عليهالسلام في الرهن يترادان الفضل؟ قال : كان على عليهالسلام يقول : ذلك ، قلت : كيف يترادان الفضل؟ فقال : ان كان
الرهن أفضل مما رهن به ثم عطب رد المرتهن على صاحبه ، وان كان لا يساوى رد الراهن
ما نقص من حق المرتهن ، قال : وكذلك كان قول على عليهالسلام في الحيوان وغير ذلك».
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن إسحاق قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يرهن بمأة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم فهلك
، أعلى الرجل ان يرد على صاحبه مائتي درهم؟ قال : نعم لأنه أخذ رهنا فيه فضل ـ وضيعه
، قلت :
__________________
فهلك نصف الرهن فقال : على حساب ذلك» وزاد في الكافي والفقيه «قلت : فيترادان
الفضل قال : نعم».
وما رواه في
الفقيه عن محمد بن حسان عن ابى حمران الأرمني عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل رهن عند رجل على ألف درهم ، والرهن
يساوي ألفين فضاع فقال : يرجع عليه بفضل ما رهنه ، وان كان انقص مما رهنه عليه رجع
على الراهن بالفضل ، وان كان الرهن يساوى ما رهنه عليه فالرهن بما فيه». قيل :
ويعنى قوله «والرهن
بما فيه» انه يحسب الرهن من دينه ويرجع بالباقي. أقول : وهو معنى صحيح في حد ذاته
، الا أنه بعيد عن ظاهر اللفظ المذكور وجمع الشيخ (رحمة الله عليه) بين هذا
الاخبار بحمل الأخبار الأولة على عدم التفريط ، والأخيرة على التفريط استنادا الى
ما رواه
في الكافي عن
أبان عمن أخبره عن أبى عبد الله عليهالسلام وفي الفقيه والتهذيب عن أبان عن أبى عبد الله عليهالسلام «أنه قال في الرهن إذا ضاع عند المرتهن من غير أن يستهلكه : رجع في حقه على
الراهن فأخذه فإن استهلكه ترادا الفضل فيما بينهما».
أقول : ويشير
الى ذلك أيضا قوله عليهالسلام ، في رواية إسحاق الأخيرة «لأنه أخذ رهنا فيه فضل وضيعة».
وعلى ذلك أيضا
يحمل ما رواه الشيخ في التهذيب عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «إذا ارتهنت عبدا أو دابة فماتا فلا شيء عليك ، وان هلكت الدابة أو
أبق الغلام فأنت ضامن».
فإنه لا بد من
حمل هلاك الدابة وإباق الغلام على التفريط ، والا يحصل التنافي بين صدر الخبر
وعجزه.
__________________
قال الشيخ بعد
نقل الخبر المذكور : المعنى فيه أن يكون سبب هلاكها أو سبب إباق الغلام شيئا من
جهة المرتهن ، فاما إذا لم يكن كذلك فلا يلزمه شيء ، وكان حكمه حكم الموت سواء
انتهى.
واحتمل بعض
مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين حمل الأخبار الأخيرة على التقية ، قال : فقد
روى العامة عن الشعبي وشريح والحسن ذهبت الرهانة بما فيها ويدل عليه خبر أبان أيضا انتهى.
أقول نقل
العلامة في التذكرة القول بما عليه الأصحاب عن عطاء ، والزهري ، والأوزاعي والشافعي
، وأبى ثور وأحمد وابن المنذر ، ونقل عن شريح والنخعي والحسن البصري ، أن الرهن
يضمن بجميع الدين ، وان كان أكثر من قيمته ، ونقل عن الثوري وأصحاب الرأي أنه
يضمنه المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين ، فان كانت قيمته أقل سقط بتلفه
من الدين قدر قيمته ، والا سقط الدين ، فلا يضمن الزيادة انتهى.
وأنت خبير بان
ثبوت التقية انما يتم على قول شريح ومن معه ، وهو أشد الأقوال الثلاثة فإن ظاهر
المشهور عندهم موافق لما عليه الأصحاب ، وقول أبي حنيفة وأتباعه وهم المشار إليهم
بأصحاب الرأي لا ينطبق عليه الاخبار المذكورة ، لأنها دلت على أن المرتهن يضمن
الزيادة لو كان الرهن أكثر ، وهم ينفون ذلك ، والحمل على التقية باعتبار هؤلاء
الثلاثة بعيد.
الا أنه ربما
يمكن تأييده بما تقدم في موثقة إسحاق بن عمار من قوله ، قال : «قلت : أن الناس
يقولون : ان رهنت العبد فمرض أو أنفقا عينه فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال
الرجل بقد ما ينقص من العبد».
ويؤيده أن جل
الاختلاف في الاخبار انما نشأ من التقية ، ولا ينافيه التفصيل الذي دلت عليه مرسلة
أبان المتقدمة ونحوها ، فإنه يجوز أن يكون الحكم الشرعي هو التفصيل الذي دلت عليه
، وان كان إطلاق هذه الاخبار انما خرج مخرج التقية.
__________________
وأما قول شيخنا
المشار اليه ويدل عليه خبر أبان أيضا فلا أعرف له وجها ، فان خبر أبان دل على
التفصيل بالتفريط وعدمه ، كما هو المعمول عليه بين الأصحاب ، ولا دلالة فيه على
أزيد من ذلك.
بقي الإشكال
فيما قدمنا من الاخبار في مقامين ، أحدهما : ما دل عليه جملة منها كصحيحة الفضل بن
عبد الملك ورواية عبيد بن زرارة ، ومرسلة أبان ـ من عدم ضمان المتاع إذا لم ينشره
ولم يتعاهده ، ولم يتحركه حتى تأكل وهلك ، وان كان بذلك أفتى الصدوق في المقنع ،
فقال : ان رهن عنده متاعا فلم ينشر المتاع ، ولم يخرجه ولم يتعهده ، ففسد فان ذلك
لا ينقص من ماله شيئا انتهى وهو مشكل.
فإنك قد عرفت
أن الرهن في يده أمانة مضمونة مع التفريط ، ومن الظاهر ان ترك المتاع الذي يتوقف
حفظه وسلامته على النشر والتعاهد بغير نشر ولا تعاهد تفريط ، ولهذا قال العلامة في
المختلف ـ بعد نقل عبارة المقنع : والأقرب أن على المرتهن الضمان ، لان ترك نشر
الثوب المفتقر الى نشره يكون تفريطا ، والمفرط ضامن انتهى.
وكأنه (قدسسره) لم يخطر بباله الأخبار المذكورة التي هي مستند الصدوق
في هذه الفتوى ، والا لكان الواجب عليه الجواب عنها ، ويمكن ـ وان بعد ـ حملها على
عدم علمه بوصول الضرر الى المتاع مع بقائه على تلك الحال.
وثانيهما : ما
دلت عليه مرسلة أبان الثانية من عدم تصديق المرتهن إذا ادعى ذهاب الرهن وحده ،
فإنه مخالف لمقتضى القواعد المعمول عليه بين الأصحاب أيضا ، حيث أن المرتهن أمين
كما عرفت ، والأمين مصدق بيمينه.
وبمضمون هذه
الرواية أفتى ابن الجنيد ، فقال : والمرتهن يصدق في ضياع الرهن إذا كانت جائحة
ظاهرة ، أو إذا ذهب متاعه ، والمرهون فان ادعى ذهاب الرهن وحده لم يصدق.
ورده العلامة
في المختلف بما ذكرناه ، فقال : لنا انه أمين والقول قوله مع اليمين ، ونقل عنه
الاحتجاج بأن دعواه ذهاب الرهن بخصوصه خلاف الظاهر وبالرواية ، ثم رد الأول بالمنع
، والرواية بالإرسال ، وأن في أبان قولا ، وهذا الجواب
عندنا غير حاسم لمادة الاشكال ، ولا يحضرني الآن وجه تحمل الرواية عليه ،
الا أن يكون للتقية ، ويمكن تأييده بذهاب ابن الجنيد الموافق للعامة غالبا في كثير
من فتاويه الى ذلك ، والله العالم.
المسألة
الرابعة : المشهور بين الأصحاب أن فوائد الرهن وزوائده المتجددة بعد الرهن ان كانت
منفصلة كالولد والثمرة بعد الجذاذ أو يقبل الانفصال كالشعر والصوف والثمرة قبل
الجذاذ ، فإنها تدخل في الرهن ، وبه قال الشيخ في النهاية والشيخ المفيد وابن
الجنيد وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس مدعيا عليه الإجماع ، وقبله
المرتضى على ما نقله عنه في الكفاية.
واما المتصلة
اتصالا لا يقبل الانفصال كالسمن والطول فإنه لا خلاف بينهم في دخولها ، وانما
الخلاف فيما عداه مما ذكرناه ، فإنه قد ذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط الى عدم
الدخول ، واختاره العلامة وولده فخر المحققين والمحقق الشيخ على.
احتج الأولون
بالإجماع المنقول بخبر الواحد ، وان النماء من شأنه تبعية الأصل في الحكم كما يتبع
ولد المدبرة لها فيه ، واحتج الآخرون بأصالة العدم وبأن الأصل في الملك ان يتصرف
فيه مالكه كيف شاء خرج منه الأصل بوقوع الرهن عليه.
واحتج العلامة
في المختلف بما رواه السكوني في الموثق «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على عليهمالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الظهر يركب إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب نفقته ،
والدر يشرب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يشرب نفقته». قال : فأثبت عليهالسلام منفعة الحلب والركوب ، وليس ذلك للمرتهن إجماعا
ولانتفاء ملكه ويبقى أن يكون للراهن.
وعن إسحاق بن
عمار في الصحيح عن أبي إبراهيم عليهالسلام قال : «فان رهن
__________________
دارا لها غلة لمن الغلة؟ قال : لصاحب الدار». وادعاء ابن إدريس ـ ان قوله :
مذهب أهل البيت ، وان إجماعهم عليه ، وان ما ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط مذهب
المخالفين ـ خطأ لا برهان عليه ، ولا شبهة له انتهى كلامه في المختلف.
أقول : لا يخفى
ما في حجج الأولين ، اما ما احتجوا به من الإجماع فقد عرفت ما فيه في غير مقام ،
وانه لا يحسم مادة النزاع ، واما دعوى التبعية والاستناد إلى تبعية الولد المدبر
لأمه في التدبير ، ففيه ما ذكره شيخنا في المسالك حيث قال ـ بعد نقل احتجاجهم بما
ذكرناه ـ والإجماع ممنوع ، والتبعية في الملك مسلمة لا في مطلق الحكم ، وتبعية ولد
المدبرة لتغليب جانب العتق.
وأما ما احتج
به على القول الثاني من التمسك بالأصل فهو قوى ، ويعضده ما عللوا به عدم التبعية
في مسألة بيع الحامل من أن العقد انما وقع على الأم ، واللفظ لا يتناول سواها ،
فكذلك هنا.
وأما احتج به
العلامة في المختلف ، ففيه أن محل الخلاف على ما قرره هو وغيره انما هو الزيادات
المنفصلة ، أو القابلة الانفصال كما ينادى به التمثيل بالولد والثمرة والشعر
والصوف ، لا أنه مطلق المنافع كغلة الدار ونحوها ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في
كونها للراهن ، كما استفاضت به الاخبار ، وستأتي إنشاء الله ـ تعالى في الفصل
الثالث.
وحينئذ فلا وجه
لاستدلاله بموثقة إسحاق بن عمار التي وصفها بكونها صحيحة ، لاعتضاده بها تنويها
بشأنها ، مع أنه وغيره انما يعدونها في الموثق.
وأما رواية
السكوني ـ وان وصفها بكونها موثقة ، لاتفاقهم على عدها في الضعيف ـ فغاية ما تدل
عليه كون النفقة في مقابلة النفقة في كل من الركوب وشرب اللبن وسيأتي الكلام في
ذلك ،
وبالجملة
فالمسألة لخلوها عن النص الواضح لا تخلو من الاشكال ، وان كان القول الثاني لا
يخلو من قوة لما عرفت ، ويظهر من المسالك اختياره أيضا ، وربما اعترض على القول
بعدم التبعية بأنه يلزم جواز انتفاع الراهن بالرهن ، لأن المنفعة
إذا لم تكن رهنا لا وجه لمنعه من التصرف فيها ، مع أن الإجماع على منعه.
والجواب عن ذلك
أولا : بمنع هذه الدعوى ومنع الإجماع ، كما سيأتي إنشاء الله تعالى تحقيقه في بعض
مواضع الفصل الثالث.
وثانيا : أنه
مع تسليم ذلك يمكن أن يقال : ان منعه من التصرف لا من حيث المنفعة ، بل من حيث
استلزامه التصرف في المرهون ، ولهذا لو انفصلت المنفعة كالثمرة والولد لم يمنع من
التصرف فيها ـ وينبغي أن يعلم أنه لو شرط المرتهن دخولها أو الراهن خروجها زال
الاشكال ، لوجوب الوفاء بالشرط ، هذا كله بالنسبة إلى النماء المتجدد بعد الرهن.
وأما الموجود
حال الرهن فالمشهور بينهم عدم الدخول ، ونقل في المختلف عن ابن الجنيد الخلاف في
ذلك ، قال في المختلف : النماء الموجود حالة الارتهان إذا كان منفصلا كالولد
واللبن أو متصلا اتصالا لا يقبل الانفصال كالصوف والشعر خارج عن الرهن ، ذهب إليه
أكثر علمائنا. وقال ابن الجنيد : ان جميع ذلك يدخل في الرهن ، لنا أن العقد تناول
الأصل ، وليس النماء جزء من المسمى ، فلا يدخل في الرهن ، احتج بأن النماء تابع في
الملك ، فكذا في الرهن ، والجواب المنع من الملازمة انتهى.
أقول : لا يبعد
التفصيل بالفرق بين مثل الولد والثمرة ، وبين مثل الشعر والصوف على ظهر الحيوان ،
بخروج الأول ، ودخول الثاني ، فإن من الظاهر عدم دخول الولد والثمرة في مسمى الام
والنخل ، ودخول الشعر والصوف في الحيوان اللذين هما على ظهره ، فإنه كالمتبادر
عرفا ، فإنه متى باعه حيوانا كذلك أو وهبه أو نقله له بأحد النواقل الشرعية ، فإن
ظاهر العرف الحكم بدخول ذلك فيه.
ولهذا انه في
التذكرة استقرب دخول الصوف والشعر على ظهر الحيوان ، محتجا بأنه كالجزء ، واستحسنه
المحدث الكاشاني في المفاتيح ، وتردد في التذكرة في دخول اللبن في الضرع ، وفي
القواعد تردد في الأمرين ، وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال والله
العالم.
المسألة
الخامسة : لا خلاف في أن الرهن لازم من جهة الراهن حتى يخرج من الحق الموجب للرهن
، اما بأدائه ولو من متبرع عنه ، أو ضمان الغير له مع قبول المرتهن ، أو الحوالة
أو إبراء المرتهن له ، قالوا : وفي حكمه الإقالة المسقطة للثمن المرهون به ، أو
الثمن المسلم فيه المرهون به.
وبالجملة
فالظابط براءة ذمة الراهن من جميع الدين ، وإذا خرج من بعضه دون بعض فهل يخرج
الرهن بأجمعه عن الرهانة ، أو يبقى كذلك أو بالنسبة ، أوجه :
صرح في الدروس
بالثاني ، وهو ظاهره في الروضة أيضا ، ولو شرط كونه رهنا على المجموع خاصة تعين
الأول ، كما انه لو جعله رهنا على كل جزء جزء تعين الثاني.
السادسة : قال
الشيخ في المبسوط : إذا وجد المرتهن بالرهن عيبا سابقا كان له الرد بالعيب ،
فيتخير معه في فسخ البيع ، وأجازته بلا رهن إذا كان الرهن باقيا بالصفة التي قبضه
، فأما إذا مات أو حدث في يده عيب فليس له رده في فسخ البيع ، لان رد الميت لا يصح
، ورد المعيب مع عيب حدث في يده لا يجوز ، لانه لا دلالة عليه كما نقوله في البيع
، ولا يرجع في ذلك بأرش العيب ، بخلاف البيع.
قال في المختلف
ـ بعد نقل ذلك ـ عنه : والأقوى عندي أنه له الفسخ ، لفقدان الشرط ، سواء مات العبد
أو رده ، لان العبد في يده أمانة فليس للراهن الامتناع من قبضه بالعيب السابق ،
فكذا الموت انتهى. ومرجع مناقشته للشيخ الى عدم الفرق بين الموت ، وظهور العيب
السابق في جواز الفسخ ، وهو لا يخلو من قوة.
وأما العيب
الحادث في يد المرتهن فالحكم فيه كما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) لما ورد من
الاخبار الدالة على بقاء الرهانة وعدم انفساخها بذلك ، والرد انما يتجه مع الفسخ.
ومن الاخبار
المشار إليها ما تقدم في المسألة الخامسة من الاخبار الدالة على أن العبد إذا
أصابه الجذام أو العمى أو نحو ذلك فإنه باق على الرهانة ، وان نقص ذلك على الراهن
، والاخبار ثمة إنما اختلفت في الضمان وعدمه ، والا فصحة الرهانة لا خلاف فيها ولا
اشكال والله العالم.
السابعة : قد
صرح جملة من الأصحاب بأنه إذا رهن عصيرا فصار خمرا بطل الرهن ، وبالغ أبو الصلاح
فقال : فان صار خمرا بطلت وثيقة الرهن ، ووجبت إراقته ، والشيخ في الخلاف قال :
يجوز إمساكه للتخلل والتخليل ، ولا يجب عليه الإراقة ، لأنه لا خلاف بين الطائفة
في جواز التخلل والتخليل.
وقال في
الشرائع : ولو رهن عصيرا فصار خمرا بطل الرهن ، فلو عاد خلا عاد الى ملك الراهن.
وظاهر هذه العبارات بطلان الرهن رأسا بعد صيرورته خمرا.
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني ـ في المسالك ـ حمل البطلان في كلامهم على كونه بطلانا مراعى ببقائه
على الخمرية ، لأنه متى صار خمرا خرج عن ملك صاحبه فيبطل الرهانة لذلك ، لأنها
مشروطة بالملكية ، ومتى صار خلا وصلح أن يكون ملكا عادت الملكية والرهانة.
ولهذا استدرك
على المصنف في عبارته المذكورة ، من حيث حكمه بالبطلان ، وأنه بصيرورته خلا يعود
الى الملك ، ولم يصرح بكونه يعود إلى الرهانة ، قال : والحاصل انهم لا يعنون
ببطلان الرهن هنا اضمحلال أثره بالكلية ، بل ارتفاع حكمه ما دامت الخمرية باقية ،
وتبقى علاقة الرهن لبقاء أولوية المالك على الخمر المتجدد للتخليل ، فكأن الملك
والرهن موجودات فيه بالقوة القريبة ، لأن تخلله متوقع ، والزائل ـ المعبر عنه
بالبطلان ـ الملك والرهن ، لوجود الخمرية المنافية ، ونظير ذلك أن زوجة الكافر إذا
أسلمت خرجت بذلك من حكم العقد ، وحرم وطؤها عليه فإذا أسلم قبل انقضاء العدة عاد
حكم العقد ، وكذلك إذا ارتد أحد الزوجين انتهى.
أقول : لقائل
أن يقول : ان ما ذكره (قدسسره) من التوجيه لعود الرهن بعد بطلانه ـ وأن حكم الأصحاب
بالبطلان مراعى ببقاء الخمرية ـ انما يصلح وجها للنص ، وبيان الحكمة فيه لو كان
هنا نص ، لا أنه يصلح لتأسيس الحكم المذكور ، وبنائه عليه ، فان قضية الحكم
بالبطلان بصيرورته خمرا وعدم صحة
تملك الخمر ، هو بقاء البطلان واستمراره وان انقلب خلا ، والعود الى كونه
رهنا يتوقف على الدليل.
وهذا هو الظاهر
من إطلاقهم ، سيما عبارة الشيخ ابى الصلاح وحكمه بوجوب الإراقة ، فإنه لا ينطبق
الا على ما ذكرناه ، ومجرد عوده في الملك بعد انقلابه خلا لا يستلزم عوده رهنا
للفرق بين الأمرين ، فإن الرهن متوقف على الصيغة والعقد الشرعي وقد بطل ، فعوده
يحتاج الى عقد آخر بخلاف الملك ، ولانه قد قام الدليل على ذلك في الملك ، فيجب
القول به ، ولم يقم دليل عليه في الرهن الا مجرد هذا التخريج المذكور الذي لا يصلح
لتأسيس حكم شرعي عليه.
وما ذكرناه هو
الظاهر من إطلاقهم ، سيما عبارة الشرائع ، وحكمه فيها بالملك بعد العود دون
الرهانة ، واستدراكه عليها ليس في محله ، لعدم الدليل كما عرفت ، والتنظر بما ذكره
لا يفيد فائدة ، فإن الأحكام الشرعية لا تبنى على النظائر والمشابهات كما يقوله
أهل القياس ، وانما يعمل فيها على النصوص الواضحة.
وبالجملة فإن
كلامه (قدسسره) غير خال عندي من النظر ، وان اقتفاه فيه المحقق
الأردبيلي أيضا حيث قال : وسبب عودها بعد صيرورته خلا عود الملكية فيما كان رهنا ،
وزوال المانع عن الرهانة ، فيعود ما كان ثابتا تابعا للملكية ، وما كان سبب النزول
إلا زوال الملكية. فتأمل فيه انتهى.
وفيه ان زوال
المانع غير كاف في الصحة ، بل لا بد من وجود المقتضى أولا ، والمقتضى قد حكم
ببطلانه ، والكلام في محل البحث في عوده ، ومجرد عود الملكية لا يستلزمه كما عرفت.
ونحن ولو خلينا
وظاهر الحكم بالبطلان ثم لا يحكم بعود الملكية ولا الرهن ، لكن لما قام الدليل من
خارج ودلت الاخبار على عود الخمر بصيرورته خلا الى ملك صاحبه حكمنا بذلك ، وأما
عوده رهنا فيحتاج ايضا الى الدليل كما احتاج اليه عوده في الملك ، ولعل في قوله
فتأمل فيه إشارة الى ما ذكرناه والله العالم.
الفصل الثاني في شرائط الرهن
وفيه مسائل الأولى
ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يشترط كون الرهن عينا مملوكة ،
فلا يصح رهن ما في الذمة من الديون ، ولا المنافع ، مثل سكنى الدار وخدمة العبد ،
والوجه في الثاني ظاهر ، وهو أنه ليس هنا شيء موجود يمكن استيفاء الدين منه الذي
هو الغرض من الرهن ، لان هذه المنافع تستوي شيئا فشيئا ، وكل ما حصل منها شيء عدم
ما قبله ، والمطلوب من الرهن أنه متى تعذر استيفاء الدين استوفى من الرهن.
وبالجملة فإن
المنافع لا يصح إقباضها إلا بإتلافها ، ومع ذلك فالمنع من رهنها موضع وفاق ، كما
صرحوا به ، وأما الوجه في الأول فهو مبنى على أمرين أحدهما ـ عدم صحة بيع ما في
الذمة ، وثانيهما ـ اشتراط القبض في الرهن ، والدين لا يمكن قبضه ، لأنه أمر كلي
لا وجود له في الخارج.
وفي كل من
الأمرين نظر ، أما عدم صحة بيع ما في الذمة فهو على إطلاقه ممنوع ، وانما ذلك في
صورة خاصة كما تقدم تحقيقه ، وأما اشتراط القبض فقد تقدم ما فيه من البحث ، وأنه
لم يقم دليل واضح عليه ، ومع تسليمه فإنه يجتزي بقبض ما يعينه المديون ، ويحصل
الشرط المذكور ، والأصل والعمومات يقتضي الجواز.
والى ما ذكرنا
يميل كلام جملة من محققي متأخري المتأخرين كالمحقق الأردبيلي والفاضل الخراساني ،
وقد صرح العلامة في التذكرة ببناء المنع على اشتراط القبض ، فقال : لا يصح رهن
الدين ان شرطنا في الرهن القبض ، لانه لا يمكن قبضه لعدم تعينه حالة الرهن.
لكنه في
القواعد جمع بين الحكم بعدم اشتراط القبص ، وعدم جواز رهن الدين ، فتعجب منه
الشهيد في الدروس.
واعتذر له
المحقق الشيخ على في شرحه بأن عدم اشتراط القبض لا ينافي
اشتراط كون الرهن مما يقبض مثله ، نظرا الى أن مقصوده لا يحصل الا بكونه
مما يقبض ، كما أرشدت اليه الآية الكريمة ، فأحدهما غير الآخر.
واعترضه في
المسالك بأن فيه مع ما أشرنا إليه من تصريح العلامة ببناء الحكم على القبض ، مع
اعتبار كون الرهن مما يقبض مثله معجلا ، إذ لا دليل عليه ، والآية قد تقدم عدم
دلالتها على اعتبار القبض بل الإرشاد اليه.
والمعتذر (رحمهالله) قد بالغ في تحقيق دلالتها على ذلك ، ومنع دلالتها على
اعتبار القبض ، ولو سلم اعتبار صلاحية الرهن للقبض فالدين صالح لذلك بتعيين
المديون له في فرد من أفراد ماله ، فالمنع من رهنه على القول بعدم اشتراط القبض
غير متوجه. انتهى.
أقول : وقد
تلخص من ذلك أنه لا مانع من رهن الدين حتى ولو قلنا باشتراط القبض كهبة ما في
الذمم ويجتزى بقبض ما يعينه هنا.
والمراد
باشتراط كون الرهن مملوكا ما هو أعم من ملك الأصل أو المنفعة ، كما لو أذن له
المالك في رهن ماله ، فلا يصح رهن ما لا يملكه ولا يؤذن فيه ، وعلى هذا فالمملوكية
بمعنييها من شروط الصحة ، كما في الشروط الآتية ، الا أنه قد صرح بعضهم بجواز رهن
غير المملوك ولا المأذون وصحته ، ويكون موقوفا على اجازة المالك ، كالبيع الفضولي
وعلى هذا يكون هذا الشرط من شروط اللزوم ، ومقتضى ما قدمناه من البحث عن عدم صحة
بيع الفضولي عدم جواز رهن ما كان كذلك ، لانه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، وهو
قبيح عقلا ونقلا.
الثانية اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في رهن المدبر ، فالأكثر على أنه يوجب ابطال تدبيره ،
بمعنى أنه يصح الرهن ولكن يبطل التدبير ، وقيل بصحتها فان رهنه لا يوجب إبطال
تدبيره ، ونقل ذلك عن الشيخ.
وعلل الأول بأن
التدبير من الصيغ الجائزة التي يصح الرجوع فيها كالوصية ، فإذا تعقبه الرهن أبطله
، كما لو تعقبه غيره من العقود كالبيع والهبة ، لكون ذلك رجوعا عنه ، لان الغرض من
العقود المملكة ملك من انتقل اليه ، ولا يتم الا بالرجوع ،
والغرض من الرهن استيفاء الدين من قيمته ، فهو مناف لتدبيره.
وعلل الثاني
بأن الرهن لا يستلزم نقل المرهون عن ملك الراهن ، ويجوز فكه ، فلا يثبت التنافي
بين الرهن والتدبير بمجرد الرهن ، بل التصرف فيه.
ونقل عن الشيخ (رحمة
الله عليه) الاحتجاج عليه بعدم الدليل على بطلان كل واحد منهما ، وعلى هذا فيكون
التدبير مراعى بفكه ، فان فكه استقر وثبت ، والا أخذ في الدين ، فيبطل التدبير
ونقل عن الشهيد
في الدروس أنه استحسن هذا القول ، والمسألة لا يخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص
الواضح في هذا المجال ، وان كان القول الثاني لا يخلو من قرب ، لما ذكر في بيان
وجهه.
قال في الكفاية
: وفي جواز رهن المدبر خلاف ، فقيل يصح وأن رهن رقبته إبطال لتدبيره ، وقيل : لا
يصح ، وقيل : ان التدبير يراعى بفكه ، فيستقر أو يأخذه في الدين فيبطل.
أقول : ما نقله
هنا من القول بعدم صحة الرهن لم أقف على من نقله سواه ، والمنقول في المسألة هو ما
قدمنا ذكره من القولين ، وهو الذي صرح به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة
، وتعبيره عن القول الثاني الذي قدمناه بما ذكره ـ من أن التدبير يراعى الى آخره ـ
غير جيد ، فان القول المنقول عن الشيخ انما هو صحة الرهن والتدبير كما قدمنا ذكره
، الا أن اللازم منه أن صحة التدبير هنا ليست صحة مستقرة ، بل هي مراعاة بفكه ،
وتعبيره عن القول بلازمه ليس بجيد
__________________
في التعبير.
ثم انهم
اختلفوا في صحة رهن خدمة المدبر ، مع أن ظاهرهم الاتفاق ـ كما تقدم في المسألة
المتقدمة ـ على عدم صحة رهن المنافع ، فقيل : بالصحة هنا ، للرواية الواردة بجواز
بيع خدمته ، وقد تقرر عندهم أن ما جاز بيعه جاز رهنه ، والرواية المذكورة لم أقف
عليها بعد التتبع ، والموجود في كلام جملة منهم انما هو بهذا العنوان من غير نقل
مضمونها.
ومنه يظهر قوة
القول بالعدم ، لما عرفت فيما تقدم في تعليل عدم صحة بيع المنفعة ، مع عدم وجود ما
يعارضه ، ويوجب الخروج عنه ، والرواية المذكورة غير معلومة ، ولعلها من روايات
العامة.
الثالثة ـ قالوا
: لا يجوز رهن المسلم الخمر ولو كان عند ذمي ، وكذا لو رهنها الذمي عند مسلم لم
يصح وان وضعها على يد ذمي.
وللشيخ في
الخلاف هنا قول بأنه يجوز للذمي أن يرهن عند المسلم خمرا إذا وضعها عند ذمي ، لأن
الحق في وفاء الدين للذمي ، فيصح الرهن ، كما لو باعها ووفاه ثمنها ، لان الرهن لا
يملك للمرتهن ، وانما يصير محبوسا عن تصرف الراهن.
ورده الأكثر
بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم ، وله تسلط على الرهن بالبيع والاستيفاء ، وهو هنا
ممتنع.
ومنعوا أيضا من
رهن الأرض الخراجية الا أن تكون بعنوان التبع لآثار التصرف من بناء وشجر ونحوهما ،
وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة بالنسبة إلى البيع.
ومنعوا أيضا من
رهن ما لا يصح إقباضه ، كالطير في الهواء ، والسمك في الماء الا أن يكون الطير مما
يعتاد عوده ، والسمك في ماء محصور ، فيصح.
واختلفوا فيما
لو رهن عند الكافر عبدا مسلما أو مصحفا ، فقيل بعدم الجواز ، لان ارتهانه لهما
يقتضي الاستيلاء عليهما من بعض الوجوه ببيع ونحوه ، وان كان في
يد غيره ، وهو سبيل عليهما منفي بالآية ، ويؤيده القول بعدم جواز بيعهما
على الكافر.
وقيل بالجواز
إذا وضعا على يد مسلم ، لمنع تحقق السبيل بذلك ، لأنه إذا لم يكن تحت يده لم يستحق
الاستيفاء من قيمته الا ببيع المالك ، أو من يأمره بذلك ، ومع التعذر رفع أمره الى
الحاكم ليبيع ويوفيه ، ومثل هذا لا يعد سبيلا.
أقول : قد
قدمنا في المسألة السادسة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع وأركانه من
كتاب البيع ما في الاستناد الى هذه الآية في مثل هذا الموضع ونحوه ، من النظر الذي
شرحناه ثمة ، وأن المراد بالسبيل المنفي في الآية انما هو من جهة الحجة والدليل ،
كما ورد به الخبر في تفسير الآية المذكورة ، وحينئذ فتبقى المسألة خالية من الدليل
نفيا وإثباتا كسائر فروعهم التي من هذا القبيل.
وأما ما ذكره
القائل بالجواز إذا وضع على يد مسلم وأنه بذلك يتحقق منع السبيل ، ففيه ما تقدم من
إيرادهم على الشيخ في جواز رهن الخمر عند المسلم إذا وضع على يد ذمي ، حيث أوردوا
عليه بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم ، وله تسلط على الرهن بالبيع ، فإنه بعينه
جار فيما ذكروه هنا ، لان يد المسلم هنا يقام مقام الكافر ، ونيابته عنه كيد
الكافر ، وما أطالوا به من التعليل لا يشفي العليل ، ولا يبرد الغليل.
وبالجملة فإن
الحكم في أمثال هذه الفروع مع خلوها عن النصوص اعتمادا على هذه التعليلات لا يخلو
من جازفة ، ولهم في هذا المقام جملة من الفروع التي من هذا القبيل ، طوينا عن
نقلها لما ذكرنا والله العالم.
الفصل الثالث في الحق والراهن والمرتهن
فههنا مقامان المقام
الأول ـ في الحق الذي يؤخذ عليه الرهن ، والمشهور أنه الدين الثابت في الذمة ،
وظاهر اشتراط كونه دينا عدم جواز الرهن على العين ، سواء كانت أمانة في يده
كالوديعة ، والعارية الغير المضمونة والمستأجرة ، أو مضمونة عليه كالمغصوبة ،
والعارية المضمونة ، والمقبوض بالسوم ، وعدم جواز
الرهن في الأول موضع وفاق ، كما ذكره غير واحد منهم ، وان احتمل طرو الضمان
بالتعدي في الوديعة ونحوها مما ذكر.
وأما في الثاني
فهو أحد القولين ، حيث أطلقوا المنع عن أخذ الرهن في الأعيان ، نظرا الى أن مقتضى
الرهن استيفاء المرهون به من الرهن ، وفي الأعيان يمتنع ذلك ، لامتناع استيفاء
العين الموجودة من شيء آخر.
وقيل : بجواز
الرهن عليها ، وبه صرح العلامة في التذكرة ، فقال : فالأقوى جواز الرهن عليها ، أى
على الأعيان المضمونة وأجابوا عما علل به وجه المنع ، بأن الأمر لا ينحصر في
الاستيفاء عند وجود العين ، بل يمكن التوثق بالرهن ، لأجل أخذ عوضها عند تلفها ،
قالوا : ولا يرد مثله في الأعيان التي ليست مضمونة ، حيث يحتمل تجدد سبب الضمان ،
لعدم كونها وقت الرهن مضمونة ، فان الرهن انما يصح عند وجود سبب الضمان اما بدين
أو ما في حكمه ، كالعين المضمونة ، بخلاف ما يمكن تجدد سبب ضمانه ، كما سيتجدد من
الدين ، وإطلاق الأدلة الدالة على جواز الرهن على الحقوق يتناول محل النزاع ،
والمراد بالثابت على الذمة في العبارة المتقدمة ما كان مستحقا فيها ، أعم من أن
يكون ثبوته مستقرا كسائر الديون أو غير مستقر كالثمن في زمن الخيار ، وظاهر الأكثر
أنه لا بد من ثبوته واستقراره في الذمة قبل الرهن.
قال في التذكرة
: يصح عقد الرهن بعد ثبوت الحق وتقرره في الذمة ، وفي جوازه مع المقارنة وجه ، مال
إليه في التذكرة حيث قال ـ بعد الكلام المتقدم نقله عنه ـ : أما لو قارنه وامتزج
الرهن بسبب ثبوت الدين مثل أن يقول : بعتك هذا العبد بألف ، وارتهنت هذا الثوب به
، فقال المشترى : اشتريت ورهنت ، أو قال : أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها دارك
فالأقرب الجواز انتهى.
__________________
وأيده المحقق
الأردبيلي (قدسسره) بعموم الأدلة وعدم ظهور مانع الا اشتراطهم ذلك ، وهو
غير ثابت بالدليل في محل النزاع ، قال : ولذا نجد تجويزهم في الدرك على الثمن في
المبيع وغير ذلك فتأمل انتهى.
أقول :
والمسألة لخلوها من النص الصريح لا يخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكره المحقق
المشار اليه لا يخلو من قرب.
ثم انهم قد
صرحوا بأنه لا يجوز الرهن على الحق الذي لا يمكن استيفاؤه من من الرهن كالحق
المتعلق بعين مخصوصة ، كما لو آجره نفسه شهرا أو دابته المعينة ، أو داره ونحو ذلك
، فان تلك المنفعة لا يمكن استيفاؤها الا من تلك العين المخصوصة ، حتى لو تعذر
الاستيفاء منها لموت أو خراب أو نحوهما بطلت الإجارة ، بخلاف الإجارة المطلقة
المتعلقة بالذمة ، كما لو استأجره على تحصيل عمل كخياطة ثوب أو كتابة كتاب أو نحو
ذلك بنفسه أو غيره ، فان الواجب عليه تحصيل تلك المنفعة بأي وجه اتفق ، ومن أى عين
كانت ، فيصح الرهن عليها ، لكونها حقا ثابتا في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن.
فروع : الأول ـ
هل يلحق بالأعيان المضمونة على تقدير القول بجواز أخذ الرهن عليها أخذ الرهن على
المبيع وثمنه؟ لاحتمال فساد البيع باستحقاقهما أو نقصان قدرهما كيلا أو وزنا ،
ونحو ذلك مما يوجب الضرر على أحد المتبايعين ، قولان :
اختار أولهما
الشهيد (رحمة الله عليه) وجماعة ، لتحقق الفائدة ، وهي التوثق والإرفاق ، وقيل :
بالعدم ، لعدم تحقق المقتضى الآن.
وأما ما يتجدد
فلو جاز بالنسبة إليه لجاز أيضا في الأمانات باعتبار ما يتجدد من موجبات الضمان ،
مع أن ظاهرهم الإجماع على عدم جواز الرهن عليها.
وأجيب بالفرق
بين ما نحن فيه وبين الأمانات ، بأن ما يتجدد من الأسباب للموجبة للضمان فيما نحن
فيه كاشف عن حصوله من حين العقد ، كما هو واضح في نقصان المبيع
أو الثمن ، أو ظهور استحقاقهما ، فيكون عقد الرهن مضمونا في نفس الأمر على
تقدير الحاجة إليه ، بخلاف الأمانات ، فإن سبب الضمان متجدد ظاهرا وفي نفس الأمر ،
فلا يتحقق المقتضى حين العقد ، وهو جيد ، الا ان المسألة لخلوها من النصوص محل
التوقف.
الثاني : المشهور
أنه لا يصح الرهن على مال الجعالة لعدم استحقاق المجعول له المال قبل تمام العمل
وان شرع فيه ، وقيل بجوازه بعد الشروع وان لم يتم ، لانتهاء الأمر فيه الى اللزوم
، كالثمن في مدة الخيار ونقل عن العلامة في التذكرة.
ورد بعدم
استحقاقه الآن شيئا وان عمل أكثره ، والفرق بينه وبين المبيع في زمن الخيار ظاهر ،
لان المبيع متى أبقى على حاله انقضت مدة الخيار ، وثبت له اللزوم ، والأصل فيه عدم
الفسخ ، بخلاف الجعالة ، فإن العمل فيها لو ترك على حالة لم يستحق بسببه شيء ،
والأصل عدم الإكمال.
الثالث : المشهور
جواز الرهن على مال الكتابة مطلقا ، لانه لازم للمكاتب بكلا معنييه ، ونقل عن
الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وجماعة التفصيل في ذلك ، بأنها ان كانت مطلقة فهي لازمة
إجماعا فيجوز الرهن على مالها بغير خلاف ، وان كانت مشروطة فهي جائزة من قبل العبد
، فيجوز له تعجيز نفسه فلا يصح الرهن على مالها ، لانتفاء فائدة الرهن ، وهي
التوثق ، إذ للعبد إسقاط المال متى شاء. ولانه لا يمكن استيفاء الدين من الرهن ،
لأنه ان عجز صار الرهن للسيد ، لانه من جملة مال المكاتب.
أقول : ومنشأ
الخلاف من أن مال المكاتبة المشروطة هل هو لازم مطلقا كما هو المشهور ، أو أنه
جائز من قبل العبد ، كما يدعيه الشيخ ومن تبعه.
وقد احتج
الأصحاب على لزومه مطلقا بالأدلة العامة ، مثل قوله عزوجل «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» ونحوه ومتى كان لازما تحققت الفائدة ، وصح الرهن عليه ،
قالوا : ـ ومع تسليم ما ادعاه الشيخ من جوازها ـ لا يمتنع الرهن ، كالثمن في مدة
الخيار
__________________
فإنه يجوز الرهن عليه مع كونه في معرض السقوط بانقضاء الخيار ولزوم البيع.
ونقل عن شيخنا
الشهيد الثاني في الروضة قولا ثالثا ، وهو ان المشروطة جائزة من الطرفين ،
والمطلقة لازمة من طرف السيد خاصة ، قال : ويتوجه عدم صحة الرهن ايضا كالسابق ،
ونقل هذا القول في باب المكاتبة من الكتاب المذكور عن ابن حمزة ، ثم قال : وهو
غريب.
أقول : لعل وجه
غرابته من حيث الإجماع المدعى عندهم على لزوم المطلقة ، وانما الخلاف في المشروطة.
الرابع ـ قالوا
: لو رهن على مال رهنا ثم استدان مالا آخر وجعل ذلك الرهن عليهما معا جاز ، لعدم
المانع منه مع وجود المقتضى ، فإن التوثيق بشيء لشيء آخر لا ينافي التوثق لاخر
به ، خصوصا مع زيادة قيمته على الأول ، ولا يشترط فسخ الرهن الأول ثم تجديده لهما
، بل يضم الثاني بعقد جديد ، ويجوز العكس أيضا ، بأن يرهن على المال رهنا آخر
فصاعدا ، وان كانت قيمة الأول تفي بالدين الأول ، لجواز عروض ما يمنع من استيفائه
منه ، ولزيادة الارتفاق ، وأنت خبير بأنه ان كان الدين الأخر الذي يريد جعل الرهن
الأول عليه لصاحب الدين الأول فيمكن ما ذكروه ، وان كان لغيره فان وقع باذنه ورضاه
فكذلك ، والا فإشكال.
قال في التذكرة
ـ في مقام الرد على أبى حنيفة حيث نقل عنه أنه لا يجوز الرهن عند غير المرهون وان
وفى بالدينين جميعا بعد كلام في المقام ما صورته : فإنه لا استبعاد في صحة الرهن
عند غير المرتهن ، ويكون موقوفا على اجازة المرتهن وان أجاز المرتهن الأول صح
الثاني وهو مؤذن بتوقف صحة ذلك على اذن المرتهن الأول وسيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ
تحقيق المسألة في محلها.
المقام الثاني
في الراهن والمرتهن ويشترط فيهما كمال العقد ، وجواز التصرف برفع الحجر عنهما في
التصرف المالي والاختيار ، فلو أكرها أو أحدهما لم ينعقد ، والمراد أنه لم ينعقد
انعقادا تاما
على حسب ما يقع من المختار ، لانه لو أجازه بعد ذلك مختارا صح ، فهو كعقد
الفضولي ، لا أنه يقع باطلا كعقد الغير الكامل العقل ، الا أن يبلغ الإكراه إلى
كونه رافعا للقصد ، فإنه يصير كعقد غير الكامل.
والكلام في هذا
المقام يقع في مواضع الأول ـ يجوز لولي الطفل رهن ماله إذا ألجأته الحاجة الى
الاستدانة له ، مع مراعاة المصلحة في ذلك ، ولو كانت المصلحة في بيع شيء من ماله
دون الاستدانة فهو أولى ان أمكن البيع ، وحيث يجوز الرهن يجب كونه في يد أمين يكون
وديعة عنده.
وفي المسالك ان
هذا الحكم لا خلاف فيه عندنا ، وانما خالف فيه بعض الشافعية ، فمنع من رهن ماله
مطلقا ، ولولي اليتيم أخذ الرهن له وجوبا كما هو ظاهر كلام الأصحاب فيما لو أدان
ماله أو باعه نسيئة.
قالوا : ويعتبر
كون الرهن مساويا للحق ، أو زائدا عليه ، ليمكن استيفاؤه منه ، وكونه بيد الولي أو
بيد عدل ليتم التوثق والاشهاد على الحق لمن يثبت به عند الحاجة إليه عادة ، فلو
أخل ببعض هذه الشروط ضمن مع الإمكان ، وهو جيد لما فيه من الاحتياط لمال اليتيم
المبنى جواز التصرف فيه على المصلحة والغبطة ، فضلا عن عدم دخول نقص عليه.
الثاني ـ قالوا
: لا يجوز إقراض مال اليتيم : لعدم ظهور الغبطة والمصلحة الا أن يخشى عليه من
التلف بحرق أو غرق أو نحوهما ، فإذا أقرضه فليكن من ثقة ملي ، ويأخذ رهنا عليه ،
ويشهد كما تقدم ، هذا إذا أقرضه غيره.
واما اقتراضه
لنفسه ، فيحتمل كونه كذلك ، لانه تصرف في مال اليتيم وهو منوط بالمصلحة ، ويحتمل
جواز الاقتراض وان لم يظهر وجه للغبطة والمصلحة من غير رهن متى كان ثقة مليا ،
ويدل على هذا الوجه الأخير جملة من الاخبار الدالة على جواز الاستدانة في الصورة
المذكور.
منها ما رواه في
الكافي بسندين أحدهما صحيح عن منصور بن حازم
__________________
«عن أبى عبد الله عليهالسلام في رجل ولى مال اليتيم أيستقرض منه؟ قال : على بن
الحسين عليهماالسلام كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره» ـ وزاد في
الرواية الصحيحة «ولا بأس بذلك».
وقد تقدم الكلام
في هذه المسألة في بعض المسائل المقدمة الرابعة من كتاب التجارة ، وظاهر الخبر
المذكور جواز الاستقراض من غير رهن ، ولا ظهور وجه للغبطة والمصلحة كما ادعوه.
قال في المسالك
: ويحتمل جواز اقتراضه مع عدم الضرر على الطفل ، وان لم يكن له مصلحة ، لإطلاق رواية
أبي الربيع عن الصادق عليهالسلام «انه سئل عن رجل ولى لليتيم فاستقرض منه؟ فقال : ان على بن الحسين عليهالسلام». ثم ساق الرواية كما قدمنا ، ثم قال : والرواية مع
تسليم سندها مطلقة ، يمكن تقييدها بالمصلحة ، ثم نقل عن التذكرة أنه شرط في جواز
اقتراضه الولاية والملائة ومصلحة الطفل ، واحتج عليه بالرواية المذكورة
أقول : ما ذكره
من السند المشتمل على ابى الربيع مذكور في التهذيب ، والذي في الكافي انما هو عن
منصور بن حازم بسندين ، أحدهما صحيح ، فلا مجال حينئذ للطعن بالسند ، وأما تقييدها
بالمصلحة فالظاهر بعده ، ويعضد هذه الرواية أيضا
رواية أحمد بن
محمد بن أبى نصر قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج اليه فيمد يده
فيأخذه وينوي أن يرده؟ فقال : لا ينبغي له أن يأكل إلا القصد ، ولا يسرف وان كان
من نيته أن لا يرده عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله تعالى عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً».
وهذه الرواية
أظهر في عدم المصلحة لأن ظاهرها أن المسوغ للاقتراض هو مجرد
__________________
الاحتياج وان لم يكن ثمة مصلحة ، نعم يجب تقييده بعدم الضرر كما يشير اليه
قوله وان كان من نيته أن لا يرده إلى أخره.
ومن العجب
استدلاله في التذكرة على اعتبار المصلحة بالرواية الاولى ، مع أنها مطلقة ، ثم
ظاهر جملة منهم العلامة في التذكرة أنه يشترط في إقراضه غيره الوثاقة والملاثة
والرهن جميعا مع الإمكان ، وأسقط اعتبار الرهن مع عدم إمكانه.
وظاهر بعضهم
أنه مع إمكان الرهن لا يعتبر كونه ثقة ولا مليا ، لانضباط الدين بالرهن ، والظاهر
أنه الأقرب ، وان كان الأحوط ، وظاهرهم انه مع تعذر الرهن والوثاقة لا يجوز
الإقراض ، واستشكله بعضهم حيث يؤدى تركه الى تلف المال ، كالحنطة تتلف بالسوس
ونحوها ، فإنه لا يزيد على أكل المقترض له ، قال : بل الظاهر أن المقبوض كذلك أولى
، لإمكان حصوله منه بخلاف ما لو ترك ، وعلى تقدير تحقق عدم الوفاء وتحقق التلف
بدون الإقراض ، يمكن أولوية الإقراض لثبوته في ذمته ، فيحتمل تخلصه أو وارثه منه ،
أو أخذه في الآخرة ، بخلاف التلف من الله الا أن يقال : بثبوت العوض عليه تعالى ،
فيحتمل ترجحه لأنه أكثر.
الموضع الثالث :
لا يخفى أن مجرد إطلاق الرهن لا يقتضي كون المرتهن وكيلا في بيع الرهن لو تعذر
الأداء. نعم يجوز له ان يشترط كونه وكيلا في البيع عند الحلول وتعذر الوفاء ، لانه
من الشروط السائغة ، وكذا يجوز اشتراطها لوارثه من بعده أو وصيه بعد موته ، وكذا
يجوز اشتراطها لأجنبي غيره ، وغير وارثه ووصيه ودليل لزوم الشرط المذكور ما تقدم
من أدلة وجوب الوفاء بالشروط الواقعة في العقود اللازمة ، ولما كان الرهن لازما من
جهة الراهن فقط ، كانت الوكالة لازمة من جهته ، وأما من جانب المرتهن فلا : وله
عزل نفسه وكذا الغير فإنه لمصلحته ، وهل للراهن فسخها بعد ذلك؟ قولان ، أظهرهما
العدم ، لما عرفت من أن عقد الرهن لازم من جهته ، فيلزم ما شرط فيه كذلك.
احتج القائلون
بالجواز بوجوه : أحدها ـ أن الوكالة من العقود الجائزة ومن شأنها تسلط كل منهما
على الفسخ ، وثانيها ـ أن الشروط لا يجب الوفاء بها
وان كانت في عقد لازم ، بل غايتها تسلط المشروط له على فسخ العقد المشروط
فيه ، وثالثها ـ أن لزوم الشرط انما يكون مع ذكره في عقد لازم كالبيع ونحوه ،
والرهن ليس كذلك ، فان ترجيح أحد طرفيه على الأخر ترجيح من غير مرجح.
والجواب عن
الأول أن الوكالة وان كانت في نفسها ومن حيث هي كذلك ، الا أنه لا ينافي حصول
اللزوم لها بعارض ، كجعلها شرطا في عقد لازم وهو هنا كذلك.
وعن الثاني ـ بمنع
ما ذكره ، وقد تقدم تحقيق المسألة في المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام
الخيار من كتاب البيع ، وأن الأظهر هو وجوب الوفاء بالشرط الواقع في العقد اللازم.
وعن الثالث ـ بما
قدمنا من أن عقد الرهن لما كان لازما من طرف الراهن كان ما يلتزمه الراهن لازما من
قبله ، عملا بمقتضى اللزوم ، والشرط وقع من الراهن على نفسه فيلزم ، ولما كان من
طرف المرتهن جائزا كان ما يلتزمه كذلك ، فيجوز له فسخ الوكالة ، لأنها حقه ، فيجوز
له تركه.
وتبطل الوكالة
بموت المشروط له ، لا من حيث كونها من العقود الجائزة ومن شأنها أن تبطل بالموت ،
بل من حيث أن الغرض من الوكالة الاذن في التصرف ، فيقتصر فيها على من أذن له ،
فإذا مات بطلت من هذه الجهة. كما تبطل العقود اللازمة الجارية على نحو ذلك ،
كالإجارة المشروطة فيها العمل بنفسه ، فإنها بموته تبطل وأما أصل عقد الرهن فلا
يبطل بموت أحدهما ، لأنه وثيقة على الدين ، فيبقى ببقائه فعلى هذا لو كانت الوكالة
للمرتهن فإنه بموته ينتقل الرهانة إلى وارثه ، دون الوكالة ، الا أن يكون مشترطة
للوارث.
ولو كان
المرتهن وكيلا في بيع الرهن ، فهل يجوز له ابتياعه وتولى طرفي العقد أم لا؟ قولان
: وعلل الأول ـ بأن الغرض وهو البيع بثمن المثل حاصل ، وخصوصية المشتري ملغاة ،
حيث لم يتعرض لها.
