

القسم التاسع
فتح مكة
الباب
الأول : إلى مكة
الباب
الثاني : فتح مكة
الباب
الثالث : نهايات فتح مكة
الباب الأول
إلى مكة
الفصل
الأول : المجزرة
الفصل
الثاني : إلي المدينة : خبر وشكوى
الفصل
الثالث : أبو سفيان في المدينة : تدليس وخداع
الفصل
الرابع : جيوش تجتمع .. والهدف مجهول
الفصل
الخامس : ابن أبي بلعته .. يتجسس ويفتضح
الفصل
السادس : على طريق مكة
الفصل
السابع : هجرة العباس .. وإسلام ابن الحارث وابن أبي سلمة
الفصل
الثامن : أبو سفيان في أيدي المسلمين
الفصل الأول :
المجزرة
بداية :
إن فتح مكة كان
نقطة تحول في تاريخ الإسلام ، وفي الأوضاع العامة في الجزيرة العربية بأسرها ...
حيث لم يعد أحد يجد أي عقدة أو حرج من أية جهة كانت في الإقبال على هذا الدين ،
والإنضواء تحت لواء الإسلام ، بل أصبح ذلك موضع تنافس ، وتسابق ، لأنهم وجدوا فيه
فرصة لتعزيز موقعهم ، وتأكيد وجودهم ودورهم في صنع المستقبل ، ورسم مسار الأمة
بأسرها إلى مصيرها ..
وأصبح أعداء
الأمس وصناع الحروب ضد هذا الدين وأهله أتباعا بل أذنابا ، أكثر ما يهتمون له هو :
أن يجدوا وسيلة لتأكيد صدق ولائهم ، وصحة إيمانهم ، وسلامة اعتقادهم .. أو أن
يظهروا المزيد من الحرص على كسر شوكة أعداء دين الله ، والنكاية فيهم ، وصدقهم في
مناهضتهم وردّ عاديتهم ..
وأصبحت لا تسمع
منهم إلا المدح والثناء ، وإلا العبارات الطافحة بالرضا ، والمعبرة عن مشاعر
العرفان بالجميل ، وعن الشعور بالإمتنان ، وبالشكر الجزيل لمن كان بنظرهم قاطعا
للرحم ، وسببا في الخلاف وفي الاختلاف ، ومن وصفوه بالكاهن والساحر والمجنون ،
وبالشاعر الذي يتربصون به ريب المنون ..
فكيف كان هذا
الفتح ، وما هي تفاصيل أحداثه؟
هذا ما سوف
نجيب عليه في الفصول الآتية.
تاريخ فتح مكة :
روي
عن الإمام الرضا ، عن آبائه «عليهمالسلام» : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» سافر إلى بدر في شهر رمضان ، وافتتح مكة في شهر رمضان .
وفي
الروايات التاريخية أيضا : إن الفتح كان في يوم الجمعة .
والقول
: بأنه كان في
شهر رمضان سنة ثمان مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وأبي سعيد الخدري وغيرهم
، بل لا خلاف في أن هذه
__________________
الغزوة كانت في شهر رمضان ، فلا حاجة إلى تفصيل القول في ذلك.
ولكن
الخلاف هنا هو في ثلاثة أمور ، هي :
١ ـ يوم الخروج
من المدينة.
٢ ـ يوم دخول
مكة.
٣ ـ مدة
الإقامة في مكة.
__________________
ونحن
نذكر هنا موجزا عن هذه الأمور الثلاثة كما يلي :
يوم خروج النبي صلىاللهعليهوآله من المدينة :
روي
عن الزهري أنه قال : لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان ، أو خرج في رمضان بعد ما دخل .
وعن
أبي سعيد الخدري ، قال : خرجنا مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان .
__________________
وقال
آخرون : أنه خرج لعشر
خلون من شهر رمضان .
يوم دخول مكة :
واختلفت
أقوالهم في يوم دخول مكة ، فعن الزهري : فصبح رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مكة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان .
__________________
وقيل
: لاثنتي عشرة .
وقيل
: إنه دخل لست
عشرة .
وقيل
: لسبع عشرة .
وقيل
: لتسع عشرة .
وقيل
: لعشرين من شهر
رمضان .
__________________
وقيل
: لاثنين وعشرين
من شهر رمضان .
ورواية
أخرى رددت : بين تسع عشرة ، أو سبع عشرة .
مدة الإقامة في مكة :
وأما بالنسبة
لمدة بقائه «صلىاللهعليهوآله» في مكة ، فهو موضع خلاف أيضا.
فقيل
: عشر ليال .
