
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الباب الخامس
في الطهارة من
النجاسات وما يتبعها من ذكر النجاسات وأحكامها وأحكام الأواني والجلود ،
فالبحث في هذا الباب يقع في مقاصد ثلاثة :
المقصد الأول
في النجاسات وتحقيق
الكلام فيها في فصول عشرة :
(الأول والثاني)
ـ البول والغائط ، المشهور ـ بل ادعى عليه في المعتبر والمنتهى إجماع العلماء كافة
عدا شذوذ من العامة ـ هو نجاسة البول والغائط مما لا يؤكل لحمه إذا كان ذا نفس
سائلة ، والمراد بالنفس السائلة الدم الذي يجتمع في العروق ويخرج بقوة ودفع إذا
قطع شيء منها ، وهو أحد معاني النفس كما ذكره أهل اللغة ، ومقابله ما لا نفس له
وهو الذي يخرج لا كذلك بل رشحا كدم السمك.
أقول : اما ما
يدل على نجاسة البول والعذرة من الإنسان فأخبار مستفيضة : منها ـ صحيحة محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن البول يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين». وصحيحة
ابن ابي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين». وحسنة الحسين
__________________
ابن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما
هو ماء. قال وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله مرتين. الحديث». وحسنة الحلبي
قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء وان كان قد أكل
فاغسله غسلا. الحديث». وحسنة أبي إسحاق النحوي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء
مرتين». ورواية الحسن بن زياد قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يبول فيصيب بعض فخذه نكتة من بوله فيصلي ثم
يذكر بعد انه لم يغسله؟ قال يغسله ويعيد صلاته». وصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان
غسلته في ماء جار فمرة واحدة». وأكثر هذه الأخبار وان كان مطلقا إلا ان المتبادر
منه انما هو بول الإنسان واما الغائط فيدل على نجاسته اخبار الاستنجاء وقد تقدمت
في بابه
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد
صلاته؟ قال ان كان لم يعلم فلا يعيد». ومفهومه وجوب الإعادة مع العلم وهو دليل
النجاسة ، وهذا المفهوم حجة عند المحققين وقد مر ما يدل عليه من الأخبار في مقدمات
الكتاب
وفي الصحيح عن
موسى بن القاسم عن علي بن محمد قال : «سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها تطأ
العذرة ثم تطأ الثوب أيغسل؟ قال ان كان استبان من أثره شيء
__________________
فاغسله وإلا فلا بأس». وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة
ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال لا إلا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من
ماء. الحديث» وفي باب البئر في رواية ابن مسكان عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن العذرة تقع في البئر؟ فقال ينزح منها
عشرة دلاء». وفي رواية علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن العذرة تقع في البئر؟ قال ينزح منها
عشرة دلاء فان ذابت فأربعون أو خمسون». وفي صحيح زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل
يجب عليه غسلها؟ قال لا يغسلها إلا ان يقذرها ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي».
ورواية حفص بن ابي عيسى عن الصادق (عليهالسلام) «في من وطأ عذرة بخفه فمسحه حتى لم ير فيه شيئا؟ فقال : لا بأس». ورواية
موسى بن أكيل عن بعض أصحابه عن الباقر (عليهالسلام) «في شاة شربت بولا ثم ذبحت؟ قال يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به وكذلك إذا
اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلالة. الحديث». حسنة محمد بن مسلم قال : «كنت مع ابي جعفر (عليهالسلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت
جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك؟ قال أليس هي يابسة؟ فقلت بلى. فقال لا
بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا». ورواية الحلبي في الكافي عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يطأ في العذرة أو البول أيعيد الوضوء؟ قال لا ولكن يغسل ما أصابه».
__________________
واما ما يدل
على بول غيره وغائطه مما لا يؤكل لحمه ـ زيادة على الإجماع المتقدم وعموم جملة من
الأخبار المتقدمة ـ ما رواه الشيخ في الحسن عن عبد الله بن سنان قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». وصحيحة عبد
الرحمن بن ابي عبد الله المتقدمة ، ورواية أبي يزيد القسمي عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) «انه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الحفاف؟ فقال لا تصل فيها فإنها
تدبغ بخرء الكلاب». وما رواه سماعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان أصاب الثوب شيء من بول السنور فلا تصلح
الصلاة فيه حتى تغسله». ويؤيد ذلك ما رواه زرارة في الحسن «انهما قالا لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه». وما رواه في قرب الاسناد
عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قال لا بأس ببول ما أكل لحمه». وفي الموثق عن عمار الساباطي
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وما رواه
علي بن جعفر في المسائل عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدقيق يقع فيه خرء الفأر هل يصلح أكله
إذا عجن مع الدقيق؟ قال إذا لم تعرفه فلا بأس وان عرفته فاطرحه». أقول : قوله (عليهالسلام) «إذا لم تعرفه» اي لم تعلم دخوله في الدقيق وانما تظن
ظنا فلا ب. س وان علمته وجب عليك طرحه وإخراجه ، ويوضح ما ذكرناه ما رواه في دعائم
الإسلام قال : «سئل الصادق (عليهالسلام) عن خرء الفأر يكون في الدقيق؟ قال ان علم به اخرج منه
وان لم يعلم به فلا بأس».
__________________
وروى العلامة في المختلف نقلا من كتاب عمار بن موسى الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «خرء الخطاف لا بأس به هو مما يؤكل لحمه ولكن كره
أكله لأنه استجار بك وأوى إلى منزلك وكل طير يستجير بك فاجره».
قال في المدارك
بعد الاستدلال بحسنة عبد الله بن سنان المذكورة على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه :
«وجه الدلالة ان الأمر حقيقة في الوجوب واضافة الجمع تفيد العموم ، ومتى ثبت وجوب
الغسل في الثوب وجب في غيره إذ لا قائل بالفصل ، ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب
غسل الملاقي له بل سائر الأعيان النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل
الثوب أو البدن من ملاقاتها مضافا الى الإجماع المنقول في أكثر الموارد كما ستقف
عليه في تضاعيف هذه المباحث» انتهى وهو جيد. واما قوله في الذخيرة بعد نقل هذا
الكلام «وفيه تأمل» فالظاهر انه بناء على ما تكرر في كلامه من عدم دلالة الأمر في
الاخبار على الوجوب وقد أوضحنا ضعفه في غير مقام. ثم قال في المدارك : «أما
الأرواث فلم أقف فيها على نص يقتضي نجاستها من غير المأكول على وجه العموم ولعل
الإجماع في موضع لم يتحقق فيه المخالف كاف في ذلك» انتهى. وهو جيد. والعجب ان المحقق
في المعتبر بعد ان ادعى الإجماع المشار اليه آنفا نقل خلاف الشيخ في المبسوط في
رجيع الطير كما سيأتي.
وبالجملة
فالمفهوم من كلام الأكثر البناء على قاعدتين كليتين : الاولى ـ ان كل ما يؤكل لحمه
فبوله وروثه طاهر ، والثانية ـ ان كل ما لا يؤكل لحمه فبوله وروثه نجس ، والخلاف
قد وقع في الكليتين ، وها انا اذكر مواضع الخلاف فأقول :
(الأول) ـ رجيع
الطير وهذا من الكلية الثانية ، فذهب الصدوق الى طهارته مطلقا حيث قال في الفقيه :
«ولا بأس بخرء ما طار وبوله» وهو ظاهر في إطلاق القول بالطهارة ، ونقله الأصحاب
أيضا عن ابن ابي عقيل والجعفي ، وهو قول الشيخ في
__________________
المبسوط إلا انه استثنى منه الخشاف قال : بول الطيور وذرقها كله طاهر إلا
الخشاف. وقال في الخلاف : ما أكل فذرقه طاهر وما لم يؤكل فذرقه نجس. وبه قال جمهور
الأصحاب.
ويدل على القول
بالطهارة موثقة أبي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كل شيء يطير فلا بأس بخرئه وبوله». ونقل شيخنا
المجلسي في البحار قال : وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلا من جامع البزنطي
عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «خرء كل شيء يطير وبوله لا بأس به».
ولم أقف على
خبر يدل على المشهور من التفصيل في الطير بين المأكول وغير المأكول إلا ان المحقق
في المعتبر استدل على ذلك بما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل لحمه وأضاف الى ذلك
دعوى ترادف الخرء والعذرة ، قال بعد الإشارة إلى قول الشيخ في المبسوط : ولعل
الشيخ استند إلى رواية أبي بصير ، ثم ساقها ثم احتج لما ذهب اليه من مساواة الطير
لغيره في التفصيل المذكور بان ما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل يتناول موضع
النزاع لان الخرء والعذرة مترادفان ، ثم أجاب عن رواية أبي بصير بأنها وان كانت حسنة
لكن العامل بها من الأصحاب قليل.
واعترضه في هذا
المقام المحققان السيد في المدارك والشيخ حسن في المعالم ، قال في المدارك بعد نقل
ذلك عنه : «وهو غير جيد لما بينا من انتفاء ما يدل على العموم ، ولأن العذرة ليست
مرادفة للخرء بل الظاهر اختصاصها بفضلة الإنسان كما دل عليه العرف ونص عليه أهل
اللغة ، قال الهروي العذرة أصلها فناء الدار وسميت عذرة الإنسان بها لأنها كانت
تلقى في الأفنية فكني عنها باسم الفناء» انتهى.
أقول : فيه (أولا)
ـ انه يمكن ان يكون صاحب المعتبر أشار بما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل لحمه
الى ما ورد عنهم (عليهمالسلام) من النهي عن الوضوء والشرب
__________________
من الماء الذي دخلته الحمامة والدجاجة وفي رجلها العذرة ، وأمرهم (عليهمالسلام) بغسل الثوب الذي وطأته الدجاجة وفي رجلها العذرة ،
والأمر بغسل الرجل التي وطئت بها العذرة ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك
وأمثال ذلك مما دل على نجاسة العذرة بقول مطلق فإنه بإطلاقه شامل لعذرة الإنسان
وغيره.
و (ثانيا) ـ انه
قد ورد في الروايات إطلاق العذرة على فضلة غير الإنسان صريحا كما تقدم في رواية
عبد الرحمن بن ابي عبد الله ، وروى الشيخ بسنده الى محمد بن مضارب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا بأس ببيع العذرة».
وعن سماعة بن
مهران في الموثق قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر فقال أني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال
حرام بيعها وثمنها ، وقال لا بأس ببيع العذرة». ولا ريب ان المراد بالعذرة في
الحديث الأول وآخر الثاني منهما انما هو عذرة غير الإنسان لتحريم بيع عذرة الإنسان
اتفاقا.
و (ثالثا) ـ ان
صاحب القاموس والصحاح فسرا الخرء بالعذرة وهو يؤذن بالمرادفة ، ويؤيده أيضا ما
صرحوا به من تفسير الخرء بالغائط الذي هو في ظاهر كلامهم مخصوص بفضلة الإنسان ،
قال في المجمع : الخرء الغائط. ومثله في المصباح المنير قال : خرئ بالهمزة يخرأ من
باب تعب إذا تغوط. مع انهم قالوا في الغائط انه مخصوص بفضلة الإنسان لما ذكروه في
سبب التسمية من ان أصل الغائط المكان المنخفض من الأرض وكانوا إذا أرادوا قضاء
الحاجة أتوا في تلك الأمكنة فكني بها عن الحدث.
وبذلك يظهر ان
كلام المعتبر لا يخلو من قوة وان ما أورده عليه غير وارد. إلا انه يمكن ان يقال ان
لفظ العذرة وان كان عاما بحسب اللغة والعرف الشرعي لكن لا يبعد ادعاء انه في
الروايات حال الإطلاق وعدم القرينة مخصوص بعذرة الإنسان أو انه يعمها وغيرها لكن
لا على وجه يشمل خرء الطير ، لما أشرنا إليه في غير موضع
__________________
وصرح به جملة من المحققين من ان الإطلاق انما ينصرف الى الافراد المتكثرة
المتعارفة
وبما ذكرنا
ايضا يسقط كلام صاحب المعالم واعتراضه كلام المحقق حيث انه حذا حذو صاحب المدارك
في الإيراد عليه وأغرب في كلامه بما اسداه اليه ، قال (قدسسره) بعد نقل كلام المعتبر : «ولي في كلامه ههنا تأمل لأن
الإجماع الذي ادعاه على نجاسة البول والغائط من مطلق الحيوان غير المأكول ان كان
على عمومه فهو الحجة في عدم التفرقة بين الطير وغيره. وان كان مخصوصا بما عدا
الطير فأين الأدلة العامة على نجاسة العذرة مما لا يؤكل؟ والحال انا لم نقف في هذا
الباب إلا على حسنة عبد الله بن سنان ولا ذكر أحد من الأصحاب الذين وصل إلينا
كلامهم في احتجاجهم لهذا الحكم سواها ، وهي ـ كما ترى ـ واردة في البول ولم يذكرها
هو في بحثه للمسألة بل اقتصر على نقل الإجماع كما حكيناه عنه فلا ندري لفظ العذرة
أين وقع معلقا عليه الحكم ليضطر الى بيان مرادفة الخرء له ويجعلها دليلا على
التسوية التي صار إليها؟ ما هذا إلا عجيب من مثل المحقق» انتهى.
وفيه ما عرفت
من الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة العذرة الشاملة بإطلاقها لعذرة الإنسان
وغيره مع ان صريح صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله إطلاق العذرة على فضلة غير
الإنسان ، ومما يدل ايضا على إطلاق العذرة على فضلة غير الإنسان رواية محمد بن
مضارب المتقدمة ، فإنكاره وجود العذرة في الأخبار معلقا عليها الحكم لا وجه له بعد
ما عرفت. واحتمال حمل كلامه على منع العموم في تلك الاخبار مع بعده عن سياق كلامه
مدفوع بما صرح به هو وغيره من ان ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يدل على عموم
المقال ، مع ان المحقق ذهب الى ان المفرد المحلى باللام في المقامات الخطابية حيث
لا عهد يكون للعموم ويقوم مقام الألفاظ العامة. وهو في المعالم قد ساعد على ذلك
وقال به وتبعه فيه ، والحال ان ما نحن فيه كذلك حيث لا عهد فيكون للعموم ، وحينئذ
فلا عجب من المحقق فيما نسبه اليه انما العجب منه (قدسسره) في تشنيعه عليه. نعم يمكن
تطرق المناقشة من الوجه الذي أشرنا إليه من حيث بعد شمول هذا العموم لخرء
الطير.
واستدل في
المختلف للقول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة وقوله (عليهالسلام) فيها : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». وهي ـ كما
ترى ـ انما تضمنت حكم البول مع ان البول من الطير غير معلوم. وما ذكره بعضهم في
تقريب الاستدلال بها ـ من انها لما تضمنت حكم البول ودلت على نجاسته وجب القول
بذلك في الخرء لعدم القائل بالفرق ـ فهو وان اشتهر مثله في كلامهم من الضعف عندي
بمكان لا يحتاج الى بيان كما ستعرفه ان شاء الله تعالى في مسألة أبوال الدواب
الثلاث.
ثم ان القائلين
بالقول المشهور اختلفوا في الجواب عن رواية أبي بصير التي أسلفنا ذكر دلالتها على
خلاف القول المشهور ، فأجاب عنها في المختلف بأنها مخصوصة بالخشاف إجماعا فتختص
بما شاركه في العلة وهو عدم كونه مأكولا.
واعترضه في
المدارك بان فساده واضح (أما أولا) فلمنع الإجماع على تخصيص الخشاف فإنه (قدسسره) قد حكى في صدر المسألة عن ابن بابويه وابن ابي عقيل
القول بالطهارة مطلقا ونقل استثناء الخشاف عن الشيخ (قدسسره) في المبسوط خاصة. و (اما ثانيا) ـ فلخروج الخشاف من
هذا العموم بدليل لا يقتضي كون العلة فيه انه غير مأكول اللحم بل هذه هي العلة
المستنبطة التي قد علم من مذهب الإمامية إنكار العمل بها والتشنيع على من اعتبرها.
انتهى. وهو جيد.
وأجيب أيضا عن
الرواية المذكورة بالحمل على المأكول خاصة جمعا بينها وبين حسنة عبد الله بن سنان
المذكورة من حيث دلالتها على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه من الطير وغيره.
وفيه (أولا) ان
الحسنة المذكورة كما عرفت انما تضمنت حكم البول خاصة والمدعى أعم من ذلك ، ونجاسة
البول لا تستلزم نجاسة الذرق بوجه كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في مسألة أبوال
الدواب الثلاث.
و (ثانيا) انه
لو فرض تضمنها لحكم الذرق لأمكن الجمع بحمل الحسنة المذكورة على غير الطير وإبقاء
عموم «كل شيء يطير» على حاله ، وترجيح أحد الجمعين على الآخر يحتاج الى دليل ، بل
الأظهر هو جعل التأويل في جانب الحسنة المذكورة لو فرض دلالتها وإبقاء عموم تلك
الكلية على حاله من حيث ترجيحه بمطابقة الأصل والتأييد بالعمومات الدالة على
الطهارة مثل قولهم (عليهمالسلام) : «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر». ومن جهة أظهرية «كل
شيء يطير». في العموم للطير الغير المأكول اللحم من قوله : «ما لا يؤكل لحمه». وذلك
مناط التخصيص.
و (ثالثا) تأيد
رواية أبي بصير بالرواية التي نقلناها من جامع البزنطي بنقل شيخنا المشار اليه
فترجح بذلك على ما عارضها ويصير التأويل في الجانب المرجوح.
وبذلك يظهر لك
قوة القول بالطهارة في ذرق الطير مطلقا إلا انه يبقى التردد في بوله ان فرض له بول
، والأظهر أيضا ترجيح الطهارة لما ذكرناه في الجمع بين روايتي أبي بصير والبزنطي
وبين حسنة ابن سنان من جعل التأويل في جانب الحسنة المذكورة بالحمل على غير الطير
للوجوه التي ذكرناها. وبالقول بالطهارة هنا صرح في المدارك واختاره في المعالم إلا
انه قيده بشرط ان لا يكون الإجماع المدعى مأخوذا على جهة العموم وإلا كان هو الحجة
والمخرج عن الأصل. وفيه نظر إذ لم يقم على حجية مثل هذه الإجماعات ـ سيما في
مقابلة الروايات وظهور الخلاف في المسألة من جملة من أجلاء الأصحاب ـ دليل يعتد
به.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان السيد في المدارك استدل للقول بالطهارة هنا بما رواه الشيخ في الصحيح عن
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) «انه سأله
__________________
عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير أو غيره هل يحكه وهو في صلاته؟ قال لا بأس».
قال : وترك الاستفصال في مقام الاحتمال يفيد العموم.
أقول : فيه (أولا)
ـ ان هذه الرواية ليست من روايات الشيخ كما يدل عليه كلامه لعدم وجودها في كتابيه
وانما هي من روايات الصدوق في الفقيه رواها عن علي ابن جعفر (رضياللهعنه) وطريقه إليه في المشيخة صحيح.
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكره من تقريب الاستدلال بها ـ من ان ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يفيد
العموم ـ ليس على وجهه هنا إذ ذاك انما يتم بالنسبة إلى الغرض المقصود من سياق
الكلام ، وما ذكره يتم لو كان الغرض من سوق الكلام بيان حكم الطير وخرئه وانه يجب
الاجتناب عنه أم لا وقيل في الجواب عن ذلك «لا بأس» من دون تفصيل فان الظاهر حينئذ
هو العموم لما قرروه ، واما إذا لم يكن الغرض متعلقا بذلك كما فيما نحن فيه فلا إذ
الظاهر ان الغرض من السؤال انما هو عن حك شيء من الثوب وانه هل ينافي الصلاة أم
لا؟ وذكر خرء الطير انما وقع من قبيل التمثيل في الجملة فإذا أجيب حينئذ بأنه لا
بأس به ولم يفصل في الطير بأنه مما يؤكل لحمه أم لا لا يدل على العموم أصلا ، وما
قلناه ظاهر لمن تأمل وتدبر في أساليب الكلام ، ويؤيده انه قال في الرواية المذكورة
بعد ذلك : «وقال لا بأس ان يرفع الرجل طرفه الى السماء وهو يصلي» ويؤكد ذلك إيراد
الأصحاب الرواية المذكورة في مسألة ما يجوز للمصلي فعله في الصلاة وما لا يجوز حيث
دلت على انه يجوز للمصلي أن يحك خرء الطير من ثوبه وهو في الصلاة.
و (ثالثا) ـ ان
لفظ «غيره» في كلام السائل سواء جعل عطفا على الطير أو الخرء عام مع ان الامام (عليهالسلام) لم يفصل فيه فلو كان العموم على ما ذكره ملحوظا لجرى
في لفظ الغير ولزم من ترك الاستفصال فيه جواز الصلاة في النجاسة عمدا بالتقريب
الذي ذكره في خرء الطير ، فلو أجيب بأنه لعل الإجمال هنا انما كان من حيث معلومية
الحكم فلم يفصل ، قلنا ذلك في خرء الطير ايضا من غير تفاوت.
ويعضد ما
ذكرناه ما صرح به شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث قال : «وقد احتج بعض الأصحاب
بالحديث السابع على طهارة خرء مطلق الطير ، وظني انه لا ينهض دليلا على ذلك فان
نفي البأس فيه لا يتعين ان يكون عن الخرء لاحتمال ان يكون عن حكه في الصلاة عن
الثوب ويكون سؤال علي بن جعفر انما هو عن ان حكه في أثناء الصلاة هل هو فعل كثير
لا يجوز في الصلاة أم لا؟ فأجاب (عليهالسلام) بنفي البأس عنه فيها ، ولفظة «غير» يجوز قراءتها
بالنصب والجر وعلى التقديرين ففيها تأييد تام لهذا الاحتمال إذ لو لم يحمل عليه لم
يصح إطلاقه (عليهالسلام) نفي البأس عما يراه المصلي في ثوبه من خرء الطير وغيره
، وايضا فاللام في الطير لا يتعين كونها للجنس لجواز كونها للعهد والمراد المأكول
اللحم ومع قيام الاحتمال يسقط الاستدلال» انتهى. والظاهر ان مراده ببعض الأصحاب (رضوان
الله عليهم) انما هو السيد المذكور فإنه لم يتعرض غيره لذكر هذه الرواية في
المقام. وبالجملة فالاستدلال بهذه الرواية بعيد من مثله (قدسسره) والمتناقل في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) انما هو
الاستدلال برواية أبي بصير خاصة.
فروع : (الأول)
الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في طهارة رجيع ما لا نفس له
كالذباب ونحوه ، وفي التذكرة انما نسب الخلاف إلى الشافعي وابي حنيفة وابي يوسف ولم ينسبه الى أحد من علمائنا وهو مؤذن بعدم الخلاف فيه
عندنا واستدل عليه في المنتهى بأصل الطهارة ، وبان التحرز عنه متعذر وفيه حرج
فيكون منفيا
__________________
واحتج في التذكرة بأن دم ما لا نفس له وميتته طاهر فرجيعه ايضا كذلك.
أقول : اما
الاستدلال بأصالة الطهارة فجيد ، واما تعذر التحرز عنه فكذلك فيما لا يمكن التحرز
عنه ، واما ما ذكره في التذكرة فهو قياس محض لا يجري في مذهبنا
وقال المحقق في
المعتبر : «واما رجيع ما لا نفس له كالذباب والخنافس ففيه تردد أشبهه انه طاهر لان
ميتته ودمه ولعابه طاهر فصارت فضلاته كعصارة النبات» وظاهر كلامه يؤذن باحتمال
تناول الأدلة على نجاسة فضلة الحيوان غير المأكول له ، ولهذا قال في المدارك بعد ذكر
عبارة الشرائع المشتملة على التردد ايضا : «ربما كان منشأ التردد في البول عموم
الأمر بغسله من غير المأكول وان ما لا نفس له طاهر الميتة والدم فصارت فضلاته
كعصارة النبات».
أقول : والظاهر
عندي ضعف هذا التردد فان المتبادر من مأكول اللحم وغير مأكول اللحم في اخبار
المسألة بل مطلقا انما هو ذو النفس السائلة فلا يدخل مثل الذباب والخنافس والنمل
ونحوها. واما تعليله الطهارة بما ذكره ففيه ما عرفت مما أوردناه على كلام التذكرة.
والعجب من جمود صاحب المدارك عليه وتعليله الطهارة بذلك. وبالجملة فأصالة الطهارة
أقوى متمسك في المقام حتى يقوم ما يوجب الخروج عنها ، والاستناد الى عموم الأمر
بغسله من غير المأكول مدفوع بما عرفت.
(الثاني) ـ قد
عرفت ان المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو نجاسة رجيع الطير الغير
المأكول اللحم ومنه الخشاف ، والشيخ مع قوله بطهارة رجيع الطير مطلقا في المبسوط
استثنى الخشاف من ذلك ، ويأتي على قول من ذهب الى الطهارة مطلقا طهارته. والذي يدل
على المشهور رواية داود الرقي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه فلا أجده؟ قال اغسل
ثوبك». وهذه الرواية هي مستند الشيخ في استثناء الخشاف في المبسوط.
__________________
قال في المدارك
بعد نقله عن الشيخ انه احتج بهذه الرواية : «والجواب انها مع ضعف سندها معارضة بما
رواه غياث عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف». وهذه
الرواية أوضح سندا وأظهر دلالة من الرواية السابقة ، وأجاب عنها في التهذيب
بالشذوذ والحمل على التقية ، وهو مشكل» انتهى.
أقول : أنت
خبير بما فيه فاني لا اعرف لهذه الأوضحية سندا ولا الأظهرية دلالة وجها بل
الروايتان متساويتان سندا ومتنا كما لا يخفى ، ويمكن ترجيح الرواية الثانية بما
رواه شيخنا المجلسي في البحار عن الراوندي في كتاب النوادر انه روى بسنده فيه عن موسى
بن جعفر عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «سئل علي بن ابي طالب (عليهالسلام) عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخفافيش ودماء
البراغيث فقال لا بأس». وحينئذ فيمكن القول بالطهارة للروايتين المذكورتين ،
ويؤيدهما عموم موثقة أبي بصير مع رواية البزنطي المتقدمتين لدلالتهما على ان كل شيء
يطير فلا بأس بخرئه وبوله ، وقد عرفت طريق الجمع بينهما وبين حسنة ابن سنان بحملها
على غير الطير.
بقي الكلام
فيما تحمل عليه رواية داود المذكورة ، وجمع من الأصحاب حملوها على الاستحباب ، ولا
يحضرني الآن مذهب العامة إلا ان الشيخ ـ كما عرفت ـ حمل رواية غياث على التقية
فإن ثبت كونهم كلا أو بعضا أكثريا على ذلك وجب طرح هاتين
__________________
الروايتين للتقية وتخصيص موثقة أبي بصير مع الرواية الثانية برواية داود
فيستثنى الخشاف من عموم الطير كما ذهب اليه الشيخ. إلا ان ما ذكره من الحمل على
التقية غير معلوم عندي وبه يظهر ان الأظهر هو الطهارة ، والاحتياط بالعمل بالمشهور
مما لا ينبغي إهماله. ومورد الأخبار المذكورة وان كان هو البول مع عدم معلوميته
يقينا من الخشاف ولا غيره من الطيور إلا ان الذرق يكون حكمه أيضا كذلك بل هو اولى
بالقول بالطهارة لدخوله تحت عموم موثقة أبي بصير مع الرواية الأخرى وعدم المعارض
سوى الإجماع المدعى في المسألة.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام صاحب المعالم حيث قال ـ بعد ذكر رواية داود ورميها بالضعف ثم رواية
غياث وردها بذلك ـ ما صورته : «فان تحقق للخشاف بول وعملنا بالحديث الحسن تعين
اطراح هذه لدلالة حسنة عبد الله بن سنان على نجاسة البول من كل حيوان غير مأكول
اللحم فتتناول بعمومها الخشاف وتقصر هذه عن تخصيصها وكذا ان ثبت عموم محل الإجماع
، وإلا فالأصل يساعد على العمل بهذه وان ضعفت ويكون ذكر البول فيها محمولا على
التجوز» انتهى.
أقول : الإشارة
بهذه في كلامه راجع الى رواية غياث وهي الأخيرة من الروايتين وفيه انه على تقدير
ثبوت البول للخشاف فان المنافاة لا تختص برواية غياث حتى انها تقصر عن تخصيص
الحسنة المذكورة بل موثقة أبي بصير المذكورة في كلامه سابقا وهو ان عمل بالحسنة
فالموثقة ايضا مثلها في قوة العمل ، وبالجملة فإنه لا بد له من الجمع بين الحسنة
المذكورة والموثقة المشار إليها لتصادمهما في البول ، ووجه الجمع هو ما قدمناه من
حمل الحسنة المذكورة على غير الطيور وإبقاء الموثقة على عمومها ، وحينئذ فيبقى
التعارض بين رواية غياث ورواية داود مع تأيد رواية غياث بعموم موثقة أبي بصير
والرواية التي معها وخصوص رواية الراوندي فيترجح العمل بها ، واما على تقدير عدم
ثبوت البول والحمل على الرجيع تجوزا فالأمر كما ذكره لما عرفت آنفا.
(الثالث) ـ لا
فرق في غير المأكول الذي تقدم الكلام في خرئه وبوله بين ان يكون تحريمه أصالة
كالسباع والإنسان ونحوهما وبين ان يكون لعارض كالجلال ما لم يستبرأ وموطوء الإنسان
وشارب لبن الخنزير حتى يشتد عليه لحمه وعظمه ، ويظهر من العلامة في التذكرة انه
إجماعي ، قال فيها : رجيع الجلال من كل الحيوان وموطوء الإنسان نجس لأنه حينئذ غير
مأكول اللحم ولا خلاف فيه. وفي المختلف ادعى الإجماع على نجاسة ذرق الدجاج الجلال
، والأصل في ذلك إطلاق الأخبار المتقدمة.
(الموضع الثاني)
ـ بول الرضيع وهذا من الكلية الثانية أيضا ، والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) انه لا فرق في نجاسة بول الإنسان بين الصغير منه والكبير وعن المرتضى دعوى
الإجماع عليه ، وفي المختلف عن ابن الجنيد انه قال : بول البالغ وغير البالغ من
الناس نجس إلا ان يكون غير البالغ صبيا ذكرا فان بوله ولبنه ما لم يأكل اللحم ليس
بنجس.
ويدل على القول
المشهور مضافا الى عموم الروايات المتقدمة في صدر الباب خصوص صحيحة الحلبي أو
حسنته قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء فان كان قد أكل
فاغسله غسلا.».
واحتج في
المختلف لابن الجنيد بما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) انه قال لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم
لان لبنها يخرج من مثانة أمها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل ان
يطعم لان لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين». وقد أجيب عن الرواية المذكورة (أولا)
بالطعن في السند. و (ثانيا) بالقول بموجبها فان انتفاء الغسل لا ينافي الحكم بالصب
ونحن انما نقول بالثاني لا الأول. وفيه نظر سيظهر لك ان شاء الله تعالى.
أقول : وهذه
الرواية قد نقلها مولانا الرضا (عليهالسلام) في الفقه الرضوي
__________________
بعد ان افتى فيه بمضمون صحيحة الحلبي حيث قال (عليهالسلام) : «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن
ماء راكد مرتين ثم أعصره ، وان كان بول الغلام الرضيع فصب عليه الماء صبا وان كان
قد أكل الطعام فاغسله ، والغلام والجارية سواء ، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) انه قال لبن الجارية يغسل منه الثوب قبل ان تطعم
وبولها لان لبن الجارية يخرج من مثانة أمها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا
من بوله قبل ان يطعم لان لبن الغلام يخرج من المنكبين والعضدين». انتهى. وبهذه
العبارة من أولها إلى آخرها عبر الصدوق في الفقيه بتغيير ما. وأنت خبير بان كلامه
في الكتاب المذكور وفتواه بما ذكره أولا ظاهر في خلاف الرواية المذكورة ولم يتعرض (عليهالسلام) لبيان الوجه فيها ، ولعل الوجه فيه هو كون هذه الرواية
من مرويات العامة عنه (عليهالسلام) فاقتصر على نقلها وعدم ردها تقية وإيهاما لجواز القول
بها فإنه (عليهالسلام) كثيرا ما يروى في هذا الكتاب أمثال ذلك كما نبه عليه
ايضا شيخنا المولى محمد تقي المجلسي ، وقد تقدم ذكر ذلك في الكتاب ، والظاهر من
الرواية المذكورة هو طهارة البول مثل اللبن لان ظاهر الجمع بينهما في عدم الغسل
ذلك ، إذ الحكم بعدم الغسل انما تعلق أولا باللبن الذي لا خلاف في طهارته عندهم ثم
عطف البول عليه فهو يقتضي كونه كذلك ، وتأويلهم الرواية بأن انتفاء الغسل لا
يستلزم نفي الصب انما يتم لو لم يذكر في هذه العبارة سوى البول ونفي الغسل انما
وقع في الرواية عن اللبن والبول انما عطف عليه بعد ذلك ، والقول بالتأويل المذكور
لا يصح إلا بإدخال اللبن في هذا الحكم وهم لا يقولون به ، وبالجملة فإن التأويل
المذكور لا يقبله سياق الخبر.
ثم انه مما يدل
بظاهره على ما دل عليه الخبر المشار اليه ما رواه شيخنا المجلسي في البحار عن كتاب النوادر للقطب الراوندي بإسناده فيه عن موسى بن
جعفر عن آبائه (عليهمالسلام) قال : «قال علي (عليهالسلام) بال الحسن والحسين على ثوب
__________________
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قبل ان يطعما فلم يغسل بولهما من ثوبه». والتأويل
بكونه لم يغسله وان صب عليه الماء وان احتمل لكن الظاهر بعده عن السياق ، ولو كان
كذلك لكان الظاهر ان يقول (عليهالسلام) «بل صب عليه الماء» أو نحو ذلك ، إلا انه قد روى في
البحار ايضا عن كتاب الملهوف على قتلي الطفوف للسيد رضي الدين بن
طاوس بسنده عن أم الفضل زوجة العباس «انها جاءت بالحسين (عليهالسلام) الى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فبال على ثوبه فقرضته فبكى فقال مهلا يا أم الفضل فهذا
ثوبي يغسل وقد أوجعت ابني». والظاهر ان المراد بالغسل الصب.
وكيف كان
فالعمل على أدلة القول المشهور لارجحيتها بوضوح الصحة فيها والظهور مع اعتضادها
بعمل الطائفة قديما وحديثا وإرجاع ما عارضها الى قائله حسبما ورد به الأمر عنهم (عليهمالسلام).
(الموضع الثالث)
ـ خرء الدجاج غير الجلال وهذا من الكلية الأولى ، فالمشهور بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) طهارته وعن الشيخين القول بنجاسته وظاهر الشيخ في التهذيب والاستبصار
الموافقة على الطهارة فينحصر الخلاف في الشيخ المفيد
والمعتمد القول
بالطهارة للأصل وقوله (عليهالسلام) في موثقة عمار المتقدمة في صدر الباب «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وقول الصادق (عليهالسلام) في موثقة زرارة الواردة في الصلاة في الجلود والأوبار «ان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء
منه جائزة. الحديث». وخصوص رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «انه قال لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب».
__________________
ويدل على قول الشيخين ما رواه الشيخ في التهذيب عن فارس قال : «كتب اليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة
فيه؟ فكتب لا». وردها الأصحاب بالطعن في الراوي فإنه مذموم جدا فان فارسا المذكور
هو ابن حاتم القزويني كما يظهر من كتب الرجال ، قال الشيخ فيه انه غال ملعون ،
وقال العلامة في الخلاصة أنه فسد مذهبه وقتله بعض أصحاب أبي محمد العسكري (عليهالسلام) وله كتب كلها تخليط ونقل عن الفضل بن شاذان انه ذكر ان
من الكذابين المشهورين الفاجر فارس بن حاتم القزويني. وحينئذ فيجب إسقاط روايته ،
ومن العجب هنا ان العلامة في المختلف عد روايته في الحسن والحال فيه ما عرفت ، هذا
مع ان المكاتب فيها ايضا غير معلوم.
وأصحابنا (رضوان
الله عليهم) لم يوردوا دليلا للقول المشهور سوى رواية وهب بن وهب وردوها بضعف
السند ايضا مع ان الموثقتين المذكورتين ظاهرتا الدلالة وان كان بطريق العموم على
المدعى ، قال المحقق في المعتبر بعد الطعن في الروايتين المذكورتين : «وبتقدير سقوط
الروايتين يكون المرجع الى الأصل وهو الطهارة ما لم يكن جلالا ، ولو قيل الدجاج لا
يتوقى النجاسة فرجيعه مستحيل عنها فيكون نجسا ، قلنا : بتقدير ان يكون ذلك محضا
يكون التنجيس ثابتا اما إذا كان يمزج علفه فإنه يستحيل اما عنهما أو عن أحدهما فلا
تتحقق الاستحالة عن النجاسة إذ لو حكم بغلبة النجاسة لسرى التحريم الى لحمها ،
ولما حصل الإجماع على حلها مع الإرسال بطل الحكم بغلبة النجاسة على رجيعها» انتهى.
أقول : ما ذكره هنا ـ من انه متى كان رجيعه مستحيلا عن عين النجاسة فإنه نجس ـ أحد
القولين في المسألة وهو مذهبه في كتاب الأطعمة من الشرائع على تردد فيه ، مع انه
قد صرح هنا في نجاسة الدم بان الدم يطهر باستحالته قيحا ولبنا ولحما ، والمشهور هو
الطهارة كما سيأتي تحقيقه في الباب ان شاء الله تعالى.
(الموضع الرابع)
ـ في أبوال الدواب الثلاث الخيل والبغال والحمير وأرواثها
__________________
فالمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) القول بالطهارة على كراهية ، ونقل
عن ابن الجنيد والشيخ في النهاية القول بالنجاسة فيهما ، قال الشيخ في المبسوط :
ما يكره لحمه يكره بوله وروثه مثل البغال والحمير والدواب وان كان بعضه أشد كراهة
من بعض ، وفي أصحابنا من قال بول البغال والحمير والدواب وأرواثها نجس يجب إزالة
قليله وكثيره. والمستفاد من الأخبار الصحيحة الصريحة ـ كما ستمر بك ان شاء الله
تعالى ـ هو القول الثاني لكن بالنسبة إلى الأبوال دون الأرواث. ولا يخفى على من
راجع كتب الأصحاب كالمعتبر والمنتهى ونحوهما من الكتب المبسوطة في الاستدلال ما
وقع لهم في هذه المسألة من المجازفة وعدم إعطاء المسألة حقها من التحقيق كما سيظهر
لك ان شاء الله تعالى ، وظاهر صاحب المدارك هنا التوقف مع اعترافه بصحة الروايات
الدالة على النجاسة وصراحتها وعدم صلاحية المعارض للمعارضة رعاية لشهرة القول
بالطهارة بين الأصحاب مع انه في شرحه في غير موضع انما يدور مدار الروايات الصحيحة
وان استلزم مخالفة الأصحاب كما لا يخفى على من له انس بطريقته في ذلك الكتاب. هذا
وممن اختار ما اخترناه المحقق الأردبيلي كما ذكره في المدارك وكنى عنه بشيخنا
المعاصر وبه صرح ايضا الفاضل المحقق الشيخ جواد الكاظمي في شرحه على الدروس وشيخنا
أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني.
وها انا اذكر
أدلة القول المختار عندي ثم أعطف الكلام على نقل أدلة القول المشهور وأبين ما فيها
من الوهن والقصور فأقول وبالله سبحانه الاستعانة لبلوغ المأمول :
من الأخبار
الدالة على النجاسة ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال يغسل
بول الحمار والفرس والبغل فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». وفي الصحيح
عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن أبوال الخيل والبغال؟ قال اغسل ما أصابك منه». وفي
الحسن عن محمد بن مسلم
__________________
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن أبوال الدواب والبغال والحمير؟ فقال
اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله فان شككت فانضحه». وفي الصحيح عن الحلبي
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا بأس بروث الحمير واغسل أبوالها». ورواية عبد
الأعلى بن أعين قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن أبوال الحمير والبغال؟ قال اغسل ثوبك. قال قلت
فأرواثها؟ قال هو أكبر من ذلك». ورواية أبي مريم قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في أبوال الدواب وأرواثها؟ قال اما أبوالها
فاغسل ما أصابك واما أرواثها فهي أكثر من ذلك». وموثقة سماعة قال : «سألته عن بول السنور والكلب والحمار والفرس. قال
كأبوال الإنسان». ورواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يصيبه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال :
يغسل بول الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة ، وكل شيء يؤكل لحمه فلا
بأس ببوله». وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الاسناد عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدابة تبول فيصيب بولها المسجد أو
حائطه أيصلى فيه قبل ان يغسل؟ قال إذا جف فلا بأس». وصحيحته الأخرى عنه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الثوب يوضع في مربط الدابة على بولها
أو روثها؟ قال ان علق به شيء فليغسله وان اصابه شيء من الروث أو الصفرة التي
تكون معه فلا يغسله من صفرته». وروايته الثالثة في كتابه قال : «سألته عن الثوب يقع في مربط الدابة على بولها
وروثها كيف يصنع؟ قال ان علق به شيء فليغسله وان كان جافا فلا بأس». وما رواه
الشيخ
__________________
عن ابي بصير عنه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الماء النقيع تبول فيه الدواب؟ فقال ان
تغير الماء فلا تتوضأ منه وان لم تغيره أبوالها فتوضأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في
الماء وأشباهه». وصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه
الجنب؟ قال إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء». وصحيحته الأخرى عنه (عليهالسلام) قال : «قلت له الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب.
الحديث المتقدم» وزاد في آخره : «والكر ستمائة رطل». ورواية أبي بصير قال : «سألته عن كر من ماء مررت به وانا في سفر قد بال
فيه حمار أو بغل أو إنسان ، قال لا تتوضأ منه ولا تشرب».
هذا ما حضرني
من الروايات الدالة على المدعى ، والأصحاب لم يذكروا دليلا للقول بالنجاسة إلا رواية
واحدة كما في المعتبر حيث اقتصر على حسنة محمد بن مسلم ثم أولها بالحمل على
الاستحباب ، وفي المدارك اقتصر على الثلاث الأول ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا ،
وربما زاد بعضهم كصاحب المعالم والفاضل الخراساني في الذخيرة ، واما روايات المياه
فإنه لم يلم بها أحد بالكلية في هذا المقام مع انهم يستدلون بها على نجاسة القليل
بالملاقاة والكثير بالتغيير في باب المياه ويذهلون عن حكمهم هنا بالطهارة.
واما أدلة
القول المشهور فها أنا اذكرها واحدا واحدا مذيلا كلا منها بالجواب الكاشف عن حقيقة
الحق والصواب.
فأقول. الأول ـ
الأصل استدل به في المعالم حيث قال : «ويدل على الطهارة وجوه : أحدها ـ الأصل فإن
إيجاب إزالتها تكليف والأصل يقتضي براءة الذمة منه» انتهى.
والجواب ان
الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وقد قدمنا من الأدلة الصحيحة الصريحة في النجاسة ما
يشفي العليل ويبرد الغليل ، وسيظهر لك ضعف ما عارضها ان شاء
__________________
الله تعالى وبطلان ما ناقضها وبه يضمحل هذا الأصل من البين.
الثاني ـ رواية
أبي الأغر النخاس «سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) فقال إني أعالج الدواب فربما خرجت بالليل وقد بالت
وراثت فتضرب إحداها بيدها أو برجلها فينضح على ثوبي؟ فقال لا بأس به». ورواية
المعلى بن خنيس وعبد الله بن ابي يعفور قالا : «كنا في جنازة وقدامنا حمار فبال فجاءت الريح
ببوله حتى صكت وجوهنا وثيابنا فدخلنا على ابي عبد الله (عليهالسلام) فأخبرناه فقال ليس عليكم بأس». وقد جمعوا بين هذين
الخبرين وما يوردونه من اخبار النجاسة بحمل الأمر بالغسل على الاستحباب ، واستندوا
في ذلك تبعا للشيخ إلى رواية زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) «في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه ، فقلت أليس لحومها حلالا؟ قال بلى ولكن
ليس مما جعله الله للأكل». قال الشيخ في التهذيب والاستبصار بعد نقل جملة من
الأخبار الدالة على النجاسة : هذه الأخبار كلها محمولة على ضرب من الكراهة والذي
يدل على ذلك ما أوردناه من ان ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله وروثه ، وإذا كانت هذه
الأشياء غير محرمة اللحوم لم يكن أبوالها وأرواثها محرما. قال ويدل على ذلك ايضا
ما رواه احمد بن محمد ، ثم ساق رواية زرارة المذكورة ، ثم قال : فجاء هذا الخبر
مفسرا لهذه الاخبار ومصرحا بكراهية ما تضمنته ويجوز ان يكون الوجه في هذه الأحاديث
أيضا التقية لأنها موافقة لمذهب بعض العامة. انتهى.
والجواب عن ذلك
(أولا) ـ بما ذكرناه في غير موضع مما تقدم من انه لا دليل على هذه القاعدة التي
عكفوا عليها ولا مستند لها وان استندوا في غير باب إليها ، فإن حمل هذه الأوامر
الواردة في الأخبار التي هي حقيقة في الوجوب على الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا
مع القرينة واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز ، وايضا فالاستحباب حكم شرعي
كالوجوب والتحريم يحتاج الى دليل واضح.
__________________
و (ثانيا) ـ انه
من القواعد المقررة عندهم انهم لا يجمعون بين الأخبار مع تعارضها إلا مع التكافؤ
في الصحة وإلا فتراهم يطرحون المرجوح ويرمون بالخبر الضعيف في مقابلة الصحيح ،
فكيف خرجوا عن هذه القاعدة في هذا المقام؟ ولهذا ان السيد السند في المدارك بعد
نقل روايتي القول المشهور المذكورتين ثم نقل الروايات الثلاث التي صدرنا بها
الأخبار المتقدمة نقل عن الأصحاب حمل هذه الروايات على الاستحباب واعترضهم بان ذلك
مشكل لانتفاء ما يصلح للمعارضة ، وكأنه لذلك تفطن جده (قدسسره) حيث انه لم يستدل بهذين الخبرين وانما استدل بالأدلة
الآتية دون هذين الخبرين و (ثالثا) ـ ان قوله في التهذيب ـ بعد دعواه حمل أخبار
النجاسة على ضرب من الكراهة : «والذي يدل على ذلك. إلخ» ـ مردود بان ما أورده من
ان ما يؤكل لحمه لا بأس ببوله عام وهذه الأخبار خاصة وطريق الجمع المعروف في أمثال
هذا المقام حمل العام على الخاص لا ما ذكره.
و (رابعا) ـ انه
من القواعد المقررة في اخبار أهل البيت (عليهمالسلام) في مقام تعارض الأخبار الأخذ بالأعدل والأوثق وكذا
الأخذ بالأشهر يعني في الرواية لا في الفتوى كما نبه عليه جملة من المحققين ، ولا
ريب انه بمقتضى هاتين القاعدتين يجب ترجيح أخبار النجاسة كما لا يخفى على الخبير
المنصف.
واما ما ذكره
الشيخ (قدسسره) ـ من حمل أخبار النجاسة على التقية لموافقتها لقول بعض
العامة ـ ففيه ان الحمل على التقية فرع المرجوحية وللخصم ان يحمل خبرية على التقية
أيضا بل هو الظاهر لمرجوحيتهما الموجبة لطرحهما فيحملان على التقية لقول جملة من
العامة بالطهارة تفاديا من طرحهما.
ولا يخفى على
المنصف الخبير انه من البعيد بل الأبعد ارتكاب التأويل في هذه الاخبار في مقابلة
ذينك الخبرين الضعيفين مع ما عرفت من كثرتها وتعددها وورودها في مقامات متعددة
وأحكام متفرقة مع صحة أسانيد كثير منها وقوة الباقي وصراحتها
ولا سيما موثقة سماعة الدالة على انها كأبوال الإنسان ، ويقرب منها حسنة
محمد بن مسلم الدالة على الأمر بغسله أولا ومع جهل موضعه غسل الثوب كله ومع الشك
بنضحه ، فهل يبلغ الأمر في الاستحباب المؤذن بالطهارة الى هذه المرتبة؟ بل نظير ذلك
انما جاء في النجاسة المحققة المعلومة كما في حسنة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي
أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وان استيقن
انه قد اصابه ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كله فإنه أحسن».
ومن العجيب ما
ذكره في المعالم هنا حيث انه أيد حمل الأمر بالغسل في حسنة محمد بن مسلم على
الاستحباب بالأمر بالنضح فيها حيث انه للاستحباب ، قال بعد نقل كلام الشيخ الذي
قدمناه : «وحاصله ان الأخبار متعارضة في هذا الباب وحمل روايات النجاسة على استحباب
الإزالة طريق الجمع سيما بقرينة الرواية التي رواها أخيرا وامره في حسنة محمد بن
مسلم بالنضح مع الشك وهو للاستحباب باعتراف الخصم ، مع انه وقع في الحديث مجردا عن
القرينة الدالة على ذلك فلا بعد في كون الأوامر الواقعة في صحبته مثله ، بل
المستبعد من الحكيم سوق الكلام على نمط يعطي الاتفاق في الحكم والحال على الاختلاف»
انتهى.
أقول : أنت
خبير بما فيه من التمحل الظاهر والتكلف الذي لا يخفى على الخبير الماهر ، فان
القرينة على الاستحباب في النضح ظاهرة وهو يقين الطهارة وان الأصل ذلك كما هو
القاعدة المسلمة التي لا يجوز الخروج عنها إلا مع يقين النجاسة ، وانما أمر بالنضح
لدفع توهم الوسوسة كما في جملة من موارد النضح مع يقين الطهارة ، ولو تم ما ذكره
للزم مثله في حسنة الحلبي التي ذكرناها وهو لا يقول به ، وما ذكره ـ من انه يستبعد
من الحكيم. إلخ ـ مسلم لو لم تكن هنا قرينة والقرينة ظاهرة كما عرفت ، واما قوله
__________________
في تأييد الحمل على الاستحباب وانه طريق الجمع ـ : «لا سيما بقرينة الرواية
التي رواها أخيرا» مشيرا إلى رواية زرارة ـ فستعرف ما فيه ان شاء الله تعالى.
(الثالث) ـ ان
لحومها حلال وان كان مكروها وكل ما كان كذلك فبوله وروثه طاهر ، اما الصغرى
فاتفاقية نصا وفتوى ، واما الكبرى فلما رواه زرارة في الحسن «انهما قالا لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه». وما رواه عمار في الموثق
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كل ما أكل فلا بأس بما يخرج منه».
والجواب ان
المستفاد من الاخبار على وجه لا يعتريه بعد التأمل الإنكار ان المراد بمأكول اللحم
في هذا المقام انما هو بمعنى ما كان مخلوقا للأكل لا ما كان حلالا كما توهموه وصار
منشأ الشبهة لهم في هذه المسألة ، فإن هذه الدواب الثلاث انما خلقت لأجل الركوب
والزينة كما دلت عليه الآية الشريفة «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» ومن أوضح الأدلة وأصرحها فيما قلناه ما رواه العياشي في
تفسيره عن زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) «انه سأله عن أبوال (الْخَيْلَ وَالْبِغالَ
وَالْحَمِيرَ؟) قال فكرهها فقال أليس لحمها حلالا؟ فقال أليس قد بين
الله تعالى لكم : (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة. فجعل
للأكل الأنعام التي نص الله تعالى في الكتاب وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير
ليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها». ومن هذه الرواية يتضح معنى الرواية التي
تمسك بها الشيخ (قدسسره) واتباعه فقال في كلامه المتقدم : «فجاء هذا الخبر
مفسرا لهذه الاخبار» والمراد بالكراهة في الروايتين انما هو النجاسة ، وبيانه انه
لما سأله عن أبوال هذه الدواب فكرهها ـ يعني نجسها وحكم بنجاستها ـ استبعد زرارة
ذلك لما تقرر عنده من أنها مأكولة اللحم وان كل ما كان مأكول اللحم فبوله وروثه
طاهر فراجع في الجواب فقال :
__________________
أليس لحومها حلالا وكل ما كان كذلك فبوله وروثه طاهر؟ فقال له بلى ولكن ليس
المراد بمأكول اللحم الذي حكم الشارع بطهارة ما يخرج منه ما كان حلالا بل انما هو
ما خلق لأجل الأكل وهذه الدواب الثلاث انما خلقت لشيء آخر كما أوضحه (عليهالسلام) في رواية العياشي. ومن هذا القبيل ايضا ما في صحيحة
عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري من قوله (عليهالسلام) : «يغسل بول الحمار والفرس والبغل واما الشاة وكل ما
يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». فإنه لا مجال لحمل ما يؤكل لحمه في الرواية على ما يحل
اكله بقوله مطلق وإلا لزم منه عدم جواز أكل لحوم تلك الدواب الثلاث لأنها وقعت في
مقابلة ما يؤكل لحمه بل لا بد من حمله على ما خلق للأكل ، ومثلها روايته الأخرى حيث قال فيها : «يغسل بول الحمار والفرس والبغل وينضح
بول البعير والشاة وكل شيء يؤكل لحمه فلا بأس ببوله». اما بعطف «كل شيء» على «الشاة»
يجعل قوله : «فلا بأس به» مستأنفا وفيه تعليل لذلك ، ويصير حاصل المعنى حينئذ انه
ينضح بول البعير والشاة وبول كل شيء يؤكل لحمه اي ما خلق لأجل الأكل كهذه
المعدودات ولا يجب غسله فإنه لا بأس به ، واما يجعل قوله : «وكل شيء» مبتدأ وخبره
«لا بأس به» والجملة في مقام التعليل ، وحاصله انه ينضح بول هذه الحيوانات ولا يجب
غسله فان كل شيء يؤكل لحمه فإنه لا بأس ببوله ، وكيف كان فإنه لا يصح حمل قوله : «يؤكل
لحمه» على ما يحل أكل لحمه بحيث يدخل فيه تلك الدواب الثلاث ، والأمر بالنضح قد
ورد في أمثال ذلك في كثير من الاخبار مثل المذي وعرق الجنب وملاقاة الكلب الثوب
يابسا وأمثال ذلك مما هو معلوم الطهارة يقينا.
(الرابع) ـ الإجماع
المركب وهو ان كل من قال بنجاسة الأبوال قال بنجاسة الأرواث ومن قال بطهارة
الأبوال قال بطهارة الأرواث فالقول بالنجاسة في الأبوال مع طهارة الأرواث خرق
للإجماع المركب. وهذا الدليل وان لم يصرحوا به في كلامهم ويعدوه دليلا
__________________
برأسه إلا انه مستنبط منه حيث انهم عمدوا إلى جملة من روايات المسألة
المشتملة على الأمر بغسل البول وطهارة الروث فجعلوها من أدلة القول بالطهارة
بتقريب حمل الأمر بغسل البول على الاستحباب لما اشتملت عليه الرواية من طهارة
الروث ، حيث انه لا قائل بذلك إذ الخلاف في المسألة منحصر في القولين المتقدمين ،
فالقول بما دل عليه ظاهر هذه الاخبار خرق للإجماع المركب فلا يجوز القول به ، قال
المحقق الشيخ حسن بعد الاستدلال للقول بالطهارة بالروايتين المتقدمتين وما رواه الشيخ بإسناده الصحيح عن احمد بن محمد ثم ساق
صحيحة الحلبي المتقدمة وهي الثانية من روايتيه المشتملة على الأمر بغسل
الأبوال ونفي البأس عن الأرواث ، ثم قال : وجه الدلالة في هذا الحديث نفي البأس عن
الروث فيكون الأمر بغسل البول للاستحباب إذ لا قائل بالفصل فيما يظهر ، ثم عطف
عليها رواية أبي مريم ورواية عبد الأعلى ، وجرى على ذلك ايضا الفاضل الخراساني في
الذخيرة.
والجواب انه لا
يخفى ما في هذا الاستدلال من المجازفة في أحكام الملك المتعال والبناء على أساس
ظاهر الاضمحلال :
(أما أولا) ـ فلما
حققه غير واحد من محققيهم في بطلان هذا الإجماع الشائع في كلامهم ومن المصرحين
بذلك هذان القائلان ، أما الشيخ حسن فقد قدمنا عبارته المنقولة من المعالم في
المقام الثاني من المقدمة الثالثة من مقدمات الكتاب فارجع اليه ليظهر لك صحة ما
أوردناه عليه هنا ، واما الفاضل الخراساني فإنه قد تكلم في الإجماع وأطال في مسألة
الوطء في الدبر وكونه موجبا للغسل أم لا من الذخيرة وقدح في ثبوته الى ان قال في
آخر كلامه : «والغرض التنبيه على حقيقة الحال ومع هذا فلا أنكر حصول الظن به في
بعض الأخبار ولكن في حجيته على الإطلاق نظر فهو من القرائن التي توجب التقوية
والتأكيد ولا يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية» انتهى. وحينئذ
__________________
فكيف يخالف نفسه هنا ويبني عليه الأحكام بأي تعسف وتكلف في المقام لا يخفى
بعد ما حققناه على ذوي الألباب والافهام ، وبالجملة فإن مناقضة بعضهم بعضا بل
الواحد نفسه في هذه الإجماعات ولا سيما الشيخ والمرتضى اللذين هما الأصل في
الإجماع قد كفانا مؤنة القدح فيه ، وقد كان عندي رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قد
تصدى فيها لنقل جملة من المسائل التي ناقض الشيخ بها نفسه بدعواه الإجماع على
الحكم في موضع ثم يدعيه على خلافه في موضع آخر وفيها ما ينيف على سبعين مسألة.
والحق ان هذه الإجماعات المتناقلة لا تخرج عن مجرد الشهرة كما حققه شيخنا الشهيد
في صدر الذكرى واليه أشار المحقق الشيخ حسن في كلامه المتقدم الذي أشرنا اليه.
و (اما ثانيا)
ـ فإنه أي مانع عقلي أو شرعي يمنع من الفتوى في المسألة إذا قام الدليل على ذلك
وان لم يقل به قائل من السابقين؟ واشتراط القول بوجود قائل من المتقدمين وان قال
به شذوذ منا إلا ان المحققين على خلافه ، كيف ولو اشترط ذلك لم تتسع دائرة الخلاف
في المسائل والأحكام ولا انتشر فيها النزاع والخصام الى ما عليه الآن من الاختلاف
حتى انك لا تجد حكما من الأحكام إلا وقد تعددت فيه أقوالهم إلى ثلاثة أو أربعة أو
خمسة فزائدا وهي تتجدد بتجدد العلماء لانحصار الفتوى في الشيخ في زمنه ، وقد نقل
بعض الأصحاب انحصار الفتوى فيه (قدسسره) وانه لم يبق بعده إلا ناقل أو حاك حتى انتهت النوبة
الى ابن إدريس ففتح باب الطعن على الشيخ والمخالفة له في كثير من المسائل ثم اتسع
الباب شيئا فشيئا وانتشر الخلاف الى ما ترى ، على انه قد صرح شيخنا الشهيد الثاني
في المسالك ـ وهو القدوة لكل داخل في هذا الباب وسالك ـ بأنه متى قام الدليل
للفقيه على حكم في مسألة من المسائل جاز له الإفتاء فيها بما قام الدليل عليه عنده
وان ادعى فيه الإجماع قبله فضلا عن انه لم يقل بها قائل من المتقدمين ، قال (قدسسره) في الكتاب المشار إليه في مسألة ما لو اوصى له بأبيه
بعد الطعن في الإجماع ـ ونعم ما قال ـ ما هذه صورته : «وبهذا يظهر جواز مخالفة
الفقيه المتأخر لغيره
من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام الدليل
على ما يقتضي خلافهم وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس
دون المتأخر» انتهى. وهو جيد وجيه ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف استجاز هذان
الفاضلان المنع من القول بما دلت عليه هذه الاخبار من نجاسة البول وطهارة الروث
لانه لم يقل به أحد ممن تقدم ، ويا لله والعجب العجيب الظاهر للموفق المصيب ومن
أخذ من الإنصاف بأدنى نصيب أن الأئمة (عليهمالسلام) يفرقون بين البول والروث فيصرحون بنجاسة الأول ويأمرون
بغسلة مع تصريحهم في كتبهم الأصولية بان الأمر حقيقة في الوجوب ، ويحكمون (عليهمالسلام) بطهارة الثاني وهم يتعمدون مخالفتهم ويرتكبون هذه
التأويلات الغثة في كلامهم فيحكمون بالطهارة فيهما معا ميلا إلى الأخذ بهذا
الإجماع الغير الحقيق بالاتباع ولا الاستماع ، ما هو إلا اجتهاد محض في مخالفة
النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص ، فاشرب بكأس هذا الرحيق وارتع في رياض هذا
التحقيق المنجي بحمد الله من لجج المضيق ، فإنك لا تجده في كلام غيرنا من علمائنا
الاعلام ولا حام حوله غيرنا أحد في المقام ، والله سبحانه العالم بالأحكام.
(الفصل الثالث)
ـ في المني وهو اما ان يكون من الإنسان أو غيره من الحيوان ذي النفس السائلة أو من
غير ذي النفس السائلة ان ثبت وقوع المني منه فههنا أقسام ثلاثة :
(الأول) ـ مني
الإنسان ، ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته ، والأصل فيه بعد الإجماع الأخبار
المستفيضة كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) «في المني يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك فاغسله كله».
وحسنة عبد الله بن ابي يعفور عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه
فاغسله وان خفي عليك مكانه فاغسله كله». وموثقة
__________________
سماعة قال : «سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله
إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا». وصحيحة الحلبي أو حسنته على المشهور عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي
اصابه. وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء ، وان استيقن
انه قد أصابه مني فلم ير مكانه فليغسل ثوبه كله فإنه أحسن». وحسنة محمد بن مسلم عن
الصادق (عليهالسلام) قال : ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول ، ثم قال : «ان
رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة ، فإن أنت نظرت في
ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك ، وكذلك البول». الى غير
ذلك من الاخبار الكثيرة التي لا حاجة الى التطويل بنقلها مع الاتفاق على الحكم
المذكور ، وأكثر هذه الاخبار ما ذكر منها وما لم يذكر وان وقع لفظ المني فيها
مطلقا إلا ان تبادر التخصيص بإرادة مني الإنسان أمر ظاهر منها كالعيان لا يحتاج
الى بيان ، وبذلك صرح جملة من علمائنا الأعيان.
(الثاني) ـ مني
غير الإنسان مما له نفس سائلة ، وحكمه حكم مني الإنسان عند الأصحاب من غير خلاف
يعرف ، بل ادعى العلامة في التذكرة الإجماع على نجاسته مع مني الإنسان وجعله الحجة
في الحكم المذكور ، وفي المعتبر والمنتهى ان الحجة على نجاسته عموم الأخبار
المتقدمة ولم يذكرا الإجماع. ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من البعد السحيق عن ساحة
تلك الاخبار ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما «وعندي في تحقق العموم بحيث
يتناول غير الآدمي نظر ، ويمكن ان يحتج له بجعله أشد من البول في صحيح محمد بن
مسلم ، فإنه وان شهدت القرينة الحالية في مثله بإرادة مني الإنسان إلا ان فيه
اشعارا بكونه اولى بالتنجيس من البول فكل ما حكم بنجاسة بوله ينبغي ان تكون لمنيه
هذه الحالة ، وربما كان هذا القدر كافيا مع الإجماع المنقول وعدم ظهور مخالف
__________________
فيه» انتهى. أقول : من المحتمل قريبا ـ بل الظاهر انه المراد من الخبر ـ ان
التشديد انما هو بالنسبة إلى الإزالة لا إلى النجاسة إذ النجاسة لا تقبل الشدة
والضعف إلا بنوع من الاعتبار الذي لا يصلح لبناء حكم شرعي عليه ، واما الإزالة
فالأمر فيها ظاهر فإن المني لمزيد ثخانته ولزوجته يحتاج في الغسل الى مزيد كلفة
بخلاف البول الذي هو كالماء.
ويمكن
الاستدلال على الطهارة بعموم موثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وموثقة
عبد الله بن بكير «ان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء
منه جائزة». إلا ان في الخروج عما ظاهرهم الإجماع عليه سيما مع أوفقيته بالاحتياط
بهذين الخبرين مع ما هما عليه من الإجمال إشكالا ، إذ المتبادر من الأول انما هو
البول والروث كما فهمه الأصحاب ولذلك نظموه في سلك الأخبار الدالة على طهارة بول
وروث ما يؤكل لحمه ، وقد تقدم مع جملة منها كذلك في أول الباب ، واما الثانية
فالمراد منها انما هو الاشعار والأوبار والجلود ونحوها ويدل على ذلك سياق الخبر
المذكور كما لا يخفى على من راجعه. وظاهره ان الفرق في صحة الصلاة وعدمها في
المأكول وغير المأكول انما هو من حيث كونه مأكول اللحم وغير مأكول اللحم. وهذا لا
يتمشى في المني إذ الحكم بالنجاسة وعدم جواز الصلاة فيه أو الطهارة وجواز الصلاة
فيه لا يفرق فيهما بين مأكول اللحم وعدمه كما لا يخفى ، وبالجملة فالأحوط الوقوف
على ما ذكروه وان لم أقف له على دليل شاف.
(الثالث) ـ مني
غير ذي النفس السائلة ، والظاهر من كلام جملة من الأصحاب هو القول بالطهارة ،
وتردد فيه المحقق في المعتبر ونحوه العلامة في المنتهى مع ميلهما إلى الطهارة ،
والظاهر ان وجه التردد هو ما أشرنا إليه آنفا من استدلالهما باخبار المني المتقدمة
على نجاسة مني غير الإنسان من ذوات النفس السائلة وشمولها له بعمومها ، وحينئذ
فيحتمل دخول ما لا نفس له تحت عموم تلك الأخبار إذ لا تصريح في تلك الأخبار
__________________
بالتخصيص بذي النفس السائلة. ولا يخفى ما فيه من البعد بل هو مما يقطع
بعدمه ، فان شمول الأخبار المذكورة لما عدا مني الإنسان مما يكاد يقطع بعدمه ايضا
فكيف ما لا نفس له ، إذ حمل السؤالات المذكورة في الاخبار عن اصابة الثوب والبدن
على مني غير الإنسان من الحيوانات أندر نادر واشذ شاذ ، سيما مع تصريحهم في غير
موضع بأن الإطلاقات في الاخبار انما تنصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة الوقوع
دون الفروض النادرة ، فإذا كان الأمر كذلك في مني ما له نفس فكيف في مني ما لا نفس
له؟ وبالجملة فالظاهر ان القول بالطهارة مما لا يحوم حوله شبهة الاشكال ولا يداخله
النقض والاختلال.
تنبيهات
(الأول) ـ قد
عرفت اتفاق الأصحاب (رضوان الله عليهم) على نجاسة مني الإنسان وتظافر الأخبار به
إلا ان هنا جملة من الأخبار لا تخلو في ذلك من اشكال
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟
فقال نعم لا بأس به إلا ان تكون النطفة رطبة فإن كانت جافة فلا بأس». وحمله الشيخ
في الاستبصار على ما إذا لم يتجفف بالموضع الذي فيه المني لئلا يصيبه المني. وفيه
انه لا يظهر على هذا فرق بين الرطبة والجافة لاشتراكهما في حصول البأس مع الإصابة
رطبا كان أو يابسا مع رطوبة بدنه وانتفائه مع عدم أصابتها مع انه فرق بينهما.
أقول : قد وقفت
في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا البهائي على الجواب عن هذا الاشكال الوارد على
جواب الشيخ عن هذه الرواية ، حيث قال : «ظاهر هذا الحديث مشكل فإنه يشعر بطهارة
المني إذا كان جافا كما هو مذهب بعض العامة وإلا فلا فرق هنا بين ما إذا كان المني
رطبا وجافا إذا لم يماس البدن حال تنشيفه. ويمكن ان
__________________
يقال ان من عرف موضع المني في ثوبه ثم نزعه فطرحه عنه ليغتسل فمعلوم ان
اجزاء الثوب حال النزع وبعد الطرح يماس بعضها بعضا فيقع بعض الأجزاء الطاهرة منه
على ذلك المني ، فإن كان جافا لا تتعدى نجاسته حال النزع وبعد الطرح الى ما يماسه
من الاجزاء الطاهرة من الثوب فللمغتسل إذا أراد التنشيف ان يتنشف بأي جزء شاء من
اجزائه سوى الجزء الذي تنجس بالمني ، وإذا كان رطبا فإن أجزاء الثوب التي تماسه
غالبا في حال النزع وبعد الطرح تنجس به لا محالة وربما جفت في مدة الاشتغال بالغسل
ولا يميز عند ارادة التنشيف عن الاجزاء الطاهرة التي لم تماسه فيشتبه الطاهر من
الثوب بالنجس منه فلذلك جوز الامام (عليهالسلام) التنشيف إذا كان جافا ولم يجوزه إذا كان رطبا» انتهى
وهو جيد. أقول : ويمكن حمل الخبر ايضا على التقية لما أشار إليه شيخنا المذكور من
ان ذلك مذهب لبعض العامة .
ومنها ـ ما
رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور عن أبي أسامة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) تصيبني السماء وعلي ثوب فتبله وانا جنب فيصيب بعض ما
أصاب جسدي من المني أفأصلي فيه؟ قال نعم». ويمكن حمله على التقية لأن القول بطهارة
المني مذهب جماعة من العامة ويحتمل أيضا تأويله بأن البلل جاز ان لا يعم الثوب
بأسره ويكون اصابة الثوب للمني ببعض ليس فيه بلل أو جاز ان يكون البلل قليلا بحيث
لا تتعدى معه النجاسة وان كان شاملا للثوب بأسره ، كذا أفاد والدي في بعض
تحقيقاته.
__________________
ومنها ـ ما
رواه في الكافي أيضا في الموثق عن أبي أسامة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب تكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل
علي؟ قال لا بأس». ويمكن اجراء الحملين المتقدمين فيه ايضا. واحتمل بعضهم ايضا ان
يحمل على اصابة المطر الثوب بحيث طهره قال : وليس ببعيد. أقول : بل هو في غاية
البعد حيث ان نجاسة المني لما فيه من الثخانة واللزوجة تحتاج الى مزيد كلفة في
الإزالة فمجرد اصابة المطر لا يكفي في طهارة الثوب منها إلا ان يحمل على نجاسة لا
توجد عين المني في الثوب وان كان بعيدا من لفظ الجنابة حيث ان المراد منها المنى
مجازا. قال في الوافي بعد نقل خبري أبي أسامة المذكورين «والوجه في الخبرين انه لم
يتيقن بلة ذلك الموضع بعينه بحيث يسري معها المني اليه سراية تنجسه ، ومجرد
الاحتمال غير كاف وان كان قويا.
ومنها ـ ما
رواه في الكافي والشيخ في التهذيب عن علي بن أبي حمزة قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ قال لا ارى
به بأسا. قال انه يعرق حتى انه لو شاء ان يعصره عصره؟ قال فقطب أبو عبد الله (عليهالسلام) في وجه الرجل وقال ان أبيتم فشيء من ماء فانضحه به». ويحتمل
الحملين المتقدمين ، ويحتمل ايضا ان يكون المراد من قوله : «أجنب في ثوبه» يعني
جامع فيه لا بمعنى امنى فيه ويكون السؤال باعتبار توهم نجاسة بدن الجنب فتتعدى الى
الثوب بالعرق. ولعله الأقرب فإن كثيرا من السؤالات في الاخبار وردت بناء على هذا
التوهم.
(الثاني) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه ليس شيء مما يخرج من الذكر بنجس سوى البول
والمني ، وعن ابن الجنيد انه قال ما كان من المذي ناقضا لطهارة الإنسان غسل منه
الثوب والجسد ولو غسل من جميعه كان أحوط ، وفسر الناقض للطهارة بما كان خارجا عقيب
شهوة ، قال في المختلف بعد ذكر المسألة ونقل خلاف ابن الجنيد : لنا ـ إجماع
الإمامية على طهارته ، وخلاف ابن الجنيد غير معتد به
__________________
فان الشيخ لما ذكره في كتاب فهرست الرجال واثنى عليه قال إلا ان أصحابنا
تركوا خلافه لانه كان يقول بالقياس.
أقول : ويدل
على القول المشهور جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في
الصحيح عن ابن ابي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ليس في المذي من الشهوة ولا من الإنعاظ ولا من
القبلة ولا من مس الفرج ولا من المضاجعة وضوء ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد».
وعن حريز في
الصحيح قال : «حدثني زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) انه قال ان سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي فلا تغسله
ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء انما ذلك بمنزلة النخامة. الحديث».
وعن إسحاق بن
عمار في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن المذي فقال ان عليا (عليهالسلام) كان رجلا مذاء واستحيي أن يسأل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لمكان فاطمة (عليهاالسلام) فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس فسأله فقال له ليس بشيء».
وعن زيد الشحام
في الحسن قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) المذي ينقض الوضوء؟ قال لا ولا يغسل منه الثوب ولا
الجسد انما هو بمنزلة البزاق والمخاط». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المعتضدة
بأصالة الطهارة وإجماع من عدا ابن الجنيد على القول بها.
ومما يدل على
القول بالنجاسة ما رواه الحسين بن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المذي يصيب الثوب؟ قال ان عرفت مكانه فاغسله وان
__________________
خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله».
وروايته الأخرى
أيضا قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المذي يصيب الثوب فيلتزق به؟ قال يغسله ولا يتوضأ».
وأجاب الشيخ عن
هذين الخبرين بالحمل على الاستحباب جمعا بينهما وبين الاخبار المتقدمة ، ثم قال ويزيد
ذلك بيانا ما رواه هذا الراوي بعينه وهو الحسين بن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المذي يصيب الثوب؟ قال لا بأس به فلما رددنا عليه
قال ينضحه بالماء».
أقول : والأظهر
عندي حمل الخبرين المذكورين على التقية كما قدمنا ذكره في الباب الثاني في الوضوء ورواية الحسين الثالثة خرجت مخرج الروايات المتقدمة في
الدلالة على الطهارة ولكنه حيث انه (عليهالسلام) فهم من السائل حصول النفرة منه امره بالنضح المأمور به
في جملة من الأخبار في أمثال ذلك.
(الثالث) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان كل رطوبة تخرج من القبل والدبر فهي
طاهرة ما عدا البول والغائط والدم والمني تمسكا بالأصل السالم عن المعارض ، ويدل
عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن المرأة وليها قميصها أو إزارها يصيبه من بلل الفرج
وهي جنب أتصلي فيه؟ قال إذا اغتسلت صلت فيهما». قوله «وليها» اي ولي جسدها مع
رطوبته ببلل الفرج. ولا اعلم خلافا في الحكم المذكور وانما يحكى من بعض العامة
القول بنجاستها ، وذكر المحقق في المعتبر ان القائل المذكور يتشبث بكون الرطوبة
جارية من مجرى النجاسة. ورده بأن النجاسة لا يظهر حكمها إلا بعد خروجها من المجرى.
وهذا واضح لا ريب فيه.
__________________
(الفصل الرابع)
ـ في الدم أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدا ابن الجنيد وظاهر الصدوق في الفقيه
على نجاسة الدم قليله وكثيره إذا كان من ذي نفس سائلة ، قال العلامة في التذكرة :
الدم من ذي النفس السائلة نجس وان كان مأكولا بلا خلاف. وقال في المنتهى : قال
علماؤنا الدم المسفوح من كل حيوان ذي نفس سائلة أي يكون خارجا بدفع من عرق نجس ،
وهو مذهب علماء الإسلام. وقال المحقق في المعتبر : الدم كله نجس عدا دم ما لا نفس
له سائلة قليله وكثيره ، وهو مذهب علمائنا عدا ابن الجنيد فإنه قال إذا كان سعته
دون سعة الدرهم الذي سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب. انتهى.
ويدل على نجاسة
الدم مضافا الى اتفاق معظم الأصحاب روايات عديدة :
منها ـ ما رواه
الشيخ في الصحيح عن زرارة قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني
فعلمت أثره الى ان أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم
اني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله. قلت فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه
قد اصابه فطلبت فلم اقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال تغسله وتعيد. قلت فان ظننت انه
قد اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد
الصلاة. قلت لم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان
تنقض اليقين بالشك ابدا. قلت فاني قد علمت انه قد اصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟
قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارته.
قلت فهل علي ان شككت في انه أصابه شيء ان انظر فيه؟ قال لا ولكنك انما تريد ان
تذهب الشك الذي وقع في نفسك. قلت ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض
الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض
الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت
الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي
ان تنقض اليقين بالشك».
__________________
وانما أوردنا هذه الرواية بطولها وان كان الغرض يتم بنقل صدرها لما فيها من
الأحكام العديدة وسيأتي ان شاء الله تعالى التنبيه على كل حكم في محله ، وهذه
الرواية وان كانت مضمرة في التهذيب بل ربما توهم انها مقطوعة إلا انها متصلة
بالباقر (عليهالسلام) في علل الشرائع مع ان سوق الرواية يدل بأظهر دلالة على ان الخطاب فيها
مع الامام (عليهالسلام).
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟
قال ان رأيت وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك
ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته
قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه
صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه».
وما رواه الشيخ
في الموثق عن سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال
يعيد صلاته كي يهتم بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه. قلت فكيف يصنع من لم
يعلم أيعيد حين يرفعه؟
قال لا ولكن
يستأنف».
وعن عبد الله
بن سنان في الحسن قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال ان كان علم انه
أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل ان يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه ان يعيد ما صلى.
الحديث».
__________________
وعن علي بن
جعفر في الصحيح «انه سأل أخاه موسى (عليهالسلام) عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله
دم يصلي فيه أو يصلي عريانا؟
قال ان وجد ماء
غسله وان لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عريانا». وما رواه الصدوق في الصحيح عن ابن
أذينة عن الصادق (عليهالسلام) «انه سأله عن الرجل يرعف وهو في الصلاة وقد صلى بعض صلاته؟ قال ان كان
الماء عن يمينه أو عن شماله أو عن خلفه فليغسله. الحديث».
الى غير ذلك من
الاخبار الكثيرة الآتية ان شاء الله تعالى في المقصد الثاني في أحكام النجاسات. واما
ما ورد في جملة من شذوذ الاخبار مما ظاهره الطهارة فالظاهر حمله على التقية وان لم
أقف على قائل بذلك من العامة ، لأن الحمل على ذلك لا يتوقف عندي على وجود القائل
وان كان المشهور بين أصحابنا ذلك كما عرفت في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ،
وتوضيح ذلك انه لما اتفقت الأخبار الصحاح الصراح ـ كما عرفت من بعض ما قدمناه
وستعرف مما يأتي قريبا ان شاء الله تعالى وكذا كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم)
قديما وحديثا ـ على النجاسة إذ خلاف من خالف منهم انما هو في مادة مخصوصة ليست
داخلة في هذه الأخبار ، فالواجب البتة طرح ما خالف ذلك والاعراض عنه ، بقي بيان
الوجه في صدوره عنهم (عليهمالسلام) فإنه لا يكون ذلك عبثا بغير فائدة وليس وراء ذلك إلا
ما ذكرناه من إيقاعهم الاختلاف بين الشيعة في الأحكام لدفع الشنعة عنهم كما تقدم
تحقيقه في المقدمة المشار إليها.
ومن الأخبار
المذكورة ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار عن جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول لو رعفت زورقا ما زدت على ان امسح
__________________
مني الدم وأصلي».
وعن الحسن بن
علي الوشاء في الحسن قال : «سمعت أبا الحسن (عليهالسلام) يقول كان أبو عبد الله (عليهالسلام) يقول في الرجل يدخل يده في أنفه فيصيب خمس أصابعه الدم
، قال ينقيه ولا يعيد الوضوء». ويمكن هنا حمل الإنقاء على الإنقاء بالغسل لا مطلق
الإنقاء فلا منافاة وان الغرض بيان عدم نقض الوضوء بخروج الدم.
وعن عبد الأعلى
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحجامة أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل
مكانها لان الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه ولم يكن صبيا صغيرا». والحمل على ان الحجام
ينظفه يعني بالغسل بعيد جدا لأن النهي عن الغسل متناول للمحتجم نفسه ولمن يقوم
مقامه ، فالحديث ظاهر في طهارة دم الحجامة بمجرد ازالة عينه المشار إليها
بالتنظيف.
وعن أبي حمزة قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) ان أدخلت يدك في انفك وأنت تصلي فوجدت دما سائلا ليس
برعاف ففته بيدك». ولا يخفى ما في الخبر المذكور من الحزازة زيادة على ما دل عليه
من طهارة الدم ، ولعله وقع فيه تحريف من قلم الشيخ أو من النساخ لأن الفت إنما
يستعمل في الدم اليابس لا السائل ، ولعل الذي كان في الخبر «غير سائل» ، وأيضا فإن
كون الدم السائل ليس برعاف لا معنى له ، ومع احتمال كونه من قرح أو جرح لا يفرق
بينه وبين دم الرعاف في تعدي النجاسة إلى اليد وان قلنا بالعفو عن دم القروح
والجروح ما لم ترقأ.
__________________
وما رواه في
الكافي في باب «الثوب يصيبه الدم» عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة
فيه؟ فقال لا وان كثر ، ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله».
وما رواه في
الزيادات عن عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل فينفجر وهو في
الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة». واحتمال تخصيص
ما يخرج من الدمل بالقيح الخالي من الدم خلاف ما يشهد به الوجدان ، والعفو عن دم
القرح لا يتعدى نجاسة اليد به حتى انه يجوز مسه ولا يجب غسله إذ العفو مقصور عليه
وعلى ما يتعدى اليه بنفسه كما سيأتي بيانه في المسألة ان شاء الله تعالى.
وما رواه الشيخ
عن داود بن سرجان عن الصادق (عليهالسلام) : «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما؟ قال يتم». وحمله
الشيخ على ما إذا كان أقل من درهم ، ولا بأس به.
ولم نقف على
خلاف لأحد من أصحابنا في المسألة إلا على خلاف ابن الجنيد والصدوق في الفقيه ، اما
ابن الجنيد فقد تقدم نقل خلافه كما صرح به المحقق في المعتبر وحكاه من عبارته إلا
ان عبارته المنقولة من كتابه المختصر كما نقله في المختلف وغيره عامة في نجاسة
الدم وغيره ، حيث قال : «كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها مجتمعة أو متفشية دون
سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا ان تكون
النجاسة دم حيض أو منيا فان قليلهما وكثيرهما سواء» انتهى. وهو مردود بالأخبار
الدالة على نجاسة البول قليله وكثيره والغائط والمني ونحوهما ووجوب
__________________
غسلها وانما استثناء الدرهم أو الأقل منه في الدم خاصة ، واما الصدوق فإنه
قال في الفقيه «وان كان الدم دون حمصة فلا بأس بان لا يغسل إلا ان يكون دم الحيض
فإنه يجب غسل الثوب منه ومن البول والمني قليلا كان أو كثيرا وتعاد منه الصلاة علم
به أو لم يعلم» انتهى. وهذه العبارة مأخوذة من الفقه الرضوي بتغيير ما وكذا ما
قبلها ، حيث قال (عليهالسلام) : «وان كان الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلا ان يكون
دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قل أو كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم
تعلم». انتهى. والظاهر ان لفظ «دون» سقط من النسخة حيث ان الكتاب لا يخلو من الغلط
إلا ان الموجود في البحار حيث انه ينقل فيه عبائر الكتاب المذكور كما هنا ، وحينئذ
فيكون الصدوق بعد أخذه العبارة من أولها إلى آخرها من الكتاب عدل في هذا الموضع
الى العمل برواية مثنى بن عبد السلام الواردة في المسألة وهي ما رواه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له اني حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال ان
اجتمع قدر الحمصة فاغسله وإلا فلا». وسيأتي تمام الكلام ان شاء الله تعالى في ذلك
في المقصد الثاني.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الدم اما ان يكون دم حيوان ذي نفس سائلة أو غير ذي نفس سائلة والأول اما
مسفوح أو غير مسفوح وغير المسفوح اما ما يتخلف في اللحم بعد الذبح الشرعي أو غيره
والمتخلف في اللحم بعد الذبح اما من حيوان مأكول اللحم أو غيره ، وغير ذي النفس
السائلة اما ان يكون من السمك أو غيره ، فهذه ستة أقسام يحتاج الى التحقيق فيها
والكلام على وجه يرفع غشاوة الإبهام :
(الأول) ـ المسفوح
وهو لغة المصبوب أي الذي انصب من العرق بكثرة يقال سفح الرجل الدمع والدم من باب
منع : صبه ، وسفحت دمه إذا سفكته ، والظاهر انه لا خلاف بين علمائنا في نجاسته سوى
ما ينقل من الخلاف في دم رسول الله (صلى الله
__________________
عليه وآله) حيث استشكل فيه العلامة في المنتهى ، فقال : في نجاسة دم رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) إشكال ينشأ من انه دم مسفوح ومن ان أبا طيبة الحجام
شربه ولم ينكر عليه وكذا في بوله (صلىاللهعليهوآله) حيث انه بول ومن ان أم أيمن شربته . وهذا الخلاف مما لا ثمرة له الآن ، ويدل على نجاسة
الدم المسفوح إطلاق جملة من الأخبار المتقدمة زيادة على الإجماع المدعى في المقام
كما في المعتبر والمنتهى وغيرهما.
(الثاني) ـ ما
يتخلف في اللحم بعد الذبح من حيوان مأكول اللحم ، وهو طاهر حلال من غير خلاف يعرف
، ولم أقف على نص يدل على طهارته بخصوصه أو حله إلا ان اتفاق الأصحاب على كلا
الحكمين من غير خلاف ينقل ـ مضافا الى حصر المحرمات في الآيات المستلزم للطهارة
لأنه متى كان حلالا كان طاهرا ، والروايات الدالة على عد محرمات الذبيحة ولم تذكره
منها وان كانت الدلالة لا تخلو من ضعف ، مع اعتضاد ذلك بأصالة الطهارة ـ الظاهر
انه كاف في المقام. واستثني من المتخلف ما يجذبه الحيوان بنفسه الى باطن الذبيحة
فإنه نجس حرام لا يدخل فيما نحن فيه. وهو كذلك لعدم شمول الأدلة له.
(الثالث) ـ المتخلف
في الحيوان الغير المأكول اللحم مما يقع عليه الذكاة ، والظاهر من الأصحاب نجاسته
لحصرهم الدم الطاهر في افراد ولم يعدوا هذا منها ، قال في المعالم : وتردد في حكمه
بعض من عاصرناه من مشايخنا ، ومنشأ التردد من إطلاق الأصحاب الحكم بنجاسة الدم مما
له نفس مدعين الاتفاق عليه وهذا بعض افراده ،
__________________
ومن ظاهر قوله تعالى «أَوْ
دَماً مَسْفُوحاً» حيث دل على حل غير المسفوح وهو يدل على طهارته ، ثم قال
: ويضعف الثاني بأن ظاهرهم الإطباق على تحريم ما سوى الدم المتخلف في الذبيحة ودم
السمك على ما فيه ، وقد قلنا ان المتبادر من الذبيحة ما يكون من مأكول اللحم فدم
ما لا يؤكل لحمه حرام عندهم مطلقا ، وعموم ما دل على تحريم الحيوان الذي هو دمه
يتناوله أيضا إذ أكثر الأدلة غير مقيدة باللحم وانما علق التحريم فيها بالحيوان
فيتناول جميع اجزائه ، ولا يرد مثله في المحلل لقيام الدليل هناك على تخصيص
التحليل باللحم واجزاء أخر معينة ، وبالجملة فحل الدم مع حرمة اللحم أمر مستبعد
جدا لا سيما بعد ما قررناه من ظهور الاتفاق بينهم فيه وتناول الأدلة بظاهرها له ،
وإذا ثبت التحريم هنا لم يبق للآية دلالة على طهارته كما لا يخفى. انتهى. وهو جيد.
وبالجملة فالآية مخصصة وظواهر الأدلة الدالة على تحريم ما لا يؤكل لحمه شاملة للدم
وغيره ، مضافا جميع ذلك الى إطلاق جملة من اخبار نجاسة الدم المتقدمة ونحوها ، فلم
يبق للتوقف في النجاسة وجه.
(الرابع) ـ ما
عدا المذكورات من الدماء التي لا تخرج بقوة من عرق ولا لها كثرة وانصباب وليس مما
تخلف بعد الذبح كدم الشوكة والعثرة ونحو ذلك من ذي النفس مطلقا ، وظاهر الأصحاب
أيضا الاتفاق على نجاسته ، ويدل عليه أخبار نجاسة دم الرعاف والأمر بغسله كما تقدم
بعض منها وإطلاق الأخبار المتقدمة ونحوها ، وربما أوهم كلام العلامة في جملة من
كتبه الطهارة في هذا القسم وسابقه حيث انه قيد في المنتهى وجملة من كتبه الدم
المحكوم بنجاسته بالمسفوح وظاهره حصر النجس في المسفوح. وكذا كلامه في المختلف حيث
قال فيه محتجا على طهارة المتخلف في الذبيحة : هو طاهر إجماعا لانتفاء المقتضى
للتنجيس وهو السفح. ولصاحب المعالم (قدسسره) في هذا المقام كلام طويل على عبارة العلامة (قدسسره) في المنتهى أورده في الكتاب
__________________
المذكور ومناقشات فيه للفاضل الخوانساري في شرح الدروس ليس للتعرض لها كثير
فائدة مع الاتفاق على الحكم المذكور. والظاهر ـ كما استظهر جملة من الأصحاب ـ ان
الحامل للعلامة على التقييد بالمسفوح في عباراته انما هو الاحتراز عن الدم المتخلف
في الذبيحة حيث انه طاهر إجماعا وكذا غيره مما حكموا بطهارته ، فإنه لا ريب ولا شك
في نجاسة هذا القسم المذكور الذي نحن في صدد الكلام عليه ، لا ان قصده إخراج شيء
من أصناف دم ذي النفس على الإطلاق.
(الخامس) ـ دم
السمك ، ولا ريب في طهارته تمسكا بالأصل السالم من المعارض ويعضده فقد شرط التنجيس
عند الأصحاب وهو وجود النفس السائلة ، وقد نقل الإجماع على الطهارة جمع من محققي
الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية وابن إدريس في السرائر
والمحقق في المعتبر والعلامة في المختلف والشهيد في الذكرى ، وقد ذكر في المختلف
ان ظاهر تقسيم الشيخ للدم في المبسوط والجمل يعطي حكمه بنجاسة دم السمك والبق
والبراغيث مع انه لا يجب إزالة قليله ولا كثيره ، وتخطى المتأخرون عن العلامة
فتسبوا الى الشيخ في الكتابين القول بنجاسة الدماء المذكورة جزما مع ان العلامة
إنما نسب ذلك الى ظاهر كلامه بمعنى ان اللازم منه ذلك لا انه قائل به حقيقة. أقول
: والسر في ذلك انه قال في الجمل : النجاسات على ضربين دم وغيره ، والدم على ثلاثة
أضرب : ضرب يجب إزالة قليله وكثيره وهي كذا وكذا ، فعد أنواعه ، وضرب لا يجب إزالة
قليله ولا كثيره وهي خمس أجناس : دم البق والبراغيث والسمك والجراح اللازمة
والقروح الدامية. وهكذا عبارة المبسوط ، وأجاب في المعالم بان ذلك انما نشأ من سوء
تعبير الشيخ في هذا المقام وإلا فإنه غير مراد له قطعا ، وينبه على ذلك انه في
الخلاف ذكر نظير هذا الكلام المنقول عن الجمل والمبسوط بعد ما نقل الإجماع على
الطهارة بسطر واحد ، وذلك فإنه بعد ان حكى خلاف الشافعي في هذه الدماء قال دليلنا
إجماع الفرقة ، وأيضا فإن النجاسة حكم شرعي ولا دلالة في الشرع على نجاسة هذه
الدماء ، ثم
قال بعد سطر واحد : جميع النجاسات يجب إزالتها عن الثياب والبدن قليلا كان
أو كثيرا إلا الدم فان له ثلاثة أحوال دم البق والبراغيث ودم السمك وما لا نفس له
سائلة ودم الجروح اللازمة لا بأس بقليله وكثيره. وهذا الكلام الأخير يرجع في
المعنى الى ما نقلنا عن الجمل والمبسوط في الدلالة على نجاسة الدماء الثلاثة
المذكورة مع انه جمع بينه وبين الإجماع على الطهارة في مقام واحد وعبارة واحدة ، ولا
ريب انه بناء على التوسع في التعبير لظهور طهارة هذه الدماء اتفاقا أو انه أراد
بالنجاسة التي جعلها مقسما معنى خلاف الظاهر اعتمادا على القرينة الحالية وهي
معلومية الطهارة فعلى هذا يحمل كلامه أيضا في ذينك الكتابين ، وقد جرى مثل ذلك
لسلار وابن حمزة أيضا حيث ذكرا مثل هذا التقسيم الذي نقلناه عن الشيخ في الجمل ولم
يظهر منهما ما يوجب الخروج عن ظاهرها كما اتفق للشيخ بنقل الإجماع في الخلاف إلا
ان الظاهر الحمل على ما ذكرناه في عبارة الشيخ من التجوز ، هذا مع ان السهو
والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان والمعصوم من عصمه الله تعالى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان العلامة في المنتهى قد استدل على طهارة دم السمك بوجوه : منها ـ قوله
تعالى : «أُحِلَّ
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ» وقوله سبحانه : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً» ووجه الدلالة في الأولى بأن التحليل يقتضي الإباحة من
جميع الوجوه وذلك يستلزم الطهارة ، وفي الثانية بأن دم السمك ليس بمسفوح فلا يكون
نجسا. واعترض عليه بعض أفاضل المتأخرين بأن الاستدلال بالآية محل تأمل. أقول : الظاهر
ان وجه التأمل هو ان المتبادر من الحل هو حل ما يعهد اكله منه كاللحم ونحوه لا
الدم ، اما الآية الثانية فهي ظاهرة في الحل الموجب للطهارة ، ومنه يظهر قوة القول
يحل دم السمك ، وظاهر كلام جملة من الأصحاب بل الظاهر انه المشهور هو التحريم
واختصاص التحليل في افراد
__________________
الدماء بالمتخلف في الذبيحة ، والظاهر انه لا دليل لهم أزيد من دعوى
الاستخباث مع ان الظاهر هنا من جملة من الأصحاب الذين استدلوا بهاتين الآيتين على
الطهارة في هذا المقام هو الحل ، ومنهم ابن زهرة في الغنية وابن إدريس.
وفي المعتبر
استدل على طهارة دم السمك بان دم السمك لو كان نجسا لتوقفت إباحة أكله على سفح دمه
بالذبح كحيوان البر لكن الإجماع على خلاف ذلك وانه يجوز اكله بدمه. وهو ـ كما ترى
ـ صريح في قوله بالحل.
قال في المعالم
بعد كلام في المقام : وبالجملة فعباراتهم ظاهرة في تخصيص التحليل في دم الذبيحة
وتعميم التحريم في غيره من الدماء ، ووقع التصريح بذلك أيضا في كلام بعضهم
والتنصيص على تحريم دم السمك بالخصوص ، وليس لهم عليه حجة غير الاستخباث وهو موضع
نظر ، وإذا لم يثبت تحريمه تكون الآية دليلا قويا على طهارته. انتهى.
أقول : لا يخفى
ان ظواهر الأخبار دالة على حل السمك بإخراجه من الماء حيا الذي هو عبارة عن ذكاته
والشارع لم يعتبر فيه الذبح والتذكية كما في الحيوانات البرية بل ذكاته إخراجه من
الماء حيا ، ومقتضى ذلك جواز أكله حينئذ حيا أو ميتا بغير ذبح ثانيا بغير طبخ أو
مطبوخا ، إلا انه يمكن ان يقال انه لا ريب في ذلك ما لم يخرج منه دم في تلك الحال
لأنا غير مخاطبين بما تحت جلده من الدم المخالط للحمه بل عموم تحليله في تلك الحال
شامل للجميع اما لو خرج منه دم في تلك الحال فلا مانع من القول بحرمته للأدلة
الدالة على تحريم الدماء من غيره حيث لم يستثن منها إلا المتخلف في الذبيحة ،
وبالجملة فالحكم يكون تابعا للاسم فمع وجود الدم يتعلق به حكم الدماء ومع عدم
وجوده فانا غير مخاطبين به ، والاحتياط يقتضي الوقوف على هذا الوجه الى ان يقوم
دليل واضح على أحد الحكمين.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) كان لا يرى بأسا
__________________
بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل يعني دم السمك». أقول : قوله «ما
لم يذك» اي ما لم يدخله التذكية وهو مما لا نفس له ففيه دلالة على طهارة ما لا نفس
سائلة له ، إلا ان قوله أخيرا «يعني دم السمك» ان كان من كلامه (عليهالسلام) فيحتمل ان يكون تقييدا لعموم «ما لم يذك» ويحتمل ان
يكون تمثيلا يعني دم السمك وأمثاله ، والأول انسب بسياق الخبر والثاني أنسب
بالقواعد المقررة ، وكيف كان فهو ظاهر في طهارة دم السمك
(السادس) ـ دم
غير السمك مما لا نفس له ، وقد نقل الإجماع على طهارته جملة من الأصحاب : منهم ـ الشيخ
في الخلاف فإنه بعد ان ذكر طهارة الدم من كل حيوان لا نفس له احتج لذلك بإجماع
الفرقة وعدم الدلالة في الشرع على النجاسة وهي حكم شرعي لا يثبت بدون الدليل. وممن
ادعى الإجماع على ذلك الشهيد في الذكرى والعلامة في المنتهى والتذكرة ، ويظهر من
المحقق في المعتبر حيث ذكر ان طهارة دم السمك مذهب علمائنا اجمع وقال بعده : وكذا
كل دم ليس لحيوانه نفس سائلة كالبق والبراغيث. أقول ويعضد ذلك الأصل ، واما ما
يوهم خلافه من ظاهر التقسيم المتقدم نقله عن الجمل والمبسوط وسلار فقد عرفت الوجه
فيه ، ويزيد ذلك تأكيدا صحيحة عبد الله ابن ابي يعفور قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في دم البراغيث؟ قال ليس به بأس. قلت انه يكثر
ويتفاحش؟ قال وان كثر». ورواية الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟
قال لا وان كثر». ورواية محمد بن الريان قال : «كتبت الى الرجل (عليهالسلام) هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث وهل يجوز لأحد ان
يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه وان يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع (عليهالسلام) يجوز الصلاة والطهر منه أفضل». وقد تقدم في حديث غياث
عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف».
__________________
فروع : (الأول)
ـ قال في الخلاف العلقة نجسة ، واحتج على ذلك بإجماع الفرقة وبان ما دل على نجاسة
الدم دل على نجاسة العلقة. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وفي هذا نظر لا يخفى
وجهه بعد الإحاطة بما حققناه في دليل نجاسة الدم. انتهى. وقال في المعتبر : العلقة
التي تستحيل إليها نطفة الآدمي نجسة لأنها دم حيوان له نفس سائلة وكذا العلقة التي
توجد في بيض الدجاج وشبهه وقال في الذكرى بعد نقل ذلك عن المحقق : وفي الدليل منع
وتكونها في الحيوان لا يدل على انها منه. مع انه قال في الدروس في تعداد النجاسات
: والدم من ذي نفس سائلة وان كان بحريا كالتمساح أو كان علقة في البيضة وغيرها.
قال في المعالم بعد نقل كلام الذكرى : وهو متجه لا سيما بالنظر الى ما يوجد في
البيضة مع ان كونه علقة ليس بمعلوم ايضا فالإجماع الذي ادعاه الشيخ لو ثبت على وجه
يكون حجة لكان في تناوله نظر ومقتضى الأصل طهارته ، ويعضده ظاهر قوله تعالى : «أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً» حيث انه دال على حل غير المسفوح مطلقا خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على
تحريمه فيبقى الباقي ، وإثبات الحل مقتض لثبوت الطهارة كما مر غير مرة. وكتب في
الحاشية قال بعض الأصحاب ما يوجد في البيضة أحيانا من الدم لا يعلم كونه من دم ذلك
الحيوان فالعلم بكونه علقة له أشد بعدا. والأمر كما قال. انتهى
أقول : لقائل
أن يقول ان ما دل على نجاسة الدم كالاخبار التي قدمناها ونحوها لا تخصيص فيها بما
كان من حيوان بل هي مطلقة في نجاسة الدم أعم من ان يكون من حيوان أو من استحالة شيء
إليه كالمني مثلا وما في البيضة فإنه يكون علقة فيكون داخلا تحت عموم ما دل على
نجاسة الدم بقول مطلق. الا ان فيه ان الظاهر ان العموم المدعى من الاخبار لا يشمل
مثل هذا الفرد لما قررناه في غير مقام مما تقدم من ان الإطلاق انما ينصرف الى
الافراد الشائعة المتكثرة وهي هنا دم الإنسان وكل ذي نفس سائلة أو غير سائلة دون
الفروض النادرة مثل دم العلقة. واما إجماع الأصحاب على نجاسة الدم فهو ايضا مخصوص
بدم ذي النفس السائلة فلا يدخل هذا الدم تحت الإجماع
ولا الروايات ، نعم الشيخ ادعى في الخلاف الإجماع على نجاسة العلقة والعلقة
لغة هي القطعة من الدم ، والمراد منها هنا ما ذكره في المعتبر وهو المشار إليه في
الآية وهي القطعة من الدم التي يستحيل إليها المني ثم تصير هي مضغة. فتكون نجاسة
العلقة أنما تستند الى هذا الإجماع المدعى من الشيخ في الخلاف وفي شمول العلقة
للدم الموجود في البيضة إشكال كما ذكره في المعالم ، وحينئذ فلا يدخل تحت الإجماع
المدعى من الشيخ ولم يبق إلا صدق الدم عليه ، وقد عرفت انه لا دليل على نجاسة الدم
بحيث يشمل هذا الفرد سواء تمسك بالإجماع أو الروايات. وبالجملة فقد ظهر مما ذكرنا
ان الأقوى هو الطهارة ولا سيما في ما في البيضة. ومن ذلك يظهر ان الأقرب حله لعدم
دليل الحرمة كما يظهر من كلام صاحب المعالم أيضا في تمسكه بالآية على تخصيص الدم
المحرم بالمسفوح الدال على حل غير المسفوح خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على تحريمه
فيبقى الباقي ، والاحتياط في الموضعين لا يخفى.
(الثاني) ـ لو
اشتبه الدم المرئي في الثوب أو البدن فلم يعلم كونه من الدماء الطاهرة أو النجسة
فمقتضى الدليل طهارته لقوله (عليهالسلام) في موثقة عمار «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر». وقول علي (عليهالسلام) فيما رواه عنه في الفقيه «لا أبالي أبول أصابني أم ماء
إذا لم اعلم». ولا خلاف في ذلك بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وهكذا الكلام في كل
شيء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس فإنه بمقتضى الدليل المذكور يحكم بالطهارة
حتى يعلم ان ذلك الفرد من الافراد النجسة حتى الجلود كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله
تعالى في محله وان كان المشهور بينهم خلافه في الأخير. وكذا يجري الحكم المذكور
فيما لو اشتبه دم معفو عنه كدم الحجامة الأقل من
__________________
درهم بدم الحيض الغير المعفو عن قليله وكثيره فإنه يحكم بالعفو حتى يعلم
خلاف ذلك.
(الثالث) ـ قال
المحقق في المعتبر بعد ان نقل عن الشيخ الحكم بطهارة الصديد : وعندي في الصديد
تردد أشبهه النجاسة لأنه ماء الجرح يخالطه يسير دم ، ولو خلا من ذلك لم يكن نجسا ،
وخلافنا مع الشيخ فيه يؤول إلى العبارة لأنه يوافق على هذا التفصيل اما القيح ان
مازجه دم نجس بالممازجة وان خلا من الدم كان طاهرا (لا يقال) : هو مستحيل عن الدم (لأنا
نقول) : لا نسلم ان كل مستحيل من الدم لا يكون طاهرا كاللحم واللبن وحجتنا في
الطهارة وجوابنا كما تقدم. اما ما عدا ذلك كالعرق والبصاق والدموع فقد اتفق الجميع
على الطهارة. انتهى.
أقول : ما ذكره
في الجواب عن المستحيل من الدم جيد إلا ان قوله هنا بطهارة المستحيل عن الدم ينافي
ما قدمه في مسألة أبوال الدواب الثلاث وأرواثها من كلامه في ذرق الدجاج مما يدل
على ان المستحيل عن عين النجاسة يكون نجسا على الإطلاق ، وسيأتي تحقيق المسألة في
محلها ان شاء الله تعالى.
(الرابع) ـ قال
في المدارك : المسك طاهر إجماعا قاله في التذكرة والمنتهى للأصل ولما روى عن النبي
(صلىاللهعليهوآله) «انه كان يتطيب به وكان أحب الطيب اليه» . واما فأرته فسيأتي الكلام فيه قريبا ان شاء الله تعالى
في الفصل الآتي.
(الفصل الخامس)
ـ في الميتة ، قد أجمع الأصحاب على نجاسة الميتة من ذي النفس السائلة نقله جمع :
منهم ـ المحقق في المعتبر حيث قال الميتات مما له نفس سائلة نجس وهو إجماع الناس.
وقال في المنتهى : الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة نجسة سواء كان آدميا أو غير
آدمي وهو مذهب علمائنا اجمع. ونحو ذلك في كلام الشهيد
__________________
وابن زهرة وغيرهم ، قال في المعالم : وقد تكرر في كلام الأصحاب ادعاء
الإجماع على هذا الحكم وهو الحجة فيه إذ النصوص لا تنهض بإثباته وجملة ما وقفنا
عليه من الروايات في هذا الباب حسنة الحلبي ، ثم ساق الرواية الآتية وأردفها
برواية إبراهيم بن ميمون الآتية أيضا ثم قال وقصور هذين الحديثين عن افادة هذا
الحكم بكماله ظاهر مع ان الصحة منتفية عن سنديهما ، وورد في عدة روايات معتبرة
الإسناد المنع من أكل السمن والزيت إذا ماتت فيه الفأرة وظاهره الحكم بنجاسته ،
وهذا الحكم خاص ايضا كما لا يخفى فلا يمكن جعله دليلا على العموم ، وحينئذ فالعمدة
في إثبات التعميم هو الإجماع المدعى في كلام الجماعة. انتهى ملخصا ، وفيه ما سيأتي
ان شاء الله تعالى في المقام.
وكيف كان
فالميتة اما ان تكون من ذي النفس أو غيره والأول اما آدمي أو غيره فههنا أقسام
ثلاثة ، وبيان الكلام فيها يقتضي بسطه في مواضع ثلاثة :
(الأول) ـ ميتة
غير الآدمي من ذي النفس السائلة ، وقد عرفت فيما تقدم دعوى الإجماع على النجاسة
فيما يشمل هذه المسألة.
ولصاحب المدارك
في هذه المسألة مناقشتان : (الاولى) في وجود الدليل الدال على النجاسة في هذه
المسألة كما سبق ذكره في كلام المحقق الشيخ حسن وان كان الكلام هنا فيما هو أخص
مما ذكره المحقق المشار اليه. و (الثانية) ـ في نجاسة جلد الميتة وهي في الحقيقة
راجعة إلى الاولى ، وها أنا أسوق كلامه بطوله وأبين ما يكشف عن فساد محصوله وبه
يظهر تحقيق الحال وينجلي عنه غياهب الإشكال ، فأقول :
قال السيد
المذكور : «واحتج عليه في المنتهى بان تحريم ما ليس بمحرم بالأصل ولا فيه ضرر
كالسم يدل على نجاسته. وفيه منع ظاهر. نعم يمكن الاستدلال عليه بالروايات المتضمنة
للنهي عن أكل الزيت ونحوه إذا ماتت فيه الفأرة لكنه غير صريح في النجاسة وبما رواه
الشيخ في الصحيح عن حريز قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) لزرارة
__________________
ومحمد بن مسلم «اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر
وكل شيء ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل
فيه». وجه الدلالة ان الظاهر ان الأمر بغسل ما يؤخذ من الدابة بعد الموت انما هو
لنجاسة الأجزاء المصاحبة له من الجلد. ويتوجه عليه ان الأمر بالغسل لا يتعين كونه
للنجاسة بل يحتمل ان يكون لإزالة الأجزاء المتعلقة به من الجلد المانعة من الصلاة
فيه كما يشعر به قوله «وصل فيه» وبالجملة فالروايات متظافرة بتحريم الصلاة في جلد
الميتة بل الانتفاع به مطلقا واما نجاسته فلم أقف فيها على نص يعتد به ، مع ان ابن
بابويه روى في أوائل الفقيه مرسلا عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن
والماء ما ترى فيه؟ فقال لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتوضأ
منه واشرب ولكن لا تصل فيها». وذكر قبل ذلك من غير فصل يعتد به انه لم يقصد فيه
قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه ، قال بل انما قصدت إلى إيراد ما افتي به
واحكم بصحته واعتقد انه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته ، والمسألة
قوية الإشكال» انتهى كلامه.
أقول : والكلام
هنا يقع في مقامين (الأول) ـ فيما ذكره من المناقشة الاولى في عدم الدليل على
نجاسة الميتة من ذي النفس غير الإنسان ، وها أنا أورد ما وقفت عليه من الروايات
المتعلقة بذلك وان طال به زمام الكلام فإنه من أهم المهام.
وأقول : من ذلك
روايات ما يقع في البئر والأمر بالنزح لها مع التغير وعدمه وقد اشتملت تلك
الروايات على ميتة الإنسان والدابة والفأرة والطير والحمار والبقرة والجمل والسنور
والحمام والدجاجة ونحو ذلك ، ولا ينافي ذلك القول بطهارة البئر فإن ذلك ليس من حيث
كون هذه الأشياء غير نجسة بل انما هو من حيث عدم انفعالها بالنجاسة ولهذا لو تغير
الماء بها فلا خلاف في النجاسة.
ومنها ـ اخبار
الدهن والزيت ونحوهما وهي كثيرة ، ومنها ـ صحيحة زرارة
أو حسنته بإبراهيم بن هاشم على المشهور عن الباقر (عليهالسلام) قال : «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه فان كان
جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت
مثل ذلك». ومنها ـ صحيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه؟ فقال
ان كان سمنا أو عسلا أو زيتا ـ فإنه ربما يكون بعض هذا ـ فان كان الشتاء فانزع ما
حوله وكله وان كان الصيف فارفعه حتى تسرج به ، وان كان بردا فاطرح الذي كان عليه
ولا تترك طعامك من أجل دابة ماتت عليه». ومنها ـ صحيحة سعيد الأعرج قال «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الفأرة تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حيا؟ فقال
لا بأس بأكله. وعن الفأرة تموت في السمن والعسل؟ فقال قال علي (عليهالسلام) خذ ما حولها وكل بقيته. وعن الفأرة تموت في الزيت؟
فقال لا تأكله ولكن أسرج به». ومنها ـ رواية معاوية بن وهب عن الصادق (عليهالسلام) قال «قلت له جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ فقال اما
السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله ، واما الزيت فيستصبح به. وقال في بيع ذلك
تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به». ومنها ـ رواية السكوني عن الصادق (عليهالسلام) «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها
ويغسل اللحم ويؤكل». ومنها ـ رواية سماعة قال «سألته عن السمن تقع فيه الميتة؟ فقال ان كان جامدا
فالق ما حوله وكل الباقي. فقلت الزيت؟ فقال أسرج به». ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم
عن أحدهما (عليهماالسلام) «سألته عن آنية أهل الذمة؟ فقال
__________________
لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدم ولحم الخنزير». ومنها
ـ رواية جابر عن الباقر (عليهالسلام) قال «أتاه رجل فقال له وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو
زيت فما ترى في أكله؟ قال فقال له أبو جعفر (عليهالسلام) لا تأكله فقال له الرجل الفأرة أهون علي من ان اترك
طعامي من أجلها. قال فقال له أبو جعفر (عليهالسلام) انك لم تستخف بالفأرة وانما استخففت بدينك ، ان الله
تعالى حرم الميتة من كل شيء».
أقول : المراد
بلفظ التحريم هنا النجاسة ليصح التعليل المذكور وإلا فالحرمة بمجردها بمعناها
المتعارف لا توجب عدم أكل الزيت الذي ماتت فيه الفأرة ، ومما يؤيد ورود هذا اللفظ
بمعنى النجاسة لا بالمعنى المتبادر ما رواه في التهذيب والكافي عن الحسن ابن علي قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) فقلت جعلت فداك ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم
فيقطعونها؟ فقال هي حرام. قلت جعلت فداك فتصطبح بها؟ فقال أما تعلم انه يصيب اليد
والثوب وهو حرام؟». إذ لا ريب بمقتضى سياق الخبر ان الحرام هنا انما هو بمعنى
النجس.
أقول : ظاهر
رواية الحسن بن علي المذكورة عدم جواز الانتفاع بأليات الميتة أو المبانة من حي
مطلقا حتى ولو بالإسراج ، وهو المشهور بين الأصحاب وبه صرح جملة : منهم ـ الشهيد
الثاني في المسالك ، قال بعد قول المصنف : «ويجوز بيع الادهان النجسة ويحل ثمنها.
إلخ» : المراد بها الادهان النجسة بالعرض كما هو المفروض اما النجسة بالذات كأليات
الميتة يقطعها من حي أو ميت فلا يجوز بيعها ولا الانتفاع بها مطلقا إجماعا لإطلاق
النهي عنه ، وانما جاز بيع الدهن النجس لبقاء منفعته بالاستصباح. انتهى. ونقل
الشهيد عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء ثم قال : وهو ضعيف.
__________________
أقول : قد روى
ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي عن الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها
وهي أحياء أيصلح له ان ينتفع بما قطع؟ قال نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا
يبيعها». قال ابن إدريس بعد نقله : لا يلتفت الى هذا الحديث لانه من نوادر الأخبار
والإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر غير
الباغي ولا العادي. وهو جار على ما قدمنا ذكره عنهم ، وروى هذه الرواية أيضا في
قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) مثله .
وظاهر شيخنا
المجلسي في البحار الميل الى العمل بهذه الرواية حيث قال بعد نقل الخلاف في
المسألة : والجواز عندي أقوى لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز وضعف
حجة المنع إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما حقق في موضعه والإجماع
ممنوع. انتهى.
أقول : ما ذكره
بالنسبة الى الآية من ان التحريم انما يتبادر إلى الأكل دون سائر الوجوه جيد إلا
ان جملة من الأخبار صرحت بأن الميتة لا ينتفع بشيء منها ، ومنه ما رواه في الكافي
والفقيه بطريقه إلى الكاهلي في حديث عن الصادق (عليهالسلام) «سئل عن أليات الغنم قال ان في كتاب علي (عليهالسلام) ان ما قطع منها ميتة لا ينتفع به». ونحوه غيره كما
سيأتي في المقام ان شاء الله تعالى ، وليس حجة المانع منحصرة فيما ذكره مع إمكان
حمل الرواية التي اعتمدها على التقية ، ولتحقيق المسألة موضع آخر ولكن الحديث ذو
شجون فلنعد الى ما نحن فيه :
ومنها ـ صحيحة
زرارة قال : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه
__________________
شيء تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلا ان يجيء له ريح يغلب على ريح الماء». ومنها
ـ موثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) «في الفأرة التي يجدها في إنائه وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا وغسل ثيابه
واغتسل وقد كانت الفأرة متسلخة؟ فقال ان كان رآها في الإناء قبل ان يغتسل أو يتوضأ
أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه ان يغسل ثيابه ويغسل كل ما
اصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة. الحديث».
ومنها ـ صحيحة
حريز عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من
الماء واشرب فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب». ورواية عبد
الله بن سنان قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال إذا كان الماء قاهرا ولا
يوجد فيه الريح فتوضأ». وموثقة سماعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة قد
أنتنت؟ قال ان كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضأ ولا تشرب». ورواية أبي خالد
القماط عن الصادق (عليهالسلام) «في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ
منه. الحديث». وفي الفقه الرضوي «وان مسست ميتة فاغسل يديك وليس عليك غسل انما يجب عليك ذلك في الإنسان
وحده». ومنها ـ موثقة عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما
أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه؟ قال كل ما ليس له دم فلا بأس به». ورواية
حفص بن غياث عن جعفر بن محمد (عليهالسلام) قال : «لا يفسد الماء إلا ما كان له
__________________
نفس سائلة». وموثقة عمار عن الصادق (عليهالسلام) في حديث طويل قال فيه : «اغسل الإناء الذي تصيب فيه
الجرذ ميتا سبع مرات». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع وهذا ما
حضرني منها.
وأنت خبير بأنه
لا مجال للتوقف في الحكم المذكور بعد الوقوف على هذه الاخبار مع تعليق الحكم في
كثير منها على مطلق الميتة والجيفة والشيء والدابة ـ والمراد بها ما يدب على وجه
الأرض لا ذات القوائم الأربع ـ من غير مخصص ولا مقيد ، ولا يخفى على من اعطى النظر
حقه ان أكثر الأحكام الشرعية التي صارت بين الأصحاب قواعد كلية إنما حصلت من تتبع
جزئيات الأحكام وضم بعضها الى بعض كالقواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب
وإلا فوجود الأحكام بقواعد مسورة بسور الكلية لا تكاد يوجد إلا نادرا. وما ذكره في
المدارك مما قدمنا نقله عنه ـ بعد إشارته إلى روايات الزيت الذي ماتت فيه الفأرة
انه غير صريح في النجاسة ـ مردود بأنهم إنما حكموا بالنجاسة في جل المواضع بل كلها
من حيث النهي عن الصلاة فيها أو الأمر بغسلها أو النهي عن أكل ما وقعت فيه أو
النهي عن شربه ونحو ذلك مما هو أعم من المراد حتى انه لو ورد لفظ النجاسة لتأولوه
بالحمل على المعنى اللغوي لعدم الحقيقة الشرعية فيه كذلك ، وهو ممن صرح بما ذكرناه
أيضا في نجاسة البول فقال بعد كلام في المقام والاحتجاج على النجاسة بالأمر بالغسل
: «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له بل سائر الأعيان النجسة انما
استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب والبدن من ملاقاتها» انتهى. والحكم في
الغسل والأكل واحد باعتبار النجاسة العارضة للمأكول فكما ان النهي عن الأكل أعم من
النجاسة كذلك الأمر بالغسل أعم من ذلك. وبالجملة فإن ما ذكره المحققان المذكوران
انما نشأ من الغفلة عن تتبع الروايات في هذا المقام وقصر النظر على ما خطر ببالهما
من الاخبار المشار إليها في كلامهما ومن اعطى النظر حقه في هذه الأخبار
__________________
التي سردناها لا يخفى عليه انطباقها على ما ذكرناه من عموم الحكم.
(المقام الثاني)
ـ فيما ذكره من المناقشة الثانية في حكم جلد الميتة وانه لم يقم على نجاسته عنده
دليل معتضدا بما نقله عن الفقيه ، ففيه انه لا ريب ان الروايات هنا مختلفة في جلد
الميتة طهارة ونجاسة والقول بطهارته منقول عن ابن الجنيد لكن بشرط الدباغ وانها
تطهر بذلك.
فمما يدل على
الطهارة ما نقله عن الفقيه ومثله ما رواه الشيخ في الصحيح الى الحسين ابن زرارة ـ وهو
وان كان في كتب الرجال مهملا إلا انه يمكن استفادة مدحه من دعاء الصادق (عليهالسلام) له ولأخيه الحسن ـ عن الصادق (عليهالسلام) «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فاشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم
، وقال يدبغ فينتفع به ولا يصلى فيه». وظاهر الرواية التي نقلها عن الفقيه وان كان
أعم إلا ان الظاهر انه يجب تقييدها بالدباغ ، ولعله إنما أطلق الحكم فيها بناء على
ما هو المتعارف من الدباغ وانه لا يستعملونه إلا بعد ذلك ، وحينئذ يكون الجميع
مستندا لما ذهب اليه ابن الجنيد في المسألة وأظهر من هذين الخبرين في ذلك ما صرح
به (عليهالسلام) في كتاب الفقه حيث قال : «وان كان الصوف والوبر والشعر والريش من
الميتة وغير الميتة بعد ان يكون مما أحل الله تعالى اكله فلا بأس به ، وكذلك الجلد
فان دباغته طهارته» وقال بعد هذا الكلام بأسطر قليلة : «وذكاة الحيوان ذبحه وذكاة
الجلود الميتة الدباغ»
ومما يدل على
المشهور ـ وهو المؤيد المنصور ـ من النجاسة ما رواه في الكافي عن الفتح بن يزيد
الجرجاني عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها
إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب. الحديث». أقول : «ان ذكي» يحتمل
ان يكون قيدا لأكل اللحم بمعنى ان مأكول اللحم مع التذكية ما حكم جلده
__________________
بعد الموت؟ ويحتمل ان يكون راجعا الى الجلود بالنظر الى ان دباغته تذكيته
كما دل عليه خبر كتاب الفقه.
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن علي بن أبي المغيرة وهو ثقة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ قال لا. قلت بلغنا
ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) مر بشاة ميتة فقال ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم
ينتفعوا بلحمها ان ينتفعوا بإهابها؟ قال تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النبي (صلىاللهعليهوآله) وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها ان ينتفعوا
بإهابها أي تذكى». وجه الدلالة (أولا) ـ انه (عليهالسلام) ذكر ان الميتة لا ينتفع منها بشيء وهو ظاهر الدلالة
فيما نحن فيه. و (ثانيا) ـ انه لما سأله عن حديث الشاة الذي هو أحد مستندات العامة
فيما ذهبوا اليه من طهارة جلد الميتة حيث انهم رووا الحديث وحملوا كلامه (صلىاللهعليهوآله) على انه ينبغي ان يسلخوا جلدها بعد الموت وينتفعوا به
وان لم ينتفعوا بلحمها لكونها ميتة فأجاب (عليهالسلام) بان الوجه في
__________________
الخبر ليس ما توهموه وظنه السائل بناء على شهرة الخبر بينهم بل المعنى فيه
والذي أراده (صلىاللهعليهوآله) انما هو ان تذكى قبل الموت وينتفعوا بإهابها وان لم
ينتفعوا بلحمها لهزالها ، وهو صريح في عدم الانتفاع بجلود الميتة المؤذن بنجاستها
، وينبغي تقييد قوله (عليهالسلام): «الميتة لا ينتفع منها بشيء». بما كان تحله الحياة
ثم عرض له الموت جمعا بين الخبر المذكور والاخبار الدالة على طهارة ما لا تحله
الحياة من الميتة.
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الموثق عن ابي مريم قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) السخلة التي مر بها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وهي ميتة فقال : ما ضر أهلها لو انتفعوا بإهابها؟ قال
: فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) لم تكن ميتة يا أبا مريم ولكنها كانت مهزولة فذبحها
أهلها فرموا بها فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها». أقول : الظاهر
ان مورد هذا الخبر غير سابقه. والتقريب في سؤال السائل هو ما ذكرناه من التقريب في
الخبر الأول ولكن الجواب وقع عنها بأن السخلة انما رماها أهلها بعد الذبح فهي
مذكاة فمن أجل ذلك قال (صلىاللهعليهوآله) انها بعد التذكية وان لم ينتفعوا بلحمها لهزاله إلا ان
جلدها مما ينتفع به فكيف لم يأخذوه؟
ومنها ـ ما
رواه في التهذيب في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال إذا رميت
وسميت فانتفع بجلده واما الميتة فلا».
ومنها ـ ما
رواه في الكافي وكذا في التهذيب عن قاسم الصيقل قال : «كتبت الى الرضا (عليهالسلام) اني اعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب
ثيابي أفأصلي فيها؟ فكتب الي اتخذ ثوبا لصلاتك. فكتبت الى ابي جعفر (عليهالسلام) كنت كتبت الى أبيك بكذا وكذا فصعب ذلك علي فصرت أعملها
من جلود الحمر
__________________
الوحشية الذكية؟ فكتب الي كل اعمال البر بالصبر يرحمك الله فان كان ما تعمل
وحشيا ذكيا فلا بأس».
ومنها ـ ما
رواه في التهذيب عن ابي القاسم الصيقل وولده قال : «كتبوا الى الرجل (عليهالسلام) جعلنا الله فداك انا قوم نعمل أغماد السيوف وليس لنا
معيشة ولا تجارة غيرها ونحن مضطرون إليها وانما علاجنا من جلود الميتة من البغال
والحمر الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها
بأيدينا وثيابنا ونحن نصلي في ثيابنا؟ ونحن محتاجون الى جوابك في المسألة يا سيدنا
لضرورتنا إليها ، فكتب (عليهالسلام) اجعلوا ثوبا للصلاة. الحديث».
هذا ما وقفت
عليه من الأخبار الدالة على القول المشهور ، ووجه الجمع بينها وبين ما عارضها هو
حمل المعارض على التقية لموافقته لمذهب بعض العامة كما أشرنا إليه في ذيل حديث
الشاة ، ويدل على ذلك ما رواه في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني ادخل سوق المسلمين اعني هذا الخلق الذين يدعون
الإسلام فاشترى منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليست هي ذكية فيقول بلى فهل
يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط لي
الذي اشتريتها منه انها ذكية. قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق الميتة
وزعموا ان دباغ جلد الميتة ذكاته ثم لم يرضوا ان يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلىاللهعليهوآله)». وفي التهذيب بسنده الى ابي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال كان علي بن الحسين (عليهالسلام) رجلا صردا فلا تدفئه فراء الحجاز لان دباغها بالقرظ
فكان يبعث الى العراق
__________________
فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص الذي
يليه فكان يسأل عن ذلك فيقول ان أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون ان
دباغها ذكاتها». وبما أوضحناه وشرحناه يظهر لك انه لا إشكال في صحة القول المشهور
كما وقع فيه لعدم التدبر في اخبار المسألة سيدنا المحقق المذكور. ثم ان ما ذكره (قدسسره) في تأييد مرسلة الفقيه من قول مصنفه في صدر كتابه ما
قاله ـ مع الإغماض عن الطعن في ذلك بمخالفة مصنفه لهذه القاعدة في مواضع عديدة من
كتابه كما لا يخفى على من تتبعه ـ ففيه انه في شرحه قد اضطرب كلامه في هذا المقام
ايضا كاضطرابه في غيره فتراه تارة يعمل بمرويات الفقيه الضعيفة ويعتذر بهذا الكلام
وتراه يرد رواياته اخرى من غير التفات الى ما ذكره في هذا المقام كما لا يخفى على
من تتبع شرحه المشار اليه ، وهي طريقة غير جيدة ناشئة من ضيق الخناق في هذا
الاصطلاح الذي تمسك به وبالغ في نصرته كما أوضحناه في مواضع من شرحنا على الكتاب.
(الموضع الثاني)
ـ ميتة الآدمي ، وقد أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) على ما نقله غير واحد منهم
على نجاستها بعد برده وقبل تطهيره بالغسل ، قال في المعتبر : وعلماؤنا مطبقون على
نجاسته نجاسة عينية كغيره من ذوات الأنفس السائلة.
ويدل على ذلك
مضافا الى الإجماع المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد ابن الحسن الصفار قال : «كتبت اليه : رجل أصاب يديه أو بدنه ثوب الميت
الذي يلي جسده قبل ان يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع (عليهالسلام) : إذا أصاب يدك جسد الميت قبل ان يغسل فقد يجب عليك
الغسل». وحسنة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت؟ فقال يغسل
ما أصاب الثوب». ورواية إبراهيم بن ميمون قال : «سألت أبا عبد الله (عليه
__________________
السلام) عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميت؟ فقال ان كان غسل الميت فلا تغسل
ما أصاب ثوبك منه وان كان لم يغسل الميت فاغسل ما أصاب ثوبك منه». وروى الطبرسي في
الاحتجاج والشيخ في كتاب الغيبة التوقيع الخارج عن الناحية المقدسة في أجوبة مسائل
محمد بن عبد الله الحميري فإنه كتب «روي لنا عن العالم انه سئل عن امام صلى بقوم
بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ قال يؤخر ويتقدم بعضهم ويتم صلاتهم
ويغتسل من مسه؟ التوقيع ليس على من مسه إلا غسل اليد». وعنه قال : «كتبت اليه وروي عن العالم (عليهالسلام) ان من مس ميتا بحرارته غسل يده ومن مسه وقد برد فعليه
الغسل وهذا الميت في هذه الحالة لا يكون إلا بحرارته والعمل في ذلك على ما هو
ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه فكيف يجب عليه؟ التوقيع : إذا مسه في هذه الحال لم
يكن عليه إلا غسل يده». وفي الفقه الرضوي «وان مس ثوبك ميتا فاغسل ما أصاب».
بقي الكلام في
أنها هل هي عينية محضة مطلقا فعلى هذا ينجس ما يلاقي الميت برطوبة كان أو بيبوسة
وتتعدى نجاسة ذلك الملاقي الى ما لاقاه برطوبة ، أو مع الرطوبة خاصة وإلا فحكمية
بمعنى انها مع اليبوسة انما ينجس بها ذلك الملاقي خاصة دون ما لاقاه ولو برطوبة.
أو عدم تعديها مطلقا وان وجب غسل الملاقي تعبدا ، أو انها عينية محضة مع الرطوبة
خاصة واما مع اليبوسة فلا اثر لها كغيرها من النجاسات ، أقوال أربعة : الأول ظاهر
شيخنا الشهيد الثاني في الروض وقواه شيخنا المحقق الشيخ حسن على تقدير القول
بالتعدي مع اليبوسة ، والثاني للعلامة في المنتهى ، والثالث ظاهر كلام ابن إدريس
حيث قال على ما نقل عنه في المدارك : إذا لاقى جسد الميت إناء وجب غسله ولو لاقى
ذلك الإناء مائعا لم ينجس المائع لأنه لم يلاق جسد الميت ، وحمله على ذلك قياس ،
والأصل في الأشياء الطهارة الى ان يقوم دليل. والرابع مختار المحقق الشيخ علي.
__________________
وأنت خبير بان
ظاهر إطلاق الأخبار المذكورة الدلالة على القول الأول. وهذا القول ايضا ظاهر
الصدوق في الفقيه حيث انه عبر فيه بمضمون حسنة الحلبي فقال : ومن أصاب ثوبه جسد
الميت فليغسل ما أصاب الثوب منه. وبذلك يظهر قوة القول المذكور إلا ان قوله (عليهالسلام) في موثقة عبد الله بن بكير «كل شيء يابس ذكى». المعتضد بجملة من الأخبار الدالة في جملة من المواضع
على عدم تعدي النجاسة مع اليبوسة مما يدافع العمل بإطلاق هذه الأخبار ، وايضا ان
تقييد المطلق أقرب من تخصيص العام وحينئذ فالأظهر حمل الملاقاة الموجبة للغسل على
الملاقاة برطوبة من أحدهما ، ومما يستأنس له بذلك قوله في رواية إبراهيم بن ميمون؟
«ما أصاب ثوبك منه». في الموضعين فإنه ظاهر في ان اصابة الثوب انما هو لرطوبة أو
قذر على الميت ، إلا ان هذا الحمل بعيد في التوقيع المذكور. ويمكن حمله على
الاستحباب سيما مع اشتماله على ما لا يقول به جمهور الأصحاب من النجاسة قبل البرد
، ومن ذلك يعلم قوة القول الرابع ، ويؤيده أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) «عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت هل تصلح الصلاة فيه قبل ان يغسله؟ قال ليس
عليه غسله وليصل فيه ولا بأس».
واما ما ذهب
اليه المحدث الكاشاني ـ من حمل أخبار النجاسة في الميت والكافر ونحوهما مما ذكره
على مجرد الخبث الباطني دون المعنى الشرعي الموجب لغسل الملاقي له برطوبة ـ فهو من
متفرداته الواهية التي هي لبيت العنكبوت ـ وانه لا وهن البيوت ـ مضاهية وكيف لا
والأخبار المتقدمة ظاهرة في وجوب غسل الملاقي له الذي هو مظهر النجاسة ، والظاهر
ان منشأ الشبهة عنده هو انه لو كان نجسا كالأعيان النجسة لم يقبل التطهير بالغسل
كما يدل عليه كلامه في المفاتيح ، وهذا دليل الشافعي على ما ذهب اليه من عدم نجاسة
__________________
الإنسان بالموت قال : إذ لو كان نجسا لما قبل التطهير كسائر النجاسات.
وعارضه جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المنتهى والشهيدان في الذكرى والروض
بأنه لو لم يكن نجسا لما أمر بالغسل. وفيه انه يمكن ان يكون الغسل انما هو للنجاسة
الحكمية كنجاسة بدن الجنب بالجنابة والحائض بالحيض لا العينية ، بل هذا هو الظاهر
من الأخبار المتقدمة في باب غسل الجنابة الدالة على ان العلة في غسل الميت انما هو
خروج النطفة التي خلق منها حال الموت فهو جنب ولذلك أمر بتغسيله غسل الجنابة.
والجواب الحق انما هو المنع من كون النجاسات والمطهرات منحصرة في قاعدة كلية بل هي
تابعة للدليل الشرعي وليس للعقل فيها مسرح ، فلا منافاة بين كون نجاسة الميت بعد
البرد وقبل الغسل كسائر النجاسات العينية وان كان تطهيرها يقع بالغسل وغيرها لا
يقبل التطهير إلا بالمطهرات الآتية ، ألا ترى ان العصير يطهر بالنقص دون غيره
وآلات النزح وجوانب البئر تطهر عندهم بتمام النزح وآلات الخمر بعد انقلابه ونحو
ذلك فالاستبعاد مدفوع بما ذكرناه ، وبالجملة فالظاهر من الأخبار ان نجاسة الميت
بعد البرد وقبل التطهير بالغسل حكمية من جهة عينية من اخرى ، فمن الجهة الأولى يجب
الغسل على كل من مس الميت في تلك الحال ومن الجهة الثانية يجب غسله وغسل ما لاقاه
على الخلاف المتقدم ، ولا منافاة في كون الغسل رافعا للنجاسة العينية والحدثية
التي في الجنب ايضا كما دلت عليه الاخبار المشار إليها إذا اقتضته الأدلة الشرعية.
__________________
(الموضع الثالث)
ـ ميتة ما لا نفس له سائلة ، وقد نقل الإجماع في المعتبر والمنتهى على طهارتها ،
قال في المنتهى اتفق علماؤنا على ان ما لا نفس سائلة له من الحيوانات لا ينجس
بالموت ولا يؤثر في نجاسة ما يلاقيه. وذكر في المعتبر ان عدم نجاسة ما هذا شأنه
وانتفاء التنجيس به مذهب علمائنا اجمع. وقال الشيخ في النهاية : كل ما ليس له نفس
سائلة من الأموات فإنه لا ينجس الثوب ولا البدن ولا الشراب إذا وقع فيه سوى الوزغ
والعقرب. وفي المختلف عن ابن البراج انه قال إذا أصاب شيئا وزغ أو عقرب فهو نجس
وأوجب أبو الصلاح النزح لها من البئر ثلاث دلاء. وما ذكره الشيخ (قدسسره) هنا من استثناء الوزغ الظاهر انه مبني على ما سيأتي ان
شاء الله تعالى من حكمه بنجاسة الوزغ عينا وانه عنده كالكلب ، واما العقرب فلا
نعلم لاستثنائه وجها. ونقل في المختلف عنه الاستدلال عليه برواية أبي بصير عن
الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته عن الخنفساء تقع في الماء أيتوضأ منه؟ قال
نعم لا بأس به. قلت فالعقرب؟ قال ارقه». وأجاب عنها بأنها غير دالة على ذلك لجواز
استناد الإراقة إلى وجود السم في الماء لا إلى نجاسة العقرب. وهو جيد ، وبمثل ذلك
ايضا يجاب عما رواه سماعة في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن جرة وجد فيها خنفساء قد ماتت؟ قال ألقه وتوضأ منه
وان كان عقربا فارق الماء وتوضأ من غيره».
وكيف كان
فالمعتمد هو القول المشهور للأصل والاخبار الكثيرة ، ومنها موثقة عمار ورواية حفص
المتقدمتان في الموضع الأول وموثقة أبي بصير أو صحيحته عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الذباب يقع في الدهن والسمن والطعام؟
__________________
فقال لا بأس». ورواية ابن مسكان قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) كل شيء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس
وأشباه ذلك فلا بأس». ومرفوعة محمد بن يحيى عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يفسد الماء إلا ما كان له نفس سائلة». وفي
قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر «انه سأل أخاه موسى (عليهالسلام) عن العقرب والخنفساء وأشباه ذلك يموت في الجرة والدن
يتوضأ منه للصلاة؟ قال لا بأس».
وتنقيح البحث
في المقام يتوقف على رسم مسائل (الأولى) قد تقدم نقل المحقق والعلامة الإجماع على
نجاسة ميتة ذي النفس السائلة مطلقا من غير استثناء فرد وظاهره أعم من ان يكون
الحيوان بريا أو بحريا ، وقال في الخلاف ان مات في الماء القليل ضفدع أو ما لا
يؤكل لحمه مما يعيش في الماء لا ينجس الماء وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي ان
قلنا انه لا يؤكل فإنه ينجسه دليلنا ان الماء على أصل الطهارة والحكم بنجاسته يحتاج
الى دليل ، وروي عنهم (عليهمالسلام) انهم قالوا : «إذا مات فيما فيه حياته لا ينجسه». وهو
يتناول هذا الموضع. وقد حكى المحقق في المعتبر صدر هذه العبارة عن الخلاف ولم
يتعرض لما فيه الاحتجاج منها واختار التنجيس بما له نفس من الحيوان المائي
كالتمساح ، واحتج له بأنه حيوان له نفس سائلة فكان موته منجسا ثم قال : ولا حجة
لهم في قوله (صلىاللهعليهوآله) في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». لان التحليل
مختص بالسموك.
قال في المعالم
بعد نقل ما ذكرناه عن المحقق : وكأنه أشار بقوله ولا حجة لهم إلى القائلين بالطهارة
هنا من العامة وفاقا للشيخ وهم الحنفية. وقد نبه على ذلك الشيخ
__________________
في الكلام الذي حكيناه عنه وعزاه إليهم العلامة في المنتهى وحكى عنهم
الاحتجاج بقوله (صلىاللهعليهوآله) «هو الطهور ماؤه. الحديث» وفساد هذه الحجة عندنا أظهر
من ان يبين ، والعجب من المحقق في عدوله عن حكاية الحجة التي تمسك بها الشيخ الى
حجة المخالف الواهية مع كونه في مقام البحث مع الشيخ إذ لم يذكر خلاف غيره ، ولولا
جمع الضمير في نسبة الاحتجاج لم يختلج في خاطر غير الواقف على كلام الشيخ شك في ان
الحجة له ولا يخفى ما فيه ، على ان احتمال مشاركة الشيخ لغيره في الاحتجاج بها ليس
بمندفع عن غير العارف بالحال ، ولعل العذر عدم الوقوف على عين كلام الشيخ في نفس
الكتاب ، هذا وفي تمسك الشيخ هنا بالأصل قوة إلا ان يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب
من الإجماع في أصل المسألة لموضع النزاع. انتهى.
أقول : والكلام
هنا يقع في مواضع : (الأول) ـ لا يخفى ما في نقل المحقق والعلامة الإجماع في أصل
المسألة على النجاسة ثم نقلهما خلاف الشيخ في المقام من التدافع ، إلا ان يحمل ذلك
على عدم الاعتداد بخلاف معلوم النسب كما هو أحد قواعدهم ، أو لشهرة القول بالخلاف
في الحيوان المائي فيكون الإجماع المدعى انما هو على غير الحيوان المائي ، ولعله
الأقرب.
(الثاني) ـ ان
ما استند اليه الشيخ من التمسك بالأصل فالجواب عنه ان الأصل يجب الخروج عنه
بالدليل وهو ما قدمناه من الأخبار المتقدمة في المقام الأول من الموضع الأول
الدالة على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الإنسان مطلقا ، وحيث ان صاحب المعالم في
ما قدمنا نقله عنه لم يقم عنده دليل على ذلك إلا الإجماع قوى تمسك الشيخ بالأصل
هنا إلا ان يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب من الإجماع لموضع النزاع. وأنت خبير بعد
الإحاطة بما قدمناه من الأخبار انه لا حاجة الى التمسك بهذا الإجماع هنا ، إلا انه
يبقى الكلام في دخول الحيوان المائي تحت إطلاق تلك الاخبار أو عمومها حيث ان الذي
ينصرف إليه الإطلاق انما هو الأفراد الكثيرة الوقوع مثل تلك الأشياء
المعدودة في الروايات ، وشمولها لمثل الضفدع والتمساح ونحوهما الظاهر بعده
، وكذلك شمول الإجماع خصوصا على الوجه الثاني مما أجبنا به عن التدافع الواقع في
كلامهم ، وحينئذ يقوى تمسك الشيخ بالأصل.
(الثالث) ـ ما
نقله الشيخ عنهم (عليهمالسلام) من الرواية لم نقف عليها في شيء من كتب الاخبار ولا
نقلها غيره فيما اعلم ، وقد اعترضه بذلك ايضا بعض أفاضل المحققين من متأخري
المتأخرين فقال : واما الرواية فلم نجدها في موضع مسندة حتى ننظر في صحتها وضعفها.
وبالجملة فإن
قول الشيخ بالنظر الى ما ذكرنا من عدم شمول الأخبار المتقدمة لمثل هذه الأفراد
النادرة لا يخلو من قوة ، والاحتياط لا يخفى.
(المسألة
الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان كل ما ينجس
بالموت مما له نفس سائلة فما قطع من جسده حيا كان أو ميتا فهو نجس قال في المدارك
انه مقطوع به في كلام الأصحاب. وقال في المعالم لا يعرف فيه خلاف بين الأصحاب. قال
في المدارك : «واحتج عليه في المنتهى بأن المقتضي لنجاسة الجملة الموت وهذا
المقتضى موجود في الاجزاء فيتعلق بها الحكم. وضعفه ظاهر إذ غاية ما يستفاد من
الأخبار نجاسة جسد الميت وهو لا يصدق على الاجزاء قطعا. نعم يمكن القول بنجاسة
القطعة المبانة من الميت استصحابا لحكمها حال الاتصال. ولا يخفى ما فيه» انتهى.
أقول : الذي
وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة عدة روايات فيها الصحيح وغيره. ومنها
ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن ابان عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ما أخذت الحبالة فقطعت منه
__________________
فهو ميتة وما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه». ورواه الشيخ في
التهذيب والكليني في الكافي لكن بطريق غير صحيح. ومنها ـ ما رواه في الكافي
والتهذيب في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن محمد بن قيس عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه
فإنه ميت وكلوا ما أدركتم حيا وذكرتم اسم الله عليه». ومنها ـ ما رواه ايضا عن
الوشاء عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما
أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه». وليس في التهذيب «ثم كل منه» ومنها ـ ما
رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ما أخذت الحبالة فانقطع منه شيء أو مات فهو
ميتة». ومنها ـ ما رواه عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما
أدركت من سائر جسده فذكه ثم كل منه». ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن أيوب بن
نوح رفعه الى الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة». ومنها ـ ما
رواه في الكافي عن الحسن ابن علي الوشاء قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) فقلت جعلت فداك ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم
فيقطعونها؟ فقال حرام وهي ميتة. فقلت جعلت فداك فنصطبح بها؟ فقال اما علمت انه
يصيب اليد والثوب وهو حرام». وعن الكاهلي قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده عن قطع أليات الغنم فقال لا بأس بقطعها إذا
كنت تصلح بها مالك ، ثم قال ان في كتاب علي (عليهالسلام) ان ما قطع منها ميت لا ينتفع به». وعن ابي بصير عن
الصادق (عليهالسلام) قال :
__________________
«في أليات الضأن تقطع وهي أحياء؟ إنها ميتة».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان ما ذكره في المدارك من اعتراضه على كلام المنتهى بان ضعفه ظاهر منظور فيه
من وجوه :
(الأول) ـ انه
لا يخفى ان ما نقلناه من الأخبار المذكورة صريحة الدلالة واضحة المقالة في نجاسة
الاجزاء المقطوعة من الحي وانها ميتة فقوله : «إذ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة
جسد الميت» ليس في محله بل كما يستفاد منها نجاسة جسد الميت بالموت كذلك يستفاد
منها نجاسة ما تحله الحياة بالإبانة منه حيا. وبذلك يظهر ما في كلام صاحب المعالم
ايضا حيث انه أورد في المقام روايات الاليات الثلاث خاصة وقال : في الأولى اشعار
بالنجاسة لكن في طريقها ضعف ، وقال في الأخيرتين انه لو تم سنداهما لاحتاجا في
الدلالة على النجاسة إلى وجود دليل عام في نجاسة الميتة ليكون إثبات كون المنقطع
ميتة مقتضيا لدخوله في عموم الدليل على نجاسة الميتة ، وقد علم ان العمدة في
التعميم الإجماع المدعى في كلام الأصحاب ، وحينئذ فالتمسك به موقوف على كونه
متناولا لهذا المنقطع ومعه لا حاجة الى توسيط الاحتجاج بما دل على انه ميتة ، وعلى
كل حال فالحكم هنا ليس بموضع خلاف. انتهى فان فيه ان الروايات الدالة على ما ذكرنا
هنا ليست منحصرة في الثلاث التي ذكرها بل فيها الصحيح باصطلاحه والحسن الذي لا
يقصر عن الصحيح عندهم ولكنه معذور حيث لم يقف على ذلك ، واما المستند في أصل نجاسة
الميتة فهو الأخبار التي قدمناها لا الإجماع الذي زعمه حسبما تقدم إيضاحه ، ولكنهم
حيث لم يعطوا النظر حقه في التتبع لأدلة المسألة واخبارها خصوصا مع تفرقها في
أبواب شتى ووقعوا فيما وقعوا فيه من هذه المناقشات كما لا يخفى.
(الثاني) ـ ان
تنظره في القطعة المبانة من الميت ـ وقوله : لا يخفى ما فيه ـ مردود بأن النجاسة
إذا تعلقت بجملة تعلقت باجزائها وليس تعلقها بالمجموع من حيث كونه مجموعا وكيف لا
وهو (قدسسره) قد استدل على نجاسة ما لا تحله الحياة من الكلب
والخنزير
بأنه داخل في مسماه ولا شك ان الكلب والخنزير اسم للجملة.
(الثالث) ـ لا
يخفى ان المستفاد من الاخبار ان الطهارة والنجاسة دائرة مدار حلول الحياة وعدمه
ولهذا كما وردت الأخبار المتقدمة بنجاسة القطعة المبانة من الحي وانها ميتة قد
وردت الأخبار ايضا باستثناء تلك العشرة التي لا تحلها الحياة وحكم بطهارتها من
الميتة من حيث انها لا تحلها الحياة ، وقد صرح بذلك في صحيحة الحلبي الآتية ان شاء
الله تعالى فقال : «ان الصوف ليس فيه روح». وقد أومأ هو (قدسسره) في تلك المسألة الى ما ذكرناه حيث قال بعد ذكره هذا
الكلام من الصحيحة المذكورة : «ومقتضى التعليل طهارة كل ما لا روح فيه» وبما
أوضحناه يظهر لك قوة ما ذكره العلامة وضعف ما أورده عليه.
تذنيب
قال العلامة في
المنتهى : الأقرب طهارة ما ينفصل من بدن الإنسان من الاجزاء الصغيرة مثل البثور
والثالول وغيرهما لعدم إمكان التحرز عنها فكان عفوا دفعا للمشقة. واعترضه في
المعالم فقال : «ويظهر من تمسكه بعدم إمكان التحرز انه يرى تناول دليل نجاسة
المبان من الحي لها وان المقتضى لاستثنائها من الحكم بالتنجيس والقول بطهارتها هو
لزوم الحرج والمشقة من التكليف بالتحرز عنها ، وهذا عجيب فان الدليل على نجاسة
المبان من الحي كما علمت اما الإجماع أو الاخبار التي ذكرناها أو الاعتباران
اللذان حكيناهما عن بعض الأصحاب اعني مساواة الجزء للكل ووجود معنى الموت فيه
والإجماع لو كان متناولا لما نحن فيه لم يعقل الاستثناء منه ، والأخبار على تقدير
صحتها ودلالتها وعمومها انما تقتضي نجاسة ما انفصل في حال وجود الحياة فيه لا ما
زالت عنه الحياة قبل الانفصال كما في موضع البحث ، والنظر الى ذينك الاعتبارين
يقتضي ثبوت
__________________
التنجيس وان لم تنفصل تلك الاجزاء لتحقق معنى الموت فيها قبله ولا ريب في
بطلانه. والتحقيق انه ليس لما يعتمد عليه من أدلة نجاسة الميتة وأبعاضها وما في
معناها من الاجزاء المبانة من الحي دلالة على نجاسة نحو هذه الأجزاء التي يزول
عنها اثر الحياة في حال اتصالها بالبدن فهي على أصل الطهارة ، وإذا كان للتمسك
بالأصل مجال فلا حاجة الى تكلف دعوى لزوم الحرج» انتهى كلامه (قدسسره) وهو جيد رشيق.
واستدل في
المدارك على الطهارة أيضا مضافا الى أصالة الطهارة السالمة من المعارض بصحيحة علي
بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل
يصلح له ان يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال
ان لم يتخوف ان يسيل الدم فلا بأس وان تخوف ان يسيل الدم فلا يفعل». قال : وترك
الاستفصال عقيب السؤال يفيد العموم. وأورد على ذلك ان الظاهر من صحيحة علي بن جعفر
ان السؤال فيها ليس عن طهارة ما يقطع من الثالول أو نجاسته بل عن كون هذا الفعل في
الصلاة من المنافيات لها أم لا فإنه سأله أيضا قبل هذا السؤال فقال : «وسألته عن
الرجل يتحرك بعض أسنانه وهو في الصلاة هل يصلح له ان ينزعه ويطرحه؟ قال ان كان لا
يجد دما فلينزعه وليرم به وان كان دمي فلينصرف». ثم قال : «وسألته عن الرجل يكون
به الثالول. إلخ» وحينئذ فالغرض من السؤال انما هو استعلام كون هذا الفعل في
الصلاة مما ينافيها أم لا؟ فأجاب (عليهالسلام) بأنه لا ينافيها لانه ليس بفعل كثير تنمحي به الصلاة ،
نعم ان استلزم خروج الدم كالضرس في السؤال الأول أبطل من حيث الدم. انتهى.
والجواب ان
الأمر وان كان كما ذكره من ان السؤال انما هو عن كون الفعل المذكور قاطعا للصلاة
أم لا إلا ان ظاهر إطلاق نفي البأس عن مس هذه الاجزاء في الصلاة ونتفها أعم من كون
المس برطوبة أو يبوسة مما يشهد بالطهارة ، إذ المقام مقام
__________________
تفصيل كما يدل عليه اشتراط نفي البأس بانتفاء تخوف سيلان الدم ، فلو كان مس
تلك الاجزاء مقتضيا للتنجيس ولو على بعض الوجوه لم يحسن هذا الإطلاق بل كان اللائق
البيان كما وقع في خوف السيلان ، وحينئذ فظاهر الإطلاق الطهارة في الحالين وبه يتم
الاستدلال وبالجملة فالظاهر انه لا خلاف في القول بالطهارة وان اختلفوا في الدليل
على ذلك ، والتمسك بأصالة الطهارة ـ سيما مع الاعتضاد بظاهر الصحيحة المذكورة
بالتقريب المذكور ـ أقوى متمسك في المقام ، والاحتياط لا يخفى. والله العالم.
(المسألة
الثالثة) ـ اتفق الأصحاب من غير خلاف يعرف على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة
، وهي عشرة : العظم والظفر والظلف والقرن والحافر والشعر والوبر والصوف والريش
والبيض إذا اكتسى القشر الأعلى ، كذا نقله في المدارك بعد ان ذكر انه حصر ذلك في
عشرة أشياء ثم عد العشرة المذكورة ، وفي المعالم وكذا في المنتهى ذكر العشرة ولكن
ذكر الانفحة مكان الظفر ، وفي المدارك بعد ان عد العشرة المذكورة ونقل بعض أخبار
المسألة قال ويستفاد من صحيحة زرارة استثناء الإنفحة أيضا ، وهو مقطوع به في كلام
الأصحاب ، وظاهر المنتهى انه مجمع عليه بين الأصحاب. وفيه انه كان الواجب بمقتضى
هذا الكلام جعل الانفحة من جملة الأفراد التي عدها أولا وان زادت على العشرة مع
انه ادعى في صدر كلامه الحصر في العشرة التي ذكرها وهل هذا إلا تدافع ظاهر؟ وكيف
كان فالواجب ذكر أخبار المسألة كملا مما وصل إلينا نقله ثم تذييلها بما تضمنته من
الأحكام المتعلقة بذلك :
فأقول : من
الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة ، ان
الصوف ليس فيه روح». وفي هذا الخبر ما يدل على طهارة ما لا روح فيه مطلقا إذ
الظاهر ان قوله (عليهالسلام) : «ان الصوف ليس فيه روح» وقع تعليلا لنفي البأس عن
الصلاة فيه
__________________
وما رواه الشيخ
ومثله الصدوق في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت؟ قال لا
بأس به. قلت اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال لا بأس به. قلت والصوف والشعر
وعظام الفيل والجلد والبيضة تخرج من الدجاجة؟ قال كل هذا لا بأس به». والجلد في
الخبر ليس في الفقيه وهو الأصح ، والظاهر انه من سهو قلم الشيخ (قدسسره) كما لا يخفى.
وما رواه الشيخ
في الحسن عن حريز قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) لزرارة ومحمد بن مسلم : اللبن واللبأ والبيضة والشعر
والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي ، وان
أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه».
وعن إسماعيل بن
مرار عن يونس عنهم (عليهمالسلام) قال : «خمسة أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق : الانفحة
والبيض والصوف والشعر والوبر ، ولا بأس بأكل الجبن كله مما عمله مسلم أو غيره
وانما يكره ان يؤكل سوى الانفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقون
الميتة والخمر».
وعن الحسين بن
زرارة في الموثق أو الحسن قال : «كنت عند ابي عبد الله (عليهالسلام) وابي يسأله عن السن من الميتة واللبن من الميتة والبيضة من الميتة وإنفحة الميتة؟ فقال كل هذا ذكي». قال
في الكافي : وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن بن رباط قال : «والشعر والصوف كله
ذكي». وقال في الكافي أيضا : وفي رواية صفوان عن الحسين بن زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الشعر والصوف والوبر والريش وكل نابت لا يكون
ميتا. قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال تأكلها».
__________________
وما رواه في
الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن الباقر (عليهالسلام) في حديث طويل قال فيه : «قال قتادة فأخبرني عن الجبن
فتبسم أبو جعفر (عليهالسلام) ثم قال رجعت مسائلك الى هذا؟ قال ضلت عني. فقال لا بأس
به. فقال انه ربما جعلت فيه إنفحة الميت؟ قال ليس بها بأس ان الإنفحة ليس لها عروق
ولا فيها دم ولا لها عظم انما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال وان الإنفحة بمنزلة
دجاجة ميتة خرجت منها بيضة فهل تأكل البيضة؟ قال لا ولا آمر بأكلها. فقال أبو جعفر
(عليهالسلام) ولم؟ قال لأنها من الميتة. قال له فان حضنت تلك البيضة
فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال نعم. قال فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة؟ ثم
قال (عليهالسلام) فكذلك الانفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق
المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه الا ان يأتيك من يخبرك عنه».
وروى الصدوق في
الفقيه مرسلا قال قال الصادق (عليهالسلام): «عشرة أشياء من الميتة ذكية : القرن والحافر والعظم
والسن والانفحة واللبن والشعر والصوف والريش والبيض».
ورواه في
الخصال مسندا عن محمد بن ابي عمير رفعه الى الصادق (عليهالسلام) مثله مع مخالفة في الترتيب. وما رواه الشيخ عن غياث بن
إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) «في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة؟ قال ان كانت البيضة اكتست الجلد الغليظ
فلا بأس بها».
وما رواه في
الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها
إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب وكل ما كان من السخال من الصوف ان
جز والشعر والوبر والانفحة والقرن ولا يتعدى الى غيرها ان شاء الله تعالى». قال
بعض المحدثين من المحققين «هكذا وجد هذا الحديث في نسخ الكافي والتهذيبين وكأنه
سقط منه شيء» انتهى. وهو كذلك
__________________
وما رواه في
التهذيب في باب الذبائح والأطعمة في الحسن عن صفوان عن الحسين بن زرارة عن الصادق (عليهالسلام) «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فاشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم
، وقال يدبغ فينتفع به ولا يصلى فيه. قال الحسين : وسأله ابي عن الانفحة تكون في
بطن العناق أو الجدي وهو ميت؟ فقال لا بأس به. قال الحسين : وسأله ابي وانا حاضر
عن الرجل يسقط سنه فيأخذ سن انسان ميت فيجعله مكانه؟ فقال لا بأس. وقال عظام الفيل
تجعل شطرنجا؟ فقال لا بأس بمسها. وقال أبو عبد الله (عليهالسلام) العظم والشعر والصوف والريش وكل نابت لا يكون ميتا.
قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال لا بأس بأكلها». أقول عجز
هذه الرواية هو الذي تقدم نقل صاحب الكافي له بقوله : وفي رواية صفوان عن الحسين
بن زرارة. إلخ
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الكلام هنا يقع في مواضع (الأول) ـ انه لا يخفى على من لاحظ الأخبار التي
قدمناها في نجاسة الميتة دلالتها على الحكم المذكور الشامل لجميع أجزاء الميتة من
هذه العشرة وغيرها ، وان هذه العشرة إنما استثنيت وخرجت عن الحكم المذكور بهذه
الأخبار المذكورة هنا الصريحة في طهارتها المعبر عنها في جملة من هذه بأنها ذكية
اي طاهرة وفي بعض بأنها لا تحلها الروح كما أشير إليه في صحيحة الحلبي وفي حديث
أبي حمزة الثمالي من قوله (عليهالسلام) في الانفحة «انها ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها
عظم» فان الظاهر من سياق هذا الكلام الاستدلال على نفي البأس عن الإنفحة انما هو
من حيث ما ذكرناه الموجب لطهارتها ، والوجه فيه ان العرق مما تحله الحياة واما
الدم فهو مادة الحياة ولذا يطلق عليه النفس كما صرح به أهل اللغة ووقع التعبير به
في كلام الفقهاء من قولهم ذي النفس السائلة أي الدم الجاري من العرق بعد قطعه بقوة
ودفع ، واما العظم فإنه وان لم تحله الحياة في حد ذاته لكنه مستلزم لكون ما وقع
فيه مما
__________________
تحله الحياة البتة ومتعلقا للروح ، ألا ترى انه يجب في القطعة المشتملة على
العظم غسلها وتكفينها وان لم يجب ذلك في العظم وحده فوجوده مؤكد لتعلق الروح فيما
نحن فيه.