وعلل الثاني ـ بأن
ظاهر الوكالة لا يتناوله ، قال في المسالك بعد نقل ذلك : و
الأقوى الجواز في كل وكالة انتهى.
والمشهور جواز
البيع على ولده بطريق أولى. ونقل عن ابن الجنيد المنع من البيع على نفسه وولده
وشريكه ومن يجرى مجريهما للتهمة.
أقول : ومرجع
المسألة الاولى الى جواز بيع الوكيل من نفسه وعدمه ، وقد تقدم الكلام في هذه
المسألة في المقدمة الثانية في آداب التجارة من كتاب التجارة ، وكذا في بعض مواضع
المسألة الرابعة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع من الكتاب المذكور ،
وأما ما نقل عن ابن الجنيد من التعميم المذكور فلم نقف له على مستند معتمد.
الموضع الرابع :
المشهور ان الراهن إذا مات وعليه ديون يقصر ماله عنها ، فالمرتهن أحق باستيفاء
دينه من الرهن ، دون غرماء الميت ، وعلل بأن ذلك مقتضى الرهانة ، وأنه استحق
الاستيفاء من المرتهن قبل تعلق سائر الديون بالأموال والتركة ، فلا يشاركه أحد ،
وهو جيد الا أن ما وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بذلك على خلافه.
ومنها ما رواه الشيخ
عن عبد الله بن الحكم قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أفلس وعليه دين لقوم ، وعند بعضهم رهون ، وليس
عند بعضهم فمات ، ولا يحيط ماله بما عليه من الدين ، قال : يقسم جميع ما خلف من
الرهون وغيرها على أرباب الدين بالحصص». ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن حسان عن
أبى عمران الأرمني عن عبد الله بن الحكم مثله.
وما رواه الشيخ
والصدوق جميعا عن محمد بن عيسى بن عبيد عن سليمان بن حفص المروزي قال : «كتبت الى أبى الحسن عليهالسلام في رجل مات وعليه دين ، ولم يخلف شيئا إلا رهنا في يد
بعضهم فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال المرتهن ، أيأخذه بماله أو هو وسائر الديان فيه
شركاء؟ فكتب عليهالسلام جميع الديان في ذلك سواء ،
__________________
يوزعونه منهم بالحصص» الحديث. ولم أر من تعرض للجواب عن الخبرين المذكورين
من القائلين بالقول المشهور.
والمشهور وجوب
تقديم صاحب الرهن أيضا فيما لو كان الراهن حيا ، بل صرح بعض محققي متأخري
المتأخرين بأن ذلك إجماع ، قال : ومستنده كون ذلك من خصائص الرهن ، فان الدين
المتعلق بالرهن لا محالة له تعلق بالاستيفاء ، وان ذلك من فوائده التي شرع لها.
أقول : ولم أقف
هنا على نص ينافي ذلك ، فلا بأس بالقول به ، وانما الإشكال في الميت ، فان ظاهرهم
القول بالاختصاص ، بل لم أقف على مخالف صريح في الحكم المذكور ، وصريح الخبرين
المذكورين التشريك ، واطراحهما ـ والخروج عنهما بغير معارض ـ مشكل ، فالظاهر هو
القول بما دلا عليه من التشريك ، ويكون الحكم هنا مستثنى من قاعدة الرهن التي
أشاروا إليها وتمسكوا بها.
ونقل عن بعض
الفضلاء المعاصرين (قدس الله روحه) القول بذلك ، بعد أن اختاره عن ظاهر الصدوق في الفقيه ،
ولعله لذكره خبر المروزي في الكتاب المذكور ، بناء على ما ذكره في صدر كتابه ،
ونقله عن المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر ، وعن جده العلامة المحدث السيد نعمة
الله الجزائري طاب ثراهما ، ثم قال : وهو لازم على جميع أهل الاخبار ، لصراحتهما
في المطلوب ، وسلامتهما من المعارض.
ثم نقل عن
الفاضل المشهور بخليفة سلطان ـ في حواشيه على كتاب الفقيه ـ تأويل الخبرين بأن
المراد ما رهنه بعد الحكم بإفلاسه ، ثم رده بأنه مع يعده غير محتاج اليه لتوقفه
على وجود المعارض ، ثم قال : وما استندوا إليه في التسوية بين الحي والميت ـ من
سبق تعلق حق المرتهن بالرهن ـ يمكن منعه ، بما أورده ابن فهد في المهذب
__________________
من أن الحي له
ذمة يتعلق بها ديون الباقين ، ويمكن وفاءهم مع حياته ، وبعد الموت يتعلق حقوق
الديان بأعيان التركة ، فيتساوى الجميع في ذلك ، نظير ما قالوه في غريم الميت الذي
يجد عين ماله ، أنه ليس له أخذها ، لان دينه ودين غيره متعلق بذمة الميت ، وهم
مشتركون فيه ، وان كان في ذلك كلام بيناه في محله انتهى كلامه (قدسسره) وهو جيد.
الموضع الخامس
ـ المشهور أنه ليس للمرتهن التصرف في الرهن مطلقا الا بإذن الراهن ، فان تصرف
لزمته الأجرة في ماله أجرة ، كركوب الدابة وسكنى الدار ، لانه انتفاع بمال الغير
بغير اذنه ، فيضمن أجرته المثلية في المثل ، أو القيمة فيما يضمن كذلك ، كاللبن
ونحوه ، ولو أنفق على الدابة فإن كان بأمر المرتهن رجع بها عليه ، والا استأذنه ،
فإذا امتنع أو غاب رجع الى الحاكم الشرعي ، وان تعذر أنفق بنية الرجوع. وأشهد على
ذلك ، ليثبت له به الحق.
وقال الشيخ في
النهاية : وإذا كان الرهن دابة فركبها المرتهن كانت نفقتها عليه ، وكذلك ان كانت
شاة شرب لبنها كانت عليه نفقتها ، وإذا كان عند الإنسان دابة أو حيوان رهنا فان نفقتها
على الراهن دون المرتهن ، فإن أنفق المرتهن عليها كان له ركوبها والانتفاع بها ،
أو الرجوع على الراهن بما أنفق.
وقال ابن إدريس
بعد كلام في المقام : والأولى عندي أنه لا يجوز له التصرف في الرهن على حال ،
للإجماع على أن الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف في الرهن.
وقال أبو
الصلاح : يجوز للمرتهن إذا كان الرهن حيوانا ، فيكفل مؤنته أن ينتفع بظهره أو
خدمته أو صوفه أو لبنه وان لم يتراضيا ، ولا يحل شيء من ذلك من غير تكفل مؤنة ولا
مرضاة ، والاولى ان تصرف قيمة منافعه في مؤنته.
أقول : والذي
وقفت عليه في هذا المقام من الاخبار ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن أبى ولاد في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يأخذ الدابة والبعير
__________________
رهنا بماله أله أن يركبه؟ قال : فقال : ان كان يعلفه فله أن يركبه ، وان
كان الذي رهنه عنده يعلفه ، فليس له أن يركبه». ورواه الصدوق في الفقيه عن ابن
محبوب عن أبى ولاد مثله ، إلا أنه عبر بضمير التثنية في المواضع الخمسة ، ورواه
الشيخ في الصحيح ايضا مثله.
وما رواه الشيخ
عن السكوني «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على عليهمالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الظهر يركب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركبه نفقته ،
والدر يشرب إذا كان مرهونا وعلى الذي يشرب نفقته». ورواه الصدوق عن إسماعيل بن
مسلم عن جعفر بن محمد عليهالسلام.
والخبران كما
ترى دالان بظاهرهما على ما ذكره الشيخ في النهاية ، والأصحاب حملوهما على ما إذا
أذن له الراهن في الإنفاق مع تساوى الحقين.
وأنت خبير بما
فيه من البعد عن سياق الخبرين ، سيما الأول ، لأن السائل سأله عن الرجل يأخذ
الدابة أو البعير إله أن يركبه يعنى من غير اذن الراهن ، والا فمع الاذن لا معنى
للسؤال بالكلية ، فأجاب عليهالسلام بأن له ذلك ان كان يعلفه ، واعتبار مساواة الحقين مع
عدم انضباط الركوب ـ واحتماله القلة والكثرة ، وان أمكن انضباط العلف ـ بعيد جدا ،
وتخصيص القواعد ـ التي ألجأتهم الى هذا التأويل ـ بهذين الخبرين سيما الأول لصحته
وصراحته غير بعيد
ويظهر من
الفاضل الخراساني في الكفاية الميل الى ما ذهب اليه الشيخ ، حيث قال بعد نقل
الصحيحة المذكورة : وقول الشيخ قوى ، ويؤيده رواية السكوني انتهى وهو جيد.
ولو كان للرهن
غلة وفوائد وتصرف فيها المرتهن وجب عليه أن يحتسبها من دينه ، وبذلك تكاثرت
الاخبار مضافا إلى اتفاق الأصحاب.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن ابن
__________________
سنان عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليهالسلام في كل رهن له غلة أن غلته تحتسب لصاحب الرهن مما عليه».
وعن محمد بن
قيس في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام «أن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : في الأرض البور يزرعها الرجل ليس فيها ثمرة
فزرعها وأنفق عليها من ماله : أنه تحتسب له نفقته وعمله خالصا ، ثم ينظر نصيب
الأرض فيحتسب من ماله الذي ارتهن به الأرض حتى يستوفى ماله ، فليدفع الأرض إلى
صاحبها».
وما رواه في
الفقيه عن الحسن بن محبوب عن الكرخي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل رهن بماله أرضا أو دارا لهما غلة كثيرة ، فقال
: على الذي ارتهن الأرض والدار بماله أن يحسب لصاحب الأرض والدار ما أخذ من الغلة
ويطرحه عنه من الدين الذي له».
وعن محمد بن
قيس في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «ان رهن رجل أرضا فيها ثمرة فإن ثمرتها من حساب
ماله ، وله حساب ما عمل فيها وأنفق منها ، وإذ استوفى ماله فليدفع الأرض إلى
صاحبها».
وإطلاق هذه
الاخبار شامل لما لو كان التصرف باذن الراهن أو بغير اذن ، ولا فرق بينهما في
الحكم المذكور الا باعتبار الإثم وعدمه.
قال الصدوق في
كتاب المقنع : إذا كان الرهن دارا لها غلة فالغلة لصاحب الدار ، فان سكنها المرتهن
لم تكن عليه غلتها لصاحبها ، الا أن يكون استأجرها منه ، فان آجرها فعليه أن يحسب
كراها من رأس ماله.
قال في المختلف
: وهذا الإطلاق ليس بجيد ، بل ينبغي التقييد بالسكنى باذن الراهن ، والظاهر أن
مراده ذلك.
أقول من العجب
أن الصدوق لا يفتي في هذا الكتاب الا بمتون الاخبار ، مع ان
__________________
كلامه هنا مما يخالف ما نقلناه من الاخبار ، مع عدم وجود خبر به فيما وصل
إلينا من الاخبار والله العالم.
الموضع السادس
ـ قد صرحوا بأنه إذا لم يكن المرتهن وكيلا في البيع اما لعدم الوكالة ، أو
لبطلانها بموت الراهن كما تقدم فإنه يجوز له لو مات الراهن وخاف جحود الورثة للدين أن
يبيع بنفسه ، ويستوفى حقه ، ويرجع الباقي ان كان على الورثة ، وكذا يجوز له لو خاف
جحود الرهن أيضا ولم يكن وكيلا ، وينبغي أن يعلم ان ذلك مع البينة التي يمكن بها
إثبات الحق عند الحاكم الشرعي ، والا وجب أن يثبت عنده الدين والرهن ، ويستأذنه في
البيع ، كذا قالوا :
ويدل على أصل
الحكم المذكور ما رواه الصدوق والشيخ عن سليمان بن حفص المروزي «أنه كتب الى أبى الحسن عليهالسلام في رجل مات وله ورثة ، فجاء رجل وادعى عليه مالا وأن
عنده رهنا فكتب عليهالسلام ان كان له على الميت مال ، ولا بينة له فليأخذ ماله عما
في يده ، وليرد الباقي على الورثة ، ومتى أقر بما عنده أخذ به ، وطولب بالبينة على
دعواه وأوفى حقه بعد اليمين ، ومتى لم يقم البينة والورثة ينكرون ، فله عليهم يمين
علم ، يحلفون بالله ما يعلمون له على ميتهم حقا».
وظاهر الخبر أن
أخذه مما في يده مشروطة بعدم البينة ، كما ذكره الأصحاب ، وفي معناه عدم إمكان
الإثبات عند الحاكم لآمر آخر غير عدم البينة ، ويؤيده قبح التصرف في مال الغير إلا
بإذنه ، خرج صورة عدم إمكان الإثبات للضرورة والإجماع ، فبقي ما عداه ، وينبغي أن
يراعى في الخوف الموجب للتصرف ما كان مستندا إلى القرائن المفيدة للظن الغالب
بجحود الورثة أو الراهن ، فلا يكفى مجرد توهم ذلك والله العالم.
__________________
السابع : الظاهر
أنه لا خلاف في تحريم التصرف لكل من الراهن والمرتهن في الرهن إلا بإذن الآخر ،
أما المرتهن فظاهر ، لانه غير مالك ، ومجرد الرهن لا يستلزم جواز التصرف.
ويدل عليه أيضا
جملة من الاخبار ، منها ما رواه الشيخ في التهذيب عن ابن بكير في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) ، عن الرجل رهن رهنا ثم انطلق ، فلا يقدر عليه أيباع
الرهن؟ قال : لا حتى يجيء صاحبه».
وما رواه المشايخ
الثلاثة «عطر الله مراقدهم ، عن ، عبيد بن زرارة عن أبى عبد الله (عليهالسلام) «في رجل رهن رهنا الى وقت غير موقت ، ثم غاب هل له وقت
يباع فيه رهنه؟ قال : لا حتى يجيء». وفيهما دلالة لا سيما الثانية على جواز الرهن
من غير تعيين وقت ، ولا وكالة في البيع ، وعلى المنع من البيع على تقدير التعذر.
وما رواه في
الكافي والتهذيب والفقيه عن إسحاق بن عمار في الموثق برواية الثالث قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يكون عنده الرهن ، فلا يدرى لمن هو من الناس ،
فقال : لا أحب أن يبيعه حتى يجيء صاحبه ، قلت : لا يدرى لمن هو من الناس؟ فقال :
فيه فضل أو نقصان؟ فقلت : فان كان فيه فضل أو نقصان فقال : ان كان فيه نقصان فهو
أهون يبيعه فيؤجر فيما نقص من ماله ، وان كان فيه فضل فهو أشدهما عليه يبيعه ويمسك
فضله حتى يجيء صاحبه» . وفي رواية الفقيه قد ـ
__________________
سقط بعد الناس الاولى ، الى الناس الثانية ، وحمل البيع هنا على كونه وكيلا
أو بإذن الحاكم الشرعي.
قال في المختلف
: إذا حل الدين لم يجز بيعه الا أن يكون وكيلا ، أو يأذن له الحاكم ، قاله ابن
إدريس وهو جيد ، وأطلق أبو الصلاح جواز البيع مع عدم التمكن من استيدان الراهن ،
ولا يبعد عندي العمل بظاهر الخبر في الصورة المذكورة من بيع المرتهن من غير أحد
الأمرين ، بناء على ظاهر الاذن منه (عليهالسلام) هنا ، ولعل وجه الأشدية في صورة الفضل من حيث أنه
يلزمه حفظ الفضل الى أن يظهر صاحبه.
بقي الكلام في
أن هذا الخبر دل على جواز البيع مع التعذر ، وما قبله دل على المنع ، كما قدمنا
الإشارة اليه ، ويمكن الجمع بالفرق بين الموقت وغيره ، فيحمل الأول على غير الموقت
، كما هو ظاهر الخبر المذكور ، والثاني على الموقت والمؤجل ، فإنه متى حل الأجل
جاز البيع على النحو المتقدم ، ويحتمل حمل الخبر الأول على الكراهة المؤكدة ، كما
يشير اليه قوله عليهالسلام في الخبر الثاني «لا أحب أن يبيعه حتى يجيء صاحبه».
وأما الراهن
فظاهر الأصحاب كما عرفت أنه كذلك ، وهو بالنسبة الى ما يخرجه عن كونه رهنا كبيع
وعتق ونحوهما ، أو يوجب نقصانه ، كإجارة ونحوها مما لا اشكال فيه ، وأما التصرف
بما لا يوجب شيئا من ذلك ، كتزويج العبد وتقبيل الأمة وتعليمها الصنعة ونحو ذلك
فلا دليل عليه ، الا أن يدعى الإجماع في المقام ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه ، في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن
__________________
الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل رهن جارية عند قوم أيحل له أن يطأها؟ قال : ان
الذين ارتهنوها يحولون بينه وبينها ، قلت أرأيت ان قدر عليها خاليا قال : نعم لا
أرى هذا عليه حراما».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام «في رجل رهن جاريته قوما أيحل له أن يطأها قال : فقال : ان الذين ارتهنوها
يحولون بينه وبينها ، قلت : أرأيت ان قدر عليها خاليا ، قال نعم لا أرى به بأسا». ورواهما
الشيخ (رحمهالله) أيضا والصدوق روى الثاني بإسناده عن العلاء عن محمد بن
مسلم مثله ، الا أنه قال «ان قدر عليها خاليا ولم يعلم به الذين ارتهنوها».
ومن العجب ما
نقل عن بعضهم من عدم جواز الوطي وان أذن المرتهن ، والاخبار الصحيحة كما ترى تنادي
بالجواز مع عدم الاذن.
وقال في الدروس
وفي رواية الحلبي يجوز وطؤها سرا وهي متروكة ، ونقل في المبسوط الإجماع عليه ،
وأنت خبير بما فيه ، فان ترك الرواية سيما مع صحة سندها وتأيدها بالصحيحة الأخرى
مع عدم المعارض لا يخلو من مجازفة.
وبالجملة فإني
لا أعرف لهم دليلا على ما يدعونه من العموم ، الا دعوى الإجماع ، كما سمعت من نقله
عن المبسوط ، ونحوه ما تقدم في كلام ابن إدريس في الموضع الخامس ، وفيه ما عرفت في
غير موضع.
قال في المسالك
: لما كان الرهن وثيقة لدين المرتهن لم يتم الوثيقة إلا بالحجر على الراهن ، وقطع
سلطنته ، فيتحرك إلى الأداء ، فمن ثم منع الراهن من التصرف في الرهن ، سواء أزال
الملك كالبيع أم النفقة كالإجارة أم انتقض المرهون وقل الرغبة فيه ، كالتزويج ، أم
زاحم المرتهن في مقصوده كالرهن لغيره ، أم أوجب انتفاعا وان لم يضر بالرهن
كالاستخدام والسكنى ، ولا يمنع من تصرف يعود نفعه على الرهن
__________________
كمداواة المريض ، ورعى الحيوان ، وتأبير النخل ، وختن العبد ، وخفض الجارية
ان لم يؤد الى النقص انتهى.
وهو ظاهر في
تخصيص جواز تصرف الراهن بما يعود به النفع على الرهن ، وأما ما عداه فهو محرم ،
وحينئذ فمحل البحث معهم في ما عدا هذا الموضع ، وما عدا ما أشرنا إليه آنفا مما
يخرجه عن كونه رهنا أو يوجب نقصا ، فإنه لا بحث بينهم فيه.
وظاهر كلامه
هنا أن الموجب للتحريم في محل البحث هو التحرك إلى أداء الدين ، فإنه لو جاز له
التصرف فيه ، والانتفاع به في الوجوه المذكورة مما عدا ما استثنى لم يتحرك إلى
الأداء.
وفيه مع
الإغماض عما عرفت ـ في غير مقام من عدم صلاحية أمثال هذه التعليلات لتأسيس الأحكام
الشرعية ـ ان ذلك يمكن استدراكه ببيع الرهن بعد حلول الأجل ، واستيفاء الدين كما
هو قضية الرهن انتفع به أو لم ينتفع به ، ونحن انما وافقناهم في صورة التصرف بما
يزيل الملك أو يوجب النقصان لما في الأول من فوات الرهن ، وفي الثاني من دخول
الضرر على المرتهن ، وأما ما عدا ذلك فلا وجه للمنع منه مع عدم النص ، ويخرج ما
ذكرنا من الخبرين الصحيحين شاهدا.
والى ما
اخترناه يميل كلام المحقق الأردبيلي (قدسسره) في شرح الإرشاد حيث قال ـ بعد البحث في المقام وذكر
الخبرين المتقدمين ـ ما لفظه : وبالجملة المنع مطلقا غير ظاهر الوجه ، كما هو ظاهر
أكثر العبارات ، خصوصا عن الوطي ومثله ، أو أقل ضررا منه ، أو ما لا ضرر على الرهن
مثل الاستخدام ، ولبس الثوب إذا لم ينقص ولا يضر ، وسكنى الدار وركوب الدابة
واستكتاب المملوك الى آخر كلامه زيد في إكرامه وهو جيد.
ونحوه أيضا
الفاضل الخراساني في الكفاية وهو ظاهر الصدوق بناء على نقله صحيحة محمد بن مسلم
وما ذكره في صدر كتابه والله العالم.
الثامن : إذا
وطأ الراهن الأمة المرهونة بإذن المرتهن أو بدونه وأحبلها صارت أم ولد ، لأنها لم
تخرج من ملكه بالرهن ، وان منع من التصرف فيها كما هو المشهور بينهم ، وعلى تقديره
يأثم ويستحق التعزير مع عدم الاذن ، وعلى ما قدمناه في سابق هذا الموضع من دلالة
الخبرين الصحيحين على صحة الوطي مع عدم الاذن فلا اثم ، ولا تعزير.
ثم انه مع
الاحبال وصيرورتها أم ولد فهل تباع في دين المرتهن؟ كما هو قضية الرهن أقوال :
أحدها : جواز البيع مطلقا ، عملا بما دل على بيع الرهن عند حلول الأجل وعدم أداء
الراهن ، ولان حق المرتهن قد سبق الاستيلاد المانع ، وهذا القول مختار الشهيدين.
وثانيها :
المنع مطلقا عملا بما دل على المنع من بيع أمهات الأولاد وهذا منها.
وثالثها :
التفصيل بإعسار الراهن فتباع ، ويساره فلا تباع ، ويلزمه القيمة من غيرها يكون
رهنا ، وهذا القول نقل عن الشيخ في الخلاف ، والعلامة في التذكرة.
ورابعها :
التفصيل بجواز البيع مع وطئها بغير اذن المرتهن ، والعدم مع وقوعه باذنه ، ونقل عن
الشهيد (رحمهالله) في بعض حواشيه. ومرجع الأقوال المذكورة إلى تعارض
دليلي جواز بيع الرهن ، ومنع بيع أم الولد ، فمن الأصحاب من جمع بينهما بالتفصيل
المذكور في القولين الأخيرين ، ومنهم من عمل بالترجيح ، كما في القولين الأولين ،
فبعض رجح أدلة جواز بيع الرهن ، والآخر رجح أدلة منع بيع أم الولد ، والحق في
المسألة أن ما ذكر من التفصيل في كل من القولين الأخيرين لا دليل عليه الا مجرد
أمور اعتبارية ، وانما يبقى التعارض بين أدلة جواز بيع الرهن وأدلة منع بيع أم
الولد.
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني الاستناد في ترجيحه أدلة جواز بيع الرهن الى سبق سببه ، قال في
المسالك : وأقوى ترجيح جانب الرهن بسبق سببه ، فتجويز
البيع مطلقا أقوى وفيه ما لا يخفى.
وبالجملة فإنه
قد تعارض إطلاق أدلة جواز بيع الرهن وإطلاق أدلة المنع من بيع أم الولد ، وتخصيص
أحد الإطلاقين بالآخر يحتاج الى دليل ، الا أنى لم أقف بعد التتبع للاخبار على ما
يدل منها على ما ذكروه ، وان اشتهر بينهم ، بل ادعى الإجماع عليه من اختصاص الرهن
بحق المرتهن ، فيطلب من الرهن بيعه إذا لم يكن وكيلا عنه في البيع ، أو الاذن فيه
، فان فعل والا رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي كما ذكروه (رضوان الله عليهم).
بل ظاهر
الاخبار المتقدمة في الموضع الرابع من هذا المقام انما هو العدم ، فيما إذا مات الراهن ،
واستغرقت ديونه التركة ، حيث حكم عليهالسلام فيها بالتشريك بين جميع هذه الغرماء ، وان كان الأصحاب
لم يقولوا بمضمونها ، لخروجها عن قاعدتهم المذكورة ، ولم أقف في الاخبار على ما
ذكروه إلا في صورة ما لو خاف المرتهن جحود الورثة ، كما مر في الموضع السادس فإن الرواية قد صرحت في هذه الصورة بأنه يأخذ ماله مما
في يده ، واما ما عدا ذلك فلا ، وحينئذ فيقوى بناء على ما ذكرناه القول بالمنع من
البيع عملا بالأخبار الدالة على عدم جواز بيع أم الولد من غير معارض في هذا المقام
سوى صورة خوف الجحود.
لكن ربما نافى
ذلك ما ورد في جملة من أخبار الرهن من قولهم عليهمالسلام استوثق من مالك ، إذ لا معنى للاستيثاق الا باعتبار أخذ
الدين من الرهن بعد تعذر الأداء من الراهن.
ومن الاخبار
الدالة على ذلك صحيحة عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن السلم في الحيوان والطعام ويرتهن الرجل بماله رهنا؟
قال : نعم استوثق من مالك».
__________________
وفي موثقة
سماعة الواردة في أخذ الرهن على مال المسلم ايضا «قال عليهالسلام : لا بأس أن تستوثق من مالك». ونحوهما غيرهما ولعل هذه
الاخبار ونحوها هي مستند الأصحاب فيما ذكروه هنا ، وان كانت غير صريحة فيما ادعوه
من القاعدة المذكورة ، فإن مجرد الاستيثاق لا يدل على جواز البيع ، ولعله باعتبار
الحجر عن الانتفاع به.
وكيف كان
فالمسألة لا يخلو من الاشكال ، ثم انه ينبغي أن يعلم أنها بالوطء بل بالحمل لا
تخرج عن كونها رهنا ، إذ لا منافاة بينهما ، وان منعنا من بيع أم الولد لإمكان موت
الولد ، فإنه مانع ، وإذا مات عمل السبب السابق عمله.
التاسع : لو
وطأها المرتهن بغير اذن الراهن مكرها لها ، فالذي ذكره جملة من الأصحاب أن عليه
عشر قيمتها ان كانت بكرا ، ونصف العشر ان كانت ثيبا ، وقيل : مهر أمثالها مطلقا ،
لانه عوض الوطي شرعا.
ونقل عن الشهيد
(رحمهالله) في بعض حواشيه القول بتخير المالك بين الأمرين وهل يجب
على كل من التقديرين المذكورين أرش البكارة زائدا على المهر ، أو العشر؟ جعله
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمالا ، وجزم به في الروضة ، قال : لانه حق
جناية ، وعوض جزء فائت ، والمهر على التقديرين عوض الوطي.
ثم اعترض على
نفسه بأنه إذا وجب أرش البكارة صارت ثيبا فيجب عليه مهر الثيب خاصة ، وأجاب بأنه
إذا وطأها بكرا فقد استوفى منفعتها على تلك الحال ، وفوت جزء منها ، فيجب عوض كل
منهما ، فلا يتداخلان ، ولأن أحدهما عوض جزء والأخر عوض منفعة.
وربما قيل :
بدخوله في العشر ، وعدم دخوله في مهر المثل ، وأكثر عبارات الأصحاب هنا مطلقة ،
ولو طاوعته فالمشهور أنه لا شيء عليه ، استنادا الى قوله صلىاللهعليهوآله «لا مهر لبغي». وهو نكرة في سياق النفي فيعم ، ورد بمنع دلالته على موضع
النزاع ،
__________________
لأن الأمة لا تستحق المهر ولا تملكه ، وانما هو لمولاها فلا ينافي استحقاق
مولاها ، مع كون التصرف وقع في ملكه بغير اذنه ، مع أن المهر شرعا انما يطلق على
عوض بضع الحرة ، حتى سميت بسببه مهيرة ، بخلاف الأمة فالنفي في النص محمول عليها ،
قالوا : وبذلك يظهر أن ثبوت المهر أقوى ، والمراد به أحد الأمرين السابقين فيما
تقدم من القولين ، قيل : وعلى تقدير نفيه كما هو المشهور لا شبهة في ثبوت أرش
البكارة ، لأنها جناية على مال الغير ، فثبت أرشها.
أقول : لم أقف
في هذا المقام على نص يتعلق بما ذكروه من هذه الأحكام بالنسبة إلى الزاني بأمة
غيره ، رهنا كانت أم لا ، وان كان ظاهر كلامهم الاتفاق على جل هذه الأحكام في
الجملة.
والذي وقفت
عليه مما ربما يناسبه ، ويمكن أن يكون هو المستند لهم بالنسبة إلى العشر ، ونصف
العشر ، ما رواه الكليني في الصحيح عن الفضيل بن يسار قال : «قلت : لأبي عبد الله عليهالسلام في حديث قال : قلت له : فما تقول في رجل عنده جارية
نفيسة ، وهي بكر أحل لأخيه ما دون فرجها إله أن يفتضها؟ قال : لا ليس له الا ما
أحل منها ، ولو أحل له قبلة منها لم يحل له ما سوى ذلك ، قلت : أرأيت ان أحل له ما
دون الفرج ، فغلبته الشهوة فافتضها ، قال : لا ينبغي له ذلك ، قلت : فان فعل أيكون
زانيا قال : لا ، ولكن يكون خائنا ، ويغرم لصاحبها عشر قيمتها ان كانت بكرا ، وان
لم تكن بكرا فنصف عشر قيمتها». وصريحها أن الواطئ في هذه الصورة ليس بزان ، وكذا
صحيحة الوليد بن صبيح المتقدمة في المسألة التاسعة من المقصد الثاني من الفصل
التاسع في بيع الحيوان من كتاب البيع وموردها تدليس المزوج للجارية ، وهي أخص من المدعى أيضا
، فإن ظاهر كلامهم أن هذا حكم الزاني بأمة غيره ، وان كان لشبهة شراء أو تدليس أو
نحو ذلك ، ولعل مستندهم
__________________
أنه إذا ثبت ذلك في التزويج بتدليس الولي ، وكذا في صورتي التحليل لغير
الفرج وان لم يكن زانيا ففي صورة الزنا بطريق أولى ، سيما مع قوله في صحيحة الوليد
المشار إليها بعد ذكر العشر ونصف العشر ، بما استحل من فرجها» فإنه ظاهر في أن
وجوب ذلك مترتب على استحلاله ما ليس له شرعا «ولا ريب أنه في صورة الزنا أشد وأفضع
، ولا أعرف هنا دليلا غير هاتين الروايتين ، فانى بعد الفحص والتتبع لم أقف على
غيرهما ، ومع تسليم اجراءهما في مطلق الزاني وأنه يجب أن يكون الحكم فيه كذلك ،
يبقى القول الثاني والثالث عاريين عن الدليل ، ونحو ذلك القول في أرش البكارة ،
سيما مع القول بزيادته على أحد الأمرين المذكورين ، كما ذكره ذلك القائل.
وقد تقدم في
المسألة الرابعة عشر في الجارية المشتركة يطأها أحد الشركاء من المقصد الثاني من
الفصل التاسع في بيع الحيوان تحقيق البحث في هذه المسألة ، وان جملة من الأصحاب قد
منعوا وجوب الأرش في الصورة المذكورة ، لعدم الدليل عليه ، والاكتفاء بوجوب المهر
على القول به ، أو العشر أو نصفه على القول الآخر والله العالم.
العاشر : الظاهر
من كلام جملة من الأصحاب «رضوان الله عليهم» أنه لو مات المرتهن ولم يعلم الرهن
كان كسبيل ماله ، بمعنى أنه لم يعلم وجود الرهن في التركة ولا عدمه ، فإنه يكون
كسبيل مال المرتهن في الحكم بكونه ميراثا ، ولا يحكم للراهن هنا بشيء ، لأن الأصل
براءة الذمة من حقه ، إذ الرهن لم يتعلق بالذمة حيث أنه أمانة ، ولا يتعلق أيضا
بماله ، لأصالة بقاء ماله على ما كان عليه ، من عدم استحقاق أحد فيه شيئا.
هذا بالنظر الى
ظاهر الأمر وان احتمل بحسب الواقع كون الرهن في التركة ومن جملتها ، فإن الأحكام
الشرعية انما تبنى على الظاهر ، لا على الواقع ، سيما ان احتمال التلف بغير تفريط
قائم.
__________________
والعجب أنهم «رضوان
الله عليهم» ذكروا المسألة هنا كما نقلها عنهم جازمين بالحكم المذكور ، مع أنه في
باب القراض والوديعة قد استشكل جملة منهم في الحكم بذلك ، نظرا الى ما ذكرناه هنا
، والى أن الأصل أيضا بقاء المال ، لان المفروض أنه في يد المرتهن ، وللخبر عنه صلىاللهعليهوآله «على اليد ما أخذت حتى تؤدي». بل صرح جملة منهم في الوديعة ، وربما كان هو
المشهور بأن الوديعة في الصورة المذكورة تخرج من أصل التركة ، مع تصريحهم هنا بكون
الرهن كسبيل مال المرتهن ، والمسألة في المواضع الثلاثة من باب واحد ، بل الحكم في
كل أمانة ، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك إنشاء الله تعالى في كتاب الوديعة.
الحادي عشر :
إذا حل الأجل وتعذر الأداء فإن كان المرتهن وكيلا فلا إشكال في جواز بيعه ،
واستيفاء حقه ، والا لم يكن له البيع بنفسه ، لانه تصرف في مال الغير بغير اذنه.
ويؤيده ما تقدم
في الموضع السابع من روايتي ابن بكير وعبيد بن زرارة وحينئذ فعليه أن
يرجع الى الراهن ، ويلزمه بالبيع أو الاذن فيه ، فان امتنع رفع الأمر إلى الحاكم
الشرعي ، فيلزمه الحاكم بالبيع أو يبع عليه كما يفعل ذلك في سائر الحقوق ، على ما
رواه سماعة عن أبى عبد الله عليهالسلام «قال كان أمير المؤمنين يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم
ماله بالحصص ، فان أبى باعه فقسمه فيهم يعنى ماله. بقي الكلام هنا في موضعين
أحدهما لو غاب
الراهن ولم يقدر عليه ، والظاهر رفع الأمر إلى الحاكم ليبيع عليه ، فان تعذر
فليبعه المرتهن ، وقد تقدم في موثقة إسحاق بن عمار في الموضع السابع ما يدل على
جواز بيع المرتهن ، وظاهرها
__________________
عدم التوقف على الرجوع الى الحاكم ، الا أنه الاولى ، والأحوط ذلك.
وثانيهما : لو
استلزم رفع الأمر إلى الحاكم إثبات الدين مع عجزه عن الإثبات ـ لعدم البينة أو
تقدم حضورها أو عدم كونها مقبولة ـ فالظاهر أيضا جواز مباشرة المرتهن لذلك ،
واستيفاء حقه لخبر «لا ضرر ولا ضرار».
ويؤيده جواز
المقاصة في صورة جحود الدين وعدم البينة كما ورد في الاخبار وخبر المروزي المتقدم
في الموضع السادس الدال على جواز أخذ ماله مما في يده مع خوف جحود الورثة.
ونقل في
المسالك القول بجواز مباشرة المرتهن وتوليه البيع بنفسه في صورة عدم إمكان الإثبات
وعدم إمكان الوصول للحاكم ، أما لعدمه أو لكونه في بلد بعيد يشق التوصل اليه عن
العلامة في التذكرة ، وهو ظاهر اختياره أيضا في الكتاب المذكور.
وقد عرفت ما
يؤيده ويدل عليه ، ولو أمكن الإثبات عند الحاكم بالبينة لكن افتقر لي اليمين معها
، لكون المدعى عليه ميتا أو غائبا ، بناء على المشهور ، فيمكن أن يقال : انه غير
مانع من الرجوع الى الحاكم ، فلا يجوز له الاستقلال بالأخذ بل يحلف ، وهو ظاهر
اختياره في المسالك مع احتماله فيه الجواز أيضا ، دفعا لمشقة الحلف بالله تعالى ،
ولو أذن المرتهن في البيع بعد الحلول جاز البيع بقي ، الكلام في التصرف في الثمن ،
وقد أطلق جواز التصرف بناء على الاذن المذكور ، وفصل آخرون ـ وهو الظاهر ـ بأنه ان
كان الحق موافقا للثمن جنسا ووصفا جاز التصرف ، كما قيل مثله فيما إذا كان ما في
ذمة المديون ، مثل الدين جنسا ووصفا ، فإنه يجوز له الأخذ مقاصة من غير توقف على
التراضي ، ولو لم يكن موافقا له لم يجز إلا بإذن الراهن ، لأنها معاوضة أخرى ، كما
أنه لا يجوز له التصرف في الرهن لذلك وربما كان وجه الإطلاق هو أن جواز التصرف
مفهوم من الاذن في البيع
__________________
والتوكيل ، لأن فائدته جواز التصرف في الثمن وهو جيد ان دل عليه شيء من
قرائن المقام ، والا فالتفصيل أجود.
وأما لو اذن له
في البيع قبل حلول الأجل جاز البيع ، ولكن ليس له التصرف في الثمن الا بعد حلول
الأجل ، لعدم الاستحقاق قبله ، والاذن في البيع لا يقتضي تعجيل الاستيفاء ، وهل
يكون الثمن في هذه الصورة رهنا فلا يجوز للراهن طلبه أم لا؟ اشكال ، ولم يحضرني
الان تصريح أحدهم بالحكم المذكور ، ويمكن ترجيح العدم ، بأن حق المرتهن انما تعلق
بالعين ، فلا يتعدى الى الثمن الا بدليل ، وليس ، فليس. والله العالم.
الفصل الرابع في جملة من المسائل المتعلقة بالنزاع
الاولى : لو
اختلف الراهن والمرتهن في الدين الذي على الراهن مع عدم البينة ، فقيل : بأن القول
قول الراهن بيمينه ، وهو المشهور ، ذهب اليه الشيخ في النهاية والخلاف والمبسوط ،
والصدوق ، وأبو الصلاح ، وابن البراج ، وابن حمزة ، وابن إدريس ، والمحقق ،
والعلامة ، والمتأخرون.
وقيل : بأن
القول قول المرتهن ما لم يستغرق دعواه ثمن الرهن ، واليه ذهب ابن الجنيد حيث قال :
والمرتهن يصدق في دعواه حتى يحيط بالثمن ما لم يكن بينة ، فان زادت دعوى المرتهن
على القيمة لا يقبل إلا ببينة ، وله أن يستحلف الراهن على ما يقوله والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بهذا المسألة ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبى جعفر «عليهالسلام» «في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما فيه ،
فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف ، فقال صاحب الرهن : انه بمأة ، قال : البينة على
الذي عنده الرهن انه بألف وان لم يكن له بينة فعلى الراهن اليمين». ورواه الشيخ في
الصحيح ايضا مثله.
وما رواه الشيخان
المذكوران عن ابن أبى يعفور في الموثق عن أبي
__________________
عبد الله عليهالسلام قال : «إذا اختلفا في الرهن فقال أحدهما : رهنته بألف
درهم ، وقال الأخر : بمأة درهم ، فقال يسأل صاحب الألف البينة فان لم يكن بينة حلف
صاحب المأة» الحديث. وسيأتي تمامه إنشاء الله تعالى في المسألة الاتية ورواه
الصدوق بإسناده عن أبان عن أبى عبد الله عليهالسلام مثله.
وما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (٢) في
الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام
«في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف وقال
صاحب الرهن : بمأة فقال : البينة على الذي عنده الرهن أنه بألف فان لم يكن عنده
بينة فعلى الذي له الرهن اليمين أنه بمأة».
وهذه الاخبار
كلها كما ترى ظاهرة في القول المشهور ، ويعضدها أن ما دلت عليه هو مقتضى القواعد
الشرعية ، لأن المرتهن يدعي الزيادة والراهن منكر ، وقد تظافرت الاخبار «بان البينة
على المدعى ، واليمين على المنكر».
ومن أخبار
المسألة أيضا ما رواه الشيخ عن النوفلي عن السكوني «عن جعفر عن أبيه عن على عليهمالسلام ، في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن ، فقال الراهن : هو
بكذا وكذا ، وقال المرتهن : هو بأكثر قال على عليهالسلام : يصدق المرتهن حتى يحيط بالثمن ، لأنه أمينه».
ورواه الصدوق
بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه عليهمالسلام مثله وهذا الخبر هو مستند ابن الجنيد فيما تقدم نقله
عنه ، والشيخ قد أجاب عنه بالحمل على أن الاولى للراهن أن يصدق المرتهن.
وأقول : لا
يبعد حمل الرواية المذكورة على التقية ، فإنه أحد قولي العامة ، وان كان خلاف
المشهور بينهم وكيف كان فهي قاصرة عن معارضة ما قدمناه من الاخبار ،
__________________
فحملها على أحد الأمرين المذكور متعين ، وليس بعد ذلك الا طرحها وإرجاعها
إلى قائلها.
وهنا شيء
ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن بعض الأصحاب كالمحقق في الشرائع نقل عن ابن الجنيد أن
القول قول المرتهن ما لم يستغرق دعواه ثمن الرهن ، والأكثر ومنهم المحقق في النافع
، عبروا بأن القول قوله ما لم يدع زيادة على ثمن الرهن ، ومقتضى العبارة الاولى
أنه مع الاستغراق الذي هو أعم من الإحاطة بثمن الرهن أو الزيادة عليه لا يقدم قوله
، ومقتضى العبارة الثانية أنه لو ادعى ما يحيط بالرهن خاصة ، فإنه يقدم قوله ،
والظاهر أن منشأ ذلك من عبارة ابن الجنيد المتقدمة ، فإنه في صدر العبارة جعل غاية
التصديق إحاطة الدعوى بالثمن ، والغاية خارجة عن المغيا ، فمفهومه أنه مع الإحاطة
لا يصدق ، ثم قال في آخر العبارة : فإن زادت دعوى المرتهن على القيمة لا يقبل ،
ومفهومه أنه يقبل مع عدم الزيادة ، فإن أحاط بالثمن فقد تعارض في كلامه مفهوم
الغاية ، ومفهوم الشرط ، فاختلف النقل عنه لذلك.
والمفهوم من
الرواية يوافق ما ذكره ابن الجنيد في صدر عبارته ، حيث لم يتعرض في الرواية
للزيادة ، وكان مبنى الاختلاف أن المحقق في الشرائع نظر الى اعتضاد صدر عبارة ابن
الجنيد بالرواية ، وبنى على خروج الغاية ولم يلتفت الى مفهوم الشرط ، فنقل عنه أنه
يقبل قوله ما لم يستغرق دعواه الرهن ، ومن حمله الاستغراق بالإحاطة بثمنه ،
والأكثر كأنهم غفلوا عن الرواية فرجحوا العمل بمفهوم الشرط ، وحملوا مفهوم الغاية
على أنه داخل هنا في المغيا ، جمعا بين المفهومين ، فنقلوا عنه أنه يقبل قوله ما
لم يزدد دعواه على القيمة والله العالم.
المسألة
الثانية ـ لو اختلفا فقال المالك : هو وديعة ، وقال الآخر : هو رهن ، فالمشهور بين
الأصحاب «رضوان الله عليهم» ، أن القول قول المالك ، وقيل : القول قول الآخر ، ذهب
اليه الصدوق والشيخ في الاستبصار ، قال الصدوق في المقنع : على صاحب الوديعة
البينة ، فان لم يكن له بينة حلف صاحب الرهن ، ووافقه الشيخ في الاستبصار.
وفصل ابن حمزة
، فقال : ان ادعى صاحب المتاع كونه وديعة عنده ، وخصمه كونه رهنا ، فان اعترف صاحب
المتاع بالدين ، كان القول قول خصمه ، وان لم يعترف بالدين كان القول قول صاحب
المتاع مع اليمين ، ومنشأ هذا الخلاف اختلاف الاخبار في المسألة.
ومنها ما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر «عليهالسلام» أنه قال في رجل رهن عند صاحبه رهنا فقال الذي عنده
الرهن : ارتهنته عندي بكذا وكذا ، فقال الأخر : انما هو عندك وديعة ، قال : البينة
على الذي عنده الرهن أنه بكذا وكذا ، فان لم يكن له بينة فعلى الذي له الرهن
اليمين.
وما رواه في
الموثق عن ابن أبى يعفور عن أبى عبد الله «عليهالسلام» في حديث تقدم صدره في المسألة السابقة ، قال : «وان
كان الرهن أقل مما رهن به أو أكثر واختلفا فقال : أحدهما : هو رهن ، وقال الأخر :
هو وديعة ، قال : على صاحب الوديعة البينة فان لم يكن له بينة حلف صاحب الرهن».
ورواه الصدوق
بإسناده عن فضالة عن أبان عن أبى عبد الله عليهالسلام نقله وطريقه في المشيخة صحيح ، لانه عن أبيه عن أحمد بن
محمد بن عيسى ، عن الحسن بن سعيد ، عن فضالة ، ورواه في الكافي في الموثق عن ابن
ابى يعفور مثله.
وما رواه الشيخ
عن عباد بن صهيب قال : «سألت أبا عبد الله «عليهالسلام» عن متاع في يد رجلين فقال : أحدهما يقول : استودعتكه ،
والأخر يقول : هو رهن فقال : القول قول الذي يقول أنه رهن عندي الا أن يأتي الذي
ادعى أنه أودعه بشهود. ورواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عباد بن صهيب
مثله ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن القائلين بالقول المشهور استندوا إلى صحيحة محمد بن
مسلم ، والقائلون بالقول الآخر استندوا إلى روايتي ابن أبى يعفور وعباد بن صهيب ،
__________________
والعلامة في المختلف وشيخنا الشهيد في المسالك ردوهما بضعف الاسناد ، وان
كانت الأولى موثقة ، وفيه ما عرفت من أن الصدوق في الفقيه قد رواها في الصحيح عن
أبان كما أوضحناه ، ولكنهم غفلوا عن ملاحظتها منه ، واعتمدوا على ما في التهذيب
وهي فيه موثقة ، وبه يظهر ضعف ما ذكروه ، هذا مع البناء على اصطلاحهم المحدث ،
والا فالروايات جميعا عندنا من باب واحد ، ويؤيده صحيحة محمد بن مسلم «ان الذي
عنده المتاع يدعى دينا ورهنا ، والمالك ينكر كلا من الأمرين» ومقتضى القاعدة أن
القول قوله بيمينه ، وان الأصل العدم في كل من الأمرين المذكورين ، والشيخ في
الاستبصار قد أجاب عن الصحيحة المذكورة بأنه انما قال «عليه البينة» على مقدار
الدين الذي ارتهنه به ، لا على أصل الرهن ، وحينئذ فيمين المالك مع تعذر البينة
انما هي على نفى الدين ، واستبعد جملة ممن تأخر عنه.
ويمكن أن يقال
عن جانب الشيخ : ان الأصل وان كان كما ذكروه ، الا أنه يجب الخروج عنه بالدليل ،
وهي صحيحة أبان المؤيدة بالرواية الأخرى ، وله نظائر في الاخبار غير عزيزه.
ومنها من
استودع شخصا مالا فتلف فقال صاحب المال : هو قرض في ذمتك ، وقال الآخر : هو أمانة
، فان مقتضى الأصل الذي اعتمدوه هو تقديم قول مدعى الأمانة لأن صاحب المال يدعي
أمرا زائدا وهو اشتغال الذمة ، والأصل عدمه.
والحال أن
موثقتي إسحاق بن عمار قد صرحتا بأن القول قول مدعى القرض بيمينه ، وأن مدعى
الوديعة تكلف البينة ، ومع عدمها يحلف مدعى القرض.
ومن الموثقتين
المذكورتين ما رواه الراوي المذكور في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام «في رجل قال لرجل : لي عليك ألف درهم ، فقال الرجل : لا ولكنها وديعة ،
__________________
فقال أبو عبد الله عليهالسلام القول قول صاحب المال مع يمينه» ، ونحوها الموثقة
الأخرى ،
وبعض مشايخنا
المحققين من متأخري المتأخرين احتمل في صحيحة ابن ابى يعفور الحمل على التقية ، أو
على ما إذا اعترف بالمال ، وأنكر الرهن أو على ما إذا دلت عليه القرائن.
أقول : ومرجع
الثاني من هذه الاحتمالات الثلاثة الى ما ذهب اليه ابن حمزة واحتج في الكفاية بقول
الشيخ والصدوق حيث اختاره بروايات الثلاثة ، قال : ويدل على قول الشيخ أخبار ثلاثة
أحدها ـ صحيحة أبان أوردها الصدوق في الفقيه وثانيها ـ رواية عبد الله بن أبى
يعفور ، وثالثها ـ رواية عباد بن صهيب. انتهى ملخصا.
وفيه أن رواية
أبان المروية في الفقيه هي بعينها رواية ابن أبى يعفور التي رواها الشيخ ، الا أن
الشيخ نقلها عن أبان عن ابن أبى يعفور ، والصدوق في الفقيه نقلها عن أبان عن أبى
عبد الله من غير واسطة ابن أبى يعفور ، والمتن واحد ، فعدها روايتين مجازفة ، نعم
هي في الفقيه صحيحة ، وفي التهذيب موثقة.
وباختيار القول
المشهور صرح أيضا المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، اعتمادا على صحيحة محمد بن
مسلم ، وضعف ما عارضها بناء على ما ذكره العلامة وصاحب المسالك ولم يقف على رواية
صاحب الفقيه التي ذكرناها.
وأما ما ذكره
ابن حمزة مما قدمنا نقله عنه ، فالظاهر أن وجهه الجمع بين أخبار المسألة ، فإن
الاعتراف بالدين قرينة على صحة دعوى الرهن ، وفيه ما لا يخفى من أن بناء الأحكام
الشرعية على هذه الاحتمالات مجازفة محضة.
وبالجملة
فالمسألة في محل من الاشكال لتعارض الأخبار المذكورة ، وبعد ما ذكروه من التأويلات
في كل من الجانبين مع تعارضها كما عرفت والله العالم.
المسألة
الثالثة ـ إذا تلف الرهن بتفريط المرتهن واختلفا في القيمة فهاهنا مقامان الأول ـ أنه
هل القول في ذلك قول الراهن أو المرتهن؟ المشهور الأول ، وهو
قول الشيخين ، وسلار وأبى الصلاح. وابن البراج ، وابن حمزة ، وابن الجنيد.
وقال ابن إدريس
: القول قول المرتهن ، وتبعه المحقق والعلامة وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ،
والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين ، وعلله في المسالك بأنه منكر الزائد ، والأصل
عدمه ، وبراءته منه ، ثم نقل عن الأكثر الاستناد فيما ذهبوا إليه الى أن المرتهن
صار خائنا فلا يقبل قوله ، قال : ويضعف بانا لم نقبل قوله من هذه الحيثية ، بل لما
ذكرناه.
أقول : ومرجعه
الى أن خيانته وسقوط عدالته الموجب لرد قوله لا يوجب سقوط ما دلت عليه الاخبار من «أن البينة على
المدعى واليمين على المنكر». وبذلك يظهر قوة القول الثاني.
المقام الثاني
في تعيين القيمة هل هي قيمته يوم هلاكه أو يوم قبضه أو أعلى القيم؟ أقوال :
والمشهور الأول ، نظرا إلى أنه وقت الحكم بضمان القيمة ، لأن الحق قبله كان منحصرا
في العين وان كانت مضمونة.
والثاني مذهب
المحقق في الشرائع ، واعترضه في المسالك قال : وحكم المصنف باعتبار قيمته يوم قبضه
مبنى على أن القيمي يضمن بمثله ، ومع ذلك ففي اعتبار يوم القبض نظر ، لانه ثم لم
يكن مضمونا ، فينبغي على ذلك اعتبار المثل يوم الضمان انتهى.
