

الامام جعفر الصادق
عليه السلام :
«إيّاك أن تنصب رجلاً
دون الحجّة ؛
فتصدّقه في كلّ ما
قاله»
|
الكافي
ج ٢ ص ٢٩٨
باب
طلب الرئاسة ، الحديث رقم ٥
|
في البدء
منذ صعود المتوكّل إلى السلطة في ٢٣٢ هـ
ـ ٨٤٦ م استشرى الفساد والارهاب الحكومي ، وفي فترة مبكرة جدّاً من حكمه الذي
امتدّ إلى ١٥ عاماً تأسّس جهاز للأمن الخاص وجهاز للأمن العام الأوّل يراقب
المسؤولين والآخر يراقب أفراد الشعب.
وقد حصل المتوكّل على لقب «محيي السنّة»
بعد اطاحته بالمعتزلة الذين كانوا يسيطرون على مفاصل الدولة ؛ وفي طليعتها سلطة
القضاء واغلاقه ملف ما عرف تاريخيّاً بـ«محنة خلق القرآن» وتكريمه «أحمد بن حنبل»
وكان الأخير قد تعرّض لمعاملة قاسية في بغداد لرفضه القول بـ«خلق القرآن».
وما زاد في شعبيّة المتوكّل في بغداد
أوامره بانزال جثمان
«أحمد بن نصر الخزاعي»
الذي أعدم قبل شهور حيث قام الخليفة الواثق باعتقاله ؛ فسيق مخفوراً من بغداد إلى
العاصمة سامراء ؛ وقد استجوبه الخليفة شخصيّاً ونفذ فيه حكم الاعدام! وأمر بصلب
الجثمان في بغداد.
وقد اشترك المئات في تشييعه وربما
الآلاف ما يشير إلى أن تجربة المتزلة في الحكم واستغلالهم للدولة وابتداعهم «مسألة
خلق القرآن» واستشراء الفساد المالي والاداري افرز طاقة سلبيّة في العمق الاجتماعي
وجنوح إلى تبني الفكر السلفي المتمثل بالتيار الذي كان يقوده «أحمد بن حنبل» والذي
راح يتفاقهم يوماً بعد آخر.
وكان الامام علي بن محمّد الهادي قد
وجّه شيعته وأنصاره إلى عدم الانجرار وراء هذه الفتنة ، التي أحدثت مزيداً من
التصدّع الاجتماعي وأمرهم بعدم الخوض في الجدل المحتدم حول خلق القرآن والاكتفاء
في توصيفه بأنّه «كلام الله» فحسب.
من جانب آخر وجهت الدولة أجهزتها
باتّجاه اضطهاد
العلويّين من نسل
الرسول صلى الله عليه وآله وأتباع أهل البيت عليهم السلام وأنصارهم ؛ وقد استدعي
الامام الهادي وأجبر على مغادرة المدينة المنوّرة والحضور في سامراء ؛ حيث فرضت
عليه الاقامة الاجباريّة ليكون تحت المراقبة المباشرة وعيون رجال الأمن الخاص! كما
فرض على الامام الهادي عليه السلام منذ ذلك الوقت ارتداء الزي الأسود وهو الزي
الرسمي للدولة العباسيّة والحضور يومي الاثنين والخميس في قصر الخلافة!
وقد وصل الارهاب الحكومي والتشدّد في
التعامل مع شيعة أهل البيت عليهم السلام ذروته في الحظر الرسمي على زيارة مرقد أهل
البيت عليهم السلام ذروته في الحظر الرسمي على زيارة مرقد الامام الحسين سيّد
الشهداء عليه السلام في كربلاء ، وبالرغم من المنع الحكومي فقد كانت كربلاء تشهد
تدفق الزائرين خاصّة في منتصف شعبان من كلّ عام حتّى عرفت تلك الزيارة بـ«الحجّ».
وقد انتشرت هذه الظاهرة حتّى وصلت إلى
قصر الخليفة المتوكّل الذي تحوّل إلى طاغية ما انفك يقيم حفلاته الساهرة حيث
يستمتع احياناً بمشاهدة عروض مسرحيّة سخيفة تسخر
من رموز وائمة أهل
البيت عليهم السلام.
وصادف ذات ليلة أن طلب الخليفة حضور
احدى مطرباته الأثيرات فقيل له : انّها ذهبت للحجّ! وعندما استغرب من ذلك! قيل له
انّها ذهبت لتزور الحسين في كربلاء! الأمر الذي ضاعف من قلقه فأصدر أوامره بهدم
المرقد الطاهر وتخريب القبّة بل تحويل كربلاء إلى أرض جرداء.
وهي المهمّة التي امتنع المسلمون على
اختلاف طوائفهم من القيام بها وكذلك المسيحيّون وتبناها بعض اليهود بقيادة إبراهيم
الديزج الذي سيصبح قائداً للشرطة في سامراء!
وقد قامت السلطة بمعاقبة المسيحيّين
عقاباً جماعيّاً وهدمت بعض كنائيهم!
وما يثير التساؤلات ان المتوكّل ذهب في
مناصبته العداء لأهل البيت عليهم السلام حدوداً خطيرة حتّى انه قرّر اتّخاذ دمشق
عاصمة للدولة العبّاسيّة في سنة ٢٤٤ هـ ـ ٨٥٨ هـ
لكنّه يعدل
__________________
عن قراره بعد أسابيع
خوفاً من الوباء الذي عصف بها ؛ ولعلّه خوفاً من مؤامرات الضبّاط الأتراك في
سامرّاء حيث توجد معسكرات الجيوش العبّاسيّة والتي تشكّل العناصر التركية فيها
الغالبيّة الساحقة .
ولم تمض سوى بضعة أشهر على عودته إلى
سامراء قام المتوكّل بجريمته الاُخرى في قتل العالم الأديب الكبير يعقوب بن إسحاق
المعروف بـ«ابن السكّيت» وكان الأخير قد استقدم من بغداد للاشراف على تعليم أبناء
الخليفة فسأله الأخبر قائلاً :
ـ يا يعقوب! أيّهما أحبّ إليك ابناء
هذان ، أم الحسن والحسين؟!
فأجاب ابن السكّيت بشجاعة وبسالة :
ـ إنّ قنبراً خادم عليّ خير منك ومن
ابنيك!
فانقض عليه الجلاوزة وأشبعوه ركلاً على
بطنه واستلّوا
__________________
لسانه من قفاه ، ولفظ
أنفاسه بعد لحظات! ثمّ حمل جثمانه إلى بغداد ليوارى الثرى .
وفي عام ٢٤٥ هـ ـ ٨٥٩ م استنزفت خزانة
الدولة في بناء القصور وتأسيس مدينة جديدة شمال سامراء وشق نهر يتفرّع من دجلة كان
يعمل فيه اثنا عشر ألف عامل ؛ غير ان المشروع فشل لأسباب فنيّة ترتبط بطبيعة الأرض
والتضاريس ومع ذلك استمرّ العمل فيه ؛ بالرغم من مرور شهور طويلة! .
ويبدو ان المهندس المشرف على تلك
المشاريع «دليل بن يعقوب النصراني» على علم بما يجري في الخفاء وتحديداً الإعداد
لمحاولة انقلابيّة خطيرة بقيادة نجل المتوكّل محمّد (المنتصر) وكان والده قد قام
بالغاء ولايته للعهد واسنادها إلى «المعتز» بتأثير محظيته الحسناء «قبيحة».
ففي منتصف ليلة الثالث من شوال سنة ٢٤٧
هـ ـ الثامن من كانون الأوّل ٨٦١ م اقتحمت قوّة مؤلّفة من الضباط الأتراك
__________________
بقيادة «باغر» وانقضت
على الخليفة السكران ورئيس وزرائه الفتح بن خاقان وتقطّعهما ارباً ارباً وكان
المتوكّل يحضر لاغتيال ابنه «المنتصر» في يوم ٥ شوال! والاعلان عن تنصيب المعتز
وليّاً للعهد .
وبعد ستّة أشهر فقط اغتيل المنتصر بمبضع
مسموم! لتصبح الخلافة أُلعوبة بأيدي الضباط الأتراك الذين راحوا يتنازعون من أجل
الاستحواذ على المزيد من الثروات والنفوذ ما أدّى إلى نشوب الحرب الأهليّة اثر
هروب الخليفة المستعين إلى بغداد .
وفي إيران تمرّد ليث الصفّار ليؤسّس له
دولة داخل دولة وقد بلغ من تفاقم قدراته العسكريّة انّه استولى على مناطق شاسعة من
الشمال واتّجه جنوباً إلى فارس ، ثمّ هو الآن يستعد للزحف باتّجاه بغداد منتهزاً
انشغال الجيوش العبّاسيّة بمواجهة ثورة الزنوج في جنوب العراق!
__________________
وفي هذه الأجواء ولد محمّد بن يعقوب بن
إسحاق في قرية «كلين» جنوب الري (طهران).
تلقى تعليمه الابتدائي لدى والده الشيخ
يعقوب الكليني وكان من علماء الري المعروفين آنذاك وكذا خاله علي بن محمّد بن إبراهيم
وكان من أساتذة علم الحديث.
وقد دفعه حبّ العلم والمعرفة إلى أن
يشدّ الرحال إلى مدينة الـ«ري» التي تقع على بعد ٣٨ كم شمال قرية «كلين» وكانت
الري يومذاك حاضرة علميّة معروفة تنسب إليها الشخصيّات التي تحمل لقب «الرازي».
الله وحده المطّلع على القلوب! ترى هل
خطر على قلب ذلك الشاب انّه يودّع قريته «كُلين» إلى الأبد!
في مدينة الري
عندما وصل محمّد بن يعقوب الكليني مدينة
الري كان انتماء معظم سكّانها موزعاً بين المذهبين الحنفي والشافعي
وكان ثمّة وجود للشيعة القاطنين في
ضواحي «ري» وقد بدأ
شيعة أهل البيت
بالنفوذ داخل المدينة والتأثير في قناعات سكّانها بسبب ما امتازوا به من أخلاق
رفيعة وسلوك نبيل وبالتالي يصبع المذهب الامامي الاثني عشري جزءً من المعادلة!
كانت «ري» في تلك الفترة الزمنيّة من
حواضر الاسلام المعروفة حيث سادت فيها أفكار واتّجاهات مذهبيّة متباينة إلّا انّها
كانت تنعم بالاستقرار والهدوء والتعايش السلمي.
غير ان بعض الحركات السياسيّة التي كانت
تتّخذ من الدين غطاءً لم ترك هذا الاستقرار يستمرّ طويلاً ، فقد نشطت الفرقة
الاسماعيليّة فكريّاً واعلاميّاً بغية السيطرة على إيران ، فاتّخذت من الري قاعدة
أساسيّة في نشاطها الدعائي.
وحصل التصادم بينها وبين المذهب الشافعي
والحنفي وكذلك المذهب الإمامي أيضاً.
وفي هذه الفترة لم يتعرّف الكليني ـ
إضافة إلى تلقيه الدروس الدينيّة ـ على عقائد وأفكار وتوجّهات المذاهب والفرق
الاُخرى فحسب ؛ بل تسنّى له أيضاً أن يتعرّف على
بعض الفرق التي كانت
ترمي إلى حرف التشيّع عن مساره الحقيقي.
لقد تعرّف الكليني مبكراً على موضع
الداء كما انّه اكتشف الدواء! لقد كانت العلّة تكمن في ذلك الانفصال بين الناس
وأحاديث أهل البيت الكرام ، وكان الدواء بطبيعة الحال هو في ايصال هذه المعارف
السامية إلى عموم المسلمين.
ومن هنا انتخب الكليني طريقه وسار قدماً
بالرغم من صخب الحوادث وراح يبحث عن أحاديث أهل البيت ويدوّنها.
فقد تتلمذ في هذه الفترة على أيدي
أساتذة كبار في طليعتهم : «أبو الحسن محمّد بن أسد الكوفي»
الذي كان يقيم في مدينة الري.
ينبغي توصيف عصر الكليني بأنّه عصر
الحديث ذلك انّه شهد حركة واسعة جداً لتدوين الحديث وكان الرواة في ترحال
__________________
دائم يجوبون المدن
والحواضر العلميّة الرئيسيّة بحثاً عن الحديث الشريف والمحدّثين والرواة.
ولقد نشط علماء أهل السنّة في هذا
المضمار نشاطاً واسعاً جدّاً حتّى ان المجموعات الحديثيّة الكبرى إنّما تبلورت في
تلك الفترة وفي ذلك العصر ظهرت الصحاح الستّة الشهيرة.
إلى قم
كان طلب الحديث هاجس الكليني ، فقد عاش
في عصر تلامذة الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري عليهما السلام غير ان
اولئك الرجال لم يكن لديهم سوى مدوّنات حديثيّة محدودة جداً ، بل ان بعضها تعرض
للتلف في نفس الفترة.
واذن فقد كان الفناء والاندثار يهدّدان
ذلك الميراث الحديثي النفيس عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام
عليهم السلام فمع وفاتهم سوف يندرس الكثير والكثير جداً من الأحاديث الشريفة ؛
خاصّة وان عصر الغيبة الصغرى تزامن مع مولد الكليني تقريباً وكان الاتّصال بسفراء
الامام الغائب معقداً
بسبب الظروف
السياسيّة والاجتماعيّة السائدة في بغداد.