وبما ذكرنا
يظهر لك ما في كلام المحقق الخوانساري في شرح الدروس من المناقشة هنا في دلالة
الأخبار المذكورة على الاستثناء والاستناد في طهارة هذه الأشياء الى الأصل
والاتفاق على الحكم المذكور ، حيث قال في بيان الدليل على طهارة هذه الأشياء : «واما
الثاني فالدليل على طهارتها أصالة الطهارة إذ عموم دلالة نجاسة الميتة بحيث يشمل
هذه الاجزاء غير ظاهر كما عرفت ، والاتفاق ظاهرا ، وعدم صدق اسم الميتة عليها لان
الموت فرع الحياة. ولا يخفى انه لو كان نص يدل على ان الميتة نجسة فلا يبعد ان
يقال ان الظاهر ان جميع أجزائها نجسة كما يقولون ان جميع اجزاء الكلب مثلا نجس باعتبار
انه وجد النص بنجاسة الكلب وهو ظاهر في نجاسة جميع اجزائه ، وكون بعض اجزائها مما
لا تحله الحياة لا يقدح فيه. فالعمدة عدم وجود النص الدال على تعليق الحكم
بالنجاسة على الميتة كما يقولون لا عدم حلول الحياة ، وكيف وظاهر ان زوال الحياة
ليس سببا للنجاسة وإلا لزم ان يكون الحيوان الذكي ايضا نجسا بل عدم التذكية يصير
سببا لنجاسة الحيوان ، ولا استبعاد في ان يصير سببا لنجاسة جميع اجزائه سواء حلته
الحياة أولا» انتهى.
أقول : فيه ما
عرفت من وجود الدليل على نجاسة الميتة وانه عام لجميع اجزائها بالتقريب الذي ذكره
في الكلب ، وانما خرجت هذه العشرة المذكورة هنا بهذه الأخبار فهي مخصصة لعموم تلك
الأخبار ومقيدة لإطلاقها كما هي القاعدة المطردة في مقام اجتماع العام والخاص
والمطلق والمقيد. واما قوله ـ انه مع عموم تلك الأخبار فكون بعض اجزائها مما لا
تحله الحياة لا يقدح في العموم ـ فمردود بان القادح في العموم انما هو اشتمال جملة
من هذه الأخبار على كون هذه الأشياء ذكية وجملة منها على نفي البأس الظاهر كل
منهما في الطهارة وان كان الأول أشد ظهورا وان وقع التعبير في بعضها
بكونه مما لا تحله الحياة إلا أن المنافاة الموجبة لتقييد إطلاق تلك
الأخبار انما هو من حيث دلالة هذه الأخبار على الطهارة بهذه الألفاظ الدالة على
ذلك ومقتضى القاعدة كما عرفت تقييد إطلاق تلك الاخبار بهذه ، وحينئذ فما ادعاه ـ من
انه مع وجود النص الدال على نجاسة الميتة فإنه يشمل جميع هذه الأشياء المذكورة وان
هذه الأخبار لا تفيد تخصيصا ولا تقييدا لها لعدم ظهور الدلالة على الطهارة حتى انه
انما التجأ إلى أصالة الطهارة والاتفاق ظاهرا وعدم صدق الميتة عليها ـ غلط محض حيث
انه غفل عما اشتملت عليه هذه الأخبار من الألفاظ الظاهرة وانما تعلق باشتمال بعضها
على عدم حلول الحياة ورتب عليه ما ذكره من المناقشة ، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه
ظاهر لا سترة عليه.
(الثاني) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم الفرق في الحكم بطهارة الصوف والشعر والريش
والوبر بين كونها مأخوذة من الميتة بطريق الجز أو القلع إلا انه يحتاج في صورة
القلع الى غسل موضع الاتصال من حيث ملاقاة الميتة بالرطوبة. ويدل على ذلك (أولا) ـ
إطلاق الأخبار المتقدمة إذ لا تصريح فيها بالجز ولا غيره. و (ثانيا) حسنة حريز
المتقدمة في صدر المسألة حيث اشتملت على الأمر بغسل هذه الأشياء بعد أخذها من
الميتة ، ومن الظاهر انه لا وجه للأمر بالغسل مع الجز بل الظاهر ان المراد انما هو
قلعها والخبر المذكور قد صرح بأنه ذكي في الصورة المذكورة اي طاهر فالخبر ظاهر
الدلالة على الطهارة في صورة القلع.
وذهب الشيخ في
النهاية إلى اشتراط الجز وخص الطهارة بذلك ، ونقل عنه انه علل ذلك بان أصولها
المتصلة باللحم من جملة اجزائه وانما يستكمل استحالتها الى أحد المذكورات بعد
تجاوزها عنه. ورد (أولا) بالمنع لانه يصدق على المجموع من المتصل باللحم والمتجاوز
عنه اسم هذه الأشياء وهو لا يجامع كون شيء منها جزء من اللحم. و (ثانيا) ـ ما
قدمنا من إطلاق الأخبار والتقييد يحتاج الى دليل وليس فليس ، مضافا الى ما عرفت
مما دلت عليه حسنة حريز المشار إليها.
قال المحقق
الخوانساري في شرح الدروس : «ثم ان حكم الأصحاب بالغسل في صورة القلع فبناء على
عموم نجاسة الملاقي للنجس بالرطوبة والميتة نجسة وأصول هذه الأشياء ملاقية لها
بالرطوبة فيجب غسلها ، ويدل عليه أيضا حسنة حريز المذكورة مع معاضدة الاحتياط. ولا
يذهب عليك ان الأحوط عدم الاكتفاء بغسل موضع الاتصال بل غسل جميعها بل على تقدير
الجز أيضا لأن الرواية المذكورة المتضمنة للأمر بالغسل مطلقة لا تقييد فيها بموضع
الاتصال وحالة القلع» انتهى.
ولا يخلو من
غرابة أما (أولا) ـ فلتصريح الأخبار المذكورة بطهارة هذه الأشياء وانها ذكية ،
مضافا الى اتفاق الأصحاب وأصالة الطهارة وعدم صدق الميتة عليها كما تقدم في كلامه
الذي قدمنا ذكره في سابق هذا الموضع. و (اما ثانيا) ـ فان غسل موضع الملاقاة
للميتة وجهه ظاهر واما ما عدا موضع الملاقاة وكذا ما أخذ جزا فما وجه الاحتياط في
غسله مع الوجوه المذكورة؟ والرواية التي أشار إليها وان كانت مطلقة لكنها معارضة
فيما عدا موضع الملاقاة بالأدلة المذكورة الدالة على الطهارة فلا بد من تخصيصها
بموضع الملاقاة كما ذكرناه جميعا بينها وبين تلك الأدلة ، ولو قام مثل هذا
الاحتياط في المقام لجرى في جميع الأشياء المحكوم بطهارتها ، وبالجملة فإن ما ذكره
(قدسسره) لا اعرف له وجها بالكلية.
هذا ، وظاهر
حسنة حريز المشار إليها ان حكم القرن والناب والحافر ومثلها الظلف والظفر حكم ما
ذكر في الصوف والشعر والريش والوبر من انها متى أخذت بالقلع من الميتة فإنه يغسل
موضع الملاقاة منها بالتقريب المتقدم في الشعر وأشباهه وانها لو أخذت بالكسر أو
البري بسكين ونحوها فإنه يكون كالجز بالنسبة إلى تلك الأشياء وخلاف الشيخ يجري هنا
في القلع ايضا بالتقريب الذي قدمنا نقله عنه إلا اني لم أقف على من ذكر ذلك من
الأصحاب ومقتضى ظاهر الحسنة المشار إليها وكذا تعليل الشيخ المتقدم هو ما ذكرناه.
(الثالث) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا فرق في الحكم بطهارة هذه الأشياء من الميتة
بين كون الميتة مما يؤكل لحمه لو ذكى ولا غيره ، وقال العلامة في النهاية : أما
بيض الجلال وما لا يؤكل لحمه مما له نفس سائلة فالأقوى فيه النجاسة ، ونحوه ذكر في
المنتهى ايضا ، نقل ذلك في المعالم وقال بعد نقل الحكم المذكور لا نعرف فيه خلافا
إلا من العلامة ثم نقل كلامه في الكتابين المذكورين.
وقال : ولا نرى
لكلامه وجها ولا عرفنا له عليه موافقا وقد نص الشهيد في الذكرى على عدم الفرق واما
الإنفحة من غير المحلل كالموطوء ففي طهارتها احتمالان منشأهما من كون أكثر الأخبار
الدالة على طهارتها واردة بالحل أو مسوقة لبيانه ومنه استفيدت الطهارة وذلك مفقود
في غير المحلل ، ومن عدم الدليل العام على نجاسة الميتة بحيث يتناول أمثال هذه
الاجزاء كما أشرنا اليه ومقتضى الأصل هو الطهارة الى ان يقوم الدليل على خلافها
ولا دليل ، ولم أقف لأحد من الأصحاب في ذلك على كلام وربما يكون إطلاقهم الحكم
بالطهارة قرينة على عدم التفرقة ، ولا يخفى ان فرق العلامة في حكم البيض يقتضي
الفرق هنا ايضا. انتهى.
أقول : فيه ان
ما ذكره بالنسبة إلى الانفحة في الاحتمال الثاني من عدم الدليل العام على نجاسة
الميتة مردود بما قدمنا ذكره من الاخبار الدالة على ذلك وما ذيلناها به من التقريب
الدال على النجاسة ، ومتى ثبت ذلك استلزم القول بنجاسة جميع اجزائها بالتقريب
المتقدم في الكلب ونحوه من نجس العين كما سيجيء تحقيقه ايضا ان شاء الله تعالى في
المقام والاعتراف بذلك من جملة من علمائنا الاعلام. واما قوله : «وربما يكون
إطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم الحكم بالتفرقة» فهو معارض بان اتفاقهم على
الحكم بنجاسة الميتة ـ كما اعترف به سابقا من انه لا مستند لهذا الحكم إلا اتفاقهم
المستلزم كما عرفت للحكم بنجاسة كل جزء جزء من اجزاء الميتة ـ موجب للحكم بالنجاسة
في الانفحة فيبقى الوجه الأول من الاحتمالين المذكورين في كلامه سالما عن
المعارض وينتفي ما ادعاه من التمسك بمقتضى الأصل فإنه يجب الخروج عنه
بالدليل ، وقد دل على نجاسة الميتة الشامل ذلك للانفحة وغيرها خرج من ذلك ما دلت
عليه الاخبار الدالة على طهارتها من حيث الحل كما ذكره وبقي ما كان من غير المحلل
على النجاسة ، على ان ما ذكره من كون أكثر الأخبار الدالة على طهارتها واردة بالحل
أو مسوقة لبيانه محل نظر. فان ظاهر سياقها انما هو بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة
لا الحل والحرمة كما ادعاه ، والذي قدمناه من الروايات المشتملة على الإنفحة صحيحة
زرارة وفيها نفي البأس إلا ان موردها الجدي الذي هو مأكول اللحم ، ورواية يونس وهي
مطلقة بالنسبة إلى الحيوان المأكول وغيره وذكر الانفحة فيها في سياق الصوف والشعر
والوبر والحكم فيها بأنها ذكية أظهر ظاهر في ان المراد انما هو الطهارة لا الحل
فان ما ذكره معها من الصوف وما بعده ليس من المأكولات ، ونحوها موثقة الحسين بن
زرارة حيث ذكر فيها انها ذكية اي طاهرة ، سيما بإضافة الزيادة المنقولة من الكافي
عن علي بن عقبة وعلي بن رباط بإضافة الشعر والصوف ، ومرسلة الصدوق في الفقيه
المسندة في الخصال المشتملة على عد العشرة كملا بالحكم بكونها من الميتة ذكية فإنه
ظاهر في الطهارة لا في الحل ، وكذلك رواية الجرجاني ، فأين أكثر الأخبار الواردة
بالحل أو المسوقة لبيانه؟ نعم ذكر الحل وقع في حديث الثمالي إلا ان ظاهر سياقه ان
الكلام في الحل والحرمة انما وقع تفريعا على الطهارة والنجاسة ، حيث انه (عليهالسلام) لما نفى البأس عن الجبن وأحل أكله عارضه السائل بأنه
تجعل فيه الانفحة وهي نجسة لأخذها من الميتة فأجاب (عليهالسلام) بأن الانفحة طاهرة لأنها ليست مما تحله الحياة
بالتقريب الذي قدمنا ذكره في الموضع الأول ثم نظر له بالبيضة المأخوذة من الميتة ،
فذكر الحل في الخبر انما وقع بطريق العرض والا فاصل الكلام انما هو في الطهارة
والنجاسة ، ومثلها تتمة حديث يونس بالتقريب المذكور ، على ان لفظ الحل في الاخبار
ربما استعمل في حل الاستعمال وهو شائع سيما في هذا المقام في كلام الفقهاء فإنهم
يعبرون في هذا المقام عن
طهارة الصوف والشعر ونحوهما من القرن والظلف وغيرهما بالحل وانها تحل من
الميتة وليس المراد إلا حل استعمالها كما لا يخفى على من راجع عباراتهم. والعجب
ايضا من متابعة الفاضل الخراساني في الذخيرة له على ذلك حيث انه جرى على ما جرى
عليه وذكر ذلك وان لم يسنده اليه.
(الرابع) ـ قد
اختلف كلام أهل اللغة في معنى الانفحة والظاهر انه بسبب ذلك اختلف كلام أصحابنا (رضوان
الله عليهم) في ذلك ، فعن الصحاح ان الإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة كرش
الحمل والجدي ما لم يأكل. وقال في القاموس : «الانفحة بكسر الهمزة وتشديد الحاء
وقد تكسر الفاء والمنفحة والتنفحة : شيء يستخرج من بطن الجدي الراضع اصفر فيعصر
في صوفة فيغلظ كالجبن فإذا أكل الجدي فهو كرش ، وتفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو»
وقال الفيومي في المصباح المنير : «والانفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء وتثقيل الحاء
أكثر من تخفيفها قال ابن السكيت وحضرني أعرابيان فصيحان من بني كلاب فسألتهما عن
الانفحة فقال أحدهما لا أقول إلا إنفحة يعني إلا بالهمزة وقال الآخر لا أقول إلا
منفحة يعني إلا بميم مكسورة ثم افترقا واتفقا على ان يسألا جماعة من بني كلاب
فاتفقت جماعة على قول هذا وجماعة على قول هذا فهما لغتان ، والجمع انافح ومنافح ،
قال الجوهري الإنفحة هي الكرش ، وفي التهذيب لا تكون الانفحة إلا لكل ذي كرش ، وهو
شيء يستخرج من بطنه اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا يسمى
إنفحة إلا وهو رضيع فإذا رعى قيل استكرش اي صارت انفحته كرشا. ونقل ابن الصلاح ما
يوافقه فقال الانفحة ما يؤخذ من الجدي قبل ان يطعم غير اللبن فان طعم غيره قبل
مجبنة. وقال بعض الفقهاء ويشترط في طهارة الإنفحة ان لا تطعم السخلة غير اللبن
وإلا فهي نجسة وأهل الخبرة بذلك يقولون إذا رعت السخلة وان كان قبل الفطام استحالت
الى البعر» انتهى كلام صاحب المصباح. وقال في مجمع البحرين : والانفحة بكسر
الهمزة وفتح الفاء مخففة وهي كرش الحمل والجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش
حكاه الجوهري عن ابي زيد ، وفي المغرب إنفحة الجدي بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف
الحاء وتشديدها وقد يقال منفحة أيضا وهو شيء يخرج من بطن الجدي اصفر يعصر في صوفة
مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا يكون إلا لكل ذي كرش ، ويقال انها كرشه إلا انه
ما دام رضيعا سمي ذلك الشيء إنفحة فإذا فطم ورعى العشب قيل استكرش انتهى. وقال
ابن إدريس في السرائر : والانفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء كرش الحمل والجدي ما لم
يأكل فإذا أكل فهو كرش وفسرها العلامة على ما نقله في المعالم في جملة من كتبه بما
يوافق كلام القاموس فقال انها لبن مستحيل في جوف السخلة.
وأنت خبير بأنه
قد علم من ذلك الاختلاف في الانفحة بين كونها عبارة عن الكرش أو عن ذلك الشيء
الأصفر الذي يعصر في صوفة مبتلة فيغلظ ، ويمكن ترجيح الثاني بقوله (عليهالسلام) في رواية الثمالي «إنما تخرج من بين فرث ودم». فان
الظاهر انه اشارة إلى قوله عزوجل : «وَإِنَّ
لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ» قال في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس قال : «إذا استقر
العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق
واللبن في الضرع ويبقي الفرث كما هو» انتهى. ومقتضى ذلك ان اللبن الذي تشربه
السخلة يصير بعد وصوله الى الكرش الى هذه الأقسام الثلاثة ثالثها هو هذا الشيء
الأصفر الذي ذكره أهل اللغة وان كان بعد رعيه العلف يضمحل ذلك ولا يصير كذلك وانما
يبقى الفرث وهو التفل والدم خاصة. ويمكن ايضا ان يقال ـ وهو الأنسب بكلام أهل
اللغة القائلين بأن الانفحة عبارة عن ذلك الشيء الأصفر ما دام يغتذي باللبن وإذا
اغتذى بالعلف صار كرشا ـ انه في حال الاغتذاء باللبن ليس له كرش وانما الذي يتحول
إليه لبنه الذي يشربه هذا الشيء الأصفر مع التفل والدم وبعد رعيه يصير هذا الشيء
الأصفر
__________________
كرشا ، وبه ينطبق الخبر المذكور على كلام أهل اللغة انطباقا ظاهرا.
هذا ، وقد
اضطرب كلام جملة من أفاضل المتأخرين في هذا المقام في الحمل على اي المعنيين
المذكورين ، من جهة انهم حكموا في الصوف والشعر ونحوهما مما يؤخذ قلعا من الميتة
بوجوب الغسل كما تقدم من حيث ملاقاة الميتة برطوبة بناء على القاعدة المقررة بينهم
من ان ملاقي النجس مع الرطوبة ينجس ، وحينئذ فبعضهم رجح تفسير الانفحة بالكرش دون
ذلك الشيء الأصفر لأن ذلك الشيء الأصفر وان كان طاهرا بمقتضى ظاهر الاخبار على
تقدير تفسير الانفحة به إلا انه ينجس بملاقاة الجلد الذي يحويه فيمنع من الانتفاع
به ويحكم بنجاسته ، واما الكرش فإنه مع تفسير الانفحة به يكون طاهرا بمقتضى
الأخبار المذكورة. وهل يحتاج ظاهره الى تطهير من حيث الملاقاة لباطن الميتة وان
كانت ذاته طاهرة؟ احتمالان نقل في المعالم عن والده في بعض فوائده انه اختار الأول
ثم نقل عنه انه توقف في الروضة. قال ولا نعلم من الأصحاب مصرحا بالثاني وربما كان
في إطلاقهم الحكم بالطهارة إشعار به. وقال في الذكرى الاولى تطهير ظاهرها من
الميتة للملاقاة. انتهى. وقال في المدارك : في وجوب غسل الظاهر من الانفحة والبيضة
وجهان أظهرهما العدم للأصل وإطلاق النص ، وظاهر كلام المنتهى يعطي الوجوب وهو أحوط.
انتهى. وقال الفاضل الخوانساري في شرح الدروس بعد نقل الخلاف في المسألة : «والظاهر
تفسير العلامة لأنه يظهر من الروايات المذكورة ان الإنفحة شيء يصنع به الجبن ،
والظاهر ان الجبن انما يعمل من الشيء الذي في جوف السخلة مثل اللبن لا من كرشها
الذي هو للحيوان بمنزلة المعدة للإنسان ، وما في رواية الثمالي من انها تخرج من
بين فرث ودم يشعر أيضا بأنه مثل اللبن ، وعلى هذا فالظاهر ان الكرش محلها» انتهى.
وفيه انه متى فسر الانفحة بذلك الشيء الأصفر فهب أنها طاهرة للنصوص إلا ان هذا
الكرش الذي جعله محلها نجس البتة فيعود الاشكال كما تقدم ذكره وبالجملة فإنه لا
يخفى ان مقتضى تصريحهم بتعدي النجاسة للصوف المقلوع ونحوه
مضافا الى القاعدة المتقدمة هو النجاسة ووجوب التطهير من حيث الملاقاة وان
كانت طاهرة في حد ذاتها بأي المعنيين اعتبرت ، إلا ان يقال بان مقتضى الوقوف على
ظواهر النصوص المذكورة هو التطهير بالنسبة إلى الصوف ونحوه حيث دلت على ذلك حسنة
حريز المتقدمة ، ولا منافاة في الحكم بطهارة الانفحة بأي المعنيين المذكورين
اعتبرت واستثناء ذلك من حكم ملاقاة النجاسة كما سيأتي مثله في اللبن في ضرع الميتة
، ولعل وجه الاستثناء هو حكم الضرورة بالحاجة إلى الانفحة كما يشعر به خبر يونس من قوله (عليهالسلام): «خمسة أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق : الانفحة
والبيض والصوف والشعر والوبر». وحينئذ فيزول الاشكال من هذا المجال.
بقي الكلام هنا
في بعض ما يتعلق بالمقام وهو أمران : (الأول) ـ ان ظاهر كلام أهل اللغة الذي
قدمناه هو ان الإنفحة مخصوصة بما إذا لم يرع وإلا فلو رعى لم يسم إنفحة وانما يقال
كرش مع ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال : والانفحة طاهرة من الميتة والمذبوحة وان
أكلت السخلة غير اللبن. ولا ريب في ضعفه حيث ان كلامهم متفق على تخصيص ذلك بما إذا
كان اعتياده على اللبن ومع أكل غيره انما يقال كرش لا إنفحة
(الثاني) ـ قال
في المدارك بعد ذكر الانفحة : «واختلف كلام أهل اللغة في معناها فقيل انها كرش
السخلة قبل ان تأكل ، وقيل انها شيء اصفر يستخرج من بطن الجدي ، ولعل الثاني أولى
اقتصارا على موضع الوفاق وان كان استثناء نفس الكرش ايضا غير بعيد تمسكا بمقتضى
الأصل» انتهى.
وأنت خبير (أولا)
ـ بان ما علل به أولوية الثاني من الاقتصار على موضع الوفاق لا اعرف له وجها ظاهرا
مع ما عرفت من الخلاف في المسألة وتقابل القولين فيها نعم لو كان القائل بأن
الانفحة عبارة عن الكرش يعنى الكرش وما فيه ومن جملته ذلك الشيء الأصفر فيكون
القول بالكرش أعم مطلقا فإنه يتم ما ذكره لكن لم أقف
__________________
على من صرح بذلك من الأصحاب ولا من أهل اللغة بل ظاهر الجميع تباين
القولين.
و (ثانيا) ـ ان
ما ذكره من التمسك بالأصل مردود بما عرفت من عموم نجاسة الميتة الموجب لتنجيس ما
لاقاها برطوبة ، والكرش وان كان طاهرا بالذات من حيث استثناء الروايات إلا انه نجس
بالعرض ، إلا انه نجس بالعرض ، إلا ان يجاب عن الاشكال المذكور بما ذكرناه
(الخامس) ـ ان
جملة من الأخبار المتقدمة قد دلت على استثناء البيضة كجملة ما ذكر من العشرة.
وظاهر إطلاقها الحكم بالطهارة وان لاقت الميتة بالرطوبة مع مخالفة ذلك لما عرفت في
الصوف ونحوه من انه متى أخذ بالقلع فإنه يجب تطهير موضع الملاقاة كما قال به
الأصحاب (رضوان الله عليهم) ودلت عليه حسنة حريز ، ومن أجل ذلك اختلفت كلمة الأصحاب
في البيضة أيضا ، فظاهر بعض الحكم بالطهارة نظرا إلى إطلاق النصوص والظاهر انه قول
الأكثر كما نقله في المعالم ، حيث انهم أطلقوا الحكم بطهارة البيضة ولم يتعرضوا
لحكم ظاهرها مع معلومية ملاقاتها بالرطوبة للميتة النجسة ، والمفهوم من كلام
العلامة النجاسة كما صرح به في النهاية حيث قال : البيضة من الدجاجة الميتة طاهرة
ان اكتست الجلد الفوقاني الصلب لأنها صلبة القشر لاقت نجاسة فلم تكن نجسة في نفسها
بل بالملاقاة ، ونحوه في المنتهى ايضا.
ويمكن تأييد ما
ذهب إليه العلامة بأن حسنة حريز التي استدل بها على غسل موضع القلع من الصوف ونحوه
قد تضمنت البيضة في جملة تلك الأفراد المعدودة فيها والأمر بغسل تلك الأشياء
المعدودة إذا أخذت بعد الموت فتدخل البيضة في ذلك ، غاية الأمر انها قد اشتملت
ايضا على اللبن واللبأ وهذان الفردان يجب إخراجهما من حيث عدم إمكان الغسل فيهما
فلا ينصرف الأمر المذكور إليهما ، واشتملت بعد الأمر بالغسل على الأمر بالصلاة
وهذا ربما يشعر بظاهره خروج البيضة أيضا حيث انه لا يصلى فيها. ويمكن ان يقال ان
الأمر بالغسل لا يستلزم الأمر بالصلاة فيحمل الأمر بالصلاة على ما يصلى فيه من تلك
الافراد كالصوف والشعر ، إذ لا يخفى ان الرواية قد اشتملت في جملة
المعدودات ايضا على القرن والحافر والناب ومن الظاهر ان هذه لا يصلى فيها ،
وتمحل الحمل على بعض الأفراد النادرة الشاذة إن اتفق إلا انه لا يعمل عليه ولا
ينبغي ان يصغى إليه إذ إطلاق الأخبار انما ينصرف الى الافراد المتكثرة كما سمعته
غير مرة ، وبالجملة فإن الرواية المذكورة صرحت بعد تعداد تلك الأفراد المذكورة
فيها بان كل شيء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله
وصل فيه ، وحينئذ فكما استثني اللبن واللبأ من حيث عدم صلاحيتهما للغسل ينبغي ان
يستثني من الصلاة ما لا تقع الصلاة فيه ولا يكون مما يصلى فيه ويبقى الغسل عاما
للجميع عدا اللبن واللبأ ، فكأنه قيل : وكل شيء من هذه الأشياء متى أخذ من الميتة
فاغسله من حيث ملاقاة الميتة وصل فيه ان كان مما يصلى فيه. وهذا بحمد الله سبحانه
ظاهر لا سترة عليه. وعلى هذا فيحمل إطلاق باقي الروايات على هذه الرواية فيجب
حينئذ غسل البيضة ، ويؤيد ذلك بموافقة القاعدة الكلية في ملاقاة النجاسة برطوبة
وغسل أصل الصوف ونحوه وأوفقيته بالاحتياط في الدين.
بقي الكلام
أيضا في موضعين آخرين : (أحدهما) ـ ان أكثر الأخبار التي قدمناها خالية من التعرض
لاشتراط اكتساء البيضة القشر الأعلى نعم ذلك في رواية غياث خاصة ، وظاهر الأصحاب
الاتفاق على هذا الشرط وكأنهم حملوا إطلاق الاخبار المذكورة على هذه الرواية وطعن
فيها في المدارك بضعف السند وظاهره العمل بإطلاق الأخبار المذكورة حيث ان فيها
الصحيح مثل صحيحة زرارة ، وظاهر صاحب المعالم ايضا العمل بالإطلاق المذكور لضعف
الخبر مع طعنه في الأخبار الأخر أيضا بناء على اصطلاحه الذي تفرد به من توقف الوصف
بالصحة على اخبار اثنين من علماء الرجال ، إلا انه عضدها بموافقة الأصل وكثرتها
وان الصدوق في المقنع لم يتعرض لهذا الشرط بل أطلق القول كما في أكثر الاخبار ،
وجمهور الأصحاب على خلاف ما ذهب اليه وضعف الخبر المذكور مجبور عندهم بالشهرة وعمل
الأصحاب على ما تضمنه ، وهو الظاهر الذي عليه
العمل حيث انا لا نرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث.
و (ثانيهما) ـ ان
كلام الأصحاب قد اختلف في التعبير عن هذا الشرط الذي ذكر لطهارة البيضة ، فبعض
المتقدمين اقتصر على نقل الحديث فعبر بالجلد الغليظ واقتفاه الشيخ في النهاية كما
هي عادته غالبا من التعبير بمتون الاخبار ، وبعض عبر بالجلد ولكن بدلوا لفظ الغليظ
بالفوقاني ، وعبر جماعة : منهم ـ المحقق والشهيد بالقشر الأعلى وفي كلام العلامة
في جملة من كتبه الصلب كما تقدم في عبارة النهاية ومثله في المنتهى ، وتبعه على
التقييد بالصلابة بعض المتأخرين ، والظاهر ان مرجع الجميع إلى أمر واحد والاختلاف
انما هو بحسب اللفظ ، اما فيما عدا عبارة العلامة بالصلب فظاهر ، واما في التعبير بالصلب
فيمكن ان يكون خرج مخرج الغالب ، وبيان ذلك ان هذا القشر الذي يجمع البياض والصفرة
أول ما يكون رقيقا ثم يغلظ حتى يصير صلبا ، والمراد بالقشر الأعلى والجلد الغليظ
والقوقاني في عباراتهم هو هذا الغشاء الرقيق الذي يصلب بعد ذلك إذا آن رمي الدجاجة
للبيضة وإخراجها ، فالاعتبار في طهارة البيضة بحصوله وان لم يصلب على الوجه الذي
تخرج عليه البيضة عادة ، وتقييد العلامة بالصلابة ربما ينافي ذلك الا ان يحمل على
الخروج مخرج الغالب كما ذكرنا ، نعم حكى العلامة في بعض كتبه عن بعض الجمهور انه
ذهب الى طهارة البيضة وان لم تكتس القشر الأعلى محتجا بان عليها غاشية رقيقة تحول
بينها وبين النجاسة ، ثم قال : والأقرب عندي انها ان كانت قد اكتست الجلد الأعلى
وان لم يكن صلبا فهي طاهرة لعدم الملاقاة والا فلا ، وربما أشعر هذا الكلام
بمنافاة ما ذكرناه الا انه يمكن إرجاعه إليه بأن يحمل كلامه على ان المراد انه ان
كانت هذه الغاشية الرقيقة هي الجلد الأعلى الذي يجمع البياض والصفرة وهو الذي يصلب
بعد ذلك فإنه يصلب عليه الجلد الأعلى الذي هو المناط في الطهارة وان لم يكن صلبا
والا فلا ، وهذا يرجع الى ما قدمنا ذكره.
(السادس) ـ اختلف
أصحابنا في طهارة اللبن في ضرع الشاة الميتة ونجاسته ،
فعن الصدوق في المقنع والشيخ في الخلاف والنهاية وكتابي الحديث وكثير من
الأصحاب الطهارة حتى نقل عن الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية دعوى الإجماع على
ذلك ، وقال ابن إدريس في السرائر : اللبن نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا
لأنه مائع في ميتة ملامس لها ، وما أورده شيخنا في نهايته رواية شاذة مخالفة لأصول
المذهب لا يعضدها كتاب الله ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع وتبعه على القول بذلك
جماعة من الأصحاب : منهم ـ الفاضلان ، قال في المنتهى المشهور عند علمائنا ان
اللبن من الميتة المأكولة للحم بالذكاة نجس وقال بعضهم هو طاهر ، ثم قال في
الاستدلال على النجاسة : لنا على التنجيس ـ أنه مائع في وعاء نجس فكان نجسا كما لو
احتلب في وعاء نجس ، ولانه لو أصاب الميتة بعد حلبه تنجس فكذا لو انفصل قبله لأن
الملاقاة ثابتة في البابين.
والى القول
بالطهارة مال من المتأخرين ومتأخريهم الشهيد في الذكرى والسيد السند في المدارك
والمحقق الشيخ حسن في المعالم والفاضل الخوانساري في شرح الدروس والفاضل الخراساني
في الذخيرة ، وهو المختار لما تقدم من الاخبار وهي صحيحة زرارة وحسنة حريز وموثقة
الحسين بن زرارة أو حسنته ومرسلة الفقيه المسندة في الخصال.
ولا يخفى ان ما
استندوا إليه في الحكم بالنجاسة ـ من حيث كونه مائعا ملامسا للميتة وكل ما كان
كذلك فهو نجس ـ فهو لا يخلو من مصادرة ، والعموم الدال على نجاسة الملاقي للنجاسة
برطوبة ـ وهو دليل الكبرى ـ مخصوص بالأخبار المذكورة فإنها صالحة للتخصيص فلا مانع
من القول بها واستثناء هذا الفرد من العموم المذكور. واما ما احتجوا به زيادة على
الدليل المتقدم من رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن فقال علي (عليهالسلام) ذلك الحرام محضا». فهي لا تقوم بمعارضة الأخبار
المذكورة ، وقد أجاب عنها الشيخ في التهذيب بأنها رواية شاذة لم يروها غير وهب بن
وهب وهو ضعيف جدا
__________________
عند أصحاب الحديث ولو كان صحيحا لجاز ان يكون الوجه فيه ضربا من التقية
لأنها موافقة لمذهب العامة لأنهم يحرمون كل شيء من الميتة ولا يجيزون استعماله
على حال انتهى.
واما ما أجاب
به في المختلف عن صحيحة زرارة وحسنة حريز ـ بأنهما محمولان على ما إذا قاربت الشاة
الموت ـ فلا يخفى ما فيه من التمحل البعيد ولو كان كذلك لم تصلح الروايتان دليلا
على طهارة الأشياء المعدودة مع اللبن من الميتة مع انه وغيره يستدلون بهما على ذلك
، وتخصيص هذا القيد باللبن مع عده في قرن تلك الأشياء باطل على ان ارتكاب التأويل
ولا سيما مثل هذا التكلف السحيق بالنظر الى قواعدهم انما يسوغ مع حصول التعارض بين
الدليلين ، واي منصف يدعى صلاحية معارضة هذه الرواية الضعيفة لتلك الأخبار الصحيحة
الكثيرة؟ قال في المعالم ـ ونعم ما قال ـ والعجب من العلامة بعد تفسيره الانفحة
باللبن المستحيل وحكمه بطهارتها للأخبار الدالة على ذلك مع تحقق وصف المائعية فيها
كيف يجعل اعتبار الملاقاة مع المائعية هنا معارضا للخبر. انتهى. واما ما أجاب به
الفاضل الخوانساري في شرح الدروس ـ حيث قال بعد نقل هذا الكلام : «وكأنه لا عجب
على ما ذكرناه سابقا من ان الإنفحة كأنها ليست مائعة على الإطلاق بل هي لبن منجمد»
ـ ففيه ان ما قدمنا نقله عن أهل اللغة من ان الإنفحة شيء يستخرج من بطنه اصفر
يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ظاهر في كونه في بطن السخلة مائعا وانه
بعد أخذه من بطن السخلة يعصر على الوجه المذكور فيعرض له الجمود بعد ذلك فلا يتم
ما ذكره على كلام المحقق المشار إليه.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان عبارة العلامة التي قدمناها عن المنتهى تدل على ان محل النزاع لبن الميتة
المأكولة اللحم بالذكاة ولم يتعرض لغير المأكولة ، وظاهر كلام غيره وكذا ظاهر
الأخبار هو العموم وعدم الفرق ، وصاحب المعالم مع تعرضه في الانفحة لكونها من
المأكول وغيره وتردده في غير المأكول كما تقدم الكلام فيه لم يتعرض هنا
__________________
للفرق ولا لعدمه ، وبالجملة فالاحتياط في أمثال ذلك مما ينبغي المحافظة
عليه.
(السابع) ـ قال
في المنتهى : فأرة المسك إذا انفصلت من الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة وان
انفصلت بعد موتها فالأقرب النجاسة. وقال في الذكرى المسك طاهر إجماعا وفأرته وان
أخذت من غير المذكى. وبهذا القول صرح العلامة في النهاية أيضا فقال : فأرة المسك
ان انفصلت من الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة وان انفصلت بعد موتها فالأقرب
ذلك أيضا للأصل. وفي التذكرة أيضا حكم بالطهارة مطلقا سواء انفصلت من الظبي حال
حياته أو بعد موته وهو خلاف ما ذكره في المنتهى.
قال في المدارك
: والأصح طهارتها مطلقا كما اختاره في التذكرة للأصل وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه
موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن فأرة المسك تكون مع الرجل وهو يصلي وهي
معه في جيبه أو ثيابه؟ فقال لا بأس بذلك». ثم قال : ولا ينافي ذلك ما رواه عبد
الله بن جعفر في الصحيح قال : «كتبت إليه ـ يعني أبا محمد (عليهالسلام) ـ هل يجوز للرجل ان يصلي ومعه فأرة مسك؟ قال لا بأس
بذلك إذا كان ذكيا». لجواز ان يكون المراد بالذكي الطاهر مع ان المنع من استصحابها
في الصلاة لا ينحصر وجهه في النجاسة. انتهى.
أقول : فيه ان
ما ذكره من اختيار القول بالطهارة عملا بصحيحة علي بن جعفر وحمل الصحيحة الأخرى
على ما ذكره فلقائل أن يقول بما ذهب إليه في المنتهى من القول بالنجاسة عملا
بصحيحة عبد الله بن جعفر المذكورة ، بأن يقال ان المراد من قوله : «إذا كان ذكيا»
اما الحمل على رجوع ضمير «كان» الى الظبي المدلول عليه بالفأرة بمعنى ان يكون مذكى
لا ميتة والمراد بالمذكى ما هو أعم من حال الحياة أو التذكية بالذبح ، وربما
يستأنس لذلك بتذكير الضمير ، واما الرجوع الى الفأرة باعتبار ما ذكرناه أيضا أي
إذا كانت ذكية بالأخذ من أحد هذين الفردين ، والظاهر قرب ما ذكرناه على ما ذكره من
ان المراد كونها
__________________
طاهرة لم تعرض لها نجاسة من الخارج كما احتمله في الذكرى ايضا وأجاب به عن
الحديث المذكور إذ لا خصوصية لذلك بالفأرة. واما صحيحة علي بن جعفر فلعل منشأ
السؤال فيها عن فأرة المسك انما هو من حيث توهم نجاسة المسك باعتبار أن أصله الدم
كما قيل «ان المسك بعض دم الغزال» وحينئذ فنفى البأس يرجع الى طهارته بالاستحالة
التي هي من جملة المطهرات الشرعية ، واما من حيث فأرة المسك واحتمال كونها ميتة
المستلزم لنجاستها كما هو ظاهر صحيحة عبد الله بن جعفر المذكورة التي قد عرفت انها
مستند العلامة فيما ذهب إليه في المنتهى ، وحينئذ فنفي البأس من حيث وجوب البناء
على أصالة الطهارة لقولهم (عليهمالسلام) «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر». وفأرة المسك لما كان منها ما هو طاهر
ونجس كما عرفت دخلت تحت الكلية المذكورة ، ويمكن بناء على الثاني حمل نفي البأس من
حيث انها لا تتم فيها الصلاة وقد عفي عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه فهي وان كانت
نجسة بالموت إلا انها مما لا تتم الصلاة فيه. لكن يدفع هذا الوجه ظاهر صحيحة عبد
الله بن جعفر فإنها قد دلت على النهي عن الصلاة فيها من حيث كونها غير ذكية يعني
ميتة وهي ظاهرة في عدم جواز الصلاة في الميتة وان كانت مما لا تتم الصلاة فيه ،
وعلى ذلك ايضا تدل جملة من الأخبار فتكون الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه من الميتة
الموجب لبطلانها مستثنى من جواز الصلاة في النجس الذي لا تتم الصلاة فيه. وبالجملة
فالاحتمالان المذكوران متعارضان ، وربما يرجح الاحتمال الذي صار إليه في المدارك
وبه صرح أكثر الأصحاب بمطابقة الأصل ، الا أن المسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال
والاحتياط فيها مطلوب على كل حال.
بقي هنا شيء
وهو انه قد تقدم في المسألة الثانية تصريح الأصحاب بان ما تحله
__________________
الحياة من الحيوان ذي النفس السائلة نجس متى انفصل عنه في حال الحياة أو
الموت ، والأكثر كما عرفت على ما صرح به العلامة في التذكرة والنهاية من القول هنا
بطهارة الفأرة مطلقا وان انفصلت من الحية أو الميتة ، وهو مدافع لما ذكروه ثمة ،
والجواب عن ذلك هو تخصيص الحكم في تلك المسألة بروايات هذه المسألة الدالة على
الطهارة واستثناء هذا الفرد بهذين الخبرين من الحكم المتقدم. والله العالم.
(الثامن) ـ ان
ما اشتملت عليه رواية أبي حمزة الثمالي ـ من قوله (عليهالسلام): «فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا
تسأل عنه إلا ان يأتيك من يخبرك عنه». بعد قوله (عليهالسلام) : ان الإنفحة ليس بها بأس. إلى آخر الكلام المؤذن بأن
توهم التحريم في الجبن انما هو من حيث الانفحة لأنها ميتة كما هو اعتقاد السائل
المذكور ونفيه (عليهالسلام) ذلك المقتضى لحل الجبن ـ لا يخلو من اشكال ، والظاهر
ان الوجه فيه أحد أمرين : اما حمل الكلام الأخير على ما إذا حصل سبب آخر يوجب
التحريم فيكون حكما مستأنفا لا تعلق له بجواب السائل ، واما حمل الكلام على الرجوع
عن الجواب الأول حيث انه (عليهالسلام) فهم من السائل عدم قبوله من حيث حكمه بأن الانفحة ميتة
موجبة لتنجيس الجبن إذا لاقته فعدل الى الجواب بالتي هي أحسن من انه مع تسليم ما
يدعيه فإن الأصل في الأشياء الطهارة فاشتر من سوق المسلمين وكل حتى تعلم انه خالطه
الانفحة ، وبهذا الوجه صرح في الوافي حيث قال : «ولما استفرس (عليهالسلام) من قتادة عدم قبوله ولا قابليته لمر الحق عدل به عن
الحق إلى الجدال بالتي هي أحسن وقال : اشتر الجبن من أسواق المسلمين ولا تسأل عنه»
انتهى.
أقول : واخبار
الجبن جلها أو كلها قد اشتملت على تعليل تحليل الجبن بهذه القاعدة المنصوصة ،
والظاهر ان السر فيه هو ما ذكرناه في الوجه الأول أو الثاني ، ومنها ـ ما رواه في
الكافي عن عبد الله بن سليمان عن الصادق (عليهالسلام) «في الجبن؟
__________________
قال : كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه ميتة». وهذا الخبر
أقرب انطباقا على الوجه الثاني ، ومنها ـ صحيحة ضريس قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم انا كله؟
فقال اما ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكل واما ما لم تعلم فكل حتى تعلم انه حرام».
وهي محتملة للوجهين المتقدمين. ورواية عبد الله بن سليمان قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الجبن؟ قال سألتني عن طعام يعجبني ثم اعطى الغلام
درهما فقال يا غلام ابتع لنا جبنا ودعى بالغداء فتغدينا معه فاتى بالجبن فأكل
وأكلنا فلما فرغنا من الغداء ، قلت ما تقول في الجبن؟ فقال أو لم ترني أكلته؟ قلت
بلى ولكني أحب ان أسمعه منك. فقال سأخبرك عن الجبن وغيره : كل ما كان فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه». وهذا الخبر أظهر انطباقا على
المعنى الثاني حيث ان ظاهره ان الجبن من الأشياء التي فيها الحلال والحرام كاللحم
من المذكى والميتة وليس ذلك إلا باعتبار ما يعمل باللإنفحة وما لا يعمل بها والأول
منه حرام لمكان الانفحة لأنها ميتة ، وحينئذ فمخرج هذه الاخبار كلها انما هو على
التقية من حيث اشتهار الحكم بنجاسة الانفحة عند العامة كما عرفته من كلام قتادة
الذي هو من رؤوسهم والله العالم.
(الفصل السادس)
ـ في الخمر وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في نجاسته ، فالمشهور بين أكثر
علمائنا بل أكثر أهل العلم هو القول بالنجاسة حتى انه حكي عن المرتضى (رضياللهعنه) انه قال لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما
يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم ، وعن الشيخ انه قال : الخمر نجسة بلا خلاف وكل
مسكر عندنا حكمه
__________________
حكم الخمر والحق أصحابنا الفقاع بذلك. وعن ابن زهرة الخمر نجسة بلا خلاف
ممن يعتد به ، ونقل ابن إدريس إجماع المسلمين عليه ، وقال الصدوق في الفقيه
والمقنع لا بأس بالصلاة في ثوب اصابه خمر لان الله تعالى حرم شربها ولم يحرم
الصلاة في ثوب اصابته. وهو ظاهر كالصريح في القول بالطهارة مع انه حكم بنزح ماء
البئر اجمع بانصباب الخمر فيها ، وأصرح منه ما نقل عن ابن ابي عقيل حيث قال : من
أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما لأن الله تعالى انما حرمهما
تعبدا لا لأنهما نجسان. وعزى في الذكرى الى الجعفي وفاق الصدوق وابن ابي عقيل وكذا
في الدروس ، قال في المعالم : بعد نقل القول بالطهارة عن هؤلاء الثلاثة ولا يعرف
هذا القول لسواهم من الأصحاب.
احتج القائلون
بالنجاسة بوجوه : (الأول) ـ الإجماع المتقدم ذكره بناء على ما تقرر عندهم من ان
الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة.
(الثاني) ـ قوله
عزوجل : «إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» فان الرجس هو النجس على ما ذكره بعض أهل اللغة
والاجتناب عبارة عن عدم المباشرة ولا معنى للنجس إلا ذلك.
(الثالث) ـ الروايات
والذي وقفت عليه من ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن علي بن مهزيار قال : «قرأت في كتاب عبد الله بن محمد الى ابي الحسن (عليهالسلام) جعلت فداك روى زرارة عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهماالسلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل انهما قالا لا بأس بان يصلي
فيه انما حرم شربها. وروى غير زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله
ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كله وان صليت فيه فأعد صلاتك.
__________________
فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع (عليهالسلام) وقرأته : خذ بقول ابي عبد الله (عليهالسلام)».
وما رواه في
الكافي عن يونس عن بعض من رواه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله ان عرفت
موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كله فان صليت فيه فأعد صلاتك».
وعن خيران
الخادم قال : «كتبت الى الرجل اسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم
الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم صل فيه فان الله
تعالى انما حرم شربها وقال بعضهم لا تصل فيه. فكتب (عليهالسلام) لا تصل فيه فإنه رجس».
ورواه في
التهذيب ايضا مثله ، وقال في الكافي بعد نقل خبر خيران قال : «وسألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري أو يشرب
الخمر فيرده أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا يصل فيه حتى يغسله». ولا يخفى ما في
هذا السند من الاشتباه لان الظاهر ان ضمير «قال» يرجع الى خيران وفي رؤيته أبا عبد
الله (عليهالسلام) وسؤاله منه بعد لانه من موالي الرضا (عليهالسلام) وأصحابه.
وعن أبي جميلة
البصري قال : «كنت مع يونس ببغداد وانا أمشي في السوق ففتح
صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس فقلت
له يا أبا محمد إلا تصلي؟ قال فقال لي ليس أريد أن أصلي حتى ارجع الى البيت فاغسل
هذا الخمر من ثوبي. فقلت له هذا رأي رأيته أو شيء ترويه؟ فقال أخبرني هشام بن
الحكم انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الفقاع فقال لا تشربه فإنه خمر مجهول وإذا أصاب
ثوبك فاغسله».
__________________
وما رواه الشيخ
في التهذيب في الموثق عن عمار بن موسى الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تصل في بيت فيه خمر ولا مسكر لأن الملائكة لا
تدخله ، ولا تصل في ثوب قد اصابه خمر أو مسكر حتى تغسله».
وما رواه في
الكافي عن زكريا بن آدم قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير
ومرق كثير؟ قال يهراق المرق أو تطعمه أهل الذمة أو الكلب واللحم اغسله وكله. قلت
فإنه قطر فيه دم؟ قال الدم تأكله النار ان شاء الله تعالى. قلت فخمر أو نبيذ قطر
في عجين أو دم؟ قال فقال فسد. قلت أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم
فإنهم يستحلون شربه. قلت والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ فقال
أكره أن آكله إذا قطر في شيء من طعامي».
وعن عمار بن
موسى الساباطي في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون
فيه الخل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال إذا غسل فلا بأس. وعن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح
ان يكون فيه ماء؟ قال إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال
تغسله ثلاث مرات. سئل يجزيه ان يصب فيه الماء؟ قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله
ثلاث مرات». ورواه الشيخ في التهذيب مثله.
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن فضالة عن عبد الله بن سنان قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب
الخمر فيرده أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا يصلي فيه حتى يغسله». أقول : قد حمله
الشيخ
__________________
على الاستحباب : قال لأن الأصل في الأشياء الطهارة ولا يجب غسل شيء من
الثياب إلا بعد العلم بان فيها نجاسة ، وقد روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر
ثم أورد الخبر الآني :
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر اني أعير الذمي ثوبي وانا اعلم انه يشرب
الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل ان أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر
ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه».
وعن عمار في
الموثق عن الصادق (عليهالسلام) «في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ قبل تغسله سبع مرات».
وموثقة عمار
ايضا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تصل في ثوب اصابه خمر أو مسكر واغسله ان عرفت
موضعه فان لم تعرف موضعه فاغسل الثوب كله فان صليت فيه فأعد صلاتك».
وصحيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن دواء عجن بالخمر؟ فقال لا والله ما أحب ان انظر
اليه فكيف أتداوى به انه بمنزلة شحم الخنزير
__________________
أو لحم الخنزير». وفي بعض الروايات «انه بمنزلة الميتة».
وفي رواية أبي
بصير وهي طويلة عن الصادق (عليهالسلام) في النبيذ وسؤال أم خالد العبدية عن التداوي به قال : «ما
يبل الميل ينجس حبا من ماء ، يقولها ثلاثا».
وفي الصحيح عن
محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ قال لا تأكلوا في آنيتهم
ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر».
وعن عمر بن
حنظلة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته
ويذهب سكره ، فقال لا والله ولا قطرة تقطر منه في حب إلا أهريق ذلك الحب».
وعن هارون بن
حمزة الغنوي عن الصادق (عليهالسلام) «في رجل اشتكى عينيه فنعت له كحل يعجن بالخمر؟ فقال هو خبيث بمنزلة الميتة
فإن كان مضطرا فليكتحل به».
ومنها ـ الأخبار
الواردة في نزح البئر من صب الخمر فيه مع كثرتها وصحة أسانيد كثير منها.
هذا ما حضرني
مما يدل على القول بالنجاسة كما هو القول المشهور والمؤيد المنصور
واما ما يدل
على القول الآخر بعد الأصل فجملة من الاخبار ايضا : منها ـ ما رواه الحسن بن أبي
سارة في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان
__________________
أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلي فيه قبل ان اغسله؟ قال لا بأس ان الثوب لا
يسكر».
وما رواه عبد
الله بن بكير في الموثق قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ فقال : لا
بأس به».
وما رواه الثقة
الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الاسناد في الصحيح عن علي بن رئاب قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي اغسله أو أصلي فيه؟
قال صل فيه إلا ان تقذره فتغسل منه موضع الأثر ان الله تبارك وتعالى انما حرم
شربها».
ورواية الحسين
بن موسى الحناط قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي؟ فقال
لا بأس».
ورواية أبي بكر
الحضرمي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) أصاب ثوبي نبيذ أصلي فيه؟ قال نعم. قلت له قطرة من
نبيذ قطرت في حب ماء اشرب منه؟ قال نعم ان أصل النبيذ حلال وان أصل الخمر حرام». قال
في الذخيرة : وجه الدلالة ان الظاهر عدم القائل بالفصل وحمل الشيخ النبيذ في هذه
الرواية على النبيذ الحلال. وهو جيد
ورواية الحسن
ابن أبي سارة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) انا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم
يأكلون ويشربون فيمر ساقيهم فيصب على ثيابي الخمر؟ قال : لا بأس به إلا ان تشتهي
أن تغسله لأثره».
ورواية حفص
الأعور قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال نعم».
وروى ابن
بابويه مرسلا قال : «سئل أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما
__________________
السلام) فقيل لهما انا نشتري ثيابا يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي
فيها قبل ان نغسلها؟ فقال نعم لا بأس إنما حرم الله تعالى اكله وشربه ولم يحرم
لبسه ومسه والصلاة فيه». ورواه الصدوق في علل الشرائع بطريق صحيح عن بكير عن
الباقر (عليهالسلام) وعن ابى الصباح وابى سعيد والحسن النبال عن الصادق (عليهالسلام).
وروى الشيخ في
الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) «انه سأله عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي
فيه قبل ان يغسله؟ فقال لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس». ورواه في قرب
الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل مر في ماء المطر قد صب فيه الخمر.
الحديث».
ورواية علي
الواسطي قال : «دخلت الجويرية وكانت تحت عيسى بن موسى على ابى
عبد الله (عليهالسلام) وكانت صالحة فقالت إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة
التي اتمشط بها الخمر واجعله في رأسي؟ قال لا بأس».
وفي الفقه
الرضوي «لا بأس ان تصلي في ثوب اصابه خمر لأن الله تعالى حرم شربها ولم يحرم
الصلاة في ثوب أصابته».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كالسيد السند في المدارك والفاضل
الخراساني في الذخيرة والمحقق الخوانساري وغيرهم قد اختاروا القول بالطهارة
وأجابوا عن الإجماع بعدم ثبوته بعد تحقق الخلاف في المسألة من هؤلاء الأجلاء ،
واما الآية فأجابوا عنها أيضا بأجوبة واسعة نقضا وإبراما ليس في التعرض لها مزيد
فائدة. والحق هو الرجوع الى الاخبار في هذا المقام خاصة ، اما الإجماع فلما عرفت
في مقدمات
__________________
الكتاب ، واما الآية فلا دلالة لها ظاهرا إلا بارتكاب تكلفات بعيدة كما
يظهر من بحثهم جوابا وسؤالا.
وهؤلاء الأفاضل
المشار إليهم بعد بحثهم في المسألة حملوا أخبار النجاسة على الاستحباب وجمعوا به
بين الاخبار في هذا الباب كما هي قاعدتهم المستمرة في جميع الأبواب حسبما نبهنا
عليه في غير مقام مما تقدم في الكتاب ، قال السيد السند في المدارك الذي هو الأصل
في ذلك بعد ذكر القول بالنجاسة ونقل بعض اخباره ثم القول بالطهارة ونقل بعض اخباره
: وأجاب الأولون عن هذه الاخبار بالحمل على التقية جمعا بينها وبين ما تضمن الأمر
بغسل الثوب منه ، وهو مشكل لأن أكثر العامة قائلون بالنجاسة نعم يمكن الجمع بينهما بحمل ما تضمن الأمر بالغسل على
الاستحباب لان استعمال الأمر في الندب مجاز شائع. انتهى. ونحوه في الذخيرة بزيادة
تأييد لذلك بوجوه لفقها ، ملخصها بعد الحمل على التقية وان حمل الأوامر والنواهي
في أخبارنا على الاستحباب والكراهة شائع ذائع كأنه الحقيقة كما أشرنا إليه مرارا.
أقول : لا يخفى
ان الكلام في الجمع بين هذه الاخبار دائر بين هذين الوجهين. وهؤلاء الأفاضل قد
اختاروا الحمل على الاستحباب في الجمع بين هذه الاخبار ، وها أنا أبين ما فيه من
البعد بل الفساد وعدم انطباق أخبار المسألة عليه ، وبه يتعين حمل أخبار الطهارة
على التقية إذ لم يبق بعد بطلان حمل أخبار النجاسة على الاستحباب إلا رميها
بالكلية متى عملنا باخبار الطهارة ، وفيه من البطلان ما هو غني عن البيان لكثرتها
واستفاضتها وصحة جملة منها باصطلاحهم وعمل الطائفة قديما وحديثا عليها إلا هؤلاء
الثلاثة
__________________
المذكورين والثلاثة المتقدمين ، أو حمل أخبار الطهارة على التقية وبه يتم
المطلوب.
فاما ما يدل
على بطلان الحمل على الاستحباب فوجوه : (الأول) ـ انه وان اشتهر ذلك بينهم في جميع
أبواب الفقه إلا انه لا مستند له من سنة ولا كتاب ، وقد استفاضت الاخبار عنهم (عليهمالسلام) بوجوه الجمع بين الاخبار والترجيح في مقام اختلاف
الاخبار ، ولو كان لهذا الحمل والجمع بين الأخبار أصل في الشريعة لما أهملوه (عليهمالسلام) سيما انهم (رضوان الله عليهم) قد اتخذوه قاعدة كلية في
مقام اختلاف الاخبار في جميع أبواب الفقه وأحكامه.
(الثاني) ـ ان
الحمل على الاستحباب مجاز باعترافهم والمجاز لا يصار اليه إلا بالقرينة الصارفة عن
الحقيقة واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز. واما قوله في الذخيرة : «ان حمل
الأوامر والنواهي في أخبارنا على الاستحباب والكراهة شائع ذائع كأنه الحقيقة» ففيه
انه ان كان ذلك مع وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي فلا بحث فيه وإلا فهو
أول المسألة ومحل المنع.
(الثالث) ـ ان
الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم فيتوقف الحكم به على دليل واضح وإلا كان قولا
على الله تعالى من غير علم ، وقد استفاضت الآيات القرآنية والسنة النبوية بالنهي
عنه ، واختلاف الأخبار ليس من الأدلة التي توجب الحكم بالاستحباب.
(الرابع) ـ ان
صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران الخادم قد دلتا على وقوع هذا الاختلاف بين أصحاب
الأئمة (عليهمالسلام) في وقتهم وانهم رجعوا في ذلك الى امام ذلك العصر
وسألوه عن الأخذ بأي القولين فأمرهم بالعمل باخبار النجاسة ولو كانت الأخبار
الواردة عنهم (عليهمالسلام) بالنجاسة انما هي بمعنى استحباب الإزالة وليس المراد
منها النجاسة كما زعمه هؤلاء الأفاضل وانه طاهر والصلاة فيه صحيحة وان كان على
كراهة ، لما خفي على أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) يومئذ حتى انهم يسألون
عن ذلك ، ولكان الامام (عليهالسلام) يجيبهم بان هذه الأخبار لا منافاة بينها فإن الأمر
بغسل الثوب منه انما هو على جهة الاستحباب وإلا فهو طاهر لا انه يقرهم على
الاختلاف ويجيبهم بقوله «لا تصل فيه فإنه رجس». فيأمرهم بالأخذ باخبار النجاسة كما
في خبر خيران وبقول ابي عبد الله (عليهالسلام) كما في صحيحة علي بن مهزيار. واما ما ذكره الفاضل
الخوانساري ـ من انه يمكن ان يكون المراد بقول ابي عبد الله (عليهالسلام) قوله الذي مع ابي جعفر (عليهالسلام) ويكون التعبير بهذه العبارة المشتبهة للتقية ـ فهو مما
لا يروج إلا على الصبيان العادمي الافهام والأذهان.
(الخامس) ـ ان
جملة من الروايات الدالة على النجاسة لا تلائم هذا الحمل مثل صحيحة علي بن مهزيار
المتضمنة ان غير زرارة روى عن الصادق (عليهالسلام) في نجاسة الخمر «انه يغسل الثوب كملا مع جهل موضعه
ويعيد الصلاة لو صلى فيه». ومثلها مرسلة يونس المتقدمة نقلا من الكافي ، فإنه لم
يعهد في الأخبار التشديد في الأمور المستحبة والمبالغة فيها الى هذا المقدار وانما
وقع نظيره في الاخبار في النجاسات المقطوع بها لا الأشياء الطاهرة ، ومثل ذلك في
رواية أبي جميلة البصري وحكايته عن يونس فإنه لو كان طاهرا كما يدعونه وان إزالته
عن الثوب انما هو على طريق الأولوية والاستحباب لما خفي ذلك على يونس وهو من أجلاء
أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) وسياق الخبر كما عرفت ظاهر بل صريح في ان يونس انما
فهم من خبر هشام النجاسة وصار اعتقاده القول بالنجاسة ، فإن غمه بملاقاة الفقاع له
وتوقفه عن المبادرة للصلاة في أول وقتها وسؤال الراوي له ان هذا رأي رأيته أو شيء
ترويه كلها ظاهرة الدلالة في حكمه بالنجاسة ، ومثل حديث العبدية وقوله (عليهالسلام): «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء». كيف يحمل على
الاستحباب؟ واي مجال لهذا الاستحباب الذي لا دليل عليه من سنة ولا كتاب؟ وكأن هذا
القائل ظن انحصار دليل النجاسة فيما دل على غسل الثوب أو البدن كما هو ظاهر عبارة
المدارك.
(السادس) ـ انه
قد ورد عنهم (عليهمالسلام) من القواعد انه إذا جاء خبر عن أولهم وخبر آخر عن
آخرهم فإنه يجب الأخذ بالأخير وهذه القاعدة قد صرح بها الصدوق في الفقيه في باب «الرجل
يوصي الى الرجلين» حيث قال : ولو صح الخبران لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما
أمر الصادق (عليهالسلام). ولا ريب ان صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران قد
تضمنتا ذلك ، فالواجب بمقتضى هذه القاعدة الرجوع الى قول الإمام الأخير وهو الحكم
بالنجاسة.
(السابع) ـ ترجح
أخبار النجاسة بعمل الطائفة قديما وحديثا الموجب للظن المتاخم للعلم بكون ذلك هو
مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) فان صاحب كل مذهب انما يعلم مذهبه بعد موته بمذهب
مقلديه وشيعته الآخذين بأقواله والمقتفين لآثاره ولا سيما الشيعة المتهالكين على
متابعة مذهب أئمتهم المانعين من الأخذ من غيرهم ، مضافا ذلك الى الاحتياط في الدين
الذي هو أحد المرجحات الشرعية في مقام اختلاف الاخبار كما دلت عليه رواية زرارة
الواردة في طرق الترجيح .
والشيخ قد
استند في حمل أخبار الطهارة على التقية إلى صحيحة علي بن مهزيار المتقدمة حيث قال
: وجه الاستدلال من هذا الخبر على ان تلك الأخبار ـ يعني أخبار الطهارة ـ وردت على
جهة التقية انه (عليهالسلام) أمر بالأخذ بقول ابي عبد الله (عليهالسلام) على الانفراد والعدول عن قوله مع قول ابي جعفر (عليهالسلام) فلو لا ان قوله مع قول ابي جعفر (عليهماالسلام) خرج مخرج التقية لكان الأخذ بقولهما معا اولى وأحرى.
قال في المعالم : وهذا الكلام حسن لولا ما أشرنا إليه من نقل الأصحاب عن أكثر أهل
الخلاف الموافقة على القول بالنجاسة ، وكيف كان فلا ريب في ان
__________________
ما تضمنه هذا الخبر من الأخذ بقول ابي عبد الله (عليهالسلام) بعد ما تقرر في السؤال دلالة على ان الحكم في ذلك هو النجاسة
وان الطهارة لا تعويل عليها ، وهذا القدر من الدلالة في الحديث الصحيح كاف في
الاستدلال لاعتضاده بما تقدم من الاخبار وباتفاق أكثر علماء الإسلام مع ما في
التنزه عنه من الاحتياط للدين كما ذكره المحقق (قدسسره) فإذا القول بالنجاسة هو المعتمد. انتهى ، أقول : ما
ذكره ـ من استشكاله في حسن ما ذكره الشيخ بما نقله الأصحاب عن أكثر أهل الخلاف ـ سيأتي
الجواب عنه في المقام ان شاء الله تعالى
وبما ذكرناه من
الوجوه الظاهرة البيان الغنية عن إقامة الحجة والبرهان كما لا يخفى على أهل
الإنصاف من ذوي الأذهان يظهر بطلان حمل أخبار النجاسة على الاستحباب ويتعين العمل
بها في هذا الباب فتبقى اخبار القول بالطهارة ويتعين حملها على التقية التي هي في
اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية.
بقي الكلام
فيما ذكروه من ان أكثر العامة قائلون بالنجاسة ، وفيه ما ذكره بعض المحققين من أصحابنا
المتأخرين من ان التقية لا تنحصر في القول بما يوافق علماءهم بل قد يدعو لها إصرار
جهلائهم من أصحاب الشوكة على أمر وولوعهم به فلا يمكن إشاعة ما يتضمن تقبيحه
والإزراء بهم على فعله ، وما نحن فيه من هذا القبيل فإن أكثر أمراء بني أمية وبني
العباس ووزرائهم وأرباب الدولة كانوا مولعين بشرب الخمر ومزاولتها واستعمالها وعدم
التحرز عن مباشرتها ، بل ربما نقل ان بعضهم يأم الناس وهو سكران فضلا عن ان يكون
ثوبه متلوثا بالخمر (فان قيل) انهم (عليهمالسلام) لو كانوا يتقون في ذلك لكان تقيتهم في الحكم بالحرمة
أوجب وأهم مع ان المعلوم من أخبارهم انهم كانوا يبالغون في ذلك تمام المبالغة حتى ورد
في أخبارهم (عليهمالسلام) «ان مدمن الخمر كعابد الوثن» . ونحو ذلك من التهديد والتشديد في تحريمها ولم يرو عنهم
ما يتضمن إباحتها (قلت) يمكن الجواب عن ذلك بأنه لما كان صريح القرآن تحريمها كان
__________________
التحريم من ضروريات الدين والحكم به لا مجال لإنكاره ولا فساد فيه. وربما
أجيب عما ذكرنا بان حرمتها وان كان بصريح القرآن إلا ان التشديد الذي ورد عنهم (عليهمالسلام) ليس في القرآن ولا من ضروريات الدين فكان ينبغي ان
يتقوا فيه فترك التقية في ذلك والتقية في النجاسة بعيد جدا. وفيه انه متى كان صريح
القرآن التحريم فالتشديد لازم له إذ من المعلوم عند كل عالم عاقل ان مخالف صريح
القرآن راد لضروري الدين وكل من كان كذلك فهو في زمرة المرتدين فافترق الأمران ،
وبالجملة فالتحريم لما كان صريح الكتاب العزيز الموجب لكونه من ضروريات الدين فهو
معلوم لكافة المسلمين فلا تدخله التقية سواء أخبروا بمجرد التحريم أو شددوا لقوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة : «ثلاثة لا اتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ومسح الخفين
ومتعة الحج». بل لو أفتوا فيه بالتقية لربما نسبوهم الى الجهل ومخالفة الكتاب
العزيز ، واما الحكم بالنجاسة فلما لم يكن بتلك المثابة حيث لم يدل عليه دليل من
القرآن وانما استفيد من السنة فالتقية جائزة فيه وغير مستنكرة. وبما حققناه في
المقام ورفعنا عنه نقاب الإبهام ظهر لك ان الحق في المسألة هو القول المشهور وان
ما عداه ظاهر القصور. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ المفهوم
من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان حكم جميع الأنبذة المسكرة حكم الخمر في
التنجيس ، قال في المعالم : ولا نعرف في ذلك خلافا بين الأصحاب. والظاهر ان مراده
من قال من الأصحاب بنجاسة الخمر وإلا فقد عرفت مذهب الصدوق وابن ابى عقيل والجعفي
في قولهم بالطهارة.
واستدل في
المعتبر على الحكم المذكور فقال : والأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر لان
المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر ، اما انه خمر فلان الخمر انما سمي بذلك لكونه
__________________
يخمر العقل ويستره فما ساواه في المسمى يساويه في الاسم ، ولما رواه علي بن
يقطين عن ابى الحسن الماضي (عليهالسلام) قال : «ان الله سبحانه لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها
لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر». وروى عطاء بن يسار عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام وكل مسكر خمر». انتهى.
واعترضه جملة
من محققي متأخري المتأخرين كالسيد في المدارك والشيخ حسن في المعالم والسبزواري في
الذخيرة وغيرهم ممن حذا حذوهم بان هذا الاحتجاج منظور فيه ، قال في المعالم : لان
الظاهر من كلام جماعة من أئمة اللغة ان الخمر حقيقة في المسكر من عصير العنب
والعرف يساعده ، وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في معنى لم يدل استعماله بعد ذلك في
غيره على كونه حقيقة في ذلك الغير ايضا ، وكون الأصل في الاستعمال الحقيقة انما هو
مع عدم استلزام الاشتراك أو النقل لكونهما على خلاف الأصل ، فتعارض أصالة عدمهما
أصالة الحقيقة وأحدهما لازم بعد ثبوت الحقيقة للفظ ، وحينئذ فمجرد إطلاق لفظ الخمر
على مطلق المسكر لا يدل على كونه حقيقة فيه والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية
ليس بشيء ، وإذا لم يثبت كون اللفظ حقيقة في الجميع لم يتجه الاستدلال على تعميم
الحكم في الكل بما دل على نجاسة الخمر ، والاشتراك في التحريم لا دلالة فيه وانما
هو وجه علاقة صح من اجله استعمال لفظ الخمر في غير ما وضع له على جهة المجاز.
انتهى. وعلى هذا النهج كلام غيره ممن أشرنا اليه.
وعندي فيه نظر
، وتوجيهه انهم ان أرادوا بكونه حقيقة في عصير العنب يعني الحقيقة الشرعية ففيه ان
الحقيقة الشرعية عبارة عن استعمال اللفظ في كلام الله تعالى أو رسوله مجردا عن
قرينة المجاز ، وهذا اللفظ وان وقع في القرآن العزيز مجملا الا ان
__________________
الأخبار قد فسرته بالمعنى الأعم وكذلك وقوعه في كلام الرسول (صلىاللهعليهوآله) انما وقع بالمعنى الأعم كما سيظهر لك ان شاء الله
تعالى وحينئذ فيكون حقيقة شرعية في المعنى الأعم ، وان أرادوا به الحقيقة اللغوية
كما يفهم من كلام المحقق المذكور ومن تبعه في ذلك ففيه (أولا) ـ انه لا يصار الى
الحمل على الحقيقة اللغوية إلا مع تعذر الحمل على الحقيقة الشرعية والعرفية الخاصة
كما قرروه في غير موضع. و (ثانيا) ـ ان كلام أهل اللغة أيضا ظاهر في المعنى الأعم
كما سيظهر لك في المقام.
فاما ما يدل
على كونه حقيقة شرعية في المعنى الأعم من كلام الله عزوجل فقوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... الآية»
روى الثقة
الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير هذه الآية عن ابي الجارود عن الباقر (عليهالسلام) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ.) «أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره فقليله
حرام. وذلك ان أبا بكر شرب قبل ان تحرم الخمر فسكر فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلي
المشركين من أهل بدر فسمع النبي (صلىاللهعليهوآله) فقال اللهم أمسك على لسانه فأمسك على لسانه فلم يتكلم
حتى ذهب عنه السكر فانزل الله تحريمها بعد ذلك ، وانما كانت الخمر يوم حرمت
بالمدينة فضيخ البسر والنمر فلما انزل الله تعالى تحريمها خرج رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقعد في المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها
فأكفاها كلها وقال هذه كلها خمر وقد حرمها الله تعالى ، وكان أكثر شيء اكفىء في
ذلك اليوم من الأشربة الفضيخ ولا اعلم انه اكفىء يومئذ من خمر العنب شيء إلا
إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا ، واما عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه
شيء ، وحرم الله تعالى الخمر قليلها وكثيرها وبيعها وشراءها والانتفاع بها.
الحديث». وهو ـ كما ترى ـ صريح في المراد عار عن وصمة الشبهة والإيراد. ونقل في
مجمع البيان عن ابن عباس في تفسير
__________________
هذه الآية قال : «يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر وقد قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من تسع : من البتع وهو العسل ومن العنب ومن
الزبيب ومن التمر ومن الحنطة ومن الذرة ومن الشعير والسلت».
واما ما يدل
على ذلك من كلامه (صلىاللهعليهوآله) فمنه ـ ما تقدم في رواية عطاء بن يسار المنقولة في
كلام المحقق ، وما نقله في مجمع البيان عن ابن عباس عنه (صلىاللهعليهوآله) ومن ذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من خمسة : العصير من الكرم والنقيع من الزبيب
والبتع من العسل والمرز من الشعير والنبيذ من التمر». ورواية علي بن إسحاق الهاشمي
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من خمسة. الحديث المتقدم». وما رواه الشيخ أبو
علي الحسن بن محمد الطوسي في الأمالي بسنده فيه عن النعمان بن بشير قال : «سمعت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يقول ايها الناس ان من العنب خمرا وان من الزبيب خمرا
وان من التمر خمرا وان من الشعير خمرا الا أيها الناس انها كم عن كل مسكر». وروى
الكليني في الصحيح الى الحسن الحضرمي عن من أخبره عن علي بن الحسين (عليهالسلام) قال : «الخمر من خمسة أشياء : من التمر والزبيب والحنطة
والشعير والعسل». وروى العياشي في تفسيره عن عامر بن السمط عن علي بن الحسين (عليهالسلام) قال : «الخمر من ستة أشياء.». ثم ذكر الخمسة المذكورة
في حديث الحضرمي وزاد الذرة ، فقد ظهر لك بما نقلناه من الأخبار تطابق كلام الله
تعالى ورسوله على ان الخمر أعم مما ذكروه من التخصيص بالمتخذ من العنب فيكون حقيقة
شرعية في ذلك بلا اشكال ويجب الحمل على ذلك حيثما أطلق هذا اللفظ إلا مع القرينة
الصارفة عنه كما هو المقرر بينهم في الحقائق الشرعية وغيرها.
__________________
واما كلام أهل
اللغة في هذا المقام فالذي يستفاد منه تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى ان الخمر
حقيقة فيما قلناه دون عصير العنب كما زعموه ، قال في القاموس : الخمر ما أسكر من
عصير العنب أو عام كالخمرة وقد يذكر ، والعموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر
عنب وما كان شرابهم إلا البسر والتمر ، سميت الخمر خمرا لأنها تخمر العقل وتستره
أو لأنها تركت حتى أدركت واختمرت أو لأنها تخامر العقل اي تخالطه. الى آخر كلامه.
وفي الصحاح سميت الخمر خمرا لأنها تركت واختمرت واختمارها تغير رائحتها ، ويقال
وجدت خمرة الطيب أي رائحته. وفي كتاب الغريبين للهروي قوله تعالى : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» الخمر ما خامر العقل اي خالطه وخمر العقل ستره وهو
المسكر من الشراب. وفي المصباح المنير للفيومي الخمر معروفة ، الى ان قال ويقال هي
اسم لكل مسكر خامر العقل اي غطاه. وفي مجمع البحرين بعد ذكر قوله سبحانه «إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ» الخمر معروف وعن ابن الأعرابي انما سمى الخمر خمرا لأنها تركت واختمرت
واختمارها تغير رائحتها ، الى ان قال والخمر فيما اشتهر بينهم كل شراب مسكر ولا
يختص بعصير العنب ، ثم نقل كلام القاموس وقال بعده ويشهد له ما روي عن الصادق (عليهالسلام) وساق صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة.
وبذلك يظهر لك
تطابق الأخبار المتقدمة وكلام أهل اللغة على ما اخترناه في المقام ويظهر ضعف ما
ذكره أولئك الاعلام ، وبذلك يظهر ما في كلام المحقق صاحب المعالم من قوله :
والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية ليس بشيء. ونحوه قوله في المدارك والذخيرة ان
اللغات لا تثبت بالاستدلال ، فان فيه ان كلام أئمة اللغة كما سمعت كله متطابق على
تعليل التسمية الموجب لدوران حكم التحريم ونحوه مدار صدق الاسم وقد وقع نحوه في
الاخبار ايضا كما رواه في الكافي عن علي بن أبي حمزة عن إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الله تعالى لما اهبط آدم امره بالحرث والزرع
__________________
وطرح عليه غرسا من غرس الجنة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها
لعقبه وذريته فأكل هو من ثمارها ، فقال إبليس ائذن لي ان آكل منه شيئا فأبى أن
يطعمه فجاء عند آخر عمر آدم ، وساق الحديث الى ان قال : ثم ان إبليس بعد وفاة آدم
ذهب فبال في أصل الكرم والنخلة فجرى الماء في عودهما ببول عدو الله تعالى فمن ثم
يختمر العنب والتمر فحرم الله تعالى على ذرية آدم كل مسكر لان الماء جرى ببول عدو
الله في النخلة والعنب وصار كل مختمر خمرا لان الماء اختمر في النخلة والكرمة من
رائحة بول عدو الله تعالى». فانظر الى قوله (عليهالسلام) : «وصار كل مختمر خمرا» من دلالته على دوران التسمية
مدار حصول الاختمار كما هو الظاهر من كلام أهل اللغة أيضا وهو الذي أراده المحقق
في المعتبر ولكن أولئك الفضلاء لم يعطوا التأمل حقه لا في الاخبار ولا في كلام أهل
اللغة فوقعوا فيما وقعوا فيه.
(فان قيل) ان
جملة من الاخبار ظاهرة في إطلاق الخمر على المعنى الأخص لعطف المسكر أو النبيذ
عليه ونحو ذلك من العبارات الظاهرة بل الصريحة في الاختصاص وعدم صحة الحمل على
المعنى الأعم ، وربما أشعر بكونه حقيقة في هذا الفرد في عرفهم (عليهمالسلام) فيكون حقيقة عرفية خاصة. مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة علي ابن مهزيار «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر.». وقوله (عليهالسلام) في رواية عمار : «لا تصل في ثوب اصابه خمر أو مسكر حتى تغسله». وقوله (عليهالسلام) في رواية يونس : «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله». ونحو ذلك ،
وعلى هذه الروايات اعتمد في المعالم في الحكم بنجاسة كل مسكر بعد اعتراضه على كلام
المحقق (قدسسره) بما قدمنا نقله.
(قلت) : الذي
يظهر لي من تتبع الاخبار في هذا المقام ان الخمر قبل نزول التحريم انما كان يطلق
عرفا على عصير العنب وإطلاقه على المعنى الأعم انما وقع في كلام
__________________
الله تعالى وكلام رسوله (صلىاللهعليهوآله) باعتبار الأحكام التي رتبوها عليه من حرمة أو نجاسة
كما عرفت من الأحاديث المتقدمة فهي حقيقة شرعية في المعنى الأعم وان كانت عرفا
انما تطلق على العصير العنبي ، وهم (عليهمالسلام) ربما اطلقوها على المعنى الشرعي كما تقدم في الحديثين
المنقولين عن علي بن الحسين (عليهالسلام) وربما اطلقوها على المعنى العرفي الدائر بين الناس كما
في الاخبار المذكورة.
هذا ، والظاهر
اتفاق كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) على تخصيص الحكم بالنجاسة في المسكر بما
كان مائعا بالأصالة وان عرض له الجمود دون الجامد بالأصالة كالحشيشة وان عرض له
الميعان ، والظاهر ان المستند في ذلك هو ان المتبادر من لفظة المسكر والنبيذ
ونحوهما في الأخبار انما هو الأشربة المتخذة من تلك الأشياء المعدودة في الأخبار
المتقدمة فيبقى ما عداها على حكم الأصل ، واما ثبوت النجاسة لها بعد الجمود فهو من
حيث توقف الطهارة بعد ثبوت النجاسة على الدليل ولم يثبت كون الجمود مطهرا فيبقى
على حكم الأصل. والله العالم.
(الثاني) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ممن قال بنجاسة الخمر في ان حكم
الفقاع حكمه ، ونقل العلامة في النهاية والمنتهى إجماع علمائنا على ذلك ، وذكر
المحقق في المعتبر عن الشيخ انه قال وألحق أصحابنا الفقاع بالخمر يعني في التنجيس
وهذا انفراد الطائفة. ثم قال المحقق : ويمكن ان يقال الفقاع خمر فيلحقه أحكامه اما
انه خمر فلما ذكره على الهدى (رضياللهعنه) قال : قال احمد حدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي عن
ضمرة قال الغبيراء التي نهى النبي (صلىاللهعليهوآله) عنها هي الفقاع قال وعن ابي هاشم الواسطي الفقاع نبيذ
الشعير فإذا نش فهو خمر ، قال وعن زيد بن أسلم الغبيراء التي نهى النبي عنها هي
الاسكركة وعن ابى موسى انه قال الاسكركة خمر الحبشة ، ومن طريق
الأصحاب ما رواه سليمان بن جعفر قال : «قلت للرضا
__________________
(عليهالسلام) ما تقول في شرب الفقاع؟ فقال هو خمر مجهول.». وعن
الوشاء قال : «كتبت إليه ـ يعني الرضا (عليهالسلام) ـ اسأله عن الفقاع؟ فقال حرام وهو خمر». وعنه (عليهالسلام) قال : «هي خمرة استصغرها الناس». وقال ابن الجنيد
وتحريمه من جهة نشيشه ومن ضراوة إنائه إذا كرر فيه العمل. (لا يقال) الخمر من
الستر وهو ستر العقل ولا ستر في الفقاع (لأنا نقول) التسمية ثابتة شرعا والتجوز
على خلاف الأصل فيكون حقيقة في المشترك وهو مائع حرم لنشيشه وغليانه ، وإذا ثبت ان
الفقاع خمر وقد بينا حكم الخمر فاطلب حكم الفقاع هناك. انتهى كلامه. قال في
المعالم بعد نقل ذلك عنه : ويرد على احتجاجه بأخبارنا لإدخاله في حقيقة الخمر نحو
ما ذكرناه في احتجاجه السابق لإدخال المسكرات. واما ما حكاه عن المرتضى فغير كاف
في إثبات مثله ، فالعمدة إذا على الإجماع المدعي ، ويؤيده ما رواه الكليني (قدسسره) عن محمد بن يحيى ثم أورد رواية أبي جميلة البصري
المتقدمة.
أقول : ما
أورده عليه هنا في الاحتجاج بأخبارنا لإدخال الفقاع في حقيقة الخمر بما ذكره سابقا
قد بينا ضعفه وان هذا الإطلاق حقيقة شرعية ، ومن الأخبار الدالة على ما دلت عليه
هاتان الروايتان المذكورتان في كلام المحقق (قدسسره) قول ابي الحسن (عليهالسلام) في جواب مكاتبة ابن فضال «هو الخمر وفيه حد شارب الخمر». وقول الصادق (عليهالسلام) في موثقة عمار : «هو خمر». وقوله (عليهالسلام) في رواية الحسين القلانسي «لا تقربه فإنه من الخمر». وفي رواية محمد بن سنان «هو الخمر بعينها». وفي رواية زرارة عن الصادق (عليهالسلام) «لو ان لي سلطانا على أسواق المسلمين لرفعت عنهم هذه الخمرة». وفي بعضها «هو خمر مجهول وفيه حد شارب الخمر». ومن أجل هذه الاخبار رجع صاحب الذخيرة
في هذا المقام
__________________
عما ذكره سابقا مما قدمنا نقله عنه ، حيث قال بعد إيراد جملة من هذه
الأخبار : لا يخفى انه وان أمكن إيراد النظر السابق هنا لكن الإنصاف ان من هذه
الاخبار يستفاد انه مثل الخمر في جميع الأحكام ويؤيده رواية أبي جميلة البصري ، ثم
ساق الرواية كما قدمناه. واما صاحب المدارك فإنه قال : والحكم بنجاسته مشهور بين
الأصحاب وبه رواية ضعيفة السند جدا نعم ان ثبت إطلاق الخمر عليه حقيقة كما ادعاه
المصنف في المعتبر كان حكمه حكم الخمر ، وقد تقدم الكلام فيه. انتهى. وقوله : «وقد
تقدم الكلام فيه» إشارة إلى مناقشته التي أشرنا إليها آنفا في عموم إطلاق الخمر ،
فظاهره هنا التوقف أو عدم القول بالنجاسة لعدم صدق الإطلاق عنده وحكمه بضعف الخبر
الدال على النجاسة ، والعجب منه (قدسسره) حيث لم يقف على ضابطة ولم يرجع الى رابطة فإن الخبر
الذي طعن عليه بالضعف وان كان كذلك لكن اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور جابر
لضعفه إذ لا مخالف في المسألة ، ولهذا ان المحقق الشيخ حسن فيما قدمنا نقله عنه
انما اعتمد على الإجماع وأيده بالرواية ، وهو (قدسسره) في غير موضع من كتابه قد جرى على هذه الطريقة وقد ذكر
في مسألة الدم الأقل من حمصة بعد ان نقل الروايات الدالة على نجاسته وطعن فيها
بضعف السند مع كونها مطابقة لمقتضى الأصل كما ذكره : «إلا انه لا خروج عما عليه
معظم الأصحاب» انتهى. وعلى هذا فقس.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان المفهوم من كلام الأصحاب ان الحكم بالتحريم والنجاسة تابع للاسم فحيث ما
صدق الاسم تعلقت به الأحكام ، قال في المسالك بعد ذكر المصنف الفقاع : «الأصل فيه
ان يتخذ من ماء الشعير كما ذكره المرتضى (رضياللهعنه) في الانتصار لكن لما كان النهي عنه معلقا على التسمية
ثبت له ذلك سواء عمل منه أم من غيره ، فما يوجد في أسواق أهل الخلاف مما يسمى
فقاعا يحكم بتحريمه تبعا للاسم إلا ان يعلم انتفاؤه قطعا» ونحوه كلام سبطه في
المدارك حيث قال بعد نقل كلام المرتضى في
الانتصار : وينبغي ان يكون المرجع فيه الى العرف لانه المحكم فيما لم يثبت
فيه وضع شرعي ولا لغوي.
أقول : المفهوم
من الاخبار ان الفقاع على قسمين : منه ما هو حلال طاهر وهو ما لم يحصل فيه الغليان
والنشيش أيام نبذه ، ومنه ما هو حرام نجس وهو ما يحصل فيه الغليان ، والى ذلك أشار
ابن الجنيد فيما نقله عنه في المعتبر فيما قدمناه من عبارته ، وجملة من الأصحاب قد
عدوا كلام ابن الجنيد خلافا في المسألة حيث ان ظاهرهم القول بالتحريم مطلقا ،
والحق في المسألة هو مذهب ابن الجنيد وعليه تدل صحيحة ابن ابي عمير عن مرازم قال : «كان يعمل لأبي الحسن (عليهالسلام) الفقاع في منزله ، قال ابن ابي عمير ولم يعمل فقاع
يغلى». ورواية عثمان بن عيسى قال : «كتب عبد الله بن محمد الرازي الى ابي جعفر (عليهالسلام) ان رأيت ان تفسر لي الفقاع فإنه قد اشتبه علينا أمكروه
هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليهالسلام) لا تقرب الفقاع إلا ما لم تضر آنيته أو كان جديدا.
فأعاد الكتاب اليه اني كتبت اسأل عن الفقاع ما لم يغل فأتاني ان اشربه ما كان في
إناء جديد أو غير ضار ولم اعرف حد الضراوة والجديد وسأل أن يفسر ذلك له وهل يجوز
شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج والخشب ونحوه من الأواني؟ فكتب يجعل الفقاع في
الزجاج وفي الفخار الجديد الى قدر ثلاث عملات ثم لا يعد منه بعد ثلاث عملات إلا في
إناء جديد والخشب مثل ذلك». والمستفاد منها ان الفقاع الذي يتعلق به التحريم وخرجت
الاخبار بالمنع عنه وانه خمر هو الذي يغلى وغليانه عبارة عن هيجانه واغتلامه وان
من الفقاع ما لا يكون كذلك وهو حلال ، وحينئذ فإطلاق أصحابنا القول بالتحريم
وجعلهم التحريم دائرا مدار صدق اسم الفقاع ليس في محله.
ثم ان ظاهرهم ـ
كما تقدم في عبارة المحقق ـ انه لا يشترط فيه بلوغ حد الإسكار وظاهر الاخبار ايضا
ان المدار في الفرق بين الحلال والحرام من قسميه انما هو الغليان
__________________
وعدمه ، اللهم إلا ان يدعى انه بالغليان يكون مسكرا كما في سائر الأشربة
المسكرة ، ولم أقف هنا على دليل قاطع يظهر منه حكم المسألة إلا الخبران المذكوران
وهما غير خاليين من الإجمال كما عرفت ولكن ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم)
هو ما ذكرناه كما لا يخفى على من لاحظ كلامهم ، وأصرح من عبارة المحقق فيما قلنا
ما ذكره في مجمع البحرين للشيخ التقي الزاهد الشيخ فخر الدين بن طريح «والفقاع
كرمان شيء يشرب يتخذ من ماء الشعير فقط وليس بمسكر ولكن ورد النهي عنه ، قيل سمي
فقاعا لما يرتفع في رأسه من الزبد».
هذا ، واما ما
ذكره في المدارك ـ من انه ينبغي ان يكون المرجع فيه الى العرف لانه المحكم فيما لم
يثبت فيه وضع شرعي ولا عرفي ـ ففيه انه وان اشتهر ذلك بينهم وجعلوه من جملة
القواعد التي يبنون عليها الأحكام إلا ان فيه (أولا) ـ ان المفهوم من الأخبار على
وجه لا يعتريه الإنكار عند من رجع إليها وتأمل فيها بعين الاعتبار ان الواجب في
صورة عدم العلم بالمعنى المراد من الخطاب الشرعي هو الفحص والبحث من اخبارهم (عليهمالسلام) عن تحصيل المعنى المراد منه ومع عدم الوقوف عليه هو
الرجوع والوقوف على جادة الاحتياط. و (ثانيا) ـ ان الحوالة على العرف مع ما علم
يقينا من ان العرف الذي عليه الناس مختلف باختلاف البلدان والأقطار فكل قطر لهم
عرف واصطلاح ليس لغيرهم من سائر الأقطار ، ومن المعلوم ان الأحكام الشرعية مضبوطة
معينة فكيف تناط بما هو مختلف متعدد؟ مضافا ذلك الى ان تتبع جميع الأقطار في
الاطلاع على ذلك العرف أمر عسر بل متعذر كما لا يخفى ، واما فيما نحن فيه من هذه
المسألة فقد عرفت الحكم فيها مما نقلناه من الخبرين المذكورين حسبما ذكرنا. والله
العالم
(الثالث) ـ الحق
جمع من الأصحاب بالمسكرات في النجاسة العصير العنبي إذا على واشتد ولم يذهب ثلثاه
وبعض علق الحكم على مجرد الغليان وبعضهم على الاشتداد ، قال المحقق في المعتبر : «وفي
نجاسة العصير بغليانه قبل اشتداده تردد اما التحريم
فعليه إجماع فقهائنا ، ثم منهم من اتبع التحريم بالنجاسة والوجه ، الحكم
بالتحريم مع الغليان حتى يذهب الثلثان ووقوف النجاسة على الاشتداد» والمراد
بالغليان انقلابه وصيرورة أسفله أعلاه وبالاشتداد الغلظ والثخانة. ولا ريب ان
التحريم يترتب على مجرد الغليان بلا خلاف نصا وفتوى وانما الخلاف في النجاسة هل
تترتب على ذلك أيضا أو تتوقف على الاشتداد؟ والظاهر من كلام الشهيد في الذكرى وكذا
المحقق الشيخ علي ان الاشتداد مسبب عن مجرد الغليان فالتحريم والنجاسة متلازمان ،
والذي عليه الأكثر هو ما صرح به المحقق هنا من تأخر الاشتداد وان بينهما زمانا
متحققا كما هو المشاهد بالوجدان خصوصا في الذي يغلي من نفسه أو في الشمس.
ثم ان الظاهر
من كلامهم ان القول بالنجاسة هو المشهور ، فممن صرح بالنجاسة المحقق في المعتبر
وقال في الشرائع بعد ان ذكر المسكرات وحكم بنجاستها : وفي حكمها العصير العنبي إذا
غلا واشتد والمراد بالغليان انقلابه وصيرورة أعلاه أسفله وباشتداده حصول الغلظ
والثخانة فيه ، وبذلك صرح العلامة في المنتهى والإرشاد فعلق الحكم على الغليان
والاشتداد ايضا ، وفي التذكرة : والعصير إذا غلى حرم حتى يذهب ثلثاه ، وهل ينجس
بالغليان أو يقف على الشدة؟ إشكال. وهو صريح في جزمه بالنجاسة وانما توقف في
حصولها بمجرد الغليان أو تتوقف على الاشتداد ، وفي المختلف «الخمر وكل مسكر
والفقاع والعصير إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو من نفسه نجس ، ذهب إليه أكثر
علمائنا كالمفيد والشيخ ابي جعفر والمرتضى وابي الصلاح وسلار وابن إدريس» ثم نقل
خلاف ابن ابي عقيل والصدوق حسبما تقدم في الخمر ، وظاهر كلامه نسبة القول بالنجاسة
في جميع هذه الأشياء المعدودة في كلامه التي من جملتها العصير إلى الأكثر ومنهم
هؤلاء المذكورون ، وبالجملة فالظاهر ان القول المذكور مشهور ولا سيما بين
المتأخرين ، وبذلك صرح الشهيد الثاني في الروض ايضا ، والذي يظهر من الذكرى ان
القائل به قليل حيث قال : وفي حكمها العصير إذا غلى واشتد في قول ابن حمزة وفي
المعتبر يحرم ، ثم نقل ملخص عبارة المعتبر ثم قال وتوقف الفاضل في نهايته ،
الى ان قال ولم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة. مع انه ممن قال بذلك أيضا في الرسالة
الألفية. وبالجملة فإن من ذكر العصير في هذا المقام فإنما صرح فيه بالنجاسة ولكن
جملة من المتأخرين اعترضوهم بعدم الدليل على ذلك ، ولهذا قال الشهيد الثاني (قدسسره) في شرح الألفية ان تحقق القولين في المسألة مشكوك فيه
بمعنى انه لا قائل إلا بالنجاسة ، وفيه رد لما ذكره الشهيد في الذكرى من انه لم
يقف لغير من ذكره على القول بالنجاسة ، نعم قال في المدارك انه نقل عن ابن ابي
عقيل التصريح بطهارته ومال إليه جدي (قدسسره) في حواشي القواعد وقواه شيخنا المعاصر سلمه الله تعالى
وهو المعتمد تمسكا بمقتضى الأصل السالم عن المعارض. انتهى. والظاهر ان النقل عن
ابن ابي عقيل انما هو بسبب خلافه في الخمر وقوله بطهارته المستلزم لطهارة ما حمل
عليه ، نعم قول المتأخرين بالطهارة لا ضير فيه ولا منافاة لما ذكرناه.
وكيف كان فانا
لم نقف لهم فيما ذهبوا اليه من القول بالنجاسة على دليل ولم ينقل أحد منهم دليلا
في المقام ، قال في الذكرى على اثر الكلام المتقدم : ولا نص على نجاسة غير المسكر
وهو منتف هنا. وقال في البيان ايضا انا لم نقف على نص يقتضي تنجيسه إلا ما دل على
نجاسة المسكر لكنه لا يسكر بمجرد غليانه واشتداده. ونقل في المعالم عن والده في
المسالك ان نجاسته من المشاهير بغير أصل.
أقول : قد صرح
الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على المدارك باختياره القول بالنجاسة واستدل بصحيحة
محمد بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل من أهل المعرفة يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ
على الثلث وانا أعرف أنه يشربه على النصف؟ فقال خمر لا تشربه». قال وإطلاق الخمر
عليه يقتضي لحوق حكمه به.
__________________
أقول : هذه
الرواية بهذا المتن رواها في الكافي وفي التهذيب عن معاوية بن عمار واما ما ذكره
عن محمد بن عمار فالظاهر انه من سهو قلمه ، وأيضا في سند الرواية يونس ابن يعقوب
وحديثه عندهم معدود في الموثق لتصريح جملة منهم بكونه فطحيا وان وثقه آخرون ، وهذا
المتن الذي نقله هو الذي في التهذيب واما المتن المنقول في الكافي فهو عار عن لفظ
الخمر وهذه صورته : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول
قد طبخ على الثلث وانا اعلم انه يشربه على النصف أفاشربه بقوله وهو يشربه على
النصف؟ فقال لا تشربه». وعلى هذه الرواية فلا دلالة في الخبر ، والعجب من صاحبي
الوافي والوسائل قد نقلا الرواية بالمتن الذي في الكافي في الكتابين المذكورين ولم
يتنبها لما في البين من الاشكال المذكور ، وكيف كان فالاعتماد على ما ذكره الشيخ
مع خلو الكافي عنه لا يخلو من اشكال لما عرفت من أحوال الشيخ وما وقع له من
التحريف والزيادة والنقصان في الأخبار ، ومع إغماض النظر عن ذلك فإثبات النجاسة
بذلك لا يخلو من توقف إذ لعل الغرض من التشبيه انما هو بالنسبة إلى التحريم المتفق
عليه ، وبالجملة فأصالة الطهارة أقوى متمسك حتى يقوم الدليل على ما يوجب الخروج
عنه ، ونحن انما خرجنا عنه في الفقاع لاستفاضة الروايات بكونه خمرا كما عرفت ،
وترتب هذا المعنى على مجرد هذه الرواية مع ما عرفت من العلة محل توقف. والله
العالم.
(تذنيب) ـ يشتمل
على الكلام في حل عصير التمر والزبيب ، وهذه المسألة وان كانت خارجة عن محل البحث
وان الأنسب بها كتاب الأطعمة والأشربة إلا انها لما كانت من الضروريات التي تلجئ
الحاجة الى معرفة حكمها لابتلاء الناس بها ووقوع الخلاف في هذه الأزمنة المتأخرة
فيها ولهذا كثر السؤال عنها وربما صنف فيها الرسائل وأكثر القائلون فيها بالتحريم
من الدلائل التي لا تصل عند التأمل إلى طائل سوى إيقاع الناس في المشاكل والمعاضل
، فرأيت إن اكشف عن وجه تحقيقها نقاب الإبهام واحيط
فيها بأطراف النقض والإبرام على وجه لم يسبق اليه سابق من الاعلام مذيلا
باخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) وتحقيقات تلذها الافهام وان طال بذلك زمام الكلام فإنه
لما ذكرنا من أهم المهام ، فأقول ـ وبالله التوفيق ـ ان الكلام هنا في الطهارة
والنجاسة والحل والحرمة في كل من الفردين المذكورين :
اما عصير
الزبيب فالظاهر انه لا خلاف في طهارته وعدم نجاسته بالغليان فاني لم أقف على قائل
بالنجاسة هنا ، وبذلك صرح في الذخيرة أيضا فقال بعد الكلام في نجاسة العصير العنبي
: وهل يلحق به عصير الزبيب إذا غلى في النجاسة؟ لا اعلم بذلك قائلا واما في
التحريم فالأكثر على عدمه. انتهى. ويلوح من كلام شيخنا الشهيد الثاني وقوع الخلاف
هنا حيث قال بعد الكلام في نجاسة عصير العنب : ولا يلحق به عصير التمر وغيره حتى
الزبيب على الأصح ما لم يحصل فيه خاصية الفقاع ، للأصل وخروجه عن مسمى العنب وذهاب
ثلثيه بالشمس. وقال في شرح الرسالة : ولا يلحق به عصير التمر وغيره إجماعا ولا
الزبيب على أصح القولين للأصل وضعف متمسك القائل بالإلحاق. انتهى. وهو جيد. ومن
ذلك علم ان الخلاف انما هو في الزبيب واما التمر وغيره فقد عرفت نقل شيخنا المشار
إليه الإجماع على عدم النجاسة فيه.
بقي البحث في
التحريم في كل منهما وعدمه ، والبحث في ذلك يتوقف على تقديم مقدمة تشتمل على فوائد
يظهر الحق منها لكل طالب وقاصد ويتضح بها ما في المسألة من المقاصد :
(الفائدة
الأولى) ـ لا يخفى ان المستفاد من اخبار أهل العصمة (عليهمالسلام) ان العصير في عرفهم اسم لما يؤخذ من العنب خاصة وان ما
يؤخذ من التمر إنما يسمى بالنبيذ وما يؤخذ من الزبيب يسمى بالنقيع وربما أطلق
النبيذ ايضا على ماء الزبيب ، وهذا هو الذي يساعده العرف أيضا فإنه لا يخفى ان
العصير انما يطلق على الأجسام التي فيها مائية لاستخراج الماء منها كالعنب مثلا
والرمان والبطيخ بنوعيه ونحو ذلك ، واما الأجسام الصلبة التي فيها حلاوة أو حموضة
ويراد استخراج حلاوتها أو حموضتها بالماء مثل التمر والزبيب
والسماق والزرشك ونحوها فإنه إنما يستخرج ما فيها من الحلاوة أو الحموضة
اما بنبذها في الماء ونقعها فيه زمانا يخرج حلاوتها أو حموضتها الى الماء أو انها
تمرس في الماء من أول الأمر من غير نقع أو انها تغلي بالنار لأجل ذلك ، والمعمول
عليه في الصدر الأول انما هو النبذ في الماء والنقع فيه كما ستطلع عليه ان شاء
الله تعالى ، وهذا ظاهر يشهد به الوجدان في جميع البلدان ، وبهذا ايضا صرح كلام
أهل اللغة ، قال الفيومي في المصباح المنير في مادة عصر : عصرت العنب ونحوه عصرا
من باب ضرب : استخرجت ماءه وقال في مادة نقع انقعت الدواء وغيره انقاعا : تركته في
الماء حتى انتقع وهو نقيع فعيل بمعنى مفعول ، الى ان قال ويطلق النقيع على الشراب
المتخذ من ذلك فيقال نقيع التمر والزبيب وغيره إذا ترك في الماء حتى ينتقع من غير
طبخ. انتهى. فانظر الى وضوح هذا الكلام في المقصود والمراد من الفرق بين القسمين
والتغاير في الاسمين بجعل ما يتخذ من الأجسام المائية عصيرا وما يتخذ من التمر
والزبيب ونحوهما نقيعا ، وقال في باب مرس : مرست التمر مرسا من باب قتل : دلكته في
الماء حتى تتحلل اجزاؤه. انتهى. وقال ابن الأثير في النهاية : وفي حديث الكرم
يتخذونه زبيبا ينقعونه اى يخلطونه بالماء ليصير شرابا ، الى ان قال والنقيع شراب
يتخذ من زبيب أو غيره ينقع في الماء من غير طبخ. وقال في القاموس في مادة عصر :
عصر العنب ونحوه يعصره فهو معصور وعصير : استخرج ما فيه ، الى ان قال وعصيرة ما
يحلب منه. وقال في مادة نقع : والنقيع البئر الكثيرة الماء الجمع انقعة ، وشراب من
زبيب أو كل ما ينقع تمرا أو زبيبا أو غيرهما. انتهى. وهي صريحة ايضا في المراد ،
وقال في مجمع البحرين في مادة عصر : والعصير من العنب يقال عصرت العنب عصرا من باب
ضرب : استخرجت ماءه ، واسم الماء العصير فعيل بمعنى مفعول. وقال في مادة نقع :
والنقيع شراب يتخذ من زبيب ينقع في الماء من غير طبخ وقد جاء في الحديث كذلك. وقال
في مادة نبذ : والنبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة
والشعير وغير ذلك. انتهى. وهو ظاهر
في المطلوب على الوجه المحبوب ، وعلى هذا فقد اتفق على صحة ما ذكرناه الشرع
والعرف واللغة. وبذلك يظهر انه حيثما يذكر العصير في الأخبار فإنما يراد به ماء
العنب إلا مع قرينة تدل على العموم وان ماء التمر والزبيب لا مدخل لهما في إطلاق
هذا اللفظ (فان قيل) : ان التمر والزبيب بعد نقعهما في الماء وخروج حلاوتهما
يعصران فيصدق عليهما العصير بذلك (قلنا) نعم انهما يعصران كما ذكرت ويطلق عليهما
العصير لغة بمعنى المعصور إلا ان مبنى ما ذكرنا من الفرق والتسمية انما هو بالنسبة
إلى استخراج ما في تلك الأشياء من المياه أو غيرها من أول الأمر فإن المعصورات
يستخرج ماؤها من أول الأمر بالعصر ولا يحتاج إلى أمر آخر غيره ، واما هذه ونحوها
فإنها تحتاج أولا إلى إضافة الماء إليها ثم نقعها أو غليها أو مرسها حتى يخرج ما
فيها ثم تعصر بعد ذلك وتصفي
ومن الاخبار
الصريحة فيما فصلناه الدالة على ما ادعيناه صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من خمسة : العصير من الكرم والنقيع من الزبيب
والبتع من العسل والمرز من الشعير والنبيذ من التمر». ونحوها ما في الكافي عن علي
بن إسحاق الهاشمي وقد تقدمت قريبا ، وحينئذ فما ورد في الاخبار بلفظ العصير مطلقا
مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة عبد الله بن سنان : «كل عصير اصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه». وقوله
(عليهالسلام) في حسنة حماد بن عثمان : «لا يحرم العصير حتى يغلى». وقوله (عليهالسلام) في رواية حماد ايضا لما سأله عن شراب العصير فقال : «اشربه ما لم يغل فإذا
غلى فلا تشربه». وفي رواية ذريح «إذا نش العصير أو غلا حرم». وفي رواية محمد بن الهيثم عن رجل عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن العصير
__________________
يطبخ في النار حتى يغلى من ساعته فيشربه صاحبه؟ قال إذا تغير عن حاله فغلى
فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه». وأمثال ذلك فإنه يجب حمله على العصير
العنبي حمل المطلق على المقيد كما هو القاعدة المشهورة والمتكررة الغير المنكورة.
ومما يزيدك
بيانا وإيضاحا لهذا الحمل المذكور ورود جملة من الاخبار الدالة على العلة في تحريم
العصير بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه وحله بعد ذلك فان موردها هو العنب خاصة دون
غيره من الأشربة :
فمن ذلك ما
رواه في الكافي عن ابي الربيع الشامي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها وحرامها ومتى اتخذ
الخمر؟ فقال ان آدم (عليهالسلام) لما اهبط من الجنة اشتهى من ثمارها فانزل الله سبحانه
قضيبين من عنب فغرسهما آدم فلما أن أورقا وأثمرا وبلغا جاء إبليس لعنه الله فحاط
عليهما حائطا فقال آدم ما حالك يا ملعون؟ فقال له إبليس إنهما لي فقال كذبت فرضيا
بروح القدس فلما انتهيا اليه قص عليه آدم قصته فأخذ روح القدس ضغثا من نار ورمى به
عليهما والعنب في أغصانهما حتى ظن آدم انه لم يبق منهما شيء وظن إبليس مثل ذلك ،
قال فدخلت النار حيث دخلت وقد ذهب منهما ثلثاهما وبقي الثلث ، فقال الروح اما ما
ذهب فحظ إبليس واما ما بقي فلك يا آدم». وعن الحسن بن محبوب عن خالد بن نافع عن
الصادق (عليهالسلام) مثله ورواه الصدوق في العلل نحوه .
وما رواه في
الكافي أيضا في الحسن عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لما هبط نوح (عليهالسلام) من السفينة غرس غرسا فكان فيما غرس الحبلة ثم رجع الى
أهله فجاء إبليس لعنه الله فقلعها ، ثم ان نوحا عاد الى غرسه فوجده على حاله ووجد
الحبلة قد قلعت ووجد إبليس عندها فأتاه جبرئيل فأخبره ان إبليس لعنه الله قلعها ،
فقال نوح لإبليس ما دعاك الى قلعها؟ فوالله ما غرست غرسا أحب الي منها
__________________
ووالله لا أدعها حتى أغرسها. فقال إبليس وانا والله لا أدعها حتى أقلعها ،
فقال له اجعل لي منها نصيبا ، فجعل له الثلث فأبى أن يرضى فجعل له النصف فأبى أن
يرضى فأبى نوح ان يزيده فقال جبرئيل لنوح يا رسول الله أحسن فإن منك الإحسان فعلم
نوح انه قد جعل له عليها سلطان فجعل نوح له الثلثين ، فقال أبو جعفر (عليهالسلام) إذا أخذت عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان وكل واشرب
حينئذ فذاك نصيب الشيطان». أقول : الحبلة بالضم الكرم أو أصل من أصوله على ما صرح
به أهل اللغة.
وروى في الكتاب
المذكور أيضا في الموثق عن سعيد بن يسار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان إبليس لعنه الله نازع نوحا في الكرم فأتاه
جبرئيل فقال ان له حقا فأعطه فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس لعنه الله فأعطاه النصف
فلم يرض فطرح جبرئيل نارا فأحرقت الثلثين وبقي الثلث فقال ما أحرقت النار فهو
نصيبه وما بقي فهو لك يا نوح حلال».
وروى الصدوق في
العلل بسنده عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كان ابي يقول ان نوحا حين أمر بالغرس كان إبليس
إلى جانبه فلما أراد ان يغرس العنب قال هذه الشجرة لي فقال له نوح كذبت فقال إبليس
فما لي منها؟ فقال نوح لك الثلثان. فمن هنا طاب الطلاء على الثلث».
وروى فيه ايضا
بسنده عن وهب بن منبه قال : «لما خرج نوح من السفينة غرس قضبانا كانت معه من
النخل والأعناب وسائر الثمار فأطعمت من ساعتها وكانت معه حبلة العنب وكان آخر شيء
أخرج حبلة العنب فلم يجدها نوح وكان إبليس قد أخذها فخبأها فنهض نوح ليدخل السفينة
فيلتمسها ، الى ان قال فقال له الملك ان لك فيها شريكا في عصيرها فأحسن مشاركته
فقال نعم له السبع ولي ستة أسباع فقال له الملك أحسن فأنت محسن فقال نوح له سدس
ولي خمسة أسداس فقال له الملك أحسن فأنت
__________________
محسن فقال له خمس ولي أربعة أخماس فقال له الملك أحسن فإنك محسن فقال نوح
له الربع ولي ثلاثة أرباع فقال له الملك أحسن فإنك محسن فقال له النصف ولي النصف
فقال أحسن فأنت محسن فقال لي الثلث وله الثلثان فرضي فما كان فوق الثلث من طبخها
فلإبليس وهو حظه وما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح وهو حظه فذلك هو الحلال الطيب
فيشرب منه».
أقول : وقد دلت
هذه الأخبار بأوضح دلالة لا يعتريها الإنكار ان الشراب الذي يحرم بغليانه ولا يحل
إلا بذهاب ثلثيه انما هو ماء العنب لان النزاع من آدم ونوح ومن إبليس لعنه الله
انما وقع في شجرة العنب خاصة دون سائر الأشجار. وحينئذ فما ورد في الأخبار من ان
العصير يحرم بالغليان ولا يحل إلا بذهاب الثلثين إنما أريد به عصير العنب خاصة
لأكل عصير كما توهمه غير واحد من قاصري النظر وان ارتكب تخصيصه بأفراد أخر ،
وبالجملة فاختصاص العلة الموجبة للحرمة بما أخذ من الكرم يوجب بقاء ما أخذ من غيره
على أصل الحلية والإباحة ، نعم يحرم المسكر منها بالنصوص المستفيضة الدالة على ان
ما أسكر كثيره فكثيرة وقليله حرام ويبقى ما عداه غلى بالنار أو لم يغل على أصل
الحلية ، ويؤيد ذلك ما ورد في جملة من اخبار العصير الذي يحرم بالغلي ويحل بذهاب
ثلثيه من التعبير عنه تارة بالعصير كما عرفت فيما تقدم من الروايات وتارة يعبر عنه
بالطلاء وهو ما طبخ من عصير العنب وتارة يعبر عنه بالبختج بالباء الموحدة ثم الخاء
المعجمة ثم التاء المثناة من فوق وفي آخره جيم وهو العصير من العنب المطبوخ وهو
معرب پخته.
وبالجملة فإنه
لا يخفى على من تأمل في الأخبار الواردة بلفظ العصير في أبواب البيوع وأبواب الأشربة
سؤالا وجوابا ان العصير كان شيئا معينا مخصوصا معلوما يسأل عنه تارة بجواز شربه
وعدمه فيجاب بجواز شربه ما لم يغل وبعد الغلى فإنه يحرم حتى يذهب ثلثاه ، ويسأل
عمن يشربه قبل ذهاب ثلثيه فيجاب بأنه فعل محرما ، ويسأل عن جواز بيعه فيجاب بجواز
بيعه
بالنقد خاصة ، ونحو ذلك من الأحكام المجراة عليه في الأخبار ، ولو كان
المراد بالعصير انما هو المعنى اللغوي وهو كل ما يعصر وهو أمر كلي شامل لافراد
عديدة لا تكاد تحصى كثرة لما اطردت هذه الأحكام ولا كانت كلية في كل مقام. فان
افراد العصير بهذا المعنى الذي بنوا عليه غير متفقة كما لا يخفى على ذوي الأفهام
فإنه ليس كل شيء يعصر فإنه يحرم بمجرد غلية ولا يحرم بيعه بالنسيئة ولا يتغير
بتأخيره حتى يصير محرما.
وها نحن نسرد
لك جملة من الأخبار الواردة في أبواب البيع زيادة على ما قدمناه من الأخبار
الواردة في باب الشراب ، ففي صحيحة البزنطي قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن بيع العصير فيصير خمرا قبل ان يقبض الثمن؟ قال فقال
لو باع ثمرته ممن يعلم انه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس واما إذا كان عصيرا فلا
يباع إلا بالنقد». وفي رواية أبي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن ثمن العصير قبل ان يغلي لمن يبتاعه
ليطبخه أو يجعله خمرا؟ قال إذا بعته قبل ان يكون خمرا وهو حلال فلا بأس». وفي
رواية يزيد بن خليفة قال : «كره أبو عبد الله (عليهالسلام) بيع العصير بتأخير». قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر
: لا يؤمن ان يصير خمرا قبل قبض الثمن فيأخذ ثمن الخمر. وصحيحة رفاعة بن موسى قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر عن بيع العصير ممن يخمره؟ قال حلال ألسنا
نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا؟». الى غير ذلك من الاخبار الواردة من هذا
القبيل ، ولا يخفى على المتأمل فيها انه انما أريد بالعصير فيها فرد خاص من
المعصورات لأكل ما يعصر كما توهمه من لا تأمل له في الاخبار ولم يعط النظر حقه من
التدبر والاعتبار ، وان المراد انما هو عصير العنب بالخصوص لان الخمر كما عرفته
فيما تقدم حقيقة في ماء العنب المسكر وان كان قد أطلق شرعا على ما هو أعم منه ومن سائر
المسكرات ، ومن ذا الذي يدعى ان كل معتصر يصير خمرا بتأخيره زمانا وان كل معتصر
فإنه يحرم بمجرد غليانه حتى يتم له دعوى
__________________
الكلية في لفظ العصير من هذه الأخبار؟
وبالجملة فجميع
الأخبار الواردة بلفظ العصير مطلقا غاية ما يتوهم منها الإطلاق بمعنى الفرد
المنتشر فيصير كالنكرة المراد بها فرد شائع في جنسه ، وهذا الإطلاق قد عرفت انه
مقيد بالصحيحة المتقدمة والأخبار التي معها ونحوها مما دل على اختصاص العصير بماء
العنب خاصة ، واما الحمل على الكلية بمعنى ان المراد منها كل ما يعتصر فهو لا يمكن
توهمه ممن له أدنى روية وتمييز في الأحكام فضلا عن ان يكون من ذوي الأذهان
والافهام ، نعم ذلك التوهم انما يتجه في صحيحة عبد الله بن سنان المسورة بكل وسيأتي تحقيق الحال في إيضاحها وبيانها ان شاء الله
تعالى ، على ان جملة من الأخبار الواردة بالعصير في باب البيع وأبواب الشراب منها
ما أضيف فيها الى العنب ومنها ما أطلق ونحن هنا قد اقتصرنا على نقل ما أطلق الذي
هو محل الشبهة ، ولا ريب انه مع ملاحظة مطلقها والضم الى مقيدها يجب حمل المطلق
على المقيد كما هو القاعدة المطردة.
(الفائدة
الثانية) ـ قد عرفت في الفائدة الاولى ان النبيذ اسم مخصوص بما يؤخذ من التمر
وربما أطلق ايضا على ما يؤخذ من الزبيب ، وهذه جملة من الأخبار نسردها عليك في هذه
الفائدة صريحة الدلالة في ذلك ويستفاد منها ايضا ان النبيذ على قسمين : حلال وهو
ما لم يسكر طبخ أو لم يطبخ ، وحرام وهو ما أسكر طبخ أو لم يطبخ فمدار الحل والحرمة
فيه انما هو على الإسكار وعدمه :
فمن تلك
الأخبار رواية الكلبي النسابة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن النبيذ؟ فقال حلال. فقلت انا ننبذه فنطرح فيه العكر
وما سوى ذلك؟ فقال شه شه تلك الخمرة المنتنة. الحديث».
ورواية حنان بن
سدير قال : «سمعت رجلا وهو يقول لأبي عبد الله (عليه
__________________
السلام) ما تقول في النبيذ فإن أبا مريم يشربه ويزعم أنك أمرته بشربه؟ فقال
صدق أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال ولم يسألني عن المسكر ، قال ثم قال
(عليهالسلام) : ان المسكر ما اتقيت فيه أحدا سلطانا ولا غيره ، قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام. فقال له
الرجل جعلت فداك هذا النبيذ الذي أذنت لأبي مريم في شربه أي شيء هو؟ فقال اما أبي
فإنه كان يأمر الخادم فيجيء بقدح ويجعل فيه زبيبا ويغسله غسلا نقيا ثم يجعله في
إناء ثم يصب عليه ثلاثة مثله أو أربعة ماء ثم يجعله بالليل ويشربه بالنهار ويجعله
بالغداة ويشربه بالعشي وكان يأمر الخادم بغسل الإناء في كل ثلاثة أيام لئلا يغتلم
فان كنتم تريدون النبيذ فهذا النبيذ». دلت هذه الرواية بإطلاقها على اباحة النبيذ
بجميع أنواعه عدا المسكر منه فإنه (عليهالسلام) أقر أبا مريم على تحليل النبيذ بقول مطلق ولم يستثن
منه إلا المسكر ، ومثلها رواية الكلبي المتقدمة فإنه أجابه أولا بأنه حلال ومراده
هذا الفرد الذي ذكره (عليهالسلام) وقد صرح به أيضا في آخر الخبر المذكور فلما أخبره بأنه
يجعل فيه العكر ونحوه مما يصير به مسكرا أجاب بأنه يصير خمرا محرما.
ورواية أيوب بن
راشد قال : «سمعت أبا البلاد يسأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن النبيذ فقال لا بأس به. فقال انه يوضع فيه العكر؟
فقال بئس الشراب ولكن انبذوه غدوة واشربوه بالعشي. الحديث».
وحسنة عبد
الرحمن بن الحجاج قال : «استأذنت على ابي عبد الله (عليهالسلام) لبعض أصحابنا فسأله عن النبيذ فقال حلال فقال أصلحك
الله إنما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر فيغلي حتى يسكر؟ فقال أبو عبد الله
(عليهالسلام) قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : كل مسكر حرام».
__________________
ورواية إبراهيم
بن ابي البلاد قال : «دخلت على ابي جعفر بن الرضا (عليهالسلام). فدعى بطبق فيه زبيب فأكلت ثم أخذ في الحديث فشكا الي
معدته وعطشت فاستقيت ماء فقال يا جارية اسقيه من نبيذي فجاءتني بنبيذ مريس في قدح
من صفر فشربته فوجدته احلى من العسل ، فقلت له هذا الذي أفسد معدتك. قال فقال لي
هذا تمر من صدقة النبي (صلىاللهعليهوآله) يؤخذ غدوة فيصب عليه الماء فتمرسه الجارية واشربه على
اثر الطعام لسائر نهاري فإذا كان الليل أخذته الجارية فسقته أهل الدار. فقلت له ان
أهل الكوفة لا يرضون بهذا. قال وما نبيذهم؟ قال قلت يؤخذ التمر فينقع ويلقى عليه
القعوة. قال وما القعوة؟ قلت الداذي. قال وما الداذي. قلت حب يؤتى به من البصرة
فيلقى في هذا النبيذ حتى يغلى ثم يسكن ثم يشرب. فقال هذا حرام». وفي رواية أخرى
لهذا الراوي عنه (عليهالسلام) أيضا في وصف نبيذ أهل الكوفة قال في آخر الخبر : «وما الداذي؟ قلت ثقل التمر يصري به
في الإناء حتى يهدر النبيذ ويغلى ثم يسكن ويشرب. فقال هذا حرام». وحكمه (عليهالسلام) بالتحريم في هذين الخبرين من حيث الإسكار وصيرورته خمرا
بما يوضع فيه كما تكرر في الأخبار مما تقدم ويأتي ان شاء الله تعالى من اضافة
المسكر الى النبيذ في حال نضحه وغليانه وتصريحهم (عليهمالسلام) بأنه يصير خمرا مسكرا.
وموثقة سماعة قال «سألته عن التمر والزبيب يطبخان للنبيذ؟ فقال لا
وقال كل مسكر حرام. وقال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ما أسكر كثيره فقليله حرام. وقال لا يصلح في النبيذ
الخميرة وهي العكرة». أقول : إنما منع (عليهالسلام) من طبخها للنبيذ لكون المعمول يومئذ هو الطبخ الذي
تكرر في الاخبار المنع من وضع العكر فيه حتى يصير مسكرا كما يدل عليه تتمة الخبر
المذكور.
__________________
ورواية يزيد بن
خليفة وهو رجل من بني الحارث بن كعب قال : «أتيت المدينة وزياد بن عبيد الله
الحارثي عليها فاستأذنت على ابي عبد الله (عليهالسلام) فدخلت عليه وسلمت عليه وتمكنت من مجلسي فقلت لأبي عبد
الله (عليهالسلام) اني رجل من بني الحارث بن كعب قد هداني الله تعالى الى
محبتكم ومودتكم أهل البيت. قال فقال لي أبو عبد الله (عليهالسلام) : كيف اهتديت الى مودتنا أهل البيت فوالله ان محبتنا
في بني الحارث بن كعب لقليل؟ قال : فقلت له جعلت فداك ان لي غلاما خراسانيا وهو
يعمل القصارة وله همشهريجون أربعة وهم يتداعون كل جمعة فتقع الدعوة على رجل منهم
فيصيب غلامي في كل خمس جمع جمعة فيجعل لهم النبيذ واللحم ، قال ثم إذا فرغوا من
الطعام واللحم جاء بإجانة فملأها نبيذا ثم جاء بمطهرة فإذا ناول إنسانا منهم قال
لا تشرب حتى تصلي على محمد وآل محمد ، واهتديت الى مودتكم بهذا الغلام. قال فقال
لي استوص به خيرا واقرأه مني السلام وقل له يقول لك جعفر بن محمد (عليهالسلام) انظر الى شرابك هذا الذي تشربه فان كان يسكر كثيره فلا
تقربن قليله فان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال كل مسكر حرام. الحديث». فانظر الى ظهور هذا الخبر
في عموم تحليل النبيذ مطلقا عدا المسكر منه فان المقام مقام البيان والحاجة وقصده (عليهالسلام) هداية ذلك الغلام الى الحلال دون الحرام ، فلو كان هنا
فرد آخر من النبيذ غير المسكر حراما لنبه عليه ولمنعه من شربه.
ورواية الفضيل
بن يسار عن الباقر (عليهالسلام) قال : «سألته عن النبيذ فقال حرم الله تعالى الخمر
بعينها وحرم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من الأشربة كل مسكر». والتقريب ان السائل سأل عن
النبيذ وما يحل منه وما يحرم فأجاب (عليهالسلام) بأن الذي حرم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من الأشربة هو ما أسكر
__________________
خاصة ، خرج منه العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه بالنصوص وبقي ما عداه
تحت الإطلاق.
ورواية يونس بن
عبد الرحمن عن مولى حر بن يزيد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) فقلت له اني أصنع الأشربة من العسل وغيره وانهم يكلفوني
صنعها أفأصنعها لهم؟ قال فأصنعها وادفعها إليهم وهو حلال من قبل ان يصير مسكرا». وفيه
ـ كما ترى ـ دلالة على انه لا يحرم من الأشربة إلا المسكر وما عداه فهو حلال لان
المقام مقام البيان فلو كان ثمة فرد آخر لذكره (عليهالسلام).
وصحيحة صفوان قال : «كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به فقلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) أصف لك النبيذ؟ فقال بل أنا أصفه لك قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام. فقلت هذا
نبيذ السقاية بفناء الكعبة؟ فقال لي ليس هكذا كانت السقاية إنما السقاية زمزم أفتدري
من أول من غيرها؟ قلت لا. قال العباس بن عبد المطلب كانت له حبلة أفتدري ما الحبلة؟
قلت لا. قال : الكرم كان ينقع الزبيب غدوة ويشربه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربه من
الغد يريد ان يكسر غلظ الماء عن الناس وان هؤلاء قد تعدوا فلا تشربه ولا تقربه». والتقريب
فيها انه (عليهالسلام) اضرب عن وصف السائل إلى الوصف بالإسكار الموجب للتحريم
فلو كان للنبيذ قسم آخر محرم وهو ما غلى وان لم يسكر لما حسن هذا الإضراب الى
المسكر بخصوصه كما لا يخفى.
وصحيحة معاوية
بن وهب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان رجلا من بني عمي وهو من صلحاء مواليك أمرني أن
أسألك عن النبيذ فأصفه لك فقال انا أصفه لك قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله
__________________
حرام. الحديث». والتقريب كما تقدم في سابقه.
ورواية كليب
الأسدي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن النبيذ فقال ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) خطب الناس فقال في خطبته ايها الناس ألا ان كل مسكر
حرام ألا وما أسكر كثيره فقليله حرام».
ورواية محمد بن
مسلم قال : «سألته عن نبيذ قد سكن غليانه؟ فقال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام». الى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا
المضمار.
وكلها ـ كما
ترى ـ واضحة المقالة متطابقة الدلالة على انه لا يحرم من النبيذ غير المسكر لان
السؤالات في هذه الأخبار كلها عن النبيذ ما الذي يحل منه وما الذي يحرم منه؟ فأجابوا
(عليهمالسلام) في بعض بان الحلال منه هو النقيع الذي لم يكثر مكثه
وفي جملة ان جميع ما يطبخ ويغلى بالنار فإنه يصير مسكرا وذلك بما اعتاد عليه الناس
في تلك الأزمان من وضع العكر فيه المعبر عنه بالخميرة والداذي ، والظاهر انه من
المسكر القديم الذي يضعونه في هذا الماء الجديد الذي يطبخونه حتى يسرع بإسكاره
فيكون مثل الخمير الذي يوضع في العجين وعلى هذا كانت عادتهم في النبيذ المطبوخ ،
فلذا خرجت الاخبار عنهم (عليهمالسلام) مستفيضة بتحريمه والتصريح بكونه مسكرا ، ولو كان مجرد
الغليان يوجب التحريم وان لم يبلغ حد الإسكار لجرى له ذكر أو إشارة في بعض هذه
الاخبار
وما ادعاه بعض
فضلاء المعاصرين ـ من انه بمجرد الغليان يحصل منه السكر أو مبادئه باعتبار بعض
الأمزجة أو بعض الأمكنة والأهوية وصنف في القول بتحريم عصير التمر رسالة أكثر فيها
بزعمه من الدلائل وهي تطويل بغير طائل. ومن جملته دعواه في الجواب عن هذه الاخبار
بحصول الإسكار في ماء التمر بمجرد الغليان اشتد أو لم يشتد
__________________
ـ فلا يخفى ما فيه على العارف النبيه فضلا عن الحاذق الفقيه ، وهذه عامة
الناس في جميع الأقطار يطبخون الأطعمة بعصير التمر والدبس بل يطبخونها خاصة
ويأكلونها ولم يدع أحد منهم حصول الإسكار ، وبالجملة فبطلان هذا الكلام أظهر من ان
يحتاج الى تطويل في المقام ولا شاهد أبلغ من ضرورة العيان وعدول الوجدان.
ومن أظهر
الاخبار في الباب وأوضحها دلالة عند ذوي الألباب ما رواه في الكافي بسنده عن محمد
بن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «قدم على رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من اليمن قوم فسألوه عن معالم دينهم فأجابهم فخرج
القوم بأجمعهم فلما ساروا مرحلة قال بعضهم لبعض نسينا أن نسأل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عما هو أهم إلينا ثم نزل القوم ثم بعثوا وفدا لهم فاتى
الوفد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقالوا يا رسول الله ان القوم بعثوا بنا إليك يسألونك
عن النبيذ؟ فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وما النبيذ صفوه لي؟ فقالوا يؤخذ من التمر فينبذ في
إناء ثم يصب عليه الماء حتى يمتلئ ويوقد تحته حتى ينطبخ فإذا انطبخ أخذوه فألقوه
في إناء آخر ثم صبوا عليه ماء ثم يمرس ثم صفوه بثوب ثم يلقى في إناء ثم يصب عليه
من عكر ما كان قبله ثم يهدر ويغلى ثم يسكن على عكرة. فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يا هذا قد أكثرت أفيسكر؟ قال نعم. قال فكل مسكر حرام.
قال فخرج الوفد حتى انتهوا إلى أصحابهم فأخبروهم بما قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقال القوم ارجعوا بنا الى رسول الله حتى نسأله عنها
شفاها ولا يكون بيننا وبينه سفير فرجع القوم جميعا فقالوا يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أرضنا أرض دوية ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوى على
العمل إلا بالنبيذ؟ فقال لهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) صفوه لي فوصفوه كما وصف أصحابهم فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أفيسكر؟ فقالوا نعم. قال كل مسكر حرام. الحديث». وقد
جاء هذا الخبر مفصلا بأوضح تفصيل لا يعتريه القال والقيل وهو صريح في المطلوب
__________________
والمراد عري عن وصمة الشك والإيراد.
وهذا الخبر
ظاهر في الرد على ذلك الفاضل المتقدم ذكره المدعى لحصول الإسكار بالغليان ، فإنه
لو كان الأمر كما توهمه لم يكن لسؤال النبي (صلىاللهعليهوآله) عن الإسكار معنى فان الرجل قد ذكر في حكايته عن صفة
النبيذ انه غلى مرتين وفي الغلية الثانية وضع فيه العكر ولو كان السكر يحصل بمجرد
الغليان لحرمة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بمجرد الغليان الأول ، وبالجملة فالحديث المذكور واضح
الظهور ساطع النور إلا على من اعترى فهمه وذهنه نوع فتور وقصور ، والله الهادي لمن
يشاء.
(الفائدة
الثالثة) ـ المستفاد من الاخبار المتقدمة في الفائدة الاولى ان العصير العنبي على
قسمين منه ما يغلى ومنه ما لا يغلى ، والأول منه ما يكون محرما وهو ما غلى قبل
ذهاب ثلثيه وما يكون حلالا وهو قبل الغلى وما بعد ذهاب الثلثين ، والقسم الثاني
أيضا منه ما يكون محرما وهو ما طال مكثه حتى اختمر وصار مسكرا ومنه ما هو حلال وهو
ما لم يبلغ الحد المذكور. واما النبيذ كما صرحت به الاخبار في الفائدة الثانية
فليس إلا قسمان غلى أو لم يغل : ان أسكر فهو حرام وان لم يسكر فهو حلال ، والإسكار
يقع فيه تارة بطول مكثه في الإناء حتى يختمر ويصير مسكرا كما يشير اليه حديث
السقاية وقوله (عليهالسلام) بعد ذكر ما كان العباس يفعله لكسر غلظة الماء : «وان
هؤلاء قد تعدوا فلا تشربه» يعنى انه لما وصلت النوبة إلى هؤلاء المستحلين لشرب
النبيذ المسكر تعدوا في الزيادة في التمر والزبيب الذي ينبذونه وطول مكثه في
الأواني حتى صار مسكرا ، واليه يشير ايضا قوله (عليهالسلام) في حديث حنان بن سدير : «وكان يأمر الخادم بغسل الإناء
في كل ثلاثة أيام لئلا يغتلم» والاغتلام لغة الاشتداد والمراد الكناية عن بلوغ حد
الإسكار ، وتارة بالغلي ووضع العكر فيه كما صرحت به الاخبار المتقدمة. وبالجملة فإنه
قد علم من هذه الاخبار كملا ان المحرم من العصير العنبي قسمان أحدهما ما على ولم
يذهب ثلثاه والثاني ما أسكر ، واما المحرم من النبيذ فليس إلا المسكر خاصة فلو كان
ثمة قسم آخر يكون محرما وهو ما غلى ولم يذهب ثلثاه من غير عصير العنب لوصلت
إلينا به الاخبار ودلت عليه الآثار وهي كما دريت خالية من ذلك ، وروايات نزاع
إبليس مع آدم ونوح المصرحة بعلة التحريم بعد الغليان حتى يذهب الثلثان موردها انما
هو العنب خاصة.
(فإن قيل) ان
إبليس قد نازع آدم في النخل ايضا لما رواه في الكافي بسنده عن علي بن أبي حمزة عن
إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الله تعالى لما اهبط آدم من الجنة أمره
بالحرث والزرع وطرح اليه غرسا من غروس الجنة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان
فغرسها ليكون لعقبه وذريته وأكل هو من ثمارها ، فقال له إبليس لعنه الله يا آدم ما
هذا الغرس الذي لم أكن أعرفه في الأرض وقد كنت فيها قبلك؟ فقال ائذن لي آكل منها
فأبى آدم ان يطعمه فجاء إبليس عند آخر عمر آدم وقال لحواء انه قد أجهدني الجوع
والعطش فقالت له حواء فما الذي تريد؟ فقال أريد أن تذيقيني من هذه الثمار. فقالت
حواء ان آدم عهد الي ان لا أطعمك شيئا من هذا الغرس لانه من الجنة ولا ينبغي لك ان
تأكل منها شيئا؟ فقال لها فاعصري في كفي شيئا منه فأبت عليه فقال ذريني أمصه ولا
آكله فأخذت عنقودا من عنب فأعطته فمصه ولم يأكل منه لما كانت حواء قد أكدت عليه
فلما ذهب بعضه جذبته حواء من فيه فأوحى الله تعالى الى آدم ان العنب قد مصه عدوي
وعدوك إبليس لعنه الله وقد حرمت عليك من عصيرة الخمر ما خالطه نفس إبليس فحرمت
الخمر لان عدو الله إبليس مكر بحواء حتى مص العنب ولو اكله لحرمت الكرمة من أولها
إلى آخرها وجميع ثمارها وما يخرج منها ، ثم انه قال لحواء لو امصصتني شيئا من هذا
التمر كما امصصتني من العنب فأعطته تمرة فمصها وكان العنب والتمر أشد رائحة واذكى
من المسك الأذفر واحلى من العسل ، فلما مصهما عدو الله إبليس ذهبت رائحتهما
وانتقصت حلاوتهما ، قال أبو عبد الله (عليه
__________________
السلام) ثم ان إبليس الملعون ذهب بعد وفاة آدم فبال في أصل الكرمة والنخلة
فجرى الماء في عروقهما من بول عدو الله فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله تعالى
على ذرية آدم كل مسكر لان الماء جرى ببول عدو الله في النخل والعنب. وصار كل مختمر
خمرا لان الماء اختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله تعالى إبليس».
(قلت) : هذا
الخبر بحمد الله تعالى ان لم يكن حجة لنا لا يكون علينا وذلك ان سياق الخبر كما
تقدمت الإشارة اليه انما هو في بيان العلة في تحريم المسكر من العنب والتمر
وغيرهما ، ألا ترى الى قوله (عليهالسلام) : «فأوحى الله تعالى الى آدم ان العنب قد مصه عدوي
وعدوك إبليس لعنه الله وقد حرمت عليك من عصيرة الخمر ما خالطه نفس إبليس فحرمت
الخمر لان عدو الله. إلخ» ، والى قوله (عليهالسلام) بعد حكاية بول إبليس لعنه الله في أصل الكرمة والنخلة
: «فجرى الماء في عروقهما من بول عدو الله فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله
على ذرية آدم كل مسكر. إلخ» ولا دلالة فيه ولا إشارة إلى التحريم في التمر بمجرد
الغليان كما تقدم في اخبار العصير العنبي.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات ثلاثة :
(الأول) ـ في
ماء التمر إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ، والمشهور ـ بل كاد ان يكون إجماعا بل هو إجماع
ـ هو القول بحليته فانا لم نقف على قائل بالتحريم ممن تقدمنا من الأصحاب وانما حدث
القول بذلك في هذه الأعصار المتأخرة ، فممن ذهب اليه شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان
بن عبد الله البحراني والمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي على ما يظهر من
الوسائل ثم اشتهر ذلك الآن بين جملة من الفضلاء المعاصرين حتى صنفوا فيه الرسائل
وأكثروا من الدلائل التي لا ترجع إلى طائل ، وهذا هو الذي حدانا على تطويل الكلام
في هذه المسألة في هذا المقام وان كانت خارجة عن محل البحث إلا بنوع مناسبة تقتضي
الدخول في سلكه والانتظام.
وربما توهم
وقوع الخلاف في الحكم المذكور من بعض عبارات الأصحاب مثل عبارة المحقق في كتاب
الحدود من الشرائع حيث قال : «واما التمري إذا غلى ولم يبلغ حد الإسكار ففي تحريمه
تردد والأشبه بقاؤه على التحليل حتى يبلغ الشدة المسكرة» انتهى ومثله عبارة الشهيد
في الدروس حيث قال بعد الكلام في عصير الزبيب وحكمه بتحليل المعتصر منه : «واما
عصير التمر فقد أحله بعض الأصحاب ما لم يسكر ، وفي رواية عمار. إلخ» .
وأنت خبير بأن
العبارة الاولى لا دلالة فيها بوجه على وجود القول بالتحريم لان التردد في الحكم
لا يستلزم وجود الخلاف فيه بل قد يكون منشأه تعارض الأدلة فيه أو ضعف المستند
دلالة أو سندا أو تعارض احتمالين في ذلك كما هو دأب العلماء في كثير من عبائرهم
ومن ثم قال الشهيد الثاني في المسالك في شرح هذه العبارة : وجه التردد في عصير التمر
أو هو نفسه إذا غلى ، من دعوى صدق اسم النبيذ عليه حينئذ ومشابهته لعصير العنب ،
ومن أصالة الإباحة ومنع صدق اسم النبيذ المحرم عليه حقيقة ومنع مساواته لعصير
العنب في الحكم لخروج ذلك بنص خاص فيبقى غيره على أصل الإباحة وهذا هو الأصح.
انتهى. ويؤيد ما قلناه ايضا ما صرح به الفاضل الشيخ احمد بن فهد (قدسسره) في المهذب حيث قال : كل حكم مستفاد من لفظ عام أو مطلق
أو من استصحاب يسمى بالأشبه لأن ما كان مستند الترجيح التمسك بالظاهر والأخذ بما
يطابق ظاهر المنقول يكون أشبه بأصولنا ، فكل موضع يقول فيه : «الأشبه» يريد هذا المعنى
، والأصح ما لا احتمال فيه عنده ، والتردد ما احتمل الأمرين ، ثم قال بعد ذلك :
وربما كان النظر والتردد في المسألة من المصنف خاصة لدليل انقدح في
__________________
خاطره. انتهى. وفيه ـ كما ترى ـ دلالة واضحة على ان المحقق (قدسسره) بل غيره من الفقهاء ايضا قد يقولون على الأصح أو
يترددون أو يتنظرون في المسألة وان كانت اجماعية. وأغرب من ذلك ان المحقق في كتاب
المختصر في مسألة كثير السفر قال : وضابطه ان لا يقيم في بلدة عشرة أيام ولو أقام
في بلده أو غيره ذلك قصر ، وقيل هذا يختص بالمكاري فيدخل الملاح والأجير. انتهى.
قال في المهذب : ولم نظفر بقائله ولعله سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف فقال «قيل».
وقال في التنقيح : لم نسمع من الشيوخ قائله ولكن قال بعض الفضلاء كأنه هو نفسه
القائل. ونقل عن الشهيد (قدسسره) انه قال انه احتمال عنده. وبذلك يظهر ان العبارة
المذكورة وان توهم منها في بادئ النظر حصول الخلاف في المسألة إلا انه عند التأمل
الدقيق لا ينبغي الالتفات اليه ، وبه يظهر ايضا ما في كلام شيخنا المشار اليه آنفا
حيث قال : وما يقال ـ ان النزاع انما هو في العصير الزبيبي كما يفهم من شرح
الشرائع في الأطعمة والأشربة واما التمري فلا نزاع في إباحته وقد ادعى الإجماع
عليه بعض الفضلاء ـ مردود بان الظاهر من كلام المحقق في الشرائع في كتاب الحدود
خلافه وان المسألة ليست اجماعية كما قد يظن ، فإنه قال : واما التمري إذا غلى ولم
يبلغ الإسكار ثم ساق العبارة المتقدمة ، ثم قال ودلالته على المدعى واضحة. انتهى.
أقول : قد عرفت ما فيه.
واما عبارة
الدروس فغاية ما تدل عليه هو اسناد التصريح بالحلية الى بعض الأصحاب وهذا لا
يستلزم ان البعض الآخر قائل بالتحريم بل الظاهر ان مراده ان بعض الأصحاب نص على
الحلية وصرح بها والبعض الآخر لم يصرح بشيء نفيا ولا إثباتا ، وهو كذلك فان كثيرا
منهم لم يتعرضوا لذكر ماء التمر المغلي بالكلية ومن ذكره منهم فإنما وصفه بالحلية
دون التحريم ، وكيف كان فغاية ما يشعر به كلامه هنا هو التوقف في الحكم لرواية
عمار المشار إليها في كلامه وسيأتي الكلام فيها ان شاء الله تعالى ، ومما يساعد
على ما ادعيناه عبارة المسالك في كتاب الأطعمة والأشربة وهي المشار إليها في
كلام شيخنا المتقدم ، حيث قال في الكتاب المذكور بعد البحث في عصير العنب :
والحكم مختص بعصير العنب فلا يتعدى الى غيره كعصير التمر ما لم يسكر للأصل ولا الى
عصير الزبيب على الأصح. إلخ. ونحوه في الروض وشرح الرسالة ، واعتراض شيخنا المتقدم
عليه بما ذكره قد عرفت بطلانه. وأياما كان فالاعتماد عندنا في الأحكام على الأدلة
الواردة في المقام لا على الخلاف أو الوفاق من العلماء الاعلام :
ومما يدل على
الحلية في هذه المسألة الأصل والآيات والاخبار كقوله سبحانه : «... خَلَقَ لَكُمْ ما
فِي الْأَرْضِ ...» وقوله عزوجل : «قُلْ
لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ... الآية» وقوله تعالى : «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ ...» وقوله : «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ... الآية الى
وَطَعامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ» وقوله «...
لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...» وغيرها خرج ما خرج بدليل فيبقى الباقي تحت العموم ، وقول
الصادق (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «انما الحرام ما حرم الله تعالى ورسوله في كتابه». عقيب
الأمر بقراءة «قُلْ
لا أَجِدُ ... الآية» وقول أحدهما (عليهماالسلام) في صحيحة زرارة «إنما الحرام ما حرم الله في كتابه». وقول الباقر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم : «انما الحرام ما حرم الله في القرآن». وفي صحيحة محمد
بن مسلم : «ليس الحرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» ثم قال
: «اقرأ هذه الآية : (قُلْ لا
__________________
أَجِدُ
... الآية». ويدل
على ذلك ما قدمناه من الاخبار في الفائدة الثانية المصرحة بأن المحرم من النبيذ هو
المسكر خاصة ولا سيما رواية الوفد.
استدل شيخنا
أبو الحسن المشار اليه آنفا على التحريم في العصير التمري والزبيبي بصحيحة عبد
الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كل عصير اصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه
ويبقى ثلثه». قال وروى ايضا في الحسن عنه (عليهالسلام) : «اي عصير اصابته النار فهو حرام». وكلمتا «كل واي»
صريحتان في العموم فمقتضاهما تحريم الزبيبي والتمري إلا ان يثبت كون العصير حقيقة
شرعية أو عرفية في عصير العنب خاصة كما ادعاه جماعة ، وأنت خبير بان هذه الدعوى في
حيز المنع إذ لم نظفر لها بمستند يعتمد عليه واستسلاقها في هذا المقام مجازفة محضة
وعباراتهم طافحة بتسميتهما عصيرا ومع هذا الإطلاق لا يليق منهم إنكاره فيبقى عموم
النص شاملا له ، مع ان رواية زيد النرسي ـ بالنون والراء والسين المهملتين ـ شاهدة به وفي رواية
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) اشعار ما به كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام وان
لم تدل عليه صريحا. انتهى كلامه.
أقول : فيه ـ زيادة
على ما عرفت ـ نظر من وجوه : (الأول) ان ما ذكره من رواية ابن سنان وجعله لها
روايتين وان إحداهما صحيحة والأخرى حسنة وان إحداهما بلفظ «كل» والأخرى بلفظ «اي»
لا وجود له في كتب الاخبار ولا نقله ناقل من علمائنا الأبرار ، والموجود فيها
رواية واحدة وهي الأولى إلا انها صحيحة في التهذيب وحسنة
__________________
في الكافي ، واما الثانية فلم أقف عليها ولم يذكرها في الوافي الجامع لكتب
الأخبار الأربعة ولا في الوسائل الجامع للكتب الأربعة وغيرها.
(الثاني) ـ ان
ما ادعاه من العموم في العصير مردود بما أوضحناه في الفوائد المتقدمة بما لا مزيد
عليه وهو ان العصير مخصوص بما يؤخذ من العنب وان ما يؤخذ من التمر والزبيب انما
يطلق عليه النقيع والنبيذ ، فهذه الأسماء قد صارت حقائق عرفية في زمانهم وعرفهم (عليهمالسلام) كما أطلقوا ايضا على عصير العنب الطلاء تارة والبختج
اخرى ، وعاضد على ذلك كلام أهل اللغة أيضا كما سمعت من عبائرهم ، ولكنه لقصور
تتبعه (قدسسره) للاخبار وعدم مراجعته لكلام أهل اللغة في هذا المضمار
وقع فيما وقع فيه.
بقي الكلام هنا
في التعبير في هذه الصحيحة بلفظة «كل» المشعر بوجود افراد متعددة لذلك ، ويمكن ان يكون
الوجه في ذلك ما ذكره بعض مشايخنا المحققين من متأخرين المتأخرين من ان ذلك
باعتبار كون المراد منه ما هو أعم من ان يسكر كثيره أم لا أخذ من كافر أو مسلم
مستحل لما دون الثلث أم لا عارف أم لا. أقول : ويؤيده ورود الأخبار في حل المعصرات
المأخوذة من أيدي هؤلاء وعدمه بالفرق في بعضها بين العارف وغيره وفي بعض بين من
يستحله على الثلث وغيره ممن يشربه على النصف وكذا بالنسبة إلى المسلم وغيره ،
وبهذا يتم معنى الكلية في الخبر المذكور ويندفع عنه النقص والقصور.
(الثالث) ـ انه
مع العدول عن حمل العصير في الخبر على ما ذكرناه من عصير العنب فليس إلا الحمل على
المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن كل معصور ، والحمل على هذا المعنى مما لا يخفى
بطلانه على محصل إذ يلزم من الحكم بصحة هذا المعنى الحكم بتحريم كل عصير إذا غلى
ولا ريب انه مخالف لما علم ضرورة من مذهب الإسلام من إباحة الأشربة ومياه العقاقير
والأدوية التي تطبخ ومياه الفواكه والبقول ونحو ذلك ،
ولو رجع الى تخصيصها بالنصوص فالذي صرحت به النصوص بان يتم له تخصيص هذا
الخبر به انما هو السكنجبين ورب التوت والرمان والتفاح والسفرجل والجلاب وهو العسل
المطبوخ بماء الورد حتى يتقوم ، وحينئذ فما عدا هذه المعدودة الموجودة في النصوص
يبقى داخلا في عموم الخبر على زعمه ولا أظنه يلتزمه ويقول به ، والتخصيص بالعنبي
والتمري تحكم محض مع انه ارتكاب للتخصيص البعيد الذي قد منع صحته جماعة من
الأصوليين ، وبالجملة فصدور هذه الكلية عنهم (عليهمالسلام) مع خروج أكثر أفراد الموضوع عن الحكم بعيد جدا بل مما
يكاد يقطع ببطلانه سيما مع كون الخروج بغير دليل ولا مخصص وبهذا يظهر انه لا يجوز
ان تكون الكلية والعموم في الخبر المذكور باعتبار المعنى اللغوي الذي توهمه.
(الرابع) ـ قوله
: «إلا ان يثبت كون العصير حقيقة. إلخ» فإن فيه انه قد ثبت ذلك على وجه لا يعتريه
الاشكال ولا يحوم حوله الاختلال إلا لمن لم يعط التأمل حقه في هذا المجال ولم يسرح
بريد النظر كما ينبغي في اخبار الآل عليهم صلوات ذي الجلال كما أوضحناه بأوضح مقال
وكشفنا عنه نقاب الإجمال بما لم يسبق اليه سابق من علمائنا الأبدال ، وأيده أيضا
مضي العلماء عليه سلفا وخلفا فإن أحدا منهم لم يتوهم هذا المعنى الذي تفرد به وذهب
اليه ، والقائلون بتحريم العصير الزبيبي إنما استندوا إلى صحيحة علي بن جعفر
الآتية مع ان صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة بمرئي منهم ومنظر وهي بالاستدلال ـ لو
كانوا يفهمون من العصير هذا المعنى الذي توهمه ـ أوضح وأظهر ، وانما فهموا منه انه
عبارة عن ماء العنب خاصة فهو إجماع أو كالإجماع منهم (رضوان الله عليهم) ، وقد
عرفت أيضا مساعدة كلام أهل اللغة لهم باعتبار تخصيصهم لما يتخذ من التمر والزبيب
بالنقيع أو النبيذ. واما ما ذكره ـ من ان عباراتهم طافحة بتسميتهما عصيرا فلا يليق
منهم إنكاره ـ ففيه ان عبارات أكثرهم خالية من هذا وان ذكره بعضهم فهو على نوع من
مجاز المشاكلة ، واما إنكاره فمتعلقه الحكم لا التسمية
وأحدهما غير الآخر ، وبذلك يظهر لك ان المجازفة انما هو في البناء على هذه
الأوهام من غير إعطاء التأمل حقه في المقام والخروج عما عليه كافة العلماء الاعلام
والمخالفة لنصوص أهل الذكر عليهم أفضل الصلاة والسلام.
(الخامس) ـ ما
ذكره بقوله : «مع ان رواية زيد النرسي. إلخ» فإن فيه ان رواية زيد النرسي التي
موردها مخصوص بالزبيب وسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى ضعيفة فان زيد النرسي
مجهول في الرجال وأصله المنقول منه هذا الخبر مطعون فيه كما ذكره الشيخ في الفهرست
، حيث قال في الطعن على أصل زيد النرسي : انه لم يروه محمد بن علي بن الحسين بن
بابويه ، ونقل عنه في فهرسته ايضا انه لم يروه محمد بن الحسن بن الوليد وكان يقول
انه موضوع وضعه محمد بن موسى الهمداني. وقال العلامة في الخلاصة بعد نقل كلام
الشيخ وابن الغضائري في زيد الزراد وزيد النرسي : والذي نقله الشيخ عن ابن بابويه
وابن الغضائري لا يدل على طعن في الرجلين وان كان توقف ففي رواية الكتابين ، ولما
لم أجد لأصحابنا تعديلا لهما ولا طعنا فيهما توقفت عن قبول روايتهما. انتهى. ومن
هذا القبيل تمسكه برواية علي بن جعفر وقناعته بما فيها من قوله «اشعار ما» والعجب
منه (قدسسره) في استناده الى هاتين الروايتين المتهافتتين مع ان
ههنا روايات أخر مروية في الأصول المعتبرة التي عليها المدار وهي أوضح دلالة وأصرح
مقالة وأصح سندا وأكثر عددا فيما ادعاه بالنسبة إلى الزبيب كما سيظهر لك ان شاء
الله تعالى في المقام الآتي ، وهذا مما يدلك أوضح دلالة على صحة ما قلنا من ان
كلامه (قدسسره) في هذا المضمار لم يكن ناشئا عن تحقيق ورجوع الى
الأخبار وتأمل فيها بعين الفكر والاعتبار ، وكذا بالنسبة إلى العصير التمري كان
ينبغي ان يستدل بموثقة عمار التي أشار إليها في الدروس وكأنه اعتمد على ما فهمه من
صحيحة عبد الله بن سنان من صدق العصير على هذه الأشياء ولم يبحث عن دليل سواها ،
ولو انه تمسك في ماء التمر بموثقتي عمار الآتيتين وفي الزبيب بالروايات التي
سنتلوها عليك
ان شاء الله تعالى في المقام الآتي لكان أظهر في مطلوبه ومراده وان قابله
من خالفه في ذلك باعتراضه وإيراده.
هذا ، وربما
استدل للقول بالتحريم في ماء التمر بموثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليهالسلام) : «انه سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال
خذ ماء التمر فأغله حتى يذهب ثلثا ماء التمر». وموثقته الأخرى عنه (عليهالسلام) قال : «سألته عن النضوح؟ قال يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه
ويبقى ثلثه ثم يمتشطن». وهذه الرواية الثانية هي التي ذكرها في الدروس وظاهره
التوقف في الحكم من أجلها ، والنضوح لغة على ما ذكره في النهاية ضرب من الطيب تفوح
رائحته ، ونقل الشيخ فخر الدين ابن طريح في مجمع البحرين : ان في كلام بعض الأفاضل
النضوح طيب مائع ينقعون التمر والسكر والقرنفل والتفاح والزعفران وأشباه ذلك في
قارورة فيها قدر مخصوص من الماء ويشد رأسها ويصبرون أياما حتى ينش ويختمر وهو شائع
بين نساء الحرمين الشريفين ، وكيفية تطيب المرأة به ان تحط الأزهار بين شعر رأسها
ثم ترش به الأزهار لتشتد رائحتها قال : وفي أحاديث أصحابنا أنهم نهوا نساءهم عن
التطيب به بل أمر بإهراقه في البالوعة. انتهى أقول : الظاهر انه أشار بحديث الأمر
بالإهراق إلى رواية عيثمة قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) وعنده نساؤه قال فشم رائحة النضوح فقال ما هذا؟ قالوا
نضوح يجعل فيه الضياح قال فأمر به فأهريق في البالوعة». أقول : الضياح لغة اللبن
الخاثر يجعل فيه الماء ويمزج به ، والظاهر بناء على ما ذكره هذا البعض المنقول عنه
كيفية عمل النضوح المؤيد بخبر عيثمة المذكور ان امره (عليهالسلام) بإهراق النضوح انما هو لكونه خمرا وانه نجس كما هو أحد
القولين المعتضد بالاخبار كما تقدم تحقيقه ، فيكون وضعه في الرأس موجبا لنجاسته
والصلاة في النجاسة حينئذ ، وعلى هذا فتحمل
__________________
رواية عمار على ان الغرض من طبخه حتى يذهب ثلثا ماء التمر انما هو لئلا
يصير خمرا ببقائه مدة لان غلية الذي يصير به دبسا يذهب الأجزاء المائية التي يصير
بها خمرا لو مكث مدة كذلك ، لأنه إنما بصير خمرا بسبب ما فيه من تلك الأجزاء
المائية فإذا ذهبت أمن من صيرورته خمرا ، ويؤيد هذا قوله : «النضوح المعتق» على
صيغة اسم المفعول أي الذي يراد جعله عتيقا بان يحفظ زمانا حتى يصير عتيقا ، ويؤيده
قوله ايضا «ثم يمتشطن» من ان الغرض منه التمشط والوضع في الرأس ، فالمراد من
السؤال في الروايتين عن كيفية عمله هو التحرز عن صيرورته خمرا نجسا يمتنع الصلاة
فيه إذا تمشطن به وإلا فهو ليس بمأكول ولا الغرض من السؤال عن كيفية عمله هو حل
اكله حتى يكون الأمر بغلية على مثل هذه الكيفية لحل اكله ، فلو فرضنا انه طبخ على
النصف مثلا وتمشطن به في الحال فإنه وان فرضنا تحريم اكله كما يدعيه الخصم إلا انه
لا قائل بنجاسته إجماعا ولا دليل عليها اتفاقا ، ولكن لما كان الغرض هو حفظه
وتبقيته زمانا كما عرفت فلو لم يعمل بهذه الكيفية لصار خمرا نجسا فأمر (عليهالسلام) بطبخه على هذه الكيفية لهذه العلة ، وكيف كان فدلالة
الخبرين المذكورين انما هو بطريق المفهوم وهو مع تسليمه انما يكون حجة إذا لم يظهر
للتعليق فائدة سوى ذلك وإلا فلا حجة فيه ، وبما شرحنا من معنى الخبرين المذكورين
وهو ان الغرض ان لا يكون خمرا مسكرا تظهر فائدة التعليق المذكور فلا يكون حجة فيما
يدعيه الخصم ، وهذا بحمد الله سبحانه واضح لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه
ولا من بين يديه.
بقي هنا شيئان
ينبغي التنبيه عليهما (الأول) ـ ان إطلاق الاخبار وكلام الأصحاب دال على تحريم
العصير بالغليان وتوقف حله على ذهاب الثلثين أعم من ان يطبخ وحده أو مع شيء آخر
غيره ، وقد روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال عن ابي
الحسن علي بن محمد (عليهماالسلام) «ان محمد بن علي بن عيسى كتب اليه عندنا طبيخ يجعل فيه الحصرم وربما يجعل
فيه العصير من العنب وانما هو لحم يطبخ به وقد روي عنهم في العصير
__________________
انه إذا جعل على النار لم يشرب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وان الذي يجعل في
القدر من العصير بتلك المنزلة وقد اجتنبوا أكله الى ان يستأذن مولانا في ذلك؟ فكتب
لا بأس بذلك». وهو ظاهر في ان حكم العصير مطبوخا مع غيره حكمه منفردا. وكأن السائل
توهم اختصاص الحكم المذكور بالعصير منفردا وشك في جريان ذلك فيه إذا طبخ مع غيره ،
لان ظاهر قوله : «الذي يجعل في القدر من العصير بتلك المنزلة» يعني يذهب ثلثاه كما
روى فأجابه (عليهالسلام) بنفي البأس مع ذهاب الثلثين إشارة الى ان هذا الحكم
ثابت له مطلقا منفردا أو مع غيره.
(الثاني) ـ انه
لو وقع في قدر ماء يغلى على النار حبة أو حبات عنب فان كان ما يخرج منها من الماء
يضمحل في ماء القدر فالظاهر انه لا إشكال في الحل لعدم صدق العصير حينئذ لأن
الناظر إذا رآه انما يحكم بكونه ماء مطلقا وان أدت اليه الحلاوة مثلا. لأن الأحكام
الشرعية تابعة لصدق الإطلاق والتسمية فإذا كان لا يسمى عصيرا وانما يسمى ماء فلا
يلحقه حكم العصير البتة ، نعم لو كان الواقع في الماء انما هو شيء من العصير
المحرم وهو ما بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه وكان ذلك ايضا على الوجه الذي ذكرناه من
القلة والاضمحلال في جانب الماء فهل يكون الحكم فيه كما تقدم في الصورة الأولى أم
لا؟ الظاهر الأول لعين ما ذكرناه وبذلك صرح المحقق المولى الأردبيلي (قدسسره) في شرح الإرشاد حيث قال ـ بعد قول المصنف (قدسسره) في كتاب الأطعمة والأشربة : «ان ما مزج بشيء من هذه
يحرم» وتفسير العبارة المذكورة بأن تحريم ما مزج بهذه المذكورات مع نجاستها ظاهر
فإن الملاقي للنجس رطبا نجس وكل نجس حرام ، واحتماله ايضا انه يريد بيان حكم
الممتزج على تقدير عدم النجاسة أيضا ـ ما حاصله : والحكم بتحريم الممتزج حينئذ ان
كان الامتزاج بحيث غلب الحرام وصار من افراده ظاهر وكذا المساوي بل ما علم انه فيه
بحيث لم يضمحل بالكلية ، فأما ما يضمحل فيمكن الحكم بكونه حلالا مثل قطرة عرق أو
بصاق حرام في حب ماء أو قدر بل في كوز كبير للاضمحلال ، ولا يبعد
ان يكون ذلك مدار الحكم ، فان كان بحيث إذا أخذ وأكل وشرب لم يعلم بوجود
الحرام فيه يكون حلالا وان كان يعلم وجوده فيه يكون حراما. ويدل عليه ما تقدم من
العمومات والأصل وحصر المحرمات وصحيحة عبد الله بن سنان قال : «قال الصادق (عليهالسلام) كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم انه
حرام». ثم قال : ويحتمل التحريم خصوصا المسكر للروايات مثل حسنة عبد الرحمن بن
الحجاج قال : «قال الصادق (عليهالسلام) ما أسكر كثيره فقليله حرام». ثم نقل رواية عمر بن
حنظلة الدالة على ان ما قطرت قطرة من المسكر في حب إلا أهريق ذلك الحب ثم قال فتأمل فإن المسألة مشكلة والاجتناب أحوط. انتهى
كلامه. وفيه ان ما استند اليه في احتمال التحريم من الروايتين المذكورتين لا دلالة
لهما على ما ادعاه ، فان مقتضى حسنة عبد الرحمن تعلق التحريم بعين القليل ومتفرع
على وجوده والمفروض اضمحلاله كما ذكره سابقا وحينئذ فلا يكون من محل البحث في شيء
، ومقتضى رواية عمر بن حنظلة ان الإراقة إنما تترتب على التنجيس وحكمه (عليهالسلام) بنجاسة المسكر كما هو أشهر الروايات وأظهرها حسبما مر
تحقيقه في موضعه لا على التحريم كما توهمه (قدسسره) وبالجملة فاظهرية الحلية في الصورة المذكورة مما لا
ينبغي ان يعتريه الاشكال. والله العالم.