وقيل
: خمس عشرة ليلة
.
__________________
وقيل
: سبع عشرة .
وقيل
: ثماني عشرة .
__________________
وقيل : تسع
عشرة .
ولعل التصحيف ـ
بين سبع وتسع ـ هو الذي جعلهما قولين.
وقيل
: عشرين .
وقيل
: بضع عشرة .
وهذا قد لا
يكون قولا جديدا ، فإنه قد يكون موافقا لأحد الأقوال السابقة.
وهكذا
يقال بالنسبة لقولهم : إنه بقي بقية شهر رمضان ، وستة أيام من شوال ، فإنه قد يكون متوافقا مع أحد الأقوال المتقدمة.
خطأ في البخاري :
روي
عن ابن عباس : أن فتح مكة كان «على رأس ثماني سنين ونصف من مقدم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المدينة» .
__________________
قال
العسقلاني وغيره : «وهو وهم.
والصواب : على رأس سبع سنين ونصف» .
وفي
خلاصة السيرة : لسبع سنين وثمانية أشهر ، وأحد عشر يوما .
ونقول
:
إن
هذا التحديد ليس دقيقا ، ولأن الصحيح هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد قدم المدينة في الثامن من شهر ربيع الأول ، فيكون فتح مكة بعد مقدمه «صلىاللهعليهوآله» المدينة بسبع سنين وستة أشهر وأحد عشر يوما إذا كان
فتحها في التاسع من شهر رمضان المبارك ... وتقل الأيام وتزيد بحسب الاختلاف في
اليوم الذي دخل فيه «صلىاللهعليهوآله» مكة ،
__________________
حسبما أسلفناه في الصفحات السابقة.
شهر رمضان لماذا؟! :
١ ـ لقد كانت
سياسة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في كثير من حروبه مع أعدائه ، وخصوصا في غزوة الفتح ،
هي اعتماد عنصر المباغته.
وقد توفر هذا
العنصر أيضا في اختيار شهر رمضان المبارك ، وهو شهر الصوم والعبادة ، للقيام بحملة
واسعة وكبيرة ، لأن ذلك كان من الأمور التي يقلّ احتمالها في حسابات الناس عادة ،
حيث يتوقعون إخلاد الناس للراحة في هذا الشهر ، وعكوفهم على العبادة ، وعزوفهم عن
الأسفار ، حتى لا يضطروا لقضاء الصوم في أيام فطر الناس.
وبذلك يصح
اعتبار هذا التوقيت من العناصر التي ساعدت على مباغتة القوم ، ومفاجأتهم كما هو
ظاهر ..
٢ ـ ثم إن لشهر
رمضان أثره الإيحائي في نفوس أهل الإيمان ، من حيث أنه يهيئهم للعيش في كنف الله ،
والشعور بحضوره ، ويؤكد علاقتهم به تبارك وتعالى. فكيف إذا انضم إلى ذلك أن حركتهم
هذه إنما هي باتجاه بيت الله ، وحرمه ، وأقدس البقاع وأشرفها؟ ويقودهم ويرعاهم
أفضل الأنبياء وأكرمهم وأشرفهم؟!.
ولعل
أهم ما في الأمر : أن ذلك يحقق درجة كبيرة من التمازج العملي فيما بين المعاني والقيم
الإيمانية ، وبين حركة الإنسان في الحياة ، ويعطي هذه الحركة معناها الروحي ،
ويتجلى ذلك فيها بعمق ، وبوضوح ، ويمنح الإنسان قدرة أكبر على الشعور بهذا التمازج
، وتتفاعل مشاعره وأحاسيسه معه ، وتحت وطأته.
الأحلاف في الجاهلية والإسلام :
قالوا
: كانت خزاعة في
الجاهلية أصابت رجلا من بني الحضرمي ، واسمه مالك بن عباد ـ وحلف الحضرمي يومئذ
إلى الأسود بن رزن ـ وكان هذا الحضرمي قد خرج تاجرا ، فلما توسط أرض خزاعة عدوا
عليه فقتلوه ، وأخذوا ماله.
فمر رجل من
خزاعة على بني الديل بعد ذلك فقتلوه ، فوقعت الحرب بينهم ، فمر بنو الأسود بن رزن
، وهم : ذؤيب ، وسلمى ، وكلثوم على خزاعة ، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
وكان قوم
الأسود منخر بني كنانة يودون في الجاهلية ديتين لفضلهم في بني بكر ، ونودى دية.