وأما القول
الثالث فقد اختلفوا في تشخيصه ، وما المراد من هذه العبارة هل المراد أعلى القيم
من يوم القبض الى يوم التلف؟ كما نقله المحقق في النافع قولا في المسألة ، نسب الى
الشيخ في المبسوط أو المراد أعلى القيم من يوم التلف الى حكم الحاكم عليه بالقيمة؟
كما هو قول ابن الجنيد أو المراد أعلى القيم من حين التفريط الى وقت التلف؟ وهو
ظاهر العلامة ، واختاره ابن فهد في موجزه ، قال : لانه من حين التفريط كالغاصب ،
وأطلق جماعة من غير إشارة الى هذه الأقوال.
__________________
ويضعف القول
الأول من هذه الأقوال الثلاثة بأنه غير مضمون قبل التفريط ، فلا وجه لاعتبار قيمته
، وحمله على الغاصب قياس مع الفارق ويضعف قول ابن الجنيد بأن المطالبة لا دخل لها في ضمان
القيمة ، بل الضمان ثابت وأن لم يطالب.
أقول : والأنسب
بالقواعد من هذه الأقوال أن يقال : ان قلنا في الغاصب بأن الواجب عليه أعلى القيم
، وجب هنا على المرتهن أعلى القيم من حين التفريط الذي صار به كالغاصب الى وقت
التلف ، وان قلنا بأن الواجب عليه قيمة يوم التلف فكذا هنا ، أعنى الحكم بقيمة يوم
التلف إذا كان اختلاف القيم بسبب السوق أو بسبب نقص في العين غير مضمون ، أما لو
كان مضمونا كما لو فرط فنقصت العين بهزال ونحوه ، تعين الأول ، وهو أن يعتبر أعلى
القيم من حين التفريط الى حين التلف ، هذا كله فيما إذا كان الرهن قيميا.
أما لو كان
مثليا فإنه يضمن بمثله ان وجد ، والا فقيمة المثل يوم الأداء على الأظهر ، لأن
الواجب قبل التعذر انما كان المثل ، وانما وقع الرجوع الى القيمة بعد تعذره ،
بخلاف القيمي فإن القيمة استقرت في الذمة من حين التلف قطعا ، وانما وقع الاختلاف
والاشتباه في قدرها بسبب الاعتبارات المتقدمة والله العالم.
المسألة
الرابعة ـ إذا اذن المرتهن للراهن في البيع ثم رجع فاختلفا
، فقال المرتهن
رجعت قبل البيع ، وبموجبه يكون الرهن باقيا ، والبيع باطل ، وقال الراهن : انما
رجعت بعد البيع فالبيع صحيح ، والرهن باطل.
قيل : القول
هنا قول المرتهن ، ترجيحا لجانب الوثيقة ، بمعنى أن الدعويين متكافئان ، وذلك أن
الراهن يدعى تقدم البيع على الرجوع ، والأصل عدمه ، والمرتهن يدعى تقدم الرجوع على
البيع ، والأصل أيضا عدمه ، فقد تعارض الأصلان
__________________
فيتساقطان ، ويبقى حكم الرهن على العين باقيا ، لأن الأصل بقاء الرهن
واستصحابه ، وبه يظهر أن القول قول المرتهن.
وقيل : ان
أصالة بقاء الرهن معارض بأصالة بقاء البيع ، فان وقوعه معلوم كما ان وقوعه الرهن
معلوم فيتعارضان أيضا ويتساقطان ويبقى ، مع الراهن ملكية المرتهن ، وصحة تصرفه فيه
المتفرع على ذلك ، «فان الناس مسلطون على أموالهم» فيكون القول حينئذ قول الراهن ،
ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجوع هنا متحقق ، وأصالة بقاء البيع لو لم يكن المانع
متحققا ، والمانع وهو الرجوع هنا موجود.
وبالجملة
فالمسألة محل اشكال لعدم النص فيها ، والرجوع الى هذه التعليلات العقلية ، سيما مع
تعارضها وتدافعها غير جائز عندي ، لما دلت عليه الآيات والروايات من انحصار أدلة
الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة ، ولأصحابنا في هذا الباب فروع أكثروا فيها من
البحث ، طوينا ذكرها في هذا الكتاب لما ذكرناه والله العالم بحقائق أحكامه ،
ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.
كتاب الشفعة
وعرفها المحقق
في الشرائع بأنها استحقاق أحد الشريكين حصة شريكه بسبب انتقالها بالبيع ، واعترضه
في المسالك في هذا التعريف ، وأطال في ذلك وأجاب عنه المحقق الأردبيلي منتصرا
للمحقق بما لا مزيد فائدة في التعرض الى نقله.
ولهذا قال
المحقق المذكور في آخر كلامه ، ونعم ما قال : ثم إني أظن عدم مناسبة هذه المضايقات
في هذه التعريفات اللفظية في الفقه التي المقصود منها التمييز في الجملة ، ولكن
لما تعرض الشارح لأمثالها أطنبت فيه بما عرفت ، فخرجت عن مقصود التعلق بذلك ،
ولدفع الشبهة عن مثل المحقق وغيره ، والا فظني أن التوجه الى مثلها والتعرض
للعبارات غير مناسب ، وليس وظيفة الفقيه ، بل ينبغي له ان يبذل جهده في تحقيق
المسألة وتحريرها وتوضيحها مع الخفاء ، ودليلها وإثباتها لا غير انتهى ملخصا. وعلى
ما ذكره «قدسسره» قد جرينا في هذا الكتاب كما لا يخفى على
من لاحظه في جميع الأبواب.
وكيف كان
فالكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد الأول فيما تثبت فيه الشفعة ، لا خلاف بين
الأصحاب كما نقله غير واحد في ثبوتها في العقار الثابت القابل للقسمة كالأراضي
والبساتين والمساكن ، وانما الخلاف فيما عدا ذلك.
فذهب جملة من
المتأخرين وأكثر المتقدمين الى ثبوتها في كل مبيع ، منقولا كان أم لا ، قابلا
للقسمة أم لا ، واليه مال الشهيد في الدروس ونفى عنه البعد ، وقيده جماعة بالقابل
للقسمة ، وحكم بعضهم بثبوتها للمقسوم أيضا ، ونقله في المسالك عن ابن أبى عقيل.
وذهب أكثر
المتأخرين إلى اختصاصها بغير المنقول عادة مما يقبل القسمة ، وأضاف بعض هؤلاء
العبد ، دون غيره من المنقولات ، ولا بأس بنقل جملة من عبائر المتقدمين.
قال الشيخ في
النهاية : كل شيء كان بين الشريكين من ضياع أو عقار أو حيوان أو متاع ثم باع
أحدهما نصيبه كان لشريكه المطالبة بالشفعة ، ثم قال : ولا شفعة فيما لا يصح قسمته
وهو ظاهر في الشفعة في المنقولات القابلة.
وقال في الخلاف
: لا شفعة في السفينة وكلما يمكن نقله من الثياب والحيوان والجرب والسفن وغير ذلك
عند أكثر أصحابنا ، وعلى الظاهر من رواياتهم ، وحكى المالك أن الشفعة في كل شيء
من الأموال والثياب والطعام والحبوب والحيوان ، وفي أصحابنا من قال بذلك ، وهو
اختيار المرتضى رحمهالله.
وقال الصدوق في
المقنع : لا شفعة في سفينة ، ولا طريق ، ولا حمام ، ولا رحى ، ولا نهر ، ولا ثوب ،
ولا في شيء مقسوم ، وهي واجبة في كل شيء عدا ذلك من حيوان وأرض ورقيق وعقار ،
ورواه في الفقيه وقال أبوه؟ الشفعة واجبة في كل شيء من حيوان أو عقار أو رقيق إذا
كان الشيء بين شريكين ، وليس في الطريق شفعة ، ولا في نهر ، والارحى ، ولا في
حمام ، ولا في ثوب ، ولا في شيء مقسوم.
وقال ابن أبى
عقيل : لا شفعة في سفينة ولا رقيق.
وقال المرتضى
مما انفردت به الإمامية إثباتهم حق الشفعة في كل شيء من المبيعات من عقار وضيعة
ومتاع وعروض وحيوان ، كان ذلك مما يتحمل القسمة أو لا يتحملها ، ونقل ذلك عن ابن
الجنيد وأبى الصلاح وابن البراج وابن إدريس.
قال في المختلف
بعد نقل هذه الأقوال : والمعتمد أنها انما تثبت فيما يصح قسمته خاصة إلا المملوك ،
وظاهره ما يصح قسمته منقولا كان أو غير منقول.
وقال المحقق في
النافع وفي ثبوتها في الحيوان قولان : المروي أنها لا تثبت ومن فقهائنا من أثبتها
في العبد دون غيره ، والواجب أولا نقل ما وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بالمقام
ثم النظر فيما يظهر منها من الأحكام.
فمن الاخبار
المشار إليها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن عقبة بن خالد عن أبى عبد الله عليهالسلام «قال قضى رسول الله صلىاللهعليهوآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا
ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا أرفت الأرف ـ وفي الفقيه وقال الصادق عليهالسلام : إذا أرفت ـ وحدت الحدود فلا شفعة». قال الفيومي في
كتاب المصباح المنير : «الأرفة الحد الفاصل بين الأرضين ، والجمع أرف مثل غرفة
وغرف» انتهى وحينئذ فالعطف في قوله وحدت الحدود تفسيري.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن يونس عن بعض رجاله عن أبى عبد الله «عليهالسلام» وفي الفقيه عن أبى عبد الله عليهالسلام مرسلا «قال : سألته عن الشفعة لمن هي؟ وفي أي شيء هي؟
ولمن تصلح وهل تكون في الحيوان شفعة؟ وكيف هي؟ فقال : الشفعة جائزة في كل شيء من
حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما فباع أحدهما نصيبه
فشريكه أحق به من غيره ، وان زاد على الاثنين فلا شفعة ، لأحد منهم». وزاد في
الكافي وروى أيضا : أن الشفعة لا تكون إلا في الأرضين والدور فقط.
__________________
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن السكوني عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا شفعة في سفينة ، ولا في نهر ، ولا في طريق».
وما رواه الصدوق
في الفقيه عن السكوني «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن على عليهمالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا شفعة في سفينة ، ولا في نهر ، ولا في طريق ، ولا
في رحى ، ولا في حمام».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن سليمان بن خالد في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «ليس في الحيوان شفعة».
وعن عبد الله
بن سنان بسند صحيح وآخر موثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه فقال أحدهما
: أنا أحق به إله ذلك؟ قال : نعم إذا كان واحدا».
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن الحلبي «عن أبى عبد الله «عليهالسلام» : أنه قال في المملوك يكون بين الشركاء فيبيع أحدهم
نصيبه فيقول صاحبه : أنا أحق به إله ذلك؟ قال : نعم إذا كان واحدا ، قيل له في
الحيوان شفعة؟ فقال : لا».
وما رواه في
الفقيه عن أحمد بن محمد بن أبى نصر عن عبد الله بن سنان قال : «سألته عن مملوك بين شركاء أراد أحدهم بيع نصيبه؟
قال : يبيعه ، قلت : فإنهما كانا اثنين فأراد أحدهما بيع نصيبه فلما أقدم على
البيع قال له شريكه : أعطني قال : هو أحق به ، ثم قال عليهالسلام لا شفعة في حيوان الا أن يكون الشريك فيه واحدا».
__________________
وقال في كتاب
الفقه الرضوي «وروى أن الشفعة واجبة في كل شيء من الحيوان والعقار والرقيق إذا كان بين
شريكين ، فباع أحدهما فالشريك أحق به من الغريب ، وإذا كان الشركاء أكثر من اثنين
فلا شفعة لواحد منهم الى أن قال وروى أنه ليس في الطريق شفعة ، ولا في النهر ، ولا
في رحاء ، ولا في حمام ، ولا في ثوب ، ولا في شيء مقسوم». انتهى.
هذا ما حضرني
من أخبار المسألة وباختلافها كما ترى اختلف كلام الأصحاب ويدل على القول الأول من
هذه الاخبار مرسلة يونس المتقدمة ، وهو ظاهر الرواية الاولى من الروايتين
المنقولتين في كتاب الفقه الرضوي.
الا أن هذا
العموم مما ينافيه جملة من أخبار المسألة كالمرسلة المنقولة من الكافي ، الدالة
على انحصار الشفعة في الأرضين والدور ، والظاهر ان المراد منها العقار مطلقا ، وما
ذكر فيها من الفردين المذكورين انما خرج مخرج التمثيل ، ونحوها مفهوم رواية عقبة
بن خالد الدالة على الأرضين والمساكن ، فإنها وان لم يكن مثل الاولى صريحة ، الا
ان ظاهرها ذلك والاخبار الدالة على نفى الشفعة في السفينة والنهر في الطريق.
وفي رواية
السكوني وكذا رواية كتاب الفقه اضافة الرحى والحمام ، وهو فتوى الشيخ على بن
بابويه كما تقدم ، والظاهر أن مستنده انما هو الكتاب المذكور كما عرفته في غير
موضع ، ولا سيما في كتب العبادات.
وأما صحيحة
الحلبي الدالة على نفى الشفعة في الحيوان يعنى غير الأناسي بقرينة جوازها في العبد
وكذا موثقة سليمان بن خالد فيجب تقييدها بما دل عليه رواية ابن سنان من الجواز إذا
كان بين شريكين ، فيخص النفي بما إذا كان أزيد وبذلك يظهر ضعف القول المذكور.
ويمكن تأييد
مرسلة يونس المذكورة بما رواه في الكافي والتهذيب عن
__________________
هارون بن حمزة الغنوي ، عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الشفعة في الدور أشيء واجب للشريك
ويعرض على الجار فهو أحق بها من غيره؟ فقال : الشفعة في البيوع إذا كان شريكا فهو
أحق بها من غيره بالثمن».
وعن جميل بن
دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام قال : «الشفعة لكل شريك لم يقاسم».
وأما القول
المشهور بين أكثر المتأخرين وهو اختصاصها بغير المنقول عادة مما يقبل القسمة ، فقد
استدل عليه بأن الأدلة عقلا ونقلا كتابا وسنة مما تدل على عدم جواز التسلط على مال
المسلم الا بطيب نفسه منه ، والأخذ بالشفعة مناف لذلك ، خرج منه ما وقع عليه
الإجماع ، وهو ما لا ينقل ، وبقي الباقي تحت المنع بالأدلة المتقدمة.
ويؤيده مرسلة
الكافي المتقدمة ، وما ورد من نفى الشفعة في الجملة من المعدودات في الاخبار
كالسفينة والنهر ونحوهما مما تقدم ، والحيوان في روايتي الحلبي وسليمان بن خالد ،
ولا ينافي ذلك صريحا إلا مرسلة يونس ، وقد حملها بعض محققي متأخري المتأخرين على
التقية.
أقول : ومثلها
رواية كتاب الفقه فإنه يجب حملها على ذلك أيضا ، إلا أنك قد عرفت أن روايتي الحلبي
وسليمان بن خالد مخصصان برواية عبد الله بن سنان ، فيشكل حينئذ الاستناد إليهما في
ذلك ، وأما التقييد بقبول القسمة فاستدل عليه بالأخبار الدالة على نفى الشفعة في
السفينة ونحوها مما ذكر في رواية السكوني وغيرها.
وأنت خبير بأنه
لا دلالة فيها على ذلك ، إذ لا تعرض فيها لذكر القسمة وعدمها ، وكأنهم بنوا على أن
العلة في النفي في هذه الأفراد انما هي من حيث عدم قبول هذه الأشياء القسمة.
__________________
وفيه أن هذه
علة مستنبطة لا يجوز العمل عليها عندنا. نعم يمكن الاستدلال عليه بما في رواية
عقبة بن خالد من قوله عليهالسلام «إذا رفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة». وفي معناها روايات أخر ، فإن ظاهرها
أنه لا شفعة إلا فيما يقع فيه الحدود ، وتضرب له الطرف ويقع فيه السهام.
وأما القول
بثبوتها في المقسوم كما ذهب اليه ابن ابى عقيل ، فيرده رواية عقبة بن خالد ،
والرواية الثانية من روايتي كتاب الفقه الرضوي ، ومرسلة جميل بن دراج المتقدمة هنا
، ورواية محمد بن مسلم «عن ابى جعفر عليهالسلام قال : إذا وقعت السهام ارتفعت الشفعة». ونحوه روايات
أخر أعرضنا عن ذكرها فالقول المذكور بمحل من الضعف والقصور.
وأما ما ذكره
المحقق في النافع من القول بعدم ثبوتها في الحيوان.
ففيه ما عرفت
من أنه وان دل على ذلك بعض الأخبار الا أن البعض الآخر دل على جوازها مع اتحاد
الشريك ، فيجب تقييد ما أطلق به.
وكيف كان
فالمسألة لا تخلو من الاشكال ، والقدر المعلوم جواز الشفعة فيه هو ما وقع عليه
الاتفاق مما قدمنا ذكره ، وما عداه فهو محل توقف واشكال.
نعم يمكن القول
بالجواز في العبد ، لدلالة جملة من الاخبار عليه ، ومنها صحيحة عبد الله بن سنان ،
وصحيحة الحلبي ، ورواية عبد الله بن سنان الثانية ، وظاهر جملة من المتأخرين
التوقف في المسألة ، كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد ، والمحدث الكاشاني ، في المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية ، وهو
في محله بالنسبة الى ما عدا ما ذكرناه والله العالم.
تنبيهات
الأول ـ إذا
بيعت الأرض وما فيها من نخل أو شجر أو أبنية فالظاهر ثبوت الشفعة
__________________
في تلك التي في الأرض تبعا لها ، بل الظاهر أنه لا اشكال فيه لدخولها في
عموم النصوص الدالة على ثبوتها في الرباع والمساكن والدور ، كما تقدم في رواية
عقبة بن خالد ، ومرسلة الكافي وللرواية الاولى من روايتي كتاب الفقه ، ورواية
الغنوي.
أما لو بيعت
منفردة نازعة عن تلك الأرض أو منضمة إلى أرض أخرى غير ما هي فيها بنى جواز الشفعة
فيما على ما تقدم من القول بالعموم في كل مبيع ، فتجوز الشفعة فيها.
وعلى ما قيل :
من التخصيص بالأرضين والمساكن والبساتين كما هو المتفق عليه ، فإنه لا شفعة فيها ،
لأنها لا تدخل منفردة في شيء من هذه المذكورات ، لان المساكن اسم للمجموع المركب
من الأرض والأبنية التي فيها ، وكذا البساتين بالنسبة إلى الشجر ، وضمها الى غير
أرضها غير نافع ، لعدم الصدق ، فلا تكون تابعة لها.
الثاني ـ هل
يثبت الشفعة في الثمرة وان بيعت على رؤس النخل والشجر منضمة إليها قولان : مبنيان
على ما تقدم من القول بالعموم في كل مبيع ، كما هو قول أكثر المتقدمين ، وجملة من
المتأخرين ، فيثبت الشفعة فيها.
وما تقدم مما
هو المشهور بين المتأخرين من الاختصاص بغير المنقول ، والثمرة في حكم المنقول إذ
لا يراد دوامها ، وانما له أجل معين ينتظر وصوله فتقطع ، ولأنها غير داخلة في
مفهوم البستان ، ونحوه ومن ثم لا يدخل في بيع الأصل بعد الظهور ، كما تقدم ، فلا
يثبت الشفعة فيها ، وفي معناها الزرع الثابت.
قال الشيخ في
الخلاف والمبسوط : إذا باع النخل منضما إلى الأرض وهو مثمر ، وشرط الثمرة في البيع
كان للشفيع أخذ ذلك أجمع.
قال العلامة في
المختلف بعد نقله عنه : وقال بعض فقهائنا : ليس للشفيع
__________________
أخذ الثمرة ، بل يأخذ النخل والأرض بحصتهما من الثمن ، وهو المعتمد ، لنا
الأصل عدم الأخذ بالشفعة ، ولأنا قد بينا أن الشفعة لا تثبت فيما ينقل ويحول ،
والثمرة على رؤس النخل من هذا الباب ، فلا شفعة فيها ، ثم نقل عن الشيخ الاحتجاج
بعموم الأخبار المروية في وجوب الشفعة في البيع ، وأجاب بأن العام قد يخص بدليل
أقوى.
أقول : وقد
عرفت الكلام في ذلك ، وأن ما نقل عن الشيخ هنا هو مقتضى ما نقل عن السيد المرتضى
ومن تبعه كما تقدم ذكره ، وبالجملة فإنه هو المشهور بين المتقدمين كما عرفت.
الثالث ـ المشهور
بين المتأخرين عدم ثبوت الشفعة في النهر والطريق والحمام ونحو ذلك مما تضر قسمته ،
وأنه يشترط في الأخذ بالشفعة كونه مما يقبل القسمة الإجبارية ، ولو أضرت به القسمة
فلا شفعة ، استنادا الى ما تقدم من رواية السكوني ، ونحوها رواية فقه الرضا عليهالسلام قالوا : وليس المراد من الطريق فيهما والنهر والحمام ما
كان واسعا فيكون المراد ما كان ضيقا.
وما رواه الشيخ
عن طلحة بن زيد «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهماالسلام قال : لا شفعة إلا لشريك غير مقاسم» .
__________________
قال في المسالك
: ولا يخفى عليك ضعف هذه الأدلة ، ومن ثم ذهب المرتضى وابن إدريس رحمهماالله ، الى عدم اشتراطه ، لعموم الأدلة الدالة على ثبوتها من
غير تخصيص ، ولأن المقتضي لثبوت الشفعة وهو ازالة الضرر عن الشريك قائم في غير
المقسوم بل أقوى ، لأن المقسوم يمكن التخلص من ضرر الشريك بالقسمة ، بخلاف غيره
انتهى.
واقتفاه في ذلك
المحدث الكاشاني في المفاتيح ، وهو جيد لما عرفت آنفا ، فان هذين الخبرين
لإجمالهما مضافا الى ضعفهما لا يبلغان قوة في تخصيص ما دل على العموم صريحا ، ثم
انه بناء على القول المذكور فهل المراد من الضرر الرافع للإجبار عن القسمة هو
المبطل لمنفعة المال بالكلية ـ بمعنى أنه متى قسم خرج عن حد الانتفاع به لضيقه أو
لقلة النصيب ، أو لأن أجزاءه غير منتفع بها كالأمثلة المذكورة إذا كانت بالغة في
الصغر هذا الحد ، فلو بقي للسهم بعد القسمة نفع ما ، يثبت الشفعة ـ أو أن المراد
بالضرر هو أن ينقص قيمة المقسوم بسبب القسمة نقصا فاحشا ـ أو أن المراد أن يبطل
منفعته المقصودة قبل القسمة ، وان بقيت فيه منافع ، كالحمام والرحى إذا خرجا
بالقسمة عن صلاحية الانتفاع بهما في الغسل والطحن على الوجه الأول؟ احتمالات ،
سيأتي تحقيق الكلام فيها إنشاء الله تعالى في محله اللائق به ثم أنه يأتي على
المعنى الأول من هذه الثلاثة المذكورة أنه لو كان الحمام أو الطريق أو النهر واسعا
لا تبطل منفعته بالقسمة أجبر الممتنع من القسمة ، وتثبت الشفعة.
المقصد الثاني في الشروط
وهي أمور الأول
ـ الشركة ، على الأشهر الأظهر ، فلو كان مقسوما فلا شفعة ، خلافا لابن أبى عقيل
كما تقدم نقله عنه ، وقد تقدمت جملة من الروايات الدالة على ذلك ، ولا تثبت
بالجواز عندنا.
نعم قد اتفق
النص والفتوى عن استثناء صورة واحدة ، وهي ما إذا كانت دار فيها دور مقسومة لكل
طرف مالك على حده ، وطريق الجميع واحدة ، فباع أحد
المالكين منزله وما يخصه من الطريق ، فإن الشفعة حينئذ تثبت في مجموع
المبيع وان كان بعضه غير مشترك ، فلو انفردت الدار بالبيع ، دون الطريق فلا شفعة ،
ولو بيعت الطريق خاصة تثبت الشفعة إذا كانت الطريق واسعة ، بناء على اشتراط قبول
القسمة.
والذي وقفت
عليه مما يتعلق بهذا الحكم من الاخبار ما رواه الكليني عن منصور بن حازم في الحسن قال : «قال : قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : دار بين قوم اقتسموها فأخذ كل واحد منهم قطعة ،
فبناها وتركوا بينهم ساحة فيها ممرهم ، فجاء رجل فاشترى نصيب بعضهم إله ذلك؟ قال :
نعم ولكن يسد بابه ، ويفتح بابا الى الطريق ، أو ينزل من فوق البيت ويسد بابه ،
فإن أراد صاحب الطريق بيعه ، فإنهم أحق به ، والا فهو طريقه يجيء حتى يجلس على
ذلك الباب».
وعد هذه
الرواية في الصحيح جملة من الأصحاب أولهم العلامة في التذكرة وتبعه جمع ممن تأخر
عنه منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.
وفيه أن في
سندها الكاهلي وهو غير موثق. نعم هو ممدوح ، فحديثه في الحسن ، لا الصحيح ، ورواه
الشيخ عن منصور في الموثق مثله ، الا أنه قال : «أو ينزل من فوق البيت ، فإن أراد
شريكهم أن يبيع منقل قدميه فإنهم أحق به ، وان أراد يجيء حتى يقعد على الباب
المسدود الذي باعه لم يكن لهم أن يمنعوه».
وما رواه في
الكافي عن منصور بن حازم في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم قال : «سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن دار فيها دور وطريقهم واحد في عرصة الدار ، فباع
بعضهم منزله من رجل هل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة؟ فقال : ان كان باع
الدار وحول بابها الى طريق غير ذلك فلا شفعة لهم ، وان باع الطريق مع الدار فلهم
الشفعة». ورواه الشيخ مثله.
__________________
وأنت خبير بأن
الرواية الاولى لا دلالة لها على محل البحث ، لأنها انما تضمنت التفصيل بين بيع
الدار دون حصة من الساحة ـ وهي الطريق ، وقد حكم عليهالسلام بأن المشتري يسد بابه الشارع إلى المساحة ويفتح له بابا
الى الطريق ، أو ينزل من فوق البيت لعدم استحقاقه المرور من تلك الساحة ، حيث أنها
غير داخلة في البيع ، ولا شفعة هنا لعدم الشركة ـ وبين بيع حصته من الساحة خاصة
التي هي الممر ، وللشركاء حينئذ الشفعة من حيث الشركة ـ فيها ، دون الدار ، لانه
لم يبعها معها فلا شفعة فيها ، وان لم يبع حصته من تلك الطريق بعد بيعه الدار فله
المجيء والسلوك فيها الى أن ينتهي الى ذلك الباب المسدود ، ولا تعرض في الرواية
لبيع الدار مع الطريق ، كما هو موضوع المسألة.
واما الثانية ـ
فهي صريحة في ذلك حيث قال : «وان باع الطريق مع الدار فلهم الشفعة» وقد عد العلامة
في التذكرة وغيره الرواية الأولى دليلا للمسألة المذكورة.
ويمكن أن يكون
منشأ توهمهم ذلك حمل قوله فيها برواية الكافي «فإن أراد صاحب الطريق بيعه» على
معنى بيع الطريق مع الدار ، وهو غلط ، فإن العبارة ظاهرة بل صريحة في كون البيع ،
انما وقع على الطريق خاصة. وأصرح منها قوله في رواية الشيخ «وان أراد شريكهم أن
يبيع منقل قدميه فهم أحق به» ويؤيده أيضا قوله بعد هذه العبارة «والا فهو طريقه»
كما في الكافي وقوله «وان أراد يجيء» الى آخره كما في رواية التهذيب ، فإنه ظاهر
في انه قد باع الدار أولا.
وهذا الكلام في
الطريق خاصة بعد بيعه الدار ، وأنه ان باع حصته منها فللشريك فيها الشفعة ، والا
فالطريق له يجيء ويمضى منه الى أن ينتهي الى باب الدار المسدود ، هذا ظاهر
الخبرين كما هو رأى العين.
وقال في كتاب
الفقه الرضوي «فإذا كانت دار فيها دور وطريق أبوابها في عرصة واحدة ، فباع رجل داره منها
من رجل كان لصاحب الدار الأخرى شفعة ،
__________________
إذا لم يتهيأ له أن يحول باب الدار التي اشتراها الى موضع آخر ، فان حول
بابها فلا شفعة لأحد عليه». انتهى.
والظاهر أن
قوله : «إذا لم يتهيأ له أن يحول» الى آخره كناية عن دخول الطريق في البيع وعدمه ،
بمعنى أنه ان باع الدار وحدها من غير دخول الطريق معها ، فلا شفعة لما عرفت من عدم
موجب الشفعة ، وان أدخل الطريق في البيع لعدم إمكان طريق له غير ذلك فله الشفعة في
الجميع.
وينبغي التنبيه
على أمور الأول لا يخفى أن مورد الخبرين المذكورين انما هو الطريق كما عرفت ،
والأصحاب قد أضافوا إليها الشرب ، وهو النهر الذي يجري فيه الماء إلى الأرض
المقسومة ، بمعنى أن الأرض مقسومة ، والنهر مشترك ، فلو باع أحد الشريكين حصته من
الأرض مع حصته من النهر ، فللشريك الأخر الشفعة ولا يخفى ما فيه ، فان الحكم على
خلاف أصولهم المقررة ، والروايات المعتبرة من عدم جواز الشفعة في المقسوم مؤيدا
بأصالة عدم التسلط على مال الغير ، فالواجب الوقوف فيما خالف ذلك على مورد النص ،
كما قرروه في غير مقام.
الثاني ـ إطلاق
الرواية الاولى من الروايتين المذكورتين يدل على جواز الشفعة في الطريق ، متى بيعت
وحدها ، سواء كانت قابلة للقسمة أم لا ، والمشهور بين المتأخرين اعتبار قبولها ذلك
، أما في صورة بيعها مع الدار كما هو موضوع المسألة فالظاهر من كلامهم عدم اشتراط
ذلك ، نظرا الى أن الطريق تابعة ، والمبيع حقيقة انما هو الدار ، فيكفي قبولها
للقسمة.
الثالث ـ هل
يشترط في جواز الشفعة في هذه المسألة كون الدور مقسومة بعد الشركة أو لا؟ أو يكفي
كونها منفردة من أصلها ، وكل منها على حدة من غير تقدم شركة وان اشتركت في الطريق؟
فعلى هذا يجوز الشفعة فيها أعم من أن يكون مشتركة في الأصل ، أم لا؟ قولان :
وبالثاني صرح العلامة في التذكرة ، وهو اختياره في المسالك.
وعليه تدل ظاهر
الرواية الثانية ، حيث أن السؤال فيها عن دار فيها دور ، وهو أعم
من كونها مقسومة بعد الاشتراك أم لا ، وبالأول صرح المحقق في الشرائع ،
وغيره في غيره.
قال في المسالك
بعد نقله الثاني عن التذكرة : وهو الظاهر ، لان هذا مستثنى من اعتبار الشركة ،
ويكتفى فيه بالشركة في الطريق ، ولان زوال الشركة بالقسمة قبل البيع يلحقها
بالجواز ، فلا وجه لاعتبارها.
ويظهر من عبارة
المصنف وجماعة ـ حيث فرضوا الحكم في الأرض المقسومة مع الاشتراك في الطريق ـ اعتبار
الشركة في الأصل ، واحتج له بأن ضم غير المشفوع الى المشفوع لا يوجب ثبوت الشفعة
في غير المشفوع اتفاقا ، والمبيع الذي لا شركة فيه في الحال ولا في الأصل ، ليس من
متعلقات الشفعة ، إذ لو بيع وحده لم يثبت فيه شفعة بحال ، وإثباتها لا يكون الا
بمحض الجوار ، وإذا ضم الى المشترك وجب أن يكون الحكم كذلك ، ولعموم قوله عليهالسلام «لا شفعة إلا لشريك مقاسم».
ولا شريك هنا
لا في الحال ، ولا في الأصل ، ولرواية أبي العباس «الشفعة لا تكون الا لشريك». وغير ذلك مما في معناه. ولا يخفى عليك ضعف هذا
الاحتجاج ، لان هذه الصورة مستثناة من اشتراط الشركة بالنص والإجماع ، فلا يقدح
فيها ما دل على اشتراط الشركة ، ولا على نفى الشفعة بضميمة غير المشفوع اليه ، من
أن المقسوم خرج عن تعلق الشفعة عندهم ، فضميمته كضميمة غيره لولا الطريق المشتركة
، ولان مدلول هذه الروايات اعتبار الشركة بالفعل ، وهو منتف مع القسمة ، ولو أريد
منها ما يعم السابقة لزم ثبوتها في المقسوم ، وان لم يكن له شركة في الطريق.
وأما معارضة
رواية منصور الصحيحة والحسنة بتلك الأخبار ـ الدالة على اعتبار الشركة ، وترجيح
تلك بالكثرة ، وموافقتها للأصل ـ فعجيب ، لان مدلولها على تقدير قطع النظر عن
سندها اعتبار الشركة بالفعل كما ذكرناه ، وروايات منصور دلت على الاكتفاء بالشركة
في الطريق ، فهي خاصة ، وتلك عامة ، فيجمع
__________________
بينهما بتخصيص العام بما عدا ذلك انتهى.
وهو جيد وجيه ،
الا أن في اعتضاده بروايات منصور ما عرفته آنفا من أن ذلك انما هو مدلول إحديهما
دون الأخرى.
الرابع ـ ظاهر
روايتي منصور المتقدمتين مع اعتبار إسناديهما كما عرفت جواز الشفعة مع تعدد
الشركاء ، وهو خلاف فتوى جمهور الأصحاب ، وخلاف ما دل عليه غيرهما من الاخبار ،
الا أن ظاهر كلامه عليهالسلام في كتاب الفقه كون الشريك متحدا ، وسيجيء الكلام في
هذه المسألة إنشاء الله تعالى في المقام ،
الخامس ـ قالوا
: لو باع عرصة مقسومة وشقصا من أخرى ، فالشفعة في صفقة الشقص خاصة بحصته من الثمن
، والوجه فيه ظاهر ، لان المقسوم لا شفعة فيه كما تقدم ، وليس هذا من قبيل الصورة
المتقدمة المستثناة من هذه القاعدة ، وأما الشقص فالعلة الموجبة للشفعة موجودة فيه
، وهي الشركة ، فيعطى كل واحد حكمه ، ولا يقدح في ذلك كونه بيعا واحدا لصدق البيع
على كل واحد بانفراده أيضا.
ومن هذا الباب
لو باع البستان بثمره والأرض بزرعها ، بناء على ما هو المشهور بين المتأخرين من
عدم الشفعة في الثمرة والزرع ، لكونهما مما ينقل ، والشفعة مخصوصة بما لا ينقل
عندهم كما تقدم ذكره.
فعلى هذا تثبت
الشفعة في غير الثمرة والزرع بحصته من الثمن ، بأن ينسب قيمة المشفوع فيه منفردا
إلى قيمة المجموع ، فحصته من الثمن بتلك النسبة ، فإذا قيل : قيمة المجموع مأة ،
وقيمة ما عدا الثمرة والزرع ثمانون ، أخذ الشفيع المشفوع بأربعة أخماس الثمن كائنا
ما كان.
الثاني من
الشرائط المتقدم ذكرها ـ انتقال الشقص بالبيع خاصة ، فلو جعله صداقا أو صدقة أو
هبة أو صالح عليه فلا شفعة على الأشهر الأظهر ، بل كاد يكون إجماعا ، وخالف فيه
ابن الجنيد ، فأثبت الشفعة في مجرد النقل حتى الهبة بعوض وغيرها.
قال على ما
نقله عنه في المختلف : إذا زال ملك الشريك عنه بهبة منه بعوض شرط يعوضه إياه ، أو
غير عوض كانت للشفيع شفعة فيه ، فان حبس ملكه أو أسكنه لم يكن للشفيع
شفعة ، ثم نقل عنه أنه احتج بأن الحكمة الباعثة لإيجاب الشفعة في صورة
البيع موجودة في غيره من عقود المعاوضات ، ولا اعتبار بخصوصيات العقود في ذلك في
نظر الشارع ، فاما أن يثبت الحكم في الجميع ، أو ينتفي عن الجميع ، فإثباته في
البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح.
ثم أجاب عنه
بأن الحكمة لا يجوز التعليل بها ، لعدم انضباطها فلا بد من ضابط ، ولما رأينا صور
ثبوت الشفعة موجود فيها مطلق البيع ، جعلناه ضابطا للمناسبة والاقتران ، على أن
القياس عندنا باطل انتهى.
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك الميل الى ما ذهب اليه ابن الجنيد هنا ، حيث قال بعد ذكر
المصنف الحكم المذكور : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، بل كاد يكون إجماعا ، وليس
عليه دليل صريح ، وانما تضمنت الروايات ذكر البيع ، وهو لا ينافي ثبوتها بغيره.
ومن ثم خالف
ابن الجنيد ، فأثبتها لمطلق النقل ، حتى بالهبة بعوض وغيره لما أشرنا إليه من عدم
دليل يقتضي التخصيص ، واشتراك الجميع في الحكمة الباعثة على إثبات الشفعة ، وهو دفع
الضرر عن الشريك ، ولو خصها بعقود المعاوضات كما تقوله العامة كان أبعد ، لأن أخذ
الشفيع للموهوب بغير عوض بعيد ، وبه خارج عن مقتضى الأخذ انتهى.
أقول : لا يخفى
أن مقتضى الدليل العقلي والنقلي كتابا وسنة والإجماع هو عدم جواز التصرف في مال
الغير إلا بإذن منه ، والشفعة قد خرجت على خلاف مقتضى هذه الأدلة المتفق عليها
وعلى قوتها والاعتماد عليها ، وحينئذ فلا بد في كل فرد ادعى فيه جواز الشفعة من
دليل واضح من الكتاب أو السنة أو الإجماع الذي يعتمدونه ، ليمكن الخروج به عما
اقتضته هذه الأدلة المذكورة.
وغاية ما وجد
في الاخبار بالنسبة الى هذه المسألة هو جواز الشفعة بالانتقال بالبيع خاصة ، ومدعى
الجواز في الانتقال بغيره عليه الدليل ، ليخرج عن عموم تلك الأدلة القاطعة المانعة
من جواز التصرف في مال الغير إلا باذنه ،
وبذلك يظهر لك
في ما كلام شيخنا المذكور من القصور ، حيث أنه أنما مال الى مذهب ابن الجنيد ،
لعدم الدليل على التخصيص بالبيع ، ومجرد ورود الروايات بالبيع لا يقتضي التخصيص به
، وغفل عن أن الشفعة إنما خرجت على خلاف الأصول المقررة ، والقواعد المعتبرة كتابا
وسنة وإجماعا ، فيجب الاقتصار في ثبوتها على موارد الأدلة كما قرروه في غير مقام.
والتمويه هنا
بهذه الحكمة التي يدعونها لم نقف عليه في خبر من الاخبار ، وانما استنبطوها من
أخبار الشفعة الواردة في البيوع ، وعلى تقدير حكم الشارع بالشفعة في البيع لدفع
الضرر عن الشريك ، فالتعدية الى غير البيع قياس محض ، لان هذه العلة مخصوصة بصورة البيع
، وحمل غيره عليه قياس محض ، إذ يمكن أن يكون للبيع خصوصية في ذلك لا نعلمها ،
فكيف يمكن التعدية بمجرد ذلك.
وبالجملة فإن
التمسك بذلك في مقابلة ما ذكرنا من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة مجازفة محضة
هذا.
وأما الاخبار
الدالة على ما هو المشهور والمؤيد المنصور فمنها ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبى
بصير عن أبى جعفر عليهالسلام «قال سألته عن رجل تزوج امرأة على بيت في دار له ، وله في تلك الدار شركاء
قال : جائز له ولها ، ولا شفعة لأحد من الشركاء عليها».
ووصف هذه
الرواية في المسالك بالصحة ، مع أن أبا بصير فيها مشترك ، ولا قرينة تعين كونه
المرادي الثقة ، ومن قاعدتهم عدها في الضعيف ، وهي واضحة في رفع ما ادعوه من
الحكمة الموجبة للعموم في جميع الانتقالات ، ومنها
رواية الغنوي
المتقدمة في المقصد الأول وقوله فيها «الشفعة في البيوع إذا كان شريكا فيها فهو
أحق بها من غيره بالثمن».
ومنها مرسلة
يونس المتقدمة ثمة أيضا وفيها «الشفعة جائزة في كل شيء من
__________________
حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشيء بين شريكين لا غير ، فباع أحدهما
نصيبه» الحديث.
ومنها روايتا
منصور بن حازم المتقدمتان في الشرط الأول من هذا المقصد فان موردهما البيع ، الى غير ذلك من الاخبار.
الثالث من
الشروط المعتبرة في الشفعة : أن لا يكون الشريك أكثر من واحد على المشهور ، واليه
ذهب الشيخان والمرتضى وأتباعهم ، حتى ادعى ابن إدريس عليه الإجماع ، ونقل في
المختلف عن الشيخين ، وعلى بن بابويه ، والسيد المرتضى وسلار ، وأبى الصلاح ، وابن
البراج ، وابن حمزة ، والطبرسي ، وابن زهرة ، وقطب الدين الكيدري ، وابن إدريس ،
ونقله في المختلف أيضا عن والده.
والصدوق في
المقنع وافق المشهور ، ونسب ثبوتها مع الكثرة إلى الرواية وفي الفقيه ذهب الى
ثبوتها مع الكثرة في غير الحيوان ، فإنه روى فيه رواية طلحة بن زيد الدالة على ثبوت الشفعة على عدد الرجال ، ثم قال بعد
نقل روايات في البين : «وسئل الصادق عليهالسلام عن الشفعة لمن هي وفي أي شيء هي؟ وهل تكون في الحيوان
شفعة؟ قال : الشفعة واجبة في كل شيء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشيء بين
شريكين لا غيرهما فباع أحدهما نصيبه ، فشريكه أحق به من غيره ، فإذا زاد على
الاثنين فلا شفعة لأحد منهم».
ثم قال : قال
المصنف هذا الكتاب : يعنى بذلك الشفعة في الحيوان وحده فاما في غير الحيوان
فالشفعة واجبة للشركاء ، وان كان أكثر من اثنين ، وتصديق ذلك ما رواه أحمد بن محمد
بن ابى نصر عن عبد الله بن سنان قال : «سألته عن مملوك». ثم ساقه كما سنذكره هنا إنشاء
الله تعالى.
وذهب ابن
الجنيد الى ثبوتها مع الكثرة مطلقا ، وقواه العلامة في المختلف بعد ذهابه الى المشهور
، وخطأ ابن إدريس في دعواه الإجماع ، ونقل المحقق
__________________
قولا بثبوتها مع الكثرة في غير العبد.
أقول : والأصل
في هذا الخلاف اختلاف الاخبار في هذه المسألة فمما يدل على القول المشهور ما رواه في
الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «لا تكون الشفعة إلا لشريكين ما لم يتقاسما ،
وإذا صاروا ثلاثة فليس لواحد منهم شفعة».
وعد هذه
الرواية في المسالك صحيحة ، مع أن في سندها محمد بن عيسى عن يونس ، وهو يعد هذا
السند دائما في الضعيف ، فوصفه هنا بالصحة غفلة منه (قدسسره).
ومنها مرسلة
يونس المتقدمة وهي التي ذكرها الصدوق هنا مرسلة عنه عليهالسلام «وفيها والشفعة جائزة في كل شيء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشيء
بين شريكين لا غير ، فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره ، فإذا زاد على
الاثنين فلا شفعة لهم».
وما رواه في
التهذيب عن عبد الله بن سنان في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه ، فقال
أحدهما : أنا أحق به إله ذلك؟ قال : نعم إذا كان واحدا».
ومنها ما رواه في
الفقيه في الصحيح عن البزنطي عن عبد الله بن سنان قال : «سألته عن مملوك بين شركاء أراد أحدهم بيع نصيبه
قال : يبيعه ، قلت : فإنهما كانا اثنين فأراد أحدهما بيع نصيبه فلما أقدم على
البيع قال له شريكه : أعطني قال : أحق به ، ثم قال عليهالسلام : لا شفعة في حيوان الا أن يكون الشريك فيه واحدا».
__________________
وما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح والحسن أو الصحيح عن الحلبي عن أبى عبد الله (عليهالسلام) «أنه قال في المملوك يكون بين الشركاء فيبيع أحدهم
نصيبه فيقول صاحبه : أنا أحق به إله ذلك ، قال : نعم إذا كان واحدا ، قيل له : في
الحيوان شفعة؟ قال : لا».
وفي كتاب الفقه
الرضوي قال (عليهالسلام): «وروى أن الشفعة واجبة في كل شيء من الحيوان أو
العقار والرقيق إذا كان الشيء بين شريكين فباع أحدهما فالشريك أحق به من الغريب ،
وإذا كان الشركاء أكثر من اثنين فلا شفعة لواحد منهم».
وأما ما يدل
على الشفعة مع الكثرة فمنه ما رواه في التهذيب والفقيه عن السكوني «عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) عن على (عليهالسلام) قال : الشفعة على عدد الرجال».
وما رواه في
الفقيه عن طلحة بن زيد «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهمالسلام قال : قال على (عليهالسلام) : الشفعة على عدد الرجال».
هذا ما حضرني
من روايات هذا الحكم ، والشيخ قد حمل الروايتين الأخيرتين على التقية ، قال ،
لموافقتهما بعض العامة وهو جيد ، ويؤيده أن رواتهما من رجال العامة ، وأنت خبير
بأنه مع قطع النظر عن ذلك ، فان هاتين الروايتين لا يبلغ قوة في معارضة الأخبار
المتقدمة ، ومن قواعدهم أنهم لا يجمعون بين الاخبار الا مع المعارضة ، والا فإنهم
يطرحون المرجوح منها.
__________________
وأما جمع
الصدوق في الفقيه بينها بحمل الأخبار الدالة على التخصيص بالاثنين على الحيوان
خاصة ، وجواز الشفعة مع الكثرة في غيره.
فيرده تصريح
جملة من الاخبار الدالة على اشتراط كونها اثنين في غير الحيوان ، مثل مرسلة يونس ،
ورواية كتاب الفقه الرضوي ، وهو معتمد عليه عنده ، وقد أكثر الإفتاء بعبائره في
كتابه كما قدمنا ذكره ، سيما في كتب العبادات.
وأما قوله في
ما تقدم نقله عنه بعد إيراد مضمون مرسلة يونس : يعنى بذلك الشفعة في الحيوان وحده»
فهو عجيب من مثله (قدسسره) فان سياق كلامه عليهالسلام أن الشفعة واجبة في كل شيء من حيوان أو أرض أو متاع
بشرط أن يكون ذلك الشيء بين اثنين لا أزيد ، فأي مجال هنا للتخصيص بالحيوان كما
زعمه ، على أن المتبادر من الحيوان في هذه الروايات انما هو الحيوان الغير الأناسي
، كما هو صريح صحيحة الحلبي ، حيث صرح فيها باشتراط الاثنينية في المملوك ، وأنه
لا يجوز الشفعة فيه الا بذلك ، ثم نفى الشفعة عن الحيوان ، وحينئذ فيكون الروايات
الدالة على اشتراط الاثنينية في العبد مخالفة لما ذكره.
وبالجملة
فالأظهر عندي هو القول المشهور ، وحمل خبري السكوني وطلحة بن زيد على التقية. نعم
ربما أوهم الدلالة على هذا القول روايتا منصور بن حازم المتقدمتان ، مع اعتبار
إسناديهما كما أشرنا إليه آنفا.
ومثلهما رواية
عقبة بن خالد عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قضى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، بالشفعة بين الشركاء». وتوجيه الاستدلال بهذه الأخبار
بأنها وردت بلفظ الجمع في الشركاء ، وأقله ثلاثة ، وكذا لفظ القوم في إحدى روايتي
منصور بن حازم وأجاب الشهيد في الدروس عن روايتي منصور بالحمل على التقية ، قال :
لموافقتهما لمذهب العامة ، وهو جيد.
ويمكن الجواب
أيضا بحمل الجمع على الاثنين ، فإنه وان كان مجازا على
__________________
المشهور بين الأصوليين ، الا أنه لا بأس به في مقام الجمع بين الاخبار ،
واليه يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، ونقله أيضا عن الاستبصار ، قال
: فإنه يصح إطلاق الجمع على الاثنين بل على الواحد ، كالقوم ، وان كان مجازا ،
لجمع بين الأدلة ، ثم ذكر الحمل على التقية أيضا.
أقول : ويؤيده
ما قدمنا نقله عن كتاب الفقه الرضوي ، حيث أن ظاهر عبارته كون الشريك في هذه
الصورة المفروضة في هذا الخبرين واحدا ، كما قدمنا الإشارة إليه.
ثم أقول : لا
يخفى أن ما قدمناه في سابق هذا الشرط من التحقيق ، وأن الأصل ـ بمقتضى الأدلة
العقلية والنقلية كتابا وسنة والإجماع ـ هو عدم جواز الشفعة التي هي عبارة عن
التصرف في مال الغير بغير اذنه ، فيتوقف الخروج عن هذا الأصل الأصيل على دليل واضح
صريح صحيح في جواز الشفعة ، والذي دلت عليه الاخبار المعتمدة بصريحها هو التخصيص
بصورة ما إذا كانا اثنين خاصة.
وما دل على
أكثر ، لتطرق الاحتمال اليه بالحمل على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية
أصل كل بلية ، واحتمال الحمل على التجوز الذي هو باب واسع في الآيات والروايات ،
وكلام البلغاء لا يمكن الخروج به عن ذلك الأصل المشار اليه.
وما ادعاه في
المسالك ـ من أن روايات هذا القول أكثر وأوضح دلالة وأن رواية منصور أصح طريقا ـ ففيه
أنه لم يورد من روايات القول المشهور إلا رواية عبد الله بن سنان ـ التي قدمنا
النقل عنه أنه وصفها بالصحة ـ ومرسلة يونس ، والحال كما عرفت أن دليل القول
المشهور هو جملة الروايات التي قدمناها ، وهي أكثر عدوا وأصرح دلالة ، وفيها جملة
من الصحاح ، وما ذكره من صحة صحيحة منصور مسلم ، لكنها غير صريحة ، لما عرفت من
تطرق الاحتمالات إليها ، بخلاف تلك الروايات.
وكيف كان فإنه
ينبغي أن يستثني المملوك من محل الخلاف ، لما تضمنه
جملة من الاخبار الصحيحة الصريحة في اشتراط وحدة الشريك في صحة الشفعة فيه
، ويجعل محل الخلاف فيما عداه ، وبه يظهر قوة القول الذي نقله المحقق كما قدمنا
ذكره في جملة أقوال المسألة : والله العالم.
تنبيه : قال في
المسالك ـ بعد تمام البحث في المسألة المذكورة ـ : إذا عرفت ذلك فقد اختلف
القائلون بثبوتها مع الكثرة ، هل هي على عدد الرؤوس ، أو على قدر السهام ، صرح
الصدوق بالأول ، ونقله الشيخ عنهم مطلقا ، وقال ابن الجنيد : الشفعة على قدر
السهام من الشركة ، ولو حكم بها على عدد الشفعاء جاز ، ويدل على الأول رواية طلحة
بن زيد «أن عليا (عليهالسلام) قال : الشفعة تثبت على عدد الرجال».
أقول : ومثلها
رواية السكوني أيضا كما تقدم ، وبه يظهر رجحان هذا القول على تقدير العمل بروايات
الكثرة ، إلا أنك قد عرفت حمل الخبرين المذكورين على التقية ، والكلام في هذا
الفرع لا محصل له على ما اخترناه.
الرابع ـ ما
ذكره جملة من المتأخرين كالعلامة في الإرشاد من أن من شروط الشفعة أن يكون مما
يمكن قسمته ، ونقل عنه في التذكرة أن هذا شرط عند أكثر علمائنا.
أقول : قد عرفت
في صدر المقصد الأول الخلاف في هذا المقام ، وأن المشهور بين المتقدمين وجملة من
المتأخرين هو ثبوتها في كل مبيع منقول أو غيره قابل للقسمة أم لا ، فلعل ما نقل عن
التذكرة من نسبة هذا القول الى أكثر علمائنا يعنى المعاصرين له ، والا فإن ابن
إدريس ومن تقدم كما تقدم ذكره انما هم على خلاف ذلك ، وشهرة هذا القول بين
المتأخرين كما تقدم نقله عنهم انما وقع بعد العلامة.