(المقام الثاني)
ـ في ماء الزبيب إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ، المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
كونه حلالا وقيل بتحريمه كما تقدمت الإشارة إليه في كلام شيخنا الشهيد الثاني
واليه مال من قدمنا ذكره من متأخري المتأخرين وجملة من المعاصرين ، ويدل على القول
المشهور ما تقدم في المقام الأول من الأصل والعمومات في الآيات والروايات المتقدمة
ثمة ، واستدل بعض مشايخنا المعاصرين على ذلك أيضا بانحصار النزاع بين آدم
__________________
ونوح وبين إبليس لعنه الله في العنب خاصة وان الحرام هو عصير العنب ،
والزبيب خارج عن اسم العنب فلا يحرم ماؤه كالحصرم انتهى. أقول : يمكن للخصم
المناقشة في هذا الاستدلال بان ظاهر الاخبار التي أشار إليها (قدسسره) ان النزاع كان في ثمرة شجرة الكرم مطلقا ولا دلالة لها
على الاختصاص بالعنب كما في موثقة زرارة الدالة على ان نوحا لما غرس الحبلة وهي
شجرة العنب وقلعها إبليس لعنه الله فتنازع معه وقال له إبليس اجعل لي نصيبا فجعل
له الثلث الى ان استقر الأمر على الثلثين ، فإنها دالة على انه جعل له نصيبا في
الشجرة يعني ما يخرج منها من الثمرة ولا اختصاص له بالعنب ، ومثل ذلك أيضا موثقة
سعيد بن يسار وباقي الأخبار المنقولة من العلل.
واستدل الشهيد
الثاني في المسالك ـ بعد ان صرح بان الحكم مختص بالعنب فلا يتعدى الى غيره كعصير
التمر ما لم يسكر ولا الى عصير الزبيب على الأصح لخروجه عن اسم العنب ـ بذهاب
ثلثيه وزيادة بالشمس ، ومثل ذلك في الروض وشرح الرسالة ، واعترضه في المفاتيح بان
ما ذكره من ذهاب ثلثيه بالشمس انما يتم لو كان قد نش بالشمس أو غلى حتى يحرم ثم
يحل بعد ذلك بذهاب الثلثين ، والغليان بالشمس غير معلوم فضلا عن النشيش وهو صوت
الغليان. واما ما جف بغير الشمس فلا غليان فيه فلا وجه لتحريمه حتى يحتاج الى
التحليل بذهاب الثلثين ، على ان إطلاق العصير على ما في حبات العنب كما ترى. انتهى
كلامه. وهو جيد.
واما ما أجاب
به بعض مشايخنا المعاصرين ـ وهو الذي تقدمت الإشارة إليه في صدر المقام من ان الموضوع
في الشمس لأجل ان يصير زبيبا قد يحصل فيه القلب أو النشيش اعني النقص فإذا ذهب منه
الثلثان فقد حل ، وان الحكم في العنب انما تعلق بمائه وان لم يخرج من الحب ،
والتعبير في الأخبار بالعصير انما هو جريا على الغالب لا تخصيصا للحكم والمراد ما
من شأنه أن يؤخذ بالعصر ، ومن ثم لو طبخ حب العنب في ماء أو طبيخ حرم ذلك المطبوخ
إجماعا. انتهى ـ فظني بعده لان دعوى حصول القلب
والغليان في ماء حب العنب إذا وقع في الشمس غير معلوم يقينا وأصالة الحل لا
يخرج عنها إلا بيقين ، ويلزم على ما ذكره انه لو وضع العنب في الشمس يوما أو يومين
أو ثلاثة مثلا بحيث انه لم يبلغ الى حد الزبيب فإنه يحرم لحصول الغليان ولم يذهب
ثلثاه بعد ولا أظنه يلتزمه فإن أصالة الحلية لا يخرج عنها بمجرد ذلك. واما دعواه
ان الحكم في العنب انما تعلق بمائه وان لم يخرج من الحب فإنه خروج عن ظواهر
الأخبار وبناء على مجرد الاعتبار. واما قوله : «ومن ثم لو طبخ حب العنب. إلخ» ففيه
ان ارتكاب المجاز في إطلاق العصير على ما يخرج بالطبخ لا يستلزم انسحابه الى ما في
العنب قبل ان يخرج بالكلية ، فإن أراد ثبوت التحريم لحب العنب وان لم يخرج ماؤه
بالطبخ منعنا هذه الدعوى. وبالجملة فإن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه
الاعتبارات التخمينية لا يخلو من مجازفة.
وبمثل ما صرح
به شيخنا الشهيد الثاني صرح الشهيد في الدروس فقال ولا يحرم المعتصر من الزبيب ما
لم يحصل فيه نشيش فيحل طبخ الزبيب على الأصح لذهاب ثلثيه بالشمس غالبا وخروجه عن
مسمى العنب. وحرمه بعض مشايخنا المعاصرين وهو مذهب بعض فضلائنا المتقدمين لمفهوم
رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) ثم ساق متن الرواية كما سيأتي. وأنت خبير بان ما ذكراه
(قدسسرهما) من تعليل حلية ماء الزبيب بذهاب ثلثيه بالشمس لا يوافق
القائلين بالحلية ولا القائلين بالحرمة ، فإن من قال بحل ماء الزبيب بعد الغلي
وقبل ذهاب ثلثيه كما هو المشهور قال به مطلقا سواء ذهب ثلثاه بالشمس أم لم يذهب
لأنه انما يتمسك بأصالة الحلية ويدعى ان ما ورد من التحريم بمجرد الغليان والحل
بذهاب الثلثين مخصوص بالعنب والزبيب لا يصدق عليه العنب ، ومن قال بالتحريم انما
استند الى مفهوم رواية علي بن جعفر الآتية وهي التي ذكرها في الدروس فهو قائل ايضا
بتحريمه مطلقا سواء علم ذهاب ثلثيه في حبه بالشمس أم لا. فكلامهما (قدسسرهما) لا يوافق شيئا من المذهبين في البين.
واستدل أيضا في
المسالك على الحلية بصحيحة أبي بصير قال : «كان أبو عبد الله (عليهالسلام) تعجبه الزبيبة». قال : وهذا ظاهر في الحل لان طعام
الزبيبة لا يذهب فيه ثلثا ماء الزبيب كما لا يخفى انتهى. واقتفاه في هذه المقالة
المولى الأردبيلي في شرح الإرشاد فقال بعد نقل الرواية المذكورة مثل ما ذكره هنا.
وقال بعض مشايخنا المعاصرين بعد الاستدلال بهذه الرواية أيضا : لأن الظاهر ان
المراد الطعام الذي يطبخ معه الزبيب أو يطبخ معه ماء الزبيب وهو لا يستلزم ذهاب
ثلثي ماء الزبيب غالبا كما هو واضح.
أقول :
والاستدلال بهذه الرواية لا يخلو عندي من اشكال لعدم العلم بكيفية ذلك الطعام ،
ومن المحتمل قريبا الحمل على الأشربة الزبيبية التي يأتي ذكرها في الاخبار ، ولكن
استدلال شيخنا الشهيد الثاني بالخبر المذكور وقوله بعده ما ذكر وكذا المولى
الأردبيلي ربما يؤذن بكونهما عالمين بكيفية ذلك على الوجه الذي ذكراه ولعله وصل
إليهم ولم يصبل إلينا.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه قد استدل على القول بالتحريم كما عرفت برواية علي ابن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الزبيب هل يصلح ان يطبخ حتى يخرج طعمه
ثم يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث ثم يرفع ويشرب منه السنة؟ قال
لا بأس به». وطعن في هذه الرواية جملة من المتأخرين ومتأخريهم بضعف السند (أولا)
لاشتماله على سهل بن زياد. و (ثانيا) ان دلالتها بالمفهوم في كلام السائل وهو ضعيف
، ومع تسليم صحته فدلالة المفهوم انما تكون حجة ما لم يظهر للتعليق فائدة أخرى ومن
الجائز بل الظاهر ان هذا العمل المخصوص انما هو لمن أراد بقاءه عنده ليشرب منه
فتكون فائدة التقييد بذهاب الثلثين ليذهب مائيته فيصلح للمكث والبقاء
__________________
ولا يصير مسكرا ، ويدل عليه قوله في عجز الرواية : «ويشرب منه السنة».
هذا ، وقد روى
ثقة الإسلام في الكافي روايات ربما تدل بظاهرها على التحريم :
ومنها ـ موثقة
عمار الساباطي قال : «وصف لي أبو عبد الله (عليهالسلام) المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا؟ فقال تأخذ ربعا من
زبيب وتنقيه ثم تصب عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فإذا كان أيام الصيف
وخشيت ان ينش جعلته في تنور مسجور قليلا حتى لا ينش ثم تنزع الماء منه كله حتى إذا
أصبحت صببت عليه من الماء بقدر ما يغمره ، الى ان قال ثم تغليه بالنار ولا تزال
تغليه حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث. الحديث».
ومنها ـ موثقته
الأخرى عنه (عليهالسلام) قال : «سئل عن الزبيب كيف طبخه حتى يشرب حلالا؟ فقال
تأخذ ربعا من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فإذا
كان من الغد نزعت سلافته ثم تصب عليه من الماء قدر ما يغمره ثم تغليه بالنار غلية
ثم تنزع ماءه فتصبه على الماء الأول ثم تطرحه في إناء واحد جميعا ثم توقد تحته
النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث وتحته النار ثم تأخذ رطلا من عسل فتغليه بالنار
غلية وتنزع رغوته ثم تطرحه على المطبوخ ثم تضربه حتى يختلط به واطرح فيه ان شئت زعفرانا.
الحديث».
ومنها ـ رواية
إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليهالسلام) قراقر تصيبني في معدتي وقلة استمرائي الطعام ، فقال لي
لم لا تتخذ نبيذا نشربه نحن وهو يمرئ الطعام ويذهب بالقراقر والرياح من البطن؟ قال
فقلت له صفه لي جعلت فداك فقال تأخذ صاعا من زبيب ، الى ان قال ثم تطبخه طبخا
رقيقا حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، الى ان قال في آخر الخبر : وهو شراب لا يتغير
إذا بقي ان شاء الله تعالى».
أقول : يمكن
الجواب عن هذه الروايات بأنه لا يلزم من الأمر بطبخه على الثلث
__________________
ان يكون ذلك لأجل حليته بعد ان حرم بالغليان بل يجوز ان يكون لئلا يصير
مسكرا بمكثه كما يدل عليه قوله (عليهالسلام) في آخر رواية إسماعيل بن الفضل : «وهو شراب لا يتغير
إذا بقي ان شاء الله تعالى» ويجوز ان يكون الخاصية والنفع المترتب عليه لا يحصل
إلا بطبخه على الوجه المذكور كما ورد مثله في رواية خليلان بن هشام قال «كتبت الى ابي الحسن (عليهالسلام) جعلت فداك عندنا شراب يسمى الميبة نعمد الى السفرجل
فنقشره ونلقيه في الماء ثم نعمد الى العصير فنطبخه على الثلث ثم ندق ذلك السفرجل
ونأخذ ماءه ثم نعمد الى ماء هذا الثلث وهذا السفرجل فنلقي عليه المسك والأفاوي
والزعفران والعسل فنطبخه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه أيحل شربه؟ فكتب لا بأس به ما
لم يتغير». فان الطبخ على الثلث هنا انما هو لما قلناه من حصول الخاصية وتوقف النفع
على ذلك لا للتحليل ، فإنه ليس هنا شيء قد حرم بمجرد الغليان حتى يحتاج في حليته
الى ذهاب الثلثين ، ولعله لهذا الوجه اعرض متأخر وأصحابنا عن هذه الأخبار ولم
يلتفتوا إليها وان كانت موهمة للتحريم في بادئ النظر كما أشار إليه الفاضل
الخراساني في الذخيرة ، حيث قال : واعلم ان في الكافي في باب صفة الشراب الحلال
بعض الأخبار الموهمة للتحريم لكن لا دلالة لها عليه عند التأمل الصحيح فارجع
وتدبر. انتهى. لكن ربما يلوح التحريم من بعض ألفاظ هذه الأخبار مثل قوله : «كيف
يطبخ حتى يصير حلالا» وقوله (عليهالسلام) أيضا : «فإذا كان أيام الصيف وخشيت ان ينش جعلته في
تنور مسجور حتى لا ينش» فان النشيش هو صوت الغليان والظاهر من المحافظة عليه بان
لا ينش ليس إلا لخوف تحريمه بالغليان ، وقوله في موثقته الثانية «حتى يشرب حلالا»
إلا انه يمكن ان يقال ان قوله : «كيف يطبخ حتى يصير حلالا» انما هو من كلام الراوي
في سؤاله فلا حجة فيه ، وما ذكر من الاستناد الى قوله «حتى لا ينش» فان فيه انه
بعد ذلك أمر بغليانه حتى يذهب ثلثاه فهو وان حرم
__________________
بالنشيش فلا مانع منه لتعقبه بالغليان الموجب للتحليل بعد ذلك. وحينئذ فلعل
المحافظة عليه من النشيش انما هو لغرض آخر لا لأنه يحرم بعد ذلك ، فإنه وان حرم لا
منافاة فيه لانه لم يجوز استعماله وشربه بعد ذلك وانما أمره بعد ذلك بغلي ذلك
الماء الموجب لحرمته الى ان يذهب ثلثاه الموجب لحله ، وحينئذ فلا فرق في حصول
التحريم فيه في وقت النشيش ولا في وقت الغليان أخيرا ، مع انه يمكن الطعن في هذين
الخبرين ايضا من حيث الراوي وهو عمار لتفرده بروايات الغرائب ونقل الأحكام
المخالفة لأصول الشريعة كما طعن عليه في الوافي في مواضع عديدة ، وكيف كان فالخروج
بمثل هاتين الروايتين ـ على ما عرفت فيهما من المخالفة عن حكم الأصل وعموم الآيات
والروايات الواردة بتفسيرها كما عرفت ـ مشكل.
ومما استند
اليه شيخنا أبو الحسن فيما قدمناه من كلامه حديث الزيدين زيد النرسي وزيد الزراد
عن الصادق (عليهالسلام) «في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصب عليه الماء؟ قال حرام حتى يذهب ثلثاه.
قلت الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال هو كذلك سواء إذا أدت الحلاوة إلى الماء فقد
فسد كلما غلى بنفسه أو بالنار فقد حرم إلا ان يذهب ثلثاه». وقد تقدم ما في هذه
الرواية من الطعن في الراوي والأصل المروي منه هذا الخبر.
وكيف كان
فالحكم في ماء الزبيب عندي لا يخلو من توقف والاحتياط في تجنبه مما لا ينبغي تركه
ولا سيما ان ظاهر الكليني (قدسسره) ربما أشعر بالميل الى العمل بظاهر هذه الأخبار حيث انه
عنون الباب بباب صفة الشراب الحلال وذكر الأخبار المذكورة ، وظاهر المفاتيح الميل
الى التحريم هنا حيث قال على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه ما هذا لفظه : «نعم
ان صب على الزبيب الماء وطبخ بحيث أدت الحلاوة إلى الماء فيمكن الحاقه بالعصير في
التحريم بالغليان كما في الخبر» انتهى. والله العالم
__________________
(المقام الثالث)
ـ في ماء الحصرم ، لا ريب في ان مقتضى الأصل والعمومات من الآيات والروايات
المتقدمة هو حل ماء الحصرم وان طبخ ولم يذهب ثلثاه ، وروايات العصير قد عرفت في
الفائدة الأولى اختصاصها بماء العنب خاصة والحصرم ليس بعنب اتفاقا والأحكام
الشرعية تابعة للتسمية العرفية ، وأنت إذا أمعنت النظر في روايات العصير المطبوخ ـ
والتعبير عنه في الأخبار تارة بالعصير مطلقا الذي قد عرفت انه محمول على عصير
العنب وتارة بعصير العنب وتارة بالطلاء الذي قد عرفت آنفا انه ما طبخ من عصير
العنب وتارة بالبختج وهو العصير المطبوخ كما عرفت ايضا وتارة أتى بشراب يزعم انه
على الثلث وتارة إذا كان يخضب الإناء فاشربه المكنى به عن كونه دبسا وأمثال ذلك ـ وجدت
ان الحصرم لا يدخل في شيء من ذلك فان الحصرم لا يعمل كذلك والمتعارف طبخه قديما
وحديثا انما هو عصير العنب لما فيه من الحلاوة التي يصير بها ذا قوام وغلظ ويشرب
وتترتب عليه المنافع المطلوبة منه ، وماء الحصرم لا يطبخ على حدة وانما يطبخ في
اللحم أحيانا كما يدل عليه بعض الاخبار ، وبالجملة فالأمر في ذلك أظهر من ان يحتاج
الى مزيد بيان بعد شهادة عدول الوجدان في جميع الأزمان ، ومع فرض ان ماء الحصرم
ربما يطبخ على حدة فإطلاق الاخبار لا يشمله فإن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد
الشائعة المتعارفة الجارية بين الناس دون الفروض النادرة كما يحمل أحدنا كلام من
يخاطبه على ما هو المتعارف الجاري في العادة ، ولو تكلف حمله على غير المتعارف المعتاد
لعنف بين العباد ، وكذا الخطاب الوارد عنهم (عليهمالسلام) يجب حمله على ما هو المتعارف المتكرر المشهور.
وقد وقفت في
هذا المقام على كلام لشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن الحاج صالح البحراني (قدسسره) لا يخلو من نظر واشكال ، حيث قال في جواب سائل يسأله :
ما القول في خل العنب إذا طبخ أو لم يطبخ وفي ماء الحصرم إذا على وفي الزبيب إذا
طبخ مع الطعام؟ فكتب ما هذه صورته : أقول في هذه المسألة ثلاث مسائل ، اما
خل العنب فلا بأس به إذا لم يطبخ كالحصرم والزبيب اما مع الطبخ ففيها عندي
قلقلة واني احتاط في الفتوى والعمل ، فالاحتياط في اجتناب ذلك للخبر الصحيح «اي
عصير مسته النار فهو حرام ما لم يذهب ثلثاه» والعصير وان كان المشهور إطلاقه على
عصير العنب فقط إلا ان إطلاقه في الاخبار على ما ذكرناه محتمل لورود تفسير العصير
في الأخبار بأنه من الكرم والكرم يطلق على العنب وعلى شجرة ، فإن كان انما يطلق
على الأول فلا كلام وان كان يطلق على الثاني فهذا منه ، فيكون الدليل متشابها
فتشمل الشبهة كل ما اتخذ من الكرم من حصرم وزبيب ونحوهما مع الغليان ، وان كان
ظاهر الأصل الإباحة وعدم التحريم إلا ان في هذا الأصل كلاما والاحتياط أولى ، الى
ان قال : وبالجملة فالدليل على التحريم غير قاطع وكذا التحليل فالاجتناب اولى.
انتهى كلامه
أقول : لا يخفى
عليك ما فيه من الإجمال بل الاختلال الناشئ من الاستعجال وعدم إعطاء التأمل حقه في
هذا المجال (أما أولا) فلأن الخبر الصحيح الذي استند اليه تبعا لشيخه الشيخ ابي
الحسن المتقدم ذكره قد عرفت ما فيه.
(واما ثانيا) ـ
فلان قوله ـ : «وان كان المشهور إطلاقه على عصير العنب فقط» مما يؤذن بكون مستند
هذا الإطلاق انما هو مجرد الشهرة ـ مردود بما عرفت في الفائدة الاولى من دلالة
الأخبار وكلام أهل اللغة على اختصاص العصير بماء العنب
(واما ثالثا) ـ
فان ما ادعاه ـ بعد اعترافه بورود الأخبار بتفسير العصير بأنه من الكرم من ان
الكرم يطلق على العنب وعلى شجره ـ مردود بأنه قد نص أهل اللغة على ان الكرم هو
العنب ، قال في القاموس : والكرم العنب. وقال الفيومي في المصباح المنير : والكرم
وزان فلس : العنب. ومثله في مجمع البحرين ، وفي النهاية الأثيرية قال : وفيه لا
تسموا على العنب الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم ، قيل سمى الكرم كرما لان الخمر
المتخذة منه تحث السخاء والكرم فاشتقوا له منه اسما فكره ان تسمى باسم مأخوذ من
الكرم وجعل المؤمن أولى به ، يقال رجل كرم اي كريم وصف بالمصدر كرجل عدل
وضيف ، وقال الزمخشري أراد ان يقرر ويسدد ما في قوله عزوجل : «إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ» بطريقة أنيقة ومسلك لطيف وليس الغرض حقيقة النهي عن
تسمية العنب كرما. إلخ ومثله في كتاب الغريبين للهروي وفي كتاب شمس العلوم : الكرم
العنب. فهذه كلمات جملة من أساطين أهل اللغة متفقة في اختصاص إطلاقه بالعنب ،
وحينئذ فلو سلم إطلاقه في بعض المواضع على الشجر تجوزا فإنه لا يصح ان يترتب عليه
حكم شرعي ، ويزيده بيانا موثقة عمار المروية في الكافي والتهذيب عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الكرم متى يحل بيعه؟ قال إذا عقد وصار
عقودا». والعقود اسم الحصرم بالنبطية ، وحيث قد ثبت اختصاص الكرم بالعنب خاصة في
المقام ارتفع الاشتراط في قوله : «فان كان انما يطلق على الأول فلا كلام» وثبت
الحكم وهو الحلية في هذه الأشياء وان طبخت كما لا يخفى على ذوي الأفهام وزالت
الشبهة وبطل قوله : «وان كان يطلق على الثاني» وآل الى الانعدام ، وبالجملة
فروايات العصير لما كانت مختصة بالعنب وهذه خارجة عنه لان الحصرم كما عرفت غير
العنب والخل المتخذ من العنب قد خرج عنه إلى حقيقة أخرى كما في الخمر الذي يصير
خلا والعصير الذي يصير خمرا ونحوهما فلا يلحقهما حينئذ حكم العصير من التحريم
بالغليان حتى يحتاج في حليته الى ذهاب ثلثيه.
(ولو قيل) : ان
روايات نزاع إبليس لعنه الله لآدم ونوح (عليهماالسلام) في شجر الكرم واعطائهما له الثلثين منه يعني مما يخرج
من هذا الشجر مما يدل على عموم ذلك للعنب والزبيب والحصرم وخل العنب (قلنا) : ان
الحكم وان أجمل في تلك الاخبار كما ذكرت إلا ان الأخبار المستفيضة الواردة في عصير
العنب كما عرفت يحكم بها على ذلك المجمل ، ويؤيده ما في بعض تلك الأخبار وهو موثقة
زرارة من قوله بعد
__________________
نقل القصة في النزاع بين نوح وإبليس : «فقال أبو جعفر (عليهالسلام) إذا أخذت عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان وكل واشرب
حينئذ فذاك نصيب الشيطان». وقوله (عليهالسلام) في رواية محمد بن مسلم المنقولة من العلل «فمن هنا طاب الطلاء على الثلث». والطلاء ـ كما عرفت ـ هو المطبوخ من عصير
العنب ، وقوله (عليهالسلام) في رواية وهب بن منبه : «ان لك فيها شريكا في عصيرها». ولان هذا الفرد هو
الذي يتعارف طبخه ويستعمل دائما في الأزمنة السابقة واللاحقة فهو الذي يتبادر إليه
الإطلاق. والله العالم.
وقد أطلنا
البحث في هذا المقام وأحطنا بأطراف الكلام لما عرفت من ان المسألة من أهم المهام
سيما بعد وقوع الخلاف فيها في هذه الأيام ودخول الشبهة فيها على جملة من الاعلام ،
والله الهادي لمن يشاء ، فلنرجع الى ما نحن فيه :
(الفصل السابع)
ـ في الكافر ، قالوا : وضابطه من خرج من الإسلام وبائنة أو انتحله وجحد ما يعلم من
الدين ضرورة. والأول شامل للكافر كفرا أصليا أو ارتداديا كتابيا أو غير كتابي ،
والثاني كالغلاة والخوارج والنواصب.
وقد حكي عن جماعة
دعوى الإجماع على نجاسة الكافر بجميع أنواعه المذكورة كالمرتضى والشيخ وابن زهرة
والعلامة في جملة من كتبه ، إلا ان المفهوم من كلام المحقق في المعتبر الإشارة إلى
الخلاف في بعض هذه المواضع ، حيث قال : الكفار قسمان يهود ونصارى ومن عداهما ، اما
القسم الثاني فالأصحاب متفقون على نجاستهم ، واما الأول فالشيخ في كتبه قطع
بنجاستهم وكذا علم الهدى والاتباع وابنا بابويه ، وللمفيد قولان ، أحدهما النجاسة
ذكره في أكثر كتبه ، والأخر الكراهة ذكره في الرسالة الغرية.
قال في المعالم
: وعزى غير المحقق الى الشيخ في النهاية وابن الجنيد الخلاف في هذا المقام ايضا ،
اما الشيخ فلانه قال في النهاية : يكره ان يدعو الإنسان أحدا من الكفار الى طعامه
فيأكل معه فان دعاه فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه ان شاء. واما ابن الجنيد
__________________
فإنه قال في مختصره : ولو تجنب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي
آنيتهم وكل ما صنع في أواني مستحلي الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقن طهارة أوانيهم
وأيديهم كان أحوط. ثم قال : وعندي في نسبة الخلاف الى الشيخ باعتبار عبارته
المحكية نظر ، قال لانه قال قبلها بأسطر : ولا يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف
مللهم ولا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها بالماء ، ثم قال وكل طعام تولاه بعض
الكفار بأيديهم وباشروه بنفوسهم لم يجز أكله لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم
إياه. وهذا الكلام صريح في الحكم بنجاستهم فلا بد من حمل الكلام الآخر على خلاف
ظاهره ، إذ من المستبعد جدا الرجوع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة وإبقاؤه مثبتا
في الكتاب ، ولعل مراده المؤاكلة التي لا تتعدى معها النجاسة كأن يكون الطعام
جامدا أو في أواني متعددة ويكون وجه الأمر بغسل يديه ارادة تنظيفهما من آثار
القذارات التي لا ينفك عنها الكافر في الغالب فمواكلته على هذه الحالة بدون غسل
يديه مظنة حصول النفرة. وقد تعرض المحقق في نكت النهاية للكلام على هذه العبارة
فذكر على جهة السؤال : انه ما الفائدة في الغسل واليد لا تطهر به؟ وأجاب بأن
الكفار لا يتورعون عن كثير من النجاسات فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة ، ثم
قال ويحمل هذا على حال الضرورة أو على مؤاكلة اليابس وغسل اليد لزوال الاستقذار
النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينية وان لم يفد طهارة اليد ، ثم قال وروى
العيص بن القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني؟ فقال لا بأس إذا كان من
طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسي؟ فقال إذا توضأ فلا بأس». قال المحقق : والمعنى
بتوضئه هنا غسل اليد. انتهى كلامه. وهو ـ كما ترى ـ صريح في ان كلام الشيخ محمول
على خلاف ظاهره وانه ليس بمخالف لما حكم به أولا ، وان الحامل له على ذكر هذه المسألة
ورود مضمونها في الرواية ، وحينئذ فلا ينبغي ان يذكر الشيخ في عداد
__________________
من عدل عن المشهور هنا. واما عبارة ابن الجنيد فظاهرها القول بطهارة أهل
الكتاب وله في بحث الأسآر عبارة أخرى تقرب من هذه حكيناها هناك. وقد تحرر من هذا
ان نجاسة من عدا أهل الكتاب ليست موضع خلاف بين الأصحاب معروف بل كلام المحقق يصرح
بالوفاق كما رأيت ، واما أهل الكتاب فابن الجنيد يرى طهارتهم على كراهية والمفيد
في أحد قوليه يوافقه على ذلك في اليهود والنصارى منهم على ما حكاه عنه المحقق ،
والباقون ممن وصل إلينا كلامه على نجاستهم. انتهى ما ذكره في المعالم في المقام
وهو جيد ، وانما أطلنا بنقله بطوله لعظم نفعه وجودة محصوله.
أقول : الظاهر
ان من ادعى الإجماع من أصحابنا في هذه المسألة على النجاسة بنى على رجوع المفيد
باعتبار تصريحه فيما عدا الرسالة المذكورة من كتبه بالنجاسة وعدم الاعتداد بخلاف
ابن الجنيد لما شنعوا عليه به من عمله بالقياس إلا انه نقل القول بذلك في باب
الأسآر عن ابن ابي عقيل (قدسسره) ثم العجب ان الشيخ (قدسسره) في التهذيب نقل إجماع المسلمين على نجاسة الكفار مطلقا
مع مخالفة الجمهور في ذلك حتى ان المرتضى (رضياللهعنه) جعل القول بالنجاسة من متفردات الإمامية.
وكيف كان
فالواجب الرجوع الى الأدلة في المسألة وبيان ما هو الظاهر منها فنقول احتج
القائلون بالنجاسة بالآية والروايات ، اما الآية فهي قوله عزوجل : «إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» وأورد عليه (أولا) ـ ان
__________________
النجس مصدر فلا يصح وصف الجثة به إلا مع تقدير كلمة «ذو» ولا دلالة في
الآية معه ، لجواز ان يكون الوجه في نسبتهم الى النجس عدم انفكاكهم عن النجاسات
العرضية لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ، والمدعى نجاسة ذواتهم. و (ثانيا) ـ عدم
افادة كلام أهل اللغة كون معنى النجس لغة هو المعهود شرعا وانما ذكر بعضهم انه
المستقذر وقال بعضهم هو ضد الطاهر ، ومن المعلوم ان المراد بالطهارة في إطلاقهم
معناها اللغوي ، فعلى هذين التفسيرين لا دلالة لها على المعنى المعهود في الشرع
فتتوقف إرادته على ثبوت الحقيقة الشرعية أو العرفية المعلوم وجودها في وقت الخطاب
، وفي الثبوت نظر. و (ثالثا) ـ انه على تقدير التسليم فالآية مختصة بمن صدق عليه
عنوان الشرك والمدعى أعم منه.
أقول : والجواب
عن الأول انه لا ريب في صحة الوصف بالمصدر إلا انه مبني على التأويل ، فمنهم من
يقدر كلمة «ذو» ويجعل الوصف بها مضافا الى المصدر فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه
مقامه وعلى هذا بني الإيراد المذكور ، ومنهم من جعله واردا على جهة المبالغة
باعتبار تكثر الفعل من الموصوف حتى كأنه تجسم منه. وهذا هو الأرجح عند المحققين من
حيث كونه أبلغ ، وعليه حمل قول الخنساء «فإنما هي إقبال وادبار» كما ذكره محققوا
علماء المعاني والبيان ، وعليه بنى الاستدلال بالآية المذكورة.
وعن الثاني بأن
النجس في اللغة وان كان كما ذكره إلا انه في عرفهم (عليهمالسلام) كما لا يخفى على من تتبع الأخبار وجاس خلال تلك الديار
انما يستعمل في المعنى الشرعي ، والحمل على العرف الخاص مقدم على اللغة بعد عدم
ثبوت الحقيقة الشرعية ، وتنظر المورد في ثبوت الحقيقة العرفية في زمن الخطاب ـ بمعنى
ان عرفهم (عليهمالسلام) متأخر عن زمان نزول الآية عليه (صلىاللهعليهوآله) فلا يمكن حمل الآية عليه ـ مردود بان عرفهم (عليهمالسلام) في الأحكام الشرعية وفتاويهم وأمرهم ونهيهم في ذلك
راجع في الحقيقة إليه (صلىاللهعليهوآله) فإنهم نقلة عنه وحفظة
لشرعه وتراجمة لوحيه كما استفاضت به اخبارهم.
وعن الثالث
بصدق عنوان الشرك على أهل الكتاب بقوله سبحانه : «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ... الى قوله سُبْحانَهُ عَمّا
يُشْرِكُونَ» وبالجملة فإن دلالة الآية على النجاسة كنجاسة الكلاب
ونحوها مما لا اشكال فيه كما عليه كافة الأصحاب إلا الشاذ النادر في الباب ،
ومناقشة جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كما نقلنا عنهم مردودة بما عرفت.
واما الاخبار
فمنها ـ ما رواه الصدوق في الموثق عن سعيد الأعرج «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن سؤر اليهود والنصارى أيؤكل ويشرب؟ قال لا». ورواه
الكليني والشيخ في الحسن عن سعيد عنه لكن بإسقاط قوله «أيؤكل ويشرب».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن رجل صافح مجوسيا؟ قال يغسل يده ولا
يتوضأ».
وعن ابي بصير
عن الباقر (عليهالسلام) «انه قال في مصافحة المسلم لليهودي والنصراني قال من وراء الثياب فان صافحك
بيده فاغسل يدك».
وصحيحة محمد بن
مسلم قال : «سألت أبا جعفر عن آنية أهل الذمة والمجوس؟ فقال لا تأكلوا من
طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر».
وصحيحة علي بن
جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن فراش اليهودي والنصراني أينام عليه؟
قال لا بأس ولا يصلى في ثيابهما ، وقال لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة
ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه. قال وسألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق
ليس يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال
__________________
ان اشتراه من مسلم فليصل فيه وان اشتراه من نصراني فلا يصل فيه حتى يغسله».
وما رواه في
الكافي عن علي بن جعفر عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد
معه على فراش واحد وأصافحه؟ فقال لا».
ورواية هارون
بن خارجة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني أخالط المجوس وآكل من طعامهم فقال لا». ورواية
سماعة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن طعام أهل الكتاب ما يحل منه؟ قال الحبوب».
ومنها ـ صحيحة
علي بن جعفر «انه سأل أخاه موسى (عليهالسلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام؟ فقال إذا علم
انه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام إلا ان يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل.
وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال لا إلا ان
يضطر إليه».
أقول : الظاهر
ان المعنى في صدر هذا الخبر انه سأله عن النصراني والمسلم يجتمعان في الحمام لأجل
الغسل ـ والمراد بالحمام ماؤه الذي في حياضه الصغار التي هي أقل من كر ـ فقال (عليهالسلام) ان علم انه نصراني وقد وضع يده فيه أو يريد ذلك اغتسل
بغير ذلك الماء من الحمام أو غيره إلا ان يكون بعد اغتسال النصراني ويريد الاغتسال
وحده فإنه يغسل الحوض لنجاسته بملاقاة النصراني له وأخذه الماء منه ثم يجري عليه
الماء من المادة ، وهو يشعر بعدم اتصال المادة حال اغتسال النصراني منه. واما ما
ذكره في آخر الخبر من قوله : «إلا ان يضطر اليه» فالظاهر حمل الاضطرار على ما
توجبه التقية.
قال في العالم
بعد ذكر الرواية المذكورة : والمعنى في صدر هذه الرواية لا يخلو
__________________
من خفاء وكأن المراد به ان اجتماع المسلم والنصراني حال الاغتسال موجب
لاصابة ما يتقاطر من بدن النصراني لبدن المسلم فينجسه. ولازم ذلك عدم صحة الغسل
بماء الحمام حينئذ وتعين الاغتسال بغيره ، واما إذا اغتسلا منفردين فليس بذلك بأس
ولكن مع تقدم مباشرة النصراني للحوض يغسل المسلم الحوض من اثر تلك المباشرة ثم
يغتسل منه ، وبهذا يظهر ان الحكم مفروض في حوض لا يبلغ حد الكثير وتكون المادة فيه
منقطعة حال مباشرة النصراني له ويكون للمسلم سبيل إلى إجرائها ليتصور إمكان غسل
الحوض كما لا يخفى ، ولانه مع كثرة الماء واتصال المادة به لا وجه للحكم بالتنجيس
اللهم إلا ان يراد نجاسة ظاهر الحوض بما يتقاطر من بدن النصراني ، وعلى كل حال لا
بد أن يراد من الاغتسال ما يكون بالأخذ من الحوض وإلا فمع كونه بالنزول الى الماء
لا سبيل إلى النجاسة مع الكثرة أو اتصال المادة ولا معنى لغسل الحوض مع القلة ،
وقوله في الرواية : «يغتسل على الحوض» مشعر بذلك ايضا وإلا لأتى ب «في» بدل «على»
واما استثناء حال الاضطرار في الحكم بالمنع من الوضوء مما يدخل اليهودي والنصراني
يده فيه كما وقع في عجز الرواية فربما كان فيه دلالة على الطهارة وان المنع محمول
على الاستحباب فلا يتم الاحتجاج به على النجاسة ، وقد أشار الى ذلك في المعتبر على
طريق السؤال عن وجه الاحتجاج به وأجاب بأنه لعل المراد بالوضوء التحسين لا رفع
الحدث ، قال ويلزم من المنع منه للتحسين المنع من رفع الحدث بل اولى. ولا يخفى ما
في هذا الجواب من التعسف. ويمكن ان يقال ان استثناء حال الضرورة إشارة إلى تسويغ
استعماله في غير الطهارة عند الاضطرار. انتهى كلامه. وفي بعض مواضعه نظر يعلم مما
قدمناه.
هذا ما حضرني
من الأخبار الدالة على القول بالنجاسة وربما وقف المتتبع على ما يزيد على ذلك
أيضا.
واما ما استدل
به على القول بالطهارة فوجوه : (الأول) ـ أصالة الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة.
(الثاني) ـ قوله
عزوجل. «...
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ...» فإنه شامل لما باشروه وغيره ، وتخصيصها بالحبوب ونحوها
مخالف للظاهر لاندراجها في الطيبات ، ولان ما بعدها : «وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» شامل للجميع قطعا ، ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل
الكتاب بالذكر فإن سائر الكفار كذلك.
(الثالث) ـ الاخبار
، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني؟ فقال لا بأس إذا كان من
طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسي؟ فقال إذا توضأ فلا بأس». وهذه الرواية قد تقدمت
في كلام المحقق مستشهدا بها لما ذكره الشيخ (قدسسره) في النهاية.
وفي الصحيح عن
إبراهيم بن ابي محمود قال : «قلت للرضا (عليهالسلام) الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا
تتوضأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال لا بأس تغسل يديها».
وصحيحة إبراهيم
بن ابي محمود ايضا قال : «قلت للرضا (عليهالسلام) الخياط أو القصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم
انه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال لا بأس».
وصحيحة إسماعيل
بن جابر قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام)
__________________
ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال لا تأكله ، ثم سكت هنيئة ثم قال لا تأكله
، ثم سكت هنيئة ثم قال لا تأكله ولا تتركه تقول انه حرام ولكن تتركه تنزها عنه ،
ان في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير». قال شيخنا الشهيد الثاني على ما نقله عنه ولده
في المعالم : تعليل النهي في هذه الرواية بمباشرتهم النجاسات يدل على عدم نجاسة
ذواتهم إذ لو كانت نجسة لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضية التي قد تتفق وقد لا
تتفق.
وحسنة الكاهلي قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي أيدعونه الى
طعامهم؟ قال اما انا فلا ادعوه ولا أؤاكله واني لأكره ان أحرم عليكم شيئا تصنعونه
في بلادكم».
ورواية زكريا
بن إبراهيم قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) فقلت اني رجل من أهل الكتاب واني أسلمت وبقي أهلي كلهم
على النصرانية وانا معهم في بيت واحد لم أفارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال لي يأكلون
لحم الخنزير؟ فقلت لا ولكنهم يشربون الخمر ، فقال لي كل معهم واشرب».
وصحيحة علي بن
جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) «وقد سأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال
لا إلا ان يضطر اليه». وقد تقدمت في أدلة القول بالتنجيس وتقدم الجواب عنها.
ورواية عمار
الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال «سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا
شرب منه على انه يهودي؟ فقال نعم. قلت من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال نعم».
أقول : اما
الاستدلال بالأصل كما ذكروه فيجب الخروج عنه بالدليل وهو
__________________
ما قدمناه من الآية والروايات.
واما الاستدلال
بالآية فإن الظاهر من الأخبار المؤيدة بكلام جملة من أفاضل أهل اللغة هو تخصيص ذلك
بالحنطة وغيرها من الحبوب اما حقيقة أو تغليبا بحيث غلب استعماله فيها. فأما
الأخبار. فمنها ـ صحيحة هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) «في قول الله عزوجل (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ)؟ قال العدس والحمص وغير ذلك». أقول : قوله وغير ذلك
يعني من الحبوب كما يدل عليه الخبر الآتي ، ومنها صحيحة قتيبة قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) فقال له الرجل : (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ؟) فقال كان ابي يقول انما هي الحبوب وأشباهها». وموثقة
سماعة وفيها «العدس وغير ذلك» ،. وموثقة أخرى له ايضا قال : «سألته عن طعام أهل الذمة ما يحل منه؟ قال الحبوب».
وفي رواية أبي الجارود عن الباقر (عليهالسلام) «الحبوب والبقول». وبذلك يعلم ان ما ذكره بعض أفاضل متأخري المتأخرين من
الإشكال في حمل الطعام في الآية على الحبوب كما نقله في المعالم لا يلتفت اليه بعد
ورود الأخبار بتفسير الآية بذلك كما سمعت ، مع اعتضادها بكلام جملة من أفاضل أهل
اللغة ، فمن ذلك ما نقل عن صاحب مجمل اللغة انه قال بعض أهل اللغة ان الطعام البر
خاصة ، وذكر حديث ابي سعيد «كنا نخرج صدقة الفطرة على عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) صاعا من طعام أو صاعا من كذا.». وقال صاحب الصحاح ربما
خص اسم الطعام بالبر. وقال في المغرب : الطعام اسم لما يؤكل وقد غلب على البر ومنه
حديث ابى سعيد. ونقل ابن الأثير في النهاية عن الخليل ان الغالب في كلام العرب ان
الطعام هو البر خاصة. وقال الفيومي في المصباح المنير : وإذا أطلق أهل الحجاز لفظ
الطعام عنوا به البر خاصة ، وفي العرف الطعام اسم لما يؤكل مثل الشراب اسم لما
يشرب.
__________________
وقال في شمس العلوم بعد ان ذكر ان الطعام الزاد المأكول : وقال بعضهم
الطعام البر خاصة واحتج بحديث ابي سعيد «كنا نخرج صدقة الفطرة على عهد النبي (صلىاللهعليهوآله) صاعا من طعام أو صاعا من شعير.» انتهى. فهذه جملة من
كلمات أهل اللغة متطابقة الدلالة على ما دلت عليه الأخبار المذكورة.
بقي الكلام هنا
في الأخبار ومعارضتها بالأخبار المتقدمة ، والحق عندي هو الترجيح لاخبار النجاسة
وذلك من وجوه :
(الأول) ـ اعتضادها
بظاهر القرآن بالتقريب الذي قدمنا بيانه في معنى الآية وهي قوله سبحانه : «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ ...» وقد عرفت الجواب عما أوردوه على الاستدلال بالآية المذكورة ، وهذا أحد
وجوه الترجيحات المروية عن أهل العصمة (عليهمالسلام) في مقام تعارض الأخبار في الأحكام الشرعية.
(الثاني) ـ كون
أخبار الطهارة موافقة لمذهب العامة بلا خلاف ولا اشكال كما صرح به جملة من الأصحاب
حتى ان المرتضى ـ كما قدمنا ذكره ـ جعل القول بالنجاسة هنا من متفردات الإمامية ،
ومما يشير إلى التقية قوله (عليهالسلام) في حسنة الكاهلي المسوقة في جملة أدلة القول بالطهارة
: «اما انا فلا ادعوه ولا أؤاكله واني لأكره ان أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم»
فان مرمى هذه العبارة ان ذلك حرام شرعا ولكنه يكره ان يأمرهم به لما يخاف عليهم من
لحوق الضرر بهم في ذلك ، وإلا فلو كان حلالا شرعا فإنه لا معنى لاختصاص ذلك بهم (عليهمالسلام) وهذا أيضا أحد وجوه الترجيحات المنصوصة من عرض الاخبار
في مقام الاختلاف على مذهب العامة والأخذ بخلافهم.
(الثالث) ـ اعتضاد
أخبار النجاسة باتفاق الأصحاب إلا الشاذ النادر الذي لا يعبأ بمخالفته ، قال في
المعالم : ثم ان مصير جمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم) الى القول بالتنجيس مقتض
للاستيحاش في الذهاب الى خلافه بل قد ذكرنا ان جماعة
ادعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف ، وكلام العلامة في
المنتهى ظاهر فيه ، وكأنهم لم يعتبروا الخلاف المحكي في ذلك ، اما من جهة المفيد
فلانه موافق في أحد قوليه ولعلهم اطلعوا على انه المتأخر ، واما ابن الجنيد فلأن
المشهور عنه العمل بالقياس فلا التفات الى خلافه. انتهى. وقال في الذخيرة :
والتحقيق انه لولا الشهرة العظيمة بين العلماء وادعاء جماعة منهم الإجماع على
نجاسة أهل الكتاب لكان القول بالطهارة متجها لصراحة الأخبار الدالة على الطهارة على
كثرتها في المطلوب وبعد حمل الكلام على التقية وقرب التأويل في اخبار النجاسة
بحملها على الاستحباب والكراهة فإنه حمل قريب. انتهى. أقول : اما ما ذكره من
التأييد بالشهرة العظيمة فجيد كما ذكرنا ومؤيد لما اخترناه. واما ما ذكره ـ من
اتجاه القول بالطهارة لولا ما ذكره لبعد الحمل على التقية وقرب التأويل في اخبار
النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة ـ فهو وان سبقه اليه السيد في المدارك إلا
انه اجتهاد محض في مقابلة النصوص وجرأة تامة على أهل الخصوص ، لما عرفت من انهم (عليهمالسلام) قد قرروا قواعد لاختلاف الاخبار ومهدوا ضوابط في هذا
المضمار ومن جملتها العرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه ، والعامة هنا كما عرفت
متفقون على القول بالطهارة أو هو مذهب المعظم منهم بحيث لا يعتد بخلاف غيرهم فيه ، والأخبار المذكورة
مختلفة باعترافهم ، فعدولهم عما مهده أئمتهم الى ما أحدثوه بعقولهم واتخذوه قاعدة
كلية في جميع أبواب الفقه بآرائهم من غير دليل عليه من سنة ولا كتاب جرأة واضحة
لذوي الألباب ، وليت شعري لمن وضع الأئمة (عليهمالسلام) هذه القواعد المستفيضة في غير خبر من أخبارهم إذا
كانوا في جميع أبواب الفقه انما عكفوا في الجمع بين الأخبار في مقام الاختلاف على
هذه القاعدة والغوا العرض على الكتاب العزيز والعرض على مذهب العامة كما عرفت هنا؟
وهل وضعت لغير هذه الشريعة أو ان المخاطب بها غير العلماء الشيعة؟ ما هذا إلا عجب
__________________
عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب.
فرع
الظاهر انه لا
خلاف بين الأصحاب في عموم النجاسة من الكافر لما تحله الحياة منه وما لا تحله
الحياة إلا ما يأتي من كلام المرتضى (رضياللهعنه) في الفصل الثامن والتاسع من حكمه بطهارة ما لا تحله
الحياة من نجس العين.
وظاهر صاحب
المعالم المناقشة في هذا المقام والميل إلى الطهارة حيث قال : نص جمع من الأصحاب
على عدم الفرق في نجاسة الكافر بين ما تحله الحياة وما لا تحله الحياة ، وظاهر
كلام العلامة في المختلف عدم العلم بمخالف في ذلك سوى المرتضى فإنه حكم بطهارة ما
لا تحله الحياة من نجس العين ، وقد مرت حكاية خلافه آنفا وبينا ان الحجة المحكية
عنه في ذلك ضعيفة ، ولكن الدليل المذكور هناك للحكم بالتسوية بين جميع الاجزاء لا
يأتي هنا لخلو الأخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك ، وقد
نبهنا على ما في التمسك بالآيتين من الاشكال فلا يتم التعلق بهما في هذا الحكم ،
حيث وقع التعليق فيهما بالاسم ، وحينئذ يكون حكم ما لا تحله الحياة من الكافر
خاليا من الدليل ، فيتجه التمسك فيه بالأصل الى ان يثبت المخرج عنه. انتهى.
أقول : فيه (أولا)
ـ ان الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة اليهود والنصارى قد علق الحكم فيها على
عنوان اليهودي والنصراني الذي هو عبارة عن الشخص أو الرجل المنسوب الى هاتين
الذمتين ، ولا ريب ان الشخص والرجل عبارة عن هذا المجموع الذي حصل به الشخص في
الوجود الخارجي ، ولا ريب في صدق هذا العنوان على جميع اجزاء البدن وجملته كصدق
الكلب على اجزائه ، ومتى ثبت الحكم بالعموم في أهل الكتاب ثبت في غيرهم ممن يوافق
على نجاستهم بطريق اولى.
و (ثانيا) ـ انه
قد روى الكليني في الحسن عن الوشاء عمن ذكره عن الصادق
(عليهالسلام) «انه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الإسلام.
وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب». ولا اشكال ولا خلاف في ان المراد بالكراهة هنا
التحريم والنجاسة ، وقد وقع ذلك معلقا على هذه العناوين المذكورة ومنها المشرك ومن
خالف الإسلام. وكل من هذه العنوانات أوصاف لموصوفات محذوفة قد شاع التعبير بها
عنها من لفظ الرجل أو الشخص أو الذات أو نحو ذلك ، ولا ريب في صدق هذه الموصوفات
على جملة البدن وجميع اجزائه كصدق الكلب على جملته كما اعترف به فكما ان الكلب اسم
لهذه الجملة فالرجل ايضا كذلك ونحوه الشخص.
و (ثالثا) ـ انا
قد أوضحنا سابقا دلالة إحدى الآيتين المشار إليهما في كلامه على النجاسة في المقام
وبينا ضعف ما أورد عليها من الإلزام وبه يتم المطلوب والمرام. والله العالم.
وتمام تحقيق
القول في هذا الفصل يتوقف على رسم مسائل (الأولى) المشهور بين متأخري الأصحاب هو
الحكم بإسلام المخالفين وطهارتهم ، وخصوا الكفر والنجاسة بالناصب كما أشرنا إليه
في صدر الفصل وهو عندهم من أظهر عداوة أهل البيت (عليهمالسلام) والمشهور في كلام أصحابنا المتقدمين هو الحكم بكفرهم
ونصبهم ونجاستهم وهو المؤيد بالروايات الإمامية ، قال الشيخ ابن نوبخت (قدسسره) وهو من متقدمي أصحابنا في كتابه فص الياقوت : دافعو
النص كفرة عند جمهور أصحابنا ومن أصحابنا من يفسقهم. إلخ. وقال العلامة في شرحه
اما دافعو النص على أمير المؤمنين (عليهالسلام) بالإمامة فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى تكفيرهم لان النص
معلوم بالتواتر من دين محمد (صلىاللهعليهوآله) فيكون ضروريا اي معلوما من دينه ضرورة فجاحده يكون
كافرا كمن يجحد وجوب الصلاة وصوم شهر رمضان. واختار ذلك في المنتهى فقال في كتاب
الزكاة في بيان اشتراط وصف المستحق بالايمان ما صورته : لأن الإمامة
__________________
من أركان الدين وأصوله وقد علم ثبوتها من النبي (صلىاللهعليهوآله) ضرورة والجاحد لها لا يكون مصدقا للرسول في جميع ما
جاء به فيكون كافرا. انتهى. وقال المفيد في المقنعة : ولا يجوز لأحد من أهل
الايمان ان يغسل مخالفا للحق في الولاية ولا يصلي عليه. ونحوه قال ابن البراج.
وقال الشيخ في التهذيب بعد نقل عبارة المقنعة : الوجه فيه ان المخالف لأهل الحق
كافر فيجب ان يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بالدليل. وقال ابن إدريس في السرائر
بعد ان اختار مذهب المفيد في عدم جواز الصلاة على المخالف ما لفظه : وهو أظهر
ويعضده القرآن وهو قوله تعالى : «وَلا
تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ...» يعني الكفار ، والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا.
ومذهب المرتضى في ذلك مشهور في كتب الأصحاب إلا انه لا يحضرني الآن شيء من كلامه
في الباب. وقال الفاضل المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي : ومن
أنكرها ـ يعني الولاية ـ فهو كافر حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من أصوله.
وقال الشريف القاضي نور الله في كتاب إحقاق الحق : من المعلوم ان الشهادتين
بمجردهما غير كافيتين إلا مع الالتزام بجميع ما جاء به النبي (صلىاللهعليهوآله) من أحوال المعاد والإمامة كما يدل عليه ما اشتهر من قوله
(صلىاللهعليهوآله) «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية». ولا شك ان المنكر لشيء من
ذلك ليس بمؤمن ولا مسلم لأن الغلاة والخوارج وان كانوا من فرق المسلمين نظرا إلى
الإقرار بالشهادتين إلا انهما من الكافرين نظرا الى جحودهما ما علم من الدين وليكن
منه بل من أعظم أصوله إمامة أمير المؤمنين (عليهالسلام). وممن صرح بهذه المقالة أيضا
__________________
الفاضل المولى المحقق أبو الحسن الشريف ابن الشيخ محمد طاهر المجاور بالنجف
الأشرف حيا وميتا في شرحه على الكفاية حيث قال في جملة كلام في المقام في الاعتراض
على صاحب الكتاب حيث انه من المبالغين في القول بإسلام المخالفين : وليت شعري أي
فرق بين من كفر بالله تعالى ورسوله ومن كفر بالأئمة (عليهمالسلام) مع ان كل ذلك من أصول الدين؟ الى ان قال : ولعل الشبهة
عندهم زعمهم كون المخالف مسلما حقيقة وهو توهم فاسد مخالف للاخبار المتواترة ،
والحق ما قاله علم الهدى من كونهم كفارا مخلدين في النار ، ثم نقل بعض الأخبار في
ذلك وقال والاخبار في ذلك أكثر من ان تحصى وليس هنا موضع ذكرها وقد تعدت عن حد
التواتر. وعندي ان كفر هؤلاء من أوضح الواضحات في مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) انتهى.
هذا ، والمفهوم
من الأخبار المستفيضة هو كفر المخالف الغير المستضعف ونصبه ونجاسته ، وممن صرح
بالنصب والنجاسة أيضا جمع من أصحابنا المتأخرين : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في
بحث السؤر من الروض حيث قال بعد ذكر المصنف نجاسة سؤر الكافر والناصب ما لفظه :
والمراد به من نصب العداوة لأهل البيت (عليهمالسلام) أو لأحدهم وأظهر البغضاء لهم صريحا أو لزوما ككراهة
ذكرهم ونشر فضائلهم والاعراض عن مناقبهم من حيث انها مناقبهم والعداوة لمحبيهم
بسبب محبتهم ، وروى الصدوق ابن بابويه عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد
أحدا يقول انا أبغض محمدا وآل محمد ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم انكم تتولونا
وانكم من شيعتنا». وفي بعض الأخبار «ان كل من قدم الجبت والطاغوت فهو ناصب». واختاره بعض الأصحاب إذ لا عداوة
أعظم من تقديم المنحط عن مراتب الكمال وتفضيل المنخرط في سلك الأغبياء والجهال
__________________
على من تسنم أوج الجلال حتى شك في انه الله المتعال. انتهى. ونحوه في شرحه
على الرسالة الألفية. وممن صرح بالنصب جماعة من متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد
نعمة الله الجزائري في كتاب الأنوار النعمانية حيث قال : واما الناصبي وأحواله
وأحكامه فإنما يتم ببيان أمرين : (الأول) ـ في بيان معنى الناصب الذي وردت
الروايات انه نجس وانه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي وانه كافر بإجماع
الإمامية ، والذي ذهب إليه أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان المراد به من نصب
العداوة لآل محمد (صلىاللهعليهوآله) وتظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج وبعض ما وراء
النهر ، ورتبوا الأحكام في باب الطهارة والنجاسة والكفر والايمان وجواز النكاح
وعدمه على الناصبي بهذا المعنى ، وقد تفطن شيخنا الشهيد الثاني من الاطلاع على
غرائب الأخبار فذهب الى ان الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت (عليهمالسلام) وتظاهر في القدح فيهم كما هو حال أكثر المخالفين لنا
في هذه الأعصار في كل الأمصار. إلى آخر كلامه زيد في مقامه. وهو الحق المدلول عليه
بأخبار العترة الاطهار كما ستأتيك ان شاء الله تعالى ساطعة الأنوار.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان من جملة من صرح بطهارة المخالفين ـ بل ربما كان هو الأصل في الخلاف في
هذه المسألة في القول بإسلامهم وما يترتب عليه ـ المحقق في المعتبر حيث قال : أسآر
المسلمين طاهرة وان اختلفت آراؤهم عدا الخوارج والغلاة ، وقال الشيخ في المبسوط
بنجاسة المجبرة والمجسمة ، وصرح بعض المتأخرين بنجاسة من لم يعتقد الحق عدا
المستضعف ، لنا ـ ان النبي (صلىاللهعليهوآله) لم يكن يجتنب سؤر أحدهم وكان يشرب من المواضع التي
تشرب منها عائشة وبعده لم يجتنب علي (عليهالسلام) سؤر أحد من الصحابة مع مباينتهم له ، ولا يقال ان ذلك
كان تقية لأنه لا يصار إليها إلا مع الدلالة ، وعنه (عليهالسلام) «انه سئل أيتوضأ من فضل جماعة المسلمين أحب إليك
__________________
أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال بل من فضل وضوء جماعة المسلمين فإن أحب
دينكم الى الله تعالى الحنيفية السمحة» ذكره أبو جعفر بن بابويه في كتابه. وعن
العيص ابن القاسم عن الصادق (عليهالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يغتسل هو وعائشة من إناء واحد». ولأن النجاسة حكم
مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة ، اما الخوارج فيقدحون في علي (عليهالسلام) وقد علم من الدين تحريم ذلك ، فهم بهذا الاعتبار
داخلون في الكفر لخروجهم عن الإجماع وهم المعنيون بالنصاب. انتهى كلامه زيد مقامه
وقال في الذخيرة بعد نقل ملخصه انه يمكن النظر في بعض تلك الوجوه لكنها بمجموعها
توجب الظن القوى بالمطلوب.
أقول : وعندي
فيه نظر من وجوه : (الأول) ـ انه لا يخفى انه انما المراد بالمخالف له في هذه
المسألة الذي أشار إليه بقوله : «وصرح بعض المتأخرين» ابن إدريس ، ولا ريب ان مراد
ابن إدريس بالحق الذي صرح بنجاسة من لم يعتقده انما هو الولاية كما سيأتيك بيانه
ان شاء الله تعالى في الأخبار فإنها معيار الكفر والايمان في هذا المضمار ، ويؤيد
ذلك استثناء المستضعف كما سيأتيك التصريح به في الأخبار ايضا ، ولا ريب ايضا ان
الولاية إنما نزلت في آخر عمره (صلىاللهعليهوآله) في غدير خم والمخالفة فيها المستلزمة لكفر المخالف
انما وقع بعد موته (صلىاللهعليهوآله) فلا يتوجه الإيراد بحديث عائشة والغسل معها من إناء
واحد ومساورتها كما لا يخفى ، وذلك لأنها في حياته (صلىاللهعليهوآله) على ظاهر الايمان وان ارتدت بعد موته كما ارتد ذلك
الجم الغفير المجزوم بإيمانهم في حياته (صلىاللهعليهوآله) ومع تسليم كونها في حياته من المنافقين فالفرق ظاهر
بين حالي وجوده (صلىاللهعليهوآله) وموته حيث ان جملة المنافقين كانوا في وقت حياته على
ظاهر الإسلام منقادين لأوامره ونواهيه ولم يحدث منهم ما يوجب الارتداد ، واما بعد
موته فحيث ابدوا تلك الضغائن البدرية وأظهروا
__________________
الأحقاد الجاهلية ونقضوا تلك البيعة الغديرية التي هي في ضرورتها أظهر من
الشمس المضيئة فقد كشفوا ما كان مستورا من الداء الدفين وارتدوا جهارا غير منكرين
ولا مستخفين كما استفاضت به أخبار الأئمة الطاهرين (عليهمالسلام) فشتان ما بين الحالتين وما أبعد ما بين الوقتين ، فأي
عاقل يزعم ان أولئك الكفرة اللئام قد بقوا على ظاهر الإسلام حتى يستدل بهم في هذا
المقام والحال انه قد ورد عنهم عليهم الصلاة والسلام «ثلاثة (لا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ) تعالى (يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : من ادعى امامة من الله ليست له ومن جحد اماما من الله
ومن زعم ان لهما في الإسلام نصيبا»؟. نعوذ بالله من زلات الافهام وطغيان الأقلام.
(الثاني) ـ ان
من العجب الذي يضحك الثكلى والبين البطلان الذي أظهر من كل شيء وأجلي ان يحكم
بنجاسة من أنكر ضروريا من سائر ضروريات الدين وان لم يعلم ان ذلك منه عن اعتقاد
ويقين ولا يحكم بنجاسة من يسب أمير المؤمنين (عليهالسلام) وأخرجه قهرا مقادا يساق بين جملة العالمين وأدار الحطب
على بيته ليحرقه عليه وعلى من فيه وضرب الزهراء (عليهاالسلام) حتى أسقطها جنينها ولطمها حتى خرت لوجهها وجبينها
وخرجت لوعتها وحنينها مضافا الى غصب الخلافة الذي هو أصل هذه المصائب وبيت هذه
الفجائع والنوائب ، ما هذا إلا سهو زائد من هذا النحرير وغفلة واضحة عن هذا
التحرير ، فيا سبحان الله كأنه لم يراجع الأخبار الواردة في المقام الدالة على
ارتدادهم عن الإسلام واستحقاقهم القتل منه (عليهالسلام) لولا الوحدة وعدم المساعد من أولئك الأنام ، وهل يجوز
يا ذوي العقول والأحلام ان يستوجبوا القتل وهم طاهر والأجسام؟ ثم اي دليل دل على
نجاسة ابن زياد ويزيد وكل من تابعهم في ذلك الفعل الشنيع الشديد؟ واي دليل دل على
نجاسة بني أمية الأرجاس وكل من حذا حذوهم من كفرة بني العباس الذين قد ابادوا
الذرية العلوية وجرعوهم كؤوس الغصص
__________________
والمنية؟ واي حديث صرح بنجاستهم حتى يصرح بنجاسة أئمتهم ، واي ناظر وسامع
خفي عليه ما بلغ بهم من أئمة الضلال حتى لا يصار اليه الا مع الدلالة؟ ولعله (قدسسره) ايضا يمنع من نجاسة يزيد وأمثاله من خنازير بني أمية
وكلاب بني العباس لعدم الدليل على كون التقية هي المانعة من اجتناب أولئك الأرجاس.
(الثالث) ـ ان
ما استند اليه من الاستدلال بحديث أفضلية الوضوء من سؤر المسلمين لا يخلو من نوع
مصادرة ، فان الحكم بإسلام المخالفين أول البحث والحاكم بالنجاسة إنما حكم بذلك
لثبوت الكفر والنصب المستلزمين للنجاسة ، على انا لا نسلم ان المراد بالإسلام هنا
المعنى الأعم كما استند اليه بل المراد انما هو المعنى المرادف للايمان كما فسره
به بعض علمائنا الأعيان حيث قال : والوجه في التعليل كون الوضوء بفضل جماعة
المسلمين أسهل حصولا ، الى ان قال مع ما فيه من التبرك بسؤر المؤمن وتحصيله الألفة
بذلك.
(الرابع) ـ ان
ما فسر به النواصب من انهم الخوارج خاصة مما يقضى منه العجب العجاب لخروجه عن
مقتضى النصوص المستفيضة في الباب وعدم موافق له في ذلك لا قبله ولا بعده من
الأصحاب.
وبالجملة فإن
كلامه في هذا المقام لا اعرف له وجها وجيها من اخبارهم (عليهمالسلام) بل هي في رده وبطلانه أظهر من البدر ليالي التمام.
هذا ، واما
الأخبار الدالة على كفر المخالفين عدا المستضعفين فمنها ما رواه في الكافي بسنده عن مولانا الباقر (عليهالسلام) قال : «ان الله عزوجل نصب عليا (عليهالسلام) علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان
كافرا ومن جهله كان ضالا.».
وروى فيه عن أبي إبراهيم (عليهالسلام) قال : «ان عليا (عليهالسلام) باب من أبواب الجنة فمن دخل بابه كان مؤمنا ومن خرج من
بابه كان كافرا ومن لم يدخل
__________________
فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين لله عزوجل فيهم المشيئة».
وروى فيه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «. من عرفنا كان مؤمنا ومن أنكرنا كان كافرا ومن
لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع الى الهدي الذي افترضه الله عليه من
طاعتنا الواجبة فان مات على ضلالته يفعل الله به ما يشاء».
وروى الصدوق في
عقاب الأعمال قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) «ان الله تعالى جعل عليا (عليهالسلام) علما بينه وبين خلقه ليس بينهم وبينه علم غيره فمن
تبعه كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا ومن شك فيه كان مشركا».
ورواه البرقي
في المحاسن مثله . وروى فيه ايضا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان عليا (عليهالسلام) باب هدى من عرفه كان مؤمنا ومن خالفه كان كافرا ومن
أنكره دخل النار».
وروى في العلل
بسنده الى الباقر (عليهالسلام) قال : «ان العلم الذي وضعه رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عند علي (عليهالسلام) من عرفه كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا».
وروى في كتاب
التوحيد وكتاب إكمال الدين وإتمام النعمة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الامام علم بين الله عزوجل وبين خلقه من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا».
وروى في
الأمالي بسنده فيه عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال لحذيفة اليماني «يا حذيفة ان حجة الله عليكم
بعدي علي بن ابي طالب (عليهالسلام) الكفر
__________________
به كفر بالله سبحانه والشرك به شرك بالله سبحانه والشك فيه شك في الله
سبحانه والإلحاد فيه إلحاد في الله سبحانه والإنكار له إنكار لله تعالى والايمان
به ايمان بالله تعالى لأنه أخو رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ووصيه وامام أمته ومولاهم. وهو حبل الله المتين وعروته
الوثقى التي لَا
انْفِصامَ لَها ... الحديث».
وروى في الكافي
بسنده الى الصحاف قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قوله تعالى : «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» فقال عرف الله تعالى ايمانهم بموالاتنا وكفرهم بها يوم
أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم».
وروى فيه بسنده عن الصادق (عليهالسلام) قال : «أهل الشام شر من أهل الروم وأهل المدينة شر من
أهل مكة وأهل مكة يكفرون بالله تعالى جهرة».
وروى فيه بسنده
عن أحدهما (عليهماالسلام) «ان أهل مكة ليكفرون بالله جهرة وأهل المدينة أخبث من أهل مكة ، أخبث منهم
سبعين ضعفا».
وروى فيه عن ابي مسروق قال : «سألني أبو عبد الله (عليهالسلام) عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت مرجئة وقدرية وحرورية. قال
لعن الله تعالى تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء». الى غير
ذلك من الأخبار التي يضيق عن نشرها المقام ومن أحب الوقوف عليها فليرجع إلى الكافي
ولا سيما في تفسير الكفر في جملة من الآيات القرآنية.
وأنت خبير بان
التعبير عن المخالفة في الإمامة في جملة من هذه الاخبار بالإنكار في بعض والجحود
في بعض دلالة واضحة على كفر هؤلاء المخالفين من قبيل كفر الجحود والإنكار الموجب
لخروجهم عن جادة الإسلام بكليته واجراء حكم الكفر عليهم برمته
__________________
وان مخالفتهم في ذلك انما وقع عنادا واستكبارا لقيام الأدلة عليهم في ذلك
وسطوع البراهين فيما هنالك لديهم ، لان الجحود والإنكار إنما يطلقان في مقام
المخالفة بعد ظهور البرهان كما صرح به علماء اللغة الذين إليهم المرجع في هذا
الشأن. وبذلك يظهر ما في جواب شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح
البحراني حيث انه ممن تبع المشهور بين المتأخرين في الحكم بإسلام المخالفين ، فإنه
أجاب عن إطلاق الكفر عليهم في الاخبار بالحمل على الكفر الحقيقي وان كانوا مسلمين
ظاهرا فهم مسلمون ظاهرا فتجري عليهم أحكام الإسلام من الطهارة وجواز المناكحة وحقن
المال والدم والموارثة ونحو ذلك وكفار حقيقة وواقعا فيخلدون في النار يوم القيامة
، ثم احتمل حمل كفرهم على أحد معاني الكفر وهو كفر الترك فكفرهم بمعنى ترك ما أمر
الله تعالى به كما ورد «ان تارك الصلاة كافر» . و «تارك الزكاة كافر» . و «تارك الحج كافر» . و «مرتكب الكبائر كافر» . وفيه ان ما ذكره من الكفر بالمعنى الأول من انهم
مسلمون ظاهرا وكفار حقيقة بمعنى اجتماع الكفر والإسلام بهذين المعنيين لم يقم عليه
دليل في غير المنافقين في وقته (صلىاللهعليهوآله) وإنكاره بمجرد دعوى الإسلام لأولئك المخالفين أول
البحث ، ومن المعلوم ان المتبادر من إطلاق الكفر حيث يذكر انما هو ما يكون مباينا
للإسلام ومضادا له في الأحكام إذ هو المعنى الحقيقي للفظ ، وهكذا كل لفظ أطلق
فإنما يحمل على معناه الحقيقي إلا ان يصرف عنه صارف ولا صارف هنا إلا مجرد هذه
الدعوى وهي ممنوعة بل هي أول البحث لعدم الدليل عليها بل قيام الأدلة المتعاضدة في
دفعها وبطلانها كما أوضحناه في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب
__________________
عليه من المطالب. واما ما ذكره من الحمل على ترك ما أمر الله تعالى فإنه لا
يخفى على من تأمل الأخبار التي أوردناها ان الكفر المنسوب إلى هؤلاء انما هو من
حيث الإمامة وتركها وعدم القول بالإمامة. ولا يخفى ان الترك لشيء من ضروريات
الدين ان كان انما هو ترك استخفاف وتهاون فصاحبه لا يخرج عن الايمان كترك الصلاة
والزكاة ونحوهما وان أطلق عليه الكفر في الاخبار كما ذكره تغليظا في المنع من ذلك
، وان كان عن جحود وإنكار فلا خلاف في كفر التارك كفرا حقيقيا دنيا وآخرة ولا يجوز
إطلاق اسم الإسلام عليه بالكلية كمن ترك الصلاة ونحوها كذلك ، والأخبار المتقدمة كما
عرفت قد صرحت بكون كفر هؤلاء انما هو من حيث جحود الإمامة وإنكارها لا ان ذلك
استخفاف وتهاون مع اعتقاد ثبوتها وحقيتها كالصلاة ونحوها فإنه لا معنى له بالنسبة
إلى الإمامة كما لا يخفى ، وحينئذ فليختر هذا القائل اما ان يقول بكون الترك هنا
ترك جحود وإنكار فيسقط البحث ويتم ما ادعيناه واما ان يقول ترك استخفاف وتهاون فمع
الإغماض عن كونه لا معنى له فالواجب عليه القول بإيمان المخالفين لان الترك كذلك
لا يوجب الخروج عن الايمان كما عرفت ولا أراه يلتزمه.
واما ما يدل
على نصبهم فمنه ما تقدم نقله في كلام شيخنا الشهيد الثاني من حديث عبد الله بن
سنان ونحوه ايضا ما رواه الصدوق في معاني الأخبار بسند معتبر عن معلى بن خنيس قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد
أحدا يقول انا أبغض آل محمد ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم انكم تتولونا
وتتبرؤون من أعدائنا». وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر مما استطرفه من كتاب
مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا ابي الحسن علي بن محمد الهادي (عليهالسلام) في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى قال : «كتبت اليه
__________________
اسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه الى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت
واعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب : من كان على هذا فهو ناصب».
والمستفاد من
هذه الأخبار ان مظهر النصب المترتب عليه الأحكام والدليل عليه اما تقديم الجبت
والطاغوت أو بغض الشيعة من حيث التشيع فكل من اتصف بذلك فهو ناصب تجري عليه أحكام
النصب ، نعم يجب ان يستثني من خبر تقديم الجبت والطاغوت المستضعف كما عرفت من
الاخبار المتقدمة وغيرها ايضا فيختص الحكم بما عداه ، وعموم ذلك لجميع المخالفين
بعد إخراج هذا الفرد مما لا يعتريه الريب والشك بالنظر الى الاخبار المذكورة كما
عليه أكثر أصحابنا المتقدمين الحاكمين بالكفر وكثير من متأخري المتأخرين كما قدمنا
نقل كلام بعضهم.
واما ما أجاب
به الشيخ المحدث الصالح المتقدم ذكره ـ من ان الناصب يطلق على معان : (أحدها) ـ من
نصب العداوة لأهل البيت (عليهمالسلام) وعلى هذا يحمل ما ورد من حل مال الناصب ونحوه. و (ثانيها)
ـ من قدم الجبت والطاغوت كما تضمنه خبر السرائر. و (ثالثها) ـ من نصب للشيعة ـ فهو
ناشىء من ضيق الخناق وانا لم نجد لهذا المعنى الأول دليلا ولم نجد لهم دليلا على
هذا التقسيم سوى دعواهم إسلام المخالفين فأرادوا الجمع بين الحكم بإسلامهم وبين
هذه الاخبار بحمل النصب على ما ذكروه في المعنى الأول وهو أول البحث في المسألة
فإن الخصم يمنع إسلامهم ويقول بكفرهم.
وبالجملة فإنه
لا خلاف بيننا وبينهم في ان الناصب هو العدو لأهل البيت والنصب لغة هو العداوة
وشرعا بل لغة ايضا على ما يفهم من القاموس هو العداوة لأهل البيت (عليهمالسلام) انما الخلاف في ان هؤلاء المخالفين هل يدخلون تحت هذا
العنوان أم لا؟ فنحن ندعى دخولهم تحته وصدقه عليهم وهم يمنعون ذلك ، ودليلنا على
ما ذكرنا الأخبار المذكورة الدالة على ان الأمر الذي يعرف به النصب ويوجب الحكم به
على من اتصف به هو تقديم الجبت والطاغوت أو بغض الشيعة ولا ريب في صدق ذلك على
هؤلاء المخالفين ، وليس هنا خبر يدل على تفسير الناصب بأنه المبغض لأهل
البيت (عليهمالسلام) كما يدعونه بل الخبران المتقدمان صريحان في انك لا تجد
أحدا يقول ذلك. وبالجملة فإنه لا دليل لهم ولا مستند أزيد من وقوعهم في ورطة القول
بإسلامهم فتكلفوا هذه التكلفات الشاردة والتأويلات الباردة ، على انا قد حققنا في
الشهاب الثاقب بالأخبار الكثيرة بغض المخالفين المقدمين للجبت والطاغوت غير
المستضعفين لأهل البيت (عليهمالسلام) واليه يشير كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم نقله من
الروض.
ومن أظهر ما
يدل على ما ذكرناه ما رواه جملة من المشايخ عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الناصبي شر من اليهودي. فقيل له وكيف ذلك يا
ابن رسول الله؟ قال ان الناصبي يمنع لطف الإمامة وهو عام واليهودي لطف النبوة وهو
خاص». فإنه لا ريب ان المراد بالناصبي هنا مطلق من أنكر الإمامة كما ينادي به قوله
«يمنع لطف الإمامة» وقد جعله (عليهالسلام) شرا من اليهودي الذي هو من جملة فرق الكفر الحقيقي بلا
خلاف. ومن أراد الإحاطة بأطراف الكلام والوقوف على صحة ما ادعيناه من اخبار أهل
البيت (عليهمالسلام) فليرجع الى كتابنا المشار اليه آنفا فإنه قد أحاط
بأطراف المقال ونقل الأقوال والأدلة الواردة في هذا المجال.
واما ما يدل
على نجاسة الناصب الذي قد عرفت انه عبارة عن المخالف مطلقا إلا المستضعف منه فمنه
ـ ما رواه في الكافي بسنده عن عبد الله بن ابي يعفور عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام
فان فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء وفيها غسالة الناصب وهو شرهما
، ان الله لم يخلق خلقا شرا من الكلب وان الناصب أهون على الله تعالى من الكلب». وما
رواه فيه ايضا عن خالد القلانسي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ألقى الذمي
__________________
فيصافحني؟ قال امسحها بالتراب أو بالحائط. قلت فالناصب؟ قال اغسلها». وعن
الوشاء عن من ذكره عن الصادق (عليهالسلام) «انه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف
الإسلام ، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب». ورواية علي ابن الحكم عن رجل عنه (عليهالسلام) وفيها «لا تغتسل من ماء غسالة الحمام فإنه يغتسل فيه من
الزنا ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم». وما رواه الصدوق في
العلل في الموثق عن عبد الله ابن ابي يعفور عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال فيه بعد ان ذكر اليهودي والنصراني والمجوسي
قال : «والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم ، ان الله لم يخلق خلقا أنجس من الكلب وان
الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه». ولجملة من أصحابنا في هذا المقام ـ حيث نقلوا عن
ابن إدريس القول بنجاسة من لم يعتقد الحق عدا المستضعف وعن المرتضى (رضياللهعنه) القول بنجاسة غير المؤمن وزيفوا لهما حججا واهية ـ كلام
واه في الجواب عن ذلك لا يستحق النظر اليه كما لا يخفى على من تأمل فيما ذكرناه
وتدبر ما سطرناه فإنه هو الحجة في المقام لا ما زيفه أولئك الأعلام
فرعان
(الأول) ـ لا
يخفى انه على تقدير القول بالنجاسة كما اخترناه فلو ألجأت ضرورة التقية إلى
المخالطة جازت المباشرة دفعا للضرر كما أوجبته شرعية التقية في غير مقام من
الأحكام إلا انه يتقدر بقدر الضرورة فيتحرى المندوحة مهما أمكن. بقي الكلام في انه
لو زالت التقية بعد المخالطة والمباشرة بالبدن والثياب فهل يجب تطهيرها أم لا؟ إشكال
ينشأ من حيث الحكم بالنجاسة وانما سوغنا مباشرتها للتقية وحيث زالت التقية فحكم
النجاسة باق على حاله فيجب إزالتها إذ لا مانع من ذلك ، ومن حيث
__________________
تسويغ الشارع المباشرة وتجويزه لها أولا فما اتى به من ذلك أمر جائز شرعا
وهو حكم الله تعالى في حقه في تلك الحال وعود الحكم بالنجاسة على وجه يوجب التطهير
بعد ذلك يحتاج الى دليل ، وبالجملة فالمسألة لا تخلو عندي من نوع توقف لعدم الدليل
الظاهر في البين والاحتياط فيها ظاهر. والله العالم.
(الثاني) ـ ينبغي
ان يعلم ان جميع من خرج عن الفرقة الاثني عشرية من افراد الشيعة كالزيدية
والواقفية والفطحية ونحوها فان الظاهر ان حكمهم كحكم النواصب فيما ذكرنا لان من
أنكر واحدا منهم (عليهمالسلام) كان كمن أنكر الجميع كما وردت به اخبارهم ، ومما ورد
من الأخبار الدالة على ما ذكرنا ما رواه الثقة الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب
الرجال بإسناده عن ابن ابي عمير عن من حدثه قال : «سألت محمد بن علي الرضا (عليهالسلام) عن هذه الآية «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ
ناصِبَةٌ» قال وردت في النصاب ، والزيدية والواقفية من النصاب». وما
رواه فيه بسنده الى عمر بن يزيد قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليهالسلام) فحدثني مليا في فضائل الشيعة ثم قال ان من الشيعة
بعدنا من هم شر من النصاب. فقلت جعلت فداك أليس ينتحلون مودتكم ويتبرأون من عدوكم؟
قال نعم. قلت جعلت فداك بين لنا لنعرفهم فلعلنا منهم. قال كلا يا عمر ما أنت منهم
انما هم قوم يفتنون بزيد ويفتنون بموسى». وما رواه فيه ايضا قال : «ان الزيدية والواقفية والنصاب بمنزلة واحدة». وروى
القطب الراوندي في كتاب الخرائج والجرائح عن احمد بن محمد بن مطهر قال : «كتب بعض أصحابنا الى ابي محمد (عليهالسلام) من أهل الجبل يسأله عن من وقف على ابى الحسن موسى (عليهالسلام) أتولاهم أم أتبرّأ منهم؟ فكتب لا تترحم على عمك لا رحم
الله عمك وتبرأ منه ، انا الى الله بريء منهم فلا تتولهم ولا تعد مرضاهم ولا تشهد
جنائزهم (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) سواء ، من جحد اماما من الله تعالى أو زاد اماما ليست
إمامته من الله
__________________
أو قال ثالث ثلاثة ، ان الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا والزائد فينا
كالناقص الجاحد أمرنا». وكأن هذا السائل لم يعلم ان عمه كان منهم فأعلمه بذلك. وهي
ـ كما ترى ـ ظاهرة في المراد عارية عن وصمة الإيراد ، ولهذا نقل شيخنا البهائي (قدسسره) في مشرق الشمسين ان متقدمي أصحابنا كانوا يسمون تلك
الفرق بالكلاب الممطورة أي الكلاب التي أصابها المطر مبالغة في نجاستهم والبعد
عنهم. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب سيما المتأخرين القول بطهارة ولد الزنا والحكم
بإسلامه ودخول الجنة ، وعن ابن إدريس القول بكفره ونجاسته ، ونقل العلامة في
المختلف القول بالكفر عن المرتضى وابن إدريس ، ونقل جملة منهم عن الصدوق ايضا
القول بالنجاسة والكفر ، قال في المختلف في باب السؤر : قال الشيخ أبو جعفر بن
بابويه لا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وجعل ولد الزنا
كالكافر ، وهو المنقول عن المرتضى وابن إدريس ، وباقي علمائنا حكموا بإسلامه ، وهو
الحق وسيأتي بيان ذلك. وقال المحقق في المعتبر وربما تعلل المانع ـ يعني من سؤر
ولد الزنا ـ بأنه كافر ونحن نمنع ذلك ونطالبه بدليل دعواه ، ولو ادعى الإجماع كما
ادعاه بعض الأصحاب كانت المطالبة باقية فإنا لا نعلم ما ادعاه. قال في المعالم بعد
نقل الأقوال المذكورة : إذا عرفت ذلك فاعلم ان المعتمد عندي هو القول بالطهارة
لكونها مقتضى الأصل والمخرج عنه غير معلوم. وقال في الذخيرة : ويدل على الطهارة
الأصل وكونه محكوما عليه بالإسلام ظاهرا وان سؤره طاهر لما أشرنا إليه من العمومات
فيلزم العموم لعدم القائل بالفصل. انتهى.
واحتج في
المنتهى للقول بكفره بمرسلة الوشاء المتقدمة قال : ووجهه انه لا يريد بلفظ «كره» المعنى الظاهر له
وهو النهي عن الشيء نهى تنزيه لقوله «واليهودي» فان الكراهة فيه تدل على التحريم
فلم يبق المراد إلا كراهة التحريم ،
__________________
ولا يجوز ان يرادا معا وإلا لزم استعمال المشترك في كلا معنييه أو استعمال
اللفظ في معنيين الحقيقة والمجاز وذلك باطل ، ثم انه أجاب عن الاحتجاج بالمنع من
الحديث فإنه مرسل ، سلمنا لكن قول الراوي «كره» ليس إشارة إلى النهي بل الكراهة
التي في مقابلة الإرادة وقد تطلق على ما هو أعم من المحرم والمكروه ، سلمنا لكن
الكراهة قد تطلق على النهي المطلق فيحمل عليه. انتهى.
وقال شيخنا أبو
الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني في بعض تحقيقاته وقد سأل عن ولد الزنا :
هل يحتمل ان يدخل الجنة مع إمكان ان يكون مؤمنا متشرعا؟ فأجاب (قدسسره) بما ملخصه ان جواز ايمانه وإمكان تدينه عقلا مما لا
خلاف فيه كيف ولو لم يكن كذلك لزم التكليف بالمحال وهو باطل عقلا ونقلا ، وانما
الخلاف في الوقوع هل يقع منه الايمان والتدين أم يقطع بعدم وقوع ذلك؟ والمنقول عن
رئيس المحدثين ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه والمرتضى علم الهدى وابي عبد الله
ابن إدريس الحلي روح الله أرواحهم وقدس أشباحهم هو الثاني وهو انه لا يكون إلا
كافرا بمعنى انه لا يختار إلا الكفر. وهم لا ينكرون انه لو فرض ايمانه وتدينه أمكن
دخول الجنة بل وجب وان كان عندهم ان هذا الفرض غير واقع لانه لا بد وان يختار من
قبل نفسه الكفر ، وفي ظواهر الاخبار ما يشهد بهذا القول مثل قوله (عليهالسلام) «ولد الزنا شر الثلاثة». ومثل قوله (عليهالسلام) «لا يبغضك يا علي إلا ولد الزنا». ثم نقل خبرا عن الكافي يتضمن قوله : «ان الله حرم الجنة على كل فحاش بذي قليل
الحياء لا يبالي بما قال ولا ما قيل له فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك
شيطان. فقيل يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وفي الناس شرك شيطان؟ فقال اما تقرأ قول الله عزوجل :
__________________
(وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ)» . قال فان ظاهره تحريم الجنة على الصنف المذكور تحريما
مؤبدا ، الى ان قال : ولا يخفى انه يمكن حمل الخبر علي تحريم الجنة عليهم زمانا
طويلا أو تحريم جنة خاصة معدة لغير هذا الصنف كما احتمله شيخنا البهائي في شرح
الأربعين ، ثم ذكر جملة من الأخبار الدالة على كون حب علي (عليهالسلام) علامة على طيب الولادة وبغضه علامة على الزنا ، إلى ان
قال وبالجملة الأخبار المشعرة بهذا المعنى كثيرة إلا أنها قابلة للتأويل غير خالية
عن قصور في سند أو دلالة والقائل بمضمونها قليل نادر ، وأكثر أصحابنا على إسلامه
وطهارته وإمكان تدينه وعدالته وصحة دخوله الجنة ، وانا في هذه المسألة متوقف وان
كان القول الثاني لا يخلو من قوة ومتانة. وهو فتوى الشيخين والفاضلين والشهيدين
وكافة المتأخرين ، ويعضده الأصل والنظر الى عموم سعة رحمة الله تعالى وتفضله
بالألطاف الربانية والعنايات السبحانية على كافة البرية. انتهى ملخصا.
أقول : ونحن
نبسط الكلام في الإيراد على كلام شيخنا المذكور ونبين ما فيه من القصور وبه يتضح
ايضا ما في القول المشهور ، فنقول : لا يخفى ان شيخنا قد دخل في هذه المسألة من
غير الطريق وعرج على الاستدلال فيها من واد سحيق ولم يمعن النظر فيها بعين التحقيق
ولا الفكر الصائب الدقيق ولم يورد شيئا من أخبارها اللائقة بها حسبما يراد فلذا
صار كلامه معرضا للإيراد ، وبيان ذلك يظهر من وجوه النظر التي تتوجه على كلامه
الظاهرة في تداعي ما بنى عليه وانهدامه.
فأحدها ـ جعله
محل الخلاف في المسألة انه هل يقع من ابن الزنا الايمان والتدين أم يقطع بعدمه؟
وحمله القول بكفره على معنى انه لا يقع منه إلا الكفر وإلا فإنهم لا ينكرون انه لو
فرض ايمانه وتدينه أمكن دخوله الجنة بل وجب. فإنه ليس في محله بل هؤلاء القائلون
بكفره يقولون به وان أظهر الايمان وتدين به كما هو ظاهر النقل عنهم ، وبه صرح جملة
من أصحابنا : منهم ـ شيخنا خاتمة المحدثين غواص بحار الأنوار
__________________
حيث قال فيه : ونسب الى الصدوق والمرتضى وابن إدريس (قدس الله أسرارهم)
القول بكفره وان لم يظهره ، ثم قال : وهذا مخالف لأصول العدل إذ لم يفعل باختياره
ما يستحق به العقاب فيكون عقابه ظلما وجورا وليس بظلام للعبيد. انتهى. أقول : وهذا
الذي نقله عن المشايخ الثلاثة هو الذي تدل عليه الأخبار وهي التي أوجبت مصيرهم
اليه كما ستمر بك ان شاء الله تعالى فإنها صريحة في حرمانه الجنة وان أظهر التدين
والايمان ، نعم ما ذكره من القول بالكفر انما هو وجه تأويل حيث حمل القائلون
بإسلام ولد الزنا الأخبار الدالة على عدم دخوله الجنة على انه لكونه يظهر الكفر
فجعلوه جوابا عن الاخبار المذكورة مع انها صريحة في رده ايضا كما سيظهر لك لا ان
ذلك مذهب القائلين بكفره.
وثانيها ـ ما
نقله من الأدلة للقائلين بالكفر وقوله في آخر الكلام : وبالجملة فالأخبار المشعرة
بهذا المعنى كثيرة إلا أنها قابلة للتأويل. فإنه مسلم بالنسبة إلى إخباره التي
أوردها لكنها ليست هي أدلة هذا القول كما توهمه بل أدلته ما سنذكره من الروايات
الصحيحة الصريحة المستفيضة الغير القابلة للتأويل ، والعجب منه (قدسسره) مع سعة دائرته في الاطلاع وكونه ممن لا يجارى في سعة
الباع كيف غفل عن الوقوف عليها مع كثرتها وانتشارها وتكررها واشتهارها حتى اعتمد
في الاستدلال على هذه الاخبار البعيدة عن المقام بمراحل لا تنطبق عليه إلا بمزيد
تكلف كما لا يخفى على الخبير الكامل.
وثالثها ـ ما
ذكره من قوله : ان أكثر أصحابنا على إسلامه وطهارته وإمكان تدينه وعدالته وصحة
دخوله الجنة ، وميله الى هذا القول بعد توقفه وقوله انه لا يخلو من من قوة ومتانة
، ومن الكلام على هذا الوجه يظهر لك ما في القول المشهور ايضا من القصور فان فيه
ان ما صاروا اليه هنا في هذه المواضع مخالف لجملة الأخبار الواردة عن العترة
الطاهرة في جملة من موارد الأحكام :
فمنها ـ دعوى
الطهارة مع ان ظواهر الأخبار تدل على النجاسة ، ومنها ـ ما تقدم في آخر المسألة
المتقدمة وهي رواية عبد الله بن ابي يعفور الدالة على النهي عن الاغتسال من البئر الذي يجتمع فيه
غسالة الحمام فان فيه غسالة ولد الزنا مع اشتمالها على المبالغة في نجاسته بأنه لا
يطهر إلى سبعة آباء ، ومرسلة الوشاء وان تمحل في المنتهى لتأويلها بما قدمنا ذكره إلا انه
انما يصار اليه مع تسليم صحته مع وجود المعارض ، ورواية حمزة بن احمد عن ابي الحسن
الأول (عليهالسلام) في حديث قال فيه : «ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها
ماء الحمام فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت
وهو شرهم». وليس في الأخبار ما يعارض هذه الاخبار سوى مجرد دعواهم الإسلام وسيظهر
لك ما فيه في المقام ، ورواية علي بن الحكم ، فهذه جملة من الأخبار ظاهرة في
نجاسته مع تأيدها بما يأتي من الأخبار في تلك الأحكام.
ومنها ـ دعوى
العدالة ولا يخفى ان المواضع التي يشترط فيها العدالة هي الإمامة في الصلاة وقد
اتفقت كلمة الأصحاب والاخبار على اشتراط طهارة المولد فيها وانها لا تنعقد بابن
الزنا وان تدين بالإسلام وكان منه في أعلى مقام ، والشهادة وقد استفاضت الأخبار
بأنه لا تقبل شهادته ، والقضاء وقد اتفقت كلمة الأصحاب على انه لا يجوز له تولي
القضاء ، وحينئذ فأي ثمرة لهذه العدالة التي ادعاها في المقام؟ والاخبار الواردة
في هذه المواضع التي أشرنا إليها معلومة لمن وقف على الأخبار ومن لم يقف فليراجع ،
فلا ضرورة إلى التطويل بنقلها وكذا نقل كلام الأصحاب في هذه الأبواب.
ومما يؤيد
الحكم بكفره ما ورد في ديته وانها كدية اليهود والنصارى ثمانمائة درهم كما ورد في
رواية عبد الرحمن بن عبد الحميد ومرسلة جعفر بن بشير ورواية إبراهيم بن عبد الحميد
وفي رواية عبد
الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام)
__________________
قال : «سألته كم دية ولد الزنا؟ قال يعطى الذي أنفق عليه ما أنفق عليه». وقد
حكم بمضمون هذه الاخبار الصدوق والمرتضى وابن إدريس بناء على مذهبهم في المسألة ،
والمشهور بناء على الحكم بإسلامه ان ديته دية المسلم مع انه لا معارض لهذه الاخبار
في المقام.
ومنها ـ دعوى
دخول الجنة فإن الأخبار مستفيضة بردها ، ومنها ما رواه الصدوق في العلل بسنده عن
سعد بن عمر الجلاب قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان الله عزوجل خلق الجنة طاهرة مطهرة فلا يدخلها إلا من طابت ولادته ،
وقال أبو عبد الله (عليهالسلام) طوبى لمن كانت امه عفيفة». وروى في الكتاب المذكور بسنده فيه الى محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه رفع
الحديث الى الصادق (عليهالسلام) قال : «يقول ولد الزنا يا رب فما ذنبي؟ فما كان لي في
امري صنع ، قال فيناديه مناد فيقول أنت شر الثلاثة أذنب والداك فنبت عليهما وأنت
رجس ولن يدخل الجنة إلا طاهر». أقول : انظر الى صراحة هذا الخبر في ان منعه وطرده
عن الجنة انما هو من حيث كونه ابن زنا حيث انه احتج بان لا ذنب لي يوجب بعدي وطردي
من الجنة فلو كان كافرا لم يحتج بهذا الكلام ولو احتج به لأتاه الجواب بان طرده من
الجنة لكفره ، وما رواه في الكافي وغيره بسنده عن ابي خديجة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لو كان أحد من ولد الزنا نجا لنجا سائح بني
إسرائيل. فقيل له وما سائح بني إسرائيل؟ قال كان عابدا فقيل له ان ولد الزنا لا
يطيب ابدا ولا يقبل الله تعالى منه عملا ، قال فخرج يسبح في الجبال ويقول ما ذنبي؟».
وروى البرقي في المحاسن بسنده عن سدير الصيرفي قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) من طهرت ولادته دخل الجنة». وروى فيه ايضا بسنده عن
عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «خلق الله تعالى الجنة طاهرة مطهرة لا يدخلها إلا
من طابت ولادته». وهذه الاخبار كما ترى صريحة في ان منع ابن الزنا من الجنة انما
هو من حيث خبث الولادة لا من
__________________
حيث الكفر الذي زعموا حمل الاخبار عليه كما قدمنا الإشارة اليه ، وروى في
المحاسن ايضا بسنده عن أيوب بن الحر عن ابي بكر قال : «كنا عنده ومعنا عبد الله بن عجلان فقال عبد الله
بن عجلان معنا رجل يعرف ما نعرف ويقال انه ولد زنا؟ فقال ما تقول؟ فقلت ان ذلك
ليقال فقال ان كان ذلك كذلك بني له بيت في النار من صدر يرد عنه وهج جهنم ويؤتى
برزقه». قال بعض مشايخنا بعد نقل هذا الخبر : قوله من صدر اي يبنى له ذلك في صدر
جهنم وأعلاه ، والظاهر انه تصحيف الصبر بالتحريك وهو الجمد ، وروى في الكافي بسنده
عن ابن ابي يعفور قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ولد الزنا يستعمل ان عمل خيرا جزي به وان عمل شرا جزى
به». أقول هذا الخبر موافق للقول المشهور من ان ولد الزنا كسائر الناس يجزى بما
يعمل إلا انه مع إجماله لا يعارض الأخبار المتقدمة ، ومما يؤكد هذا ايضا ما رواه
الصدوق في عقاب الأعمال والبرقي في المحاسن بسنديهما عن ابي بصير ليث المرادي عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «ان نوحا حمل في السفينة الكلب والخنزير ولم يحمل
فيها ولد الزنا وان الناصب شر من ولد الزنا». وما رواه في ثواب الأعمال في الموثق
عن زرارة قال : «سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول لا خير في ولد الزنا ولا في بشره ولا في شعره ولا
في لحمه ولا في دمه ولا شيء منه يعني ولد الزنا». وبالجملة فالمفهوم من الاخبار
التي سردناها ان ابن الزنا له حالة ثالثة غير حالتي الايمان والكفر ، لان ما تقدم
من الاخبار الدالة على أحكامه في الدنيا من النجاسة وعدم العدالة مع الاتصاف
بشروطها وحكم ديته وكذا اخبار عدم دخوله الجنة وكذا الأخبار الأخيرة لا يجامع
الحكم بالايمان بوجه ، وأسباب الكفر الموجبة للحكم بكونه كافرا غير موجودة لأن
الفرض انه متدين بظاهر الايمان كما عرفت من ظاهر الاخبار المذكورة.
__________________
وكيف كان فالحق
عندي في المسألة ما افاده شيخنا غواص بحار الأنوار ومستخرج ما فيها من لئالئ
الاخبار ، حيث قال بعد نقل جملة من الاخبار الدالة على عدم دخوله الجنة ما صورته «أقول
يمكن الجمع بين الاخبار على وجه يوافق قانون العدل بان يقال لا يدخل ولد الزنا
الجنة لكن لا يعاقب في النار إلا بعد ان يظهر منه ما يستحقه ومع فعل الطاعة وعدم
ارتكاب ما يحبطه يثاب في النار على ذلك ولا يلزم على الله تعالى ان يثيب الخلق في
الجنة ، ويدل عليه خبر عبد الله بن عجلان ولا ينافيه خبر عبد الله بن ابي يعفور إذ
ليس فيه تصريح بان جزاءه يكون في الجنة ، واما العمومات الدالة على ان من يؤمن
بالله ويعمل صالحا يدخله الله الجنة فيمكن ان تكون مخصصة بتلك الاخبار» انتهى
كلامه زيد مقامه.
والذي يقرب
عندي ان مقتضى هذه الاخبار الكثيرة المستفيضة التي تلوناها في أحكامه دنيا وأخره
سيما الأخبار الأخيرة الدالة على انه شر من الكلب والخنزير وانه لا خير في شعره
ولا بشره. إلخ. انه في الغالب والأكثر لا يطيب ولا يكون مؤمنا وان كان مؤمنا
فايمانه يكون مستعارا وان ثبت على ايمانه وكان مستقرا يكون ثوابه في النار على
الوجه الذي ذكره شيخنا المشار اليه. وبما حققناه في المقام وكشفنا عنه نقاب
الإبهام يظهر لك ما في كلام علمائنا الاعلام في المسألة لعدم وقوفهم على ما ورد من
اخبارهم (عليهمالسلام) والله الهادي لمن يشاء.
(المسألة
الثالثة) ـ قال في المعالم : «ظاهر كلام جماعة من الأصحاب ان ولد الكافرين يتبعهما
في النجاسة الذاتية بغير خلاف لأنهم ذكروا الحكم جازمين به غير متعرضين لبيان
دليله كما هو الشأن في المسائل التي لا مجال للاحتمال فيها ، وممن ذكر الحكم كذلك
العلامة في التذكرة ولكنه في النهاية أشار الى نوع خلاف أو احتمال فيه فقال :
الأقرب في أولاد الكفار التبعية لهم. وأنت إذا أحطت خبرا بما قررناه في نجاسة
الكافر وجدت للتوقف في الحكم بالنجاسة هنا على الإطلاق مجالا ان لم يثبت انعقاد
الإجماع عليه. وربما استدل له بأنه حيوان متفرع من حيوانين نجسين فيثبت له
حكمهما كالكلب والخنزير. ويشكل بان الظاهر كون المقتضي لثبوت الحكم في
المتولد من الحيوانين النجسين هو صدق اسم الحيوان النجس عليه لا مجرد التولد ،
وبهذا صرح العلامة في أثناء كلام له في المنتهى فقال ان ولد الكلب ليس نجسا
باعتبار تولده من النجس بل باعتبار صدق اسم الكلب عليه. وقد عرفت استشكاله في جملة
من كتبه للحكم بنجاسة المتولد من الكلب والخنزير إذا كان مباينا لهما ، وحينئذ
يكون الحكم في ولد الكافر موقوفا على صدق عنوان الكفر عليه» انتهى.
أقول : يمكن
الاستدلال للقول المشهور من تبعية ولد الكافر لأبويه في الكفر بما رواه الصدوق في
الفقيه في الصحيح عن جعفر بن بشير ـ وطريقه إليه في المشيخة صحيح ـ عن عبد الله بن
سنان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن أولاد المشركين يموتون قبل ان يبلغوا الحنث؟ قال
كفار والله اعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم». وروى فيه عن وهب بن وهب
عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) قال : «قال علي (عليهالسلام) أولاد المشركين مع آبائهم في النار وأولاد المسلمين مع
آبائهم في الجنة».
ولا ينافي ذلك
ما ورد من الاخبار الدالة على انه تؤجج لهم نار ويؤمرون بدخولها فمن دخلها كانت
عليه بردا وسلاما وكان من أهل الجنة ومن امتنع كان في النار كما رواه في الكافي في
الصحيح أو الحسن عن هشام عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ثلاثة يحتج عليهم : الأبكم والطفل ومن مات في
الفترة ، فترفع لهم نار فيقال لهم ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن
ابى قال الله تعالى هذا قد أمرتكم فعصيتموني». وروى فيه ايضا عن سهل عن غير واحد رفعوه
«انه سئل عن
الأطفال
__________________
فقال إذا كان يوم القيامة جمعهم الله تعالى وأجج لهم نارا وأمرهم أن يطرحوا
أنفسهم فيها فمن كان في علم الله تعالى انه سعيد رمى بنفسه فيها وكانت عليه بردا
وسلاما ومن كان في علمه سبحانه انه شقي امتنع فيأمر الله تعالى بهم الى النار
فيقولون يا ربنا تأمر بنا الى النار ولم تجر علينا القلم؟ فيقول الجبار قد أمرتكم
مشافهة فلم تطيعوني فكيف لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم؟». ثم قال في الكافي وفي حديث
آخر «اما أطفال المؤمنين فإنهم يلحقون بآبائهم وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم ،
وهو قول الله تعالى بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم».
لأنا نقول لا
ريب ان مقتضى الخبرين المتقدمين وكذا الخبر المرسل من الكافي أخيرا الدلالة على
اللحوق بالآباء من كل من أولاد المؤمنين والمشركين ، والجمع بينهما وبين ما ذكر من
اخبار تأجيج النار ممكن بأحد وجهين ، اما بحمل أخبار تأجيج النار على ان الذين
يدخلون النار ويطيعون هم أولاد المؤمنين والذين يمتنعون هم أولاد الكفار والمشركين
وحينئذ فيلحق كل من الفريقين بالآباء في الجنة أو النار بعد الامتحان المذكور ،
واما بحمل أخبار تأجيج النار على غير أطفال المؤمنين والكفار بناء على ما ثبت
بالأخبار الصحيحة من تقسيم الناس الى مؤمن ومسلم وكافر فأهل الوعدين وهم المؤمنون
والكفار لا يقفون في الحساب ولا تنشر لهم الدواوين ولا تنصب لهم الموازين وانما
يساقون بعد البعث إلى الجنة ان كانوا مؤمنين والنار ان كانوا كافرين ، وهذان
الفريقان يلحق بهم أولادهم في الجنة والنار كما صرحت به تلك الاخبار ، واما
المسلمون وهم أهل المحشر الذين يقفون في الحساب وتنشر لهم الدواوين وتنصب لهم
الموازين فهؤلاء الذين تأجج لأولادهم النار ، ومما يشير الى هذا الوجه تصريح اخبار
الإلحاق بالمؤمنين والكافرين وإجمال اخبار التأجيج بالأطفال بقول مطلق فيحمل على
هذا الفرد الذي ذكرنا ، ومما يؤكده قول صاحب الكافي بعد نقل خبر التأجيج المتضمن
للأطفال بقول مطلق : وفي حديث آخر «اما أطفال المؤمنين وأولاد المشركين» فان فيه
إيماء الى ان
خبر التأجيج انما هو لغير أطفال المؤمنين والمشركين وهم أطفال المسلمين
الذين هم أصحاب الحساب.
واما جمع صاحب
الوافي بين الأخبار ـ بحمل اخبار اللحوق على البرزخ واخبار التأجيج على يوم
القيامة ـ فالظاهر بعده فان ظاهر الاخبار المذكورة ان ما ذكر في كل من اخبار
الطرفين انما هو يوم القيامة ولا سيما ان صحيحة عبد الله بن سنان قد صرحت بالكفر ،
ثم انه مع تسليم الجمع بما ذكره فإنه لا ينافي اعتضادنا بالأخبار المذكورة لأن
حاصله هو الحكم بالكفر على أولاد المشركين والايمان على أولاد المؤمنين إلى يوم
القيامة حتى انهم في البرزخ يلحقون بهم في الجنة والنار ممتدا ذلك الى يوم القيامة
فيقع التكليف لهم والامتحان بالنار ، وبذلك يتميز أصحاب الجنة الأخروية الموجبة
للخلود والنار كذلك ، وحينئذ فالاستدلال بهذه الأخبار على ما ادعيناه حاصل على
جميع الاحتمالات ، على انه لا خلاف بينهم في الحكم بإيمان أولاد المؤمنين وإجراء
أحكامه عليهم من الطهارة ونحوها وجواز الإعطاء من الزكاة التي لا يجوز دفعها إلا
الى المؤمن ، وبذلك صرحت الاخبار من غير خلاف لا في الأخبار ولا في كلام الأصحاب ،
ولا وجه للحكم هنا بالايمان إلا مجرد الإلحاق لأن ترتب ذلك على العقائد غير ظاهر
حيث لا تكليف قبل البلوغ فكذلك أولاد المشركين والكفار فإنه يحكم بكفرهم إلحاقا
لهم بالآباء بعين ما ثبت في أولاد المؤمنين وتخرج الأخبار المذكورة شاهدة على ذلك.
وإذ قد ثبت بما
ذكرنا من الأخبار صدق عنوان الكفر على أولاد الكفار كصدق عنوان الايمان على أولاد
المؤمنين ظهر لك ما في قول صاحب المعالم في آخر كلامه المتقدم من قوله : «وحينئذ
يكون الحكم في ولد الكافر موقوفا على صدق عنوان الكفر عليه» فإنه قد ثبت ذلك من
هذه الأخبار بما لا يداخله الشك ولا يتطرق اليه.
ثم قال في
المعالم على اثر الكلام المتقدم ذكره من غير فاصل : إذا عرفت هذا فاعلم ان بعض
الأصحاب استثنى من الحكم بنجاسة ولد الكافر هنا ما إذا سباه المسلم
واستشكل ذلك في بحث الجهاد بعدم الدليل عليه واقتضاء الاستصحاب بقاءه على
النجاسة الى ان يثبت المزيل ، ثم ذكر ان ظاهر الأصحاب عدم الخلاف بينهم في طهارته
والحال هذه وانما اختلفوا في تبعيته للمسلم في الإسلام بمعنى ثبوت أحكام المسلم له
وهذا أمر آخر زائد على الحكم بالطهارة كما لا يخفى ، وصرح الشهيد في الذكرى ببناء
الحكم بطهارته أو نجاسته على الخلاف في تبعيته للمسلم وعدمها حيث قال : ولد الكافر
نجس ولو سباه مسلم وقلنا بالتبعية طهر وإلا فلا. والتحقيق ان احتمال بقاء النجاسة
بعد سبي المسلم له ضعيف لما قد ظهر من انحصار المقتضى للتنجيس قبله في الإجماع ان
ثبت ولا ريب في انتفائه بالنظر الى ما بعده ، والتمسك باستصحاب النجاسة مردود بمنع
العمل بالاستصحاب في مثله كما بيناه في محله من مقدمة الكتاب ، وبه يظهر جودة
احتجاج العلامة وجماعة للحكم بطهارته حينئذ بأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين
النجاسة ، وضعف مناقشة بعض الأصحاب فيه بان الأمر بالعكس لأن النجاسة تحققت بمجرد
الولادة فيجب استصحابها وهو أصل سالم عن معارضة يقين الطهارة ، وتوضيح وجه الجودة
والضعف انه لا ريب في ان الأصل في الأشياء كلها الطهارة الى ان يقوم على خلافها
دليل وحيث ان الدليل المخرج عن حكم الأصل في موضع النزاع مخصوص بالحالة السابقة
على السبي فالقدر المتحقق من المخالفة لأصالة الطهارة هو ذاك وما عداه باق على حكم
الأصل لعدم قبول الاستصحاب إذا كان دليل الحكم المستصحب مقيدا بحال كما مر. انتهى.
أقول : ما ذكره
واختاره وقبله صاحب المدارك ـ من القول بالطهارة بعد السبي بناء على عدم عموم دليل
الكفر وشموله لما بعد السبي ـ جيد بناء على ما ذكروه من عدم الدليل على الكفر إلا
الإجماع وهو غير شامل لموضع النزاع ، واما على ما ذكرناه من الأخبار الواضحة
المنار فإنه لا يصح هذا الكلام ولا ما ابتنى عليه في المقام فان ظاهر الأخبار كما
ترى تبعية الولد لأبويه في الكفر الى يوم القيامة فيخلد معه في النار أو يمتحن
بتأجيج نار له ، وبه يضمحل هذا البحث الذي أكثروا فيه من القيل والقال والجواب
والسؤال ويزول الاشكال من هذا المجال ، ويبطل ما ذكروه من التبعية للمسلم
السابي له في الإسلام أو الطهارة خاصة لعدم الدليل الشرعي ، ودليل النجاسة الذي
ذكرناه واضح الدلالة طافح المقالة على عموم النجاسة وبقائها سبي أم لا الى يوم
القيامة فضلا عن أيام الدنيا ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) معذورون لعدم حضور هذه
الأخبار لهم بالبال بل ولا مرت لهم في الخيال ، والله الهادي لمن يشاء والعالم بحقيقة
الحال.
(المسألة
الرابعة) ـ نقل المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط انه حكم بنجاسة المجبرة
والمجسمة من فرق المسلمين ولم يرتضه بل ذهب الى الطهارة محتجا بأن النجاسة حكم
مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة ، وادعى دلالة ظواهر بعض الاخبار على الطهارة.
ووافق الشيخ في
المجسمة جماعة من الأصحاب : منهم ـ المحقق الشيخ علي والشهيد الثاني في شرح
الرسالة ، واختلف كلام العلامة في ذلك ، فقال في المنتهى بعد ان ذكر ان حكم الناصب
والغالي حكم الكافر لانكارهما ما علم ثبوته من الدين ضرورة : وهل المجسمة والمشبهة
كذلك؟ الأقرب المساواة لاعتقادهم انه تعالى جسم وقد ثبت ان كل جسم محدث. وصرح بهذا
القول في التحرير والقواعد ايضا ، واستقرب في التذكرة والنهاية القول بالطهارة.
ومثل ذلك وقع للشهيد فإنه في الذكرى استضعف كلام الشيخ وفي البيان عد المجسمة
بالحقيقة والمشبهة كذلك في أقسام الكافر المنتحل للإسلام وهو جاحد لبعض ضرورياته
بعد ان حكم بنجاسة الكافر بجميع أنواعه ، وفي الدروس أطلق نجاسة المجسم ولم يقيده
بالحقيقي وبذلك جزم. وقال الشهيد الثاني في الروض بعد ان عد المجسمة : وهم قسمان
مجسمة بالحقيقة وهم الذين يقولون ان الله تعالى جسم كالأجسام ولا ريب في كفر هذا
القسم وان تردد فيه بعض الأصحاب ، ومجسمة بالتسمية المجردة وهم القائلون بأنه جسم
لا كالأجسام ، وفي نجاسة هذا القسم تردد وكأن الدليل الدال على نجاسة الأول دال
على الثاني فإن مطلق الجسمية توجب الحدوث وان غاير بعضها بعضا. انتهى. وجزم في شرح
الرسالة بالعموم فقال : ومن ضروب الكفار المجسمة
ولو بالتسمية. وما ذكره في الروض من الدليل الدال على النجاسة في المجسم
الحقيقي جار في المجسم بالمعنى الثاني فإن مطلق الجسمية توجب الحدوث ، واعترضه
ابنه في المعالم فقال : وعندي في الدليل نظر لان ظاهره كون المقتضي للنجاسة هو
القول بالحدوث لا مجرد التجسيم ومن البين ان المجسم ينفي الحدوث قطعا فكأنه يتخيل
برأيه الفاسد عدم المنافاة بين الجسمية والقدم. انتهى. وحينئذ فلا يلزم من القول
بالجسمية الحدوث.
واما المجبرة
فإنه قد نقل غير واحد عن الشيخ القول بنجاستهم واعترضوه بالضعف ولم ينقلوا له
دليلا على ذلك ، وقال في المنتهى في باب الأسآر : يمكن ان يكون مأخذ الشيخ في حكمه
بنجاسة سؤر المجبرة والمجسمة قوله تعالى : «... كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ
عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)» والرجس النجس ، ثم قال : وتنجيس سؤر المجبرة ضعيف وفي
المجسمة قوة. ورد هذا الاستدلال للشيخ بالآية جملة ممن تأخر عنه بالضعف ، قال في
المعالم : ولعل نظر الشيخ الى ما ذكره بعض المفسرين من دلالة قوله تعالى : «سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ
كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الآية» على كفر المجبرة. أقول : الظاهر انه أشار ببعض المفسرين
الى صاحب الكشاف حيث انه من المعتزلة واستدل بهذه الآية على كفر المجبرة من
الأشاعرة فلعل الشيخ هنا استند الى هذه الآية ، وتوجيه الاستدلال بها على ما ذكره
في الكشاف أنها إخبار عما سوف يقوله المشركون ثم لما قالوه قال سبحانه «وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» يعنون بكفرهم وتمردهم ان شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما
أحل الله بمشيئة الله وإرادته ولو لا مشيئة الله لم يكن شيء من ذلك كمذهب المجبرة
بعينه ، قال ومعنى قوله سبحانه : «كَذلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» جاءوا بالتكذيب المطلق لان الله تعالى ركب في العقول
وانزل في الكتب ما دل على
__________________
غناه وبراءته من مشيئة القبائح وارادتها والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود
القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب
الله عزوجل وكتبه ورسله ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره.
قال في الذخيرة
بعد الكلام في المقام ونقل الخلاف وذكر نحو مما ذكرناه : وإذ قد عرفت ان العمدة في
إثبات نجاسة الكفار على أصنافها هو الإجماع وهو غير جار في محل النزاع كان القول
بالنجاسة هنا عاريا عن الدليل ، ولا يبعد القول بالطهارة تمسكا بظاهر ما رواه ابن
بابويه في كتابه حيث قال : «سئل علي (عليهالسلام) أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ
من ركو أبيض مخمر؟ فقال لا بل من فضل جماعة المسلمين فإن أحب دينكم الى الله
الحنيفية السمحة السهلة». إذ هذه الرواية معتضدة بالأصل سالمة عن المعارض والظاهر
ان المسلم شامل لمن أظهر الشهادتين إلا من خرج بالدليل ، إذ يلزم منه طهارة سؤرهم
ثم يلزم عموم الحكم إذ الظاهر عدم القائل بالفصل. انتهى. أقول : الظاهر ان هذه
الرواية هي التي أشار إليها المحقق فيما قدمنا نقله عنه صدر المسألة من انه ادعى
دلالة ظواهر بعض الأخبار على الطهارة وقد تقدمت أيضا في كلامه الذي قدمناه في
المسألة الاولى. ثم أقول : لا يخفى ان ما طول به الأصحاب المقال في هذا المجال
وتعسفوه من الاستدلال وكثرة الأقوال مع ما فيه من الاشكال بل الاختلال كله انما
نشأ من القول بإسلام المخالفين وإلا فإنه على القول بكفرهم ونصبهم ونجاستهم كما
أوضحناه فيما تقدم لا ثمرة لهذا البحث والاختلاف ولا خصوصية لهذه الفرق في البحث
دون غيرهم من ذوي الخلاف ، وما ذكره صاحب الذخيرة جريا على مذهبه وتصلبه ومبالغته
في القول بإسلام المخالفين فهو أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت ، وقد تقدم
تحقيق البحث في المسألة الأولى مستوفى بحمد الله تعالى وتقدم الكلام في خبره
المذكور في الكلام على كلام المحقق الذي هو الأصل في هذا القول المنكور. والله هو
العالم.
__________________
(الفصل الثامن
والتاسع) ـ الكلب والخنزير ولا خلاف في نجاستهما عينا ، قال الشيخ في الخلاف ان
الكلب نجس العين نجس اللعاب نجس السؤر بإجماع الفرقة وان الخنزير نجس بلا خلاف.
وقال المحقق في المعتبر إذا لاقى الكلب والخنزير ثوبا أو جسدا وهو رطب غسل موضع
الملاقاة وجوبا وهو مذهب علمائنا اجمع. وقال العلامة في المنتهى والتذكرة الكلب
والخنزير نجسان عينا عند علمائنا. الى غير ذلك من كلامهم الذي على هذا المنوال ،
وقد وافقنا على ذلك أيضا أكثر العامة .
والأصل فيه
الأخبار المستفيضة ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل؟ قال يغسل المكان
الذي اصابه». وصحيحة الفضل ابي العباس قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله وان مسه جافا
فاصبب عليه الماء». وصحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر
وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته
فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه اثر فيغسله. قال وسألته عن خنزير شرب من
إناء كيف يصنع به؟ قال يغسل سبع مرات». قوله في الخبر : «ان كان دخل في صلاته
فليمض. الى قوله فلينضح» المراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة قوله «إلا
ان يكون
__________________
فيه اثر فيغسله» وسيجيء تحقيق الكلام فيه ان شاء الله تعالى قريبا في مسألة
الصلاة في النجاسة ، وفي الصحيح عن حريز عن من أخبره عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا مس ثوبك كلب فان كان يابسا فانضحه وان كان
رطبا فاغسله». وعن الحسين ابن سعيد عن القاسم عن علي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الكلب يصيب الثوب؟ قال انضحه وان كان
رطبا فاغسله». وعن صفوان بن يحيى عن معاوية بن شريح قال : «سأل عذافر أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده عن سؤر السنور الى ان قال قلت له الكلب؟ قال
لا. قلت أليس هو سبع؟ قال لا والله انه نجس لا والله انه نجس». وصحيحة أبي الفضل
البقباق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن فضل الهرة والشاة ، الى ان قال حتى انتهيت الى
الكلب؟ فقال رجس نجس. الحديث». وفي الصحيح عن حريز عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال اغسل الإناء».
وقد ورد من
الاخبار هنا ما ظاهره المنافاة في الحكم المذكور ، ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح
عن الحسين بن سعيد عن ابن سنان عن ابن مسكان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الوضوء بماء ولغ الكلب فيه والسنور أو
شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال نعم إلا ان تجد غيره
فتنزه عنه». وحمله الشيخ على ما إذا كان الماء بالغا مقدار الكر واستشهد له برواية
أبي بصير عن الصادق (عليهالسلام) وفيها «ولا تشرب من سؤر الكلب إلا ان يكون حوضا كبيرا
يستقى منه».
أقول : ما ذكره
الشيخ جيد فان ظاهر الخبر ان هذا الماء من
__________________
مياه الطرق المشاعة وقد أوضحنا في بحث الماء القليل انها لا تنقص عن كر
فضلا عن كرور وما قدر الكر فإنه لا يأتي على شرب جمل كما ذكر في الخبر ، ومنها ـ ما
رواه في الصحيح عن ابن ابى عمير عن ابي زياد النهدي عن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به؟ قال لا بأس». وحمله
الشيخ ايضا على قصد استعمال الماء في سقي الدواب أو شبهه لا في نحو الوضوء والشرب
وهو جيد ، وعلى هذا فيكون نفي البأس متوجها الى الماء الذي يستقى به وانه لا ب. س
باستعماله ويحمل على ما ذكره الشيخ. ويحتمل عندي ـ والظاهر انه الأقرب ـ ان نفي
البأس انما هو بالنسبة إلى البئر وانها لا تنجس بذلك فيكون هذا الخبر من الأخبار
الدالة على طهارة البئر وعدم انفعالها بالملاقاة بوقوع جلد الخنزير فيها ، ويؤيد
هذا المعنى موثقة الحسين بن زياد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به من البئر
التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ قال لا بأس». فإنها ظاهرة في نفي البأس عن ماء
البئر لأن السؤال انما تعلق بذلك ويصير معنى الرواية لا بأس به اي بماء البئر
والشرب والوضوء منه وانها لا تنجس بذلك ، ولا بأس بالاستفاء بجلد الخنزير على ماء
البئر ، وحينئذ فلا دلالة فيه على طهارة الجلد ان لم يكن أظهر في الدلالة على
النجاسة لأن السؤال عن ماء البئر وبقائه على الطهارة إنما يتجه مع النجاسة لا مع
الطهارة.
__________________
فروع
(الأول) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ بل لا نعلم فيه خلافا سوى ما ذهب اليه المرتضى
في المسائل الناصرية ـ نجاسة الكلب والخنزير بجميع اجزائهما ما تحله الحياة منها
وما لا تحله ، وفرق المرتضى في الكتاب المذكور بينهما فحكم بطهارة ما لا تحله
الحياة ، قال في الكتاب المشار اليه ـ بعد قول جده الناصر : شعر الميتة طاهر وكذا
شعر الكلب والخنزير ـ ما صورته : هذا صحيح وهو مذهب أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة
وأصحابه وقال الشافعي ان ذلك كله نجس دليلنا على صحة ما ذهبنا اليه بعد الإجماع المتكرر ذكره
قوله تعالى : «وَمِنْ
أَصْوافِها ...» الى ان قال : وأيضا فإن الشعر لا حياة فيه ألا ترى ان
الحيوان لا يألم بأخذه منه ، الى ان قال : وإذا ثبت ان الشعر والصوف والقرن لا
حياة فيه لم يحله الموت ، وليس لهم ان يتعلقوا بقوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ» فإن اسم الميتة يتناول الجملة بسائر اجزائها وذلك ان الميتة اسم لما يحله
الموت والشعر لا يحله الموت كما لا تحله الحياة ويخرج عن الظاهر ، وليس لأحد ان
يقول ان الشعر والصوف من جملة الخنزير والكلب وهما نجسان ، وذلك انه لا يكون من
جملة الحي إلا ما تحله الحياة وما لا تحله الحياة ليس من جملته وان كان متصلا به.
انتهى ملخصا.
وظاهره ـ كما
ترى ـ دعوى الإجماع على هذه الدعوى مع انه لم يقل بها أحد
__________________
من الإمامية سواه. واما ما تمسك به من الدليل فهو أوهن من بيت العنكبوت
وانه لا وهن البيوت. وذلك فان ما ذكره مخالف لما هو المعلوم لغة وعرفا وشرعا من
صدق الاسم على جميع ما تركب منه ذلك الحيوان وكان من جملته ، اما العرف واللغة
فظاهر واما الشرع فلما ذكروه فيه في باب الديات من الدية في الجناية على الشعر
كالجناية على سائر أجزاء البدن من رأسه وعنقه وسائر أعضائه فلو لم يكن الشعر جزء
منه وداخلا في جملته لما ترتب على الجناية عليه دية ، على ان الأخبار التي قدمناها
في تعدي النجاسة مع الرطوبة شاملة بعمومها لما كان الملاقاة لما تحله الحياة ولما
لا تحله الحياة بل الغالب في الملاقاة أن الإصابة انما تحصل بالشعر كما هو ظاهر.
ونقل في
المدارك ان المرتضى استدل هنا بدليل آخر زيادة على ما ذكره وهو ان ما لا تحله
الحياة من نجس العين كالمأخوذ من الميتة ، ثم أجاب عنه بأنه قياس مع الفارق فإن
المقتضي للتنجيس في الميتة صفة الموت وهي غير حاصلة فيما لا تحله الحياة بخلاف نجس
العين فان نجاسته ذاتية.
وأنت خبير بان
كلام المرتضى (رضياللهعنه) في هذا المقام انما يدور على الدليل الأول وهو ان ما
لا تحله الحياة ليس من جملته وان كان متصلا به حيا أو ميتا ، واما كلامه المتقدم
فإنما هو في شعر الميتة كما هو أحد المسألتين المذكورتين في كلام جده الناصر ،
والظاهر ان هذا الدليل متكلف له كما ينبئ عنه ظاهر كلامهم حيث انهم لم يرجعوا الى
الكتاب المذكور فعبروا عنه بأنه نقل عنه القول بكذا ونقل عنه الاستدلال بكذا.
قال في المعالم
: واما السيد فيعزى اليه القول بطهارة ما لا تحله الحياة ، الى ان قال وحجة
المرتضى على ما ذكره جماعة وذكر مثل ما ذكر في المدارك من الدليلين المتقدمين ورد
الأول بأن المرجع في صدق الاسم إلى اللغة والعرف وهما متفقان على عدم اعتبار
التفرقة المذكورة ، والتشبيه بعظم الميتة وشعرها لا وجه له كما لا يخفى. انتهى.
أقول : لا يخفى
ما في تخصيص الرجوع في صدق الاسم باللغة والعرف دون الشرع مع دلالة ما قلناه عليه
من الغفلة فإنه لولا صدق الاسم عليه ودخوله في مسمى الإنسان لما كان في إيجاب
الدية في الجناية على الشعر معنى مع انه لا خلاف بينهم فيه وورود الأخبار به.
ويؤيده ما رواه في الكافي عن السياري في حكاية ابن ابي ليلى مع محمد بن مسلم في
جارية ليس على عانتها شعر حيث «سئل ابن ابي ليلى عنها فلم يكن عنده فيها شيء
فسأل عنها محمد بن مسلم فقال اي شيء تروون عن ابي جعفر (عليهالسلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيبا؟ فقال
له محمد بن مسلم اما هذا نصا فلا أعرفه ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه عن
النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو
عيب. فقال له ابن ابي ليلى حسبك ثم رجع الى القوم فقضى لهم بالعيب». والتقريب
ظاهر.
وبالجملة فما
ذهب اليه المرتضى ضعيف لا يعول عليه وما احتج به لا يلتفت اليه ، نعم روى الشيخ في
الصحيح عن زرارة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به
الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال لا بأس». وفي الموثق عن الحسين بن
زرارة عنه (عليهالسلام) قال : «قلت فشعر الخنزير يعمل حبلا يستقى به من البئر التي يشرب منها
ويتوضأ منها؟ قال لا بأس به». وكان الاولى بالمرتضى التمسك بهذين الخبرين الموهمين
لطهارة شعر الخنزير ثم يتمسك بعدم القائل بالفرق بين الكلب والخنزير بناء على
قواعدهم ، ووجه الإيهام فيهما من حيث إطلاق نفى البأس عن استعمال الحبل في
الاستقاء مع بعد الانفكاك عن الملاقاة بالرطوبة لليد أو الماء فإنه لذلك يكون
مشعرا بطهارة شعر الخنزير.
والتحقيق عندي
في ذلك ان نفى البأس إنما توجه هنا الى ماء البئر وعدم نجاستها
__________________
بالحبل مع وقوعه فيها كما هو الغالب بقرينة ذكر الوضوء منها في الخبر الأول
واضافة الشرب في الخبر الثاني فهما من أدلة القول بعدم نجاستها بالملاقاة كما هو
الأظهر في المسألة. بقي الكلام في ملاقاة اليد بالرطوبة للحبل مثلا أو الثياب أو
نحو ذلك والخبران مطلقان في ذلك وحكم ذلك معلوم من غير هذين الخبرين مما دل على
نجاسة شعر الخنزير كما سنتلوه عليك ان شاء الله تعالى.
وبالجملة فمحل
الإشكال في الخبرين انما هو من حيث ذكر نفى البأس فيهما وتوهم توجهه الى جواز
ملاقاة الحبل بالرطوبة ونحو ذلك وعلى ما ذكرناه من توجه نفي البأس إلى ماء البئر
يزول الاشكال ويبطل الاستناد إليهما في ذلك الاستدلال ، نعم يحصل الاشكال فيهما
عند من يقول بنجاسة البئر بالملاقاة ، فالشيخ بناء على ذلك أجاب عن الخبر الأول
بعدم وصول الحبل الى الماء ، والعلامة في المنتهى تأول الخبر الثاني بعد حمله نفى
البأس على ملاقاة الحبل بالحمل على ملاقاة الحبل باليبوسة وان كان خلاف الغالب
فيحمل على النادر جمعا بين الأدلة. ولا يخفى ما في الكلامين من البعد وما ذكرناه
هو الأقرب كما لا يخفى على المتأمل.
ومن الاخبار
الدالة على ما أشرنا إليه من نجاسة شعر الخنزير ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين
بن سعيد عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن سليمان الإسكاف قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن شعر الخنزير يخرز به؟ قال لا بأس به ولكن يغسل يده
إذا أراد ان يصلي». وفي الصحيح عن الحسين بن سعيد عن أيوب بن نوح عن عبد الله بن
المغيرة عن برد الإسكاف قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) جعلت فداك انا نعمل بشعر الخنزير فربما نسي الرجل فصلى
وفي يده شيء منه؟ فقال لا ينبغي له ان يصلي وفي يده شيء منه ، وقال خذوه فاغسلوه
فما كان له دسم فلا تعملوا به وما لم
__________________
يكن له دسم فاعملوا به واغسلوا أيديكم منه». وما رواه عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قلت له ان رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر
الخنزير؟ قال إذا فرغ فليغسل يده». ورواية برد الإسكاف قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن شعر الخنزير يعمل به؟ قال خذ منه فأغله بالماء حتى
يذهب ثلث الماء ويبقى ثلثاه ثم اجعله في فخارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل
به وان لم يجحد ليس عليه دسم فاعمل به واغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة. قلت ووضوء
قال لا اغسل اليد كما تمس الكلب». وحينئذ فيجب تقييد إطلاق الروايتين المتقدمتين
بناء على التقريب الذي حققناه في معناهما بهذه الاخبار. والله العالم.
(الثاني) ـ قال
الشهيد الثاني في الروض بعد ذكر نجاسة الكلب والخنزير واجزائهما وان لم تحلها
الحياة حتى المتولد بينهما وان باينهما في الاسم : اما المتولد من أحدهما وحيوان
طاهر فإنه يتبع في الحكم الاسم سواء كان لأحدهما أم لغيرهما وان لم يصدق عليه اسم
أحدهما ولا غيرهما مما هو معلوم الحكم فالأقوى فيه الطهارة والتحريم. انتهى.
أقول : اما ما
ذكره من نجاسة المتولد منهما فقد صرح في الذكرى بنحوه فقال : المتولد من الكلب
والخنزير نجس في الأقوى لنجاسة أصلية. وظاهره التبعية لهما في النجاسة وان باينهما
في الاسم لانه مقتضى التعليل المذكور. واستشكل العلامة في الحكم في صورة المباينة
في المنتهى والنهاية ، قال في النهاية المتولد منهما ـ يعني الكلب والخنزير ـ نجس
لانه بعضهما وان لم يقع عليه اسم أحدهما على اشكال منشأه الأصالة السالمة عن
معارضة النص ، وتوقف في التذكرة أيضا فقال الحيوان المتولد منهما يحتمل نجاسته
مطلقا واعتبار اسم أحدهما. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه ولا يخفى قوة وجه
الاشكال فالتوقف في محله غير ان الخطب في مثله سهل إذ البحث فيه لمجرد الفرض.
انتهى. وجزم في المدارك بالطهارة مع المباينة عملا بأصالة الطهارة ، قال بعد ان
نقل عن الشهيدين تعليل
__________________
النجاسة ولو مع المباينة بنجاسة اصليه ما صورته : وهو مشكل إذ النجاسة
معلقة على الاسم فمتى انتفى تعين الرجوع الى ما يقتضيه الأصل من طهارة الأشياء ،
والأصح عدم نجاسته إذ لا يصدق عليه اسم نجس العين. انتهى. وهو جيد لو ثبت الأصل
الذي استند اليه إلا ان فيه ما عرفت في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات الكتاب ،
والحكم ـ لعدم النص الذي هو المعتمد عندنا في الأحكام الشرعية ـ محل اشكال وتوقف ،
نعم لو كان المفروض في صورة المباينة كونه مما يصدق عليه اسم أحد الحيوانات
الطاهرة فالظاهر انه لا إشكال في الحكم بالطهارة من حيث تبعيتها للاسم إنما
الإشكال فيما لو لم يكن كذلك.
واما ما ذكره
من المتولد بين أحدهما وطاهر وانه يتبع الاسم فذكر في المعالم انه قاله كثير من
الأصحاب ولم ينقلوا فيه خلافا وقال ربما لاح من عبارتي المنتهى والنهاية وجود
الخلاف حيث قال في أحدهما : الأقرب فيه عندي اعتبار الاسم وفي الأخر الوجه عندي
اعتبار الاسم. أقول : الظاهر انه لا إشكال في الحكم بتبعية الاسم كما هو المذكور
لما علم من الشرع من ترتب الأحكام على ما يصدق عليه الاسم ، إنما الإشكال فيما لو
لم يصدق عليه اسم بالكلية وقد حكم فيه بالطهارة والتحريم ، وقال في الروضة في
الصورة المذكورة : فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته وان حرم لحمه للأصل فيهما.
انتهى أقول : اما الأصل في الأول فظاهر وهو أصالة الطهارة عندهم في جميع الأشياء
حتى يقوم دليل النجاسة ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا. واما الأصل في الثاني فلا اعرف
له وجها إلا ان بعض المحشين على الروضة ذكر ان مراده بأصالة التحريم هو ما علله في
تمهيد القواعد بان المحرم غير منحصر لكثرته على وجه لا ينضبط. وفيه ما لا يخفى فان
بناء الأحكام الشرعية على مثل هذا الأصل الغير الأصيل مجازفة محضة. والله العالم.
(الثالث) ـ المشهور
بين الأصحاب طهارة كلب الماء ، وعن ابن إدريس المخالفة في ذلك والقول بنجاسته لصدق
الاسم ، وهو ضعيف لما تقرر في غير مقام وبه
صرح جملة من علمائنا الاعلام من ان الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة
المتكثرة دون الأفراد النادرة ، ولا ريب ولا اشكال بل من المتيقن الذي لا يداخله
الاحتمال ان الأخبار المتقدمة كلها انما خرجت في الكلب والخنزير البريين دون
البحريين فاحتمال ارادة هذين الفردين من الاخبار المذكورة مما يقطع بعدمه ، هذا مع
تسليم كونه حقيقة في النوعين وإلا فإن قلنا انه حقيقة في البري لا غير فإطلاقه على
الآخر مجاز كما هو صريح عبارة العلامة في النهاية والتحرير حيث قال : ان لفظ الكلب
حقيقة في المعهود مجاز في غيره. وهو ظاهره في التذكرة أيضا حيث قال بعد ان نقل عن
ابن إدريس المخالفة في الحكم المذكور : ولا يجوز حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز
بغير قرينة ووجه الدفع حينئذ ما ذكره في التذكرة من منع كونه حقيقة في النوعين
وارادة الحقيقة والمجاز تتوقف على القرينة ، وربما ظهر من كلام المنتهى انه مشترك
بين النوعين بالاشتراك اللفظي والأكثر على الأول. وكيف كان فخلاف ابن إدريس هنا
ضعيف لا يلتفت اليه.
(الفصل العاشر)
ـ في جملة من المواضع قد وقع الخلاف فيها بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) زيادة
على ما تقدم في تلك الأبواب :
فمنها ـ عرق
الجنب من الحرام ، قال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه في رسالته : ان عرقت في ثوبك
وأنت جنب وكانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه وان كانت من حرام فحرام الصلاة
فيه ونحوه ذكر ابنه في الفقيه ، وقال المفيد في المقنعة : لا يجب غسل الثوب من عرق
الجنب إلا ان تكون الجنابة من حرام فيغسل ما اصابه عرق صاحبها من جسد وثوب. وقال
ابن الجنيد في مختصره : وعرق الحائض لا ينجس الثوب وكذلك عرق الجنب من حلال وان
كان أجنب من حرام غسل الثوب منه. وقال الشيخ في الخلاف : عرق الجنب إذا كانت
الجنابة من حرام حرام الصلاة فيه. وفي النهاية لا بأس بعرق الحائض والجنب في الثوب
واجتنابه أفضل إلا ان تكون الجنابة من حرام فإنه يجب غسل الثوب
إذا عرق فيه. وعزى العلامة في المختلف الى ابن البراج موافقة الجماعة. وقال
ابن زهرة ان أصحابنا ألحقوا بالنجاسات عرق الجنب إذا أجنب من الحرام. ونحوه سلار
حيث نسب إيجاب إزالة هذا العرق إلى أصحابنا إلا انه اختار كونه على جهة الندب ،
ونقل عن ابن إدريس القول بالطهارة وهو اختيار الفاضلين وجمهور المتأخرين ، ومما
ذكرنا يعلم ان المشهور بين المتقدمين هو القول بالنجاسة.
واستند
المتأخرون فيما حكموا به من القول بالطهارة الى الأصل والروايات ، ومنها ـ ما رواه
الشيخ في الحسن عن أبي أسامة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب يعرق في ثوبه أو يغتسل فيعانق امرأته
ويضاجعها وهي حائض أو جنب فيصيب جسده من عرقها؟ قال هذا كله ليس بشيء». قبل وعدم
الاستفصال في مثله يشعر بالعموم لو لم يكن في اللفظ ما يدل عليه. وعن حمزة بن
حمران عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا يجنب الثوب الرجل ولا يجنب الرجل الثوب». وعن
ابي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص؟
فقال لا بأس وان أحب ان يرشه بالماء فليفعل». ونحو ذلك من الروايات.
واحتج الشيخ في
الخلاف بإجماع الفرقة وطريقة الاحتياط والاخبار ولم يتعرض لنقلها بل أحالها على
كتابي الحديث ، قال في المعالم ـ بعد الكلام في المسألة ونقل الخلاف فيها واختياره
الطهارة والاحتجاج على ذلك بجملة من الاخبار التي قدمناها ـ ما هذا لفظه : وجملة
ما وقفنا عليه في الكتابين من الروايات التي تخيل فيها الدلالة على هذا المعنى
حديثان : أحدهما ـ رواه عن محمد الحلبي في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه
وإذا وجد الماء غسله». قال في التهذيب لا يجوز ان يكون المراد بهذا
__________________
الخبر إلا من عرق في الثوب من جنابة إذا كانت من حرام لأنا قد بينا ان نفس
الجنابة لا تتعدى الى الثوب وذكرنا ايضا ان عرق الجنب لا ينجس الثوب فلم يبق معنى
يحمل عليه الخبر إلا عرق الجنابة من حرام فحملناه عليه ، ثم قال على انه يحتمل ان
يكون المعنى فيه ان يكون أصاب الثوب نجاسة فحينئذ يصلي فيه ويعيد. وجعل هذا
الاحتمال في الاستبصار أشبه. والحديث الثاني رواه في الصحيح عن عاصم بن حميد عن
ابي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب يجنب فيه الرجل ويعرق فيه؟ قال اما انا فلا
أحب ان أنام فيه وإذا كان الشتاء فلا بأس ما لم يعرق فيه». قال الشيخ الوجه في هذا
الخبر ضرب من الكراهية وهو صريح فيه ، ويمكن ان يكون محمولا على انه إذا كانت
الجنابة من حرام. ثم قال في المعالم : ولا يخفى عليك ما في الاستناد الى هذين
الخبرين في إثبات الحكم من التعسف ، فإن الأول ظاهر في كون المقتضى لغسل الثوب هو
اصابة المني له وقد رأيت اعتراف الشيخ في الاستبصار بأنه أشبه. وظاهر الخبر الثاني
ان المقتضى لثبوت البأس مع العرق في الثوب هو احتمال سريان النجاسة الحاصلة بالمني
، والعجب من الشيخ (قدسسره) كيف احتمل في هذا الحديث إرادة الجنابة من الحرام مع
قول الامام (عليهالسلام) فيه : اما انا فلا أحب ان أنام فيه. انتهى.
وقال في
المدارك بعد نقل الخلاف في المسألة واختياره القول بالطهارة والاستدلال عليه
برواية أبي أسامة المتقدمة ـ ما صورته : احتج الشيخ في التهذيب على النجاسة بما
رواه في الصحيح عن محمد الحلبي ثم نقل الصحيحة المتقدمة ثم قال : قال الشيخ ولا
يجوز ان يكون المراد بهذا الخبر ثم ذكر عبارة الشيخ المتقدمة إلى آخرها ، ثم قال
ولا يخفى ما في هذا الحمل البعيد إذ لا إشعار في الخبر بالعرق بوجه. الى آخره.
أقول : لا يخفى ان مجرد إيراد الشيخ الخبر المذكور وحمله على ذلك لا يسمى استدلالا
حتى انه يطعن فيه بالبعد ثم ينفي الدلالة ، بل الوجه في ذلك ان هذا الحكم لما كان
ثابتا عند
__________________
الشيخ بالأدلة التي وصلت اليه حمل هذا الخبر عليه وان كان بعيدا ، فبعد حمل
الخبر المذكور على ذلك لا يوجب انتفاء الحكم غاية الأمر ان الشيخ لم يورد دليلا من
الأخبار ولا غيره ممن قال بذلك في هذه المسألة.
والتحقيق في
المقام بتوفيق الملك العلام ان يقال انه لما كانت اخبار هذه المسألة الصريحة
الدلالة ليست في شيء من الكتب المشهورة بين المتأخرين عدلوا فيها عما افتى به
المتقدمون من القول بالنجاسة حيث لم تصل إليهم الأدلة في ذلك ، وما تكلفوه من
الروايات في الاستدلال للقول بالنجاسة كما قدمنا نقله عن المعالم ليس هو الدليل
ولكن في روايات الكتب الأربعة ما يشير الى الحكم المذكور ايضا وكان هو الاولى
بالنقل في الاستدلال للقول المذكور مثل ما رواه في الكافي عن علي بن الحكم عن رجل
عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه من
الزنا. الحديث». وقد تقدم قريبا في نجاسة المخالفين ، وما رواه فيه ايضا عن محمد
بن علي ابن جعفر عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) في حديث قال «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) ان أهل المدينة يقولون ان فيه شفاء من العين؟ فقال
كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما ثم يكون فيه شفاء
من العين. الحديث».
واما الاخبار
الصريحة في الحكم بالنجاسة فمنها ـ قول مولانا الرضا (عليهالسلام) في الفقه الرضوي «إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه وان
كانت حراما فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل». ومن هذه العبارة أخذ علي بن الحسين بن
بابويه عبارته المتقدمة وكذا ابنه في الفقيه كما عرفت في غير موضع مما تقدم لكنه
هنا غير تغييرا ما.
ومنها ـ ما
نقله في الذكرى قال روى محمد بن همام بإسناده إلى إدريس بن يزداد
__________________
الكفر ثوثي «انه كان يقول بالوقف فدخل سر من رأى في عهد ابي الحسن (عليهالسلام) فأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيصلى
فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب الانتظار إذ حركه أبو الحسن (عليهالسلام) بمقرعة وقال مبتدئا ان كان من حلال فصل فيه وان كان من
حرام فلا تصل فيه». أقول : إدريس بن يزداد المذكور غير مذكور في كتب الرجال
والموجود فيها إدريس بن زياد الكفر ثوثي ثقة ولم ينقل فيه القول بالوقف واحتمال
انه هو قريب. واما ما ذكره في المعالم بعد نقل الخبر عن الذكرى من انه لم يقف عليه
بعد التتبع بقدر الوسع في كتب الحديث الموجودة يومئذ عنده ثم قال فحال إسناده غير
واضح ولا يبعد ضعفه وإلا لذكره بكماله أو نبه على صحته. انتهى أقول : ان الأصول
السابقة كانت موجودة عند مثل شيخنا الشهيد والمحقق والعلامة وابن إدريس وفيها
أخبار عديدة قد خلت منها هذه الكتب المشهورة كما لا يخفى على من راجع ما استطرفه
ابن إدريس من الأصول التي كانت عنده ، فمن الظاهر ان شيخنا الشهيد إنما أخذ
الرواية من تلك الأصول. واما طعنه وأمثاله بضعف السند فهو باب آخر قد تقدم الكلام
فيه في مقدمات الكتاب.
ومنها ـ ما
نقله شيخنا المجلسي في البحار من كتاب المناقب لابن شهرآشوب نقلا من كتاب المعتمد في
الأصول قال : «قال علي بن مهزيار وردت العسكر وانا شاك في الإمامة فرأيت السلطان
قد خرج الى الصيد في يوم من الربيع إلا انه صائف والناس عليهم ثياب الصيف وعلى ابي
الحسن (عليهالسلام) لباد وعلى فرسه تجفاف لبود وقد عقد ذنب فرسه والناس
يتعجبون منه ويقولون ألا ترون الى هذا المدني وما قد فعل بنفسه؟ فقلت في نفسي لو
كان هذا اماما ما فعل هذا ، فلما خرج الناس الى الصحراء لم يلبثوا إلا ان ارتفعت
سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلا ابتل حتى غرق بالمطر
__________________
وعاد (عليهالسلام) وهو سالم من جميعه ، فقلت في نفسي يوشك ان يكون هو
الامام ثم قلت أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب فقلت في نفسي ان كشف وجهه
فهو الامام فلما قرب مني كشف وجهه ثم قال : ان كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من
حرام لا يجوز الصلاة فيه وان كانت جنابته من حلال فلا بأس فلم يبق في نفسي بعد ذلك
شبهة». وقال شيخنا المشار إليه في الكتاب المذكور ايضا وجدت في كتاب عتيق من
مؤلفات قدماء أصحابنا رواه عن ابي الفتح غازي بن محمد الطرائفي عن علي بن عبد الله
الميموني عن محمد بن علي بن معمر عن علي بن مهزيار بن موسى الأهوازي عنه (عليهالسلام) مثله وقال : «ان كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال
وان كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام».
أقول : والى
هذه الاخبار استند متقدمو الأصحاب فيما ذهبوا اليه من القول بالنجاسة ولا سيما
كتاب الفقه الرضوي الذي قد عرفت في غير موضع ان كثيرا من الأحكام التي اشتهرت بين
المتقدمين ولم يصل دليلها إلى المتأخرين حتى اعترضوهم بعدم الدليل أو تكلفوا لهم
دليلا قد وجدت أدلتها في هذا الكتاب وافتى بها ابن بابويه في رسالته ، ويعضد هذه
الاخبار ما عرفت ايضا من اخبار الحمام المتقدمة ، وبذلك يظهر لك قوة ما ذهبوا اليه
، وحينئذ فما دل بعمومه على ما ادعوه من الطهارة مخصص بهذا الاخبار
فروع
(الأول) ـ قال
العلامة في المنتهى تفريعا على القول بالنجاسة : ولا فرق بين ان يكون الجنب رجلا
أو امرأة ولا بين ان تكون الجنابة من زنا أو لواط أو وطء بهيمة أو ميتة وان كانت
زوجة وسواء كان مع الجماع إنزال أم لا ، والاستمناء باليد كالزنا ، اما لو وطئ في
الحيض أو الصوم فالأقرب طهارة العرق فيه. وفي المظاهرة إشكال ، ثم قال ولو وطئ
الصغير أجنبية وألحقنا به حكم الجنابة بالوطء ففي نجاسة عرقه إشكال ينشأ من عدم
التحريم في
__________________
حقه. انتهى. ولا يخفى ان ما قربه في الوطء في الحيض والصوم لا يخلو من بعد
بعد شمول الأخبار المتقدمة لذلك كما لا يخفى.
(الثاني) ـ نقل
في المعالم عن ابن الجنيد انه قال في مختصره بعد ان حكم بوجوب غسل الثوب من عرق
الجنب من حرام : وكذلك عندي الاحتياط ان كان جنبا من حلم ثم عرق في ثوبه. ثم قال
في المعالم بعد نقله : ولا نعرف لهذا الكلام وجها ولا رأينا له فيه رفيقا. انتهى.
وهو جيد.
(الثالث) ـ قال
في المعتبر : الحائض والنفساء والمستحاضة والجنب من الحلال إذا خلا الثوب من عين
النجاسة فلا بأس بعرقهم إجماعا. ويدل على ما ذكره مضافا الى ما ذكره من الإجماع ما
تقدم في صدر المسألة من الاخبار الواردة في الجنب ، ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح
عن معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحائض تعرق في ثيابها أتصلي فيها قبل ان تغسلها؟
قال نعم لا بأس». وما رواه في التهذيب عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي (عليهالسلام) قال : «سألت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن الجنب والحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق عليهما؟
فقال ان الحيض والجنابة حيث جعلهما الله عزوجل ليس في العرق فلا يغسلان ثوبهما». وعن عمار الساباطي في
الموثق قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الحائض تعرق في ثوب تلبسه؟ فقال ليس عليها شيء إلا
ان يصيب شيء من مائها أو غير ذلك من القذر فتغسل ذلك الموضع الذي أصابه بعينه». وعن
سورة بن كليب قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة الحائض أتغسل ثيابها التي تلبسها في طمثها؟
قال تغسل ما أصاب ثيابها من الدم وتدع ما سوى ذلك. قلت له وقد عرقت فيها؟ قال ان
العرق ليس من الحيض». وفي الموثق عن علي بن يقطين عن
__________________
ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحائض تعرق في ثوبها؟ قال ان كان ثوبا
تلزمه فلا أحب ان تصلي فيه حتى تغسله». واما ما رواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن
عمار قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) المرأة الحائض تعرق في ثوبها؟ فقال تغسله. قلت فان كان
دون الدرع إزار وانما يصيب العرق ما دون الإزار؟ قال لا تغسله». فالظاهر حمله على
الاستحباب من حيث احتمال مباشرة موضع الدم بالعرق كما يدل عليه عدم الغسل مع وضع
الإزار تحت الثوب وان اصابه العرق. والله العالم.
ومنها ـ عرق
الإبل الجلالة وقد اختلف فيه كلام الأصحاب ، فقال المفيد في المقنعة : يغسل الثوب
من عرق الإبل الجلالة إذا اصابه كما يغسل من سائر النجاسات. وذكر الشيخ في النهاية
نحوه فقال : إذا أصاب الثوب عرق الإبل الجلالة وجب عليه إزالته. وحكى العلامة في
المختلف عن ابن البراج انه وافقهما في ذلك ، وقال ابن زهرة ألحق أصحابنا بالنجاسات
عرق الإبل الجلالة. وقال سلار : عرق جلال الإبل أوجب أصحابنا إزالته وهو عندي ندب.
وحكم العلامة في المختلف بطهارته وادعى انه المشهور ونقله عن سلار وابن إدريس ،
ونقله في المدارك عن سائر المتأخرين.
أقول : ويدل
على ما ذهب اليه الشيخان وأتباعهما صحيحة هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تأكلوا اللحوم الجلالة وان أصابك من عرقها
فاغسله». وعن حفص بن البختري في الحسن على المشهور والصحيح عندي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة وان أصابك شيء
من عرقها فاغسله».
احتج العلامة
في المختلف لما ذهب اليه من الطهارة بأن الأصل الطهارة وان الإبل الجلالة ليست
نجسة فلا ينجس عرقها كغيرها من الحيوانات. الطاهرة وكالجلال من
__________________
غيرها. وقال المحقق في المعتبر قال الشيخان عرق الإبل الجلالة نجس يغسل منه
الثوب وقال سلار غسله ندب وهو مذهب من خالفنا ، وربما يحتج الشيخ برواية هشام بن
سالم ثم ساق الرواية ، ثم قال واستناد سلار الى الأصل وانه يجري مجرى عرق الحيوانات
الطاهرة وان لم يؤكل لحمها كعرق السنور والنمر والفهد ، وتحمل الرواية على
الاستحباب. انتهى وبذلك أجاب في المختلف عن الخبرين بالحمل على الاستحباب.
وأنت خبير بما
في كلاميهما من النظر الظاهر والمجازفة التي لا تخفى على الخبير الماهر (أما أولا)
ـ فلان الأصل لا يصلح للتمسك إلا مع عدم النص الموجب للخروج عنه وهو هنا موجود. و
(اما ثانيا) ـ فلان الحمل على الاستحباب انما يصار اليه بمقتضى قواعدهم المتفق
عليها مع وجود المعارض لتصريحهم في الأصول بأن الأمر حقيقة في الوجوب. و (اما
ثالثا) ـ فلان البناء على التشبيه بهذه الأشياء المشار إليها في كلاميهما لا يصلح
لان يكون مستندا شرعيا تبنى عليه الأحكام الشرعية ، ومع الإغماض عن ذلك فإنه لا
معنى له مع وجود النص الصحيح الصريح المقتضى للفرق والتخصيص بهذا الفرد. والظاهر
انه لما ذكرنا رجع في المنتهى الى قول الشيخين فقال بعد حكمه بالطهارة في أول
المسألة واحتجاجه بالأصل وجوابه عن حجة الشيخ بما يقرب من كلامه في المختلف ما
صورته : والحديثان قويان ولأجل ذلك جزم الشيخ في المبسوط بوجوب ازالة عرقها وعليه
اعمل. انتهى.
وظاهر السيد في
المدارك التوقف هنا حيث نقل الخلاف في المسألة ونقل الخبرين المذكورين دليلا للقول
بالنجاسة ونقل الجواب من طرف القائلين بالطهارة عنهما بالحمل على الاستحباب ، ثم
قال : وهو مشكل مع عدم المعارض. ولم يجزم بشيء في البين وهو لا يخلو من غرابة عند
من له انس بطريقته في الكتاب من التمسك بالأخبار الصحيحة والأخذ بها وان خرج عما
عليه الأصحاب.
والعجب ايضا من
المحدث الحر في الوسائل حيث وافق المشهور وعنون الباب
بالكراهة حملا للخبرين المذكورين على ذلك ، وهو من جملة سقطاته لما عرفت من
ان الخبرين مع صحتهما لا معارض لهما يوجب ارتكاب التأويل فيهما مع قول جملة من
فضلاء الأصحاب بمضمونهما. والله العالم.
ومنها ـ المسوخ
، والمشهور بين الأصحاب القول بطهارتها ونقل عن الشيخ في الخلاف القول بنجاستها
وعزى العلامة في المختلف موافقته الى سلار وابن حمزة ، ونقل في المعالم عن ابن
الجنيد انه استثناها مما حكم بطهارة سورة مع حكمه بطهارة سؤر السباع وقرنها في
الاستثناء بالكلب والخنزير ، وظاهر ذلك القول بنجاستها أو نجاسة لعابها. والظاهر
الأول فإن الحكم بنجاسة اللعاب مع طهارة العين بعيد وان نقل ايضا عن بعض الأصحاب ،
وعدها في قرن الكلب والخنزير مؤيد لما ذكرنا.
ويدل على القول
المشهور وهو المعتمد مضافا الى أصالة الطهارة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الفضل
ابي العباس قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل
والبغال والوحش والسباع فلم اترك شيئا إلا سألته عنه فقال لا بأس به حتى انتهيت
الى الكلب فقال رجس نجس. الحديث».
وفي المختلف
وغيره ان الشيخ احتج على النجاسة بتحريم بيعها ولا مانع من البيع سوى النجاسة.
وربما استدل على تحريم بيعها برواية مسمع عن الصادق (عليهالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) نهى عن القرد ان يشترى أو يباع». وأجيب بالمنع من
تحريم البيع (أولا) ـ فإن الرواية الدالة على ذلك مع كونها ضعيفة السند مختصة
بالقرد خاصة. و (ثانيا) ـ بالمنع من كون المقتضي لحرمة البيع هو النجاسة فلا بد من
اقامة الدليل على انحصار المقتضي فيها.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الروايات قد اختلفت في أنواع المسوخ زيادة ونقصا ووجودا وفناء
__________________
ومنها ـ ما
رواه الشيخ عن الحلبي في الحسن عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان الضب والفأرة والقردة والخنازير مسوخ».
وما رواه في
الصحيح عن احمد بن محمد عن محمد بن الحسن الأشعري عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «الفيل مسخ كان ملكا زناء والذئب كان أعرابيا
ديوثا والأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها ، والوطواط مسخ كان
يسرق تمور الناس ، والقردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت ،
والجريث والضب فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حين نزلت المائدة على عيسى بن مريم
فتاهوا فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البر ، والفأرة هي الفويسقة ، والعقرب كان
نماما ، والدب والوزغ والزنبور كان لحاما يسرق في الميزان».
وما رواه في
الكافي عن الحسين بن خالد قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) أيحل أكل لحم الفيل؟ فقال لا فقلت لم؟ قال لانه مثلة
وقد حرم الله تعالى لحوم المسوخ ولحم ما مثل به في صورها».
وعن ابي سهل
القرشي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن لحم الكلب؟ فقال هو مسخ. قلت هو حرام؟ قال هو نجس ،
أعيدها ثلاث مرات كل ذلك يقول هو نجس».
وعن سليمان
الجعفري عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «الطاوس مسخ كان رجلا جميلا كابر امرأة رجل مؤمن
تحبه فوقع بها ثم راسلته بعد فمسخهما الله تعالى طاوسين أنثى وذكرا فلا تأكل لحمه
ولا بيضه».
وعن الكلبي
النسابة قال «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الجري؟ فقال ان الله تعالى مسخ طائفة من بني
إسرائيل ، فما أخذ منهم بحرا فهو الجري والزمير
__________________
والمارماهي وما سوى ذلك ، وما أخذ منهم برا فالقردة والخنازير والوبر
والورل وما سوى ذلك».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «روي ان المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام وان هذه مثل لها فنهى
الله عزوجل عن أكلها».
وفي العلل بسند
معتبر عن علي بن مغيرة عن الصادق عن أبيه عن جده (عليهمالسلام) قال : «المسوخ من بني آدم ثلاثة عشر صنفا : منهم ـ القردة
والخنازير والخفاش والضب والفيل والدب والدعموص والجريث والعقرب وسهيل والقنفذ
والزهرة والعنكبوت». قال الصدوق سهيل والزهرة دابتان من دواب البحر المطيف
بالدنيا.