فبينا بنو بكر
وخزاعة على ذلك بعث رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فحجز بالاسلام بينهم ، وتشاغل الناس به ، وهم على ما
هم عليه من العداوة في أنفسهم.
فلما كان صلح
الحديبية بين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وبين قريش ، ووقع الشرط : «ومن أحب أن يدخل في عقد
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فليدخل ، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش فليدخل» ، دخلت
خزاعة في عقد رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
حلف خزاعة :
وقالوا
أيضا : وكانت خزاعة
حلفاء عبد المطلب بن هاشم ، وكان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بذلك عارفا ، ولقد جاءته خزاعة يومئذ
بكتاب عبد المطلب فقرأه عليه أبي بن كعب وهو :
«باسمك اللهم.
هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة ، إذ قدم عليه سرواتهم وأهل الرأي ، غائبهم مقر
بما قاضى عليه شاهدهم ، إن بيننا وبينكم عهود الله وعقوده ، وما لا ينسى أبدا ،
اليد واحدة ، والنصر واحد ما أشرف ثبير ، وثبت حراء مكانه ، وما بل بحر صوفة. ولا
يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجددا أبد الدهر سرمدا».
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «ما أعرفني بخلقكم على ما أسلمتم عليه من الحلف! فكل حلف كان في الجاهلية
فلا يزيده الإسلام إلا شدة. ولا حلف في الإسلام» .
وفي
الإمتاع : أن نسخة كتاب
الحلف هي :
«باسمك اللهم.
هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة ، تحالفوا
على التناصر والمواساة ما بلّ بحر صوفة ، حلفا جامعا غير مفرق ، الأشياخ على
الأشياخ ، والأصاغر على الأصاغر ، والشاهد على الغائب ، وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد
عهد ، وأوثق عقد ، لا ينقض ولا ينكث ، ما أشرقت شمس على ثبير ، وحنّ بفلاة بعير ،
وما أقام الأخشبان ، وعمر بمكة إنسان ، حلف أبد ، لطول أمد ، يزيده طلوع الشمس شدّا
، وظلام الليل مدا ..
__________________
وأن عبد المطلب
وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون ، متظاهرون متعاونون ، فعلى عبد المطلب
النصرة لهم بمن تابعه على كل طالب ، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم
على جميع العرب ، في شرق أو غرب ، أو حزن أو سهل. وجعلوا الله على ذلك كفيلا ،
وكفى بالله جميلا».
فجاؤوا بعهدهم هذا
إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» في الحديبية ، فقرأه له أبي بن كعب ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : ما أعرفني بحقكم وأنتم على ما أسلفتم عليه من الحلف .
سبب حلف خزاعة :
وذكروا
عن سبب عقد هذا الحلف :
أنه لما مات
المطلب بن عبد مناف ، وثب أخوه نوفل على ساحات وأفنية كانت لعبد المطلب ، واغتصبه
إياها ، فضطرب عبد المطلب لذلك ، واستنهض قومه ، فلم ينهض معه أحد منهم ، وقالوا
له : لا ندخل بينك وبين عمك.
فكتب إلى
أخواله بني النجار ، فجاءه منهم سبعون راكبا ، فأتوا نوفلا ، وقالوا له : ورب هذه
البنية ، لتردنّ على ابن أختنا ما أخذت ، وإلا ملأنا منك السيف ، فرده.
ثم حالف خزاعة
بعد أن حالف نوفل بني أخيه عبد شمس .
__________________
ونقول
:
إن لنا مع
النصوص المتقدمة وقفات عديدة ، نقتصر منها على ما يلي :
حلف أهل الباطل :
قد اتضح مما
تقدم : أن نوفلا كان متعديا على عبد المطلب غاصبا لحقه ، وأن عبد المطلب حين لم
ينهض معه أحد من قومه اضطر إلى الاستعانة بأخواله من بني النجار ، ثم حالف خزاعة ،
ليمتنع بهم إن تعرض له احد بظلم ، لكي يدفع عن نفسه ، ويعيش مرهوب الجانب عزيزا
مكرما ..
ولكن نوفلا
الذي ظلم عبد المطلب ، ولم يتراجع عن موقفه إلا تحت وطأة التهديد باستعمال السيف ،
قد حالف بني أخيه عبد شمس ، ليتقوى بهم على مواصلة سيرته ونهجه ، وهم لم يجدوا في
التحالف معه على ذلك أي حرج أو مانع ..
وشتان بين من
يحالف جماعة ليتقوى بهم على إحقاق الحق ، وبين من يحالف الآخرين ليتقوى بهم على
إشاعة نهجه الإنحرافي والظالم ..