وبالجملة فإن
نسبته الى أكثر علمائنا لا يخلو من الاشكال لما عرفت ، وتحقيق الكلام في هذا الشرط
قد تقدم في المقصد الأول .
__________________
المقصد الثالث في الشفيع
قالوا : وهو كل
شريك بحصة مشاعة قادر على الثمن ، ويشترط فيه الإسلام إذا كان المشترى مسلما.
أقول. وتفصيل
هذه الجملة يقع في مواضع الأول ـ قد عرفت في الشرط الأول من المقصد الثاني أن من
شروط الشفعة الشركة بحصة مشاعة ، فلا شفعة فيما قسم ، ولا في الجوار الا فيما تقدم
من صورة الاشتراك في الطريق ، كما تقدم تحقيقه.
الثاني ـ قالوا
: المراد بالقادر على الثمن ما يشمل القدرة بالفعل أو القوة ، ليدخل فيه الفقير
القادر على دفعه ولو بالاقتراض ، واستشكلوا في المماطل والهارب ، لصدق القدرة
عليهما بالفعل ، فضلا عن القوة ، فتصح الشفعة بناء على ذلك الحكم ، الا ان اللازم
من ذلك الضرر على المشترى ، والظاهر كما استظهره المحقق الأردبيلي عدم صدقه عليهما
، لأنهما في قوة العاجز عن الثمن بل أقبح ، ومن هنا قالوا : لو ماطل القادر على
الأداء بطلت الشفعة ، قالوا : ولو ادعى غيبة الثمن فان ذكر أنه ببلده ، أخر ثلاثة
أيام من وقت حضوره للأخذ ، وان ذكر أنه ببلد آخر أجل بمقدار ذهابه اليه وأخذه
وعوده وثلاثة أيام.
والذي وقفت
عليه من الاخبار هنا ما رواه الشيخ في التهذيب عن على بن مهزيار في الحسن قال : «سألت أبا جعفر الثاني عليهالسلام عن رجل طلب شفعة أرض فذهب على أن يحضر المال فلم ينض ،
فكيف يصنع صاحب الأرض ان أراد بيعها أيبيعها أو ينتظر مجيء شريكه صاحب الشفعة؟
قال : ان كان معه في المصر فلينتظر به ثلاثة أيام ، فإن أتاه بالمال والا فليبع
وبطلت شفعته في الأرض ، وان طلب الأجل لي أن يحمل المال من بلد الى بلد آخر
فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل الى تلك البلدة وينصرف ، وزيادة ثلاثة أيام إذا
قدم ، فان وافاه وإلا فلا شفعة له».
__________________
وأنت خبير بأن
مورد الرواية المذكورة انما هو الشفعة قبل البيع ، وأن الذي ينتظر الشريك الذي
يريد أن يبيع لا المشترى ، والأصحاب قد استدلوا بها على الشفعة بعده ، ولعلهم
قاسوا حال المشترى على البائع ، وهو مشكل ،
وأيضا فظاهر
الخبر الجواز ، أعم من أن يكون في ذلك ضرر أم لا ، وهم قد قيدوا الجواز بعدم الضرر
، وكأنهم قيدوا الخبر بذلك ، لأنه منفي بالعقل والنقل وحينئذ فلو كان البلد بعيدا
جدا ويتضرر بالتأخير فلا شفعة ، وما ذكره المحقق الأردبيلي (قدسسره) من المناقشة هنا الظاهر ضعفه .
الثالث لا خلاف
بين الأصحاب كما نقله في المختلف في الثمن إذا كان من ذوات الأمثال تثبت الشفعة ،
إنما الخلاف فيما إذا كان من ذوات القيم ، فذهب الشيخ في الخلاف الى بطلان الشفعة
، ونقله في المبسوط عن بعض أصحابنا ، وهو منقول أيضا عن الطبرسي وابن حمزة ،
واختاره العلامة في المختلف .
__________________
وقال الشيخ :
بصحة الشفعة ، وأنه يأخذ بقيمته ، وبه قال المفيد ، وأبو الصلاح وابن إدريس ،
والمحقق في النافع ، والأقرب الأول تمسكا بما ذكرنا من الأصل المتقدم ذكره حتى
يقوم الدليل على جواز الشفعة في موضع البحث ، ويدل عليه أيضا ما رواه الشيخ في
التهذيب عن ابن رئاب «عن أبى عبد الله عليهالسلام في رجل اشترى دارا برقيق ومتاع وبز وجوهر قال : ليس
لأحد فيها شفعة».
استند أصحاب
القول الثاني إلى عموم ثبوت الشفعة ، وفيه أن العموم مخصص بما ذكرناه من الدليل.
الرابع : هل
يدخل الموقوف عليه فيمن يجوز له الأخذ بالشفعة أم لا؟ وتوضيح ذلك أنه إذا كان بعض
الدار أو الأرض وقفا والبعض الأخر طلقا ، فان بيع الوقف على وجه يصح بيعه فالظاهر
أنه لا إشكال في أن للشريك وهو صاحب الطلق الشفعة ، لوجود المقتضى وعدم المانع.
إنما الاشكال
والخلاف فيما إذا بيع الطلق ، وقال السيد المرتضى (رضى الله عنه) : لإمام المسلمين
وخلفائه المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين ، أو على المساجد
ومصالح المسلمين ، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصى وولى ، له أن يطالب بشفعته.
وقال الشيخ في المبسوط : إذا كان نصف الدار وقفا ونصفها طلقا فبيع
الطلق
__________________
لم يستحق أهل الوقف الشفعة بلا خلاف ، وتبعه المحقق في الشرائع والشهيد في
الدروس.
وقال ابن إدريس
: ان كان الموقوف ، عليه واحدا صحت الشفعة ، والا فلا ، واختاره العلامة في
المختلف واحتج عليه بأنه مع الاتحاد يصدق شريك واحد في بيع ، فكان له الشفعة
كالطلق ، ثم نقل عن الشيخ الاحتجاج بعدم انحصار الحق في الموقوف عليه ، وبعدم
الانتقال اليه.
قال : والجواب
المنع من المتقدمتين وهذا القول هو المشهور بين المتأخرين ، والظاهر أن الخلاف
المذكور مبنى على أنه هل ينتقل الوقف الى الموقوف عليه مطلقا ، أو مع اتحاده ، أو
لا مطلقا؟ فيرجع كل من الأقوال الثلاثة الى ذلك ، الا أن الشهيد في الدروس ـ مع
اختياره في الوقف انتقاله الى الموقوف عليه ـ حكم هنا بعدم الشفعة ، معللا بنقص
الملك ، بمعنى أن تملك الموقوف عليه تملك ناقص ، ولهذا لا ينفذ تصرفه فيه ، فلا
يتسلط على الأخذ بالشفعة.
وأورد عليه بأن
المعتبر في ثبوتها ، الشركة المتحققة بالملك في الجملة ، نقصه بالحجر على المالك
في التصرف لا ينافي كونه مالكا ، ومن ثم ثبتت لغيره ممن يجرى عليه في التصرف. أقول
: والمسألة لعدم النص في محل الاشكال. والله العالم.
الخامس ـ قد
صرح جملة من الأصحاب : بأنه يشترط في الشفيع الإسلام إذا كان المشترى مسلما ،
قالوا : لان الشفيع انما يأخذ من المشترى قهرا وأخذه منه على وجه القهر سبيل على
المسلم ، وهو منفي بقوله عزوجل «وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً».
وفيه أن المراد
من الآية المذكورة كما قدمناه في كتاب البيع انما هو السبيل من جهة الحجة ، كما
ورد به النص في تفسيرها عنهم عليهمالسلام وان كانوا (رضوان الله
__________________
عليهم) قد أكثروا من الاستدلال بها في مثل هذا الموضع.
نعم يدل على
ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني عن أبى عبد الله عليهالسلام ، ورواه في الفقيه مرسلا عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «ليس لليهود ولا للنصارى شفعة».
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه «ولا شفعة ليهودي ولا نصراني ولا مخالف». وهو صريح في عدم جواز الشفعة
للمخالف ، وفيه رد على من حكم بإسلام المخالفين من أصحابنا (رضوان الله عليهم) فان
الظاهر منهم بناء على حكمهم بإسلام المخالفين ، ثبوت الشفعة لهم ، وأما من يحكم من
أصحابنا بكفرهم كما هو المشهور بين المتقدمين فلا ، وكلامه عليهالسلام هنا مؤيد لذلك ، وفي التقييد في نفى شفعتهم بكون
المشترى مسلما إشارة إلى أنه لو كان المشترى منهم فلهم الشفعة ، وهو كذلك بغير
خلاف ، وعليه يحمل إطلاق الخبرين المذكورين ايضا والله العالم.
السادس ـ قد
تقدم اشتراط قدرة الشفيع على الثمن ، وحينئذ فلو كان عاجزا عن الثمن فلا شفعة له ،
ويتحقق العجز باعترافه بذلك ، والظاهر أن المراد بالعجز ما هو أعم من إعساره عن
الثمن ، والعجز عن تحصيله ، ولو على جهة القرض ، بمعنى أنه عاجز عن تحصيله بكل وجه
من الوجوه ، لما تقدم من أن المراد بالقدرة ما هو أعم من أن يكون بالفعل أو القوة
، فيدخل فيه الفقير القادر على القرض.
وبذلك يظهر لك
ما في كلامه في المسالك حيث قال ـ بعد أن حكم بتحقق العجز باعترافه : وفي تحققه
بإعساره وجهان : أجودهما العدم ، لإمكان تحصيله
__________________
بقرض ونحوه ، مع أنه سابقا فسر القدرة بما ذكرناه ، من أنها أعم من القادر
بالفعل أو القوة ، ليدخل الفقير القادر على القرض.
وحينئذ فإذا
كان الفقير القادر على القرض داخلا في القادر على تحصيل الثمن. فلا معنى للتردد في
تحقق العجز بالإعسار حتى أنه يتردد هنا في ذلك ، ثم يقول : والأجود العدم ، بل
مقتضى ما قدمه أن المعسر ليس بعاجز ، لإمكان تحصيله بالقرض فلا وجه للتردد
بالكلية.
ثم أنه حكم في
المسالك بأن المعسر ينظر ثلاثة أيام كمدعي غيبته ، وفيه إشكال فإنه مع تسليم دلالة
الرواية على ما ادعاه ـ مع ما عرفت آنفا من أن موردها انما هو الشفعة قبل البيع ،
فهي خارجة عن محل البحث ، ومحض قياس ، فان مورد النص بناء على ما يدعيه غيبة الثمن
، فإلحاق المعسر به قياس محض.
نعم يمكن أن
يقال : ان الرواية ليست صريحة في أن التأخير من حيث غيبة المال ، بمعنى أن المال
موجود ولكنه غير حاضر ، بل الظاهر منها ما هو أعم من ذلك ومن عدمه بالكلية ، لأنه
قال فيها : «مذهب على أن يحضر المال فلم ينض » اى لم يحصل فجوز عليهالسلام له النظرة إلى ثلاثة أيام ، وظاهر عدم الحصول هو المعنى
الثاني الذي ذكرناه.
ثم انهم حكموا
بأن المماطل والهارب كالعاجز لا شفعة بهما ، والمراد بالمماطل هو القادر على الثمن
ولا يؤدى ، قال في المسالك : ولا يشترط فيه مضى ثلاثة أيام ، لأنها محدودة للعاجز
، ولا عجز هنا ، ويحتمل الحاقه به بظاهر رواية على بن مهزيار عن الجواد (عليهالسلام) بانتظاره ثلاثة أيام حيث لم ينض الثمن. انتهى.
__________________
وفيه ما عرفت
آنفا ثم قال : وأما الهارب فان كان قبل الأخذ فلا شفعة له ، لمنافاته الفورية على
القول بها ، وان كان بعده ، فللمشتري الفسخ ، ولا يتوقف على الحاكم لعموم «لا ضرر
ولا ضرار».
السابع قد صرح
الأصحاب بثبوت الشفعة للغائب والصبي والمجنون ، ويتولى الأخذ وليهما مع الغبطة.
أقول : ويدل
عليه بالنسبة إلى الغائب والصبي ما رواه المشايخ الثلاثة عن أبى عبد الله (عليهالسلام) اما الكليني والشيخ فبطريق السكوني المتقدم في الموضع الخامس ، وأما الصدوق فبالإرسال عنه (عليهالسلام) في حديث قد تقدم ذكره في الموضع المشار اليه قال : «قال
أمير المؤمنين عليهالسلام : وصى اليتيم بمنزلة أبيه يأخذ له الشفعة ، إذا كان له
فيه رغبة : وقال : للغائب شفعة» . وكأنهم حملوا المجنون على الصبي ، الا أن ظاهر كلامهم
أن ثبوت هذا الحكم لهؤلاء انما هو بالأدلة العامة ، دون هذه الرواية.
قال في المسالك
ـ بعد ذكر المصنف ثبوتها للغائب والسفيه والمجنون والصبي ـ ما صورته : لا شبهة في
ثبوتها لمن ذكر لعموم الأدلة المتناولة للمولى عليه وغيره ، وهو جيد ، مؤيد
بالرواية المذكورة ، وحينئذ فثبوت الشفعة للغائب بعد حضوره وان طال زمان الغيبة
فيتولى الشفعة بنفسه.
قالوا : ولو
تمكن من المطالبة في الغيبة بنفسه أو وكيله فكالحاضر ، وفي حكمه المريض الذي لا
يتمكن من المطالبة ، وكذا المحبوس ظلما أو بحق يعجز عن أدائه ، وفيه توقف ، وأما
الصبي والمجنون والسفيه فيطالب لهم الولي مع الغبطة كما أشار إليه في الرواية ،
لقوله «إذا كان له فيه رغبة» والظاهر أنه لو ترك الولي
__________________
الأخذ مع الغبطة لم يسقط حقهم من الشفعة ، بل لهم الأخذ بها بعد زوال
المانع لأن التأخير وقع لعذر كالغائب.
الثامن ـ لا
إشكال في أن لولي اليتيم أن يبيع ماله لمصلحته ، كالإنفاق عليه ونحوه ، سواء كان
أبا أو جدا أو وصيا ، انما الكلام في ثبوت الشفعة للولي إذا كان شريكا لليتيم في
ذلك الشقص ، فقيل : لا يصح بالشفعة مطلقا ، لرضا الولي بالبيع فإنه مسقط للشفعة
وان كان قبل العقد ، وبه صرح العلامة في المختلف.
وفصل الشيخ في
المبسوط فقال : إذا باع ولى اليتيم حصته من المشترك بينه وبينه ، لم يكن له الأخذ
بالشفعة ، الا أن يكون أبا أو جدا ، لأن الوصي متهم ، فيؤثر تقليل الثمن ، ولانه
ليس له أن يشترى لنفسه ، بخلاف الأب والجد ، فإنهما غير متهمين ، ولهما أن يشتريا
لأنفسهما.
وما ذكره الشيخ
هنا من أنه ليس للوصي أن يشترى لنفسه كالأب والجد منعه العلامة في المختلف ، فقال
: ويجوز عندنا أن يشترى الوصي لنفسه كالأب والجد.
وظاهر المحقق
في الشرائع القول بالجواز مطلقا ، وظاهره في المسالك الميل اليه ، حيث أنه قرره
وأوضحه ، ولم يتعرض عليه ، فأجاب عن إبطال الشيخ شفعة الوصي بالتهمة ، بأن المفروض
وقوع البيع على الوجه المعتبر ، وأجاب عن تعليل العلامة البطلان برضا الولي ، فقال
: ولا يتم أن الرضا بالبائع قبله يسقط الشفعة ، لأن ذلك تمهيد للأخذ بالشفعة وتحقيق
لسببه ، فلا يكون الرضا به مسقطا لها ، إذ الرضا بالسبب من حيث هو سبب يقتضي الرضا
بالمسبب ، فكيف يسقطه ،
والمسألة
لخلوها عن النص محل اشكال ، ومرجع قول المحقق الى تفريع الأخذ بالشفعة على جواز
الشراء ، ولا يخلو من قرب والله العالم.
المقصد الرابع في كيفية الأخذ بالشفعة
وفيه مسائل الاولى
ـ الظاهر أنه لا خلاف كما نقله في المسالك في أنه لو اشتمل البيع المشفوع على خيار
وكان الخيار للمشتري فإن للشفيع الشفعة بنفس العقد ، ولا يتوقف على انقضاء الخيار
، قالوا : لان انتقال الملك عن البائع يحصل بالعقد من غير توقف على انقضاء الخيار
، والشفعة مترتبة على صحة البيع والانتقال إلى المشتري ليؤخذ منه.
وظاهرهم سقوط
خياره ، لانتفاء الفائدة من فسخه ، لان غرضه على تقدير الفسخ حصول الثمن ، وقد حصل
من الشفيع بالشفعة ، فلا ثمرة تترتب على فسخه ، بخلاف فسخ البائع ، لأن غرضه
الرجوع الى المبيع.
وأما لو كان
الخيار للبائع أولهما ، أو للبائع وأجنبي ، فإن قلنا بانتقال المبيع بنفس العقد
كما هو الأشهر الأظهر ، ثبتت الشفعة ، لحصول المقتضى ، وهو البيع الناقل للملك مع
وجود الشريك ، وانتفاء المانع ، إذ ليس الا الخيار وهو غير صالح للمانعية ، لأن غايته
كون العقد بسبب الخيار متزلزلا ، ولم يثبت كونه مؤثرا في المنع ، وان لم نقل
بالانتقال بنفس العقد ، بل يتوقف على مضى الخيار ، كما هو قول الشيخ ، فلا شفعة
حتى ينقضي الخيار ، لأن الشفعة مترتبة على الانتقال والملك ، وهو لا يحصل الا بعد
مضى الخيار.
ثم انه على
تقدير القول المشهور من الانتقال بنفس العقد ، فهل يسقط خيار البائع بالأخذ
بالشفعة؟ لانتقال الملك عن المشتري ، لأن البائع إذا فسخ انما يرجع على المشترى ،
والحال أن المبيع قد خرج عن ملك المشترى ، وصار الى مالك آخر أم لا يسقط؟ لأن
الأصل بقاء الخيار ، فان فسخ البائع أو ذو الخيار بطلت الشفعة ، وان لم يفسخ حتى
انقضت مدة الخيار ثبتت الشفعة ، قولان : وثانيهما لا يخلو من قوة ، وهو اختياره في
المسالك.
بقي هنا شيء
ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن ما ذكرنا من التفصيل من كون الخيار
للمشتري أو للبائع ، وأنه على الأول ينتقل المبيع إلى المشتري ، بخلاف
الثاني لما فيه من الخلاف ، صرح به الشيخ في الخلاف والمبسوط في باب الشفعة ، مع
أنه في الخلاف في باب الخيار من كتاب البيع قال : انه إذا كان الخيار للمشتري وحده
زال ملك البائع عن الملك بنفس العقد ، لكنه لم ينتقل إلى المشتري حتى ينقضي الخيار
فإذا انقضى ملك المشترى بالعقد الأول.
ومقتضى هذا
الكلام التسوية عنده بين البائع والمشترى في عدم ثبوت الشفعة مع الخيار مطلقا ،
لعدم انتقال الملك إلى المشترى ، والشفعة متوقفة على ذلك كما اعترف به هو وغيره ،
الا أنه لما كان هذا القول لم يقل به غيره ـ مع موافقته في باب الشفعة من الخلاف
والمبسوط على ما قدمنا نقله عنه ـ لم يتحقق الخلاف في المسألة زيادة على ما قدمناه
من التفصيل
الثانية ـ لا
يخفى أن مقتضى الأدلة الدالة على الشفعة ، هو استحقاق الشفيع لمجموع الشقص المشترك
إذا أخذه بالشفعة ، وأن ذلك حقه شرعا ، وحينئذ فهل له تبعيض حقه بأن يشفع في بعضه
ويترك بعضا أم لا؟ ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف هو الثاني ، لما في التبعيض من
الإضرار بالمشتري ، ولا يناسب بناء الأخذ بالشفعة الذي شرع لدفع الإضرار على
الإضرار.
والأظهر في
تعليل ذلك انما هو ما قدمناه من أن الأصل بمقتضى الأدلة العقلية والنقلية كتابا
وسنة هو عدم الأخذ بالشفعة ، فيقتصر في جواز الأخذ بها على ما قام عليه الدليل ،
والاخبار الواردة بالشفعة على كثرتها وتعددها انما وردت باعتبار المجموع ، وما
عداه تبقى صحته موقوفة على الدليل.
ومما فرعوه على
ذلك أنه لو قال : أخذت نصف الشقص بناء على اعتبار وجوب الفورية ، بطلت شفعته ، لأن
المأخوذ لا تصح الشفعة فيه لما عرفت ، وأما الباقي فإن ظهر منه إسقاط حقه منه
فظاهر ، والا فقد حصل التراخي الموجب لفوات الفورية ، وحينئذ فتبطل الشفعة في
الجميع.
وربما قيل
بالصحة في الجميع إذا وقعت الشفعة على الوجه المذكور نظرا
الى أن أخذ البعض يستلزم أخذ الجميع لعدم صحة أخذه وحدة ، وضعفه ظاهر ،
لمنع الاستلزام ، وجواز تعلق الغرض بالبعض خاصة.
الثالثة ـ مقتضى
الأدلة وبه صرح الأصحاب أنه يأخذه بالثمن الذي وقع العقد عليه وان كان قيمة الشقص
المشفوع في حد ذاته أكثر أو أقل ولا يلزمه ما يغرمه المشترى من المؤن كأجرة الدلال
والوزان ونحو ذلك ، والمراد من أخذه بالثمن يعنى مثله ، لعدم إمكان الأخذ به نفسه
غالبا.
الرابعة ـ يدفع
الشفيع مثل الثمن لو كان الثمن مثليا كالذهب والفضة بلا خلاف ، وانما الخلاف فيما
لو كان قيميا كالحيوان والثوب والجواهر ونحوها ، فهل تصح الشفعة أم لا؟ وقد تقدم
نقل الخلاف المذكور في الموضع الثالث من سابق هذا المقصد وذكرنا أن الأقرب العدم ، الا أن لشيخنا الشهيد الثاني
هنا في المسالك كلاما يتضمن نصرة القول بالصحة لم ننقله فيما سبق ، ولا بأس بنقله
، وبيان ما فيه.
قال بعد الطعن
في رواية ابن رئاب المتقدمة : ودلالته على موضع النزاع ممنوعة ، فان نفى الشفعة
أعم من كونه بسبب كون الثمن قيميا أو غيره ، إذ لم يذكر أن في الدار شريكا ، فجاز
نفى الشفعة لذلك عن الجار وغيره ، أو بكونها غير قابلة للقسمة أو لغير ذلك.
وبالجملة فإن
المانع من الشفعة غير مذكور وأسباب المنع كثيرة فلا وجه لحمله على المتنازع أصلا ،
والعجب مع ذلك من دعوى أنها نص في الباب ، مع أنها ليست من الظاهر فضلا عن النص
انتهى.
أقول : لا يخفى
على المتدرب في الصناعة ، والمتأمل في الاخبار بعين التدبر والاعتبار أن الأجوبة
فيها انما تخرج على وفق ما يفهم من الاسؤلة وما يظهر منها.
ومن الظاهر أن
السؤال في الرواية المشار إليها انما أريد به من حيث الشراء
__________________
بذلك الثمن ، وأنه هل يجوز الشفعة إذا كان الشراء بهذا الثمن أم لا؟ ولو
كان المراد من السؤال معنى آخر من كون الدار لا شريك فيها ، وأن المراد نفى الشفعة
بالجوار لما كان لذكر القيمة وجه بالكلية ، ولكان حق السؤال التصريح بذلك ، وأن
يؤتى بعبارة تؤدي هذا المعنى ، والا فإن فهمه من عبارة الخبر انما هو من قبيل
التعمية ، والألغاز الذي هو بعيد عن الحقيقة بمراحل بل المجاز.
وبالجملة فإن
غاية ما يتعلق به هنا هو إطلاق الشفعة في الدار من غير تصريح بكونها مشتركة ، ومثل
هذا الإطلاق في الاخبار أكثر كثير ، اعتمادا على قرائن الحال وقت السؤال ، كما لا
يخفى على الناظر فيها ، وسياق السؤال في الخبر المذكور ظاهر فيما قلناه ، وهو الذي
فهمه من عداه من الأصحاب كالشيخ والعلامة وغيرهما.
واستدل جملة من
الأصحاب منهم العلامة في المختلف على المنع أيضا بحسنة هارون بن حمزة الغنوي
المتقدمة ، بقوله فيها «وهو أحق بها من غيره بالثمن» وهو انما يتحقق في المثلي ،
لأن الحقيقة غير مرادة إجماعا ، فيحمل على أقرب المجازات إلى الحقيقة وهو المثل.
ثم انه على
تقدير القول بثبوت الشفعة مع كون الثمن قيميا فهل المعتبر قيمته وقت العقد؟ لانه
وقت استحقاق الثمن ، والعين متعذرة ، فوجب الانتقال إلى القيمة ، أو المعتبر وقت
الأخذ؟ لوجوبه حينئذ على الشفيع ، فيعتبر قيمته وقت الوجوب بتعذر العين ، أو يعتبر
الأعلى من وقت العقد الى وقت الأخذ كالغاصب؟ أقوال : أضعفها الأخير وأشهرها الأول.
الخامسة ـ ظاهر
متأخري الأصحاب أنه يجب على المشترى دفع الشقص المشفوع بعد الشفعة ما لم يدفع
الشفيع الثمن ، فاعتبروا هنا دفع الثمن أولا ، ولم يعتبروا ذلك في غير باب الشفعة
من المعاوضات كالبيع وغيره ، بل صرحوا ثمة بوجوب التسليم على الجميع من غير أولوية
تقدم أحدهما على الأخر.
قيل : ووجه
الفرق بين الشفعة وغيرها لأن الشفعة معاوضة قهرية ، أخذ العوض
فيها بغير رضا المشترى ، فجبر وهن قهره بتسليم الثمن إليه أولا ، بخلاف
البيع ، فان مبناه على الاختيار ، فلم يكن أحد من المتبايعين أولى بالبدأة من
الأخر.
قال شيخنا في
المسالك ونعم ما قال : وهذه في الحقيقة علة مناسبة ، لكن لا دلالة في التعويض
عليها ، وإثباتها بمجرد ذلك لا يخلو من اشكال.
نعم اعتبرها
العامة في كتبهم وهي مناسبة على قواعدهم ، ولو قيل هنا المعتبر التقابض كالبيع كان
وجها انتهى.
وكيف كان
فالظاهر أن الشفيع يملك الشقص بمجرد الشفعة ، كما أن المشترى يملك المبيع بمجرد
العقد ، لكن هل يتم الملك بمجرد الأخذ القولي بدون تسليم الثمن ، أم يتوقف على
التقابض؟ قولان : وعلى الأول هل يكون دفع الثمن جزءا من السبب للملك؟ أم كاشفا عن
حصول الملك بالأخذ القولي؟ وجهان : ويظهر الفائدة في النماء المتخلل ، والأقرب أن
الكلام هنا كما حققناه في البيع من أن كلا منهما قد وجب عليه تسليم ما انتقل عنه
الى صاحبه ، ولا أولوية في تقدم أحدهما على الآخر ، وعدم دفع أحدهما لو أحل بما
وجب عليه ، لا يقتضي جواز التأخير للآخر مع وجوب الدفع عليه والله العالم.
السادسة ـ المشهور
وجوب الفورية في الشفعة ، وهو مذهب الشيخ في النهاية والخلاف والمبسوط ، وبه قال
ابن البراج وابن حمزة والطبرسي والعلامة ، ونقله في المختلف عن والده ، وادعى
الشيخ عليه الإجماع.
وقال السيد
المرتضى (رضى الله عنه) أنها على التراخي ، ولا تسقط إلا بالإسقاط ، وادعى عليه
الإجماع ، وبه قال ابن الجنيد ، والشيخ على بن بابويه ، وابن إدريس ، وظاهر كلام
أبى الصلاح ، وبالأول قال الشهيدان في اللمعة وشرحها ، والمحقق في الشرائع وغيرهم.
وظاهر الشهيد
الثاني في المسالك التوقف في المسألة ، وفي الدروس بعد أن نقل أولا القول بالفورية
عن الشيخ واتباعه ، ثم نقل العدم عن المرتضى ومن
تبعه ، قال : ولم نظفر بنص قاطع من الجانبين ، ولكن في رواية على بن مهزيار
دلالة على الفور مع اعتضادها بنفي الضرر عن المشتري ، لأنه ان تصرف كان
معرضا للنقص ، وان أهمل انتفت فائدة الملك ، الى أن قال : والوجه الأول لما اشتهر
من قوله صلىاللهعليهوآله «الشفعة كحل عقال». أي إذا لم يبتدر فات كالبعير يحل عقاله انتهى.
وظاهر صدر
كلامه التوقف في المسألة ، لعدم النص القاطع ، وفي آخر كلامه جزم باختيار القول
الأول ، للخبر الذي ذكره مع أنه عامي كما صرح به الشهيد الثاني في الروضة ، وهو
كذلك فانا لم نقف عليه في كتب أخبارنا.
احتج القائلون
بالقول الأول بأن الأصل عدم الشفعة ، وعدم التسلط على ملك الغير بغير رضاه ،
فيفتقر فيها على موضع الوفاق ، ولأن التراخي فيها لا ينفك عن ضرر على المشترى ،
فإنه لا يرغب في عمارة ملكه مع علمه بتزلزله ، وانتقاله عنه فيؤدي إلى تعطيل حكمة
ملكه ، وذلك ضرر عظيم.
واحتج في
المختلف أيضا على ذلك برواية على بن مهزيار التي أشار إليها في الدروس بأن فيها
دلالة ما ، وهذه الرواية قد تقدمت في صدر المقصد الثالث ، قال بعد إيرادها ، وجه
الاستدلال أنه عليهالسلام حكم ببطلان الشفعة بعد مضى ثلاثة أيام ، ولو كان حق
الشفعة ثابتا على التراخي لم تبطل شفعته ، بل كانت تثبت له متى حصل الثمن ، لأنها
تثبت كذلك وان لم يطالب ، فلا تؤثر المطالبة بها الذي هو أحد أسباب وجودها في
عدمها.
احتج الآخرون
بالإجماع الذي ادعاه المرتضى ، وبأن البيع سبب في استحقاق الشفعة ، والأصل ثبوت
الشيء على ما كان عملا بالاستصحاب.
قال المرتضى (رضى
الله عنه) : ويقوى ذلك أن الحقوق في أصول الشريعة وفي العقول أيضا لا تبطل
بالإمساك عن طلبها ، فكيف خرج حق الشفعة عن أصول
__________________
الأحكام الشرعية والعقلية ، فإن من لم يطلب دينه أو وديعته لا يبطل حقه
بالتغافل عن الطلب
ثم أجاب عن
الضرر على المشترى ـ الذي احتج به الأولون ـ بأنه يمكنه التحرز عن ذلك بأن يعرض
المبيع على الشفيع ، ويبذل تسليمه اليه ، فاما أن يتسلم ، أو يترك الشفعة ، فيزول
الضرر على المشترى ، فان لم يفعل المشترى ذلك كان التفريط من قبله ، ثم أطال كما
عادته هي (قدسسره) بأدلة أخرى أيضا ، وأجاب في المختلف عن ذلك بما يطول
بنقله الكلام.
والتحقيق أن
المسألة لعدم النص الواضح محل اشكال ، وان كان القول الأول لاعتضاده بالأصل الذي
قدمنا ذكره في غير موضع مما تقدم ، مع اعتضاده بالاحتياط الذي هو واجب في موضع
الاشتباه الذي منه خلو المسألة من الدليل لا يخلو من قرب.
وأما استدلال
العلامة على هذا القول برواية على بن مهزيار بالتقريب الذي ذكره ، فيمكن معارضته
بأنه لو كانت الفورية واجبة لما رخص في التأخير ثلاثة أيام ايضا.
السابعة ـ حيث
تعتبر الفورية فإذا علم وأهمل مختارا بطلت شفعته ، ويعذر جاهل الفورية كما يعذر
جاهل الشفعة ، ويقبل دعوى الجهل ممن يمكن في حقه عادة وكذا لا يقدح فيها تأخيره
لعذر يمنع المباشرة أو التوكيل.
ومن الأعذار
التي صرح بها الأصحاب في هذا الباب ما لو ترك لتوهمه كثرة الثمن لامارة أوجبته ،
كاخبار مخبر ثم ظهر كذبه ونحو ذلك ، لا مجرد الاحتمال ، فإن الشفعة باقية الى حين
العلم بالحال ، فتصير فورية على القول بها وانما كان ذلك عذرا ، لأن قلة الثمن
مقصودة في المعاوضة ، ومثله ما لو أعتقده ذهبا فبان فضة ، أو حيوانا فبان قماشا ،
ونحو ذلك ، فإن الأغراض قد يتعلق بجنس دون آخر لسهولته ، وكذا لو كان محبوسا بحق
عاجز عنه ، بخلاف ما لو كان قادرا ، فان التقصير من
من قبله وأولى منه الحبس بظلم ، لكن الظاهر أنه يشترط في هذين عجزه عن الوكالة.
ثم انه ينبغي
أن يعلم أن وجوب المبادرة على تقدير الفورية ليس المبادرة بكل وجه ممكن ، بل
المرجع فيه الى العادة والعرف ، فيكفي مشيه إلى المشتري لأخذ الشفعة بالمعتاد وان
قدر على الزيادة ، وانتظار الصبح لو علم ليلا ، ولا يمنع من ذلك أيضا الصلاة إذا
حضر وقتها ، وكذا مقدماتها ومتعلقاتها الواجبة والمندوبة.
ومنها انتظار
الجماعة ، وانتظار زوال الحر والبرد المانعين ، والخروج من الحمام لو علم فيه بعد
قضاء وطره ، وتحرى الرفقة حيث يكون الطريق مخوفا والمشترى في غير البلد ، والسلام
على المشترى بعد الدخول عليه بل التحية المعتادة ونحو ذلك. هذا كله مع غيبة
المشتري عنه في حال العلم ، أما مع حضوره فلا يعد شيء من هذه عذرا ، لان قوله
أخذت بالشفعة لا ينافي شيئا من ذلك.
الثامنة ـ قد
صرح الأصحاب رضوان الله عليهم ، من غير خلاف يعرف أنه لا تسقط الشفعة بتقابل
المتبايعين ، لان استحقاق الشفعة قد حصل بالعقد ، فحق الشفيع متقدم
، نعم لو عفى الشفيع سقطت الشفعة من جهة الشراء ، وهل يتجدد بالإقالة بناء على
انها بيع مطلقا أو في حق الشفيع؟ الأشهر الأظهر العدم ، لعدم كون الإقالة بيعا ،
وانما هي فسخ كما تقدم تحقيقه في بعض نكت الفصل الثاني عشر من كتاب البيع.
ولو قلنا بأنها
بيع أخذ الشقص من البائع بعد الشفعة ، ثم انه ان حصل التقايل
__________________
قبل علم الشفيع بالشفعة لم تسقط بالإقالة ، لما عرفت من سبق حق الشفيع فله فسخ الإقالة ، والأخذ من
المشترى على قاعدة الشفعة ، ودركه على المشترى كما لو يكن ثمة إقالة ، فان درك
المشفوع في جميع أفراد الشفعة على المشترى ، فلو ظهر استحقاق الشقص رجع عليه
بالثمن وغيره مما يغرمه ، ولو كان المشترى لم يقبضه من البائع لم يكلف أخذه منه ثم
إقباضه الشفيع بل الشفيع يقبضه من البائع ، لانتقال الحق إليه فقبضه كقبض المشترى.
وعلى كل حال
فيبقى الدرك على المشترى ، وكما لا تسقط الشفعة بالتقايل ، فكذا لا تسقط ببيع المشترى
، ولا وقفه ولا جعله مسجدا ، ولا نحو ذلك من تصرفاته ، لأنها وان كانت صحيحة من
حيث أن المشفوع ملكه ، لكن لا يبطل ذلك حق الشفيع لسبقه على هذه التصرفات فمتى أخذ
بالشفعة بطل ما سبقها من التصرفات.
بقي الكلام في
أن تصرف المشترى ان كان مما تثبت فيه الشفعة كالبيع ، فالظاهر من كلامهم أنه يتخير
الشفيع بين أخذه من المشترى الأول أو الثاني أو الثالث ، وهكذا لو تعدد ، لان كل
واحد من البيوع المتعددة سبب تام في ثبوت الشفعة.
ثم ان أخذ
الشفيع بالشراء الأول وقع الثمن الأول وبطل المتأخر مطلقا ، وان أخذ بالشراء
الأخير أخذها بثمنه ، وصح السابق عليه مطلقا ، لان الرضا به يستلزم الرضا بما سبق
عليه. وان أخذ من المتوسط أخذ بثمنه ، وصح ما تقدمه ، وبطل ما تأخر عنه.
وان كان التصرف
مما لا تثبت فيه الشفعة ، كالوقف والهبة والإجارة فللشفيع نقضه وأخذ الشقص بالشفعة
، لسبق حقه ، والثمن في الهبة للواهب لازمة كانت أو
__________________
جائزة ، والمتصدق ، ولا خلاف عندهم في هذه الأحكام ، وانما نقلوا الخلاف في
بعضها عن بعض العامة حيث صرحوا بصحة التصرف بالبيع والوقف ونحوهما ، وأبطلوا
الشفعة بعض آخر منهم حيث حكموا ببطلان التصرف المشترى والله العالم
التاسعة ـ قالوا
: لو انهدم البيت أو عاب فهنا صور ، أحدها أن يكون ذلك بفعل المشترى قبل مطالبة
الشفيع بالشفعة ، ولا يحصل معه تلف شيء من العين ، والمشهور أن للشفيع الخيار بين
الأخذ بكل الثمن أو الترك ، لأن المشتري إنما تصرف في ملكه تصرفا سائغا ، فلا يكون
مضمونا عليه.
والعائب لا يقابل بشيء من الثمن فلا يستحق الشفيع في مقابلته
شيئا كما لو تعيب في يد البائع ، فإن المشتري يتخير بين الفسخ ، وبين الأخذ بمجموع
الثمن ، وقيل بضمانه على المشترى ، لأن حق الشفيع قد تعلق به بمجرد البيع وان لم
يطالب ، والمطالبة إنما تفيده تأكيدا كما تضمن الراهن الرهن إذا جنى عليه.
وثانيها ـ أن
يكون ذلك بفعل المشترى بعد المطالبة بالشفعة ، والمشهور أنه يضمن النقص بمعنى سقوط
ما قابله من الثمن ، لان الشفيع قد استحق أخذ المبيع كاملا بالمطالبة ، وتعلق حقه
به ، فإذا نقص بفعل المشترى ضمنه له.
وقيل : بعدم
الضمان ، وهو ظاهر الشيخ في المبسوط استنادا الى ان الشفيع
__________________
لا يملك بالمطالبة بل يملك الأخذ فيكون المشترى قد تصرف في ملكه تصرفا
سائغا ، فلا يتعقبه الضمان ، ورد بأن التصرف في الملك لا ينافي ضمانه كتصرف الراهن
، وهذا منه لاشتراكهما في تعلق حق العين.
وثالثها ـ أن
يكون ذلك بفعل غيره ، سواء كان قد طالب الشفيع أم لا ، فإنه يتخير الشفيع بين
الأخذ بمجموع الثمن ، والترك ، لانه لا تقصير من المشترى ، ولا تصرف حال استحقاق
الغير ، ووجه الضمان المذكور في الصورة الأولى آت هنا ، الا أنه هنا أضعف باعتبار
أن العيب بغير فعل المشتري.
أقول : وقد ورد
في هذه الصورة ما يدل على ما ذكروه ، وهو ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن
الحسن بن محبوب عن رجل قال : «كتبت الى الفقيه عليهالسلام في رجل اشترى من رجل نصف دار مشاعا غير مقسوم ، وكان
شريكه الذي له النصف الأخر غائبا ، فلما قبضها وتحول عنها تهدمت الدار وجاء سيل
جارف وهدمها وذهب بها ، فجاء شريكه الغائب فطلب الشفعة من هذا فأعطاه الشفعة على
أن يعطيه ماله كملا الذي نقد في ثمنها فقال له : ضع عني قيمة البناء ، فان البناء
قد تهدم وذهب به السيل ، ما الذي يجب في ذلك؟ فوقع عليهالسلام ليس له الا الشراء والبيع الأول إنشاء الله». وما تقدم
في الصورتين السابقتين من القول المشهور فيهما وان لم يرد به نص ، الا أنه موافق
للقواعد الشرعية والله العالم.
العاشرة ـ اختلف
الأصحاب في أن الشفعة هل تورث أم لا؟ فقال : الأكثر منهم الشيخ المفيد والسيد
المرتضى (رضى الله عنهما) انها تورث كالأموال ، وبه قال ابن الجنيد ، وقال الشيخ
في النهاية والخلاف أنها لا تورث ، وبه قال ابن البراج والطبرسي وابن حمزة.
وللشيخ قول آخر
في كتاب البيوع من الخلاف يدل على انها تورث حيث قال : خيار الثلاثة موروث ، وكذا
إذا مات الشفيع قبل الأخذ بالشفعة قام وارثه
__________________
مقامه ، وهو اختيار ابن إدريس والعلامة في المختلف وهو المشهور بين
المتأخرين وبه صرح في المسالك ، واحتجوا على ذلك بآيات الإرث الدالة على إرث ما ترك وحق الشفعة من جملة المتروكات كما دخل فيه الخيار
الثابت بالمورث بالإجماع ، والشفعة في معنى الخيار ثبتت لدفع الضرر ، واحتج في
المسالك ايضا بقوله صلىاللهعليهوآله ما ترك الميت من حق فهو لوارثه» قال : وهي أوضح دلالة
من الاية.
احتج الشيخ بما
رواه في التهذيب عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن على عليهمالسلام في حديث قال : «لا تورث الشفعة». واحتج أيضا بأن ملك
الوارث متجدد على الشراء فلا يستحق شفعة ، وأجيب عن الرواية بضعف السند وأن طلحة
بتري ، وعن الثاني بأن الوارث يأخذ ما استحقه مورثه وحقه ، فلا يقدح تجدد ملكه.
أقول :
والمسألة لا يخلو من توقف ، فان ثبت الحديث النبوي الذي رواه في المسالك من طرقنا
فإنه لا يحضرني الان ذلك ، فالقول الأول أصح ، والا فالمسألة محل إشكال ، لمعارضة
الأدلة المذكورة لرواية طلحة ، وردها بضعف السند جيد
__________________
على الاصطلاح المحدث ، واما على طريقة القدماء والمحدثين فلا ، فتبقى
المعارضة بينها وبين ما ذكر من الأدلة المشار إليها ، مع ما يتطرق إلى الأدلة
المشار إليها من المناقشة ، وإمكان تأييد رواية طلحة المذكورة بما قدمناه من أن
مقتضى الأدلة العقلية والنقلية عدم جواز الشفعة إلا ما دل عليه دليل واضح.
ثم أنها على
تقدير القول المشهور لو مات وخلف زوجة وابنا قال الشيخ في المبسوط تفريعا على هذا القول : ان
الإرث على فريضة الله فللزوجة الثمن ، وقيل : انه كذلك على رأى من يقول الشفعة في
صورة الكثرة على قدر السهام ، أما من يقول بأنها على عدد الرؤس ، فإنه يجعلها في
المثال المذكور نصفين بين الزوجة والولد ، كما يظهر من المبسوط أيضا ، فحينئذ تصير
المسألة خلافية ، وقد تقدم نقل الخلاف المذكور بالنسبة إلى الشفعة مع الكثرة في
آخر المقصد الثاني ، والأظهر كما صرح به الأكثر أنها هنا على تقدير القول المذكور
على قدر السهام وان لم نقل به في كثرة الشركاء ، لظهور الفرق بين الموضعين ، لان
كل واحد من الورثة لا يستحق الشفعة باعتبار نفسه ، بل باعتبار مورثه ، ومورثه
مستحق للجميع ، وقد انتقل عنه الى ورثته فيجب أن يثبت لهم على حد الإرث ، فهم
بالإرث يأخذون لا بالشركة ، ولهذا أثبتها هنا من لم يثبت الشفعة مع الشركة ،
والمراد بحق الشفعة الذي هو محل البحث هو مجرد استحقاق الشفعة ، وان لم يأخذ بها
الشفيع قبل موته ، فان لوارثه أن يأخذ بها كما هو صريح عبارة الشيخ المتقدم نقلها
من كتاب الخلاف ، وبطريق الاولى ما لو أخذ بها قبل الموت ولكن لم يقبض ولم يتصرف.
قالوا : ولو
عفى أحد الورثة عن نصيبه من الشفعة لم يسقط الشفعة ، لأن
__________________
الحق للجميع فلا يسقط حق واحد بترك غيره ، وكان لمن لم يعف أن يأخذ الجميع
، لانه لا يجوز تبعيض الصفقة على المشترى ، فالمستحق اما أن يأخذ الجميع أو يتركه.
قيل : ويحتمل
هنا سقوط حق الآخر بعفو صاحبه وان لم نقل بذلك في الشريكين ، لان الوارث يقوم مقام
المورث ، فعفوه عن نصيبه كعفو المورث عن البعض ، فيسقط الباقي.
ورد بأن
الشركاء ، في الإرث يصيرون بمنزلة الشركاء في أصل الشفعة ، لأنها شفعة واحدة بين
الشركاء سواء كان بالإرث أو بالشركة ، ولا يسقط من البعض بعفو البعض ، بخلاف عفو
المورث عن بعض نصيبه ، فان حقه في المجموع من حيث هو مجموع لا في الأبعاض ، فعفوه
عن بعض حقه كعفوه عن جميعه.
وظاهر المحقق
الأردبيلي «قدسسره» المناقشة في أصل هذا الحكم ، حيث قال : ولو ترك بعضهم
وعفى لم يسقط حق الباقين ، بل لهم الأخذ ، ولكن أخذ الجميع أو الترك ، وليس لهم
أخذ حصتهم فقط ، للزوم التشقيص والتبعيض الممنوع منه عندهم فتأمل ، فإن الأصل
والاستصحاب يقتضي جواز أخذ الحصة فقط ، ولعل عدم التبعيض مجمع عليه ، والا فالقول
به متوجه انتهى.
وبالجملة
فالمسألة لعدم النص الواضح في أصلها محل اشكال كما عرفت ، وفي فروعها أشكل والله
العالم.
الحادية عشر ـ لو
حمل النحل بعد الابتياع فأخذه الشفيع قبل التأبير قال الشيخ : الطلع للشفيع ، لانه
بحكم السعف ، ولانه يتبع الأصل في البيع ، فكذا هنا ، لأن المقتضي للتبعية هناك
ليس الا كونه جزءا من المسمى ، ورده المتأخرون بأن هذا الحكم مختص بالبيع ، وقوفا
على مورد النص ، فإلحاق غيره به قياس ، وكونه بحكم السعف ممنوع ، وكذا دعواه كونه
جزءا من المسمى ، والمقتضي في البيع انما هو النص.
وظاهرهم أنه لا
خلاف في أن الثمرة إذا ظهرت في ملك المشترى قبل الأخذ
بالشفعة يكون للمشتري وان بقيت على الشجرة ، لأنها بحكم المنفصل ، ومنه
ثمرة النخل بعد التأبير ، أما قبله فقد عرفت خلاف الشيخ في ذلك ، فيكون هذا الفرد
مستثنى من الإجماع المشار اليه.
والحق كما
عرفته ـ أن حكمها بالنسبة إلى الشفعة قبل التأبير كحكمها بعده في كونها للمشتري
غير داخلة في الشفعة ، وعلى هذا فيكون الطلع غير مؤبر وقت الشراء للمشتري ، فإن
أخذه الشفيع وهو بتلك الحال بقي للمشتري ، كما لو أخذه بعد التأبير ، ويكون البيع
في هذه الصورة بمنزلة ما إذا ضم غير المشفوع ، فيأخذ الشفيع المشفوع وهو غير
الثمرة بحصته من الثمن ، وطريقه كما تقدم في غير موضع أن تقوم المجموع ، ثم يقوم
الثمرة وتنسب قيمتها الى المجموع ، ويسقط من الثمن بتلك النسبة.
الثانية عشر ـ قد
صرح الأصحاب «رضوان الله عليهم» ، بأنه إذا باع الشريك الذي له الشفعة نصيبه من
المال المشترك قبل الأخذ بالشفعة فهنا صورتان
الاولى ـ أن
يكون بيعه بعد العلم بالشفعة ، وحصول شرائطها وشرائط فوريتها على تقدير القول
بالفورية ، ولا إشكال في بطلان شفعته ، أما على تقدير الفورية فلفواتها بالاشتغال
بالبيع ، لانه مخل بالفورية ، وأما على تقدير عدم الفورية ، فلان السبب في استحقاق
الشفعة الملك ، وقد زال فيزول معلوله.
الثانية أن
يكون قبل العلم بالشفعة ، ومثله أيضا ما لو كان قبل ثبوت الفورية فيها لما تقدم من
الاعذار ، كعدم العلم بقدر الثمن ، أو جهله بالفورية أو نحو ذلك ، فباع والحال هذه
ففي بقائها مطلقا ، أو زوالها مطلقا ، أو التفصيل أقوال :
أحدها ما
اختاره المحقق في الشرائع من بقائها مطلقا ، لان الاستحقاق ثبت بالشراء سابقا على
بيعه ، فيستصحب لأصالة عدم السقوط ، ولقيام السبب المقتضى له ، وهو الشراء ، فيجب
أن يحصل المسبب.
وبهذا القول
صرح الشيخ في المبسوط أيضا ، حيث قال : الاولى ثبوت الشفعة ، لأنها وجبت له أولا
ولم يوجد سبب إسقاطها والأصل بقاؤها.
وثانيها سقوطها
، وهو اختيار العلامة وجمع من الأصحاب ، وعللوه بأن السبب في جواز الأخذ ليس هو
الشراء وحده ، بل هو مع الشركة ، وقد زال أحد جزئي السبب فتزول ، ولا يكفى وجودها
حال الشراء ، بل لا بد من وجودها حال الأخذ بالشفعة ، لقوله عليهالسلام «لا شفعة إلا لشريك غير مقاسم». فلو أثبتنا له الشفعة بعد البيع ،
لاثبتناها لغير شريك مقاسم ، والجهل مع انتفاع السبب لا أثر له.
وثالثها ـ التفصيل
بالجهل بالشفعة حال البيع ، والعلم ، فتثبت في الأول دون الثاني ، وهو منقول عن
الشيخ رحمهالله ، لان البيع بعد العلم يؤذن بالإعراض عنها ، كما لو
بارك ، بخلاف ما إذا لم يعلم ، فإنه معذور : وأجيب بأن الجهل لا أثر له إذا انتفى
السبب ، لان خطاب الوضع لا يتفاوت الأمر فيه بالعلم والجهل.
أقول :
والمسألة لعدم النص لا يخلو من توقف ، الا أن الأظهر بحسب هذه التعليلات وقربها
وبعدها من القواعد الشرعية هو القول الثاني من هذه الأقوال الثلاثة.
أما الأول ـ فقد
علم جوابه من دليل القول الثاني ، ويزيده تأكيدا أن ما استند اليه من الاستصحاب
وهو الذي عبر عنه في المبسوط بالأصل ، فقال : والأصل بقاؤها مردود بما حققناه في
مقدمات الكتاب في جلد كتاب الطهارة من عدم ثبوت حجية هذا الاستصحاب.
واما الثالث ـ فلما
سمعت من الجواب عن دليله ، والى ما ذكرناه من القول الثاني يميل كلامه في المسالك
أيضا ، حيث قال ـ بعد ذكر الأقوال الثلاثة على الترتيب الذي ذكرناه ـ : والقول
الوسط لا يخلو من قوة انتهى والله العالم.