وروى في الكتاب
المذكور ايضا بسند قوي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «المسوخ ثلاثة عشر : الفيل والدب والأرنب والعقرب
والضب والعنكبوت والدعموص والجري والوطواط والقرد والخنزير والزهرة وسهيل. فسئل يا
ابن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ما كان سبب مسخ هؤلاء؟ فقال اما الفيل فكان رجلا جبارا
لوطيا لا يدع رطبا ولا يابسا ، واما الدب فكان رجلا مؤنثا يدعو الرجال الى نفسه ،
واما الأرنب فكانت امرأة قذرة لا تغتسل من حيض ولا من جنابة ولا غير ذلك ، واما
العقرب فكان رجلا همازا لا يسلم منه أحد ، واما الضب فكان رجلا أعرابيا يسرق الحاج
بمحجته ، واما العنكبوت فكانت امرأة سحرت زوجها ، واما الدعموص فكان رجلا نماما
يقطع بين الأحبة ، واما الجري فكان رجلا ديوثا يجلب الرجال على حلائله ، واما
الوطواط فكان رجلا سارقا يسرق الرطب على رؤوس النخل ، واما القردة فاليهود اعتدوا
في السبت ، واما الخنازير فالنصارى حين سألوا المائدة فكانوا بعد نزولها أشد ما
كانوا تكذيبا ، واما سهيل فكان رجلا عشارا باليمن ، واما الزهرة فكانت امرأة تسمى
ناهيد وهي التي يقول الناس انه افتتن بها هاروت
__________________
وماروت». الى غير ذلك من الأخبار المروية في العلل ، وفيما ذكرناه كفاية
لمن أحب الاطلاع على عدها وأسباب مسخها. والله العالم.
ومنها ـ الأرنب
والثعلب والفأرة والوزغة ، فأوجب الشيخ في النهاية غسل ما يصيب الثوب أو البدن
منها برطوبة وقرنها في هذا الحكم مع الكلب والخنزير ، مع انه في باب المياه من
الكتاب المذكور نفى البأس عما وقعت فيه الفأرة من الماء الذي في الآنية إذا خرجت
منه وكذا إذا شربت ، وقال ان الأفضل ترك استعماله على كل حال. واقتصر المفيد في
المقنعة على الفأرة والوزغة فجعلهما كالكلب والخنزير في غسل الثوب إذا مساه برطوبة
وأثرا فيه. وحكى في المختلف عن ابي الصلاح أنه أفتى بنجاسة الثعلب والأرنب ، وهو
قول السيد ابي المكارم ابن زهرة أيضا كما نقله في المعالم ، وفي المعالم ايضا عن
ظاهر الصدوقين القول بنجاسة الوزغ ، وحكى في المختلف ايضا عن ابن البراج انه أوجب
غسل ما اصابه الثعلب والأرنب والوزغة وكره الفأرة ، وعن سلار انه حكم بنجاسة
الفأرة والوزغة ، وعن ابن بابويه انه قال : إذا وقعت الفأرة في الماء ثم خرجت ومشت
على الثياب فاغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء. وعن ابن إدريس انه
حكم بطهارة ذلك اجمع ، ثم قال والوجه عندي طهارة ذلك اجمع ، وهو اختيار والدي
وشيخنا أبو القاسم بن سعيد. وعزى المحقق في المعتبر القول بالطهارة إلى السيد
المرتضى في بعض كتبه. وعلى هذا القول جمهور المتأخرين ومتأخريهم.
أقول : ومنشأ
هذا الاختلاف هنا اختلاف ظواهر الاخبار في هذا المقام وها انا أورد ما وصل الي
منها على التمام وأبين ما ظهر لي من الحكم فيها بتوفيق الملك العلام :
فمنها ـ صحيحة
الفضل ابي العباس وقد تقدمت قريبا ، ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر
عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن العظاية والحية والوزغ تقع في الماء
فلا تموت أيتوضأ منه للصلاة؟ قال لا بأس به. وسألته عن
__________________
فأرة وقعت في حب دهن فأخرجت منه قبل ان تموت أيبيعه من مسلم؟ قال نعم ويدهن
منه».
وفي الصحيح عن
سعيد الأعرج قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الفأرة تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حية؟ فقال
لا بأس بأكله».
وفي الصحيح عن
إسحاق بن عمار عن الصادق (عليهالسلام) «ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن
يشرب منه ويتوضأ منه».
ورواية هارون
بن حمزة الغنوي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في
الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ منه؟ قال يسكب منه ثلاث مرات وقليله
وكثيره بمنزلة واحدة ثم يشرب منه ويتوضأ منه غير الوزغ فإنه لا ينتفع بما يقع فيه».
وروى الحميري
في قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) قال لا بأس بسؤر الفأرة أن يشرب منه ويتوضأ».
وهذه الأخبار ـ
كما ترى ـ ظاهرة بل صريحة في الدلالة على الطهارة وإليها استند القائل بالطهارة في
الفأرة والوزغة ، واما صحيحة أبي العباس فعمومها صالح للدلالة على الجميع
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي
على الثياب أيصلى فيها؟ قال اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء».
__________________
وما رواه في
الصحيح عنه ايضا عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز أو
شماه أيؤكل؟ قال يطرح ما شماه ويؤكل ما بقي». ورواه علي بن جعفر في كتابه أيضا .
وروى في قرب
الاسناد بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز وشبهه
أيحل اكله؟ قال يطرح منه ما أكل ويؤكل الباقي».
وما رواه في
الصحيح عن احمد بن محمد بن يحيى عن محمد بن عيسى عن يونس ابن عبد الرحمن عن بعض
أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته هل يجوز ان يمس الثعلب والأرنب أو شيئا من
السباع حيا أو ميتا؟ قال لا يضره ولكن يغسل يده».
وما رواه عن
عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) في حديث طويل قال : «سئل عن الكلب والفأرة إذا أكلا من
الخبز وشبهه؟ قال يطرح منه ويؤكل الباقي. وعن العظاية تقع في اللبن؟ قال يحرم
اللبن ، وقال ان فيها السم». أقول قال في القاموس : العظاية دويبة كسام أبرص.
وما رواه في
الصحيح عن معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الفأرة والوزغة تقع في البئر قال ينزح منها ثلاث
دلاء».
__________________
وما في الفقه
الرضوي حيث قال (عليهالسلام) «ان وقع في الماء وزغ أهريق ذلك الماء وان وقع فيه فأرة أو حية أهريق الماء
وان دخلت فيه حية وخرجت منه صب من ذلك الماء ثلاث أكف واستعمل الباقي وقليله
وكثيره بمنزلة واحدة». هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة.
وقد أجاب
القائلون بالطهارة عما دل على نجاسة الفأرة والوزغة بأنه معارض بما دل على الطهارة
وطريق الجمع حمل أخبار النجاسة على التنزيه والاستحباب فإنه مع العمل بأخبار
النجاسة يلزم طرح أخبار الطهارة مع صحتها وصراحتها وكثرتها ، قال المحقق في
المعتبر ـ بعد نقل صحيحة علي بن جعفر الدالة على غسل ما لاقته الفأرة برطوبة
ومعارضتها بصحيحة سعيد الأعرج ـ ما لفظه : ومن البين استحالة أن ينجس الجامد ولا
ينجس المائع ولو ارتكب هنا مرتكب لم يكن له في الفهم نصيب ، واما خبر يونس فقد رده
بالإرسال أولا وبكون الراوي فيه محمد بن عيسى عن يونس ، وقد حكى النجاشي عن ابي
جعفر بن بابويه عن ابن الوليد انه قال ما تفرد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه
لا يعتمد عليه ، وقال الشيخ انه ضعيف استثناه أبو جعفر بن بابويه من رجال نوادر
الحكمة وقال لا اروي ما يختص بروايته.
وتحقيق الكلام
في المقام بما ادى اليه الفهم القاصر ، اما بالنسبة الى الأخبار المتعارضة في
الفأرة فلا يخفى ان الترجيح فيها لاخبار الطهارة لاعتضادها بأصالة الطهارة وكثرتها
وصحة أكثرها وصراحتها ، وليس في الاخبار المقابلة لها ما هو ظاهر في النجاسة سوى
صحيحة علي بن جعفر الدالة على غسل أثرها إذا مشت على الثياب برطوبة وإلا فغيرها من
الروايات الدالة على الأكل من الخبز أو شمه لا ظهور لها في النجاسة ، فإن الحكم
بالنجاسة انما يكون مع تعدى رطوبة فم الفأرة إلى الخبز والتمسك بأصالة الطهارة
يدفع ذلك حتى يعلم ، ومجرد الأكل والشم لا يستلزم وجود الرطوبة
__________________
وتعديها ، وحينئذ لا يثبت الحكم بالنجاسة فتعين الحمل على التنزيه
والاستحباب كما ذكره الأصحاب ، واما بالنسبة إلى الكلب فان علم ايضا تعدى لعابه
اليه وإلا فالحكم فيه كذلك ، وبالجملة فالتمسك بأصالة الطهارة أقوى متمسك حتى يظهر
ما يوجب الخروج عنه ، وحينئذ فلم يبق إلا تلك الرواية فتعين التأويل فيها البتة
إما بالحمل على ما ذكره الأصحاب من الاستحباب أو الحمل على التقية فإن القول
بنجاسة الفأرة مذهب بعض العامة كما ذكره في المنتهى ، على انه لا يشترط عندنا في
الحمل على التقية وجود القائل كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب.
واما بالنسبة
إلى الوزغة فقد عرفت دلالة صحيحة علي بن جعفر الاولى على الطهارة فيها مع اعتضادها
بالأصل وان الوزغة ليست بذي نفس وميتتها طاهرة إجماعا ، والحكم بالنجاسة في حال
الحياة والطهارة بعد الموت غير معقول ولا معهود من الشرع وانما المعهود العكس ،
ومجرد النزح المذكور لا يستلزم النجاسة كما وقع في اخبار نزح سبع دلاء لدخول الجنب
واغتساله مع اتفاقهم على اعتبار طهارة بدنه من المني وإلا لوجب له بقدر المني ،
على انه يمكن حمل الخبر على رجوع ذلك الى الفأرة بالخصوص باعتبار ان السؤال وقع عن
وقوع الفأرة والوزغة معا لأكل بانفراده ، والتأويل بذلك تفاديا من الطرح غير بعيد
ومثله غير عزيز.
واما بالنسبة
إلى الثعلب والأرنب كما اشتملت عليه مرسلة يونس فهي أيضا معارضة بالأصل وبما دل من
الأخبار على قبول هذه الأشياء مثل الثعلب والسباع للتذكية ، ومن المعلوم ان نجس
العين كالكلب والخنزير لا يقبل التذكية ولا يطهر بها ، فمما ورد في الثعلب ما رواه
الشيخ عن صفوان عن جميل عن الحسن بن شهاب قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن جلود الثعالب إذا كانت ذكية أيصلى فيها؟ قال نعم». وعن
عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألته عن اللحاف من الثعالب أو الجرز منه أيصلى
__________________
فيها؟ قال ان كان ذكيا فلا بأس به». وعن جميل في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الصلاة في جلود الثعالب؟ قال ان كانت
ذكية فلا بأس». ولا ينافي ذلك ما دل من الأخبار على عدم جواز الصلاة في الجلود
المذكورة فإن الاختلاف في ذلك انما نشأ من حيث اشتراط كون ما يصلى فيه لا بد ان
يكون مما يؤكل لحمه أم لا ، ولهذا ان جمعا من الأصحاب ذهبوا الى القول بجواز
الصلاة فيها لهذه الاخبار وما ذاك إلا للحكم بثبوت التذكية وطهارة الجلود ،
والمانع انما يمنع من حيث الاشتراط المذكور لا من حيث النجاسة وعدم قبول التذكية ،
وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر. ومما يدل على ذلك في السباع أيضا التي قرنت في هذه
الرواية بالثعلب المستلزم لنجاستها ايضا فهو ما رواه الشيخ والصدوق عن سماعة في الموثق
قال : «سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال اما لحوم السباع من الطير
والدواب فانا نكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئا تصلون فيه». وروى
في المحاسن عن علي بن أسباط عن علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن ركوب جلود السباع؟ فقال لا بأس ما لم
يسجد عليها». وعنه عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن جلود السباع فقال اركبوها ولا تلبسون شيئا منها
تصلون فيه». قال شيخنا المجلسي في البحار بعد نقل هذين الخبرين : يدلان على كون
السباع قابلة للتذكية بمعنى إفادتها جواز الانتفاع بجلودها لطهارتها كما هو
المشهور بين الأصحاب ، بل قال الشهيد انه لم يعلم القائل بعدم وقوع التذكية عليها
سوى الكلب والخنزير. واستشكال الشهيد الثاني وبعض المتأخرين في الحكم بعد ورود
النصوص المعتبرة وعمل القدماء والمتأخرين مما لا وجه له. انتهى. على ان ظاهر الخبر
المذكور بناء على ما ذكروه لا يخلو من تدافع فان المتبادر من قوله «لا يضره» ليس
إلا بمعنى لا ينجسه إذ لا معنى للضرر في هذا المقام إلا التنجيس كما
__________________
لا يخفى ، وحينئذ فحمل «ولكن يغسل يده» على النجاسة مدافع لذلك ، واما إذا
أريد التنزيه والاستحباب أمكن مجامعته للعبارة المتقدمة وتم الكلام بأحسن نظام
والله العالم.
ومنها ـ لبن
الجارية والمشهور طهارته. ونقل عن ابن الجنيد القول بنجاسته لرواية السكوني عن
جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) قال لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم
لان لبنها يخرج من مثانة أمها. الحديث». وقد تقدم الكلام في ذلك في الموضع الثاني
من الفصل الأول والثاني في مسألة بول الرضيع ، وربما ظهر من كلام الصدوق في الفقيه
القول بذلك حيث ذكر الرواية فيه مع قوله في أول كتابه انه لا يورد فيه إلا ما يفتي
به ويحكم بصحته سيما مع قرب هذه الرواية مما ذكره من الكلام المشار اليه ، ولم أر
من تنبه لنسبة ذلك الى الصدوق والحال كما ذكرناه إلا المحقق الشيخ حسن في المعالم
فإنه أشار الى ذلك كما ذكرناه ، ونقل في المعالم ايضا عن والده انه ذكر الرواية في
رسالته لكن لم يظهر منه التزام ما التزمه ولده من التقييد في ذكر الأخبار بما يفتي
به مع التصريح بكونه خبرا.
أقول : قد تقدم
في الموضع المشار اليه آنفا ان هذه الرواية قد ذكرها مولانا الرضا (عليهالسلام) في كتاب الفقه فقال بعد فتواه بمضمون صحيحة الحلبي
الواردة في بول الرضيع : وقد روى عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) «انه قال لبن الجارية. الحديث». والأصحاب قد أجابوا عن
خبر السكوني بضعف الاسناد وهو مشكل بعد اعتضاده بالخبر المذكور في الكتاب المشار
اليه ، والأظهر كما قدمناه في الموضع المشار اليه حمل الخير على التقية ولا سيما
ان راويه من العامة ، ويعضده نقله (عليهالسلام) الخبر في كتاب الفقه بعد إفتائه بخلاف ما تضمنه
بالنسبة إلى بول الرضيع ، وجمع من الأصحاب حملوا الرواية على الاستحباب كما هي
قاعدتهم في جملة الأبواب. والله العالم.
ومنها ـ القيء
قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر بأن القيء
__________________
والقلس والنخامة وكل ما يخرج من المعدة إلى الفم أو ينزل من الرأس طاهر عدا
الدم. وقال الشيخ في المبسوط القيء طاهر وقال بعض أصحابنا نجس ، قال والصديد والقيح
حكمهما حكم القيء.
أقول : ويدل
على الطهارة مضافا الى الأصل موثقة عمار الساباطي «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن القيء يصيب الثوب فلا يغسل؟ قال لا بأس به». وعن
عمار ايضا «انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يتقيأ في ثوبه أيجوز ان يصلي فيه ولا يغسله؟
قال لا بأس به». فاما ما رواه الشيخ عن عثمان بن عيسى عن ابي هلال قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) أينقض الرعاف والقيء ونتف الإبط الوضوء؟ فقال وما
تصنع بهذا؟ هذا قول المغيرة بن سعيد لعن الله المغيرة ، ويجزيك من الرعاف والقيء
أن تغسله ولا تعيد الوضوء». فإنه يمكن ان يجعل دليلا للقول بالنجاسة بتقريب الأمر
فيه بالغسل ، وفيه ان الأمر بالغسل أعم ، وطريق الجمع بينه وبين ما تقدم حمل الغسل
على ازالة الاستقذار الحاصل منه لا النجاسة فإن الغسل مطلوب في أمثال ذلك كما ورد
في جملة من المواضع من الأمر بالصب والرش في مواضع لزوال النفرة ومظنة النجاسة ،
والقيء لا يزول بمجرد الرش فأمر فيه بالغسل لازالة عينه عن الثوب أو البدن ولم
أقف على من تعرض لنقل حجة القول بالنجاسة سوى العلامة في المختلف فإنه تكلف لذلك
دليلا واهيا لا يستحق ان يسطر ولا يلتفت اليه ولا ينظر.
ومنها ـ الحديد
وان لم أقف على قائل بنجاسته إلا انه ربما يفهم من بعض الأخبار ذلك حتى ان بعض
المتورعين كان يجتنب أكل مثل البطيخ ونحوه إذا قطع بالحديد. ومن الأخبار الدالة
على ذلك موثقة عمار عن الصادق (عليهالسلام)
__________________
«عن الرجل إذا قص أظفاره بالحديد أو أخذ من شعره أو حلق قفاه فان عليه ان
يمسحه بالماء قبل ان يصلي. سئل فإن صلى ولم يمسح من ذلك بالماء؟ قال يمسح بالماء
ويعيد الصلاة لأن الحديد نجس ، وقال ان الحديد لباس أهل النار والذهب لباس أهل
الجنة». وعن عمار في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال «الرجل يقرض من شعره بأسنانه أيمسحه بالماء قبل ان
يصلي؟ قال لا بأس انما ذلك في الحديد». ويعضده ما رواه في الكافي في باب الخواتيم
في حديث عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا تختموا بغير الفضة فإن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال ما طهرت كف فيها خاتم من حديد». وفي الفقيه مرسلا قال : «قال (صلىاللهعليهوآله) ما طهر الله يدا فيها حلقة حديد».
ويدل على
الطهارة مضافا الى إجماع الأصحاب على الحكم قديما وحديثا ما رواه في الفقيه عن إسماعيل بن جابر «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الرجل يأخذ من أظفاره وشاربه أيمسحه بالماء؟ فقال
لا هو طهور». وما رواه في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) انه قال له : «الرجل يقلم أظفاره ويجز شاربه ويأخذ من
شعر لحيته ورأسه هل ينقض ذلك وضوءه؟ فقال يا زرارة كل هذا سنة ، الى ان قال وان
ذلك ليزيده تطهيرا». وما رواه الشيخ في الصحيح عن سعيد بن عبد الله الأعرج قال «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) آخذ من أظفاري ومن شاربي واحلق رأسي فاغتسل؟ قال لا
ليس عليك غسل. قلت فأتوضأ؟ قال لا ليس عليك وضوء. قلت فامسح على أظفاري الماء؟ قال
هو ظهور ليس عليك مسح». وعن وهب بن وهب عن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) «ان عليا عليهالسلام) قال : السيف بمنزلة الرداء تصلي فيه ما لم تر فيه
__________________
دما». وما رواه في الكافي في الموثق عن الحسن بن الجهم قال : «أراني أبو الحسن (عليهالسلام) ميلا من حديد ومكحلة من عظام فقال كان هذا لأبي الحسن (عليهالسلام) فاكتحل به فاكتحلت». ومن الظاهر ان الميل بالاكتحال لا
يخلو من ملاقاة الرطوبة غالبا ، والاخبار في هذا الباب كثيرة كما يأتي في كتاب
الحج ان شاء الله تعالى في اخبار الحلق والتقصير ، ومن الظاهر المعلوم اطباق كافة
الناس على حلق الرأس من وقته (صلىاللهعليهوآله) الى يومنا هذا بآلة الحديد ولم ينقل في شيء منها
الأمر بالتطهير.
وبالجملة فهذه
الروايات الدالة على النجاسة مطرحة بإجماع الأصحاب وهذه الاخبار مضافا ذلك الى ان
الراوي عمار المتفرد بالغرائب في رواياته كما طعن به عليه في غير موضع المحدث
الكاشاني في الوافي ، ومن الاخبار في ذلك ايضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن موسى
بن أكيل النميري عن الصادق (عليهالسلام) «في الحديد انه حلية أهل النار والذهب حلية أهل الجنة وجعل الله تعالى
الذهب في الدنيا زينة النساء فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه وجعل الله الحديد
في الدنيا زينة الجن والشياطين فحرم على الرجل المسلم ان يلبسه في الصلاة إلا ان
يكون قبال عدو فلا بأس به ، الى ان قال وفي غير ذلك لا يجوز الصلاة في شيء من
الحديد فإنه نجس ممسوخ».
ورأيت في بعض
الحواشي المنسوبة إلى الأمين الأسترآبادي ما صورته : قوله (عليهالسلام) «نجس ممسوخ» أقول : أهل الكيمياء زعموا ان المعدنيات
المنطبعة كلها في الأصل قابلة للذهب فأصاب بعضها الجذام فصار حديدا وبعضها البرص
فصار نحاسا وبعضها البهق فصار فضة وذكروا ان حقيقة الكيمياء انما هي إزالة ما
أصابها من المرض وانه كما لا يمكن معالجة جذام الإنسان كذلك لا يمكن معالجة جذام
المعدنيات بالإكسير ،
__________________
وقوله (عليهالسلام) : «نجس ممسوخ» إشارة الى ذلك أو الى أنه قذر ، وحمل
النجس على نجس العين توهم صرف يكذبه حلق رأس النبي (صلىاللهعليهوآله) في المروة وقطعه (عليهالسلام) البطيخ بالحديد ولبسه الدرع يوما وليلة في حرب أحد وهو
يصلي فيه وعدم اجتنابهم (عليهمالسلام) من السيف وأشباه ذلك من الأمور التي يعم بها البلوى ،
وفي الكافي حديث صحيح صريح في صحة الكيمياء وفيه نوع إشارة الى ما ذكرناه. انتهى.
وبالجملة
فالعمل على القول بالطهارة ، بقي الكلام في روايات عمار المتقدمة والأصحاب قد
حملوها على الاستحباب ولا بأس به كما يدل عليه ما رواه في الكافي عن محمد الحلبي
في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يكون على طهر فيأخذ من أظفاره أو شعره أيعيد
الوضوء؟ فقال لا ولكن يمسح رأسه وأظفاره بالماء. قلت فإنهم يزعمون ان فيه الوضوء؟
فقال ان خاصموكم فلا تخاصموهم وقولوا هكذا السنة».
المقصد الثاني
في الأحكام وفيه
بحوث (الأول) ـ في بيان ما به يتحقق التنجيس وما يلحق ذلك ويتعلق به وفيه مسائل :
(الأولى) ـ الظاهر
ان كل نجاسة عينية فهي مؤثرة في تنجيس ما تلاقيه برطوبة إلا الماء على تفصيل تقدم
فيه في باب المياه بين ما ينفعل بمجرد الملاقاة وما لا ينفعل واما مع اليبوسة فلا
، وكل ما حكم بنجاسته شرعا فهو مؤثر للتنجيس في غيره مع الرطوبة أيضا ، وقد وقع
الخلاف في كل من الكليتين فهنا مقامان :
(الأول) ـ في
بيان الخلاف في الكلية الاولى وهي عدم تعدى النجاسة مع
__________________
اليبوسة فإنه قد وقع الخلاف في تعدي نجاسة الميتة مع اليبوسة ، فظاهر جملة
من الأصحاب التعدي فإن لهم في ذلك أقوالا متعددة ، فقيل بتأثيرها مطلقا قال في
المعالم وهو صريح كلام العلامة في النهاية وظاهره في مواضع أخر من كتبه وفي بعض
عبارات المحقق اشعار به. أقول : وهو صريح والده في الروض بالنسبة إلى نجاسة الميت
من الإنسان حيث قال ـ بعد ذكر خبري الحلبي وإبراهيم الآتيين وكلام في البين ـ ما
لفظه : ودلا ايضا على ان نجاسة الميت تتعدى مع رطوبته ويبوسته للحكم بها من غير
استفصال ، وقد تقرر في الأصول ان ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال
يدل على العموم في المقال وإلا لزم الإغراء بالجهل. انتهى. وقيل بعدم تأثيرها بدون
الرطوبة مطلقا كغيرها من النجاسات ، قال في المعالم صرح به بعض المتأخرين. أقول :
الظاهر انه المحقق الشيخ علي (قدسسره) فإنه صرح بذلك. وقيل بالتفصيل بموافقة الأول في ميتة
الآدمي والثاني في ميتة غيره ، اختاره جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في
التذكرة والشهيد في الذكرى ، وقيل بموافقة القول الأول في الآدمي مطلقا وموافقة
الثاني في إيجاب غسل ما تلاقيه ميتة غير الآدمي لا في نجاسته ، ويظهر ذلك من
المنتهى.
وقد تلخص من
ذلك بالنسبة إلى ميتة الآدمي ان في نجاسته قولين : (أحدهما) كون نجاسته عينية محضة
مطلقا مع الرطوبة أو اليبوسة فعلى هذا ينجس ما يلاقي الميت برطوبة كان أو يبوسة ،
وهذا هو المشهور كما عرفت من ذهاب جماعة من فضلاء الأصحاب إليه كالعلامة في
النهاية والتذكرة والمنتهى والشهيدين في الروض والذكرى والمحقق كما تقدم نقله عن المعالم
وغيرهم. و (ثانيهما) كونها عينية محضة مع الرطوبة خاصة كغيرها من النجاسات واما مع
اليبوسة فلا تتعدى نجاستها ، وهو اختيار المحقق الشيخ علي كما عرفت. ثم انه على
القول الأول فهل تكون نجاسة الملاقي عينية محضة كسائر النجاسات التي لا تتعدى إلا
مع الرطوبة خاصة دون اليبوسة أو انها حكمية لا تتعدى إلى الملاقي لها مطلقا وانما
توجب غسل ذلك الذي لاقى بدن الميت خاصة؟ والأول ظاهر الأكثر.
وهو اختيار المحقق الشيخ علي بناء على القول المذكور حيث قال في شرح
القواعد بعد البحث في المسألة : «والتحقيق ان نجاسة الميت ان قلنا انها تتعدى ولو
مع اليبوسة فنجاسة الماس عينية بالنسبة إلى العضو الذي وقع به المس حكمية بالنسبة
الى جميع البدن فلا بد من غسل العضو ثم الغسل ان قلنا انها انما تتعدى مع الرطوبة
وهو الأصح فمعها تثبت النجاستان وبدونها تثبت نجاسة واحدة وهي الشاملة لجميع البدن».
انتهى. والثاني ظاهر العلامة في المنتهى حيث قال في أحكام ميت الآدمي : «لو مسه
رطبا ينجس بنجاسة عينية لما يأتي من ان الميت نجس ولو مسه يابسا فالوجه ان النجاسة
حكمية فلو لاقى ببدنه بعد ملاقاته الميت رطبا لم يؤثر في تنجيسه لعدم دليل التنجيس
وثبوت الأصل الدال على الطهارة» انتهى. وهو ظاهر ابن إدريس أيضا كما سيأتي ذكره ان
شاء الله تعالى.
واما بالنسبة
الى غير الآدمي من ذوات النفس فقولان أيضا (أحدهما) الاقتصار في تعدي نجاستها على
حال الرطوبة فلا تتعدى مع اليبوسة. وهو قول المحقق الشيخ علي والشهيد في الذكرى
والعلامة في التذكرة. و (الثاني) التعدي مع اليبوسة أيضا وبه صرح العلامة في
المنتهى. ثم انه على تقدير هذا القول فهل تكون نجاسة الملاقي عينية أو حكمية ظاهره
في المنتهى الثاني على اشكال ، قال في الكتاب المذكور بعد ذكر ميتة غير الآدمي : لا
فرق بين ان يمس الميتة برطوبة أم لا في إيجاب غسل اليد خاصة. ثم قال بعد ذلك بأسطر
يسيرة : هل تنجس اليد لو كانت الميتة يابسة؟ فيه نظر ينشأ من كون النجاسات العينية
يابسة غير مؤثرة في الملاقي ومن عموم وجوب الغسل وانما يكون مع التنجيس ، وحينئذ
تكون نجاستها عينية أو حكمية؟ الأقرب الثاني فلو لامس رطبا قبل غسل يده لم يحكم
بنجاسته على اشكال. انتهى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان حجة الأول القول وهو تعدي نجاسة ميت الآدمي مطلقا ما قدمناه من الأخبار
في الفصل الخامس في نجاسة الميتة فإنها دالة بإطلاقها على تعدي نجاسته مع الرطوبة
كان أو اليبوسة بالتقريب الذي تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروض
وحجة القول الثاني وهو عدم تعديها مع اليبوسة مع الأصل قوله (عليهالسلام) في موثقة عبد الله بن بكير : «كل شيء يابس ذكي». المؤيد بجملة من الاخبار الدالة
على عدم تعدي النجاسة مع اليبوسة والظاهر ان تقييد المطلق أقرب من تخصيص العام
وحينئذ فالظاهر حمل إطلاق تلك الاخبار على الملاقاة بالرطوبة من أحدهما ، ومما
يستأنس به لذلك قوله (عليهالسلام) في رواية إبراهيم بن ميمون المتقدمة «ما أصاب ثوبك منه». في الموضعين فان فيه إشارة إلى تعدى رطوبة أو قذر من
الميت ، والى هذا القول يميل كلام المفاتيح ، وظاهر المدارك التوقف في الحكم ،
وظاهر المعالم ترجيح القول المشهور لحسنة الحلبي وعدم نهوض موثقة ابن بكير بالمعارضة لقصورها من حيث
السند ، والمسألة لا تخلو من اشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل حال وان كان القول
بالطهارة لا يخلو من قوة. واما حجة القول في ميتة غير الآدمي باختصاص التعدي
بالرطوبة فلنجاسة الميتة ودلالة الأخبار الكثيرة في مواضع متفرقة على ان ملاقاة
النجاسة بالرطوبة موجب لتعديها والحكم مجمع عليه كما تقدم نقله ، وتوقف التعدي مع
اليبوسة على الدليل والذي ثبت على تقدير تسليمه مخصوص بميت الإنسان واما غيره
فالحكم فيه كسائر النجاسات العينية لا تتعدى نجاستها إلا مع الرطوبة ، ويدل على
ذلك أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت هل تصلح
الصلاة فيه قبل ان يغسله. قال ليس عليه غسله وليصل فيه ولا بأس». وحجة القول
بالتعدي في نجاسة غير الآدمي مع اليبوسة كما ذكره العلامة في المنتهى على ما نقله
بعض الأصحاب مرسلة يونس المتقدمة قريبا في مسألة الخلاف في نجاسة الأرنب والثعلب قيل وتقريب الدلالة في الأمرين واحد وهو ترك الاستفصال
عن كون الإصابة والمس برطوبة أو غيرها وهو دليل على تعميم الحكم
__________________
وانتفاء الفرق. والحق ان الرواية المذكورة بناء على ما حققناه سابقا في
الموضع المشار اليه وبينا معارضتها بالأخبار المستفيضة لا تصلح مستندا في المقام.
(تذنيب) ـ يشتمل
على فائدتين (الأولى) ـ اعلم ان النجاسة العينية تطلق في كلام الفقهاء على معان
وتقابلها الحكمية في كل منها (فأحدها) ان يراد بها ما تتعدى نجاسته مع الرطوبة وهو
مطلق الخبث وهو الأكثر دورانا في كلامهم. وتقابلها الحكمية بمعنى ما لا تتعدى بان
يكون المحل الذي قامت به معها طاهرا لا ينجس الملاقي له ولو مع الرطوبة ويحتاج
زوال حكمها إلى مقارنة النية كنجاسة بدن الجنب والحائض ونحوها المتوقف على الغسل. و
(ثانيها) ما إذا كانت عين النجاسة محسوسة مع قبول الطهارة كالدم والغائط والبول
قبل جفافه ونحوها ، وتقابلها الحكمية بهذا الاعتبار وهو ما لا يكون له جرم ولا عين
يشار إليها كالبول اليابس في الثوب. و (ثالثها) ما يكون عينا غير قابل للتطهير
كالكلب والخنزير وتقابلها الحكمية بهذا الاعتبار وهو ما يقبل التطهير كالميت بعد
برده وقبل تطهيره بالغسل ، وعلى هذا فتكون نجاسة الميت عينية بالمعنى الأول
والثاني حكمية بالمعنى الثالث فهي عينية من جهة وحكمية من جهة ، واما نجاسة الماس
له فإنها حكمية بالمعنى الأول برطوبة كان المس أو يبوسة وعينية بالنسبة إلى العضو
الذي وقع المس به برطوبة إجماعا ومع اليبوسة يبنى على الخلاف المتقدم.
(الثانية) ـ قد
صرح جمع من الأصحاب بأن المعتبر من الرطوبة التي يتوقف تأثير النجاسة عليها ما
يتعدى منها شيء إلى الملاقي فاما القليلة البالغة في القلة إلى حد لا يتعدى منها
شيء فهي في حكم اليبوسة. وهو جيد ويدل عليه اخبار موت الفأرة في الدهن الجامد
ونحوه وانه يؤخذ ما حولها خاصة والباقي طاهر ، والتقريب فيها ان الجمود في الدهن
لا يبلغ الى حد اليبس بل الرطوبة فيه في الجملة موجودة كما لا يخفى.
(المقام الثاني)
ـ في بيان الخلاف في الكلية الثانية وهي ان كل ما حكم
__________________
بنجاسته شرعا فهو مؤثر في تنجيس ما يلاقيه برطوبة ، والخلاف هنا وقع من
العلامة وابن إدريس والمحدث الكاشاني :
أما العلامة
فلما صرح به في المنتهى في نجاسة ميت الآدمي كما قدمنا نقله من انه لو مسه يابسا
ولاقى ببدنه بعد ملاقاته للميت رطبا لم يؤثر في تنجيسه لعدم دليل التنجيس وثبوت
الأصل الدال على الطهارة. وأنت خبير بما فيه فان النصوص المشار إليها آنفا قد دلت
على وجوب غسل الملاقي لبدن الميت مطلقا وما ذاك إلا لنجاسته لأن أكثر النجاسات
انما استفيد الحكم بنجاستها من الأمر بغسلها وإزالتها ونحوه مما تقدم ذكره في غير
مقام ، ومن حكم النجس تعدي نجاسته لما يلاقيه برطوبة كما هو المستفاد من الاخبار
في غير مقام ، ولعله بنى على ان الأمر بالغسل لا يستلزم حصول التنجيس إذ هو أعم من
ذلك ، وفيه ما عرفت. ثم العجب من العلامة فيما قدمنا من كلاميه في ميتة الآدمي
وميتة غيره في المنتهى حيث جزم بكون النجاسة في الأول في صورة الملاقاة باليبوسة
حكمية واستشكل في الثاني في الصورة المذكورة في كونها حكمية أو عينية ، مع انه في
ميتة الآدمي لم يتوقف في حصول التنجيس بها بين كون الملاقاة برطوبة أو يبوسة وفي
ميتة غير الآدمي توقف في النجاسة مع اليبوسة كما عرفت.
واما ابن إدريس
فإنه قال في السرائر بعد الكلام في التغسيل : «ثم ينشفه بثوب نظيف ويغتسل الغاسل
فرضا واجبا في الحال أو فيما بعد فان مس مائعا قبل اغتساله وخالطه لا يفسده ولا
ينجسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل
غسله مائع فإنه لا ينجس ذلك المائع وان كان الإناء يجب غسله لانه لاقى جسد الميت
وليس كذلك المائع الذي حصل فيه لانه لم يلاق جسد الميت ، وحمله على ذلك قياس
وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة الى ان يقوم دليل قاطع
للعذر وان كنا متعبدين يغسل ما لاقى جسد الميت لان هذه نجاسات حكميات وليست عينيات
والأحكام الشرعية نثبتها بحسب الأدلة الشرعية ، ولا خلاف ايضا بين الأمة كافة ان
المساجد يجب ان تنزه وتجنب النجاسات
العينيات ، وقد أجمعنا بلا خلاف في ذلك بيننا على ان من غسل ميتا له ان
يدخل المسجد ويجلس فيه فضلا عن مروره وجوازه ودخوله اليه فلو كان نجس العين لما
جاز ذلك وادى الى تناقض الأدلة. وأيضا فإن الماء المستعمل في الطهارة على ضربين ما
استعمل في الصغرى والأخر في الكبرى ، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا انه
طاهر مطهر والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصحيح عند محققي أصحابنا انه ايضا
طاهر مطهر ، وخالف فيه من أصحابنا من قال انه طاهر تزال به النجاسات العينيات ولا
ترفع به الحكميات ، فقد اتفقوا جميعا على انه طاهر. ومن جملة الأغسال والطهارات
الكبرى غسل من غسل ميتا فلو نجس ما يلاقيه من المائعات لما كان الماء الذي قد
استعمله في غسله وازالة حدثه طاهرا بالاتفاق والإجماع الذين أشرنا إليهما» انتهى.
واعترضه المحقق
في هذا المقام واستوفى الكلام في الرد عليه بما هذا لفظه : فرع ـ إذا وقعت يد
الميت بعد برده وقبل تطهيره في مائع فإن ذلك المائع ينجس ولو وقع ذلك المائع في
آخر وجب الحكم بنجاسة الثاني ، وخبط بعض المتأخرين فقال إذا لاقى جسد الميت ، ثم
ساق كلامه ملخصا ثم قال : والجواب عما ذكره ان نقول لا نسلم أن الإناء ينجس
بملاقاة الميت أو اليد الملامسة للميت بعد برده ولو لاقت مائعا لم ينجس. قوله لان
الحكم بنجاسة المائع قياس على نجاسة ما لاقى الميت ، قلنا هذا الكلام ركيك لا يصلح
دليلا على دعواه بل يصلح جوابا لمن يستدل على نجاسة المائع الملاقي اليد بالقياس
على نجاسة اليد الملاقية للمائع ، لكن أحدا لم يستدل بذلك بل نقول لما أجمع
الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه
نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع لا بالقياس على نجاسة اليد ، فاذن ما
ذكره لا يصلح دليلا ولا جوابا. قوله لا خلاف ان المساجد يجب ان تجنب النجاسات ولا
خلاف ان لمن مس ميتا ان يجلس في المسجد ويستوطنه ، قلنا هذه دعوى عرية عن البرهان
ونحن نطالبك بتحقيق الإجماع على هذه الدعوى ونطالبك اين وجدتها؟ فانا لا نوافقك
على ذلك بل نمنع
الاستيطان كما نمنع من على جسده نجاسة ويقبح إثبات الدعوى بالمجازفات. قوله
الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر ، قلنا هذا حق. قوله فيكون ماء المغتسل من
ملامسة الميت طاهرا ، قلنا هذا الإطلاق ممنوع وتحقيق هذا ان الملامس للميت تنجس
يده نجاسة عينية ويجب عليه الغسل وهو طهارة حكمية فإن اغتسل قبل غسل يده نجس ذلك
الماء بملاقاة يده التي لامس بها الميت اما لو غسل يده ثم اغتسل لم يحكم بنجاسة
ذلك الماء ، وكذا نقول في جميع الأغسال الحكمية لأن ماء الغسل من الجنابة طاهر وان
كان الغسل يجب لخروج المني وينجس موضع خروجه ولو اغتسل قبل غسل موضع الجنابة كان
ماء الغسل نجسا بالملاقاة لمخرج النجاسة إجماعا ، وكذلك غسل الحيض يجب عند انقطاع
دم الحيض ويكون المخرج نجسا فلو اغتسلت ولما تغسل المخرج كان ماء الغسل نجسا ولو
إزالته ثم اغتسلت كان ماء الغسل طاهرا ، وكذا جميع الأغسال ، فقد بان ضعف ما ذكره
المتأخر. اللهم إلا ان يقول ان الميت ليس بنجس وانما يجب الغسل تعبدا كما هو مذهب
الشافعي . لكن هذا مخالف لما ذكره الشيخ أبو جعفر فإنه ذكر انه
نجس بإجماع الفرقة وقد سلم هذا المتأخر نجاسته ونجاسة ما يلاقي بدنه. ولو قال انا
أوجب غسل ما لاقى بدنه ولا أحكم بنجاسة ذلك الملاقي ، قلنا فحينئذ يجوز استصحابه
في الصلاة والطهارة به لو كان ماء ، ثم يلزم ان يكون الماء الذي يغسل به الميت
طاهرا ومطهرا ، ويلزمك حينئذ ان تكون ملاقاته مؤثرة في الثوب منعا وغسلا وغير
مؤثرة في الماء القليل وهو باطل. انتهى.
قال في المعالم
بعد نقله هنا كلام المحقق (قدسسره) : «وكأنه أراد من النجاسة التي ادعى الإجماع على تنجيس
المائع بوقوعها فيه ما يشمل المتنجس لينتظم الدليل مع الدعوى وإلا فالإجماع على
تأثير عين النجاسة لا يدل على تأثير المتنجس كما هو واضح ، وإذا ثبت انعقاد
الإجماع على تأثير المتنجس مع الرطوبة كالنجاسة واندفع به قول ابن
__________________
إدريس فكذا يندفع به قول العلامة ، وربما نازعا في تحقق هذا الإجماع»
انتهى. وظاهره انه لا دليل على تعدي النجاسة من المتنجس مع ملاقاته بالرطوبة غير
الإجماع مع انه قد ورد في كثير من الأخبار الأمر بغسل الثوب والبدن واعادة الصلاة
من ملاقاة الماء المتنجس كما في أحاديث البئر وغيرها وهي كثيرة متفرقة في الأحكام.
واما المحدث
الكاشاني فإنه قد تفرد بالقول بان المتنجس بعد ازالة عين النجاسة عنه بالتمسح لا
تتعدى نجاسته الى ما يلاقيه برطوبة ، وقد تقدم البحث معه في ذلك في صدر الباب
الثاني في الوضوء إلا انا لم نعط المسألة فيه حقها من التحقيق ، وحيث كان الأنسب
بها هو هذا المقام فلا بد من ذكرها واعادة البحث فيها بما يحيط بأطراف الكلام
بإبرام النقض ونقض الإبرام ، وسيأتي البحث فيها هنا في مسألة على حدة قريبا ان شاء
الله تعالى.
(المسألة
الثانية) ـ لا ريب في الحكم بالتنجيس متى حصل العلم بملاقاة النجاسة على الوجه
الذي بينا كونه مؤثرا في التنجيس ، اما لو استند ذلك الى الظن فقد اختلف في ذلك
كلام الأصحاب على أقوال : (الأول) ـ القول بعدم تأثير الظن مطلقا وان استند الى سبب
شرعي بل لا بد من القطع واليقين ، وهو المنقول عن ابن البراج الشيخ عبد العزيز
الطرابلسي. (الثاني) ـ الاكتفاء بالظن وقيامه مقام العلم مطلقا استند الى سبب شرعي
كشهادة العدلين واخبار المالك أم لا ، وهو المنقول عن الشيخ ابي الصلاح تقي بن نجم
الحلبي. (الثالث) ـ انه ان استند الى سبب شرعي من شهادة العدلين واخبار ذي اليد
وان لم يكن عدلا قبل وإلا فلا ، وهو قول جماعة من الأصحاب :منهم ـ العلامة في
المنتهى وموضع من التذكرة ، قال في المنتهى : لو أخبر عدل بنجاسة الماء لم يجب
القبول اما لو شهد عدلان فالأولى القبول. وقال في موضع آخر : لو أخبر العدل بنجاسة
إنائه فالوجه القبول ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول ايضا. واحتج
لقبول العدلين بان شهادتهما معتبرة في نظر الشارع قطعا ولهذا لو كان الماء مبيعا
فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا وشهد له عدلان ثبت جواز الرد. وقال في
المعالم بعد نقل ذلك عنه : وما فصله في المنتهى هو المشهور بين المتأخرين وقد ذكر
نحوه في موضع من التذكرة. (الرابع) ـ انه ان استند الى سبب كقول العدل فهو كما لو
علم وان لم يستند الى سبب كما في ثياب مدمني الخمر والقصابين والصبيان وطين
الشوارع والمقابر المنبوشة لم يحكم بالتنجيس ، اختاره العلامة في موضع من التذكرة
، وجزم المحقق في المعتبر بعدم القبول مع اخبار العدل الواحد ، ونقل عن ابن البراج
القول بعدم القبول أيضا في العدلين ، ثم قال والأظهر القبول لثبوت الأحكام
بشهادتهما عند التنازع كما لو اشتراه وادعى المشترى نجاسته قبل العقد فلو شهد
شاهدان لساغ الرد وهو مبني على ثبوت العيب. ونفى عنه البأس في المعالم بعد نقله ،
ونسبه العلامة في المختلف الى ابن إدريس أيضا. وربما قيد بعضهم قبول خبر العدلين
في ذلك بذكر السبب. قال لاختلاف العلماء في المقتضى للتنجيس إلا ان يعلم الوفاق
فيكتفى بالإطلاق ، ونقله في المعالم عن بعض الأصحاب واستحسنه قال وهذا الاشتراط
حسن ووجهه ظاهر ، ثم نقل فيه انه قيد جماعة الحكم بقبول اخبار الواحد بنجاسة مائه
بما إذا وقع الاخبار قبل الاستعمال فلو كان بعده لم يقبل بالنظر الى نجاسة
المستعمل له فان ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة الغير فلا يكفي فيه الواحد وان كان
عدلا ، ولأن الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه ، قال
وبهذا التقييد صرح في التذكرة.
أقول : هذا
ملخص ما حضرني من الأقوال في المسألة ، وقد روى المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم)
بأسانيدهم المعتبرة عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر». وروى
الشيخ عن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم».
__________________
والظاهر ان من اعتبر القطع واليقين كما تقدم نقله عن ابن البراج حمل العلم
هنا على ذلك كما هو اصطلاح أهل المعقول ، ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه
بأن الطهارة معلومة بالأصل وشهادة الشاهدين لا تفيد إلا الظن فلا يترك لأجله
المعلوم. ومن اعتبر الظن الشرعي مطلقا كأبي الصلاح حمل العلم هنا على ما هو أعم من
اليقين والظن مطلقا ولهذا نقل عنه الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الشرعيات كلها
ظنية وان العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل. ومن اعتبر الظن المستند الى سبب
شرعي حمل العلم على ما هو أعم من اليقين أو العلم الشرعي ، ويقرب منه القول الرابع
كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد أجاب في المعالم عن حجة
ابن البراج بأن شهادة العدلين في معنى العلم شرعا ، وبان معلومية الطهارة بالأصل
ان أراد بها تيقن عدم عروض منجس فهو ممنوع وان أراد حكم الشارع بالطهارة قطعا
استنادا الى الأصل فكذلك شهادة الشاهدين. انتهى.
أقول : وتحقيق
ذلك بوجه أوضح وبيان أفصح هو ان يقال : (أولا) ـ ان اشتراطه اليقين والعلم في
الحكم بالنجاسة ان كان مخصوصا بالنجاسة دون ما عداها من الطهارة والحلية والحرمة
فهو تحكم محض ، وان كان الحكم في الجميع واحدا فيقين الطهارة الذي اعتمده ليس إلا
عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة وهو أعم من العلم بالعدم ومثله يقين الحلية. و
(ثانيا) ـ انه قد روى الشيخان الكليني والطوسي في الكافي والتهذيب بسنديهما عن
الصادق (عليهالسلام) في الجبن قال : «كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك
ان فيه ميتة». ورؤيا ايضا بسنديهما عنه (عليهالسلام) «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل
الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، الى ان قال والأشياء
__________________
كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». والحكم في
المسألتين من باب واحد بل الخبران وان كان موردهما الحل والحرمة إلا ان التحريم في
الخبر الأول انما نشأ من حيث النجاسة والخبران صريحان في الاكتفاء بالشاهدين في
ثبوت كل من النجاسة والحرمة.
ومما يؤيد
الاكتفاء بشهادة العدلين في الحكم بالنجاسة ان الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في
انه لو كان الماء مبيعا فادعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا واقام شاهدين عدلين
بذلك فإنه يتسلط على الفسخ وما ذاك إلا لثبوت النجاسة والحكم بها كما قد تقدم ذكره
في عبارتي المحقق والعلامة. وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من إمكان
المناقشة في ذلك بان اعتبار شهادتهما في نظر الشارع مطلقا بحيث يشمل ما نحن فيه
ممنوع وقبول شهادتهما في الصورة المفروضة لا يدل على أزيد من ترتب جواز الرد أو
أخذ الأرش عليه واما ان يكون حكمه حكم النجس في سائر الأحكام فلا بل لا بد له من
دليل. انتهى ـ مما لا ينبغي ان يصغى اليه ، كيف واستحقاق جواز الرد أو أخذ الأرش
انما هو فرع ثبوت النجاسة وحكم الشارع بها ليتحقق العيب الذي هو سبب لذلك ومتى
ثبتت النجاسة شرعا ترتبت عليها أحكامها التي من جملتها هنا العيب الموجب للرد أو
الأرش.
واما ما احتج
به أبو الصلاح فإنه قد أجاب عنه في المعالم بالمنع من العمل بمطلق الظن شرعا ، قال
وثبوته في مواضع مخصوصة لدليل خاص لا يقتضي التعدية إلا بالقياس. انتهى. وهو جيد ،
ويؤكده ان المستفاد من الأخبار ان يقين الطهارة ويقين الحلية لا يخرج عنه إلا
بيقين مثله كالأخبار الواردة في من تيقن الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث في
ثوبه أو بدنه فإنه لا يخرج عن ذلك إلا بيقين مثله ، ومن تلك الأخبار صحيحة عبد
الله بن سنان في الثوب إذا أعير الذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر
__________________
ويأكل لحم الخنزير حيث قال (عليهالسلام): «صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو
طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه». وما ورد في
الجبن من قوله (عليهالسلام) : «ما علمت أنه ميتة فلا تأكله وما لم تعلم فاشتر وبع
وكل ، الى ان قال والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما
أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان». وما ورد في موثقة عمار «في الرجل يجد في إنائه فأرة وكانت متفسخة وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا
واغتسل وغسل ثيابه ، حيث قال (عليهالسلام) ليس عليه شيء لأنه لا يعلم متى سقطت ، ثم قال لعله
انما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها». ولا يخفى انه لو جاز العمل بالظن مطلقا لكان
الوجه هو النجاسة والحرمة في جميع ما دلت عليه هذه الاخبار وأمثالها على طهارته
وحليته ولا سيما موثقة عمار لظهورها في سبق موت الفأرة لمكان التفسخ مع انه (عليهالسلام) عملا بسعة الشريعة لم يلتفت الى ذلك وقال : «لعلها
انما سقطت تلك الساعة» ومنها ما ورد في صحيحة زرارة في اصابة المني للثوب من انه «إذا احتلم الرجل فأصاب
ثوبه مني فليغسل الذي اصابه وان ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه
بالماء. الحديث». وهو صريح في المطلوب والنضح فيه محمول على الاستحباب كما في
نظائره.
والتحقيق عندي
في هذا المقام بما لا يحوم للناظر حوله نقض ولا إبرام هو ان كلا من الطهارة
والنجاسة والحل والحرمة ليست أمورا عقلية بل هي أمور شرعية مبنية على التوقيف من
صاحب الشرع ولها أسباب معينة معلومة منه تدور مدارها ، والمعلوم
__________________
منه ان حصول الطهارة والحلية هي عبارة عن عدم علم المكلف بالنجس والمحرم لا
عبارة عن عدم ملاقاة النجاسة وحصول السبب المحرم واقعا ، وحصول النجاسة عبارة عن
مشاهدة المكلف لذلك أو اخبار المالك بنجاسة مائه وثوبه مثلا أو شهادة الشاهدين
وهكذا في ثبوت الحرمة ، وليس ثبوت النجاسة لشيء واتصافه بها عبارة عن مجرد ملاقاة
عين أحد النجاسات في الواقع ونفس الأمر خاصة وان كان هو المشهور حتى انه يقال
بالنسبة الى غير العالم بالملاقاة ان هذا نجس في الواقع وطاهر بحسب الظاهر بل هو
نجس بالنسبة إلى العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المتقدمة طاهر بالنسبة الى غير
العالم ، والشارع لم يجعل شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس الأمر.
وحينئذ فلا يقال ان اخبار المالك وشهادة العدلين انما يفيدان ظن النجاسة لاحتمال
ان لا يكون كذلك في الواقع كيف وهما من جملة الأسباب التي رتب الشارع الحكم
بالنجاسة عليها ، وبالجملة فحيث حكم الشارع بقبول شهادة العدلين واخبار المالك في
ذلك فقد حكم بثبوت الأحكام بهما فيصير الحكم حينئذ معلوما من الشارع ولا معنى
للنجس شرعا كما عرفت إلا ذلك وان فرض عدم ملاقاة النجاسة في الواقع ، ألا ترى انه
وردت الأخبار وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ان الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين
الحلية حتى يعلم النجس والحرام بعينه مع ان هذا اليقين كما عرفت ليس إلا عبارة عن
عدم العلم بالنجاسة والحرمة وعدم العلم لا يدل على العدم ، فيجوز ان تكون تلك
الأشياء كلا أو بعضا بحسب الواقع ونفس الأمر على النجاسة والحرمة لو كان كل من
النجاسة والحرمة من الأمور النفس الأمرية الواقعية بدون علم المكلف بذلك ، وكذا
القول في حكم الشارع بقبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه وطهارة ما في أسواق
المسلمين وحليته لعين ما ذكرنا ، وبالجملة فالعلم واليقين المتعلق بهذه الأحكام
ليس عبارة عما توهموه من الإناطة بالواقع ونفس الأمر وان لم يظهر للمكلف وان متيقن
النجاسة ليس إلا عبارة عما وجد فيه النجاسة حتى انه يصير ما عدا هذا الفرد مما
أخبر به المالك أو شهد به العدلان مظنون النجاسة ، إذ لو كان كذلك للزم مثله في
جانب الطهارة إذ الجميع من
باب واحد فإنها أحكام متلقاة من الشارع فيختص الحكم بالطهارة يقينا حينئذ
بما باشر المكلف تطهيره ولم يغب عنه بعد ذلك وإلا لكان مظنون الطهارة أو مرجوحها ،
مع ان المعلوم من الشرع كما عرفت خلافه فإنه قد حكم بأن الأشياء كلها على يقين
الطهارة حتى يعلم المزيل عنها.
ويؤكد ما صرنا
إليه في هذا المقام وان غفل عنه جملة من علمائنا الأعلام ما نقله في المعالم عن
السيد المرتضى (رضياللهعنه) وارتضاه جملة ممن تأخر عنه من ان وجوب الحكم على
القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث انها توجب حصول الظن بل من حيث ان الشارع
جعلها سببا لوجوب الحكم على القاضي كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة. وأيده
بعض من تأخر عنه بأنه كثيرا ما لا يحصل الظن بشهادتهما لمعارضة قرينة حالية مع
وجوب الحكم على القاضي. انتهى. ومثله يأتي فيما ذكرنا من الأسباب كما لا يخفى على
ذوي الألباب.
ومما ذكرناه من
هذا التحقيق الرشيق يظهر لك ان أظهر الأقوال هو القول المشهور وان الخبر المتقدم
اعني قوله (عليهالسلام): «الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر». ظاهر الانطباق
عليه ، والتقريب فيه ان المراد بالعلم فيه ما هو المتبادر من اللفظ وهو اليقين والقطع
لكن لا بالنظر الى الواقع ونفس الأمر من حيث هو إذ لا مدخل له كما عرفت في الأحكام
الشرعية بل بالنظر الى الأسباب التي جعلها الشارع مناطا للنجاسة وعلم المكلف بها ،
فيقين الطهارة والنجاسة إنما يدور على ذلك وجودا وعدما فالطاهر شرعا هو ما لم يعلم
المكلف بملاقاة النجاسة له لا ما لم تلاقه النجاسة مطلقا والنجس هو ما علم المكلف
بنجاسته بأحد الأسباب لا ما لاقته النجاسة مطلقا.
ولم أقف على من
تنبه لما ذكرنا من هذا التحقيق في المقام من علمائنا الاعلام إلا الفاضل المحقق
السيد نعمة الله الجزائري في رسالة التحفة ، حيث قال بعد ان نقل عن بعض معاصريه من
علماء العراق وجوب عزل السؤر عن الناس ، ونقل عنهم ان من أعظم
أدلتهم قولهم انا قاطعون بان في الدنيا نجاسات وقاطعون أيضا بان في الناس
من لا يتجنبها والبعض الآخر لا يتجنب ذلك البعض فإذا باشرنا أحدا من الناس فقد
باشرنا مظنون النجاسة أو مقطوعها ، الى ان قال فقلنا لهم يا معشر الاخوان ان الذي
يظهر من اخبار الأئمة الأطهار (عليهمالسلام) التسامح في أمر الطهارات وان الطاهر والنجس هو ما حكم
الشارع بطهارته ونجاسته لا ما باشرته النجاسة والطهارة فالطاهر ليس هو الواقع في
نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس وليس له واقع سوى حكم الشارع
بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين ، الى ان قال وبهذا التحقيق. الى آخر ما سيأتي نقله
في المقام ان شاء الله تعالى.
واما ما ذكره
العلامة في التذكرة من ثبوت النجاسة بالعدل الواحد فقد تقدم رد المحقق له في المعتبر
وإنكار العلامة في المنتهى له ايضا ، قال في المعالم واما ما ذهب إليه في التذكرة
فلم يتعرض للاحتجاج عليه فيها ولكنه في النهاية احتمل قبول اخبار العدل الواحد
بنجاسة إناء معين ان وجد غيره ، ووجهه بأن الشهادة في الأمور المتعلقة بالعبارة
كالرواية والواحد فيها مقبول فيقبل فيما يشبهها من الشهادة. وربما كان التفاته في
كلام التذكرة إلى نحو هذا التوجيه ، وحاله لا يخفى. انتهى.
أقول : الحق
عندي ان قبول قول العدل الواحد في هذا المقام لا يخلو من قوة لا لما ذكر من هذا
التعليل السخيف بل لدلالة جملة من الاخبار على افادة قوله العلم ، ومنها ما رواه
الشيخ عن إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا
فقال لي ان حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير فمات ولم
اشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي انه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير
التي أمرتك ان تدفعها الى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ولم
يعلم أخوه ان عندي شيئا؟ فقال ارى ان
__________________
تتصدق منها
بعشرة دنانير كما قال». وفيه دلالة على ثبوت الوصية بقول الثقة. وما رواه الشيخ في
التهذيب والصدوق عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال فيه : «ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس
فأمره ماض ابدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل
عن الوكالة». والأصحاب قد صرحوا في هذه المسألة بأنه لا ينعزل الوكيل إلا مع العلم
، ومنه يعلم ان نظم اخبار الثقة في سلك المشافهة الموجبة للعلم ظاهر في انه مثله
في إفادة العلم المشترط في المسألة ونحو ذلك من الأخبار الدالة على جواز وطء الأمة
بغير استبراء إذا كان البائع عدلا قد أخبر بالاستبراء ، والأخبار الدالة على
الاعتماد في دخول الوقت المشروط فيه العلم على أذان الثقة ، الى غير ذلك من
المواضع التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر قوة القول المذكور كما قدمنا الإشارة
اليه وان لم تخطر هذه الأدلة ببال صاحبه.
تنبيهات
(الأول) ـ ظاهر
الأصحاب الاتفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونحوهما ونجاستهما ،
وناقش فيه المحقق الخوانساري في شرح الدروس حيث قال : واما قبول قول المالك عدلا
كان أو فاسقا فلم نظفر له على حجة وقد يؤيد بما رواه في التهذيب عن إسماعيل بن عيسى
قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل
عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم
المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه». وجه التأييد ان ظاهره
ان قول المشركين يقبل في أموالهم انها ذكية وإلا فلا فائدة في السؤال عنهم وإذا
قبل قول المشركين فقول المسلمين بطريق اولى. لكن
__________________
سند الرواية غير نقي مع ان في الظهور المذكور تأملا. انتهى.
أقول : ما ذكره
من الرواية المذكورة وزعم دلالتها على قبول قول المشرك فالظاهر ان المعنى فيها ليس
على ما فهمه وان كان قد سبقه فيه الى ذلك المحدث الكاشاني في الوافي أيضا حيث قال
بعد نقل الخبر المذكور : وانما يجب السؤال إذا كان البائع مشركا لغلبة الظن حينئذ
بأنه غير ذكي إلا ان يخبر هو بأنه من ذبيحة المسلمين فيصير بالسؤال مشكوكا فيه
فجاز لبسه حينئذ حتى يعلم كونه ميتة. انتهى. ولا يخفى انه يرد على هذا التفسير (أولا)
انه لا مناسبة في ارتباط الجواب بالسؤال إذ السائل إنما سأل عن الاشتراء من المسلم
فكيف يجاب على تقدير الاشتراء من المشرك؟ و (ثانيا) انه لا معنى لقوله في آخر
الخبر : «وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» والأظهر عندي في معنى الخبر
المذكور هو انه لما سأل السائل عن حكم الشراء من السوق المذكورة إذا كان البائع
مسلما وانه هل يسأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب (عليهالسلام) بالتفصيل بأنه ان كان في تلك السوق من يبيع من
المشركين فعليكم السؤال من ذلك المسلم إذ لعله أخذه من المشركين وإذا رأيتم المسلم
يصلى فيه فلا تسألوا لأن صلاته فيه دليل على طهارته عنده ، ويفهم من الخبر بمفهوم
الشرط انه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليهم السؤال.
ومما يدل على
عدم السؤال إطلاق صحيحة البزنطي قال : «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا
يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، ان
الدين أوسع من ذلك». وأنت خبير بان الظاهر من الصحيحة المذكورة ـ حيث تضمنت نفي
المسألة المؤكد بالرد على الخوارج ونسبتهم الى تضييق الدين بالمسألة أو ما هو
نحوها ـ ان مع السؤال يقبل قول المسؤول وإلا لما حصل الضيق في الدين بالسؤال كما
لا يخفى ، إذ الظاهر ان المراد من الخبران جميع الأشياء بمقتضى سعة الدين المحمدي
__________________
على ظاهر الحل والطهارة ، والسؤال والفحص عن كل فرد فرد بأنه حلال أو حرام
أو طاهر أو نجس تضييق لها ورفع لسهولتها التي قد من الشارع بها على عباده ، ومعلوم
ان حصول الضيق انما يتم بقبول قول المالك بالنجاسة والحرمة. ومما يدل على المنع من
السؤال أيضا بعض الاخبار الواردة في الجبن حيث انه (عليهالسلام) اعطى الخادم درهما وامره أن يبتاع به من مسلم جبنا
ونهاه عن السؤال وحينئذ ففي هذه الاخبار ونحوها دلالة على قبول قول
المالك عدلا كان أو غيره.
ومما يدل على
ذلك ايضا ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن بكير قبل : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال
لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد». وهي ـ كما ترى ـ صريحة في قبول قول المالك في
طهارة ثوبه ونجاسته لحكمه (عليهالسلام) بإعادة الصلاة على المستعير لو صلى بعد الاعلام ، ويدل
على ذلك أيضا موثقة معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول
قد طبخ على الثلث وانا اعلم انه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على
النصف؟ فقال لا تشربه. قلت فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث
ولا يستحله على النصف يخبرنا ان عنده بختجا قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه نشرب منه؟ قال
نعم». ورواية علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصلي الى القبلة لا يوثق به اتى
بشراب زعم انه على الثلث أيحل شربه؟ قال لا يصدق إلا ان يكون مسلما عارفا». وموثقة
عمار بن موسى عن الصادق (عليهالسلام) «انه سأل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال ان كان
__________________
مسلما ورعا مأمونا فلا بأس ان يشرب». وقد دلت هذه الاخبار على قبول قول
المالك إلا في مقام الريبة وحصول الظن بكذبه وهو أمر خارج عن موضع البحث.
(الثاني) قد
عرفت مما تقدم ان الأصل الطهارة في كل شيء حتى يقوم الدليل الشرعي على النجاسة
ولا يكفي مجرد الظن ، وهذا الأصل وان لم يرد بقاعدة كلية فيما سوى الماء الا ما
يتناقله الفقهاء في كتب الاستدلال من قوله (عليهالسلام): «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر». مع عدم وجوده في
كتب الأخبار فيما اعلم إلا ان هذه مستفادة من جملة من الأخبار بضم بعضها الى بعض
بل ظاهرة من بعضها ايضا.
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الموثق عن عمار عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا
علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك». وهذا الخبر في معنى الخبر المشهور المشار
إليه إذ المراد بالنظافة انما هو الطهارة.
وعن حفص بن
غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهالسلام) قال قال : «ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم».
ومنها ـ صحيحة
عبد الله بن سنان قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر اني أعير الذمي ثوبي وانا اعلم انه يشرب
الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل ان أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر
ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه».
وفي الصحيح عن
معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام)
__________________
عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على
تلك الحال ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم. قال معاوية فقطعت له قميصا
وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ثم بعثت بها اليه (عليهالسلام) في يوم الجمعة حين ارتفع النهار فكأنه عرف ما أريد
فخرج فيها إلى الجمعة».
ورواية أبي
جميلة عن الصادق (عليهالسلام) : «انه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه وأصلي فيه؟ قال نعم
قال قلت يشربون الخمر؟ قال نعم نحن نشتري الثياب السابرية فتلبسها ولا نغسلها».
وروى عبد الله
بن جعفر في قرب الاسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) كان لا يرى بالصلاة بأسا في الثوب الذي يشترى من
النصارى واليهود والمجوس قبل ان يغسل يعني الثياب التي تكون في أيديهم فينجسونها
وليست ثيابهم التي يلبسونها». قوله «يعني الثياب. إلخ» من كلام الراوي تفسيرا لما
ذكره من الخبر ، والظاهر ان مراده أنها مظنة للنجاسة وانها لا تخلو منها غالبا.
وفي الصحيح عن
زرارة قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، ثم ساق الخبر الى ان قال قلت :
فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال
تغسله ولا تعيد الصلاة. فقلت لم ذاك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت
فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». وهذا الخبر وان كان مضمرا في التهذيب
الا انه مروي عن ابي جعفر (عليهالسلام)
__________________
كما صرح به في كتاب العلل وهو صريح في الدلالة على كلية الحكم المذكور وانه لا
ينصرف عن يقين الطهارة بالظن بل لا بد من اليقين الشرعي.
وفي الصحيح عن
ضريس الكناسي قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟
فقال اما ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكله واما ما لم تعلم فكله حتى تعلم انه
حرام». والمراد بالحرام هنا النجس فإنه كثيرا ما يطلق على ذلك كما قدمنا ذكره في
الكتاب.
وصحيحة الحلبي المروية
في الكافي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟
فقال صل فيها حتى يقال لك انها ميتة بعينها».
وصحيحته الأخرى
المروية في التهذيب قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال اشتر وصل فيها حتى
تعلم أنه ميتة بعينه».
ورواية الحسن
بن الجهم قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) اعترض السوق فاشتري خفا لا ادري أذكي هو أم لا؟ قال صل
فيه. قلت فالنعل؟ قال مثل ذلك. قلت اني أضيق من هذا ، قال أترغب عن ما كان أبو
الحسن (عليهالسلام) يفعله؟».
وصحيحة البزنطي
المتقدمة في سابق هذا التنبيه ومثلها رواية سليمان بن جعفر الجعفري «انه سأل العبد الصالح موسى بن جعفر (عليهالسلام) عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي
أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان
الدين أوسع من ذلك».
__________________
ورواية المعلى
بن خنيس قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول لا بأس بالصلاة في الثياب التي يعملها المجوس
والنصارى واليهود».
وروى في قرب
الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن البزنطي عن الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن الخفاف يأتي الرجل السوق فيشتري الخف
لا يدري أذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري؟ قال نعم انا اشتري الخف
من السوق وأصلي فيه وليس عليكم المسألة».
وبهذا الاسناد قال : «سألته عن الجبة الفراء يأتي الرجل السوق من
أسواق المسلمين فيشتري الجبة لا يدري أذكية هي أم لا يصلي فيها؟ قال نعم ان أبا
جعفر (عليهالسلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان
الدين أوسع من ذلك ان علي بن ابي طالب (عليهالسلام) كان يقول ان شيعتنا في أوسع ما بين السماء إلى الأرض
أنتم المغفور لكم».
إلا انه قد ورد
بإزاء هذه الأخبار ما ظاهره المنافاة والبناء على الظن ولعله مستند ابي الصلاح
فيما تقدم نقله عنه من الاكتفاء في ثبوت النجاسة بمجرد الظن :
ومنها ـ صحيحة
عبد الله بن سنان قال : «سأل أبي أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب
الخمر فيرده عليه أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا يصل فيه حتى يغسله».
ورواية أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال كان علي بن الحسين (عليهالسلام) رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لأن
__________________
دباغها بالقرظ وكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا
حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص الذي يليه وكان يسأل عن ذلك فيقول ان أهل العراق
يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون ان دباغه ذكاته».
وروى في
مستطرفات السرائر من كتاب البزنطي قال : «وسألته عن رجل يشتري ثوبا من السوق للبس لا يدري
لمن كان يصلح له الصلاة فيه؟ قال ان كان اشتراه من مسلم فليصل فيه وان كان اشتراه
من نصراني فلا يلبسه ولا يصل فيه حتى يغسله».
ومثلها صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق اللبس لا يدري
لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال ان اشتراه من مسلم صلى فيه وان اشتراه من نصراني
فلا يصل فيه حتى يغسله».
ورواية محمد بن
الحسين الأشعري قال : «كتب بعض أصحابنا الى ابي جعفر الثاني (عليهالسلام) ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال ان كان مضمونا
فلا بأس». أقول : يعني إذا ضمن البائع ذكاته وأخبر بها عن علم.
ومن ذلك رواية
عبد الرحمن بن الحجاج قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني ادخل سوق المسلمين اعني هذا الخلق الذين يدعون
الإسلام فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها أليس هي ذكية؟ فيقول بلى ، فهل
يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟ فقال لا ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط
الذي اشتريتها منه انها ذكية. قلت وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة
وزعموا ان دباغ جلود الميتة ذكاته ثم لم يرضوا ان يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله
(صلىاللهعليهوآله)».
والشيخ (قدسسره) لم يذكر في الاستبصار سوى خبري عبد الله بن سنان وقال
بعدهما : هذان الخبران راويهما جميعا عبد الله بن سنان والحكاية فيهما عن مسألة
أبيه
__________________
أبا عبد الله (عليهالسلام) ولا يجوز ان يتناقض بان يقول تارة «صل فيه» وتارة «لا
تصل فيه» إلا ان يكون قوله (عليهالسلام) «لا تصل فيه» على وجه الكراهية دون الحظر. انتهى
وبالجملة فإن كل من ذكر خبرا من هذه الاخبار فإنما يحمله على الاستحباب لإجماعهم
على العمل بالأخبار الأول التي هي مستند القاعدة المتفق عليها بينهم قديما وحديثا
ولا بأس به ، ويدل عليه رواية ابي علي البزاز عن أبيه قال : «سألت جعفر بن محمد (عليهماالسلام) عن الثوب يعمله أهل الكتاب أصلي فيه قبل ان اغسله؟ قال
لا بأس وان يغسل أحب الي». وصحيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ قال يرش بالماء». والتقريب
في الأولى ظاهر واما الثانية فلما علم من الاخبار المتكاثرة كما سيأتي ان شاء الله
تعالى ان الأمر بالرش الذي هو النضح انما هو في مقام زوال النفرة في الأشياء
الطاهرة كملاقاة الكلب باليبوسة ونحوه وإلا فالنجس بنجاسة عينية إنما يؤمر فيه
بالغسل كما لا يخفى. والله العالم.
(الثالث) ـ قال
في المعالم : قال بعض الأصحاب لو وجد عدلان في ثوب الغير أو مائة نجاسة أمكن وجوب
الاخبار لوجوب تجنب النجاسة وهو يتوقف على الاخبار المذكور فيجب ، والعدم لان وجوب
التجنب مع العلم لا بدونه لاستحالة تكليف الغافل ، قال وأبعد منه ما لو كان عدلا
وأبعد منهما ما لو كان فاسقا ثم قال ولا ريب ان الاخبار أولى. ثم قال في المعالم
وما ذكره في توجيه احتمال الوجوب ظاهر الضعف ولا ريب ان العدم هو مقتضى الأصل فيجب
التمسك به الى ان يدل دليل واضح على الوجوب وقد روى الشيخان في الكافي والتهذيب
بسند يعد في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟
قال لا يؤذنه حتى ينصرف». وهذا الحديث ربما أشعر بعدم الوجوب. انتهى.
__________________
أقول : وجدت
منسوبا الى بعض الفضلاء مسألة مذيلة بالجواب بما هذه صورته مسألة : لو رأى المأموم
في أثناء الصلاة في ثوب الإمام نجاسة غير معفو عنها فهل يجوز له الاقتداء في تلك
الحال أم لا؟ وهل يجب عليه إعلامه أم لا؟ ولو لم يجز له الاقتداء فهل يبني بعد نية
الانفراد على ما مضى أم يعيد من رأس؟ الجواب : الاولى عدم الائتمام ويجب الاعلام
ويجب الانفراد في الأثناء ويبنى على قراءة الإمام. انتهى.
أقول : ما ذكره
هذا الفاضل المجيب من وجوب الاعلام قد صرح به العلامة في أجوبة مسائل السيد السعيد
مهنا بن سنان المدني محتجا على ذلك بكونه من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وأنت خبير بما فيه (اما أولا) فلان الأصل عدمه كما تقدم في كلام المحقق الشيخ حسن
، وأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمله لعدم توجه الخطاب للجاهل
والناسي كما ذكروه فلا منكر بالنسبة إليهما ولا معروف. و (اما ثانيا) فلان المفهوم
من تتبع الاخبار انه لا يجب الاعلام بمثل ذلك ، فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم
المذكورة ، ومن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) : «ان أبا جعفر (عليهالسلام) اغتسل وبقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فقيل له فقال
ما كان عليك لو سكت؟». ومن ذلك رواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب قرب
الاسناد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه؟ قال
لا يعلمه. قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد». والمستفاد من هذه الأخبار كراهة الأخبار فضلا
عن الجواز فكيف بالوجوب الذي ذكروه؟ والظاهر ان الوجه في ذلك هو انه لما كان بناء
الأحكام الشرعية انما هو على الظاهر في نظر المكلف دون الواقع ونفس الأمر تحقيقا
لبناء الشريعة على السهولة والسعة فإن الفحص والسؤال عن أمثال ذلك تضييق لها كما
استفاضت به الأخبار الدالة على النهي عن السؤال ، نهى عن الاخبار بذلك والاعلام
لعين ما ذكرناه في المقام.
__________________
وما ذكره من
عدم الائتمام ووجوب الانفراد على المأموم فقد نقل شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان
البحراني في رسالته في الصلاة عن المحقق الشيخ علي نحوه ثم نقل عن بعض المتأخرين
الجواز ثم تنظر في الجواز أولا ثم قال بعد نقل القول به : ولا يخلو من قوة. ولم
ينقل دليلا في المقام نفيا ولا إثباتا.
أقول : وتحقيق القول
في ذلك مبني على مسألة أخرى وهي ان من صلى في النجاسة جاهلا بها هل صلاته والحال
هذه صحيحة واقعا وظاهرا أو تكون صحيحة ظاهرا باطلة واقعا إلا انه غير مؤاخذ لمكان
الجهل بالنجاسة؟ ظاهر الأصحاب ـ كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية ـ هو
الثاني حيث قال ـ في مسألة ما لو تطهر بالماء النجس جاهلا وان ذلك مبطل لصلاته ـ ما
صورته : حتى لو استمر الجهل به حتى مات فان صلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها
لامتناع تكليف الغافل ، هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة وكلام الجماعة ، ولا
يخفى ما فيه من البلوى فان ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة
لكثرة النجاسات في نفس الأمر وان لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها ، فعلى هذا لا
يستحق عليها ثواب الصلاة وان استحق أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته ان لم يتفضل
الله تعالى بجوده عليه. انتهى. وحينئذ فإن قلنا بما ذكره شيخنا المذكور ونقله عن
الأصحاب فإنه يتجه كلام هؤلاء القائلين بتعين الانفراد ومنع الاقتداء ، والظاهر ان
ما ذكروه في المسألة مبني على ذلك لظهور بطلان صلاة الإمام عند المأموم العالم
بالنجاسة فلا يجوز له الاقتداء بصلاة باطلة وان كانت صحيحة في نظر الامام لجهله بالنجاسة
، وربما احتمل على هذا وجوب الاعلام واندرج تحت الأمر بالمعروف كما ذكره العلامة
أيضا.
إلا أن الأظهر
عندي هو الأول لوجوه : (أحدها) ـ ما قدمنا تحقيقه من ان الشارع لم يجعل الحكم
بالطهارة والنجاسة منوطا بالواقع ونفس الأمر وانما رتبه على الظاهر في نظر المكلف
فأوجب عليه الصلاة في الثوب الطاهر اي ما لم يعلم بملاقاة
النجاسة له وان لاقته واقعا لا ما لم تلاقه النجاسة لأنه تكليف بما لا يطاق
وهو مردود عقلا ونقلا ، وحينئذ فإذا صلى المصلي في الثوب المذكور فقد امتثل أمر
الشارع وصارت صلاته صحيحة شرعية إذا خلت من سائر المبطلات.
و (ثانيها) ـ ما
أسلفناه من الأخبار الدالة على المنع من الاخبار بالنجاسة وان كان في أثناء الصلاة
، ولو كان الأمر كما يدعونه من كون النجاسة والطهارة ونحوهما انما هو باعتبار
الواقع ونفس الأمر وان تلبس المصلي بالنجاسة جاهلا موجب لبطلان صلاته واقعا فكيف
يحسن من الامام (عليهالسلام) المنع من الإيذان بها في الصلاة كما في صحيح محمد بن
مسلم أو قبلها كما هو أحد الوجهين في رواية ابن بكير وهل هو بناء على ما ذكروه إلا
من قبيل التقرير على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في بطلانه.
و (ثالثها) ـ انه
يلزم على ما ذكروه عدم الجزم بصحة شيء من العبادات إلا نادرا كما اعترف به شيخنا
الشهيد الثاني فيما قدمنا من عبارته في شرح الرسالة ، وبنحوه صرح المحدث السيد
نعمة الله الجزائري على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه في أصل المسألة حيث قال :
وبهذا التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من ان من تطهر بماء نجس
فاستمر الجهل به حتى مات فصلاته باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف
الغافل ، ولو صح هذا الكلام لوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة
النجاسة في نفس الأمر. انتهى. وبذلك يظهر لك ان الأصح هو صحة صلاة المصلي بالنجاسة
جهلا ظاهرا وواقعا واستحقاق الثواب عليها ، وبه يتضح انه لا وجه للانفراد في أثناء
الصلاة بسبب رؤية النجاسة كما ذكره المجيب والمحقق الشيخ علي.
(فان قيل) : ما
ذكرتموه متجه على تقدير حمل الامام على كونه جاهلا بالنجاسة اما مع احتمال العلم
بها ونسيانها وقت الصلاة فالمشهور بين الأصحاب وجوب الإعادة في الوقت وقيل في
خارجه ايضا ، وعليه فلا يتم ما ذكرتم لان وجوب الإعادة كاشف عن البطلان
(قلنا) فيه (أولا)
انه قد تقرر في كلامهم وعليه دلت الأخبار ايضا حمل أفعال المسلمين على الصحة وان
الفعل متى احتمل الصحة والبطلان فإنه يحمل على الوجه المصحح حتى يظهر دليل البطلان
، وهذا أصل عندهم قد بنوا عليه أحكاما عديدة في العبادات والمعاملات كما لا يخفى
على المتدرب ، وحينئذ فنقول لما ثبت صحة الصلاة في النجاسة جهلا فعلى تقدير القول
ببطلان الصلاة نسيانا فمقتضى القاعدة المذكورة في هذه النجاسة المرئية المحتملة
لكونها مجهولة أو منسية الحمل على الوجه الصحيح إذ الأصل هو الصحة ، والناس في سعة
مما لم يعلموا فلا يكون مجرد الرؤية موجبا للحكم ببطلان الصلاة.
و (ثانيا) ـ ان
مقتضى إطلاق صحيحة محمد بن مسلم الدالة على المنع من الاعلام بالنجاسة شمول الجهل
والنسيان ولعل وجهه ان الناسي في حال نسيانه كالجاهل في حال جهله غير مخاطب بما
أخل به فتكون صلاته صحيحة على التقديرين. والله العالم.
(الرابع) ـ ربما
دلت الروايات المتقدمة من حيث الدلالة على كراهة الاخبار بالنجاسة على انه يجوز
للإنسان إذا كان عنده طعام نجس ان يبيعه ممن لا يعلم بالنجاسة أو يطعمه إياه وانه
لا اثم عليه ولا حرج سيما رواية عبد الله بن بكير الدالة على جواز اعارة الثوب
الذي لا يصلى فيه من حيث النجاسة لمن يصلي فيه من غير ان يعلمه والتقريب فيها انه ان لم يكن أمر الصلاة أشد والمنع
فيها آكد فلا يكون أقل من الأكل أو البيع ، ويؤيد ذلك ما قدمنا من انه طاهر في نظر
المشتري والأكل والطهارة والنجاسة ليست منوطة بالواقع وانما هي منوطة بعلم المكلف
وعدمه وهذا المفروض وان كان نجسا بالنسبة إلى المالك إلا انه طاهر بالنسبة إلى
الآخر.
والقول بذلك لا
يخلو من قوة إلا ان ظواهر جملة من الاخبار تدفعه مثل صحيحة
__________________
ابن ابي عمير عن بعض أصحابه قال وما أحسبه إلا حفص بن البختري قال : «قيل لأبي عبد
الله (عليهالسلام) في العجين يعجن بالماء النجس كيف يصنع به؟ قال يباع
ممن يستحل أكل الميتة». وفي الصحيح عن ابن ابي عمير ايضا عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يدفن ولا يباع». وما رواه الشيخ في الصحيح عن
الحلبي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا اختلط الذكي بالميتة باعه ممن يستحل الميتة
وأكل ثمنه». ومثلها حسنته ايضا وقد تقدم أيضا في صدر الفصل الخامس في رواية معاوية بن عمار المتضمنة للسؤال عن جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل انه
قال : «تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به».
والمسألة لذلك
غير خالية من الاشكال ، والتأويل في الأخبار الأولة بالحمل على اخبار الغير بنجاسة
ثوبه أو بدنه أو نحوهما وان أمكن في صحيحة محمد بن مسلم كما هو مورد الرواية
المذكورة فلا منافاة بينها وبين هذه الاخبار إلا ان رواية عبد الله بن بكير لا
تقبل ذلك لكون النهي فيها بالنسبة إلى المالك وانه يجوز ان يعير ثوبه النجس ولا
يخبر بنجاسته وهو ظاهر المنافاة لهذه الأخبار ومؤيد بما ذكرناه من القاعدة في
الباب ، وفي معنى رواية ابن بكير المذكورة صحيحة العيص بن القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم ان صاحب الثوب أخبره
انه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته». والتقريب فيها تقريره (عليهالسلام) السائل على إعارته ثوبه النجس لمن يصلي فيه إذ من
المعلوم ان صلاة ذلك الرجل فيه انما تكون باذن صاحبه وإعارته إياه ، وتقريره (عليهالسلام) حجة كما تقرر في موضعه.
__________________
(فان قيل) ان
الخبرين المذكورين لا دلالة فيهما على نجاسة الثوب المعار فلعل عدم الصلاة فيه كما
في رواية ابن بكير والاخبار بأنه لا يصلي فيه كما في الصحيحة المذكورة انما هو
لأمر آخر كالغصب ونحوه من الموانع.
(قلنا أولا)
انه قد تقرر عندهم ان عدم الاستفصال في مقام الاحتمال دليل على العموم في المقال
فيكفي دلالة الخبرين على ما ذكرنا بعمومهما. و (ثانيا) ان الأصحاب انما فهموا من
الروايتين النجاسة ولهذا نظموا صحيحة العيص المذكورة في روايات من صلى في النجاسة
جاهلا ومن ذكر منهم رواية ابن بكير فإنما ذكرها في مقام الصلاة في النجاسة أيضا.
(المسألة
الثالثة) ـ قد تفرد المحدث الكاشاني بالقول بان المتنجس إذا أزيلت عنه عين النجاسة
بالتمسح ونحوه فإنه لا تتعدى نجاسته الى ما يلاقيه في موضعها ولو مع الرطوبة وبالغ
في نصرته وشنع على من خالفه ، قال في المفاتيح : انما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة
واما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه بالتمسح ونحوه بحيث لا يبقى فيه شيء
منها فلا يجب غسله كما يستفاد من المعتبرة على انا لا نحتاج الى دليل على ذلك فان عدم الدليل على
وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم إلا بعد
البرهان ، إلا ان هذا الحكم مما يكبر في صدور الذين غلب عليهم التقليد من أهل
الوسواس الذين يكفرون بنعمة الله تعالى ولا يشكرون سعة رحمة الله سبحانه وفي
الحديث «ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم وان الدين أوسع من ذلك». انتهى.
أقول : ان
عبارته وكلامه لا يخلو من إجمال واختلال (اما الأول) فإن مقتضى قوله : «انما يجب
غسل ما لاقى عين النجاسة» هو ان تعدي النجاسة يدور مدار الملاقاة لعين النجاسة
وجودا وعدما دون الملاقاة للمتنجس أعم من ان تكون عين النجاسة
__________________
مصاحبة له أم لا إذا لم يستلزم ملاقاة العين ، وعلى هذا يستفاد منه الحكم
بطهارة كل ما لم يلاق عين النجاسة سواء لاقى المحل بعد زوال عين النجاسة عنه كما
ذكره أو لاقاه والعين باقية فيه لكن على وجه لا تصل إلى الملاقي ، ومقتضى قوله : «واما
ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه العين. إلخ» ان تعدى النجاسة لا يدور مدار
ملاقاة العين بخصوصها بل هو أعم من الملاقاة لها أو للمحل الذي هي فيه بشرط كونه
مائعا مصاحبا للنجاسة ، وعلى هذا فيستفاد منه تخصيص الطهارة بما لاقى محل النجاسة
بعد ما أزيل عنه العين أعم من ان يكون محل النجاسة مائعا كالدهن المائع ونحوه أو
غير مائع كالبدن والخشب والثوب ونحوها.
و (اما الثاني)
ـ فإن كلامه على كلا الاحتمالين مردود ، اما على تقدير الاحتمال الأول ـ من دوران
الطهارة والنجاسة مدار الملاقاة للعين وجودا وعدما ـ ففيه انه معلوم البطلان لاستفاضة
الروايات بما ينافيه كروايات نجاسة الدهن والدبس المائعين بوقوع الفأرة وموتها فيه
ونجاسة الأواني لنجاسة مياهها. وأما على تقدير الاحتمال الثاني ـ ولعل مراده ذلك
ولعل في تصريحه بذلك الفرد الخاص اشعارا به ـ ففيه ان المفهوم من كلامه كما أشرنا
إليه آنفا هو عدم تعدي نجاسة ذلك المحل الذي فيه النجاسة بعد زوال العين منه أعم
من ان يكون مائعا أو جامدا ، مثلا ـ لو وضعت إصبعا في دهن نجس بعد رفع عين النجاسة
فإنه لا يقتضي نجاسة الإصبع ، وهذا في البطلان أظهر من ان يحتاج الى بيان لدلالة
الأخبار على نجاسة الدهن ونجاسة ما تعدى اليه ولهذا حرم اكله والانتفاع به إلا في
الإسراج ونحوه ، اللهم إلا ان يخص الدعوى بغير المائع كالخشب والثوب والبدن ونحوها
كما هو مورد المعتبرة التي استند إليها. وفيه (أولا) ان الظاهر من كلامه في مفاتيح
النجاسات انما هو ما ذكرنا من المعنى الأعم الشامل للمائع والجامد حيث انه بعد ذكر
النجاسات العشرة في مفاتيح متعددة قال ما صورته : مفتاح ـ كل شيء غير ما ذكر
فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة للأصل السالم عن المعارض ، وللموثق
«كل شيء نظيف
حتى تعلم انه قذر». فان تخصيصه الاستثناء بما يلاقي شيئا من النجاسات خاصة دون
المتنجس ظاهر في طهارة ما لاقى المتنجس صلبا كان أو مائعا بعد ازالة عين النجاسة
أو قبلها ما لم يلاقها. و (ثانيا) ـ انه مع تسليم ما ذكر فإنه معارض باستفاضة
الأخبار بغسل الأواني والفرش والبسط ونحوها متى تنجس شيء منها إذ من المعلوم ان
الأمر بغسلها ليس إلا لمنع تعدى نجاستها الى ما يلاقيها برطوبة مما يشترط فيه
الطهارة ، ولو كان مجرد زوال العين كافيا في جواز استعمال تلك الأشياء لما كان
للأمر بغسلها فائدة بل كان عبثا محضا لان تلك الأشياء أنفسها لا تستعمل فيها يشترط
فيه الطهارة كالصلاة ونحوها حتى يقال ان الأمر بغسلها لذلك ، وبالجملة لا يظهر وجه
حسن لهذا التكليف لو كان ما ادعاه حقا سيما مع بناء الدين على السهولة والتخفيف في
التكاليف ونفى العسر والحرج ، هذا.
واما المعتبرة
التي أشار إليها واعتمد في المقام عليها ـ وهي موثقة حنان بن سدير قال : «سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله (عليهالسلام) فقال اني ربما بلت فلا اقدر على الماء ويشتد ذلك علي؟
فقال إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك فان وجدت شيئا فقل هذا من ذاك». ـ فهي غير
صريحة لو لا ظاهرة فيما ادعاه بل هي بالدلالة على خلافه أقرب وبما ندعيه انسب ،
وتوضيح ذلك انه بعد ان نقل هذه الرواية في الوافي نبه على احتمالها لمعنيين (أحدهما)
وهو الذي يظهر عندنا من لفظ الرواية وسياقها هو ان السائل شكا إليه انه ربما بال
وليس معه ماء ويشتد ذلك عليه بسبب عرق ذكره بعد ذلك أو بلل يخرج من ذكره فيلاقي
مخرج البول فيتنجس به ثوبه وبدنه ، فأمره (عليهالسلام) لذلك بحيلة شرعية يتخلص بها من ذلك وهو ان يمسح غير
المخرج من الذكر اعني المواضع
__________________
الطاهرة منه بعد ما ينشف المخرج بشيء حتى لو وجد بللا بعد ذلك لقدر في
نفسه انه يجوز ان يكون من بلل ريقه الذي وضعه وليس من العرق ولا من المخرج فلم
يتيقن النجاسة من ذلك البلل حينئذ (الثاني) ـ وهو الذي بنى عليه ان تكون شكاية ذلك
السائل انما هي من انتقاض وضوئه بالبلل الذي يجده بعد المسح لاحتمال كونه بولا ،
وقوله : «انه لا يقدر على الماء» يعني لازالة ذلك البلل المحتمل كونه بولا فإنه قد
تعدى من المخرج الى ثوبه وبدنه ، فأمره (عليهالسلام) ان يمسح ذكره يعني مخرج البول بعد ما مسح البول عنه
بريقه حتى لو خرج بعد ذلك بلل صار مشكوكا فيه من حيث الريق الموضوع على طرف الذكر
لاحتمال كونه منه ، هذا حاصل كلامه ، ثم قال وهذا المعنى أوفق بالأخبار الأخر.
ثم قال : وهذان
الأمر ان أعني عدم الحكم بالنجاسة إلا بعد التيقن وعدم تعدي النجاسة من المتنجس
بابان من رحمة الله الواسعة فتحهما الله لعباده رأفة بهم ونعمة لهم ولكن أكثرهم لا
يشكرون فينتقم الله منهم بابتلائهم بالوسواس واتباعهم الخناس الذي يوسوس في صدور
الناس من الجنة والناس. انتهى.
أقول : لا يخفى
عليك ما في قوله : «وعدم تعدي النجاسة من المتنجس» من الدلالة على العموم للمائع
والجامد كما قدمنا ذكره.
ثم أقول لا
يخفى ان ما ذكره من هذا الاحتمال الذي بنى عليه الاستدلال مردود من وجوه : (أولها)
ـ انه قد ذكر الاحتمالين في معنى الرواية كما قدمنا نقله عنه وهو لم يذكر مرجحا
لهذا الاحتمال الذي استند اليه وقد عرفت ان الاحتمال الآخر لا يجري فيما ذهب اليه
، وقد تقرر بينهم انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.
و (ثانيها) ـ انه
لا دلالة في الخبر على هذا الوضوء الذي بنى عليه هذه المباني المتعسفة وارتكب
لأجله هذه التمحلات المتكلفة وان كان قد سبقه الى هذا الاحتمال السيد السند في
المدارك ايضا حيث قال بعد نقل خبر حنان : لأنا نجيب عنه أولا بالتقية أو على ان
المراد نفى كون البلل الذي يظهر على المحل ناقضا. انتهى.
و (ثالثها) ـ ان
الوضوء الذي ذكره لا يكون إلا بعد البول فلم لا غسل مخرج البول أولا لدفع هذه
الحيرة التي شكاها لانه واجد للماء بزعمه وازالة البول التي يكفي فيها مثلا ما على
الحشفة لا يحتاج الى كثير ماء حتى ربما يقال انه لا زيادة فيه على الوضوء ،
فالواجب حينئذ هو ازالة البول أولا ولا سيما على مذهب الصدوق القائل بإبطال الوضوء
ووجوب إعادته مع نسيان غسل مخرج البول كما دلت عليه إخباره التي استند إليها.
و (رابعها) ـ انه
لو كانت شكاية السائل اليه انما هو من حيث خوف انتقاض وضوئه بالبلل الخارج من جهة
احتمال كونه بولا لكان الاولى جوابه بالأمر بالاستبراء بعد البول ، فإن قضية
الاستبراء البناء على طهارة ما يخرج بعده وعدم نقضه للوضوء.
و (خامسها) ـ انه
لو كانت الحكمة في الأمر بوضع الريق على مخرج البول انما هو عدم انتقاض الطهارة
بأن ينسب ذلك البلل الذي يجده الى الريق ليكون غير ناقض ولا ينسبه الى الخروج من
الذكر فيكون ناقضا فأي فرق في ذلك بين الحكم بتعدي النجاسة من المخرج بعد مسحها
وعدم تعديها؟ فان وجه الحكمة يحصل على كلا التقديرين فلو قلنا بالتعدي ومسح المخرج
بريقه لقصد هذه الحكمة وكون الخارج غير ناقض أمكن وان كان نجسا ، وبالجملة فإنه لا
منافاة بين حصول هذه الحكمة وبين القول بتعدي النجاسة.
وبذلك يظهر ان
الوجه الصحيح في معنى الخبر انما هو المعنى الأول المشتمل على حكمة ربانية لدفع
الوساوس الشيطانية ، ويظهر ايضا بطلان ما ذهب اليه ويكون الخبر بناء على ما اخترنا
ظاهرا في الرد عليه ، وذلك فإنه لو كان الملاقي للمتنجس بعد ازالة العين بالتمسح
ونحوه لا ينجس لما حسن امره بوضع الريق لان المفروض ان المخرج قد أزيلت عنه عين
النجاسة ولم يبق إلا محلها ومحلها لا تتعدى نجاسته كما يدعيه ، فأي وجه لهذه
الحكمة بوضع الريق؟ وهو (عليهالسلام) إنما أمر بوضعه لدفع احتمال تعدي النجاسة
من المحل بالعرق أو خروج شيء من الذكر فينجس بملاقاة المحل بان ينسب ذلك
الى الريق الذي وضعه ، ولو صح ما ذكره لم يكن لهذا الاحتمال مجال بالكلية مع انه
قد اعترف به وعلى تقديره يبطل به أصل قاعدته.
وبما ذكرناه من
هذا التحقيق وأوضحناه من البيان الواضح الرشيق يظهر لك ايضا ما في كلام شيخنا
الشهيد في الذكرى حيث قال : وخبر حنان «يمسحه بريقه فإذا وجد بللا فمنه» متروك.
انتهى إذ لا وجه لتركه مع وجود معنى صحيح يحمل عليه كما أوضحناه ، والظاهر انه فهم
من الخبر كون مسحه بالريق مطهرا من البول عند فقد الماء ولا ريب انه بهذا المعنى
متروك إجماعا ، ولو كان صريح الدلالة في ذلك لأمكن حمله على التقية كما احتمله في
المدارك لموافقته لمذهب أبي حنيفة من جواز إزالة النجاسة بكل مائع ، هذا.
واما الاخبار
التي ادعى أوفقية هذا التأويل بها فهي غير ظاهرة فيما ادعاه ، فمنها صحيح العيص بن
القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد
عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره وفخذيه». وهي بالدلالة على ما ندعيه أقرب وبالرد
عليه فيما ذهب إليه أنسب ، وذلك فان الظاهر ان جملة «وقد عرق ذكره» معطوفة على ما
تقدمها دون ان تكون حالا كما سيأتي توضيحه ، وحينئذ فتدل الرواية على ان العرق
انما وقع بعد البول ومسح الذكر فأمر (عليهالسلام) بغسل الذكر والفخذين لذلك العرق المتعدي من مخرج البول
بعد مسحه.
وبذلك يظهر ما
في كلام شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل حيث قال في الكتاب ـ بعد نقل خبر حنان
المذكور ثم موثقة سماعة الآتية وتأويلهما ـ ما هذا لفظه : ولبعض المعاصرين هنا
كلام غريب هو ان المحل النجس إذا أزيل عنه عين النجاسة بغير المطهر الشرعي فلا
__________________
تتعدى نجاسته إلى الملاقي ولو مع الرطوبة لأن النجس انما هو عين النجاسة لا
المتنجس وجعل هذين الخبرين شاهدا على ذلك ، وهو كلام متين ان لم يقم الإجماع على
خلافه ولم يكن ما دل عليه موافقا للعامة وقابلا للتأويل بما ذكرناه ، وأيضا ففي
دلالة الخبر الأول على ما ادعاه تأمل ، ويمكن ان يستدل له بما هو أوضح سندا ومتنا
وهو صحيح العيص بن القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد
عرق ذكره وفخذاه؟ قال يغسل ذكره وفخذيه. وسألته عن من مسح ذكره بيده ثم عرقت يده
فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال لا». بان يقال الفرق بين الذكر والفخذ عند عرقهما قبل
التطهير الشرعي وبين الثوب عند اصابته لعرق اليد الماسحة للذكر قبله بالأمر
بغسلهما دونه لا وجه له ظاهرا سوى الفرق بين ما يلاقي المتنجس وما يلاقي عين
النجاسة ، فإن غسلهما انما هو لملاقاتهما بالرطوبة للمحل النجس قبل زوال عين
النجاسة بالمسح بالحجر كما يرشد اليه وأو الحال ، وذلك يقتضي تعديها من المحل الى
ما يجاوره ويلاصقه من بقية اجزاء الذكر والفخذ بخلاف الثوب فان ملاقاته انما وقعت
بالمتنجس وهي اليد الماسحة بعد زوال عين النجاسة عن الماسح والممسوح. انتهى كلامه
زيد مقامه.
وفيه (أولا)
انه لا يخفى ان مفاد عطف مسح الذكر على البول بالفاء التي مقتضاها الترتيب بلا
مهلة هو كون المسح وقع عقيب البول بلا مهلة ، ويؤيده ايضا انه هو المتعارف فإن
الإنسان متى بال ولم يكن معه ماء مسح ما بقي على طرف ذكره من البول لئلا يتعدى الى
ثوبه أو بدنه فينجسه ولا يعقل انه يتركه بغير مسح حتى يتردد في المغدى والمجيء
على وجه يعرق ذكره وفخذاه وعين البول باقية ضمن تلك المدة حتى انه بسبب العرق
تتعدى نجاسة البول الى فخذيه مثلا ثم بعد ذلك يمسح ذكره ، بل من المعلوم انه بمجرد
المغدى والمجيء تتعدى نجاسة البول من غير حصول عرق إلى سائر
__________________
بدنه وثيابه ، أو يعقل انه يعرق في محله ذلك من غير تردد على وجه يسيل
العرق من مخرج البول إلى سائر اجزاء الذكر والفخذين؟ وبالجملة فمعنى الرواية
المتبادر منها انما هو ما ذكرناه أولا وهو انه سأله عن رجل بال فمسح مخرج بوله في
وقته ذلك وعرق ذكره وفخذاه بعد ذلك فأمره (عليهالسلام) بغسل ذكره وفخذيه لملاقاة ذلك المحل المتنجس برطوبة ،
وحينئذ فجملة «وقد عرق» معطوفة لا حالية كما أشرنا إليه آنفا ، وحينئذ فتكون هذه
الرواية مع رواية حنان دليلا على ما ندعيه من تعدي نجاسة المتنجس بعد ازالة عين
النجاسة ومسحها.
و (اما ثانيا)
ـ فلان آخر صحيح العيص المذكور غير صريح ولا ظاهر في كون المسح المذكور وقع بمجموع
اليد ولا في كون الجزء الماسح منها بعينه هو الذي أصاب الثوب بالعرق بل هو محتمل
لذلك ومحتمل لان تكون الملاقاة بجزء من اليد غير الجزء المتنجس منها كما سيأتي
تحقيقه.
ومنها ـ رواية
سماعة قال : «قلت لأبي الحسن موسى (عليهالسلام) اني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجيء مني البلل ما يفسد
سراويلي؟ قال ليس به بأس». قال شيخنا صاحب رياض المسائل بعد ذكر خبر حنان ورواية
سماعة المذكورة انه لا يدل ذلك على طهر المحل بالمسح بوجه من الوجوه وانما يدل على
ان وجدان شيء من البلل وان أفسد السراويل من كثرته مع عدم القطع بخروجه من مخرج
البول الباقي على النجاسة أو ملاقاته له لا بأس به خصوصا مع مسح ما سوى المخرج من
الذكر بالريق فإنه ينسبه الى الريق ، ثم ذكر الكلام الذي قدمنا نقله عنه بقوله :
ولبعض المعاصرين. الى الآخر.
ومنها ـ رواية
حكم بن حكيم قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شيء من البول
فأمسحه بالحائط أو التراب ثم تعرق
__________________
يدي فامسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي؟ قال لا بأس به». فإنه لا دلالة
فيها على كون اصابة الثوب ومسح الوجه أو بعض الجسد بذلك الموضع النجس ولا على كون
النجاسة شاملة لليد كملا حتى تستلزم الإصابة ببعض منها ذلك بل هي أعم من ذلك ،
ونفى البأس انما هو لأجل ذلك لانه ما لم يعلم وصول عين النجاسة أو المتنجس إلى شيء
ومباشرته له بالرطوبة فلا يحكم بالنجاسة عملا بأصالة الطهارة وتمسكا بها الى ان
يعلم الرافع لها ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
قال المحقق
الشيخ حسن في المنتقى بعد ما أورد هذين الخبرين ما نصه «والخبران كما ترى مخالفان
لما هو معروف من مذهب الأصحاب ويمكن تأويلهما بالحمل على عدم تيقن اصابة الموضع
المتنجس من الكف للثوب والوجه والجسد أو على توهم سريان النجاسة إلى سائر الكف
بتواصل رطوبة العرق» انتهى.
أقول : وقد
اعترف بذلك في الوافي أيضا فقال بعد ذكر الرواية : الوجه في ذلك أمران (أحدهما) ان
بالمسح بالحائط والتراب زال العين ولم يبق من البول شيء فما يلاقيه برطوبة انما
يلاقي اليد المتنجسة لا النجاسة العينية والتطهير لا يجب إلا من ملاقاة عين
النجاسة. و (الثاني) انه لم يتيقن اصابة البول جميع اجزاء اليد ولا وصول جميع
اجزاء اليد الى الوجه أو الجسد أو الثوب ولا شمول العرق كل اليد فلا يخرج شيء من
الثلاثة عما كان عليه من الطهارة باحتمال ملاقاة البول فان اليقين لا ينقض بالشك
ابدا وانما ينقض بيقين مثله كما يأتي في باب التطهير من المني النص عليه. انتهى.
أقول : ولا
استبعاد في حمل الخبرين المذكورين على ما ذكرناه وان لهما نظائر في الاخبار توهم
بظاهرها المخالفة وتحتاج في تطبيقها الى نوع تأويل قريب أو بعيد ، مثل صحيحة زرارة
قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال : نعم لا
بأس به إلا ان تكون النطفة فيه رطبة فإن كانت جافة فلا بأس». فإنه يوهم
__________________
طهارة المني وقد تقدم القول فيه في الفصل الثالث في نجاسة المني ومثلها
صحيحة أبي أسامة وقد تقدم الكلام فيها في الموضع المشار إليه أيضا ،
ومثل ذلك في الاخبار كثير كما لا يخفى على من تتبع الاخبار ، والغرض هنا انما هو
التنبيه على قبول ما يستدل به على ما ذهب إليه للتأويل كما في نظائره التي من هذا
القبيل فلا يحتج بها إذا على خلاف النهج الواضح السبيل الذي عليه عامة العلماء جيلا
بعد جيل.
وقد وافقنا في
هذا المقام بعض الفضلاء من تلامذته الناسجين على منواله في جل مذاهبه وأقواله حيث
قال في حواشيه على الوافي في هذا المقام : ما استدل به الحبر العلامة (طاب ثراه)
من الاخبار على ان المتنجس لا ينجس الظاهر انه لا يتم لان ليس فيها ان لهم ان يصلوا
على تلك الحال بل سألوا عن كراهة ما فعلوا فأجابهم (عليهالسلام) بعدم البأس فإذا أرادوا الصلاة تطهروا وطهروا وصلوا ،
وان سلمنا هذا فخبر ابن حكيم وعجز خبر العيص الأول لا يدل إلا على ان ما لم يعلم
وصول المتنجس إلى شيء رطبا متعديا رطوبته اليه لم يحكم بالنجاسة ، ثم ذكر تأويل
خبر حنان بن سدير بنحو آخر غير ما ذكرناه ، الى ان قال وخبر سماعة ان كان المراد
بعدم البأس ان يصلي في السعة والحال هذه فهو باطل بالاتفاق بل لا بد من تطهير مخرج
البول ولا يبعد وجوب تطهير ثوبه ايضا ، فالمراد اما عدم البأس من فعله واما ان يكون
في موضع ليس فيه ماء فبال وتمسح وتيمم ثم وجد البلل فسأل عن انتقاض التيمم به
فأجابه (عليهالسلام) بعدم الانتقاض والحال هذه. انتهى.
قال في الوافي
ذيل هذه الاخبار التي نقلنا استناده إليها وتعويله عليها ما نصه : لا يخفى على من
فك رقبته عن ربقة التقليد ان هذه الاخبار وما يجري مجراها صريحة في عدم تعدي
النجاسة من المتنجس إلى شيء قبل تطهيره وان كان رطبا إذا أزيل عنه عين النجاسة
بالتمسح ونحوه وانما المنجس للشيء عين النجاسة لا غير ، على انا لا نحتاج الى
__________________
دليل في ذلك فان عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب إذ لا
تكليف إلا بعد البيان. انتهى.
أقول : لا يخفى
عليك ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق الكاشف عن ضعف باطنه وخافية. اما قوله ان هذه
الاخبار صريحة فيما ادعاه فهو ظاهر البطلان ، كيف وهو قد ذكر كما قدمنا نقله في
معنى موثقة حنان بن سدير معنيين وكلامه انما يتم على تقدير أحدهما وكذا في رواية
حكم بن حكيم ، فكيف تكونان صريحتين فيما ادعاه مع اعترافه بالاحتمالين الآخرين
الموجبين لخروج الرواية من قالب الاستدلال؟ ما هذا إلا سهو ظاهر من هذا المحدث
الماهر ، واما باقي الأخبار فيما أوضحناه وذكره الأصحاب من وجوه المعاني المحتملة
فيها فكيف يدعى صراحتها؟
واما قوله : «ان
عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب» ففيه انا قد أوضحنا بحمد الله
سبحانه وتوفيقه دلالة موثقة حنان وصدر صحيحة العيص على ما ندعيه من وجوب الغسل في
الصورة المذكورة ، مضافا الى ما أشرنا إليه من اخبار تطهير الأواني والفرش والبسط
والجلود ونحوها ، هذا ان خصصنا محل النزاع بالأجسام الصلبة وان عممنا الحكم في
المائع كما عرفت من انه ظاهر كلامه كان ما ذكره في الضعف والبطلان أظهر من ان يخفى
على الصبيان فضلا عن العلماء الأعيان ، والله الهادي لمن يشاء
(المسألة
الرابعة) ـ لا خلاف بين الأصحاب فيما اعلم في انه متى علمت الملاقاة الموجبة
للتنجيس واشتبه محلها فان كان موضع الاشتباه محصورا وجب اجتناب ما حصل فيه
الاشتباه وهكذا في الاشتباه بالمحرم ، وان كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر
للنجاسة أثر وبقي كل واحد من الافراد والاجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل
الطهارة والحلية في الاختلاط بالنجس والحرام ، وحينئذ فالكلام هنا يقع في مقامين :
(الأول) ـ بالنسبة
إلى المحصور فان الحكم فيه ما ذكرناه كما عليه كافة الأصحاب الى ان انتهت النوبة
إلى السيد السند السيد محمد والمحقق الشيخ حسن وقبلهما
شيخهما المحقق الأردبيلي فنازعوا في الحكم المذكور وتبعهم جمع ممن تأخر
عنهم ، وقد سبق البحث معهم في مسألة الإناءين لكنا نورد كلامي السيد والشيخ حسن في
ذلك في هذا المقام ونبين ما يتعلق به من النقض والإبرام :
فنقول قال في
المدارك ـ بعد قول المصنف : وإذا كانت النجاسة في موضع محصور كالبيت وشبهه وجهل
موضع النجاسة لم يسجد على شيء منه ـ ما هذا نصه : هذا الحكم مقطوع به في كلام
الأصحاب (رضوان الله عليهم) واحتجوا عليه بان المشتبه بالنجس قد امتنع فيه التمسك
بأصالة الطهارة للقطع بحصول النجاسة فيما وقع فيه الاشتباه فيكون حكمه حكم النجس
في انه لا يجوز السجود عليه ولا الانتفاع به في شيء مما يشترط فيه الطهارة. وفيه
نظر من وجوه : (اما أولا) فلان أصالة الطهارة إنما امتنع التمسك بها بالنسبة إلى
مجموع ما وقع فيه الاشتباه لا في كل جزء من اجزائه فإن أي جزء فرض من الاجزاء التي
وقع فيها الاشتباه مشكوك في نجاسته بعد ان كان متيقن الطهارة واليقين انما يخرج
عنه بيقين مثله ، وقد روى زرارة في الصحيح عن الباقر (عليهالسلام) انه قال : «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا» . و (اما ثانيا) فلان ذلك آت بعينه في غير المحصور فلو
تم لاقتضى عدم جواز الانتفاع به فيما يفتقر إلى الطهارة وهو معلوم البطلان ، الى
ان قال وبالجملة فالمتجه جواز السجود على ما لا يعلم نجاسته بعينه وعدم نجاسة
الملاقي له تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض. انتهى.
وفيه (أولا)
انه متى جاز التمسك بأصالة الطهارة في كل جزء جزء فإنه ينتج من ذلك الحكم بالطهارة
في الجميع البتة ، مثلا ـ في مسألة الإناءين التي هي أحد جزئيات هذه المسألة متى
لوحظ هذا الإناء على حدة فإن الأصل فيه الطهارة فيجب الحكم بطهارته وترتب أحكام
الطاهر عليه من شربه والوضوء به ونحو ذلك ومتى لوحظ الآخر على حدة كان كذلك ،
فاللازم من ذلك هو طهارتهما وجواز استعمالهما وهذا عين السفسطة للزوم سقوط
__________________
حكم النجاسة المحققة بالكلية ، والسيد (قدسسره) إنما التجأ في دفع ذلك كما تقدم في مسألة الإناءين إلى
انه مجرد استبعاد لا يلتفت اليه وانه قد وجد نظيره في حكم واجدي المني في الثوب
المشترك ، ونحن قد أوضحنا ثمة بطلانه وهدمنا أركانه.
و (ثانيا) ـ ان
النصوص الواردة في جملة من جزئيات هذه المسألة صريحة في إبطال هذا الكلام المزيف ،
ومنها ـ مسألة الثوب الذي قد تنجس بعض منه غير معلوم وقد اشتبه موضعه في الثوب
كملا ، فان النصوص أوجبت تطهير الثوب كملا ويأتي بمقتضى كلامه هنا انه يكفي تطهير
جزء من الثوب بقدر الموضع النجس والنصوص تأباه ، وقد اعترف هو نفسه بذلك في
المسألة المشار إليها. ومنها ـ مسألة الثوب النجس المشتبه بثوب آخر طاهر فان
الشارع أوجب الصلاة في كل منهما ومقتضى كلامه انه يكفي الصلاة في واحد منهما والنص
يدفعه ، ومنها ـ مسألة قطع اللحم المشتبه ذكية بميتة فإن النصوص دلت على حرمة
الجميع ومقتضى كلامه هنا حل كل قطعة قطعة منه ، ومنها ـ مسألة الإناءين ، وهذه
المسائل كلها متفق عليها بين الأصحاب سلفا وخلفا والنصوص أيضا متفقة فيها على ما
ذكرناه والسيد ومن حذا حذوه انما نازعوا في مسألة الإناءين من حيث ضعف السند
باصطلاحه وان كان موثقا لعده عنده في قسم الضعيف متى اعرض عنه ، وجملة أصحاب هذا
الاصطلاح عملوا به وجبروا ضعفه باتفاق الأصحاب على العمل بمضمونه مع اعترافهم في
تلك المسائل الباقية بما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة وان خالف مقتضى قاعدتهم
، والجميع كما ترى أظهر شيء في رد كلامهم واختلال نظامهم فإنه لو كان ما ذكروه
حكما كليا بناء على ما توهموه من صحيحة زرارة المذكورة في كلامه لما خرجت الأخبار
المعتضدة باتفاق الأصحاب في تلك الجزئيات المذكورة بخلافه ، والمعنى في صحيحة
زرارة ليس كما توهموه كما سيظهر لك في المقام ان شاء الله تعالى.
و (ثالثا) ـ انه
يلزم بما ذكره هنا ايضا انه لو اشتبهت امه أو أخته أو إحدى محارمه بامرأة أخرى أو
اثنتين مثلا فإنه يجوز له نكاح اي تلك النساء شاء لأصالة الحل
في كل واحدة واحدة ولا يحكم بتحريم الام والأخت ونحوهما إلا إذا كانت
متشخصة ولا أظنه يتفوه به.
وبالجملة
فالقول الفصل والتحقيق الجزل في المقام هو ان يقال لا ريب انه قبل وقوع النجاسة
فإن الطهارة متيقنة في كل جزء جزء من اجزاء الأرض مثلا وكل فرد من افراد الأواني
المحصورة وبعد وقوع النجاسة ومعلوميتها في موضع مخصوص أو فرد مخصوص فإنه يحكم
بنجاسته يقينا ، واما مع وقوعها في جزء من تلك الاجزاء أو فرد من تلك الافراد
واشتباهه بالباقي فإنه قد حصل لهذه الاجزاء وهذه الافراد حالة ثالثة بين يقين
الطهارة ويقين النجاسة فكل منها ليس بمتيقن الطهارة ولا متيقن النجاسة ، والمعلوم
من الشارع انه الحق هذا القسم بالقسم الأول وهو المتيقن النجاسة كما عرفت من
الجزئيات التي ذكرناها وكذا بالنسبة إلى اختلاط الحلال بالحرام ، ووجه الفرق بين
هذا القسم وما دلت عليه صحيحة زرارة المذكورة ونحوها ان في هذا القسم الذي ذكرناه
قد علم وجود النجاسة قطعا ولكن اشتبه علينا موضعها من تلك الافراد والاجزاء ومورد
الصحيحة المشار إليها وأمثالها انما هو حصول الظن والشك بالنجاسة ، فالمقابل ليقين
الطهارة انما هو الظن أو الشك فمن أجل ذلك أمر (عليهالسلام) باستصحاب يقين الطهارة وانه لا يخرج عنه بمجرد الظن
والشك ، وفرض الشارح هذا بالنسبة الى كل جزء جزء من الاجزاء المحصورة ليس في محله
لما يلزم منه من رفع حكم النجاسة المعلومة يقينا بالكلية ومن أجل ذلك دلت النصوص
على إعطاء حكم المشتبه بالنجس أو المحرم في المحصور حكم ما اشتبه به ، فان قوله
تعالى : «حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...» و «حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... الآية» شامل لما لو كان ذلك المحرم متعينا متشخصا أو مشتبها
بأفراد مخصوصة متعينة ، فإنه كما يقطع بوجود النجس والحرام مع التشخص بقطع ايضا
بوجوده في صورة الاشتباه في الافراد المعينة فتشمله الأوامر المذكورة ، غاية الأمر
انه لما لم
__________________
يمكن الوصول الى الاجتناب عن ذلك النجس أو المحرم إلا بالاجتناب عن الجميع
وجب اجتناب الجميع من باب ان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ونظيره في
الأحكام غير عزيز فان من فاتته صلاة فريضة واشتبهت بباقي الخمس وجب عليه الإتيان
بالجميع نصا وفتوى بالتقريب المذكور ، واما لو لم يكن محصورا كالموجود بأيدي الناس
وفي الأسواق فإنه لا يقطع بوجود المحرم ولا النجس فيما يراد استعماله منه وان علم
وجوده في الواقع ونفس الأمر ، ومن هنا حكم الشارع بحل ما في أيدي المسلمين
وأسواقهم وطهارته وجواز شرائه وان علم وجود الحرام والنجس في أيدي بعض الناس الغير
المعلومين ، وهذا هو الذي وردت فيه صحيحة زرارة المذكورة في كلامه ونحوها وورد فيه
«ان كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» . وورد «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر» . فهذه الاخبار انما وردت في غير المحصور دون المحصور
بمعنى ان كل شيء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس أو بعضها حلال وبعضها حرام فان
الحكم فيها الطهارة والحلية حتى يعلم كونه من الافراد المحرمة أو النجسة ، ومن هنا
دخلت الشبهة على جملة من أفاضل متأخري المتأخرين حيث أجروا هذه الاخبار في قسم
المحصور ومنهم السيد المذكور ونحوه ممن حذا حذوه في مسألة الطهارة والنجاسة
والمحدث الكاشاني والفاضل الخراساني في مسألة اختلاط الحلال بالحرام فحكموا بحل
الجميع في المحصور ، وهذا غلط نشأ من عدم التأمل في الاخبار ، وقد أشبعنا الكلام
معهما في الدرر النجفية.
ومما يوضح ما
قلناه موثقة مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه
حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ،
والمملوك عندك وهو حر
__________________
ولعله قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ،
والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». ورواية أبي
الجارود المروية في المحاسن قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى انه يجعل فيه الميتة؟
فقال أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ ما علمت أنه ميتة
فلا تأكل وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم
والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان». الى غير ذلك من
الاخبار ، ومورد الخبرين وان كان الحل والحرمة إلا ان المسألتين من باب واحد فبعين
ما قيل هنا يقال في «كل شيء طاهر حتى يعلم انه قذر». بمعنى انا نحكم على كل شيء
نراه في أيدي الناس وأسواقهم بالطهارة وان كان نجسا في الواقع ونستصحب هذا الحكم
الى ان يعلم الرافع له لا ان مورده المحصور كما في مسألة الإناءين ونحوها لمعلومية
النجاسة الموجبة للخروج عن ذلك الأصل. والله العالم.
وقال المحقق
الشيخ حسن في المعالم : وإذا علمت الملاقاة على الوجه المؤثر واشتبه محلها فان كان
موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كل واحد من الاجزاء التي وقع
فيها الاشتباه على أصل الطهارة لا نعرف في ذلك خلافا ، وان كان محصورا فظاهر جماعة
من الأصحاب انه لا خلاف حينئذ في وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه كما مر في
اشتباه الإناء من الماء الطاهر بالنجس ، ولم يذكروا على الحكم هنا حجة وقد بينا في
مسألة الإناءين ان العمدة في الحكم بوجوب اجتنابهما على الإجماع المدعى هناك وان
ما عداه من الوجوه التي احتجوا بها ضعيفة مدخولة ولعل اعتمادهم في الحكم هنا ايضا
على الإجماع لا على تلك الوجوه. انتهى.
أقول : اما ما
ذكره بالنسبة إلى المحصور من انه ظاهر جماعة من الأصحاب المؤذن بعدم الاتفاق على
ذلك فهو مردود بأنه لم يوجد المخالف في هذه المسألة بكل من طرفيها اعني
__________________
المحصور وغير المحصور سواه ومن في طبقته ومن تأخر عنه ، ولهذا انه في
المدارك كما قدمنا في عبارته قال هذا الحكم ـ إشارة إلى المحصور ـ مقطوع به في
كلام الأصحاب واما ما ذكره من انه ليس عليه دليل ولا حجة سوى الإجماع فهو مردود
بما عرفت من الجزئيات الداخلة تحت هذه القاعدة الثابتة بالنصوص ، ولا يخفى ان
القواعد الكلية في الأحكام الشرعية كما تثبت بورود النص في الحكم مسورا بسور
الكلية كذلك تثبت بتتبع الجزئيات المتفقة على ذلك الوجه ، ونحن قد تتبعنا الأخبار
بالنسبة إلى المحصور فوجدناها قد وردت في جملة من الأحكام متفقة النظام ملتئمة
تمام الالتئام على الدخول تحت هذه القاعدة التي ذكرها الأصحاب وهو إعطاء المشتبه
بالنجس والحرام حكمهما في المحصور كما مرت إليه الإشارة ، والقواعد الكلية كما
تثبت بورودها مسورة بسور الكلية تثبت ايضا بتتبع الجزئيات واتفاقها على نهج واحد
في الحكم كالقواعد النحوية المبنية على تتبع جزئيات كلام العرب ، وأكثر القواعد في
الأحكام الشرعية انما هو من هذا القبيل كما لا يخفى على المتتبع من ذوي التحصيل ،
ويعضد ذلك الإجماع المدعى في المسألة والوجوه التي ذكروها وقد بينا وجه صحتها في
مسألة الإناءين. والله العالم.
(المقام الثاني)
ـ بالنسبة الى غير المحصور وقد عرفت إجماع الأصحاب هنا ايضا على ارتفاع حكم
النجاسة ، بقي الإشكال في انه لم يرد في الاخبار في هذا المقام التعبير بالمحصور
وغير المحصور وترتب كل من حكمي المحصور وغير المحصور على وجود هذا العنوان وانما
المستفاد من تتبعها كما قدمنا بيانه انه متى وقع الاشتباه في افراد معلومة مشاهدة
كمسألة الإناءين واللحم المختلط ذكية بميتة والثياب المختلط نجسها بطاهرها ونحو
ذلك فإنه يجب عليه اجتناب الجميع وان الشارع قد اعطى المشتبه هنا حكم ما اشتبه به
في النجاسة والحرمة ، واما ما يوجد في أيدي المسلمين وأسواقهم فالحكم فيه هو
الطهارة والحلية وان علم النجس والحرام في الجملة لا في تلك العين بخصوصها متحدة
أو متعددة ، والأصحاب هنا قد عبروا عن الحكمين المذكورين بالمحصور وغير المحصور
وكلامهم في بيان المراد من ذلك
لا يخلو من اضطراب. فجملة من الأصحاب جعلوا المرجع في الحصر الى ما يصدق
عليه العرف إذ لم يثبت له حقيقة في غيره ومثلوا له في الأرض بالبيت والبيتين ولغير
المحصور فيها بالصحراء.
وقال المحقق
الشيخ علي في حاشية الشرائع : المراد بالمحصور وغير المحصور ما كان كذلك في العادة
لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية عند فقد الشرعية ، ولانه لولا ارادة
العرفية هنا لامتنع تحقق الحكم فان كل ما يوجد من المعدودات فهو قابل للعد والحصر
والمراد به ما يعسر حصره وعده عرفا باعتبار كثرة آحاده ، وطريق ضبطه وضبط أمثاله
انك إذا أخذت مرتبة من مراتب العدد عليا تقطع بأنها مما لا يحصر ولا يعد عادة لعسر
ذلك في الزمان القصير كالألف مثلا تجعلها طرفا ثم تأخذ مرتبة اخرى دنيا كالثلاثة
مما يقطع بكونها محصورة ومعدودة لسهولة عدها في الزمان القصير فتجعلها طرفا مقابلا
للأول ثم تنظر فيما بينهما من الوسائط فكل ما جرى مجرى الطرف الأول تلحقه به وما
جرى مجرى الطرف الثاني تلحقه به وما وقع فيه الشك يعرض على القوانين والنظائر
ويراجع فيه القلب فان غلب على الظن إلحاقه بأحد الطرفين فذاك وإلا عمل فيه
بالاستصحاب الى ان يعلم الناقل ، وهذا ضابط لما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة
والنكاح وغيرهما ، فمتى اشتبه الذكي بغيره والطاهر بالنجس في الثياب والمكان
والأواني والمياه وغير ذلك والمحرمة بالأجنبية وكان غير محصور لم يجب الاجتناب
وإلا وجب ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن المشتبه بالنجس من الأمكنة كالبيت والبيتين له
حكمه على معنى وجوب اجتناب الجميع فلا يجوز ان يجعل شيء منه مسجد الجبهة لما تقرر
من ان مسجد الجبهة يشترط فيه الطهارة وقد تكافأ في المشتبه بالنجس كل من طرفي
الطهارة والنجاسة ، وكذا استعماله في كل ما يشترط فيه الطهارة كالتعفير في إناء
الولوغ والتيمم ، اما لو باشر بعضه برطوبة فإن المحل الملاقي لا ينجس إذا كان
مملوكا لطهارته قبل ذلك لعدم القطع بملاقاة النجاسة فيستصحب حكم الطهارة
والثابت قبل الملاقاة ، وما وقع في كلامهم من ان المشتبه بالنجس له حكم
النجس لا يريدون به من جميع الوجوه للقطع بأنه في الأصل طاهر قطعا ولم يعرض له
تنجيس وما كان كذلك فهو في نفسه على طهارته فقد خالف حكم النجس من هذا الوجه ،
وغاية ما هناك ان الاشتباه صيره بحيث يمتنع استعماله فيما يشترط فيه الطهارة فصار
كالنجس من هذه الجهة ، على ان تشبيه شيء بآخر لا يقتضي المساواة من كل وجه كما
تقرر بين الأصوليين. انتهى كلامه علا مقامه.
أقول : ومما
يمكن ان يؤيد ما ذكره في غير المحصور بأنه ما يعسر حصره عرفا باعتبار كثرة آحاده موثقة
حنان بن سدير عن الصادق (عليهالسلام) «في جدي رضع من خنزيرة حتى شب واشتد عظمه استفحله رجل في غنم له فخرج له
نسل ما تقول في نسله؟ فقال اما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه واما ما لم تعرفه
فإنه بمنزلة الجبن». والتقريب فيه انه لكثرة تلك الغنم على وجه يعسر عدها فالحكم
فيه الحلية لكل فرد فرد منها ، ويمكن ـ ولعله الأقرب ـ ان الوجه فيه انما هو عدم
معلومية بقاء ما خرج من نسله في تلك الغنم لكثرتها فلعله قد ذهب منها بأحد وجوه
الذهاب كما يشير اليه التنظير بالجبن من حيث عدم معلومية الحرام منه بعينه. واما
ما ذكره بالنسبة إلى ملاقي ذلك المشتبه برطوبة وانه لا يتعدى اليه حكم ما لاقاه
فهو أحد القولين في المسألة وقد تقدم تحقيق القول فيه في مسألة الإناءين.
وجمع من
المتأخرين جعلوا المرجع في صدق الحصر وعدمه الى حصول الحرج والضرر بالاجتناب وعدمه
، قال في المعالم : وهذا الكلام ناظر الى ما يوجد في عبارات كثير من تعليل عدم
وجوب الاجتناب في غير المحصور بلزوم المشقة والعسر. وليس بشيء فإن الغرض من هذا
التعليل كما يظهر تقريب الحكم لا الاستدلال له إذ لا يعقل الاعتماد في مثل هذه
التفرقة والبناء في تأسيس هذا الحكم على نحو هذه القاعدة كما هو
__________________
واضح ، ولو قدر بناء الحكم على ذلك لانهار من أصله إذ المشقة قد تنتفي في
كثير مما ليس بمحصور وربما وجدت في بعض افراد المحصور فأي معنى حينئذ لجعل الحصر
مناطا للحكم وقد كان الواجب على هذا ان يناط بعدم المشقة ووجودها. وبالجملة
فالإشكال في التفرقة هنا بين ما يجب فيه الاجتناب وما لا يجب قوى جدا إذ ليس لها
شاهد من جهة النص يعول في حكمها عليه وانما هي من عبارات الفقهاء ، والرجوع الى
القاعدة المقررة في الألفاظ التي لم يثبت لها حقيقة من جهة الشرع يتوقف على وجدان
غيرها ، ولا يكاد يظهر من اللغة ولا من العرف معنى مشخص لهذا اللفظ يطابق ما هو
غرضهم منه ، مع ان في كلامهم اختلافا في التمثيل للمحصور فالمحقق والفاضل مثلا له
بالبيت وقد حكينا عن جماعة التمثيل بالبيت والبيتين ومثل بعض بالبيتين والثلاثة ،
وربما فسر غير المحصور بما يعسر حصره وعده لكثرة آحاده ، والظلام يلوح على الكل.
انتهى. وهو جيد
وانما أطلنا
الكلام بنقل كلماتهم في المقام لتطلع على ان النفخ في غير ضرام. وبالجملة
فالمستفاد من الاخبار هو ما قدمنا ذكره فكل ما دخل في افراد القسم الأول الحق به
وما دخل في افراد الثاني الحق به وما اشتبه الأمر فيه فالاحتياط طريق السلامة.
والله العالم.
(المسألة
الخامسة) ـ قال في المعالم ان حكم بنجاسة شيء لعروض أحد الأسباب المقتضية لذلك
توقف في عوده إلى الطهارة على العلم بحصول أحد الوجوه التي ثبت كونها مفيدة
للتطهير أو ما يقوم مقام العلم وهو شهادة العدلين ، ويحتمل الاكتفاء باخبار العدل
الواحد لعموم مفهوم قوله تعالى : «...
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... الآية» ولا اعتبار باخبار غير العدل إلا ان ينضم إليه القرائن
المفيدة معه للعلم ، ولو افادته منفردة كفت في الحكم بالطهارة أيضا. انتهى.
أقول : لم أقف
على من تعرض لهذا الحكم غيره بنفي أو إثبات إلا الفاضلان
__________________
الأمين الأسترآبادي والمحقق السيد نعمة الله الجزائري فإنهما نقلا عن جملة
من علماء عصريهما انهم كانوا لأجل هذه الشبهة يهبون ثيابهم للقصارين أو يبيعونها
عليهم ثم يشترونها منهم مستندين الى ما قدمنا نقله عن المحقق المذكور ، ثم ردا ذلك
بان المستفاد من الاخبار ان كل ذي عمل فهو مؤتمن على عمله ما لم يظهر منه خلافه ،
قال الأمين الأسترآبادي في الفوائد المدنية في عد جملة من أغلاط الفقهاء : ومن
جملتها ان جمعا من أرباب التدقيق منهم زعموا انه إذا علمنا نجاسة ثوب مثلا لا نحكم
بطهارته إلا إذا قطعنا بإزالتها أو شهد عندنا شاهدان عدلان لان اليقين لا ينقض إلا
بيقين أو بما جعله الشارع في حكم اليقين وهو شهادة العدلين في الوقائع الجزئية.
وانا أقول : لنا على بطلان دقتهم دليلان : (الأول) ان اللبيب الذي تتبع أحاديثنا
بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأنه يستفاد منها ان كل ذي عمل مؤتمن على عمله ما لم
يظهر خلافه ، وان شئت ان تعلم كل ما علمنا فانظر إلى الأحاديث الواردة في القصارين
والجزارين وحديث تطهير الجارية ثوب سيدها والحديث الصريح في ان الحجام مؤتمن في تطهير موضع
الحجامة لكن لا بد من قريحة قويمة وفطنة مستقيمة وإلا لا تعبت
نفسك وغيرك فان كلا ميسر لما خلق له. و (الدليل الثاني) ان هذه المسألة مما يعم به
البلوى فلو كان مضيقا كما زعموا لظهر عندنا منه اثر واضح بين ، ولم يظهر منهم (عليهمالسلام) إلا ما يدل على التوسعة وقد بلغني أن جمعا من فحول
علمائهم المتورعين يهبون الثياب النجسة للقصارين ثم يسترجعونها ومن المعلوم عند
الفقيه الحاذق ان هذه الحيلة غير نافعة. انتهى كلامه.
أقول : ومن
الاخبار التي أشار إليها ما ورد في صحيحة الفضلاء «أنهم سألوا أبا جعفر (عليهالسلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون؟
__________________
فقال كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه». وفي رواية سماعة قال : «سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت
والغراء؟ فقال لا بأس به ما لم تعلم أنه ميتة». وفي صحيحة إبراهيم بن ابي محمود «انه قال للرضا (عليهالسلام) الخياط والقصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم انه
يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال لا بأس». وفي صحيحة معاوية بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث.». وقد
تقدمت قريبا ، وفي رواية عبد الأعلى عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الحجامة أفيها وضوء؟ قال لا ولا يغسل
مكانها لان الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه ولم يكن صبيا صغيرا». الى غير ذلك من
الاخبار الواردة من هذا القبيل ، والتقريب فيها ان أصالة الطهارة والحلية التي قد
صارت قاعدة انما بنيت على ائتمانهم على أعمالهم المذكورة ، ويؤيد ذلك ما ورد في
كثير من اخبار الصناع والمستأجرين على الأعمال إذا أفسدوا من انه لا يضمنه إلا ان
يتهمه فمتى كان مأمونا لا يتهمه فلا يضمنه ولا يغرمه ما أفسد ، وليس الوجه فيه إلا
انه مؤتمن وموثوق بعمله وانه لا يخالف صاحب العمل إلا ان يكون بغير اختياره وهو
ظاهر في التأييد.
واما الرواية
التي أشار إليها المحدث المذكور بحديث تطهير الجارية ثوب سيدها فهي رواية ميسر قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله
فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ فقال أعد صلاتك اما انك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء».
وهذا الخبر ربما استند اليه من ذهب الى
__________________
التمسك بأصالة النجاسة حتى يظهر الرافع حيث امره (عليهالسلام) بإعادة الصلاة لما لم يكن هو الغاسل بنفسه لقوله (عليهالسلام) : «اما لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء» وهو غلط فان
ظاهر الخبر ان الأمر بإعادة الصلاة انما هو لبقاء المني لا لكون الجارية قد غسلته
وغسلها غير معتبر ولا مطهر حتى لو فرض أنه إزالته عن الثوب ولم يجده فيه كان عليه
إعادة الصلاة وغسل الثوب لعدم الاعتداد بغسلها فإنه توهم محض ، بل الأمر في
الإعادة والغسل انما ابتنى على وجود المني ، وبهذا التقريب يكون الخبر من أدلة
المسألة كما ذكره المحدث المذكور فان مفهوم الخبر انه لو لم يجد المني لم يأمره (عليهالسلام) بإعادة الصلاة ، وفيه حينئذ دلالة على الاكتفاء بغسل
الجارية كما هو المدعى (فان قيل) انه لو كان غسل الجارية معتبرا شرعا وموجبا
لطهارة الثوب لم تجب الإعادة وان وجد المني بعد ذلك لانه وان علم بالمني فيه سابقا
إلا انه قد بنى على طهارة الثوب طهارة شرعية موجبة لجواز الصلاة كجاهل النجاسة فلا
تتعقبه الإعادة (لأنا نقول) ان غسل الجارية انما يكون غسلا شرعيا معتدا به لو لم
يظهر فساده واما بعد ظهور فساده فلا مجال للحكم بكونه شرعيا وقوله (عليهالسلام) : «اما لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء» يعني انك لو
غسلت أنت لبالغت في إزالة النجاسة ولم يبق منها اثر فلم يكن عليك اعادة.
ومما يؤيد ما
ذكرناه ايضا ان الظاهر من الأخبار ان الناس في الصدر الأول كانوا يدفعون ثيابهم
للغسال لأجل غسلها من الأوساخ والنجاسات ويسترجعونها ويلبسونها ويصلون فيها من غير
تناكر ولو كان ما ذكروه حقا من انه لا يتم الحكم بالطهارة إلا بتمليكه إياها لنقل
ذلك. وايضا فمن المعلوم وجود الأطفال في بيوت الأئمة (عليهمالسلام) وبيوت أصحابهم ولا ريب في حصول النجاسات أيضا في
ثيابهم منهم أو من غيرهم ولو كان ما ذكروه حقا لورد في خبر من الاخبار أو نقله ناقل
في عصر من الأعصار وليس فليس.
والى هذا الوجه
أشار المحدث المتقدم ذكره بالدليل الثاني وهو عموم البلوى بذلك ومرجعه الى العمل
بالبراء فالأصلية في مثل هذا الموضع كما تقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، وقد وجهه في
موضع آخر من كتابه المتقدم ذكره قال : فان جمعا غفيرا من أصحابهم (عليهمالسلام) منهم الأربعة آلاف رجل الذين هم أصحاب الصادق (عليهالسلام) وتلامذته كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد على ثلاثمائة
سنة وكان همهم وهم الأئمة (عليهمالسلام) إظهار الدين وترويج الشريعة وكانوا لحرصهم على ذلك
يكتبون كل ما يسمعونه خوفا من عروض النسيان لهم وكان الأئمة (عليهمالسلام) يحثونهم على ذلك وليس الغرض منه إلا العمل بذلك بعدهم
، ففي مثل ذلك يجوز التمسك بالبراءة الأصلية إذ لو كان ثمة دليل والحال كذلك لظهر.
على ان ما
اعتمده هذا القائل ـ من ان يقين النجاسة لا يرتفع إلا بيقين الطهارة على إطلاقه ـ ممنوع
:
(أما أولا) ـ فلعدم
الدليل عليه والنصوص انما وردت بذلك بالنسبة إلى أصالة الطهارة والحلية لبناء
الأحكام الشرعية على السهولة والسماحة ، وقياس النجاسة على ذلك قياس مع الفارق.
و (اما ثانيا)
ـ فإنه منقوض بما ذهب اليه جمع من المحققين : منهم ـ المحدث المذكور من الحكم
بطهارة الإنسان بمجرد الغيبة لأن معلومية الحدث من المكلف في اليوم والليلة بالبول
والغائط مما لا سبيل إلى إنكاره فالحكم بنجاسته يقيني البتة فلو توقف الحكم
بطهارته على يقين وجود ذلك لم يمكن الحكم بطهارة أحد من الناس بالكلية ولو اكتفى باخباره
بالطهارة. فإنه لا يجوز الصلاة خلف الامام حتى يسأله عن ذلك ، وكذا لو رأى في ثوب
أحد نجاسة مثلا ثم رآه بعد ذلك خاليا من تلك النجاسة فإنه لا يجوز له استعماله
والصلاة فيه وان يقتدي بإمام يصلي فيه حتى يسأله عن ذلك ، واللوازم كلها باطلة إذ
لا قائل بها ولا دليل عليها بل الأدلة على خلافها ظاهرة.
و (اما ثالثا)
ـ فلانه قد ورد في جملة من المواضع الخروج عن اليقين بمجرد الظن كما في صورة إخبار
المرأة بموت الزوج واخبارها بالطلاق واخبارها بالخروج من العدة والنقاء من الحيض ،
فان الشارع قد جوز قبول خبرها في هذه المواضع كلها وغاية ما يفيده هو الظن مع ان
الأمور التي أخبرت بالخروج عنها متيقنة معلومة تترتب عليها أحكام شرعية وتنتفي تلك
الأحكام بقبول خبرها ، وحينئذ فقول ذلك القائل ان يقين النجاسة لا يخرج عنه إلا
بيقين الطهارة ان أراد من حيث خصوص النجاسة فقد عرفت انه لا دليل عليه ، وان أراد
أنه حيثما كان اليقين وفي أي موضع كان فإنه لا يجوز الخروج عنه إلا بما يوجب
اليقين فهذه جملة من المواضع قد جوز الشارع فيها الخروج عن اليقين بمجرد الظن ،
ونحو ذلك ما ورد في حسنة زرارة والفضيل من انه متى شك في الصلاة وانه اتى بها أو لم يأت بها
بعد خروج الوقت فإنه لا يلتفت ، مع ان اشتغال الذمة متيقن ومجرد خروج الوقت لا
يوجب يقين البراءة ، بل ورد في القاعدة المتفق عليها من ان يقين الطهارة لا يجوز
الخروج عنه إلا بيقين النجاسة ما أوجب الخروج في بعض الجزئيات بمجرد الشك كمن تطهر
بعد ان بال ولم يستبرئ أو اغتسل ولم يبل ثم خرج منه بلل مشتبه فإنه ينقض وضوءه
وغسله مع انه غير متيقن كونه بولا أو منيا ، الى غير ذلك من المواضع التي من هذا
القبيل. ولا يخفى انه ولو أمكن تطرق المناقشة الى بعض ما ذكرناه من الأدلة إلا
انها باجتماعها مما تفيد دلالة قوية على ما ذكرناه والله العالم.
البحث الثاني
فيما تجب
إزالته من النجاسات وما يعفى عنه وفيه مسائل (الأولى) ـ اتفق الأصحاب عدا ابن
الجنيد على انه تجب ازالة النجاسات عن الثوب والبدن للصلاة والطوافين الواجبين عدا
الدم على التفصيل الآتي فيه ان شاء الله تعالى ، وكذا ما تتم
__________________
الصلاة فيه من الثياب إذا لم يمكن إبداله بطاهر. وقال ابن الجنيد في مختصره
: كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو متفشية دون سعة الدرهم الذي
تكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا ان تكون النجاسة دم حيض أو
منيا فان قليلهما وكثيرهما سواء. انتهى. وظاهر هذا الكلام انه قصر الحكم بوجوب
ازالة النجاسات كلها عدا دم الحيض والمني على ما بلغ منها مقدار سعة الدرهم فصاعدا
وسوى في دم الحيض والمني بين القليل والكثير ، وظاهره طهارة الناقص عن الدرهم من
النجاسات التي ذكرها ، والمشهور في كلام الأصحاب ان خلافه انما هو في العفو فلعل
الكلام في عبارته خرج مخرج التجوز والتوسع ، ومن العجب انه في المعتبر عزى اليه
القول بالعفو هنا كما هو المعروف في كلام غيره وفي حكم الدم نسب اليه القول بطهارة
القليل منه ، ولا يخلو من تدافع فان عبارته المحكية عنه هنا ظاهرة في تساوي الدم
وغيره في عدم نجاسة ما دون سعة الدرهم أو العفو عنه اللهم إلا ان يكون ما نقله في
مسألة الدم من كتاب آخر أو قول آخر نسب اليه.
ويدل على القول
المشهور الأخبار الكثيرة المتضمنة للغسل من النجاسات ، إذ من الظاهر ان الغسل ليس
واجبا لنفسه وانما هو لأجل العبادة ونحوها ، وقد وقع التصريح في جملة من الاخبار
الصحيحة بإعادة الصلاة بنجاسة الثوب بالبول والمني والمسكر وقدر الدرهم من الدم
وعذرة الإنسان والسنور والكلب ورطوبة الخنزير ، وهي مطلقة في القليل من النجاسات
المذكورة والكثير ، وجملة من الأخبار الدالة على ما ذكرنا قد تقدمت في أصناف
النجاسات ، وسيأتي طرف منها في المباحث الآتية وطرف في الخلل الواقع في الصلاة ان
شاء الله تعالى.
فرع
قد صرح جماعة
من الأصحاب بأن اعتبار الطهارة في ملبوس المصلي ومحموله
الذين تتم فيهما الصلاة انما هو فيما يقله منهما ولو في بعض أحوال الصلاة
فلو تنجس طرف الثوب الذي لا يقله على حال منها كالعمامة لم يضر لانتفاء الحمل
واللبس عن موضع النجاسة. واستحسنه المحقق الشيخ حسن في المعالم معللا له بأن أصالة
البراءة تقتضيه والأدلة الدالة على اشتراط الطهارة وإيجاب الإزالة لا تصلح لتناول
مثله ، قال وممن تعرض لهذه المسألة الشيخ في الخلاف فقال : إذا ترك على رأسه طرف
عمامة وهو طاهر وطرفها الآخر على الأرض وعليه نجاسة لم تبطل صلاته ، وحكى عن بعض
العامة القول بالبطلان به ، وقال بعد ذلك دليلنا ان الأصل براءة الذمة فمن حكم
ببطلان هذه الصلاة فعليه الدلالة. انتهى. وهو جيد
واما ما ذهب
اليه ابن الجنيد فلم نقف له على مستند وقد اعترف بذلك جملة من الأصحاب أيضا ،
والعلامة في المختلف احتج له بالقياس على الدم وأجاب عنه بأن نجاسة المذكورات أغلظ
من نجاسة الدم فقياس حكمها على المني أولى. انتهى. وكل من الاحتجاج والجواب بمكان
من الضعف.
ثم انه قد ذكر
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تعداد المواضع التي تجب فيها الإزالة بعد الثوب
والبدن مسجد الجبهة ، وعلله الشهيد في الذكرى بالنص فقال : وتجب ازالة النجاسات عن
مسجد الجبهة أيضا للنص. ولم أقف على هذا النص ولا نقله ناقل فيما اعلم بل ربما ظهر
من النصوص خلافه كما سيأتي في بحث المكان من كتاب الصلاة.
وعن مكان
المصلي بأسره عند المرتضى والمساجد السبعة عند ابي الصلاح ، وسيأتي الكلام فيها في
الموضع المشار اليه.
وعن المأكول
والمشروب وأوانيهما مع الملاقاة برطوبة لتحريم النجس ، وهو جيد وعليه تدل الأخبار
الآتية الدالة على الأمر بتطهير الأواني فإنه ليس ذلك إلا لأجل الأكل والشرب.
وعن ما أمر
الشارع بتعظيمه كالمصحف والضرائح المقدسة ، وهو حسن للأمر بتعظيم شعائر الله.
وعن المساجد
وقد نقل الإجماع عليه جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ في الخلاف فإنه قال : لا خلاف
في ان المساجد يجب ان تجنب النجاسة. وعن ابن إدريس انه نقل إجماع الأمة ، وظاهر
جمع : منهم ـ الفاضلان انه لا فرق في ذلك بين النجاسة المتعدية وغيرها حتى قال في
التذكرة : لو كان معه خاتم نجس وصلى في المسجد لم تصح صلاته
واستدلوا على
ذلك بقوله عزوجل : «...
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ...» حيث رتب النهي على النجاسة فيكون تقريبها حراما ومتى ثبت
التحريم في المسجد الحرام ثبت في غيره إذ لا قائل بالفصل. وقول النبي (صلىاللهعليهوآله) «جنبوا مساجدكم النجاسة» .
واعترض عليه
بأنه يتوجه على الأول ان النجاسة لغة المستقذر والواجب الحمل عليه الى ان تثبت
الحقيقة الشرعية ولم يثبت كون المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء حقيقة شرعية. سلمنا
الثبوت لكن النهي انما ترتب على نجاسة المشرك خاصة فإلحاق غيرها بها يحتاج الى
دليل وهو منتف هنا. سلمنا ذلك لكن النهى انما تعلق بقرب المسجد الحرام خاصة وعدم
الظفر بالقائل بالفرق بينه وبين غيره لا يدل على العدم فيحتمل الفرق. وعلى الثاني
الطعن في الرواية بعدم الوقوف على المستند والمراسيل لا تنهض حجة في إثبات حكم
مخالف للأصل ، وأيضا فإن مجانبة النجاسة المساجد تتحقق بعدم تعديها إليها فيحصل به
الامتثال ولا يلزم من ذلك تحريم إدخالها مع عدم التعدي ، ومن ثم ذهب جمع من
المتأخرين الى عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية الى المسجد أو فرشه وآلته.
انتهى وهو جيد.
ويؤيد ما ذكره
أخيرا من عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية ما نقله الشيخ في الخلاف من
الإجماع على جواز عبور الحيض من النساء في المساجد مع عدم انفكاكهن من
__________________
النجاسة غالبا ، وقوله (عليهالسلام) في صحيحة معاوية بن عمار الواردة في المستحاضة «. وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد
وصلت كل صلاة بوضوء.». وربما لاح منه تحريم إدخال النجاسة المتعدية حيث خص دخولها
المسجد بصورة ما إذا لم يثقب الكرسف ، وظاهرهم الاتفاق على تحريم إدخال النجاسة
المتعدية ولا اعرف لهم دليلا سواه الا ما لاح من الرواية المشار إليها ، الا انه قد
روى عمار في الموثق ايضا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل ، فينفجر وهو في
الصلاة ، قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة». فإن إطلاقها
شامل لما لو كانت الصلاة في المسجد بل هو الغالب ، والعفو عن هذا الدم انما ثبت
بالنسبة الى المصلي خاصة كما يأتي ان شاء الله ذكره ، وبالجملة فأصالة الجواز أقوى
دليل في المقام الى ان يثبت المخرج عنها.
بقي الكلام في
ان المفهوم من كلامهم القطع بوجوب الإزالة على الفور كفاية بناء على التحريم فلو
أخل بالإزالة اثم ، ولو صلى والحال هذه فان كان في ضيق الوقت فلا خلاف في الصحة
واما في السعة فقولان مبنيان على ان الأمر بالشيء هل يستلزم النهي عن ضده الخاص
أم لا؟ ولهم في هذه المسألة أبحاث طويلة الذيل نقضا وإبراما في الأصول وفي مواضع
من كتب الفروع ، والذي أقوله في ذلك واعتمد عليه في أمثال هذه المسالك هو الثاني ،
وتوضيحه ان يقال : التحقيق عندي وان أباه من الف بالقواعد الأصولية انا متى رجعنا
إلى الأدلة العقلية في الأحكام الشرعية فهي لا تقف على حد ولا ساحل ولهذا كثرت في
هذه المسألة الأبحاث وتصادمت من الطرفين الدلائل وصنفت فيها الرسائل واضطربت فيها
أفهام الأفاضل.
والجواب الحق
عما ذكروه ان يقال (أولا) ـ ان الأحكام الشرعية توقيفية
__________________
من الشارع فلو كان لهذه المسألة أصل مع عموم البلوى بها لخرج عنهم (عليهمالسلام) ما يدل عليها أو يشير إليها وحيث لم يخرج عنهم فيها شيء
سقط التكليف بها إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان ،
وهذا يرجع في التحقيق الى ما قدمنا ذكره في غير موضع وبه صرح المحدث الأمين
الأسترآبادي من الاستدلال بالبراءة الأصلية والعمل بها فيما يعم به البلوى من
الأحكام.
و (ثانيا) ـ ان
القول بذلك موجب للحرج والضيق المنفيين بالآية والرواية والإجماع إذ لا يخفى انه لا يكاد أحد من المكلفين فارغ الذمة من
واجب من الواجبات البدنية أو المالية ويأتي بناء على هذا القول بطلان عباداته
وصلواته في غير ضيق الوقت وعدم ترخصه في أسفاره وتأثيمه في جملة أفعاله من اكله
وشربه ومغداه ومجيئه ونومه ونكاحه ونحو ذلك لان الفرض انه منهي عن هذه الأضداد
الخاصة والنهي حقيقة في التحريم ، واي ضيق وحرج أعظم من ذلك؟
و (ثالثا)
الأخبار الدالة على عدم التكليف بأمثال هذه الأمور التي لم يرد فيها شيء بنفي ولا
إثبات مثل قول الصادق (عليهالسلام) في رواية إسحاق بن عمار «ان عليا (عليهالسلام) كان يقول أبهموا ما أبهمه الله». وما رواه الشيخ
المفيد عن أمير المؤمنين علي (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الله حد لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض
فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا لكم عن
أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تتكلفوها». وما رواه في الفقيه في خطبة لأمير المؤمنين (عليهالسلام) قال فيها : «ان الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض
فلا تنقضوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها
__________________
نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها». ولا ريب ان هذه المسألة
داخلة فيما سكت الله عنه فتكلف البحث فيها كما ذكره أصحابنا (رضوان الله عليهم)
تبعا للمخالفين في كتبهم الأصولية ناشىء من عدم ملاحظة هذه الاخبار ، وكم لهم مثل
ذلك كما لا يخفى على من جاس خلال الديار. والله العالم.
فروع
(الأول) ـ قد
صرح المحقق والعلامة في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى بأنه إذا تعذر غسل
مخرج البول وجب مسحه بحجر ونحوه ، واحتج له المحقق ومثله العلامة بأن الواجب ازالة
العين والأثر فإذا تعذرت إزالة الأثر بقيت ازالة العين ، وفهم من هذا الحكم جملة
من المتأخرين بأنهم يرون وجوب تخفيف مطلق النجاسة عند تعذر إزالتها وان ذلك بدل
اضطراري للطهارة من النجاسات كبدلية التيمم للطهارة من الأحداث ، ونحن قد قدمنا ما
في هذا الكلام من تطرق المناقشة إليه في الفصل الأول في آداب الخلوة في التنبيه
الخامس من التنبيهات الملحقة بذلك البحث ، ونزيده تأييدا هنا بما ذكره بعض
المحققين من متأخري المتأخرين حيث قال بعد نقل ما ذكرناه : وعندي في هذا الكلام من
أصله نظر لان وجوب ازالة العين والأثر حكم واحد مستفاد من دليل واحد ومن البين ان
الأمر بالمركب انما يقتضي الأمر بأجزائه على الاجتماع لا مطلقا ، وحينئذ فلا بد في
إثبات التكليف بجزء منها على الانفراد من دليل غير الأمر بالمركب وهو مفقود في
المتنازع ، بل ظاهر الاخبار المسوغة للصلاة مع النجاسة عند تعذر الإزالة نفي
التكليف بأمر آخر سوى الإزالة باعتبار إطلاق الاذن من غير تعرض للتخفيف بوجه ، وما
ورد في بعض الأخبار من ذكر المسح للبول عن المخرج عند تعذر غسله لا يصلح شاهدا على
العموم لان الوجه فيه منع النجاسة عن التعدي الى غير محلها من الثوب أو البدن وهو
أمر آخر غير التخفيف. انتهى. وهو جيد.
(الثاني) ـ المستفاد
من النصوص ـ وعليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب ـ ان
زوال حكم النجاسة متوقف على زوال عينها أو استحالتها كما سيأتي تفصيل ذلك
في مواضع مخصوصة ولا عبرة بما يبقى من اللون والرائحة وحكى المحقق في المعتبر على
ذلك إجماع العلماء ، ومن الاخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الحسن عن ابن المغيرة عن
ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «قلت له للاستنجاء حد؟ قال لا حتى ينقى ما ثمة؟
قلت فإنه ينقى ما ثمة ويبقى الريح؟ قال الريح لا ينظر إليها». والخبر وان كان
مورده الاستنجاء إلا انه لا خلاف ولا إشكال في تعدية الحكم إلى جملة النجاسات
بطريق تنقيح المناط القطعي المتقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، وما رواه على بن أبي
حمزة عن العبد الصالح (عليهالسلام) قال : «سألته أم ولد لأبيه فقالت جعلت فداك اني أريد أن
أسألك عن شيء وانا أستحيي قال سليني ولا تستحي قالت أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته
فلم يذهب أثره؟ قال اصبغيه بمشق حتى يختلط ويذهب أثره». وعن عيسى بن ابي منصور قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته فبقي أثر الدم في
ثوبها؟ قال : قل لها تصبغه بمشق حتى يختلط». والمشق بالكسر المغرة ، قاله في
الصحاح والقاموس.
(الثالث) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب في الاكتفاء في ظهر البواطن بزوال العين ، وعلى ذلك تدل
جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ عن عمار الساباطي قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن رجل يسيل من انفه الدم هل عليه ان يغسل باطنه يعني
جوف الأنف؟ فقال انما عليه ان يغسل ما ظهر منه». وما رواه في الكافي في الصحيح عن
إبراهيم بن ابي محمود قال : «سمعت الرضا (عليهالسلام) يقول يستنجي
__________________
ويغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الا نملة». وعن محمد بن مسلم عن
أحدهما (عليهماالسلام) «في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دما كيف يصنع أينصرف؟ قال ان كان يابسا
فليرم به ولا بأس». وبالإسناد المتقدم في الحديث الأول عن عمار عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «انما عليه ان يغسل ما ظهر منها ـ يعني
المقعدة ـ وليس عليه ان يغسل باطنها». وما رواه الشيخ عن عبد الحميد بن ابي الديلم
قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه؟ فقال ليس
بشيء». ويؤيده أيضا ما رواه زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة إنما عليك
ان تغسل ما ظهر».
وبذلك يظهر لك
ما في كلام صاحب المعالم في هذا المقام حيث انه بعد ذكر الحكم المذكور انما استدل
برواية عمار الاولى ثم ردها بضعف السند وقال انها لا تصلح بمجردها دليل على الحكم
، ثم قال : وضم إليها بعض الأصحاب التعليل برفع الحرج والاشكال بحاله والحق انه
يكفي في الاستدلال له التمسك بأصالة البراءة فإنها ملزومة للطهارة ولا ، وجه لعدم
الاعتداد بها في نحو هذا الموضع إلا توهم كون أنواع النجاسات أسباب مؤثرة فيما
تلاقيه برطوبة مطلقا ، وقد أسلفنا في مسألة تطهير الشمس ان ذلك بعيد عن التحقيق.
انتهى.
ولا يخفى ما
فيه من النظر الظاهر فان الاعتماد على أصالة البراءة بعد استفاضة الروايات التي
تقدمت في فصول النجاسات بتعديها الى ما لاقته بالرطوبة أمر من الشمس أظهر ومن
البدر أنور كما تقدم تحقيقه ، هذا بناء على ما ذكر من تلك الرواية خاصة وإلا
فالناظر في جميع ما أوردنا من الاخبار التي فيها الصحيح باصطلاحه فلا مجال للتوقف
في الحكم المذكور. واما ما أشار اليه وأحال عليه من التحقيق الذي زعمه في مسألة
تطهير الشمس فسيأتي نقله ان شاء الله تعالى في مسألة تطهير الشمس وبيان ما فيه.