ومن هنا فقد عاصر الكليني حقبة زمنيّة
بالغة الحساسيّة كانت فيها الطائفة الشيعيّة بأمس الحاجة إلى ما يحصّنها ضدّ
التيارات الفكريّة والاستلاب ، سيّما تيار القرامطة الذين بدأوا يتشكّلون سياسيّاً
ويتحرّكون عسكريّاً في ثورات متتابعة.
لهذا شدّ الكليني الرحال إلى مدينة قم
التي كانت آنذاك احدى الحواضر العلميّة التي تزخر بالنشاط والحركة والحياة
الفكريّة.
وتعدّ مدينة قم في تلك الفترة مدينة
المحدّثين والرواة الشيعة وقد كانوا بالعشرات يملأون المساجد ، حيث تنعقد بهم
حلقات الدراسة والمعرفة وعلم الحديث وكانت تمتاز بوجود رواة ومحدّثين يروون على
نحو مباشر ومن دون واسطة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
وفي مدينة قم انتظم الكليني في حلقات
علم الحديث حيث تتلمذ على أيدي أبرز أساتذته وفي طليعتهم أحمد بن محمّد بن عيسى
الأشعري وأحمد بن إدريس القمّي المعروف
بـ«المعلّم» وعبد
الله بن جعفر الحميري مؤلّف كتاب «قرب الاسناد» ونجله محمّد بن عبد الله الحميري ،
وكان عبد الله بن جعفر على صلات وثيقة بالامامين الهادي والعسكري عليهما السلام
ومراسلات في ظروف صعبة ؛ وتذكر بعض المدوّنات ان مؤلّف «قرب الاسناد» كانت له
مراسلات أيضاً مع الامام الحجّة المنتظر عليه السلام.
وقد بلغ عدد الأساتذة الذين تلقى
الكليني عنهم علم الحديث خمسة وثلاثين راوياً ومحدّثاً كان لهم الأثر ولا شكّ في
بلورة شخصيّة الكليني.
غير ان اسماً يبرز ساطعاً يقترن
بموسوعته الحديثيّة الفريدة ألا وهو المحدّث والراوية الكبير علي بن إبراهيم
القمّي ، هذا الاسم الذي سيشغل التسلسل الثالث في سلسلة أسناد السفر الجليل «الكافي»
حيث روى الكليني عنه ما يناهز «٧١٤٠» حديث .
__________________
ولـ«علي بن إبراهيم» تفسير معروف باسمه
يعد في طليعته التفاسير لدى الشيعة الإماميّة.
ويمكن القول انّه لولا ملازمة الكليني
لهذه الشخصيّة لضاع قسم كبير من الأحاديث الشريفة ولضاع ميراث كبير.
انّ الله سبحانه شاء أن يبقى هذا
الميراث سالماً وقيّض لذلك رجلاً عالماً وأميناً أوقف سنوات حياته على تدوينه
الحديث الشريف واكتشف كنوزه المبعثرة هنا وهناك ، ولقد كان علي بن إبراهيم القمّي
واحداً من تلك الكنوز الحديثيّة الكبرى والكليني هو من كشف عنها وضبطها وأثبتها
وسجّلها لتكون ميراثاً ثقافيّاً فريداً.
إلى مدينة الكوفة
ومن قم المقدّسة شدّ الكليني الرحال إلى
مدينة الكوفة التي كانت في طليعة الحواضر والمراكز العلميّة والثقافيّة على
الاطلاق ، فقد كانت هذه المدينة تموج بحقول العلم والمعرفة وتزخر برجالات الفكر ؛
أجل كانت الكوفة في تلك الفترة
ميداناً رحباً للحوار
الثقافي والفكري بما نعمت به من حريّة فكريّة وحريّة في التعبير عن الرأي.
وفي مسجدها الكبير انعقدت حلقات الدراسة
والحوار وسرعان ما وجد الكليني ضالته في أحد كبار حفظة الحديث الشريف وهو «ابن
عقدة» الراوية الذي اتّخذ من مدينة الكوفة موطناً له.
وقد عرف ابن عقدة بذاكرة فريدة جعلته
آية من آيات الذكاء في العالم الاسلامي آنذاك .
وبالرغم من انتماء الأخير إلى المذهب
الزيدي في اتّجاهه الجارودي الّا ان زهده وتقواه جعله ثقة لدى الجميع في الرواية
والحديث لذلك كان الكليني يروي عنه.
التطوّرات السياسيّة
من المحتمل جدّاً أن يكون الكليني في
مدينة الكوفة أبان
__________________
حكومة المعتضد
المعروف بـ«السفّاح الثاني» الذي حكم الدولة العبّاسيّة بالحديد والنار ؛ وكان
يشرف على حفلات التعذيب الوحشيّة والاستجواب والتحقيق في القضايا الأمنيّة الخطيرة
، خاصّة التي تمسّ أمن النظام ؛ والمعتضد هو حفيد الطاغية المتوكّل أنشأ جهازاً
سريّاً للاغتيالات قبل تسنّمه الخلافة بعشرين سنة تقريباً وهو المتّهم الأوّل
باغتيال رئيس الوزراء عبيد الله بن يحيى بن خاقان سنة ٢٦٣ هـ ـ ٨٧٦ م في حادث سير
مفتعل!
والمعتضد هو من تشير إليه المدوّنات لدى
الشيعة الإماميّة بأنّه وجّه بعض رجاله إلى سامراء لاغتيال الإمام المهدي في سنة
٢٧٥ هـ ـ ٨٨٩ م ولذلك تشير بعض الكتب التاريخيّة إلى سنة ٢٧٥ هـ بأنّه العام الذي
دخل فيه الامام المهدي المنتظر «سرداباً في دار أبيه بسامراء ولم يخرج منه» .
وقد عاصر الكليني زهاء أربعين ثورة عصفت
بالدولة
__________________
العبّاسيّة وكان
أخطرها ثورة الزنوج في جنوب العراق والتي استمرّت زهاء ١٥ عاماً راح ضحيّتها نصف
مليون إنسان!
وقد استغلّ بعض الطموحين الظلم الذي
يصبه أصحاب الاقطاعيّات على الزنوج الافارقة الذين يعملون باستصلاح الأراضي وحماية
النظام العبّاسي للاقطاعيّين ففجّر ثورة عارمة عنيفة ورفع شعار المساواة بين
المسلمين وادّعى انّه ينتسب إلى أهل البيت عليهم السلام ووعد العبيد بالحريّة.
وقد انضمّ الأعراب في البوادي إلى
الثورة خاصّة من أبناء الجنود العرب الذين تمّ طردهم من المؤسّسة العسكريّة في عهد
المعتصم واحلال العناصر التركية بدلهم!
وقد هدّدت الثورة أمن الدولة واستنزفت
موردها غير ان «الموفّق» (والد المعتضد) قائد الجيوش العبّاسيّة والحاكم العسكري
في الدولة تمكّن في عام ٢٧٠ هـ ـ ٨٨٤ م من عبور نهر دجلة واختراق جميع التحصينات
والموانع المائيّة واحتلال عاصمة التمرّد «المختارة».
على ان فلول الافارقة العبيد الهاربين
سوف يصلون إلى
البحرين ومعهم بعض
الأعراب وتبدأ ارهاصات لاندلاع ثورة اُخرى هي ثورة «القرامطة» التي رفعت شعارات
مناهضة للظلم والاستبداد السياسي وتمكّنوا من إنشاء دولتهم في البحرين سنة ٢٨٦ هـ
ـ ٨٩٩ م وقد بدأ نفوذهم بالتنامي بسرعة مثيرة وسنجدهم يقومون باحتلال الحجاز
والتقدّم نحو الشام ومحاصرة دمشق لاحتلالها كما يهاجمون الكوفة أيضاً!
وقد تبنّى القرامطة بعض أفكار الخوارج
إلّا أنهم رفعوا راية الفرقة الإسماعيليّة التي تنادي بامامة إسماعيل بن الامام
جعفر الصادق عليه السلام وانتقالها إلى ابنه محمّد ، فتمكّنوا من اقامة دولتهم في
القطيف والبحرين واليمن ودخلوا في صراع مع الفاطميّين فهاجموا الشام ، كما خاضوا
حروباً في المناطق العراقيّة للاطاحة بالنظام العبّاسي وانتزاع الخلافة .
وفي مدينة بغداد تفاقم تيار متشدّد
جدّاً هو تيار الحنابلة وبدأ محاولاته في فرض أفكاره وآرائه بالقوّة والتحكّم
بالحياة الثقافيّة والاجتماعيّة.
__________________
وكانت الطائفة الشيعيّة تعاني الكثير من
الممارسات في ظل نظام قمعي يعتبرهم قواعد للدولة الزيديّة التي قامت في شمال إيران
وباتت تهدّد أمن الدولة العبّاسيّة.
وفي هذه الفترة كان الشيعة وبخاصّة
الزعامات الدينيّة والشخصيّات العلميّة تعيش حالة مكثفة من التقيّة ؛ لذلك لا نجد
أثراً ولا مؤشّراً يساعد على القول في وجود علاقة أو اتّصال بين الكليني وبين أيّ من
السفراء الأربعة.
وسنجد ما يشير إلى أن فكرة وجود الامام
المهدي الغائب ليست واضحة لدى الشيعة بحيث ان بعض علماء الشيعة في سنة ٢٨٣ هـ ـ
٨٩٦ م يقوم بالتحقيق في هذا الموضوع واجراء حوار مع السيّدة حكيمة بنت الامام
محمّد الجواد في المدينة المنوّرة فاقنعته بوجود الامام الثاني عشر .
وفيما كان القرامطة ينشرون الخوف في
أنحاء البلاد الإسلاميّة كان الحنابلة ينشرون الرعب في مدينة بغداد.
__________________
إلى العاصمة بغداد
لا يوجد تاريخ دقيق لوصول الشيخ محمّد
بن يعقوب الكليني مدينة بغداد وأغلب الظن انّه هاجر إلى بغداد في حوالي سنة ٢٩٤ هـ
ـ ٩٠٦ م ومن المحتمل ان الكليني ألّف كتابه «الردّ على القرامطة» في هذه الفترة
التي أثار فيها القرامطة الرعب في أنحاء عديدة من البلاد الاسلاميّة.
وبالرغم من الانفراج الذي حصل بعد وفاة
المعتضد في ظروف غامضة وقيام الخليفة المكتفي باجراءات جديدة من قبيل تدمير السجون
المغلقة واطلاق السجناء واعادة الممتلكات المصادرة وتقديم تعويضات ماليّة
للمتضرّرين ؛ إلّا انّ الشيعة ما يزالون يعانون من المضايقات في ممارسة شعائرهم
الدينيّة والاحتفال ببعض المناسبات التاريخيّة.
وقبل الاستطراد في الحديث عن وصول الشيخ
الكليني بغداد ونزوله في احدى دورها السكنية في شارع «درب السلسلة» القريب من
محلّة باب الكوفة ، نستعيد حادثة تاريخيّة وقعت في سنة ٢٨٦ هـ ـ ٨٩٩ م فقد رفع
تقرير خطير
إلى رئيس الوزراء
في حكومة المعتضد يشتمل على قائمة أسماء شخصيّات يتسلّمون مبالغ ماليّة بصفتهم
وكلاء لشخصيّة مجهولة ، بألقاب مختلفة من قبيل «الغريم» و «الناحية» ولخطورة هذا
التقرير يقوم رئيس الوزراء باطلاع الخليفة عليه! المعتضد يكلّفه بالكشف عن هذا
الشخص الغامض والقبض عليه.
رئيس الوزراء يوجّه استخبارات النظام من
خلال بث جواسيس ينتحلون عناوين مختلفة وأن لديهم أموالاً وحقوقاً شرعيّة فيّتصلون
بالوكلاء الواردة أسماؤهم في التقرير الأمني وكان من المقرّر القبض على أيّ منهم
في حالة تسلّمه المبالغ الماليّة أو «الحقوق الشرعيّة» المزعومة!
إلّا ان توقيعاً يصدر عن الناحية
المقدّسة إلى عموم الوكلاء من خلال السفير «محمّد بن عثمان الخلّاني» يتضمّن
توجيهاً بالامتناع عن استلام أيّ مبلغ مالي قد يصلهم.
__________________
وقد حاول بعض الجواسيس المستحيل مع أحد
الوكلاء إلّا انّه اصطدم بامتناع شديد واستنكار من هذا الالحاح في أمر لا علاقة به
ولا يعرف عنه شيئاً!
لقد أوردنا هذه الرواية لأنّ الشيخ
الكليني أثبتها ووثّقها في كتابه الشهير «الكافي» .
الكليني في بغداد
لقد سبق وصوله إلى بغداد وسكناه فيه
صيته عالماً ومحدّثاً وإنساناً تقيّاً ، وقد عبّرت الجماهير الشيعيّة عن ارتياحها
البالغ لوجوده في بغداد شاركتهم في ذلك شرائح اجتماعيّة متعدّدة ومخالفة لهم في
الانتماء المذهبي.
ومن المحتمل أن يكون قد ألّف كتابه «الردّ
على القرامطة» ـ الذين ما يزالون يشكّلون تهديداً ـ في هذه الفترة.