الثالثة عشر ـ لو
عرض البائع الشيء على صاحب الشفعة بثمن معلوم فلم يرده فباعه من غيره بذلك الثمن
أو زائدا عليه ، فهل يكون لصاحب الشفعة المطالبة بها أم لا؟ قولان : وبالثاني قال
الشيخان وابن حمزة ، وبالأول قال ابن إدريس ، واحتج الشيخان ـ على ما نقله في
المختلف ـ بأن الشفعة تثبت في موضع الاتفاق على خلاف الأصل ، لكونه أخذ ملك
المشترى من غير رضاه ، ويجبر على المعاوضة ، لدخوله مع البائع في العقد الذي أساء
فيه بإدخال الضرر على شريكه ، وترك الإحسان إليه
في عرضه اليه ، وهذا المعنى معدوم هنا ، فإنه قد عرضه عليه ، فامتناعه من
أخذه دليل على عدم الضرر في حقه ببيعه ، وان كان فيه ضرر ، فهو الذي أدخله على
نفسه كما لو أخر المطالبة. انتهى.
واحتج ابن
إدريس بأنه انما يستحق المطالبة بعد البيع ، ولا حق له قبل البيع فإذا عفى قبله ،
فما عفى عن شيء يستحقه ، فله إذا باع شريكه أخذ الشفعة ، لأنه تجدد له حق ، ولا
دليل على إسقاطه ، وقبل البيع لم يسقط شيئا ، وكذا لو قال الشفيع للمشتري : اشتر
نصيب شريكي ، فقد نزلت عن الشفعة وتركتها ، ثم اشترى المشترى ذلك على هذا ، لا
تسقط شفعته بذلك ، وله المطالبة ، لأنه انما يستحق الشفعة بعد العقد ، فإذا عفى
قبل ذلك لم يصح ، لانه قد عفى عما لم يجب له ولا يملكه ، فلا يسقط حقه حين وجوبه ،
وكذا الورثة إذا عفوا عما زاد على الثلث في الوصية قبل موت الموصى ، ثم مات بعد
ذلك ، فلهم الرجوع لمثل ما قلناه على الصحيح من المذهب انتهى.
والى هذا ذهب
ابن الجنيد أيضا فقال : وكما ان الشفعة لا تجب الا بعد صحة البيع وتمامه ، فكذلك
لا يكون ترك الشفيع إياها قبل البيع مبطلا لما وجب له منها بعد البيع ، والعلامة
في المختلف بعد أن نقل كلامي ابن إدريس وابن الجنيد قال : وهو المختار ، لنا أنه
إسقاط حق قبل ثبوته ، فلا يصح كما لو أبرأه عما لم يجب له ، أو أسقطت المرأة
صداقها قبل التزويج ، ثم نقل بعد هذا احتجاج الشيخين بما قدمنا نقله عنهما ، وقال
: وفيه قوة ، وهو ظاهر في تردده في المسألة.
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك ترجيح مذهب ابن إدريس للوجه الذي ذكره ، والظاهر أنه
الأقرب نظرا الى عموم أدلة الشفعة ، وأن الاسقاط قبل ثبوت الشفعة غير مؤثر في
المنع ، والا لصح ذلك في غير هذا الحق من الحقوق ، مع أنهم لا يقولون به.
وظاهر المحقق
الأردبيلي قدسسره ، الميل الى مذهب الشيخين ، لكن لا لما تقدم في
الاحتجاج المنقول عنهما ، بل من حيث أن هذا وعد ، والأدلة دالة على وجوب
الوفاء بالوعد ، قال : ولو لا خوف خرق الإجماع لكان القول بوجوب الإيفاء ـ كما هو قول بعض العامة ـ متوجها
، فالقول به هنا غير بعيد ، لعدم الإجماع على خلافه ، الى أن قال : وأما دليل
القول بعدم البطلان فهو أنه إسقاط لما ليس له ، فهو مثل إبراء عما لم يكن في الذمة
، ويمكن أن يقال : ليس هذا إبراء وإسقاط ، بل قول ووعد وشرط ، ومخالفته قبيحة عقلا
وشرعا ، وانه غدر وإغراء وليس من صفات المؤمن انتهى.
وظاهر شيخنا
الشهيد في شرح نكت الإرشاد الميل أيضا الى مذهب الشيخين ، قال : لأن الشفعة وضعت
لازالة الضرر ، ونزوله عنها يؤذن بعدم الضرر ، ولما روى عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : «لا يحل أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، فان باع
ولم يؤذن فهو أحق به». علق الاستحقاق على عدم الاستيذان ، فلا يثبت معه والنزول ،
أما بعد الاستيذان فالظاهر سقوط الشفعة ، وأما قبله فكذلك إذ لا يبقى للاستيذان
معنى معقول ، ولا نسلم ان ذلك من باب الاسقاط ، فيتوقف على تحقق الاستحقاق كالدين
انتهى.
والمحقق
الأردبيلي بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه اعتضد أيضا بهذا الكلام ، ولم ينكر منه شيئا
، وظاهره الموافقة على صحة الحديث المذكور ، حيث قال : ودلالته
__________________
ظاهرة على السقوط بعد الاستيذان ، وأنت خبير بأنا لم نقف على هذا الخبر في
كتب أخبارنا ، والظاهر أنه عامي وسيما شيخنا المذكور كثيرا ما يستسلفون الأخبار
العامية ويستدلون بها في أمثال هذه المقامات الخالية من الاخبار المعصومية ، ولو
صح الخبر المذكور لما كان عنه معدل لدلالته بالمفهوم الشرطي الذي هو حجة صحيحة كما
أوضحناه في صدر كتاب الطهارة على ما يدعونه ، ولكن الأمر كما ترى وأما منعه أن ذلك
من باب الاسقاط ، فليس بعده الا ان يكون من قبيل الوعد ، كما ذكره المحقق المتقدم
ذكره ، وتعليله الأول ، وقوله فيه «ونزوله عنها يؤذن بعدم الضرر» انما يناسب
الاسقاط ، لا الوعد ، لان المراد بنزوله عنها معنى تركه لها ، قال في كتاب المصباح
المنير : ونزلت عن الحق تركته ، على أنه متى لم يكن من باب الاسقاط كما ذكره ،
فالحق باق لا مزيل له ، ومجرد عدم إرادته بعد العرض عليه لا يوجب منع الإرادة بعد
تحقق حقه واستحقاقه الشفعة بالبيع.
وأما دعوى كونه
وعدا وشرطا كما ذكره المحقق المشار اليه واستدل بأدلة وجوب الوفاء بالوعد والشرط
فظني بعده ، وان أمكن احتماله على بعد باعتبار حصوله ذلك من هذا الكلام ضمنا ، فإن
غاية الأمر أنه عرض عليه الشراء فامتنع منه ولم يرده وهذا لا يسمى بحسب العرف وعدا
إلا بتأويل وتمحل.
وبالجملة
فالمسألة لخلوها عن النص محل اشكال كغيرها من الفروع المذكورة ، وان كان القول بما
ذهب اليه ابن إدريس ومن تبعه أقرب لما عرفت. والله العالم.
الرابعة عشر ـ اختلف
الأصحاب فيما لو كان الثمن مؤجلا فالمشهور أنه يأخذ بالشفعة عاجلا بالثمن المؤجل
الذي وقع عليه العقد ، فان العقد انما وقع على المؤجل وهو قول الشيخ المفيد وابن
البراج وابن إدريس ، وبه قال الشيخ في النهاية ، وزاد أنه ان لم يكن الشفيع مليا
الزم بإقامة كفيل يضمنه.
وقال في الخلاف
والمبسوط : انه يتخير الشفيع بين أخذه بالثمن حالا وبين التأخير إلى حلول الأجل
وأخذه بثمن حال ، ونقل في الكتابين ما ذكره في النهاية قولا عن بعض أصحابنا.
وقال في الخلاف
ـ بعد نقله وقد ذكرناه في النهاية ـ : وهو قوى وبهذا القول الثاني قال ابن الجنيد
والطبرسي على ما نقله في المختلف ، والأقرب هو الأول بناء على القول بالفورية ،
كما هو المشهور عندهم ، وقد تقدم تحقيق الكلام فيه.
وتوضيحه أن
الشفيع بمنزلة المشتري يأخذ بالثمن الذي أخذ به المشترى ، وليس له أكثر من حقه
قدرا وأجلا ، على أنه قد تقرر أن للأجل قسطا من الثمن ، فلو أخذ بالثمن حالا في
الصورة المذكورة للزم الزيادة في الثمن المأخوذ به على أصل الثمن الذي وقع به
الشراء.
وبه يظهر أن
القول الثاني يستلزم أحد محذورين ، اما إسقاط الشفعة بعد ثبوتها ان أخر إلى حلول
الأجل للإخلال بالفورية المستلزم لبطلانها ، أو زيادة وصف في الثمن ان أخذ بالشفعة
، وعجل بالثمن ، لان تعجيله زيادة وصف فيه من غير موجب ، بل يستلزم زيادة الثمن ،
لما عرفت من أن التأجيل له قسط من الثمن ، فليرم زيادة الثمن على الأصل ، ويتفرع
على هذا القول أنه لو مات المشترى حل عليه الثمن ، وبقي الشفيع على التخيير الثابت
له أولا ، فإن شاء عجل ، وان شاء أخر إلى حلول الأجل.
احتج الشيخ على
ما ذهب إليه في الخلاف والمبسوط بأن الشفعة قد وجبت بنفس الشراء والذمم لا تتساوى
فوجب عليه الثمن حالا أو يصبر الى وقت الحلول فيطالب بالشفعة مع الثمن ، وأجيب عنه
بأنه لا يلزم من عدم تساوى الذمم ، ثبوت أحد الأمرين المذكورين لإمكان التخلص
بالضمين ، اما مطلقا كما يظهر من العلامة في المختلف ، أو مع عدم الملاءة.
أقول : وأشار
إليه الشيخ فيما قدمنا من عبارته في النهاية بقوله ان لم يكن الشفيع مليا الزم
بإقامة كفيل.
الخامسة عشر ـ إذا
اختلف المشترى والشفيع في القيمة بعد الاتفاق في الشراء
، فقال المشترى
: اشتريت بمأة ، وقال الشفيع : بل بخمسين ، فان لم يكن بينة لأحدهما فالظاهر من
كلام أكثر الأصحاب أن القول قول المشترى مع يمينه ،
وبه صرح الشيخ في النهاية والشيخ المفيد وأبو الصلاح وابن إدريس.
قال في المختلف
: وهو جيد ، لانه العاقد فهو أعرف بالثمن ، ولان الشقص ملكه ، فلا ينزع منه
بالدعوى بغير بينه ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الخلاف في ذلك ، قال :
لان النزاع ليس في العقد ، لاتفاقهما معا على وقوعه صحيحا ، واستحقاق الشفعة به ،
وانما نزاعهما في القدر الواجب على الشفيع دفعه من الثمن ، فالمشتري يدعى زيادته
عما يدعيه ، والشفيع ينكره ، فيكون المشترى هو المدعى والشفيع هو المنكر ، فيدخل
في عموم اليمين على من أنكر انتهى. وهو جيد.
وأما مع البينة
قال في المسالك : فان كان من الشفيع على ما يدعيه قبلت ، بناء على أنه خارج ، وقد
تقدم قول المشترى فيكون البينة بينة الأخر ، فإن كانت من المشترى قيل : أفادت
اندفاع اليمين عنه ، وان كان في دفع اليمين عن المنكر بالبينة في غير هذه الصورة
تردد ، والفرق أنه يدعى دعوى محضة ، وقد أقام بها بينة فتكون مسموعة ، ويشكل بأن
جعله مدعيا دعوى محضة يوجب عدم قبول قوله فإنما توجه قبوله بتكلف كونه منكرا فلا
يخرج عن حكم المنكر انتهى.
وان كانت من
الطرفين فقد اختلف كلامهم في ذلك فقال الشيخ في الخلاف والمبسوط : البينة بينة
المشتري أيضا ، وعلله في المبسوط بأنه الداخل ، وفي الخلاف بأنه المدعي لزيادة
الثمن ، والشفيع ينكره فالبينة على المدعى ، وقال ابن الجنيد : إذا اختلف الشفيع
والمشترى في الثمن كانت البينة على الشفيع في قدر الثمن إذا لم يقر له بالشفعة ،
فإن أقر بها المشترى كانت البينة في قدر الثمن عليه ، والا كانت له يمين الشفيع ،
لانه لا يستحق عليه زيادة على ما يقر به له من الثمن.
وقال ابن إدريس
: البينة بينة الشفيع ، لانه خارج ، وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : ويحتمل
عندي في هذه المسألة أمور ثلاثة أقويها تقديم بينة المشتري ، لأنها يرجح يقول
المشتري ، فإنه مقدم على قول الشفيع ، وهذا بخلاف الداخل والخارج ، لان بينة
الداخل يمكن أن تستند الى اليد ، فلهذا قدمنا بينة الخارج.
الثاني ـ بينة
الشفيع ، لأنهما بينتان معارضتان ، فقدمت بينة من لا يقبل قوله عند عدمها كالداخل
والخارج ، والثالث ـ القرعة لأنهما تنازعا في العقد ، ولا يد لهما عليه فصارا
كالمتنازعين في عين في يد غيرهما انتهى.
أقول : وأنت
خبير بأن مرجع هذا الخلاف الى الخلاف في تقديم بينة الخارج أو الداخل عند التعارض
، فعلى الأول تقدم بينة المشترى ، وعلى الثاني بينة الشفيع ، الا أن ظاهر كلامه في
المختلف أن تقديم بينة المشترى لا من الحيثية المذكورة ، بل من حيث ترجحها بتقديم
قوله ، وهذا الترجيح انما يتم بناء على ما هو المشهور عندهم ، والا فعلى ما قدمنا
نقله عن المسالك من ان القول قول الشفيع بيمينه فلا.
وبالجملة
فالمسألة لخلوها من النص الواضح صارت مطرحا للأنظار ، ومسرحا للافكار مع ما هي عليه
من الاختلاف الذي لا يقف على حد ، ولا يصل الى عد. والله العالم.
السادسة عشر ـ إذا
ظهر في الشقص الذي هو محل الشفعة عيب ، فان كان ذلك حال البيع وقبل أخذ الشفيع
بالشفعة فالواجب أولا النظر فيما يستقر عليه حكم المشترى في هذه الصورة ، فإن
اختار أخذ الأرش ، أو كان الحق منحصرا في الأرش بأن حدث في المبيع ما يمنع الرد ،
فالحكم في الشفيع أنه يسقط عنه من الثمن ما قابل الأرش الذي أخذ المشتري ، لأنه
جزء من الثمن ، والثمن حقيقة انما هو الباقي بعد الأرش ، وان لم يأخذ الأرش بل عفا
عنه ، لانه حقه ان شاء تركه ، تخير الشفيع بين الأخذ بمجموع الثمن الذي وقع عليه
العقد ، وبين الترك ، لانه لم يتجدد للثمن ما يوجب نقصه كما في الصورة الاولى.
وان كان ظهور
العيب بعد الأخذ بالشفعة فهيهنا صور أربع ، لانه اما أن يكون المشترى والشفيع
عالمين به وقت البيع ، أو جاهلين أو أحدهما عالم والأخر جاهل ، وهذه الصورة
الثالثة تنحل الى صورتين ، وهو أن يكون المشترى عالما والشفيع جاهلا وبالعكس.
فالأولى أن
يكونا عالمين فلا خيار لأحدهما ولا أرش ، لقدوم المشترى على الشراء والحال هذه ،
والشفيع على الأخذ بالشفعة والحال كما عرفت ، وهذا ظاهر.
الثانية أن
يكونا جاهلين ، فان اتفقا بعد العلم على رده فلا بحث ، وان اتفقا على أخذه مع
الأرش أو بدونه صح ، والثمن اللازم للشفيع على الأول هو ما بعد الأرش ، وعلى
الثاني هو ما وقع عليه العقد.
وأطلق في
المسالك أن الثمن اللازم للشفيع ما بعد الأرش ، ولا أعرف له وجها ، لانه مع الاتفاق
على عدم الأرش يبقى الثمن الذي وقع عليه العقد على حاله ، لم يعرض له ما يوجب
نقصانه ، فكيف يكون اللازم للشفيع ما بعد الأرش والحال أنه لا أرش ، لاتفاقهما على
الأخذ بدونه ، وان اختلفت إرادتهما فأراد الشفيع رده دون المشترى فله ذلك ، ويرجع
المبيع إلى المشتري فيتخير بين أخذه مع الأرش أو بدونه أو عدم الأخذ بالكلية ان لم
يحدث في المبيع ما يمنع الرد ، وان انعكس الأمر بأن أراد الشفيع أخذه ، وأراد
المشتري رده ، فظاهر الأصحاب تقديم ارادة الشفيع لثبوت حقه وسبقه وعلل أيضا بأن فيه جمعا بين الحقين ، لأنا لو قدمنا المشترى
بطل حق الشفيع بالكلية مع ما عرفت من ثبوته وسبقه ، وإذا قدمنا الشفيع فإن المشتري
يحصل له مثل ثمنه أو قيمته من الشفيع ، ولا يفوت عليه شيء فيكون تقديمه جامعا بين
الحقين.
بقي الكلام في
أنه على ما ذكرنا من تقديم الشفيع وأخذه المبيع بما وقع عليه العقد من الثمن ، فلو
أراد المشتري طلب الأرش والحال هذه ، فهل تجب اجابته ودفعه إليه أم لا؟ قولان :
وبالثاني قال الشيخ (رحمهالله) وعلله بأنه استدرك ظلامته برجوع جميع الثمن اليه من
الشفيع ، فلم يقف منه شيء يطالب به.
وبالأول قال
المحقق في الشرائع ، لأن حقه انما هو عند البائع ، حيث أن الأرش جزء من الثمن عوض
جزء فات من المبيع ، فلا يجب عليه أن يقبل عوضه من الشفيع ، لان الواقع بين البائع
والمشترى معاوضة مستقلة مغايرة لما وقع بينه و
__________________
بين الشفيع ، وحقه انما هو عند البائع ، ولا يجب عليه قبول عوضه من الشفيع.
والى هذا القول مال في المسالك أيضا ، وقال : انه أقوى ، قال : وحينئذ فله الرجوع
على البائع بالأرش ، فيسقط عن الشفيع من الثمن بقدره ، لان الثمن ما يبقى بعد
الأرش.
الثالثة ـ أن
يعلم الشفيع بالعيب دون المشترى ، والحكم فيه لزومه للشفيع لقدومه على الأخذ مع
علمه بالعيب ، وأما المشتري فالظاهر أنه ليس له الرد لانتقال المبيع الى الشفيع ،
وبه صرح الأصحاب أيضا ، وعللوه بمراعاة حق الشفيع.
قالوا : وفي
ثبوت الأرش للمشتري الوجهان المتقدمان ، قال في المسالك : والأصح ان له ذلك فيسقط
عن الشفيع بقدره ، ولا يقدح فيه علمه بالحال لما بيناه من أنه يأخذ بالثمن وهو ما
بعد الأرش.
الرابعة ـ أن
يعلم المشتري خاصة ، وحينئذ فللشفيع رده بالعيب حيث أنه جاهل به ، وليس له أرش ،
لأنه انما يأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد ، والمشترى لا أرش له هنا لقدومه على
الشراء مع علمه بالعيب ، واستحقاق الشفيع الأرش فرع أخذ المشتري إياه والله
العالم.
السابعة عشر ـ قالوا
: وطريق الأخذ بالشفعة أن يقول : أخذت أو تملكت أو اخترت الأخذ ، ولكن لا يكفى
مجرد القول ، بل لا بد من تسليم الثمن مع ذلك ، هذا مع عدم رضى المشترى بالشفعة ،
فتصح الشفعة بذلك رضى أو لم يرض ، وأما مع رضاه بالشفعة ، والصبر بالثمن فلا يلزم
تسليمه في صحة الشفعة ، ولكن يجب على الشفيع تسليمه عند الطلب ، كسائر الحقوق ،
أقول : الظاهر أن كلما دل من الألفاظ على الأخذ بالشفعة ، وطلبها فهو موجب لذلك ،
إذ لا تعرض للتخصيص بشيء من الألفاظ في الاخبار ، لا في هذا الباب ولا في غيره من
العقود حتى البيع الذي هو مطرح الانظار في أمثال هذه المقامات وأما الكلام في
الثمن ووجوب تسليمه أو لا فقد تقدم الكلام فيه في المسألة الخامسة من هذا المقصد ،
ثم ان ظاهر كلامهم أنه لا بد في الأخذ بالشفعة من معلومية الثمن عند الشفيع جنسا
وقدرا ووصفا ، وعللوه بأنه لما كان الأخذ بالشفعة في
معنى المعاوضة المحضة ، لأنه يأخذ الشقص بالثمن الذي بيع به ، اشترط علمه
به حين الأخذ حذرا من الغرر اللازم على تقدير الجهل ، لان الثمن يزيد وينقص
والأغراض تختلف فيه قلة وكثرة ، وربما يزيد حيلة على زهد الشفيع في الأخذ مع
اتفاقهما على إسقاط بعضه ، فلا يكفي أخذه بالشفعة مع عدم العلم به جنسا وقدرا
ووصفا وان رضى بأخذه مهما كان الثمن ، لان دخوله على تحمل الغرر لا يرفع حكمه
المترتب عليه شرعا من بطلان المعاوضة مع وجوده ، كما لو أقدم المشترى على الشراء
بالثمن المجهول ورضى به كيف كان.
قالوا : وحيث
لا يصح الأخذ لا تبطل الشفعة ، بل يجددها إذا علم به ، وظاهر المحقق الأردبيلي (قدسسره) المناقشة في الحكم المذكور حيث قال بعد ان نقل قول
المصنف «انه لو قال : أخذت بالثمن كائنا ما كان وكان عالما بقدره صح والا فلا» :
ما صورته «لا شك في الصحة مع العلم وأما مع الجهل فقال المصنف : لا يكفى وان ضم
إليه كائنا ما كان ، ولعل دليله الجهل بالثمن وان الشفعة بمنزلة البيع بينه وبين
المشترى ، ولا بد من العلم بالعوضين ، وذلك غير ظاهر ، وما نعرف لاشتراط العلم
دليلا لا عقليا ولا شرعيا الا أن يكون إجماعا فتأمل انتهى.
وبالجملة فإن
مرجع ما قدمنا من كلامهم الى إلحاق الشفعة بالبيع ، وحملها عليه من حيث الاشتراك
في كونهما معاوضة ، وقد قام الدليل في البيع على وجوب العلم بالعوضين جنسا وقدرا
ووصفا فكذا هنا.
وأنت خبير بما
فيه ، فإنه عند التحقيق لا يخرج عن القياس المنهي عنه في الاخبار ، حيث أن أخبار
الشفعة على تعددها وتكاثرها لا إشعار في شيء منها بذلك والحكم به بدون ذلك مشكل.
وأما التعليل
بالغرر فيمكن دفعه بأن الشفيع قد أقدم على ذلك ورضى به ، وقوله «أن دخوله على تحمل
الغرر لا يدفع حكمه» مسلم لو ثبت هنا عدم جواز الدخول في هذا الحال ، وقياسه على
البيع ممنوع ، لقيام الدليل في البيع ، فيتم ما ذكروه فيه ، أما هنا فهو محل البحث
وعين المتنازع فيه والله العالم.
المقصد الخامس في موجبات سقوط الشفعة وبطلانها
فمنها أن يشترى
شقصا لا يستوي إلا عشرة بمأة ويدفع عوض المأة ما يساوى عشرة ، فالشفيع اما ان يدفع
المأة ، أو ينزل عن الشفعة ، لأنك قد عرفت أنه يأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد ان
أراد الشفعة ، وأما دفع المشترى عوض المأة ما يساوى عشرة فهي معاوضة أخرى ، لا
تعلق للشفيع بها ، وهذا من جملة الحيل لإسقاط الشفعة ، وفي معناه أن يبرءه من بعض
الثمن.
ومنها ترك
المطالبة بالشفعة مع العلم وعدم العذر ، بناء على القول بالفورية ، وأما على القول
بعدمها فلا ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في المسألة السادسة من المقصد السابق ،
وأنه على القول الغير المشهور لا تسقط إلا بالإسقاط ، والا فهي ثابتة على التراخي.
ومنها ما لو
نزل عن الشفعة قبل البيع على أحد القولين ، وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثالثة
عشر من المقصد المذكور.
ومنها أن يشهد
على البيع على أحد القولين فذهب الشيخ في النهاية وجماعة إلى بطلانها ، لدلالته
على الرضا بالبيع ، وذهب في المبسوط الى عدمه ، للأصل ومنع الدلالة ، وتأثيرها على
تقديرها في الابطال ، واختاره في المسالك.
ومنها أن يبارك
للمشتري أو البائع العقد ، وهو محل خلاف أيضا ، وعلل القول بالبطلان اما لتضمنه
الرضا ، أو لمنافاته الفورية ، قال في المسالك : والأصح عدم البطلان ، لمنع ،
الأمرين ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلان المعتبر فيها العرف ، ونحو السلام
والدعاء عند الاجتماع لذلك وأشباهه لا ينافيها عرفا ، بل ربما كانت المبادرة إلى
الأخذ بدون الكلام مستهجنا عادة انتهى.
أقول : ويزيده
تأكيدا بالنسبة إلى الدلالة على الرضا أنه من المحتمل قريبا بل هو الظاهر ـ متى
حصلت منه الشفعة أن الرضا بالبيع انما كان لكونه وسيلة إلى الأخذ بالشفعة ، فيكون
مؤكدا لا منافيا ، وبالنسبة الى الثاني ما تقدم في المسألة
السادسة من المقصد المتقدم.
ومنها أن يأذن
للمشتري في الابتياع ، وفيه أيضا قولان : أظهرهما عدم الابطال واحتج القائل
بالإبطال بدلالة الاذن على الرضا المبطل لها ، وفيه منع ظاهر ، لما عرفت آنفا من
أن الرضا ان لم يكن دالا على الجواز لكونه وسيلة إلى الأخذ بالشفعة لم يكن مبطلا.
والتحقيق في
هذه المواضع الخلافية ونحوها أن الشفعة لا تبطل الا مع التصريح بإسقاطها بمد
ثبوتها ، أو منافاته الفورية على القول باعتبارها.
ومنها وهو من
الحيل أيضا في إسقاط الشفعة أن ينقل الشقص بغير البيع كالهبة والصلح على الأشهر
الأظهر من اختصاص الشفعة بالبيع ، كما تقدم تحقيقه في المقصد الثاني في الشروط ،
وسقوط الشفعة هنا حقيقة لفقد الشرط المقتضى لثبوتها ، وهو انتقال الشقص بالبيع.
ومنها أن يبيع
جزءا من الشقص بثمن كله ، ثم يهب له باقي الشقص.
ومنها أن يبيع
عشر الشقص مثلا بتسعة أعشار الثمن ، ثم يبيع تسعة أعشاره بعشر الثمن ، فالشريك
الأول لا يرغب في الشفعة في البيع الأول لقلة المبيع ، وكثرة الثمن ، ولا شفعة له
أيضا في البيع الثاني لتعدد الشركاء ، لان الأشهر الأظهر اشتراط وحدة الشريك كما
تقدم تحقيقه ، وذلك لان المشتري حال البيع الثاني صار شريكا.
ومنها أن يبيعه
بثمن قيمي كثوب مثلا ، ثم يبادر البائع بعد قبضه إلى إتلافه قبل العلم بثمنه ، أو
يخلطه بغيره بحيث لا يتميز ، فإنه تندفع الشفعة هنا لعدم معلومية الثمن والجهل به
، لأن الشفعة في القيمي انما يكون بقيمته ، وهي هنا غير معلومة.
كتاب الحجر
وهو لغة المنع
، ومنه سمى الحرام حجرا ، لما فيه من المنع ، قال الله تعالى «وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً» أى حراما محرما ، وسمى العقل حجرا ، لانه يمنع صاحبه من
ارتكاب القبيح ، قال الله تعالى «هَلْ فِي ذلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» وشرعا هو المنع من التصرف في المال ، أى مال ذلك المحجور
عليه ، أعم من أن يكون في الجميع أو البعض ، فيشمل الممنوع من التصرف في الجميع ،
كالصبي أو في البعض كالمريض ، وأيضا فالظاهر المنع في الجملة وعلى بعض الوجوه ، إذ
لا منع شرعا من الكل ، إذ لا يكون أضعف من الصبي والمجنون ، وهما غير ممنوعين من
الأكل والشرب والسكنى ونحوها.
ثم اعلم ان
جملة من الأصحاب كالعلامة في التذكرة والمحقق في الشرائع جعلوا للحجر كتابا وبابا
على حدة ، وللمفلس كتابا وبابا على حدة ، والعلامة في الإرشاد أدرج المفلس في كتاب
الحجر ، وجعله من جملة مباحثه ، وهو الأظهر كما ستقف عليه إنشاء الله تعالى ، وكأن
أولئك نظروا إلى كثرة الأبحاث المتعلقة بالمفلس فجعلوه لذلك مستقلا بالبحث ،
والأمر في ذلك هين.
ونحن قد جرينا
في هذا الكتاب على ما جرى عليه شيخنا العلامة في الإرشاد
وحينئذ فالبحث
في هذا الكتاب يقع في مطالب ثلاثة المطلب الأول ـ في موجبات الحجر، وهي عند
الأصحاب ستة ، الصغر ، والجنون ، والرق ، والمرض والفلس ، والسفه ، والحصر في هذه
الستة المذكورة جعلي لا استقرائي ، حيث قد جرت عادتهم بالبحث في هذا المقام عن هذه
الستة.
والا فهنا
أقسام كثيرة غير هذه الستة ، كالحجر على الراهن والمرتهن في
__________________
الرهن ، وعلى المشترى فيما اشتراه قبل دفع الثمن ، وعلى البائع في الثمن
المعين ، وعلى المكاتب في كسبه لغير الأداء والنفقة ، وعلى المرتد الذي يسوغ عوده
، وغير ذلك مما هو مذكور في تضاعيف الفقه.
وكيف كان
فالكلام في هذه الستة المذكورة يقع في مواضع الأول ـ الصغر ، وفيه مقامات المقام
الأول ـ لا خلاف في الحجر على الصغير ما لم يبلغ في الجملة ، ويدل عليه الآية وهي
قوله تعالى «وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ»
الآية.
والاخبار منها
ما رواه في التهذيب عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليهالسلام «أنه قضى أن يحجر على الغلام حتى يعقل» الحديث.
قال في التذكرة
: وهو محجور عليه بالنص والإجماع ، سواء كان مميزا أو لا ، في جميع التصرفات الا ـ
ما استثنى كعباداته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ، ووصيته وإيصال الهدية واذنه في دخول
الدار على خلاف في ذلك.
أقول : المفهوم
من كلام جملة من الأصحاب كالمحقق في الشرائع وغيره أن الحجر انما هو باعتبار
التصرف المالي ، فإنه عرفه في الشرائع بأنه الممنوع من التصرف في ماله ، وهو
المتبادر من الإطلاق أيضا ، وظاهر كلام العلامة هنا أن المراد جميع
__________________
التصرفات ، وعلى هذا فاستثناء الثلاثة الأول ظاهر.
وأما تدبيره
ووصيته فهو محل خلاف بين الأصحاب الا أن الاخبار قد دلت على جواز ذلك من ابن عشر
سنين وكذا العتق ، وسيأتي في أبوابها إنشاء الله تعالى.
وأما إيصال
الهدية والاذن فقد صرحوا بأنه لا يحتاج علم المهدى اليه ، والداخل يكون ذلك بإذن
الولي صريحا.
قال المحقق
الأردبيلي (رحمهالله) بعد نقل ذلك عنهم لعله اكتفى بالظاهر للعادة بأن
الهدية في محلها لم يجئها الولد إلا بإذن وليه ، وكذا الاذن في الدخول لا يكون إلا
بإذنه للقرينة ، فكأنه اكتفى فيهما بمثله للظهور وسهولة الأمر لكثرة التداول ،
والشيوع بين المسلمين من غير نكير ، وكأنه كان في زمانهم (عليهمالسلام) مع عدم المنع فتقريرهم هنا ثابت ، وهو حجة ولا يبعد
ذلك وأمثاله ، مثل قبول مثله من عبده وولده وتسليم ظرفه إليهما ، وكذا تسليم ما
كان عند الإنسان بالعارية ونحوها الى شخص يوصله اليه من غير اذنه ، سواء كان عبد
المرسل أو ولده أو غيرهما ، كما هو المتعارف خصوصا إذا كان بينهما الصداقة ، أو
عرف من حاله أنه لا يكره ، بل يرضى علما أو ظنا متاخما له ، ويدل عليه عموم أدلة
قبول الهدية من غير تفصيل ، بأن يكون الموصل حرا بالغا ، ومع ذلك الاحتياط أمر
مطلوب انتهى.
أقول : لو ثبت
عموم الحجر كما هو ظاهر كلام التذكرة بالأدلة القاطعة من كتاب أو سنة لكان في
الخروج عنه بما ذكره (قدسسره) من هذه التوجيهات محل نظر وإشكال ، الا؟ أن القدر
المعلوم ثبوته من الكتاب والسنة والإجماع ، انما هو التخصيص بالمالي ، وحينئذ
فيهون الخطب فيما ذكره ، ويقوى اعتباره.
المقام الثاني
قد عرفت أن الصغر سبب في الحجر ، ولا يزول الا بالبلوغ ، وهو يعلم في الذكور بأمور
، منها ـ خروج المنى وتشركه في هذه العلامة الأنثى ، والمراد منه الماء الدافق
الذي يخلق منه الولد في يقظة كان أو نوم ، وعليه تدل
جملة من الآيات والروايات ، كقوله تعالى «إِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ»
ـ «وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ» «وحَتّى
إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ»
الاية ، والحلم
بالضم لغة واحد الأحلام النومية ، قال في التذكرة : الاحتلام هو خروج المنى وهو
الماء الدافق الذي يخرج منه الولد ، وقال أيضا : «الحلم خروج المنى من الذكر أو
قبل المرأة مطلقا ، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة ، وسواء كان بجماع أو غير جماع ،
وسواء كان في نوم أو يقظة» وكأنه يريد أن ذلك المعنى المقصود منه شرعا ، والا فإن
المذكور في كلام أهل اللغة انما هو التخصيص بالنوم كما يظهر من القاموس وغيره ،
ولهذا قال في التذكرة : ولا يختص بالأحلام.
والاخبار بذلك
متكاثرة أيضا ففي رواية على بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام قال : «سألته عن الغلام متى يجب عليه الصوم والصلاة؟
قال : إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة ، فان احتلم قبل ذلك فقد وجب عليه الصلاة ، وجرى
عليه القلم».
وفي صحيحة
البزنطي عن الرضا عليهالسلام قال : «يؤخذ الغلام بالصلاة وهو ابن سبع سنين ، ولا
تغطي المرأة شعرها عنه حتى يحتلم». وفي هذه الخبر دلالة على جواز كشف المرأة رأسها
ما لم يبلغ ، والظاهر أن ذكر الشعر انما خرج مخرج التمثيل ، لانه لا فرق بينه وبين
سائر الجسد في تحريم النظر اليه من الأجنبي الذي ليس بمحرم.
وفي صحيحة هشام
عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام وهو أشده ، وان
احتلم ولم يونس منه رشده وكان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله».
__________________
وفي رواية عبد
الله بن سنان المروية في الخصال عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سأله أبى وأنا حاضر عن اليتيم متى؟ قال : حتى
يبلغ أشده ، قال : وما أشده؟ قال : احتلامه» الحديث. الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.
ومنها الإنبات
، والمراد به ما على العانة من الشعر ، وهذه العلامة أيضا مشتركة بين الذكر
والأنثى ، قال في التذكرة : وهو مختص بشعر العانة الخشن ، ولا اعتبار بالشعر
الضعيف الذي قد يوجد في الصغر ، بل الخشن الذي يحتاج في إزالته إلى الحلق حول ذكر
الرجل وفرج المرأة ، وقال أيضا في الكتاب المذكور : إنبات هذا الشعر دليل البلوغ
في حق المسلمين والكفار عند علمائنا أجمع .
أقول : ويدل
عليه أيضا مضافا الى الإجماع المذكور الأخبار ، ففي حسنة يزيد الكناسي عن الباقر عليهالسلام وهي طويلة قال في آخرها : «ان الغلام إذا زوجه أبوه كان
له الخيار إذا أدرك ، أو بلغ خمس عشرة سنة ، أو أشعر في وجهه ، أو أنبت في عانته».
والظاهر أن
المراد بالشعر في وجهه هو اللحية والشارب ، واستقرب في التحرير كون نبات اللحية
دليلا دون غيره من الشعور ، والعادة قاضية به.
وفي معنى هذه
الرواية رواية حمران وفيها «ان الغلام تجب عليه الحدود إذا احتلم ، أو بلغ
خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبله ، والجارية لتسع». وهل الإنبات دليل بنفسه على
البلوغ كالسن ، أو على سبقه كالحيض والحمل؟ قولان :
__________________
قال في المسالك
بعد قول المصنف «ويعلم بلوغه بإنبات الشعر الخشن على العانة» ما لفظه : احترز
بالشعر الخشن عن الشعر الضعيف ـ الذي ينبت قبل الخشن ثم يزول ويعبر عنه بالزغب ـ ويشعر
العانة عن غيره ، كشعر الإبط والشارب واللحية فلا عبرة بها عندنا إذ لم يثبت كون
ذلك دليلا شرعا ، خلافا لبعض العامة ، ولا شبهة في كون شعر العانة علامة على
البلوغ ، انما الكلام في كونه نفسه بلوغا أو دليلا على سبق البلوغ ، والمشهور
الثاني ، لتعليق الأحكام في الكتاب والسنة على الحلم والاحتلام ، فلو كان الإنبات
بلوغا بنفسه لم يختص غيره بذلك ، ولان البلوغ غير مكتسب ، والإنبات قد يكتسب
بالدواء ، ولحصوله على التدريج ، والبلوغ لا يكون كذلك ، ووجه الأول ترتب أحكام
البلوغ عليه وهو أعم من الدعوى انتهى.
أقول : فيه
أولا أن ما ذكره ـ من أن شعر الشارب واللحية لا عبرة به إذ لم يثبت كونه دليلا
شرعيا ـ مردود بدلالة الروايتين المذكورتين على كونه دليلا شرعيا ، والثانية منهما
وان كانت مجملة حيث لم يذكر موضع الشعر فيها ، الا أن الأول مصرحة بكونه شعر
الوجه.
ومن الظاهر أن
الشعر في الوجه انما هو اللحية والشارب ، فيحمل إجمالها على تفصيل الاولى وبيانها
، فإنه عليهالسلام ، جعل إنبات الشعر في عداد البلوغ بالسن والإنبات
والاحتلام ، فيكون احدى علامات البلوغ ، والظاهر أنه غفل عن الاطلاع على الخبرين
المذكورين ، كما غفل عنهما غيره ، حيث لم يعدوا ذلك في العلامات المذكورة ورد
الخبرين المذكورين من غير معارض ظاهر لا يخفى ما فيه.
وثانيا ان ما
ذكره من الخلاف ـ في كون الإنبات دليلا على البلوغ أو على سبقه ، واختياره الثاني
وقوله أنه هو المشهور ـ فيه أن ظاهر عبارة العلامة المتقدمة وقوله نبات هذا الشعر
دليل البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا أجمع عدم الاعتداد بهذا القول
المشهور ، وانه لا خلاف في كونه دليلا على البلوغ بنفسه ، وهو المؤيد بظاهر
الخبرين المذكورين ، فان ظاهر عد الإنبات في عداد السن والاحتلام ـ اللذين لا خلاف
في كونهما علامتين للبلوغ لا على سبق البلوغ ـ كون الإنبات مثلهما في ذلك.
وبذلك يظهر لك
ما في قوله في الاحتجاج للقول المشهور ، لتعليم الأحكام في الكتاب والسنة على
الحلم والاحتلام الى آخره ، فإنه ظاهر في ما قدمنا ذكره من عدم اطلاعه على الخبرين
المذكورين ، والا فمع الوقوف عليهما كيف يتم له دعوى تعليق الحكم في السنة على
الاحتلام ، وأنه مختص بذلك دون الإنبات ، والروايتان قد اشتملتا كما عرفت على عد
الجميع من علامات البلوغ ، والمتبادر منه كون كل منها علامة على البلوغ لا على
سبقه.
وثالثا أن قوله
«ان البلوغ غير مكتسب ، والإنبات قد يكون مكتسبا» فإنه بظاهره لو تم لدل على عدم
جواز عد الإنبات في العلامات المذكورة ، ولو بكونه علامة على السبق ، مع أنه لا
يقول به ، والقائلون بعده انما يريدون به الإنبات الحاصل من الله ـ «سبحانه» ـ بمقتضى
العادة والطبيعة ، وهو بهذا المعنى لا يمنع من كونه علامة على البلوغ ، لا أنه
مراد به ما هو أعم حتى يتجه ما ذكره ، وكذا قوله «ولحصوله على التدريج» فان فيه ان
العلامة تحصل بمجرد خروج شيء من الشعر ، ولا توقف لها على تزايده وكماله ، حتى
يتجه قوله «والبلوغ لا يكون كذلك» يعنى تدريجا ، وبالجملة فإن كلامه «قدسسره» هنا لا يخلو من الغفلة عن النصوص المذكورة ، والمجازفة
في هذه التعليلات العليلة.
وأنت خبير بأن
مورد الروايات في هذه العلامة والتي قبلها انما هو المذكر ، فكان مستند هاتين
العلامتين في الأنثى انما هو الإجماع ، حيث لا قائل بخلاف ذلك.
ومنها السن
والمشهور أنه في الذكر ببلوغ خمس عشرة سنة ، وفي الأنثى ببلوغ تسع ، ويدل عليه
بالنسبة إلى الذكر ما تقدم في حسنة يزيد الكناسي ورواية حمران وبالنسبة إلى الأنثى ما في رواية حمران المذكورة ، حيث
قال قال فيها : «ان الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ،
ودفع إليها مالها ، وجاز أمرها في الشراء والبيع» الحديث.
__________________
ورواية عبد
الله بن سنان عن ابى عبد الله «عليهالسلام» وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك ، وذلك لأنها تحيض
لتسع سنين». وعن الشيخ في كتاب الصوم من المبسوط وابن حمزة أن بلوغ المرأة بعشر
سنين. مع أن الشيخ وافق المشهور في موضع آخر من الكتاب المذكور ، وما ذكر من القول
بالعشر لم نقف له على دليل ، وفي موثقة عمار بلوغها بثلاث عشرة ، وهو غير معمول عليه ، وقيل في
المذكر بأربع عشرة سنة ، نقله في المختلف عن ابن الجنيد ، ونقل بعض أفاضل متأخر
المتأخرين عن بعض القدماء والشيخ في كتابي الاخبار وأكثر محققي
المتأخرين أنهم قالوا بحصول البلوغ بالدخول في الرابع عشر ، قال : في المفاتيح :
ولا يخلو من قوة ، ويدل عليه قوله «عليهالسلام» : في صحيحة عبد الله بن سنان إذا بلغ الغلام أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة
وجب عليه ما يجب على المحتلمين ، احتلم أو لم يحتلم كتب عليه السيئات ، وكتبت له
الحسنات وجاز له كل شيء الا أن يكون سفيها أو ضعيفا».
ومنها موثقة
أخرى له وعلى هذا فما تقدم نقله عن ابن الجنيد من القول بالأربع
عشرة ان أريد به الدخول فيها فهو راجع الى هذا القول الذي دلت عليه هذه الاخبار.
وان أريد به
إكمالها فيمكن أن يكون مستنده قوله «عليهالسلام» في رواية عيسى بن زيد «ويحتلم لأربع عشرة». بحملها على كمال الأربع عشرة ، وقد بسطنا الكلام في
هذا المقام في كتاب الصيام وذكرنا جملة من الاخبار وما قيل في الجمع
__________________
بينها ، فمن أحب الوقوف عليه فليرجع إليه ، بقي هنا شيء وهو أن ظاهر
عبارات الأصحاب الاكتفاء بمجرد الدخول ، وهو ظاهر الاخبار ، حيث صرحت بأن بلوغ
الخمس عشرة موجب للبلوغ ، وظاهره هو الاكتفاء بالدخول فيها وان لم يتمها ، الا أن
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال : ويعتبر إكمال السنة الخامسة عشرة ، والتاسعة
في الأنثى ، فلا يكفى الطعن فيها عملا بالاستصحاب وفتوى الأصحاب ، ولان الداخل في
السنة الأخيرة لا يسمى ابن خمس عشرة ستة لغة ولا عرفا ، والاكتفاء بالطعن فيها وجه
للشافعية انتهى. وتبعه على ذلك جملة ممن تأخر عنه ، وظاهره أن ذلك فتوى من تقدمه
من الأصحاب ، مع أن أكثر العبارات على ما حكيناه ، وكذا عبارات الاخبار.
وظاهر المحقق
الأردبيلي الميل الى ما ذكرنا ، الا أن عبارته لا يخلو من تعقيد ، أو غلط في
النسخة الموجودة عندنا ، فإنه قال ما ملخصه : والظاهر أنه لا يشترط إكمال خمس عشرة
، بل يحصل بالمشروع فيه ، وإكمال أربع عشرة ، وبذلك يمكن الجمع بين الاخبار ، ثم
نقل عبارة المسالك المتقدمة ، ثم قال بعد كلام في البين : وتعرف أنه ليس فتوى جميع
الأصحاب وليس بحجة ، وأن ليس خامس عشر بواقع في كتاب ولا سنة معتبرة ولا إجماع حتى
يكون معناه إكماله انتهى.
ومنها الحيض ،
والحبل للأنثى بغير خلاف يعرف في ذلك ، ولا في كونهما دليلين على سبقه.
ويدل على الأول
رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق عليهالسلام قال : «ثلاث يتزوجن على كل حال ، وعد منها التي لم تحض
ومثلها لا تحيض ، قلت : ومتى يكون كذلك؟ قال : ما لم يبلغ تسع سنين ، فإنها لا
تحيض ومثلها لا تحيض». وقوله في رواية عبد الله بن سنان المتقدمة «لأنها تحيض لتسع سنين».
__________________
ولا خلاف في
جواز تصرف المرأة في مالها بعد البلوغ ، وما ورد في بعض الاخبار الصحيحة «من توقف
عتقها على اذن زوجها ، وكذا تصرفها في مالها» فقد حمله بعض الأصحاب على تأكد
استحباب استيذانه.
المقام الثالث
كما أن الحجر
لا يرتفع عن الصغير الا بالبلوغ كذلك يعتبر معه الرشد أيضا ، فلا يرتفع عنه الحجر
الا بالبلوغ والرشد ، ويدل عليه قوله عزوجل «فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ»
قال في المسالك
: الحق أن الرشد ملكة نفسانية يقتضي إصلاح المال ، وتمنع من إفساده وصرفه في غير
الوجوه اللائقة بأفعال العقلاء.
أقول : مرجعه
إلى أنه يعتبر فيه أمور ثلاثة : أحدها أن يكون مصلحا لماله على الوجه اللائق بحاله
، وثانيها ـ كونه غير مفسد له بالتضييع ، وثالثها ـ أن لا يصرفه في المصارف الغير
اللائقة بحاله ، ولا يخفى ما بين هذه الأمور من التلازم.
وبالجملة
فالظاهر أنه لا بد أن يكون هذه الأمور عن ملكة يقتدر بها عليها من حفظه ، وصرفه في
الأغراض الصحيحة ، فلا يكفى ذلك مرة أو مرات من غير أن يكون ذلك على جهة الملكة ،
بل يكون من عقله ومعرفته أن لا يضيع المال ، ولو بتحمل الغبن الفاحش في المعاملات
، والصرف في المحرمات ، والتبذير والإسراف ، فإنه مناف للرشد بغير خلاف.
وانما الخلاف
في اشتراط العدالة في الرشد ، فالمشهور العدم ، وذهب الشيخ (رحمهالله) الى اعتبارها ، وهو مذهب جماعة من العامة منهم الشافعي
، واحتج الشيخ ومن قال بهذا القول بقوله عزوجل «وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ»
وما روى عن ابن
عباس في قوله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً»
هو أن يبلغ ذا
وقار وحلم وعقل».
__________________
وما روى في أخبارنا «أن شارب الخمر سفيه». فيثبت في غيره ، إذ لا قائل بالفصل.
والظاهر أن
الأقوى هو القول المشهور للأصل ، ولصدق مطلق الرشد على غير العادل ، ولقوله «عليهالسلام» «الناس مسلطون على أموالهم». خرج منه ما خرج بدليل ، فيبقى الباقي تحت
العموم ، ولزوم الحرج والضيق بذلك ، قال في المسالك ونعم ما قال : واعلم أنه لو
اعتبرت العدالة في الثبوت لم تقم للمسلمين سوق ، ولم ينتظم للعالم حال ، لان الناس
الا النادر منهم اما فاسق ، أو مجهول الحال ، والجهل بالشرط يقتضي الجهل بالمشروط
، ويؤيده ورود الأوامر بالمعاملة والمناكحة مطلقا من غير تقييد بالعدالة.
وفي الاخبار ما
يدل على معاملة الفساق مثل الأخبار الدالة على جواز بيع الخشب ممن يعمله صنما ، والعنب
والتمر ممن يعمله خمرا ، ولو كان الأمر كما ذكره القائل المذكور لما جاز ذلك ،
ولكان مع عموم البلوى به يخرج فيه خبر يدل على المنع.
وبالجملة
فالظاهر أن القول المذكور في غاية من الضعف ، قالوا : وانما تعتبر العدالة على
القول باعتبارها ابتداء لا استدامة ، نقل في التذكرة الإجماع عليه ، وقال في
التذكرة أيضا : ان الفاسق ان كان ينفق ماله في المعاصي لشرب الخمور وآلات اللهو
والقمار ، أو يتوصل به الى الفساد ، فهو غير رشيد لا يدفع إليه أمواله إجماعا ،
لتبذيره ماله ، وتضييعه إياه في غير فائدة ، وان كان فسقه بغير ذلك كالكذب ومنع
الزكاة وإضاعة الصلاة مع حفظه ماله دفع اليه ماله ، لان الغرض من الحجر حفظ المال
، وهو يحصل بدون الحجر ، فلا حاجة اليه ، وكذا إذا طرأ الفسق
__________________
الذي لا يتضمن تضييع المال ولا تبذيره ، فإنه لا يحجر عليه إجماعا انتهى.
ويعلم الرشد
بالاختبار فيما يلائمه من الأعمال ، ذكرا كان أو أنثى ، ففي الذكر لا يفك عنه
الحجر حتى ينظر لو كان من التجار مثلا في بيعه وشرائه ، لا بمعنى أن يفوض اليه
البيع والشراء ، بأن يبيع ويشترى لانه لم يتحقق رشده بعد ، بل بمعنى أن تماكس في
الأموال على هذا الوجه ، أو يدفع اليه المتاع ليبيعه أو الثمن ليشتري به ، ولا
يلاحظ الى أن يتم المساومة فيتولاه الولي ، فإذا تكرر منه ذلك وسلم من الغبن ،
والتضييع وصرف المال في غير موضعه ثبت رشده ، وهكذا في كل أحد بنسبة عمله الذي
يمارسه ، والمرأة تستعلم بما يناسب حال النساء من الغزل ، والطبخ وتدبير المنزل
ونحو ذلك مما يعتاد ممارسته النساء.
الموضع الثاني الجنون
ودليل الحجر
على المجنون ظاهر من العقل والنقل.
الموضع الثالث ـ
الرق والمملوك محجور عليه في التصرف إلا بإذن المولى ، أما على القول بعدم ملكه
فظاهر ، وأما على القول بملكه فان الظاهر من الاخبار كما تقدم تحقيقه في المقصد
الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان من كتاب المتاجر أنه محجور عليه التصرف فيه الا بإذن المولى ، واستثنى
من المنع الطلاق ، فيجوز بدون اذن مولاه بل وان كره ، لان الطلاق بيد من أخذ
بالساق ، هذا في غير أمة مولاه.