__________________
تذنيب
قد نقل جملة من
الأصحاب عن المرتضى (رضياللهعنه) الحكم بطهارة الصيقل بمجرد زوال عين النجاسة وظاهرهم
انحصار القول بذلك في المرتضى ، وظاهر الشيخ في الخلاف تقدم القول بذلك عليه حيث
ذكر ان في أصحابنا من قال بان الجسم الصيقل كالسيف والمرآة والقوارير إذا أصابته
نجاسة كفى في طهارته مسح النجاسة ، وعزى الى المرتضى اختياره ثم قال ولست اعرف به
أثرا ، وذكر ان عدم طهارته بدون غسله بالماء هو الظاهر ، واحتج له بان حصول
النجاسة في هذا الجسم معلوم والحكم بزوالها يحتاج الى شرع وليس في الشرع ما يدل
على زوال هذا الحكم بما قالوه. وظاهره كما ترى عدم انحصار القول بالطهارة في
المرتضى (رضى الله عنه) ثم ان الفاضلين وغيرهما اقتفوا اثر الشيخ في هذا الاحتجاج
على بقائه النجاسة واستصحابها وزاد الفاضلان الاستدلال بأن النجاسة الرطبة يتعدى
حكمها إلى الملاقي فلا يزول بزوال عين النجاسة. وعلى هذا كلام من تأخر عنهما في
هذا المقام وغيره مما لاقته النجاسة برطوبة فإنه يجب استصحاب حكم النجاسة حتى يقوم
الدليل على الطهارة ، الى ان انتهت النوبة الى صاحب المعالم فخالف الأصحاب في ذلك
بقول انفرد به وهو ان هذا الحكم اعني توقف الطهارة بعد زوال عين النجاسة على مطهر
مخصوص بالثوب والبدن والآنية واما غير هذه الثلاثة فإنه يطهر بزوال العين. وسيجيء
نقل كلامه في مسألة تطهير الشمس ، ومن ثم قال في هذا المقام بعد ان نقل عن الأصحاب
ما قدمنا ما صورته : وقد تكرر القول في أمر الاستصحاب وذكرنا في المباحث الأصولية
ان السيد لا يعول عليه في مثل هذا المقام والعجب من غفلة الجماعة عن رأى السيد فيه
وان كلامه مبني على أصله فلا يحسن ان يحتج عليه بما لا يقبله. انتهى. أقول : لا
يخفى ان الاستصحاب في هذا المقام عند الأصحاب وهو التحقيق ليس من قبيل الاستصحاب
الذي هو محل النزاع ومطرح البحث بين السيد وغيره ، فان هذا الاستصحاب انما هو من
قبيل العمل بعموم الدليل
وإطلاقه حتى يحصل الرافع ، ونظائره في أحكام الفقه أكثر من ان تحصى كما
تقدم ذكره في مقدمات الكتاب ، ولا خلاف في العمل به في الأحكام الشرعية فإن
النجاسة قد ثبتت بملاقاة عين النجاسة برطوبة فالحكم بطهارة ما لاقته يحتاج الى
دليل سواء كانت باقية أو زالت بغير مطهر شرعي وهو مما لا خلاف فيه نصا وفتوى ،
وسيأتي مزيد تحقيق للمقام في مسألة تطهير الشمس ان شاء الله تعالى.
ثم ان ممن
اختار القول بالطهارة أيضا بمجرد زوال العين عن الصيقل المحدث الكاشاني في
المفاتيح وقد سلف البحث معه في ذلك في الباب الأول في آخر مسألة جواز رفع الخبث
بالمضاف وعدمه فليراجع. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ لا خلاف بين الأصحاب فيما اعلم في أصل العفو عن دم الجروح والقروح
قليلا كان أو كثيرا والاخبار به متظافرة ، وانما الخلاف بينهم في حد العفو فمنهم من
جعل الحد في ذلك البرء ومنهم من جعله الانقطاع ، وأصحاب هذا القول بين مطلق لذلك
ومقيد بكونه في زمان يتسع لأداء الصلاة ، فالإطلاق للعلامة في بعض كتبه والشهيد
فيما سوى الذكرى والتقيد للمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى ، وناط العلامة في
القواعد العفو بحصول المشقة بالإزالة وهو ظاهره في النهاية ومثله المحقق في
الشرائع ، وجمع في المنتهى والتحرير بينه وبين عدم وقوف جريانها فجعلهما المناط في
العفو ، واستشكل في النهاية وجوب ازالة البعض إذا لم يشق وأوجب فيها وفي المنتهى
ابدال الثوب مع الإمكان معللا بانتفاء المشقة فينتفي الترخص لانتفاء المعلول عند
انتفاء علته. واعترضه في المعالم فقال بعد نقل ذلك : وأنت خبير بأنه مع وجوب ازالة
البعض حيث لا يشق ووجوب ابدال الثوب ان أمكن لا يبقى لهذا الدم خصوصية فإن إيجاب
إزالة البعض مع عدم المشقة يقتضي وجوب التحفظ من كثرة التعدي أيضا مع الإمكان كما
لا يخفى ، واغتفار ما دون ذلك ثابت في مطلق الدم بل في مطلق النجاسات. وظاهر جماعة
من الأصحاب ان الخصوصية هنا ثابتة عند الكل وان اختلفوا في مقدارها
وذكر الفاضل الشيخ علي في بعض مصنفاته ان الشيخ نقل الإجماع على عدم وجوب
عصب الجرح وتقليل الدم بل يصلي كيف كان وان سال وتفاحش الى ان يبرأ ، قال وهذا
بخلاف المستحاضة والسلس والمبطون إذ يجب عليهم الاحتياط في منع النجاسة وتقليلها
بحسب الإمكان ، وأطلق الشيخ في النهاية وغيرها من كتبه التي رأيناها الحكم بعدم
وجوب ازالة دم القروح الدامية والجروح اللازمة قل أو كثر ، وهو ظاهر في موافقة
القول الأول أعني التحديد بالبرء. واعلم انه قد اتفق للعلامة في الإرشاد التعبير
هنا بعبارة الشيخ فقال فيه : وعفي في الثوب والبدن عن دم القروح والجروح اللازمة.
وحيث انه لم يظهر من العلامة في شيء من كتبه إطلاق العفو بل اشترطه تارة بعدم
انقطاع سيلان الدم وتارة بحصول المشقة وثالثة بهما حمل الشهيد الثاني في الروض
كلامه هنا علي ان المراد بالوصف باللازمة استمرار الخروج ، والمحقق الشيخ علي
فسرها بالتي لم تبرأ ، واعترضه في الروض بأنه ليس مذهبا للمصنف حتى يفسر كلامه به.
وفيه ما ذكر ابنه في المعالم وان لم يصرح بنسبة التفسير الأول إلى أبيه بل عبر عنه
ببعض الأصحاب فقال والحق مع الثاني فإن الظاهر من هذا الوصف ارادة كون الجرح باقيا
غير مندمل ، ومجرد كون العلامة لم يصرح بهذا القول في غير ذلك الكتاب لا يسوغ حمل
اللفظ على خلاف ظاهره والمصير الى المعنى الأول سيما مع ما هو معلوم من حال
العلامة من عدم الالتزام بالقول الواحد في الكتاب الواحد فضلا عن الكتب المختلفة
وبعد ظهور انتشار رأيه في هذه المسألة ، وحينئذ تكون أقواله في هذه المسألة أربعة.
أقول : وكيف
كان فأظهر الأقوال وأصحها هو القول الأول ويدل عليه الأخبار الكثيرة :
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن الرجل تخرج به القروح فلا تزال تدمي
كيف يصلي؟
__________________
فقال يصلي وان كانت الدماء تسيل».
وفي الصحيح عن
ليث المرادي قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الرجل تكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوة
دما وقيحا وثيابه بمنزلة جلده؟ قال يصلي في ثيابه ولا شيء عليه ولا يغسلها». وفي
الحسن عن ليث المرادي عن الصادق (عليهالسلام) نحوه إلا انه لم يذكر في متنه «وثيابه بمنزلة جلده».
وما رواه في
الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم
والقيح فيصيب ثوبي؟ فقال دعه فلا يضرك ان لا تغسله».
وعن سماعة بن
مهران في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا
يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم».
ورواية أبي
بصير قال : «دخلت على ابي جعفر (عليهالسلام) وهو يصلي فقال لي قائدي ان في ثوبه دما فلما انصرف قلت
له ان قائدي أخبرني أن بثوبك دما؟ قال (عليهالسلام) ان بي دماميل ولست اغسل ثوبي حتى تبرأ».
وموثقة عمار
الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الدمل يكون في الرجل فينفجر وهو في
الصلاة؟ قال يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة».
وروى ابن إدريس
في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب البزنطي عن عبد الله ابن عجلان عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل به القرح لا يزال يدمي كيف يصنع؟
قال يصلي وان كانت الدماء تسيل».
__________________
ومن الكتاب
المذكور عن البزنطي عن العلاء عن محمد بن مسلم قال : «قال ان صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها
ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة».
ورواية سماعة قال : «سألته عن الرجل به القرح أو الجرح فلا يستطيع ان
يربطه ولا يغسل دمه؟ قال يصلي ولا يغسل ثوبه إلا كل يوم مرة فإنه لا يستطيع ان
يغسل ثوبه كل ساعة».
هذا ما وقفت
عليه من روايات المسألة وهي ظاهرة الدلالة على امتداد العفو الى البرء وبه صرح في
موثقة سماعة ورواية أبي بصير ويقرب منه قوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم : «يصلي وان كانت الدماء تسيل».
ونحوها رواية عبد الله بن عجلان ، فان الظاهر من هذه العبارة ان المفهوم اولى
بالحكم من المنطوق فيكون حالة عدم السيلان اولى بالعفو ، وربما يسبق الى الفهم من
قوله في الصحيحة المشار إليها : «فلا تزال تدمي» ان الحكم مفروض في استمرار
الجريان والعفو معلق عليه ، وهو باطل (أما أولا) فإن هذا الكلام انما وقع في كلام
السائل ومقتضى جوابه انما هو ما ذكرناه والعبرة لا بكلام السائل. و (اما ثانيا)
فان الظاهر انه ليس معنى «لا تزال تدمي» أن جريانها متصل لا ينقطع بل معناه تكرر
الخروج وان كان دفعة بعد دفعة وحينا بعد حين ، ومن الظاهر ان ذلك هو مقتضى العرف
من هذه العبارة فإنه إذا قيل فلان لا يزال يتكلم بكذا وكذا ولا يزال يتردد الى كذا
وكذا ونحو ذلك فإنه يراد منه انه يفعله حينا بعد حين لا انه مستمر على فعله علي
وجه لا انقطاع ولا انفصال فيه ، وبذلك يظهر ان ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم)
ـ من اعتبار المشقة وابدال الثوب مع الإمكان واعتبار التقييد بعدم الانقطاع مطلقا
أو مقيدا كما تقدم ـ لا دليل عليه بل
__________________
الأدلة واضحة ظاهرة في رده ، فان المستفاد منها هو العفو عن هذا الدم شقت
إزالته أم لا وسواء كانت له فترة ينقطع فيها بقدر الصلاة أو مطلقا أم لا ، وانه لا
يجب ابدال الثوب ولا تخفيف النجاسة ولا تعصيب موضع الجرح أو القرح بحيث يمنعه من
الخروج ، قال إطلاق الأمر بالصلاة وان كانت الدماء تسيل والنهي عن الغسل والحال
هذه أظهر ظاهر في ذلك.
فروع
(الأول) ـ قد
صرح العلامة في جملة من كتبه كالنهاية والمنتهى والتحرير انه يستحب لصاحب القروح
والجروح غسل ثوبه في كل يوم مرة ، واحتج له في المنتهى والنهاية بأن فيه تطهيرا
غير مشق فكان مطلوبا وبرواية سماعة المتقدمة ، أقول : ومثلها صحيحة محمد بن مسلم
المنقولة من مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي. والسيد في المدارك بعد ان نقل عن
العلامة الاستدلال برواية سماعة اعترضه بان في السند ضعفا. والعجب منه انه في غير
موضع من شرحه المذكور بعد الطعن في الخبر بضعف السند وعدم نهوضه بالدلالة على
الوجوب أو التحريم يحمله على الاستحباب أو الكراهة تفاديا من طرحه وهكذا قاعدة
غيره من أصحاب هذا الاصطلاح ، فكيف خالف قاعدته هنا مع ان صحيحة محمد بن مسلم كما
عرفت صريحة في ذلك؟ فلا يتوجه الطعن المذكور.
ثم ان ما ذكره
العلامة ومن تبعه من حمل الرواية على الاستحباب انما نشأ من حيث ضعف سندها عندهم
كما أشرنا إليه من ان قاعدتهم حمل الأخبار على ذلك متى ضعف سندها تفاديا من طرحها
، وأنت قد عرفت وجود الرواية الصحيحة بذلك وبموجب ذلك يجب العمل بالخبرين
المذكورين في وجوب الغسل مرة واحدة في اليوم كما دلا عليه وتقييد تلك الاخبار بهما
وان لم يوجد به قائل منهم ، ولا ريب انه الأحوط مع الإمكان واما ما ذكره العلامة
من التعليل الأول فإنه عليل لا يعول عليه ولا يصح اسناد حكم
شرعي إليه ، نعم يصلح توجيها للنص المذكور.
(الثاني) لو
تعدى الدم عن محل الضرورة من الجروح والقروح في الثوب والبدن فهل يسري العفو أم لا؟
وجهان صرح بثانيهما في المنتهى فقال : لو تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب أو
البدن بان لمس بالسليم من بدنه دم الجرح أو بالطاهر من ثوبه فالأقرب عدم الترخيص
فيه. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وما استقربه حسن. وقال في المدارك : لو
تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب احتمل بقاء العفو تمسكا بالإطلاق وعدمه لانتفاء
المشقة بإزالته ، وهو خيرة المنتهى.
أقول : لا يبعد
التفصيل هنا بين ما إذا تعدى الدم بنفسه إلى سائر أجزاء البدن أو الثوب الطاهر
وبين ما إذا عداه المكلف بنفسه بان وضع يده الطاهرة على دم الجرح أو طرف ثوبه
الطاهر عليه ، والقول بالعفو في الأول دون الثاني ، والظاهر من عبارة المنتهى انما
هو الثاني إلا ان موثقة عمار المتقدمة ظاهرة في العفو في الثاني أيضا وبه يظهر ضعف
ما قربه في المنتهى واستحسنه في المعالم ، ولو لم يرد هذا الخبر في اخبار المسألة
لكان ما ذكرناه من التفصيل جيدا فان المتبادر منها انما هو القسم الأول خاصة إلا
انه يمكن ان يقال بحمل الموثقة المذكورة على خروج القيح من الدمل دون الدم فإنه
بعد نضجه متى انفجر فإنما يخرج منه القيح الأبيض خاصة وربما خالطه لون الدم ،
وبالجملة فإن حمل الخبر على ذلك غير بعيد وبه يظهر قوة ما ذكرناه من التفصيل.
(الثالث) ـ قال
في المدارك : لو لاقى هذا الدم نجاسة أخرى فلا عفو ، وان اصابه مائع طاهر كالعرق
ونحوه فالأظهر سريان العفو إليه لإطلاق النص ومس الحاجة واستقرب في المنتهى العدم
قصرا للترخيص على موضع النص وهو الدم ولا ريب انه أحوط. انتهى. وهو جيد.
(الرابع) ـ إذا
لاقى هذا الدم جسم برطوبة ثم لاقى الجسم بدن صاحب الدم وثوبه فهل يثبت فيه العفو
كأصله أو لا؟ احتمالان استقرب ثانيهما العلامة في النهاية والمنتهى ،
ولم نقف لغيره على كلام في هذا الفرع إلا انهم ذكروا نظيره في الملاقي للدم
القليل المعفو عنه كالاقل من درهم ، واختار جمع منهم ثبوت العفو في الملاقي ايضا
مستندين الى ان المتنجس بشيء لا يزيد حكمه عنه وغايته ان يساويه فإذا ثبت العفو
عن عين النجاسة فما هو أضعف منه حكما اولى بالعفو ، وهذا التوجيه جار فيما نحن فيه
، وبهذا التقريب رجح في المعالم هنا الاحتمال الأول. والمسألة عندي محل توقف.
(المسألة
الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ان ما نقص عن سعة الدرهم من الدم
المسفوح الذي ليس من أحد الدماء الثلاثة ولا دم الجروح والقروح معفو عنه وان ما
زاد منه على الدرهم فلا يعفى عنه. ويدل على الأول ـ بعد الإجماع المدعى من جمع من
الأصحاب كالمحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والنهاية والتذكرة والمختلف ـ الأخبار
الآتية ، وعلى الثاني مضافا الى الإجماع المدعى ايضا الأخبار الدالة على نجاسة
الدم كما تقدم والأخبار الآتية الدالة على العفو عن الناقص ، وانما الخلاف
والاشكال في قدر سعة الدرهم ، فذهب الأكثر ومنهم الصدوقان والشيخان والفاضلان
والشهيدان وغيرهم إلى إيجاب إزالته ، وعن المرتضى وسلار عدم الوجوب.
وها انا ابسط
ما وقفت عليه من اخبار المسألة واذيلها بما رزقني الله تعالى فهمه منها في الجمع
بين مختلفاتها وتأليف متفرقاتها :
ومنها ـ صحيحة
عبد الله بن ابي يعفور قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في دم البراغيث؟ قال ليس به بأس. قال قلت انه يكثر
ويتفاحش؟ قال وان كثر. قال قلت فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم
فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله ولا يعيد صلاته
إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة».
__________________
وحسنة محمد بن
مسلم قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ قال ان رأيته
وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك
ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره ،
وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد
ما صليت فيه». هكذا في رواية الكافي ، وفي التهذيب هكذا : «وما لم يزد
على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشيء» بزيادة الواو وحذف «وما كان أقل» وفي الاستبصار
حذفه ايضا ولم يزد الواو ، وفي الفقيه رواه عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) كما في الكافي وزاد في آخره «وليس ذلك بمنزلة المني
والبول ثم ذكر المني فشدد فيه. الحديث» كما تقدم في الفصل الثالث في نجاسة المني.
ورواية إسماعيل
الجعفي عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «في الدم يكون في الثوب ان كان أقل من قدر الدرهم
فلا يعيد الصلاة وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد
صلاته وان لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة».
ورواية جميل بن
دراج عن بعض أصحابنا عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) انهما قالا : «لا بأس بان يصلى الرجل في الثوب وفيه
الدم متفرقا شبه النضح وان كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا
قدر الدرهم».
وقال الرضا (عليهالسلام) في الفقه الرضوي «إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف ، والوافي
ما يكون وزنه درهما وثلثا ، وما كان دون الدرهم الوافي فلا يجب عليك غسله ولا بأس
بالصلاة فيه ، وان كان الدم حمصة فلا بأس بان لا تغسله إلا ان يكون دم الحيض فاغسل
ثوبك منه ومن البول والمني قل أم
__________________
كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم». انتهى كلامه وبهذه العبارة عبر
الصدوق في الفقيه بأدنى تغيير إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام هنا يقع في مواضع
(الأول) ـ لا
يخفى ان مورد الأخبار المذكورة انما هو الثوب خاصة وظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على
ضم البدن إليه أيضا ، قال في المنتهى : حكم البدن حكم الثوب في هذا الباب ذكره
أصحابنا ويؤيده رواية مثنى بن عبد السلام ولأن المشقة موجودة في البدن كالثوب بل أبلغ لكثرة
وقوعها إذ لا تتعدى غالبا الى الثوب إلا منه. انتهى. وقال في المعالم بعد ذكر
ملخصه : ولا بأس به. وقال في المدارك : مورد الروايات المتضمنة للعفو تعلق النجاسة
بالثوب ، وقال في المنتهى انه لا فرق في ذلك بين الثوب والبدن وأسنده إلى الأصحاب
لاشتراكهما في المشقة اللازمة من وجوب الإزالة ، وهو جيد لمطابقته لمقتضى الأصل
السالم عما يصلح للمعارضة ، ويشهد له رواية مثنى بن عبد السلام عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له اني حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال إذا
اجتمع منه قدر حمصة فاغسله وإلا فلا». والظاهر ان المراد بقدر الحمصة قدرها وزنا
لا سعة وهي تقرب من سعة الدرهم. انتهى.
أقول : لا يخفى
ما في كلامهم هنا من المجازفة الظاهرة (اما أولا) ـ فلان التعليل في إلحاق البدن
بالثوب بالمشقة انما يتم على تقدير تسليمه لو كان وجوب الإزالة عن الثوب معللا
بالمشقة ، مع ان هذه العلة غير موجودة في شيء من الاخبار المتقدمة وانما هي علة
مستنبطة والعلة الحقيقية في وجوب الإزالة عن الثوب انما هي الأخبار الدالة على ذلك
ولا اشعار لها بشيء من هذه العلة ، ثم أي مشقة في إزالة الدم وحده مع وجوب
الإزالة فيما عداه من النجاسات قل أو كثر بل في غيره من الدماء؟ وبالجملة فإن هذا
التعليل عليل لا يصلح لبناء حكم شرعي.
__________________
و (اما ثانيا)
ـ فان ما ذكره في المدارك من الاستناد إلى مطابقة الأصل غير متأصل إذ الظاهر ان
مراده من هذا الأصل هنا هو أصالة براءة الذمة من وجوب الإزالة ، وهو مردود بما
عرفت من استفاضة النصوص بنجاسة الدم ووجوب إزالته في الصلاة قليلا كان أو كثيرا
خرج ما خرج بدليل وبقي ما بقي وهو ما يوجب الخروج عن هذا الأصل.
و (اما ثالثا)
ـ فان ما ذكره من خبر الحمصة وتأوله به من ان المراد بالحمصة قدرها وزنا لا سعة
مدخول بأنه يمكن ان يلطخ بقدر الحمصة وزنا من الدم تمام الثوب ، وحينئذ لا معنى
لقوله «وهو يقرب من سعة الدرهم» فانا لا ندري أي شيء أراد بهذا القرب والحال كما
ذكرنا ، والظاهر من الرواية المذكورة انما هو قدرها في السعة وانه لا يعفى عنه
وانما يعفى عما دونه ، فالرواية بالدلالة على خلاف ما يدعونه أشبه.
وربما أشعرت
الرواية بعدم نجاسة هذا المقدار اليسير من الدم كما هو ظاهر عبارة الصدوق في
الفقيه حيث قال : «وان كان الدم دون حمصة فلا يغسل» ويؤيده أيضا ما في رواية
الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) حيث «سأله عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك
من الصلاة؟ قال لا وان كثر ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله». والتقريب
ان المتفرق من الرعاف غالبا انما يكون أقل من الحمصة فلو كان نجسا لكان النضح انما
يزيده نجاسة ، ولكن لا أعلم قائلا بذلك إلا ما يظهر من إطلاق عبارة ابن الجنيد
المتقدمة في صدر المسألة الأولى.
هذا ما اقتضاه
البحث بحسب النظر الى الدليل وان كان الاحتياط فيما ذهبوا اليه سيما مع ظاهر
اتفاقهم على ذلك ولا اعرف لهم دليلا سواه.
واما ما تضمنه
كتاب الفقه كما قدمنا في عبارته من نفي البأس عن قدر الحمصة من الدم فمشكل والصدوق
(قدسسره) مع أخذ عبارته في الفقيه من عبارة الكتاب
__________________
المذكور قد عدل في هذا المقام عن ذلك كما قدمنا من عبارته ، ويمكن حمل
عبارة كتاب الفقه ـ كما هو ظاهر سياقها ـ على ان مقدار الحمصة الذي نفى عنه البأس
انما هو في الثوب وحينئذ فنفى البأس من حيث السعة فتدخل تحت عموم قوله : «وما كان
دون الدرهم» فإنها من حيث السعة دون الدرهم المذكور وانما محل الإشكال في البدن
باعتبار احتمال الوزن كما ذهب إليه في المدارك.
(الموضع الثاني)
ـ قد اتفقت هذه الروايات على ما قدمنا ذكره في العفو عما نقص من قدر الدرهم وعدم
العفو عما زاد وانما اختلفت في العفو عن قدر الدرهم وعدمه وبذلك اختلفت كلمة
الأصحاب ، والمشهور الثاني كما قدمنا ذكره.
واستدل عليه
بوجوه : (أولها) ـ ان مقتضى الدليل وجوب ازالة قليل النجاسة وكثيرها لقوله (عليهالسلام) «انما يغسل الثوب من البول والمني والدم» . ونحو ذلك من الأخبار التي قدمناها في الفصل الرابع في
نجاسة الدم مما دل على وجوب تطهير الثوب من الدم واعادة الصلاة بالصلاة فيه ناسيا
ونحو ذلك ، فإن إطلاقها يقتضي وجوب ازالة الدم كيف كان خرج منه ما وقع الاتفاق على
العفو عنه وهو الأقل من درهم وبقي الباقي وعلى هذا الوجه اقتصر المحقق في المعتبر
وان كان كلامه فيه بوجه مختصر ، وهو جيد وجيه كما لا يخفى على العارف النبيه.
و (ثانيها) ـ قوله
تعالى : «وَثِيابَكَ
فَطَهِّرْ» قال العلامة في المختلف وهو عام تركناه فيما نقص عن
الدرهم للمشقة وعدم الانفكاك منه فيبقى ما زاد على عموم الأمر بإزالته. أقول :
وفيه عندي نظر تقدم ذكره قريبا وهو ان الاخبار الواردة بتفسير الآية قد
__________________
اتفقت على تفسير التطهير هنا بتشمير الثياب فلا وجه للاستدلال بها هنا بعد
ورود التفسير لها بنوع خاص.
و (ثالثها) ـ صحيح
ابن ابي يعفور المتقدم ورواية جميل بن دراج ودلالتهما على ذلك ظاهرة بل صريحة ،
ومثلهما عبارة كتاب الفقه ، وهذا القول هو المعتمد عندي لما عرفت.
واما أدلة
القول الآخر فوجهان : (أحدهما) ما حكاه في المختلف عن المرتضى فقال : قال المرتضى (رضياللهعنه) ان الله أباح الصلاة في قوله تعالى : «... إِذا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...» عند تطهير الأعضاء الأربعة فلو تعلقت الإباحة بغسل
نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدل عليها الظاهر لانه بخلافها ، ولا يلزم على ذلك ما زاد
على الدرهم وما عدا الدم من سائر النجاسات لان الظاهر وان لم يوجب ذلك فقد عرفناه
بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم. ثم أجاب في المختلف عن هذه
الحجة بأن الآية لا تدل على الإباحة عند تطهير الأعضاء الأربعة بل على اشتراط
تطهيرها في الصلاة. أقول : ومع تسليم ما ذكره فإنه كما خصص الآية بالأدلة الدالة
على وجوب ازالة ما زاد على الدرهم وما دل على إزالة سائر النجاسات فليكن مثلها
صحيحة ابن ابي يعفور ورواية جميل وكلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه لدلالتها على وجوب ازالة قدر الدرهم
وعدم العفو عنه.
و (ثانيهما) ـ حسنة
محمد بن مسلم بطريق الشيخ المتقدم ذكره ورواية إسماعيل الجعفي المتقدمتان. وأجاب
في المختلف عن الحسنة المذكورة بأن محمد بن مسلم لم يسنده الى الامام (عليهالسلام) قال وعدالته وان كانت تقتضي الاخبار عن الإمام إلا ان
ما ذكرناه لا لبس فيه يعني حديث ابن ابي يعفور.
ولله در المحقق
الشيخ حسن في المعالم حيث رد ذلك فقال : واما جوابه عن الثاني
__________________
فمنظور فيه وذلك لان الممارسة تنبه على ان المقتضى لنحو هذا الإضمار في
الاخبار ارتباط بعضها ببعض في كتب روايتها عن الأئمة (عليهمالسلام) فكان يتفق وقوع أخبار متعددة في أحكام مختلفة مروية عن
امام واحد ولا فصل بينها يوجب اعادة ذكر الامام (عليهالسلام) بالاسم الظاهر فيقتصرون على الإشارة إليه بالمضمر. ثم
انه لما عرض لتلك الاخبار الاقتطاع والتحويل الى كتاب آخر تطرق هذا اللبس ومنشأه
غفلة المقتطع لها وإلا فقد كان المناسب رعاية حال المتأخرين لأنهم لا عهد لهم بما
في الأصول ، واستعمال ذلك الإجمال انما ساغ لقرب البيان وقد صار بعد الاقتطاع في
أقصى غاية البعد ولكن عند الممارسة والتأمل يظهر انه لا يليق بمن له أدنى مسكة أن
يحدث بحديث في حكم شرعي ويسنده الى شخص مجهول بضمير ظاهر في الإشارة إلى معلوم
فكيف بأجلاء أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) كمحمد بن مسلم وزرارة وغيرهما ، ولقد تكثر في كلام
المتأخرين رد الاخبار بمثل هذه الوجوه التي لا يقبلها ذو سليقة مستقيمة ، هذا وقد
كان الاولى للعلامة (قدسسره) في الجواب عن الاحتجاج بهذا الحديث بعد حكمه بصحة حديث
ابن ابي يعفور ورجوع كلامه في جوابه الى ان حديث ابن ابي يعفور أرجح في الاعتبار
من خبر ابن مسلم ان يجعل وجه الرجحان كون ذلك من الصحيح وهذا من الحسن. انتهى.
أقول : ومن
العجب هنا كلامهم في الرواية المذكورة فيما اشتملت عليه من الإرسال اعتراضا وجوابا
مع ان الصدوق رواها في الفقيه عن محمد بن مسلم انه قال للباقر (عليهالسلام) كما قدمنا ذكره في عد الروايات فكيف غفل الجميع عن
ملاحظة ذلك واحتاجوا الى هذا التكلف سؤالا وجوابا؟
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان في المدارك بعد ان استدل للمرتضى بحسنة محمد بن مسلم المروية في التهذيب
ورواية الجعفي قال : وجه الدلالة انه (عليهالسلام) رتب الإعادة على كون الدم أكثر من مقدار الدرهم فينتفي
بانتفائه عملا بالشرط وهو منتف مع المساواة ، ولا يعارض بالمفهوم الأول لاعتضاد
الثاني بأصالة البراءة. انتهى.
أقول : لا يخفى
ان هذين المفهومين الحاصلين من الشرطيتين انما هما في رواية الجعفي حيث قال : «ان
كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة وان كان أكثر فليعد صلاته». واما حسنة محمد
بن مسلم بناء على نقله لها من التهذيب فليس فيها إلا ان «وما لم يزد على مقدار
الدرهم من ذلك فليس بشيء». وهو يرجع الى الشرطية الثانية من رواية الجعفي ، واما
على روايتي الكافي والفقيه فهي مشتملة على الشرطيتين معا.
بقي الكلام معه
في ترجيح أحد المفهومين على الآخر فان مفهوم الشرطية الاولى انه لو لم يكن أقل من
درهم بل كان درهما فصاعدا فإنه يعيد ، وعلى هذا المفهوم بنى الاستدلال للقول
المشهور ، ومفهوم الشرطية الثانية انه لو لم يكن أكثر من الدرهم فلا يعيد ، وعليه
بنى استدلال المرتضى (رضياللهعنه) واختاره في المدارك ورجحه باعتضاده بأصالة البراءة.
ولا يخفى ما فيه فان أصالة البراءة لا معنى لها بعد استفاضة الأخبار بنجاسة الدم
بقول مطلق ووجوب الطهارة منه في الصلاة ووجوب إعادتها بالصلاة فيه ناسيا خرج ما
خرج بدليل وبقي ما بقي ، ومع تسليم ما ذكره فهذا الأصل هنا مخصوص بصحيحة ابن ابي
يعفور وما شابهها مما دل على القول المشهور وبه يظهر وجه رجحان مفهوم الشرطية
الاولى ، وبذلك يظهر ان حمله لروايات القول المشهور على الاستحباب غير جيد لظهورها
في وجوب الإعادة وصحة بعضها وكثرتها واعتضادها بالأخبار المطلقة التي أشرنا إليها
وقبول ما قابلها للتأويل ، مع ما عرفت في غير موضع من انه لا دليل على الجمع بين
الاخبار بالاستحباب والكراهة وان كان مشهورا بينهم.
قال في المعالم
بعد البحث في المقام : وبالجملة فحديث ابن ابي يعفور أقرب الى القبول من خبر ابن
مسلم فمع التعارض يكون الترجيح للأول ، وبتقدير المساواة فخبر ابن مسلم أقرب الى
التأويل إذ يمكن حمل الزيادة عن مقدار الدرهم فيه على كونها إشارة الى ان اتفاق
كون الدم بمقدار الدرهم فحسب بعيد جدا فان الغالب فيه الزيادة أو النقصان ومما
يرشد الى هذا قوله في رواية إسماعيل الجعفي : «ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد
الصلاة وان كان أكثر فليعد صلاته». ولم يتعرض لحال مساواته للدرهم ،
والظاهر انه لا وجه لتركه إلا بعد وقوعه ، وحينئذ فيكون مفهوم الشرط الأول في هذه
الرواية مخصصا لعموم مفهوم الشرط الثاني بمعونة ملاحظة الجمع بينه وبين حديث ابن
ابي يعفور. انتهى. وهو جيد إلا ان استشهاده برواية إسماعيل الجعفي على ما ذكره
مبني على نقله حسنة محمد بن مسلم من التهذيب وإلا فهي في الكافي والفقيه قد اشتملت
على ما اشتملت عليه رواية الجعفي من الشرطيتين المذكورتين فيها كما قدمنا نقله
لانه قال : «ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك ـ يعني
من الدرهم ـ فليس بشيء» إلا ان للتأويل فيها مدخلا بإرجاع اسم الإشارة إلى الأزيد
وهو غلط كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، والظاهر انه وكذا قبله صاحب المدارك لم
يلاحظوا الكافي والفقيه في تحقيق هذه الرواية.
أقول : والذي
يقرب عندي ويدور في خلدي في معنى حسنة محمد بن مسلم هو انه لما كان فرض الدرهم
نادر الوقوع بل الغالب اما الزيادة عليه أو النقيصة عنه عبر عن الدرهم فصاعدا بما
زاد على الدرهم كأنه قيل ما لم يكن درهما فزائدا كما قالوه في قوله عزوجل : «فَإِنْ
كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» اي اثنتين فما فوق ، والتعبير بمثل ذلك عن ارادة المعنى
الذي ذكرناه شائع في الاخبار ، ويؤيده ترك التعرض لمقدار الدرهم في الخبر
والاقتصار على ذكر الأكثر والأقل والظاهر انه مطوي في جانب الأكثر ، وقد تتبعت في
الاخبار ما جرى هذا المجرى إلا انه لا يحضرني الآن منه إلا رواية واحدة وهي رواية
يونس عن بعض رجاله عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم؟ قال أيما
مكار أقام في منزله أو البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام
، وان كان له مقام في منزله أو البلد الذي يدخله أكثر من عشرة
__________________
أيام فعليه التقصير والإفطار». فإن حكم العشرة التي هي الحد الشرعي في وجوب
القصر غير مذكور وما ذاك إلا انه من حيث ندرة الاقتصار على العشرة من غير زيادة
ولا نقصان فادرجها في جانب الأكثر ، فالمعنى في قوله (عليهالسلام) «أكثر من عشرة أيام» أي عشرة فأكثر ، وبالجملة رمي هذه
العبارة بهذا المعنى في هذا المقام كثير يعرفه المتتبع المتأمل في الاخبار ،
وحينئذ فقوله في الحسنة المذكورة بناء على روايتي الكافي والفقيه «وما كان أقل من
ذلك» لا دلالة فيه فان الإشارة فيه انما هي إلى الدرهم يعني أقل من درهم حسبما وقع
في رواية الجعفي. والله العالم.
(الموضع الثالث)
ـ اختلف الأصحاب في الدم المتفرق في الثوب أو البدن الذي لو جمع لبلغ قدر الدرهم
هل تجب إزالته أم لا؟ على أقوال ، فقيل ان حكمه حكم المجتمع ان بلغ درهما وجبت
إزالته وإلا فلا وبه قال سلار من المتقدمين وأكثر المتأخرين ، وظاهر الشيخ في
النهاية انه لا تجب إزالته مطلقا إلا ان يتفاحش ، ويحكى عنه في المبسوط انه قال ما
نقص عن الدرهم لا تجب إزالته سواء كان في موضع واحد من الثوب أو في مواضع كثيرة
بعد ان يكون كل موضع أقل من مقدار الدرهم ، وان قلنا إذا كان جميعه لو جمع لكان
مقدار الدرهم وجب إزالته كان أحوط للعبادة. ونقل عن ابن إدريس إطلاق القول بعدم
وجوب الإزالة واختاره المحقق في النافع ، وظاهره في المعتبر وفاق الشيخ في
النهاية.
وقد ظهر من ذلك
ان الأقوال في المسألة ثلاثة : (أحدها) ـ التفصيل بين بلوغ الدرهم وعدمه فتجب
الإزالة على الأول دون الثاني ، وهو المشهور بين المتأخرين.
(الثاني) ـ عدم
وجوب الإزالة مطلقا إلا ان يتفاحش وهو قول الشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر.
(الثالث) ـ عدم
وجوب الإزالة مطلقا وهو مذهب ابن إدريس والمحقق في النافع والشرائع أيضا والشيخ في
المبسوط واختاره السيد في المدارك.
وهو الأقرب
وتدل عليه صحيحة ابن ابي يعفور المتقدمة وقوله فيها «إلا ان يكون مقدار الدرهم
مجتمعا».
وأجاب عنها في
المختلف بان «مجتمعا» كما يحتمل ان يكون خبرا ل «يكون» يحتمل ان يكون حالا مقدرة
واسمها ضمير يعود الى «نقط الدم» و «مقدار» خبرها والمعنى إلا ان تكون نقط الدم
مقدار الدرهم إذا قدر اجتماعها.
ورد (أولا) بأن
تقدير الاجتماع مما لا يدل عليه اللفظ. وفيه ان صدر الحديث مفروض في نقط الدم
والفرض ان الضمير عائد إلى نقط الدم.
و (ثانيا) ـ بأنه
لو كانت الحال مقدرة وكان الحديث المذكور مخصوصا بما قدر فيه الاجتماع لا ما حقق
لما صلح دليلا للمجتمع حقيقة مع استدلال الأصحاب به قديما وحديثا على ذلك.
و (ثالثا) ـ انه
مع كونه حالا لا خبرا فالظاهر انه حال محققة وهو الظاهر من الخبر ، ويصير المعنى
إلا ان يكون الدم بمقدار الدرهم حال كونه مجتمعا.
و (رابعا) ـ ان
الحال المقدرة كما ذكروه هي التي زمانها غير زمان عاملها ولها مثال مشهور وهو
قولهم «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» اي مقدرا فيه الصيد ، وما نحن فيه ليس
كذلك إذ كون الدم قدر الدرهم انما هو حال اجتماعه فزمانهما واحد ، وكيف كان
فالظاهر من الخبر المذكور انما هو كون «مجتمعا» خبرا أو حالا محققة وعلى كل منهما
فالاستدلال بالرواية على المدعى ظاهر.
وأظهر منها في
الدلالة على اعتبار الاجتماع في الدم المتفرق مرسلة جميل المتقدمة لتصريحه (عليهالسلام) بنفي البأس عن الصلاة في الدم المتفرق ما لم يكن
مجتمعا قدر الدرهم
احتج القائلون
بالقول المشهور بوجوه : (منها) ـ ان الحكم معلق على مقدار الدرهم في حسنة محمد بن
مسلم وقريب منها رواية إسماعيل الجعفي ، وهو أعم من المجتمع والمتفرق.
و (منها) ـ رواية
عبد الله بن ابي يعفور المتقدمة فإن الحكم فيها مفروض في نقط الدم الذي هو عبارة
عن الدم المتفرق.
و (منها) ـ ان
الأصل وجوب الإزالة بقوله تعالى : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» خرج ما نقص عن الدرهم فيبقى الباقي مندرجا تحت الإطلاق.
و (منها) ـ ان
النجاسة البالغة قدرا معينا لا يتفاوت الحال باجتماعها وتفرقها في المحل.
والجواب عن
الأول بأن مقدار الدرهم في الخبر مخصوص بالمجتمع لقيام المخصص كما هو ظاهر روايتي
ابن ابي يعفور ومرسلة جميل كما تقدم تحقيقه.
وعن الثاني بأن
الرواية المذكورة وان كانت مفروضة في نقط الدم كما ذكر إلا ان الظاهر كون السؤال
عن النقط باعتبار مجموعها أو باعتبار كل نقطة منه مكانها ، فعلى تقدير كون «مجتمعا»
خبرا ل «يكون» و «مقدار» اسمها فكأنه (عليهالسلام) قال في الجواب : لا يعيد صلاته باعتبار شيء من ذلك
إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا بان يكون شيء من تلك النقط بمقدار الدرهم. وعلى
تقدير كون «مجتمعا» حالا محققة يكون المعنى لا يعيد صلاته إلا ان تكون تلك النقط
المتفرقة مقدار الدرهم حال كونها مجتمعة ، فافادة اشتراط الاجتماع حاصل على كل من
التقديرين.
وعن الثالث بما
تقدم ذكره من ان مورد الآية كما دلت عليه الأخبار الواردة بتفسيرها انما هو
التشمير لا الطهارة بمعنى إزالة النجاسة ، وقد تقدم في مقدمات الكتاب ان اللفظ
المتشابه في القرآن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد ورود تفسيره عن أهل البيت (عليهمالسلام) بمعنى من المعاني والوارد عنهم في تفسير هذا اللفظ هو
ما ذكرناه.
واما ما أجاب
به عنه في المدارك ـ من ان الخطاب في الآية مخصوص بالنبي (صلىاللهعليهوآله) فتناوله للأمة يتوقف على الدلالة ولا دلالة ـ فهو ضعيف
لا يلتفت
__________________
إليه فإن الظاهر ان كلامه هذا مبني على ما حقق عندهم في الأصول من ان
خطابات القرآن انما هي متوجهة إلى الحاضرين زمن الخطاب وانسحاب الحكم الى من سيوجد
بعد ذلك مستند إلى الإجماع ، وحيث ان المسألة محل خلاف والإجماع غير محقق منع عموم
الخطاب في الآية المذكورة. وفيه انه لا حاجة بنا في إثبات العموم إلى الإجماع بل
الاخبار بحمد الله سبحانه بذلك مكشوفة القناع وهي الأحرى والأحق في ذلك بالاتباع ،
ومنها ما رواه في الكافي عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) في حديث قال : «لو كانت إذا نزلت آية في رجل ثم مات
ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب والسنة ولكنه حي يجري في من بقي كما جرى في من
مضى». وهو صريح الدلالة واضح المقالة في المراد. وما رواه في الكافي والتهذيب عن
ابي عمرو الزبيري عن الصادق (عليهالسلام) حين سأله عن أحكام الجهاد ، وساق الخبر الى ان قال (عليهالسلام): «فمن كان قد تمت فيه شرائط الله الذي وصف بها أهلها
من أصحاب النبي (صلىاللهعليهوآله) وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد كما اذن لهم لان حكم
الله في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون والأولون
والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة يسأل الآخرون عن أداء
الفرائض كما يسأل الأولون ويحاسبون كما يحاسبون». وما رواه الصدوق في العلل عن الرضا عن أبيه (عليهماالسلام) «ان رجلا سأل الصادق (عليهالسلام) ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟
فقال ان الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس فهو في كل زمان جديد
وعند كل قوم غض الى يوم القيامة». الى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع
، وبذلك يظهر لك ان المرجع في عموم تلك الخطابات انما هو الى هذه الاخبار ونحوها ،
على ان الأخبار الواردة بتفسير هذه
__________________
الآية ظاهرة في العموم إلا انها مخصوصة بما قدمنا ذكره. ولو أجيب بضعف هذه
الاخبار بهذا الاصطلاح الجديد ، قلنا ان هذه الأصول بل الفضول التي مهدوا فيها هذه
القاعدة أضعف إذ هي مجرد اصطلاحات اتفاقية أو خلافية وعن الأدلة النبوية خالية
عرية.
وعن الرابع
بأنه مجرد مصادرة فإنه محل البحث. وكيف كان فإنه وان كان مقتضى البحث وتحقيق الحال
في المسألة هو ما ذكرناه من عدم وجوب الإزالة إلا ان الاحتياط بالعمل بالقول
المشهور مما ينبغي المحافظة عليه فان احتمال ذلك من الأدلة المذكورة أيضا غير
بعيد. والله العالم.
فروع
(الأول) ـ اعلم
ان التفاحش الذي قدمنا ذكره عن الشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر وعلقوا وجوب
الإزالة عليه لم نقف له على مستند ولم يبينوا ايضا مقداره ، وقد ذكر المحقق في
المعتبر انه ليس له تقدير شرعي وان قول الفقهاء فيه مختلف فبعض قدره بالشبر وبعض
بما يفحش في القلب قال وقدره أبو حنيفة بربع الثوب ، ثم قال والمرجع فيه الى
العادة لأنها كالأمارة الدالة على المراد باللفظ إذا لم يكن له تقدير شرعا ولا
وضعا. انتهى. أقول : والظاهر انهم أخذوا هذا الفرع من كتب العامة واختلفوا فيه
كاختلافهم وأخبارنا خالية منه كما عرفت. وقال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر كما
ذكرناه : وهو جيد لو كان لفظ التفاحش واردا في النصوص. انتهى. وفيه ما عرفت في غير
موضع من ان الحوالة على العرف والعادة في الأحكام الشرعية غير جيد لعدم انضباطها
في جميع الأعصار والأمصار وتعذر الإحاطة بها والاطلاع عليها لو سلمنا انضباطها ولم
يعهد من الشارع إناطة الأحكام الشرعية بذلك ، وقد تقدم في مباحث الكتاب ما ينبغي
العمل عليه في مثل ذلك.
(الثاني) ـ قال
الشهيد الثاني في الروض بعد الكلام في هذه المسألة : هذا حكم الدم
المتفرق في الثوب الواحد اما المتفرق في الثياب المتعددة أو فيها وفي البدن
فهل الحكم فيها كذلك بمعنى تقدير جمع ما فيها أو لكل واحد من الثوب والبدن حكم
بانفراده فلا يضم أحدهما إلى الآخر أو لكل ثوب حكم كذلك فلا يضم بعضها الى بعض ولا
الى البدن؟ أوجه واعتبار الأول أوجه وأحوط. انتهى. أقول : اما الدم المتفرق في
البدن فقد عرفت فيما قدمنا بيانه ان النصوص خالية منه ، واما المتفرق في الثياب
فيمكن ترجيح ما ذكره واستوجهه (قدسسره) بحمل الثوب في النصوص المتقدمة على ما هو أعم من الثوب
الواحد بإرادة الجنس فيه وقوته ظاهرة.
(الثالث) ـ قال
السيد في المدارك : لو أصاب الدم المعفو عنه مائع طاهر ولم يبلغ المجموع الدرهم
ففي بقائه على العفو قولان أظهرهما ذلك ، لأصالة البراءة من وجوب إزالته ، ولان
المتنجس بشيء لا يزيد حكمه عنه بل غايته ان يساويه إذ الفرع لا يزيد على أصله
واستقرب العلامة في المنتهى وجوب إزالته لأنه ليس بدم فوجب إزالته بالأصل السالم
عن المعارض ، ولان الاعتبار بالمشقة المستندة إلى كثرة الوقوع وذلك غير موجود في
صورة النزاع لندوره. وضعف الوجهين ظاهر. ولو أزال عين الدم بما لا يطهرها فلا ريب
في بقاء العفو لخفة النجاسة حينئذ. انتهى. أقول : والى ما رجحه هنا من البقاء على
العفو ذهب الشهيد في الذكرى قال : لان المتنجس بشيء لا يزيد عليه. واستظهره في
المعالم ايضا ، والى ما استقربه العلامة من وجوب الإزالة وعدم العفو صار في
البيان.
أقول : كما
يمكن ان يعلل العفو وعدم وجوب الإزالة بما ذكروه فلقائل أن يقول أيضا بأنه إذا كان
مورد الاخبار في هذه المسألة على خلاف الأصل المستفاد من الاخبار المستفيضة المجمع
على القول بمضمونها من نجاسة الدم ووجوب إزالته عن الثوب والبدن للصلاة وكذا نجاسة
ما يتعدى إليه نجاسة أحد أعيان النجاسات برطوبة ووجوب الإزالة للعبادة فالواجب
الاقتصار في ذلك على مورد النص كما قرروه في غير موضع أخذا بالمتيقن المتفق عليه
وهو العفو عن ذلك الدم خاصة فتعديته الى ذلك المائع المتصل به خروج
عن موضع النص ، وأصالة البراءة التي استند إليها ممنوعة لما عرفت من قيام
الأدلة على النجاسة واشتراط إزالتها في صحة الصلاة خرج ما خرج بدليل واضح وبقي
الباقي. وقولهم ان المتنجس بشيء لا يزيد حكمه عنه مجرد تعليل عفلي لا يصلح لان
يكون مستندا لتأسيس حكم شرعي فإن بناء الأحكام الشرعية طهارة ونجاسة وصحة وفسادا
على ما علم من الشرع وثبت لا على الأدلة العقلية ، والى ما ذكرنا في المقام يميل
كلام صاحب الذخيرة مع اقتفائه أثر صاحب المدارك غالبا كما لا يخفى على من تتبعه.
(الرابع) ـ أطلق
جماعة من الأصحاب انه إذا أصاب الدم وجهي الثوب فان كان من التفشي من جانب الى آخر
فهو دم واحد وإلا فدمان ، وفصل الشهيد في البيان فقال : لو تفشي الدم في الرقيق
فواحد وفي الصفيق اثنان ، ونحو ذلك في الذكرى واستحسنه في المدارك ، ونص العلامة
في المنتهى والتحرير على ان التفشي موجب للاتحاد في الصفيق ، وقال في المعالم بعد
نقل الأقوال المذكورة : والتحقيق تحكيم العرف في ذلك إذ ليس له ضابط شرعي ولا سبيل
إلى استفادة حكم اللغة في مثله فالمرجع حينئذ الى ما يقتضيه العرف. أقول : قد عرفت
ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف من الإشكال في غير مقام مما تقدم بل الحق
كما نطقت به اخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) هو الوقوف ـ في كل قضية لم يعلم حكمها من الاخبار بعد
التتبع والفحص ـ عن الفتوى فيها والأخذ بالاحتياط ان احتيج الى العمل بها.
(الخامس) ـ قال
العلامة في النهاية : لو كان الدم اليسير في ثوب غير ملبوس أو في متاع أو آنية أو
آلة فأخذ ذلك بيده وصلى وهو حامل له احتمل الجواز لعموم الترخيص والمنع لانتفاء
المشقة. وذكر نحوه في المنتهى ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : وفي كلا الوجهين
نظر ، اما الأول فلان أدلة الترخص ليس فيها ما يتناول مثل هذا واما الثاني فلان
اعتبار المشقة لو أخذ دليلا على الحكم لانتفت الرخصة في كثير من الصور لعدم المشقة
فيها ، قال والحق ان الحكم بالعفو في موضع النزاع غير محتاج الى
تكلف تناول دليل العفو في أصل المسألة له بل يكفي فيه كونه مقتضى الأصل فإن
إيجاب الإزالة والاجتناب تكليف والأصل براءة الذمة منه وانما احتاجوا في حكم الثوب
الملبوس والبدن الى التمسك بغير هذا الوجه لقيام الدليل على منافاة النجاسة فيهما
لصحة الصلاة كما مرت الإشارة إليه فيتوقف استثناء بعض النجاسات على الحجة ، ولولا
ذلك لكان الأصل دليلا قويا في الجميع. انتهى. وهو جيد ، ويؤيده ان المتبادر من قولهم
(عليهمالسلام) «لا يجوز الصلاة في النجاسة». و «لا تصح الصلاة في الذهب» . انما هو ما كان ملبوسا من هذه الأشياء تحقيقا للظرفية
فلا يدخل فيه المحمول ومرجع كلامه (قدسسره) الى ما ذكرناه ، وعلى هذا فلا وجه لتخصيص الكلام بالدم
اليسير بل ولو كان أكثر من درهم والحال انه محمول غير ملبوس ، وإلا فلو لم يلحظ ما
ذكرناه لكان للمناقشة فيه مجال فإنه ان سلم صدق الصلاة فيه في تلك الحال دخل تحت
عموم الأدلة المانعة من الصلاة في النجاسة كالثوب الملبوس والبدن النجسين فيحتاج
الاستثناء الى دليل ولا يمكنه التمسك هنا بالأصل ، وان منع ذلك كما ذكرنا تم ما
ذكره من الاستناد الى الأصل لعدم دخوله تحت عموم الأدلة المانعة فيبقى على الإطلاق
ويصح التمسك فيه بالأصل وتوقف الاجتناب على الدليل ، وبه يظهر لك انه لا فرق في
المقام بين كون النجاسة المحمولة أقل من الدرهم وأكثر وكذا سائر ما دلت الاخبار
على عدم صحة الصلاة فيه من الذهب والحرير ونحوهما إذا كان محمولا فإنه تصح الصلاة
معه بالتقريب المذكور ، إلا ان كلامهم بالنسبة إلى المحمول وصحة الصلاة معه إذا
كان مما لا تصح الصلاة فيه لا يخلو من اضطراب كما سيمر بك ان شاء الله تعالى.
__________________
(السادس) ـ قال
الشهيد في الدروس : لو اشتبه الدم المعفو عنه بغيره كدم الفصد بدم الحيض فالأقرب
العفو ، ولو اشتبه الدم الطاهر بغيره فالأصل الطهارة. ولم يتعرض لبيان الوجه في
الحكمين المذكورين ، وقد وجهه بعض بأنه مبني على القاعدة المقررة في اشتباه الشيء
بين المحصور وغيره وهي الإلحاق بغير المحصور من حيث ان الحصر على خلاف الأصل وفي
موضع البحث لا حصر في الدم المعفو عما نقص عن الدرهم منه ولا في الدم الطاهر.
قال في المعالم
: وهذا الكلام متجه بالنظر الى الحكم الأول حيث ان ما لا يعفى عن قليله من الدماء
منحصر وما يعفى عنه غير منحصر كما ذكره ، واما في الحكم الثاني فواضح الفساد لان
كلا من الدم الطاهر والنجس غير منحصر ، ثم نقل عن بعض من عاصره من مشايخه بأنه
وجهه بأن أصالة الطهارة لم ترد في نفس الدم بل فيما لاقاه على معنى ان طهارته إذا
علمت قبل ملاقاة هذا الدم المشتبه فالأصل بقاؤها الى ان يعلم المقتضى لنجاسته ومع
الاشتباه لا علم ، ثم قال وله وجه غير ان لنا في المقام توجيها أحسن منه وهو انه
لا معنى للنجس إلا ما أمر الشارع بإزالته واجتنابه ولا للطاهر إلا ما لا تكليف فيه
بأحد الأمرين فإذا حصل الاشتباه كان مقتضى الأصل هو الطهارة بمعنى براءة الذمة من
التكليف بواحد من الأمرين. انتهى.
وأنت خبير بأنه
يمكن تطرق المناقشة إلى مواضع من هذا الكلام : (منها) ـ الاستناد في الطهارة
والعفو في التوجيه الأول إلى القاعدة المذكورة المثمرة للظن بناء على ان إلحاق
الفرد المذكور بالأغلب مظنون كما قيل ، وبناء الأحكام الشرعية الموقوفة على
التوقيف من الشارع التي قد استفاضت الآيات والروايات بالمنع فيها عن القول بغير
علم على مثل هذه القواعد التي لم يثبت لها مستند من الشرع مجازفة محضة وقول على
الله عزوجل بلا حجة ولا بينة ، والبناء على مثل هذا الظن الغير
المستند إلى آية أو رواية مشكل.
و (منها) ـ التوجيه
الثالث فان ما ذكره معارض بأنه قد قام الدليل على اشتراط صحة الصلاة بطهارة الثوب
والبدن إلا ما استثنى فلا بد من العلم بالطهارة ويقين البراءة موقوف على ذلك ،
والمشتبه المحتمل لكل من الأمرين لا يحصل فيه ذلك.
واما ما ذكره
في المعالم من معنى النجس والطاهر فهو غير معلوم ولا ظاهر وانما معنى الطاهر هو ما
لم يعلم نجاسته اي كونه من أحد الأعيان النجسة ولا ملاقاة النجاسة له على الوجه
الموجب لذلك والنجس هو ما علم فيه أحد الأمرين ، وما ذكره من اللوازم لا انه معنى
النجس والطاهر.
والتحقيق عندي
في المقام اما بالنسبة إلى الدم فهو يرجع الى ما قدمنا من معنى المحصور وغير
المحصور ، وذلك فإنه ان وقع الاشتباه في دمين أو ثلاثة مثلا بعضها طاهر وبعضها نجس
كما لو افتصد مثلا وباشر دم السمك فرأى في ثوبه دما لا يدري هو من دم أيهما مع عدم
احتمال غيرهما فان هذا يكون من قبيل المحصور يلحق حكم الطاهر منهما حكم ما اشتبه
به من النجس ، وهكذا لو كان أحدهما معفوا عنه والآخر غير معفو عنه فإنه يلحق حكم
المعفو عنه هنا حكم غير المعفو عنه ، ولو وقع اشتباه في الدماء مطلقا كأن وجد ثوبا
أو شيئا عليه دم مع احتمال تطرق الدماء الطاهرة والنجسة إليه فهذا يكون من قبيل
غير المحصور ويكون الأصل فيه الطهارة عملا بالقاعدة المنصوصة الكلية «كل شيء نظيف
حتى تعلم انه قذر» . و «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم» . وقول ذلك القائل في الوجه الثاني ان أصالة الطهارة لم
ترد في نفس الدم ليس في محله فان كل شيء له افراد بعضها طاهر وبعضها نجس ووجد منه
فرد لا يعلم انه من اي القسمين هو يجب فيه الحكم بأصالة الطهارة دما كان أو غيره ،
هذا بالنسبة إلى الدم واما بالنسبة الى الثوب أو البدن الذي لاقى ذلك الدم فان كان
ذلك الدم من قسم غير المحصور فلا إشكال في طهارة الملاقي للحكم بطهارة الدم كما
عرفت ، وان كان من القسم الأول بني على الخلاف المتقدم في مسألة الإناءين بان
__________________
ما لاقى المشتبه في المحصور هل يحكم فيه بحكمه أم يكون باقيا على أصل
الطهارة؟ قولان قد تقدم البحث فيهما ثمة. والله العالم.
(الموضع الرابع)
ـ إطلاق النصوص المتقدمة بالعفو عن الأقل من الدرهم أو العفو عن الدرهم على القول
الآخر شامل لدم الحيض وغيره من الدماء إلا ان المشهور بين الأصحاب من غير خلاف
يعرف استثناء دم الحيض حيث قطعوا بعدم العفو عنه وأوجبوا إزالة قليله وكثيره عن
الثوب والبدن للصلاة لرواية أبي سعيد عن ابي بصير قال : «لا تعاد الصلاة من دم لم يبصره إلا دم الحيض فإن
قليله وكثيره في الثوب ان رآه وان لم يره سواء».
قال المحقق في
المعتبر بعد الاستدلال بالرواية المذكورة : لا يقال الراوي له عن ابي بصير أبو
سعيد وهو ضعيف والفتوى موقوفة على ابي بصير وليس قوله حجة ، لأنا نقول الحجة عمل
الأصحاب بمضمونه وقبولهم له فإن أبا جعفر بن بابويه قاله والمرتضى والشيخان
وأتباعهما ، ويؤيد ذلك ان مقتضى الدليل وجوب ازالة قليل الدم وكثيره عملا
بالأحاديث الدالة على ازالة الدم لقوله (صلىاللهعليهوآله) لا سماء «حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء». وما رواه سورة بن كليب عن الصادق (عليهالسلام) «عن الحائض قال تغسل ما أصاب ثيابها من الدم». لكن ترك العمل بذلك في بعض
__________________
الدماء لوجود المعارض فلا يجب العمل به في الباقي. انتهى.
وفيه ان ما
ذكره في هذه الرواية من ان الفتوى موقوفة على ابي بصير وان تبعه فيه جملة ممن تأخر
عنه كصاحبي المدارك والمعالم حيث انهم لم يقفوا في الرواية إلا على هذا الطريق إلا
ان الشيخ قد رواها في موضع آخر وكذا صاحب الكافي عن ابي بصير عن الباقر والصادق (عليهماالسلام) واما ما ذكره من جبر ضعفها بعمل الأصحاب فهو جيد إلا
انه لم يقف عليه في غير موضع من كتابه كما قدمنا ذكره في غير مقام. واما ما ذكره
من حديث أسماء فالظاهر انه من طريق العامة حيث انه لم يذكر في كتب أخبارنا فيما
اعلم وبذلك صرح في المعالم ايضا ، واما قوله : ان مقتضى الدليل وجوب ازالة الدم
قليله وكثيره. إلخ فجيد.
واما مناقشة
صاحب المعالم هنا ـ بأنه ليس فيما وصل إلينا ونقله الأصحاب في كتبهم من الاخبار
المعتمدة حديث مطلق في إيجاب إزالة الدم بحيث يصلح لتناول القليل من دم الحيض بل
هي اما ظاهرة في الكثير أو مفروضة في غير دم الحيض ـ فهو مردود بما قدمناه في
الفصل الرابع في نجاسة الدم من الاخبار الدالة بإطلاقها على نجاسة الدم قليلا كان
أو كثيرا دم حيض كان أو غيره فارجع لها وتدبر ، على انه يكفي في المقام ان يقال ـ وبه
اعترف أيضا في آخر كلامه ـ انه قد وردت الأخبار المعتبرة المعتضدة باتفاق الأصحاب
بأنه يشترط في صحة الصلاة الطهارة من الدم في ثوب المصلي وبدنه وانه بالصلاة فيه
عالما أو ناسيا تجب عليه الإعادة ، ومن البين ان دم الحيض وان قل موجب للنجاسة
وبالجملة
فالحكم باستثناء دم الحيض من البين مما لا اشكال فيه وانما الإشكال فيما الحق به
حيث عزى الى الشيخ إلحاق دم الاستحاضة والنفاس بدم الحيض في وجوب إزالة قليله
وكثيره ، قال المحقق في المعتبر بعد نقل ذلك عن الشيخ : ولعله نظر الى تغليظ
نجاسته لانه يوجب الغسل واختصاصه بهذه المزية يدل على قوة نجاسته على باقي الدماء
فغلظ حكمه في الإزالة ، ثم قال وألحق بعض فقهاء قم دم الكلب والخنزير ولم يعطنا
العلة ، ولعله
نظر الى ملاقاته جسدهما ونجاسة جسدهما غير معفو عنها. انتهى.
وقد حكى
العلامة في المختلف إلحاق دم الكلب والخنزير والكافر بالدماء الثلاثة عن القطب
الراوندي وابن حمزة وحكى عن ابن إدريس المنع من ذلك مدعيا انه خلاف إجماع الإمامية
، ثم اختار العلامة الإلحاق ووجهه بان المعفو عنه انما هو نجاسة الدم والدم الخارج
من الكلب والخنزير والكافر يلاقي أجسامها فتتضاعف نجاسته ويكتسب بملاقاة الأجسام
النجسة نجاسة أخرى غير نجاسة الدم وتلك لم يعف عنها ، كما لو أصاب الدم المعفو عنه
نجاسة غير الدم فإنه يجب إزالته مطلقا ، قال وابن إدريس لم يتفطن لذلك فشنع على
قطب الدين بغير الحق. انتهى.
وظاهره في
المعالم الميل الى ما ذكره العلامة في هذا المقام حيث قال بعد نقل كلام العلامة
المذكور : قلت العجب من غفلة ابن إدريس عن ملاحظة هذا الاعتبار الذي حرره العلامة
ونبه عليه المحقق مع تنبهه لمثله في ظاهر كلامه السابق في البحث عما ينزح لموت
الإنسان في البئر حيث فرق في ذلك بين المسلم والكافر وأنكر عليه الجماعة فيه أشد
الإنكار ونحن صوبنا رأيه هناك وأوضحنا المقام بما لا مزيد عليه ، فكيف انعكست
القضية هنا فصار هو الى الإنكار ورجعوا هم الى الاعتراف والمدرك في المقامين واحد؟
وربما كان مراد ابن إدريس هنا خلاف ما أفهمه ظاهر كلامه الذي حكوه عنه ، وعلى كل
حال فالحق أن الحيثية مرعية في جميع هذه المواضع والحكم منوط بها فان العفو الثابت
في مسألتنا هذه على ما سيأتي بيانه متعلق بنجاسة الدم من حيث هي فإذا انضم إليها
حيثية أخرى كملاقاة جسم نجس كان لتلك الحيثية المنضمة إليها حكم نفسها لو انفردت.
انتهى.
أقول : لا يخفى
ان صحة ما ذكره مبني على أمرين (أحدهما) اعتبار الحيثية التي ادعاها في المقام ولا
دليل عليه ظاهرا فإن إطلاق الدم أعم من ذلك والحكم مترتب عليه. و (ثانيهما) ـ استفادة
النجاسة بملاقاة نجاسة أخرى زيادة نجاسة على ما كانت عليه
وهو محل غموض لا مدرك له من الاخبار وان كان جاريا في كلامهم ، وبذلك يظهر
الاشكال فيما ذكره ووجه به كلام العلامة.
والذي يقرب
عندي في هذا المقام اما بالنسبة إلى دم الاستحاضة والنفاس فالظاهر دخولهما في عموم
اخبار العفو ، وما ذكروه ـ من استثنائهما إلحاقا بدم الحيض نظرا الى تساويهما في
إيجاب الغسل فان النفاس حيض في المعنى والاستحاضة مشتقة منه ـ لا يخرج عن القياس ،
وبناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة كما أشرنا إليه
في غير مقام. واما دم الكافر وأخويه فالظاهر انه لا عموم في الاخبار المتقدمة على
وجه يشمله إذ لا يخفى ان المتبادر من الدم فيها انما هو الأفراد الشائعة المتكاثرة
المعتادة المتكررة الوقوع كما صرحوا به في غير مقام من ان إطلاق الأخبار انما
ينصرف الى الافراد المتكثرة الوقوع دون الفروض النادرة التي ربما لا تقع مدة العمر
ولو مرة واحدة. فالواجب هو الحمل على الافراد المتعارفة من دم الإنسان أو
الحيوانات التي يتعارف ذبحها أو نحو ذلك ، وحينئذ يبقى على وجوب الإزالة وعدم
الدخول تحت عموم اخبار العفو ولا ريب ان الاحتياط يقتضيه.
ويلحق بدم
الحيض هنا في وجوب إزالة قليله وكثيره دم الغير لمرفوعة البرقي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النضح
من دمك فلا بأس ، وان كان دم غيرك قليلا أو كثيرا فاغسله». ولم أقف على من تنبه
ونبه على هذا الكلام إلا الأمين الأسترآبادي فإنه ذكره واختاره ، والى هذه الرواية
أشار أيضا في كتاب الفقه الرضوي فقال : «واروي أن دمك ليس مثل دم غيرك». والله العالم.
(الموضع الخامس)
ـ قد اشتملت الأخبار المتقدمة على تحديد القدر المعفو عنه من الدم وغير المعفو عنه
بالدرهم ، وهي مجملة في ذلك تفسيرا وتقديرا إلا ان ظاهر
__________________
الأصحاب الاتفاق على انه البغلي وهو المشار اليه بالدرهم الوافي في كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي الذي وزنه درهم وثلث.
قال المحقق في
المعتبر : الدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث وسمي البغلي نسبة الى قرية
بالجامعين. وفي كلام جماعة من الأصحاب انه على هذا التفسير مفتوح الغين مشدد
اللام.
وقال ابن إدريس
في السرائر : فهذا الدم نجس إلا ان الشارع عفى عن ثوب وبدن اصابه منه دون سعة
الدرهم الوافي وهو المضروب من درهم وثلث ، وبعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي
وهو منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها بغل قريبة من بابل بينها وبينها قريب من فرسخ
متصلة ببلدة الجامعين يجد فيها الحفرة والغسالون دراهم واسعة شاهدت درهما من تلك
الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد تقرب سعته
من سعة أخمص الراحة ، وقال بعض من عاصرته ممن له علم باخبار الناس والأنساب ان
المدينة والدراهم منسوبة الى ابن ابي البغل رجل من كبار أهل الكوفة اتخذ هذا
الموضع قديما وضرب هذا الدرهم الواسع فنسب اليه الدرهم البغلي. وهذا غير صحيح لان
الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول (صلىاللهعليهوآله) قبل الكوفة. انتهى كلامه.
وقال الشهيد في
الذكرى : عفى عن الدم في الثوب والبدن عما نقص عن سعة الدرهم الوافي وهو البغلي
بإسكان الغين وهو منسوب الى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية وزنته
ثمانية دوانيق ، والبغلية كانت تسمى قبل الإسلام الكسروية فحدث لها هذا الاسم في
الإسلام والوزن بحاله وجرت في المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق فلما كان زمن
عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق ،
وهذه التسمية ذكرها ابن دريد ، وقيل منسوب الى بغل قرية بالجامعين كان يوجد فيها
دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة لتقدم الدراهم على الإسلام ، قلنا لا ريب في
تقدمها وانما التسمية حادثة والرجوع الى المنقول اولى. انتهى. ومراده
بالمنقول ما نقله عن ابن دريد.
ونقل في مجمع
البحرين عن بعضهم انه كانت الدراهم في الجاهلية مختلفة فكان بعضها خفافا وهي
الطبرية وبعضها ثقالا كل درهم ثمانية دوانيق وكانت تسمى العبدية وقيل البغلية نسبت
الى ملك يقال له رأس البغل فجمع الخفيف والثقيل وجعلا درهمين متساويين فجاء كل
درهم ستة دوانيق ، ويقال ان عمر هو الذي فعل ذلك لانه لما أراد جباية الخراج طلب بالوزن
الثقيل فصعب على الرعية فجمع بين الوزنين واستخرجوا هذا الوزن. هذا ما ذكروه
بالنسبة إلى تفسيره.
واما بيان سعته
فقد تقدم في كلام ابن الجنيد ان سعته كعقد الإبهام الأعلى ، وفي كلام ابن إدريس
المذكور هنا ما يقرب سعته من أخمص الراحة ، ونقل في المعتبر عن ابن ابي عقيل انه
ما كان بسعة الدينار ، قال في المعتبر بعد تفسيره له بالوافي الذي وزنه درهم وثلث
كما قدمنا نقله عنه ونقل قولي ابن ابي عقيل وابن الجنيد : والكل متقارب والتفسير
الأول أشهر. هذه عبارته.
قال في المعالم
: وقال بعض الأصحاب انه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز اختلاف افراد الدرهم من
الضارب الواحد كما هو الواقع واخبار كل واحد عن فرد رآه ، ثم قال بعد نقل ذلك :
وهذا الكلام انما يتم لو لم يكن في التفسير خلاف وإلا فمن الجائز استناد الاختلاف
في التقدير الى الاختلاف في التفسير ولم يعلم من حال الذين حكى كلامهم في التقدير
انهم متفقون على أحد التفسيرين ، فان ابن الجنيد لم يتعرض في كلامه الذي رأيناه
لذكر البغلي فضلا عن تفسيره ولم ينقل عنه أحد من الأصحاب في ذلك شيئا ، والكلام
الذي حكاه المحقق عن ابن ابي عقيل خال من التعرض للفظ البغلي أيضا ، واما ابن
إدريس فقد عزى اليه المصير الى التفسير الثاني وبناء التقدير عليه ، والعجب من
جماعة من الأصحاب انهم بعد اعترافهم بوقوع الاختلاف هنا قالوا ان
شهادة ابن إدريس في قدره مسموعة مريدين بذلك الاعتماد على التقدير الذي
ذكره ، وكيف يستقيم ذلك وفرض كون كلامه شهادة مقتض لتوقف الحكم بمضمونها على
التعدد كما هو شأن الشهادة ، ومع التنزل فهو مبني على تفسيره كما قلناه فلا بد من
ثبوت التفسير أولا ولم يظهر من حال الجماعة الذين ذكروا هذا الكلام انهم معتمدون
على هذا التفسير ، وبالجملة فالمصير إلى شيء من التفسيرين والبناء على واحد من
التقديرين مع عدم ظهور الحجة وانما هي دعا ومجردة عن الدليل دخول في ربقة التقليد
، والوقوف مع القدر الأقل هو الاولى ولعل القرائن الحالية تشهد بنفي ما دونه.
انتهى كلامه.
أقول : لا يخفى
ان هذا البعض الذي أشار إليه بقوله : وقال بعض الأصحاب انه لا تناقض. إلخ انما هو
والده في الروض حيث قال بعد ذكر المصنف التقدير بسعة الدرهم البغلي ما صورته :
بإسكان الغين وتخفيف اللام منسوب الى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية
فاشتهر به وقيل بفتحها وتشديد اللام منسوب الى بغل قرية بالجامعين كان يوجد فيها
دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة وهو ما انخفض من باطن الكف ذكر ابن إدريس انه
شاهده كذلك وشهادته في قدره مسموعة ، وقدر ايضا بعقد الإبهام العليا وهو قريب من
أخمص الكف وقدر بعقدة الوسطى ، والظاهر انه لا تناقض بين هذه التقديرات لجواز
اختلاف افراد الدراهم من الضارب الواحد كما هو الواقع واخبار كل واحد عن فرده رآه.
انتهى.
ثم أقول : لا
يخفى ان ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على ان المراد بالدرهم في
الاخبار المذكورة هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث كما اشتملت عليه عبارة ابن
إدريس والمحقق والشهيد في الذكرى وبه صرح الصدوق في الفقيه والمفيد في المقنعة حيث
قال : فإن أصاب ثوبه دم وكان مقداره في سعة الدرهم الوافي الذي كان مضروبا من درهم
وثلث وجب عليه غسله بالماء ولم يجز له الصلاة فيه. الى آخره ، والعلامة في جملة من
كتبه والشهيد الثاني في الروض وغيرهم
لان ظاهر جملة من علماء الخاصة والعامة ان غالب الدراهم التي في صدر
الإسلام هي الدرهم البغلي الذي وزنه ثمانية دوانيق والطبري الذي وزنه أربعة دوانيق
، والأصحاب احترزوا هنا بقيد الوافي وان وزنه درهم وثلث عن الدرهم الآخر وهو
الطبري ، وكلام ابن الجنيد وابن ابي عقيل ليس فيه ظهور في مخالفة ذلك وانما غاية
ما فيه انه مطلق بالنسبة إلى تعيين الدرهم فيحمل على كلام الأصحاب المذكور جمعا
وان المراد به الدرهم الوافي الذي هو البغلي ، والاخبار التي قدمناها وان كانت
مطلقة أيضا إلا ان كلام الرضا (عليهالسلام) في الفقه الرضوي صريح في إرادة الدرهم الذي ذكره الأصحاب
، وحينئذ فالواجب حمل مطلق الأخبار عليه ، وبما ذكرنا يحصل اتفاق الأخبار وكلمة
الأصحاب على ان المراد بالدرهم هو الدرهم الوافي الذي وزنه درهم وثلث دون الدرهم
الطبري الذي هو الدرهم الآخر ودون الدرهم الذي استقر عليه أمر الإسلام أخيرا وهو
الذي وزنه ستة دوانيق ، وعلى هذا فلا اشكال ولا خلل فيما ذكره شيخنا الشهيد الثاني
في الروض من انه لا تناقض بين هذه التقديرات. الى آخر ما تقدم نقله عنه ، فإنه متى
ثبت ان المراد بالدرهم في الاخبار هو الدرهم الذي بهذا الوزن المخصوص فسعته
الحاصلة من ضربه ربما اختلفت كما هو المشاهد من الدراهم والدنانير المضروبة في هذه
الأزمنة ، واما ما يظهر من بعض عباراتهم من ان التفسير بكونه عبارة عن الوافي الذي
هو درهم وثلث مناف للتقدير بأخمص الراحة وسعة عقد الإبهام الأعلى فهو غلط محض لان
التقدير الأول انما هو تقدير للوزن والتقديرين الأخيرين انما هو تقدير للمساحة
والسعة فأي منافاة هنا كما توهموه؟
نعم يبقى
الاشكال هنا في مقامين : (الأول) ـ ان ظاهر الاخبار وكلام الأصحاب كما عرفت هو ان
المراد بهذا الدرهم هو الدرهم الوافي الذي كان في زمنه (صلىاللهعليهوآله) دون الدرهم الآخر الناقص وانه ـ كما ذكره في الذكرى
ونقله عن ابن دريد ـ يسمى بالبغلي للعلة التي ذكرها ، ومن المتفق عليه بين الخاصة
والعامة ان الدرهم المذكور قد غير مع الدرهم الآخر واستقر أمر الإسلام على الدرهم
الذي وزنه ستة
دوانيق في زمن عبد الملك كما في الذكرى أو زمن عمر كما في النقل الآخر ،
وحينئذ فما ذكره المحقق في المعتبر وابن إدريس من ان الدرهم البغلي هو المنسوب الى
هذه القرية المذكورة وان ابن إدريس شاهد بعضا منها ربما أوهم المنافاة لما تقدم من
حيث كون الدرهم المذكور ضرب أخيرا وجرى في المعاملة كذلك مع ما علم من اختصاص ذلك
بعصره (صلىاللهعليهوآله) وما قبله وما قرب منه أخيرا. ويمكن ان يقال في الجواب
عن ذلك ان النسبة الى هذه القرية وضربه بها يمكن ان يكون في زمنه (صلىاللهعليهوآله) وقبله لأن بابل وما قرب منها من البلدان القديمة وبقاء
بعض منها الى ذلك الوقت لا يدل على المعاملة وانما يدل على انها بعد نسخها وهجرها
وبطلان المعاملة بها بقيت في تلك القرية الخربة حتى انهم كانوا يلتقطونها منها ،
وانما تبقى المنافاة في سبب التسمية والنسبة بين ما ذكره في الذكرى من ان السبب في
تسميتها بغلية هو ضرب ذلك الرجل المسمى برأس البغل لها وبين ما ذكروه هنا من النسبة
الى هذه القرية ، والأمر في ذلك سهل لا يترتب على اختلافه حكم شرعي بعد الاتفاق
على الدرهم المعلوم.
و (الثاني) ـ ان
أكثر هذه الأخبار المتقدمة قد وردت عن الباقر والصادق ومن بعدهما (عليهمالسلام) والدرهم الذي استقر عليه أمر الإسلام في زمانهم (عليهمالسلام) انما هو الذي وزنه ستة دوانيق فإطلاق الاخبار انما
ينصرف اليه وهذا الاشكال قد تنبه له في المدارك فقال بعد نقل ملخص كلام الذكرى :
ومقتضاه ان الدرهم كان يطلق على البغلي وغيره وان البغلي ترك في جميع العالم زمان
عبد الملك وهو متقدم على زمان الصادق (عليهالسلام) قطعا فيشكل حمل النصوص الواردة عنه (عليهالسلام) عليه والمسألة قوية الإشكال. انتهى. والجواب عن ذلك ما
قدمنا ذكره من ان الأخبار وان كانت مطلقة بذكر الدرهم إلا ان عبارة الفقه الرضوي
قد اشتملت على تقييده بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيجب حمل إطلاق الاخبار
الباقية عليها ، ويؤيده ان الظاهر ان التحديد بهذا الدرهم انما ذكره الأئمة (عليهمالسلام)
بيانا عن الرسول (صلىاللهعليهوآله) فالواجب حمله على زمانه لأنهم نقلة لاحكامه وحفظة
لشريعته وبيان معالم حلاله وحرامه ، ولكن العذر للسيد المزبور واضح حيث لم يقف على
الكتاب المذكور ، وكم كشف الله تعالى بهذا الكتاب الميمون من اشكال في أمثال هذا
المجال كما عرفت فيما مضى وستعرف ان شاء الله تعالى فيما يأتي بتوفيق الملك
المتعال. والله العالم.
(المسألة
الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في ان كل ما لا تتم فيه الصلاة وحده
كالتكة والقلنسوة والخف والنعل يعفى عن نجاسته كائنة ما كانت ولو كدم الحيض ونجس
العين ، وانما الخلاف هنا في تعميم الحكم فيما تعلقت به وعدمه كما سيأتي تفصيله في
المقام ان شاء الله تعالى.
ويدل على أصل
الحكم مضافا الى الاتفاق المشار إليه جملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في
الموثق عن زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «كل ما كان لا يجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس ان
يكون عليه الشيء مثل القلنسوة والتكة والجورب». وعن عبد الله بن سنان عن من أخبره
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : «كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز
الصلاة فيه وحده فلا بأس ان يصلي فيه وان كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكة والكمرة
والنعل والخفين وما أشبه ذلك». وعن حماد بن عثمان في الصحيح عن من رواه عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يصلي في الخف الذي قد اصابه قذر؟ قال : إذا كان مما لا تتم
الصلاة فيه فلا بأس». وعن إبراهيم بن ابي البلاد عن من حدثهم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا بأس بالصلاة في الشيء الذي لا تجوز الصلاة
فيه وحده يصيبه القذر مثل القلنسوة والتكة والجورب». وعن زرارة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم
صليت؟
__________________
فقال لا بأس». وعن الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة
فيه مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلى فيه».
وطعن جمع من
أصحاب هذا الاصطلاح في هذه الاخبار بضعف الاسناد : منهم ـ السيد السند في المدارك
والمحقق الشيخ حسن في المعالم وانما اعتمدوا في الحكم على الأصل مضافا الى اتفاق
الأصحاب وأيدوا ذلك بهذه الاخبار ، ولا يخفى ما فيه من الضعف عند النظر بعين
التحقيق والتأمل بالفكر الصائب الدقيق ولكن ضيق الخناق في هذا الاصطلاح الذي هو
الى الفساد أقرب منه الى الصلاح أوجب لهم التشبث بهذه العلل العليلة والوجوه
الضئيلة.
وقال في الفقه
الرضوي : «إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكة أو الجورب أو
الخف مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه وذلك ان الصلاة لا تتم في شيء
من هذه وحده».
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الأصحاب مع اتفاقهم على أصل الحكم المذكور كما تقدمت الإشارة إليه
اختلفوا فيه من جهة المتعلق فذهب جمع من متأخري الأصحاب :
منهم ـ المحقق
والشهيد في أكثر كتبه والشهيد الثاني وغيرهم الى تعميم الحكم في كل ما لا تتم
الصلاة فيه من ملبوس ومحمول في محلها كانت تلك الملابس أم لا ، وخصه ابن إدريس
بالملابس وتبعه العلامة في ذلك ، فقال في النهاية والمنتهى لو كان معه دراهم نجسة
أو غيرها لم تصح صلاته ، وتبعه الشهيد في البيان ، وزاد العلامة في أكثر كتبه ايضا
اعتبار كون الملابس في محالها فصرح في المنتهى بأنه لو وضع التكة على رأسه والخف
في يده وكانا نجسين لم تصح صلاته. ووافقه على ذلك في البيان ايضا ، ونقل عن القطب
الراوندي
__________________
قصر الحكم ايضا على الملابس وزاد تخصيصها بخمسة أشياء : القلنسوة والتكة
والجورب والخف والنعل. والظاهر هو القول الأول لإطلاق الأخبار المتقدمة فإنها
شاملة بعمومها للملبوس بنوعيه في محله وغير محله وكذا المحمول ، ورواية عبد الله
بن سنان قد صرحت بالعفو عن المحمول بالخصوص من الملابس كان أو من غيرها. ولم نقف
لشيء من هذه الأقوال المخصصة على دليل إلا ان العلامة في المختلف نقل عن الراوندي
الاحتجاج على ما قدمنا نقله عنه بالإجماع على هذه الخمسة وما عداه لم يثبت فيه
النص فيبقى على المنع ثم أجاب بأنا قد بينا الثبوت والمشاركة في الجواز ، وأشار
بذلك الى ما استدل به على العموم حيث اختاره في الكتاب المذكور فقال لنا على
التعميم الاشتراك في العلة المبيحة للصلاة وهي كونه ملبوسا لا تتم الصلاة فيه
منفردا ، وما رواه حماد ثم نقل مرسلة حماد المتقدمة ، ورواية عبد الله بن سنان.
وهو جيد.
وما ذكره في
المنتهى والنهاية وكذا في البيان ـ من عدم صحة الصلاة لو كان معه دراهم نجسة أو
غيرها ـ لا اعرف له وجها ولا عليه دليلا فإن غاية ما يفهم من الأدلة اشتراط صحة
الصلاة بطهارة ثوب المصلي يعني ملبوسه شاملا كان للبدن أو غير شامل واما محموله
سيما مثل الدراهم ونحوها فأي دليل دل على اشتراط صحة الصلاة بطهارته؟ وبما ذكرنا
صرح السيد في المدارك ونقله عن المعتبر حيث قال : وغاية ما يستفاد من النص
والإجماع اشتراط طهارة الثوب والبدن اما المنع من حمل النجاسة في الصلاة إذا لم
تتصل بشيء من ذلك فلا دليل عليه كما اعترف به المصنف في المعتبر. انتهى.
فروع
(الأول) ـ قد
صرح الصدوق في الفقيه والمقنع بعد العمامة في جملة ما يعفى عنه ونقله عن أبيه في
الرسالة أيضا ، قال في الفقيه «ومن أصاب قلنسوته أو عمامته أو تكته أو جوربه أو
خفه مني أو دم أو بول أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه. وذلك
لان الصلاة لا تتم في شيء من هذا وحده» انتهى.
والأصحاب قد
استشكلوا في عده العمامة في جملة هذه المذكورات ونحوها ، قال شيخنا المجلسي في
حواشيه على الكتاب : ظاهر الصدوق جواز الصلاة في العمامة وان كانت نجسة ، والظاهر
انه وجد فيها نصا وإلا فيشكل الجزم بجواز الصلاة باعتبار انها بهذه الهيئة لا
يتمكن من ستر العورتين بها فيلزم جواز الصلاة في كل ثوب مطوي مع نجاسته والظاهر ان
التزامه سفسطة ، وعلى اي حال فالعمل على خلافه. انتهى.
أقول : العجب
من شيخنا المذكور ان كتاب الفقه الرضوي عنده وهذه العبارة عين كلامه (عليهالسلام) في الكتاب المذكور بتغيير يسير فكيف لم يطلع على ذلك
مع تنبيهه في غير موضع على أمثال ذلك؟
ونقل المحقق في
المعتبر عن القطب الراوندي حمل العمامة في كلام الصدوق على عمامة صغيرة كالعصابة ،
قال لأنها لا يمكن ستر العورة بها وربما حملت على اعتبار كونها على تلك الكيفية.
قال في المدارك
: ولعل المراد ان الصلاة لا تتم فيها وحدها مع بقائها على تلك الكيفية المخصوصة ،
ثم نقل تأويل الراوندي وقال وهذا اولى وان كان الإطلاق محتملا لما أشرنا إليه
سابقا من انتفاء ما يدل على اعتبار طهارة ما عدا الثوب والجسد والعمامة لا يصدق
عليها اسم الثوب عرفا مع كونها على تلك الكيفية المخصوصة. انتهى.
واقتفاه في ذلك
الفاضل الخراساني في الذخيرة فقال : والمسألة محل اشكال للشك في صدق اسم الثوب على
العمامة عرفا وإذا لم يصدق عليها الثوب كان القول بالإلحاق متجها لان الدليل الدال
على وجوب تطهير لباس المصلي مختص بالثوب فيبقى غيره على الأصل ، لكن في عدم
التمثيل بالعمامة في الاخبار والتمثيل بالقلنسوة وغيرها إشعار بأن الحكم فيها ليس
ذلك وإلا لكانت العمامة أحق بالتمثيل كما لا يخفى على المتأمل. انتهى.
وأنت خبير بان
دعوى عدم صدق الثوب عليها عرفا مع كونها على تلك الكيفية
لا اعرف له وجها إذ الثوب عرفا كما يطلق على المنشور يطلق على المطوي أيضا
، وبالجملة فإن الخبر المذكور وان دل على استثناء العمامة أيضا وقال بمضمونه
الشيخان المشار إليهما إلا انه غير خال من شوب الإشكال إلا مع الحمل على ما ذكره
الراوندي ، وهو لا يخلو من البعد ايضا والله العالم.
(الثاني) ـ قال
المحقق في المعتبر : لو حمل حيوانا طاهرا غير مأكول اللحم أو صبيا لم تبطل صلاته
لأن النبي (صلىاللهعليهوآله) حمل امامة وهو يصلي وركب الحسين (عليهالسلام) على ظهره وهو ساجد وفي المنتهى ذكر نحوه ايضا
__________________
وزاد في حكاية ركوب الحسين (عليهالسلام) ظهر جده ان الجمهور كافة نقلوه ، وأضاف الى هذه
الرواية وجها آخر وهو ان النجاسة في المحمول في معدته كالحامل. ونقل عن بعض
الأصحاب انه احتج لجواز ذلك بالأصل السالم عن معارضة ما يقتضي المنافاة. وهو كذلك.
أقول : ومفهوم هذا الكلام انه لو كان المحمول حيوانا نجسا نجاسة ذاتية أو عارضية
بطلت صلاته ، وهو مبني على اشتراط الطهارة في المحمول ايضا وقد عرفت ما فيه.
(الثالث) ـ قال
الشيخ في الخلاف : إذا حمل قارورة مسدودة الرأس بالرصاص وفيها بول أو نجاسة ليس
لأصحابنا فيه نص والذي يقتضيه المذهب انه لا ينقض الصلاة ، وبه قال ابن أبي هريرة
من أصحاب الشافعي غير انه قاسه على حيوان طاهر في جوفه نجاسة ثم عزى الى غيره من
العامة القول بالبطلان وقال بعد ذلك : دليلنا ان قواطع
__________________
الصلاة طريقها الشرع ولا دليل في الشرع على ان ذلك يبطل الصلاة ثم قال :
ولو قلنا انه يبطل الصلاة لدليل الاحتياط كان قويا ، ولان على المسألة الإجماع
وخلاف ابن أبي هريرة لا يعتد به. انتهى.
وقال المحقق في
المعتبر ـ بعد نقل مجمل هذا الكلام ثم نقل عن الشيخ في المبسوط انه جزم بالبطلان ـ
ما صورته : والوجه عندي الجواز وما استدل به الشيخ ضعيف لانه سلم ان ليس على
المسألة نص لأصحابنا وعلى هذا التقدير يكون ما استدل به من الإجماع هو قول جماعة
من فقهاء الجمهور وليس في ذلك حجة عندنا ولا عندهم ايضا ، والدليل على الجواز انه
محمول لا تتم الصلاة به منفردا فيجوز استصحابه في الصلاة بما قدمناه من الخبر ، ثم
نقول الجمهور عولوا على انه حامل نجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت على ثوبه ونحن
نقول النجاسة على الثوب منجسة له فتبطل لنجاسة الثوب لا لكونه حاملا نجاسة
ونطالبهم بالدلالة على ان حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن.
انتهى وهو جيد متين.
وقال في
المعالم بعد نقل كلام المحقق المذكور : وهذه المناقشة متوجهة وما اختاره المحقق هو
الحق واحتجاجه له مع جوابه عما عول الجمهور عليه في غاية الجودة ، وقد ذكر الشهيد
في الذكرى بعد حكايته لكلام المحقق هنا انه لا حاجة على قوله الى سد رأس القارورة
إذا أمن تعدي النجاسة منها ، قال ومن اشترطه من العامة لم يقل بالعفو عما لا تتم
الصلاة فيه وحده بل مأخذه القياس على حمل الحيوان.
أقول : ما ذكره
(قدسسره) من الاستدراك على المحقق الظاهر انه لا وجه له ، فان
المحقق قد أشار في آخر كلامه الى ما ذكره الشهيد هنا من قوله ونطالبهم بالدلالة
على ان حمل النجاسة مبطل إذا لم تتصل بالثوب والبدن ، وسد الرأس انما ذكره
أولا مشيا في كلامه على اثر الشيخ (قدسسره) في فرض المسألة والشيخ قد اقتفى أثر العامة في الفرض
المذكور.
إذا عرفت هذا
فاعلم ان ابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه قد اختارا ما ذهب اليه الشيخ في المبسوط
من عدم الجواز ، واحتج له في المختلف بأنه حامل نجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت
النجاسة على ثوبه وبدنه ، وبان إيجاب تطهير الثوب والبدن لأجل الصلاة ووجوب تحريز
المساجد التي هي مواطن الصلاة عن النجاسة يناسب البطلان هنا ، وبان الاحتياط يقتضي
ذلك.
وأنت خبير بما
في هذه الوجوه من التعسف : اما الأول فمع كونه مصادرة على المطلوب قد عرفت جوابه
من كلام المحقق. واما استشهاده بوجوب التحرز من إدخال النجاسة إلى المساجد فهو
مبني على رأيه من عدم جواز إدخال النجاسة إلى المساجد مع عدم التعدي وقد تقدم ما
فيه. واما الاحتياط فهو ليس بدليل شرعي عنده.
وقال في
المدارك بعد رد كلامه بنحو ما ذكرناه : ونحن نطالبه بالدليل على ان حمل النجاسة
مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب والبدن ، وعلى ما ذكرناه فلا حاجة الى سد رأس
القارورة بل يكفي الأمن من التعدي كما نبه عليه في الذكرى ، ثم نقل عبارته
المتقدمة أقول : في كلام هؤلاء الاعلام في هذا المقام تأييد لما قدمناه من صحة
الصلاة في المحمول مما لا يجوز الصلاة فيه ملبوسا كالنجاسة في الثوب والحرير
والذهب ونحو ذلك.
(الرابع) ـ ذكر
الشيخ في النهاية بعد نفي البأس عن الصلاة فيما إصابة نجاسة مما لا تتم الصلاة فيه
ان ازالة النجاسة عنه أفضل ، وبنحو ذلك صرح السيد أبو المكارم ابن زهرة ، وقال
المفيد في المقنعة : لا بأس بالصلاة في الخف وان كانت فيه نجاسة وكذلك النعل
والتنزه عن ذلك أفضل. ولم أقف على من صرح بذلك غير هؤلاء (رضوان الله عليهم) والذي
وقفت عليه من الاخبار في ذلك انما يدل على ما ذهب اليه الشيخ المفيد ، وهو ما رواه
الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق
(عليهالسلام) قال : «إذا صليت فصل في نعليك إذا كانت طاهرة فإنه يقال
ذلك من السنة». وعن عبد الله بن المغيرة في الحسن قال : «إذا صليت فصل في نعليك إذا كانت طاهرة فإن ذلك
من السنة». وربما كان التفات الشيخ وابن زهرة إلى الخبرين المذكورين وانه متى ثبت
ذلك في النعل فغيره بطريق اولى وإلا فلم أقف على ما يدل على ما ذكراه من العموم.
(الخامس) ـ ذكر
جماعة من الأصحاب انه إذا جبر عظمه بعظم نجس كعظم الكلب والخنزير والكافر وجب قلعه
ما لم يخف التلف أو المشقة وادعى في الدروس عليه الإجماع ، واحتمل في الذكرى عدم
الوجوب إذا اكتسى اللحم لا لتحاقه بالباطن واستوجهه في المدارك ، وجزم الشيخ في
المبسوط ببطلان الصلاة لو أحل بالقلع مع الإمكان لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها ،
واستشكله في المدارك بخروجها عن حد الظاهر ولأنها نجاسة متصلة كاتصال دمه فتكون
معفوا عنها.
أقول : الظاهر
هو ما صرح به الأكثر من وجوب القلع مع الإمكان وعدم المشقة ، وما اختاره في
المدارك وفاقا لما في الذكرى ـ من التحاقه بالباطن وكذا ما ذكره في رد كلام الشيخ
من خروجه عن الظاهر وانها نجاسة متصلة كاتصال دمه ـ لا يخفى ما فيه وان تبعه عليه
صاحب الذخيرة ، فإن غاية ما يستفاد من الأدلة هو عدم تعلق التكليف بما في باطن
البدن من النجاسات الخلقية كدمه الذي تحت جلده والغائط في البطن ونحو ذلك ما لم
يظهر الى فضاء البدن لما في التكليف بذلك من العسر والحرج وتكليف ما لا يطاق ،
وحمل ما ذكروه على ذلك قياس مع الفارق من حيث تعذر الإزالة في الأول وإمكانها في
الثاني كما هو المفروض في كلام الأصحاب لأنهم إنما يوجبون الإزالة مع الإمكان وعدم
المشقة ، وبالجملة فمجرد الصيرورة في الباطن كيف اتفق لا دليل على إسقاطه وجوب
الإزالة. ويؤيده ما صرحوا به في غير موضع من ان
__________________
الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة الوقوع دون الفروض
النادرة ومثل هذه الفروض النادرة الشاذة لا تدخل تحت إطلاق البواطن التي رتب عليها
العفو عن الإزالة إذ المتبادر منها ما كان من أصل الجسد واجزائه الخلقية.
ومثل ما ذكرناه
يأتي أيضا في المسألة الآتية ان شاء الله تعالى من إدخال الدم النجس تحت جلده فإن
الأظهر فيها ايضا وجوب الإزالة مع عدم الضرر ، ومما يؤكد ما ذكرناه ويؤيد ما
أردناه أنه الأحوط في الدين والموجب للبراءة بيقين.
(فان قيل) ان
الاحتياط ليس بدليل شرعي (قلنا) هذا الكلام على إطلاقه ممنوع وان زعموا صحته بناء
على العمل بالبراءة الأصلية إلا ان المستفاد من الاخبار خلافه وهو ان الاحتياط في
موضع اشتباه الحكم واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب ، ولا ريب ان المسألة
عارية عن النصوص بالعموم والخصوص والحكم فيها لذلك محل اشتباه والحكم عندنا في
الشبهات كما تقدم تحقيقه هو الوقوف فيها عن الفتوى والعمل بالاحتياط. والله
العالم.
(السادس) ـ قال
العلامة في التذكرة : لو ادخل دما نجسا تحت جلده وجب عليه إخراجه مع عدم الضرر
واعادة كل صلاة صلاها مع ذلك الدم. قال في المدارك : ويشكل بخروجه عن حد الظاهر
وبصيرورته كجزء من دمه واولى بالعفو ما لو احتقن دمه بنفسه تحت الجلد قال في
الذخيرة بعد ذكره هذا الاستشكال : وبالجملة لقدر الثابت وجوب تطهير ظواهر البدن
واما البواطن فليس في الأدلة ما يقتضي وجوب تطهيرها بل فيها ما يدل على العفو عنها
فيكون أصالة البراءة على حاله ، وإطلاق الصلاة غير مقيد بشرط لا يدل عليه الدليل
فيحصل الامتثال ، فظهر ضعف القول بوجوب إعادة الصلاة. انتهى.
أقول : فيه
زيادة على ما عرفت في سابقه ان الأدلة الدالة على نجاسة البدن بما لاقاه من الدم
والمني ونحوهما من النجاسات لا تخصيص فيها بباطن ولا ظاهر وان كان الغالب انما يقع
بالظاهر خاصة والمتبادر كما عرفت من الباطن انما هو بالنسبة الى ما كان
من أصل الجسد وخلقته لا الى ما يطرح فيه من غيره ، وكيف كان فالمسألة لما
كانت عارية عن النصوص فهي داخلة تحت الشبهات التي يجب فيها الاحتياط كما سلف
تحقيقه في مقدمات الكتاب.
بقي هنا شيء
وهو ان الدم لو خرج من الجسد لكن لم يبرز الى فضاء البدن بل احتقن تحت الجلد
فالظاهر العفو عنه لان الخطاب بوجوب غسله مرتب على خروجه على الجلد ، ونقل عن
الشهيد في البيان انه جزم بوجوب إخراجه وجعل حكمه حكم الدم الذي هو محل البحث وهو
غير جيد ، إلا ان عندي في حمل عبارته على ما ذكروه نوع تأمل بل الظاهر انه انما
أراد احتقان دم أجنبي تحت جلده وقد صرح بذلك في الدروس ايضا ، وعبارته في الدروس
أظهر فيما قلناه فإنه قال في البيان : ولو شرب نجسا فالأقوى وجوب استفراغه إن أمكن
، وكذا لو احتقن في جلده دم أو جبر عظمه بعظم نجس أو خاط جرحه بخيط نجس ، ولو خيف
الضرر سقط. وقال في الدروس : ولو شرب خمرا أو منجسا أو أكل ميتة أو احتقن تحت جلده
دم نجس احتمل وجوب الإزالة مع إمكانها ولو عللت القارورة بأنها من باب العفو احتمل
ضعيفا اطراده هنا ولأنه التحق بالباطن. انتهى. ولا يخفى ان تقييده الدم في هذه
العبارة بالنجس ظاهر في كونه غير دم البدن ، والظاهر ان عبارته في البيان ايضا من
هذا القبيل وان حصل الاشتباه فيها من ترك هذا القيد ، ويؤيده انه لم يتعرض لذكر دم
الغير تحت جلده كما هو الدائر في كلام الأصحاب في هذا المقام.
(السابع) ـ قال
العلامة في المنتهى : لو شرب خمرا أو أكل ميتة ففي وجوب قيئه نظر الأقرب الوجوب
لان شربه محرم فاستدامته كذلك. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو أحوط وان كان في
تعينه نظر ، وقال : ولو أخل بذلك لم تبطل صلاته وربما قيل بالبطلان كما في
القارورة المشتملة على النجاسة وهو ضعيف. انتهى.
أقول : يمكن
الاستدلال هنا على وجوب القيء بما رواه في الكافي في الموثق
عن عبد الحميد بن سعيد قال : «بعث أبو الحسن (عليهالسلام) غلاما يشتري له بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر
بهما فلما اتى به اكله فقال مولى له ان فيه من القمار قال فدعا بطشت فتقيأ فقاءه».
بقي الكلام في بطلان الصلاة لو أخل بقيئه وعدمه والأظهر الثاني لعدم الدليل عليه.
(المسألة
الخامسة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف العفو عن نجاسة
ثوب المربية للصبي ذات الثوب الواحد إذا غسلته في اليوم مرة ، واستدل الفاضلان في
المعتبر والمنتهى على ذلك بما رواه الشيخ عن ابي حفص عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص ولها مولود فيبول
عليها كيف تصنع؟ قال تغسل القميص في اليوم مرة». وان تكرار بول الصبي يمنع التمكن
من إزالته فجرى مجرى دم القرح الذي لا يمنع من استصحاب الثوب في الصلاة ، قال
المحقق فكما يجب اتباع الرواية هناك دفعا للحرج فكذا هنا لتحقق الحرج في الإزالة.
وقال في المعالم بعد نقل ذلك : وهذه الحجة بينة الوهن فإن الرواية ضعيفة السند فلا
تصلح لتأسيس حكم شرعي ، واعتبار الحرج يقتضي إناطة الحكم بما يندفع معه لا بالزمان
المعين والإلحاق بدم القرح قياس ، ووجوب اتباع الرواية هناك ليس باعتبار الحرج
وانما هو لصلاحيتها لإثبات الحكم وجهة الحرج مؤيدة لها ، وحيث ان الصلاحية هنا
منتفية فلا معنى لكون وجوب الاتباع هناك موجبا لوجوبه هنا. انتهى. وهو جيد وجيه
بالنسبة إلى تعليل المحقق المذكور بعد الرواية فإن الأولى يجعله وجها للنص لا علة
مستقلة لما ذكره في المعالم. واما رد النص فهو مبني على تصلب هذا القائل في هذا
الاصطلاح ومثله صاحب المدارك حيث قال بعد الطعن في سند الرواية : والاولى وجوب
الإزالة مع الإمكان وسقوطها مع المشقة الشديدة دفعا للحرج. والعجب منهما
__________________
(قدسسرهما) انهما في غير موضع قد وافقا الأصحاب في العمل بالخبر
الضعيف متى كان اتفاق الأصحاب على العمل به ويتعللان بان المعتمد انما هو على
اتفاق الأصحاب ، والحكم هنا كذلك فإنه لا مخالف فيه ولا راد له ، وكيف كان فالأظهر
ما عليه الأصحاب من قبول الخبر المذكور والعمل بما دل عليه.
نعم يبقى
الكلام هنا في مواضع (الأول) ـ ظاهر الخبر المذكور شمول الحكم للصبي والصبية حيث
عبر فيه بلفظ المولود الشامل لهما ، وبذلك ايضا صرح جملة من الأصحاب ، ونقله في
المعالم عن الشهيدين وأكثر المتأخرين. أقول : وبه جزم في المدارك وهو الظاهر ،
والذي صرح به المحقق في المعتبر والشرائع والنافع هو الصبي خاصة وكذا العلامة في
المنتهى والإرشاد والشهيد في البيان ، وفي الدروس بعد ذكر الصبي ذكر الصبية إلحاقا
كما ذكر المربي إلحاقا بالمربية ، نعم ظاهر كلامه في الذكرى العموم من حيث التعبير
بلفظ المولود الوارد في النص ، ونقل في المعالم عن بعض الأصحاب انه قال المتبادر
من المولود هو الصبي ، ثم قال ولا يخلو من قرب. وكلام العلامة في النهاية مشعر
بذلك ايضا حيث قال بعد ذكر الرواية : ان الحكم مخصوص بالذكر اقتصارا في الرخصة على
المنصوص ، وللفرق فان بول الصبي كالماء وبول الصبية اصفر ثخين وطبعها أحر فبولها
ألصق بالمحل. انتهى.
(الثاني) ـ مورد
النص المذكور البول فلا يتعدى الى غيره اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النص ،
وهو اختيار الشهيد الثاني في الروض وسبطه السيد السند في المدارك وابنه المحقق في
المعالم ، واستشكل ذلك العلامة في النهاية والتذكرة ، والظاهر من كلام شيخنا
الشهيد عدم الفرق وقربه بأنه ربما كني عن الغائط بالبول كما هو قاعدة لسان العرب
في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به. وفيه ان مجرد هذا الاحتمال لا يكفي في
إخراج اللفظ عن معناه المتبادر منه وإثبات التسوية بينه وبين الغائط ، والتجربة
شاهدة بعسر التحرز من اصابة البول لتكرره فإلحاق الغائط به بعيد.
وأبعد منه غيره من النجاسات كالدم كما يفهم من إطلاق بعض العبارات.
(الثالث) ـ مورد
الرواية المذكورة المربية والحق بعض الأصحاب بها المربي أيضا للاشتراك في العلة
وهو وجود المشقة فيهما ، وأنكره آخرون وقوفا على مورد النص والتعليل المذكور في
كلامهم ليس منصوصا وانما هو علة مستنبطة وعلى هذا يكون الإلحاق قياسا ، وهذا هو
الأظهر ، وبالأول صرح العلامة في التذكرة والنهاية وتبعه الشهيد في كتبه الثلاثة ،
وبالثاني جزم في المدارك وهو الذي عليه اقتصر المحقق في كتبه.
(الرابع) ـ الحق
بعض الأصحاب بالمولود الواحد المتعدد للاشتراك في العلة وهي المشقة وزيادة فلا
معنى لزواله. وفيه انه يمكن ان يكون التعدد لكونه مقتضيا لكثرة النجاسة وقوتها فمن
الجائز اختصاص العفو بالقليل الضعيف منها دون الكثير القوى فلا وجه للإلحاق
المذكور ، وبالأول جزم الشهيد في الذكرى والدروس ، ونقله في المعالم عن والده أيضا
في بعض كتبه ثم قال وله وجه. أقول : ما نقله عن والده من إلحاق المتعدد قد صرح به
في المسالك واما في الروض فظاهره التوقف للوجهين المذكورين.
(الخامس) ـ لو
كان لها أكثر من ثوب واحد فان احتاجت الى لبس الجميع لبرد ونحوه فالظاهر كما صرح
به في الروض ان الجميع في حكم الثوب الواحد وإلا فلا تلحقها الرخصة لزوال المشقة
بإبدال الثياب ووقوفا مع ظاهر النص ، ولو أمكن ذات الثوب الواحد تحصيل غيره بشراء
أو استئجار أو استعارة ففي وجوب ذلك عليها تردد ينشأ من إطلاق النص المتقدم فان
ظاهره ان الحكم فيها مع وحدة الثوب ما ذكر وان أمكنها ذلك ، ومن انتفاء المشقة
بتكرير الغسل. وظاهر الروض التوقف في ذلك ، ونقل في المعالم عن جماعة من المتأخرين
أنهم استقربوا الثاني وكتب في الحاشية في تفسير الجماعة المشار إليهم : السيد حسن
بن جعفر وشيخنا السيد علي ابن الصائغ ، ثم قال هو (قدسسره) وكأن الأول أقرب. وهو جيد وقوفا على ظاهر النص ونظرا
الى ان هذه العلة التي يكررون الإشارة إليها ليست منصوصة كما قدمنا ذكره بل هي
مستنبطة.
(السادس) ـ قد
صرح جماعة من الأصحاب بأن الحكم المذكور مختص بالثوب اما البدن فيجب غسله مع
المكنة لعدم النص والمشقة الحاصلة في الثوب الواحد بسبب توقف لبسه على يبسه. قال
في المعالم وربما صار بعض من تأخر إلى تعدية الرخصة إليه نظرا الى عسر الاحتراز عن
الثوب النجس ومشقة غسل البدن في كل وقت. ثم قال وليس بشيء وكتب في الحاشية في
بيان ذلك البعض : السيد حسن. أقول : وهذا السيد أحد مشايخ شيخنا الشهيد الثاني وله
(قدسسره) أقوال غريبة مثل قوله في هذه المسألة وقوله في تطهير
المطر ولو بالقطرة الواحدة ونحو ذلك.
(السابع) ـ قد
دل الخبر المذكور على تعين الغسل مع انه كما سيأتي ان شاء الله تعالى قريبا ان الحكم
في بول الصبي الذي لم ينفطم انما هو الصب والمغايرة بينهما ظاهرة ، وبه يظهر
المنافاة بين الحكمين مع اتفاق الأصحاب على كل منهما وبه يعظم الاشكال ، قال
العلامة في النهاية : الأقرب وجوب عين الغسل فلا يكفي الصب مرة واحدة وان كفى في
بوله قبل ان يطعم الطعام عند كل نجاسة. ومرجعه الى وجه جمع بين الأمرين بأن يقال
ان الاكتفاء بالصب في بول الرضيع على ما سيأتي انما هو مع تكرير الإزالة كلما حصل
منه البول بحسب الحاجة الى الدخول في العبادة واما مع الاقتصار على المرة في اليوم
في هذه الصورة فلا بد من الغسل عملا بالخبر. ومرجعه الى تخصيص تلك الأخبار الدالة
على الصب بهذا الخبر في هذه المادة المخصوصة وهي اتحاد الثوب ، ويؤيده الاعتبار
وان كان العمل انما هو على النص من حيث ان تكرر حصول النجاسة من دون تخلل الإزالة
بينهما يقتضي قوتها وتزايدها فيجوز اختلاف الحكم مع تحقق هذا المعنى وبدونه.
(الثامن) ـ قد
ذكر كثير من الأصحاب ان المراد باليوم في الخبر ما يشمل الليل ايضا اما لإطلاقه
لغة على ما يشمل الليل أو لإلحاق الليل به. والحكم موضع توقف لاحتمال ما ذكروه
واحتمال اختصاص اليوم بالنهار خاصة والخروج عنه يحتاج الى دليل.
(التاسع) ـ قد
صرح جمع من الأصحاب بأن الأفضل ان تجعل غسل الثوب آخر النهار لتوقع الصلوات الأربع
على طهارة ، ولا بأس به ، والعلامة في التذكرة بعد ان ذكر أفضلية التأخير لذلك قال
: وفي وجوبه إشكال ينشأ من الإطلاق ومن أولوية طهارات اربع على طهارة واحدة. وفي
دلالة هذا التوجيه على الوجوب تأمل ، والأظهر الاستحباب. وهل يجب إيقاع الصلاة
عقيب غسل الثوب والتمكن من لبسه متى اقتضت العادة نجاسته بالتأخير؟ فيه توقف. قيل
ولو أخلت بالغسل فالظاهر وجوب قضاء آخر الصلوات لجواز تأخير الغسل الى وقته. والله
العالم.
(المسألة
السادسة) ـ الظاهر انه لا اشكال ولا خلاف في العفو عما يتعذر إزالته من النجاسة
التي في البدن من اي نوع كانت ، وكأنه لما علم من اباحة الضرورات المحظورات لم
يتعرض الأصحاب هنا للاستدلال على ذلك. ويمكن ان يستدل على ذلك بالأخبار الواردة في
السلس والمبطون وقد تقدمت في المسائل الملحقة بالوضوء فإنها صريحة في الصلاة
بالنجاسة لمكان الضرورة ، وفي حسنة منصور «إذا لم يقدر على حبسه فالله تعالى اولى بالعذر». وفي موثقة سماعة «فليتوضأ وليصل فإنما ذلك بلاء ابتلى به». ونحو ذلك. وأيد ذلك بعضهم بأن
الأدلة الدالة على شرطية الطهارة من الخبث في الصلاة غير متناولة لحال الضرورة
فيبقى عموم الأوامر سالما عن معارضة ما يقتضي الاشتراط والتخصيص. وهو جيد.
وانما الخلاف
في نجاسة الثوب فذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ وابن البراج وابن إدريس
والعلامة في أكثر كتبه وغيرهم ـ والظاهر انه المشهور كما في المدارك ـ الى عدم
العفو ووجوب الصلاة عاريا إلا ان يضطر الى لبسه فيجوز للضرورة ويصير مناط العفو
انما هو الضرورة. وانفرد الشيخ من بينهم بإيجاب إعادة الصلاة فيه
__________________
حال الضرورة ، وذهب الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيدان وجماعة من
المتأخرين الى ان العفو ثابت اضطر الى لبسه أم لم يضطر وان المصلي مخير بين الصلاة
فيه والصلاة عاريا ، وزاد الشهيدان وجماعة ان الصلاة فيه أفضل ، وبهذا القول صرح
ابن الجنيد من المتقدمين في كتابه المختصر فقال : ولو كان مع الرجل ثوب فيه نجاسة
لا يقدر على غسلها كانت صلاته فيه أحب الي من صلاته عريانا. وأوجب مع ذلك إعادة
الصلاة إذا وجد ثوبا طاهرا فقال في موضع آخر من الكتاب : والذي ليس معه إلا ثوب
واحد نجس يصلي فيه ويعيد في الوقت إذا وجد غيره ولو أعاد إذا خرج الوقت كان أحب
الي. أقول : والأصل في هذا الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة كما ستقف
عليه
احتج الشيخ على
ما ذهب اليه من عدم العفو ووجوب الصلاة عاريا مع عدم الضرورة بإجماع الفرقة ذكره
في الخلاف ، وبان النجاسة ممنوع من الصلاة فيها ومن يجيزها فيها فعليه الدلالة ، وبما
رواه سماعة قال : «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه
إلا ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال يتيمم ويصلي عريانا قاعدا
ويومئ». هكذا في الكافي والتهذيب وفي الاستبصار «ويصلي عريانا قائما ويومئ إيماء» وما
رواه محمد بن علي الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) : «في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة وليس عليه إلا ثوب
واحد فأصاب ثوبه مني؟ قال يتيمم ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعا ويصلي ويومئ إيماء».
واحتج على ما
ذهب اليه من جواز الصلاة فيه بالنجاسة مع الضرورة ووجوب الإعادة حينئذ بما رواه عن
عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن رجل ليس معه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله
كيف يصنع؟ قال يتيمم ويصلي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة».
__________________
وأنت خبير بان
هذه الرواية وان دلت على الإعادة إلا انها لا دلالة لها على الضرورة ، إلا ان يكون
الحمل على ذلك لأجل الجمع بينها وبين الروايتين المتقدمتين وهو خلاف الظاهر من
مدعاه ، ومع هذا فهي انما تدل على الإعادة في صورة التيمم دون الوضوء والمدعى أعم
من ذلك.
ومما يدل على
العفو مطلقا كما هو القول الآخر صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا
نصفه دم أو كله أيصلي فيه أو يصلي عريانا؟ فقال ان وجد ماء غسله وان لم يجد ماء
صلى فيه ولم يصل عريانا».
وصحيحة محمد بن
علي الحلبي برواية الصدوق «انه سأل الصادق (عليهالسلام) عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على
غسله؟ قال يصلي فيه».
وفي الصحيح عن
محمد الحلبي عنه (عليهالسلام) «انه سأل عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال يصلي فيه فإذا وجد
الماء غسله» قال في الفقيه بعد ذكر الخبر : وفي خبر آخر «وأعاد الصلاة».
وفي الصحيح عن
عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يجنب في ثوب ليس معه غيره ولا
يقدر على غسله؟ قال يصلي فيه».
قال في الفقيه
بعد ذكر هذا الخبر ايضا : وفي خبر آخر «يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله وأعاد الصلاة».
أقول : ان كان
مراد الصدوق بالرواية الدالة على الإعادة هي رواية عمار المتقدمة فقد عرفت ما فيها
واما غيرها فلم نقف عليه.
هذا ما وصل
إلينا من اخبار المسألة المذكورة ، والشيخ قد جمع بينها بحمل هذه الاخبار الأخيرة
على الضرورة من برد أو نحوه أو على صلاة الجنازة ، والثاني منهما بعيد لا ينبغي
النظر اليه ، اما الأول فقد عرفت انه استدل عليه بموثقة عمار وقد عرفت
__________________
ما فيه. نعم ربما يمكن الاستدلال له برواية الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب
غيره؟ قال يصلي فيه إذا اضطر اليه». إلا ان الخبر غير صريح ولا ظاهر في المدعى إذ
يمكن حمل الاضطرار اليه على معنى عدم وجود غيره كما هو محل السؤال ، وحاصل الجواب
حينئذ انه يجوز له في الصورة المفروضة لمكان الضرورة بعدم وجود غيره ، وحينئذ فلا
يمكن تخصيص إطلاق تلك الاخبار به ، والآخرون قد جمعوا بين الأخبار بالتخيير ،
وبعضهم كما عرفت صرح بأفضلية الصلاة في الثوب النجس على الصلاة عاريا ، ويؤيده ـ زيادة
على صحة الاخبار الدالة على الجواز ـ انه مع الصلاة في الثوب لا يلزم إلا فوات شرط
واحد وهو طهارة الساتر ومع الصلاة عاريا يلزم فقد شروط وهو الساتر وترك القيام
والركوع والسجود لانه يصلي قاعدا بإيماء كما صرحت به روايتا الصلاة عريانا إلا على
رواية الاستبصار لحديث سماعة حيث صرح فيه بالقيام فإنه يبقى الاشكال بترك الركوع
والسجود ، وبالجملة فرجحان هذا القول أظهر من ان يخفى.
وظاهر السيد
السند في المدارك النظر في الجمع بين الاخبار بالتخيير مستندا إلى انه فرع حصول
التعارض وهو خلاف الواقع لان روايات الصلاة في الثوب متعددة صحيحة الاسناد وتلك
بالعكس من ذلك ، وهو جيد بناء على أصله المعتمد عليه عنده من العمل بهذا الاصطلاح
الجديد ، إلا ان جملة أصحاب هذا الاصطلاح لم يعملوا على ذلك لاعتضاد تلك الأخبار
بالشهرة بين الأصحاب حتى ادعى الشيخ في الخلاف الإجماع على ما دلت عليه ، ويؤيده
ظاهر كلام العلامة في المنتهى فان ظاهره الإجماع على جواز الصلاة عاريا حيث قال
فيه : لو صلى عاريا لم يعد الصلاة قولا واحدا. واقتصر البعض على التمسك بهذا الوجه
في الخروج عن ظاهر هذه الاخبار قائلا انه لولاه لم يكن عن القول بتعين الصلاة في
الثوب معدل واعترضه في المعالم بعدم صحة شيء من الاخبار الأولة
__________________
وعدم ثبوت الإجماع وان ادعاه الشيخ والعلامة قال واحتجاج الشيخ بالمنع من
الصلاة في النجاسة وطلبه للدلالة ممن يجيزها فيها واضح الجواب ، فإن الأخبار التي
ذكرناها صالحة للدلالة متنا وإسنادا فالمتجه العمل بما دلت عليه. انتهى.
أقول : وهو
ظاهر الصدوق في الفقيه حيث اقتصر في الكتاب على نقل الروايات الدالة على الصلاة في
الثوب ولم يتعرض لنقل شيء من روايات الصلاة عاريا وهو بناء على قاعدته التي
ينسبون بها المذاهب إليه في هذا الكتاب ظاهر في اختياره تعين الصلاة في الثوب كما
جنح إليه في المعالم.
وكيف كان فان
ملخص الكلام في المقام ان مقتضى العمل بهذا الاصطلاح الجديد هو ما ذكره في المعالم
وقبله السيد في المدارك إلا ان ظاهره في المدارك التوقف ولم يجزم بذلك كما في
عبارة المعالم حيث قال بعد رد تأويلات الشيخ بالبعد : ويمكن الجمع بينها بالتخيير
بين الأمرين وأفضلية الصلاة في الثوب كما اختاره ابن الجنيد إلا ان ذلك موقوف على
تكافؤ السند وهو خلاف الواقع ، وكيف كان فلا ريب ان الصلاة في الثوب اولى. انتهى.
وهو ظاهر في التوقف حيث لم يجزم بشيء وانما جعل الصلاة في الثوب اولى ، ومقتضى
العمل بجملة الأخبار هو القول بالتخيير جمعا بينها دون ما ذكره الشيخ (قدسسره) واما ما ذكره الشيخ من الإعادة وكذا ما ذكره ابن
الجنيد ففيه ما تقدم في غير موضع من ان وجوب الأداء والقضاء مما لا يجتمعان بمقتضى
الأصول الشرعية والقواعد المرعية كما تقدم تحقيقه في باب التيمم والله العالم.
فروع
(الأول) ـ نقل
في المعالم انه ذكر بعض أصحابنا المتأخرين ان لكل من البدن والثوب بالنظر الى تعذر
الإزالة حكما برأسه فإذا تعددت النجاسة فيهما واختص التعذر بأحدهما وجبت الإزالة
عن الآخر ، قال ولو اختصت بأحدهما وكانت متفرقة
وأمكن إزالة بعضها وجبت ، وبتقدير اجتماعها فان كانت دما وأمكن تقليله بحيث
ينقص عن مقدار الدرهم وجب ايضا وإلا ففي الوجوب نظر ، ثم قال وهذا التفصيل حسن ولا
بأس به. أقول : ظاهر هذا الكلام التفرقة في صورة اختصاص النجاسة بأحدهما بين
المتفرقة التي يمكن ازالة بعضها فإنه تجب الإزالة وبين المجتمعة التي إذا كانت غير
الدم وأمكن تقليلها وازالة بعضها فإنه لا تجب بل هو محل نظر عنده ، ولا اعرف لهذه
التفرقة وجها.
(الثاني) ـ قد
عرفت ان الظاهر من الصدوق هو اختيار القول بالصلاة في الثوب إلا انه قد أشار كما
عرفت في ذيل صحيحتي الحلبي وعبد الرحمن إلى رواية عمار الدالة على الإعادة ،
ومنافاتها للأخبار المذكورة ظاهرة والأصحاب قد حملوها على الاستحباب جمعا ، وهو لم
يتعرض للجواب عنها ولا الجمع بينها وبين تلك الأخبار ، وربما أشعر ذلك بقوله
بمضمونها وتقييد إطلاق تلك الاخبار بها والظاهر بعده ، وربما احتمل التوقف حيث
اقتصر على نقل الجميع ولم يتعرض لوجه الجمع ولعله الأقرب ، وقد وقع له أمثال ذلك
في غير موضع : منها ـ خروج البلل المشتبه بعد الوضوء.
(الثالث) ـ انه
على تقدير القول المشهور من وجوب الصلاة عاريا فهل يصلي جالسا مومئا برأسه للركوع
والسجود مطلقا أو قائما مطلقا مومئا كذلك أو يفرق بين أمن المطلع وعدمه فيصلي على
الأول قائما وعلى الثاني جالسا؟ أقوال أشهرها الثالث ، وسيجيء تحقيق المسألة
المذكورة في محلها ونقل اخبارها ان شاء الله تعالى وبيان المختار منها.
(الرابع) ـ لا
خلاف في انه لو اضطر إلى الصلاة فيه لبرد ونحوه فان صلاته صحيحة وانما وقع الخلاف
في وجوب الإعادة ، والظاهر ان مستنده موثقة عمار المذكورة وقد عرفت ما فيها من
الاشتمال على التيمم أولا فيجوز ان تكون الإعادة مستندة الى ذلك كما تقدم في باب
التيمم ، واما مع ظهور كون ذلك من حيث الصلاة في النجاسة فقد عرفت ما فيه من
المخالفة لمقتضى الأصول الشرعية فيجب تأويلها البتة والله العالم.
(المسألة
السابعة) ـ قد ذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في الذكرى والدروس الى العفو عن
نجاسة ثوب الخصي الذي يتواتر بوله إذا غسله في النهار مرة ، واحتجوا لذلك بالحرج
والمشقة مع ما رواه الشيخ في الصحيح الى سعد ان بن مسلم عن عبد الرحيم القصير قال : «كتبت الى ابي الحسن الأول (عليهالسلام) اسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد
البلل؟ فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة واحدة». واعترضهم بعض المحققين من
متأخري المتأخرين بان في طريقها ضعفا لجهالة سعدان وعبد الرحيم ، وقال المحقق في
المعتبر بعد نقل الخبر المذكور : والراوي المذكور ضعيف فلا اعمل على روايته وربما
صير إليها دفعا للحرج. وظاهر قوله «صير» بالبناء للمجهول وجود قائل بمضمونها إلا
ان العلة في ذلك هو الحرج دون الخبر ، ويحتمل ان يكون كناية عن ميله هو الى ذلك
وتعليل الحكم بالحرج. واعترض عليه بان الاستناد في الحكم الى الحرج يقتضي جعل
المناط في العفو ما تندفع معه المشقة والحرج ككثير من الأحكام التي يستندون فيها
الى دفع الحرج دون الخصوصية المذكورة فإنها موقوفة على نهوض الرواية بها ، مع ان
الرواية إنما تضمنت الصب لا الغسل كما ذكروه فالفرق بينهما ظاهر. والعلامة في
المنتهى قد اقتصر على العمل بمضمون الرواية من غير تعرض للغسل فقال بعد ذكرها :
وفي الطريق كلام لكن العمل بمضمونها اولى لما فيه من الرخصة عند المشقة. واستوجه
في التذكرة بعد بيان ضعف الرواية وجوب تكرار الغسل فان تعسر عمل بمضمون الرواية
دفعا للمشقة ، وهو كما ترى. والصدوق في الفقيه قد ذكر هذه الرواية مرسلة وظاهره
العمل بها.
أقول : وتحقيق
الكلام في المقام ان يقال ان هذه الرواية لا تخلو من الإجمال فالاستناد إليها فيما
ذكروه لا يخلو من الاشكال ، وذلك فإنه يحتمل ان يكون ذلك البلل بولا فأمره بالوضوء
يعني غسل البول الذي
__________________
يخرج معتدلا والنضح مرة واحدة في نهاره لأجل هذا البلل ، وعلى هذا فيكون من
قبيل المرأة المربية للمولود ذات الثوب الواحد ، وحينئذ فيجب حمل الصب على الغسل
ويجب تقييده بأنه ليس له إلا ثوب واحد. والظاهر بعده فإنه على هذا التقدير يكون من
قبيل صاحب السلس وحكمه شرعا كما تقدم في محله انه يضع ذكره في خريطة محشوة بالقطن
ويصلي بعد التطهير من النجاسة. ويحتمل ان يكون هذا البلل غير معلوم كونه بولا بل
يكون مظنونا أو موهوما فيكون النضح على ظاهر معناه الشرعي ونظيره في الأخبار غير
عزيز ، فان من جملة مواضع النضح كما سيأتي ان شاء الله ما شك في نجاسته. ويحتمل
انه أمر بالنضح وجعل الثوب رطبا ليمكن استناد البلل اليه ولا يتيقن كونه خارجا من
الذكر ولا نجسا ويكون من قبيل الحيل الشرعية كما تقدم نظيره. ولا يخفى ان كلام
الجماعة مبني على الاحتمال الأول وقد عرفت ما فيه ، فالأظهر هو طرح هذه الرواية
لاشتباهها وعدم ظهور المعنى المراد منها والرجوع الى الأصول المقررة والقواعد
المعتبرة في النجاسات وإزالتها. والله العالم.
البحث الثالث
في ما تزال به النجاسات
المشهور بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان المطهرات عشرة : الماء والشمس والأرض والنار
والاستحالة والإسلام واستبراء الحيوان الجلال ونقص العصير والانقلاب والانتقال ،
فالكلام هنا يقع في مطلبين :
(الأول) ـ في
تطهير الماء وازالة النجاسة به وكيفية الإزالة وما يتعلق بذلك ويلحق به ، وفيه
مسائل :
(الأولى) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب المرتين في إزالة نجاسة البول عن الثوب
والبدن في غير بول الرضيع بل ظاهر المحقق في المعتبر
انه إجماع حيث قال بعد ذكر الحكم المذكور : وهذا مذهب علمائنا. إلا ان
الشهيد في الذكرى بعد ان اختار التثنية عزى الى الشيخ في المبسوط عدم مراعاة العدد
في غير الولوغ وهو ظاهر في المخالفة ، وما عزاه الى الشيخ قد جزم به في البيان
فقال ولا يجب التعدد إلا في إناء الولوغ. ونقل في المعالم عن العلامة أنه اكتفى
فيه بالمرة صريحا إذا كان جافا وانه يظهر من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء
بها مطلقا حيث قال : ان الواجب هو الغسل المزيل للعين ، قال ومن البين ان زوال
العين معتبر على كل حال وان مسمى الغسل يصدق بالمرة. انتهى. ومن ذلك يظهر ان
الخلاف في المسألة والقول بإجزاء المرة مطلقا متحقق في كلام الأصحاب.
والأظهر ما هو
المشهور من اعتبار المرتين في إزالة نجاسة البول عن الثوب والبدن للأخبار الصحيحة
الصريحة :
ومنها ـ ما
رواه الشيخان في الكافي والتهذيب في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما
هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله مرتين. وسألته عن الصبي يبول على
الثوب؟ قال تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن ابن ابي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان
غسلته في ماء جار فمرة واحدة». قال الجوهري : المركن الإجانة التي يغسل فيها
الثياب.
وفي الصحيح عن
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته
__________________
عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين».
وعن أبي إسحاق
النحوي في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء
مرتين».
وروى ابن إدريس
في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن ابي نصر قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء
مرتين فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول قال اغسله مرتين».
وفي الفقه
الرضوي «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره».
وما تضمنه جملة
من هذه الاخبار من وجوب المرتين في البدن مما لم يظهر فيه خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) إلا من صاحبي المدارك والمعالم لمزيد تصلبهما في هذا الاصطلاح الجديد
فردا روايتي الحسين بن ابي العلاء وابي إسحاق النحوي بضعف السند واكتفيا بالمرة في
البدن لذلك. وفيه ان الاولى حسنة والثانية صحيحة أو حسنة ويعضدهما رواية ابن ابي
نصر المنقولة في السرائر وهي صحيحة لأنها منقولة من أصله المشهور بلا واسطة وبذلك
يظهر ضعف ما ذهبا اليه. واما ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح قال : «سألت أبا إبراهيم (عليهالسلام) عن رجل يبول بالليل فيحسب ان البول اصابه فلا يستيقن
فهل يجزيه ان يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال يغسل ما استبان أنه اصابه وينضح
ما يشك فيه من جسده أو ثيابه. الحديث». فغايته ان يكون مطلقا فيجب تقييده بما
ذكرناه من الاخبار.
واعتضد في
المعالم فيما ذهب اليه من اجزاء المرة في البدن بأن العلامة في المنتهى قد اقتصر
على الثوب في العبارة التي حكم فيها بوجوب المرتين وكذلك صنع في التحرير.
__________________
وفيه ان عدم تعرضه لحكم البدن بالكلية لا يدل على حكمه بعدم التعدد والقول
بالمرة فيه بل هو أعم من ذلك. واعتضد أيضا بأنه جزم في بحث الاستنجاء من المنتهى
والنهاية بالاكتفاء فيه بالمرة إذا زالت العين وكذا في المختلف وحكى القول به عن
ابي الصلاح وابن إدريس وقال انه الظاهر من كلام ابن البراج وهو قول سلار ايضا.
وفيه انه من الجائز بل الظاهر ان مسألة الاستنجاء لها حكم غير هذه المسألة كما
سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. وكيف كان فان المدار عندنا على النصوص وقد عرفت
دلالتها على المدعى لا على القائل قل أو كثر فإنه محجوج مع المخالفة بما ذكرناه من
النصوص ايضا.
واما من ذهب
الى الاكتفاء بالمرة مطلقا كما تقدم نقله عن المبسوط والبيان فلم نقف له على دليل
في الاخبار ولا في كلام الأصحاب بل الدليل كما عرفت على خلافه مكشوف الحجاب ، إلا
ان العلامة في المنتهى قد احتج على ما ذهب اليه من الاكتفاء بالمرة مع الجفاف
بوجهين : (أحدهما) ان المطلوب من الغسل انما هو ازالة العين والجاف ليس له عين
فيكتفى فيه بالمرة. و (الثاني) ان الماء غير مطهر عقلا لأنه إذا استعمل في المحل
جاورته النجاسة فينجس وهكذا دائما وانما عرفت طهارته بالشرع بتسميته طهورا بالنص
فإذا وجد استعمال الطهور مرة عمل عمله من الطهارة. وأنت خبير بما فيه من الوهن
والضعف الذي لا يحتاج الى تنبيه فان النصوص المتقدمة مطلقة شاملة بإطلاقها للبول
بقسميه يابسا ورطبا وتخصيصها بمجرد هذه التعليلات مجازفة محضة ، وما ذكره من ان
المطلوب من الغسل ازالة العين والأثر دعوى لا دليل عليها في نص ولا خبر ، إلا ان
في الذكرى نقل ذلك رواية فقال اما البول فيجب تثنيته لقول الصادق (عليهالسلام) «في الثوب يصيبه البول اغسله مرتين : الأولى للإزالة
والثانية للإنقاء». وقد تقدمه في ذلك المحقق في المعتبر وذكر هذه الزيادة في رواية
الحسين بن ابي العلاء فقال بعد قوله : وعن الثوب يصيبه البول قال : «اغسله مرتين
الأولى للإزالة والثانية للإنقاء» والظاهر انها من كلام صاحب المعتبر وتبعه من
تبعه في ذلك ظنا انها من أصل الخبر ، وهذه الزيادة
لا وجود لها في شيء من كتب الاخبار وقد صرح بذلك أيضا في المعالم فقال :
بعد نقل ذلك عن الذكرى والمعتبر : ولم أر لهذه الزيادة أثرا في كتب الحديث
الموجودة الآن بعد التصفح بقدر الوسع ، ولو ثبتت لأمكن تقييد إطلاق تلك الاخبار
بها فيخص ما دل على المرتين بما له عين لكن الكلام في ثبوتها.
تنبيهات
(الأول) ـ إطلاق
روايات الحسين بن ابي العلاء وابي إسحاق النحوي وابن ابي نصر المنقولة من السرائر
شامل لمخرج البول فيجب فيه المرتان بمقتضى ذلك ، إلا انهم قد اختلفوا أيضا في
مسألة الاستنجاء وقد تقدم البحث فيها في محله ، وقد بينا ان الظاهر من الاخبار
المذكورة في تلك المسألة هو وجوب المرة خاصة كما هو اختيار جملة من الأصحاب ،
وذكرنا وجه الجمع بين اخبار تلك المسألة على تقدير هذا القول الذي اخترناه
والاخبار المذكورة هنا ، وذلك لان اخبار تلك المسألة بناء على ما اخترناه مطلقة
بالنسبة إلى الغسل ومقيدة بالنسبة إلى المغسول واخبار هذه المسألة مطلقة بالنسبة
إلى المغسول من كونه مخرج البول أو غيره من الجسد ومقيدة بالنسبة إلى الغسل
بالمرتين ، فوجه الجمع بينها اما بتخصيص عموم اخبار هذه المسألة باخبار الاستنجاء
فيقال بوجوب المرتين في غير موضع الاستنجاء أو بتقييد اخبار الاستنجاء بهذه
الاخبار فيقال بوجوب المرتين في الاستنجاء ، لكن الظاهر ان الترجيح للأول لمنع
شمول اخبار المرتين لموضع النزاع بل الظاهر منها انما هو ما عداه من سائر الجسد
فان المتبادر من هذه الروايات انما هو عروض النجاسة من خارج وتطرقها الى الثوب أو
الجسد.
وكلام الأصحاب
في هذا الباب غير منقح في كون المسألتين من باب واحد أو متعددتين وكما اختلفوا هنا
فقد اختلفوا هناك ايضا ، والمحقق في المعتبر قد ادعى الإجماع في هذه المسألة على
التعدد كما قدمنا ذكره ولم يدعه هناك وانما استدل برواية
نشيط بن صالح الدالة على المثلين مع ما في دلالتها من الإجمال في البين ، وايدها بما روى
من ان البول إذا أصاب الجسد يصب عليه الماء مرتين ، ولقد كانت هذه الروايات أصرح
وأوضح واولى في الاستدلال لو كانت هذه المسألة من قبيل ما اشتملت عليه دون ان تجعل
مؤيدة وغيره لم يشر إليها بالكلية ، وقد عرفت مما تقدم في كلام صاحب المعالم ان
المسألتين عنده من باب واحد وانه يكتفي بالمرة فيهما. وفيه ما عرفت فإن الأظهر هو
وجوب المرة في الاستنجاء والمرتين فيما عداه عملا بالظاهر من اخبار كل من
المسألتين.
(الثاني) ـ الظاهر
كما صرح به جماعة : منهم ـ الشهيد الثاني اعتبار الفصل بين المرتين ليتحقق العدد
وصدق المرتين المأمور بهما في الاخبار ، واكتفى الشهيد في الذكرى باتصال الماء
بقدر الغسلتين ، قال في المدارك : وهو مشكل نعم لو كان الاتصال بقدر زمان الغسلتين
والقطع أمكن الاكتفاء به فيما لا يعتبر تعدد العصر فيه لان اتصال الماء في زمان
القطع لا يكون أضعف حكما من عدمه. وفيه ان صدق التعدد في الصورة المذكورة مشكل
والظاهر انه لا يصدق إلا مع القطع الحسي لا التقديري.
وقال في
المعالم : ذكر جماعة من الأصحاب انه يكفي في المرتين التقدير فلو اتصل الصب على
وجه لو انفصل لصدق التعدد حسا أجزأ ، ووجهه البعض بدلالة فحوى الاكتفاء بالحسي
عليه. وهو على إطلاقه مشكل لأن دلالة الفحوى موقوفة على العلم بعلة الحكم في
المنطوق وكونها في المفهوم أقوى وليست العلة هنا بواضحة. انتهى. أقول : الظاهر ان
الإشارة بالبعض المذكور في كلامه الى صاحب المدارك وما نقلناه عنه هنا.
ثم قال في
المعالم بعد كلام في البين : والذي يقوى في نفسي اعتبار صدق المرتين عرفا مع
التراخي لأن المقتضي للفرق بين التراخي وعدمه ملاحظة تحقق المرتين المأمور بهما
__________________
والتراخي بمجرده غير كاف في صدقهما. انتهى. وهو يرجع الى ما قدمناه بعد نقل
كلام صاحب المدارك من عدم صدق التعدد في الصورة المفروضة وانما يحصل بالقطع الحسي.
نعم لو صحت الرواية التي ذكرها في الذكرى من تعليل المرتين بأن الأولى للإزالة
والثانية للإنقاء أمكن ما ذكره في المدارك وسقط ما أورده عليه في المعالم لوجود
العلة في المنطوق وحينئذ فإن اكتفى بذلك مع القطع الحسي فمع حصول الغسل بقدر زمان
القطع ان لم يكن اولى بالاكتفاء لا أقل ان يكون مساويا لكن الخبر كما عرفت آنفا
غير ثابت وانما المعلوم كون ذلك تعبدا شرعا فيقين البراءة لا يحصل إلا به ، ومن
ذلك علم ان في المسألة أقوالا ثلاثة.
والشهيد (قدسسره) مع تصريحه هنا بالاكتفاء باتصال الماء بقدر الغسلتين
صرح في الاستنجاء بأنه لا بد في حصول التعدد من الفصل حسا وبين الكلامين تناقض
ظاهر ، وقد تقدم الجواب عنه في مسألة الاستنجاء من البول فليلحظ.
(الثالث) ـ قد
صرحت صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة وكذا عبارة كتاب الفقه بالاكتفاء بالمرة في
الغسل في الجاري ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب كالشهيدين والعلامة في التذكرة
والنهاية والشيخ علي وصاحب المدارك وأضافوا الى الجاري الراكد الكثير ، وهو جيد.
ويمكن ان يكون ذكر الجاري في الخبرين المذكورين انما هو من قبيل التمثيل لا من
قبيل الحصر. واما قوله في كتاب الفقه «ومن ماء راكد مرتين». فينبغي حمله على الأقل
من كر لينطبق على ظواهر الاخبار وكلام الأصحاب ، والصدوق في الفقيه قد عبر بعين
عبارة كتاب الفقه. وقال في المنتهى في أحكام الأواني : الجسم النجس إذا وقع في
الكثير من الراكد احتسب بوضعه في الماء ومرور الماء على اجزائه غسلة وان خضخضه
وحركه بحيث تمر عليه اجزاء غير الأجزاء التي كانت ملاقية له احتسب بذلك غسلة ثانية
كما لو مرت عليه جريات من الجاري. ومقتضى هذا الكلام اعتبار التعدد في الجاري
والراكد الكثير ، ونقل عن الشيخ نجيب الدين في الجامع
التعدد في الراكد دون الجاري ، وصرح المحقق في المعتبر في مسألة الولوغ
باعتبار التعدد في الكثير مطلقا إلا انه اكتفى في تحقق المرتين في الجاري بتعاقب
الجريتين عليه ، وإطلاق عبارته في الشرائع ـ حيث قال : ويغسل الثوب والبدن من
البول مرتين ـ يقتضي اعتبار التعدد في قليل كان أو كثير راكد أو جار.
والظاهر هو
القول الأول للخبرين المذكورين ولا معارض لهما إلا إطلاق أخبار المرتين المتقدمة ،
والظاهر تقييدها بالقليل كما هو الظاهر منها للتصريح بالصب في جملة منها والغسل في
المركن في بعض.
بقي الكلام في
ان مورد صحيحة محمد بن مسلم وعبارة كتاب الفقه الدالتين على المرة في الجاري انما
هو الثوب خاصة وظاهر الأصحاب العموم للبدن ايضا فلو أراد إزالة نجاسة البول عنه في
الجاري كفت المرة وكأنه لمفهوم الموافقة فإنه إذا ثبت ذلك في الثوب المتوقف على
العصر لو كان الغسل في القليل ثبت في البدن بطريق اولى. وفيه ما فيه فتأمل.
(الرابع) ـ قد
عرفت الخلاف في البول بالنسبة الى الثوب والبدن بقي الكلام بالنسبة إليه في غيرهما
وغيره في غير الأواني ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك ففي الذخيرة عن ظاهر جمع من
الأصحاب طرد الحكم بالمرتين من نجاسة البول في غير الثوب والبدن مما يشبههما
فتعتبر الغسلتان في ما يمكن إخراج الغسالة منه بالعصر من الأجسام الشبيهة بالثوب
والصب مرتين فيما لا مسام له بحيث ينفذ فيه الماء كالخشب والحجر ، قال ولعلهم
نظروا في هذه التعدية إلى المشابهة الصرفة أو مع ادعاء الأولوية في الفرع ، والأول
قياس غير معتبر وإثبات الثاني مشكل ، فاذن الاقتصار على مورد النص غير بعيد كما
نقل التصريح به عن بعض الأصحاب. انتهى. أقول : قد ذهب الشهيد في اللمعة والرسالة
والمحقق الشيخ علي الى وجوب المرتين مطلقا من نجاسة البول وغيرها في الثوب والبدن
وغيرهما عدا الأواني ، وذهب شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلى وجوب المرتين من
نجاسة البول خاصة في الثوب والبدن وغيرهما والمرة الواحدة في غيره والنقل المذكور
عن جمع من الأصحاب انما ينطبق على مذهب شيخنا الشهيد الثاني القائل بوجوب التثنية
من نجاسة البول مطلقا كائنة ما كانت ، إلا ان ما ذكره من التقييد بما
يشبههما لم أقف عليه في كلامه بل ظاهره القول بوجوب التثنية من نجاسة البول مطلقا
، وما ذكره في توجيه التعدية فالظاهر بعده بل الظاهر ان الوجه في ذلك انما هو
احتمال خروج الثوب والبدن في الاخبار مخرج التمثيل بناء على انه الفرد الغالب في
ملاقاة النجاسة فلا يقتضي قصر الحكم عليهما وان خصوص السؤال عنهما لا يخصص. وقيل
بوجوب المرة مطلقا وقد تقدم نقله عن الشيخ في المبسوط وبه جزم في البيان ، واعتبر
في المعتبر المرة بعد ازالة العين أخذا بالإطلاق ، وأوجب العلامة في التحرير
المرتين فيما له قوام وثخن كالمني دون غيره ، وقال في المنتهى النجاسات التي لها
قوام وثخن كالمني أولى بالتعدد في الغسلات.
أقول : وتحقيق
القول في هذا المقام بما يصل اليه الفهم القاصر من اخبارهم (عليهمالسلام) هو وجوب المرتين من نجاسة البول في الثوب والبدن كما
تقدم للأخبار المتقدمة ووجوب المرة فيما عدا ذلك لإطلاق الأمر بالغسل إذ لا ذكر
للتعدد إلا في البول في الموضعين المذكورين والأواني على بعض الوجوه كما يأتي ونحن
قد استثنيناها في صدر الكلام ، إذ الأمر بالماهية يصدق بالمرة والأصل يقتضي براءة
الذمة من الزائد. نعم يبقى الكلام فيما له قوام وثخن كما ذكره العلامة فإن ظاهر قوله
(عليهالسلام) في حسنة الحسين بن ابي العلاء : «صب عليه الماء مرتين
فإنما هو ماء». يدل بمفهومه على ان غير الماء أكثر عددا ويدل على انه أضعف حكما
بالنظر الى الإزالة مما له قوام وثخن ، ويؤيده ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن
مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول». وهو ظاهر
في ثبوت الأولوية في المني
(لا يقال) : ان
مقتضى ما ذكرتم هو كون البول أضعف نجاسة من الدم إذ البول ماء كما ذكرتم والدم له
ثخن وقوام ، مع ان الأمر بالعكس حيث انه قد عفي عن الدم في مواضع كما تقدم والبول
لم يعف عن قليله ولا كثيره بل تجب إزالته كيف كان
__________________
(لأنا نقول)
الأحكام الشرعية لا مسرح للعقل فيها بالكلية بل هي تابعة للنصوص الشرعية وإثبات
القوة والضعف موقوف على الدلالة الشرعية. ولا ريب ان مقتضى الخبرين المذكورين ان
البول أضعف حكما بالنسبة إلى الإزالة مما له قوام وثخن وان كان بالنسبة إلى العفو
أقوى إذ لا منافاة مع اختلاف الحيثية ، وحينئذ فيتجه المصير الى ما ذكره العلامة
من التعدد في ما له قوام وثخن. إلا انه يمكن ان يقال ايضا ان ما ذكر في الخبرين
المذكورين من الدلالة على أشدية نجاسة ما له ثخن وقوام لا يستلزم التعدد وانما
غاية ما يلزم منه المبالغة في غسله وإزالته ، إذ لا يخفى ان الظاهر من الأخبار
الدالة على التطهير من النجاسات ان الغرض من الغسل انما هو إزالة النجاسة من المحل
وانه بالإزالة منه وقلعها يطهر المحل ولو بدفعة مشتملة على ماء كثير يقلعها ،
والأمر بالتعدد في بعض النجاسات وان حصلت الإزالة قبل تمام العدد انما هو تعبد شرعي
إذ لا يظهر له وجه سواه وحينئذ فمتى غسل المني دفعة بماء كثير يقلعه ويزيله وجب
الحكم بالطهارة ولا يشترط فيه دفعة اخرى بعد زوال النجاسة لعدم الدليل على ذلك ،
وشدته وقوته زيادة على البول انما هو باعتبار احتياجه الى مزيد فرك وزيادة ماء على
غيره مما لا قوام له والتعدد في البول كما عرفت انما هو تعبد كغيره فلا يستلزم ان
يحمل عليه ما لم يرد فيه تعدد لان الغرض الإزالة وقد حصلت بما ذكرناه. نعم لو صح
الخبر الذي ذكره في الذكرى من ان العلة في التعدد ان الاولى للإزالة والثانية
للإنقاء يعني الطهارة لربما أمكن الحكم بما ذكره من التعدد ولكن الشأن في ثبوته.
وبالجملة فالظاهر ما عليه المشهور من المرة في غير البول في الثوب والبدن. والله
العالم.
(المسألة
الثانية) ـ المعروف من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف وجوب العصر في الثوب ونحوه
مما يرسب فيه الماء فلو غسله ولم يعصره حتى جف بالهواء أو الشمس فهو باق على
نجاسته كما صرح به جملة منهم.
إلا انهم
اختلفوا هنا في موضعين (الأول) في مدرك وجوب العصر حيث لم
يقفوا على دليل يدل عليه من الاخبار كما ذكره بعض الأصحاب. فبين من علل ذلك
بأنه لا يتيقن خروج النجاسة إلا به وبين من علله بأنه مأخوذ في حقيقة الغسل وبين
من علله بأن الغسالة نجسة فيجب إخراجها. واحتج المحقق في المعتبر بأن النجاسة ترسخ
في الثوب فلا تزول إلا بالعصر ، وبان الغسل انما يتحقق في الثوب ونحوه بالعصر
وبدونه يكون صبا لا غسلا. واستدل عليه في التذكرة والنهاية يكون الغسالة نجسة فلا
تحصل الطهارة مع بقائها. وجمع في المنتهى بين ما ذكره المحقق وما ذكره هو في
الكتابين المذكورين. وعلله الشهيد في الذكرى بوجوب إخراج النجاسة وتبعه جمع من
المتأخرين ، وربما أضاف إليه بعضهم الوجه المذكور في التذكرة والنهاية.
وكيف كان فلا
يخفى ما في بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة من المجازفة سيما
مع ما هي عليه من تطرق الإيراد وعدم الاطراد : (اما الأول) فإنه أخص من المدعى
لاختصاصه بصورة العلم بتوقف خروج النجاسة عليه والمدعى أعم من ذلك. و (اما الثاني)
فلتطرق المنع إليه لغة وعرفا إذ الظاهر ان الغسل لغة وعرفا انما هو عبارة عما يحصل
به الجريان والتقاطر في ثوب كان أو بدن أو غيرهما ، ويقابله الصب الذي هو عبارة عن
وصول الماء خاصة من غير جريان ولا انفصال ويسمى بالرش ايضا كما وقع التعبير بهما
معا في ملاقاة الكلب بيبوسة ، ومقتضى هذا الوجه وجوب العصر سواء قلنا بنجاسة
الغسالة أو طهارتها وان القدر المعتبر منه ما يصدق معه مسمى الغسل في العرف حتى لو
بقيت فيه اجزاء يمكن إخراجها بغير مشقة لم تضر إذا كان مفهوم الغسل قد تحقق بدون
خروجها. و (اما الثالث) فلتطرق المنع إلى نجاسة الغسالة ، ومع تسليم ذلك فنمنع
انحصار طريق الإزالة في العصر فإنه يحصل بالجفاف ايضا ، على ان العصر لا يشترط فيه
إخراج جميع الرطوبة التي في الثوب ، وقد اعترف الأصحاب بطهارة المتخلف بعد العصر
وان أمكن إخراجه بعصر أشد من الأول.
والتحقيق عندي
في المقام وان لم يهتد إليه أولئك الاعلام ان أكثر الأخبار
المتقدمة وان خلا من ذكر العصر إلا ان كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي قد اشتمل عليه وبه يخص إطلاق تلك الاخبار ، وبه يظهر ان
العلة انما هو النص دون ما ذكروه من هذه التخريجات ، والظاهر ان من ذكر العصر من
المتقدمين ولا سيما الصدوقين الذين عبارتهما عين عبارة الكتاب في هذا المقام كما
بيناه في شرحنا على كتاب الفقيه انما اعتمدوا على هذا الكتاب والمتأخرون قد أخذوا
الحكم بذلك من كلام المتقدمين ولما خفي عليهم الدليل رجعوا الى هذه التعليلات
العليلة فكل منهم علله بما ادى اليه نظره في المقام وبذلك يزول الإشكال في هذا المجال
، وقد تقدم نظير ذلك في غير مقام ويأتي مثله وأمثاله من الأحكام الجارية على هذا
المنوال.
(الموضع الثاني)
ـ انهم اختلفوا في تعدد العصر وعدمه فأوجب المحقق في المعتبر العصر مرتين فيما يجب
غسله كذلك ، واكتفى بعضهم بعصر بين الغسلتين وبه صرح الشهيد في اللمعة ، وصرح
الصدوق في الفقيه وكذا أبوه في الرسالة على ما نقله في المعالم بالعصر بعد المرتين
وهو المذكور في الفقه الرضوي كما عرفت من عبارته المتقدمة والصدوقان انما أخذاه
منها كما أشرنا إليه من ان عبارتيهما هنا عين عبارة كتاب الفقه بتغيير يسير ،
ومتأخرو المتأخرين بناء على خفاء النص عليهم في المسألة قد أطالوا في تفريع هذا
الخلاف على الخلاف المتقدم في الموضع الأول وتطبيقه عليه ، قال في المدارك بعد نقل
هذه الأقوال الثلاثة : ويمكن بناء الأقوال الثلاثة على الوجه المقتضى لاعتبار
العصر فان قلنا انه دخوله في مسمى الغسل وعدم تحققه بدونه كما ذكره المصنف في
المعتبر وجب تعدده بتعدد الغسل قطعا ، وان قلنا انه زوال أجزاء النجاسة الراسخة في
الثوب به اتجه اعتباره في الغسل الأول خاصة إذا حصلت به الإزالة ، وان قلنا انه
نجاسة الماء بملاقاة الثوب كما ذكره في المنتهى اتجه الاكتفاء بعصر بعد الغسلتين
لحصول الغرض منه وانتفاء الفائدة في فعله قبل الغسلة الثانية لبقاء النجاسة مع
العصر وبدونه. ولا ريب
__________________
ان ما ذهب اليه
المصنف من التعدد أحوط وان كان الاكتفاء بالعصر الواحد بعد الغسلتين أقوى. انتهى.
وما اختاره أخيرا من قوة الاكتفاء بالعصر الواحد بعد الغسلتين جيد لا لما ذكره بل
لما ذكرناه من النص ، وما ذكره ايضا من الاحوطية لا بأس به وان كان للنظر فيه
مجال.
فوائد : (الأولى)
ـ قال في التذكرة : لو جف الثوب من غير عصر ففي الطهارة إشكال ينشأ من زوال
النجاسة بالجفاف والعدم لأنا نظن انفصال أجزاء النجاسة في صحبة الماء بالعصر لا
بالجفاف. وقال الشهيد في البيان : لو أخل بالعصر في موضعه فالأقرب عدم الطهارة
لأنا نتخيل خروج أجزاء النجاسة به. وفي الذكرى الأولى الشرطية يعني في العصر لظن
انفصال النجاسة مع الماء بخلاف الجفاف المجرد. وقال في المعالم بعد نقل ذلك عنهم :
وأنت إذا أحطت خبرا بما قلناه في المسألة يتضح لك الحال في هذا الفرع لان العصر ان
أخذ قيدا في ماهية الغسل أو توقف عليه خروج النجاسة لم يغن عنه الجفاف وان اعتبر
لإخراج الغسالة فلا ريب في كون الجفاف مخرجا لها وما ذكراه من الظن والتخيل ليس
بشيء كيف وهذا الظن في أكثر الصور لا يأتي والنخيل في الأحكام الشرعية لا يجدي.
انتهى.
أقول : لا يخفى
ان الظاهر ان هذا الإشكال الذي ذكره في التذكرة ونحوه ما ذكره في البيان والذكرى
انما نشأ من التردد في الدليل على وجوب العصر وتردده بين الوجوه المتقدمة ،
وإيراده في المعالم عليهم انما يتم مع اختيار دليل بخصوصه وكلامهم ليس مبنيا عليه
فلا وجه لا يراد ما أورده. وكيف كان فقد ظهر لك مما أوضحناه سابقا سقوط هذا البحث
من أصله فلا وجه للتفريع عليه لان النص قد دل على وجوب العصر فلا تحصل الطهارة إلا
به.
(الثانية) ـ قال
في المدارك في شرح قول المصنف : ويعصر الثوب من النجاسات كلها : «إطلاق العبارة
يقتضي عدم الفرق في اعتبار العصر مرتين بين القليل
والكثير وربما كان الوجه فيه ما ادعاه المصنف (قدسسره) من عدم تحقق الغسل بدونه وهو ضعيف جدا. وجزم العلامة
في التذكرة والنهاية ومن تأخر عنه باختصاص الحكم بالقليل وسقوطه في الكثير ووجهه
معلوم مما قررناه» انتهى.
أقول : لا ريب
ان الحكم بالعصر مرتين في الكثير يترتب على أمرين : (أحدهما) وجوب تعدد الغسل في
الكثير ليكون العصر بعد كل غسلة و (ثانيهما) كون العلة في العصر هو انه مأخوذ في
معنى الغسل ، وكل من الأصلين المذكورين لهذا الفرع قد صرح بهما المحقق المذكور ،
وحينئذ فالحكم بالضعف في هذا الحكم يرجع الى ضعف ما بنى عليه من الحكمين
المذكورين. وكيف كان فالحق ما ذكره من اختصاص العصر بالقليل لا لما أشار إليه
بقوله : «ووجهه معلوم مما قررناه» بل لما دل عليه كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي من انه ان غسل في ماء جار كفت المرة من غير عصر وان غسل
في ماء راكد فمرتان بعدهما عصر واحد. وقد أشرنا سابقا الى ان مراده (عليهالسلام) بالراكد ما كان أقل من الكر.
(الثالثة) ـ اعتبر
العلامة في النهاية والتحرير في طهارة الجسد ونحوه من الأجسام الصلبة دلكه ، لما
فيه من الاستظهار في إزالة النجاسة ، ولقوله (عليهالسلام) في رواية عمار وقد سأله عن القدح الذي يشرب فيه الخمر : «لا يجزيه حتى
يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». ولا يخفى ما فيه من تطرق القدح فان الاستظهار مع
تسليمه انما يصلح دليلا للاستحباب لا للوجوب ، وقياس البول على الخمر في القدح
قياس مع الفارق فإنه يمكن ان يكون الأمر بالدلك في الخبر المذكور لخصوصية النجاسة
المذكورة كما اختصت بالثلاث أو لخصوصية المحل أو لهما معا ، إذ لا يخفى ان القدح
الذي من الخشب مظنة لعلوق بعض اجزاء الخمر به فتحتاج طهارته إلى الزيادة على مجرد
الصب وربما كان الخمر أشد لصوقا بمحله من البول كما هو ظاهر ، فمن المحتمل قريبا ـ
بل هو الظاهر ـ ان
__________________
الأمر بالدلك لعدم العلم بزوال العين بدونه ، وبذلك يظهر ضعف الإلحاق
بالخمر في القدح والقياس عليه ، هذا مع ان الرواية المذكورة معارضة بما رواه هذا
الراوي أيضا عن الصادق (عليهالسلام) من الاكتفاء في غسل الإناء من الخمر بالمرة الخالية من
الدلك كما سيأتي ذكر ذلك في محله ان شاء الله تعالى. ويظهر من المحقق في المعتبر
والعلامة في المنتهى الميل الى الاستحباب. وكلام جماعة من الأصحاب خال من التعرض
لذلك بالكلية. وكيف كان فلو توقفت الإزالة على الدلك وجب قطعا.