لا حلف في الإسلام :
ومن خلال
المعادلة المشار إليها آنفا ندرك صحة ما يرمي إليه قوله «صلىاللهعليهوآله» : «كل حلف في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة. ولا
حلف في الإسلام».
فإن المقصود
بالحلف الذي في الجاهلية ، ويزيده الإسلام شدة ، هو الحلف الهادف إلى نصرة الحق ،
والمتضمن للتعاون ، والتناصر ، والمواساة ، ودفع الظلم .. فإن الإسلام يشدد على
الاستمرار في هذا الاتجاه ، ويؤكد على
الالتزام بمضمون كل حلف فيه هذه المزايا ، ويدعو إلى دخول جميع الناس في
هذا الالتزام ..
ولكن الإسلام
لا يرضى بنشوء حلف فيما بين المسلمين ضد أي فريق آخر منهم أنفسهم ، لأن معنى هذا
هو : إقرار الإسلام حالة الإنقسام فيما بين أهل الصف الواحد ، وأتباع النهج والدين
الواحد ، في حين أن دعوة الإسلام تقوم على اعتبار المسلمين يدا واحدة على من سواهم
، ويريد لهم : «أن يكونوا بمثابة أسرة واحدة متكاملة العناصر ، لهم قيّم
واحد ، وهو النبي «صلىاللهعليهوآله» أو الإمام «عليهالسلام» ، وقد روي عنه «صلىاللهعليهوآله» قوله : أنا وعلي أبوا هذه الأمة .
__________________
وتتشارك سائر العناصر في بناء الحياة في أخوة مسؤولة ، متعاونة ، ومتكافلة
،
__________________
ومنسجمة على قاعدة : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ، تقوم على أساسين اثنين هما : الحق والمواساة ، كما
اتضح من مؤاخاته «صلىاللهعليهوآله» بين المسلمين. وقد ذكرنا ذلك في جزء سابق من هذا
الكتاب.
مرتكزات حلف عبد المطلب وخزاعة :
وإذا تأملنا في
مضمون حلف عبد المطلب مع خزاعة ، فإننا نجده قائما على نفس المرتكزات التي قامت
عليها المؤاخاة فيما بين المسلمين حسبما قدمناه في هذا الكتاب ..
فإن
كانت المؤاخاة قد قامت على دعامتين هما : الحق والمواساة. فإن حلف عبد المطلب وخزاعة أيضا قد قام
على نفس هاتين الدعامتين ، لأنه جاء لحماية الحق ، وتأكيد الالتزام به ، والانتصار
له ، والتناصر فيه ، والتعاون على حفظه ، والالتزام بالمواساة فيه.
كما أنه صرح أو
أشار إلى حيثيات تؤكد على هذا المسار ، وتبين معالمه ، وتوضح آفاقه.
فهو ـ كما
صرحت الروايات ـ :
١ ـ حلف جامع
غير مفرق.
وهو
يقوم على :
٢ ـ التكافؤ
فيما بين أفراده وشرائحه ، فالكل متكافئون ..
٣ ـ والتناصر
.. إلى حد يكون فيه النصر واحدا ، لا تمييز فيه بين كبير وصغير.
__________________
٤ ـ والتعاون حتى
إن اليد واحدة.
٥ ـ والمواساة.
٦ ـ وأساس هذا
الحلف عهود الله وعقوده ..
٧ ـ وهو يخضع
لرعاية الله تبارك وتعالى ، فهو سبحانه الكفيل والضامن وغير ذلك من لمحات وإشارات
يجدها فيه المتأمل الخبير ، والناقد البصير.
قريش تنقض العهد :
وقد نقضت قريش
عهدها الذي عقدته مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في الحديبية.
وقالوا
: إن سبب ذلك هو
: أنه لما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية ، كلمت بنو نفاثة
وبنو بكر أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة ، وذكروهم
القتلى الذين أصابت خزاعة منهم.
وأرادوا أن
يصيبوا منهم ثأر أولئك النفر الذين أصابوا منهم في بني الأسود بن رزن ، وناشدوهم
بأرحامهم ، وأخبروهم بدخولهم في عقدهم ، وعدم الإسلام ، ودخول خزاعة في عقد محمد
وعهده.
فوجدوا القوم
إلى ذلك سراعا ، إلا أن أبا سفيان بن حرب لم يشاور في ذلك ولم يعلم .
__________________
ويقال
: إنهم ذاكروه
فأبى ذلك .
فأعانوا
بالسلاح والكراع والرجال ، ودسوا ذلك سرّا لئلا تحذر خزاعة ، وخزاعة آمنون غارون
لحال الموادعة ، ولما حجز الإسلام بينهم.