الموضع الرابع ـ
المرض ، والمريض ممنوع من الوصية بما زاد على الثلث إجماعا ، كما نقلوه ما لم يجز
الورثة ، بمعنى أنه ممنوع من إيقاعها على جهة النفوذ بدون إجازتهم ، لا بمعنى انها
يقع باطلة في حد ذاتها ، فهي صحيحة موقوفة على الإجازة ، فإن أجازوها صحت ولزمت ،
ونقل في المسالك عن الشيخ على بن بابويه :
__________________
انه أجاز وصيته بجميع ماله ، ورده بأن الرواية قاصرة ، وحملت على من لا
وارث له ، أو ما إذا أجاز الورثة.
أقول : قال
العلامة في المختلف : المشهور عند علمائنا كافة أن الوصية تمضى من ثلث المال ،
وتبطل في الزائد إلا مع الإجازة.
وقال على بن
بابويه : فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية ، فإن أوصى له كله فهو اعلم وما
فعله ، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى.
واحتج على ذلك
برواية عمار الساباطي عن الصادق عليهالسلام قال : «الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ، ان أوصى به
كله فهو جائز له».
والرواية ضعيفة
، والمطلوب مستبعد ، والأحاديث الصحيحة معارضة لهذه الرواية ، مع ان الشيخ تأولها
على من لا وارث له ، أو على ما إذا أجاز الورثة إلى آخر كلامه (زيد في مقامه)
وما ذكره (قدسسره) من ان مستند الشيخ المذكور هو هذه الرواية تكلف منه ،
كما هي قاعدته في تكلف الأدلة للأقوال التي ينقلها في هذا الكتاب ، وانما مستنده
هو كتاب الفقه الرضوي ، ومنه أخذ العبارة بلفظها ، فأفتى في رسالته بها كما أوضحنا
مثله في كتب العبادات في مواضع عديدة ، فإنه «عليهالسلام» قال في الكتاب المذكور «فإن أوصى رجل بربع ماله فهو أحب الى من أن يوصى بالثلث ، فإن أوصى بالثلث
فهو الغاية في الوصية فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله ، ويلزم الوصي إنفاذ
وصيته على ما أوصى به». وهي كما ترى عين عبارة الشيخ المذكور ، ولكن الكتاب
المذكور لما لم يصل إليهم تكلفوا لدليله بهذه الرواية ، وأنت خبير بأن فتوى الشيخ
المذكور بعبارة الكتاب المذكورة مع منافاتها لجملة من الاخبار المروية في الأصول
المعتمدة دليل واضح على صحة الكتاب المذكور ، وثبوته عنه «عليهالسلام» عنده واختلف
__________________
الأصحاب ـ في منعه من التبرعات المنجزة الزائدة على الثلث ـ على قولين
مشهورين ، وكل منهما معتضدة بجملة من الاخبار ، والذي يقرب عندي من الاخبار المشار
إليها هو عدم المنع ، وأن مخرج الوصية على الوجه المذكور من الأصل دون الثلث ، كما
هو القول الأخر ، والمراد بالمنجزة يعنى المعجلة في حال الحياة كالهبة والعتق
والصدقة ونحو ذلك.
الخامس : الفلس
ـ وسيأتي الكلام فيه مستوفى إنشاء الله ـ تعالى ـ في المطلب الثالث.
السادس : السفه
ـ وهو مقابل الرشد ، ولما كان الرشد كما عرفت سابقا عبارة عن الملكة التي تترتب
عليها تلك الأمور ، من إصلاح المال ، وعدم إفساده ، وعدم صرفه في غير الوجوه
اللائقة ، فالسفه حينئذ عبارة عن الملكة التي تترتب عليها أضداد تلك الأمور ، فلا
يقدح الغلط في بعض الأحيان ، والانخداع نادرا لوقوع ذلك من كثير من المتصفين
بالرشد.
ومن السفه على
ما ذكروه الإنفاق في المحرمات ، وصرف المال في الأطعمة النفيسة التي لا يليق بحاله
، ومثله اللباس الفاخر ونحوه
وأما صرفه في
وجوه الخيرات كالصدقات وبناء المساجد والقناطر والمدارس واقراء الضيوف ونحو ذلك ،
فان كان لائقا بحاله لم يكن سفيها قطعا ، فان زاد على ذلك فالمشهور على ما نقله في
المسالك انه كذلك ، استنادا إلى أنه لا سرف في الخير ، كما لا خير في السرف.
ونقل عن
العلامة في التذكرة أن ما زاد منه على ما يليق به تبذير ، لأنه إتلاف في المال ،
وقال الله تعالى «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ»
قال : وهو مطلق
فيتناول محل النزاع
وظاهر المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد الميل الى القول الأول مستندا
__________________
الى تصدق أمير المؤمنين عليهالسلام الذي نزلت فيه سورة «هل أتى» حيث ورد بأنهم صاموا ثلاثة
أيام طاوين لم يذوقوا الا الماء القراح ، والقصة مشهورة.
وما روى في
وصية رسول الله صلىاللهعليهوآله لأمير المؤمنين «عليهالسلام» حيث قال فيها : «وأما الصدقة فجهدك حتى يقال أسرفت ولم
تسرف ، ثم قال : ولا سرف في الخير». مشهور.
والروايات
والاخبار الدالة على الإنفاق والترغيب اليه والترهيب على تركه لا تعد ولا تحصى
كثرة ثم أطال بأمثال ذلك ، ونقل كلام التذكرة واعترض عليه وقال في المسالك أيضا
: ومن المستفيض خروج جماعة من أكابر الصحابة وبعض الأئمة عليهمالسلام كالحسن عليهالسلام من أموالهم في الخير.
أقول : لا يخفى
على من راجع الأخبار الواردة في هذا المضار ـ وتتبعها من مظانها حق التتبع ، وكذا
الآيات القرآنية ـ ضعف هذا القول المشهور ، وأنه في محل من القصور ، لاستفاضتها
وتكاثرها بالمنع عن ذلك ، وعده إسرافا محرما.
وها نحن نتلو
عليك جملة مما وقفنا عليه ليظهر لك صحة ما ذكرناه ، فمنها رواية اللحام المروية في
الكافي وتفسير العياشي عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «لو أن رجلا أنفق ما في يده في سبيل من سبيل الله
ما كان أحسن ، ولا وفق للخير ، أليس الله تبارك وتعالى يقول «وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»
يعنى
المقتصدين.
وصحيحة الوليد
بن صبيح قال : «كنت عند أبى عبد الله عليهالسلام فجاءه سائل فأعطاه ، ثم جاء آخر فأعطاه ، ثم جاء آخر
فقال : يسع الله عليك ، ثم قال : ان رجلا لو كان له مال ثلاثين أو أربعين ألف درهم
، ثم شاء أن لا يبقى منها الا وضعها في حق فيبقى لا مال له ، فيكون من الثلاثة
الذين يرد دعاءهم ، قلت :
__________________
من هم؟ قال : أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في وجهه ، ثم قال : يا رب ارزقني
، فيقال له : ألم أرزقك».
وهما كما ترى
صريحا الدلالة في المنع عن ذلك. وظاهرهما أن الإنفاق في هذه الصورة معصية ،
لاستدلاله «عليهالسلام» في الخبر الأول بقوله سبحانه «وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»
الذي لا خلاف
في تحريمه إيذانا بأن الصدقة هنا من قبيل ذلك ، وقوله «عليهالسلام» أنه ما أحسن يعني بل أساء ، وفي الثاني أنه يرد دعائه
بذلك ، والمعاصي هي التي تحبس الدعاء ، كما ورد في جملة من الاخبار.
ومنها الآيات
كقوله عزوجل «وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً»
وقوله «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ»
ففي صحيحة عبد
الله بن سنان عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى «وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً»
فبسط كفه وفرق
أصابعه وحناها شيئا ، وعن قوله «وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ» فبسط راحته وقال هكذا ، وقال : القوام ما يخرج من بين
الأصابع ويبقى في الراحة منه شيء».
وما رواه ابن
أبى نصر في الصحيح عن أبى الحسن عليهالسلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا»
قال : كان أبو
عبد الله عليهالسلام يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يصدق الرجل
بكفيه جميعا وكان أبى إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به
أعط بيد واحدة ، القبضة بعد القبضة ، الضغث بعد الضغث من السنبل».
__________________
وفي الحسن عن
ابن أبى عمير عن هشام بن المثنى قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل «وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»
فقال كان فلان
بن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث وكان إذا أخذ يتصدق به ، ويبقى هو وعياله بغير
شيء فجعل الله ذلك سرفا».
ومما يدل أيضا
على ذلك بأوضح دلالة الحديث المروي عن الصادق عليهالسلام في الكافي في باب دخول الصوفية على أبى عبد الله عليهالسلام «وإنكاره عليهم فيما يأمرون به الناس من خروج الإنسان من ماله بالصدقة على
الفقراء والمساكين». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع البصير ولا
ينبئك مثل خبير هذا.
وأما ما
استندوا إليه في هذا المقام فبعضه قابل للحمل على عدم التصدق بجميع المال ، وأصرح
ما يدعونه تصدق أمير المؤمنين عليهالسلام بالأرغفة والجواب عنه الاختصاص بهم (صلوات الله عليهم)
إذا شاؤا جمعا بين الاخبار ، على أن المروي عن الحسن عليهالسلام : انما هو قاسم ربه ماله حتى النعل ، لا أنه خرج منه
كملا ، كما ادعاه في المسالك.
والقول بما
ذكروه على إطلاقه مستلزم لطرح هذه الاخبار التي ذكرناها ونحوها مع صحتها وصراحتها
وتعددها مع اعتضادها بالآيات المذكورة وهو مما لا يلتزمه محصل كما لا يخفى.
المطلب الثاني في الأحكام
وفيه مسائل الاولى
ـ الظاهر أنه لو باع السفيه في حال السفه لم يضمن بيعه ،
__________________
وكذا لو وهب أو تصدق أو أقر بمال ، والضابط هو منعه من جميع لتصرفات
المالية ، ويصح طلاقه وخلعه وظهاره ، وإقراره بالنسب وما يوجب القصاص ، لانه ليس
في شيء من هذه ما يوجب تضييع المال الذي فسر به السفه.
نعم في الإقرار
بالنسب اشكال باعتبار أنه قد يوجب النفقة ، فيرجع الى الإقرار بالمال ، ولا يبعد
أن يقال انه لما كان الإقرار بالنسب على هذا التقدير يوجب شيئين أحدهما إلحاق
النسب ، وهو ليس بمالي ، فلا مانع من الحكم به.
وثانيهما ـ الإنفاق
، وهو مالي مثله ثبت بإقراره ، فيحكم بالأول ، دون الثاني ، وحينئذ يجب ان ينفق
على من استلحقه من بيت المال ، لانه معد لمصالح المسلمين
ونقل عن الشهيد
قول بأنه ينفق عليه من ماله ، لانه فرع على ثبوت النسب ، ولأن في الإنفاق عليه من
بيت المال إضرارا بالمسلمين ، فكما يمنع من الإضرار بماله ، فكذا يمنع من الإضرار
بمال غيره.
ورد بأن إقراره
انما ينفذ فيما لا يتعلق بالمال كما تقدم ، وبيت المال معد لمصالح المسلمين ، فكيف
يقال : ان ذلك مضربهم ، وإلا لأدى ذلك الى كل ما يؤخذ منه جزاء ، ولانه لو قبل
إقراره في النفقة لأمكن أن يفعل ذلك وسيلة إلى تضييع ماله ، لان ذلك من مقتضيات
السفه ، وينبغي أن يعلم أنه في صورة الخلع لا يسلم اليه مال الخلع ، لانه تصرف
مالي وهو ممنوع منه.
وأما توكله
لغيره في البيع مثلا فهو صحيح للأصل ، وعموم أدلة جواز التوكل ، وصدق البيع في
محله عن اهله ، ومنعه من التصرف في ماله ـ لاحتمال إضاعة المال ـ لا يستلزم منعه
من مال غيره إذا كان باذن صاحبه ، ويمكن أن يكون اجازة الولي أيضا كافية على تقدير
القول بصحة العقد الفضولي ، والا فلا.
الثانية ـ هل
يثبت الحجر على السفيه بمجرد ظهور السفه ، أم يتوقف على حكم الحاكم؟ وهل يزول
بزوال سفهه ، أم يتوقف على حكم الحاكم؟ أقوال : ووجه علل التوقف على حكم الحاكم في
الموضعين ، أن الحجر حكم شرعي لا يثبت ولا يزول الا بدليل شرعي ، وأن السفه أمر
خفي ، والانظار فيه يختلف ، فناسب كونه
منوطا بنظر الحاكم.
وهذا القول
مختار المحقق في الشرائع ، وهو قول الشيخ في المبسوط ، وعلل القول بعدم التوقف في الموضعين بأن المقتضي للحجر
هو السفه ، فيجب تحققه ، فإذا ارتفع زال المقتضى فيجب أن يزول ، ولظاهر قوله تعالى
«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ»
حيث علق الأمر
بالدفع على إيناس الرشد ، فلو توقف معه على أمر آخر لم يكن الشرط صحيحا ، ومفهوم
الشرط حجة عند المحققين ، والمفهوم هنا ان مع عدم إيناس الرشد لا يدفع إليهم ، فدل
على أن وجود السفه وزواله كافيان في إثبات الحجر ودفعه ، لان السفه والرشد
متقابلان ، ولظاهر قوله تعالى «فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً»
الاية أثبت
عليه الولاية بمجرد السفه ، فتوقفها على أمر آخر يحتاج الى دليل ، والآية الأخرى
تساق لرفعه كما مر.
وهذا القول
مختار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، والروضة للتعليل المذكور هنا ، وهو الأقرب
، لأن المفهوم من الدليل آية ورواية أن الحجر وعدمه دائر مدار تحقق السفه وعدمه ،
وسيأتيك الروايات في المقام إنشاء الله تعالى ، ولا دلالة في شيء منها على حكم
الحاكم لا في الحجر ولا في زواله وظاهر الشهيد في شرح الإرشاد المناقشة في دلالة
الآية الأولى حيث قال : ولقائل أن يقول : إيناس الرشد شرط في زوال الحجر عن الصبي
ابتداء فلا يلزم كونه شرطا
__________________
في السفيه بعد زوال الحجر عنه.
وظني أن هذه
المناقشة ليست في محلها ، فإنه وان كان الأمر كما ذكره من أن مورد الآية انما هو
الحجر على الصبي ابتداء ، لكن من المعلوم الظاهر عند التأمل بالفكر الصائب أن
التعليق على الرشد هنا انما هو من حيث كونه في حد ذاته مناطا لصحة التصرف حيثما
كان ، لا من حيث خصوصية الصبي ، حتى يتم قوله فلا يلزم كونه شرطا في السفه ، وعلى
هذا بنى الاستدلال بالآية المذكورة.
وقال المحقق
الأردبيلي (قدسسره) في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف ويثبت حجر السفيه
بحكم الحاكم لا بمجرد سفهه على اشكال ـ ما لفظه : المراد ثبوت حجر السفيه بالمعنى
المتقدم بعد أن صار رشيدا وزال حجره ، ثم صار سفيها بحيث لو كان قبله كان ممنوعا
ومحجورا ، هكذا ينبغي التقييد ، فالظاهر أنه لا نزاع في أنه يثبت الحجر على السفيه
المتصل سفهه بعدم البلوغ بمجرد السفه ، وعدم توقفه على حكم الحاكم ، وكذا زواله
بزواله من دون الحكم ، للاية بل الإجماع على ما فهم من شرح الشهيد ولما سيأتي ،
فتأمل
فقيل : المشهور
توقفه على حكم الحاكم وحجره ، وهو مذهب المصنف في التذكرة ، للأصل «وتسلط الناس
على أموالهم» عقلا ونقلا وشمول أدلة التصرفات تصرفه الذي فعله في زمان سفهه من
الكتاب والسنة ، وصدقها عليه حينئذ ، ولعدم الدليل من الكتاب والسنة الا على
استصحاب السفه الى ان يرشد ، وأما الحادث بعده فلا ، وهذا دليل قوى ، ويؤيده
الإجماع على عدم تحققه في المفلس الا بعده. ويؤيده أيضا الشريعة السهلة ، فإنه ان
كان مجرد السفه حجرا أشكل المعاملات والأنكحة فان غالب الناس مجهول الحال أو معلوم
السفاهة انتهى.
أقول : ظاهر
كلامه أن محل الخلاف انما هو حدوث السفه بعد بلوغه رشيدا ، والا فلو كان متصلا
بالصغر ، فإنه لا خلاف هنا بأنه يحكم بالحجر عليه بمجرد السفه ، ولا يتوقف على حكم
الحاكم ، وأنت خبير بان الظاهر من كلام الأصحاب
__________________
ان محل الخلاف ما هو أعم من الأمرين ، وما نقله عن شرح الشهيد من الإجماع
على ما ادعاه.
والظاهر انه
أشار به الى شرحه على الإرشاد ، كما يشير إليه دائما ، فلم أقف عليه في الكتاب
المذكور ، ولم يتعرض لهذه المسألة بالكلية ، بل ظاهر عبارته مثل عبارات غيره انما
هو العموم ، لأنهم جعلوا العنوان في الخلاف السفيه بقول مطلق ، كما عنونا به
المسألة ، وهو أعم من أن يكون متصلا بالصغر أو منفصلا ، غاية الأمر أنهم لم يبحثوا
عنه في حال الصغر متى كان متصلا ، اعتمادا على ثبوت الحجر بمجرد الصغر ، فإنه أحد
أسبابه كما عرفت ، وانما بحثوا عنه بعد البلوغ ، لزوال ذلك السبب الأول ، ومرادهم
ما هو أعم كما ذكرنا ، وهذا التفصيل الذي ذكره لم أقف عليه الا في كلامه.
وأما استناده
الى الآية فإن كان المراد بها قوله سبحانه «فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً» فقد عرفت ـ في الجواب عما أورده الشهيد على الاستدلال
بها فيما تقدم ما يدل على الجواب هنا ـ من أن التعليق على الرشد في الآية انما وقع
من حيث ان الرشد حيث ما كان هو مناط صحة التصرف ، ومفهومه انه مع عدم الرشد وهو
السفه يجب الحجر ، ولا دلالة فيها على ما ذكره من التفصيل بوجه.
نعم هي دالة
على الحجر بمجرد ظهور السفه من غير توقف على حكم الحاكم في الصبي المتصل سفهه
ببلوغه كما اخترناه ، الا أن القائل بالتوقف على حكم الحاكم يقول به هنا أيضا ولكن
الآية حجة عليه ، والآية أيضا دالة بالتقريب الذي قدمناه على السفه غير المتصل ،
وأنه يثبت الحجر بمجرد السفه ، لتعليق رفع الحجر على الرشد ، ومفهومه ثبوت الحجر
مع عدمه الذي هو السفه ، وسياق الآية في اليتيم لا ينافي ذلك ، لان التعليق فيها وقع
على علة عامة له ولغيره ، ودخوله تحتها انما هو من حيث العموم.
وأما ما اختاره
من التوقف على حكم الحاكم وحجره في موضع الخلاف ، ففيه أن الظاهر من الآية
بالتقريب الذي ذكرناه أن الرشد شرط في رفع الحجر حيثما
كان ، وحيث إن السفه هو ما يقابل الرشد كما عرفت ، فإنه يكون شرطا في الحجر
حيثما كان ، وأينما كان السفه هو المقتضى للحجر بالتقريب المذكور ، كان الحجر
بمجرد حصول السفه ولو لم يتحقق الحجر به لم يكن مقتضيا ، وقد عرفت أنه مقتض ، وهذا
خلف.
وحينئذ فلا وجه
للتوقف على حكم الحاكم ، وما استدل به من الأدلة التي أطال بها فغايتها ان يكون
مطلقة دالة على ما ذكره بإطلاقها ، وما استدلنا به خاص ، فيجب تقديمه كما هو
القاعدة ، وتخصيص تلك العمومات به ، وأما تأيده بالإجماع على المفلس ، ففيه أن
ثبوت الحكم هناك بدليل لا يستلزم إجراءه فيما لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه
كما عرفت.
وأما تأيده
بالشريعة السهلة وان غالب الناس مجهول الحال أو معلوم السفاهة ، ففيه أنه يجب
المنع من معاملة معلوم السفاهة إجماعا ، وأما مجهول الحال وهو الأغلب في الناس فلا
مانع منه إذ المقتضي للمنع كما عرفت هو وجود السفاهة والأصل عدمها حتى تثبت ، فعده
مجهول السفاهة في قرن معلوم السفاهة غلط محض ، وبالجملة فالظاهر ان كلامه (قدسسره) في هذا المقام لا يخلو من مجازفة ومسامحة.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن في المسألة قولين آخرين أحدهما عدم توقف ثبوته على حكم الحاكم ، وتوقف
زواله عليه ، وهو مذهب الشهيد في اللمعة ، وعلل الأول بأن المقتضي له هو السفه ،
فيجب تحققه بتحققه ، ولظاهر قوله عزوجل «فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً»
حيث أثبت
الولاية عليه بمجرد السفه.
وعلل الثاني
بأن زوال السفه يفتقر الى الاجتهاد وقيام الأمارات ، لأنه أمر خفي فيناط بنظر
الحاكم ، ولا يخفى ما في الأخير من الضعف ، وعدم صلوحه لتأسيس حكم شرعي.
وثانيهما عكسه
، قال في المسالك : قيل ان به قائلا ولا نعلمه. نعم في التحرير جزم بتوقف الثبوت
على حكمه ، وتوقف في الزوال بحكمه : انتهى.
__________________
أقول : وفي
الإرشاد استشكل في ثبوت الحجر ، وجزم في زواله بالتوقف على حكم الحاكم فهو عكس ما
في التحرير.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه الشيخ في
التهذيب في تفسير قوله عزوجل «فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً»
عن الصادق عليهالسلام قال : «السفيه الذي يشترى الدرهم بأضعافه ، والضعيف
الأبله».
وفي تفسير
العياشي عنه عليهالسلام «السفيه شارب الخمر ، والضعيف الذي يأخذ واحدا باثنين».
وروى العياشي
في تفسير قوله عزوجل «وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ»
الاية عن
الصادق عليهالسلام قال : «هم اليتامى لا تعطوهم حتى تعرفوا منهم الرشد ،
قيل : فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ فقال : إذا كنت أنت الوارث لهم». وفي خبر كل من يشرب الخمر فهو سفيه».
وفي الفقيه عن
الباقر «عليهالسلام» أنه سئل عن هذه الآية ، قال : «السفهاء والولد ، إذا
علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد ، لا ينبغي له أن يسلط واحدا
منهم على ماله الذي جعل الله له قياما» الحديث. وفي خبر آخر عن أبى جعفر (عليهالسلام) في هذه الآية «قال لا تؤتوها شراب الخمر ، ولا النساء
، ثم قال : وأى سفيه أسفه من شارب الخمر». وفي مجمع البيان «اختلف في معنى
__________________
السفهاء على أقوال : أحدها ـ أنهم النساء والصبيان ، ورواه أبو الجارود عن أبى جعفر (عليهالسلام) ، وثانيها ـ أنه عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو
محجور عليه للتبذير».
وقريب منه ما
روى عن أبى عبد الله (عليهالسلام) «أنه قال : ان السفيه شارب الخمر ومن جرى مجراه» الى
آخره.
وروى في الفقيه
في تفسير قوله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً»
عن الصادق (عليهالسلام) «إيناس الرشد حفظ المال».
وروى في المجمع
عن الباقر (عليهالسلام) «الرشد : العقل وإصلاح المال».
والقمي في
تفسيره عنه (عليهالسلام) «في هذه الآية قال : من كان في يده مال بعض اليتامى
فلا يجوز له أن يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم ، فإذا احتلم وجب عليه الحدود واقامة
الفرائض ، ولا يكون مضيعا ، ولا شارب خمر ، ولا زانيا ، فإذا آنس منه الرشد دفع
اليه المال ، وأشهد عليه ، وان كانوا لا يعلمون أنه بلغ فإنه يمتحن بريح إبطه ، أو
نبت عانته ، فإذا كان كذلك فقد بلغ ، فيدفع اليه ماله إذا كان رشيدا ، ويجوز أن
يحبس عنه ماله ويعتل عليه انه لم يكبر بعد».
وروى في الكافي
عن أبى الجارود قال : «قال أبو جعفر «عليهالسلام» : إذا حدثتكم بشيء فسلوني من كتاب الله ، ثم قال :
وفي حديثه ان الله نهى عن القيل والقال : وفساد المال وكثرة السؤال فقيل : يا بن
رسول الله وأين هذا من كتاب الله؟
__________________
قال : ان الله يقول «لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ»
وقال «وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً»
وقال «لا تَسْئَلُوا عَنْ
أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».
أقول : يستفاد
من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض أن السفه مقابل للرشد ، كما ذكره الأصحاب ،
وأن مجرد السفه موجب ومقتض لعدم الدفع الى من اتصف به ، لان قوله سبحانه «لا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ»
اما أن يراد به
أموالهم كما عرفت من خبر العياشي المذكور ، أو ما هو الظاهر من الآية كما يدل عليه
غيره ، والنهى عن إعطائهم انما هو من حيث السفه ، لان التعليق على الوصف يشعر
بالعلية ، فيكون المعنى لا تدفعوا الى السفهاء أموالهم أو أموالكم من حيث اتصافهم
بالسفه.
ومنه يعلم أنه
العلة في المنع والمقتضى له وهو الظاهر من جملة الأخبار المذكورة وبه يظهر قوة
القول الذي اخترناه من الحكم بالحجر بمجرد السفه ، وعدم التوقف على حكم الحاكم ،
وأنه يزول أيضا الحجر بزواله ، لانه متى زالت العلة زال معلولها.
ومنها يعلم
أيضا أن الرشد مناط صحة التصرف حيث ما كان ، وذكره في الاية أعنى قوله «فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً» انما وقع من حيث كونه كذلك ، فان قوله عليهالسلام إيناس الرشد حفظ المال ، وفي الرواية الأخرى الرشد العقل
وإصلاح المال ، انما هو تفسيره للرشد في حد ذاته ، لا لخصوصية رشد الصبي.
ويستفاد أيضا
من قوله عليهالسلام في رواية القمي ـ فيمن يجهل حال بلوغه ، فإنه يمتحن
بريح إبطيه ، ونبت عانته ، وإذا كان كذلك فقد بلغ ـ أن نبت العانة علامة على
البلوغ ، لا على سبقه ، كما قيل.
وظاهر الاخبار
المذكورة هو ترتب السفه على مجرد تضييع المال وإفساده ، واما اعتبار كون ذلك ملكة
كما تقدم ذكره ، فهو غير ظاهر منها.
__________________
وظاهرها ايضا
حصول السفه بارتكاب بعض المعاصي ، كشرب الخمر والزنا ، وان لم يتضمن تضييع المال ،
ولم أطلع على قائل به ، الا أن يحمل على ما يتضمن التضييع وفيه بعد.
وحمل بعض
أصحابنا السفه الوارد في الاخبار في شارب الخمر على معنى غير المعنى المذكور هنا ،
وكأنه أراد به الفسق ، وهو غير بعيد الا ان في بعض الاخبار في تفسير الآية وهي
قوله «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ»
تفسيرها بشارب
الخمر ، فلا يتم ما ذكره.
وظاهر كلام
العلامة في التذكرة ـ المتقدم نقله في المقام الثالث من الموضع الأول في الصغر ـ أن
ما لا يتضمن تضييع المال من المعاصي كمنع الزكاة وترك الصلاة ونحوهما لا يعد سفها
مع حفظ المال.
الا أن في
المقام اشكالا قل من تنبه له ، وهو أنه قد دلت الاخبار على جواز معاملة الظلمة
والحكام ، وأخذ جوائزهم وعطاياهم ، وقد تقدم نقل جملة من الاخبار بذلك وقبول
الأخماس والزكوات منهم ، ونحو ذلك مع انه لا إشكال في ثبوت السفاهة في حقهم بصرف
الأموال في غير حلها ، مثل شراء الخمر وآلات اللهو وصرف الأموال إلى المغنين ،
وأصحاب اللهو واللعب كما شاهدناه في زماننا ، وصرف الأموال رياء وسمعة ونحو ذلك من
المصارف المحرمة.
ومقتضى ذلك
الحكم بسفاهتهم وعدم جواز معاملتهم ، ولأصحاب والاخبار على خلافه ، وأن غاية ما
حكم به الأصحاب الكراهة ، تفاريا من طرح الأخبار الدالة على جواز ذلك ، وأيضا أن
الأصحاب صرحوا بأن الرشد شرط في صحة المعاملات كما هو ظاهر الآية المتقدمة.
وحينئذ فلا بد
من تحققه ، والعلم به في صحة المعاملة ، تحقيقا للشرطية ، وعلى هذا فمن دخل سوقا
ليشتري متاعا سيما إذا كان غريبا كيف له بمعرفة ذلك ، والعلم به أولا لتصح معاملته
، مع أنه شرط إجماعا ، ومقتضى الأصل العدم ، حتى يعلم ذلك.
اللهم الا أن
يقال : ن البناء هنا على الظاهر دون الأصل ، باعتبار حمل أفعال المسلمين على الصحة
، كما ورد في جملة من الاخبار من الأمر بحسن الظن بالمؤمن ، حتى أن الفقهاء جعلوا
هذا أصلا من الأصول المتداولة في كلامهم ، وبنوا عليهم فروعا كثيرة ، الا أن هذا
انما يحسم مادة الإشكال الثاني ، دون الأول. والله العالم.
الثالثة ـ إذا
ثبت الحجر على السفيه فباعه انسان كان البيع باطلا ، فان كان المبيع موجودا
فلصاحبه استعادته ، قالوا : ولا فرق في جواز استعادته مع وجوده بين كون من باعه
عالما بالسفه أو جاهلا ، لان البيع في نفسه باطل ، فله الرجوع في ماله متى وجده ،
وان تلف وكان القبض باذن صاحبه مع كونه عالما بالسفه ، فان تلفه من مال صاحبه ،
لانه سلطه عليه مع علمه بأنه محجور عليه ، وان فرض فك الحجر عنه بعد ذلك ، لأنه
إذا لم يلزم حال الإتلاف لا يلزم بعد الفك.
وبالجملة فإن
العلم بوجود السفه مانع من العوض ، فإذا تلف والحال هذه ففك الحجر بعد ذلك لا أثر
له في ضمانه ، أما لو تلف والحال أن البائع جاهل بالسفه فالمشهور أن حكمه كذلك.
قيل : ووجهه أن
البائع تصرف في معاملته قبل اختبار حاله ، وعلمه بأن العوض المبذول منه ثابت أم لا
، فهو مضيع لماله ، ولا يخفى ما في هذا التعليل العليل من الضعف ، فإنه لا قائل
بتوقف صحة البيوع على اختيار البائع أو المشتري بكونه محجورا عليه أم لا ، بل
والأصل عدم ذلك
وقد تقدم في
سابق هذه المسألة ما يؤيده ، وظهور المانع بعد ذلك لا يوجب ما ذكروه ، ولهذا ان
العلامة في التذكرة نقل عن بعض الشافعية أن السفيه إذا أتلف المال بنفسه ضمن بعد
رفع الحجر ، ثم قال : ولا بأس به ، ومراده مع الجهل ، والا فمع العلم لا خلاف ولا
إشكال في كون تلفه من صاحبه ، وأما إذا كان السفيه قد قبضه بغير اذن صاحبه وأتلفه
، فإنه يضمنه مطلقا ، سواء كان البائع عالما أو جاهلا ، لان البيع كما عرفت فاسد ،
فلا يقتضي الاذن في القبض ، فيدخل فيمن تصرف في مال غيره بغير اذن ، كما لو غصب
مالا أو أتلفه بغير اذن مالكه ، فإنه يضمنه
ولو أذن الولي
للسفيه في البيع ، قال الشيخ في المبسوط : لا يصح ، وتبعه ابن البراج ونقل العلامة
القول بالصحة في المختلف عن بعض علمائنا ، وقال : انه الأقوى ، واحتج عليه بأن
المقتضي للصحة وهو صدور البيع من أهله في محله موجود ، والمانع وهو السفه مفقود ،
إذ التقدير الاذن ، فأمن من الانخداع ، فيثبت الحكم انتهى وهو جيد.
ولو أودعه شخص
وديعة فأتلفها ، فقيل : بأنه لا ضمان عليه ، واختاره المحقق في الشرائع ، وعلل ذلك
بتفريط المودع بإعطائه ، وقد نهى الله عن ذلك بقوله «وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ»
فيكون بمنزلة
من ألقى ماله في البحر وقيل : انه يضمن إذا أتلفها أو تلفت بتفريطه ، واختاره
العلامة في التذكرة ، وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، واحتج على ذلك بأن المالك
لم يسلطه على الإتلاف ، وانما أمره بالحفظ فقد حصل منه الإتلاف بغير اختيار صاحبها
، كما لو غصب ، والحال أن السفيه بالغ عاقل ، والأصل عصمة مال الغير الا بسبب ، مع
أن وضع اليد حال الإتلاف غصب.
قالوا : وفي
حكم الوديعة العارية ، وأيده المحقق الأردبيلي بعد ان استظهر بعموم دليل الضمان ،
قال : وكونه سفيها وتسليم مالكه إياه لا يستلزم عدم الضمان لان له أهلية الضمان
والحفظ ، لانه بالغ عاقل ، الا أنه تسامح في ماله وذلك غير قادح في أهليته فلا
يستلزم كون المالك هو المضيع ولهذا يجوز توكيله انتهى.
أقول : ويمكن
تأييد القول الأول بأنه لا ريب في دلالة الآية المتقدمة على النهى عن إعطاء السفيه
الأموال ، ومن الظاهر أن تحريم ذلك انما هو من حيث تطرق التلف إليها ، وفواته من
جهة السفه ، ولو تم القول بالضمان المستلزم لعدم الفوات لم يكن لهذا النهى وجه
بالكلية ، لأنه لا فرق بين أن يرده بعينه ، أو عوضه من قيمة أو مثل ، فلا يحصل هنا
ضرر على المودع والمعير ، فأي ثمرة لهذا التحريم الذي دلت عليه الآية ويمكن أيضا
تأييد ذلك بما رواه
في الكافي عن
حريز في الصحيح أو الحسن
__________________
قال : كان لاسماعيل بن أبى عبد الله (عليهالسلام) دنانير وساق الخبر ومضمونه أنه أراد أن يستبضع رجلا
فنهاه أبوه (عليهالسلام) عن ذلك لان ذلك الرجل كان يشرب الخمر ، فخالف أباه
فاستبضعه ، فاستهلك ماله فحج أبو عبد الله (عليهالسلام) وحج معه ابنه إسماعيل ، فجعل يطوف البيت ويقول : اللهم
أجرني ، واخلف على ، فلحقه أبو عبد الله عليهالسلام فهمزه بيده من خلفه.
فقال له : مه
يا بنى ، فلا والله ما لك على الله حجة ، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك
أنه يشرب الخمر فائتمنته الى أن قال : ولا تأتمن شارب الخمر فان الله عزوجل يقول : في كتابه «وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ»
فأي سفيه أسفه
من شارب الخمر ان شارب الخمر لا يزوج ولا يؤتمن على أمانة فمن ائتمنه على أمانة
فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله عزوجل أن يأجره ويخلف عليه».
والتقريب فيه
ان الظاهر من قوله عليهالسلام انه ليس لمن ائتمن شارب الخمر لكونه سفيها أن يأجره الله
ويخلف عليه هو أنه قد أتلف ماله بنفسه ، وضيعه بدفعه الى من كان كذلك كمن رمى ماله
في البحر فليس له على الله حق لتفريطه في نفسه ، ولا على من دفعه اليه فهو غير
مستحق لشيء بالكلية عقوبة له ومؤاخذة له بمخالفته الله سبحانه.
ولو كان المال
مضمونا والحق ثابتا في ذمة ذلك السفيه كسائر الحقوق المضمونة في ذمم المديونين ـ لم
يكن للمنع من الدعاء بخروجه ، أو المعاوضة عنه بالأجر والثواب وجه لانه حق ثابت
كسائر الحقوق ، يستحق التوصل اليه بكل وجه ممكن ، ومن وجوه التوصلات الدعاء مع عدم
الحيلة في الوصول بغيره من الأمور الموجبة لذلك.
وبالجملة لو
ثبت كونه حقا شرعيا في ذمة من دفعه اليه لاستحق المعاوضة من ـ الله سبحانه عليه
عقلا ونقلا ، كسائر الحقوق التي تفوت على أصحابها ، وكيف
__________________
كان فالمسألة لا يخلو من شوب الاشكال.
قال العلامة في
التذكرة : وحكم الصبي والمجنون كما قلناه في السفيه من من وجوب الضمان عليهما إذا
أتلفا مال غيرهما بغير اذنه أو غصبا فتلف في يديهما ، وانتفاء الضمان عنهما فيما
حصل في أيديهما باختيار صاحبه كالبيع والقرض ، وأما الوديعة والعارية إذا دفعها
صاحبها إليهما فتلف فلا ضمان عليهما ، فإن أتلفاهما فالأقرب انه كذلك ، ولبعض
العامة وجهان انتهى.
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك بالنسبة إلى الوديعة والعارية إذا دفعهما صاحبهما إلى
الصبي والمجنون فتلفتا أو أتلفاهما بعد ان ذكر أن في ضمانهما قولين : التفصيل في
ذلك ، والفرق بين التلف والإتلاف ، وأن الأجود الضمان في الثاني دون الأول.
وعلل بأن
الضمان باعتبار الإهمال انما يثبت حيث يجب الحفظ والوجوب من باب خطاب الشرع
المتعلق بأفعال المكلفين ، فلا يتعلق بالصبي والمجنون ، ووجوب الضمان في الثاني
بأن إتلاف مال الغير مع عدم الاذن فيه سبب في ضمانه ، والأسباب من باب خطاب الوضع
لا يتوقف على التكليف ، قال : ومنه يعلم وجه ضمان ما يتلف به من مال الغير بغير
اذنه.
أقول عندي فيما
ذكروه وحكموا به من الضمان على الصبي والمجنون في جميع هذه من الصور المفروضة نظر
، لحديث «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ، والمجنون حتى يفيق». وظاهر رفع التكليف
والمؤاخذة بحقوق الله (سبحانه) وحقوق الناس وأن كلما يفعلانه فهو في حكم العدم.
ولو قيل ـ ان
المراد برفع القلم انما هو بالنسبة إلى المؤاخذة ، والمعاقبة فيما يفعلانه مخالفا
للشرع ـ قلنا : إيجاب الضمان عليهما في الصور المذكورة ان تم فهو موجب للمؤاخذة ،
لان من أخذ بما أوجب الله عليه استحق المؤاخذة
__________________
والمعاقبة ، فاللازم اما سقوط وجوب الضمان الذي ادعوه أو حصول المؤاخذة
والمعاقبة ، وفي الأول رد لقولهم ، وفي الثاني رد للخبر المتفق على صحته ، وأيضا
فإن قوله في المسالك بان الوجوب من باب خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين فلا
يتعلق بالصبي والمجنون ، يجري في الحكم بوجوب الضمان عليهما في هذه الصور التي
ذكروها والله العالم.
الرابعة ـ لا
خلاف في أن الولاية في مال الصغير والمجنون المتصل جنونه بالبلوغ للأب والجد له
وان علا ، وأما السفيه فان ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ان المشهور ان
ولايته للحاكم ، سواء تجدد سفهه بعد البلوغ رشيدا أو بلغ سفيها ، قال : ووجهه على
تقدير القول بتوقف الحجر بالسفه على حكم الحاكم ورفعه عليه ظاهر ، لكون النظر
حينئذ إليه ، ثم نقل القول بأنه ان بلغ سفيها فالولاية للأب والجد ثم وصي أحدهما
ثم الحاكم والصبي ان بلغ رشيدا ثم تجدد سفهه فأمره إلى الحاكم دونهما ، قال : وهو
أجود استصحابا لحكم ولايتهما في الأول ، وارتفاعها في الثاني فيحتاج عودها الى دليل
، والحاكم ولى عام ، لا يحتاج الى دليل. نعم يتخلف إذا قدم عليه غيره وقد انتفى
هنا.
أقول : ان من
القائلين بتوقف الحجر وزواله على حكم الحاكم العلامة في جملة من كتبه ، كالمختلف
والتذكرة ، مع أنه قال في التذكرة : إذا بلغ الصبي لم يدفع اليه ماله ، الا بعد العلم
برشده ، ويستديم التصرف في ماله من كان متصرفا فيه قبل بلوغه ، أبا كان أو جدا أو
وصيا أو حاكما أو أمين حاكم ، فان عرف رشده انفك الحجر عنه ، ودفع اليه المال ،
وهل يكفى بالبلوغ والرشد في فك الحجر عنه ، أم يقتصر الى حكم الحاكم وفك القاضي؟
الأقرب الأول ، لقوله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ»
ولزوال المقتضى
للحجر كالمجنون ، ولانه لو توقف على ذلك ، لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من
الحاكم ، ولكان عندهم من أهم الأشياء
__________________
الى آخره.
وهو ظاهر في
استمرار ولاية الأب والجد على من بلغ سفيها ، مع أن مذهبه كما قدمنا نقله عنه ،
توقف الحجر وزواله على حكم الحاكم ، وما ذاك الا من حيث تخصيصهم القول بالتوقف على
حكم الحاكم بصورة تجدد السفه بعد البلوغ ، وأنه لا نزاع في عدم توقف حجر السفيه
على حكم الحاكم ، إذا كان السفه متصلا بالبلوغ ، وحينئذ فتفريع ولاية الحاكم في
صورة اتصال السفه بالبلوغ على القول بتوقف الحجر وزواله على حكم الحاكم كما ذكره
لا وجه له ، مع أن ظاهر الآية والاخبار التي قدمناها انما هو استمرار ولاية الأب
والجد الثابتة قبل البلوغ في صورة اتصال السفه بالبلوغ ، كقوله في رواية هشام بن
سالم «وان احتلم ولم
يونس منه رشد أو كان ضعيفا ، أو سفيها فلممسك عنه وليه». وهو الظاهر من قوله
سبحانه «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ»
فإن مفهومه أنه
مع عدم إيناس الرشد ان كان سفيها أو مجنونا لا يدفع اليه ، والخطاب للأولياء حال
الصغر ، وهم الأب والجد ومن تفرع عليهما ، بغير خلاف الا مع عدم الجميع .
وبذلك يظهر لك
ضعف القول المذكور. وان كان هو المشهور.
بقي الكلام هنا
في مواضع الأول ـ قال في المفاتيح في باب النكاح : تثبت الولاية في النكاح للأب
والجد وان علا على الصغير ، للنصوص المستفيضة وعلى السفيه والمجنون ذكورا كانوا أو
اناثا مع اتصال السفه والجنون بالصغر بلا خلاف.
وفيه أن دعوى
عدم الخلاف ـ هنا بالنسبة إلى السفيه ـ يدفعه ما قدمنا نقله ـ
__________________
عن المسالك ـ من أن المشهور ان الولاية للحاكم على السفيه مطلقا ، اتصل
سفهه بالبلوغ ، أو تجدد بعده بل صرح بذلك هو نفسه في الباب الخامس في التصرف
بالنيابة فقال بعد أن صرح بأن ولاية الصبي والمجنون للأب والجد : ما لفظه قيل :
وكذا حكم الولاية في مال من بلغ سفيها استصحابا لولاية الأب والجد ، أما من تجدد
سفهه بعد أن بلغ رشيدا والمفلس فولايتهما للحاكم لا غير ، وقيل : بل الولاية في
السفيه مطلقا للحاكم لا غير ، كالمفلس ، وهو أشهر انتهى.
نعم المفهوم من
كلام بعض الأصحاب في كتاب النكاح أن هذا الإجماع انما هو في المجنون خاصة ، بمعنى
انه ان بلغ مجنونا فان ولايته للأب والجد بلا خلاف.
وبه يظهر ان
الظاهر ان لفظ السفيه هنا في العبارة المتقدمة وقع سهوا من قلمه ، وأما حمل ذلك
على النكاح بالخصوص ـ دون المال كما ربما يتوهم من ذكر ذلك في باب النكاح ـ فيرده
ما يفهم من المسالك من أنه لا فرق في هذا الخلاف بين المال والنكاح .
الثاني ـ لو
بلغ عاقلا ثم تجدد سفهه فقد تقدم أن الولاية فيه للحاكم ، وهو المشهور ، وقيل :
يعود ولاية الأب والجد بعد زوالهما ، قال : وكذا في الجنون لو طرء بعد البلوغ
والرشد.
__________________
قال : في
المفاتيح وان طرأ الوصفان بعد البلوغ والرشد ففي ثبوت ولايتهما قولان : وبذلك صرح
في الكفاية أيضا.
أقول :
والمسألة خالية من النص الظاهر ، الا أن الأقرب بالنظر الى ما ذكروه من التعليلات
هو القول المشهور ، لانه بعد زوال الولاية بالبلوغ والرشد فرجوعها يحتاج الى دليل.
وغاية ما يفهم
من الآيات والاخبار هو ثبوت الولاية على الصغير ، ومن اتصل جنونه أو سفهه بالصغر ،
وأما من تجدد له بعد البلوغ فلا دليل عليه ، وولاية الحاكم ثابتة على الإطلاق ،
والمراد به الامام (عليهالسلام) أو نائبه الخاص ، أو العام وهو الفقيه الجامع للشرائط
، فيدخل هذا الفرد تحت ذلك .
الثالث ـ قد
عرفت في صدر المسألة أن الولاية في مال الصغير والمجنون المتصل جنونه بالبلوغ للأب
والجد وان علا بلا خلاف ولا اشكال ، وانما الإشكال فيما لو تعارض عقد الأب والجد ،
بأن أوقعاه دفعة ، فهل يقع باطلا لاستحالة الترجيح أو تقدم عقد الجد ، أو عقد الأب؟
أوجه : والكلام في ولاية المال ، أما النكاح فسيأتي الكلام في بابه إنشاء الله
تعالى ، ونقل عن التذكرة في هذا الباب : القول بتقديم عقد الجد ، وفي باب الوصايا
من الكتاب المذكور قال : ان ولاية الأب مقدمة على ولاية الجد ، وولاية الجد مقدمة
على ولاية الوصي للأب.
وبذلك صرح في
المسالك أيضا في كتاب الوصايا فقال : الأمور المفتقرة إلى الولاية ، اما أن تكون
أطفالا ، أو وصايا ، أو حقوقا ، أو ديونا ، فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ثم
لجده لأبيه ، ثم لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية الأقرب
__________________
فالأقرب منهم الى الميت ، فان عدم الجميع فوصى الأب ، ثم وصى الجد ، وهكذا
فان عدم الجميع فالحاكم ، والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي ، ثم الحاكم
انتهى.
هذا كلامه في
كتاب الوصايا وظاهره الجزم به ومع أنه في كتاب الحجر اقتصر على نقل الاحتمالات
الثلاثة التي ذكرناها ، ونقل كلام التذكرة ولم يرجح شيئا في البين ، والظاهر أن
وصى الأب لا حكم له مع الجد ، وبه صرح في التذكرة ، لأن ولاية الجد شرعية ، وولاية
الوصي جعلية ، ولو تعدد الأجداد بوجود الأدنى والأعلى ، فإنه يأتي فيهم ما تقدم في
الجد والأب من الأوجه الثلاثة كذا صرح في المسالك في هذا الكتاب ، مع أن ظاهر
كلامه الذي نقلناه في كتاب الوصايا تقديم الأقرب فالأقرب من الأجداد إلى الميت.
الرابع ـ هل
يعتبر العدالة في الأب والجد؟ أكثر عبارات الأصحاب عارية عن ذلك ، قيل : وفي عبارة
القواعد وشرحه اشارة اليه ، والاخبار الدالة على ولايتهما مطلقة ، والأصل عدمها
حتى يقوم دليل واضح على ثبوتها ، وهو اختيار جملة من محققي متأخري المتأخرين
والظاهر من كلام الأصحاب أيضا وأما الوصي فالمشهور بين الأصحاب اعتبار العدالة فيه
، وظاهر جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كالمحقق الأردبيلي والفاضل الخراساني عدم
اعتبار ذلك ، استنادا الى عموم الروايات الدالة على اجراء حكم الوصي من غير اشتراط
العدالة ، وكذا عموم ما دل على مضاربة الرجل بمال ولده ، والوكالة فيه من غير
اشتراط العدالة.
أقول : ويمكن
أن يستدل على اشتراطها في الوصي بما رواه محمد بن إسماعيل في الصحيح قال : ان رجلا من أصحابنا مات ولم يوص ، فرفع
أمره الى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد بن سالم القيم بماله ، وكان رجلا خلف ورثة
صغار أو متاعا
__________________
وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع ، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في
بيعهن ، ان لم يكن الميت صير اليه وصيته ، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي لأنهن فروج
، قال فذكرت ذلك لأبي جعفر «عليهالسلام» فقلت له : يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ،
ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن ، أو قال : يقوم بذلك رجل منا فيضعف
قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك القيم؟ قال : فقال : إذا كان القيم مثلك أو مثل
عبد الحميد فلا بأس». والمراد المماثلة في الوثاقة والعدالة
ورواية رفاعة قال : «سألته عن رجل مات وله بنون صغار وكبار من غير
وصية ، وله خدم ومماليك وعقار كيف يصنعون الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال : ان قام
رجل ثقة فقاسمهم ذلك كله فلا بأس». وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في وصية أمير المؤمنين عليهالسلام قال فيها : «وان حدث بالحسن والحسين عليهماالسلام حدث فإن الأخر منهما ينظر في بنى على ، فان وجد فيهم من
يرضى بهديه وإسلامه وأمانته ، فإنه يجعله ان شاء ، وان لم ير فيهم بعض الذي يريد ،
فإنه يجعله الى رجل من أبى طالب يرضى به ، فان وجد آل أبى طالب قد ذهب كبراؤهم
وذوو آرائهم فإنه يجعله الى رجل يرضاه من بنى هاشم» الخبر.
ومورد هذا
الخبر الوصي لكنه لا دلالة له على العموم في كل وصى ، وبما يفرق بين الوصي وبين ما
دل عليه الخبران الأولان ، بأن الوصي قد عينه وان كان غير عدل ، وفي تبديله وعزله
دخول تحت قوله تعالى «فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ».
وفيه أن تبديله
وعزله انما وقع رعاية للموصى ، ومحافظة على تنفيذ وصاياه ، حيث أن الوصي لما كان
غير عدل فلا يؤمن منه التغيير والتبديل ، والإخلال بتنفيذ
__________________
الوصايا كما أمر.
والظاهر أن
الاحتياط في المقام أن يضم الحاكم اليه عدلا يكون ناظرا عليه في تنفيذ الوصايا ،
ويستفاد من الخبرين الأولين الاذن لعدول المؤمنين في تولى بعض الأمور الحسبية
المنوطة بالحاكم الشرعي ، وبه صرح الأصحاب أيضا.
الخامسة ـ المفهوم
من كلام جملة من الأصحاب ان السفيه حكمه في العبادات البدنية والمالية الواجبة حكم
الرشيد في وجوب الإتيان بهما ، الا أنه لا يمكن من من صرف المال ، وعلى هذا فمتى
كان الحج عليه واجبا فليس للولي منعه ، بل يجب عليه المبادرة اليه ، وعلى الولي
تولى الإنفاق عليه بنفسه أو وكيله ، سواء زادت نفقته سفرا على نفقة الحضر أم لا ،
ولا فرق في ذلك بين حجة الإسلام أو حج النذر إذا كان النذر سابقا على الحجر.
وأما لو أراد
الحج ندبا فإنهم اشترطوا فيه أن لا يزيد نفقته سفرا عن نفقته حضرا لعدم الضرر.