__________________
لقد أوقف الكليني حياته على تدوين
الحديث من منابعه الأصليّة إلّا ان ذلك لم يصرفه عمّا يدور حوله من قضايا عصره
وعمّا ابتلي به المسلمون وبخاصّة شيعة أهل البيت عليهم السلام ؛ ذلك انّه ليس من
اولئك الأشخاص الذين يجنحون إلى العزلة للنجاة بأنفسهم فيكونوا أقصى ما يكونوا
أناساً صالحين ، وإنّما يحاول أن يكون من المؤثّرين والمصلحين الذين يحملون هموم
المسؤوليّة ؛ ولذا كان يعيش في قلب الأعاصير الفكريّة التي كانت تضرب في عمق
الحياة الثقافية والفكريّة ؛ فتصدّى لكلّ الأفكار والتيارات الانحرافيّة ولم
يتردّد في نقد الفكر الاستلابي للقرامطة ويفنّد نظريّاتهم ؛ ولم يسكت ازاء عقائدهم
التي كانت مزيجاً غير متجانس من الفكر الإسلامي والفكر المانوي والزرادشتي .
وما لبث ان طار صيته في عموم بغداد
ليصبح المرجع الديني ليس للشيعة وحدهم وإنّما لأهل السنّة أيضاً على تعدّد
انتمائهم المذهبي.
__________________
فقد كان الجميع يرجع إليه في مشكلاتهم
الدينيّة وقضاياهم الشرعيّة فكانوا يأخذون بفتاواه ولهذا سنجد انّ الشيخ الكليني
يحظى بلقب فريد هو «ثقة الإسلام» وهو اللقب الذي اشتهر به آنذاك .
وفي أجواء تسودها الروح الطائفيّة
والتعصّبات المذهبيّة كان الكليني يمثّل مرجعيّة عامّة إلى حدّ كبير لجميع الطوائف
الإسلاميّة في مدينة لها ثقلها الرسمي والرمزي التاريخي.
الكافي
كانت بغداد بالنسبة للشيخ الكليني
مكاناً للتأليف ، وجد فيها فرصته ينتج فيها معارفه التي عانى الكثير في تحصيلها
وآن لتلك الشجرة الوارفة أن تؤتي اُكلها سيّما وهو يراقب عن كثب ما يعانيه شيعة
أهل البيت من مضاعفات غياب الامام الثاني عشر وتعذّر الاتّصال بسفرائه بسبب الظروف
التي تمرّ
__________________
بها بغداد.
ثمّة مؤشّرات وردت في مقدّمة كتابه الكافي
تفيد بأنّه تلقّى رسالة من صديق له يعيش في منطقة نائية وفيها يشكو ضياع العلم
وغربة العلماء وهيمنة التيارات السطحيّة ويتساءل عن إمكانيّة التديّن من دون
الاستناد إلى العلم مع الاقرار بجميع شؤون الدين من باب الاستحسان له وتقبّله
كميراث ثقافي وجزءً من التقاليد الموروثة؟! والاستناد إلى العقل في القضايا التي
تحتاج إلى موقف؟!
كما ذكر في رسالته تضارب الروايات
الواردة ؛ فتمنّى وجود كتاب يكون مرجعاً يشتمل على الأحاديث الموثقة التي تسهم في
ترشيد الفكر والعقيدة وعمليّة التصحيح ، في عصر كان يموج بالتيارات الفكريّة المتناقضة.
وهكذا جاء جهده المضني في مجموعة
حديثيّة كبرى تنطوي على تعاليم الاسلام الحنيف في اُصوله وفروعه ؛ لتكون نبراساً
للشيعة ومنهجاً ينظّم حياتهم الاجتماعيّة والدينيّة وضوءً كشّافاً يضيء الطريق
وتفسيراً لبعض الآيات في القرآن
الكريم فكانت اُصول
الدين في مجلّدين والفروع في خمسة مجلّدات ثمّ تأتي روضة الكافي في مجلّد واحد ،
ولتضمّ الجميع «١٦١٩٩» حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وآله الأطهار عليهم
السلام واستغرق جمعها وتبويبها زهاء عشرين سنة من عمره المبارك.
ويعدّ كتاب الكافي أثراً خالداً وفريداً
ليس في عصره فحسب بل وعلى مدى العصور ، وما أنجزه الكليني بمفرده في عشرين سنة قام
به ستّة من كبار علماء أهل السنّة في مئة عام! وقد عدّه علماء الشيعة في طليعة
الكتب الأربعة وأكثرها أهميّة في المذهب الامامي.
لذا يعد ظهور الكافي مرحلة جديدة في
حركة الحديث فهو أوّل كتاب تجمع فيه الأحاديث على هذا النحو من السعة والتبويب
بحيث نلاحظ انحسار حاجة الشيعة في مراجعة أربعمئة مصدر فيما يعرف بـ«الاُصول
الأربعمئة».
وقد انتهج الكليني اُسلوباً في ترتيب
الأحاديث في هذه المجموعة الكبرى من خلال جمعها في أبواب ، فالحديث
الأصحّ والواضح
يتصدّر الباب لتليه فيما بعد الأحاديث ذات الدلالة الغامضة .
كما ابتكر مفردة جديدة وفّرت عليه ذكر
سلسلة سند طويلة وهي «عدّة» التي ترمز إلى عدد من الرواة .
وقد أورد بعض العلماء في صدور تصريح عن
الامام المهدي صلوات الله عليه بشأن هذا الكتاب : «الكافي كافٍ لشيعتنا» .
وتعكس مقدّمة الكتاب اُسلوبه الأدبي
البليغ في التعبير عن فكره وعمق عقيدته الدينيّة إذ يقول بعد «البسملة» :
اَلْحَمْدُ
لِلهِ الْمَحْمُودِ لِنِعْمَتِهِ ، الْمَعْبُودِ لِقُدْرَتِهِ ، الْمُطَاعِ فِي
سُلْطَانِهِ ، الْمَرهُوبِ لِجَلالِهِ ...».
الَّذي
لا بَدْءَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ، وَلا غَايَةَ لِأَزَلِيَّتِهِ ...
__________________
عُرِفَ
بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ ، وَوُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ ، وَنُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ (١) ،
لا إِلهَ إلّا اللهُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ...
وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إِلهَ إِلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، إِلهاً وَاحِداً أَحَداً
صَمَداً ...
وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّداً صلّى اللهُ عَلَيه وَآله عَبْدٌ انْتَجَبَهُ ، وَرَسُولٌ
ابْتَعَثَهُ ...
وَأَنْزَلَ
إِلَيْهِ الْكِتَابَ ، فِيهِ الْبَيَانُ والتِّبْيَانُ :
(قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
قَد
بَيَّنَهُ لِلنّاسِ ...
فَبَلَّغَ
صلى الله عليه وآله مَا أُرْسِلَ بِهِ ...
تَوَفَّاهُ
اللهُ وَقَبَضَهُ إِلَيْهِ ...
وَخَلَّفَ
فِي أُمَّتِهِ كِتَابَ اللهِ ، وَوَصِيَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ وَأِمَامَ
الْمُتَّقِينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ، صَاحِبَيْنِ مُؤْتَلِفَيْنِ ، يَشْهَدُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالتَّصْدِيقِ ...
__________________
فَأَوْضَحَ
اللهُ تَعَالى بِأَئِمَّةِ الْهُدى مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيَّنَا عَنْ دِينِهِ ...
كُلَّمَا
مَضى مِنْهُمْ إمَامٌ ، نَصَبَ لِخَلْقِهِ مِنْ عَقِبِهِ إِمَامً بَيِّناً ،
وَهادِياً نَيِّراً ، وَإِمَاماً قَيِّماً ، يَهْدُونَ بِالْحَقِ وبِهِ
يَعْدِلُونَ ...
وفي هذه المقدّمة يشير في حديثه إلى
صديقه إلى أن طريق الخلاص يكمن بالتمسّك بالقرآن الكريم وبأئمّة الهدى من آل رسول
الله صلى الله عليه وآله ولذا فانّ الكليني يروي في الجزء الثاني ص ٢٩٨ حديثاً عن
الامام جعفر الصادق عليه السلام وهو قوله لأبي حمزة الثمالي :
«إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة فتصدّقه
في كلّ ما قال» .
وقد أصبح «الكافي» جزءً أساسيّاً من
البنية التحتيّة للفكر
__________________
الامامي فاستندت إليه
المرجعيّات الشيعيّة بدءً من التشيخ الصدوق ومروراً بالشيخ المفيد والشريف المرتضى
والشيخ الطوسي ، ثمّ فيما بعد الفيض الكاشاني والحرّ العاملي وانتهاءً بالفقهاء
والمرجعيّات المعاصرة.
قل عنه الشيخ المفيد : «هو أجلّ كتب
الشيعة وأكثرها فائدة».
وتابعه الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي
وسبط الشهيد الثاني الجبعي العاملي والفيض الكاشاني والشيخ محمّد باقر المجلسي ـ
مؤلّف موسوعة البحار ـ والبحراني والسيّد بحر العلوم والمحدّث النوري والخونساري
والمامقاني والشيخ عبّاس القمّي ـ مؤلّف مفاتيح الجنان ـ والشيخ آغا بزرگ الطهراني
ـ مؤلّف كتاب الذريعة ـ .
ولأهميّة الكتاب شرح أكثر من عشرين مرّة
، وقد انتشر منذ صدوره لأوّل مرّة واستنسخ وانتشرت نسخه المخطوطة في
__________________
أنحاء عديدة من
العالم الاسلامي يومذاك.
لذلك توجد نسخ مخطوطة في مكتبات العراق
وإيران ولبنان وسوريا والحجاز وافغانستان والهند يبلغ عددها أكثر من ١٦٠٠ نسخة
يعود تاريخ بعضها إلى القرن الرابع الهجري .
وبالرغم من علوّ شأنه الّا ان أحداً لم
يدّع بأنّه فوق النقد كذلك لم يدّع أحد العصمة للشيخ الكليني!
لذا فان ما يحز في النفس أن نرى بعض
المعاصرين اليوم يحاول التشويش على هذا التراث الحديثي الضخم باطلاق تصريحات
متشنّجة مفادها أن الكثير من الموروث الروائي الشيعي هو مدسوس ومنقول عن كعب
الأحبار ومن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة!!
هذه اللهجة لا تتبع عن موضوعيّة فلغة
العالم والمحقّق والباحث تكون في العادة هادئة .. لاحظ كيف يتحدّث أحد
__________________
أبرز المحقّقين
قائلاً عن الكافي :
«ففيه تجد الاُصول إلى جانب الفروغ مع
الروضة المعطاء التي جمعت أشتاتاً من الورود والرياحين ، بيد أنها لم تخل من أشواك».
ويستطرد قائلاً :
«على ان هذا لا يعني انّ جميع روايات
الكافي بهذه الصفة ، ول يعني صحّة جميع ما في أحاديث الكافي إذ وجد فيها ما هو على
غير هذه الصفة ، ولكن ليس من الانصاف أن تتّخذ بعض الأحاديث الضعيفة سنداً للطعن
والتشهير» .
وليس من المناسب الاسترسال في مناقشة
هذا الموضوع الآن .
التطوّرات في بغداد
في ذي القعدة سنة ٢٩٥ هـ تمّوز ٩٠٨ م
توفّي الخليفة
__________________
المكتفي بعد اصابته
باسهال شديد وكان قد نظم محضر قضائي في انتقال الخلافة إلى أخيه الصغير البالغ من
العمر ١٣ سنة حيث لقّب بـ«المقتدر».
وبعد مضي أربعة أشهر تآمر عليه بعض
القادة والموظّفين في القصر وبويع لـ«عبد الله بن المعتز» حفيد المتوكّل وقد عارض
رئيس الوزراء العمليّة الانقلابيّة ، فلقي مصرعه وبعد مضي ساعات حدثت حركة مضادّة
، وفرّ قائد العمليّة الانقلابيّة إلى الموصل واختفى عبد الله بن المعتز ، كما فرّ
«الحسين بن منصور الحلّاج» إلى جهة مجهولة ثمّ ظهر انّه قد فرّ إلى الشوش غرب
إيران بعد أن وجّهت إليه أصابع الاتّهام بأنّه يقف وراء المؤامرة!
وأُلقي القبض على المتآمرين وفي طليعتهم
ابن المعتز الذي حكم عليه بالاعدام وكذلك رئيس وزرائه ابن الجرّاح.
وضربت العواصف الثلجيّة بغداد حيث غطت
الثلوج معالم المدينة وتجمّدت المياه وقُضي على آلاف الأشجار.
وفي هذه الفترة ظهرت الدولة الفاطميّة
في شمال افريقيا
حيث تمكّن أبو عبد
الله الشيعي الاسماعيلي
من قهر الخوارج الاباضيّة والقضاء على الدولة الرستميّة واحتلال مدينة القيروان
أيضاً والقضاء على دولة الأغالبة ومن ثمّ يوجّه دعوة إلى عبيد الله المهدي لاستلام
مقاليد الحكم.
وفي هذه الفترة اتّصل الحسين بن منصور
الحلّاج بالزعيم الشيعي علي بن بابويه القمي (والد الشيخ الصدوق) محاولاً استغلال
الأوضاع التي يمرّ بها الشيعة ومضاعفات غياب الإمام المهدي المنتظر واستغلال البعض
قضيّة المهدويّة.