ثم اتعدت قريش
وبنو بكر وبنو نفاثة أن يأتوا إلى (الوتير) ، وهو موضع أسفل مكة ، وهو منازل خزاعة
، فوافوا للميعاد فيهم رجال من قريش ، من كبارهم ، متنكرون منتقبون ؛ منهم : سهيل
بن عمرو ، وصفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وحويطب بن عبد العزى ، وشيبة بن
عثمان ـ وأسلموا بعد ذلك ـ ومكرز بن حفص ، وأجلبوا معهم أرقاءهم.
ورأس بني بكر
نوفل بن معاوية الديلي ـ وأسلم بعد ذلك ـ.
فبيتوا خزاعة
ليلا ، وهم غارون آمنون ـ وعامتهم صبيان ، ونساء ، وضعفاء الرجال ـ فلم يزالوا
يقتلونهم حتى انتهوا إلى أنصاب الحرم.
فقال
أصحاب نوفل بن معاوية له : يا نوفل ، إلهك ، إلهك. قد دخلت الحرم!
فقال
كلمة عظيمة : لا إله لي اليوم ، يا بني بكر ، لعمري إنكم لتسرقون الحاج في الحرم ، أفلا
تدركون ثأركم من عدوكم ، ولا يتأخر أحد منكم بعد يومه عن ثاره؟!
فلما انتهت
خزاعة إلى الحرم دخلت دار بديل بن ورقاء ، ودار مولى لهم يقال له : رافع الخزاعيين
، وانتهوا بهم في عماية الصبح.
ودخلت رؤساء
قريش منازلهم ، وهو يظنون أنهم لا يعرفون ، وأنه لا
__________________
يبلغ هذا رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وأصبحت خزاعة
مقتّلين على باب بديل ورافع.
وقال
سهيل بن عمرو لنوفل بن الحرث : قد رأيت الذي صنعنا بك وبأصحابك ، ومن قتلت من القوم ،
وأنت قد حصدتهم تريد قتل من بقي ، وهذا ما لا نطاوعك عليه ، فاتركهم.
فتركهم ،
فخرجوا.
وندمت قريش ،
وندموا على ما صنعوا ، وعرفوا أن هذا الذي صنعوه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين
رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وجاء الحارث بن
هشام ، وعبد الله بن أبي ربيعة إلى صفوان بن أمية ، وإلى سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن
أبي جهل ، فلاموهم بما صنعوا من عونهم بني بكر على خزاعة ، وقالوا : إن بينكم وبين
محمد مدة ، وهذا نقض لها .
وقيل
: إنهم قتلوا
منهم عشرين رجلا .
وقيل
: إن سبب نقض
العهد ليس هو سعي بني نفاثة لأخذ ثأرهم القديم من خزاعة ، بل السبب هو : أن شخصا
من بني بكر ، وهو أنس بن زنيم الديلي ، هجا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وصار يتغنى به ، فسمعه غلام من
__________________
خزاعة ، فضربه فشجه ، فثار الشر بين الحيين ، مما كان بينهم من العداوة.
فطلب بنو نفاثة
من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة ، فأمدوهم بذلك ، فبيتوا
خزاعة وهم غارون آمنون .. وقاتل معهم جمع من قريش الخ .. .
واعتزلت بنو
مدلج ، فلم ينقضوا العهد .
كما أن أبا
سفيان لم يشاور في ذلك ولم يعلم .
وقال
الطبرسي : «لما مضت سنتان من القضية (يعني عمرة القضاء) قعد رجل من
كنانة يروي هجاء رسول الله ، فقال له رجل من خزاعة : لا تذكر هذا.
قال
: وما أنت وذاك؟!
فقال
: لإن أعدت
لأكسرن فاك!
__________________
فأعادها ، فرفع
الخزاعي يده ، فضرب بها فاه.
فاستنصر
الكناني قومه ، والخزاعي قومه. وكانت كنانة أكثر ، فضربوهم حتى أدخلوهم الحرم ،
وقتلوا منهم. وأعانتهم قريش بالكراع والسلاح.
فركب عمرو بن
سالم إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فخبره الخبر» .
وستأتي قصة
عمرو بن سالم.
ولكننا
قبل ذلك نشير : إلى بعض الأمور التي ترتبط بما تقدم ، فنقول :
سبب نقض العهد واحد :
قد يبدو للوهلة
الأولى من ملاحظة النصوص المتقدمة أن ثمة اختلافا حول سبب إقدام قريش على نقض
العهد.