ولا أعرف لهذا
الشرط وجها إذا كان الولي هو أو وكيله المتولي الإنفاق عليه ، والضرر انما يتطرق
بتمكينه من النفقة على نفسه ، على انه من الظاهر البين أن نفقة السفر يزيد على
نفقة الحضر غالبا ، لما يحتاج اليه من الدواب ، والغرم كما هو المشاهد المعلوم في
جميع الأزمان ، وحينئذ فكيف يمنع من هذا الثواب العظيم المرتب على الحج ، وهو مكلف
عاقل لا مانع سوى السفه الذي هو عبارة عن صرف المال في غير محله ، وهو هنا مندفع
بتولي الولي أو وكيله لذلك ، والمسألة المذكورة غير منصوصة كما اعترف به في
المسالك ، ليجب الوقوف فيها على ما ذكروه ، والعجب انهم قالوا : كما تقدم نقله
عنهم أنه يجوز للإنسان أنه يتصدق بجميع أمواله ، وينفقها في الخيرات والطاعات ولا
يكون ذلك سفها مع ما فيه من الضرر العظيم ، ويمنعون هنا من زيادة نفقة السفر ،
لكون ذلك ضررا.
والى ما ذكرناه
يميل كلام المحقق الأردبيلي أيضا كما أشار إليه بقوله :
الظاهر عدم منعه من المندوب أيضا ، كمثل ما مر ، وان استلزم صرف المال
زائدا على الحضر ، على أن ما ذكروه من عموم الحجر ـ على وجه يتناول منعه من فعل
الطاعات ، والقربات المستحبة والنذر ونحو ذلك في محل المنع ، فإن غاية ما يفهم من
الاخبار والآيات التي تقدم ذكرها ، هو أنه لسفهه لا يمكن من المال خوفا أن يصرفه
في المصارف الغير الشرعية.
وحينئذ فلو
أراد أن يتصدق بصدقة أو يبنى مسجدا أو نحو ذلك ، على وجه لا يدفع المال اليه ، فما
المانع منه ، حتى انهم يحكمون بالحجر فيه وفي أمثاله ، فإنه عاقل كامل داخل تحت
الخطاب بتلك الأخبار الدالة على استحباب الصدقة ، وفعل الخير وبذل المعروف ،
وتخصيص هذه الأخبار بأخبار الحجر ليس اولى من العكس ، بل العكس أولى ، فإن غاية ما
يتمسكون به كونه سفيها ، ومجرد السفه من حيث هو لا يصلح للمنع من ذلك كالفاسق.
نعم الذي
يقتضيه السفه هو الحجر عليه في المال ، لئلا يصرفه في غير المصارف الشرعية من وجوه
السفه ، والفرض هنا أنه انما صرف في المصارف الشرعية التي ليست بسفه على وجه لم
يدفع اليه المال بنفسه .
وبالجملة فإن
دعوى عموم الحجر على وجه يتناول ما ذكرناه وأمثاله ممنوعة ، لا أعرف عليها دليلا ،
ثم انهم قالوا أيضا : أنه إذا حلف انعقدت يمينه ، لانه لا تعلق له بالمال ، ومثله
لو نذر أو عاهد على وجه لا تعلق له بالمال ، أما لو كان النذر أو
__________________
العهد متعلقا بالمال كأن نذر أن يتصدق بمال مثلا ، فان كان معينا بطل النذر
، وان كان في الذمة روعي في انعقاده زوال السفه.
وإذا حلف وحنث
في يمينه فإنه يجب عليه الكفارة قطعا ، لانه بالغ عاقل ، الا أنه يبقى الإشكال في
تعين التكفير بالصوم ، لانه محجور عليه المال ، فيصير كالعبد والفقير ، أو جواز
التكفير بالمال؟ نظرا الى أن الكفارة تصير واجبة عليه ، وهو مالك للمال ، فيخرج من
المال ، كما يجب أخرج الزكاة والخمس ومؤنة الحج الواجب ، والكفارة التي قد سبق
وجوبها الحجر قولان :
وبالأول صرح
العلامة في جملة من كتبه ، وظاهر المحقق في الشرائع التردد في المسألة لما ذكرنا
من تعارض الوجهين المذكورين ، وظاهره في المسالك الميل الى القول الأول ، وأجاب عن
دليل الثاني قال : ويضعف بأن هذه الواجبات ثبت عليه بغير اختياره ، فلا تصرف له في
المال ، وانما الحاكم به الله تعالى ، بخلاف الكفارة في المتنازع فان سببها مستند
الى اختياره ، ومخالفته لمقتضى اليمين ، فلو أخرجها من المال أمكن جعل ذلك وسيلة
له الى ذهابه ، لان مقتضى السفه توجيه صرفه الى ما لا ينبغي انتهى.
أقول : فيه ما
عرفت من أنه لا دليل على ما ادعوه في هذا المقام ، بل الدليل على خلافه ظاهر من
أخبارهم عليهمالسلام وذلك فإنه متى حلف أو نذر أو عاهد دخل تحت الأخبار
الدالة على وجوب الوفاء بهذا الأشياء وما يترتب عليها ، لانه مكلف وسفهه لم يسقط
عنه التكليف.
وغاية ما يوجبه
السفه منعه من الصرف في المال بغير الوجوه المشروعة ، لا مطلقا كما ادعوه ، فانا
لم نقف لهم فيه على دليل ، بل ظاهر الآية والاخبار المتقدمة انما هو ما قلناه على
أنا لا يجوز دفع المال اليه فيما يتوقف على المال في هذه الأمور ، بل المتولي
لصرفه هو وليه الذي بيده المال.
والتحقيق انه
قد تعارض هنا أدلة وجوب الوفاء بهذه الأمور ، وما يترتب عليها كما في غيره من
المكلفين ، وأدلة الحجر وتخصيص أحد الدليلين بالاخر يحتاج
الى مخصص ، فبأي جهة قدموا العمل بأدلة الحجر ، وخصصوا بها تلك الأدلة ، مع
أن الأمر عند النظر بعين التحقيق انما هو بالعكس ، فإن أدلة الحجر كما عرفت لا
عموم فيها ، كما يدعونه على وجه تشتمل هذه الأمور ونحوها ، وحينئذ فيجب العمل بتلك
الأخبار الدالة على وجوب الوفاء لهذه الأمور وما يترتب عليها ،
وبذلك يظهر لك
أن حكمهم بكون النذر بالصدقة بمال معين باطلا ، وكذا كونه موقوفا لو نذر التصدق
بمال في الذمة في محل المنع ، لعدم الدليل عليه مع قيام الأدلة على الصحة كما
عرفت.
والاستناد في
منع ذلك الى أنه لو صح تصرفه كذلك لأمكن أن يجعل ذلك وسيلة إلى ذهاب ماله ، لان
مقتضى السفه يوجب صرفه الى ما لا ينبغي ـ مردود بأن السفيه ليس مجنونا يصرف ماله
فيما لا يشعر به ، بل غاية أمره انه لسفهه وعدم خوف الله عزوجل يصرف أمواله في المصارف المحرمة الموجبة للذاته كالزنا
وشرب الخمر ونحو ذلك من المصارف التي يتلذذ بها.
وحينئذ فكيف
يصير صرفه المال في النذر والصدقة والكفارة وسيلة إلى صرفه فيما لا ينبغي ، وكيف
تصير هذه الأشياء مما لا ينبغي ، وهي عبادات يترتب عليها الأجر والثواب وهو مكلف
عاقل قد يريد الثواب والأجر وان كان سفيها في بعض أموره ، على أنا قد اعتبرنا تولى
الولي لذلك ، وعدم تمكينه من المال كما تقدم.
وأما ما ذكره
في المسالك في الجواب عن دليل القول الثاني من الفرق ، ففيه أنه كما أن الزكاة قد
أوجبه الله سبحانه كذلك الكفارة قد أوجبها لانه مكلف مخاطب بالأحكام وليس بمجنون
يسقط عنه التكليف ، فإنه لا خلاف في كون يمينه مشروعة ولازمة له ، وأنه بالحنث تجب
عليه الكفارة كما في غيره من المكلفين ،
وحينئذ فلما
حنث أوجب الله عليه الكفارة كما أوجب عليه الزكاة ، وكون السبب في إيجابها الحنث
الذي هو من المكلف لا يمنع من تعلق حكم الوجوب بها ، وأن المطالب بها هو الله عزوجل ، كما يطالب بالزكاة ونحوها ، على أن من جملة المعدودات
التي وافق على وجوبها الكفارة التي سبق وجوبها الحجر ، فان
سببها أيضا مستند الى المكلف والفرق بينها ، وبين ما نازع فيه غير واضح.
وبالجملة فإن
غاية ما يتمسكون به هنا هو ما يدعونه من عموم الحجر ، وقد عرفت ما فيه ، وما ذكره
في المسالك في آخر كلامه المتقدم نقله بقوله فلو أخرجها من المال أمكن جعل ذلك
وسيلة الى آخره ، فيه ما عرفت والله العالم العالم.
المطلب الثالث في المفلس
وهو بكسر اللام
لغة الذي ذهب خيار ماله من دراهم ودنانير ، وبقي فلوسه ، فهو مأخوذ من الفلس ،
واحد الفلوس يقال : أفلس الرجل بصيغة اللازم ، فهو مفلس بكسر اللام ، إذا صار كذلك
كما يقال : أذل الرجل أى صار ذا ذل ، فالمعنى هنا أنه صار ذا فلوس ، بعد أن كان ذا
دراهم ، ومرجعه الى الانتقال من حال اليسر الى حال العسر ، حيث أنه قد ذهب خيار
ماله ، فلم يبق الا الفلوس.
واما شرعا فإنه
يقال : مفلس بفتح : وهو الممنوع من التصرف في ماله ، يقال فلسه القاضي تفليسا إذا
حكم بإفلاسه ، ونادى عليه ، وشهره بين الناس بأنه صار مفلسا ، والمراد به هنا من
يكون عليه ديون تقصر أمواله عن أدائها.
قالوا : ولا
يتحقق الحجر عليه الا بشروط أربعة الأول ـ أن يكون ديونه ثابتة عند الحاكم.
الثاني ـ أن
يكون أمواله قاصرة عن الديون التي عليه. الثالث ـ أن يكون ديونه حالة ، الرابع ـ أن
يلتمس الغرماء أو بعضهم الحجر عليه.
أقول : اما
الأول ـ من هذه الشروط فظاهر ، لان الحجر انما يقع من الحاكم ، وحينئذ فلا بد من
ثبوت الديون عنده بإقرار أو بنية أو علم منه بذلك على أظهر القولين
وأما الثاني
فلأنه لو كانت أمواله زائدة أو مساوية فلا حجرا جماعا ، كما نقله في المسالك ، بل
يطالب لها ، فان قضاها والا رفع أمره الى الحاكم ، فيحبسه الى أن يقضى ذلك ، أو
يبيع عليه متاعه ويقضى عنه دينه ، والمراد بأمواله القاصرة عن أداء ديونه ما يشمل
معوضات الديون ، وهي الأموال التي ملكها بعوض ثابت في
ذمته ، كالأعيان التي اشتراها أو استدانها ، فإنها ملكه فيكون من جملة
أمواله ، وان تخير أصحابها بين الرجوع فيها عند قسمة أمواله أو الطلب بعوضها ،
وكما تحتسب هذه الأشياء من جملة أمواله ، فتحتسب أعواضها من جملة ديونه.
وأما الثالث
فلانه مع كون الديون مؤجلة لا وجه للحجر ، لعدم استحقاق المطالبة وان لم يف ماله
بما عليه ، ويجوز أن يسهل الله (سبحانه) له الوفاء عند حلول الأجل والمطالبة ،
وأما ما نقل عن ابن الجنيد من حلول ديونه المؤجلة قياسا على الموت فضعيف.
واما الرابع
فلان الحق للغرماء فلا يتبرع الحاكم بالحجر لأجلهم مع عدم طلبهم ذلك ـ الا أن تكون
الديون لمن له الولاية عليه ، كاليتيم والمجنون والسفيه وكذا لو كان بعضها لهم
والبعض الآخر لغيرهم مع التماس ذلك الغير.
وكذا لو سأل هو
الحجر على المشهور ، فإنه لا يجاب الى ذلك ، وعلل بأن الحجر عقوبة ، والرشد
والحرية ينافيانه فلا يصار اليه الا بدليل ، واستقرب العلامة في التذكرة جواز
اجابته ، استنادا إلى انه كما أن في الحجر مصلحة للغرماء بحفظ حقوقهم ، كذلك فيه
مصلحة للمفلس ببراءة ذمته ، وخلاصها من حق الغرماء ، وأنه
قد روى عن
النبي صلىاللهعليهوآله «أنه حجر على معاذ بالتماسه». وفيه من الضعف ما لا يخفى ، فان بناء الأحكام
الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة ، وأما الخبر المذكور فلم أقف
عليه في أخبارنا ، والظاهر أنه عامي.
بقي هنا شيء
لم أقف على من تنبه له ، وهو ان ما اشتهر في كلام الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف
فيه من كون المفلس يجب الحجر عليه ، كما يجب على الصبي والسفيه والمجنون ، لم أقف
فيه على نص واضح ، كما ورد في الثلاثة المذكورة من الآيات والروايات المتقدمة في
سابق هذا المطلب.
__________________
والذي وقفت
عليه من الروايات المتعلقة بهذا المقام ، التي ربما يدعى منها ذلك موثقة عمار عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله
بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه بينهم ، يعنى ماله».
ورواية غياث بن
إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام «أن عليا عليهالسلام ، كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به
فيقسم ماله» الحديث. المتقدم
وما رواه في
التهذيب عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليهالسلام «انه قضى أن يحجر على الغلام حتى يعقل ، وقضى عليهالسلام في الدين أنه يحبس صاحبه ، فان تبين إفلاسه والحاجة
فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا ، وقضى عليهالسلام في الرجل يلتوي على غرمائه أن يحبس ، ثم يأمر به فيقسم
ماله بين غرمائه بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه بينهم».
ورواه الصدوق
في الفقيه ، وزاد لفظ المفسد بعد الغلام في صدر الخبر ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام عن على صلوات الله عليه «أنه كان يحبس في الدين ثم ينظر
فان كان له مال أعطى الغرماء ، وان لم يكن له مال دفعه الى الغرماء ، فقال لهم :
اصنعوا به ما شئتم ، ان شئتم آجروه ، وان شئتم فاستعملوه».
وأنت خبير بأن
غاية ما يدل عليه أكثر هذه الاخبار انه عليهالسلام كان يحبس في الدين إذا التوى على غرمائه ، وهذا لا
دلالة فيه على كونه مفلسا ، بل ظاهرها أن الحبس انما هو من حيث المطل وعدم الأداء
، لأنه معنى الالتواء ، فيجوز أن يكون عنده ما يفي بالديون التي عليه ، ولكنه
يماطل في دفعه ، فهو عليهالسلام يحبسه حتى يتبين حاله ، فان وجد عنده مالا قسم ما وجده
عنده بين غرمائه ، وان لم يجد عنده شيئا أطلقه حتى
__________________
يستفيد مالا كما دل عليه حديث الأصبغ.
ومثله أيضا
رواية غياث ، أو دفعه الى أصحاب الدين كما تضمنه خبر السكوني. نعم في خبر غياث
يفلس الرجل أى يحكم بكونه مفلسا.
وكيف كان فإن
غاية ما تدل عليه هذه الاخبار هو أنه بعد رفع الأمر إليه أنه يحبس الرجل ، فان وجد
له مالا قسمه بين الغرماء ، والا فلا ، وأما أنه يحجر عليه التصرف فيه مع بقاء
المال في يده ، كما هو المفروض في كلامهم والمبنى عليه تفريعاتهم الاتية فلا دلالة
في شيء منها عليه ، والشروط المتقدمة إنما بنيت على ذلك.
وبالجملة فإن
غاية ما تدل عليه الاخبار هو استيفاء المال منه ، وتحصيله بعد رفع الأمر إلى
الحاكم ، وقسمته بين الغرماء ، ومرجع البحث معهم في هذا المقام هو صحة الحجر من
الحاكم الشرعي وعدمه ، فإنه إذا كان الامام عليهالسلام في هذه الاخبار لم يحجر عليه ، ولم يأمر به ، وليس غيرها
في الباب فكيف يسوغ لنائبه وهو الفقيه أن يفعل ذلك ، وهو غير مأذون فيه ولا مأمور
به عنهم عليهمالسلام.
وانما الوارد
عنهم كما عرفت انما هو قسمة ماله بالحصص إذا رفع الأمر اليه ، وهذا حكم على حده ،
والحجر حكم على حده ، والأحكام الشرعية توقيفية مقصورة على ما ورد عنهم عليهمالسلام والبحث في هذا الكتاب كله انما ترتب على الحجر كما
سيظهر لك.
ثم انه بناء
على ما ذكروه من الشروط المتقدمة قالوا : إذا تحققت الشروط المذكورة ، وحصل الحجر
من الحاكم ، تعلقت به أمور أربعة : الأول : منع التصرف بأن يمنعه الحاكم من جميع
التصرفات ، والكلام هنا في مواضع أحدها ـ قالوا : ان المراد من التصرفات الممنوع
منها هي التصرفات الابتدائية المتعلقة بالمال
__________________
الموجود حال الحجر ، كالعتق والرهن والبيع والهبة ، ولا يمنع من إمضاء تصرف
سابق أو إبطاله ، مثل فسخ بيع أو إمضائه في زمن الخيار أو بالعيب.
وكذا لا يمنع
من التصرفات المتعلقة بغير المال كنكاح المرأة بنفسها ، والرجل ايضا بشرط عدم
إيقاع العقد على المال الممنوع ، وكالطلاق واللعان والخلع ، واستيفاء القصاص
والعفو عنه ، ولا عن كسب المال مثل قبول الوصية ، وقبول الهبة ، والاحتشاش
والاحتطاب.
ولا اعرف لهم
دليلا في المقام الا ما ربما يدعى من الإجماع ، وقد عرفت ما في أصل المسألة من
تطرق النزاع ، وحينئذ فلو تصرف فيما منع من التصرف فيه كان تصرفه باطلا ، وهل
المراد بالبطلان هنا حقيقة ـ وكون عبارته كعبارة الصبي ، فلا تصح وان لحقته
الإجازة ـ أو البطلان بمعنى عدم اللزوم؟ فلا ينافي صحته لو أجاز الغرماء ، أو فضل
عن الدين بعد قسمة ماله عليهم قولان :
قالوا : ويؤيد
الأول : أنه هو المناسب للحجر ، فان معنى قول الحاكم حجرت عليك منعتك من التصرفات
، ومقتضاه تعذر وقوعها منه.
ويؤيد الثاني :
أنه لا يقصر عن التصرف في مال الغير ، فيكون كالفضولي وحينئذ فلا ينافيه منعه من
التصرف ، لان المراد منه التصرف المنافي لحق الغرماء ، ولا دليل على ارادة غيره ،
وعلى التقدير الثاني فان اجازه الغرماء نفذ ، والا أخر الى أن يقسم المال ، فلا
يباع ولا يسلم الى الغرماء ، فان لم يفضل من ماله شيء يبين بطلانه ، وان فضل ما
يسعه صح.
وثانيها ـ لو
أقر بدين سابق صح ، لعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». والظاهر أنه لا خلاف
فيه ، انما الخلاف في أنه هل يشارك ذلك المقر له بالدين الغرماء أم لا؟ والى الأول
ذهب الشيخ في المبسوط ، والمحقق والعلامة في الشرائع والتذكرة والتحرير ، وقيل :
بعدم المشاركة ، وقواه في المسالك ، وهو ظاهر العلامة
__________________
في الإرشاد حيث قال : لو أقر بمال فالوجه اتباعه بعد الفك ، بمعنى أنه يتبع
المقر بعد فك حجره ، ولا يشارك الغرماء ، وهو اختيار المحقق الأردبيلي في شرحه
ايضا جازما به حيث لم ينقل خلافا في المسألة بالكلية ، مع ما عرفت من تعدد القائل
بذلك القول الأخر.
حجة القول
الأول أنه عاقل فينفذ إقراره للخبر ، وعموم الخبر في قسمة ماله بين غرمائه ،
والمقر له أحدهم ، ولأن الإقرار كالبينة ، ومع قيامها لا إشكال في المشاركة ،
ولانتفاء التهمة على الغرماء ، لان ضرر الإقرار في حقه أكثر منه في حق الغرماء ،
ولان الظاهر من حال الإنسان أنه لا يقر بدين عليه مع عدمه ، هكذا قرر في المسالك
حجة القول المذكور.
ثم اعترضه فقال
: ويشكل بمنع دلالة الخبر على المدعى ، لأنا قبلناه على نفسه ، ومن ثم التزمناه
بالمال بعد زوال الحجر ، ولم يدل على أنه جائز على غيره ، ولو شارك المقر له
الغرماء لنفذ عليهم ، لتعلق حقهم بجميع ماله ، ولا معنى لمنعه من التصرف الا عدم
نفوذه في ماله الموجود ، والمشاركة يستلزم ذلك ، وتمنع مساواة الإقرار للبينة في
جميع الأحكام ، ويظهر أثره فيمن لا يقبل إقراره إذا أقيمت عليه البينة ، وإذا لم
تكن القاعدة كلية لم تصلح كبرى للشكل فلا ينتج المطلوب والتهمة موجودة في حق الغرماء ، لانه
يريد إسقاط حقهم بإقراره ، وتحقق الضرر عليه لا يمنع من إيجابه الضرر عليهم ،
ولإمكان المواطاة بينه وبين المقر له في ذلك ، فلا يتحقق الضرر الا عليهم.
وعلى كل حال لا
يمكن الحكم بنفي التهمة على الإطلاق ، بل غايته أنه قد يكون متهما وقد لا يكون ،
فلا يصلح جعل عدم التهمة وجها للنفوذ مطلقا ، والأقوى عدم المشاركة انتهى.
__________________
أقول : وأنت
خبير بأنه بمقتضى ما قررناه سابقا من عدم وجود الحجر عليه في الاخبار وانما غاية
ما تدل عليه هو أنه عليهالسلام يقسم أمواله بين غرمائه بالحصص ـ إذا رفع الأمر إليه ـ هو
قوة القول الأول ، لأن هذا المقر له من جملتهم ، وبه يظهر قوة قوله في حجة القول
الأول ، وعموم الخبر في قسمة ماله بين غرمائه ، والمقر له أحدهم.
وأما جواب
شيخنا المذكور عن ذلك بقوله : ولو شارك المقر له الغرماء الى آخره فإنه صحيح لو
كان هنا دليل على الحجر ، بأن قام الدليل على أن للحاكم الشرعي أن يحجر على المفلس
التصرف في أمواله ، مع أنه ليس كذلك ، والذي ثبت له انما هو قسمته بالحصص بعد رفع
الأمر إليه ، فإن قيل ـ : ان مقتضى قسمته بين الغرماء بالحصص بعد رفع الأمر إليه
أنه يحجر على صاحبه التصرف فيه حتى يقسمه بين الغرماء بالحصص ـ ، قلنا قد عرفت من
كلامهم أنه لا بد أن يقول الحاكم بعد رفع الأمر إليه : قد حجرت عليك التصرف في
أموالك ، فإنه يترتب عليه الأحكام الأربعة المشار إليها آنفا ، وبدونه لا يثبت شيء
منها.
ومن جملة فروع
ذلك ما نحن فيه ، من أنه بهذه الصيغة الواقعة من الحاكم انتقل المال الى الغرماء
قبل القسمة ، فلا يجوز لمن أقر له بعد الحجر المشاركة لهم ، كما أشار إليه شيخنا
المذكور بقوله لتعلق حقهم بجميع ماله ، وأصرح منها في هذا المعنى ما يأتيك ـ إنشاء
الله تعالى ـ في عبارة المحقق الأردبيلي.
وبالجملة فإنه
لا بد عندهم من هذه العبارة المذكورة ليترتب عليها الأحكام المذكورة ، مع أنك قد
عرفت أنه لا دليل عليها ، لا أن مجرد الأمر بالقسمة يستلزم الحجر ، فإنه وان
استلزمه لكنه ليس من محل البحث عندهم في شيء.
وملخص الكلام
انه بالنظر الى ما جروا عليه في هذا الباب من دعوى الحجر وثبوته فالأقوى هو القول
الثاني ، لما ذكره شيخنا المذكور ، ومثله المحقق الأردبيلي حيث أنه ممن اختار
القول المذكور ، فقال في الاستدلال له : دليله أن
المال المحجور عليه صار بسبب الحجر للديان الذي حجر بسبب ديونهم ، فلا يمكن
أن يتعلق به غيرها بسبب إقرار المديون ، فإنه بالحقيقة إقرار في حق الغير انتهى.
وبالنظر الى ما
ذكرناه من عدم دليل على هذا الحجر ، فليس للحاكم الشرعي إيقاعه ، فالأقوى هو القول
الأول ، لأن غاية ما دلت عليه الاخبار هو أن للحاكم قسمة أمواله بالحصص بين
الغرماء بعد رفع الأمر إليه.
نعم لو تأخر
الإقرار عن القسمة ، فالظاهر أنه لا يلتفت اليه ، ويصح ما ذكروه ، وأما قبلها
فظاهر الأخبار اشتراك جميع الغرماء ، وغاية ما استندوا اليه تقدم حق أولئك بالحجر
أولا قبل القسمة ، وقد عرفت أنه لا أثر لهذا الحجر.
ثم انه لا يخفى
ان محل البحث هو الاعتراف بالدين السابق ، كما وقع في عنوان المسألة ، وهو احتراز
عما لو أسند الدين الى ما بعد الحجر ، فإنه وان كان الإقرار به صحيحا في نفسه
للخبر المتقدم ، الا أنه لا ينفذ عندهم في حق الغرماء ، لما تقدم من الحكم ببطلان
المعاملات الابتدائية المتعلقة بالمال ، والإقرار بها في حكم وقوعها ، ويأتي فيها
الخلاف المتقدم من بطلان المعاملة بالكلية ، أو كونها موقوفة ، هذا كله في الإقرار
بالدين.
ولو أقر بعين
فقيل : بأنها تدفع الى المقر له ، وهو اختيار ابن إدريس وظاهر المحقق في الشرائع
على تردد ، وقيل : بالعدم ، وهو اختيار العلامة في الإرشاد.
واعلم أن
الأقوال بالنسبة إلى العين والدين ترجع إلى أربعة أقوال : أحدها نفوذ الإقرار
فيهما ، وهو خيرة العلامة في التذكرة ، وثانيها عدم النفوذ وهو خيرة العلامة في
الإرشاد ، والمحقق الأردبيلي في شرحه ونقل عن الشهيد وجماعة ، وهو اختياره في
المسالك ، وثالثها ـ ثبوته في العين دون الدين ، ونقل عن ابن إدريس ، ورابعها
العكس ونسبه في المسالك الى المصنف ، وفيه إشكال ، فإن ظاهره في الشرائع انما هو
القول الأول ، لكنه تردد في العين بعد أن حكم بالمشاركة كما قدمنا نقله عنه والله
العالم.
وثالثها لا
خلاف ولا اشكال عندهم في تعلق الحجر بالمال الموجود حال الحجر ، وانما الإشكال في
المتجدد بعده ، فيحتمل تحقق الحجر فيه أيضا لوجود المقتضي في الأول ، وهو صيانة حق
الغرماء ، حيث أنه يجب قسمة أمواله على ديونه ، وهو مشترك في الموجود والمتجدد ،
وهو مختار العلامة في القواعد والتحرير ، وعدمه للأصل في تسلط المسلم على ماله ،
ولخبر «الناس مسلطون على أموالهم». فالحجر عليه خلاف الأصل ، ولا خلاف في الحجر
فيما كان موجودا وقت الحجر ، فيبقى ما عداه في حكم الأصل ، اقتصارا على موضع
الوفاق ، قيل : والتحقيق أن يقال : ان كان المراد شمول حجر الحاكم لذلك المال ،
فإنه ينظر فان كان كلامه في حجره شاملا له يتعدى اليه الحجر ، مثل أن يقول : حجرتك
عن جميع التصرفات المالية ، والا فلا ، لانه قد ثبت أنه لا بد فيه من حكم الحاكم ،
وأنه لا يثبت بدونه ، وان كان شاملا له ثبت ، والا فلا ، وهو ظاهر
وان كان المراد
أنه هل له أن يحجره عن جميع المال الموجود والمتجدد حينئذ حتى يؤدى الديون؟
فالظاهر التعدي ، لأن دليل الثبوت وشرائطه ثابت ، وان كان المراد هل للحاكم أن
يحجره ثانيا في ذلك المال المتجدد؟ فالظاهر التعدي بمعنى أن له الحجر عليه فيه
أيضا بالشرائط المتقدمة ، إذ لا فرق ولا مانع ، ولا يمنع من ذلك ثبوت الحجر أولا
على غيره ، وهو أيضا واضع انتهى.
وملخصه انه يجب
أن يرجع الى الحاكم الذي صدر منه الحجر ، فان لم يمكن ولا يعلم شموله وعدم شموله
فلا يتعدى ، للأصل وعدم الدليل.
أقول : أنت
خبير بأن مقتضى ما قدمنا ذكره من أنه ليس على هذا الحجر دليل ولا نص ، وانما
المستفاد من الاخبار هو قسمة مال المفلس بالحصص بعد رفع
__________________
الأمر إلى الحاكم ، فإنه لا ثمرة لهذا الخلاف ، وأن الواجب هو قسمه كل ما
كان له من مال يومئذ على الغرماء.
ورابعها ـ المشهور
انه لا تحل الديون المؤجلة عليه بالحجر ، وانما تحل بالموت كما تقدم في كتاب الدين
، ونقل عن ابن الجنيد أنها تحل ، وكذا المشهور أنه لا يحل بالحجر الدين المؤجل
الذي له على غيره ، وعن ابن الجنيد أنه يحل أيضا ، ورد بالأصل ، لأن الأصل بقاء ما
كان عليه ، حتى يقوم دليل على خلافه.
احتج ابن
الجنيد للقول الأول بالقياس على الميت ، ورد ببطلان القياس ، سيما مع وجود الفارق
بتحقق الضرر على الورثة ان منعوا من التصرف في التركة إلى حلوله ، وصاحب الدين ان
لم يمنعوا بخلاف المفلس.
قيل : ولا فرق
في دين الميت بين مال السلم والجناية المؤجلة وغيرهما على الأقوى ، لعموم النص.
ووجه احتمال
خروجها أن الأجل في السلم جزء من العوض ، فلو حل مال السلم لزم نقصان العوض ، وأجل
الجناية بتعيين الشارع ، فبدونه لا يكون له تلك الدية ، وعموم النص يدفع ذلك ،
ويسقط ما ادعى تأثيره ، لأنهما فردان من افراد الديون فيتناولهما كغيرهما انتهى.
وأما ما ذكره
ابن الجنيد من القول الثاني فإنه احتج أيضا بالقياس على الميت ، ورد بمنع ذلك في
الميت أيضا ، وفيه أن رواية أبي بصير قد دلت على ذلك في الميت كما تقدم في كتاب
الدين ، وبه قال الشيخ وجماعة ، الا أن الأصحاب ردوا الرواية بضعف السند ، وقد
تقدم الكلام في ذلك في الكتاب المذكور.
وكيف كان فإنه
وان ثبت ذلك في الميت الا ان حمل الحجر عليه قياس لا يوافق أصول المذهب ، ولكنه
لما كان يذهب الى العمل بالقياس كالعامة قال به هنا ، والعجب من أصحابنا كيف
يعتمدون أقواله وينقلونها مع ارتكابه هذا المرتكب الفاحش الموجب لفسق فاعله.
وخامسها ـ قالوا
: لو أقرض إنسان مالا بعد الحجر أو باعه بثمن في ذمته لم
يشارك الغرماء ، بل كان ثابتا في ذمته ، وهو في العالم بحاله موضع وفاق
بينهم ، لان فعله ذلك مع علمه بإفلاسه وحجر الحاكم عليه وتعلق حق الغرماء بأمواله
رضا منه ببقاء ماله في ذمته الى أن يفك حجره.
أما لو كان
جاهلا فقد جزم المحقق في الشرائع بأنه كذلك ، لتعلق حق الغرماء الموجودين عند
الحجر بأمواله ، وان كانت متجددة بناء على دخول المتجدد في الحجر أيضا ، فلا يتوجه
له الضرب مع الغرماء بدينه ، ولا أخذ عين ماله.
وقيل : فيه
وجهان آخران : أحدهما ـ جواز فسخه واختصاصه بعين ماله ، لعموم قوله صلىاللهعليهوآله «صاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه». وثانيهما الضرب مع الغرماء ، لان
له حقا ثابتا في الذمة ، وهو غريم فيضرب به كسائر الغرماء ، ولانه قد أدخل في
مقابلة الثمن مالا فيضرب بالثمن ، إذ ليس فيه إضاعة على الغرماء.
ورد كل من
الوجهين بما تقدم من أن حق الغرماء بالحجر قد تعلق بعين تلك الأموال وصارت لهم وان
كانت متجددة ، على أن الوجهين متنافران ، لأنه ان كان غريما اختص بعين ماله كما
يأتي إنشاء الله تعالى فيمن وجد عين ماله بعد الحجر ، وان لم يكن غريما لم يضرب.
أقول : وأنت
خبير بما في هذا الفرع أيضا بناء على ما قدمنا ذكره ، فان مقتضى ما قدمنا ذكره هو
المشاركة للغرماء ما لم يكن بيعه وقرضه بعد قسمة المال بين الغرماء فإنه غريم ،
قولهم ان أمواله قد صارت للغرماء بسبب الحجر ، قلنا : لا دليل على هذا الحجر ولا
مستند له.
وليت شعري كيف
رتبوا هذه الأحكام على الحجر بما ذكر ، وما سيأتي من جميع الأحكام المذكورة في
كتاب الفلس مع أنه لا مستند له ، اللهمّ الا أن يكون إجماعهم على ذلك ، والا
فالروايات كما عرفت خالية عنه.
وبالجملة فإني
لا أعرف لهم حجة سوى الإجماع فالقول بخلافه لا ضير فيه
__________________
عند من لا يلتفت الى هذه الإجماعات ، الا أن يثبت ذلك في كلام المتقدمين ،
ويعلم اتفاقهم عليه ، فإنه يكون حجة عندنا كما قدمنا ذكره في محله.
وسادسها ـ قالوا
: لو كان له حق فليس له قبض دون حقه ، وكان للغرماء منعه عن ذلك ، لانه محجور عليه
في أمواله والتصرف في أمواله ابتداء ، وهذا منه ، حتى لو تعين له الأرش فإنه لا
يجوز له إسقاطه ، وبه صرح في التذكرة.
أقول : وفيه ما
عرفت. ومن ثم أعرضنا عن نقل جملة من تفريعاتهم في هذا المقام لعدم الدليل الواضح
على صحة هذه القاعدة ، فالتطويل بكثرة فروعها عار عن الفائدة وفي ما ذكرناه
أنموذجا كفاية للمتدرب في الصناعة.
الثاني من
الأمور الأربعة المتقدم ذكرها : اختصاص الغريم بعين ماله إذا وجده ، وتحقيق الكلام
هنا ايضا يقع في موارد
الأول ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن من وجد منهم عين ماله كان له أخذها وان لم يكن
سواها ، وله أن يضرب بدينه مع الغرماء سواء حصل في المال وفاء أم لا.
ونقل عن الشيخ
أنه لا اختصاص الا أن يكون هناك وفاء وبالأول صرح الشيخ في الخلاف وابن إدريس وابن
جنيد ، وبالثاني صرح الشيخ في النهاية والاستبصار ورجحه في المبسوط.
والذي وقفت
عليه من الاخبار المتعلقة بهذا المقام صحيحة عمر بن يزيد عن أبى الحسن عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يركبه الدين فيوجد متاع رجل عنده
بعينه ، قال : لا يحاصه الغرماء». وهذه الرواية حجة القول المشهور ، وهي ظاهرة فيه
تمام الظهور. وصحيحة جميل عن بعض أصحابنا «عن ابى عبد الله عليهالسلام في رجل باع متاعا من رجل فقبض المشترى المتاع ، ولم
يدفع الثمن ثم مات المشترى والمتاع قائم بعينه فقال : إذا كان المتاع قائما بعينه
رد الى صاحب المتاع ، قال :
__________________
وليس للغرماء ان يحاصوه».
وصحيحة أبي
ولاد قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل باع من رجل متاعا إلى سنة ، فمات المشترى قبل أن
يحل ماله ، وأصاب البائع متاعه بعينه ، إله أن يأخذه إذا حقق له؟ قال : فقال : ان
كان عليه دين ، وترك نحوا مما عليه فليأخذ ان حقق له ، فان ذلك حلال له ، ولو لم
يترك نحوا من دينه فان صاحب المتاع كواحد ممن له عليه شيء يأخذ بحصته ، ولا سبيل
له على المتاع».
وهذه الرواية
هي مستند الشيخ فيما تقدم نقله عنه ، ورد بأن مورد الرواية الميت ، والحكم فيه ذلك
كما سيظهر لك ، ومحل البحث انما هو الحي وحينئذ فلا دلالة للخبر على مدعاه ، ورواية
أبي بصير «عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه سئل عن رجل كانت عنده مضاربة ووديعة ، وأموال أيتام
وبضائع ، وعليه سلف لقوم فهلك وترك ألف درهم أو أكثر من ذلك ، والذي للناس عليه
أكثر مما ترك ، فقال : يقسم لهؤلاء الذين ذكرت كلهم على قدر حصصهم أموالهم». والشيخ
جمع بين هذه الاخبار بحمل الأولين على الآخرين ، فقال : انه لا يحاصه الغرماء إذا
كان له ما يفي بمالهم من غير ذلك ، فان لم يكن له شيء سوى ما للرجل بعينه كان هو
وغيره من الديان في ذلك سواء ، لان دينه ودين غيره متعلق بذمته ، وهم مشتركون في
ذلك.
أقول : وتفصيل
الكلام في المقام أن يقال : إذا كان المديون مفلسا ووجد صاحب الدين عين متاعه فلا
يخلو اما أن يكون ذلك في حياة المديون أو بعد موته ، فان كان ذلك في حياته
فالمشهور كما عرفت أن لصاحب المتاع أخذ عين متاعه ولو لم يكن سواها ، ويدل عليه
صحيحة عمر بن يزيد المذكورة ، وخالف الشيخ كما تقدم نقله عنه ، وقال : أنه لا
اختصاص له الا أن يكون هناك وفاء استنادا إلى صحيحة أبي ولاد.
__________________
وقد عرفت عدم
دلالتها على موضع النزاع لان موردها الميت ، والفرق بينه وبين الحي ظاهر ، لإمكان
تجدد الوفاء بالنسبة إلى الحي بإرث أو اكتساب أو زيادة قيمة في أعيان أمواله ، أو
تجدد نماء أو نحو ذلك ، بخلاف الميت.
وان كان ذلك
بعد موته ، فالمشهور أنه إذا وجد صاحب الدين عين متاعه فليس له أخذه الا ان يترك
الميت نحوا مما عليه ، فيجوز له أخذها ، وعليه تدل صحيحة أبي ولاد المذكورة.
ونقل عن ابن
الجنيد الحكم باختصاصه هنا وان لم يكن غيرها ، كما هو المشهور في الحي ويدل عليه إطلاق مرسلة جميل ، الا أن يحمل إطلاقها على
وجود ما يحصل به وفاء الدين سواها ، كما تقدم نقله عن الشيخ ، وكيف كان فالظاهر هو
القول المشهور في الموضعين ، بحمل الاخبار مطلقها على مقيدها.
تنبيهات
الأول ـ قال في
المسالك : ولا فرق في الحكم المذكور في الميت بين أن يموت المديون محجورا عليه أم
لا ، لان الموت بمنزلة الحجر وقيل الحكم مختص بالمحجور عليه ، وإطلاق النص يدفعه.
انتهى.
أقول : لا
إشعار في هذه الروايات المذكورة هنا بالحجر لا في الميت ولا في الحي ، بل قد عرفت
آنفا أنه لا دليل عليه مطلقا ، ومقتضى كلامهم أنه في الحي لا بد
__________________
من حصول الحجر ، مع ان إطلاق النصوص المذكورة يدفعه ، وحينئذ فتكلف الجواب
بالنسبة إلى الميت خاصة لا وجه له.
الثاني ـ لا
يخفى أن ما ذكروه من الخيار في صورة جواز أخذ العين في الحي أو الميت وانه يتخير
بين أخذ العين أو الضرب مع الغرماء لا أعرف له دليلا واضحا ، فان الروايات انما
اشتملت على أخذ العين ، وظاهرها ان ذلك هو مقتضى الحكم شرعا ، واما ان ذلك محمول
على الرخصة ان اختاره ، وإلا فسبيله سبيل الغرماء كما هو ظاهر كلامهم ، فلا إشارة
في الأخبار المذكورة إليه ، فضلا عن الدلالة عليه ، ولربما لم يرض الغرماء بذلك ،
وظاهرهم انه يشاركهم لو أراد رضوا أم لم يرضوا وهو مشكل لعدم ظهور الدلالة عليه من هذه الاخبار ، بل
ظاهرها كما عرفت انما هو اختصاصه بمتاعه.
وبالجملة فإن
الأصل عدم المشاركة لهم. وإثباتها يحتاج الى الدليل ، وظاهرها ايضا اختصاصه بعين
ماله ، فلا يشاركه الغرماء فيها ، وهو أعم من ان يقتصر على أخذ العين أو يشاركهم
وتضرب معهم فيشاركونه في تلك العين كما شاركهم في غيرها ، فان نفى المحاصة في
الروايتين أعم من الأمرين المذكورين.
الثالث ـ قيل :
الظاهر أن المراد برجوع صاحب العين إليها هو فسخ العقد الذي كان موجبا لملكية
المفلس ، وقال في التذكرة : الفسخ قد يكون بالقول مثل فسخت البيع ونقضته ورفعته ،
وقد يكون بالفعل كما لو باع صاحب السلعة سلعته ،
__________________
أو وهبها أو وقفها.
وبالجملة إذا
تصرف فيها تصرفا يدل على الفسخ كوطئ الجارية المبيعة على الأقوى ، صونا للمسلم عن
فاسد التصرفات.
أقول : المفهوم
من الاخبار أن الفسخ لا يتوقف على صيغة ، وانما هو عبارة عن تراضى الطرفين على نقض
البيع الأول ، وقد تقدم في بحث خيار الشرط الإشارة الى ذلك ، فإن غاية ما دلت عليه تلك الاخبار هو
انه برد مثل الثمن في المدة المضروبة يحصل الفسخ ويبطل البيع الأول ، وأما هنا
فإنه لما كان المفلس يجب قسمة أمواله على الغرماء وهذا المتاع من جملتها ، فيخص به
الحاكم صاحبه ، ويصير ذلك فسخا للبيع الأول ، وان لم يحصل الرضا من المالك ، لان
جميع هذه التصرفات وقسمة أمواله قهرية غير متوقفة على رضاه.
الرابع ـ ما
تقدم من القول المشهور وهو الرجوع الى العين مشروط عندهم بشروط ثلاثة : أحدها تعذر
استيفاء تمام ثمن العين الذي في ذمة المفلس الا من العين. فلو كان في ماله وفاء مع
كونه مفلسا بأن نمى المال بعده ، أو وجد مال آخر ، أو حصلت الزيادة يسبب ارتفاع
القيمة السوقية وصارت القيمة أعلى من وقت الحجر ، فلا رجوع له الى العين ، إذ سبب
الرجوع انما هو تعذر الثمن ، والفرض أنه ممكن بناء على ما ذكرناه.
وثانيها كونه
مفلسا محجورا عليه لفلسه ، فلو كان المفلس غير محجور عليه لفلسه ، فان الحكم فيه
كما في غيره من أصحاب الديون ، فان كان قادرا على الأداء وامتنع حبسه الحاكم حتى
يوفي ، أو يبيع ماله ويوفى عنه ، ومع تعذر الحكم يمكن الأخذ منه مقاصة ، وان لم
يكن قادرا فالأشهر الأظهر الصبر عليه ، وقد تقدمت الأخبار المتعلقة بذلك في صدر
هذا المطلب
وثالثها ـ كون
المال حالا حين الحجر ، فلو كان مؤجلا يومئذ فلا رجوع
__________________
له ، لأنك قد عرفت أنه بالحجر لا تحل الديون المؤجلة عليه ، وانما تحل
بالموت خاصة ، والعين المذكورة وغيرها قد تعلق بها حق الغرماء الذين حجر لأجلهم ،
وصاحب هذا الدين لكونه مؤجلا ليس منهم ، بل وجوده كعدمه.
الخامس ـ هل
الخيار المذكور هنا في الحي أو الميت على الفور أو على التراخي؟ قولان : قالوا :
للأول وجوب الوفاء بالعقد ، وبناء البيع على اللزوم ، فيقتصر في الخروج عن ذلك على
موضع الضرورة جمعا ، وللثاني إطلاق النص بثبوته ، فيستصحب الى ان يثبت المزيل ،
والى هذا القول مال في المسالك قال : وهو اختيار المصنف أيضا.
أقول : ليت
شعري أي نص هنا دل بإطلاقه هذا الخيار ، وظاهر النصوص كما عرفت انما هو تعين أحد
القولين ، قال في المسالك : والحق ان هذا الخيار خاص ، خرج لما ذكر عن العموم ، أو
مقيد له ، فيثبت مطلقا ، وان كان مراعاة الفورية أولى انتهى وفيه ما عرفت من أنه
لا دليل عليه ، ودعوى إطلاق النص به مجازفة ظاهرة والله العالم.
الثاني قال
الشيخ في المبسوط : إذا وجد العين ناقصة ، فإن كان الناقص يمكن افراده بالبيع ـ كما
لو كان المبيع عبدين تلف أحدهما كان له أخذ الباقي بحصته من الثمن ، وضرب مع
الغرماء بما يخص التالف من الثمن ، لتقسط الثمن عليهما على قدر قيمتهما ـ وان لم يمكن
افراده بالبيع كذهاب طرف العبد ، فان لم يوجب أرشا بأن يذهبه الله تعالى أو
المشتري ، تخير البائع بين الضرب بالدين ، وبين أخذ العين ناقصة من غير أن يضرب مع
الغرماء بما نقص ، لأن الأطراف لا يقابلها الثمن ولا جزء منه ، وان أوجب أرشا بأن
يتلف بجناية أجنبي تخير البائع بين الضرب بدينه ، وبين أخذه والضرب بقسط ما نقص
بالجناية من الثمن
وقال ابن
الجنيد ان وجد بعض متاعه أخذ بالقيمة يوم يسترده ، وضرب بما بقي له من الثمن مع
الغرماء فيما وجد للمفلس ، وكذلك لو وجده ناقصا أخذه بقيمته وكان بما بقي من أصل
ثمنه كالغرماء في باقي مال المفلس.
قال في المختلف
بعد نقل ذلك : فقد خالف الشيخ في موضعين ، الأول إطلاق الضرب بالنقص ، الثاني
احتساب المأخوذ بالقيمة والتالف بها ، والشيخ نسبهما الى الثمن ، وقول ابن الجنيد
لا يخلو من قوة انتهى.
وتفصيل هذه
الجملة أنه إذا وجد البائع بعض ماله المبيع دون بعض ، فالبعض الفائت لا يخلو اما
أن يكون مما يقسط عليه الثمن ، بمعنى أنه يبسط عليه ، وذلك فيما يصح افراده بالبيع
كعبد من عبدين ، ونصف الأثواب ، أو لا يكون كذلك كيد العبد ، وعلى التقديرين فاما
أن يكون تلفه من قبل الله تعالى بآفة سماوية أو جناية أجنبي أو المشتري أو البائع
، فالصور ثمان ، وملخص الكلام فيها أنها ترجع الى ثلاث صور احديها ان يكون للفائت
قسط من الثمن ، ويجوز افراده بالبيع ، فإن البائع عندهم يتخير هنا بين أن يأخذ
الباقي بحصته من الثمن ، ويضرب مع الغرماء بحصة التالف ، وبين أن يضرب بجميع الثمن
مع الغرماء ، ولا خلاف في الحكم المذكور عندهم وسبيله سبيل ما لو وجد العين سالمة
كاملة كما تقدم ، حيث أن الموجود يصدق فيه أنه وجد عين ماله ، فله أن يأخذها ،
وظاهرهم أنه لا فرق ههنا في وجوه التلف المتقدمة ، فإنه بأيها اتفق فالحكم فيه ما
ذكر.
الثانية ما إذا
كان الفائت لا قسط له من الثمن كيد العبد بأن وجده بعد البيع وعند ارادة الرجوع
فيه بغير يد ، فان كان فواتها من الله عزوجل أو من المشترى ، فالمشهور وهو الذي ذكره الشيخ في
عبارته أنه ليس للبائع إلا الرضا به على تلك الحال ، وأخذه ناقصا من غير أن يضرب
مع الغرماء بنقصانه ، وهو أرشه ، أو الضرب بالدين ، وعللوا عدم الأرش هنا بأنه لا
حق له في العين الا بالفسخ المتجدد بعد العيب ، وانما حقه قبل الفسخ في الثمن ،
فالعين في يد المشترى غير مضمونة للبائع ، فلم يكن له الرجوع بأرش المتجدد ، وظاهر
عبارة ابن الجنيد المتقدمة انه لا فرق في الرجوع بالنقصان إذا اختار أخذ العين
الباقية بين الصورتين المذكورتين ، فكما أنه يرجع بالنقصان في صورة ما إذا كان
للفائت قسط من الثمن ، كذلك فيما إذا لم يكن قسط ، فإنه حكم بأنه يضرب بالناقص في
الموضعين ، وعبارته
وان كانت لا يخلو من إجمال ، الا أن مراده بالأولى هي الأولى التي ذكرناه ،
وبالثانية في كلامه هي الثانية التي نحن فيها ، ووافقه العلامة فحكم بقوة ما ذكره
، والى هذا القول مال جملة من أفاضل المتأخرين كالمحقق الشيخ على في شرح القواعد ،
والشهيد الثاني في المسالك ، معللين له بأن فسخ المعاوضة يوجب رجوع كل مال لصاحبه
، فان كان باقيا رجع به ، وان كان تالفا رجع ببدله كائنا ما كان قالوا : وكون
العين في يد المشترى غير مضمونة للبائع ، معارض بماله قسط ، حيث أنهم أوجبوا
للرجوع بالنقصان ثمة ، على أنا لا نقول أنها مضمونة مطلقا ، بل بمعنى أن الفائت في
يد المشتري يكون من ماله ، لان ذلك مقتضى عقود المعاوضات المضمونة فإذا ارتفع عقد
المعاوضة وحصل فسخه ، وجب رجوع كل من العوضين الى مالكه ، أو بدله ان فات ، على أن
كون مثل اليد لا قسط لها من الثمن محل نظر ، فإنه لولاها لم يبذل المشترى ذلك
الثمن كله قطعا.
الثالثة ـ ما
إذا كان فوات ذلك الجزء الذي لا قسط له من الثمن بجناية أجنبي ، قالوا : تخير
البائع بين أخذه والضرب بأرش العيب ، وبين الضرب بجميع الثمن ، وذلك لان الأجنبي
لما ثبت عليه أرش الجناية وقبضه منه المشترى ، والأرش جزء من البيع ، فإذا فسخ
البائع رجع به ، لانه جزء من مبيعه ، وهذا بخلاف العيب الذي من جهة الله عزوجل ، حيث أنه ليس له عوض.
أورد عليهم
أولئك الفضلاء المتقدم ذكرهم ، بان ما ذكروه في هذه الصورة ينافي ما ذكروه سابقا
في الصورة الثانية ، لأنه بمقتضى التعليل الذي عللوا به سقوط الأرش في تلك الصورة
، من أن العيب انما وقع في وقت لم تكن العين مضمونة على المشترى ، والبائع لم
يستحقها الا بعد الفسخ ، فلم يكن له الرجوع بأرش المتجدد ، ينبغي أن لا يكون له
هنا الا الرضا بالمعيب ، لانه لم يجد سواه ، قالوا : وعلى ما قررناه من أن الفسخ
يوجب رجوع كل من المتعاوضين الى ماله أو بدله ، فالإشكال منتف ، قيل : وأما جناية
البائع فيحتمل كونها كجناية الأجنبي ، ويحتمل كونها كالآفة السماوية ، وفي المسالك
رجح الأول قال : لانه جنى على ما ليس
بمملوك له ولا في ضمانه ، قال : وان كان بجناية ، فقد قطع المصنف بكونه
كالفوات من قبل الله تعالى ، لما سبق من التعليل.