وقد سافر الحلّاج إلى مدينة قم واللقاء
مع الزعيم الشيعي واثقاً من قدراته في التأثير عليه ؛ غير ان ابن بابويه أمر بطرده
على نحو مهين فعاد إلى بغداد ليجرّب حظّه مع شخصيّة اُخرى تحظى باحترام الشيعة
فوجّه إليه رسالة جاء فيها :
ـ «إني وكيل صاحب الزمان ، وقد أمرت
بمراسلتك» وذكر له أنّ الامام أمره بمساندة النوبختي ؛ غير أن الأخير سخر منه
__________________
في مجالسه ، ووجّه
إليه رساله أن يظهر له كرامة تكون دليلاً على دعواه من قبيل اعادة السواد إلى
لحيته البيضاء! أو معالجة الصلع في رأسه .
وبذلك لم تنطل شعوذته على أبناء الطائفة
الشيعيّة في حين وجد له أتباعاً بالآلاف لدى أتباع المذاهب الاسلاميّة الاخرى.
وقد احدثت شخصيّة الحلّاج انقساماً في
الأوسااط الشعبيّة البغداديّة وأثارت جدلاً واسعاً بين من يقول بأنّه ولي من
أولياء الله وبين من يتّهمه بالسحر والشعوذة!
ثلوج وحزات وحوادث في
الكوفة
وفي شهر رمضان ٢٩٩ هـ شباط ٩١٢ م عصفت
بمدينة الكوفة رياح سوداء مظلمة وهطلت الثلوج بغزارة أعقبتها هزات أرضيّة انهارت
أثرها دور سكنيّة عديدة وسقوط ضحايا .
__________________
وفي ذي القعدة ـ نيسان من نفس العام
وقعت اشتباكات بين العلويّين بزعامة أبي الحسن علي بن إبراهيم العلوي والعباسيّين
في هذه المدينة على خلفيّة قيام علي بن إبراهيم ببناء مسقف فوق دكّة القضاء
في ساحة مسجد الكوفة للمحافظة على هذا الأثر المقدّس.
وقد استفز البناء العباسيّين الذين
يحتمل انتاؤهم إلى المذهب الحنبلي وقاموا بتدميره ، ثمّ اتّجهوا إلى مرقد الامام
أمير المؤمنين علي عليه السلام لهدمه أيضاً! ومع سقوط أوّل ثلمة من الجدران تصدّى
لهم الطالبيّون وحدثت اشتباكات بين الفريقين سقط فيها قتيلان من الجانبين.
أمر حاكم الكوفة بالقبض على العديد من
الشخصيّات العلويّة فاعتقلوا مع أسرهم وسيقوا مقيّدين إلى بغداد للتشهير بهم
وسجنهم. غير ان رئيس الوزراء علي بن الفرات أمر باطلاقهم واعتذر إليهم ليعودوا إلى
الكوفة
وإذا به يقال من
__________________
منصبه بعد أيّام
وتعيين علي بن عيسى الجراح في منصبه .
وفي سنة ٣٠٣ هـ ـ ٩١٥ م قتل الحافظ
والمحدّث أحمد بن علي النسائي على أيدي متعصبين أمويين في دمشق ؛ وكان النسائي قد
ألّف كتابه «خصائص أمير المؤمنين علي عليه السلام» بعد أن لاحظ الصورة المشوهة
للامام عليه السلام لدى الرأي العام ؛ فطالبه بعض المتعصّبين بتأليف كتاب حول
فضائل معاوية! فأجابهم بشجاعة انّه لم يجد له فضيلة إلّا حديث رسول الله وقوله :
لا أشبع الله بطنه!
فانهالوا عليه بالضرب المبرح والركل
وترحيله من دمشق فغادرها محمولاً وكانت صحّته تتدهور بسرعة حتّى انه ما إن وصل
مكّة حتّى توفّي إلى رحمة الله .
وشهد هذا العام نشوب حرائق في بغداد ،
وقيام بعض سكّانها بقتل أسرى الأعراب الذين يهاجمون قوافل الحج.
__________________
وفي عام ٣٠٤ قام الخليفة المقتدر بتغيير
وزاري جديد حيث أقيل الجرّاح وزج في السجن وأُعيد ابن الفرات إلى رئاسة الوزراة.
وشهد هذا العام ٩١٧ م وصول وفد روماني
رفيع المستوى لتوقيع معاهدة سلام وتهدئة ، حيث نظم احتفال كبير جداً كلّف الدولة
مبالغ كبيرة ، كما تمّ الاتّفاق على اطلاق الأسرى المسلمين مقابل فدية مالية كبيرة
.
وفي هذا العام انتهت السفارة الثانية
وبدء السفارة الثالثة وكان الشيخ محمّد بن عثمان الخلّاني قد بدأ منذ أعوام بتوجيه
الوكلاء إلى الحسين بن روح من أجل التمهيد لقبول سفارته ؛ ومع ذلك فقد وصل بغداد
الشيخ علي بن بابويه للتأكّد بنفسه من صحّة سفارة ابن روح.
وافتتح مستشفى «بيمارستان» في بغداد حيث
اسندت رئاسته إلى العالم الكبير محمّد بن زكريا الرازي.
__________________
وفي جمادي الاُولى ـ تشرين الأوّل ٩١٨ م
أقال المقتدر علي بن الفرات من رئاسة الوزراة وصادر أمواله وزجه في السجن ليعيّن
بدله حامد بن العباس فيما تقوم «شغب» والدة الخليفة التي تتدخل في شؤون الدولة
بتعيين خادمتها «ثمل» للنظر في قضايا الاستئناف واصدار الأحكام إلى القضاء! كما
تقوم بتعيين الخادم «ثمال» قائداً للاسطول في البحر المتوسط!
الحنابلة يثيرون الاضطرابات ويهاجمون
أتباع المذاهب الاُخرى وعصابات اللصوص تستغل حالة انعدام الأمن وتقوم بعمليّات سلب
ونهب واسعة في وضع النهار.
تورّط رئيس الوزراء ووالدة الخليفة في
أكبر عمليّة احتكار للغلال تفضي إلى ارتفاع الأسعار على نحو جنوني يثير غضباً
شعبيّاً عارماً حيث هوجمت السجون والمعتقلات واطلق من فيها واحرقت بعض الجسور
وهوجم موكب الخليفة بالحجارة
__________________
والأخير يأمر بفتح
مخازن الغلال العائدة لوالدته ورئيس الوزراء وعرض ما فيها في الأسواق فتهبط
الأسعار .
القرامطة يقتحمون مدينة البصرة ويقومون
بجرائم قتل وسلب ونهب.
وفي عام ٣٠٩ وصل وفد بلغاري يحمل طلباً
ملكياً بارسال بعثة للتعريف بالدين الاسلامي .
__________________
البدء بمحاكمة الحلّاج الذي اعتقل عام
٣٠١ في إيران واعيد مخفوراً إلى بغداد وبعد عدّة جلسات صدر الحكم باعدامه صلباً
واحراق جثمانه بتهمة الزندقة والالحاد.
وبعد عدّة شهور هام اُلوف الحنابلة دار
المفسّر والمؤرّخ الشهير محمّد بن جرير الطبري
بالحجارة حتّى تكوّن تل
__________________
كبير أمام الدار.
ومن المحتمل جداً أن يأتي الهجوم بتحريض
من البربهاري زعيم الحنابلة المتشدّد ، وقد جاء الهجوم على خلفيّة صدور كتابه «اختلاف
الفقهاء» ولم يذكر شيئاً عن أحمد بن حنبل ما يعني أن الأخير لا يعتبر فقيهاً! وعند
ما سئل عن ذلك أجاب بصراحة : إنّما كان أحمد بن حنبل محدّثاً ولم يكن فقيهاً
مجتهداً!
واجتمع به عدد من الحنابلة وسألوه عن
أحمد بن حنبل وعن روايته لحديث مفاده انّ الله يبعث النبي صلى الله عليه وآله
مقاماً محموداً
__________________
وهو أن يجلسه على
يمينه فوق العرش؟!
فقال الطبري : ان هذا مستحيل!
سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه
جليس.
وأمّا ابن حنبل ؛ فإنّي ما رأيته روي
عنه ولا له أصحاب يعوّل عليهم فرشقوه بمحابرهم ونهضوا ؛ وما لبث أن تجمع الآلاف من
أتباع المذهب الحنبلي وراحوا يرمون الدار بالحجارة.
ما أخطر قائد الشرطة أن يقود عشرة آلاف
من قوّاته لحماية الرجل الذي بلغ السادسة والثمانين حيث رابطت يوماً كاملاً ونقلت
الحجارة عن داره!
وصدرت فتوى بتكفير الطبري والحكم
بالحاده!
وسرعان ما توفي في شوّال كانون الأوّل
٩٢٢ م حيث دفن في داره خوفاً من أعمال انتقاميّة قد يقوم بها متطرّفون!
الشلمغاني صعود وسقوط
وبسب الظروف الصعبة التي كانت تلفّ
بغداد وتفاقم عنف وخطر تيار الحنابلة اضطر السفير الثالث الحسين بن روح إلى
التقليل من ارتباطه بشيعة أهل البيت ، وتعميق دور شخصيّة علميّة بدأت بالصعود هو
محمّد بن علي الشلمغاني ، فكان الوسيط بين السفير وأبناء الطائفة حتّى أصبح المرجع
العام لهم ، ولم يعد السفير يلتقي أحداً أو يقابل وفداً.
وفي هذه الفترة ألّف كتابه «التكليف»
الذي قرأه السفير بدقّة قبل أن يوقع على صحّته والترخيص باستنساخه.
وعندما ألّف كتابه الآخر «التأديب» قام
السفير بارساله إلى علماء قم للنظر فيه ، وجاء الجواب بصحّته باستثناء مورد يختصّ
بزكاة الفطرة الأمر الذي دفع بالسفير إلى اعادة النظر في كتاب «التكليف» ؛ فوجد
بعض الاشكالات في موضوع الشهادة واسناد رواية مزورة إلى الامام موسى الكاظم عليه
السلام.
ولأسباب ما تزال غامضة بدأ الشلمغاني
يستغل موقعه الفريد خاصّة بعد اعتقال السفير في مطلع عام ٣١١ هـ صيف
عام ٩٢٣ م حيث أودع
في سجن خاص داخل قصر الخلافة!
وهكذا أصبح الشلمغاني زعيم الشيعة
والشخصيّة الأولى لديهم ، وكانت معظم زياراته لأسرة آل بسطام التي تتمتّع بنفوذ
كبير!
وفي هذه الفترة بدأ يصرّح على نطاق سرّي
للغاية بأفكاره الخطيرة خاصّة في مضمار حلول الأرواح المقدّسة في بدنه!! وفي عام
٣١٣ هـ ـ ٩٢٦ م حصل تغيير وزاري جديد .
وقد توفّي أبوبكر الرازي الذي كفّ بصره
ورفض اجراء عمليّة جراحيّة قائلاً : لقد أبصرت من الدنيا حتّى مللت!
ومن المفارقات انّه توفي فقيراً! بعد
كلّ ما قدمه من خدمات للانسانيّة ، بينما كان المسؤولون الحكوميّون ـ وبعضهم لا
يتمتّع بأيّة مؤهّلات ـ يعيشون حياة مخمليّة كما هو الحال في رئيس الوزراء السابق
المعتقل «ابن الخاقاني» الذي حوكم على خلفية فشله الاداري والاقتصادي والامني!
__________________
وفي هذه الفترة عم الخوف سكّان بغداد
بعد وصول أنباء سقوط الأنبار بأيدي القرامطة التكفيريّين واستعدادهم لمهاجمة بغداد
وبدأ الكثيرون يفكّرون بالفرار إلى مدينة همدان.
وفي غمرة الرعب الذي عمّ بغداد ألقي
القبض على جاسوس يعمل لحساب القرامطة وقد أشرف رئيس الوزراء على استجوابه وقد
اعترف الرجل فوراً بأنّه يؤمن بمشروعيّة القرامطة وأنهم على الحق وان الخليفة ومن
معه كفاراً وغاصبين للسلطة! كما هاجم الشيعة الاثني عشريّة وانتقدهم على إيمانهم
بامام غائب! قائلاً :
ـ ولابدّ من حجّة الله في أرضه ،
وإمامنا المهدي محمّد بن أحمد بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم في بلاد
المغرب .. اننا لسنا كالرافضة والاثني عشريّة الذين يقولون بجهلهم انّ لهم إماماً
ينتظرونه!
ويبدو أنّ موجات من الشكّ كانت تعصف في
الأوساط الشيعيّة العامّة في تلك الفترة أشار إليها تلميذ الشيخ الكليني
«محمّد بن إبراهيم
النعماني» مؤلّف كتاب «الغيبة» إذ يقول في المقدّمة :
«... فهدانا الله عزّ وجلّ بمحمّد صلى
الله عليه وآله من الضلالة والعمى وأنقذنا به من الجهالة والردى وأغنانا به وبما
جاء به الكتاب المبين وما أكمله لنا من الدين ودلّنا عليه من ولاية الأئمّة
الطاهرين الهادين ، من الآراء والاجتهاد ووفّقنا به وبهم إلى سبيل الرشاد».