ولكن
الحقيقة هي : أن مجموع تلك النصوص يشير إلى أمر واحد مترابط ومنسجم ، وهو : أن أحد بني
كنانة ، ولعله من بني نفاثة ، صار يروي هجاء رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأنذره الخزاعي ، فلم يرتدع ، فضربه الخزاعي ،
فاستنصر الكناني قومه ، فطلبوا النصر من قريش ، فنصروهم وجرت الأمور بعد ذلك وفق
ما فصّلته الرواية الأولى.
إستغلال الضغائن :
وقد
لو حظ : أن بني نفاثة
حين انتصروا لصاحبهم ، إنما حركهم إلى ذلك أحقادهم على خزاعة ، وتربصهم بها ،
لترات لهم عندها في حوادث
__________________
جرت قبل البعثة النبوية الشريفة حسبما تقدم بيانه ..
ولكنهم حين
يطلبون المساعدة من قريش تراهم يلجأون إلى تذكيرها بما تعتبره ميزة وفضلا ، وهو :
أن بني نفاثة لم يسلموا ، وأنهم دخلوا في عقد قريش ضد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
ثم
يحتجون لهم على استحقاق خزاعة للعقوبة : بأنها قد دخلت في عقد محمد وعهده .. فكان هذا وذاك من
موجبات مسارعة قريش للمشاركة في توجيه تلك الضربة القاسية لخزاعة ..
فحقد قريش على
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وعلى الإسلام وأهله قد دعاها إلى المشاركة في جريمة
قتل الصبيان ، والنساء ، والضعفاء .. ونقض العهد والغدر بالآمنين ، واجتياحهم ،
وأخذهم على حين غرة.
واللافت
هنا : أن الذين
يستجيبون لهذه المحركات ، لا لنداء الضمير والوجدان والعقل والشرف والشهامة
والرجولة هم ـ على حد تعبير الرواية ـ «رجال من قريش ، من كبارهم»!! ..
مع أن هؤلاء هم
الذين يفترض فيهم أن يكونوا أبعد الناس عن التصرفات الرعناء ، وعن الانقياد
للنزوات الطائشة. ويتوقع منهم أن يزنوا الأمور بموازين فيها شيء من بعد النظر
والاتزان ، وحساب العواقب.
ولكن الأمور قد
جرت في غير هذا الاتجاه ، كما رأينا ..
الغدر بالضعفاء ، وبالصبيان والنساء :
وإن الغدر قبيح
من كل أحد ، لأنه ينافي الرجولة ، وميثاق الشرف ، والشهامة ، وأعظم منه قبحا : أن
يغدر القوي بالضعيف ، فكيف إذا كان هذا
الضعيف هو الصبيان ، والنساء ، والضعفاء من الرجال؟!
وكيف إذا كان
الغادر هم كبار القوم ، والمدّعون للشرف ، بل لمقام الأشرفية والرئاسة فيهم؟!
وكيف إذا كان
هؤلاء الكبار المشاركون هم أنفسهم الذين أعطوا العهود والمواثيق وتعهدوا بالوفاء؟!.
بل إن بعضهم
كان هو المفاوض في تلك العهود ، والمتولي لإبرامها ، والمشرف على نصوصها ، والموقع
عليها وأعني به سهيل بن عمرو!!
إنه غدر
بالآمنين الذين يستندون في أمنهم إلى عهد وعقد وميثاق ، معقود مع نفس هؤلاء
الغادرين بأشخاصهم وأعيانهم ، فليس هو أمن الغفلة والتقصير في الاحتياط ، ولم يكن
الغادر ممن يحسن الاحتياط معه ومنه ..
القسوة .. لماذا؟! :
ولا نجد تفسيرا
معقولا لهذه القسوة من قريش ، ومن كبارها على النساء والصبيان ، وضعفاء الرجال ،
فهم يبيحون لأنفسهم قتلهم ، لا على سبيل الصدفة والاتفاق ، بل عن سابق تخطيط
وتدبير ، وسعي للإستفراد بهم واستئصالهم قبل أن يتنبه الآخرون لما يحدث ..
بل
نحن نستغرب : أن يقدم حتى بنو نفاثه على أمر كهذا. وهم الذين يدّعون أن قتل النساء كان
عيبا في الجاهلية .. فكيف بالضعفاء ، والصبيان؟!. فضلا عن أن يمعنوا في ملاحقتهم
حتى ألجأوهم إلى الحرم!! ثم لاحقوهم حتى في الحرم نفسه ، إلى دار بديل بن ورقاء ،
ورافع الخزاعي!!