(الرابعة) ـ قد
نص جملة من الأصحاب القائلين بوجوب العصر على ان ما يتعذر فيه العصر يكتفى فيه
بالدق والتغميز ، وفي بعض عبارات العلامة التقليب والدق قال في المنتهى : ولو كان
المتنجس بساطا أو فراشا يعسر عصره غسل ما ظهر في وجهه ، وان سرت النجاسة في اجزائه
غسل الجميع واكتفى بالتقليب والدق عن العصر للضرورة. وظاهره ان العلة فيما ذكره من
التقليب والدق هو ضرورة عدم إمكان العصر فجعل ذلك قائما مقامه للضرورة. ووقع في
كلام جماعة من المتأخرين تبعا للشهيد في الذكرى تعليل ذلك بالرواية.
والذي وقفت
عليه مما يتعلق بهذا المقام روايات ثلاث :
إحداها ـ ما
رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود قال : «قلت للرضا (عليهالسلام) الطنفسة والفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما وهو
__________________
ثخين كثير الحشو؟ قال يغسل ما ظهر منه في وجهه».
والثانية ـ ما
رواه في الكافي عن إبراهيم بن عبد الحميد في الصحيح أو الموثق قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ الى الجانب الآخر وعن
الفرو وما فيه من الحشو؟ قال اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فان أصبت مس شيء
منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء».
والثالثة ـ ما
رواه الحميري في قرب الاسناد عن علي بن جعفر ورواه علي بن جعفر أيضا في كتابه عن
أخيه موسى بن جعفر (عليهالسلام) قال : «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول
كيف يغسل؟ قال يغسل الظاهر ثم يصب عليه الماء في المكان الذي اصابه البول حتى يخرج
من جانب الفراش الآخر».
وهذه الروايات
ـ كما ترى ـ لا تعرض في شيء منها لما ذكروه من الدق والتغميز والتقليب ، وغاية ما
تدل عليه الاولى هو غسل ما ظهر في وجهه من غير تعرض لما بطن منه ، وغاية ما تدل
عليه الثانية هو غسل الجانبين مع نفوذ النجاسة ، إلا ان الظاهر ان المراد هو غسل
الجانبين وما بينهما في الباطن من الحشو كما تدل عليه رواية علي بن جعفر (عليهالسلام) وكيف كان فغاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هو غسل
الجميع ولا تعرض فيها لذكر الدق ولا غيره مما ذكروه بل ظاهرها هو صب الماء عليه
بحيث ينفذ منه ويجري مع تعدي النجاسة إلى الطرف الآخر والعلم بوصولها الى الباطن ،
وإلا فإنه يكتفى بمجرد الرش على الطرف الآخر إذا لم يصب فيه النجاسة التي وقعت في
ذلك الطرف. ولا يخفى ما في هذه الاخبار من الدلالة على السعة في تطهير النجاسات
وظهورها في طهارة الغسالة ، وبذلك يظهر ان نسبة الشهيد (قدسسره) ومن تبعه المستند في هذا الحكم إلى الرواية ليس في
محله ، ولعل السبب في نسبة الشهيد ذلك الى الرواية هو ما ذكره في المنتهى حيث انه
بعد ذكر خبر إبراهيم بن ابي محمود أولا قال انه محمول على
__________________
ما إذا لم تسر النجاسة في اجزائه واما مع سريانها فيغسل جميعه ويكتفى
بالتقليب والدق عن العصر. وجعل الخبر الثاني شاهدا على هذا التفصيل ، هذا حاصل
كلامه في المقام ، فكأن الشهيد من هذا الكلام أخذ الاحتجاج بالرواية وإلا فليس في
المسألة رواية غير ما ذكرناه. والله العالم.
(المسألة
الثالثة) ـ اعلم ان ههنا أشياء لا تنفصل عنها الغسالة بنفسها ولا بالعصر ولا الدق
ولا الغمز الذي أوجبوه وقد وقع الخلاف والاشكال في تطهيرها ، وذلك مثل الصابون
والفواكه والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى ومثل الصابون أيضا إذا انتقع في الماء
النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا ايضا فيه ومثل المائع من الدهن المتنجس ونحوه
ومثل التراب ، وظاهر كلام جملة من الأصحاب اختصاص الطهارة على القول بها بالكثير
فلا تقع بالقليل من حيث عدم خروج ماء الغسالة عن المحل وانفصاله عنه فلا تحصل
الطهارة إلا بالكثير ونحوه.
والكلام في هذه
المسألة يقع في مقامات (الأول) في الصابون والفواكه وما الحق بهما ، نقل في
المدارك عن جمع من الأصحاب ان ما لا تنفصل عنه الغسالة كالصابون والورق والفواكه
والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى لا يطهر بالغسل في القليل بل تتوقف طهارته على
غسله في الكثير ، ثم قال : وهو مشكل (أما أولا) فللحرج والضرر اللازم من ذلك. و (اما
ثانيا) فلان ما يتخلف في هذه المذكورات من الماء ربما كان أقل من المتخلف في
الحشايا بعد الدق والتغميز وقد حكموا بطهارتها بذلك. و (اما ثالثا) فلعدم تأثير
مثل ذلك في المنع مع إطلاق الأمر بالغسل المتحقق بالقليل والكثير. انتهى. وهو جيد
، ويؤيده ما قدمنا من الروايات الدالة على حكم الفرش والحشايا فإنها بإطلاقها إنما
دلت على الغسل الذي هو كما حققناه سابقا عبارة عن كثرة الماء بحيث يجري وينفصل عن
محل النجاسة.
واما ما أورده
في الذخيرة على الوجه الثالث ـ حيث قال بعد نقل كلامه :
وفي الأخير نظر لانه ليس في الأدلة فيما اعلم ما دل على الأمر بالغسل في كل
مادة بحيث يشمل مورد النزاع لاختصاصها بالبدن والثوب وبعض الموارد الخاصة فتعدية
الحكم الى غيرها يحتاج الى دليل. انتهى ـ ففيه ان اللازم مما ذكره أحد أمرين وهو
اما بقاء تلك الأشياء على النجاسة وعدم قول التطهير أو طهارتها من غير ماء ،
وبطلان الأمرين أظهر من ان يخفى على ذي روية. والتحقيق ان الطهارة بالغسل لا
خصوصية لها بهذه الجزئيات التي وردت بها النصوص حتى يحتاج فيها الى طلب الدليل
ويقال انه لا بد في طهارة كل جزئي من الأشياء المتنجسة من نص عليه بخصوصه فإنه
مجرد سفسطة ظاهرة بل التحقيق ان تلك الجزئيات الواردة في النصوص انما خرجت مخرج
التمثيل لا على جهة الاختصاص وحينئذ فيصير الحكم كليا ، وهذا البحث لا يختص بهذا
الموضع بل هو جار في جميع الأحكام الشرعية من طهارة ونجاسة وصحة العبادة وبطلانها
بالمبطلات ونحو ذلك ولا قائل به البتة. ولا يخفى على المتأمل في الأحكام والمتدبر
في القواعد المقررة بين علمائنا الاعلام إن الأحكام الشرعية لم ترد عنهم (عليهمالسلام) بقواعد كلية إلا نادرا وانما صارت قواعد كلية بينهم
بتتبع الجزئيات الواردة عنهم كالقواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب كما لا
يخفى.
(المقام الثاني)
ـ في ما انتقع في الماء النجس ، قال العلامة في المنتهى : الصابون إذا انتقع في الماء
النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا كان حكمها حكم العجين ، ثم نقل عن بعض العامة
انه قال : الحنطة والسمسم إذا تنجسا بالماء واللحم إذا كان مرقه نجسا يطهر بان
يغسل ثلاثا ويترك حتى يجف في كل مرة فيكون ذلك كالعصر ، ثم قال وهو الأقوى عندي
لأنه قد ثبت ذلك في اللحم مع سريان اجزاء الماء النجسة فيه فكذا ما ذكرناه. انتهى.
والظاهر من قوله : كان حكمها حكم العجين يعني في عدم قبول التطهير بالماء فان ذلك
مذهبه في العجين كما هو المشهور.
بقي الكلام في
تقويته لما نقله عن بعض العامة من الغسل ثلاثا والتجفيف بعد كل
غسلة لقيامه مقام العصر ، فإنه محل اشكال حيث انه لم يعهد ذلك من مذهبه في
كل من الموضعين ، وتأول كلامه بعض محققي متأخري المتأخرين بأنه ليس مراده إلا
إثبات القبول للتطهير واما اعتبار التعدد والجفاف فغير منظور اليه. وأيده بتعليل
الحكم بحال اللحم مع ان الحكم فيه كما ذكره هو وغيره انما هو طهارته بالغسل إذا
وقع في مرقه ما يقتضي تنجيسه فلو أراد تقوية ما زاد على الغسل لم يكن التعليل
وافيا بإثبات المدعى ، وأيده أيضا بأنه اقتصر في النهاية على الحكم بقبولها
التطهير فقال بعد ان حكم بعدم طهارة الصابون والعجين بالغسل : اما السمسم والحنطة
إذا انتقعا في النجس فالأقوى قبولهما للطهارة وكذا اللحم إذا تنجست مرقته. أقول :
ما ذكره (قدسسره) من التأويل وان كان لا يخلو من قوة إلا انه لا يخفى
على من له انس باختلاف أقوال العلامة في المسألة الواحدة في كتبه بل في كتاب واحد
انه لا يبعد حمل كلامه هنا على ظاهره.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الذي دل على حكم اللحم المذكور هنا روايتان إحداهما رواية السكوني عن
الصادق (عليهالسلام) «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها
ويغسل اللحم ويؤكل». والأخرى رواية زكريا بن آدم قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير
ومرق كثير؟ قال يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلاب واللحم اغسله وكله». وظاهر
الأصحاب من غير خلاف يعرف القول بمضمونهما وعندي في ذلك على إطلاقه إشكال وذلك
فإنه ان كانت النجاسة قد رفعت بعد وقوعها بحيث لم تسر النجاسة إلا الى المرق وظاهر
اللحم فلا اشكال وان كانت قد بقيت في القدر مدة بحيث على بها القدر وسرت نجاسة
المرق الى باطن اللحم كما هو ظاهر عبارة العلامة المتقدمة فكيف يطهر بمجرد غسل
ظاهره والنجاسة قد سرت إلى
__________________
باطنه كما هو المفروض؟ نعم لو علم وصول الماء المطهر الى الباطن وكان في
ماء كثير فالقول بالطهارة متجه ، ولا فرق حينئذ بين اللحم ولا غيره مما انتقع في
ماء نجس وسرت النجاسة إلى باطنه. والى ما ذكرنا يشير كلام الشهيد في الذكرى حيث
قال : والظاهر طهارة الحنطة واللحم وشبهه مما طبخ بالماء النجس بالكثير إذا علم
التخلل. وبذلك يظهر لك ما في كلام العلامة الأخير الدال على التطهير مطلقا.
واما العجين
الذي عجن بالماء النجس فظاهر كلامه الأول عدم قبوله التطهير ومثله كلامه في
النهاية ، وذلك لانه قد عجن بالماء النجس وقد سرت النجاسة الى جميع اجزائه فطهره
لا يكون إلا باستيلاء الماء الطاهر عليه ووصوله الى كل جزء والظاهر انه لا يحصل
ذلك إلا بذهاب عين العجين ، الا انه في التذكرة قد صرح بقبوله التطهير فقال :
العجين النجس إذا مزج بالماء الكثير حتى صار رقيقا وتخلل الماء جميع اجزائه طهر.
وظاهر الذكرى اختيار ذلك واستحسنه أيضا في المعالم ، وهو جيد ان علم استيعاب
المطهر لجميع الاجزاء إلا ان في العلم بذلك اشكالا ومجرد صيرورته رقيقا لا يدل على
ذلك وكيف كان فطهره بصيرورته رقيقا كما ذكروه لا يتم إلا في الجاري أو الكثير كما
لا يخفى. وقال في الذكرى : وفي صحاح ابن ابي عمير المرسلة عن الصادق (عليهالسلام) «طهره بالخبز والبيع والدفن» . وهي مشعرة بسد باب طهارته بالماء إلا ان يقيد بالمعهود
من القليل. واعترضه في المعالم فقال : ولا ارى لهذا الكلام وجها فان ما دل من
الاخبار على طهره بالنار خال من الاشعار قطعا ، وما دل على بيعه أو دفنه فالسر فيه
توقف تطهيره بالماء على الممازجة والنفوذ في اجزائه بحيث يستوعب كل ما اصابه الماء
النجس ، إذ المفروض في الاخبار عجنه بماء نجس وفي ذلك من المشقة والعسر ما لا يخفى
__________________
فلذا وقع العدول عنه الى الوجهين المذكورين. انتهى. أقول : لا يخفى ان مراد
شيخنا الشهيد (قدسسره) بما ذكره انما هو انه لما كان العجين المذكور من
المأكولات المتعارفة وحيث عجن بالماء النجس لم يرد عنهم (عليهمالسلام) ما يدل على قبوله التطهير بالماء وانما ورد ما يدل على
قبوله التطهير بالخبز وورد ما يشعر بعدم قبوله التطهير مطلقا من بيعه على مستحل
الميتة أو دفنه ، ولا ريب في اشعار الجميع بعدم قبوله التطهير بالماء كما ذكره
شيخنا المشار اليه ، ولو كان ثمة صورة يمكن فيها تطهيره بالماء من ترقيقه كما
ذكروه لم يكن للإضراب عنها مع الحاجة إليه الى هذه الصورة المذكورة في الاخبار وجه
وهو كلام جيد كما لا يخفى. والتحقيق ان الخبر الوارد بالخبز لا دلالة فيه على
النجاسة كما لا يخفى فايراده ليس في محله والخبران الباقيان ظاهران في الاشعار بما
ذكرناه ، واما ما ذكره من السر في العدول الى بيعه ودفنه وهو المشقة في تطهيره فهو
ممنوع وأي مشقة تلزم من ذلك حتى توجب رفع اليد عنه بالكلية؟ فإن وضعه في الكثير
جاريا أو راكدا على وجه يصير به رقيقا كما يدعونه أمر سهل لا مشقة فيه توجب رفع
اليد عنه وإلا لاستلزم حصول المشقة ورفع اليد عن كل ما توقف تطهيره على الكثير ولا
أراه يقول به. وبالجملة فكلام شيخنا المذكور عندي جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن
النبيه ومن تأمل فيما ذكرناه من التوجيه.
(المقام الثالث)
ـ في المائع من مثل الدهن ونحوه فقال جماعة ان غير الماء من المائعات مطلقا لا
يقبل التطهير ما دام باقيا على حقيقته ، وظاهر كلام العلامة في التذكرة قبولها
الطهارة حيث قال : انما يطهر بالغسل ما يمكن نزع الماء المغسول به عنه دون ما لا
يمكن كالمائعات والكاغذ والطين وان أمكن إيصال الماء إلى أجزائها بالضرب ما لم
تطرح في كر فما زاد أو في جار بحيث يسري الى جميع اجزائها قبل إخراجها منه ، فلو
طرح الدهن في ماء كثير وحركه حتى تخلل جميع الماء اجزاء الدهن بأسرها طهر. وقال في
المنتهى : الدهن النجس لا يطهر بالغسل نعم لو صب في كر ماء ومازجت
اجزاء الماء اجزاءه واستظهر على ذلك بالتصويل بحيث يعلم وصول الماء الى
جميع اجزائه طهر
قال في المدارك
بعد نقل ذلك : قلت لا ريب في الطهارة بعد العلم بوصول الماء الى كل جزء من اجزاء
المائع إلا ان ذلك لا يكاد يتحقق في الدهن لشدة اتصال اجزائه ولا في غيره من
المائعات إلا مع خروجه عن تلك الحقيقة وصيرورته ماء مطلقا. انتهى. وهو جيد. وقال
الشهيد في الذكرى : ولا تطهر المائعات والقرطاس والطين ولو ضربت بالماء إلا في
الكثير ، وفي طهارة الدهن في الكثير وجه اختاره الفاضل في تذكرته. انتهى وظاهره
الموافقة للتذكرة فيما ذكره من المائعات غير الدهن والكاغد والطين وتوقفه في الدهن
، ولا وجه لاقتصاره في نسبة الحكم بذلك إلى التذكرة خاصة بل هو اختياره أيضا في
المنتهى كما عرفت وكذا في النهاية حيث قال : لو صب الدهن النجس في كر فما زاد
ومازجت أجزاؤه اجزاء الماء بالتصويل فالأقرب الطهارة.
وربما توهم بعض
الأصحاب من اقتصاره في النهاية والمنتهى على ذكر الدهن وعدم التعرض فيهما لغيره
مغايرة ذلك لما ذكره في التذكرة من العموم ، وليس بشيء لأنه لا يخفى انه متى ثبت
ذلك في الدهن ثبت في غيره بطريق أولى فإن شهادة الوجدان ظاهرة في ان الدهن أبعد
المائعات عن قبول الطهارة من حيث الدهنية واللزوجة وشدة اتصال اجزائه بعضها ببعض
المانع جميع ذلك من نفوذ الماء في اجزائه ، فالقول بإمكان الطهارة فيه يقتضي القول
بذلك في سائر المائعات.
إلا ان الحق هو
ما ذكره في المدارك من الفرق بين الدهن وغيره بعدم قبول الدهن للتطهير بالكلية
وقبول ما عداه من المائعات لكن على وجه لا يبقى لها اثر ، وتسمية ذلك تطهيرا ليس
في محله.
ويؤيد ما
ذكرناه ما صرح به في المعالم حيث قال ما ملخصه : ان غير الدهن من المائعات إذا
خالطها الماء على الوجه المشترط في الممازجة تخرج عن الصلاحية للانتفاع بها
في الغالب بخلاف الدهن فإن مخالطة الماء له غير مستقرة إذ يسرع انفصاله منه
فتبقى الصلاحية للانتفاع بحالها وهو ظاهر ، ثم قال وقد ناقشه ـ يعني العلامة ـ جماعة
بأن العلم بوصول الماء الى جميع اجزاء الدهن غير ممكن بل قد يعلم خلافه لأن الدهن
يبقى في الماء مودعا فيه غير مختلط به وانما يصيب سطحه الظاهر. وهذا الكلام جيد بل
التحقيق ان العيان شاهد باستحالة مداخلة الماء لجميع اجزاء الدهن وانه مع الاختلاط
لا يحصل له إلا ملاقاة سطوح الأجزاء المنقطعة بالضرب ولا سبيل الى نفوذ الماء في
بواطنها ، ولهذه العلة يبقى على الصلاحية للانتفاع إذ اختلاطه بالماء انما حصل على
جهة التفرق في خلاله فإذا ترك ضربه سارع الى الانفصال واستقر لخفته على وجه الماء
وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج الى كثير تأمل. واما غير الدهن من سائر
المائعات فإنما يعقل حصول الطهارة لها مع اصابة الماء لجميع اجزائها وذلك انما
يتحقق بشيوعها في الماء واستهلاكها فيه بحيث لا يبقى شيء من اجزائها ممتازا إذ مع
الامتياز يعلم عدم نفوذ الماء في ذلك الجزء الممتاز ، وإذا حصل الاستهلاك على
الوجه المذكور يخرج المائع عن الحقيقة التي كان عليها كما تخرج عين النجاسة
بشيوعها في الماء الكثير عن حكمها ومثل هذا لا يسمى تطهيرا في الاصطلاح. انتهى.
وهو جيد متين ، والمراد بقوله في الدهن انه يبقى على الصلاحية للانتفاع يعني في
الجملة لا ان المراد الانتفاع فيما يشترط فيه الطهارة فإنه قد صرح بعدم قبوله
التطهير وعدم قبوله انما هو لما ذكره من بقاء تلك الأجزاء التي يحصل بها الانتفاع
وعدم دخول الماء فيها كما لا يخفى. والله العالم.
(المقام الرابع)
ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ان الأرض متى تنجست بالبول ونحوه فإنه يحصل
تطهيرها بإلقاء الكثير عليها أو الجاري أو المطر أو الشمس إذا جففت النجاسة على
المشهور ، واما بالماء القليل فعلى تقدير القول بطهارة الغسالة فلا إشكال أيضا
وانما محل الكلام والاشكال على تقدير القول بالنجاسة.
والشيخ مع قوله
بنجاسة الغسالة قد صرح في الخلاف بالطهارة فقال فيه : إذا
بال على موضع من الأرض فتطهيره ان يصب الماء عليه حتى يكاثره ويغمره ويقهره
ويزيل لونه وطعمه وريحه ، فإذا زال حكما بطهارة المحل وطهارة الماء الوارد عليه
ولا يحتاج الى نقل التراب ولا قلع المكان وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان كانت الأرض رخوة فصب عليها الماء
فنزل الماء عن وجهها الى باطنها طهرت الجلدة العليا دون السفلى التي وصل الماء
والبول إليها وان كانت الأرض صلبة فصب الماء على المكان فجرى عليه الى مكان آخر
طهر مكان البول لكن نجس المكان الذي انتهى الماء اليه فلا يطهر حتى يحفر التراب
ويلقى عن المكان ثم ان الشيخ احتج لما صار إليه بان في التكليف بما زاد
على ذلك حرجا منفيا بقوله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ» وبالرواية العامية المشهورة المتضمنة أمر النبي (صلىاللهعليهوآله) بإهراق الذنوب من الماء على بول الأعرابي لما بال في
المسجد وقوله لهم بعد ذلك «علموا ويسروا ولا تعسروا» وابن إدريس قد وافق الشيخ في هذا المقام على جميع هذه
الأحكام ، وهو جيد على أصله من اختياره طهارة الغسالة.
والمحقق في
المعتبر بعد ان أورد كلام الشيخ المذكور قال : وما ذكره الشيخ مشكل لأن الرواية
المذكورة عندنا ضعيفة الطريق ومنافية للأصل لأنا قد بينا ان الماء المنفصل عن محل
النجاسة نجس تغير أو لم يتغير لانه ماء قليل لاقى نجاسة ، ثم عارض الرواية برواية
عامية مثلها الى ان قال : الوجه ان طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى
يستهلك النجاسة أو يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليها الشمس حتى تجف بها
أو تغسل بما يغمرها ثم يجري إلى موضع آخر فيكون ما انتهى اليه نجسا. انتهى.
أقول : ينبغي
حمل كلامه الأخير أعني قوله : «أو تغسل بما يغمرها ثم يجري. الى آخره» على ما إذا
كانت الأرض صلبة كما تقدم في كلام أبي حنيفة وإلا عاد
__________________
الإشكال لأنه مع كون الأرض رخوة تنفذ الغسالة فيها ولو بعضها ، والقول
باغتفاره رجوع الى مذهب الشيخ وهو قد رده إذ لا فرق بين البعض والجميع فاعتذار
البعض عنه بذلك لا يجدي في المقام نفعا. وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره في المعتبر
من رد هذا الخبر والبناء على مقتضى الأصول المقررة في إزالة النجاسات.
وقال الشهيد في
الذكرى : تطهر الأرض بما لا ينفعل من الماء بالملاقاة ، وفي الذنوب قول لنفي الحرج
ولأمر النبي (صلىاللهعليهوآله) به في الحديث المقبول.
أقول : لا يخفى
ما فيه فإنهم ما بين ان يردوا الأخبار الصحيحة المستفيضة في الأصول بهذا الاصطلاح
المتأخر وان يعتمدوا في حكم مخالف للأصول على هذه الرواية العامية ، وليت شعري بأي
وجه دخلت هذه الرواية في حيز القبول أمن جهة راويها أبي هريرة الذي قد اعترف أبو
حنيفة بكذبه ورد رواياته؟ ونقل بعضهم انهم لا يقبلون رواياته في معالم الحلال
والحرام وانما يقبلونها في مثل أخبار الجنة والنار ونحو ذلك
__________________
أم من حيث اعتضادها بالأصول الشرعية والقواعد المرعية؟ ما هذه إلا مجازفة
محضة ، ولا اعرف لهذه المقبولية وجها إلا مجرد قول الشيخ بها في هذا الكتاب. وفيه
ما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب.
وبالجملة فإن
الطهارة والنجاسة أحكام شرعية يتوقف ثبوتها على الدليل الشرعي الواضح وثبوت
النجاسة في موضع البحث مما لا خلاف فيه فالحكم برفعها وزوالها يتوقف على الدليل
الشرعي الواضح وأمثال هذه التخريجات لا تصلح لإثبات الأحكام الشرعية.
واما ما ذكره
في المعالم ـ حيث قال : وقد روى عبد الله بن سنان في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس؟
فقال رش وصل». وروى أبو بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة في بيوت المجوس فقال رش وصل». وفي هذين
الخبرين نوع اشعار بالاكتفاء في زوال النجاسة عن الأرض بصب الماء عليها وإلا لم
يكن للرش في المواضع المذكورة فائدة كما لا يخفى ـ أقول : فيه انه من الجائز ـ بل
هو الظاهر ـ ان الأمر بالرش في هذا المقام وكذا في أمثاله من ملاقاة الكلب بيبوسة
ونحوه من المواضع الآتية انما هو تعبد شرعي وجوبا أو استحبابا ، ويمكن حمل ذلك على
طهارة الغسالة كما هو أحد الأقوال في المسألة وقد تقدم في محله ، إذ من الظاهر انه
على تقدير القول بنجاسة الغسالة انما يحصل بالرش زيادة النجاسة وتضاعفها ، وقد ورد
الأمر بالرش في مشكوك النجاسة من الثوب والبدن ايضا كما سيأتي ان شاء الله تعالى
في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة الحلبي ولو لم يحمل النضح على أحد الأمرين الذين ذكرناهما للزم
__________________
البتة ما ذكرناه من زيادة النجاسة وتضاعفها لا زوالها بالنضح. ولا يبعد
ايضا ان الوجه في الأمر بالنضح في هذه المواضع انما هو زوال النفرة ولا تعلق له
بنجاسة ولا طهارة كما ورد في جملة من المواضع الظاهرة في ذلك ايضا كما سيأتي ان شاء
الله تعالى.
ثم قال في
المعالم ايضا على اثر الكلام المتقدم : وكذا صحيح هشام بن سالم عن الصادق (عليهالسلام) «في السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب؟ قال لا بأس به ما
اصابه من الماء أكثر منه». ووجه الاشعار فيه تعليل نفي البأس بكون الماء الذي أصاب
المحل أكثر من البول فإنه ليس بالبعيد كون اداة التعريف في الماء للعهد الذهني لا
الخارجي فتأمل. انتهى.
أقول : لا يخفى
ان صحة التطهير بالماء القليل بناء على المشهور من نجاسة الغسالة مشروطة بأمرين (أحدهما)
غلبة المطهر وكونه قاهرا للنجاسة وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال واليه يشير جملة
من الأخبار : منها ـ هذا الخبر وخبر الاستنجاء المتقدم في باب الاستنجاء نقله من
العلل حيث قال فيه : «ان الماء أكثر من القذر». و (ثانيهما) انفصال الغسالة عن
المحل بعصر ونحوه كما هو المشهور أو بغير ذلك ، والجريان في المطر على السطح كما
اشتمل عليه الخبر أمر معلوم والسؤال لم يتعلق به وانما تعلق بتقاطر المطر على
الثوب بعد اصابته السطح النجس ، فأجاب (عليهالسلام) بان المطر قد طهر السطح لندافعه وتكاثره بالوقوع عليه
لأنه في حكم الجاري كما تقدم بيانه في محله فلا بأس حينئذ بما يتقاطر منه فاللام
في الماء انما هي للعهد الخارجي وهو ماء المطر لا الذهني بمعنى اي ماء كان.
تذنيب
قال في المعالم
: الثوب المصبوغ بالمتنجس المائع يتوقف طهره قبل الجفاف على
__________________
استهلاك الماء للأجزاء المائعة من الصبغ وكذا القول في ليقة الحبر المتنجس
، اما بعد التجفيف فيمكن طهارة الثوب مع بقاء اجزاء الصبغ فيه وذلك إذا علم نفوذ
الماء في جميع تلك الاجزاء ، واما طهارة الليقة فموضع نظر من حيث ان الاجتماع
الحاصل في اجزائها موجب لعدم نفوذ الماء الى الاجزاء الداخلة إلا بعد المرور على
الخارجة والحال يشهد غالبا بان تكرر مرور الماء على اجزاء الحبر يقتضي تغيره
وخروجه عن الإطلاق وحصول الطهارة موقوف على نفوذ الماء باقيا على إطلاقه ، ولو فرض
تفريق اجزائها بحيث علم النفوذ قبل التغير المخرج عن الإطلاق طهرت كالثوب ، ولو
اتفق في الثوب اجتماع اجزائه على وجه يتوقف النفوذ الى باطنها على تكرر المرور
باجزاء الصبغ فهو في معنى الليقة المجتمعة. انتهى.
أقول : ينبغي
ان يعلم ان صبغ الثوب انما يقع بنقع الثوب في ماء الصبغ أو غلية به مدة ليدخل
الصبغ في اجزاء الثوب. وحينئذ فإذا كان ماء الصبغ نجسا وقد صبغ الثوب فمتى أريد
تطهيره قبل جفافه فالظاهر انه لا يمكن ذلك إلا في الماء الكثير على وجه يضمحل ماء
الصبغ فيه ، ولو أريد تطهيره بالقليل والحال كذلك فإنه لا ريب في حصول الإضافة في
ما يصل الى باطن الثوب وخروجه عن الإطلاق بعين ما فرضه في الليقة ونجاسته أيضا
بملاقاة ماء الصبغ فلا يفيد الثوب تطهيرا. وبالجملة فالتطهير بالقليل في هذه
الصورة لا يخلو من الاشكال ، واما بعد الجفاف فإنه يذهب الماء النجس من الثوب ولا
يبقى إلا نجاسة الثوب خاصة ، وحينئذ فإذا أريد تطهيره بالقليل فان كان ما فيه من
الصبغ لا ينفصل عنه في الماء على وجه يغيره ويسلبه الإطلاق فلا إشكال في حصول
الطهارة به وإلا ففي الطهارة إشكال لعين ما تقدم ، فإنه بأول ملاقاته للثوب يتغير
به ولا يداخله إلا متغيرا فلا يحصل التطهير به ، وبذلك يظهر ما في قوله (قدسسره) : «فيمكن طهارة الثوب مع بقاء اجزاء الصبغ» وبالجملة
فإن علم عدم التغير في حال الغسل به فلا إشكال في صحة ما ذكره وإلا فالإشكال ظاهر
، ولعله يشير الى ذلك قوله «ويمكن» فان التعبير
بهذا اللفظ مشعر بنوع تردد وتوقف كما لا يخفى إذ لا وجه له إلا ما ذكرناه.
(المسألة
الرابعة) ـ مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) لا نعلم فيه مخالفا انه يكفي صب الماء
في بول الرضيع من غير غسل ونقل عليه الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة.
والمستند فيه
بعد الإجماع الأصل السالم من المعارض وما رواه الشيخ في الحسن على المشهور بإبراهيم
بن هاشم الصحيح على الاصطلاح الغير الصحيح عندي وعند جملة من المحققين عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء فان كان قد أكل
فاغسله غسلا ، والغلام والجارية شرع سواء». وأيد بعضهم هذه الرواية برواية السكوني
عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) «ان عليا (عليهالسلام) قال : لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم
لان لبنها يخرج من مثانة أمها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا بوله قبل ان
يطعم لان لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين». وفيه اشكال يعلم مما قدمنا من
الكلام في هذه الرواية ، وفي الفقه الرضوي «وان كان بول الغلام الرضيع فصب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام
فاغسله والغلام والجارية سواء».
إلا انه قد روى
الشيخان الكليني والطوسي في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصبي يبول على الثوب؟ قال تصب عليه الماء قليلا ثم
تعصره». وروى الشيخ في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب؟ فقال اغسله. قلت
فان لم أجد مكانه؟ قال اغسل الثوب كله». وظاهر الخبرين المذكورين كما ترى المنافاة
لما تقدم.
وقد أجاب الشيخ
في الاستبصار عن الخبر الثاني بحمل الغسل على الصب أو على
__________________
ان المراد بالصبي من أكل الطعام والثاني منهما لا بأس به في مقام الجمع ،
واما الأول فيحتاج الى مزيد تكلف.
واما حسنة
الحسين بن ابي العلاء فردها في المدارك (أولا) بعدم توثيق الراوي و (ثانيا) بالحمل
على الاستحباب : و (ثالثا) بحمل العصر على ما يتوقف عليه إخراج عين النجاسة من
الثوب فان ذلك واجب عند من يرى نجاسة هذا البول. أقول : والثالث منها جيد في مقام
الجمع فلا بأس به ، واما الأولان فقد تقدم الكلام عليهما مرارا ، وربما يؤيد الوجه
المذكور بقوله في السؤال : «يبول على الثوب» فإنه يشعر بذلك ، وأيضا فإن الحمل على
الغسل بقرينة العصر يدافعه قوله : «تصب عليه الماء قليلا» فان ظاهره عدم ارادة
الغسل فلا بد من التأويل في جانب العصر بالحمل على ما ذكرناه من إخراج عين
النجاسة.
بقي الكلام هنا
في مواضع (الأول) ـ ان ظاهر كلام الأكثر اختصاص الحكم هنا بالصبي واما بول الصبية
فيجب فيه الغسل عندهم كالكبير ، ونقل في المعالم عن ظاهر كلام ابن بابويه في
رسالته عدم الفرق بين الصبي والصبية حيث فرض الحكم أولا في بول الصبي ثم قال
والغلام والجارية فيه سواء. أقول : ونحوه ابنه في الفقيه حيث قال : وان كان بول
الغلام الرضيع صب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام غسل ، والغلام والجارية في
هذا سواء وهذا عين عبارة الفقه الرضوي التي قدمنا نقلها ومثلها ما في رسالة أبيه ،
ومنه يعلم ان مستندهما في هذا الحكم انما هو الكتاب المذكور وان كانت صحيحة الحلبي
أو حسنته دالة عليه ايضا.
والعجب من
الأصحاب مع اعتمادهم في أصل الحكم على الحسنة المذكورة كيف عدلوا عما تضمنته من
التسوية بين الغلام والجارية ، فقال الشيخ في الاستبصار قوله : «الغلام والجارية
شرع سواء» معناه بعد أكل الطعام. ولا يخفى ما فيه وقال المحقق في المعتبر بعد
الإشارة إلى دلالة حسنة الحلبي على ما ذكره الشيخ علي بن بابويه : والأشبه
اختصاص التخفيف ببول الصبي والرواية محمولة على التسوية في التنجيس لا في
حكم الإزالة مصيرا الى ما افتى به أكثر الأصحاب. انتهى. وقال في المدارك بعد نقل
ذلك عنه : وهو بعيد جدا. أقول : وفيه مع بعده انه قد خالف الأصحاب في غير موضع من
كتابه مع وجود الدليل على كلامهم بزعمه ضعفه والطعن فيه فكيف يوافقهم هنا فيما دل
الدليل على خلافه؟
واما صاحب المعالم
فإنه بعد ان أورد حسنة الحلبي قال : وهذه الرواية نص في الحكم فليت إسنادها كان
صحيحا ، ثم قال ولعل انضمام عدم ظهور المخالف إليها يجبر هذا الوهن مضافا الى ان
حسنها بواسطة إبراهيم بن هاشم وبعض الأصحاب يرى الاعتماد على روايته لشهادة
القرائن بحسن حاله ، الى ان قال بعد ذكر مذهب علي بن بابويه في المساواة بين الصبي
والجارية ما لفظه : ولا يخفى عليك ان عبارته المذكورة موجودة بمعناها وأكثر
ألفاظها في الخبر الذي هو العمدة في مستند الحكم فكان اللازم من التمسك به عدم
الفرق ولكن حيث ان التعلق بها مراعى بضميمة ما يظهر من الوفاق على الحكم وهو مفقود
في الصبية فلا جرم كان الاقتصار في الحكم على محل الوفاق هو الأنسب ، ثم نقل كلام
المحقق والشيخ المتقدمين.
وأنت خبير بان
كلامه هذا جيد بناء على أصله من رد الأخبار الحسنة بل الصحيحة التي ليست جارية على
حسب اصطلاحه الذي هو بالضعف اولى وأحرى حيث انه قد زاد على الطنبور نغمة أخرى ،
واما من يعمل بالأخبار الحسنة كما هو المشهور بين أصحاب هذا الاصطلاح وغيرهم بل
يعد حديث إبراهيم بن هاشم من بين افراد الحسن في الصحيح كما صرح به في الذخيرة
والمدارك وغيرهما فإنه لا يحتاج في العمل بالخبر المذكور الى جبر باتفاق الأصحاب
ولا غيره لانه دليل صحيح شرعي صريح فلا معنى لاحتياجه الى جابر ، وبذلك يظهر صحة
التزامنا لكلام الأصحاب في المسألة بما قدمنا ذكره وبالجملة فإن الخبر المذكور قد
اشتمل على حكمين ولا معارض له فيهما في البين فالقول
بأحدهما دون الآخر تحكم كما لا يخفى. هذا مع قطع النظر عن اعتضاد الخبر
المذكور بكلامه (عليهالسلام) في كتاب الفقه.
والعجب من صاحب
الذخيرة هنا حيث جرى على ما جرى عليه صاحب المعالم مع مباينته له في اصطلاحه وعده
حسنة إبراهيم في الصحاح في شرحه المذكور في غير موضع بل اعتماده على سائر الأخبار
الضعيفة بالقرائن المؤيدة للصحة كما لا يخفى على من مارس كتابة.
(الثاني) ـ ان
المفهوم من كلام جملة من متأخري الأصحاب : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في الروض ان
المراد بالرضيع من لم يغتذ بغير اللبن كثيرا بحيث يزيد على اللبن أو يساويه ولم
يتجاوز الحولين. وأنت خبير بان لفظ الرضيع غير موجود في رواياتهم وانما هو موجود
في عبارة كتاب الفقه ولهذا انه في المدارك جعل الحكم معلقا بالمولود الذي لم يأكل
لا الرضيع. وكيف كان فظاهر الخبرين هو تعليق الحكم على الأكل وعدمه والظاهر من
الأكل كما ذكره في المنتهى هو ما استند الى شهوته وإرادته فإن أكل على الوجه
المذكور كان الواجب الغسل في بوله وإلا فالصب ، واما كونه يزيد على اللبن أو ينقص
عنه أو يساويه فلا إشعار في شيء من الخبرين به.
وابن إدريس هنا
قد علق الحكم ببلوغ الحولين فقال في سرائره : بول الصبي الرضيع وحده من لم يبلغ
سنتين نجس إذا أصاب الثوب يكفي ان يصب عليه الماء من غير عصر له وقد طهر وبول
الصبية لا بد من عصره مرتين مثل البالغين وان كان للصبية دون الحولين ، فإذا تم
للصبي حولان وجب عصر الثوب من بوله. ورده جملة من تأخر عنه ، وهو كذلك لعدم وجود
دليل على ما ذكره إذ الاخبار الواردة في المسألة كما عرفت لا تعرض في شيء منها
لذلك وانما الحكم وقع فيها معلقا على الأكل وعدمه.
قال المحقق في
المعتبر : والمعتبر ان يطعم ما يكون غذاء ولا عبرة بما يلعق دواء أو من الغذاء في
الندرة ولا تصغ الى من يعلق الحكم بالحولين فإنه مجازف بل لو استقل
بالغذاء قبل الحولين تعلق ببوله وجوب الغسل. انتهى.
وقال العلامة
في المنتهى بعد تحقيق المسألة : وهذا التخفيف متعلق بمن لم يأكل ، وحده ابن إدريس
بالحولين وليس شيئا إذ روايتا الحلبي والسكوني دلتا على الأكل والطعم سواء بلغ
الحولين أو لم يبلغ ولا اعلم علته في ذلك بل الأقرب تعلق الحكم بطعمه مستندا إلى
إرادته وشهوته وإلا لتعلق الغسل بساعة الولادة إذ يستحب تحنيكه بالتمر. انتهى. وهو
جيد.
وأنت خبير بما
في كلام المحقق والعلامة هنا من المنافاة لما قدمنا نقله عن الجماعة المشار إليهم
حيث ان كلامهما ظاهر في ان الضابط هو صدق الاغتذاء لا على سبيل الندرة وهذا هو
الأوفق بأخبار المسألة ولم يعتبرا زيادة الأكل على اللبن ومساواته له كما وقع في
كلامهم. واما قوله في المعتبر في آخر كلامه : «بل لو استقل بالغذاء. إلخ» فلا
ينافي ما في صدر كلامه من ان الغسل يترتب على ان يطعم ما يكون غذاء وان لم يستقل
به ، لان كلامه الأخير انما وقع مبالغة في توجيه المجازفة التي عزاها الى ابن
إدريس بمعنى ان إطلاق ابن إدريس تعلق الحكم بالحولين يتناول صورة الاستقلال
بالغذاء وترك الرضاع رأسا قبل مضيهما مع ان تسميته في تلك الحال رضيعا مجازفة
واضحة. وبالجملة فإن كلام هذين الفاضلين هو المرتبط بالدليل دون ما ذكره الجماعة.
(الثالث) ـ ان
لفظ الخبر المذكور قد ورد بالصب وجملة من الأصحاب قد فرقوا بينه وبين الغسل في
الثوب ونحوه بأخذ العصر في حقيقة الغسل دون الصب ، والذي قدمنا تحقيقه ان الفرق
بينهما انما هو باعتبار الانفصال والتقاطر وعدمه ، والصب بهذا المعنى مرادف للرش
والنضح الوارد في الاخبار في جملة من المواضع كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى ،
وربما ظهر من العلامة في التذكرة في هذه المسألة مغايرة الرش للصب ، ومما يدل على
ترادف النضح والصب الأخبار الواردة في ملاقاة الكلب مع
اليبوسة ، فإن أكثر الأخبار قد عبر فيها بالنضح وصحيحة أبي العباس قد تضمنت الصب.
قال في المدارك
في هذه المسألة : ويعتبر في الصب الاستيعاب لما اصابه البول لا الانفصال على ما
قطع به الأصحاب ودل عليه إطلاق النص إلا ان يتوقف عليه زوال عين النجاسة ، مع احتمال
الاكتفاء به مطلقا لإطلاق النص ، وحكى العلامة في التذكرة قولا بالاكتفاء فيه
بالرش قال فيجب فيه التعميم ولا يكفي إصابة الرش بعض موارد النجاسة وبه قطع في
النهاية إلا انه اعتبر في حقيقة الرش الاستيعاب وجعله أخص من النضح وفرق بينه وبين
الغسل باعتبار السيلان والتقاطر في الغسل دون الرش وهو بعيد لنص أهل اللغة على ان
المنضح والرش بمعنى وصدقهما لغة وعرفا بدون الاستيعاب. انتهى.
أقول : ما يظهر
منه من ان الصب لا بد فيه من الاستيعاب وان النضح والرش يصدقان عرفا بدون
الاستيعاب لا يخفى ما فيه بل الظاهر هو ترادف الثلاثة على معنى واحد من الاستيعاب
بدون الانفصال والتقاطر فإنه يكون بذلك غسلا ، ويدل على ما ذكرناه ما أشرنا إليه
من اخبار ملاقاة الكلب باليبوسة وورود الأخبار بالنضح تارة وبالصب أخرى.
بقي الكلام في
ان المفهوم من كلام أهل اللغة هو ترادف الرش والنضح حيث قال في الصحاح : النضح
الرش وقال في القاموس نضح البيت رشه واما الصب لغة فهو بمعنى الإراقة والسكب وهو
بعيد من معنى الرش والنضح قال الله تعالى : «أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا» اي سكبناه سكبا إشارة إلى ماء المطر ، ويقال دم صبيب اي
كثير ، وحينئذ فالحكم بالمرادفة له مع الفردين المذكورين لا يخلو من اشكال إلا ان
يستعان بالأخبار الواردة في الكلب والتعبير في بعضها بالصب وفي آخر بالنضح ،
ويؤيدها خبر بول
__________________
الصبي المعلوم منه مغايرة الصب للغسل ، فيكون الحكم بالمرادفة من حيث الشرع
لا من جهة اللغة.
واما ما ذكره
في النهاية مما يؤذن بالفرق بين النضح والرش ـ حيث قال : مراتب إيراد الماء ثلاثة
النضح المجرد ومع الغلبة ومع الجريان ، قال ولا حاجة في الرش إلى الدرجة الثالثة
قطعا وهل يحتاج إلى الثانية؟ الأقرب ذلك ثم قال ويفترق الرش والغسل بالسيلان
والتقاطر ـ ففيه ما ذكره في المعالم حيث قال ـ ونعم ما قال في جعل الرش مغايرا
للنضح ـ ان المستفاد من كلام أهل اللغة ترادفهما والعرف ان لم يوافقهم فليس بمخالف
لهم ولا نعلم الفرق الذي استقربه من أين أخذه؟ مع انه في غير النهاية كثيرا ما
يستدل على الرش بما ورد بلفظ النضح وبالعكس ، والظاهر من كلامهم وكلامه في غيره
ترادف الصب والرش والنضح. انتهى. وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك من الفرق
بين الصب وبين الفردين الآخرين.
ثم لا يخفى ان
الظاهر ان المراد بقوله في النهاية النضح المجرد ومع الغلبة انما هو غلبة الماء
المنضوح به زيادة على البلل اليسير الذي يحصل به النضح عنده لا باعتبار استيعاب
المحل وعدمه كما ذكره في المدارك وفسر به كلامه في النهاية ليتم له الاعتضاد به في
ما ذهب اليه من الفرق.
(المسألة
الخامسة) ـ قد تفرد الصدوق فيما اعلم بعدم وجوب الغسل في ملاقاة كلب الصيد برطوبة
واكتفى فيها بالرش ونفاه مع اليبوسة ، فقال في الفقيه : ومن أصاب ثوبه كلب جاف ولم
يكن بكلب صيد فعليه ان يرشه بالماء وان كان رطبا فعليه ان يغسله وان كان كلب صيد
وكان جافا فليس عليه شيء وان كان رطبا فعليه ان يرشه بالماء. ولم أقف له على
موافق ولا على دليل بل الاخبار وكلام الأصحاب متفقة على وجوب الغسل بملاقاة الكلب
برطوبة والرش مع اليبوسة من غير فرق بين كلب الصيد وغيره وقد تقدمت الأخبار الدالة
على ذلك في الفصل الثامن والتاسع في نجاسة
الكلب والخنزير وهي حجة عليه فيما صار اليه هنا في كل من الغسل والرش.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن ههنا جملة من المواضع قد وردت الأخبار بالأمر بالنضح فيها وجملة منها قد
وقع الخلاف فيه بكونه على جهة الوجوب أو الاستحباب.
(فمنها) ـ مس
الكلب جافا فإن الأخبار المشار إليها آنفا قد دلت على الأمر بالنضح وقد اختلف
الأصحاب في كونه على جهة الوجوب أو الاستحباب ، والمشهور الثاني ، وظاهر الشيخ في
المبسوط الحكم بالاستحباب في جميع النجاسات إذا لاقاها بيبوسة حيث قال : كل نجاسة
أصابت الثوب وكانت يابسة لا يجب غسلها وانما يستحب نضح الثوب. وفي استفادة هذا
العموم من الأخبار نظر كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ونقل عن ابن حمزة القول
بالوجوب هنا استنادا إلى الأوامر الواردة به فإنها حقيقة في الوجوب. ورده العلامة
في المختلف بأن النجاسة لا تتعدى مع اليبوسة إجماعا وإلا لوجب غسل المحل فيتعين
حمل الأمر على الاستحباب. وفيه (أولا) ان الحمل على الوجوب لا ينحصر بالنجاسة
لجواز كونه تعبدا شرعيا. و (ثانيا) ان ما ذكره من ان تعدي النجاسة موجب للغسل ليس
كليا ليتم ما ذكره بل هو أكثري وكيف لا وقد اكتفى في بول الرضيع كما تقدم مع
الاتفاق على نجاسته بالرش فلا مجال هنا للاستبعاد.
هذا ، والظاهر
من كلام جملة من الأصحاب هنا ايضا هو الوجوب مثل عبارة الصدوق المتقدمة وقوله «فعليه
ان يرشه بالماء» في الموضعين منها ، وقال الشيخ في النهاية : إذا أصاب ثوب الإنسان
كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وكان يابسا وجب ان يرش الموضع بعينه
فان لم يتعين رش الثوب كله. وقال المفيد في المقنعة : وإذا مس ثوب الإنسان كلب أو
خنزير وكانا يابسين فليرش موضع مسهما منه بالماء وكذا الحكم في الفأرة والوزغة.
ونقل عن سلار انه صرح في رسالته بوجوب الرش من مماسة الكلب والخنزير والفأرة
والوزغة وجسد الكافر باليبوسة.
والقول بالوجوب
تعبدا لا يخلو من قوة لاتفاق الاخبار عليه من غير معارض
واتفاق كلمة هؤلاء الفضلاء الذين هم أساطين المذهب ويرجحه اعتضاده
بالاحتياط ، وأكثر الأصحاب انما عبروا هنا بالرش والموجود في الاخبار كما أشرنا
إليه آنفا التعبير بالنضح في بعض والصب في آخر وكأنه بناء منهم على فهم ترادف
الألفاظ الثلاثة ، وقد عرفت في آخر المسألة المتقدمة ما في كلام النهاية وصاحب
المدارك من المخالفة في ذلك وبينا ما فيه.
و (منها)
ملاقاة الخنزير جافا والمشهور هنا ايضا بين المتأخرين الاستحباب وقد تقدم نقل
القول بالوجوب عن الجماعة المتقدم ذكرهم ، ويدل على الحكم هنا صحيحة علي بن جعفر
عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر
وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته
فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه اثر فيغسله». والرواية المذكورة قد اشتملت
على النضح وقد تقدم الكلام في مرادفته للرش وعدمها وان الأظهر المرادفة ، واحتمال
الوجوب أو الاستحباب هنا في الأمر جار على ما تقدم إلا ان الظاهر هنا ان الأمر على
تقدير الوجوب لا يكون مستندا إلى النجاسة وانما هو تعبد كما ذكرنا آنفا ، وذلك
لانه قد أمره بالمضي في الصلاة إذا كان دخل فيها وهذا لا يجامع النجاسة ، ولا
ينافي ذلك الأمر بالغسل إذا كان فيه أثر لأن سياق الرواية انما هو الإصابة بقول
مطلق ولم يعلم كونها برطوبة أو عدمها وقد دخل في الصلاة والحال كذلك. فأمر (عليهالسلام) بالمضي في الصلاة استصحابا لأصالة الطهارة ، لأن
الإصابة بيبوسة غير موجبة للتنجيس والرطوبة غير معلومة فيتم البناء على أصالة
الطهارة ويتم الأمر بالمضي فيها وان كان ذلك قبل دخوله في الصلاة فلينضحه إلا ان
يكون فيه اثر فيغسله ، وظاهر الخبر الدلالة على عدم وجوب الفحص بعد دخوله في
الصلاة وانه يكفي البناء على أصالة الطهارة عند الشك كما يدل عليه صحيح زرارة
الطويل
__________________
الوارد في المني وقد تقدم
وروى الشيخ في
الصحيح عن موسى بن القاسم عن علي ابن محمد وهو مشترك قال : «سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جاف هل
تصلح الصلاة فيه قبل ان يغسله؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلي فيه.». وفي قرب
الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جاف أتصلح الصلاة
فيه قبل ان يغسل؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلى فيه».
و (منها) ـ بول
الرضيع وقد تقدم الكلام فيه مستوفى.
و (منها) ـ الفأرة
ففي صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي
على الثياب أيصلى فيها؟ قال اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء».
ومورد الخبر ـ كما
ترى ـ هو نضح ما لا يرى من أثر الفأرة الرطبة في الثوب واما ما يرى منه فحكم فيه
بالغسل وجوبا أو استحبابا كما تقدم من الخلاف في الفأرة نجاسة وطهارة ، وحينئذ فما
وقع في عبارة جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) من إطلاق القول بالنضح في الفأرة
الرطبة ليس بجيد ، والمشهور بين الأصحاب حمل النضح في الخبر المذكور على الاستحباب
وقد تقدم كلام الأصحاب الظاهر في الوجوب ، وأنت خبير بان الكلام في ذلك يتفرع على
الخلاف في طهارة الفأرة ونجاستها فان حكمنا بطهارتها كما هو الأشهر الأظهر تعين
الحكم بحمل النضح على الاستحباب وان حكمنا بالنجاسة كما هو أحد القولين في المسألة
جرى الكلام فيها كما في الكلب والخنزير من احتمال الوجوب تعبدا.
و (منها) ـ ثوب
المجوسي ففي صحيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال يرش بالماء». وينبغي
حملها على عدم
__________________
معلومية ملاقاة المجوسي له برطوبة وإلا لكان نجسا يجب غسله ، وبذلك يعلم ان
إطلاق القول بالنضح في ثوب المجوسي ليس بجيد ، ويجب حمل الأمر في الخبر بالنضح
بناء على ما ذكرنا على الاستحباب لصحيحة معاوية بن عمار عنه (عليهالسلام) «في الثياب السابرية يعملها المجوس. ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال
نعم. الحديث». وقد تقدمت في التنبيه الثاني من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية
من المقصد الثاني في الأحكام ، ولم أقف على من ذهب الى الوجوب في هذا المقام.
و (منها) ـ الثوب
والبدن الذي حصل الشك في نجاسته ، ففي صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج قال : «سألت أبا إبراهيم (عليهالسلام) عن الرجل يبول بالليل فيحسب ان البول اصابه فلا يستيقن
فهل يجزيه ان يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال يغسل ما استبان أنه اصابه وينضح
ما يشك فيه من جسده وثيابه ويتنشف قبل ان يتوضأ».
وفي حسنة
الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي
أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء.».
وفي حسنة عبد
الله بن سنان في ثوب أصابه جنابة أو دم وفيها «وان كان يرى أنه اصابه
شيء فنظر فلم ير شيئا أجزأه ان ينضحه بالماء».
وفي حسنة محمد
بن مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن
__________________
أبوال الدواب والبغال والحمير؟ فقال اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب
كله فان شككت فانضحه».
ومن هذا الباب رواية
إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة في تطهير الفرش ونحوها من الحشايا حيث قال : «اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فان أصبت
مس شيء منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء».
ومورد هذه
الاخبار وان كان نجاسات مخصوصة لكن ظاهر الأصحاب العموم قال الشيخ في النهاية :
ومتى حصل في الثوب شيء من النجاسات التي يجب إزالتها وجب غسل الموضع ، الى ان قال
وان كان حصولها مشكوكا فيه فإنه يستحب ان يرش الثوب. وقال المفيد في المقنعة :
وإذا ظن الإنسان انه قد أصاب ثوبه نجاسة ولم يتيقن ذلك رشه بالماء. وصريح عبارة
النهاية الحكم باستحباب الرش وبذلك صرح العلامة في المنتهى والنهاية لكنه عبر عن
الحكم بالنضح كما هو مورد الأخبار المتقدمة وقد عرفت الترادف فيهما فلا مشاحة
حينئذ في التعبير خلافا لنهاية العلامة كما تقدم ذكره ، وظاهر عبارة المفيد
المذكورة احتمال كل من الاستحباب والوجوب لإطلاقها ، ونقل عن سلار انه أوجب الرش
إذا حصل الظن بنجاسة الثوب ولم يستيقن ، والمفهوم من الاخبار النضح في الثوب
والبدن في مقام الشك أو الظن كما عرفت ، وحينئذ فما ذكره من إيجاب الرش مع الظن ان
استند فيه الى ظاهر لفظ الأمر ففيه ان مثل ذلك ايضا قد ورد في مقام الشك كما في
صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة وحسنة محمد بن مسلم فلا وجه لتخصيصه بصورة
الظن وان استند الى دليل آخر فلم نقف عليه ، والظاهر ان الأصحاب انما حكموا هنا
بالاستحباب لمعارضة أصالة الطهارة ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا من احتمال كونه وجوبا
وان وجهه التعبد بذلك لا النجاسة.
و (منها) ـ وقوع
الثوب على الكلب الميت يابسا لما رواه علي بن جعفر عن
__________________
أخيه موسى (عليهالسلام) في الصحيح قال : «سألته عن رجل وقع ثوبه على كلب ميت؟
قال ينضحه بالماء ويصلي فيه ولا بأس».
و (منها) ـ المذي
لصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن المذي يصيب الثوب؟ قال ينضحه بالماء ان
شاء.». وهي صريحة في الاستحباب.
و (منها) ـ بول
البعير والشاة لرواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يصيبه أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال يغسل
بول الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة.». ولم أقف في هذا الموضع على
مصرح بوجوب النضح.
و (منها) ـ عرق
الجنب في الثوب لرواية أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص؟ فقال
لا بأس وان أحب ان يرشه بالماء فليفعل». ورواية علي بن أبي حمزة قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ قال لا ارى
به بأسا. قال انه يعرق حتى انه لو شاء ان يعصره عصره؟ قال فقطب أبو عبد الله (عليهالسلام) في وجه الرجل فقال ان أبيتم فشيء من ماء فانضحه به». والرواية
الأولى ظاهرة بل صريحة في الاستحباب والثانية مشعرة بعدم الاستحباب ، والذي يلوح
منها الإباحة ونفى البأس بالكلية والأمر بالنضح انما وقع مماشاة للسائل حيث فهم (عليه
__________________
السلام) منه الامتناع عن ذلك والميل الى التنزه عن العرق المذكور كما ينادي
به تقطيب وجهه وقوله «ان أبيتم».
و (منها) ـ ذو
الجرح في مقعدته يجد الصفرة بعد الاستنجاء لصحيحة البزنطي قال : «سأل الرضا (عليهالسلام) رجل وانا حاضر فقال ان بي جرحا في مقعدتي فأتوضأ
واستنجي ثم أجد بعد ذلك الندى والصفرة من المقعدة أفأعيد الوضوء؟ فقال وقد أنقيت؟
فقال نعم. قال لا ولكن رشه بالماء ولا تعد الوضوء». وهذا الموضع قل من ذكره من
الأصحاب والظاهر من كلام من ذكره هو استحباب الرش كما هو مورد الخبر وقد تقدم نحوه
في ثوب المجوسي وعرق الجنب وبه يتضح ما ذكره الأصحاب من الترادف مع النضح.
و (منها) ـ ما
ورد في رواية عبد الرحيم القصير قال : «كتبت الى ابي الحسن الأول (عليهالسلام) اسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد
البلل؟ فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة واحدة». ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا
عنه (عليهالسلام) وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه الرواية في فروع المسألة
السادسة من البحث الثاني فيما يجب إزالته من النجاسات وما يعفى عنه .
أقول : وسيأتي
جملة من المواضع ان شاء الله تعالى في أمكنة الصلاة قد أمر فيها بالنضح والرش
نذكرها في محالها.
تذنيب
قد اشتهر في
كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) مسح اليد بالتراب من ملاقاة بعض النجاسات
باليبوسة ، قال الشيخ في النهاية وان مس الإنسان بيده كلبا أو خنزيرا أو ثعلبا أو
أرنبا أو فأرة أو وزغة أو صافح ذميا أو ناصبا معلنا بعداوة
__________________
آل محمد (صلىاللهعليهوآله) وجب غسل يده ان كان رطبا وان كان يابسا مسحه بالتراب.
وقال المفيد : ان مس جسد الإنسان كلب أو خنزير أو فأرة أو وزغة وكان يابسا مسحه
بالتراب ، ثم قال وإذا صافح الكافر ولم يكن في يده رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو
التراب. وحكى العلامة في المختلف عن ابن حمزة إيجاب مسح البدن بالتراب إذا أصابه
الكلب أو الخنزير أو الكافر بغير رطوبة. وحكى المحقق في المعتبر عن الشيخ في
المبسوط انه قال كل نجاسة أصابت البدن وكانت يابسة لا يجب غسلها وانما يستحب مسح
اليد بالتراب. وقد ذكر جمع من الأصحاب انهم لم يعرفوا للمسح المذكور وجوبا أو
استحبابا وجها ولا دليلا. وقد ذكر العلامة في المنتهى استحبابه ايضا من ملاقاة
البدن للكلب أو الخنزير باليبوسة بعد حكمه بوجوب الغسل مع كون الملاقاة برطوبة ،
ثم ذكر الدليل على إيجاب الغسل وقال بعد ذلك اما مسح الجسد فشيء ذكره بعض الأصحاب
ولم يثبت.
(المسألة
السادسة) ـ قال في المدارك اعتبر المرتضى (رضياللهعنه) على ما نقل عنه في إزالة النجاسة بالقليل ورود الماء
على النجاسة فلو عكس نجس الماء ولم يفد المحل طهارة ، وبه قطع العلامة في جملة من
كتبه. انتهى. أقول : قال في المنتهى إذا أراد غسل الثوب بالماء القليل ينبغي ان
يورد الماء عليه ، ولو صبه في الإناء ثم غمسه فيه لم يطهر ، قاله السيد وهو جيد ،
وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء عليها. وبذلك صرح ايضا الشهيد في
الدروس فقال ويشترط الورود حيث يمكن. ونحوه في البيان فقال ويشترط ورود الماء على
النجاسة فلو عكس نجس الماء القليل ولم يطهره إلا في نحو الإناء فإنه يكفي الملاقاة
ثم الانفصال. وقال في الذكرى الظاهر اشتراط ورود الماء على النجاسة لقوته بالعمل
إذ الوارد عامل. وللنهي عن إدخال اليد في الإناء ، فلو عكس نجس الماء ولم يطهر ،
وهذا ممكن في غير الأواني وشبهها مما لا يمكن فيه الورود إلا ان يكتفى بأول وروده
، ثم قال مع ان عدم اعتباره مطلقا متوجه لان امتزاج الماء بالنجاسة
حاصل على كل تقدير والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة. انتهى. وأنت
خبير بان هذا القول من المرتضى ـ بناء على مذهبه في نجاسة الماء القليل كما تقدم
في أبواب المياه من الفرق بين ورود النجاسة على الماء وعكسه وانه انما يكون نجسا
في الأول دون الثاني ـ جيد لان الماء عنده في حال وروده على النجاسة باق على
الطهارة فيحصل التطهير به قطعا ، واما على مذهب الجماعة من نجاسة القليل بالملاقاة
مطلقا فمشكل إذ الملاقاة حاصلة على كل من الحالين ، واليه أشار في الذكرى في آخر
كلامه بقوله مع ان عدم اعتباره مطلقا متوجه. الى آخره ، وبه يشكل الحكم بالطهارة
بالماء القليل لانه متى ثبت القول بنجاسة الماء القليل مطلقا وثبت القول بالتطهير
بالماء القليل فاللازم من ذلك حصول الطهارة بالماء النجس ، ولا يخرج عن ذلك إلا
بأحد وجوه ثلاثة ذهب الى كل منها ذاهب : (أحدها) القول بطهارة الغسالة واستثناؤها
من نجاسة الماء القليل بالملاقاة و (ثانيها) ـ تخصيص النجاسة بالانفصال عن المحل
المغسول. و (ثالثها) ـ ان النجاسة المانعة من التطهير هي ما ثبتت قبل التطهير لا
ما كانت حال التطهير إذ لا مانع من التطهير بما حصلت نجاسته بذلك التطهير. وتحقيق
هذه الأقوال وما يتعلق بها من الأبحاث في هذا المجال قد تقدم منقحا في المقام الثاني
من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد من الباب الأول وفي مسألة الغسالة من ختام
الباب المذكور.
ثم لا يخفى ان
ممن نقل عنه ايضا القول باشتراط الورود في التطهير الشيخ والمحقق حيث قال في
الخلاف : إذا ولغ الكلب في إناء ثم وقع في ماء قليل تنجس ولم يجز استعماله ولا
يعتد بذلك في غسل الإناء. وقال في المعتبر : لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس
الماء ولم يتحصل من الغسلات شيء. أقول : يمكن ان يكون عدم الاعتداد بهذه الغسلة
انما هو من حيث تقدمها على التعفير لما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة من ان
الواجب أولا التعفير ثم الغسل فلو تقدم الغسل لم يحسب من ذلك لا من حيث ورود
النجاسة على الماء.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان ما ذكروه من اعتبار الورود لا يتم لهم في الأواني ونحوها ولهذا استثناها
في الذكرى وتأول الورود فيها بالحمل على أول الورود ، وقال بعض الأصحاب بعد ان حكى
كلام الذكرى وقوله فيها بالاكتفاء في الأواني وشبهها بأول وروده : الحق انه لا
يراد بالورود أكثر من هذا وإلا لم يتحقق الورود في شيء مما يحتاج فصل الغسالة عنه
إلى معونة شيء آخر.
قال في المعالم
: والذي ينبغي تحصيله في هذا المقام ان مبنى اعتبار الورود على ان انتفاءه يقتضي
نجاسة الماء ومن المستبعد صلاحية ما حكم بنجاسته لرفع حكم النجاسة عن غيره ، ومن
أمعن نظره في دليل انفعال القليل بالملاقاة رأى انه مختص بما إذا وردت النجاسة على
الماء ، فيجب حينئذ ان يكون المعتبر هنا هو عدم ورود النجاسة على الماء لا ورود
الماء على النجاسة إذ بين الأمرين فرق واضح ، وإذا ثبت ان المعتبر ما ذكرناه لم
يحتج الى استثناء نحو الأواني ولا لتكلف حمل الورود على ما يقع أولا فإن ورود
النجاسة في جميع ذلك منتف والمحذور إنما يأتي من جهته. انتهى.
أقول : مبنى
هذا الاشكال وهذه التكلفات كلها في دفعه انما نشأ مما قدمنا ذكره من لزوم نجاسة
الماء مع الورود كما ذكره ونحن قد حققنا سابقا في الموضع المشار اليه آنفا انه لا
مانع من النجاسة الحاصلة آن التطهير بذلك الماء وانما قام الدليل على منع التطهير
بما تنجس سابقا قبل التطهير ، وبذلك اعترف ايضا صاحب المعالم في هذا المقام بعد
هذا الكلام فقال ـ بعد ان ذكر بأنه على رأي القائلين بنجاسة الماء القليل تعويلا
على ان الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة بأي وجه فرض وان اعتبار ذلك مشكل إذ
نجاسة الماء حاصلة على كل حال ومسمى الغسل المأمور به يصدق وان كان الوارد هو
النجاسة ـ ما هذا لفظه : والفرق بينه وبين استعمال ما حكم بنجاسته بغير هذا الوجه
من مقتضيات التنجيس قيام الدليل على عدم صلاحية ذلك للاستعمال وانتفاؤه في هذا ،
فان دليل نجاسته انما يقتضي المنع من استعماله في مغسول آخر واما نفس المغسول
الأول الذي
منه نشأ الحكم بالتنجيس فليس في الدليل ما يقتضي المنع من استعماله فيه
بالنظر الى إزالة ذلك الحكم عنه. انتهى. واما عدوله بعد ذلك عن هذا الكلام الى ما
نقله عن العلامة من تخصيصه حصول النجاسة بما بعد الانفصال وما تكلفه من استثناء
ذلك للضرورة فيحتاج الى بيان القدح فيه وبيان إبطاله بدليل شاف وإلا فلا وجه
للعدول عنه الى ما ذكره لظهور صحته واستقامته كما حققناه فيما تقدم. والله العالم.
(المسألة
السابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه إذا علم
موضع النجاسة في ثوب ونحوه غسل ذلك الموضع خاصة وان اشتبه غسل ما وقع فيه الاشتباه
من الثوب كله أو بعض نواحيه وبالجملة كل موضع يحتمل كون النجاسة فيه. قال في
المعتبر انه مذهب علمائنا وفي المنتهى انه مذهب علمائنا اجمع وانما خالف فيه جماعة
من العامة. وإذا حصل الاشتباه في ثوبين بحيث لا يدرى أيهما النجس وجب تطهيرهما معا
ولو تعذر صلى الصلاة الواحدة فيهما مرتين.
والكلام في هذه
المسألة يقع في مقامين
(الأول) فيما
إذا حصل الاشتباه في الثوب الواحد ، ويدل على الحكم المذكور عدة روايات :
منها ـ صحيحة
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) قال في المني يصيب الثوب : «ان عرفت مكانه فاغسله فإن
خفي عليك مكانه فاغسله كله».
وصحيحة زرارة
الطويلة وفيها قال : «قلت فاني قد علمت أنه اصابه ولم أدر أين
هو فاغسله؟ قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من
طهارتك».
واعترض هذا
الخبر العلامة في المنتهى بأن زرارة لم يسنده الى الامام (عليهالسلام) فلا حجة فيه. وفيه ان الشيخ وان رواه في الصحيح كما
ذكره إلا ان الصدوق قد
__________________
رواه في العلل في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) على انه من الظاهر البين الظهور ان مثل زرارة لا يعتمد
في أحكام دينه على غير امام سيما مع ما اشتمل عليه الخبر من الأسئلة العديدة
والمراجعة مرة بعد أخرى فإن صدور مثل هذا من غير الامام لا يقبله الفهم السليم.
ومنها ـ حسنة
الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليهالسلام) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي
أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وان استيقن
انه قد أصابه مني ولم ير مكانه فليغسل الثوب كله فإنه أحسن».
وفي الحسن أو
الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن أبوال البغال والدواب والحمير فقال
اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله».
وعن سماعة قال : «سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله
ان خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا».
قال في المدارك
ـ بعد ان نقل عن المحقق في المعتبر انه استدل على هذا الحكم بأن النجاسة موجودة
على اليقين ولا يحصل اليقين بزوالها إلا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه ـ ما هذا
لفظه : ويشكل بان يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه يساوي قدر
النجاسة وان لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه. انتهى.
أقول : ما ذكره
من الاشكال هنا مبني على ما قدمنا نقله عنه في مسألة الإناءين من حكمه بالطهارة في
أحدهما ، وقد أوضحنا ثمة بطلانه وبطلان ما توهمه من الاشكال وانه مجرد وهم نشأ من
عدم التأمل في أدلة المسألة وتتبعها من جملة مواردها ، وبالجملة فإنه لو كان ما
ادعاه حقا بناء على قاعدته التي بنى عليها في أمثال هذا المقام والاخبار التي توهم
__________________
دلالتها على ما صار اليه لكان الحكم في هذا الموضع ما ذكره من الاكتفاء
بغسل جزء مما يظن فيه الاشتباه لأنه أحد جزئيات المسألة مع ان الاخبار كما ترى
متفقة على وجوب غسل الجميع وانه لا يطهر إلا بذلك وهو أظهر ظاهر في بطلان ما بنى
عليه ، ومثل هذا الموضع غيره من المواضع التي نبهنا عليها ثمة في دلالة أخبارها
على خلاف ما بنى عليه مع موافقته على العمل بما دلت عليه كما اعترف به هنا.
ثم قال ايضا (قدسسره) في المقام المذكور بعد إيراد أخبار المسألة : ولا يخفى
ان الحكم بوجوب غسل الجميع لتوقف الواجب عليه أو للنص لا يقتضي الحكم بنجاسة كل
جزء من اجزائه فلو لاقى بعض المحل المشتبه جسم طاهر برطوبة فالأظهر بقاؤه على
الطهارة استصحابا للحكم قبل الملاقاة الى ان يحصل اليقين بملاقاته للنجاسة ، وفي
خبر زرارة المتقدم «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». انتهى.
أقول : قد
حققنا سابقا في مسألة الإناءين ان المستفاد من اخبار المسألة هو إعطاء المشتبه
بالنجس في المحصور حكم النجس والمشتبه بالحرام كذلك حكم الحرام واحد لم يقل بنجاسة
المشتبه ويجزم بالحكم عليه بالنجاسة وانما يدعى انه في حكم النجس في إجراء أحكامه
، ولا ريب انه هو المستفاد من الاخبار كاخبار هذا الموضع فان الظاهر من الأمر فيها
بتطهير الثوب كملا هو ترتب حكم النجس عليه قبل التطهير من عدم جواز الصلاة فيه ومن
تعدى النجاسة منه برطوبة ونحو ذلك من أحكام النجس المتيقن النجاسة واما خبر زرارة
الذي ذكره هنا هو وغيره فقد تقدم القول فيه ثمة وبينا انه ليس من محل المسألة في شيء
فلا نعيده.
تذنيب
قال الشيخ في
الخلاف : إذا أصاب الثوب نجاسة فغسل نصفه وبقي نصفه فان
__________________
المغسول يكون طاهرا ولا تتعدى نجاسة النصف الآخر اليه ، ثم حكى عن بعض
العامة انه قال لا يطهر النصف المغسول لانه مجاور لا جزاء نجسة فتسري إليه النجاسة
فينجس قال الشيخ وهذا باطل لان ما يجاوره أجزاء جافة لا تتعدى نجاستها اليه ،
قال ولو تعدت لكان يجب ان يكون إذا نجس جسم ان ينجس العالم كله لأن الأجسام كلها
متجاورة وهذا تجاهل ، ثم قال وروى عن النبي (صلىاللهعليهوآله) وعن أئمتنا (عليهمالسلام) انه إذا وقع الفأر في سمن جامد أو في زيت القى وما حوله
واستعمل الباقي ، ولو كانت النجاسة تسري لوجب ان ينجس الجميع. وهذا خلاف النص. وما
ذكره (قدسسره) هنا جيد ، وقد اقتفاه في هذه المقالة جمع ممن تأخر :
منهم ـ الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى فأوردوا محصول كلامه
ودليله ، واستجوده في المعالم ثم قال : ولا يخفى ان ما ذكره من لزوم نجاسة العالم
بنجاسة جسم فيه يحتاج الى التقييد بحال كونه بأجمعه رطبا ولظهور ذلك لم يتعرض له
وكذا الجماعة بعده.
(المقام الثاني)
ـ فيما إذا حصل الاشتباه في الثوبين والأشهر الأظهر هو ما قدمناه من وجوب تطهيرهما
معا ووجوب الصلاة الواحدة في كل منهما ، ونقل في الخلاف عن بعض الأصحاب انه
يطرحهما ويصلي عاريا وجعله في المبسوط رواية واختاره ابن إدريس بعد نقله عن بعض
الأصحاب.
والذي يدل على
وجوب الصلاة فيهما
__________________
ما رواه الصدوق في الصحيح أو الحسن عن صفوان عن ابي الحسن (عليهالسلام) : «انه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان فأصاب
أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال
يصلي فيهما جميعا». قال الصدوق يعني على الانفراد.
واستدل على ذلك
في المدارك أيضا بأنه متمكن من الصلاة في ثوب طاهر من غير مشقة فيتعين عليه ، وبان
الصلاة في الثوب المتيقن النجاسة سائغة بل ربما كانت متعينة على ما سيجيء بيانه
ان شاء الله تعالى فالمشكوك فيه اولى ، ومتى امتنعت الصلاة عاريا ثبت وجوب الصلاة
في أحدهما أو في كل منهما إذ المفروض انتفاء غيرهما والأول منتف إذ لا قائل به
فيثبت الثاني ، ويدل عليه ما رواه صفوان ثم أورد الرواية المذكورة.
أقول : ما ذكره
ـ من ان الأول منتف إذ لا قائل به ـ فيه انه وان كان لا قائل به كما ذكره إلا ان
مقتضى قاعدته التي بنى عليها النزاع في مسألة الإناءين ونحوها هو صحة الصلاة في
واحد منهما كما ذكره في مسألة الإناءين حيث قال ان اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه
إلا مع تحققه لا مع الشك ، وما ذكره أيضا في مسألة حصول النجاسة في المكان المحصور
من انه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب
المباشرة ، وحينئذ فاللازم من ذلك في هذا الموضع لو كان ما ذكره صحيحا هو وجوب
الصلاة في أحدهما فنفيه له هنا مناقض لما اختاره في تلك المسائل مع ان الجميع من
باب واحد ، ومن الظاهر ان النص الوارد في هذه المسألة كالنصوص الواردة في سابقتها
أظهر ظاهر في رد كلامه وإبطاله من أصله لأن هذه من جزئيات المسألة المذكورة.
وقال ابن إدريس
في السرائر : وإذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس والآخر طاهر ولم يتميز له الطاهر ولا
يتمكن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا يصلى في كل واحد منهما على الانفراد وجوبا
، وقال بعض منهم ينزعهما ويصلي عريانا ، وهذا الذي يقوى في نفسي وبه افتى لأن
المسألة بين أصحابنا خلافية ودليل الإجماع فيه منفي
__________________
فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه ، فان قال قائل بل الاحتياط يوجب
الصلاة فيهما على الانفراد لأنه إذا صلى فيهما جميعا تبين وتيقن بعد فراغه من
الصلاتين معا انه قد صلى في ثوب طاهر ، قلنا المؤثرات في وجوه الأفعال يجب ان تكون
مقارنة لها لا متأخرة عنها والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ان يقطع على ثوبه
بالطهارة وهذا يجوز عند افتتاح كل صلاة من الصلاتين انه نجس ولا يعلم انه طاهر عند
افتتاح كل صلاة فلا يجوز ان يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ولا
يجوز ان تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد ، وايضا كون الصلاة واجبة وجه
يقع عليه الصلاة فكيف يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعده ومن شأن المؤثر في وجوه
الأفعال ان يكون مقارنا لها لا يتأخر عنها على ما بيناه. انتهى.
وفيه انه ـ مع
كونه محض اجتهاد صريح في مقابلة النص الصحيح ـ مردود بما ذكره جملة ممن تأخر عنه ،
اما ما ذكره من وجوب اقتران ما يؤثر في وجوه الأفعال فبالمع لانتفاء ما يدل عليه.
ثم لو سلم ذلك فنقول انه مقيد بحال التمكن لا مطلقا. ثم مع تسليم هذا ايضا فيمكن
ان يقال بحصول ذلك فإنه يقصد وجوب كل واحدة من الصلاتين فان ستر العورة بالساتر
الطاهر لما كان واجبا وكان تحصيله موقوفا على الإتيان بالصلاتين تعين فتكون
الصلاتان واجبتين من باب المقدمة ، قال في المختلف بعد حكمه بوجوب الصلاتين من باب
المقدمة : وهو ـ يعني ابن إدريس ـ لم يتفطن لذلك وحسب ان احدى الصلاتين واجبة دون
الأخرى ثم يعلم المكلف بعد فعلهما انه قد فعل الواجب في الجملة ، وليس كذلك. واما
ما ذكره من ان الواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ان يقطع بطهارة ثوبه فبالمنع من
ذلك فإنه شرط مع القدرة لا مع الاشتباه ، وانما أوردنا لك كلامه بطوله وما ينبه
على ضعف محصوله لتطلع على مزيد ضعف ما ذهب اليه وإلا فذكر جميع ذلك بعد ما عرفت من
النص الواضح تطويل بغير طائل وتحصيل لغير حاصل.
فروع
(الأول) ـ ما
ذكر من الحكم المذكور لا يختص بالثوبين بل لو وقع الاشتباه في ثلاثة وقد علم كون
واحد منها نجسا يقينا فإنه يصلي الفريضة الواحدة في اثنين منها خاصة ، اما لو تعدد
النجس كما لو كان ثوبان نجسان اشتبها بثوب طاهر فإنه يصلي الفريضة الواحدة فيما
زاد عن النجس بواحد لتصادف الصلاة الزائدة الطاهر ، فان كان النجس واحدا صلى
الفريضة مرتين في ثوبين وان كان اثنين صلاها ثلاثا وهكذا مراعيا للترتيب ، فيصلي
من وجبت عليه الظهر والعصر مثلا الظهر أولا في كل منهما ثم العصر في كل منهما لو
كان الاشتباه بواحد نجس ، ولو صلى الظهر والعصر في أحدهما ثم نزعه وصلى الفرضين
أيضا في الآخر فقد صرح الأصحاب بالصحة لتحقق الترتيب واستشكل ذلك بعض للنهي عن الشروع
في الثانية حتى تتحقق البراءة من الاولى. وهو جيد. ولو صلى الظهر في أحدهما ثم صلى
العصر في الآخر ثم صلى الظهر فيما صلى فيه العصر ثم صلى العصر فيما صلى فيه الظهر
صحت الظهر لا غير ووجب اعادة العصر فيما صلى فيه العصر أولا لجواز ان يكون الظاهر
هو ما وقعت فيه العصر الأولى.
(الثاني) ـ لو
تعددت الثياب وضاق الوقت عن التكرار مطلقا فقيل بالصلاة عاريا لتعذر العلم بالصلاة
في الطاهر بيقين. وقيل بتعين الصلاة في أحدها ، لإمكان كونه الطاهر ، ولاغتفار
النجاسة عند تعذر إزالتها ، ولان فقد وصف الساتر أسهل من فقده نفسه. ولما ورد من
النصوص الدالة على الصلاة في الثوب النجس يقينا فالمشتبه اولى ، وهو الأقرب.
(الثالث) ـ قال
في المنتهى : لو كان معه ثوب متيقن الطهارة تعين الصلاة فيه ولم يجز له ان يصلي في
الثوبين لا متعددة ولا منفردة. قال في المدارك بعد نقله : وهو حسن إلا ان وجهه لا يبلغ
حد الوجوب وهو جيد.
(الرابع) ـ قال
في المنتهى : ولو كان أحدهما طاهرا والآخر نجسا معفوا عنه تخير في الصلاة في أيهما
كان والأولى الصلاة في الطاهر ، قال وكذا لو كان احدى النجاستين المعفو عنهما في
الثوب أقل من الأخرى كان الأولى الصلاة في الأقل. أقول : اما حكمه بالأولوية في
الصورة الأولى فجيد وعليه يدل بعض الاخبار بالتقريب المذكور ذيلها ، وقد تقدمت في
بعض فروع المسألة الرابعة من البحث الثاني فيما يجب إزالته من النجاسات من المقصد
الثاني في الأحكام. واما في الصورة الثانية فمحل توقف لانه مع بقاء النجاسة وصحة الصلاة
معها لا يظهر لأولوية نقصانها وجه كما لا يخفى.
(الخامس) ـ قيل
لو فقد أحد المشتبهين صلى في الآخر وعاريا ، وقيل بالاكتفاء بالصلاة في الباقي
لجواز الصلاة في متيقن النجاسة. أقول : وهو جيد بناء على القول بذلك كما هو الأظهر
واما على قول من يوجب الصلاة عاريا فالمتجه هنا هو القول الأول. والله العالم.
(المسألة
الثامنة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما لو لم يجد إلا الثوب النجس ولا
ضرورة تلجئ الى لبسه من برد ونحوه ولا يقدر على غسله فهل تجوز الصلاة فيه والحال
كذلك أو تجب عليه الصلاة عاريا؟ وقد تقدم تحقيق البحث في هذه المسألة في المسألة
السادسة من البحث الثاني فليرجع إليها من احتاج إليها.
(المسألة
التاسعة) ـ لو صلى في النجاسة فلا يخلو اما ان يكون قد علم بها وصلى فيها عامدا أو
لم يعلم بالكلية أو علم ونسي حال الدخول في الصلاة ولم يعلم إلا بعد الفراغ أو
رآها في حال الصلاة.
وتحقيق الكلام
في ذلك يتوقف على بسطه في مقامات أربعة (الأول) ـ ان يصلي فيه عالما عامدا ، ولا
خلاف بين الأصحاب في بطلان صلاته ووجوب الإعادة عليه وقتا وخارجا ، قال في المعتبر
وهو إجماع ممن جعل طهارة البدن والثوب شرطا. وإطلاق كلام كثير من الأصحاب وصريح
بعضهم انه لا فرق في العالم بالنجاسة بين
ان يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلا فإنه كالعالم في البطلان ، لان شرط
التكليف إمكان العلم فيكون مكلفا بما يشترط في الصلاة وعدم معرفة ذلك تقصير منه
مستند الى تفريطه فيكون قد ضم تفريطا الى جهل فلا يكون معذورا ، لانه بعد ان وصل
اليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد فتركه
ذلك إخلال به عمدا ، ونقل في المدارك عن العلامة وغيره انهم صرحوا بان جاهل الحكم
عامد لان العلم ليس بشرط للتكليف ، ثم اعترضه بأنه مشكل لقبح تكليف الغافل قال
والحق انهم ان أرادوا بكون الجاهل كالعامد انه مثله في وجوب الإعادة في الوقت مع
الإخلال بالعبادة فهو حق لعدم حصول الامتثال المقتضى لبقاء التكليف تحت العهدة وان
أرادوا انه كالعامد في وجوب القضاء فهو على إطلاقه مشكل لان القضاء فرض مستأنف
ويتوقف على الدليل فان ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلا فلا ، وان
أرادوا انه كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل لان تكليف الجاهل بما هو جاهل به
تكليف بما لا يطاق ، نعم هو مكلف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل والشرع
فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح انتهى كلامه. وعليه جرى جملة ممن
تأخر عنه.
والتحقيق عندي
في المقام هو التفصيل بالنسبة إلى أفراد المكلفين وان كلام كل من القائلين بعدم
المعذورية والقائلين بالمعذورية ليس على إطلاقه ، وذلك لما حققناه في المقدمة
الخامسة من مقدمات الكتاب من ان الجهل على قسمين : (أحدهما) ـ ان يراد به الغفلة
عن الحكم الشرعي بالكلية وهو الجهل الساذج وهذا هو الذي يجب القول بمعذوريته في
جميع الأحكام لان تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة العقلية والنقلية وعليه
يجب ان تحمل الأخبار المستفيضة بمعذورية الجاهل. و (ثانيهما) ـ ان يراد به الغير
العالم وان كان شاكا أو ظانا وهذا هو الذي يجب ان يقال بعدم معذوريته وعليه تحمل
الأخبار الدالة على عدم معذورية الجاهل كما تقدمت في المقدمة المذكورة ،
وقد بينا ثمة ان الحكم في ذلك مختلف باختلاف الناس في أنسهم بالأحكام
والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه وقوة أفهامهم وعقولهم وعدمها ، وبالجملة فتحقيق
المسألة كما هو حقه قد تقدم في المقدمة المذكورة موضحا ومبرهنا عليه بالأخبار
الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهمالسلام) فليرجع اليه من أحب تحقيق الحال وإزاحة الاشكال ،
وأوضح منه وابسط ما في كتابنا الدرر النجفية.
وبذلك يظهر ان
الجاهل بالمعنى الأول لا اعادة عليه لا وقتا ولا خارجا لعدم توجه الخطاب إليه
بالكلية نعم لو علم في الوقت لزمه الإعادة حيث ان وقت الخطاب باق واما القضاء فلا
لنوقفه على أمر جديد ، وهذا هو الذي يتم فيه كلام صاحب المدارك وتفصيله ، واما
الجاهل بالمعنى الثاني فتجب عليه الإعادة وقتا وخارجا وذلك لتوجه التكليف اليه
وعدم ثبوت المعذورية بالجهل على هذا الوجه لانه عالم في الجملة ويتمكن من الفحص
والتحقيق في الأحكام كما يشير اليه قولهم في حجة المشهور : لانه بعد ان وصل اليه
وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد. فإنه جيد
وجيه في الجاهل بهذا المعنى وعليه تدل الأخبار كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة
بريد الكناسي وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في التزويج في العدة كما تقدم
جميع ذلك في المقدمة المذكورة ويزيدها تأكيدا ما رواه الكليني عن الفضل بن إسماعيل
الهاشمي عن أبيه قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليهالسلام) ما القى من أهل بيتي من استخفافهم بالدين فقال يا
إسماعيل لا تنكر ذلك من أهل بيتك فان الله تبارك وتعالى جعل لكل أهل بيت حجة يحتج
بها على أهل بيته في القيامة فيقال لهم ألم تروا فلانا فيكم ألم تروا هديه فيكم ألم
تروا صلاته فيكم ألم تروا دينه فهلا اقتديتم به؟ فيكون حجة الله عليهم في القيامة».
وعن معاوية بن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله
__________________
(عليهالسلام) يقول ان الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله تعالى
يوم القيامة على جيرانه به فيقال لهم ألم يكن فلان فيكم ألم تسمعوا كلامه ألم
تسمعوا بكاءه في الليل؟ فيكون حجة الله عليهم». والتقريب فيهما هو الدلالة على ان
الله عزوجل يحتج على الجهال وما يأتونه لجهلهم من عبادة وغيرها
بالصلحاء الذين بين أظهرهم وعباداتهم ونسكهم فينبغي لهم الاقتداء بهم والسؤال
والفحص منهم ، ومنه يعلم ان الجهال متى علموا بوجوب الصلاة وان لها شروطا مصححة
وأمورا مبطلة في الجملة ورأوا المصلين وما هم عليه من القيام بالشروط المصححة
واجتناب الأمور المبطلة فإنه يجب عليهم الفحص والسؤال عن تلك الأحكام والاقتداء
بهم كما دلت عليه الاخبار المشار إليها آنفا ، ويعضدها أيضا الأخبار المستفيضة
بالأمر بالتثبت والتوقف عند الجهل بالحكم وعدم وجود من يسأل عنه كقول الصادق (عليهالسلام) في رواية حمزة بن الطيار «لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى
أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق.
الحديث». واما من لم يصل اليه العلم بهذه الأشياء كمن نشأ في البادية مثلا وأخذ
الصلاة من أمثاله من الجهال أو الرساتيق الغالب عليها الجهل وأمثالهم من النساء
والبلة فهؤلاء من القسم الأول كما لا يخفى.
أقول : وممن
حام حول هذا التفصيل في معنى الجاهل ولكن لم يهتد للدخول فيه الفاضل المحقق
الأردبيلي (قدسسره) في شرح الإرشاد حيث قال في هذا المقام : وان كان جاهلا
بالمسألة فقيل حكمه حكم العامد وفيه تأمل إذ الإجماع غير ظاهر والأخبار ليست صريحة
في ذلك ، والنهي الوارد بعدم الصلاة مع النجاسة أو الأمر الوارد بالصلاة مع
الطهارة المستلزم له غير واصل اليه فلا يمكن الاستدلال بالنهي المفسد للعبادة لعدم
علمه به فكيف يكون منهيا عنه؟ ولما هو المشهور من الخبر «الناس في سعة ما لم
يعلموا أو مما لم يعلموا» .
__________________
وما علم شرطية الطهارة في الثوب والبدن للصلاة مطلقا حتى ينعدم بانعدامه مع
ان الإعادة تحتاج الى دليل جديد. إلا ان يقال انه وصل اليه وجوب الصلاة واشتراطها
بأمور فهو بعقله مكلف بالفحص والتحقيق والصلاة مع الطهارة وقالوا شرط التكليف هو
إمكان العلم فهو مقصر ومسقط عن نفسه بأنه لم يعلم فلو كان مثله معذورا للزم فساد
عظيم في الدين ، فتأمل فإن هذا ايضا من المشكلات. انتهى كلامه. أقول : لا اشكال
بحمد الله الملك المتعال بعد ما أوضحناه من التفصيل في معنى الجاهل في هذا المجال
، واما قوله فهو بعقله ففيه انه مكلف بالاخبار ايضا كما عرفت من الاخبار الدالة
على وجوب الفحص والسؤال على الجاهل بالمعنى الثاني وان أيدتها الأدلة العقلية أيضا
، وعليك بالتوثق بهذا التحقيق لتنجو به في جملة من الأحكام من لجج المضيق ، هذا.
واما الاخبار
الدالة على بطلان صلاة العالم العامد فهي كثيرة ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن
الصادق (عليهالسلام) قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة
فعليك إعادة الصلاة وان أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا
اعادة عليك ، وكذلك البول».
وحسنة عبد الله
بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال ان كان علم انه
أصاب ثوبه جنابة قبل ان يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه ان يعيد ما صلى وان كان
يرى أنه اصابه شيء فنظر فلم ير شيئا أجزأه ان ينضحه بالماء».
وصحيحة إسماعيل
الجعفي عن الباقر (عليهالسلام) قال : «في الدم يكون في الثوب الى ان قال وان كان أكثر
من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد
__________________
صلاته وان لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة».
(المقام الثاني)
ـ ان يصلي فيها جاهلا بها والأشهر الأظهر صحة صلاته ، وقال الشيخ في المبسوط يعيد
في الوقت لا في خارجه ونقل عنه انه اختاره في باب المياه من النهاية أيضا ، وقال
في الدروس بعد نقل هذا القول : وحملناه في الذكرى على من لم يستبرئ بدنه وثوبه عند
المظنة للرواية. وظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم وجوب القضاء لو لم يعلم حتى خرج
الوقت ، ونقل ابن إدريس في السرائر وابن فهد في المهذب الإجماع عليه ، ونسبه في
المنتهى الى أكثر علمائنا مؤذنا بالخلاف فيه ، وهو الظاهر ايضا من الخلاف حيث قال
فيه : مسألة ـ إذا صلى ثم رأى على ثوبه نجاسة أو بدنه يتحقق انها كانت عليه حين
الصلاة ولم يكن علمها قبل اختلف أصحابنا في ذلك واختلفت رواياتهم ، فمنهم من قال
تجب الإعادة على كل حال ، وقال بعد ذلك ومنهم من قال ان علم في الوقت أعاد وان لم
يعلم إلا بعد خروج الوقت لم يعد. انتهى. والعجب انه اقتصر على القولين المخالفين
في المسألة ولم ينقل القول المشهور وهو عدم الإعادة مطلقا.
وكيف كان
فالظاهر هو القول الأول للأخبار الكثيرة ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الجعفي
المتقدمتان.
ومنها ـ صحيحة
عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليهالسلام) «عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال ان
كان لم يعلم فلا يعد».
ورواية أبي
بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ
من صلاته ثم علم؟ قال قد مضت صلاته ولا شيء عليه».
وصحيحة زرارة
عن الباقر (عليهالسلام) الطويلة وفيها «قلت فان ظننت
__________________
انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال
تغسله ولا تعيد الصلاة».
ورواية أبي
بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه وهو لا يعلم
فلا اعادة عليه. الحديث».
وحسنة عبد الله
بن سنان المتقدمة إلا ان ما تقدم برواية الشيخ واما برواية الكليني فقل فيها بعد قوله «فعليه ان يعيد ما صلى» «وان كان لم
يعلم فليس عليه اعادة. الى آخر ما تقدم».
وصحيحة علي بن
جعفر المروية في قرب الاسناد عن أخيه (عليهالسلام) وستأتي ان شاء الله تعالى في المطلب الآتي وفيها «وان
كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة ثم ليغسله».
ويؤيده أيضا صحيحة
محمد بن مسلم قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟
قال لا يؤذنه حتى ينصرف».
وصحيحة العيص
بن القاسم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم ان صاحب الثوب أخبره
انه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته».
هذا ما وقفت
عليه من اخبار المسألة وكلها ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة على صحة القول المشهور.
بقي الكلام
فيما ذكره في الدروس من الكلام بالنسبة إلى النجاسة المظنونة والفرق بينها وبين
المجهولة جهلا ساذجا حيث انه فصل في صورة الظن بين الاجتهاد بالنظر وعدمه فأوجب
الإعادة على الثاني دون الأول ، قال في الذكرى بعد نقل صحيحة محمد بن مسلم
المتقدمة المتضمنة لقوله : «وان أنت نظرت في ثوبك. إلخ» ما صورته :
__________________
ولو قيل بعدم الإعادة على من اجتهد قبل الصلاة ويعيد غيره أمكن لهذا الخبر ولقول
الصادق (عليهالسلام) في المني تغسله الجارية ثم يوجد : «أعد صلاتك اما انك
لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء». ان لم يكن احداث قول ثالث. انتهى. واعترضه في
ذلك جملة من المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك.
أقول : ان ظاهر
الشيخين والصدوق القول بذلك وان لم يعثر عليه شيخنا المشار اليه ، ولهم في
الاستدلال عليه ما هو أصرح من دليله ، اما الشيخ المفيد (قدسسره) فإنه قال ـ بعد ان ذكر وجوب الإعادة على من ظن انه صلى
على طهارة ثم انكشف فساد ظنه ـ ما صورته : وكذلك من صلى في الثوب وظن انه طاهر ثم
عرف بعد ذلك انه كان نجسا ففرط في صلاته من غير تأمل له أعاد الصلاة. وظاهر الشيخ
موافقته حيث استدل له بما رواه عن منصور الصيقل عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل وصلى
فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة؟ فقال الحمد لله الذي لم يدع شيئا إلا وقد جعل
له حدا ان كان حين قام نظر فلم ير شيئا فلا اعادة عليه وان كان حين قام لم ينظر
فعليه الإعادة». واما الصدوق فإنه روى في الفقيه مرسلا قال : وقد روى في المني «انه ان كان الرجل حين قام نظر
وطلب فلم يجد شيئا فلا شيء عليه وان كان لم ينظر ولم يطلب فعليه ان يغسله ويعيد
صلاته». ويعضد ما دلت عليه هاتان الروايتان قوله (عليهالسلام) في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة : «وان أنت نظرت في
ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك». الدال بمفهومه على انك
إذا لم تنظر فعليك الإعادة ، ويشير اليه قوله (عليهالسلام) في صحيحة زرارة وان كان في كلام الراوي : «قلت فان
ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله
ولا تعيد
__________________
الصلاة». فإن الجواب بعدم إعادة الصلاة قد ترتب هنا على ظن الإصابة مع
النظر وعدم الرؤية فيفهم منه ترتب الإعادة مع الظن المذكور وعدم النظر.
وبالجملة فظاهر
الروايات المذكورة ولا سيما الأوليين هو ما ذكره أولئك الأجلاء (رضوان الله عليهم)
إلا انه ربما يشكل ذلك باعتبار بناء المصلي على يقين الطهارة فإن الظاهر انه لا
يجب عليه الفحص في الثوب ولا طلب النجاسة متى ظنها أو شك فيها لما يفهم من جملة من
الاخبار وقد تقدمت من النهي عن السؤال عما يشترى من أسواق المسلمين وان ذلك تضييق
للدين وما يستفاد من صحيحة زرارة الطويلة وفيها بعد ما قدمنا نقله هنا منها من
قوله : «قلت فان ظننت أنه أصابه. إلخ» «قلت لم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من
طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا. الى ان قال فهل علي ان
شككت في انه أصابه شيء ان انظر فيه؟ قال لا ولكنك انما تريد ان تذهب عنك الشك
الذي في نفسك. الحديث». وهي صريحة ـ كما ترى ـ في البناء على يقين الطهارة كما هي
القاعدة المطردة المتفق عليها وان النظر في مقام الظن أو الشك انما هو مستحب لا ذهاب
وسوسة الشيطان ، والمراد بالشك في الخبر ما يشمل الظن كما حققناه في محل أليق ،
والمراد بالشك هنا ما يقابل اليقين الشامل للظن والشك بالمعنى المصطلح ، وحينئذ
فيمكن حمل الإعادة في تلك الاخبار على الاستحباب. اللهم إلا ان يقال انه لا منافاة
بين عدم وجوب النظر عليه من أول الأمر ووجوب الإعادة لو ظهرت النجاسة في الصورة
المذكورة لعدم فحصة عنها وطلبه لها وتظهر الفائدة في صحة صلاته مع استمرار
الاشتباه ، ونظيره في الأحكام غير عزيز فان من صلى مع اشتباه الوقت بانيا على ظن
دخوله ثم ظهر خلاف ظنه بان كانت صلاته قبل الوقت فإنه يعيد وان كانت صلاته صحيحة
مع استمرار الاشتباه ، وظاهر رواية منصور ان هذا التفصيل حد شرعي للنجاسة في هذه
الصورة فالمتعدي عنه داخل تحت
__________________
قوله تعالى : «وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ ...» وتحت قولهم (عليهمالسلام) «ان الله عزوجل جعل لكل شيء حدا ولمن تعدى ذلك الحد حدا». وهذه
الروايات لا معارض لها بحسب الظاهر إلا إطلاق الروايات الدالة على عدم وجوب
الإعادة على الجاهل وقضية الجمع توجب تقييد إطلاقها بهذه الروايات لكونها أخص ،
وعلى هذا فتكون الأخبار مخصوصة بالجهل الساذج الخالي من حصول الظن بالكلية ، وبذلك
يظهر قوة القول المذكور ويعضده أنه الأوفق بالاحتياط.
بقي شيء وهو
ان مورد الأخبار المذكورة انما هو نجاسة المني إلا ان ظاهر عبارة الشيخ المفيد
مطلق النجاسة وكذا كلام الشهيد ، وهو كذلك إذ لا خصوصية للمني بذلك. وظاهر الأخبار
المذكورة أيضا الإعادة وقتا وخارجا وهو ظاهر القائلين بذلك ايضا ، هذا.
واما ما ذهب
اليه الشيخ من الإعادة في الوقت فنقل عنه انه استدل عليه بأنه لو علم النجاسة في
أثناء الصلاة وجب عليه الإعادة فكذا إذا علم في الوقت بعد الفراغ. وأجيب عنه بمنع
الملازمة إذ لا دليل عليها. وبالجملة فضعفه أظهر من ان يبين بعد ورود تلك الاخبار
الصحاح والحسان. وأضعف منه القول بالإعادة بعد الوقت.
بقي هنا في
المقام روايتان إحداهما ما رواه الشيخ في الصحيح عن وهب بن عبد ربه عن الصادق (عليهالسلام) «في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم بها صاحبه فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك؟ قال
يعيد إذا لم يكن علم». والثانية ما رواه عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه بول أو جنابة؟ فقال
علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم». وظاهرهما الدلالة على القول
بالإعادة مطلقا ، والشيخ قد أجاب عن الاولى في التهذيب بالحمل على انه إذا لم يعلم
في حال الصلاة وكان قد سبقه العلم بحصول النجاسة في الثوب. ولا يخفى بعده. وحملها
بعض على
__________________
الاستحباب وبعض على الاستفهام الإنكاري بحذف الهمزة وبعض على زيادة حرف
النفي وتوهم الراوي. والثانية حملها الشيخ على عدم العلم حال الاشتغال بالصلاة
وبعض على الاستحباب.
أقول وكيف كان
فهما لا يبلغان قوة المعارضة لما سردناه من الاخبار الصحيحة الصريحة المعتضدة بعمل
الطائفة المحقة قديما وحديثا فهما من المرجأة إلى قائلها (عليهالسلام) حسب ما ورد عنهم من الرد إليهم فيما اشتبه علينا.
والله العالم.
(المقام الثالث)
ـ ان يصلي فيها ناسيا وقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) على أقوال
: ثالثها ان يعيد في الوقت لا في خارجه وهو المشهور بين المتأخرين ، ورابعها
استحباب الإعادة واليه ذهب جملة من متأخري المتأخرين كصاحب المدارك وغيره.
وينبغي ان يعلم
أولا ان ظاهر كلام الأصحاب في هذا المقام الفرق بين نجاسة الاستنجاء وغيرها من
افراد النجاسات ، وذلك فإنهم قد صرحوا بأنه لو صلى ناسيا الاستنجاء فالمشهور وجوب
الإعادة وقتا وخارجا ، وقال ابن الجنيد : إذا ترك غسل البول ناسيا تجب الإعادة في
الوقت وتستحب بعد الوقت. وقال أبو جعفر بن بابويه : ومن صلى وذكر بعد ما صلى انه
لم يغسل ذكره فعليه ان يغسل ذكره ويعيد الوضوء والصلاة ومن نسي ان يستنجي من
الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة. كذا نقله العلامة في المختلف. واما الصلاة في
النجاسة بغير ذلك فالمشهور بين المتقدمين هو وجوب الإعادة وقتا وخارجا حتى ادعى
ابن إدريس عليه الإجماع وذكر بأنه لولا الإجماع لما صار اليه كذا نقل عنه في
المدارك ، والذي وقفت عليه من كلامه في السرائر في هذا المقام خلاف ذلك حيث انه
بعد ذكر المسألة أدمى فيها عدم الخلاف إلا من الشيخ في الاستبصار ، وما ذكره عنه
من قوله لولا الإجماع لما صار اليه ليس له أثر في الموضع المذكور واحتمال نقل صاحب
المدارك عنه من غير السرائر أو منه في غير موضع المسألة بعيد كما
لا يخفى فينبغي التنبيه لا مثال ذلك. وحكى العلامة في التذكرة عن الشيخ في
بعض أقواله عدم الإعادة مطلقا. وفصل الشيخ في الاستبصار بين الوقت وخارجه وتبعه
المتأخرون وصار المشهور بينهم هذا القول ، وبذلك يظهر ان ما ذكره في المدارك في
باب الاستنجاء وحكم الصلاة مع نسيانه من انها من جزئيات هذه المسألة التي نحن فيها
على إطلاقه لا يخلو من نظر ، فإنه ان أراد عند الأصحاب فهو ليس كذلك لما عرفت وان
أراد باعتبار الدليل فيمكن ، وقد تقدم الكلام في الاخبار المتعلقة بالاستنجاء وبسط
البحث فيها في صدر الباب الثاني من الأبواب التي رتب عليها الكتاب.
بقي الكلام في
اخبار هذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عليها وتحقيق البحث فيها :
فنقول ـ وبالله
الثقة لكل مأمول ـ من الأخبار الدالة على الإعادة مطلقا فيها حسنة محمد بن مسلم
الواردة في الدم حيث قال (عليهالسلام) «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت
غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه».
ورواية أبي
بصير في الدم ايضا قال فيها : «وان هو علم قبل ان يصلي فنسي وصلى فيه
فعليه الإعادة».
ورواية سماعة «عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال يعيد صلاته كي يهتم
بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه».
وصحيحة الجعفي
في الدم ايضا قال : «وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه ولم يغسله
حتى صلى فليعد صلاته».
ورواية جميل بن
دراج في الدم ايضا قال : «وان كان قد رآه صاحبه قبل
__________________
ذلك فلا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم».
وصحيحة ابن ابي
يعفور «في نقط الدم
يعلم به ثم ينسى ان يغسله فيصلي فيه ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله
ولا يعيد صلاته إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد صلاته».
وصحيحة زرارة قال : «قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من
مني فعلمت أثره الى ان أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا
وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله. قلت فان لم أكن رأيت موضعه
وعلمت انه قد اصابه فطلبته فلم اقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال تغسله وتعيد».
ورواية ابن
مسكان قال : «بعثت بمسألة الى ابي عبد الله (عليهالسلام) مع إبراهيم بن ميمون قلت اسأله عن الرجل يبول فيصيب
فخذه قدر نكتة من بوله فيصلي فيه ثم يذكر انه لم يغسله؟ قال يغسله ويعيد صلاته».
وصحيحة علي بن
جعفر المروية في قرب الاسناد وكتاب المسائل عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن رجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به
حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال ان كان رآه ولم يغسله فليقض جميع ما فاته على
قدر ما كان يصلي ولا ينقص منه شيء ، وان كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة». ومما
يدل على عدم الإعادة في هذه الصورة صحيحة العلاء عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشيء فينجسه فينسى
أن يغسله فيصلي فيه ثم يذكر انه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال لا يعيد قد مضت
الصلاة وكتبت
__________________
له». وظاهرها عدم الإعادة في الوقت وخارجه بتقريب التعليل المذكور فيها
المشعر بكونها بعد الفراغ منها قد كتبت له لكونها على ظاهر الصحة.
ويظهر من
المحقق في المعتبر الميل الى العمل بمضمونها حيث قال : وعندي ان هذه الرواية حسنة
والأصول تطابقها لانه صلى صلاة مشروعة مأمورا بها فيسقط الفرض بها. ومراده بالحسن
هنا يعني بالنسبة إلى متنها وما تضمنته من الحكم لا الحسن باعتبار السند لان هذا
الاصطلاح في التقسيم للأقسام المشهورة انما وقع بعده وان كان وقع التحدث به في
زمانه كما يشعر به طعنه في الاخبار في المعتبر بضعف الإسناد إلا ان استقرار
الاصطلاح المذكور انما وقع من تلميذه العلامة فلا يتوهم المنافاة في كلامه.
بقي الكلام في
اختياره العمل بهذه الرواية مع ان بإزائها من الأخبار ما عرفت والترجيح في جانب
تلك الأخبار لكثرتها وتعددها واعتضادها بالشهرة بين المتقدمين كما عرفت والمخالف
مجهول القائل كما تقدم ، والشيخ وان خالف في الاستبصار الى ما ذكره من التفصيل بين
الوقت وخارجه إلا انه في جميع كتبه قد وافق الأصحاب كما نقله ابن إدريس في السرائر
حيث انه كما عرفت ادعى الإجماع إلا من الشيخ في الاستبصار ، وبالجملة فإني لا اعرف
لاختياره العمل بهذه الرواية وعدم الجواب عن ما بإزائها وجها.
والشيخ في
الاستبصار قد جمع بين الاخبار بحمل روايات الإعادة على ما إذا ذكر في الوقت ورواية
العلاء على ما إذا ذكر خارج الوقت ، واستدل على هذا الجمع بصحيحة علي بن مهزيار قال : «كتب اليه سليمان بن رشيد يخبره انه بال في ظلمة
الليل وانه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه اصابه ولم يره وانه مسحه بخرقة
ثم نسي أن يغسله وتمسح بدهن ومسح به كفيه ووجهه ورأسه ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى؟
فأجابه بجوابه قرأته بخطه : اما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشيء إلا
__________________
ما تحقق فان حققت ذلك كنت حقيقا ان تعيد الصلوات التي كنت صليتهن بذلك
الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها ، وما فات وقتها فلا اعادة عليك لها من قبل ان
الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت وإذا كان جنبا أو صلى
على غير وضوء فعليه اعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته لان الثوب خلاف الجسد
فاعمل على ذلك ان شاء الله تعالى». وجل المتأخرين قد تبعوه في ذلك.
واعترض هذه
الرواية في المدارك فقال وهي مع تطرق الضعف إليها من حيث السند بجهالة الكاتب
مجملة المتن ايضا ، بل ربما أفادت بظاهرها عدم اعتبار طهارة محل الوضوء وهو مشكل
إلا ان يحمل قوله : «فان تحققت ذلك» على ان المراد ان تحققت وصول البول الى بدنك
على وجه لا يكون في أعضاء الوضوء. انتهى.
أقول وفي ما
ذكروه من الجمع المذكور عندي نظر من وجهين : (أحدهما) ان من جملة أخبار وجوب
الإعادة حسنة محمد بن مسلم المتقدمة وقوله فيها «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من
مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه» وظاهرها كما ترى
انه صلى في النجاسة صلوات كثيرة ، ومن المعلوم ان هذه الصلوات بلفظ الجمع ووصف
الكثرة فأكثرها انما يقع خارج الوقت فالإعادة تقع خارج الوقت البتة فلا يتم ما
ذكروه ، ونحوها صحيحة علي بن جعفر المتقدم نقلها من الكتابين المشار إليهما ثمة ،
فإن ظاهرها عموم الحكم للعامد والناسي في الوقت وخارجه لان فرضه (عليهالسلام) رؤيته وعدم غسله أعم من ان يكون سابقا أو حال الصلاة
ووقوع الأمر بلفظ القضاء والتعبير عن المقضي بقوله : «جميع ما فاته» يعطي ان ذلك
في خارج الوقت وان الفائت صلوات متعددة ، ويؤكده ان فرض الرؤية للنجاسة انما وقع
من الغد بعد مضي تلك الصلوات في اليوم السابق ، وما عدا هذين الخبرين وان كان
مطلقا يقبل التقييد بما ذكروه إلا ان هذين الخبرين لا يقبلان ذلك ، وحينئذ فلا
تنطبق أخبار المسألة على ما ذكروه وبه يظهر بطلانه وإبقاء الأخبار المطلقة على
إطلاقها كما هو المشهور المأثور
و (ثانيهما) ـ ان
ما استندوا إليه في حمل تلك الأخبار على وجوب الإعادة في الوقت من صحيحة علي بن
مهزيار المذكورة فإنه على غاية من الاشكال المانع من الاستناد إليها في الاستدلال
، فإنه لا يخفى على من تأمل في الرواية المذكورة بعين التحقيق ما فيها من
الإشكالات العديدة والاحتمالات البعيدة بل الغير السديدة وبذلك صرح جملة من
الأصحاب في الباب (الأول) ـ أنها تقتضي عدم اشتراط طهارة أعضاء الوضوء قبل ورود
مائه عليها وهو موجب لتنجسه حينئذ فكيف يصح رفع الحدث به؟ (الثاني) ـ ان ذلك
الوضوء الذي قد توضأه اما ان يكون صحيحا أم لا وعلى كلا التقديرين فالمنافاة حاصلة
في البين ، اما على الأول فإن ظاهر امره (عليهالسلام) بإعادة الصلاة التي صلاها بذلك الوضوء بعينه مشعر بأن
منشأ الإعادة فساد الوضوء ، واما على الثاني فلان آخر الخبر دل على ان فساد الوضوء
يقتضي قضاء الفوائت مع انه حكم فيه بان ما فات وقتها فلا اعادة عليه. وقد حمل
بعضهم الوضوء في قوله (عليهالسلام) «بذلك الوضوء بعينه» على التمسح والتدهن قال فإنه معنى
لغوي. ولا يخفى ما فيه من البعد التام (الثالث) ـ ان اليد الماسحة للرأس لا ريب في
تنجسها بملامسة الرأس لنجاسته فتنجس الرطوبة التي عليها (الرابع) ـ قوله : «كنت
حقيقا ان تعيد الصلوات التي كنت صليتهن بذلك الوضوء» يعطي انه لو أحدث عقيب ذلك
الوضوء وتوضأ وضوء آخر وصلى صلوات فإنه لا يعيدها مع ان العلة مشتركة.
وأجاب بعضهم عن
الإشكال الأول بالتزام ذلك قال : لانه لم يقم لنا دليل تام على بطلان الوضوء حينئذ
فلنا ان نلتزم عدم الاشتراط والاكتفاء في إزالة الخبث ورفع الحدث بورود ماء واحد.
انتهى. وفيه مع تسليم صحة ما ادعاه ان المفهوم من الروايات الواردة في تطهير الثوب
والبدن من نجاسة البول وجوب المرتين وهذا القائل من جملة القائلين بذلك فكيف يتم
ما ذكره هنا؟
واما ما أجاب
به في المدارك مما قدمنا نقله عنه وقوله : «إلا ان يحمل قوله فان
تحققت. إلخ» ففيه ان السؤال قد تضمن انه أصاب كفه لم يشك في انه أصابه إلا
ان الامام (عليهالسلام) في الجواب لأجل بيان شقوق المسألة واستيفاء أحكامها
ردد له بين التوهم والتحقيق في اصابة البول اليد فقال ان كان على جهة التوهم فليس
بشيء وان حققت ذلك يعني اصابة البول اليد فالتحقيق راجع الى اصابة البول اليد
فكيف يتم الحمل على تحقيق اصابة البدن على وجه لا يصيب إمضاء الوضوء كما زعمه (قدسسره)؟
وأجيب أيضا عن
الاشكال الثالث بأنه ليس في كلام السائل ما هو نص في استيعاب الرأس بمسح الدهن
فلعل مقدار ما يقع عليه مسح الوضوء لم ينجس بذلك الدهن وهو (عليهالسلام) قد اطلع على ذلك ولا يخفى ما فيه من التكلف والخروج عن
الظاهر إلى أقصى غايات البعد.
وأجاب شيخنا
البهائي في الحبل المتين عن الاشكال الرابع فقال : ولمتكلف ان يقول لعله أراد بذلك
الوضوء بعينه الوضوء النوعي الخاص اعني الواقع بعد التدهن وقبل تطهير البدن ، وهذا
التفصي وان كان كما ترى إلا انه محمل صحيح في ذاته. انتهى وبالجملة فمعنى الخبر
المذكور على غاية من الخفاء وعدم الظهور وارتكاب هذه التمحلات في دفع هذه
الإشكالات لا يجدي نفعا في مقام الاستدلال ، ولقد أجاد المحدث الكاشاني في الوافي
حيث قال بعد نقل الرواية المذكورة : معنى هذا الحديث غير واضح وربما يوجه بتكلفات
لا فائدة في إيرادها ويشبه ان يكون قد وقع فيه غلط من النساخ. انتهى. وبعض فضلاء
المتأخرين جعل بعض هذه الإشكالات المذكورة منشأ الاضطراب الموجب لرد الحديث.
هذا ، واما ما
قدمنا نقله عن المدارك في اعتراضه على سند الرواية فهو منظور فيه بان الاعتماد في
صحة الخبر المذكور انما هو على كلام الثقة الجليل علي بن مهزيار وقوله : «فأجابه
بجواب قرأته بخطه» ويحتمل ان يكون مراده الطعن بجهالة المكتوب اليه كما طعن به جده
في الروض على الرواية المذكورة فحرف قلمه فانصرف الى الكاتب ،
وفيه ايضا ان مثل علي بن مهزيار في جلالة شأنه لا ينسب مثل هذه العبارة الى
غير الامام (عليهالسلام) بل ولا يعتمد على غيره في شيء من الأحكام كما صرحوا
به (رضوان الله عليهم) في أمثال هذا المقام.
وصار جماعة من
فضلاء متأخري المتأخرين لما رأوا ما في جمع الشيخ من الاختلال الى الجمع بين
الأخبار بحمل أخبار الإعادة على الاستحباب والظاهر انهم قد اقتفوا في ذلك المحقق (قدسسره) في المعتبر حيث اختار القول بعدم وجوب الإعادة فجعلوا
التأويل في جانب أخبار الإعادة بحملها على الاستحباب ، قال في المدارك بعد كلام في
المسألة : والأظهر عدم وجوب الإعادة لصحة مستنده ومطابقته لمقتضى الأصل والعمومات
وحمل ما تضمن الأمر بالإعادة على الاستحباب. انتهى.
وفيه (أولا) ـ ما
قدمنا ذكره في غير موضع من انه لا مستند لهذا الجمع وان تكرر منهم في جميع أبواب
الفقه بل ظواهر القواعد الأصولية المبتني عليها عندهم تقتضي رده فان ظواهر الاخبار
الوجوب بلا خلاف والحمل على الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة واختلاف
الاخبار ليس من قرائن المجاز ، ولان الاستحباب حكم شرعي يحتاج ثبوته الى الدليل
الواضح ومجرد اختلاف الاخبار لا يوجب ذلك.
و (ثانيا) ـ ان
الأمر بالإعادة قد ورد في اخبار متعددة ونجاسات متفرقة ومقامات متباينة وفيها
الصحيح والحسن والموثق وغيرها كما تقدم لك ذكره وما استند اليه رواية واحدة وان صح
سندها ، ومن القواعد المقررة في كلام أهل العصمة (عليهمالسلام) الترجيح بالشهرة يعني في الرواية سيما مع اعتضادها
بالشهرة في الفتوى فكيف يصح الحكم بترجيح تلك الرواية على هذه الأخبار والحال كما
عرفت؟ ولا يخفى ان ترجيحها على هذه الاخبار والحال ان فيها الصحيح باصطلاحه خلاف
قاعدته التي بنى عليها في أكثر المواضع من شرحه ، واعتضاد تلك الرواية بالعمومات
ومطابقة مقتضى الأصل غير مجد هنا فإن الأصل يجب الخروج عنه بمقتضى الدليل والعمومات
يجب تخصيصها ،
وبالجملة فإنه لما تعارضت هذه الرواية وباقي أخبار المسألة وكان الترجيح في
جانب الأخبار المذكورة لما ذكرناه من الوجوه فإنه لا يبقى للتمسك بهذا الأصل ولا
بالعمومات وجه كما لا يخفى.
و (ثالثا) ـ ان
موثقة سماعة التي هي من جملة أخبار الإعادة قد دلت بعد الأمر بالإعادة على ان ذلك
عقوبة لنسيانه بمعنى تهاونه بالإزالة حتى ادى الى نسيانها والصلاة فيها وإلا
فالنسيان من حيث هو لا يترتب عليه عقوبة ، والظاهر ان العقوبة لا تجامع الاستحباب
الذي يجوز معه الترك اختيارا.
وبالجملة
فالظاهر عندي هو القول المشهور إلا انه يبقى الإشكال في صحيحة العلاء وما الذي
ينبغي ان تحمل عليه ، وكيف كان فالاحتياط في جانب القول المشهور وبه يظهر ترجيحه
لو تعارضت الاخبار على وجه لا يمكن ترجيح أحد طرفيها ، وان الاحتياط عندنا في مثل
ذلك واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب. والله العالم.
(المقام الرابع)
ـ ان يرى النجاسة وهو في الصلاة ، والحال هنا دائرة بين أمرين فاما ان يعلم سبق
النجاسة على الدخول في الصلاة بإحدى القرائن والأمارات الدالة على ذلك وان كان حال
دخوله في الصلاة جاهلا بها أم لا ، فههنا صورتان :
(الاولى) ـ ان
يعلم سبقها ، والمشهور بين الأصحاب ـ وبه قطع الشيخ في النهاية والمبسوط والمحقق
وغيرهما ـ انه يجب عليه ازالة النجاسة أو إلقاء الثوب النجس وستر العورة بغيره مع
الإمكان وإتمام الصلاة وان لم يمكن إلا بفعل المبطل أبطلها واستقبل الصلاة ، قال
في المعتبر : وعلى قول الشيخ الثاني يستأنف. وأشار بالقول الثاني الى ما تقدم نقله
عن المبسوط من اعادة الجاهل لو علم في الوقت ، قال في المدارك ويشكل بمنع الملازمة
إذ من الجائز ان تكون الإعادة لوقوع الصلاة بأسرها مع النجاسة ولا يلزم مثله في
البعض ، وبان الشيخ قطع في المبسوط بوجوب المضي في الصلاة مع التمكن من إلقاء
الثوب وستر العورة بغيره مع حكمه فيه بإعادة الجاهل في الوقت. انتهى. وهو جيد.
(الثانية) ـ ان
لا يعلم السبق والحكم فيها عند الأصحاب كما في سابقتها بل هي أولى كما لا يخفى ،
ونقل في المدارك هنا ايضا عن المعتبر انه قطع بوجوب الاستئناف هنا بناء على القول
بالإعادة على الجاهل في الوقت ، ثم قال في المدارك وهو أشكل من السابق.
أقول : وتحقيق
الكلام في المقام يتوقف على نقل جملة الأخبار المتعلقة بالمسألة وتذييل كل منها
بما هو الظاهر من سياقه وبيان ما هو الحق في المسألة :
والذي وقفت
عليه من الاخبار روايات : (الأولى) ـ صحيحة زرارة المذكورة حيث قال في آخرها «قلت ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟
قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان لم تشك ثم رأيته رطبا
قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس
ينبغي ان تنقض اليقين بالشك».
وظاهر الخبر
المذكور التفصيل بعد رؤية النجاسة بأنه ان كان قد حصل له ظن بالنجاسة قبل دخوله في
الصلاة وصلى والحال هذه فإنه تجب عليه الإعادة ، وينبغي تقييده بما إذا لم ينظر في
الثوب بعد ظنه لانه (عليهالسلام) قد قدم في الخبر انه مع الظن والنظر في الثوب وعدم
رؤية النجاسة ثم يجدها بعد ذلك فلا اعادة عليه ، وان لم يحصل له ظن بالنجاسة بل
كان خالي الذهن من ذلك ثم علم في أثناء الصلاة فإن الحكم فيه ما ذكره من إزالة
النجاسة والبناء على ما صلى ، وفي حكمه إلقاء الثوب الذي فيه النجاسة والاستتار
بغيره إن أمكن ، والحكم في الصورة الأولى مخالف لما عليه الأصحاب (رضوان الله
عليهم) من المضي في الصلاة بعد طرح النجاسة أو غسلها إن أمكن إلحاقا لرؤية النجاسة
في الأثناء مع الجهل بها سابقا بالرؤية بعد الصلاة مع الجهل كذلك فإنه إذا صحت
الصلاة كملا بالنجاسة في الصورة المذكورة فبعضها مع استدراك الباقي أولى إلا
__________________
انه موافق ومعاضد لما قدمناه من التحقيق في المقام الثاني وان حكم بعض
الصلاة حكمها كملا في التفصيل المتقدم. وقال (عليهالسلام) في الرواية المذكورة كما تقدم «وان لم تشك ثم رأيته
رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك
فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك» ومن هذا الكلام يستفاد دليل الصورة الثانية.
وغاية ما استدل به في المدارك في هذه الصورة الأصل السالم عما يصلح للمعارضة وغفل
عن الصحيحة المذكورة.
الثانية ـ حسنة
محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) انه قال له : «الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟
فقال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره ، وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض
في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم فان كان أقل من درهم فليس بشيء
رأيته أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت
فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه ، وليس ذلك بمنزلة المني والبول ، ثم ذكر المني
فشدد فيه وجعله أشد من البول ، ثم قال (عليهالسلام) ان رأيت المني قبل أو بعد فعليك إعادة الصلاة ، وان
أنت نظرت ثوبك فلم تصبه وصليت فيه فلا اعادة عليك وكذلك البول» هكذا رواه الصدوق
في الفقيه . ورواه ثقة الإسلام في الكافي أيضا كذلك الى قوله : «فأعد ما صليت فيه». ورواه الشيخ
في التهذيب إلا ان فيه هكذا «ولا اعادة عليك وما لم يزد على مقدار
الدرهم من ذلك فليس بشيء». بزيادة الواو وحذف جملة «فإن كان أقل من درهم» وفي
الاستبصار حذف الجملة المذكورة ولم يزد الواو ، وكيف كان
فالاعتماد على رواية الشيخين المذكورين بل أحدهما لو لم يكن إلا هو إذ لا يخفى على
من لاحظ التهذيب وما وقع للشيخ فيه من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان في متون
__________________
الاخبار وأسانيدها ترجيح ما ذكره غيره من المحدثين ولا ريب ان هذا من جملة
ذلك.
ثم انه قد دل
صدر الخبر المذكور على انه إذا رأى الدم في ثوبه وهو في الصلاة فإن كان عليه ثوب
غيره طرح الثوب النجس وأتم صلاته وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب إلا انهم خيروا
فيما إذا لم يكن عليه إلا ذلك الثوب النجس بين إزالة النجاسة وإلقاء الثوب النجس
والستر بغيره إن أمكن ، وظاهر الخبر ان الحكم في المسألة ما ذكرنا وان علم سبق
النجاسة ببعض القرائن المفيدة لذلك ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا كما تقدم ، وان لم
يكن عليه ثوب غيره ولم يمكنه إزالة النجاسة كما ذكره الأصحاب ودلت عليه صحيحة
زرارة ولا الاستبدال مضى في صلاته بذلك الدم الذي في الثوب إذا كان الدم مما يعفى
عنه بان لم يزد على مقدار الدرهم ومفهومه انه إذا لم يكن مما يعفى عنه فإنه يقطع
صلاته ويعيدها من رأس ، وبالجملة فظاهر الخبر هو انه بعد الرؤية ان أمكن إزالة
النجاسة بأي الوجوه المتقدمة وإلا قطع الصلاة وإطلاقه يقتضي عموم ذلك لما لو علم
بالتقدم أو لم يعلم ، وهو موافق لما افتى به الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه
الصورة والصورة الثانية فتكون الرواية دليلا لكل منهما. واما قوله : «وإذا كنت قد
رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله» فقد تقدم حكمه في المقام الثالث واما
قوله : «ان رأيت المني قبل أو بعد. الى آخر الخبر» فالظاهر ان معناه ان رأيت المني
قبل الدخول في الصلاة ثم صليت فيه عامدا أو ناسيا فعليك الإعادة ، وهذا مما لا
اشكال فيه كما تقدم ذكره في المقام الأول والثالث. بقي الكلام في رؤيته بعد الدخول
وهو (عليهالسلام) قد رتب عليه ايضا وجوب الإعادة كما إذا رآه قبل ويجب
تقييده بحصول العلم بتقدمه بل هو الظاهر من المني لأنه ليس من قبيل سائر النجاسات
التي يحتمل وقوعها عليه في أثناء الصلاة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد المذكور ، ثم
فصل (عليهالسلام) في الرؤية البعدية بعد حكمه بالإعادة بأنه ان نظر فلم
يصبه فلا اعادة عليه ، وهذا التفصيل نظير ما تقدم في صحيحة زرارة المتقدمة وهو
مؤيد لما حققناه في المقام الثاني
وان خالف مقتضى ما عليه كلمة جمهور الأصحاب من عدم الإعادة مطلقا ، وحينئذ
فصدر الخبر محمول على الجهل الساذج الذي لا ظن فيه أو عدم العلم بالتقدم.
وبالجملة
فالمتلخص من هذين الخبرين هو الحكم بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في غير
صورة حصول الظن بالنجاسة وعدم النظر في الثوب فإنهما دلا على وجوب الإعادة في هذه
الصورة خاصة ويعضدهما في ذلك الخبر ان المتقدمان في المقام المذكور
الثالثة ـ موثقة
أبي بصير عن الصادق (عليهالسلام) «في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به؟ قال عليه ان يبتدئ الصلاة».
وربما حملت على من علم بالنجاسة ثم صلى فيها ناسيا أو على الاستحباب ، والأظهر
حملها على ما دل عليه عجز صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة من الصلاة في الجنابة بعد
حصول الظن بها من غير نظر في الثوب فتكون من جملة أخبار المسألة المذكورة.
الرابعة ـ ما
رواه الشيخ عن داود بن سرحان عن الصادق (عليهالسلام) «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما قال يتم».
الخامسة ـ ما
رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن علي بن محبوب
عن ابن سنان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «ان رأيت في ثوبك دما وأنت تصلي ولم تكن رأيته
قبل ذلك فأتم صلاتك فإذا انصرفت فاغسله ، قال وان كنت رأيته قبل ان تصلي فلم تغسله
ثم رأيته بعد وأنت في صلاتك فانصرف واغسله وأعد صلاتك».
والخبر الأول
حمله الشيخ على ما إذا كان الدم مما يعفى عنه كالاقل من الدرهم ، وهو جيد في مقام
الجمع إلا ان الخبر الثاني لا يقبل هذا التأويل لأمره (عليهالسلام) بالإعادة متى صلى فيه ناسيا ، والظاهر شذوذ الخبرين
المذكورين لمخالفتهما الأخبار المستفيضة عموما وخصوصا لان اخبار هذه المسألة ما
بين صريح في الإبطال أو صريح
__________________
في وجوب إزالة النجاسة أو طرح الثوب النجس والاستبدال والاخبار العامة دالة
على بطلان الصلاة في النجاسة عامدا فكيف يجوز الإتمام في النجاسة كما يدل عليه
ظاهر الخبرين ومخالفتهما لما عليه علماء الطائفة المحقة قديما وحديثا؟ فهما مرجئان
الى قائلهما.
السادسة ـ صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلا يغسله فذكر
وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته
فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه أثره فيغسله».
وهذا الخبر وان
كان لا يخلو من نوع إجمال إلا ان الظاهر بعد التأمل فيه ان الأمر بالمضي مبني على
كون الملاقاة إنما وقعت مع اليبوسة وهو موجب للنضح خاصة ولما كان في الصلاة امره
بالمضي فيها للطهارة بقرينة قوله : «وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من
ثوبه» فحاصل الكلام انه ان ذكر في الصلاة فليمض وان لم يدخل فلينضح غاية الأمر انه
(عليهالسلام) في صورة عدم الدخول في الصلاة بين له حكما آخر وهو انه
في حال النضح ان رأى فيه أثرا بسبب الملاقاة غسله ، وبالجملة فهذا الاستثناء انما
هو قيد للأخير خاصة كما لا يخفى على العارف بأسلوب الكلام.
هذا ما وقفت
عليه من اخبار المسألة وخلاصة البحث فيها ، ولصاحب المدارك هنا كلام لا بأس بإيراده
وبيان ما فيه فإنه قال بعد الكلام في المسألة : وقد اختلفت الروايات في ذلك فروى
زرارة في الصحيح عن الباقر (عليهالسلام) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني ،
والحديث طويل قال في آخره : قلت فإن رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض
الصلاة». وروى محمد بن مسلم في الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل
__________________
في الصلاة فعليك إعادة الصلاة». ومقتضى هاتين الروايتين تعين القطع مطلقا
سواء تمكن من إلقاء الثوب وستر العورة بغيره أم لا ، وروى محمد بن مسلم في الحسن قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟
قال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا
اعادة عليك». وروى علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير. ، ثم ساق
الرواية المتقدمة ثم قال ومقتضى هاتين الروايتين وجوب المضي في الصلاة
إذا لم يكن عليه غيره أو كان وطرح الثوب النجس ، والجمع بين الروايات يتحقق بحمل
ما تضمن الأمر بالاستيناف على الاستحباب وان جاز المضي في الصلاة مع طرح الثوب
النجس إذا كان عليه غيره وإلا مضى مطلقا ، ولا بأس بالمصير الى ذلك وان كان
الاستئناف مطلقا اولى. انتهى.
وفيه (أولا) ـ ان
ما ذكره من ان مقتضى صحيحتي زرارة ومحمد بن مسلم تعين القطع مطلقا وان أوهمه ما
نقله من الروايتين حيث اقتصر منهما على هاتين العبارتين إلا أنك بالتأمل في
سياقهما كما قدمناهما يظهر لك بطلان ما ذكره ، وهذا أحد العيوب في الاستدلال
بالاخبار حيث يقتطع منها ما يظن دلالته ويترك باقي الخبر ، اما صحيحة زرارة فإنه قال
فيها بعد هذه العبارة «وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وان لم تشك. الى آخره».
فقيد (عليهالسلام) نقض الصلاة والإعادة بصورة ظن النجاسة كما أسلفنا
تحقيقه ومع عدم الظن امره (عليهالسلام) بإزالة النجاسة والبناء واين هذا مما يدعيه من القطع
مطلقا؟ واما صحيحة محمد بن مسلم فإنه قال فيها بعد ما نقله منها «وان نظرت في
ثوبك. الى آخره» وظاهرها كما قدمنا إيضاحه ان الإعادة مع الرؤية بعد الصلاة انما
هو مع عدم النظر في الثوب لا مطلقا ، ولكن العذر له واضح
__________________
حيث انه وغيره لم يحوموا حول هذا المعنى ولم يتوجهوا اليه وان كانت
الروايات ظاهرة الدلالة عليه.
و (ثانيا) ـ ان
ما ادعاه ـ من ان مقتضى روايتي محمد بن مسلم وعلي بن جعفر وجوب المضي في الصلاة
والصلاة في النجاسة إذا لم يكن عليه غيره ـ ليس في محله اما حسنة محمد بن مسلم
فإنه بنى فيها على نقل الشيخ في التهذيب بل غيره من أصحاب كتب الاستدلال انما
نقلوها برواية التهذيب وعليه بنى استدلاله هنا ، وقد عرفت آنفا صورة رواية الشيخين
المتقدمين لها فإنه على تقدير ما روياه ـ وهو الأصح ـ لا يتم ما ذكره لانه (عليهالسلام) قيد الحكم بعدم الإعادة بما إذا لم يزد على مقدار
الدرهم ، وحاصله ان عدم الإعادة من حيث العفو عن ذلك الدم ومفهومه وجوب الإعادة مع
الزيادة ، فأين ما ذكره من الدلالة على وجوب المضي في الصلاة مع النجاسة؟ وعذره
هنا ايضا واضح لعدم اطلاعه على الرواية المذكورة بنقل الشيخين إلا ان ذلك من مثله
من المحققين لا يخلو من مجازفة فان الواجب مراجعة كتب الاخبار كملا سيما مع
اعترافه في شرحه بما وقع للشيخ (قدسسره) من التساهل والخبط في الروايات متونا وأسانيد واما
صحيحة علي بن جعفر فقد عرفت المعنى فيها وهو الأوفق بمقتضى الأصول الشرعية
والضوابط المرعية ، فان إتمام الصلاة في النجاسة عمدا من غير عذر شرعي بعد العلم
بها مما منعت منه الأدلة الصحيحة الصريحة عموما وخصوصا. وكان الاولى له الاستناد
في هذا القول إلى موثقة أبي بصير ورواية السرائر المتقدمتين الدالتين على المضي في
النجاسة وإتمام الصلاة بها. وممن ساعدنا على ما ذكرناه في معنى صحيحة علي بن جعفر
المحقق الشيخ حسن في المعالم حيث قال بعد نقل الخبر : قوله في هذا الحديث «ان كان
دخل في صلاته الى قوله فلينضح» أراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة
قوله : «إلا ان يكون فيه اثر فيغسله» انتهى. و (ثالثا) ـ ان ما ذكره من الجمع
بالاستحباب الذي اتخذوه قاعدة كلية في
جميع الأبواب قد عرفت ما فيه مما قدمناه في غير موضع من الكتاب.
واما ما ذكره
الأصحاب في الصورتين المتقدمتين من انه إذا لم يمكن إزالة النجاسة إلا بما يستلزم
بطلان الصلاة فإنه يبطلها ويعيدها من رأس فإنه يدل عليه جملة من اخبار الرعاف كما
ستأتي ان شاء الله تعالى في موضعها.
بقي الكلام هنا
في مواضع (الأول) لو علم بالنجاسة المعلوم سبقها في أثناء الصلاة ولكن الوقت يضيق
عن الإزالة والاستئناف فهل يجب الاستمرار في الصلاة أو يزيل النجاسة وان لزم
القضاء؟ قطع الشهيد في البيان بالأول ومال إليه في الذكرى موجها له باستلزامه
القضاء المنفي ، قال في المدارك بعد نقله عنه : ويشكل بانتفاء ما يدل على بطلان
اللازم مع إطلاق الأمر بالاستيناف المتناول لهذه الصورة ، ثم قال والحق بناء هذه
المسألة على ان ضيق الوقت عن إزالة النجاسة هل يقتضي انتفاء شرطيتها أم لا؟ بمعنى
ان المكلف إذا كان على بدنه أو ثوبه نجاسة وهو قادر على الإزالة لكن إذا اشتغل بها
خرج الوقت فهل يسقط وجوب الإزالة ويتعين فعل الصلاة بالنجاسة أو يتعين عليه
الإزالة والقضاء لو خرج الوقت؟ وهي مسألة مشكلة من حيث إطلاق النصوص المتضمنة
لإعادة الصلاة مع النجاسة المتناول لهذه الصورة ومن ان وجوب الصلوات الخمس في
الأوقات المعينة قطعي واشتراطها بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير معلوم فلا يترك
لأجله المعلوم. وقد سبق نظير هذه المسألة في التيمم إذا ضاق الوقت عن الطهارة
المائية والأداء مع وجود الماء عنده. انتهى.
أقول : الظاهر
ان ما ذكره من الاشكال لا ورود له في هذا المجال وذلك فإنه لا ريب ان وجوب الصلاة
في الأوقات المعينة لها شرعا أمر قطعي كتابا وسنة وإجماعا من كافة الأمة غاية
الأمر ان صحتها مشروطة بشروط : منها استقبال القبلة ومنها ستر العورة ومنها طهارة
الساتر ، وقد صرحوا من غير خلاف يعرف بان شروط الصحة انما تعتبر مع الإمكان فلو
تعذر شيء منها لم يوجب سقوط الصلاة ولا تأخيرها عن وقتها الى ان
يحصل الشرط ثم يأتي بها قضاء ولا ريب ان ما نحن فيه من هذا القبيل فلو جاز
تأخير الصلاة عن وقتها للاشتغال بإزالة النجاسة ثم الصلاة قضاء لجاز لفاقد القبلة
أو فاقد الستر أو طهارته تأخير الصلاة عن وقتها الى ان يحصل الشرط المذكور ثم يصلي
قضاء ولا قائل به ولا دليل عليه بل الأدلة وإجماعهم على خلافه ، فان فاقد القبلة
يصلي الى أربع جهات أو جهة واحدة على الخلاف وفاقد الستر يصلي عريانا وفاقد طهارته
يصلي مع النجاسة أو عريانا على الخلاف ، وبالجملة فهذه المسألة من قبيل هذه
المسائل المذكورة ولو جاز تقديم مراعاة الشرط فيما نحن فيه لجاز في تلك الصور لان
الجميع من باب واحد وليس فليس.
واما ما ذكره ـ
من إطلاق الأخبار الذي صار منشأ لاستشكاله في المقام المتضمنة لإعادة الصلاة مع
النجاسة الشامل إطلاقها لهذه الصورة ـ ففيه (أولا) ـ انه حقق جملة من المحققين ان
الأحكام المودعة في الأخبار انما تحمل على الافراد المتكررة الشائعة المتكثرة فهي
التي ينصرف إليها الإطلاق دون الفروض النادرة الوقوع.
و (ثانيا) ـ انه
مع فرض شمول إطلاقها لهذه الصورة فإنه يجب تقييدها بما ذكرناه من القاعدة المتفق
عليها نصا وفتوى ، وحينئذ فيجب حمل الأخبار المشار إليها على ما لو حصل رؤية
النجاسة في أثناء الصلاة في الوقت الذي فيه سعة للإزالة والإعادة دون هذا الفرد
النادر الوقوع الذي ربما لا يتفق وان كان ممكنا ، وبذلك يظهر ان الأنسب بالقواعد
الشرعية هو وجوب الصلاة بالنجاسة. نعم يأتي على الخلاف في مسألة الصلاة في النجاسة
مع تعذر إزالتها من الصلاة فيها أو الصلاة عاريا احتمال الصلاة عاريا هنا ايضا بناء
على القول به ثمة ، إلا انه حيث ان المسألة خالية من النصوص فالأحوط فيها مع ذلك
القضاء في ساتر طاهر ، هذا.
ولا يخفى عليك
ما في كلام السيد من التدافع حيث انه ذكر في أول وجهي الاشكال ان إطلاق النصوص
المتقدمة المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة متناول لهذه الصورة
ثم ذكر في الوجه الثاني ان اشتراط الصلاة بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير
معلوم ، وهو مما يدافع الكلام الأول فإن دخول هذه الصورة تحت إطلاق تلك الأخبار
يقتضي المعلومية البتة فان اعادة الصلاة مع النجاسة التي من جملته محل البحث انما
هو لاشتراطها بإزالة النجاسة ، نعم معلومية الاشتراط على هذا الوجه لا يبلغ إلى
معلومية وجوب الصلوات الخمس في الأوقات المعينة إلا انه غير المراد من عبارته ،
وقد تقدم منا في بحث التيمم ما يعضد ما صرنا اليه هنا ايضا. والله العالم.
(الثاني) ـ لو
وقعت عليه نجاسة في أثناء الصلاة ثم زالت ولما يعلم ثم علم استمر على صلاته وهو
مما لا اشكال فيه لأنه إذا جاز الاستمرار مع العلم بها في الأثناء والإزالة كما في
الصورة الثانية بل مع العلم بتقدمها والإزالة كما في الصورة الأولى فبالأولى هذه
الصورة.
(الثالث) ـ لو
صلى ثم رأى النجاسة وشك هل كانت عليه في الصلاة أم لا؟ فلا ريب في مضي صلاته على
الصحة لعدم معارضة هذا الشك لليقين الذي كان عليه ، قال في المنتهى بعد ذكر الفرع
المذكور : ولا نعرف فيه خلافا من أهل العلم عملا بالأصلين الصحة وعدم النجاسة.
(المطلب الثاني)
ـ في باقي المطهرات وفيه مسائل (الاولى) من المطهرات عند الأصحاب (رضوان الله
عليهم) الشمس الا انه قد اختلف كلامهم هنا في مواضع ثلاثة : (الأول) ان ما تجففه
الشمس هل هو طاهر حقيقة كما يطهر بالماء أو يكون مخصوصا بجواز الاستعمال مع
اليبوسة فيكون عفوا لا طهارة حقيقة؟ (الثاني) ما الذي يطهر بها من النجاسات هل هو
البول بخصوصه أم كل نجاسة ليس لها جرم يبقى بعد اليبوسة؟ (الثالث) ما الذي يطهر
بها من المواضع؟
وقد صرح جماعة
من الأصحاب : منهم ـ المحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه والشهيدان ـ والظاهر
انه المشهور بين المتأخرين ـ ان الأرض إذا أصابتها
نجاسة برطوبة ولم يكن لها عين كفى في طهارتها إشراق الشمس عليها وتجفيفها
للرطوبة الحاصلة فيها ، وكذا لو كانت لها عين فازيلت بوجه غير مطهر وبقيت رطوبتها
ثم جففتها الشمس ، وألحقوا بالأرض في هذا الحكم كل ما لا ينقل ولا يحول في العادة
كالأشجار والابنية والأبواب المثبتة والأوتاد الداخلة والفواكه على الشجر ومن
المنقول الحصر والبواري لا غير. وذهب العلامة في المنتهى الى الاختصاص بنجاسة
البول مع وقوعها على ما تقدم ذكره في القول المشهور ، ونقل بعض الأصحاب عنه في
التحرير ان ظاهره فيه التوقف في تعدية الحكم الى غير البول ، ونقل في المنتهى عن
الشيخ في موضع من المبسوط التخصيص بالبول ايضا ، وذهب المحقق في النافع الى العموم
في النجاسة مع تخصيص ما وقعت عليه بالأرض والحصر والبواري ، وهو قول الشيخ في
الخلاف حيث قال في موضع منه : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت
عليها الشمس وهبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة طهرت وقال في موضع آخر منه بعد
الحكم بطهارة الأرض بتجفيف الشمس لها من نجاسة البول : وكذا الكلام في الحصر
والبواري. وذهب الشيخ المفيد (قدسسره) في المقنعة ـ ونقل ايضا عن سلار في رسالته ـ الى القول
بالاختصاص بالبول مع الثلاثة المذكورة من الأرض والحصر والبواري ، ونقل العلامة في
المختلف عن القطب الراوندي انه قال : الأرض والبارية والحصر هذه الثلاثة فحسب إذا
أصابها البول فجففتها الشمس حكمها حكم الطاهر في جواز السجود عليها ما لم تصر رطبة
ولم يكن الجبين رطبا. وقال المحقق في المعتبر ان الراوندي وصاحب الوسيلة ذهبا الى
ان الأرض والبواري والحصر إذا أصابها البول وجففتها الشمس لا تطهر بذلك ولكن يجوز
الصلاة عليها ، ثم قال وهو جيد. ونقله عنه في المختلف ايضا فقال بعد نقل قول
الراوندي : وكان شيخنا أبو القاسم بن سعيد يختار ذلك. والى القول بالعفو ذهب
المحدث الكاشاني ، وظاهر صاحب المدارك التوقف في المسألة وهو في محله كما سيظهر لك
ان شاء الله تعالى.
وكيف كان فلا
بد من سوق روايات المسألة وتذييل كل منها بما تدل عليه وما يتلخص من الجميع وما
يرجع اليه ، والذي وقفت عليه من ذلك روايات : منها ـ ما هو ظاهر في الطهارة ومنها
ـ ما هو ظاهر في العدم ومنها ـ ما هو مجمل قابل للدخول تحت كل من الفردين
المذكورين ، وها انا اذكر ما وقفت عليه منها مذيلا لكل منها بما ادى اليه فهمي
القاصر :
الأولى ـ صحيحة
زرارة قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلى فيه؟
فقال إذا جففته الشمس فصل عليه فهو طاهر».
أقول : ومورد
هذه الرواية هو نجاسة البول خاصة مع خصوص الأرض وهو مما وقع الاتفاق عليه ،
وظاهرها الحكم بالطهارة كما هو المشهور ، والمناقشة فيها ـ بالحمل على المعنى
اللغوي لعدم ثبوت كون المعنى المصطلح عليه حقيقة عرفية عندهم (عليهمالسلام) كما صار اليه المحدث المتقدم ذكره حيث اختار القول
بالعفو ـ فالظاهر بعدها من سياق الخبر المذكور وان سلم ما ذكره من عدم ثبوت
الحقيقة العرفية عندهم (عليهمالسلام) إلا ان قرينة السياق ظاهرة الدلالة على ان المراد
بالطهارة هي الطهارة الشرعية لأنها هي المعتبرة في أحكام الصلاة مكانا أو لباسا
سيما مع تعلق السؤال بالنجاسة ، ويؤيده إطلاق الأمر بالصلاة عليه بعد تجفيف الشمس
الشامل لكونه بعد التجفيف وحال الصلاة رطبا ويابسا بمعنى انه متى جف بالشمس جازت
الصلاة عليه رطبا كان أو يابسا لحصول الطهارة بالتجفيف الحاصل من الشمس ثم أكد ذلك
بقوله : «فهو طاهر» وبالجملة فالخبر عندي ظاهر في الطهارة إلا انه سيأتي ما هو
ظاهر في المعارضة.
الثانية ـ رواية
أبي بكر الحضرمي عن الباقر (عليهالسلام) قال : «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر».
وهي ـ كما ترى
ـ ظاهرة في القول المشهور من طهارة الأرض والحصر والبواري
__________________
وما لا ينقل ولا يحول ، وهي وان كانت مطلقة بالنسبة الى ما زاد على ذلك إلا
انه لا بد من تقييدها بما ذكروه لان ما لا ينقل ويحول لا بد من غسله بالأدلة
الكثيرة ، وكذلك بالنسبة إلى النجاسة فإن إطلاقها شامل لجميع النجاسات ، وبالجملة
فإنها ظاهرة الدلالة على القول المشهور وان أمكن تطرق المناقشة إلى الطهارة فيها
بالتأويل المتقدم إلا انه خلاف الظاهر. والعلامة في المنتهى حيث خص النجاسة في هذه
المسألة بالبول رد هذه الرواية بضعف السند وهو عندنا غير مرضى ولا معتمد مع انه
استدل بها في المختلف على العموم. ويعضد هذه الرواية أيضا ما في الفقه الرضوي حيث
قال (عليهالسلام) «ما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شيء من النجاسات مثل البول
وغيره طهرتها واما الثياب فإنها لا تطهر إلا بالغسل». وهي ظاهرة تمام الظهور في
القول المشهور.
الثالثة ـ صحيحة
محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول أو ما أشبهه
هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال كيف يطهر من غير ماء».
وهذه الرواية ـ
كما ترى ـ ظاهرة الدلالة على ما ذهب إليه الراوندي ومن حذا حذوه من عدم الطهارة
وانما هو عفو ، وقد احتج بها العلامة في المختلف للقائلين بعدم الطهارة بعد ان نقل
عنهم الاحتجاج بان الاستصحاب يقتضي الحكم بالنجاسة وتسويغ الصلاة لا يدل على
الطهارة لجواز ان يكون معفوا عنه كما في الدم اليسير. ثم أجاب عن الاستصحاب بان
الاستصحاب ثابت مع بقاء الأجزاء النجسة اما مع عدمها فلا والتقدير عدمها بالشمس. وعن
الرواية بأنها متأولة لجواز حصول اليبوسة من غير الشمس. وفيه ان ما أجاب به عن
الاستصحاب هنا لا يوافق مذهبه في الأصول من القول بحجية الاستصحاب كما هو المشهور
بينهم ، وبذلك اعترض عليه أيضا في المعالم فقال : وهذا الكلام من العلامة غريب إذ
المعروف من مذهبه قبول مثل هذا الاستصحاب والاعتداد به نعم هو
__________________
على ما سلف تحقيقه في المباحث الأصولية واخترناه وفاقا للمرتضى والمحقق من
الاستصحاب المردود.
أقول : الظاهر
عندي هنا هو صحة الاستدلال بالاستصحاب المذكور فان مرجعه الى عموم الدليل كما تقدم
تحقيقه في مقدمات الكتاب فان مقتضى الأدلة ان النجاسة حكم شرعي يتوقف رفعه على
وجود الرافع والنجاسة قد ثبتت بلا خلاف ولا اشكال فرفعها يحتاج الى دليل ظاهر ،
واما ما ذكره في المعالم ـ من عد الاستصحاب هنا من الاستصحاب المردود الذي قد
أوضحنا في مقدمات الكتاب بطلانه ـ فهو مبني على قول تفرد به في هذا المقام ولم اعرف
له موافقا عليه من علمائنا الأعلام إلا الفاضل الخراساني في الذخيرة حيث حذا حذوه
في هذا الكلام.
قال في المعالم
على اثر العبارة المتقدمة في بيان كونه من الاستصحاب المردود ما صورته : لان ما دل
من النصوص على تأثير النجاسات والتأثر بها على وجه يبقى وان لم تبق أعيانها مقصور
على البدن والثوب والآنية كما يشهد به الاستقراء والتتبع وانما استفيد الحكم فيما
عدا ذلك من الإجماع ، وأكثر ما يكون الاستصحاب المردود فيما مدركه الإجماع لأن
الحكم الثابت به في موضع الحاجة الى الاستصحاب يكون لا محالة مخصوصا بحال اولى
فيطلب بالاستصحاب انسحابه الى حالة ثانية. وقد مر ان اعتبار الاستصحاب حينئذ إثبات
للحكم بغير دليل. ومن هنا يتجه في موضع النزاع ان يقال ان الدليل الدال على تأثر
الأرض والحصر والبواري وكل ما لا ينقل في العادة بالنجاسة مختص بالحال التي قبل
زوال العين عنها وتجفيف الشمس لها لانتفاء الإجماع فيما بعد ذلك قطعا فمن ادعى
ثبوت الحكم في الحال التي بعد فهو مطالب بالبرهان عليه وليس في يده غير الاستصحاب
ولا يقبل منه (فان قلت) كأن الاتفاق واقع على ان للنجاسات المعلومة أثرا في كل ما
تلاقيه برطوبة مستمرا الى ان يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل نوع من أنواع المطهرات
الى دليل يثبته (قلت) : هذا كلام ظاهري يقع في خاطر العاجز
عن استنباط بواطن الأدلة ويلتفت اليه القانع بالمجمل عن التفاصيل وما
قررناه أمر وراء ذلك. وبالجملة فالذي يقتضيه التحقيق انه لا معنى لكون الشيء نجسا
إلا دلالة الدليل الشرعي على التكليف باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة وازالة عينه
أو أثره لأجله واما ما لا دليل فيه على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى
أصالة براءة الذمة من التكليف فيه بأحدهما. واما ما يتخيل ـ من ان كل نوع من أنواع
النجاسات بمنزلة العلة الحقيقية في التأثير فكل ما لاقاه برطوبة أثر فيه النجاسة
وتوقف في عوده إلى الطهارة على طرو المطهر ـ فمن الأوهام التي يظهر فسادها بأدنى
تأمل ولا يستريح إلى أمثالها محصل. انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول فيه (أولا)
ـ انه لا يخفى ان ما ذكره من قصر الحكم المذكور على الثلاثة المذكورة من حيث انه
لم يرد في النصوص ما يدل على الأمر بالغسل بعد زوال العين في غير الثلاثة المذكورة
ان كان مقصورا على هذا الموضع ومخصوصا بهذا الحكم فهو تخصيص من غير مخصص ، وان كان
مطردا فيما جرى هذا المجرى مما وردت النصوص في خصوص بعض الافراد دون بعض وانه يخص
الحكم بما وردت به الروايات فلا أراه يلتزمه ، وذلك فإنه لا يخفى ان جل الأحكام
الشرعية التي صارت عند الأصحاب قواعد كلية انما استفيد حكمها من جزئيات السؤالات
المخصوصة وخصوص وقائع جزئية مثلا ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان من صلى في النجاسة
عامدا أو ناسيا وجبت عليه الإعادة أي نجاسة كانت مع ان الوارد في النصوص انما هو
نجاسات مخصوصة ولم يقل أحد من الأصحاب بتخصيص الإعادة بها بخصوصها بل عدوا الحكم
الى كل نجاسة نظرا الى الاشتراك في العلة وهي النجاسة وهو تنقيح المناط القطعي
الذي صرحوا به في الأصول وحملا للنجاسات المذكورة على الخروج مخرج التمثيل فلا
يقتضي التخصيص ولا ريب ان ما نحن فيه من هذا القبيل ، ومن قبيل ذلك ما لو سأل
السائل الإمام (عليهالسلام) عن نجاسة أصابت قميصه فحكم بإزالتها وبطلان الصلاة
فيها فان من المعلوم انه
لا خصوصية للقميص بذلك بل يعدى الحكم الى جميع لباس المصلي ويحكم ببطلان
الصلاة في أيها كان إلا ما استثنى ولا يقال ان الخبر انما تضمن القميص خاصة فلا
يجوز تعدي الحكم الى غيره ، فإن العلة الموجبة للإعادة الصلاة في النجاسة وهي
شاملة لجميع الثياب. ثم لا يخفى ايضا ان جل الأحكام من عبادات ومعاملات ونحو ذلك
انما خرجت في الرجال والسؤالات إنما وقعت في الرجال مع انه لا خلاف في دخول النساء
ما لم تعلم الخصوصية للرجال في ذلك الحكم ، ونحو ذلك مما لا يخفى على المتدبر في
الأخبار الواردة في جميع الأحكام ، وما ذاك إلا لما ذكرناه من حمل ما ذكر في
الأخبار على مجرد التمثيل وتعدية الحكم الى ما عدا المذكور بطريق تنقيح المناط
القطعي وحينئذ فالواجب بمقتضى ما ذكره في هذه المسألة هو الوقوف على موارد النصوص
في جميع هذه المواضع التي أشرنا إليها ولا أراه يقوله.
و (ثانيا) ـ انه
لا يخفى ان الأمر بالغسل في الثلاثة المذكورة في كلامه بعد ازالة العين لا يخلو من
أحد وجهين لا ثالث لهما في البين (أحدهما) ان العلة في ذلك هو ملاقاة عين النجاسة
بالرطوبة ولا شك في وجود العلة المذكورة في محل النزاع فلا يتخلف عنها معلولها ولا
يتوقف على وجود نص ولا إجماع. و (ثانيهما) ان يكون ذلك تعبدا شرعيا لا من حيث
النجاسة وهو موجب لحصول الطهارة بمجرد زوال العين ، ولا أراه يلتزمه ولا يقول به
بل هو خلاف صريح كلامه.
و (ثالثا) ـ الصحيحة
المذكورة فإن ظاهرها عدم حصول الطهارة بالماء من عين النجاسة أو محلها وهو قد
اعترف في باقي كلامه بذلك أيضا إلا انه زعم عدم ظهورها في ذلك حيث ارتكب تأويلها
بما سيأتي ذكره من التكلفات البعيدة والتعسفات الغير السديدة. قال بعد الكلام الذي
نقلناه : قلت لو أبقى حديث ابن بزيع على ظاهره لسقطت هذه المباحث من أصلها لكن
المعارض أخرجه عن الظاهر فانتفى احتمال النظر اليه. انتهى. أقول : الحق ان المسألة
بسببه قد بقيت في قالب الاشكال كما صرح به
في المدارك ايضا ، وعليه اعتمد المحدث الكاشاني في الاستدلال كما قدمنا
نقله عنه فذهب الى القول بالعفو دون الطهارة وقوفا على ظاهر هذا الخبر وجعل
التأويل فيما عارضه كما تقدم ذكره ، والحق كما ذكرنا ظهور كل من الخبرين فيما دل
عليه في البين وبعد التأويلات من الجانبين وبه حصل التوقف في المسألة.
و (رابعا) ـ موثقة
عمار الآتية عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا
تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر؟ قال لا تصل عليه واعلم موضعه حتى تغسله.