«أمّا بعد ؛ فإنّا رأينا طوائف من (الأوساط)
المنسوبة إلى التشيّع المنتمية إلى نبيّها محمّد وآله صلى الله عليه وآله ممّن
يقول بالامامة ... قد تفرّقت كلمتها وتشعّبت مذاهبها واستهانت بفرائض الله عزّ
وجلّ وحنت إلى محارم الله تعالى ؛ فطار بعضها علوّاً وانخفض بعضها تقصيراً
وشكّوا جميعاً إلّا القليل في إمام زمانهم ووليّ أمرهم وحجّة ربّهم ... للمحنة
الواقعة بهذه الغيبة التي سبق من رسول الله صلى الله عليه وآله ذكرها وتقدّم من
أمير المؤمنين عليه السلام خبرها».
__________________
ثمّ يورد حديثاً عن الامام الصادق عليه
السلام يقول فيه :
«من دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه
الرجال كما أدخلوه ، ومن دخل فيه بالكتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن يزول» ويعزو
السبب في هذا التشرذم إلى اهمال أحاديث أهل البيت عليهم السلام ثمّ يورد حديثاً
آخر للامام الصادق يتضمّن المعيار في معرفة مدى قرب العالم الديني من أهل البيت :
«أعرضوا منازل شيعتنا عندنا على قدر
روايتهم عنّا وفهمهم منّا».
وحدّد النعماني أسباب الانحراف في نقاط
منها غياب الاصالة في التفكير فيهتز ايمان الشخص لدى أوّل شبهه تعترضه اضافة إلى
سبب آخر أقوى يكمن في الهدف الدنيوي لدى البعض واستخدام الدين وسيلة من أجل تحقيق
موقع اجتماعي أو من أجل تكوين الثروة اضافة إلى ضعاف الايمان الذين ينهارون في
المحن وأيّام القهر والاضطهاد.
وفي هذه المقدّمة يورد رواية عن الامام
علي عليه السلام ان يوم الخلاص لن يشرق «حتّى يتفل بعضكم في وجوه بعض وحتّى
يسمّي
بعضكم بعضاً كذّابين وحتّى لا يبقى منكم على هذا الأمر (الايمان بوجود الامام
المهدي الغائب) إلّا كالكحل على العين والملح في الطعام».
وروي عن أبي عبد الله الصادق عليه
السلام انّه قال :
«والله لتمحصنّ والله لتطيرنّ يميناً
وشمالاً حتّى لا يبقى منكم إلّا كلّ امرئ أخذ الله ميثاقه وكتب الايمان في قلبه
وأيّده بروح منه» .
هذا هو منهج الشيخ الكليني ؛ التمسّك
بالقرآن الكريم وبروايات أهل البيت عليهم السلام التزاماً بالحديث النبوي الشريف :
«إنّي
تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي
أهل بيتي وانّهما لن يفترقا».
ولهذا فانّ السمات البارزة في كتابه «الكافي»
والمهمّة «الاكثار من الاستدلال بالشواهد القرآنيّة لا سيّما في كتاب الاُصول ،
حيث تضمّنت أحاديثه مئات الآيات القرآنية بهدف
__________________
بيان التوافق بين
الأحاديث والقرآن أو العترة والكتاب» .
وفي تلك الفترة ٣١٦ هـ ـ ٩٢٧ م ساد
الذعر مدينة بغداد بسبب أنباء مروّعة حول هزائم الجيوش الحكوميّة أمام القرامطة في
أنحاء عديدة من العراق واستغلال عصابات أو ما يعرف آنذاك بـ«العيارين»أجواء الرعب
ليقوموا بأعمال سلب ونهب ما أضطر قائد الشرطة إلى فرض حالة منع التجوّل ليلاً.
وفي مدينة الكوفة ظهرت حركة جديدة تعلن
تأييدها للقرامطة خاصّة بعد الاعلان عن ولائهم للمهدي زعيم الدولة الفاطميّة.
المقتدر يجري عمليّة تغيير وزاري جديدة!!
وقوّات من الجيش والشرطة تقوم بعمليّة انقلابيّة تطيح بالمقتدر وتوقيع الأخير على
وثيقة التنازل عن السلطة لصالح أخيه غير الشقيق الذي مُنح لقب «القاهر» ؛ غير أن
فرقة في سلاح المشاة تحرّكت ضد الانقلاب بعد يومين فقط واعتقلت قادة العمليّة
__________________
الانقلابيّة واُعيد
المقتدر إلى سدّة الحكم فيقوم الأخير باعتقال أخيه وفرض الاقامة عليه في قصر
والدته «شغب».
صدور «الكافي»
وفي هذه الفترة صدر كتاب «الكافي» أولى
وأضخم الموسوعات الحديثيّة لدى الاماميّة حيث فرغ الشيخ الكليني من تبويبه فصدر في
وقت وصل فيه الاحتقان الطائفي مستوى خطيراً حيث بلغ الحانابلة مرحلة الطغيان
وراحوا يحاولون فرض آرائهم وأفكارهم على المجتمع بالقوّة!
فقد أثار الحنابلة فتنة طائفيّة على
خلفيّة تفسير الآية الكريمة : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) .
فقد نادى كلّ من اتباع أبي بكر المروزي
والشيخ
__________________
البربهاري
ووفقاً لروايات أحمد بن حنبل : ان الله سبحانه يجلس النبي صلى الله عليه وآله يوم
القيامة على يمينه فوق العرش!
وهاجمت جموع من غوغاء الحنابلة مؤسّسات
علميّة تابعة للمعتزلة والشيعة الاماميّة وما زاد الاُمور سوءً تورّط بعض الجنود
الحنابلة واستخدام السلاح! حيث حصلت اشتباكات دامية أسفرت عن سقوط العديد من
الضحايا والمقتدر يقوم بتغيير وزاري جديد !
وكانت المؤامرات ما تزال تعصف ببغداد
حيث زحف المنشقّون من الموصل واحتلوا العاصمة ولقي المقتدر مصرعه واعتقلت والدته «شغب»
التي تعرّضت لتعذيب وحشي لم يتوقّف إلى أن استجابت لمطالب في الكشف عن جميع
ممتلكاتها.
__________________
حاول القاهر الحصول على قاعدة شعبيّة فأصدر
أمراً بتحطيم الآلات الموسيقيّة في القصر ومنع تعاطي الخمر ، وكان يفكر بالاستفادة
من الأسرى القرامطة في ضرب خصومه الأمر الذي أثار مخاوف بعض كبار الضباط في
المؤسّسة العسكريّة.
وبالرغم من تحذيرات رئيس وزرائه من وجود
عمليّة انقلابيّة ستنفذ في فجر السادس من جمادي الاُولى ٣٢٢ هـ ـ نيسان ٩٣٤ م غير
ان الخليفة كان في حالة سكر شديد ؛ فلم يصحو إلّا على صيحات الجنود الذين اقتحموا
القصر وحاول الفرار إلى سطح القصر الّا انّه كان صيداً سهلاً إذ سرعان ما قبض عليه
وانهالوا عليه بالضرب ليكشف عن مكان اعتقال أحمد بن المقتدر ، فاطلق وأجلس على
العرش ولقّب بـ«الراضي بالله».
وفي هذه الفترة بدأت ارهاصات ظهور الحكم
البويهي في إيران الذي حظي باعتراف بغداد.
وكان الشيخ الكليني مستمراً في مزاولة
عمله في التدريس حيث كان في طلليعة تلامذته الفقيه الشافعي محمّد بن إبراهيم
بن يوسف الكاتب حصل ،
الذي على اجازة من استاذه في الرواية وهي أعلى شهادة في علم الحديث.
وقد اجرى الراضي تغييرات واسعة في أجهزة
الحكم وفي هذا العام قرّر الشلمغاني الظهور في بغداد من جديد متحديّاً الحسين بن
روح الذي عمّم في أوساط الشيعة اللعن الذي صدر بحقّه من قبل الامام المهدي الغائب!
وقد دفع الجدل برئيس الوزراء «ابن مقله»
إلى أن يعقد في قصره اجتماعاً ضم العديد من الشخصيات الاماميّة حيث حضر الشلمغاني
الذي استغل غياب السفير الحسين بن روح فاطلق تصريحه المثير : اجمعوا بيني وبينه
حتّى آخذ بيده ويأخذ بيدي! فان لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه ، فجميع ما قاله
فيّ حقّ!!
وتمادى الشلمغاني في انحرافه وادّعى
حلول اللاهوت في جسمه!
ثمّ كشف عن حقيقته في حديث له مع محمّد
بن أحمد الكاتب الاسكافي عند ما اتّهم السفير الثالث بأنّه لا يختلف
عند كثيراً في
التهافت على زعامة الشيعة قائلاً :
ـ ما دخلت مع أبي القاسم «الحسين بن روح»
في هذا الأمر إلّا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه! لقد كنّا نتهارش على هذا الأمر كما
تتهارش الكلاب على الجيف .
وقد حوكم الشلمغاني بسبب أفكاره في
امكانيّة حلول الله في كلّ انسان على قدره ؛ وادّعائه الالوهيّة وقد ثبتت عليه
التهمة الأخيرة بالرغم من انكاره وحكم عليه بالاعدام كما احرقت جثّته .
وفي هذه الفترة العصيبة روى الشيخ
الكليني خبر الرسالة الجوابيّة التي تلقّاها إسحاق بن يعقوب (أحد أساتذة الشيخ
الكليني) من الامام المهدي عليه السلام من خلال سفيره الثاني محمّد بن عثمان
العمري (في أواخر سفارته) وقد تضمّنت ما يلي :
ـ البراءة ممّن ينكرون وجود الامام
الغائب حتّى لو كانوا ينتسبون إلى أهل البيت عليهم السلام.
__________________
ـ تكذيب للوقّاتين حول يوم الخلاص.
ـ «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها
إلى روّاة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم».
ـ «وأمّا الخمس فقد اًبيح لشيعتنا
وجُعلوا منه في حلّ إلى وقت ظهور أمرنا».
ـ «وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي
فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب».
ـ «واني لأمان لأهل الأرض كما انّ
النجوم أمان لأهل السماء» .
ولم ترد هذه الرواية في كتاب «الكافي»
لأنّه كان قد صدر قبل ذلك بسنوات.
ولهذا من المحتمل جداً وجود علاقة على
نحو ما بين الشيخ الكليني والامام المهدي عليه السلام وان «الكافي» تمّ تصويبه
__________________
من قبل الامام الغائب
عليه السلام .
اضطرابات وحوادث شغب
وفيما كان الصراع على مراكز النفوذ في
بغداد محتدماً تدفق آلاف الحنابلة إلى الشوارع والأزقة بذريعة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر معتبرين أنفسهم المذهب الوحيد الذي يمثل شريعة الإسلام!
وعمّ الخوف العاصمة بغداد بعد اقدام
المتطرّفين على تحطيم الأبواب واقتحام الدور السكنيّة والبحث عن الخمور والآلات
الموسيقيّة ، فاذا وجدوا شيئاً من ذلك انهالوا على صاحب الدار بالضرب المبرّح
وحطموا الآلات الموسيقيّة وبعض الأتات المنزلي ، ونصبوا سيطرات التفتيش في المعابر
ومنافذ الطرق وحظروا على الرجال اصطحاب الأطفال دون
__________________
سنّ البلوغ وكذلك
اصطحاب النساء إلّا من يحمل وثيقة زواج!!
فاذا رفض الرجل الانفصال عن ابنه احضروا
شهوداً على الفور بأنّه يريد ارتكاب أعمال غير أخلاقية مع الصبي!
وسادت الفوضى بغداد فاضطر الخليفة إلى
اعلان حالة الطوارئ والحظر على التجمعات المذهبيّة ، وقد واجه الحنابلة الأوامر
الحكوميّة بالرفض وراحوا يهاجمون أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام وأتباع المذهب
الشافعي باعتبارهم كفّاراً خارجين عن الاسلام!
غير ان قوّات الشرطة سيطرت على الأوضاع
وأعادت الهدوء إلى المدينة وصدر عن قصر الخلفة بيان شديد اللهجة اذيع من فوق منابر
المساجد جاء فيه :
ـ تارة انّكم تزعمون ان صور وجوهكم
القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين (١) وهيئتكم الرذلة وتذكرون الكف
__________________
والاصابع والرجلين
والنعلين المذهّبين والشعر القطط والصعود إلى السماء والنزول للأرض (بعض توصيفات
الحنابلة لله سبحانه وتعالى) ، تبارك الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً
كبيراً.
ثمّ طعنكم على خيار الأئمّة ونسبتكم
شيعة آل محمّد صلى الله عليه وآله إلى الكفر والضلال ... واستنكاركم زيارة قبور
الأئمّة وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع (اتّهام الزوّار بالخروج عن عقيدة الاسلام)
وأنتم مع ذلك تختمون عل زيارة قبر رجل من العوام (أبو بكر المروزي من تلامذة أحمد
بن حنبل المقرّبين) ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله صلى الله عليه وآله
وتأمرون بزيارته وتدّعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء.
وفي سنة ٣٢٥ هـ ـ ٩٣٧ م سيطر القرامطة
على جميع الطرق المؤدّية إلى مكّة المكرّمة.