حرمة الحرم لدى قريش :
وإذا
كانت قريش ترى : أن عزها ومجدها وفخرها هو في رعايتها لحرمة الكعبة والحرم ، فما بال
الكبار فيها قد رضوا بهتك حرمة الحرم ، وشاركوا هم في ذلك ، ولم نسمع من أحد منهم
كلمة ملامة لأحد من أولئك المعتدين على الأرواح ، وعلى قدس المقدسات؟! حتى بعد أن
حصل ما حصل ..
وكيف يمكننا
تفسير موقف قريش من قضية القتال في يوم يشك في أن يكون هو أول الشهر الحرام وهو
شهر رجب ، أو آخر الشهر الذي قبله ، حيث شنعت على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأثارت عاصفة من الشكوى والتظلم من أجل ذلك ، رغم أن
هذا القتال قد كان مع الظالمين والمعتدين ، والذين يصدون عن سبيل الله. قال تعالى
: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قُلْ : قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ
يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ) .
ثم إنها وعلى
أعلى المستويات فيها يعتدي كبارها على قوم بينها وبينهم عهد وميثاق. فيغدرون بهم ،
ويختارون قتل خصوص النساء والصبيان والضعفاء منهم ، حتى في حرم الله تبارك وتعالى
..
__________________
بل إن هذا
التعدي لا ينحصر بهتك حرمة الحرم ، بل يتجاوزه إلى التصريح بالإلحاد ، وإنكار أصل
الألوهية ، وذلك حين يقول أصحاب نوفل : إلهك إلهك!! قد دخلت الحرم.
فيقول : لا إله
لي اليوم.
هل ندموا حقا؟!
وبعد .. فإننا لم نستطع فهم ما يرمي إليه قولهم : ندمت قريش
وندموا على ما صنعوا ، وعرفوا أن هذا الذي صنعوه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
وذلك لأن قرائن
الأحوال تشهد بعدم صحة هذا الكلام :
أولا
: لأن رجال قريش
قد تنكروا وتنقبوا حين جاؤوا لمساعدة بني بكر ، مع أن بني بكر كانوا حلفاءهم ، وقد
دخلوا في عقدهم ، فعليهم نصرهم علنا ، ولا ضرورة للتنكر والتنقب إن لم يكونوا
يريدون تعمية الأمور ، لكي لا يظهر للناس أنهم قد نقضوا عهدهم مع النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
ثانيا
: إن بني نفاثة
حين كلموا قريشا في نصرهم على خزاعة قد ذكروا لها أنهم داخلون في حلفهم ضدّ محمد «صلىاللهعليهوآله» ، وخزاعة داخلة مع النبي في الحلف والعقد ضدهم.
فهم إذا
ملتفتون إلى هذا العقد والعهد ، مدركون أن المهاجم متحالف مع قريش ، وأن المقصود
بالهجوم متحالف مع المسلمين في عهد الحديبية.
فما معنى
ادّعاء الروايات ورواتها أن قريشا بعد أن ارتكبت جريمتها
في حق خزاعة «عرفوا أن هذا الذي صنعوه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..؟.
ثالثا
: إن هناك
روايات تقول : إنهم كلموا أبا سفيان ، فأبى ذلك .
فلماذا لا يرضى
أبو سفيان بنصر حلفائه؟! وهو الحاقد على خزاعة بسبب ميلها إلى رسول الله وتحالفها
معه «صلىاللهعليهوآله».
ألا يدل
امتناعه هذا على أنه يرى في ذلك ضررا بالغا ، ودخولا في أمر خطير ، من حيث أنه نقض
للعقد والعهد القائم بينهم وبين المسلمين؟!
رابعا
: ما معنى قول
هؤلاء الرواة أنفسهم : إنه بعد انتهاء الهجوم وحصول المجزرة «دخلت رؤساء قريش
منازلهم ، وهم يظنون : أنهم لا يعرفون ، وأنه لا يبلغ هذا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..»؟!
أليس ظنهم هذا
يؤدي بهم إلى إدراك أن بلوغ هذا الأمر لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» سوف يؤدي إلى نشوء مشكلة خطيرة لهم معه؟!
ولا مبرر
لاعتبار ذلك مشكلة إلا لأنهم يدركون أن ما فعلوه له مساس مباشر بالعقود التي تحكم
فيما بينهم وبينه «صلىاللهعليهوآله» ..