الحديث». وهو ظاهر الدلالة في احتياج الأرض بعد زوال العين وجفاف النجاسة إلى
الغسل بالماء وبه تبطل دعواه الاختصاص بالثلاثة التي ذكرها كما لا يخفى. واما ما
أجاب به في المختلف عن الصحيحة المذكورة ـ من الحمل على التطهير بعد يبس البول حيث
انه في هذه الحال لا يطهره إلا الماء لان الشمس انما تكون مطهرة إذا أشرقت عليه
رطبا وجففت الرطوبة وإلا فلو جف بدونها فإنها لا تكفي في تطهيره بل يجب الماء
البتة ـ فهو وان كان بعيدا إلا انه في مقام الاحتمال قريب للجمع بين الاخبار. وقيل
في الجواب عنها بان المراد بالماء الذي سئل عن تطهير الشمس بدونه ما يبل به الموضع
إذا كان جافا ، قالوا إذ ليس في السؤال إشعار بوجوده في المحل حال إشراق الشمس
فيحمل على ما إذا جف قبل إشراقها. ولا يخفى ما فيه وان استقربه في الذخيرة. وقيل
بان المراد من الماء الرطوبة الحاصلة من النجاسة فكأنه قال هل تطهره إذا كان جافا؟
فأجابه (عليهالسلام) بإنكار ذلك. وفيه ما في سابقه. وقيل بكون إنكار
الطهارة بدون الماء عائدا إلى مجموع ما وقع في السؤال بعد حمل المشابهة في قوله : «وما
أشبهه» على المماثلة في أصل النجاسة فيتناول النجاسات التي لها أعيان كالدم وتأثير
الشمس فيها انما يتصور بعد ذهاب العين فيرجع حاصل الإنكار الى ان من النجاسات ما
له عين وهذا النوع لا سبيل الى طهارته
__________________
بالشمس إلا بتوسط الماء وذلك بجعله مائعا على وجه يمكن تجفيف الشمس له
ويذهب بالجفاف عينه وهو أبعد الجميع. وهذه الاحتمالات الثلاثة قد ذكرها في المعالم
لإخراج الخبر عن ظاهره بزعمه ولا يخفى انه لو قامت أمثال هذه الاحتمالات لانسدت
أبواب الاستدلالات. وبالجملة فإنه لا يخفى ما في هذه الأجوبة من التكلف نعم ربما
أشعرت الرواية المذكورة بعدم التطهير إلا بالماء مطلقا إلا ان ظاهر سياقها انما هو
اختصاص الحكم بالمسؤول عنه ، وبالجملة فالرواية ظاهرة في عدم التطهير إلا بالماء
كما فهمه منها الأصحاب.
الرابعة ـ صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة
عليها إذا جفت من غير ان تغسل؟ قال نعم لا بأس».
الخامسة ـ صحيحته
الأخرى عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلى
عليها؟ قال إذا يبست فلا بأس».
السادسة ـ صحيحة
له ثالثة عنه (عليهالسلام) «انه سأله عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما
من الجنابة أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال نعم».
أقول : وغاية
ما تدل عليه هذه الأخبار هو الصلاة على الموضع النجس بعد الجفاف وعدم وجود عين
النجاسة أعم من ان يكون الجفاف بالشمس أو بدونها بل ظاهر الثالث منها ان الجفاف
انما هو بغير الشمس ، وظاهرها جواز السجود على ذلك الموضع مع ان الأصحاب قد
اشترطوا في موضع السجود الطهارة ، وظاهرهم الاتفاق عليه وان لم أقف له على دليل بل
ظاهر هذه الأخبار كما ترى خلافه ، وظاهر كلام الراوندي المتقدم ايضا خلاف ذلك إلا
ان يتأول كلامه بحمل السجود على الصلاة ولا يخلو من بعد كما لا يخفى على من تأمل
العبارة المذكورة. وربما قيل ان إطلاق هذه الأخبار وما
__________________
تدل عليه من جواز السجود شامل لما لو كانت الجبهة رطبة وهو مشكل إلا على ما
سيأتي نقله عن الشيخ في الخلاف من الحكم بالطهارة بتجفيف الريح إلا انه خالف نفسه
في ذلك في الكتاب المذكور كما سيأتي نقل كلامه ان شاء الله تعالى ، نعم يتجه ذلك
على ما تقدم نقله عن صاحب المعالم من حكمه بالطهارة مع الجفاف وزوال العين في غير
الثلاثة التي ذكرها. وبالجملة فالظاهر عندي ان هذه الروايات كما عرفت ليست من
روايات المسألة في شيء ومع فرض كونها منها بحمل التجفيف على كونه بالشمس فإنما هي
من القسم الثالث الذي قدمنا ذكره لإجمالها.
السابعة ـ ما
رواه زرارة وحديد بن حكيم الأزدي في الصحيح قال : «قلنا لأبي عبد الله (عليهالسلام) السطح يصيبه البول أو يبال عليه أيصلى في ذلك الموضع؟
فقال ان كان تصيبه الشمس والريح وكان جافا فلا بأس إلا ان يتخذ مبالا». وهذه
الرواية أيضا من القسم الثالث ولا يمكن الاستدلال بها لشيء من القولين المذكورين
في البين ، وموردها الأرض خاصة.
الثامنة ـ ما
رواه عمار في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا
تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر؟ قال لا تصل عليه واعلم موضعه حتى تغسله.
وعن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته
الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة ، وان أصابته الشمس ولم ييبس الموضع
القذر وكان رطبا فلا تجوز الصلاة عليه حتى ييبس ، وان كانت رجلك رطبة أو جبهتك
رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع وان كان عين
الشمس اصابه حتى ييبس فإنه لا يجوز. الحديث».
وظاهر عجز
الخبر بل صريحه الدلالة على عدم حصول التطهير بالشمس إلا ان
__________________
جملة من المحدثين نقلوا عن بعض نسخ التهذيب بدل «عين الشمس» بالعين المهملة
والنون «غير الشمس» بالغين المعجمة والراء أخيرا وحينئذ يسقط الاستدلال به على
بقاء النجاسة ، وايضا قد روى الشيخ هذه الرواية بالإسناد المذكور في آخر أبواب
الزيادات من التهذيب خالية من قوله : «وان كان غير الشمس اصابه» وعليه ايضا يسقط
الاستدلال المذكور على عدم الطهارة. واما قوله : «وعن الشمس هل تطهر الأرض إلى
قوله فالصلاة على الموضع جائزة» فغايته ان يكون من القسم الثالث لما عرفت من ان
مجرد الرخصة في الصلاة عليه مع اليبوسة لا يدل على الطهارة لوقوع ذلك فيما جف بغير
الشمس كما عرفت من روايات علي بن جعفر المذكورة ، إلا ان هذه الرواية قد تضمنت
النهي عن الصلاة على الموضع القذر بعد الجفاف بخلاف ما دلت عليه صحاح علي بن جعفر
فبالنظر الى ما دلت عليه من النهي متى كان الجفاف بغير الشمس وتجويز الصلاة متى
كان الجفاف بالشمس يقوى القول بان تجويز الصلاة انما هو من حيث حصول الطهارة
بالشمس ، إلا انك قد عرفت دلالة صحاح علي بن جعفر الثلاث على جواز الصلاة مع
الجفاف مطلقا وهي أرجح من هذه الرواية البتة سيما مع ما علم من أحوال روايات عمار.
واما ما ذكره
جملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المختلف ـ من ان السؤال في الرواية وقع عن
الطهارة فلو لم يكن في الجواب ما يفهم منه السائل الطهارة أو عدمها لزم تأخير
البيان عن وقت الحاجة لكن الجواب الذي وقع لا يناسب النجاسة فدل على الطهارة ـ فظني
أنه قاصر بل ربما كان بالدلالة على خلاف ما ادعوه أشبه ، بأن يقال ان عدوله (عليهالسلام) عن الجواب الصريح بكونه طاهرا الى الجواب بجواز الصلاة
عليه ربما أشعر بعدم الطهارة وان جازت الصلاة عليه ولا سيما على رواية «عين الشمس»
في آخر الخبر الصريح في عدم الطهارة فإنه هو الملائم لهذا المعنى. واما دعوى لزوم
تأخير البيان عن وقت الحاجة بناء على ما ذكره فليس كذلك بل اللازم تأخير
البيان عن وقت الخطاب ولا مانع منه إذ كون الوقت وقت الحاجة ممنوع.
وبالجملة فإنه
قد وقع التعارض في هذه المسألة بين صحيحة زرارة المتقدمة المعتضدة برواية الحضرمي
وكلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي وبين صحيحة ابن بزيع المعتضدة بموثقة
عمار على المشهور من روايتها ب «عين الشمس» والتأويل كما عرفت من الجانبين قائم
إلا انه بعيد عن ظواهر الأخبار المذكورة ، فالمسألة عندي ـ بالنسبة إلى النجاسة
والى ما تقع عليه حسبما عليه القول المشهور كما تقدمت الإشارة إليه ذيل الروايات
المتقدمة وبالنسبة إلى الطهارة والعفو ـ محل توقف والاحتياط فيها لازم.
هذا ، ولا يخفى
عليك ان كلام المحقق في المعتبر هنا لا يخلو من اضطراب ، فان مقتضى ما تقدم نقله
عنه اختيار قول الراوندي مع انه قال ـ بعد ان نقل عن الشيخ الاحتجاج على الطهارة
برواية عمار وصحيحة علي بن جعفر وهي الرابعة ـ ما لفظه : وفي استدلال الشيخ
بالروايات إشكال لأن غايتها الدلالة على جواز الصلاة عليها ونحن لا نشترط طهارة
موضع الصلاة بل نكتفي باشتراط طهارة موضع الجبهة ، ويمكن ان يقال الاذن في الصلاة
عليها مطلقا دليل جواز السجود عليها والسجود يشترط طهارة محله ، ثم قال ويمكن ان
يستدل بما رواه أبو بكر الحضرمي وساق الرواية ، وبان الشمس من شأنها الإسخان
والسخونة تلطف الأجزاء الرطبة وتصعدها فإذا ذهب أثر النجاسة دل على مفارقتها المحل
والباقي يسير تحيله الأرض إلى الأرضية فيطهر لقول الصادق (عليهالسلام) «التراب طهور». انتهى. وهذا الكلام منه بعد اختياره لمذهب الراوندي يشعر
بالتردد أو العدول الى ترجيح جانب الطهارة ، وأظهر من ذلك قوله بعد ذلك بقليل في
مسألة تطهير الأرض من البول بإلقاء الذنوب بعد ان استضعف دليل الشيخ فيها : فإذا
تقرر هذا فيما ذا تطهر؟ الوجه ان طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى يستهلك
النجاسة أو
__________________
يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليه الشمس حتى يجف بها. انتهى.
فروع
(الأول) ـ المشهور
بين الأصحاب القائلين بتطهير الشمس ان الجفاف بغير الشمس لا يثمر طهارة بل قال في
المنتهى : لو جف بغير الشمس لم يطهر عندنا قولا واحدا خلافا للحنفية قال في المدارك : ويدل عليه ان المفروض نجاسة المحل
بالنص أو الإجماع فيقف زوال النجاسة على ما عده الشارع مطهرا ، ثم أيد ذلك بصحيحة
محمد بن إسماعيل المتقدمة ورواية عمار وغيرهما. أقول : وعلى هذا النهج كلام غيره
من الأصحاب.
ونقل عن الشيخ
في الخلاف انه قال : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها
الشمس أو هبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة فإنها تطهر ويجوز السجود عليها
والتيمم بترابها وان لم يطرح عليها الماء. واحتج بإجماع الفرقة وقوله تعالى : «فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً» قال : والطيب ما لم تعلم فيه نجاسة ومعلوم زوال النجاسة
عن هذه الأرض وانما يدعى حكمها وذلك يحتاج الى دليل. ثم ذكر بعد هذا الكلام في
موضع آخر من الكتاب : ان البول إذا أصاب موضعا من الأرض فجففته الشمس طهر الموضع
وان جف بغير الشمس لم يطهر. حكى ذلك عنه جملة من الأصحاب. منهم ـ العلامة في المنتهى
والمختلف ، والظاهر ان دعوى العلامة الإجماع في المنتهى على الحكم المذكور مبني
على رجوع الشيخ عن الحكم المذكور في كلامه الأول الى ما ذكره في كلامه الأخير ،
وتأول في المختلف كلام الشيخ الأول بأن مراده بهبوب الرياح المزيلة للأجزاء
الملاقية للنجاسة الممازجة لها وليس مراد الشيخ ذهاب الرطوبة عن الاجزاء كذهابها
بحرارة الشمس.
وصاحب المعالم
بناء على ما تفرد به مما قدمنا نقله عنه وأوضحنا بطلانه استراح
__________________
الى كلام الشيخ الأول لموافقته لما توهمه من المقالة المخالفة لما عليه
كافة العلماء الاعلام فقال : ولو لا مخالفة الشيخ نفسه في الحكم لم يكن بذلك
البعيد لما علم من ان الدليل على ثبوت التنجيس في مثله بعد ذهاب العين منحصر في
الإجماع والشيخ قد ادعى الإجماع على الطهارة فلا أقل من ان يكون ذلك دليلا على
انتفاء الإجماع على النجاسة. وفيه ما عرفت آنفا من دلالة صحيحة ابن بزيع وموثقة
عمار على عدم الطهارة إلا بالماء كما أشار إليه في المدارك فيما قدمنا نقله عنه
مضافا الى الوجهين الآخرين اللذين تقدما في رد كلامه.
(الثاني) ـ عد
جماعة من المتأخرين في ما تطهره الشمس مما لا ينقل ولا يحول الثمرة على الشجرة ،
وظاهر العلامة في النهاية إخراجها من ذلك حيث مثل لغير المنقول واخرج الثمرة منه
فقال كالنبات والبناء دون الثمرة على الأشجار ، قال في المعالم بعد نقل ذلك : وما
ذكره الجماعة أولى بالاعتبار وان كان إلحاقها بالمنقول إذا صارت في محل القطع
اولى. وعد والده (قدسسره) في الروضة في ما تطهره الشمس مما لا ينقل الفواكه
الباقية على الأشجار وان حان قطعها. وكأن المستند في ذلك عموم إطلاق رواية الحضرمي
وقوله (عليهالسلام) فيها : «ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر». وهو كذلك وان
كان الاحتياط في ما ذكره في المعالم.
(الثالث) ـ لو
انتقل كل من المنقول وغير المنقول إلى الحالة الأخرى كان المناط حال الجفاف ، فلو
هدم الجدار الذي فيه أحجار نجسة كان تطهيرها بالماء دون الشمس ، ولو طين الجدار أو
السطح بطين نجس طهر بالشمس ، ونقل الشيخ احمد بن فهد في الموجز عن فخر المحققين
هنا قولا غريبا قال : وكان فخر المحققين يرى عموم الحكم في النباتات وان انفصلت
كالخشب والآلات المتخذة من النباتات ، قال ويؤيده قوله في رواية الحضرمي : «ما
أشرقت. إلخ» ثم قال لكن التمسك به ضعيف. أقول : يمكن ان يكون مراد فخر المحققين هو
انها إذا اتخذت أبوابا أو نحوها مما يكون مثبتا كما يشير اليه لفظ الآلات ، وقد
صرح بنحو ذلك شيخنا الشهيد الثاني في الروضة فعد من جملة
ما لا ينقل الأبواب المثبتة ، وإلا فصدور مثل هذا الكلام من مثل هذا المحقق
بعيد جدا
(الرابع) ـ المفهوم
من كلام الأصحاب ـ وهو ظاهر النصوص ايضا ـ ان تطهير الشمس على القول به انما يكون
مع بقاء رطوبة النجاسة فلو أشرقت عليه الشمس بعد الجفاف لم تفده طهارة لكن لو بل
بماء فأشرقت عليه الشمس وجففته هل يطهر أيضا أم لا؟ الظاهر من كلام جملة من
المتأخرين الأول بل الظاهر انه المشهور بينهم. أقول : يمكن الاستدلال عليه بقوله (عليهالسلام) في الفقه الرضوي «ما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شيء من النجاسات مثل البول
وغيره طهرتها». قال في الذخيرة بعد ان ذكر ان المشهور بين المتأخرين الطهارة :
ويؤيده خبر زرارة السابق المذكور في الكافي والتهذيب ورواية محمد بن إسماعيل ببعض
التأويلات. ويؤيد النجاسة مفهوم خبر زرارة وخبر عمار عند التأمل ، والحق انه لا
يصلح شيء من ذلك للدلالة فالمسألة محل تردد. انتهى.
أقول : التحقيق
عندي في هذا المقام هو انه ان قلنا بتخصيص ما تطهره الشمس بنجاسة البول كما هو أحد
الأقوال فلا دليل على التطهير في الصورة المفروضة لذهاب عين البول وهذه الرطوبة
نجاسة أخرى بملاقاة المحل وان قلنا بتطهيرها لما هو أعم كما هو المشهور فلا إشكال
في حصول الطهارة ، وذلك لانه لا إشكال في انه لو أريق ماء نجس بنجاسة البول أو غيرها
على الأرض فأشرقت عليه الشمس وجففته فإنها تطهره على المشهور ، وما نحن فيه من
قبيل ذلك فإنه متى رشت الأرض الجافة المتنجسة بنجاسة البول عادت النجاسة بسبب هذه
الرطوبة فتصير من قبيل ما ذكرناه.
(الخامس) ـ قد
نص جمع من متأخري الأصحاب على ان الباطن في ما تطهره الشمس كالظاهر فيطهر إذا جف
الجميع بها وكانت النجاسة متصلة كالأرض التي دخلت فيها النجاسة ، اما مع الانفصال
كوجهي الحائط إذا كانت النجاسة فيهما غير خارقة
__________________
فتختص الطهارة بما حصل عليه الإشراق. واستجوده جملة من أفاضل متأخري
المتأخرين وهو كذلك. وربما لاح من كلام العلامة في المنتهى اختصاص الطهارة بالظاهر
حيث انه علل تطهير الشمس بوجه اعتباري فقال بعد الاستدلال بالروايات التي ذكرها ما
لفظه : وبان حرارة الشمس تفيد تسخينا وهو يوجب تبخير الأجزاء الرطبة وتصعيدها
والباقي تشربه الأرض فيكون الظاهر طاهرا. انتهى. والظاهر ضعفه.
(السادس) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب في انه لو كانت النجاسة ذات جرم فإنه لا تحصل الطهارة
بالشمس ما لم يزل جرم النجاسة ، ونقل في المدارك عن ابن الجنيد انه قال لا يطهر
الكنيف والمجزرة بالشمس ، ثم قال وهو حسن لمخالطة أجزاء النجاسة ترابهما ، نعم لو
أزيلت تلك الاجزاء وحصل التجفيف بالشمس اتجه مساواتهما لغيرهما. انتهى. وقال في
الذكرى : ولا تطهر المجزرة والكنيف بالشمس لبقاء العين غالبا وكذا كل ما تبقى فيه
العين. وبالجملة فالظاهر ان الحكم لا خلاف ولا اشكال فيه.
(السابع) ـ لو
وضع حصيران نجسان أو باريتان كذلك أحدهما على الآخر فالذي يطهر بالشمس هو الأعلى
خاصة ظاهره وباطنه لانه هو الذي أشرقت عليه الشمس ولا يطهر الآخر وان جف لان جفافه
انما استند إلى حرارة الشمس دون عينها والمعتبر في التطهير إشراق عين الشمس لا
مجرد حرارتها. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ من المطهرات ايضا الأرض الا ان كلام الأصحاب أيضا في هذا الباب لا يخلو
من اختلاف واضطراب فإنهم ما بين من خص ما يطهر بها بالخف والنعل والقدم خاصة وبين
من لم يذكر القدم وبين من عدي ذلك الى مثل النعل من خشب كالقبقاب وآخرون الى كل ما
يوطأ به ولو كخشبة الأقطع ، وبعض اشترط طهارة الأرض وبعض جزم بالعموم ، وبعض اشترط
جفافها وبعض العدم ، وبعض المشي خمسة عشر ذراعا وبعض العدم ، اما الاقتصار على
الثلاثة الأول فالظاهر انه المشهور بل قال في المدارك انه مقطوع به
في كلام الأصحاب مع ان المفيد (قدسسره) في المقنعة قال : وإذا داس الإنسان بخفه أو نعله نجاسة
ثم مسحها بالتراب طهر بذلك. وهو مشعر باختصاص الحكم بهما ونحوه في كلام سلار ايضا
حيث قال في رسالته : إزالة النجاسة على أربعة أضرب أحدها ما يمسح على الأرض
والتراب وهو ما يكون في النعل والخف. ونقل عن العلامة في التحرير انه استشكل الحكم
في القدم وعزى في المنتهى القول بمساواته للنعل والخف الى بعض الأصحاب وقال ان
عنده فيه توقفا. وابن الجنيد صرح في كتاب المختصر الأحمدي بالتعميم فقال وإذا وطأ
الإنسان برجله أو ما هو وقاء لها نجاسة رطبة أو كانت رجله رطبة والنجاسة يابسة أو
رطبة فوطأ بعدها نحوا من خمسة عشر ذراعا أرضا طاهرة يابسة طهر ما ماس النجاسة من
رجله والوقاء لها ولو غسلها كان أحوط ، ولو مسحها حتى يذهب عين النجاسة وأثرها
بغير ماء أجزأ إذا كان ما مسحها به طاهرا. انتهى. وقال ابن فهد في موجزه : الأرض
تطهر باطن النعل والقدم وكعب العكاز والصندل وكذا حكم الخف والحافر والظلف. وقال
في الذكرى بعد ذكر الثلاثة المتقدمة : وحكم الصنادل حكم النعل لانه مما يتنعل به.
أقول لم أقف في كلام أهل اللغة على معنى الصندل هنا ولعل المراد به القبقاب المتخذ
من الخشب في زماننا. وقال الشهيد الثاني في الروضة : والمراد بالنعل ما يجعل أسفل
الرجل للمشي وقاية من الأرض ونحوها ولو من خشب وخشبة الأقطع كالنعل. وقال في الروض
: ولا فرق بين النعل والخف وغيرهما مما يتنعل به ولو من خشب كالقبقاب ، وفي إلحاق
خشبة الزمن والأقطع بالنعل نظر من الشك في تسميتها نعلا بالنسبة اليه ، ولا يلحق
بهما أسفل العكاز وكعب الرمح وما شاكل ذلك لعدم إطلاق اسم النعل عليهما حقيقة ولا
مجازا. انتهى. وربما ظهر من الشيخ في الخلاف عدم طهارة أسفل الخف بمسحه في الأرض
حيث قال : إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه في الأرض حتى زالت يجوز الصلاة فيه
عندنا ، ثم قال دليلنا انا قد بينا فيما تقدم ان ما لا
تتم الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وان كانت فيه نجاسة والخف لا تتم
الصلاة فيه بانفراده وعليه إجماع الفرقة.
أقول : والواجب
بسط الأخبار الواردة في المسألة كملا والنظر في ما تدل عليه من الأحكام المذكورة
وما لا تدل عليه :
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل
يجب عليه غسلها؟ فقال لا يغسلها إلا ان يقذرها ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي».
وفي الصحيح عن
زرارة عن الباقر (عليهالسلام) قال : «جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح
العجان ولا يغسله ويجوز ان يمسح رجليه ولا يغسلهما».
وما رواه ثقة
الإسلام في الصحيح عن الأحول عن الصادق (عليهالسلام) قال : «في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ
بعده مكانا نظيفا؟ قال لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعا أو نحو ذلك».
وعن المعلى بن
خنيس قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه
الماء أمر عليه حافيا؟ فقال أليس وراءه شيء جاف؟ قلت بلى. قال لا بأس ان الأرض
يطهر بعضها بعضا».
وعن محمد
الحلبي في الموثق قال : «نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر فدخلت
على ابي عبد الله (عليهالسلام) فقال اين نزلتم؟ فقلت نزلنا في دار فلان فقال ان بينكم
وبين المسجد زقاقا قذرا أو قلنا له ان بيننا وبين المسجد زقاقا قذرا فقال لا بأس
ان الأرض يطهر بعضها بعضا. قلت فالسرقين الرطب أطأ عليه؟ فقال لا يضرك مثله».
ومنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن فضالة وصفوان بن يحيى عن عبد الله بن
__________________
بكير عن حفص بن ابي عيسى قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني وطأت عذرة بخفي ومسحته حتى لم أر فيه شيئا ما تقول
في الصلاة فيه؟ فقال لا بأس».
وما رواه ابن
إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من نوادر احمد بن محمد بن ابي صر عن المفضل بن عمر
عن محمد بن علي الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قلت له ان طريقي الى المسجد في زقاق يبال فيه
فربما مررت فيه وليس علي حذاء فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال أليس تمشي بعد ذلك في
أرض يابسة؟ قلت بلى. قال فلا بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا. قلت فأطأ على الروث
الرطب؟ قال لا بأس انا والله ربما وطأت عليه ثم أصلي ولا اغسله».
وفي الحسن أو
الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «كنت مع ابي جعفر (عليهالسلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت
جعلت فداك وطأت على عذرة فأصابت ثوبك؟ فقال أليست هي يابسة؟ فقلت بلى. قال لا بأس
ان الأرض يطهر بعضها بعضا».
هذا ما وقفت
عليه من روايات المسألة وتحقيق الكلام فيها يقع في مواضع :
(الأول) ـ لا
يخفى ان صحيحة زرارة الاولى ومثلها رواية المعلى بن خنيس وكذا رواية الحلبي
المنقولة في السرائر قد تضمنت باطن القدم وصرحت بأنه مما يطهر بالأرض ، وبذلك يظهر
ما في كلام العلامة ودعواه الإشكال في موضع والتوقف في آخر مع دلالة الأخبار كما
ترى عليه ، ورواية حفص بن ابي عيسى قد تضمنت الخف وهي مستند الأصحاب فيما تقدم
نقله عنهم من عد الخف في ما يطهر بالأرض ، واما ما طعن به في الذخيرة تبعا لصاحب
المعالم على دلالتها ـ من انه يكفي في جواز الصلاة في الخف كونه مما لا تتم الصلاة
فيه ولا يقتضي ذلك طهارته وان كان الأصحاب أوردوها في الاحتجاج ـ فالظاهر بعده
وذلك فان ظاهر كلام السائل ان سؤاله انما هو عن الطهارة
__________________
بالمسح وعدمها وسؤاله عن الصلاة فيه اما بناء منه على عدم علمه بالعفو عن
نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه أو المراد الصلاة الكاملة الواقعة في الطاهر ، وعلى
هذا فيجب في الجواب ان يكون مطابقا للسؤال وحينئذ يكون نفي البأس كناية عن الطهارة
وإلا فلو كان عالما بجواز الصلاة فيما لا تتم فيه ولم يحمل سؤاله على الصلاة
الكاملة فإنه لا معنى للسؤال عن الصلاة فيه بل لا معنى لأصل سؤاله بالكلية كما لا
يخفى وعلى هذا بنى الاستدلال بالخبر ، ولعل ما تقدم نقله عن الشيخ في الخلاف مبني
على ما ذكره هذان الفاضلان ، إلا ان إطلاق صحيحة الأحول وموثقة الحلبي أيضا يرده
لدلالتهما على ما يوطأ به ، والظاهر انه إلى إطلاق هذين الخبرين استند من عمم
الحكم في كل ما يوطأ به من خف أو نعل ولو من خشب ومثل خشبة الأقطع ، إلا ان مقتضى
ما قرروه في غير مقام من ان الأحكام المودعة في الأخبار انما تنصرف الى الافراد
الشائعة المتكثرة دون الفروض النادرة بعد الحكم في مثل خشبة الأقطع وأبعد منه ما
ذكره بعضهم من أسفل العكاز وكعب الرمح وشيخنا الشهيد الثاني في الروض انما تنظر في
خشبة الأقطع من حيث عدم صدق النعل عليها. وفيه انه وان لم يصدق عليها النعل إلا
انها مما يوطأ به فتدخل تحت إطلاق صحيحة الأحول وانما يمكن المناقشة فيها من الجهة
التي ذكرناها إلا انه ربما أمكن أيضا شمول الحكم لها من حيث قوله (عليهالسلام) في جملة من الأخبار المتقدمة : «ان الأرض يطهر بعضها
بعضا». بل ربما استفيد منه تطهير أسفل العصا والرمح إلا ان يجعل التعليل مقصورا
على ما علل به من الافراد الواردة في تلك الأخبار ، والاحتياط لا يخفى.
والذي تلخص مما
ذكرناه انه يستفاد من الأخبار المذكورة طهارة القدم والخف والنعل وكل ما يوطأ به
مما يكون متعارفا أكثريا وفي إلحاق ما عدا ذلك إشكال أحوطه العدم.
وصاحب المعالم
لما كان اعتماده انما هو على صحاح الأخبار دون ضعيفها خرج لعموم الحكم فيما عدا
القدم الذي هو مورد صحيحة زرارة وجها لا يخفى على الناظر ما فيه ، قال بعد ذكر
أخبار المسألة : وهذه الاخبار وان لم تكن نقية الأسانيد فإنها
معتضدة بالحديث الأول الصحيح. وكونه مختصا بالقدم غير ضائر فإن ثبوت الحكم
فيه يقتضي ثبوته في غيره بطريق أولى ، ألا ترى ان الخف والنعل لا توقف لأحد من
الأصحاب في حكمهما على ما يظهر وقد حصل في القدم نوع توقف. انتهى. وفيه نظر لمنع
الأولوية التي ذكرها بالنظر الى الاخبار ، واما ما استند اليه في ثبوتها من الخلاف
بين الأصحاب في القدم والاتفاق على الخف والنعل ففيه (أولا) ان من خالف في القدم
فهو غالط لمخالفته للأخبار المذكورة فلا يعتبر بخلافه على ان الخلاف أيضا في الخف
حاصل كما تقدم في عبارة الشيخ في الخلاف. و (ثانيا) ان الكلام بالنظر الى الاخبار
لا بالنظر الى كلام الأصحاب وليس في الاخبار ما يشير إلى أولوية الخف والنعل في
هذا الحكم على القدم ان لم يكن الأمر بالعكس ، وبالجملة فالظاهر ان الذي ألجأه الى
هذا الكلام عدم جرأته على الخروج عن ما عليه كافة الأصحاب في هذا الباب. والله
العالم.
(الثاني) ـ الظاهر
انه لا فرق في حصول التطهير بين كونه بالمشي أو المسح والدلك ، وعلى الاكتفاء
بالمسح تدل صحيحة زرارة الاولى وكذا الثانية الواردة في الاستجمار ورواية حفص بن
ابي عيسى ، وبذلك صرح المفيد في عبارته المتقدمة وكذا آخر عبارة ابن الجنيد ،
وحينئذ فما نقله الأصحاب عن ابن الجنيد من انه يشترط المشي خمسة عشر ذراعا ونحوها
وكذلك ما دلت عليه صحيحة الأحول محمول على مقدار المشي الذي تزول به النجاسة غالبا
وفي قوله في الخبر «أو نحو ذلك» إيماء اليه. ولا إشكال ايضا ان هذا مراد ابن
الجنيد لتصريحه في آخر عبارته بالاكتفاء بالمسح كما عرفت.
(الثالث) ـ قد
اختلف الأصحاب في طهارة الأرض فقيل بالاشتراط وبه صرح الشهيد في الذكرى وهو صريح
عبارة ابن الجنيد المتقدمة ، وذهب جماعة من الأصحاب : منهم ـ الشهيد الثاني الى
عدم الاشتراط بل ادعى (قدسسره) ان إطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق في الأرض بين
الطاهرة وغيرها. وهو كما ترى لتصريح من ذكرناه بالطهارة وهو ظاهر فحاوي جملة من
عبائرهم أيضا نعم النصوص
مطلقة في ذلك إلا ان صحيحة الأحول مصرحة باشتراط ذلك حيث انه لما سأله عن
الرجل الذي يطأ الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكانا نظيفا قال : «لا بأس إذا
كان ذلك المكان النظيف قدر خمسة عشر ذراعا» ففيه إشعار بأن نفي البأس مخصوص بما
إذا كان نظيفا بالمقدار المذكور.
أقول : والأظهر
عندي الاستدلال على ذلك بقوله (صلىاللهعليهوآله) في ما روي عنه بعدة طرق فيها الصحيح وغيره «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». وهو بإطلاقه شامل لما نحن فيه فان الطهور
لغة بمعنى الطاهر المطهر كما تقدم تحقيقه في صدر الباب الأول وهو أعم من ان يكون
مطهرا من الحدث والخبث ، والعجب من أصحابنا (رضوان الله عليهم) حيث انهم في المقام
ناقشوا في اشتراط طهارة الأرض ولم يلم أحد منهم ممن قال بالطهارة بهذا الحديث
وانما استدلوا بان النجس لا يفيد غيره تطهيرا ، وفي بحث التيمم لم يذكروا دليلا
على طهارة التراب سوى الإجماع ، وبعض متأخري المتأخرين نقل الخبر المذكور دليلا
وتنظر في الاستدلال به ، وليت شعري أي معنى لهذا الخبر واين مصداقه الذي افتخر به (صلىاللهعليهوآله) وذكر انه اختص به؟ إذ لا يخفى انه لم يرد في الشرع
موضع تصير فيه الأرض مطهرة غير هذين الموضعين وثالثهما إناء الولوغ ولم يذكروا
ايضا هذا الخبر فيه ورابعها أحجار الاستجمار ، وحينئذ فإذا لم تدخل هذه المواضع في
مصداق الخبر ولم يجعل دليلا عليها فلا مصداق له بالكلية فكيف يقول (صلىاللهعليهوآله) «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»؟ وليس المراد الاختصاص
به حتى انه يكون ذلك من خصوصياته بل المراد انما هو له ولأمته ، وفي أي موضع يوجد
مصداقه إذا لم تدخل هذه الأشياء فيه؟ ما هذه إلا غفلة ظاهرة تبع فيها المتأخر
المتقدم ، ويزيد ذلك ما في دعائم الإسلام حيث قال : «قالوا (عليهمالسلام)
__________________
في المتطهر إذا مشى على أرض نجسة ثم على طاهرة طهرت قدميه». انتهى.
(الرابع) ـ ظاهر
رواية المعلى بن خنيس ورواية الحلبي المنقولة من السرائر اشتراط جفاف الأرض التي
يمشي عليها ، وبذلك صرح ابن الجنيد في عبارته المتقدمة ، واليه ذهب جماعة من
متأخري الأصحاب كما ذكره في المعالم ، ونفاه العلامة في النهاية فقال : لا فرق بين
الدلك بأرض رطبة أو يابسة إذا عرف زوال العين اما لو وطأ وحلا فالأقرب عدم
الطهارة. واقتفاه شيخنا الشهيد الثاني في الروضة والروض وذكر ان الرطوبة اليسيرة
التي لا يحصل منها تعد غير قادحة على القولين. وفي المعالم جعله الأحوط ، وفي
المدارك نفى عنه البأس. والأظهر عندي هو القول الأول لظاهر الخبرين المتقدمين ولا
معارض لهما إلا إطلاق غيرهما من الاخبار فيجب تقييده بهما كما هو القاعدة.
(الخامس) ـ ربما
أشعرت صحيحة زرارة الاولى من حيث إطلاق المسح فيها بالاكتفاء بالمسح ولو بخشب أو
نحوه ، وهو منقول في كلام الأصحاب عن ابن الجنيد ، وهو ظاهر إطلاق عبارته المتقدمة
، إلا ان الظاهر حمل إطلاق الرواية المذكورة على ما هو المعهود الغالب حال المشي
من كون المسح بالأرض وهو الذي ينصرف إليه الإطلاق ، وعلى ذلك ايضا يمكن حمل عبارة
ابن الجنيد خصوصا مع تصريحه في صدرها بالأرض ، ويؤكده انه هو المعروف بين الأصحاب
من غير خلاف يعرف ، وكأنه لما ذكرنا استشكل العلامة في النهاية فقال لو دلك النعل
والقدم بالأجسام الصلبة كالخشب أو مشى عليها فإشكال. وبالجملة فالظاهر الوقوف على
ما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم).
(السادس) ـ ما
تكرر في الاخبار من قولهم (عليهمالسلام): «الأرض يطهر بعضها بعضا». يحتمل ان يكون المراد به ـ وهو
الأقرب ـ ان بعضها يطهر ما ينجس ببعض وانما أسنده إلى البعض مجازا كما يقال الماء
مطهر للبول اي لنجاسة البول ، فالمطهر بصيغة اسم المفعول في الحقيقة ما ينجس
بالبعض لا نفس البعض ، ويحتمل ان يكون بعضها وهو المماس لأسفل النعل والقدم الطاهر
منها يطهر بعضا وهو النعل والقدم فالبعض
الثاني عبارة عن المطهر بها ، وعلى الوجه الأول يكون التطهير مخصوصا
بالنجاسة التي من الأرض النجسة ، وقال شيخنا البهائي في الحبل المتين : لعل المراد
بالأرض ما يشمل نفس الأرض وما عليها من القدم والنعل والخف. انتهى. والظاهر انه
ناظر الى الاحتمال الثاني. وقيل الوجه في هذا التطهير انتقال النجاسة بالوطء عليها
من موضع الى آخر مرة بعد اخرى حتى تستحيل ولا يبقى منها شيء. والله العالم.
(المسألة
الثالثة) ـ المشهور ان النار تطهر ما احالته رمادا أو دخانا وتردد فيه المحقق في
كتاب الأطعمة والأشربة من الشرائع فقال : ودواخن الأعيان النجسة عندنا طاهرة وكذا
ما احالته النار فصيرته رمادا أو دخانا على تردد.
ونقل عن الشيخ
في المبسوط انه حكم بنجاسة الدخان النجس معللا له بأنه لا بد من ان يتصاعد من
اجزائه قبل احالة النار لها شيء بواسطة السخونة. ورده جملة من الأصحاب بمنع تصاعد
اجزاء الدهن بدون الاستحالة. وهو جيد مع انه في الخلاف ادعى الإجماع على طهارة
الأعيان النجسة بصيرورتها رمادا.
وقد احتج في
الخلاف على ما ذكر من الحكم بالطهارة بالاستحالة رمادا بالإجماع وبصحيحة الحسن بن
محبوب «انه سأل أبا
الحسن (عليهالسلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ويجصص به
المسجد أيسجد عليه؟ فكتب اليه بخطه : ان الماء والنار قد طهراه».
وظاهر المحقق
في المعتبر هنا المنازعة في هذا الاستدلال والتوقف في الحكم حيث قال : وفي احتجاج
الشيخ إشكال ، اما الإجماع فهو اعرف به ونحن لا نعلمه هنا ، واما الرواية فمن
المعلوم ان الماء الذي يمازج الجص هو ما يحل به وذلك لا يطهر إجماعا والنار لم
تصيره رمادا وقد اشترط صيرورة النجاسة رمادا وصيرورة العظام والعذرة رمادا بعد
الحكم بنجاسة الجص غير مؤثر طهارته ، قال ويمكن ان يستدل بإجماع الناس
__________________
على عدم التوقي من دواخن السراجين النجسة فلو لم يكن طاهرا بالاستحالة
لتورعوا منه. انتهى. واقتفى أثره العلامة في المنتهى في الكلام على الخبر المذكور
كما هي عادته غالبا فقال : ان في الاستدلال به اشكالا من وجهين : (أحدهما) ـ ان
الماء الممازج هو الذي يحل به وذلك غير مطهر إجماعا. و (الثاني) ـ انه حكم بنجاسة
الجص ثم بتطهيره قال وفي نجاسته بدخان الأعيان النجسة إشكال. انتهى.
أقول : اما ما
ذكره المحقق من المنازعة للشيخ في الإجماع فهو بمحل من النظر لموافقته له في
إجماعاته التي يدعيها بل استدلاله بها في غير موضع كما لا يخفى على من تأمل كتابه
، والحكم المذكور هنا لم يظهر فيه مخالف قبله حتى يكون موجبا للطعن في إجماعه وقد
قرروا في أصولهم ان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة. واما ما ذكره بعد الطعن في
دليلي الشيخ من الاستدلال على الطهارة بإجماع الناس على ما ذكره فهو أوهن من بيت
العنكبوت وانه لا وهن البيوت فان بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التخريجات
الوهمية مجازفة ظاهرة.
واما ما ذكره
من الكلام على الاستدلال بالرواية فليس في محله فإنه وكذا العلامة بعده لم يمعنا
النظر في تحقيق المعنى المراد منها ، وذلك فان الظاهر ان المراد منها ـ والله
سبحانه اعلم ـ هو ان المستفاد من ظاهر السؤال هو ان العذرة تحرق على الجص ويختلط
رمادها به وغرض السائل معرفة حالها بعد الإحراق وانها هل تبقى على النجاسة فيلزم
تنجيس الجص بها لملاقاته لها بالرطوبة بالمزج بالماء وقت البناء أم لا؟ فخرج
الجواب عنه (عليهالسلام) بأنها تطهر بالإحراق والاستحالة رمادا فليس على الجص
منها بأس ، وهو معنى واضح ودليل مفصح لا غبار عليه ، وهذا المعنى وان لم يفصح به
لفظ الخبر إلا انه هو المرجع من سياقه كما ستعرف ، ويؤيده ما رواه في قرب الاسناد
عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن الجص يطبخ بالعذرة أيصلح ان يجصص به
__________________
المسجد؟ قال لا بأس». لا ان المعنى فيها ما توهماه (قدسسرهما) من نجاسة الجص وانه لا يطهر بالنار لعدم الاستحالة وهو
قد حكم بان تطهير النار انما هو بالاستحالة ولا بالماء الممازج له فإنه لا يطهره
إجماعا ، وبالجملة فما ذكرناه معنى ظاهر الاستقامة.
والى ما ذكرنا
أشار السيد السند في المدارك فقال : ويمكن ان يستدل على الطهارة أيضا بما رواه
الشيخ في الصحيح عن الحسن بن محبوب ثم ساق الرواية ثم قال : وجه الدلالة ان الجص
يختلط بالرماد والدخان الحاصل من تلك الأعيان النجسة ولو لا كونه طاهرا لما ساغ
تجصيص المسجد به والسجود عليه والماء غير مؤثر في التطهير إجماعا كما نقله في
المعتبر فتعين استناده الى النار ، وعلى هذا فيكون اسناد التطهير الى النار حقيقة
والى الماء مجازا أو يراد به فيهما المعنى المجازي. وتكون الطهارة الشرعية مستفادة
مما علم من الجواب ضمنا من جواز تجصيص المسجد به ولا محذور فيه. انتهى.
أقول : الظاهر
انما هو المعنى الأول لأن مطابقة الجواب للسؤال تقتضي حصول الطهارة ولا مطهر هنا
حقيقة إلا النار كما عرفت فذكره (عليهالسلام) في الجواب ولا ينافيه ضم الماء الى ذلك لانه يمكن حمل
مدخليته في التطهير هنا على ان يكون من قبيل رش الماء على الثوب أو المكان المظنون
النجاسة استحبابا ، وبالجملة فالغرض من الخبر بيان انه قد ورد على ذلك الجص مطهران
شرعيان الماء والنار وان كان أحدهما حقيقة والآخر مجازا ، فلا يبقى توقف في طهارته
ولا يرد السؤال بان النار إذا طهرته أولا فلا معنى لتطهيره بالماء إذ لا يلزم من
ورود المطهر الثاني تأثيره في الطهارة كما عرفت بل يكفي حصول المعنى المجازي.
هذا ، ولا يخفى
عليك ان العلة الحقيقية في الطهارة انما هي الاستحالة سواء كانت بالنار أو بغيرها
لأن الأحكام الشرعية تابعة لصدق الاسم فمتى انتقل الشيء عن حالته الاولى وحقيقته
السابقة إلى حقيقة أخرى وسمي باسم ما صدق عليه أفراد الحقيقة الثانية انتقل الحكم
ايضا عما كان عليه أولا إلى حكم آخر ويخرج الخبر المذكور شاهدا على
ذلك ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب أيضا قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : وليست
الاستحالة مختصة بالنار بل هي مطهرة بنفسها ومن ثم طهرت النطفة والعلقة بصيرورتهما
حيوانا والعذرة والميتة إذا صارا ترابا. وقال سبطه في المدارك في هذه المسألة :
والمعتمد الطهارة لأنها الأصل في الأشياء ، ولان الحكم بالنجاسة معلق على الاسم
فيزول بزواله. انتهى. وهو جيد. ونحن انما ذكرنا النار في عداد المطهرات مع ما
سيأتي ان شاء الله تعالى من عد الاستحالة جريا على كلامهم (رضوان الله عليهم)
وبذلك يظهر انه لا فرق بين الرماد والدخان في الحكم المذكور سيما مع دلالة ظاهر
الخبر المذكور على ذلك ، لانه لا ريب ان الجص كما اختلط بتراب العذرة والعظام فقد
لاقاه دخانها ايضا فلو لم يكن طاهرا لامتنع تجصيص المسجد به وجواز السجود عليه ،
هذا خلف ، وبذلك يظهر انه لا وجه لما ذكره الشيخ في المبسوط من حكمه بنجاسة دخان
الدهن النجس ولا لتردد المحقق في الرماد والدهن في كتاب الأطعمة.
قال في المعالم
بعد البحث في المسألة : إذا عرفت هذا فاعلم ان مورد الحديث كما علمت هو استحالة
عين النجاسة وقد وقع في كلام أكثر الأصحاب فرض المسألة كما في النص ، وعمم بعضهم
الحكم على وجه يتناول المتنجس ايضا نظرا الى ان ثبوت ذلك في أعيان النجاسات يقتضي
ثبوته في المتنجس بها بطريق اولى ، وهو جيد ويؤيده ملاحظة ما قررناه في تطهير الشمس
من كون دليل التنجيس في أمثال ذلك غالبا هو الإجماع وانتفاؤه بعد الاستحالة معلوم.
انتهى. وظاهره ان ثبوت الطهارة في المسألة المذكورة بالنسبة إلى عين النجاسة بعد
الاستحالة انما هو بالإجماع مضافا الى النص المذكور واما في المتنجس فليس إلا طريق
الأولوية المؤيدة بعدم الإجماع كما ذكره. وفيه نظر بل الحق في الموضعين هو ما
قدمنا ذكره من تبعية الأحكام للتسمية التابعة للحقيقة التي عليها ذلك الشيء ،
وسيأتي في المسألة الآتية ان شاء الله تعالى مزيد إيضاح لذلك.
نعم هنا مواضع
قد وقع الخلاف في طهارتها بالنار مع عدم الاستحالة أو الشك فيها
(الأول) الفحم قال
في المعالم : الحق بعض المتأخرين بالرماد الفحم محتجا بزوال الصورة فيه والاسم ،
وتوقف والدي (قدسسره) في ذلك ، وكلام المتقدمين خال من التعرض له ، والتوقف
في محله ان كانت استحالته عن عين نجاسة اما إذا كان مستحيلا عن متنجس كالحطب النجس
فليس بالبعيد طهارته نظرا الى ما قلناه في استحالة هذا النوع رمادا. انتهى وهو جيد
إلا ان في الفرق بين عين النجاسة والمتنجس خفاء فإنه إن حصلت الاستحالة والخروج عن
الحقيقة الاولى والاسم التابع لها إلى حقيقة أخرى يتبعها اسم آخر فالظاهر الطهارة
كما قدمناه في الموضعين وإلا فلا.
(الثاني) ـ الطين
النجس إذا طبخ بالنار حتى صار خزفا أو آجرا ، فذهب الشيخ في الخلاف والعلامة في
النهاية وموضع من المنتهى والشهيد في البيان والمحقق الشيخ حسن في المعالم الى
القول بالطهارة ، وجزم جمع من المتأخرين : منهم ـ الشهيد الثاني بالعدم ، وتوقف
المحقق في المعتبر والعلامة في موضع آخر من المنتهى والسيد السند في المدارك
استدل الشيخ في
الخلاف بالإجماع وصحيحة الحسن بن محبوب المتقدمة ، واحتج في المعالم على ذلك فقال
: لنا ـ أصالة الطهارة بالتقريب السابق في تطهير الشمس وملاحظة كون مدرك الحكم
بالتنجيس في مثله بعد ذهاب العين هو الإجماع ولا ريب في التفائه بعد الطبخ ، كيف
وقد احتج الشيخ للطهارة بإجماع الفرقة فلا أقل من دلالته على نفي الإجماع على ثبوت
التنجيس حينئذ وقد علم ان الاستصحاب في ما مدركه الإجماع مطرح وإذا لم يكن على
الحكم بالنجاسة فيما بعد الطبخ دليل فالأصل يقتضي براءة الذمة من التكليف باجتنابه
أو تطهيره أو تطهير ما يلاقيه برطوبة لأجل فعل مشروط بالطهارة. انتهى.
أقول : اما ما
استدل به الشيخ هنا على الطهارة فإنا لا نعرفه وهو اعرف به ، اما إجماعاته المدعاة
في هذا الموضع وغيره فلا يخفى على العارف الخائض في الفن ما فيها ، واما الرواية
فلا دليل فيها على ما يدعيه بالكلية كما تقدم بيانه إذ لا اشعار فيها بنجاسة الجص
قبل الحرق حتى انه بالحرق صار طاهرا ويصير الحكم في الخزف مثله.
واما ما ذكره
في المدارك بعد نقل احتجاج الشيخ (قدسسره) ـ حيث قال : وفيه إشكال منشأه الشك في تحقق الاستحالة
وان كان القول بالطهارة محتملا لعدم تيقن استمرار حكم النجاسة ـ ففيه ان ما ذكره
من الاشكال باعتبار الشك في تحقق الاستحالة كما تقدم منه أيضا في باب التيمم في
محله ، واما ما ذكره من ان القول بالطهارة محتمل لعدم تيقن استمرار حكم النجاسة
فكلام مزيف لا يخفى ما فيه على المتأمل بعين التحقيق فإنه متى ثبتت النجاسة وحكم
بها استمر الحكم بها حتى يثبت الرافع الشرعي والمطهر الشرعي وليس هنا إلا
الاستحالة وهو لا يقول بها بل جعلها موضع شك ، ولو كان مجرد خروج الشيء من حال
إلى أخرى يوجب الطهارة لوجب بمقتضى ذلك الحكم بطهارة العجين النجس بخبزه وطهارة
الأرض بعد الرطوبة باليبوسة بالهواء ونحو ذلك وهو لا يقول به ، وقد صرح به في
الفرع الأول من فروع مسألة تطهير الشمس في ما لو جف بغير الشمس فقال : ويدل عليه
ان نجاسة المحل بالنص فيقف زوال النجاسة على ما عده الشارع مطهرا. انتهى. وهو آت
في ما نحن فيه ، وبالجملة فإن الاستصحاب هنا انما هو من قبيل استصحاب عموم الدليل
المتفق على صحته. نعم ما ذكره يأتي في الاستصحاب المصطلح الذي هو محل النزاع بينهم
وهو ما دل الدليل فيه على حال مخصوصة وأريد تعدية الحكم الى حالة أخرى خالية من
النص لا في ما إذا كان الدليل شاملا للحالين.
واما ما ذكره
في المعالم فهو مبني على ما تفرد به في تطهير الشمس مما نقلناه ثمة عنه وبينا ما
فيه وهو أصل متزعزع الأركان وقاعدة منهدمة البنيان بما أوضحنا من الأدلة الساطعة
البرهان المخالفة لما عليه كافة العلماء الأعيان ، وحينئذ فمتى ثبتت النجاسة وجب
استصحاب حكمها الى ان يحصل المطهر الشرعي ، وليس ثبوت أصل الحكم بالإجماع خاصة كما
ادعاه حتى انه بعد الطبخ حيث لا إجماع فمقتضى الأصل الطهارة ، وبالجملة فإن
المعتبر في الحكم بالنجاسة هو ملاقاتها للشيء مع الرطوبة فإنه يصير بذلك متنجسا
بالإجماع نصا وفتوى وهذا الحكم لا يزول عنه إلا بتطهيره بأحد المطهرات المنصوصة ،
هذا هو مقتضى الأصول الشرعية والقواعد المرعية المتفق عليها بين كافة
العلماء قديما وحديثا ، وزوال العين لم يجعل مطهرا إلا في حالة مخصوصة متفق عليها نصا
وفتوى لا مطلقا كما يدعيه في غير الثلاثة التي قدمها.
احتج شيخنا
الشهيد الثاني في الروض على ما ذهب اليه من النجاسة بعدم خروج الخزف عن مسمى الأرض
كما لم يخرج الحجر عن مسماها مع انه أقوى تصلبا منه مع تساويهما في العلة وهو عمل
الحرارة في أرض أصابتها رطوبة ومن ثم جاز السجود عليهما مع اختصاصه بالأرض ونباتها
بشرطية. انتهى.
وأجاب عن ذلك
ولده في المعالم فقال : هذا ، وعندي ان ادعاء عدم الخروج عن الاسم هنا توهم منشأه
النظر الى الحجر وملاحظة ما ذكر من اشتراكهما في علة الصلابة وكونها في الحجر أقوى
، والعرف الذي هو المحكم عند فقدان الحقيقة الشرعية وخفاء اللغوية ينادي بالفرق
ويعلن بصدق اسم الأرض على الحجر دون الخزف ، وقد تنبه لهذا جماعة : منهم ـ المحقق
في المعتبر فقال في بحث التيمم : ان الخزف خرج بالطبخ عن اسم الأرض فلا يصلح
التيمم به ، ثم ذكر جوازه في الحجر محتجا بأنه أرض إجماعا (لا يقال) هذا مناف
لتوقفه في طهارته (لأنا نقول) ليس نظره في التوقف الى عدم الخروج عن الاسم لانه
توقف فيما لا ريب في خروجه وقد عرفت كلامه في الرماد وسترى كلامه في ما يستحيل
بغير النار. انتهى ومن هنا يظهر ان توقف من توقف في المسألة للشك في الخروج وعدمه
في محله. والله العالم.
(الثالث) ـ العجين
المعجون بماء نجس هل يطهر بخبزه أم لا؟ المشهور العدم وقال الشيخ في النهاية في
باب المياه : فان استعمل شيء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به ويخبز لم يكن
بأس بأكل ذلك الخبز فان النار قد طهرته. وقال في باب الأطعمة من الكتاب المذكور :
وإذا نجس الماء بحصول شيء من النجاسات فيه ثم عجن به وخبز لم يجز أكل ذلك الخبز
وقد رويت رخصة في جواز اكله وذلك ان النار قد طهرته
والأحوط ما قدمناه. واختلف كلامه أيضا في كتابي الحديث فأفتى في الاستبصار
بالطهارة وفي التهذيب بعدمها.
واحتج في
المعالم بعد اختياره القول المشهور من عدم الطهارة فقال : لنا ـ أصالة النجاسة إذ
المفروض كون الماء نجسا والنار لا تخرج من العجين المخبوز جميع الماء وانما تجفف
بعض رطوبته فيفتقر الحكم بطهارة باقي الرطوبة إلى الدليل (لا يقال) يلزم على هذا
طهر الأجزاء التي تجففها النار من رطوبة الماء رأسا لزوال المقتضى لاستصحاب
النجاسة حينئذ (لأنا نقول) مدار غالب أحكام النجاسات على الإجماع ومن البين ان
الخلاف هنا منحصر في القول بالبقاء على النجاسة مطلقا والقول بطهارته إذا صار خبزا
مطلقا والتمسك باستصحاب النجاسة ينفي القول الثاني ، واما احتمال الطهارة إذا صار
خبزا يابسا فإنما ينفيه فرض انحصار الخلاف في القولين إذ لا مساغ لإحداث الثالث
على ما يقتضيه أصول الأصحاب ، وقد بينا هذا في مبحث الإجماع من مقدمة الكتاب.
انتهى
أقول : لا يخفى
ان ما ذكره في صدر كلامه جيد وبه استدل جملة من الأصحاب إلا انه في سؤالاته لنفسه
وأجوبته قد ناقض نفسه في ما تقدم نقله عنه في تطهير الشمس فإنه قد قال ثمة ـ بعد
ان ذكر انحصار وجوب التطهير بعد زوال العين في الثوب والبدن والآنية دون غيرها ـ ما
لفظه : (فان قلت) كأن الاتفاق واقع على ان للنجاسات المعلومة أثرا في كل ما تلاقيه
برطوبة مستمرا الى ان يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل نوع من أنواع المطهرات الى
دليل يثبته (قلت) هذا كلام ظاهري يقع في خاطر العاجز عن استنباط بواطن الأدلة
ويلتفت اليه القانع بالمجمل عن التفاصيل وما قررناه أمر وراء ذلك ، وبالجملة فالذي
يقتضيه التحقيق انه لا معنى لكون الشيء نجسا إلا دلالة الدليل الشرعي على التكليف
باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة أو ازالة عينه أو أثره لأجله وان ما لا دليل فيه
على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى أصالة براءة الذمة من التكليف فيه
بأحدهما. إلى آخر ما تقدم.
أقول : لا ريب
في دخول الخبز اليابس بالنار أو الهواء في ما ذكره من الافراد التي يجب بمقتضى
تحقيقه الحكم فيه بالطهارة كالأرض التي تجف بغير الشمس ، وتوقفه هنا على وجود
القائل به يدفعه قوله بما ذهب اليه من هذا القول الذي تفرد به فإن عامة الأصحاب
قديما وحديثا كما لا يخفى على من راجع كتبهم وكلامهم على ان النجاسات متى أثرت في
شيء بملاقاتها له برطوبة وجب استصحاب ذلك الى وجود المطهر الشرعي وهو قد ذهب الى
طهارته بمجرد زوال العين في غير الثوب والبدن والآنية ، فاللازم هنا هو طهارة
الخبز الذي عجينه نجس باليبس وزوال الماء النجس كيف اتفق كما لا يخفى إذ العلة في
الموضعين واحدة والتستر عن ذلك بلزوم احداث قول ثالث في هذا المقام تستر بما هو
أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت. فان انتشار الخلاف وتكثر الأقوال في
المسائل الشرعية بين المتأخرين مما لم يوجد في كلام المتقدمين ولو صحت هذه القاعدة
لم يبلغ الأمر الى ذلك ، على ان الأصل الذي بنى عليه كما عرفت انما أحدثه هو خاصة
ولم يقل به أحد قبله بل عبائر الأصحاب كلها على خلافه وان سجل عليه بما سجل وأكثر
بما طول ، وبالجملة فظهور المنافاة بين كلاميه مما تقدم في مسألة تطهير الشمس وما
ذكره هنا أوضح من ان يحتاج الى تطويل وان تستر عنه بما لا اعتماد عليه ولا تعويل.
وكيف كان
فالواجب الرجوع الى الروايات الواردة في المقام وبيان ما يفهم منها من الأحكام :
فمنها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه قال وما أحسبه إلا حفص بن
البختري قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال يباع
ممن يستحل أكل الميتة».
وفي الصحيح عن
ابن ابي عمير ايضا عن بعض أصحابه عن الصادق (عليهالسلام) قال : «يدفن ولا يباع».
__________________
وما رواه ثقة
الإسلام والشيخ عن زكريا بن آدم قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال فقال فسد. قلت
أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم فإنهم يستحلون شربه». وبمضمون هذه
الرواية أفتى في الفقيه من غير إسنادها الى الامام فقال : «وان قطر خمر أو نبيذ في
عجين فقد فسد فلا بأس ببيعه من اليهود والنصارى بعد ان يبين لهم».
وفي الصحيح عن
ابن ابي عمير ايضا عن من رواه عن الصادق (عليهالسلام) «في عجين عجن وخبز ثم علم ان الماء كان فيه ميتة؟ قال لا بأس أكلت النار ما
فيه».
وعن عبد الله
بن الزبير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت
فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال إذا أصابته النار فلا بأس بأكله».
أقول : والظاهر
ان مستند الشيخ في ما تقدم نقله عنه من الطهارة بالخبز هو الخبران الأخيران ، ورده
المتأخرون بعد الطعن بضعف السند بالطعن في الدلالة (اما الأول) فلأن الميتة أعم من
الطاهرة والنجسة ولا دلالة في الخبر على كونها من ذوات الأنفس النجسة بالموت. و (اما
الثاني) فهو موقوف على القول بنجاسة البئر والأظهر طهارتها وهذا الخبر من جملة
الأخبار الدالة على ذلك ، ونفي البأس عن اكله بعد اصابة النار انما هو كناية عن
الاستقذار المتوهم مما في الماء كما يشير اليه قوله في الخبر الأول «أكلت النار ما
فيه» ومن المحتمل قريبا ان المراد بالماء في رواية ابن ابي عمير الثالثة انما هو
ماء البئر ، وحينئذ فلا فرق بين كونها نجسة العين أو طاهرة بناء على عدم نجاسة
البئر بالملاقاة ، وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور لأصالة بقاء النجاسة حتى
يحصل
__________________
المطهر الشرعي كما عليه جملة الأصحاب في هذا الباب وتخرج الروايات الثلاث
المتقدمة شاهدة على ذلك.
بقي الكلام هنا
في مسألتين : (إحداهما) أن الرواية الأولى تضمنت انه يباع ممن يستحل الميتة
والثانية تضمنت انه يدفن ولا يباع. ويمكن الجمع بينهما بحمل النهي عن البيع على
البيع على المسلم من غير اعلام وإلا فبيعه على المسلم مع الاعلام لا إشكال في
جوازه بل الظاهر انه لا خلاف فيه كالدهن النجس ونحوه فان له منافع محللة.
و (ثانيتهما) ـ
ان الرواية الأولى تضمنت انه يباع من أهل الذمة وبه صرح الشيخ في النهاية وهو ظاهر
المشهور بين الأصحاب أيضا ، ومنع ابن إدريس من ذلك وذهب الى انه لا يجوز بيعه
مطلقا وقال ان الرواية الواردة بذلك متروكة فلا عمل عليها لأنها مخالفة لأصول
مذهبنا ولان الرسول (صلىاللهعليهوآله) قال : «إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه» . وأجاب العلامة في المختلف بعد اختياره مذهب الشيخ عن
كلام ابن إدريس بأن هذا في الحقيقة ليس بيعا وانما هو استنقاذ مال الكافر من يده
برضاه فكان سائغا. انتهى. وهو مؤذن بتوقفه في الحكم بصحة البيع ، وبذلك صرح في
المنتهى فقال : واما ما تضمنته الرواية من البيع ففيه نظر والأقرب انه لا يباع
لرواية ابن ابي عمير فان استدل بما رواه ابن ابي عمير وذكر الرواية الاولى ، ثم
قال والجواب انها معارضة لما قدمناه ويمكن ان يحمل على البيع على غير أهل الذمة
وان لم يكن ذلك بيعا حقيقة.
وعندي في ما
ذكره ابن إدريس وكذا ما ذكره العلامة في المنتهى نظر
__________________
(اما أولا) فلما قدمنا الإشارة إليه من انه عين مملوكة يجوز الانتفاع بها
نفعا محللا في علف الحيوان كالدهن النجس للاستصباح وغيره فلا مانع من بيعه ، نعم
إذا باعه على مسلم فظاهر الأصحاب وجوب اعلامه وان لم أقف فيه على دليل واما بيعه
على الكافر المستحل لذلك فلا يتوقف على الاعلام.
و (اما ثانيا)
ـ فلتظافر الأخبار بذلك ومنها رواية زكريا بن آدم المتقدمة وصحيحة ابن ابي عمير
الاولى وحسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل
الميتة ثم ان الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع؟ قال يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل
ثمنه.». وصحيحته الأخرى أيضا عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سمعته يقول إذا اختلط الذكي بالميت باعه ممن
يستحل الميتة.». ومع دلالة هذه الأخبار على الحكم المذكور فلا مجال للتوقف فيه ولا
ضرورة الى ما تكلفه العلامة في المختلف من التأويل.
واما ما استند
اليه ابن إدريس من الحديث الذي نقله ففيه انه بعد صحته وثبوته فغايته ان يكون
مطلقا وهذه الأخبار مع تكاثرها وصحتها خاصة فيجب تقييد إطلاق ذلك الخبر بها كما هو
القاعدة المتكررة في كلامهم.
بقي ان رواية
زكريا ابن آدم تضمنت الاعلام قبل البيع إلا ان ذلك في كلام السائل فلا يتقيد به
الحكم المذكور لكن ظاهر عبارة الصدوق المتقدمة تقييد الحكم بذلك في البيع على أهل
الذمة واليه يشير كلام العلامة في المنتهى وقوله : «ويمكن ان يحمل على البيع على
غير أهل الذمة» ويمكن توجيه ذلك بأنهم مع القيام بشرائط الذمة يعاملون معاملة
المسلمين فلا يباع عليهم الا مع الإعلام. إلا ان فيه ان رواية زكريا المشتملة على
ذلك وهي التي أخذ الصدوق عبارته منها تضمنت انهم يستحلون شربه فأي
__________________
فائدة تترتب على الاعلام ، وبالجملة فالإشكال في عبارة الصدوق لا في
الرواية لما عرفت. والله العالم.
(المسألة
الرابعة) ـ من المطهرات عند الأصحاب الاستحالة إلا انهم قد اتفقوا على مواضع منها
واختلفوا في مواضع : فاما ما وقع عليه الاتفاق فالنطفة والعلقة إذا استحالتا
حيوانا طاهرا والخمر إذا انقلب خلا والدم إذا صار قيحا ، وقد نقل العلامة في
المنتهى الإجماع على الحكم في كل من هذه المذكورات وأضاف إلى القيح الصديد ايضا ،
وفيه كلام تقدم في آخر الفصل الرابع في نجاسة الدم وهو ان الصديد قيح يخالطه الدم
كما لا يخفى ، ومن ذلك أيضا استحالة الماء النجس بولا لحيوان مأكول اللحم والغذاء
النجس روثا لحيوان مأكول اللحم.
واما ما وقع
فيه الخلاف من الافراد فمنه ـ ما تقدم في مسألة التطهير بالنار ، ومنه ـ الكلب إذا
وقع في المملحة فصار ملحا فذهب المحقق في المعتبر والعلامة في عدة من كتبه الى عدم
الطهارة ، قال في المنتهى : إذا وقع الخنزير وشبهه في ملاحة فاستحال ملحا والعذرة
في البئر فاستحالت حمأة لم تطهر وهو قول أكثر أهل العلم خلافا لأبي حنيفة وبنحو ذلك صرح المحقق في المعتبر ، واحتجا بأن النجاسة
قائمة بالأجزاء لا بالصفات فلا تزول بتغير أوصاف محلها وتلك الأجزاء باقية فتكون
النجاسة باقية لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها. والمشهور في كلام المتأخرين عنهما هو
القول بالطهارة لما قدمنا ذكره في بحث تطهير النار من ان الأحكام تابعة للاسم
الجاري على حقائق الأشياء وجارية على ذلك ، والكلب بعد استحالته ملحا قد صارت
حقيقته إلى حقيقة الملح وسمي باسم آخر باعتبار ما صار اليه ، فما ورد من الأخبار
الدالة على نجاسة الكلب لا تصدق في محل البحث والاخبار الدالة على طهارة الملح
وحله جارية عليه في هذه الحالة بعين ما وافقوا عليه في الافراد المتقدمة ، ولو صحت
هذه التعليلات العليلة لجرت ايضا فيما وافقوا على طهارته بالاستحالة.
__________________
ولا بأس بالتعرض لنقل كلام جملة من الأصحاب في الباب ليزول عنك الشك فيما
ذكرنا والارتياب. قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد ان ذكر عبارة المصنف
المؤذنة بالتوقف في الحكم المذكور في بيان وجهي التوقف : من ان اجزاء النجاسة
باقية لم تزل وانما تغيرت الصورة وكما ان النجاسة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل كذا
حصول الطهارة موقوف على الدليل ولم يثبت ، ومن ان مناط النجاسة هي تلك الصورة مع
الاسم لأن أحكام الشرع جارية على المسميات بواسطة الأسماء لأن المخاطب بها كافة
الناس فينزل على ما هو المتفاهم بينهم عرفا أو لغة كما يليق بالحكمة ، ولا ريب ان
الذي كان من افراد نوع الكلب قبل الاستحالة بحيث يصدق عليه اسمه قد زال عنه ما كان
وصار في الفرض من افراد الملح بحيث لا يصدق عليه ذلك الاسم بل يعد إطلاقه غلطا ،
وكذا القول في العذرة بعد صيرورتها ترابا فيجب الآن ان تجري عليها الأحكام
المترتبة شرعا على التراب والملح ، على ان جميع ما أجمعوا على طهارته من نحو
العذرة تصير دودا والمني يصير حيوانا طاهر العين ونحو ذلك لا يزيد على هذا ، فكان
التوقف في الطهارة هنا لا وجه له. انتهى كلامه. وهو جيد وجيه وبالجملة فإن المعلوم
من الشرع والنصوص الواردة عن أهل الخصوص (عليهمالسلام) هو دوران الأحكام مدار الأسماء الثابتة لتلك المسميات
فإذا حكم الشارع بنجاسة الكلب مثلا أو العذرة بقي الحكم ثابتا ما ثبت هذا الاسم
وإذا حكم بطهارة الملح وحله وطهارة التراب ثبت ايضا ما ثبت الاسم كائنا ما كان ،
وقد تقدم كلام صاحب المدارك في ذلك في سابق هذه المسألة ونحوه كلام جده ، وقال
المحقق الشيخ حسن في المعالم في هذه المسألة بعد نقل القول بالنجاسة عن الفاضلين
والطهارة عن فخر المحققين والمحقق الشيخ علي والشهيد ووالده ـ ما صورته : وهو
الأظهر لنا ـ ان الحكم بالنجاسة منوط بالاسم كما هو الشأن في سائر الأحكام الشرعية
فيزول بزواله والمفروض في محل النزاع انتفاء صدق الاسم الأول ودخوله تحت اسم آخر
فيجب زوال الحكم الأول ولحوق
أحكام الاسم الثاني له ، ثم نقل حجة الفاضلين المتقدمة وقال : والجواب ان
قيام النجاسة بالأجزاء مسلم لكن لا مطلقا بل بشرط الوصف لانه المتبادر من تعليق الحكم
بالاسم والمعهود في الأحكام الشرعية ولا ريب في انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه.
انتهى.
وهو جيد وجيه.
فرعان
(الأول) ـ قد
نبه جملة من الأصحاب في الصورة المفروضة على اشتراط كرية ماء المملحة. والظاهر ان
الوجه فيه تنجس الماء والأرض لو كان الماء أقل من كر وكذا الملح الملاقي له في
المملحة ، فطهارته بالاستحالة بعد تنجس جميع ذلك لا يجدي في زوال النجاسة العارضة
به أولا وكذا استحالة الماء ملحا بعد نجاسة أرضه لا يجدي في زوال النجاسة عنه.
(الثاني) ـ ينبغي
ان يعلم ان طهارة العذرة مثلا باستحالتها ترابا والحكم بطهارة التراب في الصورة
المذكورة انما هو فيما إذا كانت العذرة التي كانت في الأرض يابسة ثم استحالت اما
لو كانت رطبة ثم استحالت فإن الأرض قد تنجست بها في حال الرطوبة فهي وان استحالت
إلا ان الأرض باقية على النجاسة بذلك السبب وان كانت عرضية ، وهكذا كل نجاسة رطبة
استحالت أرضا.
واما باقي
المطهرات العشرة كما عده الأصحاب فمنه ـ الإسلام والأمر فيه ظاهر ، والانقلاب وقد
تقدمت الإشارة إليه في الاستحالة بانقلاب الخمر خلا والعصير ، وعليه تدل جملة من
الاخبار ومنها ـ موثقة عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يأخذ الخمر فيجعله خلا؟ قال لا بأس». وموثقة
أخرى له ايضا عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «في رجل باع عصيرا فحبسه السلطان حتى
__________________
صار خمرا فجعله صاحبه خلا؟ فقال إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس». وفي هذا
الخبر كما ترى دلالة على ما قدمنا ذكره من تبعية الأحكام الشرعية للاسم طهارة
ونجاسة وحلا وحرمة ومنها ـ نقصان العصير وقد تقدم جملة من الأخبار الدالة عليه في
فصل نجاسة الخمر. ومنها ـ الانتقال كالدم المنتقل إلى البعوضة والقمل ونحوهما
والحكم فيه ايضا مما لا خلاف فيه ولا اشكال يعتريه والله العالم.
(المقصد الثالث)
ـ في الأواني والكلام يقع في حكم تطهيرها وبيان ما يجوز استعماله منها وما لا يجوز
فالكلام في هذا المقصد يقع في مطلبين (الأول) في حكم تطهيرها وفيه مسائل :
(الأولى) اختلف
الأصحاب في كيفية تطهير الإناء من ولوغ الكلب بالماء القليل ، فالمشهور انه يطهر
بغسله ثلاث مرات أولاهن بالتراب. وقال المفيد (قدسسره) في المقنعة يغسل ثلاثا وسطاهن بالتراب ثم يجفف. وأطلق
جملة من الأصحاب : منهم ـ المرتضى (رضياللهعنه) والشيخ في الخلاف انه يغسل ثلاثا إحداهن بالتراب وقال
الصدوق في الفقيه بعد تقدم ذكر الإناء : «وان وقع فيه كلب أو شرب منه أهريق الماء
وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم يجفف» وكذا نقله عن أبيه في
الرسالة أيضا بعين هذه العبارة ، وقال ابن الجنيد في مختصره : «والأواني إذا نجست
بولوغ الكلب أو ما جرى مجراه غسل سبع مرات أولاهن بالتراب».
والذي وقفت
عليه من الأخبار في المسألة صحيحة أبي الفضل البقباق المروية في التهذيب عن الصادق
(عليهالسلام) قال : «سألته عن الكلب فقال رجس نجس لا يتوضأ بفضله
واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء». وروى هذه الرواية المحقق في
المعتبر وكذا العلامة في المنتهى وزادا لفظ «مرتين» بعد قوله «بالماء».
وما في الفقه
الرضوي حيث قال (عليهالسلام) : «ان وقع كلب في الماء أو شرب منه أهريق الماء وغسل
الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم
__________________
يجفف». انتهى. ومن هذه العبارة أخذ الصدوق في الفقيه وكذا في المقنع وأبوه
في الرسالة ما ذكراه حسبما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى في جملة من الأحكام
الآتية في كتاب الصلاة والكتب التي بعده.
وما رواه الشيخ
في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) «في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ؟ قال تغسله سبع مرات وكذلك الكلب». والظاهر
ان هذا الخبر مستند ابن الجنيد في ما نقل عنه من السبع والخبر وان كان خاليا من
ذكر التراب إلا انه يمكن أخذه من الخبر المتقدم.
وتحقيق البحث
في المسألة يتوقف على بسط الكلام في موارد (الأول) ـ مورد الخبرين المتقدمين شرب
الكلب من الإناء والأصحاب عبروا في هذا الموضع بالولوغ وهو لغة ـ على ما نص عليه
في الصحاح وغيره ـ شرب الكلب بطرف لسانه ، وزاد في القاموس إدخال لسانه في الإناء
وتحريكه.
ونص جماعة من
متأخري الأصحاب على ان لطع الكلب بلسانه اي لحسه للإناء في معنى الولوغ ايضا وان
لم يصدق عليه اسمه حقيقة نظرا إلى انه اولى بالحكم من الولوغ فيتناوله الدليل
بمفهوم الموافقة ، وصرح به في المدارك واستحسنه في المعالم وهو غير بعيد.
ونص العلامة في
النهاية على انه لو حصل اللعاب بغير الولوغ فالأقوى إلحاقه به إذ المقصود قلع
اللعاب من غير اعتبار السبب ، قال وهل يجري عرقه وسائر رطوباته واجزائه وفضلاته
مجرى لعابه؟ إشكال الأقرب ذلك لان فمه أنظف من غيره ولهذا كانت نكهته أطيب من غيره
من الحيوانات لكثرة لهثه ، مع انه قال في المنتهى : لا يغسل بالتراب إلا من الولوغ
خاصة فلو ادخل الكلب يده أو رجله أو غيرهما كان كغيره من النجاسات ، ثم نقل عن ابن
بابويه التسوية بين الوقوع والولوغ ونقل أقوال بعض العامة ثم أجاب عنه بأنه تكليف
غير معقول المعنى فيقف على النص وهو انما دل
__________________
على الولوغ ، ثم نقل حجة المخالف بان كل جزء من الحيوان يساوي بقية الاجزاء
في الحكم ، ثم أجاب بأن التساوي ممنوع والفرق واقع إذ في الولوغ تحصل ملاقاة
الرطوبة اللزجة للإناء المفتقرة إلى زيادة في التطهير. وقد اقتفى في هذه الحجة
المحقق في المعتبر ومنها يعلم الجواب عما صار إليه في النهاية ، ومن العجب انه قال
فيها بعد الكلام المتقدم بسطر واحد تقريبا : ولو ادخل يده أو رجله أو غيرهما من
اجزائه كان كغيره من النجاسات وقيل بمساواته للولوغ ، والأصحاب قد نقلوا عن ابني
بابويه إلحاق الوقوع بالولوغ وردوه بعدم الدليل.
قال في المعالم
بعد نقل ذلك عنهما : والمشهور بين الأصحاب قصر الحكم على الولوغ وما في معناه وهو
اللطع ، والوجه فيه ظاهر إذ النص انما ورد في الولوغ وادعاء الأولوية في غيره
مطلقا في حيز المنع وبدونها يكون الإلحاق قياسا. انتهى.
أقول : العذر
لهم واضح حيث انهم لم يقفوا على هذا الكتاب الذي هو مستندهم في جميع ما يستغربونه
من الأحكام التي يقول بها ولم يوجد مستندها في الكتب المشهورة. لكن الاولى بهم في
مثل المقام ان يحملوا كلامهما على وصول خبر إليهما ولم يصل الى المتأخرين حيث
انهما من أرباب النصوص الذين لا يعولون إلا عليها على الخصوص لا على مفهوم أولوية
ولا قياس ولا نحوهما مما لا يخرج عن شبهة الالتباس ، وبالجملة فقد عرفت مستندهما
في ما ذكراه فلا ورود لما أورد عليهما.
والعجب ايضا ان
ممن صرح بإلحاق الوقوع بالولوغ المفيد (قدسسره) والظاهر ان مستنده أيضا في ذلك هو الكتاب المذكور وان
كانت عبارته على غير نهج عبارة الكتاب حيث قال : إذا شرب منه كلب أو وقع فيه أو
ماسة ببعض أعضائه فإنه يهراق ما فيه من ماء ثم يغسل مرة بالماء ومرة ثانية بالتراب
ومرة ثالثة بالماء ويجفف ويستعمل. ومنه يظهر قوة ما ذهب إليه في النهاية بالنسبة
الى اجزاء الكلب. نعم ما ذكره زيادة على ذلك من عرقه وسائر رطوباته محل توقف لعدم
الدليل.
(الثاني) ـ المشهور
بين الأصحاب من غير خلاف يعرف متقدميهم ومتأخريهم هو وجوب المرتين بالماء مع ان
الخبر الذي نقله الشيخ خال من ذلك ولفظ المرتين انما وجد في الخبر بنقل المعتبر
ومن أجل ذلك اعترضهم في المدارك فقال بعد نقل الخبر عن الشيخ : كذا وجدته في ما
وقفت عليه من كتب الأخبار ونقله كذلك الشيخ (قدسسره) في مواضع من الخلاف والعلامة في المختلف إلا ان المصنف
في المعتبر نقله بزيادة لفظ «مرتين» بعد قوله : «اغسله بالماء» وقلده في ذلك من
تأخر عنه ، ولا يبعد ان تكون الزيادة وقعت سهوا من قلم الناسخ ، ومقتضى إطلاق
الأمر بالغسل الاكتفاء بالمرة الواحدة بعد التعفير إلا ان ظاهر المنتهى وصريح
الذكرى انعقاد الإجماع على تعدد الغسل بالماء فان تم فهو الحجة وإلا أمكن الاجتزاء
بالمرة لحصول الامتثال بها. انتهى أقول : ان ذكر المرتين لو اختص بمن تأخر عن
المحقق لتم ما ذكره ولكنه موجود في كلام المتقدمين كالشيخين والصدوقين والمرتضى
وغيرهم. واما ما ادعاه من توهم السهو في النقل فقد أجاب عنه شيخنا البهائي في
الحبل المتين بان عدم اطلاعنا على هذه الزيادة في الأصول المتداولة في هذا الزمان
غير قادح وان كلام المحقق في المعتبر يعطي انه نقل بعض الأحاديث المذكورة من كتب
ليست في أيدي أهل زماننا إلا أسماؤها ككتب الحسن بن محبوب واحمد بن محمد بن ابي
نصر والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان وغيرهم ، ولعله (قدسسره) نقل هذه الزيادة من بعض هذه الكتب. انتهى. وهو جيد ،
ويؤيده ما عرفت من تصريح أساطين الفرقة الناجية بذلك ووجود ذلك في كتاب الفقه فلا
مجال للتوقف فيه.
(الثالث) ـ قد
عرفت مما تقدم انه أطلق جملة من الأصحاب الغسل ثلاثا إحداهن بالتراب ، وبعض قيد
بتقديم التراب وبعض جعله متوسطا ، وظاهر الجميع الاتفاق على عدم جواز التأخير. بقي
الكلام في القولين المذكورين وصحيحة البقباق
قد صرحت بالتقديم. واما القول بالتوسط كما ذهب اليه شيخنا المفيد فلم نقف
له على مستند.
(الرابع) ـ اختلف
الأصحاب في الغسلة التي بالتراب هل يجب المزج فيها بالماء أم لا؟ فذهب إلى الأول
الراوندي وابن إدريس ومال إليه العلامة في المنتهى خاصة ، والمشهور العدم لكنهم
بين ساكت عن حكم المزج وبين مصرح بجوازه واجزائه في التطهير ، وممن صرح بالاجزاء
الشهيد في الدروس والبيان وهو ظاهر الشهيد الثاني في المسالك أيضا إلا انه اشترط
بان لا يخرج التراب بالمزج عن اسمه.
قال ابن إدريس
على ما نقله عنه العلامة في المختلف : كيفية غسله بالتراب ان يمزج الماء بالتراب
ثم يغسل به الإناء أول مرة لأن حقيقة الغسل جريان المائع على المحل. وقال في
المنتهى قال ابن إدريس الغسل بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه ومن الماء لا يفرد
أحدهما عن لآخر إذ الغسل بالتراب لا يسمى غسلا لان حقيقته جريان المائع على الجسم
المغسول والتراب وحده غير جار ، وفي اشتراط الماء نظر وان كان ما قاله قويا.
انتهى.
أقول : ومن هذا
الكلام علم دليل القول المذكور وملخصه ان حقيقة الغسل جريان المائع على الجسم
المغسول والتراب وحده لا يحصل به الجريان فيعتبر مزجه بالماء تحصيلا لحقيقة الغسل.
وأجاب عنه
المحقق الشيخ علي بأنه خيال ضعيف فان الغسل حقيقة إجراء الماء فالمجاز لازم على
تقدير ذلك مع ان الأمر بغسله بالتراب والممزوج ليس ترابا.
وأجاب عنه
الشهيد في الذكرى تبعا للعلامة في المختلف بأنه لا ريب في انتفاء الحقيقة على
التقديرين والخبر مطلق فلا ترجيح. وهو يرجع في الحقيقة إلى الأول وتوضيحه ان ادعاء
صدق مفهوم الغسل مع المزج ان كان بالنظر الى الحقيقة فالمزج ليس بمحصل لحقيقة
الغسل قطعا إذ الغسل حقيقة انما هو بالماء أو نحوه من المائعات المشابهة له ، وان
كان باعتبار المجاز فهو صادق بالتراب وحده ، وليس على ترجيح
أحد المجازين دليل ، والإطلاق الواقع في الخبر يدل بظاهره على الاكتفاء بأقل
ما يتحقق معه الاسم فيحتاج إثبات الزائد عليه الى دليل.
ويمكن دفعه بان
يقال ان التراب الممتزج وان لم يسم غسلا حقيقة إلا أنه أقرب الى حقيقة الغسل من
الدلك بالتراب وحده ومع تعذر الحقيقة يصار إلى أقرب المجازات إلا انه ربما تطرق
القدح ايضا الى هذا الوجه بأنه على تقدير المزج يلزم ارتكاب تجوزين (أحدهما) في
الغسل كما اعترف به ، و (ثانيهما) في التراب فان الممزوج بالماء على وجه يحصل فيه
الجريان لا يسمى ترابا كما تقدم في كلام المحقق الشيخ علي ، واما على الوجه الآخر
وهو الغسل بالتراب وحده فإنما يلزم ارتكاب مجاز واحد في لفظ الغسل.
وربما بنى
الكلام في المقام على معنى الباء في قوله (عليهالسلام) «بالتراب» فان حملناها علي الاستعانة كما في قولهم «كتبت
بالقلم» والظرف حينئذ لغو ومتعلقة خاص مذكور تعين التجوز في لفظ الغسل بإرادة
الدلك منه بنوع من العلاقة وكان الخبر واضح الدلالة على القول المشهور ، وان
حملناها على المصاحبة كما في قولهم «دخلت عليه بثياب السفر» فالظرف على هذا
التقدير حال من الغسل المدلول عليه بالأمر وهو حينئذ مستقر لكون متعلقة امرا عاما
واجب الحذف وهو الكون والاستقرار كما قرر في محله من الكتب النحوية ، وعلى هذا فلا
حاجة الى التجوز في الغسل بل يبقى على حقيقته إلا انه يحتاج الكلام الى تقدير
متعلق الجار ويصير حاصل الكلام واغسله حال كون الغسل كائنا بمصاحبة التراب ، وليس
في هذا الوجه ما ربما يستبعد به إلا تقدير متعلق الجار وهو وان كان خلاف الأصل إلا
ان مقتضى القواعد النحوية ذلك ، وبهذا الوجه يكون الخبر حجة لابن إدريس ومن قال
بمقالته وربما رجح ايضا بقلة استعمال الغسل في الدلك بالتراب وبعده عن الفهم وليس
الإضمار لمتعلق الجار بهذه المثابة بل هو شائع الاستعمال. وبالجملة فالمسألة لا
تخلو من الاشكال لما عرفت والاحتياط بالتراب وحده والتراب الممزوج مما لا ينبغي
تركه.
تذنيب
قال العلامة في
التذكرة. ان قلنا بمزج التراب بالماء فهل يجزئ لو صار مضافا؟ اشكال ، وعلى تقديره
هل يجزئ عوض الماء ماء الورد وشبهه؟ اشكال ، وبنى الحكم في النهاية على ان التعفير
هل ثبت تعبدا أو استظهارا في القلع بغير الماء؟ فعلى الأول يتوقف فيه مع ظاهر
النقل وعلى الثاني يجزئ عوض الماء غيره من المائعات كالخل وماء الورد ولا يضر خروج
الماء عن الإطلاق بالمزج بطريق أولى.
أقول : أنت
خبير بان الظاهر ان الأمر بالتعفير انما هو تعبد شرعي والتعليل بإزالة الأجزاء
اللعابية علة مستنبطة مع تخلفها في كثير من الموارد كما لا يخفى ، والمعلوم من
الشرع عدم مدخلية غير الماء المطلق في التطهير مطلقا ، وصدق التراب مع صيرورة
الماء به مضافا لا يخلو من اشكال ، وبالجملة فإن إدخال هذه الفروع في المسألة لا
يخلو من الاشكال.
(الخامس) ـ قد
نص جمع من الأصحاب على اشتراط طهارة التراب التفاتا الى ان المطلوب منه التطهير
والنجس لا يطهر ، واحتمل العلامة في النهاية أجزاء النجس ووجهه بان المقصود من
التراب الاستعانة على القلع بشيء آخر وشبهه حينئذ بالدفع بالنجس وأنت خبير بما
فيه لان التعليل بما ذكره وان تكرر في كلام جملة منهم إلا انه غير معلوم من النص
بل هو علة مستنبطة بأهل القياس انسب. وظاهر كلام صاحبي المعالم والمدارك الجواز
بالنجس نظرا إلى إطلاق النص إلا انه قال في المعالم بعد ذلك : ولعل ارادة الطاهر
تتبادر الى الفهم عند الإطلاق. وقال في المدارك بعد ان نقل عن العلامة في المنتهى
اشتراط طهارة التراب لان المطلوب منه التطهير وهو غير مناسب للنجس : ويشكل بإطلاق
النص وحصول الإنقاء بالطاهر والنجس.
أقول :
والتحقيق عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه في مسألة تطهير الأرض من ان الأظهر
الاستدلال على مثل هذا الحكم بالحديث الوارد عنه (صلىاللهعليهوآله)
بعدة طرق من قوله : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». فإنه شامل للطهارة
الحدثية والخبثية ، والطهور ـ كما تقدم تحقيقه في صدر الكتاب ـ هو الطاهر المطهر ،
فيجب الحكم هنا بطهارة التراب وان غفل عنه الأصحاب في هذا الباب.
(السادس) ـ نقل
العلامة في المختلف عن ابن الجنيد انه يجزئ في الغسلة الأولى التراب أو ما قام
مقامه وهو يدل على عدم تحتم التراب عنده بل يجزئ ما قام مقامه في إزالة النجاسة عن
المحل وظاهره التخيير بين التراب وغيره مما في معناه ، وجمهور الأصحاب على خلافه
وقوفا على النص الوارد في المسألة كما تقدم ، ولعل ذهاب ابن الجنيد الى ذلك مبني
على ما نقله الأصحاب عنه من العمل بالقياس ، قال الشيخ في الفهرست في ترجمة ابن
الجنيد : وكان جيد التصنيف حسنة إلا انه كان يرى القول بالقياس فترك لذلك كتبه ولم
يعول عليها. وقال النجاشي في كتابه : أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب وجه في
أصحابنا ثقة جليل القدر صنف فأكثر وانا ذاكرها بحسب الفهرست الذي ذكرت فيه ، ثم
ذكرها الى ان قال سمعت شيوخنا الثقات يقولون انه كان يقول بالقياس. وقال العلامة
في الخلاصة : انه كان وجها في أصحابنا ثقة جليل القدر ، ثم نقل كلام الشيخ
المتقدم. أقول : لا يخفى ما في كلامه وكذا كلام النجاشي قبله من الإشكال لأن وصفه
بالجلالة والوثاقة مع نقلهم عنه القول بالقياس مما لا يجتمعان فإن أصحابنا مجمعون
على ان ترك العمل بالقياس من ضروريات مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) لاستفاضة الأخبار بالمنع منه فكيف يجامع القول به
الوثاقة؟ وظاهر كلام الشيخ الجزم بذلك والنجاشي قد نقل عن شيوخه الثقات ذلك فكيف
يصفه مع ذلك بما ذكره في صدر الترجمة؟ وبالجملة فكلامهم هنا لا يخلو من النظر
الواضح.
(السابع) ـ نقل
المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط انه قال : إذا لم يوجد التراب اقتصر على
الماء وان وجد غيره كالأشنان وما يجري مجراه أجزأ. ثم نقل ذلك
__________________
عن ابن الجنيد ايضا ، ثم قال : ووجه ما ذكراه ان الأشنان أبلغ في الإنقاء
فإذا طهر بالتراب فبالأشنان أولى ، ثم تردد فيه فقال وفيه تردد منشأه اختصاص
التعبد بالتراب وعدم العلم بحصول المصلحة المرادة منه بغيره ، على انه لو صح ذلك
لجاز مع وجود التراب. انتهى. وهو جيد ، وفيه تأييد لما قدمناه من ان الأمر بالغسل
بالتراب انما هو أمر تعبدي لا لما ذكروه من الوجه الاستنباطي ، إلا انه قد نقل عن
ابن الجنيد ما ذكره من ان ما عدا التراب من الأجسام المشابهة له انما يصار اليه
بعد فقد التراب ، والذي نقله عنه في المختلف كما تقدم ومثله الشهيد في الذكرى ايضا
هو القول بالتخيير. وكيف كان فإنه بالنظر الى توجيه المحقق لهذا القول ـ إذ لا وجه
له ظاهرا سواه ـ فالأرجح هو قول ابن الجنيد بالتخيير لان أولويته في الإزالة
والقلع من التراب لا أقل تقتضي مساواته فيجوز به وان كان التراب موجودا ويرجع الى
التخيير بين التراب المذكور في النص وبين غيره بحكم الأولوية إلا ان فيه ما أورده
عليه في المعتبر.
واقتفى الشيخ
في ما ذكره من هذا الحكم جمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة في كثير من كتبه ، وتوقف
في النهاية ، وقال في المنتهى ان عدم اجزاء غير التراب هو الأقوى لأن المصلحة
الثابتة من التعبد باستعمال التراب لو حصلت بالأشنان وشبهه لصح استعماله مع وجود
التراب.
ونقل عن المحقق
الشيخ علي انه انتصر لهذا القول فقرب دليله واستوجهه ثم استدرك بان جمعا من
الأصحاب ذكروا الاجتزاء بالمشابه مع فقد التراب والخروج عن مقالتهم أشد إشكالا.
ولا يخفى ما فيه فان غاية ما شاع بينهم تناكره هو عدم جواز احداث القول في مقام
دعوى الإجماع لا في مقام الخلاف واختيار أحد القولين في المسألة والأمر هنا من
قبيل الثاني لا الأول.
ثم انه لا يخفى
ان ظاهر عبارة الشيخ المنقولة التخيير عند عدم التراب بين الاقتصار على الماء
واستعمال ما يشبه التراب ولم نقف على قائل بذلك صريحا في كلامهم نعم نقل
عن العلامة في التذكرة والنهاية انه ذكر ذلك احتمالا.
(الثامن) ـ يعزى
الى الشيخ القول باجزاء الماء وحده عند عدم التراب وشبهه واليه ذهب العلامة في
جملة من كتبه والشهيد ، وعبارة الشيخ المتقدمة في سابق هذا المورد لا تدل عليه
وانما تدل على ما قدمنا ذكره اللهم إلا ان يكون وصل إليهم من موضع آخر.
ثم انه على
تقدير الاجتزاء بالماء مع فقد التراب وشبهه فهل يجب الغسل ثلاث مرات أو مرتين؟
احتمالان مبنيان على انه مع فوات التراب وشبهه ينتقل الى ما هو أبلغ منه وهو الماء
فتجب الثلاث حينئذ أو انه بفقد التراب يسقط التكليف به وقيام غيره مقامه يحتاج الى
دليل فيكتفى بالغسلتين لان الحكم ببقاء الإناء على النجاسة والحال هذه تكليف
بالمشقة. وقواه العلامة في التحرير والمنتهى على ما نقل عنه ، وفي القواعد اختار
الثلاث. وأورد على أصل المسألة المذكورة بأن مقتضى اشتراط حصول الطهارة للإناء
بالغسل المعين بالتراب والماء عند عروض هذا النوع من النجاسة هو انتفاء المشروط
عند فقدان شرطه كما هو القاعدة في مثله ، ومن البين ان الشرط إذا كان مركبا من
أمرين أو أمور كفى في انتفائه انتفاء جزئه ، وادعاء قيام البدل عن الجزء المفقود
أو سقوط اشتراطه عند تعذره يحتاج الى الدليل ، ألا ترى ان الجزء الآخر للشرط هنا
وهو الماء لا يتفاوت الحال في انتفاء المشروط عند انتفائه بين إمكان وجوده وتعذره؟
وما ذاك إلا لفقد الدليل على سقوط اعتباره في حال التعذر وقيام البدل مقامه.
انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، ومن ذلك يظهر ضعف ما بنى على
أصل المسألة من احتمال المرتين أو الثلاث بل الظاهر هو بقاء الإناء على النجاسة
لعدم حصول المطهر الشرعي الذي قرره الشارع لهذه النجاسة المخصوصة ، وبه صرح ايضا
جمع من المتأخرين نظرا الى ما تقدم وقد عرفت جودته وقوته.
(التاسع) ـ قد
ذكر جملة من المتأخرين ومتأخريهم ما صرح به الصدوقان
والمفيد من الحكم بالتجفيف. واعترضوه بأنه منفي بالأصل والنص فان ظاهره
الاكتفاء بمضمونه. أقول : قد عرفت ان مستندهم في ذلك انما هو كلامه (عليهالسلام) في الفقه الرضوي ولكن حيث لم يبلغهم ذلك أوردوا عليهم
ما أوردوه وبه يجب الخروج عن الأصل المذكور. واما النص المشار إليه في كلام المحقق
وهو صحيحة البقباق فغايتها ان تكون مطلقة فيحمل إطلاقها على الخبر المذكور ويقيد
به فلا اشكال.
(العاشر) ـ اختلف
الأصحاب فيما لو خيف فساد المحل باستعمال التراب ، فقيل بان الحكم فيه كما لو فقد
التراب من المرتين أو الثلاث كما تقدم وهو منقول عن العلامة في المنتهى والتذكرة
والتحرير إلا انه في التذكرة صرح بالاجتزاء بالماء ولم يتعرض لذكر العدد وفي
المنتهى رجح المرتين.
وقيل ببقاء
الإناء على النجاسة وبه صرح الشهيد الثاني في الروضة ونقله في المعالم عن بعض
مشايخه الذين عاصرهم ، والوجه فيه ظاهر مما تقدم حيث ان الدليل يقتضي توقف حصول
الطهارة على التراب والماء وليس على استثناء حال التعذر دليل يعتمد عليه فيبقى على
أصالة النجاسة.
وفصل ثالث بان
خوف الفساد باستعمال التراب ان كان باعتبار توقف إيصاله إلى الآنية على كسر بعضها
كما في الأواني الضيقة وأمكن مزج التراب بالماء وإنزاله إليها وخضخضتها به على وجه
يستوعبها وجب وأجزأ ، وان كان باعتبار نفاسة الآنية بحيث يترتب الفساد على أصل
الاستعمال اكتفى بالماء قال وكذا إذا امتنع في الصورة الأولى إنزاله ممتزجا على
الوجه الذي ذكر ، وفرق بين هذا وبين ما إذا فقد التراب حيث مال ثمة الى بقائه على
النجاسة بأن الحكم بذلك هنا يفضى الى التعطيل الدائم وهو غير مناسب لحكمة الشرع
وتخفيفه واما هناك فحصول التراب مرجو فلا تعطيل.
أقول :
والتحقيق في المقام انه ان قيل باجزاء الممزوج بالماء كما هو أحد الأقوال المتقدمة
فما ذكره هذا المفصل في الوجه الأول جيد لان هذا أحد أفراد التطهير بالتراب
بل لقائل أن يقول انه متى أمكن وضع التراب فيه وان كان ضيق الرأس وتحريكه
في مواضع النجاسة فإنه يحصل التطهير به إذ الدلك غير مشترط فلا اشكال ولا ضرورة
إلى المزج ، واما ما ذكره في الوجه الثاني من تفصيله من الاكتفاء بالماء فضعيف
والفرق بينه وبين فقد التراب الذي اختار فيه البقاء على النجاسة غير ظاهر. وما
استند اليه من الفرق بالحكمة مزيف فان الخروج من يقين النجاسة المخصوصة بمطهر
مخصوص مع عدم وجود مطهرها بمثل هذه التخريجات الواهية مجازفة ، واي ضرر على المالك
في تعطيل إناء من خزف أو غيره لا ينتفع به؟ وكثير من الأشياء غير قابل للتطهير
أصلا مع قابليته للانتفاع ، وبالجملة فإن التفات الشارع الى التخفيف في الصورة
المذكورة ونحوها غير معلوم من الشرع ، وان قلنا بعدم اجزاء الممزوج كما هو أحد
الأقوال فالحق هو القول الثاني كما جزم به شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلا انه
يرد على شيخنا المذكور ان ما اختاره في هذه المسألة وصرح به في الروضة لا يلائم ما
اختاره في المسالك في مسألة المزج من اجزائه. اللهم إلا ان يقول انه بالمزج على
الكيفية التي في كلام هذا المفصل يخرج التراب عن اسمه كما قيد به قوله في المسالك
فلا منافاة. والله العالم.
(الحادي عشر) ـ
قال الشيخ في الخلاف : إذا ولغ كلبان أو كلاب في إناء واحد لم يجب أكثر من غسل
الإناء ثلاث مرات ، ثم ذكر ان جميع الفقهاء لم يفرقوا بين الواحد والمتعدد إلا من
شذ من العامة فأوجب لكل واحد العدد بكماله ، واحتج الشيخ على ما ذكره بان النص خل
من التعرض للفرق بين الواحد والأكثر والكلب جنس يقع على القليل والكثير. وهذا
الحكم قد ذكره أيضا أكثر الأصحاب وزادوا فيه ايضا تكرر الولوغ من الواحد ، واحتج
عليه الفاضلان في المعتبر والمنتهى بأن النجاسة واحدة فقليلها ككثيرها لأنها لا
تتضمن زيادة عن حكم الاولى. وهو جيد إلا ان تعليل الشيخ (قدسسره) أجود وأقوى لأن سوق الخبر يساعده حيث انه صريح في
كون السؤال عن الجنس حيث قال فيه
: «سألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل
والبغال والوحش والسباع فلم اترك شيئا إلا سألته عنه؟ فقال لا بأس به ، حتى انتهيت
الى الكلب فقال رجس نجس لا يتوضأ بفضله. الحديث». هذا كله فيما لو كان قبل التطهير
اما لو وقع في الأثناء فقد صرح جملة منهم بالاستئناف وعدم التداخل ، قال في الروض
ولو تكرر الولوغ قبل التطهير تداخل وفي الأثناء يستأنف. ونحوه في الذكرى ايضا.
(الثاني عشر) ـ
قال الشيخ في الخلاف : إذا ولغ الكلب في إناء نجس الماء الذي فيه فان وقع ذلك
الماء على بدن الإنسان أو ثوبه وجب غسله ولا يراعى فيه العدد ثم حكى عن بعض العامة
إيجاب غسل الموضع الذي يصيبه ذلك الماء بقدر العدد المعتبر في الإناء ، ثم قال بعد
ذلك دليلنا ان وجوب غسله معلوم بالاتفاق لنجاسة الماء واعتبار العدد يحتاج الى
دليل وحمله على الولوغ قياس لا نقول به. وذكر نحو ذلك المحقق ايضا وزاد على ما
ذكره الشيخ من البدن والثوب الإناء أيضا ، والظاهر ان كلام الشيخ (قدسسره) انما خرج مخرج التمثيل فيكون ما ذكره عاما ، وقال
الشهيد في الذكرى : ولا يعتبر التراب في ما ينجس بماء الولوغ. ونقل عن العلامة في
النهاية انه استقرب إلحاق هذا الماء بالولوغ وعلله بوجود الرطوبة اللعابية. ورده
جملة ممن تأخر عنه بالضعف وهو كذلك.
(الثالث عشر) ـ
المعروف من كلام أكثر الأصحاب ان الحكم في غسالة الإناء كسائر النجاسات فلا يعتبر
فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه ، قال العلامة في المنتهى : ليس حكم الماء الذي
يغسل به إناء الولوغ حكم الولوغ في انه متى لاقى جسما يجب غسله بالتراب لأنها
نجاسة فلا يعتبر فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه ، ثم حكى عن بعض الجمهور انه يجب
غسله بالتراب وان كان المحل الذي انفصل عنه غسل بالتراب وعن بعض آخر
__________________
منهم انه أوجب غسله من الغسلة الأولى ستا بناء على قولهم بوجوب السبع في
الولوغ ومن الثانية خمسا ومن الثالثة أربعا ، وكذا لو كانت قد انفصلت عن محل غسل
بالتراب غسل محلها بغير تراب وان كانت الاولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب ثم قال وهذا كله ضعيف والوجه أنه يساوي غيره من
النجاسات لاختصاص النص بالولوغ. انتهى. وهو جيد.
وللمحقق الشيخ
علي (قدسسره) هنا كلام في بعض كتبه لا يخلو من غفلة في مقام ونظر في
آخر حيث انه نقل عن العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى انه لا يعتبر التراب
فيما نجس بماء الولوغ ثم ناقش في ذلك بان عدم اعتبار التراب في هذه الصورة ان كان
منوطا بتقديم تعفير إناء الولوغ على غسله بالماء الذي فرضت الملاقاة به فهو حق
وكذا ان كان الجسم الملاقي به غير إناء وإلا فالظاهر اعتباره لأنها نجاسة الولوغ ،
ثم ذكر ان قوله : «والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات» مشكل لان حكم النجاسة
يخف شرعا بزيادة الغسل ويشتد بنقصانه فلا تتجه التسوية. انتهى كلامه.
أقول : اما وجه
الغفلة في هذا الكلام فإن العبارة التي أسندها إلى العلامة في المنتهى والشهيد في
الذكرى انما هي في حكم ماء الولوغ نفسه والشهيد انما ذكرها كما قدمناها عنه في
سابق هذا المورد في بيان ذلك وكلام العلامة الذي ذكر من جملته قوله : «والوجه
مساواة هذا الماء لباقي النجاسات» انما هو في ما يغسل به إناء الولوغ الذي صرح به
الشهيد في الذكرى وهو الذي ولغ فيه الكلب في الإناء ، فالمسألتان مفترقتان كما
أشرنا إليه في مورد كل منهما ، والعلامة لم يتعرض في المنتهى لحكم ماء الولوغ الذي
نقله عنه بهذه العبارة وانما هذه العبارة التي نقلها عنهما هي عبارة الشهيد في
الذكرى خاصة.
واما وجه النظر
في كلامه فمن وجهين (أحدهما) ـ قوله في المناقشة الأولى
__________________
مع كون مورد محل المناقشة غير العبارة التي ذكرها كما عرفت : «فالظاهر
اعتباره لأنها نجاسة الولوغ» اي الظاهر اعتبار تعفير ذلك الإناء الذي لاقاه ماء
الغسالة التي لم يعفر إناؤها أولا لأنها نجاسة ماء الولوغ ، فإنه منظور فيه بأنه
ان أراد بكونها نجاسة ماء الولوغ بمعنى انها مسببة عنه فلا يجدي نفعا وان أراد انه
يصدق عليها العنوان المرتب عليه الحكم فمنعه أوضح من ان يخفى ، إذ ماء الولوغ الذي
يترتب عليه التعفير والعدد انما هو الماء الذي ولغ فيه الكلب لا ما غسل به اناؤه ،
وما أبعد قوله هنا بوجوب التعفير والغسل بعده كما في أصل ماء الولوغ وبين قول الشيخ
في الخلاف كما نقله عنه جملة من الأصحاب من طهارة غسالة ماء الولوغ.
و (ثانيهما) ـ ما
ذكره من الإشكال فإنه لا وجه له عند التأمل في كلام العلامة وذلك فان غرضه من
الحكم بالمساواة المذكورة انما هو الرد على الأقوال التي نقلها عن العامة من
التعدد الذي ذكروه في تلك المراتب فإنها موقوفة على الدليل وليس فليس فالمتجه
كونها نجاسة كغيرها من النجاسات ، والتعلق بان حكم النجاسة يضعف ويشتد موقوف على
الدليل الدال على التعدد في تلك المراتب واما مع عدم الدليل فليس إلا الرجوع الى
الأمر الإجمالي من الاتصاف بالتنجيس واعتبار ما يصدق به زوالها. وهذا بحمد الله
ظاهر لا سترة عليه. والله العالم.
(الرابع عشر) ـ
قال في المنتهى : لو وقع فيه نجاسة بعد غسله بعض العدد فان كانت ذات عدد مساو
للباقي كان كافيا وإلا حصلت المداخلة في الباقي واتى بالزائد وهكذا لو وقع فيه
نجاسة قبل الغسل إلا ان التراب لا بد منه للولوغ ثم ان كانت النجاسة تفتقر الى
الغسل ثلاثا وجب الثلاث من غير تراب ، وبالجملة إذا تعددت النجاسة فإن تساوت في
الحكم تداخلت وان اختلفت فالحكم لا غلظها. انتهى. أقول : ما ذكره من التداخل في ما
حصل الاتفاق فيه جيد إلا انه مخالف لمقتضى ما صرحوا به في غير موضع من ان تعدد
الأسباب موجب لتعدد المسببات.
(الخامس عشر) ـ
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) سقوط التعدد في الغسل إذا وقع الإناء في
الماء الكثير ، وهكذا كل متنجس يحتاج الى العدد إلا انه لا بد من تقديم التعفير في
إناء الولوغ.
ونقل عن الشيخ
في الخلاف والمبسوط انه قال : إذا ولغ الكلب في الإناء ثم وقع ذلك الإناء في الماء
الكثير الذي بلغ كرا فما زاد لا ينجس الماء ويحصل له بذلك غسلة من جملة الغسلات
ولا يطهر الإناء بذلك بل إذا تمم غسلاته بعد ذلك طهر. ومقتضاه وجوب التعدد في
الكثير.
قال في المعالم
: ومستند الشيخ في هذا ان الأمر بالعدد متناول للقليل والكثير فلا بد للتخصيص من
دليل ، والجماعة عولوا في التخصيص على ان اللفظ إذا أطلق ينصرف الى المعنى
المتعارف المعهود وظاهر الحال ان المتعارف في محال الأمر بالتعدد هو الغسل بالقليل
، قال ويعضد ذلك في الجملة من جهة الاعتبار ان الماء الكثير إذا استولى على عين
النجاسة وان كانت مغلظة بحيث اقتضى شيوع اجزائها فيه واستهلاكها سقط حكمها شرعا
وصار وجودها فيه كعدمها فإذا وقع المتنجس في الكثير واستولى الماء على آثار
النجاسة فبالحري ان يسقط حكمها ويجعل وجودها كعدمها وإلا لكان الأثر أقوى من العين
، ويؤيده من جهة النص ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان
غسلته في ماء جار فمرة واحدة». انتهى وهو جيد.
أقول : ومثل
صحيحة محمد بن مسلم المذكورة ما صرح به مولانا الرضا (عليهالسلام) في كتاب الفقه حيث قال : «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار
مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره». وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه كما قدمنا
ذكره. وذكرنا ان المراد بالراكد في كلامه (عليهالسلام) القليل.
__________________
بقي هنا شيء آخر في كلام الشيخ (قدسسره) فان ظاهره حصول غسلة واحدة له وان لم يتقدم التعفير
بالتراب ، وهو مشكل بل الظاهر ضعفه لقيام الدليل الصحيح الصريح على وجوبه مطلقا
وغاية الكلام انما هو في وجوب تعدد الغسل بالماء في الكثير وعدمه وإلا فالتراب لا
بد منه على كل حال.
ويظهر من
العلامة في المختلف موافقة الشيخ في هذا المقام وان لم يقل بوجوب التعدد كما هو
ظاهر كلام الشيخ حيث قال بعد نقل كلام الشيخ المتقدم : والوجه عندي طهارة الإناء
بذلك لانه حال وقوعه في الكثير لا يمكن القول بنجاسته حينئذ لزوال عين النجاسة إذ
التقدير ذلك والحكم زال بملاقاة الكر.
وفيه (أولا) ـ ما
عرفت من دلالة النص الصحيح الصريح على التعفير مطلقا فيمتنع الحكم بالطهارة بدونه.
و (ثانيا) ـ ان
استبعاده البقاء على النجاسة مع كونه في كثير وقد زالت عين النجاسة مسلم لو انحصر
التطهير في الماء هنا كما في سائر النجاسات ، واما إذا ضم له الشارع مطهرا آخر
فجعل المطهر حينئذ مركبا من أمرين ولم يحصل أحدهما فلا مجال هنا للاستبعاد المذكور
، ونظيره في هذا المقام وضع كر من ماء في جلد ميتة فإن الماء يكون طاهرا مع نجاسة
الجلد فلا منافاة حينئذ بين بقائه على النجاسة وكونه في ماء كثير (فان قيل) انه
يأتي على قول من جعل الغسل بالتراب تعبدا شرعيا كما اخترتموه آنفا دون ان يكون
مطهرا ما قررتم منه هنا (قلنا) ان أحدا لم يقل بان التراب غير مطهر وانه لا دخل له
في التطهير وانما معنى قولنا تعبدا هو ان الشارع تعبد المكلفين بالتطهير به هنا
ردا على من قال ان الغرض منه انما هو قلع النجاسة وانه أبلغ من الماء في ذلك حتى
رتبوا على هذا جملة من الأحكام المتقدمة التي قد عرفت ما فيها.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان ظاهر كلام المحقق في المعتبر موافقة الشيخ في ما ذكره من وجوب التعدد في
الكثير إلا ان ظاهره الاكتفاء في حصول التعدد في الجاري
بتعاقب الجريتين ، ومقتضاه انه لو كان التطهير في الكثير الواقف الذي لا
جريان فيه فالواجب التعدد حقيقة كما ذكره الشيخ وبه صرح أيضا في الكتاب المذكور ،
قال لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يتحصل من الغسلات شيء ولو وقع
في كثير لم ينجس ويحصل له غسلة واحدة ان لم يشترط تقديم التراب ، ولو وقع في جار
ومر عليه جريات قال في المبسوط لم يحكم له بالثلاث. وفي قوله اشكال وربما كان ما
ذكره حقا ان لم يتقدم غسله بالتراب لكن لو غسل مرة بالتراب وتعاقب عليه جريات كانت
الطهارة أشبه. انتهى.
ونقل عن الفاضل
الشيخ نجيب الدين في الجامع اعتبار التعدد في الراكد دون الجاري ولعله التفاتا الى
ما ذكره المحقق من انه في الجاري تتعاقب عليه الجريات فيحصل التعدد دون الكثير
الواقف.
وظاهر العلامة
في المنتهى ايضا اقتفاء المحقق في ذلك إلا انه في آخره قد ناقض اوله. ولا بأس بنقل
كلامه وبيان ما فيه ، قال (قدسسره) : لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يحتسب
بغسلة ، ولو وقع في كثير لم ينجس وهل تحصل له غسلة أم لا؟ الأقرب انه لا تحصل
لوجوب تقديم التراب ، هذا على قولنا اما على قول المفيد فان الوجه الاحتساب بغسلة
، ولو وقع في ماء جار ومرت عليه جريات متعددة احتسب كل جرية بغسلة خلافا للشيخ إذ
القصد غير معتبر فجرى مجرى ما لو وضعه تحت المطر ولو خضخضه في الماء وحركه بحيث
تخرج تلك الأجزاء الملاقية عن حكم الملاقاة ويلاقيه غيرها احتسب بذلك غسلة ثانية
كالجريات ، ولو طرح فيه ماء لم يحتسب به غسلة حتى يفرغ منه سواء كان كثيرا بحيث
يسع الكر أو لم يكن خلافا لبعض الجمهور فإنه قال في الكثير إذا وسع قلتين لو طرح
فيه ماء وخضخض احتسب له غسلة ثانية ، والوجه انه لا يكون غسلة إلا بتفريغه منه
مراعاة للعرف ، ثم قال : والأقرب عندي بعد ذلك كله ان العدد انما يعتبر لو صب
الماء فيه اما لو وقع الإناء في ماء كثير أو جار وزالت
النجاسة طهر. انتهى. ولا يخفى ما في آخر كلامه من المدافعة لما قدمه ،
وظاهر آخر كلامه الرجوع الى ما ذهب إليه في المختلف وقد عرفت ما فيه. وقد ذكر بعض
محققي أصحابنا من متأخري المتأخرين انه كانت عنده من المنتهى نسختان وان العبارة
الأخيرة غير موجودة فيهما ونسخة اخرى عبارتها كما ذكرناه وذكر ان بينهما تفاوتا
بالزيادة والنقصان في مواضع ووجهه بأنه خرجت منه نسخة الكتاب أولا كما كتبه ثم حصل
له عدول في مواضع في النسخة الأخيرة وما هنا من جملة ذلك وهو قريب. والله العالم.
(المسألة
الثانية) ـ في بيان باقي ما يجب فيه التعدد وذلك في مواضع :
(منها) ـ الخنزير
وقد اختلف الأصحاب في عدد ما يجب من ولوغه فالمشهور بين المتأخرين وجوب السبع ذهب
إليه العلامة ومن تأخر عنه ، وقال الشيخ في الخلاف ان حكمه حكم الكلب ، ونفى ذلك
المحقق وجعل حكمه حكم غيره من النجاسات مع انه كما سيأتي ان شاء الله تعالى في
المسألة الآتية يختار المرة فيها.
ويدل على
المشهور وهو المؤيد المنصور ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال
يغسل سبع مرات».
احتج الشيخ ـ على
ما نقل عنه ـ على ما ذهب اليه بوجهين : (أحدهما) ان الخنزير يسمى كلبا في اللغة
فتتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب. و (الثاني) ان الإناء يغسل ثلاث مرات من
سائر النجاسات والخنزير من جملتها.
وأجيب عن الأول
بمنع الصدوق حقيقة. وعن الثاني بأن غاية دليله الذي ادعاه مع تسليمه هو عموم ما دل
على الثلاث للخنزير والصحيحة المذكورة خاصة فيجب تقييد العموم بها كما هو القاعدة
، مع ان فيه ايضا ان ملاحظة هذا الوجه تقتضي الاكتفاء بالماء
__________________
وحده وملاحظة الأول تقتضي وجوب التراب معه فعلى كل تقدير لا ينتظم أحد وجهي
الدليل على ما ادعاه.
والمحقق في
المعتبر قد حمل صحيحة علي بن جعفر على الاستحباب مع انه لا معارض لها في الباب ،
قيل ولعل المانع له من العمل بالرواية عدم وجود القائل بها من المتقدمين قبله وهو
كثيرا ما يراعي ذلك ونحوه في العمل بالاخبار ، والقرينة على هذا انه لم يذكره قولا
مع حكايته الخلاف في المسألة ، ولهذا ان العلامة في المنتهى قال لو قيل بوجوب غسل
الإناء منه سبع مرات كان قويا لما رواه علي بن جعفر ، وذكر الحديث ثم قال وحمله
على الاستحباب ضعيف إذ لا دليل عليه مع ثبوت ان الأمر للوجوب.
و (منها) ـ الخمر
وقد اختلف كلام الأصحاب في ذلك فقيل بالسبع ايضا ذهب اليه جمع من الأصحاب : منهم ـ
المفيد وسلار والشهيد في أكثر كتبه والمحقق الشيخ علي والشيخ في المبسوط والجمل
وجمع من المتأخرين. وقيل بالثلاث ذهب اليه المحقق في غير المعتبر والعلامة في بعض
كتبه واليه ذهب الشيخ في النهاية والتهذيب كذا نقله عنه في المدارك ، والذي وجدته
في النهاية انما هو سبع لا ثلاث كما نقله حيث قال بعد ذكر الأواني. فإن أصابها خمر
أو شيء من الشراب المسكر وجب غسلها سبع مرات ، واما ما نقله عن التهذيب فلم أقف
عليه لانه بعد ان ذكر عبارة المفيد الدالة على غسل الأواني من الخمر والأشربة
المسكرة أورد جملة من الأخبار الدالة على نجاسة أواني الخمر ومنها موثقة عمار
الآتية الدالة على غسل الإناء منه ثلاثا ولم يستدل لما ذكره في المقنعة من السبع
بشيء من الأخبار ، وبمجرد نقل الرواية بذلك لا يعد ذلك مذهبا له كما لا يخفى ،
واحتمال كونه ذكر ذلك في غير موضع المسألة ممكن إلا ان الأمر كما ترى فينبغي
التأمل والمراجعة في هذه البقول وان كانت من الفحول ، والى القول بالثلاث ذهب
الشيخ في الخلاف ايضا لكن لا من حيث الخصوصية كما ذهب اليه الفاضلان بل من حيث
وجوب الثلاث عنده في سائر النجاسات كما يأتي نقله. وقيل بالمرة اختاره المحقق في
المعتبر والعلامة في أكثر كتبه كغيره من النجاسات عدا الولوغ ، وهو اختيار
الشهيد الثاني في الروض أيضا إلا انه أطلق الاجتزاء بالمرة ، والفاضلان في المعتبر
والمختلف قيداه بكونه بعد ازالة العين ، واختار هذا القول السيد السند في المدارك
والمحقق الشيخ حسن في المعالم. وقيل بالمرتين وهو مذهب الشهيد في اللمعة حيث انه
أوجب المرتين في غسل الإناء من جميع النجاسات بل في غير الإناء أيضا وان وجب تقديم
التعفير في إناء ولوغ الكلب ، هذا ما وقفت عليه من الأقوال في المسألة.
والذي وقفت
عليه من اخبارها منها ـ موثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليهالسلام) «في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال تغسله سبع مرات». والى هذه الرواية استند
أصحاب القول الأول.
ومنها ـ موثقة
عمار الأخرى عنه (عليهالسلام) «انه سئل عن قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. سئل أيجزيه
ان يصب فيه الماء؟ قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». وبهذا الخبر
أخذ من قال بالقول الثاني.
واما من اكتفى
بالمرة فإنه رد الخبرين بضعف السند واعتمد على ما دل على الأمر بالغسل الحاصل
بالمرة المزيلة للعين ، قال المحقق في المعتبر ـ بعد ان ذكر عبارة النافع المطابقة
لعبارته في الشرائع بإيجاب الثلاث ـ ما صورته : هذا مذهب الشيخ ثم نقل قوله بالسبع
ثم احتج للثلاث بموثقة عمار المتقدمة ، ثم قال : مسألة ـ ويغسل الإناء من سائر
النجاسات مرة والثلاث أحوط ، الى ان قال بعد كلام في البين : والذي يقوى عندي
الاقتصار في اعتبار العدد على الولوغ وفيما عدا ذلك على إزالة النجاسة وغسل الإناء
بعد ذلك مرة واحدة لحصول الغرض من الإزالة ولضعف ما ينفرد به عمار
__________________
وأشباهه وانما اعتبرنا في الخمر والفأرة الثلاث ملاحظة لاختيار الشيخ
والتحقيق ما ذكرناه. انتهى أقول : كم قد عمل في غير موضع من كتابه بموثقة عمار وان
تفرد بها كما قدمنا ذكره ولكنهم لا قاعدة لهم يقفون عليها.
ثم ان ما ذكره
ومثله العلامة كما قدمنا نقله عنهما من اعتبار ازالة عين النجاسة أولا ثم الاكتفاء
بالمرة قد اعترضهما فيه الشهيد الثاني في الروض حيث اكتفى بالمرة التي يحصل بها
الإنقاء فقال ويحتمل اعتبار المرة بعد زوال العين ان كانت موجودة وهو خيرة المعتبر
إذ لا اثر للماء الوارد مع وجود سبب التنجيس. ويضعف بأن الباقي من البلل وغيره في
المحل عين نجاسة فيأتي الكلام فيه.
أقول : وتحقيق
الكلام في المقام اما على تقدير ما ذكره هؤلاء من اطراح هذين الخبرين وان قبلوا
أمثالهما في غير موضع فالاكتفاء بالمرة ظاهر ، واما من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح
أو يراه ويتستر ببعض الاعذار كالجبر بالشهرة ونحوه فإنه لا خروج عما دل عليه
الخبران المذكوران وانما يبقى الكلام في الجمع بينهما فظاهر من قال بخبر الثلاث
حمل خبر السبع على الاستحباب جمعا واما من قال بالسبع فلا اعرف لاطراحه رواية
الثلاث وجها مع الاشتراك في السند وعدم إمكان الترجيح ، وربما دل كلام بعضهم على
ترجيحها بالشهرة وفيه ما فيه. ويقرب عندي في وجه الجمع بين الخبرين المذكورين
الحمل على اختلاف الأواني في قلع النجاسة المذكورة منها فمنه ما يحصل بالثلاث ومنه
ما يتوقف على السبع ، وهو وان كان ايضا لا يخلو من تأمل إلا انه في مقام الجمع لا
بأس به وكيف كان فالاحتياط لا يخفى. واما القول بالمرتين فلا اعرف له وجها.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان بعض من صرح بالسبع كالشيخين في المقنعة والنهاية والمبسوط جعلوا حكم سائر
المسكرات كالخمر في ذلك وبعض اقتصر على ذكر الخمر خاصة ومورد الرواية انما هو
النبيذ ومقتضاها تخصيص الحكم بما يصدق عليه هذا اللفظ ، والذي يظهر لي كما مر
تحقيقه من صدق الخمر على الجميع انه لا منافاة بين التعبير بالخمر وحده
وبه مع ضم سائر الأشربة المسكرة لصدق الخمر على الجميع ، نعم لفظ الخبر ورد
بالنبيذ وهو أخص من الخمر ولعلهم فهموا منه ان المراد به مطلق الخمر كما صرحت به
الرواية الثانية ، نعم يأتي على قول من خص اسم الخمر بعصير العنب كما قدمنا نقله
عن جملة منهم الإشكال في المقام.
ثم ان جملة ممن
طعن في الخبرين بالضعف صرح باستحباب السبع خروجا من خلاف من أوجها ، ولا يخفى وهنه
لما حققناه في غير موضع مما تقدم من ان الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل
فالخبر المذكور ان صلح للحجية والاستدلال فليحمل على ظاهره من الوجوب وان كان لا
يصلح فلا معنى للحمل المذكور ، ثم اي مخرج يحصل بالحمل على الاستحباب المؤذن بجواز
الترك وعدم الإثم عن الوجوب الموجب تركه للمؤاخذة والعقاب؟ والله العالم.
و (منها) ـ موت
الفأرة فيه فأوجب الشيخ فيه سبعا وتبعه على ذلك جملة من الأصحاب ، واكتفى المحقق
في الشرائع ومختصره والعلامة في جملة من كتبه والشيخ في الخلاف بالثلاث إلا ان
مذهب الشيخ الى ذلك بالاعتبار المتقدم في سابق هذا الموضع ، وقيل بالمرة وهو مذهب
المحقق في المعتبر. والعلامة في أكثر كتبه بالاعتبار المتقدم ثمة ، وقيل بالمرتين
كما ذهب إليه في اللمعة بالاعتبار المذكور ايضا.
والذي وقفت
عليه هنا من الأخبار موثقة عمار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبعا». وهي
ظاهرة الدلالة على مذهب الشيخ ومن تبعه ، وردها المحقق في المعتبر فقال بعد ذكر
عبارة المختصر التي اختار فيها القول بالثلاث ونقل القول بالرواية عن الشيخ ـ ما
صورته : وحجته رواية عمار ثم ساقها ثم قال والرواية ضعيفة لانفراد الفطحية بها
ووجود الخلاف في مضمونها فان الشيخ يقتصر على الثلاث في جميع النجاسات عدا الولوغ
ولأن ميتة الفأرة والجرذ لا تكون
__________________
أعظم نجاسة من ميتة الكلب والخنزير ، ولان امتثال الغسل يحصل بالثلاث فلا
يجب ما زاد ، ولانه يحتمل ان يكون هذا الحكم مختصا بالجرذ فلا يتناول الفأرة.
انتهى. ثم انه رجع عن ذلك الى القول بالاكتفاء بالواحدة في كلامه الذي قدمنا نقله
، وكلامه (رحمهالله) قوي من حيث الاعتبار إلا ان إطراح النص من غير معارض
مما لا وجه له ، وطعنه فيه بالضعف غير مسموع مع عمله بمثله وأمثاله في غير مقام من
كتابه.
نعم يبقى
الإشكال في ان مورد النص الجرذ وهو ضرب من الفأر كما ذكره في الصحاح فيشكل تعديته
الى ما هو أعم منه وقد أشار الى ذلك في المعتبر كما قدمناه عنه ، وللمحقق الشيخ
علي (قدسسره) في شرح القواعد هنا كلام لا يخلو من الغفلة. قال بعد
قول المصنف (قدسسره) : «ومن الجرذ والخمر ثلاث مرات ويستحب السبع» ما صورته
: الأصح وجوب السبع فيهما لخبري عمار عن الصادق (عليهالسلام) الدالين على وجوب السبع فيهما وضعف عمار منجبر بالشهرة
ولا تضر المعارضة بخبره الدال على الثلاث لأن الشهرة مرجحة ، وليس الحكم مقصورا
على الخمر بل المسكر المائع كله كذلك ولا يبعد إلحاق الفقاع بها. واما الجرذ فهو
بضم الجيم وفتح الراء المهملة والذال المعجمة أخيرا ضرب من الفأر والمراد الغسل من
نجاسة موته ، وهل يكون الغسل من غير هذا الضرب من الفأر واجبا؟ الظاهر عدم التفاوت
نظرا إلى إطلاق اسم الفأر على الجميع وقد صرح به جمع من الأصحاب وان توقف فيه صاحب
المعتبر. انتهى. أقول لا يخفى ان كلامه هذا انما يتجه لورود لفظ الفأر في خبر
ليتمشى ما ذكره والوارد انما هو أخص منه كما عرفت. غير ان ظاهر كلامه هنا إلحاق
الفقاع بالخمر في السبع ايضا ولم أقف على من ذكره سواه ويمكن ان يكون منشأه تكاثر
الأخبار بإطلاق اسم الخمر عليه كما تقدم والله العالم.
(المسألة
الثالثة) ـ اختلف الأصحاب في غسل الإناء من باقي النجاسات فقيل بالثلاث في ما عدا
الولوغ مطلقا وهو مذهب الشيخ في الخلاف وابن الجنيد في مختصره
على ما نقل عنه واختاره الشهيد في الذكرى والدروس والمحقق الشيخ علي ، وقيل
بالمرة وهو قول المحقق في المعتبر وتبعه الشهيدان في البيان والروض ، وقيل
بالمرتين.
احتج الشيخ على
ما ذهب إليه بطريقة الاحتياط فإنه مع الغسل ثلاثا يحصل العلم بالطهارة ، وبموثقة
عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا كيف يغسل وكم
مرة يغسل؟ قال يغسل ثلاث مرات : يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ثم
يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم
يفرغ منه وقد طهر وقال اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبع مرات». ورده
المتأخرون أما الاحتياط فإنه ليس بدليل شرعي واما الرواية فبضعف السند.
واما حجة من
قال بالمرة فهي ظاهرة من رد الرواية المذكورة ، فإن امتثال الأمر بالغسل يحصل
بالمرة ومسمى الإزالة يتحقق معها.
والأظهر القول بما
دلت عليه الرواية المذكورة عند من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح أو يراه ولكن يحكم
بجبر ضعف الرواية بالشهرة كما صرح به غير واحد في المقام
نعم قال الشيخ
في المبسوط : ويغسل الإناء من سائر النجاسات ثلاث مرات ولا يراعى فيها التراب وقد
روي غسله مرة واحدة والأول أحوط. إلا انا لم نقف على هذه الرواية فيما وصلنا من
كتب الأخبار.
وصرح جمع من
الأصحاب بأنه لو ملأ الإناء ماء كفى إفراغه منه عن تحريكه وانه يكفي في التفريغ
مطلقا وقوعه بآلة لكن يشترط عدم إعادتها قبل تطهيرها وقيده بعضهم بكون الإناء
مثبتا بحيث يشق قلعه. أقول : ما ذكروه من اشتراط عدم الإعادة إلا بعد التطهير متجه
على تقدير القول بنجاسة الغسالة ، وما ذكر من التقييد بكونه مثبتا لا وجه له لانه
لا فرق في حصول الطهارة بين إخراج ماء الغسالة منه بان يكفئه أو يخرجه بالآلة
بالشرط المذكور.
__________________
واما حجة القول
بالمرتين كما ذهب إليه في اللمعة فقد عرفت انها غير مختصة بهذا المقام حيث انه ذهب
الى وجوب المرتين في إزالة جميع النجاسات في ثوب أو بدن أو آنية أو غير ذلك ،
والظاهر ان الوجه فيه عنده ورود التعدد بالمرتين في إزالة البول عن الثوب والبدن
وان اعتباره في البول يدل بمفهوم الموافقة على اعتباره في غيره من النجاسات كما
تقدم ذكره في مسألة إزالة نجاسة البول وان غير الثوب والبدن مثلهما في الحكم
بالتقريب المتقدم ، ويؤيده ورود الاخبار بالتعدد في خصوص الإناء كما ينبه عليه حكم
الولوغين والفأرة والخمر ، ويضاف الى ذلك أصالة البراءة مما زاد على المرتين الذي
وردت به الأخبار الصحيحة واستضعاف الأخبار الدالة على الزيادة ، هذا أقصى ما يمكن
ان يتكلف لتوجيه الحجة له (قدسسره) في المقام. ولا يخفى ما فيه على ذوي الأفهام فان إلحاق
ما عدا البول به وما عدا الثوب والبدن بهما لا يخرج عن القياس سواء سمي مفهوم
موافقة أو أولوية أو لم يسم سيما مع ورود الاخبار في تطهير الأواني بأعداد مخصوصة
تباين ما ذكره. والله العالم.
تتميم يشتمل على مسألتين
(الأولى) ـ المفهوم
من كلام أكثر الأصحاب ان أواني الخمر كلها قابلة للتطهير سواء في ذلك الصلب الذي
لا يشتف كالصفر والرصاص والحجر والمغضور وغير الصلب كالقرع والخشب والخزف غير
المغضور إلا انه يكره استعمال غير الصلب ونسب الفاضلان في المعتبر والمنتهى الى
ابن الجنيد القول بعدم طهارة غير الصلب بأنواعه المذكورة ، قال في المعالم بعد نقل
ذلك عنهما : ولم أره في مختصره. والعلامة في المختلف نسب الى ابن البراج القول
بعدم جواز استعمال هذا النوع ايضا غسل أو لم يغسل.
وكيف كان
فالواجب أولا ذكر الأخبار الواردة في المقام وبيان ما تدل عليه من الأحكام ، ومنها
ـ ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم في
الصحيح عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «سألته عن نبيذ سكن غليانه ، الى ان قال : وسألته
عن الظروف فقال نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن الدباء والمزفت وزدتم أنتم الحتم يعني الغضار
والمزفت يعني الزفت الذي يكون في الزق ويصير في الخوابي ليكون أجود للخمر. قال
وسألته عن الجرار الخضر والرصاص قال لا بأس بها». وفي التهذيب عوض «الحتم» «الحنتم»
وهو الموجود في اللغة. أقول الدباء هو القرع والمزفت هو الإناء الذي يطلى بالزفت
بالكسر وهو القير والغضار بالفتح هو الطين اللازب الأخضر الحر ، والحنتم بالحاء
المهملة ثم النون ثم التاء المثناة الفوقانية على ما في النهاية : جرار خضر مدهونة
كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم واحدة حنتمة ،
وانما نهى عن الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها ، وقيل انها تعمل من
طين يعجن بالدم والشعر فنهى عنها ليمتنع من عملها. انتهى.
وما روياه ايضا
عن ابي الربيع الشامي عن الصادق (عليهالسلام) قال : «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن كل مسكر فكل مسكر حرام. فقلت له فالظروف التي يصنع
فيها منه؟ فقال نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير. فقلت وما ذلك؟ قال
الدباء القرع والمزفت الدنان والحنتم جرار خضر والنقير خشب كان أهل الجاهلية
ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها».
وما رواه في
الكافي عن جراح المدائني عن الصادق (عليهالسلام) «انه منع مما يسكر من الشراب كله ومنع النقير ونبيذ الدباء. الحديث».
وما رواه
الشيخان في الكافي والتهذيب في الموثق عن عمار قال : «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون
فيه خل أو ماء أو كامخ أو زيتون؟ قال
__________________
إذا غسل فلا بأس وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر أيصلح ان يكون فيه ماء؟
قال إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات.
الحديث». وقد تقدم تمامه قريبا.
وموثقته الأخرى
المتقدمة أيضا في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ وانه يغسله سبع مرات.
وما رواه في
الكافي عن حفص الأعور قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني آخذ الزكاة فيقال انه إذا جعل فيها الخمر وغسلت ثم
جعل فيها البختج كان أطيب لها فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثم نصبه
ونجعل فيها البختج؟ قال لا بأس به». قال في الوافي : الزكاة بضم المعجمة زق
الشراب. أقول الذي في كلام أهل اللغة بالراء المهملة زق يتخذ للخمر والخل وفي
القاموس زق صغير. هذا ما وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام
إذا عرفت ذلك
فاعلم انه قد استدل للقول المشهور بأمرين : (أحدهما) ان الواجب إزالة النجاسة
المعلومة والاستظهار بالغسل وتحصيل هذا القدر ممكن وما لا يعلم من النجاسة لا يجب
تتبعه واللازم من ذلك حصول الطهارة حينئذ ، وبأنه بعد ازالة عين النجاسة يرتفع
المانع من الاستعمال فيكون سائغا ، اما المقدمة الأولى فظاهرة لأن البحث على تقدير
ارتفاع العين عن المحل وكون المقتضى للمنع ليس إلا تلك العين. واما الثانية فلان
المنع لو بقي بعد ارتفاع سببه لزم بقاء المعلول بعد العلة وذلك يخرجها عن العلية. و
(ثانيهما) رواية عمار المتقدمة والتقريب فيها انها دالة بإطلاقها على قبول أواني
الخمر التطهير مغضورة أو غيره مغضورة صلبة أو غير صلبة ونحوها روايته الثانية ولو
كان غير المغضور لا يطهر لوجب الاستفصال في الجواب.
واحتج للقول
الآخر بوجهين (أحدهما) صحيحة محمد بن مسلم ورواية أبي الربيع الشامي المتقدمتان. و
(الثاني) ان للخمر حدة ونفوذا في الأجسام الملاقية له فإذا لم تكن
__________________
الآنية مغضورة دخلت اجزاء الخمر في باطنها فلا ينالها الماء.
وأجيب عن الأول
بأن النهي للكراهة. وأجاب في المدارك عن ذلك بان النهي عن ذلك لا يتعين كونه
للنجاسة إذ من الجائز ان يكون لاحتمال بقاء شيء من اجزاء الخمر في ذلك الإناء
فيتصل بما يحصل فيه المأكول والمشروب انتهى. وعن الثاني بأن نفوذ الماء أشد من
نفوذ غيره فان ما يشرب الخمر يشرب الماء فيصل الماء الى ما يصل اليه الخمر. وأجاب
في المدارك عن ذلك بأنه مع تسليم ما ذكر فإنه لا ينافي طهارة الظاهر وجواز
استعماله الى ان يعلم ترشح اجزاء من الخمر المستكن في الباطن إليه.
أقول : لا يخفى
على المتأمل في هاتين الروايتين ان النهي عن استعمال هذه الظروف المعدودة في
الانتباذ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها فيصير مسكرا ويشير الى ذلك ما تقدم في
كلام صاحب النهاية ، ولو كان النهي عنها انما هو من حيث نفوذ الخمر فيها وعدم
قبولها للتطهير كما فهمه المستدل والمجيب لم يكن لذكر المزفت وهو المطلي بالزفت
الذي هو القير معنى لانه لا نفوذ فيه وكذلك الحنتم وهي الجرار الخضر المغضورة ،
ويشير الى ما ذكرنا قوله في رواية جراح المدائني «انه منع نبيذ الدباء» يعني ما
ينبذ فيه ، وبالجملة فالظاهر من الأخبار المذكورة انما هو النهى عن النبيذ فيها
خوفا من التغيير والانقلاب الى المحرم لا عن الاستعمال بقول مطلق كما ظنوه وحينئذ
فلا تكون الأخبار المذكورة من محل البحث في شيء ويبقى إطلاق الاخبار الأولة سالما
عن المعارض. واما الوجه الاعتباري الذي أضافوه الى هاتين الروايتين فهو لا يسمن
ولا يغني من جوع بعد بطلان دلالة الخبرين المذكورين مع ما عرفت من الجواب عنه
بالوجهين المتقدمين ، وبذلك يظهر لك قوة القول المشهور.
بقي الكلام هنا
في شيء آخر وهو ان ظاهر صحيحة محمد بن مسلم لا يخلو من حزازة حيث انه في آخر
الخبر نفى البأس عن الجرار الخضر مع انه في صدر الخبر قال بعد ذكر ما نهى (صلىاللهعليهوآله) عنه «وزدتم أنتم الحنتم» وقد عرفت ان المراد
به الجرار الخضر المدهونة. ويمكن الجمع بحمل الجرار الخضر التي نفى البأس
عنها على ما لا تكون مدهونة ويمكن ايضا الفرق باعتبار المعنى الثاني للنهي من حيث
العمل من الطين المعجون بالدم والشعر بان يحمل نفي البأس أخيرا من حيث عدم العمل
من ذلك الطين واما الجمع ـ بأن النهي عن الحنتم في صدر الخبر لم يسنده له (صلىاللهعليهوآله) وانما قال : «وزدتم أنتم» فلا ينافيه نفي البأس في آخر
الخبر ـ فيضعف بحصول النهي عنه في حديث ابي الربيع الشامي كما عرفت. والله العالم.
(الثانية) ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان أواني المشركين طاهرة حتى تعلم النجاسة ، قال
في المعتبر : أواني المشركين طاهرة ما لم يعلم نجاستها بمباشرتهم لها أو ملاقاة
نجاسة ، والضابط أن الآنية في الأصل على الطهارة فلا يحكم بالنجاسة إلا مع اليقين
بورود النجس وحينئذ اما ان يكون ذلك معلوم الحصول فتكون نجسة أو معلوم الانتفاء
فتكون طاهرة أو مشكوكا فيه فيكون استعمالها مكروها ، ويستوي في ذلك المجوسي ومن
ليس من أهل الكتاب ، وفي الذمي روايتان أشهرهما النجاسة نجاسة عينية ونجاسة ما
يلاقيه بالمائع ، ثم نقل خلاف العامة واختلاف أقوالهم. أقول : وبذلك صرح الشيخ في
المبسوط وغيره إلا انه قال في الخلاف لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة
وغيرهم ، وقال الشافعي لا بأس باستعمالها ما لم يعلم فيها نجاسة وبه قال أبو حنيفة
ومالك ، وقال احمد ابن حنبل وإسحاق لا يجوز استعمالها ثم استدل على المنع بقوله تعالى «إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» وبإجماع الفرقة ورواية محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال لا تأكلوا في آنيتهم
ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر». ولم أقف في كتب
أصحابنا على من نقل
__________________
خلافه في هذه المسألة مع ان كلامه صريح في ذلك ، وأغرب منه دعواه الإجماع
عليه مع انه لم يقل بذلك غيره فيما اعلم ، واستند الأصحاب هنا الى التمسك بأصالة
الطهارة حتى يعلم وجود الرافع وهو قوى منصوص في غير خبر كما تقدم في مقدمات
الكتاب. وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة زيادة على ما أشرنا إليه في المقدمات
في التنبيه الثاني من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية من مسائل المقصد الثاني
في الأحكام من هذا الباب. ثم ان غاية ما تدل عليه الآية التي ذكرها مع الإغماض عن
المناقشات التي أوردت عليها هو نجاسة المشركين وهو مما لا نزاع فيه هنا ومن
القواعد المقررة المتفق عليها ان عين النجاسة لا يحكم بتعدي نجاستها إلا مع العلم
واليقين بذلك. واما الخبر فهو محمول على الاستحباب كما حققناه في المسألة المشار
إليها.
(المطلب الثاني)
ـ في ما يجوز استعماله من الأواني والآلات وما لا يجوز ، لا خلاف بين الأصحاب في
تحريم الأكل والشرب وكذا سائر الاستعمالات كالتطيب وغيره في أواني الذهب والفضة ،
وادعى عليه العلامة في التذكرة وغيره الإجماع ، ونقل عن الشيخ في الخلاف انه قال
يكره استعمال الذهب والفضة. وصرح جملة ممن تأخر عنه بحمل العبارة المذكورة على
التحريم ، وهو جيد.
والاخبار بذلك
مستفيضة من طرق الخاصة والعامة ، فروى الجمهور عنه (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا
في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وعن علي (عليهالسلام) انه قال : «الذي
__________________
يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم».
ومن طريق
الأصحاب ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما فقلت قد روى بعض أصحابنا
انه كان لأبي الحسن مرآة ملبسة فضة؟ فقال لا والحمد لله انما كانت لها حلقة من فضة
وهي عندي ، ثم قال ان العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضة من نحو ما يعمل
للصبيان تكون فضته نحوا من عشرة دراهم فأمر به أبو الحسن فكسر». أقول العذر بالعين
المهملة ثم الذال المعجمة بمعنى الاختتان وعذر الغلام اختتانه. وعن الحلبي في
الحسن أو الصحيح عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تأكل في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة». وعن
داود بن سرحان عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا تأكل في آنية الذهب والفضة». وعن محمد بن
مسلم عن الباقر (عليهالسلام) «انه نهى عن آنية الذهب والفضة». وعن موسى بن بكر عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «آنية الذهب والفضة متاع (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)». ورواه في الفقيه مرسلا عن النبي (صلىاللهعليهوآله)
وفي الفقيه
بطريقه الى ابان عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا تأكل في آنية ذهب ولا فضة». وفي الكافي عن
سماعة بن مهران في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا ينبغي الشرب في آنية الذهب والفضة». وعن يونس
بن يعقوب عن أخيه يوسف قال : «كنت مع ابي عبد الله (عليهالسلام) في الحجر فاستسقى ماء فاتى بقدح من صفر فقال رجل ان
عباد بن كثير يكره الشرب في الصفر فقال لا بأس. وقال (عليهالسلام) للرجل ألا سألته أذهب هو أم فضة؟». ورواه الصدوق ايضا.
وفي حديث المناهي من الفقيه قال : «نهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن الشرب في آنية الذهب
__________________
والفضة». وفي قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) نهاهم عن سبع : منها ـ الشرب في آنية الذهب والفضة». وروى
في الكافي عن بريد في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) «انه كره الشرب في الفضة وفي القدح المفضض وكذلك ان يدهن في مدهن مفضض
والمشطة كذلك». ورواه الصدوق بإسناده عن ثعلبة عن بريد مثله وزاد «فان لم يجد بدا من الشرب في القدح المفضض عدل
بفمه عن موضع الفضة». وهذه الزيادة محتملة لأن تكون من كلامه أو من أصل الخبر. وروى
الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب قال «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الشرب في القدح فيه ضبة من فضة؟ قال لا بأس إلا ان
تكره الفضة فتنزعها». وعن عبد الله بن سنان في الحسن بالوشاء عن الصادق (عليهالسلام) قال : «لا بأس ان يشرب الرجل في القدح المفضض واعزل فمك
عن موضع الفضة». وهذه الرواية وصفها في المدارك بالصحة وهو كما ترى. وروى في
المحاسن بسنده عن عمرو بن ابي المقدام قال : «رأيت أبا عبد الله (عليهالسلام) قد اتى بقدح من ماء فيه ضبة من فضة فرأيته ينزعها
بأسنانه». ورواه الكليني عن جعفر بن بشير عن عمرو بن ابي المقدام. وروى في الكافي
عن الفضيل بن يسار عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن السرير فيه الذهب أيصلح إمساكه في البيت؟ فقال ان
كان ذهبا فلا وان كان ماء الذهب فلا بأس». وفي الصحيح عن منصور بن حازم عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض فقال نعم إذا
كان في جلد أو فضة أو قصبة حديد». وعن صفوان بن يحيى قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلى الله عليه
__________________
وآله) قال نزل به جبرئيل من السماء وكانت حلقته فضة». وروى نحوه في عيون
الأخبار إلا ان فيه عوض «حلقته» «وكانت حليته من فضة» وعن يحيى
بن ابي العلاء قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول درع رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها وحلقتان من
ورق في مؤخرها وقد لبسها علي (عليهالسلام) يوم الجمل». وروى الصدوق في الصحيح عن محمد بن قيس عن
الباقر (عليهالسلام) قال : «ان اسم النبي (صلىاللهعليهوآله) الى ان قال وكان له درع تسمى ذات الفضول لها ثلاث
حلقات فضة حلقة بين يديها وحلقتان خلفها. الحديث». وروى البرقي في المحاسن في
الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها
حلقة فضة؟ قال نعم انما يكره استعمال ما يشرب به. قال وسألته عن السرج واللجام فيه
الفضة أيركب به؟ قال ان كان مموها لا يقدر على نزعه منه فلا بأس وإلا فلا يركب به».
ورواه على بن جعفر في كتابه ورواه الكليني في أحكام الدواب
وروى ابن إدريس
في آخر السرائر نقلا من جامع البزنطي قال : «سألته عن السرج واللجام.». وذكر مثل ما تقدم.
هذا ما وقفت
عليه من الأخبار المناسبة للمقام الداخلة في سلك هذا النظام ، وتحقيق البحث فيها
يقع في مواضع :
(الأول) ـ المفهوم
من كلام جملة من الأصحاب ان النهي عن الأكل في أواني الذهب والفضة انما ينصرف إلى
الأخذ والتناول منها فيأثم بذلك دون ما فيها فلا يتعلق به نهي ولا تحريم متى كان
مباحا قال في المبسوط : ومن أكل أو شرب في آنية ذهب أو فضة فإنه يكون قد فعل محرما
، ولا يكون قد أكل محرما إذا كان المأكول مباحا
__________________
لأن النهي عن الأكل فيه لا يتعدى الى المأكول. وعلى هذا النحو كلام من تأخر
عنه ، ونقل في المدارك عن المفيد (قدسسره) تحريم المأكول والمشروب ، قال ولو استدل بقول علي (عليهالسلام) «انما يجرجر في بطنه نار جهنم» أجيب عنه بأن الحقيقة غير مرادة والمتبادر
من المعنى المجازي كون ذلك سببا في دخول النار بطنه وهو لا يستلزم تحريم نفس
المأكول والمشروب. انتهى.
أقول : يمكن
توجيه كلام المفيد (قدسسره) بان يقال ان النهي أولا وبالذات وان كان عن تناول
المأكول والمشروب لكن يرجع ثانيا وبالعرض إلى المأكول بأن يقال ان هذا المأكول
يكون حراما متى أكل على هذه الكيفية ، وظاهر النصوص يساعده لأنها تضمنت النهي عن
الأكل حال كونه في هذه الأواني والأكل حقيقة عبارة عن المضغ في الفم والازدراد في
الحلق وحمل الأخبار على مجرد التناول مجاز فهذا الطعام أو الشراب الذي في الآنية
وان كان حلالا في حد ذاته يجوز أكله بأي نحو كان إلا انه بوضعه في هذه الآنية
واكله فيها عرض له التحريم ، ونظيره تحريم أخذ الحق الشرعي بحكم حاكم الجور وانه
سحت كما دلت عليه الأخبار مع جواز التوصل إلى أخذه مقاصة فضلا عن التوصل بحكم حاكم
العدل. وبالجملة فإنه إذا قال الشارع لا تأكل في آنية الذهب مثلا والأكل انما هو
عبارة عن المعنى الذي قدمناه والنهي حقيقة في التحريم فإنه لا وجه للتحريم إلا من
حيث عدم صلاحية المأكول للأكل من هذه الجهة فيرجع التحريم إلى المأكول بالأخرة لا
من حيث ذاته بل من هذه الحيثية المخصوصة. والله العالم
(الثاني) ـ قد
صرح المحقق في المعتبر وقبله الشيخ في المبسوط بأنه لو تطهر من آنية الذهب والفضة
لم يبطل وضوؤه ولا غسله. والشيخ ذكر الحكم ولم يعلله بشيء والمحقق نقل في المعتبر
عن بعض الحنابلة المنع معللا له بأنه استعمله في العبادة فيحرم
__________________
كالصلاة في الدار المغصوبة. ثم قال (قدسسره) في الاستدلال لما اختاره : لنا ـ ان انتزاع الماء ليس
جزء من الطهارة بل لا يحصل الشروع فيها إلا بعده فلا يكون له أثر في بطلان الطهارة
، وقوله هو استعمال في العبادة قلنا اما انتزاع الماء فهو استعمال لكنه ليس جزء من
الطهارة. ونحو ذلك ذكر العلامة في المنتهى إلا انه استوجه بعد ذلك البطلان فقال
بعد موافقة المعتبر فيما ذكره في المقام : ولو قيل ان الطهارة لا تتم إلا بانتزاع
الماء المنهي عنه فيستحيل الأمر بها لاشتمالها على المفسدة كان وجها وقد سلف
نظيره. انتهى.
أقول لا ريب ان
النهى في الاخبار المتقدمة ما بين مقيد بالأكل والشرب وما بين مطلق ومقتضى قواعدهم
في مثل ذلك حمل المطلق على المقيد ، وحينئذ فلا دليل على حكم الوضوء من آنية الذهب
والفضة وان الوضوء هل يكون صحيحا أو باطلا؟ وقضية الأصل الصحة إلا ان ظاهر الأصحاب
هو حمل النهي المطلق على النهي عن الاستعمال مطلقا ، وقد نقل في المنتهى الإجماع
على تحريم الاستعمال مطلقا. وحينئذ فالنهي عن الاستعمال في الوضوء لا يستلزم بطلان
الوضوء كما ذكروه بل غايته حصول الإثم بالاستعمال خاصة وهذا بخلاف النهى عن الأكل
والشرب كما حققناه آنفا نعم لو كان ورود النهي عن الوضوء من آنية الذهب لتوجه
القول بالبطلان لورود النهي على الوضوء وتوجه النهي إليه موجب لبطلانه بمقتضى
القاعدة المقررة من ان توجه النهي إلى العبادات موجب لبطلانها إلا ان الاخبار
خالية من ذلك وغاية ما يفهم من مطلقاتها النهي عن الاستعمال ان لم يرتكب فيها
التقييد كما قدمنا ذكره ، نعم يأتي ما ذكره العلامة من لزوم اجتماع الأمر والنهي
في شيء واحد ، وقد تقدم نبذة من القول في ذلك ويأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في
كتاب الصلاة.
(الثالث) ـ المشهور
بين الأصحاب تحريم اتخاذ الأواني المذكورة وان كان للقنية والادخار صرح بذلك
المحقق في المعتبر ونقله عن الشيخ (قدسسره) ولم ينقل فيه خلافا إلا
عن الشافعي حيث جوزه واستدل في المعتبر على ذلك بان فيه تعطيلا للمال فيكون
سرفا لعدم الانتفاع ، وبرواية محمد بن مسلم المتقدمة المتضمنة للنهي عن آنية الذهب والفضة ، قال : وهو على
إطلاقه. بمعنى ان النهي أعم من الاتخاذ والاستعمال فتكون الرواية دالة بإطلاقها
على محل البحث ، ثم أورد رواية موسى بن بكر. أقول : ويدل على ذلك أيضا إطلاق صحيحة
محمد بن إسماعيل بن بزيع فإنها وان تضمنت الكراهة إلا ان الكراهة هنا بمعنى
التحريم اتفاقا كما هو شائع في الاخبار وتحريمها على الإطلاق شامل للقنية والاتخاذ
وغيرهما ، ونقل في المدارك عن العلامة في المختلف انه استقرب الجواز استضعافا
لأدلة المنع واستحسنه وجعل المنع اولى. والظاهر ضعفه لما عرفت.
(الرابع) ـ قد
عرفت اتفاق كلمة الأصحاب على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة وانما الخلاف في
المفضضة والمذهبة فعن الخلاف ان حكمها حكم أواني الفضة والذهب ، وذهب في المبسوط
الى الجواز لكن أوجب عزل الفم عن موضع الفضة وهو اختيار عامة المتأخرين ومتأخريهم
: منهم ـ المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم.
واستدل الشيخ (قدسسره) على ما نقل عنه بحسنة الحلبي أو صحيحته المتقدمة
المتضمنة للنهي عن الأكل في آنية فضة أو مفضضة. أقول : ويدل عليه أيضا موثقة بريد
المتقدم نقلها عن الكافي والفقيه فإنه ساوى فيها بين الفضة والمفضض ، والرواية وان
وردت بلفظ الكراهة لكن قد عرفت ان المراد بها هنا هو التحريم اتفاقا ، ونقل الشهيد
في الذكرى على اثر هذه الرواية عنه (عليهالسلام) قال : وقوله «في التور يكون فيه تماثيل أو فضة لا
يتوضأ منه ولا فيه» قال والنهي للتحريم. وهذه الرواية لم أقف عليها فيما حضرني
الآن من كتب الأخبار.
واستدل على
القول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة ، وظاهر المتأخرين القائلين
بالجواز حمل الأخبار الأولة على الكراهة جمعا بينها وبين الحسنة المذكورة حتى
__________________
ان صاحب المعتبر استدل على ذلك بموثقة بريد المذكورة حيث تضمنت لفظ الكراهة
مع ان القدح المفضض فيها انما عطف على الفضة ولا خلاف عندهم في التحريم فيها ، إلا
ان يقول بجواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ان قلنا انه حقيقة في أحدهما أو
معنييه ان قلنا بالاشتراك وهم لا يقولون به كما صرحوا به في أصولهم ، ولهذا ان
شيخنا الشهيد في الذكرى نظم هذه الرواية في أدلة الشيخ كما أشرنا إليه آنفا وقال
في تقريب الاستدلال بها : والعطف على الشرب في الفضة مشعر بإرادة التحريم. إلا انه
(قدسسره) اختار الجمع بين الأخبار بالكراهة كما أشرنا اليه وقال
في التفصي عن هذه الرواية : واستعمال اللفظة فيها في التحريم مجاز يصار إليه
بقرينة. ولا يخفى ما فيه فإنه خروج عن قواعدهم المقررة في أصولهم وأي قرينة هنا
تدل على الجواز في المفضض؟ ومجرد وجود الخبر النافي ليس من قرائن المجاز.
وقال العلامة
في المنتهى بعد اختيار الجواز : احتج الشيخ على القول الثاني برواية الحلبي قال : «لا تأكلوا في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة». والعطف
يقتضي التساوي في الحكم وقد ثبت التحريم في آنية الفضة فيثبت في المعطوف ، وبرواية
بريد عن الصادق (عليهالسلام) «انه كره الشرب في الفضة وفي القداح المفضضة». والمراد بالكراهة في الأول
التحريم فيكون في الثاني كذلك تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولانه لولا ذلك
للزم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه أو اللفظ الواحد في معنى الحقيقة
والمجاز وذلك باطل ، ثم قال والجواب عن الحديث الأول ان المعطوف والمعطوف عليه قد
اشتركا في مطلق النهي وذلك يكفي في المساواة ويجوز الافتراق بعد ذلك بكون أحدهما
نهى تحريم والآخر نهى كراهة ، وكذا الجواب عن الرواية الثانية إذ استعمال اللفظ
المشترك في كلا معنييه أو في الحقيقة والمجاز غير لازم إذ
__________________
المراد بالكراهة مطلق رجحان العدم غير مقيد بالمنع من النقيض وعدمه فكان من
قبيل المتواطئ. انتهى.
أقول : فيه (أولا)
ـ ما عرفت مما أسلفنا ذكره في غير مقام من ان الجمع بين الاخبار بالكراهة
والاستحباب مما لا دليل عليه من سنة ولا كتاب ولا عقل يصفو عن شوب الارتياب. و (ثانيا)
ـ ان ما أجاب به عن الخبر الأول لا يخلو من غرابة فإنه قد صرح في كتبه الأصولية
وكذا غيره من المحققين بأن النهي من حيث هو حقيقة في التحريم كما ان الأمر حقيقة
في الوجوب ، ومقتضاه ان الحمل على الكراهة والاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا
بالقرينة ، وبذلك يظهر لك ما في كلامه هنا من قوله «ان المعطوف والمعطوف عليه قد
اشتركا في مطلق النهي. إلخ» فإن فيه زيادة على ما عرفت انهما متى اشتركا في مطلق
النهي والنهي حقيقة في التحريم فقد ثبت التحريم في الجميع فلا معنى لهذا الافتراق
ولا دليل عليه سوى مجرد التحكم ، وكذا ما أجاب به عن الرواية الثانية فإنه أغرب
وأعجب فإن حمل الكراهة على مطلق رجحان العدم الشامل للتحريم والكراهة الاصطلاحية
مجرد دعوى ألجأت إليها ضرورة الوقوع في شباك الإلزام وإلا فمعنى الكراهة لا يخرج
عن التحريم أو الكراهة الاصطلاحية ولو قامت هذه الاحتمالات البعيدة والتمحلات
الغير السديدة في دفع الأدلة وصرفها عن ظاهرها لا نسد باب الاستدلال إذ لا قول إلا
وهو قابل للاحتمال.
والأظهر عندي
هو القول المشهور من الجواز على كراهية والاستدلال بالأخبار المذكورة ، والتقريب
فيها مبني على جواز استعمال المشترك في معنييه أو اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو
وان منعوه في الأصول كما عرفت إلا ان ظواهر كثير من الاخبار وقوعه كما أشرنا إليه
في غير مقام ومنه هذه الأخبار ، والاشكال في الاستدلال بها انما يتجه على من يعمل
بهذه القواعد الأصولية ومنها هذه القاعدة ، وما استندوا إليه في الخروج عن الاشكال
بعد التزامهم بالقاعدة المذكورة قد عرفت ما فيه. نعم هنا احتمالات أخر أيضا في
الجمع بين أخبار
المسألة إلا ان الظاهر هو ما ذكرناه.