السفارة الرابعة
في شعبان ٣٢٦ هـ تموز ٩٣٨ م تدهورت صحّة
السفير والنائب الثالث الحسين بن روح فاستدعى بعض الشخصيّات البارزة واطلعهم على
انتقال مهمّة النيابة والسفارة إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري.
وقد استمرّ السفير الرابع يؤدّي مهامّه
بسريّة تامّة وسط أجواء عاصفة سياسيّاً وعسكريّاً ؛ اذ شهدت تلك الفترة احتدام
الصراح بين كبار القادة العسكريين وتمزّقت أوصال الدولة العباسيّة وأصبحت أقاليم
مستقلّة عن المركز ، فقد استولى «البريدي» على البصرة وواسط والأهواز وبسط
البويهيون سلطتهم على فارس والري واصفهان أمّا اقليم كرمان فقد استولى عليه بنو
الياس ، في حين سيطر كورتكين على الشمال الإيراني ، فيما قامت دولة الحمدانيّين
على اقليم الجزيرة والموصل ، وأسّس الاخشيديون دولتهم على أرض مصر والشام ؛ أمّا
المغرب وشمال افريقيا فقد أصبح تحت سلطة الدولة الفاطميّة وما تزال الاندلس تحت
نفوذ الدولة الامويّة ،
في حين ما يزال
السامانيّون يتحكّمون باقليم خراسان وأمّا القرامطة فقد أسّسوا دولتهم في البحرين
لتمتد إلى اليمامة وأجزاء اُخرى من شبه الجزيرة العربيّة.
فيما ظلّت بغداد والكوفة تحت سلطة
الخليفة والخليفة تحت رحمة القادة العسكريّين وكبار الضباط!!
وفي عام ٣٢٨ هـ ٩٤٠ م تقلت الأوساط
الشيعيّة في بغداد بحزن نبأ وفاة العالم الامامي الكبير علي بن بابويه القمي وقد
وصل النبأ بعد ١٧ يوماً من وفاته وهو والد الشيخ الصدوق.
في منتصف ربيع الأوّل ٣٢٩ هـ ـ منتصف
كانون الأوّل ٩٤٠ م اُعلن عن وفاة الخليفة الراضي وجلوس أخيه إبراهيم الذي لُقّب
بـ«المتّقي لله» وما تزال السلطة بيد الحاكم العسكري العام «بجكم» الذي اغتيل فيما
بعد في رحلة صيد فاستغل كورتكين الحادث وأصبح الحاكم العسكري العام ، فاستنجد
الخليفة «المتّقي» بقوّات من الشام.
وهكذا يستمرّ مسلسل الصراع على السلطة ؛
وفي هذه الفترة فجّر الحنابلة فتنة طائفيّة جديدة استهدفت هذه المرّة
الشيعة الاماميّة
بمناسبة احتفال الشيعة بيوم ١٥ شعبان الذكرى السنويّة لتحوّل القبلة من القدس
الشريف إلى مكّة المكرّمة وزحفت الجموع المتطرّفة في هستيرية باتّجاه جامع «براثا»
بالقرب من نهر دجلة لتدميره غير ان قوّات حكوميّة حالت دون ذلك حيث فرضت حماية
مشددة على المسجد الذي يعود بناؤه إلى عام ٣٨ هـ أثر ظهور كرامة للامام أمير المؤمنين
علي عليه السلام وهو في طريقه إلى «صفين».
وقد تعرّض حي الصيارفة لهجوم الحنابلة
أيضاً وهو من الأحياء التي تقطنه غالبيّة شيعيّة
وقد وضع نبأ وفاة زعيم الحنابلة في مخبئه السرّي وارتفاع الأسعار بشكل جنوني حدّاً
للأجواء المتوترة في هذه المدينة التي بدت تعاني من مجاعة .
لم تعد بغداد دار السلام فقد استحال
العراق إلى مسرح لعمليّات عسكريّة يخوضها قادة طموحون وضبّاط مغامرون ..
__________________
انّ شمس الحضارة تؤذن بالمغيب ، وفي احدى
الليالي وكان القمر في المحاق ذهل سكان بغداد لمشهد الشهب التي بدأت تنقض منذ حلول
المساء وظلت تنهمر بلا انقطاع حتّى مطلع الفجر.
وفي التاسع من شعبان ٣٢٩ هـ ـ مايس ٩٤١
م تلقى شيعة أهل البيت عليهم السلام نبأ هاماً سيكون له أكبر الأثر على مستقبلهم ؛
ففي ذلك اليوم استدعى السفير والنائب الرابع والأخير علي بن محمّد السمري عدداً من
زعماء الشيعة البارزين وأطلعهم على بيان موقع من قبل الامام المهدي عليه السلام
جاء فيه :
ـ «يا علي بن محمّد السمري!
أعظم الله أجر اخوانك فيك فانّك ميّت ما
بينك وبين ستّة أيّام!
فاجمع أمرك ، ولا توصِ إلى أحد فيقوم
مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامّة فلا ظهور إلّا بعد اذن الله تعالى ذكره!
وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب!
وامتلاء الأرض جوراً!
وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة .. ألا
فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر.
ولا حول ولا قوّة الّا بالله العلي
العظيم».
وتلقى الحاضرون النبأ بحزن وأسى واستنسخ
بعضهم البيان لنشره وتوزيعه على عموم الشيعة في العالم الاسلامي.
وتمرّ ستّة أيّام وفي اليوم السادس كان
السمري يستعد للرحيل وقد خيم الحزن والأسى.
السماء تمطر على هون .. همس أححدهم في
اذنه :
ـ إلى من توصي بعدك!
فقال بصوت واهن :
ـ لله أمر هو بالغه.
وفي شارع «درب السلسلة» في محلّة «باب
الكوفة» حيث يقع منزل ذلك الشيخ الوقور الذي ناهز السبعين عاماً ، كانت الأزقة
مقفرة إلّا من المطر وظلمات الليل ، وقد تراكمت الغيوم ؛ البروق تسطع والرعود
تدوّي والشيخ يستنشق أنفاسه
الأخيرة وينظر من
خلال نافذة صغيرة إلى السماء إلى نقطة مضيئة في قلب الظلمات كانت تكبر وتكبر ثمّ
تغمره بالسلام.
وضربت صاعقة تمثال الفارس ليهوي من فوق
قبة قصر الذهب بعد أن تربع عليها زهاء قرنين من الزمن .
ويخيل للمرء ان فارساً يبدو في الأربعين
كان يشق طريقه تحت المطر .. يغادر بغداد التي كانت في مهبّ عاصفة مطريّة.
المطر ينهمر بغزارة ، البروق تسطع بين
الغيوم والرعود تدوّي .. وقد غاب الفارس ورواء النهر كما تغيب الشمس وراء السحب
لتشرق كلماته الخالدة :
__________________
ـ وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها
إلى رواة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم.
ويسطع اسم الكليني في سماء تراث أهل
البيت الكرام عليهم السلام كرائد في تدوين أوّل وأكبر موسوعة في الأحاديث الشريفة
الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وآله الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم
أجمعين.
|
والحمد
لله ربّ العالمين
كمال
السيّد
|
الملحق الأوّل
اطلقت في الآونة الأخيرة ومع بالغ الأسف
مقولة مفادها ان الكثير من الموروث الروائي الشيعي هو مدسوس ومنقول عن كعب الأحبار
ومن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة!
وقد صدمت هذه التصريحات المحافل
والمرجعيات العلميّة ؛ لذلك انبرى أحد كبار العلماء للرد على هذا الكلام وقد جاء
في جانب من الردّ :
ـ والحقيقة الناصعة التي لا تقبل الشكّ
لدى أهل العلم والصلاح ان التراث الشيعي الأصيل المتمثّل في الموروث من مدرسة أهل
البيت عليهم السلام والمذهب الامامي ، لهو انقى موروث ديني في التاريخ الاسلامي
وأبعده عن التحريف أو التأثر بأهواء ومطامح الحكّام الجائرين أو اندساس المنحرفين
...
لأنّه التراث الذي
نشأ وترعرع بعيداً عن دوائر الحكومات ... ونقله إلى الأجيال أتقى الناس وأورعهم
ويمتاز هذا التراث بأنّه موروث مباشرة عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله من خلال
السلسلة الذهبيّة المباركة وهم الأئمّة الاثنا عشر من أهل البيت عليهم السلام.
ولهذا فهو يمثّل الاسلام الأصيل
والامتداد الصحيح لخط الرسالة الاسلاميّة.
وحول كعب الأحبار الذي كان يهوديّاً
وأسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فانّ الموروث الشيعي برئ منه وكان
الأئمّة عليهم السلام يرونه كذاباً منحرفاً ، وقد روى الشيخ الكليني رحمه الله في
الكافي رواية صحيحة السند عن زرارة عن الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام بشأنه
جاء فيها :
ـ «كنت جالساً إلى جنب أبي جعفر عليه
السلام وهو محتب مستقبل الكعبة ، فقال عليه السلام : «أما ان النظر إليها عبادة ،
فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر فقال لأبي جعفر عليه السلام : إن كعب
الأحبار يقول : ان الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة!
فقال أبو جعفر عليه السلام : فما تقول
فيما قال كعب؟!
فقال (عاصم) : صدق القول ما قال كعب!
فقال أبو جعفر عليه السلام : كذبت وكذب
كعب معك.
وغضب عليه السلام.
قال زرارة : ما رأيته استقبل أحداً بقول
: كذبت ، غيره ...» .
هذه هي منزلة كعب لدى الأئمّة الأطهار
عليهم السلام.
وقد هاجمه حبر الاُمّة عبد الله بن
عبّاس وانتقده بشدّة على بعض رواياته الموجودة في كتب الحديث لدى المذاهب
الاسلاميّة الاُخرى.
وكان صاحب المقولة قد تذرّع بنص للشهيد
محمّد باقر الصدر ورد في مقدمة رسالته العلميّة «الفتاوى الواضحة» حيث جاء تحت
عنوان «كيف نشأت الحاجة إلى الاجتهاد» ما يلي :
__________________
ـ «ودخول شيء كثير من الدس والافتراء في
مجاميع الروايات الأمر الذي يتطلّب عناية بالغة في التمحيص والتدقيق» .
وقد فنّد السيّد محمود الهاشمي الذي كان
في طليعة تلامذة الشهيد الراحل هذا الخلط بين مقولة الموروث الروائي الشيعي
المدسوس والمنقول عن كعب الأحبار ومن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة» ذلك ان
كلام الشهيد الصدر يأتي في سياق بحث نشوء التعارض في الأدلّة الشرعيّة ، فأشار
رضوان الله تعالى عليه إلى عمليّة الدس بينها (الأحاديث) والتزوير التي قام بها
بعض المغرضين والمعادين لمذهب أهل البيت عليهم السلام على ما ينقله لنا التاريخ
وكتب التراجم والسير وقد وقع كثير من ذلك في عصر الأئمّة أنفسهم على ما يظهر من
جملة من الأحاديث التي وردت لتنبّه أصحابهم إلى وجود حركة الدسّ والتزوير فيما
يروون عنهم من الأحاديث ...
وعملية التنبيه الأكيدة من الائمّة
عليهم السلام على وجود حركة
__________________
الدسّ والتي أعقبها
التحفّظ الشديد من قبل أصحاب الأئمّة عليهم السلام والسلف المتقدّم من علماء
الطائفة في مقام نقل الحديث وروايته وتطهير الروايات عمّا دسّ فيها وإن كان لها
الفضل الكبير البالغ في تحصين كتي الحديث عن أكثر ذلك الدسّ والتزوير ؛ إلّا أنّ
هذا لا يعني حصول الجزم واليقين بعدم تواجد شيء ممّا زوّر على الأئمّة عليهم
السلام في مجموع ما بأيدينا من أحاديثهم ، سيّما إذا لاحظنا أنّ العمليّة كانت
تمارس في كثير من الأحيان عن طريق دسّ الحديث الموضوع في كتب الموثوقين من أصحاب
الأئمّة عليهم السلام ، كما تشير إليه رواية يونس بن عبد الرحمن ، فربما كان بعض
ما نجده في كتب الأحاديث اليوم من الروايات المتعارضة المختلفة هو من بقايا ذلك
التشويه والدسّ الذي وقع في تلك العصور.
هذه هي أهم العوامل التي يمكن أن تذكر
لتبرير حالات التعارض التي قد يواجهها الفقيه فيما بين الأحاديث الصادرة عن
الأئمّة عليهم السلام» .
__________________
وبذلك نرى ؛
أوّلاً : هذا الكلام لا علاقة له أصلاً
بتلك التهمة الفارغة الكاذبة من أنّ الموروث الشيعي مأخوذ عن كعب الأحبار اليهودي
الذي أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ودخل المدينة في عصر الخليفة الثاني
وصار حبراً للاُمّة ينقل عنه أمثال أبي هريرة ومعاوية وعطاء بن يسار وغيرهم من
الصحابة والتابعين.