وانما اعتبروا
كون الأرش الذي يرجع به بنسبة نقصان القيمة ، لأن هذا هو قاعدة الأرش ، من أن الذي
يرجع به جزء من الثمن ، نسبته إليه كنسبة نقصان القيمة إليها ، ولانه لو رجع بما
تضمنه الجاني من حيث ضمانه أرش الجناية للزم منه الضرر في بعض الصور ، لان ضمان
أرش الجناية قد يكون بتقدير شرعي بحيث يكون بقدر قيمة المجني عليه ، فيلزم الرجوع
بالعوض والمعوض ، وكذا لو كان العبد يساوى مأتين مثلا وقد اشترى بمأة ، فجنى عليه
الجاني بقطع يده ، فإن أرشها نصف القيمة وهو مأة فلا يجوز أن يرجع بها وبالعبد ،
لئلا يجمع بينهما ، بل الذي يرجع به انما هو ما قدمنا ذكره في قاعدة الأرش.
وأما حكم أرش
الجناية فخارج بأمر شرعي يستحقه مالك العين حين الجناية
أقول : هذا
ملخص كلامهم في هذا المقام وحيث ان المسألة عارية من النص الواضح فللتوقف فيها
بجميع شقوقها مجال فأي مجال ، سيما مع تعارض هذه الأقوال وتصادم أدلتهم ، وللمحقق
الأردبيلي هنا كلام ـ على ما ذكر أولئك الفضلاء المتقدم ذكرهم وبحث معهم ، ومناقشة
فيما ذكروه ، أعرضنا عن نقله لما ذكرناه ، ومنشأ ذلك عدم النص القاطع لمادة القيل
والقال.
وأما التعليلات
العقلية فهي لا تقف على ساحل ، لاختلاف العقول والافهام ، فمن ثم لا يجوز الاعتماد
عليها في الأحكام والله العالم.
الثالث : إذا
رجع الى العين ووجدها زائدة فلا يخلو اما أن يكون تلك الزيادة منفصلة كالولد
واللبن أو متصلة كالسمن والطول الموجب لزيادة القيمة ، ولا خلاف في أن الزيادة
بالمعنى الأول للمشتري ، لأنها انفصلت في ملكه ، فلم يكن للبائع الرجوع فيها ،
لأنها ليست عين ماله ، ولا فرق في الولد بين الحمل والمنفصل ولا في اللبن بين
المحلوب وما في الضرع ، لصدق الانفصال على الجميع ، ومثل ذلك الثمرة المتجددة.
وانما الخلاف
في الزيادة بالمعنى الثاني ، فظاهر الشيخ في المبسوط القول بالتبعية للأصل ، قال
في الكتاب المذكور : إذا وجد العين زائدة متصلة كالسمن والكبر ، وتعلم الصنعة كان
للبائع الرجوع في العين وتتبعها الزيادة ، بخلاف المنفصلة ، لأن النماء المتصل
يتبع الأصل فإذا فسخ العقد فيه تبعه الزيادة ، وتبعه ابن البراج في ذلك ، وكذلك
العلامة في القواعد ، واحتجوا على ذلك بأن هذه الزيادة محض صفه وليست من فعل
المفلس فلا تعد مالا له ، ولانه يصدق أنه وجد عين ماله ، فيرجع به
وذهب ابن
الجنيد الى عدم التبعية حيث قال : ولو وجده زائدا أخذه أيضا بقيمته ، ورد على
الغرماء فضل القيمة ان شاء والا سلمه ، واختاره العلامة في المختلف واحتج عليه بان
أخذ العين خارج عن الأصل ، فيثبت في الموضع المتفق عليه وهو إذا وجدها كما هي أو
ناقصة ويبقى الباقي على حكم الأصل ، ولان فيه ضررا على المفلس والغرماء فيكون
منفيا ، ولا ضرر على المالك لو أخذ العين ودفع قيمة الزيادة ، ولأن الزيادة مملوكة
للمفلس ، فلا يخرج عنه مجانا ، ولأنها ليست عين مال الغير ، بل زائدة عليه ، فليس
له أخذها ، وانما سوغنا أخذها بدفع القيمة جمعا بين المصالح ، وهو أخذ عينه التي
لا تتم إلا بأخذها ، واستعادة قيمة الزيادة للمفلس والغرماء ، إذ لا فرق بين أخذ
عين الشيء وقيمته في المالية ، ولا اعتبار في نظر الشرع بالخصوصيات.
وقول الشيخ أن
ـ العقد انفسخ في الأصل فتتبعه الزيادة ـ ممنوع كالمنفصلة لان وجود الفسخ المجدد
ان كان في تقدير وجود حال العقد ، لزم في المنفصلة ما قاله في المتصلة ، والا لزم
في المتصلة ما قاله في المنفصلة انتهى.
وأقول : من
تدافع هذه التعليلات وتعارضها توقف جمع في الحكم المذكور كالمحقق في الشرائع ، وهو
ظاهر الشارح في المسالك أيضا ، حيث اقتصر على نقل الأقوال والتعليلات المتعلقة بها
، ولم يرجح شيئا كما هي قاعدته ، ومقتضى مذهب ابن الجنيد ومن تبعه أنه إذا رجع
البائع في العين ولم يرد على الغرماء قيمة
الزيادة يكون شريكا لهم بقدر ما يستحقونه من الزيادة.
ونقل عن
العلامة في التذكرة أنه استقرب عدم جواز الرجوع في العين وأطلق ، وظاهره أنه ليس
له ذلك ، ولو مع رد قيمة الزيادة وحينئذ فالأقوال في المسألة ثلاثة وكلها للعلامة.
أقول : أنت
خبير بأن المسألة المذكورة لما كانت عارية عن النصوص كثر فيها الاحتمال ، الا أنه
لا يبعد بالنسبة إلى إطلاق النصوص التي قدمناها في أصل المسألة ترجيح القول الأول
، وهو التبعية ، فإن قوله (عليهالسلام) «إذا كان المتاع قائما بعينه رد الى صاحبه». أعم من أن
تحصل فيه هذه الزيادة أم لا ، لصدق وجدان المتاع قائما بعينه مع حصولها ، وأما
تخصيص ذلك بالعينية التي كان عليها وقت الانتقال ، بمعنى أن المعنى في قوله «قائما
بعينه» انما هو ذلك ، فالظاهر بعده تمام البعد ، لما سيأتي إنشاء الله تعالى من
تصريحهم بأنه لو نسج الغزل أو قصر الثوب ، أو شق الحطب ألواحا أو جعله بابا لا
يمنع من الرجوع في العين ، لصدق وجود العين في جميع هذه الفروض ونحوها.
وانما المراد
بهذه العبارة انما هو الاحتراز عن تلفه وذهابه ، فيكفي وجوده على أى حالة كان ، وكيف
كان فالمسألة لا يخلو من شوب الاشكال والله العالم.
الرابع ـ قالوا
: لو نسج الغزل أو قصر الثوب أو خبر الدقيق أو جعل الخشب ألواحا أو عمله بابا لم
يبطل حق البائع ، وهو الرجوع الى العين ، وان كان للغرماء ما زاد على الأصل
بالأعمال المذكورة ان أوجبت زيادة ، والفرق بين الزيادة هنا وما تقدم في سابق هذا
المورد أن الزيادة في ما تقدم من نفس المبيع ، لا من خارجه ، متصلة كانت أو منفصلة
، وأما هنا فهي من خارجه ، وقد يكون صفة محضة كنسج الغزل وقصر الثوب ، وقد تكون
صفة من وجه ، وعينا من آخر كصبغ الثوب.
وحينئذ فإذا
اشترى عينا وعمل فيها عملا يزيد في صفتها كالأعمال المذكورة أولا فقد صرحوا بأنه
لا يسقط حق رجوعه في العين ، كما دلت عليه الاخبار المتقدمة ، لأن العين لم يخرج
عن حقيقتها بتوارد هذه الصفات عليها ، فيصدق عليه أنه واجد
عين ماله ، ثم انه لم تزد العين بهذه الصفات فإنه لا شيء للمفلس ، سواء
غرم عليه أم لا ، وان نقصت فلا شيء للبائع على المفلس لو اختار أخذ العين ، وان
زادت القيمة بذلك صار المفلس شريكا بنسبة ذلك ، فتباع العين ويكون للمفلس بنسبة ما
زاد ، فلو كان قيمة العين حال كون الثوب خاما أو بغير صبغ مأة ، ومع أحدهما مأة
وعشرين ، كان للمفلس سدس الثمن الذي يباع به الثوب ، أو أنه ينظر إلى أجرة النسج
والصبغ والقصارة ، فتؤخذ من البائع ، والأوفق بقواعدهم هو الأول ، وهذا أحد
القولين في المسألة
وقيل : انه
تسلم العين إلى البائع مجانا إلحاقا لهذه الزيادة المتصلة كالسمن ونحوه ، بناء على
ان حكم المتصلة ذلك ، وقد عرفت الخلاف ثمة ، وأن الأقرب ذلك ، ومن حكم في تلك
المسألة بأن الزيادة للمشتري يحكم هنا بطريق أولى ، ومن حكم ثمة بكونها للبائع
فإنه يمكن أن يحكم هنا بكونها للمشتري ، لكون هذه الزيادة هنا مستندة اليه اما
بفعله أو بالاستيجار عليها ، ودفع الأجرة بخلاف السمن والكبر ونحوهما ، فإنه من
فعل الله سبحانه ، وان كان ربما استند الى فعل المكلف من إعطاء العلف والسقي ، الا
أنه ربما تخلف السمن عنهما في بعض الموارد وربما حصل بدونهما في بعض ، وعلى تقدير
استناده إليهما فالفاعل هو الله عزوجل ، بخلاف طحن الحنطة وخبز الدقيق ونحوهما ،
قال في المسالك
: والأقوى في الموضعين ان الزيادة للمفلس وحينئذ فالمعتبر بالقيمة مع الزيادة حين
الرجوع ، انتهى.
أقول : قد
أشرنا سابقا إلى أنه لم يظهر له في تلك المسألة ترجيح شيء من الأقوال ، ويظهر منه
هنا ترجيح القول الثاني من الأقوال الثلاثة المتقدمة ثمة ، فإن مراده بالموضعين
هنا الزيادة المستندة إلى فعل الله تعالى كما في تلك المسألة السابقة ، والزيادة
المستندة إلى المفلس كما في هذه المسألة.
الخامس ـ قالوا
: لو باعه نخلا حائلا فأطلع بعد البيع فأخذ البائع النخل قبل
تأبيره ، لم يتبعه الطلع ، والوجه فيه ظاهر مما تقدم في حكم الزيادة
المنفصلة ، والطلع هنا من جملة ذلك ، فلا يتبع حينئذ ، وانما تبع في البيع بنص خاص
، ونقل في المختلف عن الشيخ هنا القول بالتبعية ما لم يؤبر ، ثم رده بأن الحمل على
البيع قياس من غير جامع ، فلا يجوز المصير اليه ، وهذا القول منقول عن الشافعي
قياسا على البيع ، والشيخ تبعه فيه مع انه لا يقول بالقياس.
أما مع التأبير
فالظاهر أنه لا خلاف في عدم التبعية ، لأنه نماء حصل للمشتري في ملكه ، فلا يزول
ولا يتصور تبعيته بوجه ، وهكذا القول في باقي الثمار بعد الظهور ، والظاهر أنهم
خصوا النخل بالذكر هنا قبل التأبير للتنبيه على خلاف الشيخ في المقام ، وحيث ثبت
أن الثمرة للمشتري ، ففي صورة اختيار البائع لأخذ الأصل يجب عليه إبقاؤها الى أبان
قطعها بغير أجرة.
ولو باعه النخل
والثمرة قبل بلوغها ثم بلغت بعد التفليس فلا ريب أنه قد حصلت هنا زيادة المبيع
بسبب البلوغ على ما كان سابقا ، والظاهر أن هذه من قبيل الزيادة المتصلة ، فيجري
فيها ما تقدم في المورد الثالث ، لأنها فرد من أفراده ، وهذا هو الذي يقتضيه حال
الثمرة.
واما لو كانت
الزيادة هي في القيمة مع بقاء الثمرة على قدرها. قالوا : في إلحاقها بها وجهان :
من كون الزيادة القيمية حصلت في ملك المفلس فلا تؤخذ منه مجانا ، ومن بقاء عين مال
البائع من غير تغير ، فيدخل في عموم الخبر الدال على رجوعه مع قيام عين ماله ،
واستقرب في التذكرة عدم جواز الرجوع في العين مطلقا متى زادت قيمتها ، لزيادة السوق
، وألحق به ما لو اشتراها المفلس بدون ثمن المثل ، ولا يخلو من الاشكال ، للخروج
عن ظاهر إطلاق الاخبار المتقدمة وتخصيصها من غير دليل والله العالم.
السادس ـ قالوا
: لو اشترى أرضا فغرسها أو بنى فيها ثم أفلس ، كان صاحب الأرض أحق بأرضه ، وليس له
ازالة الغروس ولا البناء ، وقيل : ان له ذلك مع الأرش ، وتفصيل هذه الجملة انه
تقدم دلالة الاخبار وكلام الأصحاب على أنه مع تفليس
المديون لو وجد بعض الغرماء عين ماله فله الرجوع فيها. وما هنا أحد أفراد
تلك القاعدة. ولا يمنع من ذلك ما وقع فيها من التصرف بالغرس والبناء. لأنها متميزة
عن مال المفلس. غاية الأمر انه يجب إبقاء مال المفلس من تلك الغروس والبنيان الى
ان يفنى بغير أجرة. لأنها وضعت بحق في ملكه. فتكون محترمة. ولا يجوز إزالتها على
المشهور.
وقال الشيخ في
المبسوط : يجوز إزالتها مع الأرش. وربما استدل له بظاهر الخبر. بتقريب ان الغرض من
الرجوع في العين استحقاق منافعها. فحيث وضع الغرس والبناء فيها بحق فطريق الجمع
بين الحقين هو جواز قلعه بالأرش. فإنه على هذا الوجه لا يفوت على صاحب الأرض
الانتفاع بأرضه. ولا ضرر على صاحب الغرس والبناء لأخذه الأرش ، وعلى هذا ينبغي ان
يجوز الإبقاء بأجرة لا مجانا ، لان ذلك هو مقتضى التعليل المذكور ، الا انه لم
يذكر أحد استحقاقه الأجرة لو أبقاها.
نعم هو وجه
لبعض الشافعية على ما قيل : هذا في الغرس والبناء ، كما وقع في عنوان المسألة ،
أما الزرع فإنهم صرحوا بأنه يجب على البائع بعد رجوعه في المبيع إبقاؤه بغير أجرة
الى أبان قطعه قولا واحدا قالوا : والفرق أن للزرع أمدا قريبا ينتظر فلا تعد العين
معه كالتالفة ، بخلاف الغرس والبناء لما فيه من طول المدة المتضمن لفوات الأرض ،
وأنها في حكم التالفة.
ثم انه على
القول بجواز قطع الغرس وازالة البناء بالأرش ، فالطريق الى ذلك هو أن يقوم الغرس
قائما الى أن يفنى بغير أجرة ويقوم البناء ثابتا كذلك ، ويقوم مقلوعا وينظر ما
بينهما من التفاوت فهو الأرش.
وأما على تقدير
القول الآخر من عدم استحقاق البائع إزالتهما ، فالطريق الى وصول كل ذي حق الى حقه
، هو أن تباع الأرض بما فيها من البناء والغرس ، فلكل منهما من الثمن ما قابل ما
يخصه ، ويعلم ذلك بأن يقوما معا ثم تقوم الأرض مشغولة بهما ما بقيا مجانا ، وينسب
قيمتها كذلك إلى قيمة المجموع ويؤخذ من الثمن للأرض
بنسبة ذلك ، فالباقي للمفلس ، مثلا لو قوما معا بمأة درهم ، وقومت الأرض
مشغولة بهما مجانا بخمسين ، فنسبة قيمة الأرض إلى المجموع بالنصف ، فتؤخذ لصاحب
الأرض من الثمن النصف والباقي للمفلس ، هذا ان رضى البائع ببيع الأرض فلو امتنع لم
يجبر بل يباع مال المفلس على الحالة المذكورة ، من كونه في أرض الغير المستحق
للبقاء الى ان يفنى مجانا ، فان ذلك هو حقه ، وحيث يباع كذلك يصير حكمه حكم من باع
أرضا واستثنى شجرة في جواز دخول مالكها إليها وسقيها الى غير ذلك مما تقدم في باب
البيع في هذه المسألة والله العالم.
الثالث ـ من
الأمور المتقدمة قسمة ماله وفيه مسائل الاولى قالوا : يستحب إحضار كل متاع في سوقه
ليتوفر الرغبة ، قال في المسالك : والاولى الوجوب لان بيعه فيه أكثر لطلابه وأضبط
لقيمته ، ولكن أطلق الجماعة الاستحباب ، ويستحب حضور الغرماء تعرضا للزيادة.
أقول : الظاهر
أنه لا خصوصية هنا للغرماء ، قال في المسالك : ويمكن وجوبه مع رجاء الزيادة
بحضورهم ، ثم ذكر أنه يستحب أيضا حضور المفلس أو وكيله لأنه أخبر بقيمة متاعه
وأعرف بجيده من رديه ، ويعرف المعيب من غيره ، وربما كان أكثر للرغبة فيه وأبعد عن
التهمة ، وأطيب بنفس المفلس.
وكذا يستحب أن
يبدأ ببيع ما يخشى تلفه ، كالفاكهة ونحوها ، قال في المسالك : جعل هذا من المستحب
ليس بواضح ، بل الأجود وجوبه ، لئلا يضيع على المفلس وعلى الغرماء ، ولوجوب
الاحتياط على الإيفاء ، والوكلاء في أموال مستأمنيهم فهنا أولى ، لأن ولاية الحاكم
قهرية فهي أبعد من مسامحة المالك.
أقول : أنت
خبير بما في كلماتهم في هذا المقام من البناء على المسامحة والمجازفة في الأحكام ،
فان الوجوب والاستحباب أحكام شرعية مبنية على الدليل الشرعي ، والأدلة عندنا
منحصرة في الكتاب والسنة ، وقد عرفت انه لا نص في هذا الباب الا ما قدمناه في صدر
هذا المطلب من الاخبار الدالة على قسمة الامام مال المفلس إذا
التوى غرمائه ، ولا تعرض في شيء منها لشيء من هذه الأحكام بالكلية ، فضلا
عن أن يكون على جهة الوجوب أو الاستحباب ، وحينئذ فإثبات الوجوب أو الاستحباب بمثل
هذه الاعتبارات العقلية والتعليلات الوهمية لا يخلو من المجازفة كما ذكرنا.
ثم انهم ذكروا
في ترتيب المبيعات انه يبدء بما يخاف عليه الفساد عاجلا كالفاكهة ، ثم الحيوان ،
ثم سائر المنقولات ، ثم بالعقارات قالوا : هذا هو الغالب ، وقد يعرض لبعض ما يستحق
التأخير التقديم بوجه ، ثم بالرهن وبعضهم عد الرهن بعد ما يخاف عليه الفساد ،
والمراد به انه إذا كان للمفلس مال مرهون عند أحد فإنه يبدء ببيعه ، لانه ربما
زادت قيمته فيضم الزائد الى مال الغرماء ويقسم عليهم ، وربما نقصت فيضرب المرتهن
بالناقص مع الغرماء.
قال في المسالك
: وهذا التقديم يناسب الاستحباب ، لان الغرض منه معرفة الزائد والناقص ، وهو يحصل
قبل القسمة ، وفي التذكرة قدمه على بيع المخوف وما هنا أولى انتهى.
الثانية ـ قالوا
: ومن المستحبات ان يعول على مناد يرضى به الغرماء والمفلس دفعا للتهمة ، وان
تعاسروا عين الحاكم ، قال في المسالك : ينبغي ان يكون هذا على سبيل الوجوب ، لأن
الحق في ذلك لهم ، لكونه مال المفلس ومصروفا الى الغرماء.
ثم قال : ويمكن
مع ذلك الاستحباب ، لان الحاكم بحجره على المفلس أسقط اعتباره ، وكان لوكيله وحق
الغرماء الاستيفاء من القسمة ، وهي حاصلة بنظر الحاكم ، ثم انه ان وجد من يتبرع
بذلك ، وإلا بذلت الأجرة من بيت المال ، لانه معد لمصالح المسلمين ، وهذا من
جملتها ، ولو تعذر لعدم بيت المال ، أو لعدم سعة فيه لذلك ، جاز أخذها من مال
المفلس ، لان البيع حق عليه.
وفي القواعد
أطلق أن الأجرة على المفلس ، ولا يخلو من قرب للعلة المذكورة والرجوع الى بيت
المال يحتاج الى دليل ، ومجرد كونه موضوعا لمصالح المسلمين لا يستلزم ذلك ،
والواجب إعطاء ديون الغارمين منه وان كانوا قادرين على أدائها ،
مع أنه ليس كذلك.
وبالجملة فإنه
يجب على المفلس إيصال الديون الى الغرماء بكل وجه اتفق ، ومن جملتها ما نحن فيه ،
وحينئذ فقوله في المسالك ـ بعد أن ذكر القول الأول ثم نقل عن القواعد ما نقلناه
عنه : وما هنا أجود ـ لا أعرف له وجها :
أقول : وهذا
الحكم وان لم أقف له على دليل الا أنه يمكن استنباطه من الاخبار المتقدمة ، فإن
تولى الحاكم للبيع انما يكون بنصب رجل يعتمده ينادى على المتاع في السوق لبيعه ،
هذا ان تولى ذلك الحاكم ، وان حصل اتفاق المفلس والغرماء على رجل ينادى عليه
ويبيعه لهم ، فكذلك أيضا ، والكلام في الأجرة كما تقدم ، وأما دعواه المسالك
الوجوب فبعيد لا ينهض به دليله.
الثالثة ـ الظاهر
أنه لا خلاف بينهم في أنه لا يجبر المفلس على بيع داره التي يسكنها ، الا من ابن
الجنيد فان ظاهره موافقة العامة هنا في وجوب البيع ، وهو شاذ
مردود بالأخبار الصريحة الصحيحة ، ثم انه على القول المشهور يباع منها ما يفضل عن
حاجته. وقالوا : يعتبر كونها لائقة بحاله كما وكيفا ، فلو زاد في أحدهما وجب
الاستبدال بما يليق به ـ وببيع الفاضل ان أمكن إفراده بالبيع.
قال الصدوق في
الفقيه : وكان شيخنا محمد بن الحسن رضى الله عنه يروى أنه ان كانت الدار واسعة
يكتفى صاحبها ببعضها فعليه أن لا يسكن منها ما يحتاج اليه
__________________
ويقضى ببقيتها دينه وكذلك ان كفته دار بدون ثمنها باعها ـ واشترى بثمنها
دارا يسكنها ـ ويقضى أيضا بالثمن دينه ، ومثل ذلك الأمة التي تخدمه ، فإنه لا يجبر
على بيعها ويعتبر فيها أيضا نسبة حاله ، قالوا : ومثلها العبد والدابة التي يحتاج
الى ركوبها ، ولو احتاج الى التعدد استثنى كالمتحد ، وكذا يستثني له دست ثياب يليق
بحاله شتاء وصيفا ، وأضاف بعض كتب العلم.
قال في التذكرة
: والاولى اعتبار ما يليق بحاله في إفلاسه ، لا في حال ثروته وكذا يترك لعياله من
الثياب ما يترك له ، قال : ولا يترك له الفرش والبسط ، بل يسامح باللبد والحصير
القليل القيمة ، قالوا : ولا فرق في المستثنيات بين كونها من مال بعض الغرماء
وعدمه عندنا ، ويجرى عليه النفقة له ولعياله بحسب حاله وعادة أمثاله من يوم الحجر
الى يوم القسمة ، فيعطى هو وعياله نفقة ذلك اليوم.
أقول : وقد
تقدم الكلام في هذه المسألة ونقل الأخبار المتعلقة بها وبيان ما يستفاد منها في
كتاب الدين وقد أشرنا ثمة الى أن ما ذكروه من التضييق في النفقة لم
يقم عليه دليل بل ظاهر جملة من الاخبار أن الأمر أوسع من ذلك على أن ما ذكروه من
استثناء ما زاد على الدار والخادم لم يأتوا عليه بدليل الا ان يدعى إلجاء الضرورة
اليه والظاهر أنه لا خلاف في استثناء الكفن وتقديمه على حقوق الغرماء وقد تقدمت
الأخبار الدالة على ذلك في كتاب الديون في التذنيبات الملحقة في آخر الكتاب
والأصحاب قد ذكروا أيضا وجوب تقديم كفن من يجب نفقته عليه ممن يجب تكفينه عليه قبل
الإفلاس ، ولم أقف فيه على دليل ، فان مورد النصوص المشار إليها هو كفنه خاصة.
وكيف كان فان
يقتصر على الواجب منه وهي الأثواب الثلاثة قالوا : ويعتبر فيها الوسط مما يليق به
عادة ولا يقتصر على الأدون وبه قطع الشهيد في البيان ، ولا بأس به فإنه المتبادر
إليه الإطلاق ، وألحقوا به مؤنة التجهيز من سدر وكافور
__________________
وماء ونحوها ، وهو غير بعيد لاستلزام الأمر بالتكفين لهذا الأشياء فإن قوله
عليهالسلام في بعض تلك الاخبار «يكفن بقدر ما ترك» أمر بالتكفين
وهو أمر يلازمه.
الرابعة قالوا
: إذا قسم الحاكم مال المفلس ، ثم ظهر غريم بعد القسمة نقضها وقسمت على الجميع
وهذا الكلام غير خال من الإجمال ، وتفصيل الكلام في ذلك أن يقال : أن هذا الغريم
الظاهر بعد القسمة اما أن يطالب بعين من مال المفلس بأن يكون قد باعه مبيعا وعينه
قائمة في أموال المفلس ، فان له ان يرجع في تلك العين كما تقدم تحقيقه أو يطالب
بدين في الذمة وعلى تقدير الأول فاما أن يكون تلك العين قد صارت بالقسمة في حصة
بعض الغرماء ، أو صارت الغرماء جميعا بالسوية فهي في أيديهم جميعا أو في يد أجنبي
بأن يكون قد باعها الحاكم وقسم قيمتها على الغرماء
فههنا صور أربع
: ففي صورتي ما إذا كان الطلب عينا واختص بها بعض الغرماء ، أو باعها الحاكم لا
سبيل الا بنقض القسمة ، لأن العين إذا انتزعت من أحدهما وردت إلى البائع بقي الآخر
بغير حق ، وحينئذ فلا بد من نقض القسمة.
واما في صورتي
ما إذا كان الطلب دينا أو عينا ولكنها في يد جميع الغرماء بالسوية ، فقولان :
أحدهما نقض القسمة كالأول ، لتبين فسادها من حيث ان جميع الغرماء يستوون في المال
، وقد وقعت القسمة بغير رضا البعض فيكون كما لو اقتسم الشركاء فظهر لهم شريك آخر.
وثانيهما ـ انها
لا ينقض بل يرجع الغريم على كل واحد بحصة يقتضيها الحساب ، لان كل واحد منهم قد
ملك ما هو قدر نصيبه بالإقباض الصادر من أهله في محله ، فلا يجوز النقض لأنه يقتضي
إبطال الملك الثابت ، أما الحصة الزائدة على قدر نصيبه باعتبار الغريم الآخر فإنها
عين مملوكة له فتستعاد ، والمسألة من أصلها لخلوها عن النص محل اشكال.
والظاهر ان
بناء الإطلاق الذي قدمنا نقله عنهم في صدر المسألة على اختيار القول الأول من هذين
القولين فإنه يأتي على ذلك نقض القسمة في الصور الأربع كملا
والله العالم.
الخامس إذا كان
عليه ديون حالة ومؤجلة وقت القسمة ، قسم المال على الديون الحالة ، اما لو كانت
مؤجلة وقت الحجر وحلت وقت القسمة شارك فيها أربابها وان كان الحجر في ابتدائه انما
وقع لأجل الديون الحالة كذا قالوا ، وفيه انه قد تقدم تصريح جملة منهم بأنه بالحجر
قد انتقل المال المحجور إلى أولئك الغرماء الذين وقع الحجر لأجلهم ، فلا تقبل
الشركة كما تقدم في مسألة من أقر بدين سابق في الموضع الثاني من الأمر الأول من
الأمور الأربعة ، والأقرب الأول سيما على ما قدمناه من عدم دليل على هذا الحجر وما
يترتب عليه ، قالوا : ولو حل بعد قسمة البعض شارك في الباقي وضرب بجميع المال وضرب
باقي الغرماء ببقية ديونهم والله العالم.
الرابع من
الأمور الأربعة المتقدم ذكرها الحبس وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز حبس الغريم مع
ظهور إعساره بموافقة الغريم ، أو قيام البينة أو علم الحاكم ، ولو تعدد الغريم
فوافق بعض وخالف آخرون فللمخالف البحث الا ان يكون الموافق ممن يحصل باخباره
الثبوت الشرعي ، فيدخل في قيام البينة بالنسبة إلى المخالف
والمستفاد من
الاخبار الواردة في هذا المقام وقد تقدمت في صدر هذا المطلب «أن عليا عليهالسلام كان يحبس في الدين إذا التوى على أصحابه». اى ماطل
بالوفاء ، ثم يأمر بقسمة ماله بين الغرماء ، ان كان له مال ظاهر ، ومع عدم ظهوره
فإنه يحبسه حتى تبين إفلاسه وحاجته ، فإذا تبين له خلى عنه حتى يستفيد مالا ـ وهو
منطبق على ما دل عليه كلام الأصحاب.
__________________
قالوا : لو كان
له مال ظاهر وامتنع من الوفاء تخير الحاكم بين حبسه حتى يوفى بنفسه ، وبين أن يوفى
الحاكم عنه بنفسه ، فان كان ماله من جنس الحق صرف فيه الغريم ، وان كان مخالفا
باعه منه وأوفى ، وجميع ما ذكر مما يستفاد من الاخبار المذكورة
ويحل لصاحب
الدين الاغلاظ له في القول ، كأن يقول : يا ظالم ونحوه للخبر المشهور عنه صلىاللهعليهوآله «للواجد يحل عقوبته وعرضه والملي المطل». والعقوبة الحبس ، والعرض الاغلاظ
له في القول. ولو لم يكن له مال ظاهر وادعى الإعسار فظاهر الأخبار المتقدمة انه عليهالسلام : «كان يحبسه حتى يتبين له الإعسار». والأصحاب (رضوان
الله عليهم) هنا قد صرحوا بأنه ان وجدت البينة على الإعسار قضى بها ، لكن ان كان
مستند البينة في الشهادة علمها بتلف أمواله قبلت وان لم تكن مطلقة على باطن أمره ،
لأن الشهادة بذلك على الإثبات المحض ، وبثبوت تلف ماله يحصل الغرض من فقره ، وان
شهدت بالإعسار مطلقا من غير تعرض لتلف ماله ، فلا بد في ذلك من كون الشاهدين لهما
معه صحبة أكيدة ، ومعاشرة باطنة بحيث يطلعان بها على باطن أحواله.
وانما اعتبر
هنا ذلك دون ما إذا كان الشهادة بتلف المال ، لان مرجع هذه الشهادة هنا إلى
الشهادة على النفي ، فإن معنى إعساره أنه لا مال له ، والشهادة على النفي غير
مسموعة ، وأما مع تقييدها بما ذكرناه من الاطلاع على باطن أمره بالمعاشرة الأكيدة
فإنها ترجع إلى إثبات تتضمن النفي ، بأن يقول انه معسر لا يملك الا قوت يومه ،
وثياب بدنه ونحو ذلك ، وان لم توجد البينة على أحد الوجهين المذكورين وكان له أصل
مال ، أو كان أصل الدعوى مالا ، حبس حتى يثبت إعساره ، والمراد من قولنا كان له
أصل مال أنه كان له مال قبل الآن ، ولكن ادعى الآن تلفه ، وبقولنا أو كان أصل
الدعوى مالا أن غريمه الذي قد ثبت دينه دفع إليه في مقابلته مالا ، بأن يكون قد
باعه سلعة ، وهو يطالب بثمنها أو أقرضه مالا ، والمديون يدعى تلفه ، أو ينكر وصوله
اليه مع قيام البينة بوصوله اليه ، وحكمه حينئذ أن يحبس حتى يثبت إعساره ، لأن
الأصل بقاء تلك الأعيان ، وظاهرهم أنه يحبس بمجرد ثبوت الدين
وامتناعه من أدائه.
وقال العلامة
في التذكرة : إذا لم يكن له بينة بذلك يحلف الغرماء على عدم التلف ، فإذا حلفوا
حبس ، ثم إنه مع عدم ذلك كله من البينة على الوجهين المتقدمين ، وأنه لا أصل مال ،
ولا أصل الدعوى مال ، فإنه جاز أن يستند في إعساره إلى ظاهر حاله ، ومع ذلك
فللغرماء إحلافه ، كما ذكره جمع منهم المحقق وغيره ، فيقبل قوله بيمينه ان لم يكن
للمدعى بينة على وجود المال ، وطلب اليمين منه لاحتمال وجود المال ، ويجوز الإحلاف
بمجرد الاحتمال ، ولا يشترط العلم والظن على الظاهر ، لعموم أدلة اليمين على
المنكر من غير معارض ، وظاهر أنه ينكر المال وهم يدعون وجوده عنده ، والأصل عدمه ،
وقوله أنا معسر بمنزلة قوله لا مال لي أو عندي يجب على أداؤه إليكم ، ولا يكلف
باليمين لو أقام بينة على إثبات مدعاه ، كما صرح به المحقق والعلامة في غير
التذكرة ، وأما فيها فإنه عكس الحكم وأثبت عليه اليمين في بينة التلف ، دون بينة
الإعسار ، محتجا بأن البينة إذا شهدت بالتلف كان كمن ثبت له أصل مال ، واعترف
الغريم بتلفه ، وادعى مال لا غيره ، فإنه يلزمه اليمين ، وافتى في موضع آخر منها
بأنه لا يمين في الموضعين ، محتجا بان فيه تكذيبا للشهود ولقوله صلىاللهعليهوآله «البينة على المدعى واليمين على المنكر». والتفصيل قاطع للشركة.
أقول : وهذا هو
الأقوى وإذا قسم المال بين الغرماء وجب إطلاقه من الحبس ان كان محبوسا ، الا ان
يكون هناك سبب آخر للحبس وهل يزول الحجر بناء على ما ذكروه بمجرد الأداء أو يتوقف
على حكم الحاكم؟
قيل : بالأول
لزوال سببه ، لان الحجر عليه انما كان لتحصيل حقوق الغرماء وقد قسمت أمواله عليهم
، وبزوال السبب يزول المسبب ، وقيل : بالثاني لأنه لم يثبت إلا بإثباته ، فلا
يرتفع الا برفعه ، ولانه يحتاج الى نظر واجتهاد ، كحجر السفيه.
__________________
وقد تقدم تحقيق
الكلام في ذلك وبيان قوة القول الأول ، إلى هنا آخر الكلام في هذا المجلد ، وهو
المجلد السابع من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ، ويتلوه إنشاء
الله تعالى الكلام في المجلد الثامن في كتاب الضمان نسأل الله تعالى بمزيد فضله
وإحسانه وجميل كرمه وامتنانه التوفيق لإتمامه ، والفوز بسعادة ختامه على يد مؤلفه
تراب أقدام العلماء العاملين وخادم الفضلاء الصالحين ، الفقير الى ربه الكريم يوسف
بن احمد بن إبراهيم البحراني ، أصلح الله تعالى له أمر داريه وأذاقه حلاوة نشأتيه
، وكان ذلك في الأرض المقدسة كربلاء المعلى على مشرفيها وآبائه وأبنائه أفضل صلوات
ذي العلاء.
وكان ذلك في
اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الثاني من السنة الثالثة والثمانين بعد المأة
والالف من الهجرة النبوية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحية حامدا مصليا مسلما
مستغفرا آمين آمين.
إلى هنا تم
الجزء العشرون حسب تجزئتنا بحمد الله ومنه ، وقد بذلنا الجهد في تصحيحه ومقابلته
واستخراج أحاديثه ، وسيليه الجزء الحادي والعشرون وأوله كتاب الضمان ، والحمد لله
رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
فهرس الجزء العشرين
من كتاب الحدائق الناضرة
في شرائط المسلم................................................................. ٢
في أنه يشترط في السلم ذكر الجنس والوصف والأجل................................. ٤
في ذكر أوصاف جملة من المبيعات سلماً............................................. ٦
في جواز اسلاف الاعراض في الاعراض إذا اختلفت................................. ١٠
في أن كلما ينضبط وصفه يصح السلم منه......................................... ١١
في انه يشترط فيه قبض الثمن قبل التفرق.......................................... ١٥
في انه يشترط اعتبار الاجل بما لا يحتمل الزيادة والنقصان............................ ٢٣
في انه يشترط فيه غلبة الوجود وقت الحلول......................................... ٢٩
في انه يشترط ذكر موضع التسليم................................................ ٣٢
في بيع السلم بعد الحلول وقبل القبض............................................. ٣٦
في دفع السلم دون الصفة وفوق الصفة............................................ ٤٩
فيما لو وجد بالمبيع عيبا بعد القبض............................................... ٥١
فيما إذا ظهر في الثمن بعد قبضه عيب............................................ ٥٢
فيما إذا اختلفا في قبض الثمن هل كان قبل التفرق أو بعده.......................... ٥٤
في بيع الغرر والمجازفة............................................................ ٥٦
في من اشترى شيئا بحكم نفسه................................................... ٥٧
في ان الثمن إذا كان مجهولا بطل البيع............................................. ٥٩
في أنه لا بأس ان يعطى الغنم والبقر بالضريبة....................................... ٦٠
في بيع اللبن في الضرع........................................................... ٦٢
في بيع الصوف على ظهر الغنم.................................................. ٦٥
في بيع ما في بطون الانعام....................................................... ٦٥
في تقبل جزية رؤوس أهل الذمة................................................... ٦٧
في شراء تبن البيدر لكل كر بشئ معلوم وان لم يكل................................. ٦٩
في انه يكره بيع صك الورق حتى يقبض............................................ ٧٠
في انه يجوز للحاكم ان يبيع على السفيه والمفلس والغائب............................ ٧٢
في أنه يجوز الجمع في عقد واحد من المختلفات...................................... ٧٢
فيما لو تضمن عقد البيع شرطا فاسداً............................................. ٧٦
في جواز بيع الشئ اليسير باضعاف قيمته بشرط ان يقرضه أو يسلمه.................. ٧٩
في ان أجرة الكيال والوزان على البايع وأجرة الدلال على الآمر........................ ٨٧
في استحباب الإقالة............................................................. ٩٠
في أحكام المتعلقة بالإقالة........................................................ ٩٢
في أحكام العينة................................................................ ٩٣
كتاب الدين................................................................. ١٠٠
في جواز الاستدانة على كراهة.................................................. ١٠٤
في القرض.................................................................... ١٠٦
في استحباب الاقراض......................................................... ١٠٧
في ان عقد الفرض يتوقف على الايجاب والقبول.................................. ١٠٨
في حكم النفع المترتب على القرض.............................................. ١١٠
في أنه لو تبرع المقترض بزيادة في العين أو الصفة جاز.............................. ١١٥
في بطلان القرض متى اشتمل على اشتراط النفع................................... ١١٦
في أن القرض يملك بالقبض.................................................... ١٢٣
في جواز الرجوع في العين ما دامت باقية.......................................... ١٢٦
في ان القرض من العقود الجائزة................................................. ١٣٠
في أنه متى وقع اشتراط تأجيل القرض في عقد لازم يصح الشرط..................... ١٣٥
في أنه كلما يضبط وصفه وقدره يجوز اقراضه...................................... ١٣٦
في ان الثابت في الذمة في المثلى المثل وفى القيمي القيمة............................. ١٣٧
في جواز اقراض الجواري........................................................ ١٤٠
في أنه لو ظهر في العين المقترضة عيب فله ردها ولا أرش........................... ١٤١
في حكم من أقرض غيره الدارهم فسقطت وجازت غيرها........................... ١٤٢
في أحكام الدين.............................................................. ١٤٦
في أنه من لم ينو قضاء الدين فهو سارق......................................... ١٤٧
في وجوب العزل عند امارة الموت................................................ ١٤٨
في وجوب الوصية به عند امارة الموت............................................ ١٤٩
في أنه إذا غاب المالك ومات ولم يعرف له وارث يتصدق عنه....................... ١٤٩
في أن مصرف هذه الصدقة مصرف المندوبة...................................... ١٥٥
في أن الامام وارث من لا وارث له............................................... ١٥٦
في حكم من كان لاحد في ذمة آخر دين فباعه بأقل منه........................... ١٥٧
في أنه إذا رأى صاحب الدين المديون في الحرم لم يجز له مطالبته
فيه.................. ١٦١
في أنه إذا مات الرجل حل ماله وما عليه......................................... ١٦٥
في أنه يجوز اقتضاء الدين من أثمان المحرمات إذا كان المديون
ذميا.................... ١٦٧
في أنه إذا كان لجماعة مال في ذمم غيرهم وأراد وأقسمته لا تصح
مالم يقبض......... ١٧١
في أنه لو دفع المديون عروضاً عما في ذمته من غير مساعرة يحتسب
بقيمتها
يوم القبض................................................................... ١٧٤
في أنه إذا قتل المديون عمداً ولا مال له لم يكن لأوليائه القود
الا بعد تضمين الدين.... ١٧٨
في حكم إذا جحد المديون المال ولا بينة للمدعى.................................. ١٨٣
في أنه يستحب للغريم الارفاق بالمديون في الاقتضاء................................ ١٨٦
في أنه يستحب ان يكون حسن القضاء.......................................... ١٨٨
في أنه يستحب احتساب هدية الغريم من دينه.................................... ١٩٠
في أنه لو ضمن أحد عن الميت دينه تبرء منه...................................... ١٩١
في انه يجب على المديون دفع جميع ما يملكه في الدين مع طلب
صاحبه............... ١٩٤
في أنه لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين..................................... ١٩٥
في أنه يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه........................................ ١٩٩
في أنه لا يباع الدين بالدين..................................................... ٢٠١
في أنه لا يؤدى عن المديون من سهم الغارمين الا مع انفاقه في
غير معصية............ ٢٠٣
في أنه إذا لم يتمكن المديون من أداء الدين وجب على الامام
أداؤه................... ٢٠٥
في أنه يقضى على الغائب إذا قامت البينة....................................... ٢٠٧
في أنه لا يبطل الحق بتأخير المطالبة.............................................. ٢٠٨
في أنه يجوز القرض في بلد مع شرط أن يقضيه في بلد آخر......................... ٢١١
في أنه إذا قتل أحد أحداً ينتقل جميع ما في ذمة المقتول إلى ذمة
قاتله................. ٢١٣
في أحكام دين العبد........................................................... ٢١٥
في أن دين العبد على المولى إذا أذنه في التجارة.................................... ٢١٥
في أحكام دين العبد........................................................... ٢٢١
كتاب الرهن................................................................. ٢٢٢
في ان قبض الرهن شرط أم لا.................................................. ٢٢٥
في ان شرطية القبض هل هي في الصحة أو اللزوم................................. ٢٢٧
فيما لو قبض المرتهن الرهن بغير اذن الراهن....................................... ٢٢٨
فيما لو عرض للراهن الجنون أو الاغماء أو الموت بعد العقد........................ ٢٢٩
فيما لو رهن ما في يد المرتهن قبل الرهن.......................................... ٢٣٠
في أنه أقر الراهن بالاقباض قضى عليه........................................... ٢٣٢
فيما لو رهن ما هو مشترك بينه وبين غيره........................................ ٢٣٣
في ان الرهن أمانة في يد المرتهن.................................................. ٢٣٤
في ان فوائد الرهن تدخل في الرهن............................................... ٢٤٠
في أن الرهن لازم من جهة الراهن................................................ ٢٤٣
في أنه إذا وجد المرتهن بالرهن عيبا سابقا كان له الرد بالعيب........................ ٢٤٣
في شرائط الراهن.............................................................. ٢٤٦
في أنه لا يصح رهن ما في الذمة................................................ ٢٤٦
في رهن المدبر................................................................. ٢٤٧
في أحكام الراهن والمرتهن....................................................... ٢٥٠
في ان الحق الذي يؤخذ عليه الرهن لابد أن يكون الدين الثابت في
الذمة............. ٢٥٠
في أنه لا يصح الرهن على مال الجعالة........................................... ٢٥٣
في جواز الرهن على مال الكتابة................................................. ٢٥٣
في جواز الرهن على مال الكتابة................................................. ٢٥٥
في أخذ الرهن في اقراض مال اليتيم.............................................. ٢٥٥
في أن مجرد اطلاق الرهن لا يقتضى كون المرتهن وكيلا في بيع
الرهن.................. ٢٥٧
في ان الراهن إذا مات وعليه ديون يقصر ماله عنها فالمرتهن أحق
باستيفاء دينه........ ٢٥٩
في أنه ليس للمرتهن التصرف في الرهن الا بإذن الراهن............................. ٢٦١
في حرمة التصرف لكل من الراهن والمرتهن في الرهن................................ ٢٦٥
في أنه إذا وطأ الراهن الأمة المرهونة وأحبلها صارت أم ولد.......................... ٢٦٩
في أنه وطأها مكرها فعليه عشر قيمتها ان كانت بكراً............................. ٢٧١
في أنه لو مات المرتهن ولم يعلم الرهن كان كسبيل ماله.............................. ٢٧٣
في أنه إذا حل الاجل وتعذر الأداء لم يكن له البيع بنفسه.......................... ٢٧٥
في جملة من المسائل المتعلقة بالنزاع............................................... ٢٧٦
في أنه لو اختلف الراهن والمرتهن في الدين فالقول قول الراهن........................ ٢٧٧
في أنه لو اختلفا في أنه هل هو وديعة أو رهن فالقول قول المالك.................... ٢٧٩
في أنه إذا تلف الرهن واختلفا في القيمة فهل القول قول الراهن...................... ٢٨١
في أنه إذا اذن المرتهن للراهن في البيع ثم رجع فاختلفا فقول
أيهما مقدم............... ٢٨٣
كتاب الشفعة................................................................ ٢٨٤
في ثبوت الشفعة في العقار الثابت القابل للقسمة.................................. ٢٨٥
في أنه لا شفعة في سفينة ولا في نهرو لافى طريق................................... ٢٨٧
في تنبيهات الشفعة............................................................ ٢٩٠
في أنه هل يثبت الشفعة في الثمرة وان بيعت على رؤوس النخل...................... ٢٩١
في شروط الشفعة............................................................. ٢٩٣
في ان الشركة إذا كان مقسوماً فلا شفعة......................................... ٢٩٤
في أنه من الشرائط انتقال الشقص بالبيع خاصة................................... ٢٩٨
في أنه من الشرائط ان لا يكون الشريك أكثر من واحد............................ ٣٠١
في شروط الشفيع............................................................. ٣٠٧
في أنه يشترط فيه الاسلام إذا كان المشترى مسلما................................. ٣٠٧
في ان من الشروط ان يكون قادرا على الثمن بالفعل أو القوة........................ ٣٠٧
في أنه لا شفعة ليهودي ولا نصراني ولا مخالف.................................... ٣١١
في ثبوت الشفعة للغائب والصبي والمجنون......................................... ٣١٣
في كيفية الأخذ بالشفعة....................................................... ٣١٥
في ان استحقاق الشفيع لمجموع الشقص المشترك................................... ٣١٦
في ان الشفيع يدفع مثل الثمن لو كان مثليا....................................... ٣١٧
في أنه يجب على المشترى دفع الشقص المشفوع بعد الشفعة........................ ٣١٨
في ان المشهور وجوب الفورية في الشفعة.......................................... ٣١٩
في أنه إذا علم واهمل مختارا بطلت شفعته......................................... ٣٢١
في أنه لا تسقط الشفعة بتقايل المتابعين.......................................... ٣٢٢
فيما لو انهدم البيت أو عاب................................................... ٣٢٤
في أن الشفعة هل تورث أم لا.................................................. ٣٢٥
فيما لو حمل النخل بعد الابتياع فاخذه الشفيع قبل التأبير.......................... ٣٢٨
فيما إذا باع الشريك الذي له الشفعة نصيبه من المال قبل الاخذ
بالشفعة............. ٣٢٩
فيما لو عرض البايع الشئ على صاحب الشفعة فلم يرده فباعه من
غيره............. ٣٣٠
فيما لو كان الثمن مؤجلا فالمشهور أنه يأخذ بالشفعة عاجلا........................ ٣٣٣
فيما إذا اختلف المشترى والشفيع في القيمة بعد الاتفاق في
الشراء................... ٣٣٤
فيما إذا ظهر في الشقص الذي هو محل الشفعة عيب............................. ٣٣٦
في كيفية الأخذ بالشفعة....................................................... ٣٣٨
في موجبات سقوط الشفعة..................................................... ٣٤٠
كتاب الحجر................................................................. ٣٤٢
في أحكام الحجر على الصغير مالم يبلغ.......................................... ٣٤٣
في انه أحد علامات البلوغ الحلم................................................ ٣٤٤
في أنه ومنها الانبات.......................................................... ٣٤٦
في انه ومنها السن............................................................. ٣٤٩
في أنه لا يرتفع عن الصغير الحجر الا بالبلوغ والرشد............................... ٣٥١
في أحكام الحجر على المجنون والرق والمريض...................................... ٣٥٣
في أحكام الحجر على السفيه................................................... ٣٥٥
في أنه لو باع السفيه في حال السفه لم يضمن بيعه................................ ٣٥٨
في أنه هل يثبت الحجر على السفيه بمجرد ظهور السفه أم يتوقف على
حكم الحاكم.. ٣٥٩
في أنه إذا ثبت الحجر على السفيه فباعه انسان كان البيع باطلا..................... ٣٦٨
في أنه لو اذن الولي لسفيه في البيع لا يصح....................................... ٣٦٩
في أنه لو أدعه شخص وديعة فأتلفها قيل لا ضمان عليه........................... ٣٦٩
في أن الولاية في مال الصغير والمجنون المتصل جنونه بالبلوغ
للأب والجد له............. ٣٧٢
فيما لو تعارض عقد الأب والجد فأيهما مقدم..................................... ٣٧٥
في أنه هل يعتبر العدالة في الأب والجد أم لا...................................... ٣٧٦
في أن المشهور ، اعتبار العدالة في الوصي......................................... ٣٧٦
في أن السفيه حكمه في العبادات البدنية والمالية الواجبة حكم
الرشيد................ ٣٧٨
في أحكام الحجر على المفلس................................................... ٣٨٢
في أنه لو أقر بدين سابق صح.................................................. ٣٨٦
في أنه يتعلق الحجر بالمال الموجود حال الحجر..................................... ٣٩٠
في أنه لا تحل الديون المؤجلة عليه بالحجر......................................... ٣٩١
في أنه لو اقرض انسان مالا بعد الحجر أو باعه بثمن في ذمته لم
يشارك الغرماء........ ٣٩١
في أنه لو كان له حق فليس له قبض دون........................................ ٣٩٣
في أنه لا فرق في الحكم المذكور في الميت بين ان يموت المديون
محجوراً عليه أم لا....... ٣٩٥
في أن الظاهر أن المراد برجوع صاحب العين إليها إذا كان موجوداً
هو فسخ العقد..... ٣٩٦
في أنه هل الخيار المذكور هنا في الحي أو الميت على الفور أو
على التراخي............. ٣٩٨
في أنه إذا وجد العيني ناقصة فان كان الناقص يمكن افراده بالبيع
كان له أخذ الباقي بحصته ٣٩٨
فيما إذا رجع إلى العين ووجدها زائدة............................................ ٤٠١
فيما لو باع نخلا حائلا فأطلع بعد البيع فاخذ البايع النخل قبل
تأبيره................ ٤٠٤
في قسمة ماله................................................................ ٤٠٧
في مستحبات القسمة......................................................... ٤٠٨
في أن المفلس لا يجبر على بيع داره التي يسكنها................................... ٤٠٩
في أنه إذا قسم الحاكم ماله ثم ظهر غريم نقضها.................................. ٤١١
في أنه لا يجوز حبسه مع ظهور اعساره........................................... ٤١٢
|