بقي الكلام في
انه على تقدير القول بالجواز كما هو المشهور هل يجب العزل عن موضع الفضة أم لا وان
استحب؟ الظاهر الأول كما اختاره الشيخ في المبسوط والعلامة في المنتهى والشهيد في
الذكرى لحسنة عبد الله بن سنان وقوله (عليهالسلام) فيها «واعزل فمك عن موضع الفضة». واختار المحقق في
المعتبر الاستحباب وتبعه في المدارك واستند في المعتبر إلى رواية معاوية بن وهب
المتقدمة. قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو حسن فان ترك الاستفصال في جواب
السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم. وفيه ان غاية ما يدل عليه الخبر المذكور هو
جواز استعمال المفضض لا موضع الفضة وأحدهما غير الآخر ، وما استند اليه من العموم
الناشئ من ترك الاستفصال مخصوص برواية عبد الله بن سنان الدالة على الأمر بعزل
الفم عن موضع الفضة كما لا يخفى.
(الخامس) ـ مورد
الأخبار تحريما أو كراهة الإناء المفضض وهل يكون الإناء المذهب ايضا كذلك؟ الظاهر
نعم ان لم يكن اولى لاشتراكهما في أصل الحكم. وقال العلامة في المنتهى : الأحاديث
وردت في المفضض وهو مشتق من الفضة ففي دخول الآنية المضببة بالذهب نظر ولم أقف
للأصحاب فيه على قول ، والأقوى عندي جواز اتخاذه عملا بالأصل والنهي انما يتناول
استعمال آنية الذهب والفضة ، نعم هو مكروه إذ لا ينزل عن درجة الفضة. انتهى. واختياره
الجواز في المذهب جرى على اختياره الجواز في المفضض كما سلف نقله عنه. وقال الشهيد
في الذكرى : هل ضبة الذهب كالفضة؟ يمكن ذلك كأصل الإناء والمنع لقوله (صلىاللهعليهوآله) في الذهب والحرير : «هذان محرمان على ذكور أمتي». والظاهر
ضعفه والحديث المذكور ان ثبت فالظاهر منه ارادة اللبس كما يشير اليه ذكر الحرير.
__________________
(السادس) ـ الظاهر
دخول مثل المكحلة وظرف الغالية في الإناء وبذلك صرح الشهيد في الذكرى فقال :
الأقرب تحريم المكحلة منهما وظرف الغالية وان كانت بقدر الضبة لصدق الإناء أما
الميل فلا. وبنحو ذلك صرح العلامة في جملة من كتبه وتردد في المدارك للشك في إطلاق
اسم الإناء حقيقة على ذلك. أقول : ومما يؤيد صدق الإناء على ما نحن فيه ما ذكره
الفيومي في المصباح المنير حيث قال : الإناء والآنية الوعاء والأوعية وزنا ومعنى.
وهو صريح في المراد لأنها وعاء لما يوضع فيها. واما الميل فالظاهر انه من قبيل
الآلات فلا يتعلق به حكم الأواني وبه جزم الشهيد في الذكرى كما تقدم. والله
العالم.
(السابع) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد في
الذكرى وغيرهم بجواز نحو الحلقة للقصعة وقبضة السيف والسلسلة واتخاذ الأنف من
الذهب وربط الأسنان به. وظاهر كلامهم جواز ذلك بلا كراهة ، واستندوا في ذلك الى
انه كان للنبي (صلىاللهعليهوآله) قصعة فيها حلقة من فضة ولموسى بن جعفر (عليهالسلام) مرآة كذلك وان قبضة سيف النبي (صلىاللهعليهوآله) كانت من فضة ولدرعه حلق من فضة.
أقول : لا ريب
في صحة ما ذكروه ووجود الاخبار به كما تقدم إلا انه قد ورد ايضا ما ظاهره المنافاة مثل حديث الفضيل
بن يسار الوارد في السرير فيه الذهب حيث منع (عليهالسلام) عن إمساك السرير في البيت ان كان فيه ذهب وانما جوز
المموه بماء الذهب ، وصحيحة علي بن جعفر الواردة في اللجام والسرج فيه الفضة حيث
منع من الركوب به ان كان فضة وجوزه ان كان مموها لا يقدر على نزعه ، وصحيحة محمد
بن إسماعيل المتقدمة المشتملة على القضيب الملبس فضة وأمر الكاظم (عليهالسلام) بكسره وحديث بريد المشتمل على المشط ، ويؤيد ذلك
ما روى عن
__________________
الصادق (عليهالسلام) في القرآن المعشر بالذهب وفي آخره سورة مكتوبة بالذهب
فلم يعب سوى كتابة القرآن بالذهب وقال : «لا يعجبني أن يكتب القرآن إلا بالسواد
كما كتب أول مرة». وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في الكراهة ان تنزلنا عن التحريم
وسؤال الفرق بينها وبين ما ورد في تلك الأخبار متجه ، وبالجملة فالظاهر هو الجواز
في الآلات على كراهة وان تفاوتت شدة وضعفا في مواردها ، هذا في المذهب والمفضض
منها واما المموه فالظاهر جوازه من غير كراهة إلا ان في صحيحة علي بن جعفر ما يشعر
ايضا بكون الحكم فيه كذلك من قوله : «ان كان مموها لا يقدر على نزعه» والاحتياط لا
يخفى.
(الثامن) ـ قد
صرح جملة من الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز استعمال الأواني من غير هذين
المعدنين من سائر الجواهر وان علا ثمنه. وهو جيد للأصل وعدم ما يوجب الخروج عنه.
(التاسع) ـ قد
عرفت آنفا الخلاف في جواز الاتخاذ للقنية وعدم الاستعمال وعدمه ، ويتفرع على ذلك
فروع : منها ـ عدم جواز كسر الآنية المذكورة وضمان الأرش لو كسرها على الأول دون
الثاني لأنه لا حرمة لها من حيث التحريم ، ومنها ـ جواز بيعها على الأول دون
الثاني إلا ان يكون المطلوب كسرها ووثق من المشتري بذلك.
(العاشر) ـ قال
العلامة في المنتهى : تحريم الاستعمال مشترك بين الرجال والنساء لعموم الأدلة ،
واباحة التحلي للنساء بالذهب لا يقتضي إباحة استعمالهن للآنية منه إذ الحاجة وهي
التزيين ماسة في التحلي وهو مختص به فتختص به الإباحة. انتهى. وادعى في التذكرة
الإجماع على الاشتراك المذكور. وهو جيد. والله العالم.
تذنيب
في أحكام
الجلود والبحث فيها يقع في مواضع (الأول) المشهور بين الأصحاب
__________________
(رضوان الله عليهم) بل ادعى عليه الإجماع ان جلد الميتة مما هو طاهر في حال
الحياة لا يطهر بالدباغ وادعى العلامة في المنتهى والمختلف الإجماع عليه من غير
ابن الجنيد ، والشهيد في الذكرى ادعى الإجماع من غير استثناء ، وهو اما بناء على
ان معلوم النسب خروجه غير قادح في الإجماع أو لعدم الاعتداد بخلافه لشذوذه وموافقة
قوله لأقوال العامة ، ولم ينقلوا الخلاف هنا إلا عن ابن الجنيد خاصة حيث ذهب الى
طهارته بالدباغ مما هو طاهر في حال الحياة لكن لا يجوز الصلاة فيه ، وعزى الشهيد
في الذكرى الى ابي جعفر الشلمغاني من قدماء أصحابنا إلا انه تغير وظهرت منه مقالات
منكرة ـ موافقة ابن الجنيد ، مع ان ظاهر الصدوق في الفقيه ذلك ايضا حيث روى في صدر
الكتاب مرسلا عن الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال
لا بأس». وهو ظاهر في الطهارة كما ترى وليس بين هذا الكلام وبين صدر الكتاب الذي
قرر فيه انه لا يورد في كتابه إلا ما يعتقد صحته ويفتي به إلا أوراق يسيرة.
أقول : وقد
قدمنا تحقيق القول في هذه المسألة في الفصل الخامس في الميتة من المقصد الأول
واستوفينا الأخبار الواردة في المسألة وبينا الوجه فيها وفي الجمع بينها إلا انه
قد وقع للمحقق الشيخ حسن في هذا المقام كلام لا بأس بنقله وبيان ما فيه من نقض
وإبرام وقد سبقه الى ذلك ايضا صاحب المدارك إلا أنا نكتفي بالكلام على ما ذكره في
المعالم حيث انه ابسط ومنه يعلم الجواب عما ذكره في المدارك.
قال في المعالم
بعد نقل الخلاف في المسألة : إذا عرفت هذا فاعلم ان العمدة في الاحتجاج هنا لكل من
القولين حسب ما ذكره المتأخرون هو الاخبار إلا ان الشيخ والفاضلين أضافوا إليها في
الاحتجاج لعدم الطهارة عموم قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» تعويلا على تناوله لجميع أنواع الانتفاع ، واستصحاب
النجاسة لثبوتها قبل
__________________
الدبغ فكذا بعده ، ويلوح من الشهيد التمسك بالإجماع كما حكيناه عنه وهو
صريح كلام الشيخ في الخلاف. وهذه الوجوه كلها ضعيفة ، اما التمسك بالآية فلأن
المتبادر منها بحسب العرف تحريم الأكل كما سبق تحقيقه في بحث المجمل من مقدمة
الكتاب ، واما الاستصحاب فلان التمسك به موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما
في الأزمان كما سلف القول فيه محررا وقد تقدم في البحث عن نجاسة الميتة ان العمدة
فيه على الإجماع وحينئذ فلا استصحاب ، واما الإجماع فلعدم ثبوته على وجه يصلح
للحجية ولهذا لم يتعرض له المحقق ، وحال الشيخ والشهيد في الإجماع معلوم إذ قد
أشرنا في غير موضع إلى أنهما داخلان في عداد من ظهر منه في أمر الإجماع ما أوجب
حمله على غير معناه المصطلح الذي هو الحجة عندنا أو أفاد قلة الضبط في نقلهم. ثم
ان الاخبار التي احتجوا بها لعدم الطهارة كثيرة : منها ـ ما رواه علي بن المغيرة
قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) جعلت فداك الميتة ينتفع بشيء منها؟ قال لا. قلت
بلغنا. الحديث». وقد قدمناه في الموضع المشار اليه آنفا عن علي بن أبي المغيرة ثم ذكر بعده رواية الفتح ابن يزيد الجرجاني وقد تقدمت
ايضا ثم روايات لا دلالة فيها في الحقيقة ، ثم قال فاما ما يدل من الاخبار على
الطهارة فحديث واحد رواه الشيخ بإسناده ثم نقل رواية الحسين بن زرارة وقد تقدمت
أيضا في الموضع المشار اليه ثم قال : وأنت إذا تأملت هذه الاخبار كلها وجدت ما عدا
الأولين منها والأخير ليس من محل النزاع في شيء ، ثم ساق الكلام في بيان ذلك الى
ان قال : فالتعارض واقع بينهما وبينه ـ يعني الخبرين الأولين وخبر الحسين ـ والترجيح
من جهة الاسناد منتف لأن رواية الفتح ضعيفة والخبران الآخران مشتركان في جهالة حال
راوييهما ، وحينئذ فيمكن ان يجعل وجه الجمع حمل الروايتين الأوليين على الكراهة أو
حمل رواية الطهارة على التقية ويرجح الثاني رعاية الموافقة لما عليه اتفاق أكثر
الأصحاب ، ويؤيد
__________________
الأول موافقته لمقتضى الأصل من براءة الذمة بملاحظة ما قدمناه من عدم
استقامة اعتبار الاستصحاب في مثله. انتهى.
أقول : لا يخفى
ما فيه على المتأمل النبيه (أما أولا) فإن ما ذكره من ان التمسك بالاستصحاب موقوف
على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما فجيد ، واما قوله ـ ان العمدة في نجاسة الميتة
انما هو الإجماع ـ فمردود بما قدمنا تحقيقه في الفصل المتقدم ذكره ونقلناه من
الأخبار المستفيضة الدالة على الحكم المذكور وما ذيلنا به من التحقيق الظاهر في
ذلك تمام الظهور ، وعلى هذا فالاستدلال بالاستصحاب في محله لأن الأخبار المذكورة
قد دلت على نجاسة الميتة ومنها الجلد وهي مطلقة عامة شاملة لجميع الأزمان حتى يقوم
الرافع فالاستصحاب هنا راجع الى الاستصحاب بعموم الدليل كما هو المدعى.
و (اما ثانيا)
ـ فان ما ذكره من الطعن في الإجماع فهو حق على رأينا الواجب الاتباع وان كان قليل
الاتباع من الاقتصار في الاستدلال على الكتاب والسنة لا على رأي من يعتمد على
القواعد الأصولية كهذا القائل ونحوه. وذلك فإنه لا يخفى ان من قواعدهم العمل
بالإجماع المنقول بالخبر الواحد ، ومنها ان خلاف معلوم النسب غير قادح في الإجماع
والأمر هنا كذلك فيكون حجة ، وقد ادعاه هنا العلامة في المنتهى والمختلف وان
استثنى ابن الجنيد منه ، وادعاه الشيخ في الخلاف والشهيد في الذكرى من غير استثناء
بناء على القاعدة الثانية ، وبذلك اعترف هذا القائل في صدر كلامه فقال بعد نقل
الإجماع عن العلامة كما حكيناه : وقال الشهيد في الذكرى لا يطهر جلد الميتة
بالدباغ إجماعا فلم يحتفل باستثناء المخالف نظرا الى عدم اعتبار مخالفة معلوم
الأصل في تحقق الإجماع انتهى. وحينئذ فالإجماع المدعى هنا بمقتضى قواعدهم حجة في
المقام فلا معنى لقدحه فيه ، ووقوع التساهل من الشيخ والشهيد في دعوى الإجماع في
غير هذا الموضع لا يقتضي رد ما نقلاه هنا من الإجماع المشتمل على شروط الإجماع
المقبولة وإلا لأدى ذلك الى
عدم قبول الإجماع بين المتأخرين مطلقا ولا جعله دليلا شرعيا عندهم لان عمدة
الإجماعات الأصل فيها هو الشيخ والمرتضى اللذان هما في الصدر الأول فإذا لم يعول
على نقلهم الإجماع مع عدم ظهور فساده ولا مانع منه فبالطريق الأولى إجماعات
المتأخرين الذين هم أبعد طبقة من معرفة أقوال المتقدمين ، غاية الأمر انه في مقام
ظهور خلافه سيما إذا لم يعلم القائل به سوى المدعى أو مخالفة المدعى نفسه فيه في
موضع آخر أو مخالفة غيره له فيه لا يعمل عليه ، وما لم يظهر فيه شيء من ذلك ونحوه
فإنه لا معنى لرده بمجرد التشهي كما لا يخفى.
و (اما ثالثا)
ـ فان ما ذكره ـ من انه لا تعارض في الاخبار التي نقلها إلا بين روايتي علي بن
المغيرة والفتح بن يزيد الجرجاني وبين رواية الحسين بن زرارة ـ فحق لا ريب فيه إلا
ان قوله : «والترجيح من جهة الاسناد منتف» غفلة ظاهرة قد سبقه إليها صاحب المدارك
ايضا ، وذلك فإن الرواية التي نقلاها عن علي بن المغيرة انما نقلاها من التهذيب
وهي فيه كذلك وعلي بن المغيرة المذكور مجهول ذكره ولم يتعرضوا له بمدح ولا قدح
واما في الكافي فإنما رواها عن ابن أبي المغيرة وهو ثقة كما في كتب الرجال
والتحريف قد وقع من الشيخ كما لا يخفى على من له انس بطريقته وقد نبهنا على ذلك
مرارا ، ويدل على ذلك انه انما نقل الحديث عن ابن يعقوب بالسند المذكور في الكافي
ولكن حرف قلمه فسقط منه لفظ «ابي» والمحدثان الفاضلان محسن الكاشاني والشيخ الحر
في الوافي والوسائل إنما نقلا الخبر بسند صاحب الكافي كما ذكرنا ولكن المحققين
المذكورين لم يراجعا الكافي واعتمدا على التهذيب والحال كما ترى ، وحينئذ فالرواية
المذكورة صحيحة صريحة في النجاسة ورواية الحسين بن زرارة قاصرة عن معارضتها ،
واقصر منها وأضعف باصطلاحهم مرسلة الصدوق التي نوه بها في المدارك واعتمد عليها ،
على ان أدلة القول بالنجاسة غير منحصرة في هاتين الروايتين بل هي عدة روايات قدمنا
ذكرها في الموضع المشار اليه آنفا.
و (اما رابعا)
فان ما ذكره ـ من وجهي الجمع بحمل رواية الطهارة على التقية أو حمل روايتي النجاسة
على الكراهة وأيد الحمل الأول برعاية اتفاق أكثر الأصحاب والثاني بموافقة الأصل ـ ففيه
ان وجه الجمع الموافق لقواعد أهل العصمة (عليهمالسلام) التي وضعوها انما هو الأول لما استفاض عنهم من الأخبار
في مقام اختلاف الروايات الواردة عنهم في الأحكام من العرض على الكتاب العزيز
والأخذ بما وافقه والعرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه والأخذ بالجمع عليه والأخذ
بالأعدل ونحو ذلك ، واما الحمل على الكراهة والاستحباب والترجيح بالأصل كما اتخذوه
قاعدة كلية في جميع الأبواب فهو اجتهاد صرف وتخريج بحت ورد لنصوص أهل الخصوص ،
وليت شعري أرأيت حين خرجت عنهم (عليهمالسلام) هذه القواعد في ترجيح الاخبار في مقام الاختلاف لم
يعلموا بهذا الأصل وانه مما ترجح به الاخبار حتى أغفلوه وأهملوه أو علموا به ولم
يذكروه والأول كفر محض فتعين الثاني وليس إلا لعدم صلاحيته للترجيح وإلا لعدوه في
جملة هذه المرجحات.
وبهذا يظهر لك
ايضا ما في كلام صاحب المدارك حيث قال بعد الكلام في المسألة : وبالجملة فالمسألة
محل تردد لما بيناه فيما سبق من انه ليس على نجاسة الميتة دليل يعتد به سوى
الإجماع وهو انما انعقد على النجاسة قبل الدبغ لا بعده ، وعلى هذا فيمكن القول
بالطهارة تمسكا بمقتضى الأصل وتخرج الروايتان شاهدا. انتهى.
أقول : لا تردد
بحمد الله تعالى في ذلك بعد وضوح المدارك فيها والمسالك من الأخبار المستفيضة
بنجاسة الميتة على العموم والجلد على الخصوص المعلوم وحمل المخالف في الثاني على
التقية كما استفاضت به الاخبار عن سادات البرية. والله الهادي لمن يشاء
(الثاني) ـ اشترط
ابن الجنيد في حصول الطهارة بالدباغ ان يكون ما يدبغ به طاهرا ، قال في المختصر
على ما نقل عنه : وليس يكون دباغها المحلل لها إلا بمحلل طاهر كالقرظ والشث والملح
والتراب فإذا دبغت بشيء من النجس لم تطهر كالدارش فإنها
تدبغ بخرء الكلاب وكذا اللنكا. انتهى قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : ولا
نعلم حجته على هذا الشرط ويمكن ان يكون الوجه فيه علوق بعض اجزاء النجس به لسريانه
في أعماق الجلد. انتهى. أقول : بل الظاهر ان الوجه فيه انما هو عدم وقوع التطهير
بالنجس حيث انه جعل الدبغ مطهرا شرعا وقد تقرر في كلامهم انه لا بد في المطهر ان
يكون طاهرا ليفيد غيره طهارة كما صرحوا به وعليه دلت الاخبار ايضا. أقول : قد روى
الشيخان في الكافي والتهذيب عن السياري عن ابي يزيد القسمي عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) «انه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف فقال لا تصل فيها فإنها
تدبغ بخرء الكلاب». والنهي في الخبر عن الصلاة في الخفاف المذكورة مخصوص بعدم
تطهير الجلد وغسله وإلا فلو غسل فلا بأس ، صرح بذلك الفاضلان في المعتبر والمنتهى.
والمذكور في
كلام جملة من الأصحاب انه لا يجوز الدباغ إلا بما كان طاهرا قاله الشيخ في المبسوط
وكذا ابن إدريس والعلامة في المنتهى وظاهره تحريمه بالنجس ، ولا اعرف للتحريم وجها
بعد حصول الطهارة بالغسل كما صرح به هنا ، ونحوه في المنتهى قال : يجوز استعمال
الطاهر في الدباغ كالشث والقرظ والعفص وقشور الرمان وغيرها ، والقائلون بتوقف
الطهارة على الدباغ من أصحابنا والجمهور اتفقوا على حصول الطهارة بهذه الأشياء أما
الأشياء النجسة فلا يجوز استعمالها في الدباغ ، وهل يطهر أم لا؟ اما عندنا فإن
الطهارة حصلت بالتذكية فكان ملاقاة النجس موجبة لتنجس الجلد ويطهر بالغسل ، واما
القائلون بتوقف الطهارة على الدباغ فقد ذهب بعضهم الى عدم الطهارة ذكره ابن الجنيد
وبعض الجمهور لأنها طهارة من نجاسة فلا تحصل بالنجس كالاستجمار والغسل الى ان قال
وقد روي عن الرضا (عليهالسلام) ثم نقل رواية أبي يزيد القسمي المتقدمة وردها أولا
بضعف السند ثم قال ومع تسليمها تحمل على المنع من الصلاة قبل الغسل. انتهى.
__________________
وقد ضبط جملة من أصحابنا لفظ «الشث» هنا بالشين المعجمة والثاء المثلثة قال
الجوهري انه نبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به ، وفي الذكرى بعد ان ضبطه هكذا قال
وقيل بالباء الموحدة وهو شيء يشبه الزاج. والقرظ بالقاف والراء والظاء المعجمة
قال الجوهري هو ورق السلم يدبغ به. واما الدارش فذكر الجوهري وغيره انه جلد معروف.
واما ما ذكره ابن الجنيد من اللنكا فذكر في المعالم انه ليس بعربي إذ لم يذكره أهل
اللغة.
(الثالث) ـ لو
قلنا ببقاء جلود الميتة بعد الدباغ على النجاسة كما هو المشهور المنصور فهل يجوز
الانتفاع بها في اليابس أم لا؟ صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الفاضلان في المعتبر
والمنتهى والشهيد في الذكرى بالثاني. وعلله المحقق في المعتبر بعموم النهي عن
الانتفاع ونحوه العلامة في المنتهى ، وزاد الشهيد في الذكرى عموم «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ» .
واعترضهم في
المعالم بأنه ليس بجيد لأن الآية غير صالحة لأن يتناول عمومها مثله كما بيناه
والخبران العامان قد علم ضعف إسنادهما.
أقول : اما ما
ذكره من منع دلالة الآية سابقا وفي هذا الموضع فهو جيد لما ذكره من ان المتبادر
انما هو الأكل كما في قوله سبحانه «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... الآية» فإن المتبادر انما هو النكاح خاصة. واما الطعن في
الخبرين الدالين على ذلك فهو ايضا جيد على أصله الغير الأصيل المخالف لما عليه
كافة العلماء جيلا بعد جيل ، لإطباقهم على العمل بهذه الاخبار واتفاقهم على ذلك في
جميع الأعصار وان اختلفوا في الوجه في ذلك فبين من يحكم بصحتها كما عليه كافة
المتقدمين وجملة من متأخري المتأخرين وبين من يجبر ضعفها باتفاق الأصحاب على العمل
بها وإجماعهم عليها. والله العالم.
(الرابع) ـ الظاهر
انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما
__________________
اعلم ان ما عدا الكلب والخنزير والإنسان من الحيوانات الطاهرة مما لا يؤكل
لحمه كالسباع ونحوها تقع عليها الذكاة وانما الخلاف في انه بعد التذكية هل يشترط
في الانتفاع بجلده الدبغ أم لا؟ المشهور على ما ذكره في الذكرى الأول حيث قال :
الأصح وقوع الذكاة على الطاهر في حال الحياة كالسباع لعموم «إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ»
وقول الصادق (عليهالسلام) «لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ذكاه الذبح أو لم يذكه». فيطهر بالذكاة ،
والمشهور تحريم استعماله حتى يدبغ والفاضلان جعلاه مستحبا لطهارته وإلا لكان ميتة
فلا يطهره الدبغ. انتهى. وربما أشعر صدر عبارته بالخلاف في وقوع التذكية.
أقول : لم أقف
في كلام أحد من الأصحاب على نقل الخلاف في جواز الاستعمال قبل الدبغ إلا عن الشيخ
والمرتضى خاصة حيث نقل عنهما التحريم كما في المعتبر والمختلف والمنتهى ، وشيخنا
الشهيد في الذكرى قد ذكر انه هو المشهور وظاهر أكثر المتأخرين انما هو ما ذهب اليه
الفاضلان من الجواز وان كان على كراهة خروجا من خلاف القائل بالتحريم ، نعم ظاهر
كلام العلامة ان خلاف الشيخ والمرتضى انما هو في الطهارة لا في الاستعمال كما هو
المفهوم من كلام غيره ، قال واما الحيوان الطاهر حال الحياة مما لا يؤكل لحمه
كالسباع فإنه تقع عليه الذكاة ويطهر الجلد بها وهو قول مالك وابي حنيفة وقال الشيخ
والمرتضى لا يطهر إلا بالدباغ وبه قال الشافعي واحمد في إحدى الروايتين وفي الأخرى
لا يجوز الانتفاع بجلود السباع قبل الدبغ ولا بعده. إلخ . وهو غريب ونحوه كلام المحقق الشيخ علي في شرح القواعد
حيث قال بعد قول المصنف «نعم يستحب الدبغ فيما لا يؤكل لحمه» : وقيل بالوجوب
ومقتضى كلام القائلين به ان
__________________
الطهارة تحصل بالدبغ وهو مردود لأن الطهارة حاصلة بالتذكية إذ لولاها لكان
ميتة فلا يطهر بالدبغ ، قال والأصح عدم الوجوب وان كان العمل به أحوط. وفيه ان
مجرد القول بالوجوب لا يستلزم ما ذكره إذ يجوز ان يكون وجوب الدبغ الذي ذهبوا اليه
انما هو لحل الاستعمال إلا ان يدعى ان حل الاستعمال تابع للطهارة فمتى قيل بها جاز
الاستعمال ثم يستثني من ذلك الصلاة اتفاقا. ثم ان ظاهر الشهيد في الذكرى ونحوه في
الدروس هو التوقف في المسألة حيث اقتصر على نقل الخلاف في المقام ولم يرجح شيئا.
وبالجملة فالذي
يتلخص من كلام من وقفت على كلامهم في هذا المقام هو ان محل الخلاف انما هو جواز
الاستعمال قبل الدبغ وعدمه فالشيخ والمرتضى على الثاني والمتأخرون كالفاضلين ومن
تأخر عنهما على الأول.
ونقل عن الشيخ
في الخلاف انه احتج بالإجماع على جواز الاستعمال بعد الدبغ ولا دليل قبله. وفيه
منع ظاهر لتظافر الأدلة بالجواز ، ومنها ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في
التهذيب عن سماعة في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن لحوم السباع وجلودها فقال اما لحوم
السباع والسباع من الطير والدواب فانا نكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا
شيئا منها تصلون فيه».
وروى المشايخ
الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن سماعة في الموثق الأوثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «سألته عن لحوم السباع وجلودها فقال اما لحوم
السباع من الطير والدواب فانا نكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا
منها تصلون فيه».
وروى في
المحاسن عن ابن أسباط عن علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته عن ركوب جلود السباع قال لا بأس ما لم
يسجد عليها».
__________________
وعن عثمان بن
عيسى عن سماعة قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن جلود السباع قال فقال اركبوها ولا تلبسوا شيئا منها
تصلون فيه».
قال شيخنا
المجلسي في البحار ذيل هذين الخبرين : هذان الخبران يدلان على كون السباع قابلة
للتذكية بمعنى إفادتها جواز الانتفاع بجلودها لطهارتها كما هو المشهور بين الأصحاب
(رضوان الله عليهم) بل قال الشهيد انه لم يعلم القائل بعدم وقوع الذكاة عليها سوى
الكلب والخنزير. واستشكال الشهيد الثاني وبعض المتأخرين في الحكم بعد ورود النصوص
المعتبرة وعمل القدماء والمتأخرين بها لا وجه له. انتهى.
أقول : ومن
الأخبار في ذلك ايضا ما يأتي في كتاب الصلاة ان شاء الله تعالى من جواز الصلاة في
الخز اتفاقا وفي جلود جملة من الحيوانات كالفنك والسنجاب والسمور والثعالب
والأرانب ونحوها على خلاف في ذلك دون أصل اللبس فإنها ظاهرة في جوازه.
وقال في الفقه
الرضوي «ولا تجوز الصلاة في سنجاب أو سمور أو فنك فإذا أردت الصلاة فانزعه عنك وقد
روى فيه رخصة وإياك ان تصلي في الثعالب ولا في ثوب تحته جلد ثعالب وصل في الخز إذا
لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب. ولا تصل في جلد الميتة». انتهى.
وإطلاق هذه
الأخبار شامل للمدبوغ وغيره وبه يظهر قوة القول المشهور ، وبالجملة فإنه متى ثبتت
الطهارة بالتذكية جاز الاستعمال ومدعى الزيادة على ذلك عليه الدليل.
وبما سردناه من
الأخبار يظهر ما في حكم أصحابنا (رضوان الله عليهم) بكراهة الاستعمال قبل الدبغ
تفصيا من خلاف الشيخ والمرتضى فإنه لا يخفى ان الكراهة عندهم من الأحكام الشرعية
المتوقف ثبوتها على الدليل فكيف يسوغ الحكم بها من غير دليل؟ ومجرد قول هذا القائل
مع خلوه من الدليل ليس بدليل الكراهة ، وغاية ما يمكن
__________________
التنزل اليه بعد الإغماض عما ذكرناه في غير موضع من التحقيق هو حمل دليله
لو كان ثمة دليل على الكراهة جمعا كما هي قاعدتهم لا الحكم بالكراهة لمجرد التفصي
من الخلاف فإنه لا يخفى ما فيه على ذوي الإنصاف.
(الخامس) ـ المشهور
في كلام متأخري أصحابنا نجاسة الجلد لو وجد مطروحا وان كان في بلاد المسلمين جديدا
أو عتيقا مستعملا أو غير مستعمل لأصالة عدم التذكية ونحو ذلك اللحم ايضا.
وأنت خبير بما
فيه (اما أولا) فللقاعدة الكلية المتفق عليها نصا وفتوى من ان «كل شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» . و «كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر» . ومن قواعدهم المقررة ان الأصل يخرج عنه بالدليل
والدليل موجود كما ترى ، فترجيحهم العمل بالأصل المذكور على هذه القاعدة المنصوصة
خروج عن القواعد ، ويعضد هذه القاعدة المذكورة جملة من الاخبار كصحيحة سليمان بن
جعفر الجعفري عن العبد الصالح موسى (عليهالسلام) «انه سأله عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير
ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان
الدين أوسع من ذلك». وبمضمونها روايات عديدة قد تقدمت ، والتقريب فيها دلالتها على
الحل في موضع الاشتباه حتى في الصلاة.
و (اما ثانيا)
ـ فلما رواه الشيخ عن السكوني عن الصادق (عليهالسلام) «ان أمير المؤمنين (عليهالسلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها
وجبنها وبيضها وفيها سكين؟ فقال أمير المؤمنين (عليهالسلام) يقوم ما فيها ثم يؤكل لانه يفسد وليس له بقاء فان جاء
طالبها غرموا له الثمن. قيل يا أمير المؤمنين
__________________
لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ قال هم في سعة حتى يعلموا». وهو صريح في
المطلوب ، ونقل هذه الرواية في البحار عن الراوندي بسنده عن موسى بن إسماعيل عن أبيه إسماعيل
عن أبيه موسى. الحديث إلا ان فيه «لا نعلم أسفرة ذمي هي أم سفرة مجوسي».
و (اما ثالثا)
ـ فان مرجع ما ذكروه من الأصل إلى استصحاب عدم الذبح نظرا الى حال الحياة. وفيه ـ مع
الإغماض عما حققناه في مقدمات الكتاب من ان مثل هذا الاستصحاب ليس بدليل شرعي ـ انه
صرح جملة من المحققين كما حققناه في الدرر النجفية بان من شرط العمل بالاستصحاب ان
لا يعارضه استصحاب آخر يوجب نفى الحكم الأول في الثاني واستصحاب عدم التذكية هنا
معارض باستصحاب طهارة الجلد حال الحياة ، وتوضيحه ان وجه تمسكهم بالأصل المذكور من
حيث استصحاب عدم الذبح نظرا الى حال الحياة ولم يعلم زوال عدم المذبوحية لاحتمال
الموت حتف انفه فيكون نجسا إذ الطهارة لا تكون إلا مع الذبح ، هكذا قالوا ، ونحن
نقول ان طهارة الجلد في حال الحياة ثابتة ولم يعلم زوالها لتعارض احتمال الذبح
وعدمه فيتساقطان ويبقى الأصل ثابتا لا رافع له.
و (اما رابعا)
ـ فان ما اعتمدوه من الاستصحاب وان سلمنا صحته إلا انه غير ثابت هنا ولا موجود عند
التأمل بعين التحقيق ، فإنه لا معنى للاستصحاب كما حقق في محله إلا ثبوت الحكم
بالدليل في وقت ثم إجراؤه في وقت ثان لعدم قيام دليل على نفيه مع بقاء الموضوع في الوقتين
وعدم تغيره فثبوت الحكم في الوقت الثاني متفرع على ثبوته في الوقت الأول والا فكيف
يمكن إثباته في الثاني مع عدم ثبوته أولا؟ واستصحاب عدم المذبوحية في المسألة لا
يوجب الحكم بالنجاسة كما توهموه لأن النجاسة لم تكن ثابتة في الوقت الأول وهو وقت
الحياة ، وبيانه ان عدم المذبوحية لازم لأمرين
__________________
أحدهما الحياة وثانيهما الموت حتف الأنف والموجب للنجاسة ليس هو هذا اللازم
من حيث هو بل ملزومه الثاني أعني الموت حتف الأنف فعدم المذبوحية اللازم للحياة
مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف والمعلوم ثبوته في الزمن الأول هو
الأول لا الثاني وظاهر انه غير باق في الوقت الثاني. والله العالم.
خاتمة الكتاب
في الاستطابة
التي صرح بها جملة من الأصحاب وهي مشتملة على فصول من السنن والآداب :
(فصل) ـ روى
الشيخ في التهذيب عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن جده قال : «دخل علي (عليهالسلام) وعمر الحمام فقال عمر بئس البيت الحمام يكثر فيه
العناء ويقل فيه الحياء. وقال علي (عليهالسلام) نعم البيت الحمام يذهب الأذى ويذكر بالنار».
وروى في الكافي
عن محمد بن أسلم الجبلي رفعه قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) نعم البيت الحمام يذكر بالنار ويذهب الدرن. وقال عمر
بئس البيت الحمام يبدي العورة ويهتك الستر. قال فنسب الناس قول أمير المؤمنين (عليهالسلام) الى عمر وقول عمر الى أمير المؤمنين (عليهالسلام)».
وقال في الفقيه
قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) «نعم البيت الحمام تذكر فيه النار ويذهب بالدرن». وقال
(عليهالسلام) «بئس البيت الحمام يهتك الستر ويذهب بالحياء». وقال
الصادق (عليهالسلام) «بئس البيت الحمام يهتك الستر ويبدي العورة ونعم البيت
الحمام يذكر حر النار».
وروى في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن رفاعة عن الصادق (عليهالسلام)
__________________
قال : «(مَنْ كانَ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا يدخل حليلته الحمام».
وعن سماعة في
الموثق عن الصادق (عليهالسلام) قال : «(مَنْ كانَ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا يرسل حليلته الى الحمام».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : وقال (عليهالسلام) «من أطاع امرأته أكبه الله على منخريه في النار. قيل
وما تلك الطاعة؟ قال : تدعوه الى النياحات والعرسات والحمامات ولبس الثياب الرقاق
فيجيبها».
وروى في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن رفاعة عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا يدخل الحمام إلا بمئزر».
وعن علي بن
الحكم عن رجل من بني هاشم قال : «دخلت على جماعة من بني هاشم فسلمت عليهم في بيت
مظلم فقال بعضهم سلم على ابي الحسن (عليهالسلام) فإنه في الصدر قال فسلمت عليه وجلست بين يديه وقلت له
جعلت فداك قد أحببت أن ألقاك منذ حين لا سألك عن أشياء فقال سل عما بدا لك قلت ما
تقول في الحمام؟ قال لا تدخل الحمام إلا بمئزر وغض بصرك ولا تغتسل من غسالة ماء
الحمام فإنه يغتسل فيه من الزنا ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت (عليهمالسلام) وهو شرهم».
وعن محمد بن
جعفر عن بعض رجاله عن الصادق (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر الى عورته. وقال
ليس للوالدين ان ينظرا إلى عورة الولد وليس للولد ان ينظر إلى عورة الوالد.
__________________
وقال : لعن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الناظر والمنظور إليه في الحمام بلا مئزر».
وروى الصدوق في
الفقيه مرسلا قال : «سئل الصادق (عليهالسلام) عن قول الله عزوجل : «قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ
أَزْكى لَهُمْ» فقال كل ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من
الزنا إلا في هذا الموضع فإنه الحفظ من ان ينظر اليه». قال : وروى عن الصادق (عليهالسلام) انه قال : «انما كره النظر إلى عورة المسلم فاما النظر
إلى عورة الذمي ومن ليس بمسلم فهو مثل النظر إلى عورة الحمار». وروى في الكافي في
الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير عن غير واحد عن الصادق (عليهالسلام) قال : «النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة
الحمار».
وروى في الكافي
والفقيه بإسنادين صحيح وحسن عن حنان بن سدير عن أبيه قال : «دخلت انا وابي وجدي وعمى حماما بالمدينة فإذا
رجل في بيت المسلخ فقال لنا ممن القوم؟ فقلنا من أهل العراق. فقال واي العراق؟
فقلنا كوفيون. فقال مرحبا بكم يا أهل الكوفة أنتم الشعار دون الدثار ثم قال ما
يمنعكم من الأزر؟ فإن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال : عورة المؤمن على المؤمن حرام. قال فبعث أبي إلى
كرباسة فشقها بأربعة ثم أخذ كل واحد منا واحدا ثم دخلنا فيها ، فلما كنا في البيت
الحار صمد لجدي فقال يا كهل ما يمنعك من الخضاب؟ فقال له جدي أدركت من هو خير مني
ومنك لا يختضب. قال فغضب لذلك حتى عرفنا غضبه في الحمام فقال ومن ذلك الذي هو خير
مني؟ فقال أدركت علي بن ابي طالب (عليهالسلام) وهو لا يختضب. قال
__________________
فنكس رأسه وتصاب عرقا وقال صدقت وبررت ثم قال يا كهل ان تختضب فان رسول الله
(صلىاللهعليهوآله) قد خضب وهو خير من علي وان تترك فلك بعلي أسوة. قال
فلما خرجنا من الحمام سألنا عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين ومعه ابنه محمد بن علي
(عليهماالسلام)».
وروى الشيخ في
التهذيب عن حماد بن عيسى عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) قال : «قيل له ان سعيد بن عبد الملك يدخل مع جواريه
الحمام قال وما بأس إذا كان عليه وعليهن الأزر لا يكونون عراة كالحمير ينظر بعضهم
الى سوأة بعض».
وفي الفقيه عن
سعدان بن مسلم قال : «كنت في الحمام الأوسط فدخل علي أبو الحسن (عليهالسلام) وعليه النورة وعليه إزار فوق النورة فقال السلام عليكم
فرددت عليهالسلام وبادرت فدخلت الى البيت الذي فيه الحوض فاغتسلت وخرجت».
وعن عبيد الله
المرافقي قال : «دخلت حماما بالمدينة وإذا شيخ كبير وهو قيم
الحمام فقلت يا شيخ لمن هذا الحمام؟ فقال لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهمالسلام) فقلت أكان يدخله؟ فقال نعم فقلت كيف كان يصنع؟ قال كان
يدخل فيبدأ فيطلي عانته وما يليها ثم يلف إزاره على طرف إحليله ويدعوني فاطلي سائر
بدنه فقلت له يوما من الأيام : الذي تكره أن أراه فقد رأيته فقال كلا ان النورة
سترة».
بيان : ما في
هذه الأخبار الشريفة يشتمل على فوائد (الأولى) ـ الدلالة على استحباب الحمام لدخول
الأئمة (عليهمالسلام) فيه ومدحه كما ورد عن علي (عليهالسلام) واما أحاديث الذم فقد حملها الأصحاب على دخوله عاريا ،
قال الشهيد في الذكرى : ويستحب الاستحمام لدخول النبي (صلىاللهعليهوآله) حمام الجحفة ودخول
__________________
علي (عليهالسلام) وكان الباقر (عليهالسلام) يدخل حمامه ، وقال علي (عليهالسلام) «نعم البيت الحمام تذكر فيه النار ويذهب بالدرن». وما روى عنه وعن الصادق (عليهماالسلام) «بئس البيت الحمام يهتك الستر ويذهب الحياء ويبدي العورة». فالمراد به مع
عدم المئزر. وقال في المعالم : وحمل الشهيد في الذكرى ما ورد من الذم على حال
الدخول بغير مئزر. وفيه بعد والأقرب ترجيح المدح بما رواه في الكافي عن الصادق (عليهالسلام) ثم ذكر مرفوعة محمد بن أسلم الجبلي المتقدمة. وظاهره
حمل ما ورد عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) من الذم على نقل العامة عنه ذلك ، واما ما نقل عن
الصادق (عليهالسلام) فعلى التقية موافقة لقول امامهم. وهو جيد وان كان
الأول أيضا لا يخلو من قرب.
(الثانية) ـ ما
ورد من منع النساء من دخول الحمام مشكل ولا اعلم بمضمونه قائلا بل ظاهر كلام من
وقفت على كلامه خلافه من القول بالجواز وارتكاب التأويل في هذه الأخبار ، وقال في
الوافي بعد نقل خبر سماعة ومرسل الفقيه المتقدمين ما صورته : حمل على ما إذا كان
هناك ريبة فإنهن ضعفاء العقول تزيغ قلوبهن بأدنى داع الى ما لا ينبغي لهن ويحتمل
ان يكون ذلك لانكشاف سوءاتهن وكان ذلك مختصا بذلك الزمان أو ببعض البلدان. انتهى.
وظاهر الشهيد في الذكرى حمل الأخبار المذكورة على حال اجتماعهن واستثنى من الكراهة
مع الاجتماع حال الضرورة. واستحسنه في المعالم ، وذكر في الذكرى ايضا ان الاتزار
عند الاجتماع يخفف الكراهة وان ذلك مروي عن علي (عليهالسلام). ولم نقف على هذه الرواية وبذلك اعترف في المعالم أيضا
إلا انه قال ولكن الاعتبار يشهد له.
(الثالثة) ـ يجب
على الداخل للحمام ستر العورة عن الناظر المحترم لما تقدم في باب الوضوء وعليه
يحمل قوله (عليهالسلام) في صحيحة رفاعة المتقدمة :
«مَنْ كانَ
__________________
يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا يدخل الحمام إلا بمئزر». واما مع عدم الناظر
المحترم فلا بأس وان كره ذلك لما رواه الحلبي في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد؟ قال لا بأس».
واما ما يدل على الكراهة فرواية أبي بصير عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير
المؤمنين (عليهمالسلام) قال : «إذا تعرى أحدكم نظر اليه الشيطان فطمع فيه
فاستتروا». واما ما ورد في جملة من الأخبار من الأمر بغض البصر عند دخول الحمام
فهو مبني على ذلك الوقت من حيث عدم الاتزار وانهم عراة فأمروا بغض البصر عن النظر
الى عورات الناس
(الرابعة) ـ ما
تضمنه مرسل الصدوق ومرسل ابن ابي عمير من جواز النظر إلى عورة غير المسلم خلاف ما
هو المفهوم من كلام أكثر الأصحاب ، قال شيخنا الشهيد في الذكرى : نعم يجب ستر
الفرج وغض البصر ولو عن عورة الكافر وفيه خبر عن الصادق (عليهالسلام) بالجواز. وقال المولى محمد تقي المجلسي في شرحه على
الفقيه بعد نقل الرواية : يدل على جواز النظر إلى عورة الكافر ولكن ظاهر الآيات
والاخبار عموم الحرمة والخبر ليس بصحيح يمكن تخصيصهما به ، وذهب جماعة إلى الجواز
كما هو ظاهر الخبر والأحوط عدم النظر ، هذا إذا لم يكن النظر بشهوة وتلذذ وإلا
فإنه حرام بلا خلاف. وظاهر صاحب المعالم الميل الى ما دلت عليه هذه الاخبار حيث
قال : وظاهر الشهيد في الذكرى انه لا خلاف في وجوب غض البصر عن عورة الكافر حيث
قال ، ثم نقل العبارة المتقدمة وقال بعدها ولم يزد على هذا ، وأنت خبير بأن إيراد
الخبر في الفقيه يدل على ان مصنفه يعمل به كما نبهنا عليه مرارا فيكون القائل
بجواز النظر إلى عورة الكافر موجودا ، ورواية الكافي وان لم تكن صحيحة السند
فالأصل يعضدها والخبر
__________________
الذي سبق الاحتجاج به لتحريم النظر إلى العورة في بحث الخلوة مخصوص بعورة
المسلم. انتهى. وهو جيد.
(الخامسة) ـ قال
في الفقيه بعد إيراد خبر حنان بن سدير المتقدم ما لفظه : وفي هذا الخبر إطلاق
للإمام (عليهالسلام) ان يدخل ولده معه الحمام دون من ليس بإمام وذلك لان
الإمام معصوم في صغره وكبره لا يقع منه النظر إلى عورة في حمام ولا غيره. وقال
ايضا قبل ذلك : ومن الآداب ان لا يدخل الرجل ولده معه الحمام فينظر الى عورته.
وتبعه الشهيد في الذكرى في هذه المقالة فقال : ويكره دخول الولد مع أبيه الحمام
ودخول الباقر مع أبيه (عليهماالسلام) لعصمتهما.
أقول : لا يخفى
ان ما ذكراه من عموم كراهة دخول الرجل مع ابنه الحمام غير ثابت حتى يستثني منه
المعصوم ، والموجود من اخبار هذه المسألة مرسلة محمد بن جعفر المتقدمة
ومرفوعة سهل بن
زياد رفعه قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) لا يدخل الرجل مع ابنه الحمام فينظر الى عورته». وظاهرهما
النهي عن دخولهما عاريين والظاهر ان تخصيص النهي بهما مع ورود النهي عن الدخول
عاريا مطلقا ان ذلك أشد كراهة بالنسبة إليهما ، واما خبر حنان بن سدير المتضمن
لدخول الباقر مع أبيه (عليهماالسلام) فهو انما كان بالإزار وكل منهما متزر فلا تعارض بين
الاخبار حتى يحتاج الى الاستثناء كما ذكروه ، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه ،
ويؤيده انه لو كان مجرد دخول الولد مع أبيه مكروها لما أقر الإمام (عليهالسلام) الجماعة المذكورين في الخبر على ذلك من الجد والأب
والابن فكما أمرهم بستر العورة كان يخبرهم بكراهة دخولهم جميعا ، وبالجملة فالظاهر
ان ما ذكراه بعيد غاية البعد عن أخبار المسألة ولا ضرورة تلجئ الى تكلفه.
(السادسة) ـ لو
ترك الستر حال غسله واغتسل عاريا مع وجود الناظر المحترم
__________________
فقد صرح الأصحاب بصحة غسله وان فعل محرما ، قال الشهيد في الذكرى : ولو ترك
الستر متعمدا قادرا فالأشبه صحة غسله للامتثال وخروج النهي عنه عن حقيقة الغسل.
انتهى. وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين : يمكن ان يبين بطلان الغسل بأنه حال فعل
الغسل مأمور بالاستتار فلا يكون مأمورا بضده وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وإذا لم
يكن مأمورا لم يكن مجزئا فلا يتحقق به الامتثال ولا الخروج عن العهدة إذ الموجب
لذلك الأمر كما تقرر في محله أقول : تقريب ما ذكره جعل هذه المسألة من قبيل فعل
الصلاة في المكان المغصوب واللباس المغصوب وان غير العبارة في الاستدلال ، وقد مضى
نبذة من القول في ذلك في باب التيمم وسيجيء ان شاء الله تتمة الكلام في ذلك في
كتاب الصلاة.
قال في الفقيه
بعد ذكر خبر سعدان بن مسلم المتقدم : وفي هذا الخبر إطلاق في التسليم في الحمام لمن عليه
مئزر والنهي الوارد عن التسليم فيه فهو لمن لا مئزر عليه. قال في المعالم بعد نقل
ذلك عنه : ولم نقف على رواية النهي التي أشار إليها. أقول : يمكن ان يكون مراده
بالخبر المذكور هو ما رواه في الكافي عن محمد بن الحسين رفعه قال «كان أبو عبد الله (عليهالسلام) يقول ثلاثة لا يسلمون : الماشي مع الجنازة والماشي إلى
الجمعة وفي بيت حمام». أقول : وقد ورد النهي عن التسليم على أقوام منهم من في
الحمام رواه في الخصال عن الباقر (عليهالسلام) قال : «لا تسلموا على اليهود ولا على النصارى ولا على
المجوس ولا على عبدة الأوثان ولا على موائد شراب الخمر ولا على صاحب الشطرنج
والنرد ولا على المخنث ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات ولا على المصلي ، وذلك
ان المصلي لا يستطيع ان يرد السلام لان التسليم من المسلم تطوع والرد عليه فريضة
ولا على آكل الربا ولا على رجل جالس على غائط ولا على الذي في الحمام ولا على
__________________
الفاسق المعلن بفسقه».
(فصل) ـ ومما
يستحب في حال الحمام ما رواه في الفقيه عن يحيى بن سعيد الأهوازي عن البزنطي عن
محمد بن حمران قال : قال الصادق جعفر بن محمد (عليهالسلام) «إذا دخلت الحمام فقل في الوقت الذي تنزع فيه ثيابك :
اللهم انزع عني ربقة النفاق وثبتني على الايمان. وإذا دخلت البيت الأول فقل :
اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وأستعيذ بك من أذاه وإذا دخلت البيت الثاني فقل :
اللهم أذهب عني الرجس النجس وطهر جسدي وقلبي. وخذ من الماء الحار وضعه على هامتك
وصب منه على رجليك وان أمكن ان تبلع منه جرعة فافعل فإنه ينقي المثانة ، والبث في
البيت الثاني ساعة وإذا دخلت البيت الثالث فقل : نعوذ بالله من النار ونسأله
الجنة. ترددها الى وقت خروجك من البيت الحار ، وإياك وشرب الماء البارد والفقاع في
الحمام فإنه يفسد المعدة ، ولا تصبن عليك الماء البارد فإنه يضعف البدن وصب الماء
البارد على قدميك إذا خرجت فإنه يسل الداء من جسدك ، فإذا لبست ثيابك فقل : اللهم
ألبسني التقوى وجنبني الردى. فإذا فعلت ذلك أمنت من كل داء». بيان : الظاهر ان
المراد من الفقاع ما هو أعم من المحال والمحرم والنهي عنه انما هو لحكمة صلاح
البدن وان حرم أو حل في حد ذاته.
ويكره التدلك
فيه بالخزف لما رواه في الكافي عن محمد بن علي بن جعفر عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «من أخذ من الحمام خزفة فحك بها جسده فاصابه
البرص فلا يلومن إلا نفسه ، ومن اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فاصابه الجذام
فلا يلومن إلا نفسه. قال محمد بن علي فقلت لأبي الحسن (عليهالسلام) ان أهل المدينة يقولون ان فيه شفاء من العين؟ فقال
كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما وكل خلق من خلق
الله تعالى ثم يكون فيه شفاء من العين انما شفاء
__________________
العين قراءة الحمد والمعوذتين وآية الكرسي والبخور بالقسط والمر واللبان». وفي
الخبر زيادة على ما ذكرنا النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام وقد تقدم الكلام فيه.
وروى في الكافي
مسندا مرفوعا وفي الفقيه مرسلا قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) لا تتك في الحمام فإنه يذيب شحم الكليتين ولا تسرح في
الحمام فإنه يرقق الشعر ولا تغسل رأسك بالطين فإنه يذهب بالغيرة ولا تدلك بالخزف
فإنه يورث البرص ولا تمسح وجهك بالإزار فإنه يذهب بماء الوجه». بيان : في الفقيه
بدل قوله : «فإنه يذهب بالغيرة» «فإنه يسمج الوجه» قال وفي حديث آخر : «يذهب
بالغيرة» وقال بعد تمام الحديث : وروى ان ذلك طين مصر وخزف الشام. أقول : روى في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أسباط عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا تغسلوا رؤوسكم بطين مصر فإنه يذهب بالغيرة ويورث
الدياثة». أقول : في قصة عزيز مصر حيث علم من زوجته مع يوسف على نبينا وآله وعليهالسلام ما علم وغاية ما صدر عنه في المقام ان قال : «يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» قيل وفي كثرة وقوع البرص بالشام ما ينبئ عما دل عليه
الخبر من ان التدلك بالخزف المفسر هنا بخزف الشام يورث البرص.
وروى في الكافي
والتهذيب عن سليمان بن جعفر الجعفري قال : «مرضت حتى ذهب لحمي ودخلت على الرضا (عليهالسلام) فقال أيسرك ان يعود إليك لحمك؟ فقلت بلى. فقال الزم
الحمام غبا فإنه يعود إليك لحمك وإياك ان تدمنه فإن إدمانه يورث السل».
__________________
بيان : قال في
الوافي : الغب بكسر الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة ان يدخله يوما ويتركه يوما
ومنه حمى الغب ، واما تفسير بعض اللغويين الغب في «زر غبا تزدد حبا» بالزيارة في كل أسبوع فإن صح فهو مخصوص بالغب في
الزيارة لا غير. انتهى
أقول : ما ذكره
هنا مأخوذ من كلام شيخنا البهائي (قدسسره) في مشرق الشمسين ، واما كلام أهل اللغة الذي أشار إليه
فهو ما ذكره الجوهري قال : والغب في الزيارة قال الحسن في كل أسبوع يقال «زر غبا
تزدد حبا». وقال في القاموس «الغب في الزيارة ان تكون في كل أسبوع» وظاهر كلامهما
انما هو تفسير الغب في الزيارة لا الغب حيثما كان.
ومما يؤيد هذا
الخبر ايضا ما رواه في الكافي عن الجعفري المتقدم قال : «من أراد ان يحمل لحما فليدخل الحمام يوما ويغب
يوما ومن أراد ان يضمر وكان كثير اللحم فليدخل الحمام كل يوم». وما رواه في الكافي
عن الجعفري عن ابي الحسن (عليهالسلام)
ورواه في
الفقيه عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) قال : «الحمام يوم ويوم لا يكثر اللحم وإدمانه في كل
يوم يذيب شحم الكليتين».
وروى في الكافي
عن رفاعة عن من أخبره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «انه كان إذا أراد دخول الحمام تناول شيئا فأكله قال قلت له ان الناس عندنا
يقولون انه على الريق أجود ما يكون؟ قال لا بل يؤكل شيء قبله يطفئ المرار ويسكن
حرارة الجوف». وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهالسلام) لا تدخلوا الحمام على الريق ولا تدخلوه حتى تطعموا
شيئا».
__________________
وروى في الكافي
في الصحيح عن علي بن يقطين قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) اقرأ القرآن في الحمام وانكح؟ قال لا بأس». وعن محمد
بن مسلم في الحسن قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) أكان أمير المؤمنين (عليهالسلام) ينهى عن قراءة القرآن في الحمام؟ فقال لا انما نهى ان
يقرأ الرجل وهو عريان فاما إذا كان عليه إزار فلا بأس». وعن الحلبي في الحسن عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس للرجل ان يقرأ القرآن في الحمام إذا كان
يريد به وجه الله ولا يريد ينظر كيف صوته». وروى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن
محمد بن إسماعيل بن بزيع عن ابي الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يقرأ في الحمام وينكح فيه؟ قال
لا بأس به». وفي الصحيح عن علي بن يقطين عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يقرأ في الحمام وينكح فيه قال لا
بأس به». وعن ابي بصير قال : «سألته عن القراءة في الحمام؟ قال إذا كان عليك
إزار فاقرأ القرآن ان شئت كله».
وروى في الكافي
عن ابن مسكان قال : «كنا جماعة من أصحابنا دخلنا الحمام فلما خرجنا
لقينا أبا عبد الله (عليهالسلام) فقال لنا من أين أقبلتم؟ فقلنا له من الحمام فقال أنقى
الله غسلكم فقلنا جعلنا الله فداك. وانا جئنا معه حتى دخل الحمام فجلسنا له حتى
خرج فقلنا له أنقى الله غسلك فقال طهركم الله». وروى في الكافي مسندا عن ابي مريم
الأنصاري رفعه قال : ان الحسن وفي الفقيه «ان الحسن بن علي (عليهالسلام) خرج من الحمام فلقيه انسان فقال له طاب استحمامك فقال
يا لكع وما تصنع بالاست ههنا؟ فقال طاب حميمك. فقال اما تعلم ان الحميم العرق؟
فقال طاب حمامك. فقال فإذا طاب حمامي فأي شيء لي؟ ولكن قل طهر ما طاب منك وطاب ما
طهر منك». أقول : الظاهر ان القائل المذكور من المخالفين. وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال
__________________
الصادق (عليهالسلام) إذا قال لك أخوك وقد خرجت من الحمام : طاب حمامك فقل
أنعم الله بالك».
(فصل) في
استحباب النورة روى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن سليم الفراء قال : قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) وفي الفقيه مرسلا قال : «قال أمير المؤمنين : النورة
طهور». وروى في الكافي عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال : «دخلت مع ابي عبد الله (عليهالسلام) الحمام فقال يا عبد الرحمن اطل فقلت انما اطليت منذ
أيام فقال اطل فإنها طهور». وروى في الكافي عن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين قال : «دخل أبو عبد الله (عليهالسلام) الحمام وانا أريد ان اخرج منه فقال يا محمد إلا تطلي؟
فقلت عهدي به منذ أيام فقال اما علمت انها طهور؟». وعن خلف بن حماد عن من رواه قال : «بعث أبو عبد الله (عليهالسلام) ابن أخيه في حاجة فجاء وأبو عبد الله قد اطلى بالنورة
فقال له أبو عبد الله اطل فقال إنما عهدي بالنورة منذ ثلاث فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان النورة طهور». وعن هارون بن حكيم الأرقط خال ابي
عبد الله (عليهالسلام) قال : «أتيته في حاجة فأصبته في الحمام يطلي فذكرت له
حاجتي فقال ألا تطلي؟ فقلت له انما عهدي به أول من أمس فقال اطل فإن النورة طهور».
ونحوه في حديث ابي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) حيث «دخل عليه وهو يتنور فقال له يا أبا بصير تنور قال
انما تنورت أول من أمس واليوم الثالث فقال اما علمت انها طهور فتنور». وروى في
الكافي والفقيه عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «أحب للمؤمن أن يطلي في كل خمسة عشر يوما». وروى
فيهما عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «السنة في النورة في كل خمسة عشر يوما فإن أتت
عليك عشرون
__________________
يوما وليس عندك شيء فاستقرض على الله». وروى فيهما عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا يترك عانته فوق أربعين يوما ولا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر ان تدع ذلك منها فوق عشرين يوما». وروى في الكافي عن علي بن
الحكم عن علي بن أبي حمزة قال : «دخلت مع ابي بصير الحمام فنظرت الى ابي عبد الله
(عليهالسلام) قد اطلى إبطيه بالنورة قال فخبرت أبا بصير فقال أرشدني
إليه لأسأله عنه فقلت قد رأيته أنا فقال أنت رأيته وانا لم أره أرشدني إليه قال
فأرشدته إليه فقال له جعلت فداك أخبرني قائدي أنك اطليت وطليت إبطيك بالنورة فقال
نعم يا أبا محمد ان نتف الإبطين يضعف البصر اطل يا أبا محمد فإنه طهور فقال اطليت
منذ أيام فقال اطل فإنه طهور». وروى في الكافي عن ابن ابي يعفور قال : «كنا بالمدينة فلاحاني زرارة في نتف الإبط وحلقه
فقلت حلقه أفضل وقال زرارة نتفه أفضل فاستأذنا على ابي عبد الله (عليهالسلام) في الحمام فاذن لنا وهو في الحمام يطلي وقد اطلى إبطيه
فقلت لزرارة يكفيك فقال لا لعله فعل هذا لما لا يجوز لي ان أفعله فقال فيما أنتما؟
فقلت ان زرارة لاحاني في نتف الإبط وحلقه فقلت حلقه أفضل وقال زرارة نتفه أفضل
فقال أصبت السنة وأخطأها زرارة ان حلقه أفضل من نتفه وطليه أفضل من حلقه. ثم قال
لنا اطليا فقلنا فعلنا منذ ثلاث فقال (عليهالسلام) أعيدا فإن الإطلاء طهور».
بيان : المفهوم
من هذه الاخبار استحباب النورة وانه لا حد لها في جانب القلة من الأيام لما علل به
في هذه الاخبار من انها طهور واما في جانب الكثرة فخمسه عشر يوما فإنها غاية الترك
لها وقوله (عليهالسلام) فيما تقدم «السنة في النورة في كل خمسة عشر يوما» يعني
نهايتها هذه المدة لا انها ليست بسنة قبلها وكذا قوله (عليهالسلام) «أحب للمؤمن أن يطلي في كل خمسة عشر يوما» اي لا يترك
زيادة على ذلك ، ولهذا
__________________
امره بالاستقراض على الله سبحانه لو أتت عليه عشرون يوما وليس عنده شيء ،
وبالغ في الإنكار على الرجل إذا اتى عليه أربعون يوما والمرأة إذا أتت عليها عشرون
يوما ، وبذلك يظهر ما في كلام بعضهم من توظيف الاستحباب بالخمسة عشر يوما بمعنى
انها لا تكون مستحبة قبل ذلك كما يعطيه ظاهر كلامه فإنه غفلة ظاهرة عن ملاحظة هذه
الاخبار
وروى في الكافي
والفقيه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) «لا يطولن أحدكم شعر إبطيه فإن الشيطان يتخذه مخبأ
يستتر به».
وروى في الكافي
عن حذيفة بن منصور قال «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يطلي العانة وما تحت الأليين في كل جمعة». أقول :
يحتمل ان يراد بالجمعة اليوم المخصوص وان يراد به الأسبوع فإنه يطلق عليه في
الاخبار ايضا.
وروى في الكافي
عن السياري رفعه قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) من أراد الإطلاء بالنورة فأخذ من النورة بإصبعه فشمه
وجعل على طرف انفه وقال صلى الله على سليمان بن داود كما أمرنا بالنورة لم تحرقه
النورة». وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) من أراد ان يتنور فليأخذ من النورة ويجعله على طرف
انفه ويقول اللهم ارحم سليمان بن داود كما أمرنا بالنورة فإنه لا تحرقه النورة ان
شاء الله تعالى».
وعن سدير «انه سمع علي بن الحسين (عليهماالسلام) يقول من قال إذا اطلى بالنورة اللهم طيب ما طهر مني
وطهر ما طاب مني وأبدلني شعرا طاهرا لا يعصيك
__________________
اللهم اني تطهرت ابتغاء سنة المرسلين وابتغاء رضوانك ومغفرتك فحرم شعري
وبشري على النار وطهر خلقي وطيب خلقي وزك عملي واجعلني ممن يلقاك على الحنيفية
السمحة ملة إبراهيم خليلك ودين محمد (صلىاللهعليهوآله) حبيبك ورسولك عاملا بشرائعك تابعا لسنة نبيك آخذا به
متأدبا بحسن تأديبك وتأديب رسولك (صلىاللهعليهوآله) وتأديب أوليائك الذين غذوتهم بأدبك ووزعت الحكمة في
صدورهم وجعلتهم معادن لعلمك صلواتك عليهم من قال ذلك طهره الله عزوجل من الأدناس في الدنيا ومن الذنوب وأبدله شعرا لا يعصى
وخلق الله بكل شعرة من جسده ملكا يسبح له الى ان تقوم الساعة ، وان تسبيحة من
تسبيحهم تعدل ألف تسبيحة من تسبيح أهل الأرض».
وروى في الكافي
عن البرقي رفعه الى ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قيل له يزعم الناس ان النورة يوم الجمعة مكروهة؟
فقال ليس حيث ذهبت اي طهور اطهر من النورة يوم الجمعة». وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) ينبغي للرجل ان يتوقى النورة يوم الأربعاء فإنه يوم
نحس مستمر ويجوز النورة في سائر الأيام». بيان : يفهم من هذا الخبر ان يوم
الأربعاء حيث كان من الشهر نحس لا خصوصية له بالأخير من الشهر أو الأول منه كما هو
المشهور ، وقال في الفقيه : وروى انها في يوم الجمعة تورث البرص. وروى فيه عن
الريان بن الصلت عن من أخبره عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «من تنور يوم الجمعة فأصابه البرص فلا يلومن إلا
نفسه».
بيان : قال في
الوافي بعد ذكر مرفوعة البرقي أولا ثم الروايتين الأخيرتين ثانيا : يمكن الجمع بين
الخبرين بان يحمل هذا الخبر على انه من تنور يوم الجمعة معتقدا انه يورث البرص كما
يزعمه الناس بزعمهم الفاسد فاصابه البرص فلا يلومن إلا نفسه وذلك لان التطير مؤثر
في نفس المتطير. أقول : بل الظاهر حمل هذا الخبر على التقية لموافقته لما
__________________
نقله في الخبر الأول عن الناس الذين هم العامة كما لا يخفى.
(فصل) ـ روى
المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) بأسانيدهم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «غسل الرأس بالخطمي في كل جمعة أمان من البرص
والجنون». وروى الشيخان في الكافي والفقيه بسنديهما عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «غسل الرأس بالخطمي يذهب الدرن وينفي الأقذار». أقول
: وفي بعض النسخ «ينقى» بالقاف وفي الفقيه «الأقذاء» بالهمزة في آخره جمع قذى
مقصورا وهو يقال لما يقع في العين وان أطلق على غيره مجازا. وروى في الكافي
والتهذيب عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من أخذ من شاربه وقلم أظفاره وغسل رأسه بالخطمي
في يوم الجمعة كان كمن أعتق نسمة». وعن سفيان بن السمط عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «تقليم الأظفار والأخذ من الشارب وغسل الرأس
بالخطمي ينفي الفقر ويزيد في الرزق». وقال في الفقيه قال الصادق (عليهالسلام) «غسل الرأس بالخطمي ينفي الفقر ويزيد في الرزق».
وروى في الكافي
عن منصور بزرج قال : «سمعت أبا الحسن (عليهالسلام) يقول غسل الرأس بالسدر يجلب الرزق جلبا». ورواه في
الفقيه مرسلا
وروى في الكافي
عن محمد بن الحسين العلوي عن أبيه عن جده عن علي (عليهالسلام) قال : «لما أمر الله عزوجل رسوله (صلىاللهعليهوآله) بإظهار الإسلام وظهر الوحي رأى قلة من المسلمين وكثرة
من المشركين فاهتم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) هما شديدا فبعث الله إليه جبرئيل بسدر من سدرة المنتهى
فغسل
__________________
به رأسه فجلا به همه». ونحوه روى في الفقيه عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) مرسلا
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) اغسلوا رؤوسكم بورق السدر فإنه قدسه كل ملك مقرب وكل
نبي مرسل ، ومن غسل رأسه بورق السدر صرف الله عنه وسوسة الشيطان سبعين يوما ومن
صرف الله عنه وسوسة الشيطان سبعين يوما لم يعص الله ومن لم يعص الله دخل الجنة».
(فصل) روى ثقة
الإسلام في الكافي عن إسحاق بن عبد العزيز قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) عن التدلك بالدقيق بعد النورة؟ فقال لا بأس قلت يزعمون
أنه إسراف؟ فقال ليس فيما أصلح البدن إسراف واني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت
فأتدلك به انما الإسراف فيما أتلف المال وأضر بالبدن». بيان : قال في الوافي النقي
بالكسر المخ من العظام في غير الرأس ويقال قرصة النقي للخبز الأبيض الذي نخل حنطته
مرة بعد اخرى ولعل المراد به هنا الحنطة المنخولة ناعما ، وكانوا يتدلكون بالنخالة
بعد النورة ليقطع ريحها.
وروى في
التهذيب عن إسحاق بن عبد العزيز عن رجل ذكره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له انا نكون في طريق مكة نريد الإحرام ولا
يكون معنا نخالة نتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق فيدخلني من ذلك ما الله به
عليهم؟ قال مخافة الإسراف؟ فقلت نعم. فقال ليس فيما يصلح البدن إسراف. الحديث».
وروى في الكافي
عن هشام بن الحكم عن ابي الحسن (عليهالسلام) «في الرجل يطلي ويتدلك بالزيت والدقيق؟ قال لا بأس به».
__________________
وعن ابان بن
تغلب قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) انا لنسافر ولا يكون معنا نخالة فنتدلك بالدقيق؟ فقال
لا بأس إنما الفساد فيما أضر بالبدن وأتلف المال فاما ما أصلح البدن فإنه ليس
بفساد اني ربما أمرت غلامي فلت لي النقي بالزيت ثم أتدلك به».
وعن عبد الرحمن
بن الحجاج في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يطلي بالنورة فيجعل الدقيق بالزيت يلته به
يتمسح به بعد النورة ليقطع ريحها؟ قال لا بأس». قال في الكافي وفي حديث آخر لعبد الرحمن قال : «رأيت أبا الحسن (عليهالسلام) وقد تدلك بدقيق ملتوت بالزيت فقلت له ان الناس يكرهون
ذلك؟ قال لا بأس به».
وروى في
التهذيب عن عبيد بن زرارة في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الدقيق يتوضأ به؟ قال لا بأس بأن يتوضأ به وينتفع
به». يعني ينظف به البدن من التوضؤ بمعنى التنظيف والتحسين.
وروى في الكافي
عن الحسين بن موسى قال : «كان ابي موسى بن جعفر (عليهالسلام) إذا أراد الدخول الى الحمام أمران يوقد له عليه ثلاثا
وكان لا يمكنه دخوله حتى يدخله السودان فيلقون له اللبود فإذا دخل فمرة قاعد ومرة
قائم فخرج يوما من الحمام فاستقبله رجل من آل الزبير يقال له لبيد وبيده اثر حناء
فقال له ما هذا الأثر بيدك؟ فقال اثر حناء. فقال ويلك يا لبيد حدثني ابي وكان أعلم
أهل زمانه عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من دخل الحمام فاطلى ثم اتبعه بالحناء من قرنه الى
قدمه كان أمانا له من الجنون والجذام والبرص والأكلة إلى مثله من النورة».
__________________
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من اطلى واختضب بالحناء آمنه الله عزوجل من ثلاث خصال : الجذام والبرص والأكلة إلى طلية مثلها».
وروى في الكافي
عن الحسين بن موسى (عليهالسلام) قال : «كان أبو الحسن (عليهالسلام) مع رجل عند قبر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فنظر اليه وقد أخذ الحناء من يديه فقال بعض أهل
المدينة إلا ترون الى هذا كيف قد أخذ الحناء من يديه فالتفت اليه فقال فيه ما
تخبره وما لا تخبره ثم التفت الي فقال انه من أخذ الحناء بعد فراغه من النورة من
قرنه الى قدمه أمن من الأدواء الثلاثة الجنون والجذام والبرص».
وعن الحكم بن
عيينة قال : «رأيت أبا جعفر (عليهالسلام) وقد أخذ الحناء وجعله على أظافيره فقال يا حكم ما تقول
في هذا؟ فقلت ما عسيت أن أقول فيه وأنت تفعله وان عندنا يفعله الشبان فقال يا حكم
ان الأظافير إذا أصابتها النورة غيرتها حتى تشبه أظافير الموتى فغيرها بالحناء».
وعن عبدوس بن
إبراهيم قال : «رأيت أبا جعفر (عليهالسلام) وقد خرج من الحمام وهو من قرنه الى قدمه مثل الوردة من
اثر الحناء». بيان : المراد بابي جعفر هنا هو الجواد (عليهالسلام).
وروى في
التهذيب عن عبدوس بن إبراهيم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الحناء يذهب بالسهك ويزيد في ماء الوجه ويطيب
النكهة ويحسن الولد ، وقال من اطلى في الحمام فتدلك بالحناء من قرنه الى قدمه نفى
عنه الفقر ، وقال رأيت أبا جعفر الثاني (عليهالسلام) قد خرج من الحمام وهو من قرنه الى قدمه مثل الورد من
اثر الحناء». بيان : قيل السهك الرائحة الشديدة الكريهة ممن عرق.
__________________
أقول : وربما
سبق الى الوهم من هذه الاخبار اختصاص استحباب الحناء أو جوازه بكونه بعد النورة
خاصة ولذلك أنكر بعض المتعسفين استحبابه أو جوازه في غير ذلك ، وربما استندوا في
ذلك الى ما رواه الصدوق في كتاب معاني الاخبار عن أبيه عن سعد عن احمد بن ابي عبد
الله عن أبيه رفعه قال : «نظر أبو عبد الله (عليهالسلام) الى رجل وقد خرج من الحمام مخضوب اليدين فقال له أبو
عبد الله (عليهالسلام) أيسرك ان يكون الله خلق يديك هكذا؟ قال لا والله وانما
فعلت ذلك لأنه بلغني عنكم انه من دخل الحمام فلير عليه أثره يعني الحناء. فقال ليس
ذلك حيث ذهبت انما معنى ذلك إذا خرج أحدكم من الحمام وقد سلم فليصل ركعتين شكرا».
والظاهر كما هو
المفهوم من كلام جملة من الأصحاب انه لا اختصاص له بالنورة ومن أظهر الأدلة على
ذلك ما رواه الصدوق (قدسسره) في كتاب الخصال بسنده فيه عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اربع من سنن المرسلين : العطر والنساء والسواك والحناء».
فإنه دال بإطلاقه على انه في حد ذاته من السنن لا بخصوص موضع كالإفراد المعدودة
معه ، ويظهر ذلك ايضا من بعض الأحاديث الآتية في فضل الخضاب واستحبابه كما سنشير
اليه ان شاء الله ، ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به المحدث الكاشاني في الوافي في باب
الخضاب بعد نقل اخبار تغير الأظافير بالنورة ومسحها بالحناء وخبر إنكار المدني على
الامام (عليهالسلام) الحناء في يديه كما تقدم حيث قال : وفي هذه الاخبار
دالة على جواز ما هو المتعارف بين أصحابنا اليوم من خضاب اليدين والرجلين بلا
كراهة على انه لو لم تكن هذه الأخبار لكفى في ذلك «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» . إذ لم يرد في هذا
__________________
نهى ، ويمكن ان يستفاد ذلك من عموم اخبار هذا الباب وإطلاقها وان كانت
ظاهرة في اللحية والرأس بل لو استفيد ذلك من قوله (عليهالسلام) «لا بأس بالخضاب كله». وجعل أحد معانيه لم يكن بذلك البعيد. انتهى.
أقول : ومن
أظهر الأدلة على جواز ذلك من غير كراهية ولا ذم انه لا شك ان ذلك من الزينة وقد
قال سبحانه : «قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ» وسياق الآية وان كان انما هو الإنكار على من حرم ذلك
إلا ان سياقها أظهر ظاهر في ان الله قد حلل لعباده الزينة والطيبات من الرزق تفضلا
وكرما فالمانع منها تحريما أو كراهة راد عليه سبحانه فيما تفضل به.
واما الخبر
الذي نقلناه من معاني الأخبار فالأقرب عندي انه انما خرج مخرج التقية لما عرفت من
سياق جملة من الاخبار المتقدمة من إنكار الناس ذلك وان المعروف بين المخالفين بل
عامة الناس لشهرة الأمر بين المخالفين إنكار ذلك ، كما تضمنه حديث الحسين بن موسى
المتضمن لإنكار ذلك الرجل الذي هو من أهل المدينة على الامام (عليهالسلام) أخذ الحناء من يديه وكما تضمنه حديث الحسين بن موسى
وإنكار الزبيري على الكاظم (عليهالسلام) الحناء في يده ، وما تضمنه حديث الحكم بن عيينة لما
رأى الحناء على أظافير أبي جعفر (عليهالسلام) وقوله «ان عندنا انما يفعله الشبان». فان الجميع ظاهر
في كون هذه السنة كانت متروكة عند العامة ، وقال صاحب الوسائل بعد إيراد هذا
الخبر. أقول : هذا غير صريح في الإنكار ولعله استفهام منه ليظهر غلط الراوي في فهم
الحديث ، وكون معناه ما ذكر لا ينافي الاستحباب ، والإنكار السابق انما هو من
العامة مثل الحكم وأهل المدينة ، ثم ان الأخير يحتمل التقية ويمكن حمله على
الإفراط والمداومة للرجل بل ظاهره ذلك بقرينة قوله «خلق يديك» إذ لو كان اللون
خلقيا لدام. والله العالم. وربما احتمل بعض ايضا كون المتحنى فعل
__________________
بالحناء ما يشبه النساء من التخطيط والنقش بالحناء ، قال وقد ورد النهي عن
التشبه بالنساء وذمه فلعل الإنكار كان لذلك. أقول : والكل عندي بمحل من التكلف
الذي لا ضرورة إليه بعد ما ذكرناه وانطباق سياق الخبر على هذه الاحتمالات على غاية
من البعد. والله العالم.
(فصل) روى في
الكافي والفقيه عن الحسن بن الجهم قال : «دخلت على ابي الحسن موسى بن جعفر (عليهالسلام) وقد اختضب بالسواد فقلت أراك اختضبت بالسواد؟ فقال ان
في الخضاب اجرا والخضاب والتهيئة مما يزيد الله به في عفة النساء ولقد ترك النساء
العفة بترك أزواجهن لهن التهيئة. قال قلت له بلغنا ان الحناء يزيد في الشيب؟ فقال
اي شيء يزيد في الشيب الشيب يزيد في كل يوم». وعن مسكين ابي الحكم عن رجل عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) قال : «جاء رجل الى النبي (صلىاللهعليهوآله) فنظر الى الشيب في لحيته فقال النبي نور ثم قال من شاب
شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة قال فخضب الرجل بالحناء ثم جاء الى رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) فلما رأى الخضاب قال نور وإسلام. فخضب الرجل بالسواد
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله) نور وإسلام وايمان ورغبة إلى نسائكم ورهبة في قلوب
عدوكم».
وعن العباس بن
موسى الوراق عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «دخل قوم على ابي جعفر (عليهالسلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه فقال اني رجل أحب النساء
وانا أتصنع لهن». وعن ابي خالد الزيدي عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «دخل قوم
__________________
على الحسين بن علي (عليهالسلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده الى لحيته
ثم قال أمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في غزاة غزاها ان يختضبوا بالسواد ليقووا به على
المشركين».
وعن إبراهيم بن
عبد الحميد في الصحيح أو الحسن عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «في الخضاب ثلاث خصال : مهيبة في الحرب ومحبة الى
النساء ويزيد في الباه».
وعن محمد بن
عبد الله بن مهران عن أبيه رفعه قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة مائة درهم في سبيل
الله ان فيه أربع عشرة خصلة : يطرد الريح من الأذنين ويجلو الغشاء من البصر ويلين
الخياشيم ويطيب النكهة ويشد اللثة ويذهب بالغشيان ويقل وسوسة الشيطان وتفرح به
الملائكة ويستبشر به المؤمن ويغيظ به الكافر وهو زينة وطيب وبراءة في قبره ويستحيى
منه منكر ونكير».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لعلي (عليهالسلام) يا علي درهم في الخضاب أفضل من الف درهم في غيره في
سبيل الله وفيه أربع عشرة خصلة. الحديث». وقال بدل «الغشيان» «الضنى» وفي بعض
النسخ «الصفار» بيان : والغشيان خبث النفس وان لا تطيب والضنى الهزال والصفار
كغراب الماء الأصفر يجتمع في البطن.
وروى في الكافي
عن الحلبي في الصحيح قال : ««سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن خضاب الشعر؟ فقال قد خضب النبي (صلىاللهعليهوآله) والحسين بن علي وأبو جعفر (عليهالسلام) بالكتم». قبل الكتم محركة نبت يخلط بالوسمة يختضب به
__________________
وعن معاوية بن
عمار في الصحيح أو الحسن قال : «رأيت أبا جعفر (عليهالسلام) مخضوبا بالحناء». بيان : ظاهر هذا الخبر مطلق في خضاب
لحيته أو يديه ورجليه كما تقدمت الإشارة اليه.
وعن معاوية بن
عمار في الصحيح قال : «رأيت أبا جعفر (عليهالسلام) يختضب بالحناء خضابا قانيا». أقول : وهكذا كذلك.
وعن حفص الأعور
قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن خضاب اللحية والرأس أمن السنة؟ فقال نعم. قلت ان
أمير المؤمنين (عليهالسلام) لم يختضب فقال انما منعه قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان هذه ستخضب من هذه». وعن عبد الله بن سنان في الصحيح
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «خضب النبي (صلىاللهعليهوآله) ولم يمنع عليا (عليهالسلام) إلا قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله) تخضب هذه من هذه وقد خضب الحسين وأبو جعفر (عليهماالسلام)». بيان : الظاهر ان المراد من هذين الخبرين المذكورين
انه لما أخبره رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بان لحيته ستخضب من دم رأسه وخضابها بذلك حقيقة لا يكون
إلا مع بياضها ثم احمرارها بالدم وإلا فلو كانت سوداء ثم جرى عليها الدم لم يصدق
الخضاب إلا بنوع من التجوز ترك (عليهالسلام) الخضاب وجعلها بيضاء انتظارا لما وعده به ليقع كلامه (صلىاللهعليهوآله) على وجه الحقيقة لا المجاز ، لعن الله الفاعل لذلك
والراضي به لعنا يستعيذ منه أهل النار في النار.
ويعضد ما
ذكرناه ما رواه في كتاب العلل بسنده فيه عن الأصبغ بن نباتة قال : «قلت لأمير المؤمنين (عليهالسلام) ما يمنعك من الخضاب وقد اختضب
__________________
رسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال انتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي بعهد
معهود أخبرني به حبيبي رسول الله (صلىاللهعليهوآله)». والاخبار في هذا الباب كثيرة يقف عليها من يرجع
إليها.
وروى في من لا
يحضره الفقيه مرسلا عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «الشيب نور فلا تنتفوه». قال الصدوق (قدسسره) : النهي عن نتف الشيب نهي كراهة لا نهي تحريم لان
الصادق (عليهالسلام) يقول : «لا بأس بجز الشمط ونتفه وجزه أحب الي من نتفه».
واخبارهم (عليهمالسلام) لا تختلف في حالة واحدة لأن مخرجها من عند الله تعالى
ذكره وانما تختلف بحسب اختلاف الأحوال انتهى أقول : ما ذكره (قدسسره) من ان أخبارهم لا تختلف في حالة واحدة على إطلاقه
ممنوع نعم هو مسلم فيما عدا موضع التقية. وروى عن الصادق (عليهالسلام) مرسلا انه قال : «أول من شاب إبراهيم الخليل (عليهالسلام) وانه ثنى لحيته فرأى طاقة بيضاء فقال يا جبرئيل ما هذا؟
فقال هذا وقار فقال إبراهيم اللهم زدني وقارا». أقول : وقد روى الكليني حديث نتف
الشيب بإسناد حسن عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «لا بأس بجز الشمط ونتفه وجزه أحب الي من نتفه». أقول
: الشمط بياض شعر الرأس يخالطه سواده والمراد هنا الشيب.
(فصل) ـ روى
ثقة الإسلام في الصحيح عن إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال لي استأصل شعرك يقل درنه ودوابه ووسخه وتغلظ
رقبتك ويجلو بصرك» قال : وفي رواية أخرى «ويستريح بدنك». وعن معمر بن خلاد عن ابي
الحسن (عليهالسلام) قال : «ثلاث من عرفهن لهم يدعهن : جز الشعر
__________________
وتشمير الثياب ونكاح الإماء».
وعن ابي بصير
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «اني لأحلق كل جمعة فيما بين الطلية إلى الطلية».
بيان : قال في الوافي أظهر معنيي الحلق هنا حلق العانة كما يشعر به تمام الكلام
ويحتمل حلق الرأس أيضا لانصراف الإطلاق اليه ، وأظهر معنيي الجمعة اليوم المعهود
ويحتمل الأسبوع وعلى الأول فيه دلالة على عدم البأس بالنورة يوم الجمعة كما مر.
انتهى. أقول : والأظهر عندي هو حمل الحلق على حلق الرأس (اما أولا) فلانصراف
الإطلاق إليه كما اعترف به. و (اما ثانيا) فلما علم من الاخبار من انهم كانوا
يطلون العانة ولم يرد ما يدل على حلقهم لها. و (اما ثالثا) فلقوله : «فيما بين
الطلية إلى الطلية» فإنه مع طلي البدن يطلى معه العانة البتة. وبالجملة فحاصل
الخبر انه (عليهالسلام) يحلق رأسه في كل جمعة يعني يوم الجمعة وان ذلك بين
الطليتين فلعله كان (عليهالسلام) يطلي في الأسبوع مرتين.
وعن إسحاق بن
عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت جعلت فداك ربما كثر الشعر في قفاي فغمني غما
شديدا؟ قال فقال يا إسحاق أما علمت ان حلق القفا يذهب بالغم؟».
وعن علي بن
محمد رفعه قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان الناس يقولون حلق الرأس مثلة؟ فقال عمرة لنا ومثلة
لأعدائنا». وروى في التهذيب عن حفص عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «حلق الرأس في غير حج ولا عمرة مثلة». وروى في الفقيه
مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) حلق الرأس في غير حج ولا عمرة مثلة لأعدائكم وجمال لكم».
وروى فيه مرسلا قال : «وقال رسول الله (صلى الله عليه
__________________
وآله) لرجل احلق فإنه يزيد في جمالك». وروى في الكافي والفقيه عن البزنطي قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) ان أصحابنا يروون ان حلق الرأس في غير حج ولا عمرة
مثلة؟ فقال كان أبو الحسن (عليهالسلام) إذا قضى مناسكه عدل إلى قرية يقال لها ساية فحلق». قيل
لعل عدوله إلى ساية لأجل الحلق للتقية ، وفي الفقيه «سائق» وكأنه معرب. وروى في
الكافي عن عبد الرحمن بن عمر بن أسلم قال «حجمني الحجام فحلق من موضع النقرة فرآني أبو الحسن
(عليهالسلام) فقال اي شيء هذا اذهب فاحلق رأسك. قال فذهبت فحلقت
رأسي».
وعن عبد الله
بن سنان قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما تقول في إطالة الشعر؟ فقال كان أصحاب محمد (صلىاللهعليهوآله) مشعرين يعني الطم». بيان : قال في الوافي مشعرين من
أشعر أو شعر بمعنى نبت عليه الشعر يعني كانوا تاركين له ، وفي النهاية الأشعر الذي
لم يحلق رأسه ولم يرجله ورجل أشعر اي كثير الشعر وقيل طويله وطم الشعر جزه وأطم
شعره حان له ان يجز وكأن المراد انهم كانوا يطيلون وكان دأبهم الجز دون الحلق. وروى
في الكافي عن السكوني عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من اتخذ شعرا فليحسن ولايته أو ليجزه». ورواه في
الفقيه عنه (صلىاللهعليهوآله) مرسلا
وروى فيه قال : «قال (صلىاللهعليهوآله) الشعر الحسن من كسوة الله فأكرموه». وروى فيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) من اتخذ شعرا فلم يفرقه فرقه الله
__________________
بمنشار من نار يوم القيامة ، قال وكان شعر رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وفرة لم يبلغ الفرق».
بيان : ظاهر
هذه الاخبار الاختلاف في ان السنة في شعر الرأس هو الحلق أو التوفير وبذلك ايضا
اختلفت كلمة الأصحاب ، قال العلامة في المنتهى والتحرير اتخاذ الشعر يعني شعر
الرأس أفضل من إزالته ثم أورد حديثين على اثر ذلك وهو قول النبي (صلىاللهعليهوآله): «الشعر الحسن من كسوة الله فأكرموه». وقوله (صلىاللهعليهوآله) «من اتخذ شعرا فليحسن ولايته أو ليجزه». والظاهر ان
غرضه من إيرادهما الاحتجاج بهما لما ذكره حيث انه لم يورد دليلا في المقام ويؤيده
انه قال بعد ذكر الخبرين : وقد روى خلاف ذلك قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لرجل «احلق فإنه يزيد في جمالك». ثم ذكر انه يحتمل كون
الأمر بالحلق مختصا بذلك المخاطب لمعرفته بان الحلق يزيد في جماله. وقال أيضا في
المنتهى والتحرير ان من الفطرة فرق الرأس قال ابن الأثير في الحديث «عشر من الفطرة»
أي من السنة يعني سنن الأنبياء التي أمرنا أن نقتدي بهم فيها. وقال في صفة النبي (صلىاللهعليهوآله) ان انفرقت عقيصته فرق اي ان صار شعره فرقتين بنفسه في
مفرقه تركه وان لم ينفرق لم يفرقه. وهذا الحكم ايضا لم يذكر له حجة وانما نقل معه
الخبر الذي تقدم نقله عن الصدوق مرسلا عن الصادق (عليهالسلام) من ان «من اتخذ شعرا ولم يفرقه فرقه الله بمنشار من
نار». ونحوه ايضا روى في الكافي عن ابي العباس البقباق قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يكون له وفرة أيفرقها أو يدعها؟ قال يفرقها».
قال في المعالم بعد نقل ذلك عن العلامة في الكتابين المتقدمين : وكلام الصدوقين في
الرسالة ومن لا يحضره الفقيه موافق لما قاله العلامة فإنهما ذكرا ان السنن
الحنيفية عشر سنن خمس في الرأس وخمس في الجسد ، فأما التي في الرأس فالمضمضة
والاستنشاق والسواك وقص
__________________
الشارب والفرق لمن طال شعر رأسه ، قال في الرسالة : وإياك ان تدع الفرق ان
كان لك شعر طويل فقد روى عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : «من لم يفرق شعره فرقه الله يوم القيامة
بمنشار من نار». واما التي في الجسد فالاستنجاء والختان وحلق العانة وقص الأظفار
ونتف الإبطين. انتهى. أقول : وكلام الصدوق في كتابه في هذا المقام لا يخلو من
الاضطراب بناء على ما قرره في صدر كتابه وغفل الأصحاب عنه من إفتائه بمضمون ما
يرويه ، وهو قد جمع هنا في النقل بين روايات الحلق والتوفير والتدافع بينهما غير
خفي ولم يجمع بينهما بوجه يرتفع به التنافي من البين.
والذي يظهر لي
من الاخبار وفاقا لجملة من متأخري علمائنا الأبرار (رفع الله تعالى مقامهم جميعا
في دار القرار) هو أفضلية الحلق وحمل ما دل على خلاف ذلك على التقية.
ويدل على ذلك
زيادة على ما تقدم من الاخبار ما رواه في الكافي عن أيوب بن هارون عن ابي عبد الله
(عليهالسلام) قال : «قلت له أكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يفرق شعره؟ قال لا ان رسول الله كان إذا طال شعره كان
الى شحمة اذنه».
وعن عمرو بن
ثابت عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت انهم يروون ان الفرق من السنة قال من السنة.
قلت يزعمون ان النبي (صلىاللهعليهوآله) فرق قال ما فرق النبي ولا كانت الأنبياء تمسك الشعر».
وروى في الكافي
أيضا عن ابي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الفرق من السنة؟ قال لا قلت فهل فرق رسول الله (صلىاللهعليهوآله)؟ قال نعم قلت كيف فرق رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وليس من السنة؟ قال من اصابه ما أصاب رسول الله وفرق
كما فرق رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقد أصاب سنة رسول الله وإلا فلا. قلت كيف ذلك؟ قال ان
رسول الله
__________________
(صلىاللهعليهوآله) حين صد عن البيت وقد كان ساق الهدى وأحرم أراه الله
الرؤيا التي أخبرك بها في كتابه إذ يقول : «لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» فعلم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الله سيفي له بما أراه فمن ثم وفر ذلك الشعر الذي
كان على رأسه حين أحرم انتظارا لحلقه في الحرم حيث وعده الله فلما حلقه لم يعد في
توفير الشعر ولا كان ذلك من قبله».
قال في الوافي
ـ ونعم ما قال ـ قيل ان الحلق كان في الجاهلية عارا عظيما في العرب فلما جاء
الإسلام وفرض الحج وصار سنة لم يجدوا بدا من فعله حين يحجون أو يعتمرون ولكنه كان
كبيرا عليهم في غيرهما ولما رأى النبي (صلىاللهعليهوآله) ذلك منهم أمرهم بتربية الشعر لئلا يكونوا شعثا ذوي قمل
، ثم ان منهم من حلق ومنهم من ترك الشعر حتى آل الأمر الى ان صار الحلق شعارا
للشيعة لان أئمتهم (عليهمالسلام) كانوا محلقين أسوة برسول الله (صلىاللهعليهوآله) وخلافه شعارا لمخالفيهم لان أئمتهم لحميتهم الجاهلية
يعدونها مثلة لارتدادهم الى ما كانوا عليه قبل الإسلام. انتهى
واما ما ذكره
الصدوقان في الرسالة والفقيه من حديث السنن العشر فهو عين عبارة الفقه الرضوي حيث
قال بعد كلام قد سقط من النسخة التي عندي من الكتاب «ولكنها من الحنيفية التي قال
الله عزوجل لنبيه (صلىاللهعليهوآله) «وَاتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» فهي عشر سنن خمس في الرأس وخمس في الجسد. فأما التي في
الرأس فالفرق والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك ، واما التي في الجسد فنتف
الإبط وتقليم الأظافير وحلق العانة والاستنجاء والختان ، وإياك ان تدع الفرق ان
كان لك شعر فقد روى عن ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال : «من لم يفرق
__________________
شعره فرقه الله بمنشار من النار». انتهى. وقد عرفت الوجه فيه. والله
العالم.
(فصل) روى ثقة
الإسلام في الكافي عن معلى بن خنيس عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال «ما زاد من اللحية عن القبضة فهو في النار». وروى
في الكافي عن محمد بن أبي حمزة عن من أخبره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ما زاد على القبضة ففي النار يعني اللحية». وعن
يونس عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله (عليهالسلام)
ورواه في
الفقيه مرسلا عن ابي عبد الله «في قدر اللحية؟ قال تقبض بيدك على اللحية وتجز ما
فضل». بيان : قال في الوافي المراد بالقبض على اللحية أن يضع يده على ذقنه فيأخذ
بطرفيه فيجز ما فضل من مسترسل اللحية طولا لا القبض مما تحت الذقن.
وروى في الكافي
والفقيه عن محمد بن مسلم قال : «رأيت أبا جعفر (عليهالسلام) والحجام يأخذ من لحيته فقال دورها». ورويا فيهما مسندا
في الكافي عن درست عن ابى عبد الله (عليهالسلام) ومرسلا في الفقيه قال : «مر النبي (صلىاللهعليهوآله) برجل طويل اللحية فقال ما كان على هذا لو هيأ من لحيته؟
فبلغ ذلك الرجل فهيأ من لحيته بين اللحيتين ثم دخل على النبي (صلىاللهعليهوآله) فلما رآه قال هكذا فافعلوا».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) حفوا الشوارب وأعفوا اللحى ولا تتشبهوا باليهود». وقال
: وقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) «ان المجوس جزوا لحاهم ووفروا شواربهم وانا نحن نجز
الشوارب ونعفي اللحى وهي الفطرة». بيان : قال في الوافي الحف الإحفاء وهو
الاستقصاء في الأمر
__________________
والمبالغة فيه وإحفاء الشارب المبالغة في جزه والإعفاء الترك ، واعفاء
اللحى ان يوفر شعرها من عفى الشعر إذا كثر وزاد ، وقوله «وأعفوا عن اللحى» اي لا
تستأصلوها بل اتركوا منها ووفروا ، وقوله «ولا تتشبهوا باليهود» اي لا تطيلوها جدا
وذلك لان اليهود لا يأخذون من لحاهم بل يطيلونها ، وذكر الإعفاء عقيب الإحفاء ثم
النهي عن التشبه باليهود دليل على ان المراد بالإعفاء ان لا يستأصل ويؤخذ منها من
غير استقصاء بل مع توفير وإبقاء بحيث لا يتجاوز القبضة فيستحق النار. وقال بعض
المنسوبين الى العلم والحكمة من فهم من هذا الحكم طلب الزينة الإلهية في قوله
تعالى : «قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ» نظر الى لحيته فإذا كانت الزينة في توفيرها وان لا يأخذ
منها شيئا تركها وان كانت الزينة في ان يأخذ منها قليلا حتى تكون معتدلة تليق
بالوجه وتزينه أخذ منها على هذا الحد وقد ورد عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه كان يأخذ من طول لحيته لا من عرضها. انتهى كلامه.
ولعل مراده أن الزينة تختلف باختلاف الناس في لحاهم ولهذا لم يحدد اعني من جهة
التقليل وان حد من جهة التوفير ، وقد مضى في كتاب الحجة حديث عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) «ان أقواما حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمسخوا».
وقد أفتى جماعة
من فقهائنا بتحريم حلق اللحية وربما يستشهد لهم بقوله سبحانه عن إبليس اللعين : «وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ» انتهى كلامه في الوافي.
وروى في الكافي
عن السكوني عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لا يطولن أحدكم شاربه فان الشيطان يتخذه مخبئا يستتر
به». ورواه في الفقيه عنه (ص) مرسلا
وروى في الكافي
__________________
بالسند المتقدم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان من السنة ان تأخذ من الشارب حتى يبلغ الإطار». بيان
: قيل الإطار ككتاب ما يفصل بين الشفة وبين شعرات الشارب. وقال في مجمع البحرين : في
الحديث «من السنة ان تأخذ الشارب حتى يبلغ الإطار». وهو ككتاب طرف الشفة الأعلى
الذي يحول بين منابت الشعر والشفة وكل شيء أحاط بشيء فهو اطار له. انتهى. وعن
عبد الله بن عثمان «انه رأى أبا عبد الله (عليهالسلام) احفى شاربه حتى ألزقه بالعسيب». بيان : العسيب منبت
الشعر. وعن علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه أبي الحسن (عليهالسلام) قال : «سألته عن قص الشارب أمن السنة هو؟ قال نعم». وعن
ابن فضال عن من ذكره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ذكرنا الأخذ من الشارب فقال نشرة وهو من السنة».
أقول : النشرة لغة رقية يعالج بها المجنون والمريض والمراد هنا أنها عوذة من
الشيطان. وروى في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) أخذ الشارب من الجمعة إلى الجمعة أمان من الجذام». قال
«وقال أبو عبد
الله (عليهالسلام) أخذ الشعر من الأنف يحسن الوجه».
بيان : يستنبط
من هذه الاخبار فوائد (الأولى) ان الأفضل المندوب اليه هو اعفاء اللحية إلى حد
القبضة المذكورة وما زاد عليها فالأفضل جزه وإحفاء الشارب وجزه حتى يبلغ به أصول
الشعر وهذا لا خلاف فيه ولا إشكال.
(الثانية) ـ الظاهر
ـ كما استظهره جملة من الأصحاب كما عرفت ـ تحريم حلق اللحية لخبر المسخ المروي عن
أمير المؤمنين (عليهالسلام) فإنه لا يقع الا على ارتكاب أمر محرم بالغ في التحريم
، واما الاستدلال بآية «وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ»
__________________
ففيه انه قد ورد عنهم (عليهمالسلام) ان المراد دين الله فيشكل الاستدلال بها على ذلك وان
كان ظاهر اللفظ يساعده.
(الثالثة) ـ انه
هل يجوز حلق الشارب؟ استظهر بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ذلك قال
للأوامر المطلقة الشاملة له وان كان الأحوط العدم لانه لم ينقل عن النبي والأئمة (صلوات
الله عليهم) حلقه ولا الرخصة في حلقه. انتهى. أقول ما استند اليه في القول بالجواز
من الأوامر المطلقة لا يخلو من اشكال لأن الأوامر الواردة في الاخبار منها ما هو
بلفظ الأخذ ومنها ما هو بلفظ الجز ومنها ما هو بلفظ القص وقضية حمل مطلقها على
مقيدها هو العمل بالجز وهو الظاهر ويؤيده ما ذكره أخيرا في وجه الاحوطية ،
وبالجملة فإن دليل الجواز غير ظاهر بل ربما دخل تحت آية «فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللهِ» التي استدلوا بها على تحريم حلق اللحية بناء على ظاهر اللفظ.
(الرابعة) ـ انه
هل أفضلية القبضة في اللحية بالنسبة الى ما زاد خاصة بمعنى انه لا يتجاوز القبضة
أو يكون كذلك أيضا بالنسبة الى ما نقص عنها بمعنى انه يستجب له ان يعفيها ويتركها
حتى تبلغ القبضة أيضا؟ لم أقف على كلام لأحد من أصحابنا في ذلك إلا ان ظاهر
الأخبار الأول. والله العالم.
(فصل) روى ثقة
الإسلام في الكافي عن سفيان بن السمط قال : «قال لي أبو عبد الله (عليهالسلام) الثوب النقي يكبت العدو والدهن يذهب بالبؤس والمشط
للرأس يذهب بالوباء قال قلت وما الوباء؟ قال الحمى ، والمشط للحية يشد الأضراس». وروى
في الفقيه مرسلا قال : «قال الصادق (عليهالسلام) مشط الرأس يذهب بالوباء ومشط اللحية يشد الأضراس». وقال
في الفقيه ايضا : «قال الصادق (عليهالسلام)
__________________
المشط يذهب بالوباء وهو الحمى». وفي رواية البرقي «يذهب بالونا وهو الضعف
قال الله تعالى (وَلا تَنِيا فِي
ذِكْرِي) أي لا تضعفا» وروى في الكافي عن عمار النوفلي عن أبيه قال : «سمعت أبا الحسن (عليهالسلام) يقول المشط يذهب بالوباء وكان لأبي عبد الله (عليهالسلام) مشط في المسجد يتمشط به إذا فرغ من صلاته». وعن عبد
الله بن المغيرة عن ابي الحسن (عليهالسلام) «في قوله تعالى «خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» قال من ذلك التمشط عند كل صلاة». وروى في الفقيه مرسلا قال : «سئل أبو الحسن الرضا (عليهالسلام) عن قول الله. الحديث». وروى في الكافي عن عنبسة بن
سعيد رفع الحديث إلى النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : «كثرة تسريح الرأس يذهب بالوباء ويجلب الرزق
ويزيد في الجماع». وعن يونس عن من أخبره عن ابي الحسن (عليهالسلام) ـ ورواه في الفقيه عن ابي الحسن موسى (عليهالسلام) ـ قال : «إذا سرحت رأسك ولحيتك فأمر المشط على صدرك فإنه
يذهب بالهم والوباء». وروى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه قال : «كثرة التمشط تقلل البلغم». وعن إسماعيل بن جابر
عن ابي عبد الله ـ ورواه في الفقيه مرسلا عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ـ قال : «من سرح لحيته سبعين مرة وعدها مرة مرة لم يقربه
الشيطان أربعين يوما».
ويستحب بالعاج لما
رواه في الكافي عن الحسين بن عاصم عن أبيه قال :
__________________
«دخلت على ابي إبراهيم (عليهالسلام) وفي يده مشط عاج يتمشط به فقلت له جعلت فداك ان عندنا
بالعراق من يزعم انه لا يحل التمشط بالعاج؟ فقال ولم فقد كان لأبي منها مشط أو
مشطان ، ثم قال تمشطوا بالعاج فان العاج يذهب بالوباء». بيان : قال في كتاب مجمع
البحرين : العاج عظم أنياب الفيل وعن الليث لا يسمى غير عظم الناب عاجا ، ثم قال
وروى انه كان لفاطمة (عليهاالسلام) سوار من عاج. انتهى. وعن موسى بن بكر قال : «رأيت أبا الحسن (عليهالسلام) يتمشط بمشط عاج واشتريته له». وعن عبد الله بن سليمان قال : «سألت أبا جعفر (عليهالسلام) عن العاج فقال لا بأس به وان لي منه لمشطا». وعن
القاسم بن الوليد قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن عظام الفيل مداهنها وأمشاطها؟ قال لا بأس به». وروى
في كتاب الخصال عن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «في قول الله عزوجل : «خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» قال المشط يجلب الرزق ويحسن الشعر وينجز الحاجة ويزيد
في ماء الصلب ويقطع البلغم وكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يسرح تحت لحيته أربعين مرة ومن فوقها سبع مرات ويقول
انه يزيد في الذهن ويقطع البلغم». وروى العياشي في تفسيره عن ابى بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قوله تعالى : «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ» قال هو التمشط عند كل صلاة فريضة ونافلة».
ويكره التمشط
من قيام لما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن ثابت بن أبي صفية الثمالي عن ثور بن
سعيد بن علاقة عن أبيه عن علي (عليهالسلام) قال في حديث
__________________
«والتمشط من قيام يورث الفقر». وما رواه الحسن بن الفضل الطبرسي في كتاب
مكارم الأخلاق عن النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : «من امتشط قائما ركبه الدين». وعن ابى الحسن موسى
(عليهالسلام) قال : «لا تمتشط من قيام فإنه يورث الضعف في القلب
وامتشط جالسا فإنه يقوي القلب ويمخخ الجلد».
ويستحب قراءة
إنا أنزلناه وسورة والعاديات ، قال السيد الزاهد العابد المجاهد رضي الدين علي بن
طاوس في كتاب الأمان من الاخطار : روى انه يبدأ من تحت ويقرأ إنا أنزلناه في ليلة
القدر ، قال وفي رواية يسرح لحيته من تحت الى فوق أربعين مرة ويقرأ إنا أنزلناه
ومن فوق الى تحت سبع مرات ويقرأ والعاديات ويقول اللهم سرح عني الهم والغموم
والوحشة في الصدر. وفي كتاب الفقيه الرضوي قال : (عليهالسلام): «إذا أردت أن تمشط لحيتك فخذ المشط بيدك اليمنى وقل
بسم الله وضع المشط على أم رأسك ثم تسرح مقدم رأسك وقل اللهم حسن شعري وبشرى وطيب
عيشي وافرق عني السوء ، ثم تسرح مؤخر رأسك وقل اللهم لا تردني على عقبي واصرف عني
كيد الشيطان ولا تمكنه مني ، ثم تسرح حاجبيك وقل اللهم زيني بزينة أهل التقوى ، ثم
تسرح لحيتك من فوق وقل اللهم اسرح عني الغموم والهموم ووسوسة الصدور ، ثم أمر
المشط على صدغك». بيان : الظاهر ان الأمر بتسريح مقدم الرأس ومؤخره مبني على ما
تقدم من توفير شعر الرأس لما يدل عليه لفظ الدعاء في تلك الحال واما بناء على ما
قدمناه من استحباب الحلق فلا ، واما الأمر بتسريح اللحية من فوق فظاهره ان وظيفة
الاستحباب ذلك ويؤيده انه قال في موضع آخر بعد هذا الكلام بعد ان نقل عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «ادهنوا غبا واكتحلوا وترا وامشطوا مرسلا»
قال : «فسئل عن معناها فقال (عليهالسلام) ادهنوا يوم ويوم لا واكتحلوا وترا وامشطوا مرسلا قال
من فوق لا من تحت». انتهى. وهو بظاهره مناف
__________________
لما تقدم في حديثي الخصال والأمان من الاخطار من أكثرية التسريح من تحت على
التسريح من فوق ولعل هذا الخبر محمول على الآكد. والله العالم.
(فصل) ـ روى
ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) ما زال جبرئيل يوصيني بالسواك حتى خفت أن أحفي أو أدرد».
بيان : قد تقدم معنى الحفاء بالحاء المهملة والفاء وهو مبالغة في الاستقصاء ،
والدرد هو سقوط الأسنان يقال درد دردا من باب تعب سقطت أسنانه وبقيت أصولها فهو
أدرد والأنثى درداء مثل احمر وحمراء وبه كنى أبو الدرداء ، والمراد هنا حتى خفت
ذهاب أسناني من كثرة السواك ، واستظهر جملة من المحدثين ان الترديد من بعض الرواة.
وعن جميل بن دراج في الصحيح أو الحسن عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أوصاني جبرئيل بالسواك حتى خفت على أسناني». وعن إسحاق
بن عمار في الموثق قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) من أخلاق الأنبياء السواك». وعن إسحاق بن عمار عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) قال : «السواك من سنن المرسلين».
وعن مهزم
الأسدي قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول في السواك عشر خصال : مطهرة للفم ومرضاة للرب
ومفرحة للملائكة وهو من السنة ويشد اللثة ويجلو البصر ويذهب بالبلغم ويذهب بالحفر»
ورواه البرقي في المحاسن. ، بيان : قيل الحفر بثر في أصول الأسنان أو تقشير فيها
أو صفرة تعلوها والخصلتان الباقيتان اما مطويتان في مقام التفصيل أو ساقطتان من
قلم النساخ. وعن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال «في السواك اثنتي عشرة خصلة ، هو من السنة ومطهرة
للفم ومجلاة للبصر ويرضي الرب ويذهب بالغم ويزيد في الحفظ ويبيض الأسنان ويضاعف
الحسنات ويذهب بالبلغم ويشد اللثة ويشهي الطعام وتفرح به الملائكة». ورواه البرقي
__________________
في المحاسن والصدوق ولكنه خالف في الترتيب.
وعن حنان عن
أبيه عن ابى جعفر (عليهالسلام) قال : «شكت الكعبة الى الله عزوجل ما تلقى من أنفاس المشركين فأوحى الله إليها ان قرى يا
كعبة فإني مبدلك بهم قوما يتنظفون بقضبان الشجر فلما بعث الله محمدا (صلىاللهعليهوآله) أوحى اليه مع جبرئيل بالسواك والخلال».
وعن المعلى بن
خنيس قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن السواك بعد الوضوء فقال الاستياك قبل ان يتوضأ. قلت
أرأيت ان نسي حتى يتوضأ؟ قال يستاك ثم يتمضمض ثلاث مرات».
قال في الكافي : وروى ان السنة في السواك وقت السحر. وروى في الكافي
أيضا عن ابي بكر بن ابي سمال قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا قمت بالليل فاستك فان الملك يأتيك فيضع فاه على
فيك وليس من حرف تتلوه وتنطق به إلا صعد به الى السماء فليكن فوك طيب الريح».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) «ان أفواهكم طرق القرآن فطهروها بالسواك». وروى البرقي
في المحاسن عن إسماعيل بن ابان الخياط عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) نظفوا طريق القرآن قيل يا رسول الله وما طريق القرآن؟
قال أفواهكم قيل بماذا؟ قال بالسواك».
وعن علي بن
الحكم عن عيسى بن عبد الله رفعه قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أفواهكم طريق من طرق ربكم فأحبها الى الله أطيبها ريحا
__________________
فطيبوها بما قدرتم عليه».
وروى في الكافي
عن معاوية بن عمار في الصحيح قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول كان في وصية النبي (صلىاللهعليهوآله) لعلي (عليهالسلام) ان قال يا علي أوصيك في نفسك بخصال احفظها عني ثم قال
اللهم أعنه ، وعد جملة من الخصال الى ان قال وعليك بالسواك عند كل صلاة». وعن محمد
بن مروان عن ابي جعفر (عليهالسلام) في وصية النبي (صلىاللهعليهوآله) لأمير المؤمنين (عليهالسلام) «عليك بالسواك لكل صلاة». وعن القداح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ـ ورواه في الفقيه مرسلا عن ابي عبد الله ـ قال : «ركعتان
بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك». قال : وقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة». بيان
: اي أوجبت ذلك عليهم «لأن الأمر حقيقة في الوجوب كما عرفت ، وفي الفقيه «عند وضوء كل صلاة». وروى في الكافي عن ابن بكير عن من ذكره عن ابي جعفر (عليهالسلام) ـ ورواه في الفقيه مرسلا عن ابي جعفر ـ «في السواك قال
لا تدعه في كل ثلاث ولو ان تمره مرة».
وعن الحلبي في
الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله (عليهالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان إذا صلى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فيوضع
عند رأسه مخمرا فيرقد ما شاء الله ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي اربع ركعات ثم يرقد
ويقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي ثم قال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ) (صلىاللهعليهوآله) (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)».
وروى البرقي في
المحاسن عن إسحاق بن عمار قال :
__________________
«قال أبو عبد الله اني لأحب للرجل إذا قام بالليل ان يستاك وان يشم الطيب
فان الملك يأتي الرجل إذا قام بالليل حتى يضع فاه على فيه فما خرج من القرآن من شيء
دخل في جوف ذلك الملك».
بيان : قد دلت
اخبار هذا الفصل على استحباب السواك في حد ذاته استحبابا مؤكدا ويتأكد زيادة على
ذلك للوضوء وللصلاة ولقراءة القرآن وفي السحر خصوصا مع الإتيان بصلاة الليل.
ويكره في مواضع
: منها ـ الحمام والخلاء فقد روى الصدوق في الفقيه في حديث المناهي المذكور في
آخره قال : «ونهى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن السواك في الحمام». قال وروي : «ان السواك في
الحمام يورث وباء الأسنان». وروى في كتاب العلل في الموثق عن ابن ابي يعفور عن ابى
عبد الله (عليهالسلام) في حديث قال : «وإياك والسواك في الحمام فإنه يورث وباء
الأسنان». وقد تقدم في آداب الخلوة ما يدل على انه يورث البخر في الخلاء.
(فصل) في
استحباب قص الأظفار روى ثقة الإسلام في الكافي عن عبد الله بن ميمون القداح عن ابى
عبد الله (عليهالسلام) قال : «احتبس الوحي عن النبي (صلىاللهعليهوآله) فقيل له احتبس الوحي عنك فقال وكيف لا يحتبس وأنتم لا
تقلمون أظفاركم ولا تنقون رواجبكم». بيان : قال في النهاية : فيه «ألا تنقون
رواجبكم» هي ما بين عقد الأصابع من داخل واحدها راجبة والبراجم العقد المتسنمة في ظاهر الأصابع. وقال في القاموس. والرواجب مفاصل أصول
الأصابع أو بواطن مفاصلها أو هي قصب الأصابع أو مفاصلها أو ظهور السلاميات أو ما
بين البراجم من السلاميات أو المفاصل التي تلي الأنامل واحدتها راجبة. وعن القاسم
عن جده قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) تقليم الأظفار
__________________
يمنع الداء الأعظم ويدر الرزق».
وعن هشام بن
سالم في الصحيح أو الحسن عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «تقليم الأظفار يوم الجمعة يؤمن من الجذام والبرص
والعمى وان لم تحتج فحكها حكا». ورواه في الفقيه عن هشام بن سالم وزاد على الثلاثة المذكورة «الجنون». ثم قال وفي خبر
آخر «وان لم تحتج فأمر عليها السكين أو المقراض». وروى في الكافي والتهذيب في
الصحيح عن حفص بن البختري عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «أخذ الشارب والأظفار من الجمعة إلى الجمعة أمان
من الجذام». وعن عبد الله بن هلال قال : «قال لي أبو عبد الله (عليهالسلام) خذ من شاربك وأظفارك في كل جمعة فان لم يكن فيها شيء
فحكها لا يصيبك جنون ولا جذام ولا برص». وروى في الكافي عن ابن بكير في الموثق عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «تقليم الأظفار وأخذ الشارب في كل جمعة أمان من
البرص والجنون». وعن أبي حمزة عن ابي جعفر (عليهالسلام) قال : «انما قصوا الأظفار لأنها مقيل الشيطان ومنه يكون
النسيان». وعن حذيفة بن منصور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان أستر وأخفى ما يسلط الشيطان من ابن آدم ان
صار يسكن تحت الأظافير». وعن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «قلت له ما ثواب من أخذ من شاربه وقلم أظفاره في
كل جمعة؟ قال لا يزال مطهرا إلى الجمعة الأخرى». ورواه الصدوق مرسلا قال : قال الحسين ابن ابي العلاء للصادق (عليهالسلام). الحديث. وروى المشايخ الثلاثة عن عبد الرحيم القصير قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) من أخذ من شاربه وأظفاره كل جمعة وقال حين يأخذ بسم
الله وبالله وعلى سنة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لم تسقط
__________________
منه قلامة ولا جزازة إلا كتب الله له بها عتق نسمة ولا يمرض إلا مرضه الذي
يموت فيه». بيان : في الفقيه «على سنة محمد وآل محمد» وروى في الكافي عن ابي كهمس قال : «قال رجل لعبد الله بن الحسن علمني شيئا في الرزق
فقال الزم مصلاك إذا صليت الفجر الى طلوع الشمس فإنه أنجح في طلب الرزق من ان تضرب
في الأرض. فأخبرت بذلك أبا عبد الله (عليهالسلام) فقال ألا أعلمك في الرزق ما هو أنفع من ذلك؟ قال قلت
بلى. قال خذ من شاربك وأظفارك في كل جمعة». وعن علي بن عقبة عن أبيه قال : «أتيت عبد الله بن الحسن فقلت علمني دعاء في
الرزق فقال : قل اللهم تول امري ولا تول امري غيرك. فعرضته على ابي عبد الله (عليهالسلام) فقال ألا ادلك على ما هو أنفع من هذا في الرزق؟ تقص من
أظفارك وشاربك في كل جمعة ولو بحكها». وعن خلف قال : «رآني أبو الحسن (عليهالسلام) بخراسان وانا اشتكي عيني فقال ادلك على شيء ان فعلته
لم تشتك عينك؟ قلت بلى فقال خذ من أظفارك في كل خميس قال ففعلت فما اشتكيت عيني
إلى يوم أخبرتك». وروى في الفقيه مرسلا قال : قال أبو جعفر (عليهالسلام) «من أخذ من أظفاره كل يوم خميس لم يرمد ولده». وقال
فيه ايضا : وقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) «من قلم أظفاره يوم السبت ويوم الخميس وأخذ من شاربه
عوفي من وجع الضرس ووجع العين». وعن عبد الله بن الفضل عن أبيه وعمه جميعا عن ابي
جعفر (عليهالسلام) قال : «من أخذ أظفاره كل خميس لم ترمد عينه».
وروى في الكافي
والفقيه مسندا في الأول ومرسلا في الثاني قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) للرجال قصوا أظفاركم وللنساء اتركن فإنه أزين لكن»
__________________
وفي الفقيه «اتركن من أظفاركن فإنه أزين لكن». بيان : يعني لا يبالغن في
قصها كما يبالغ الرجال بل يتركن شيئا منها كما يستفاد من لفظة «من» التبعيضية.
وروى في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير رفعه «في قص الأظافير تبدأ بخنصرك الأيسر ثم تختم باليمين». وقال في الفقيه وروى «ان من يقلم أظفاره يوم الجمعة يبدأ بخنصره من
اليد اليسرى ويختم بخنصره من اليد اليمنى». بيان : قال في الوافي : لعل السر في
ذلك تحصيل التيامن في كل إصبع إصبع وذلك لان الوضع الطبيعي لليدين ان يكون ظهرهما
الى فوق وبطنهما الى تحت.
وروى في الفقيه
مرسلا قال : قال الصادق (عليهالسلام) «من قلم أظفاره يوم الجمعة لم تسعف أنامله». بيان : في
بعض النسخ «تشعث أنامله» والمعنى واحد وهو تفرق الجلد حول الأظفار فينفصل منه
اجزاء صغار ، وقد تقدم ذكر الخلاف بين الأصحاب في حكم هذه الاجزاء بعد الانفصال
طهارة ونجاسة واما قبل الانفصال فلا ريب في طهارتها.
وروى في الفقيه
عن موسى بن بكر «انه قال للصادق (عليهالسلام) ان أصحابنا يقولون إنما أخذ الشارب والأظفار يوم
الجمعة فقال سبحان الله خذها إن شئت في يوم الجمعة وان شئت في سائر الأيام». بيان
: ظاهر السؤال حصر أخذها في يوم الجمعة ولعله توهم الوجوب في هذا اليوم بخصوصه
فأجاب (عليهالسلام) بجواز أخذها في سائر الأيام وإلا فحصر الاستحباب أو
تأكده في اليوم المذكور لا شك فيه ، أو يحمل الخبر على ما إذا طالت فإنه لا ينتظر
بها اليوم المذكور ، وكيف كان فالظاهر ان ما ورد من أخذها يوم الخميس ويترك واحد
ليوم الجمعة أو السبت فهي رخص لا تنافي التوظيف
__________________
والاستحباب في ذلك اليوم لما عرفت من الأمور المرتبة عليه فيه بخصوصه.
وروى في الفقيه
مرسلا قال : قال الصادق (عليهالسلام) «يدفن الرجل شعره وأظفاره إذا أخذ منها وهي سنة». وقال
وروى : «ان من السنة دفن الشعر والظفر والدم». وروى في الكافي عن ابي كهمس عن ابي
عبد الله (عليهالسلام) «في قول الله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) ؟ قال دفن الشعر والظفر». بيان : قال في الوافي : الكفات
بالكسر الموضع يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا. انتهى. أقول : لعل
ذكر الشعر والظفر للتنبيه على انهما مما يكفتان في الأرض أي يضمان فيها كما يضم
فيها الإنسان بعد الموت.
(فصل) في
استحباب الكحل روى ثقة الإسلام في الكافي عن سليمان الفراء عن رجل عن ابي عبد الله
(عليهالسلام) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يكتحل بالإثمد إذا آوى الى فراشه وترا وترا». وعن
زرارة في الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكحل بالليل ينفع العين وهو بالنهار زينة». وعن
الفضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه وعمه قالا «قال أبو جعفر (عليهالسلام) الاكتحال بالإثمد يطيب النكهة ويشد أشفار العين». وعن
حماد بن عيسى في الموثق عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكحل يعذب الفم». وعن خلف بن حماد عن من ذكره
عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكحل ينبت الشعر ويحد البصر ويعين على طول
السجود». وعن علي بن عقبة عن رجل عن ابى عبد الله (عليهالسلام)
__________________
قال : «الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر في الجفن ويذهب بالدمعة». وعن ابن
فضال عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكحل يزيد في المباضعة». بيان : المباضعة
المجامعة. وعن حماد بن عثمان عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «الكحل ينبت الشعر ويجفف الدمعة ويعذب الريق
ويجلو البصر». وعن الحسين ابن الحسن بن عاصم عن أبيه عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «من نام على إثمد غير ممسك أمن من الماء الأسود
أبدا ما دام ينام عليه». وعن ابن القداح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) من اكتحل فليوتر ومن فعل فقد أحسن ومن لم يفعل فلا بأس».
وروى الصدوق مرسلا قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) اكتحلوا وترا واستاكوا عرضا». وعن زرارة في الصحيح عن
ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يكتحل قبل ان ينام أربعا في اليمنى وثلاثا في
اليسرى». وعن الحسن بن الجهم قال : «أراني أبو الحسن (عليهالسلام) ميلا من حديد ومكحلة من عظام فقال هذا كان لأبي (عليهالسلام) فاكتحل به». وروى الحسين بن بسطام في كتاب طب الأئمة
عن ابى صالح الأحول عن الرضا (عليهالسلام) قال : «من اصابه ضعف في بصره فليكتحل سبعة مراود عند
منامه من الإثمد». وعن جابر عن خداش عن عبد الله بن ميمون عن الصادق (عليهالسلام) قال : «كان للنبي (صلىاللهعليهوآله) مكحلة يكتحل منها في كل ليلة ثلاثة مراود في كل عين
عند منامه». وروى الحسن بن الفضل
__________________
الطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق قال : «كان النبي (صلىاللهعليهوآله) يكتحل في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى ثنتين ، وقال
من شاء اكتحل ثلاثا في كل عين ومن فعل دون ذلك أو فوقه فلا حرج ، وربما اكتحل وهو
صائم وكانت له مكحلة يكتحل منها في الليل وكان كحله الإثمد». وفي كتاب الفقه
الرضوي قال : «إذا أردت أن تكتحل فخذ الميل بيدك اليمنى واضربه
بالمكحلة وقل بسم الله وإذا جعلت الميل في عينك فقل اللهم نور بصري واجعل فيه نورا
أبصر به حقك واهدني إلى طريق الحق وأرشدني إلى سبيل الرشاد اللهم نور علي دنياي
وآخرتي». وقال في موضع آخر «روى عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) انه قال ادهنوا غبا واكتحلوا وترا».
بيان : هنا
فوائد (الأولى) ان الكحل المستحب وهو الذي ذكرت له هذه الخواص هو الإثمد وهو بكسر
الهمزة حجر معروف يؤتى به الآن من مكة المشرفة يجلب إليها ثم يؤتى به منها ، قال
في مجمع البحرين : والإثمد بكسر الهمزة والميم حجر يكتحل به ويقال انه معرب
ومعادنه بالمشرق ، ومنه الحديث «اكتحلوا بالإثمد». وعن بعض الفقهاء الإثمد هو
الأصفهاني ولم يتحقق. انتهى.
(الثانية) ـ المستفاد
من هذه الاخبار باعتبار ضم بعضها الى بعض ان الأفضل في الاكتحال ان يكون وترا في
كل من العينين أو فيهما معا بان يكون ثلاثة ثلاثة في كل واحدة أو خمسة أو سبعة
فيهما معا بان تكون الزيادة في العين اليمنى.
(الثالثة) ـ ما
دلت عليه صحيحة زرارة التي هي الثانية من الروايات المتقدمة من ان الكحل ينفع
بالليل وزينة بالنهار مما يدفع ما توهمه بعض المتعسفين وربما سرى الوهم منه الى
بعض الفضلاء ايضا ـ من إيجاب غسل الكحل من العين وقت الوضوء أو عدم الاكتحال لذلك
لانه يكون حائلا عن وصول ماء الوضوء الى ما تحته أو يكون الماء به مضافا يخرج عن
الإطلاق ، وليت شعري كيف خفي هذا المعنى الذي اهتدى إليه هذا القائل على
__________________
النبي (صلىاللهعليهوآله) وأهل بيته الذين يكتحلون ويأمرون به في هذه الاخبار التي
سمعت؟ أرأيت انه كان يجب غسله لما ذكره هؤلاء ويغفلون (عليهمالسلام) عن الأمر بذلك وتنبيه الناس عليه؟ وكيف يكون زينة
بالنهار وهو يجب غسله إذا انتبه وتوضأ لصلاة الصبح؟ ما هذه إلا وساوس شيطانية
وخيالات وهمية ولقد كنت لا اعتنى بهذا القائل حتى وقفت في كلام بعض الفضلاء
المعاصرين في رسالة له في الصلاة على مثل ذلك فزاد تعجبي ، ولعل الفاضل المشار
اليه لم يقف على الصحيحة المذكورة.
(الرابعة) ـ يستفاد
من رواية الحسن بن الجهم المتقدمة استحباب كون الميل من حديد.
(فصل) في
استحباب الطيب روى ثقة الإسلام (عطر الله مرقده) في الكافي عن احمد بن محمد بن ابي
نصر عن ابى الحسن الرضا (عليهالسلام) قال : «الطيب من أخلاق الأنبياء». وعن زيد الشحام عن
ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «العطر من سنن المرسلين». وعن العباس بن موسى قال «سمعت ابى (عليهالسلام) يقول العطر من سنن المرسلين». وعن ابى بصير عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) الطيب في الشارب من أخلاق النبيين وكرامة للكاتبين». وعن
ابن رئاب قال : «كنت عند ابى عبد الله (عليهالسلام) وانا مع بصير فسمعت أبا عبد الله يقول قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الريح الطيبة تشد القلب وتزيد في الجماع». وعن ابى
بصير قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الطيب يشد القلب». وروى الشيخان في الكافي والفقيه عن
معمر بن خلاد عن ابى الحسن الرضا (عليهالسلام) قال :
__________________
«لا ينبغي للرجل ان يدع الطيب في كل يوم فان لم يقدر عليه فيوم ويوم لا فان
لم يقدر ففي كل جمعة ولا يدع». وزاد في الفقيه «وكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا كان يوم الجمعة ولم يصب طيبا دعا بثوب مصبوغ
بزعفران فرش عليه الماء ثم مسح بيده ثم مسح به وجهه». وروى في الكافي عن علي رفعه
الى ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «من تطيب أول النهار لم يزل عقله معه الى الليل».
قال : وقال أبو عبد الله (عليهالسلام) «صلاة متطيب أفضل من سبعين صلاة بغير طيب». وعن إسحاق
الطويل العطار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ينفق في الطيب أكثر مما ينفق في الطعام». وعن زكريا
المؤمن رفعه قال : «ما أنفقت في الطيب فليس بسرف». وعن عيسى بن عبد
الله عن أبيه عن جده عن علي (عليهالسلام) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان لا يرد الطيب والحلواء». وعن القداح عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) قال : «اتي أمير المؤمنين (عليهالسلام) بدهن وقد كان ادهن فادهن وقال انا لا نرد الطيب». وعن
سماعة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته عن الرجل يرد الطيب؟ قال لا ينبغي له ان
يرد الكرامة». وعن الحسن بن الجهم قال : «دخلت على ابي الحسن (عليهالسلام) فاخرج الي مخزنة فيها مسك فقال خذ من هذا فأخذت منه
شيئا فتمسحت به فقال أصلح واجعل في لبتك منه قال فأخذت منه قليلا فجعلته في لبتي
فقال لي أصلح فأخذت منه ايضا فمكث في يدي منه شيء صالح فقال لي اجعل في لبتك
ففعلت ، ثم قال : قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا يأبى الكرامة إلا حمار. قال قلت ما معنى ذلك؟
__________________
قال الطيب والوسادة ، وعد أشياء. الحديث». بيان : قال في الوافي : أصلح
يعني خذ منه قدرا صالحا معتدا به ، واللبة المنحر ، وشيئا صالحا اي زمانا يعتد به.
وعن أبي البختري عن ابي عبد الله (عليهالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفارقه». بيان :
الوبيص بالصاد المهملة البريق واللمعان والمفرق محل فرق الشعر من الرأس. وعن نوح
بن شعيب عن بعض أصحابنا عن ابي الحسن (عليهالسلام) قال : «كان يرى وبيص المسك في مفرق رسول الله (صلىاللهعليهوآله)». والاخبار في الباب أكثر من ان يأتي عليها الكتاب.
وعلى اخبار
المسك تمسك اعنة الأقلام ويقطع الكلام ليكون ختامه مسكا تيمنا بما ذكره الملك
العلام واسأل الله سبحانه بمزيد فضله وبركة أهل البيت (عليهمالسلام) ان يكون هذا الكتاب وسيلة لديه ولديهم صلوات الله
عليهم أجمعين في يوم القيامة وان يوفقني لإكماله والفوز بسعادة الاختتام ، وهو
المجلد الثاني من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة
ويتلوه ان شاء الله تعالى في المجلد الثالث كتاب الصلاة ، وقد وقع الفراغ من
تحريره في الأرض المقدسة التي هي على التقوى مؤسسة أرض كربلاء المعلى في جوار سيد
الشهداء وامام السعداء صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه النجباء بتاريخ اليوم
السادس والعشرين من شهر جمادى الثانية من السنة الثامنة والسبعين بعد المائة
والالف من الهجرة المحمدية على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحية ، وكتبه مؤلفه بيمينه
الداثرة أعطاه الله تعالى كتابه بها في الآخرة فقير ربه الكريم يوسف بن احمد بن
إبراهيم البحراني عفى عنهم بمنه حامدا مصليا مسلما مستغفرا.
__________________
فهرس الجزء الخامس
من الكتاب الحدائق
الناضرة
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
نجاسة البول والغائط من الانسان
|
٢
|
الرطوبة الخارجة غير البول والغائط
والمني والدم
|
٣٨
|
نجاسة البول والغائط مما لا يؤكل لحمه
غير الانسان
|
٥
|
دم ذي النفس السائلة
|
٣٩
|
رجيع الطير الذي لا يؤكل لحمه
|
٦
|
الدم المسفوح
|
٤٤
|
رجيع ما لا نفس له
|
١٣
|
الدم المتخلف في اللحم بعد الذبح من
حيوان مأكول اللحم
|
٤٥
|
بول الخفاش
|
١٤
|
الدم المتخلف في الحيوان غير مأكول
اللحم
|
٤٥
|
بول الرضيع
|
١٧
|
الدم غير المسفوح والمتخلف
|
٤٦
|
خرء الدجاج غير الجلال
|
١٩
|
دم السمك
|
٤٧
|
أبوال الدواب الثلاث وأرواثها
|
٢٠
|
دم غير السمك مما لا نفس له
|
٥٠
|
أدلة المصنف على نجاسة أبوال الدواب
الثلاث
|
٢١
|
حكم العلقة
|
٥١
|
أدلة المشهور على طهارة أبوال الدواب
الثلاث وأرواثها والجواب عنها
|
٢٣
|
تردد الدم بين الطاهر والنجس
|
٥٢
|
نجاسة مني الانسان
|
٣١
|
ميتة ذي النفس السائلة
|
٥٣
|
مني غير الانسان مما له نفس سائلة
|
٣٢
|
ميتة غير الآدمي من ذي النفس السائلة
|
٥٤
|
مني غير ذي النفس السائلة
|
٣٣
|
الروايات الدالة على نجاسة الميتة من
ذي النفس غير الانسان
|
٥٥
|
الاخبار الموهمة طهارة مني الانسان
|
٣٤
|
حكم جلد الميتة
|
٦١
|
حكم المذي
|
٣٦
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
ميتة الآدمي
|
٦٥
|
الاخبار التي استدل بها على طهارة
الخمر
|
١٠٣
|
الأقوال في نجاسة ميتة الآدمي
|
٦٦
|
علاج التعارض بين الطائفتين من
الاخبار
|
١٠٦
|
مذهب المحدث الكاشاني في المقام
|
٦٧
|
هل يلحق غير الخمر من المسكرات بها في
النجاسة؟
|
١١١
|
ميتة ما لا نفس له سائلة
|
٦٩
|
الفقاع حكمه حكم الخمر
|
١١٧
|
ميتة ذي النفس البحري
|
٧٠
|
هل حرمة الفقاع تتبع الاسم؟
|
١١٩
|
القطعة مما له نفس سائلة
|
٧٢
|
الفقاع قسمان
|
١٢٠
|
الأجزاء الصغيرة المنفصلة من بدن
الانسان
|
٧٥
|
هل يلحق العصير التي العنبي في
النجاسة؟
|
١٢١
|
ما لا تحله الحياة من الميتة
|
٧٧
|
الكلام في حل عصير التمر والزبيب
|
١٢٤
|
نقاش مع المحقق الخوانساري في المقام
|
٨٠
|
العصير اسم لما يؤخذ من العنب
|
١٢٥
|
هل يفرق في طهارة الصوف ونحوه من
الميتة بين الجز والقلع؟
|
٨٢
|
النبيذ اسم لما يؤخذ من التمر
|
١٣٢
|
هل يفرق في طهارة المستثنيات من
الميتة بين ما يؤكل وغيره؟
|
٨٤
|
لا يحرم من النبيذ غير المسكر
|
١٣٧
|
تعريف الإنفحة
|
٨٦
|
أقسام العصير العنبي والنبيذ
|
١٣٩
|
البيضة من الدجاجة الميتة
|
٩٠
|
ماء التمر إذا غلى ولم يذهب ثلثاه
|
١٤١
|
اللبن في ضرع الشاة الميتة
|
٩٢
|
ماء الزبيب إذا غلى ولم يذهب ثلثاه
|
١٥٢
|
فأرة السمك
|
٩٥
|
ماء الحصرم إذا غلى ولم يذهب ثلثاه
|
١٥٩
|
الجبن المشتبه
|
٩٧
|
من النجاسات الكافر
|
١٦٢
|
المشهور نجاسة الخمر
|
٩٨
|
الاستدلال على نجاسة الكافر بالآية
|
١٦٤
|
الاخبار التي استدل بها على نجاسة
الخمر
|
٩٩
|
وجوه النقد في الاستدلال بالآية
وأجوبتها.
|
١٦٥
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الاخبار التي استدل بها على نجاسة
الكافر
|
١٦٦
|
المتولد من الكلب والخنزير أو من
أحدهما وطاهر
|
٢١٢
|
ما استدل به للقول بطهارة الكتابي
|
١٦٩
|
كلب الماء
|
٢١٣
|
الجواب عن أدلة القول بطهارة الكتابي
|
١٧٠
|
عرق الجنب من الحرام
|
٢١٤
|
علاج التعارض بين للطائفتين من
الاخبار
|
١٧٢
|
هل يفرق بين أقسام الجنب من الحرام في
حكم العرق؟
|
٢١٩
|
هل يعم الحكم بنجاسة الكافر ما لا
تحله الحياة منه؟
|
١٧٤
|
عرق الجنب بالاحتلام
|
٢٢٠
|
حكم المخالفين
|
١٧٥
|
عرق الحائض والمستحاضة والنفساء
والجنب من الحلال
|
٢٢٠
|
ما يدل على نجاسة الناصب
|
١٨٧
|
عرق الإبل الجلالة
|
٢٢١
|
لو الجأت الضرورة إلى المخالطة
|
١٨٨
|
حكم المسوخ
|
٢٢٣
|
من خرج من الفرقة الاثني عشرية من فرق
الشيعة
|
١٨٩
|
حكم الأرنب والثعلب والفأرة والوزغة
|
٢٢٦
|
حكم ولد الزنا
|
١٩٠
|
حكم لبن الجارية
|
٢٣٢
|
حكم ولد الكافر
|
١٩٧
|
حكم القئ
|
٢٣٢
|
ولد الكافر المسبى
|
٢٠٠
|
حكم الحديد
|
٢٣٣
|
حكم المجسمة
|
٢٠٢
|
النجس والمتنجس مؤثر ان في تنجيس
الملاقي مع الرطوبة
|
٢٣٦
|
حكم المجبرة
|
٢٠٣
|
هل تتعدى نجاسة الميتة إلى الملاقي مع
اليبوسة؟
|
٢٣٧
|
من النجاسات الكلب والخنزير
|
٢٠٥
|
تعريف النجاسة العينية والحكمية
|
٢٤٠
|
نجاسة الكلب والخنزير هل تعم اجزاءهما
التي لا تحلها الحياة
|
٢٠٨
|
الخلاف في ان كل ما حكم بنجاسة يؤثر
في تنجيس ملاقيه برطوبة
|
٢٤٠
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الظن بملاقاة النجاسة هل يوجب الحكم
بالتنجيس؟
|
٢٤٤
|
وجوب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن
للصلاة
|
٢٩٠
|
تقريب كفاية شهادة العدلين في الحكم
بالنجاسة
|
٢٤٦
|
اعتبار الطهارة في ملبوس المصلي
ومحموله انما هو في ما يقله منهما
|
٢٩١
|
رد احتجاج أبي الصلاح على كفاية مطلق
الظن في الحكم بالنجاسة
|
٢٤٧
|
المواضع التي تجب فيها إزالة النجاسة
|
٢٩٢
|
تحقيق المصنف في المقام
|
٢٤٨
|
هل يحرم ادخال النجاسة غير المتعدية
إلى المسجد؟
|
٢٩٣
|
هل تثبت النجاسة بشهادة العدل الواحد؟
|
٢٥١
|
الامر بالشئ هل يستلزم النهي عن ضده
الخاص
|
٢٩٤
|
هل يقبل قول المالك في الطهارة
والنجاسة؟
|
٢٥٢
|
هل يجب تخفيف النجاسة عند تعذر
ازالتها؟
|
٢٩٦
|
الاخبار الدالة على قاعدة الطهارة
|
٢٥٥
|
زوال العين يكفي في طهر البواطن
|
٢٩٧
|
الاخبار الظاهرة في المنافاة لقاعدة
الطهارة
|
٢٥٨
|
هل يكفي زوال العين في طهارة الصقيل؟
|
٢٩٩
|
هل يجب الاخبار بالنجاسة؟
|
٢٦٠
|
حد العفو عن دم الجروح والقروح
|
٣٠٠
|
هل يجوز بيع الطعام النجس ممن لا يعلم
بالنجاسة؟
|
٢٦٤
|
امتداد العفو عن دم الجروح والقروح
إلى البرء
|
٣٠١
|
تنجيس المتنجس وعدمه
|
٢٦٦
|
هل يستحب لصاحب الجروح والقروح غسل
ثوبه في كل يوم مرة؟
|
٣٠٤
|
حكم الشبهة المحصورة
|
٢٧٦
|
تعدي دم الجروح والقروح عن محل
الضرورة
|
٣٠٥
|
حكم الشبهة غير المحصورة
|
٢٨٢
|
ملاقات دم الجروح والقروح نجلة اخرى
|
٣٠٥
|
تعريف الشبهة غير المحصورة
|
٢٨٣
|
|
|
ما تثبت به الطهارة بعد العلم
بالنجاسة
|
٢٨٥
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
إذا لاقي دم الجروح والقروح جسم برطوبة
ثم لاقي الجسم بدن صاحب الدم أو ثوبه
|
٣٠٥
|
سعة الدرهم المعتبر في العفو
|
٣٣٠
|
العفو عن ما نقص عن الدرهم من الدم
|
٣٠٦
|
ما لا تتم الصلاة فيه وحده
|
٣٣٤
|
هل يلحق البدن بالثوب في العفو عن
الدم الأقل من الدرهم؟
|
٣٠٨
|
هل يختص العفو عن مالا تتم الصلاة فيه
بالملبوس
|
٣٣٥
|
حكم ما دون الحمصة من الدم
|
٣٠٩
|
تصريح الصدوق بان العمامة مما يعفى
عنه
|
٣٣٦
|
هل يعفى عن قدر الدراهم من الدم؟
|
٣١٠
|
حمل المصلي حيوانا " طاهرا
" غير مأكول اللحم
|
٣٣٨
|
الدم المتفرق الذي لو جمع لبلغ قدر
الدرهم
|
٣١٥
|
حمل المصلي قارورة مسدودة الرأس فيها
نجاسة
|
٣٣٩
|
تحديد التفاحش
|
٣١٩
|
هل ان إزالة النجاسة عن مالا تتم
الصلاة فيه الفضل؟
|
٣٤١
|
الدم المتفرق في الثياب المتعددة أو
فيها وفى البدن
|
٣١٩
|
إذا جبر عظمه بعظم نجس
|
٣٤٢
|
لو أصاب الدم العفو عنه مائع طاهر
|
٣٢٠
|
لو ادخل دما نجسا تحت جلده
|
٣٤٣
|
إصابة الدم وجهي الثوب
|
٣٢١
|
لو شرب خمرا " أو اكل ميتة
|
٣٤٤
|
لو كان الدم الأقل من الدرهم في
المحمول
|
٣٢١
|
العفو عن ثوب المربية
|
٣٤٥
|
اشتباه الدم المعفو عنه أو الطاهر
بغيره
|
٣٢٣
|
هل يعم العفو مربية الصبية؟
|
٣٤٦
|
دم الحيض لا يعفى عنه في الصلاة
|
٣٢٥
|
هل يعم العفو غير البول؟
|
٣٤٦
|
هل يلحق دم الاستحاضة والنفاس بالحيض
في عدم العفو؟
|
٣٢٦
|
هل يعم العفو المربي؟
|
٣٤٧
|
هل يستثنى من العفو دم الكلب والخنزير
والكافر؟
|
٣٢٧
|
هل يعم العفو المولود المتعدد؟
|
٣٤٧
|
تعيين الدرهم المعتبر قدره في العفو
|
٣٢٨
|
لو كان للمربية أكثر من ثوب واحد
|
٣٤٧
|
|
|
هل يعم العفو بدن المربية؟
|
٣٤٨
|
|
|
الوظيفة في ثوب المربية هو الغسل
|
٣٤٨
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
مدة العفو هو النهار خاصة أو هو مع
الليل؟
|
٣٤٨
|
ما يعتبر من العدد في الغسل بالجاري
والراكد الكثير
|
٣٦٢
|
الأفضل ان تجعل غسل الثوب آخر النهار
|
٣٤٩
|
ما يعتبر من العدد في تطهير غير الثوب
والبدن من البول وفي التطهير من غيره في غير الأواني
|
٣٦٣
|
العفو عن ما يتعذر ازالته من النجاسة
في البدن
|
٣٤٩
|
وجوب العصر في ما يرسب فيه الماء
|
٣٦٥
|
الوظيفة عند تعذر إزالة النجاسة عن
الثوب
|
٣٤٩
|
هل يتعدد العصر فيما يتعدد غسله؟
|
٣٦٧
|
إذا كانت النجاسة في الثوب والبدن
واختص التعذر بأحدهما أو كانت في أحدهما متفرقة أو مجتمعة وأمكن تقليلها
|
٣٥٣
|
هل يغني الجفاف عن العصر؟
|
٣٦٨
|
كيفية الصلاة عاريا
|
٣٥٤
|
هل يختص العصر بالتطهير بالقليل؟
|
٣٦٨
|
هل تجب الإعادة لو اضطر إلى الصلاة في
الثوب النجس؟
|
٣٥٤
|
هل يعتبر الدلك في تطهير الأجسام
الصلبة؟
|
٣٦٩
|
العفو عن نجاسة ثوب الخصي الذي يتواتر
بوله
|
٣٥٥
|
هل يعتبر الدق والتغميز في ما يتعذر
فيه العصر؟
|
٣٧٠
|
ما يعتبر من العدد في التطهير من
نجاسة البول
|
٣٥٦
|
كيفية تطهير الصابون والفواكه
|
٣٧٢
|
ما يعتبر من العدد في تطهير مخرج
البول
|
٣٦٠
|
كيفية تطهير ما انتقع في الماء النجس
|
٣٧٣
|
هل يعتبر الفصل في الغسل في ما يعتبر
فيه التعدد؟
|
٣٦١
|
حكم العجين الذي عجن بالماء النجس
|
٣٧٥
|
|
|
حكم المائع النجس مثل الدهن ونحوه
|
٣٧٦
|
|
|
كيفية تطهير الأرض
|
٣٧٨
|
|
|
كيفية تطهير الثوب المصبوغ بالمتنجس
المائع
|
٣٨٢
|
|
|
كيفية تطهير الثوب المصبوغ بالمتنجس
المائع
|
٣٨٤
|
|
|
هل يكفي الصب في بول الصبية؟
|
٣٨٥
|
|
|
تعريف الرضيع
|
٣٨٧
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الفرق بين الصب والغسل
|
٣٨٨
|
هل يعتبر في التطهير ورود الماء على
النجاسة؟
|
٣٩٨
|
حكم الصدوق بعدم وجوب الغسل بملاقاة
كلب الصيد
|
٣٩٠
|
اشتباه موضع النجاسة في الثوب الواحد
|
٤٠١
|
الامر بالنضح في مس الكلب جافا
|
٣٩١
|
إذا غسل نصف الثوب النجس وبقى نصفه
|
٤٠٣
|
الامر بالنضح في ملاقاة الخنزير جافا
|
٣٩٢
|
تردد النجاسة بين ثوبين
|
٤٠٤
|
الامر بالنضح في مباشرة الفأرة
|
٣٩٣
|
تردد النجاسة بين أزيد من ثوبين أو
كون النجس أزيد من واحد
|
٤٠٧
|
الامر بالنضح في ثوب المجوسي
|
٣٩٣
|
هل يجب في الواجبين المترتبين تقديم
جميع محتملات الأول على الثاني؟
|
٤٠٧
|
الامر بالنضح في الثوب والبدن عند
الشك في النجاسة
|
٣٩٤
|
لو تعددت الثياب وضاق الوقت عن
التكرار مطلقا "
|
٤٠٧
|
الامر بالنضح بوقوع الثوب على الكلب
الميت يابسا
|
٣٩٥
|
لو تعددت الثياب وضاق الوقت عن
التكرار مطلقا "
|
٤٠٧
|
الامر بالنضح في عرق الجنب في الثوب
|
٣٩٦
|
لو كان أحد الثوبين طاهرا والاخر نجسا
" معفوا " عنه
|
٤٠٨
|
الامر بالنضح في ذي الجرح في المقعدة
إذا وجد الصفرة بعد الاستنجاء
|
٣٩٧
|
لو فقد أحد المشتبهين
|
٤٠٨
|
الامر بالنضح في ثوب من يبول فيلقى من
ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل
|
٣٩٧
|
لو لم يجد إلا الثوب النجس ولا ضرورة
في لبسه ولا يقدر على غسله
|
٤٠٨
|
الامر بالنضح في ثوب من يبول فيلقى من
ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل
|
٣٩٧
|
الصلاة في النجاسة عالما عامدا "
|
٤٠٨
|
|
|
الصلاة في النجاسة مع الجهل بالحكم
|
٤٠٨
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الاخبار الدالة على بطلان صلاة العالم
العامد في النجاسة
|
٤١٢
|
بالشمس حال الجفاف
|
٤٤٩
|
الصلاة في النجاسة مع الجهل بها
|
٤١٣
|
لو جفت رطوبة النجاسة وبل الموضع بماء
وجف باشراق الشمس فهل يطهر؟
|
٤٥٠
|
الصلاة في النجاسة مع الظن بها
|
٤١٤
|
الباطن يتبع الظاهر في التطهير بالشمس
|
٤٥٠
|
الصلاة في النجاسة مع النسيان
|
٤١٨
|
إذا كانت النجاسة ذات جرم توقف
التطهير بالشمس على زوال جرمها
|
٤٥١
|
رؤية النجاسة في الصلاة مع العلم
بسبقها
|
٤٢٦
|
لو وضع حصيران نجسان أحدهما على الآخر
|
٤٥١
|
رؤية النجاسة في الصلاة مع عدم العلم
بسبقها
|
٤٢٧
|
من المطهرات الأرض
|
٤٥١
|
لو علم بالنجاسة المعلوم سبقها في
أثناء الصلاة وضاق الوقت عن الإزالة والاستئناف
|
٤٣٤
|
الاخبار الواردة في مطهرية الأرض
|
٤٥٣
|
لو وقعت عليه نجاسة في أثناء الصلاة
ثم زالت ولما يعلم
|
٤٣٦
|
تحقيق ما يطهر بالأرض
|
٤٥٤
|
لو صلى ثم رأى النجاسة وشك هل كانت
عليه في الصلاة؟
|
٤٣٦
|
لافرق في التطهير بالأرض بين المشي
والمسح والدلك
|
٤٥٦
|
من المطهرات الشمس
|
٤٣٦
|
هل تعتبر طهارة الأرض في حصول الطهارة
بها
|
٤٥٦
|
الروايات الواردة في مطهرية الشمس
|
٤٣٨
|
هل يشترط في حصول الطهارة بالأرض
جفافها
|
٤٥٨
|
هل يكفي في التطهير بالشمس الجفاف
بغيرها؟
|
٤٤٨
|
هل يكفي المسح بخشب ونحوه في التطهير
|
٤٥٨
|
هل الثمرة على الشجرة مما تطهره الشمس؟
|
٤٤٩
|
الأرض يطهر بعضها بعضا "
|
٤٥٨
|
المناط في النقل وعدمه في التطهير
|
|
هل تطهر النار ما احالته رمادا "
أو دخانا "؟
|
٤٥٩
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
هل يطهر الحطب المتنجس بصيرورته فحما؟
|
٤٦٣
|
هل تعتبر طهارة التراب في التطهير من
ولوغ الكلب؟
|
٤٨٠
|
هل يطهر الطين المتنجس بصيرورته خزفا
أو آجرا "
|
٤٦٣
|
هل يجزئ ما قام مقام التراب في إزالة
النجاسة عن المحل؟
|
٤٨١
|
هل يطهر العجين المعجون بماء نجس
بخبزه؟
|
٤٦٥
|
حكم اناء الولوغ إذا لم يوجد التراب
|
٤٨١
|
بيع العجين المعجون بماء نجس
|
٤٦٨
|
عدد الغسل بالماء عند فقد التراب
|
٤٨٣
|
من المطهرات الاستحالة
|
٤٧١
|
هل يعتبر تجفيف الاناء بعد الغسل
بالتراب والماء؟
|
٤٨٣
|
هل يطهر الكلب بصيرورته ملحا "؟
|
٤٧١
|
حكم اناء الولوغ أو خيف فساده
باستعمال التراب
|
٤٨٤
|
هل يعتبر كرية ماء المملحة في طهارة
الكلب بصيرورته ملحا "؟
|
٤٧٣
|
إذا ولغ كلبان أو كلاب في اناء واحد
|
٤٨٥
|
يعتبر في طهارة العذرة بصيرورتها
ترابا " كونها يابسة.
|
٤٧٣
|
كيفية التطهير من الماء الذي ولغ فيه
الكلب
|
٤٨٦
|
من المطهرات الانقلاب
|
٤٧٣
|
حكم غسالة اناء الولوغ
|
٤٨٦
|
كيفية تطهير الاناء من ولوغ الكلب
|
٤٧٤
|
لو وقعت في اناء الولوغ نجاسة بعد
غسله بعض العدد
|
٤٨٨
|
كيفية تطهير الاناء من ولوغ الكلب
|
٤٧٥
|
غسل اناء الولوغ بالماء الكثير
|
٤٨٩
|
عدد الغسل بالماء في التطهير من ولوغ
الكلب
|
٤٧٧
|
غسل الاناء من ولوغ الخنزير
|
٤٩٢
|
هل يعتبر تقديم التعفير في التطهير من
ولوغ الكلب؟
|
٤٧٧
|
غسل الاناء من نجاسة الخمر
|
٤٩٣
|
هل يعتبر في التعفير مزج التراب
بالماء؟
|
٤٧٨
|
غسل الاناء الذي تموت فيه الفأرة
|
٤٩٦
|
على القول باعتبار مزج التراب بالماء
هل يجزئ لو صار مضافا؟
|
٤٨٠
|
غسل الاناء الذي تموت فيه الفأرة
|
٤٩٧
|
|
|
أواني الخمر كلها قابلة للتطهير
|
٤٩٩
|
|
|
حكم أواني المشركين
|
٥٠٣
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
حكم أواني الذهب والفضة
|
٥٠٤
|
هل يجوز الانتفاع بجلد الميتة بعد
الدبغ على القول ببقائه على النجاسة؟
|
٥٢٢
|
هل تسرى الحرمة إلى المأكول والمشروب
في آنية الذهب والفضة؟
|
٥٠٧
|
هل يشترط في الانتفاع بجلد الحيوان
المذكى الدبغ؟
|
٥٢٢
|
الوضوء والغسل من آنية الذهب والفضة
|
٥٠٨
|
حكم الجلد المطروح
|
٥٢٦
|
هل يحرم اقتناء أواني الذهب والفضة؟
|
٥٠٩
|
الاخبار الواردة في الحمام
|
٥٢٨
|
حكم الأواني المفضضة والمذهبة
|
٥١٠
|
استحباب الاستحمام
|
٥٣١
|
هل يجب العزل عن موضع الفضة على القول
بالجواز؟
|
٥١٣
|
ما ورد من منع النساء من دخول الحمام
|
٥٣٢
|
هل يلحق الاناء المذهب بالمفضض؟
|
٥١٣
|
يجب على الداخل في الحمام ستر العورة
|
٥٣٢
|
هل تدخل المكحلة وظرف الغالية في
الاناء؟
|
٥١٤
|
حكم النظر إلى عورة غير المسلم
|
٥٣٣
|
جواز نحو الحلقة والقبضة من الذهب
والفضة
|
٥١٤
|
حكم دخول الرجل مع ابنه الحمام وهل في
ذلك فرق بين الامام وغيره؟
|
٥٣٤
|
جواز استعمال الأواني من غير الذهب
والفضة
|
٥١٥
|
الاغتسال عاريا مع وجود الناظر
المحترم
|
٥٣٤
|
الفروع المتفرعة على جواز اقتناء
أواني الذهب والفضة وعدمه
|
٥١٥
|
من لا يسلم عليه
|
٥٣٥
|
تحريم استعمال أواني الذهب والفضة
مشترك بين الرجال والنساء
|
٥١٥
|
آداب الدخول في الحمام
|
٥٣٦
|
جلد الميتة لا يطهر بالدبغ
|
٥١٥
|
كراهة التدلك بالخزف في الحمام
|
٥٣٦
|
هل يعتبر على القول بطهارة الجلد
بالدبغ طهارة ما يدبغ به؟
|
٥٢٠
|
جملة من المكروهات في الحمام
|
٥٣٧
|
|
|
الحمام يوم ويوم لا
|
٥٣٧
|
|
|
كراهة دخول الحمام على الريق
|
٥٣٨
|
|
|
قراءة القرآن في الحمام
|
٥٣٩
|
|
|
تحية الخروج من الحمام
|
٥٣٩
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
استحباب التنور
|
٥٤٠
|
حرمة حلق اللحية
|
٥٦١
|
حد استحباب التنور بحسب الأيام
|
٥٤١
|
هل يجوز حلق الشارب؟
|
٥٦٢
|
آداب استعمال النورة
|
٥٤٢
|
هل أفضلية القبضة في اللحية بالنسبة
إلى ما زاد خاصة؟
|
٥٦٢
|
حكم التنور يوم الأربعاء والجمعة
|
٥٤٣
|
استحباب التمشط
|
٥٦٢
|
استحباب غسل الرأس بالخطمي
|
٥٤٤
|
استحباب التمشط بالعاج
|
٥٦٣
|
استحباب غسل الرأس بالسدر
|
٥٤٤
|
كراهة التمشط من قيام
|
٥٦٤
|
التدلك بالدقيق بعد الثورة
|
٥٤٥
|
آداب التمشط
|
٥٦٥
|
الخضاب بالحناء بعد النورة
|
٥٤٦
|
استحباب السواك
|
٥٦٦
|
هل يختص استحباب الحناء بكونه بعد
النورة؟
|
٥٤٨
|
استحباب السواك عند عند كل صلاة
|
٥٦٨
|
استحباب الخضاب
|
٥٥٠
|
ما تدل عليه أخبار السواك
|
٥٦٩
|
كراهة نتف الشيب
|
٥٥٣
|
كراهة السواك في الحمام والخلاء
|
٥٦٩
|
استحباب جز الشعر واستئصاله
|
٥٥٣
|
استحباب قص الأظفار
|
٥٦٩
|
الاخبار الواردة في حلق الرأس
|
٥٥٤
|
استحباب قص الأظفار والاخذ من الشارب
يوم الجمعة
|
٥٧٠
|
استحباب اكرام الشعر
|
٥٥٥
|
استحباب قص الأظفار والاخذ من الشارب
يوم الخميس والسبت
|
٥٧١
|
هل السنة في شعر الرأس الحلق أو
التوفير؟
|
٥٥٦
|
كيفية الابتداء والاختتام في قص
الأظفار
|
٥٧٢
|
الحلق أفضل من التوفير في شعر الرأس
|
٥٥٧
|
الرخصة في أخذ الشارب والأظفار في كل
يوم
|
٥٧٢
|
ما ورد في اللحية والشارب
|
٥٥٩
|
استحباب دفن الشعر والظفر
|
٥٧٣
|
الافضل ابقاء الاحية الى حد القبضة
|
٥٦١
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
استحباب الكحل
|
٥٧٣
|
استحباب كون ميل الاكتحال من حديد
|
٥٧٦
|
الكحل المستحب هو الأثمد
|
٥٧٥
|
استحباب الطيب
|
٥٧٦
|
الأفضل في الاكتحال ان يكون وترا"
|
٥٧٥
|
استحباب التطيب بالمسك
|
٥٧٨
|
عدم وجوب غسل الكحل من العين وقت
الوضوء
|
٥٧٥
|
|
|
|