وإنّما المراد منه أنّ الأحاديث الصادرة
عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام خصوصاً في الحقبة المتأخّرة من حياتهم ـ أي زمان
الأئمّة المتأخّرين ـ بعد أن تكاثر الرواة لأحاديثهم خصوصاً عن الإمامين الباقر
والصادق عليهما السلام وبلوغهم أربعة آلاف على ما في كتب التراجم والسير نشأ فيها
الاختلاف والتعارض.
وحصول هذا التعارض والاختلاف كان بأسباب
عديدة ، منها : وجود بعض الرواة ممّن كانوا من أصحاب الأئمّة عليهم السلام أوّلاً
ثمّ انحرفوا عنهم ، كالخطابيّة والجاروديّة والغلاة والواقفيّة ونحوهم ، فنقلت
عنهم روايات من قبل من لا يعرف انحرافهم وقد يكون فيها شيء من الغلوّ بحقّ الأئمّة
أو الوقف على
بعضهم أو أحكام
فقهيّة معارضة مع الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ومنهج أهل البيت عليهم السلام ؛
ولهذا نبّه الأئمّة عليهم السلام أنفسهم على ذلك وأعطوا بعض الموازين لما يؤخذ من
الروايات ممّا لا يعلم صدوره عن المعصومين عليهم السلام ، كأن لا يكون معارضاً مع
الكتاب الكريم أو مع السنّة الشريفة ، كما نبّهوا على لزوم تهذيب الأحاديث
المرويّة عن روايات هؤلاء الذين انحرفوا عنهم وبالنسبة لبعضهم كبني فضّال.
قال الإمام العسكري عليه السلام : «خذوا
ما رووا واتركوا ما رأوا» ؛ لأنّ رواياتهم عنهم كانت قبل انحراف عقيدتهم ، وصار
هذا التنبيه الأكيد من قبل أئمّة أهل البيت عليهم السلام في عصر الغيبة الصغرى
والكبرى تجاه هؤلاء الرواة والروايات عن المعصومين عليهم السلام بشكل عام وتمحيصها
وتهذيبها وتوثيق من يصحّ حديثه ومن لا يصحّ الحديث عنه ممّا حصّن الموروث الشيعي
كما ذكره السيّد الشهيد الصدر وطهّر المجاميع الحديثيّة عند الشيعة عن ذلك الدسّ
والتزوير.
إلّا أنّ احتمال بقاء شيء من ذلك من
الموروث الروائي في
اطار المذهب وروايات
أهل البيت عليهم السلام أدّى إلى أن يضع الأئمّة عليهم السلام أنفسهم في موارد
الاختلاف والتعارض ضوابط وموازين لتشخيص الصحيح من غيره ، وهذا كلّه لا علاقة له
باليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة ولا بكعب الأحبار ومرويّاته الكاذبة عن النبي
صلى الله عليه وآله أو غيره بعنوان انّه حبر من أحبار الاُمّة والذي هو قدح في أصل
المذهب والتراث الشيعي وتأسيسه كما لا يخفى على اللبيب العارف.
وثانياً : انّ وجود رواة ضعفاء غير ثقاة
أو كذّابين ضمن أسانيد الروايات المنقولة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقضي
بلزوم تمحيص الأسانيد وتوثيقها عند الأخذ بها ، وهذا ليس أمراً مختلفاً فيه لدى
طلبة العلوم الدينيّة فضلاً عن فقهائنا ومراجعنا العظام ، وليس فيه قراءة جديدة
للتراث ولا تصحيح للعقيدة بل تلك هي الطريقة المتّبعة والمعمول بها في الفقه
والاُصول وكافّة العلوم الإسلامية منذ زمن الشيخ الطوسي وإلى يومنا هذا ، فيطرحون
الرواية التي في سندها ضعف.
وهذه كتب الحديث والفقه والتفسير وسائر
فروع المعرفة
الإسلاميّة التي
صنّفها علماؤنا وفقهاؤنا إلى اليوم مشحونة بالبحوث الرجاليّة والسنديّة الدقيقة في
كلّ مسألة أو فكرة يراد الاستناد فيها إلى رواية موجودة في المجاميع الحديثيّة لدى
الشيعة ، وهذه من امتيازات المذهب الشيعي ، حيث إنّ باب الاجتهاد فيه لم يغلق
ومستمر بتمام مراحله حتّى اليوم ، وفقهاؤنا متّفقون على أنّ وجود رواية في مجموعة
حديثيّة كالكافي والفقيه والتهذيبين لا يجعلها صحيحة سنداً ولا مضمونه مسلّم عندهم
، وهذا واضح لدى عوام الشيعة فضلاً عن علمائهم ، فإذا كان المقصود إثبات هذا
المعنى فتسميه ذلك بالقراءة الجديدة للتراث الشيعي وإلقاء التساؤلات على المراجع
بتعابير استخفافيّة تهكّمية من قبيل (من يدّعون أنّهم مراجع ومن درس عندهم تسعون
وسبعون وستون سنة) ، وطرح التشكيك في معتقدات الشيعة والمطالبة بالبحث العلمي فيها
وأنّه (قل هاتوا برهانكم) ثمّ دعوى أنّ الكثير من الموروث الشيعي متلقى عن كعب
الأحبار ومن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة كلّ هذا الكلام الفارغ ليس إلّا
هراءً
وجهلاً وتهريجاً
وخدمة لأعداء المذهب الشيعي ـ كما استغلّ ذلك فعلاً من قبل أجهزة اعلامهم سريعاً ـ
فلو كان المقصود لزوم تمحيص أسانيد الأحاديث فمن المخالف في ذلك من الفضلاء فضلاً
عن الفقهاء ، وأين أفتى المراجع العظام بما يكون مصدره كعب الأحبار اليهودي أو
فلان المجوسي أو النصراني؟
ومتى تمسّك فقهاؤنا بحديث لا تمحيص
لسنده؟ وهذه كتبهم الاستدلاليّة مليئة بالبحث عن سند كلّ ما يذكرونه من رواية مهما
كان مصدرها؟!
ولماذا كلّ هذا التهريج والصخب المزري
والذي يعطي الذريعة بيد الأعداء ضدّ المذهب الحق ، وأيّ ابداع وجديد في مثل هذه
الجهات.
وثالثاً : انّ مجرّد ذكر رواية راوٍ
ضعيف في المجاميع الحديثيّة لا يدلّ على كون الموروث الشيعي مستنداً إلى ذلك
الراوي الكذّاب أو الضعيف أو غير الموثق ؛ إذ قد يكون ذكر ححديثه في تلك المجموعة
الحديثيّة لأنّ صاحبها قد وجد عليه شاهداً من القرآن أو السنّة الشريفة ؛ فإنّ
أصحاب المجاميع
الحديثيّة عندنا
كانوا يهتمّون بجمع الأحاديث المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام حتّى إذا لم يكن
راويه ثقة إذا كان عليه شاهد كرواية مشابهة لها من راوٍ آخر ثقة أو دلالة قرآنيّة
على ذلك أو وجود روايات عديدة بذلك المضمون قد يبلغ مجموعها حدّ الاستفاضة وحصول
الوثوق من مجموعها ، أو كون الحكم المروي في ذاك الحديث من المسلّمات أو المشهورات
أو المرتكزات لدى فقهاء مدرسة أهل البيت ممّا يوجب حصول الوثوق والاطمئنان بصحّة
ذاك المضمون.
وهكذا قواعد ونكات حديثيّة أو اُصوليّة
أو فقهيّة منقّحة من قبل فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام بشكل دقيق ومعمّق
ممّا أوجدت لهذه المدرسة الفقهيّة والاُصوليّة تطوّراً عظيماً تتميّز به عن غيرها
من المدارس والمذاهب الفقهيّة كما هو واضح عند أهل العلم.
وأمّا بالنسبة لما ذكر من ورود بعض
الروايات عن كعب الأحبار أو غيره من رواة العامّة في بعض الكتب الفقهيّة أو
المجاميع الحديثيّة ، فالمجاميع الحديثيّة قد تنقل أيضاً روايات
عن رواة غير شيعة
كأبي هريرة وعطاء بن يسار وغيرهم إلّا أنّ ذلك با يعد من الموروث الشيعي وإنّما هو
للاستشهاد من قبلهم على الموروث الشيعي بأحاديث ومرويّات من غير الشيعة لمزيد
تأكيد صحّة ذاك المضمون والموروث الشيعي ، وهذا ما يكون في غير الفقه عادة ، وهذه
طريقة البحث العلمي فيما بين المذاهب واحتجاجات أصحابها فيما بينهم ، وقد كان
الفقيه الأعظم السيّد البروجردي قدس سره صاحب تأليف جامع أحاديث الشيعة يريد ذكر
روايات المجاميع الحديثيّة لأه السنّة مع أحاديث الشيعة الصادرة عن الأئمّة عليهم
السلام في كل ّ باب من الأبواب الفقهيّة ، وكان هذا عملاً مهمّاً ومقارنة بين
المذهب السني والشيعي في الفقه والحديث معاً ، إلّا أنّه ـ ومع الأسف ـ لم يوفق
لذلك لأسباب خارجيّة.
كما أنّ كتابيّ «الخلاف» و «المنتهى» من
كتب الفقه المقارن والذي يكون من الطبيعي نقل فتاوى فقهاء المذاهب الاُخرى فيها
وذكر مستند لها من روايات مجاميعهم الحديثيّة ، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ تلك
الروايات معتمد عليها من
قبل الشيعة وانّها من
الموروث الروائي الشيعي بوجه من الوجوه أبداً ، فلا ينبغي الخلط والمغالطة في
البحوث العلميّة بهذا النحو .
__________________
الملحق الثاني
مختارات من روايات
الكافي
حديث الشيخ مع الإمام
الباقر عليه السلام
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَمَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ قَالَ : بَيْنَا أَنَا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام وَالْبَيْتُ
غَاصٌّ بِأَهْلِهِ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَنَزَةٍ لَهُ حَتَّى
وَقَفَ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ سَكَتَ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام :
وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
ثُمَّ أَقْبَلَ الشَّيْخُ بِوَجْهِهِ
عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ
ثُمَّ سَكَتَ حَتَّى
أَجَابَهُ الْقَوْمُ جَمِيعاً وَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلامَ ثُمَّ أَقْبَبَ
بِوَجْهِهِ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام.
ثُمَّ قَالَ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ
أَدْنِنِي مِنْكَ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ فَوَ اللهِ إِنِّي لأُحِبُّكُمْ
وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّكُمْ وَوَاللهِ مَا أُحِبُّكُمْ وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّكُمْ
لِطَمَعٍ فِي دُنْيَا وَاللهِ إِنِّي لأُبْغِضُ عَدُوَّكُمْ وَأَبْرَأُ مِنْهُ
وَوَاللهِ مَا أُبْغِضُهُ وَأَبْرَأُ مِنْهُ لِوَتْرٍ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
وَاللهِ إِنِّي لأُجحِلُّ حَلالَكُمْ وَأُحَرِّمُ حَرَامَكُمْ وَأَنْتَظِرُ
أَمْرَكُمْ فَهَلْ تَرْجُو لِي جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام :
إِلَيَّ إِلَيَّ حَتَّى أَقْعَدَهُ إِلَى جَنْبِهِ.
ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا الشَّيْخُ إنَّ
أَبِي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام أَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ
مِثْلِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَالَ لَهُ أَبِي عليه السلام : إِنْ تَمُتْ
تَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وَعَلَى عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَيَثْلَجُ قَلْبُكَ وَيَبْرُدُ
فُؤَادُكَ وَتَقَرُّ عَيْنُكَ وَتُسْتَقْبَلُ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ مَعَ
الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ لَوْ قَدْ بَلَغَتْ نَفْسُكَ هَا هُنَا وَأَهْوَى
بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ وَإِنْ تَعِشْ تَرَى مَا يُقِرُّ اللهُ بِهِ عَيْنَكَ
وَتَكُونُ مَعَنَا فِي السَّنَامِ الْأَعْلَى فَقَالَ الشَّيْخُ كِيْفَ قُلْتَ يَا
أَبَا جَعْفَرٍ فَأَعَادَ
عَلَيْهِ الْكَلامِ.
فَقَالَ الشَّيْخُ : اللهُ أَكْبَرُ يَا
أَبّا جَعْفَرٍ إِنْ أَنَا مِتُّ أَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله
وَعَلَى عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه
السلام وَتَقَرُّ عَيْنِي وَيَثْلِجُ قَلْبِي وَيَبْرُدُ فُؤَادِي وَأُسْتَقْبَلُ
بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ مَعَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ لَوْ قَدْ بَلَغَتْ
نَفْسِي إِلَى هَاهُنَا وَإِنْ أَعِشْ أَرَى مَا يُقِرُّ اللهُ بِهِ عَيْنِي
فَأَكُونُ مَعَكُمْ فِي السَّنَامِ الْأَعْلَى.
ثُمَّ أَقْبَلَ الشَّيْخُ يَنْتَحِبُ
يَنْشِجُ هَا هَا هَا حَتَّى لَصِقَ بِالْأَرْضِ وَأَقْبَلَ أَهْلُ الْبَيْتِ
يَنْتَحِبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِن حَالِ الشَّيْخِ وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه
السلام يَمْسَحُ بِإِصْبِعِهِ الدُّمُوعَ مِنْ حَمَالِيقِ عَيْنَيْهِ
وَيَنْفُضُهَا ثُمَّ رَفَعَ الشَّيْخُ رَأْسَهُ.
فَقَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام :
يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ نَاوِلْنِي يَدَك جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ فَنَاوَلَهُ
يَدَهُ فَقَبَّلَهَا وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ وَخَدَّهِ ثُمَّ حَسَرَ عَنْ
بَطْنِهِ وَصَدْرِهِ ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ.
وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام
يَنْظُرُ فِي قَفَاهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ.
ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى
الْقَوْمِ فَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى
رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ لَمْ أَرَ
مَأْتَماً قَطُّ يُشْبِهُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ.
حديث محاسبة النفس
١ ـ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
أَبِيهِ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيِّ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ : قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام : إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ لا يَسْأَلَ
رَبَّهُ شَيْئاً إِلّا أعْطَاهُ فَلْيَيْأَسْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَلا
يَكُونُ لَهُ رَجَاءٌ إِلّا مِنْ عِنْدِ اللهِ عّزَّ ذِكْرُهُ فَإِذَا عَلِمَ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ لَمْ يَسْأَلْهُ شَيْئاً إِلّا
أَعْطَاهُ فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا عَلَيْهَا فَإِنَّ
لِلْقِيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفاً كُلُّ مَوْقِفٍ مَقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ ،
ثُمَّ تَلا فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ.
٢ ـ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ حَفْصٍ
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ : مَنْ كَانَ مُسَافِراً فَلْيُسَافِرْ
يَوْمَ السَّبْتِ فَلَوْ أَنَّ حَجَراً زَالَ عَنْ جَبَلٍ
يَوْمَ السَّبْتِ
لَرَدَّهُ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ وَمَنْ تَعَذَرَتْ عَلَيْهِ
الْحَوَائِجُ فَلْيَلْتَمِسْ طَلَبَهَا يَوْمَ الثَّلاثَاءِ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ
الَّذِي أَلانَ اللهُ فِيهِ الْحَدِيدَ لِدَاوُدَ عليه السلام.
حديث الذي أضاف رسول
الله صلى الله عليه وآله بالطائف
١ ـ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
أَبِيهِ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدِ
الْكُنَاسِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وآله كَانَ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ بِالطَّائِفِ قَبْلَ الْإِسْلامِ
فَأَكْرَمَهُ.
فَلَمَّا أَنْ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً
صلى الله عليه وآله إِلَى النَّاسِ قِيلَ لِلرَّجُلِ : أَتَدْرِي مَنِ الَّذِي
أَرْسَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى النَّاسِ؟ قَالَ : لا قَالُوا لَهُ : هُوَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَزَلَ
بِكَ بِالطَّائِفِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَأَكْرَمْتَهُ.
قَالَ : فَقَدِمَ الرَّجُلُ عَلَى
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَسْلَمَ ثُمَّ قَالَ لَهُ
: أَتَعْرِفُنِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ : وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ : أنَا رَبُّ
الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلْتَ بِهِ بِالطَّائِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ كَذَا
وَكَذَا
فَأَكْرَمْتُكَ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله :
مَرْحَباً بِكَ سَلْ حَاجَتَكَ فَقَالَ
أَسْأَلُكَ مِائَتَيْ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وآله بِمَا سَأَلَ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَا كَانَ عَلَى هَذَا
الرَّجُلِ أَنْ يَسْأَلَنِي سُؤَالَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عليه
السلام.
فَقَالُوا : وَمَا سَأَلْتْ عَجُوزُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى؟
فَقَالَ : إِنَّ اللهَ عَزَّ ذِكْرُهُ
أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنِ احْمِلْ عِظَامَ يُوسُفَ مِنْ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ
تَخْرُجَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِالشَّامِ فَسَأَلَ مُوسَى عَنْ
قَبْرِ يُوسُفَ عليه السلام فَجَاءَهُ شَيْخٌ فَقَالَ : إِنْ كَانَ أَحَدٌ
يَعْرِفُ قَبْرَهُ فَفُلانَةُ فَأَرْسَلَ مُوسَى عليه السلام إِلَيْهَا فَلَمَّا
جَاءَتْهُ قَالَ : تَعْلَمِينَ مَوْضِعَ قَبْرِ يُوسُفَ عليه السلام؟ قَالَتْ :
نَعَمْ قَالَ : فَدُلِّينِي عَلَيْهِ وَلَكِ مَا سَأَلْتِ قَالَ : لا أَدُلُّكَ
عَلَيْهِ إِلّا بِحُكْمِي قَالَ : فَلَكِ الْجَنَّةُ قَالَتْ : لا إِلّا بِحُكْمِي
عَلَيْكَ فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى لا يَكْبُرُ عَلَيْكَ أَنْ
تَجْعَلَ لَهَا حُكْمَهَا. فَقَالَ لَهَا مُوسَى : فَلَكِ حُكْمُكِ قَالَتْ :
فَإِنَّ حٌكْمِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي دَرَجَتِكَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا
يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله :
مَا كَانَ
عَلَى هَذَا لَوْ
سَأَلَنِي مَا سَأَلَتْ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
٢ ـ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
أَبِيهِ عَنِ ابْنُ مَحْبُوبٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ : سَمِعْتُ
أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ : كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ
تَوَدُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَتُكْثِرُ التَّعَاهُدَ لَنَا وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ لَقِيَهَا ذَاتَ يَوْمٍ وَهِيَ تُرِيدُنَا.
فَقَالَ لَهَا : أيْنَ تَذْهَبِينَ يَا
عَجُوزَ الْأنْصَارِ؟ فَقَالَتْ : أَذْهَبُ إِلَى آلِ مُحَمَّدْ أُسَلِّمُ
عَلَيْهِمْ وَأُجَدِّدُ بِهِمْ عَهْداً وَأَقْضِي حَقَّهُمْ.
فَقَالَ لَهَا : عُمَرُ وَيْلِكَ لَيْسَ
لَهُمُ الْيُوْمَ حَقٌّ عَلَيْكِ وَلا عَلَيْنَا إِنَّمَا كَانَ لَهُمْ حَقٌّ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَيْسَ
لَهُمْ حَقٌّ فَانْصَرِفِي فَانْصَرَفَتْ حَتَّى أَتَتْ أُمَّ سَلَمَةَ.
فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ مَا ذَا
أَبْطَأَ بِكِ عَنَّا؟
فَقَالَت : إِنِّي لَقِيتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ وَأَخْبَرَتْهَا بِمَا قَالَتْ لِعُمَرَ وَمَا قَالَ لَهَا عُمَرُ.
فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ :
كَذَبَ لا يَزَالُ حَقُّ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَاجِباً عَلَى
الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
من علامات الظهور
عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ
بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ
بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ بَدْرِ بْنِ الْخَلِيلِ الْأَزْدِيِّ قَالَ : كُنْتُ جَالِساً
عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فَقَالَ : آيَتَانِ تَكُونَانِ قَبْلَ قِيَامِ
الْقَائِمِ عليه السلام لَمْ تَكُونَا مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ إِلَى الْأَرْضِ
تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْقَمَرُ فِي
آخِرِهِ.
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا ابْنَ رَسُلِ
اللهِ تِنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَالْقَمَرُ فِي النِّصْفِ؟
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام :
إِنِّي أَعْلَمُ مَا تَقُولُ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ لَمْ تَكُونَا مُنْذُ هَبَطَ
آدَمُ عليه السلام.
حديث العابد
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَن عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِنَانٍ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ كَانَ
عَابِدٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُقَارِفْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْئاً
فَنَخَرَ
إِبْلِيسُ نَخْرَةً
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُنُودُهُ فَقَالَ مَنْ لِي بِفُلانٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ
أَنّا لَهُ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ فَقَالَ مِنْ ناحِيَةِ النِّسَاءِ قَالَ
لَسْتَ لَهُ لَمْ يُجَرِّبِ النِّسَاءَ فَقَالَ لَهُ آخَرُ فَأَنَا لَهُ فَقَالَ
لَهُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ قَالَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرَابِ وَاللَّذَّاتِ قَالَ
لَسْتَ لَهُ لَيْسَ هَذَا بِهَذَا قَالَ آخَرُ فَأَنَا لَهُ قَالَ مِنْ أَيْنَ
تَأْتِيهِ قَالَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِرِّ قَالَ انْطَلِقْ فَأَنْتَ صَاحِبُهُ
فَانْطَلَقَ إِلَى مَوْضِعِ الرَّجُلِ فَأَقَامَ حِذَاهُ يُصَلِّي قَالَ وَكَانَ
الرَّجُلُ يَنَامُ وَالشَّيْطَانُ لا يَنَامُ وَيَسْتَرِيحُ وَالشَّيْطَانُ لا
يَسْتَرِيحُ فَتَحَوَّلَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ وَقَدْ تَقَاصَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ
وَاسْتَصْغَرَ عَمَلَهُ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللهِ بِأَيِّ شَيْءٍ قَوِيتَ عَلَى
هَذِهِ الصَّلاةِ فَلَمْ يُحِبْهُ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُحِبْهُ ثُمَّ
أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْباً وَأَنَا
تَائِبٌ مِنْهُ فَإِذَا ذَكَرْتُ الذَّنْبَ قَوِيتُ عَلَى الصَّلاةِ قَالَ
فَأَخْبِرْنِي بِذَنْبِكَ حَتَّى أَعْمَلَهُ وَأَتُوبَ فَإِذَا فَعَلْتُهُ قَوِيتُ
عَلَى الصَّلاةِ قَالَ ادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَسَلْ عَنْ فُلانَةَ الْبَغِيَّةِ
فَأَعْطِهَا دِرْهَمَيْنِ وَنَلْ مِنْهَا قَالَ وَمِنْ أَيْنَ لِي دِرْهَمَيْنِ
مَا أَدْرِي مَا الدِّرْهَمَيْنِ فَتَنَاوَلَ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ
دِرْهَمَيْنِ فَنَاوَلَهُ
إِيَّاهُمَا فَقَامَ
فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ بِجَلابِيبِهِ يَسْأَلُ عَنْ مَنْزِلِ فُلانَةَ
الْبَغِيَّةِ فَأَرْشَدَهُ النَّاسُ وَظَنُّوا أَنَّهُ جَاءَ يَعِظُهَا
فَأَرْشَدُوهُ فَجَاءَ إِلَيْهَا فَرَمَى إِلَيْهَا بِالدِّرْهَمَيْنِ وَقَالَ
قُومِي فَقَامَتْ فَدَخَلَتْ مَنْزِلَهَا وَقَالَتِ ادْخُلْ وَقَالَتْ إِنَّكَ
جِئْتَنِي فِي هَيْئَةٍ لَيْسَ يُؤْتَى مِثْلِي فِي مِثْلِهَا فَأَخْبِرْنِي
بِخَبَرِكَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ إِنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ
أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ التَّوْبَةَ
وَجَدَهَا وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا شَيْطَاناً مُثِّلَ لَكَ
فَانْصَرِفْ ضفَإِنَّكَ لا تَرَى شَيْئاُ فَانْصَرَفَ وَمَاتَتْ مِنْ لَيْلَتِهَا
فَأَصْبَحَتْ فَإِذَا عَلَى بَابِهَا مَكْتُوبٌ احْضُرُوا فُلانَةَ فَإِنَّهَا
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَارْتَابَ النَّاسُ فَمَكَثُوا ثَلاثاً لَمْ يَدْفِنُوهَا
ارْتِيَاباً فِي أَمْرِهَا فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ لا أَعْلَمُهُ إِلَا مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام أَنِ ائْتِ
فُلانَةَ فَصَلِّ عَلَيْهَا وَمُرِ النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا فَإِنِّي
قَدْ غَفَرْتُ لَهَا وَأَوْجَبْتُ لَهَا الْجَنَّةَ بِتَشْبِيطِهَا عَبْدِي
فُلاناً عَنْ مَعْصِيَتِي.
المحتويات
في البدء......................................................................... ٥
في مدينة الري.................................................................. ١٢
إلى قم........................................................................ ١٥
إلى مدينة الكوفة............................................................... ١٨
التطوّرات السياسيّة.............................................................. ١٩
إلى العاصمة بغداد.............................................................. ٢٤
الكليني في بغداد................................................................ ٢٦
الكافي........................................................................ ٢٨
التطوّرات في بغداد.............................................................. ٣٦
ثلوج وهزات وحوادث في الكوفة.................................................. ٣٩
الشلمغاني صعود وسقوط........................................................ ٤٨
صدور «الكافي»............................................................... ٥٥
اضطرابات وحوادث شغب....................................................... ٦١
السفارة الرابعة.................................................................. ٦٤
المحلق الأوّل.................................................................... ٧١
الملحق الثاني ـ مختارات من
روايات الكافي........................................... ٨٥
حديث الشيخ مع الإمام الباقر
عليه السلام........................................ ٨٨
حديث محاسبة النفس........................................................... ٨٩
حديث الذي أضاف رسول الله صلى
الله عليه وآله بالطائف......................... ٨٩
من علامات الظهور............................................................. ٩٢
حديث العابد.................................................................. ٩٢
المحتويات...................................................................... ٩٥
|