بنو نفاثة يسرقون الحاج :
واللافت
هنا : هذا المنطق
الخسيس الذي اعتمده نوفل بن معاوية لتحريض بني بكر على الإمعان في قتل النساء
والصبيان والضعفاء ، وتوقعه ذلك منهم حتى في داخل الحرم .. فإنه قال لهم : «إنكم
لتسرقون الحاج في
__________________
الحرم ، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم»؟!
فإذا كان هؤلاء
يسرقون الحجاج وهم في حرم الله تبارك وتعالى ، فهل يتوقع منهم احترام المقدسات ،
والوقوف عند حدود الله سبحانه ، والالتزام بأمره ونهيه؟!
وإذا كان هذا
هو منطق رئيس بني بكر ، وتلك هي أوامره لمن هم تحت إمرته ، وهذه هي توقعاته منهم!!
وإذا كان
يدفعهم بهذا المنطق إلى متابعة جرائمهم لاستئصال الأبرياء ، من النساء والصبيان
والضعفاء!!
وإذا
كان يصور لهم : أن هؤلاء الصبيان الذين قد لا يعرفون شيئا مما يدور حولهم ، بل إنهم غير
قادرين على إدراك معنى الشر ، بالإضافة إلى النساء ، والضعفاء ـ يصورهم على أنهم
هم أعداؤهم الذين يريد منهم أن يعملوا فيهم سيوفهم إلى حد الاستئصال.
وإذا كان نفس
هذا الرئيس ينكر وجود الإله لمجرد تبرير اندفاعه للتنفيس عن حقده على هذا النوع من
الناس.
وإذا كان
الرئيس هو الذي يفترض فيه أن يكون الأكثر وعيا وإحساسا بالمسؤولية ..
فما الذي
نتوقعه من همج رعاع ، وجهلة أغبياء ، وأشرار أشقياء ، يمتهنون سرقة الحاج في حرم
الله تعالى ، وعند بيته المحرم؟!
وهذا يدلنا على
مدى معاناة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، الذي جاءهم من عند الله بأصفى وأفضل التعاليم ، التي
هي محض الخير ، وكل العطاء ، وحقيقة البر والرحمة ، والنور الأنور ، والطهر الأصفى
، والنبل
والوفاء ، والتضحية والفداء ، وسائر المعاني الإنسانية في أرقى الدرجات ،
وأفضل الحالات.
بديل بن ورقاء وما جرى :
وقد
قرأنا في النصوص المتقدمة : أن خزاعة أصبحت مقتّلة على باب بديل بن ورقاء ورافع
الخزاعيين ..
وسنقرأ
فيما يلي : أن بديلا قد عاش هذه المحنة ، وتجرع غصتها ، ولمس بشاعتها في بيته وعلى
باب داره ، أكثر من أي إنسان آخر ..
فما بالنا نرى
هذا الرجل بالذات رفيقا لأبي سفيان حين خرج من مكة يترقب الأخبار ، ليعرف حقيقة
تحركات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فيما يرتبط بهذا الحدث؟ فلماذا لا يكون لبديل موقف
سلبي وغاضب من قريش ورموزها؟
ويمكن
أن نجيب عن هذا السؤال بما يلي :
أولا
: إن أبا سفيان
ـ كما تدّعيه بعض الروايات ـ أبى أن يستجيب لطلب بني بكر فيما يرتبط في توجيه
الضربة لخزاعة .
أو أنه لم
يشاور في هذا الأمر ، ولم يعلم ، ولكنه حين علم لم يرض ، ولم يغضب كما تقدم وسيأتي
.
__________________
أو أنه كان في
الشام ولم يكن في مكة حين الإعتداء على الخزاعيين .
وهذا
معناه : أن لا يجد
بديل بن ورقاء أي مانع من الإبقاء على علاقته به ، ويكون همزة وصل ، لو حصل في
المستقبل ما يحتاج إلى تفاوض ، أو تدخل لمنع حدوث الأسوأ ..
ثانيا
: إنه إذا كانت
خزاعة تعيش في دائرة الخطر ، ولم يكن يمكنها الحصول على الأمن المطلوب إلا عن طريق
المداراة والمصانعة ، بانتظار الوقت الذي تتمكن فيه من تجاوز المحنة ، أو كان هذا
الأمر يختص ببديل بن ورقاء فقط ، فإن هذه المداراة تصبح مقبولة إذا بقيت في حدود
المعقول ، وليس في ذلك أية غضاضة أو وهن على بديل ولا على خزاعة ، وذلك ظاهر لا
يخفى.
بين الثأر .. والقصاص :
وقد
تقدم : أن نوفل بن
معاوية صار يقرّع بني بكر ويقول لهم : «تسرقون الحاج في الحرم ، ولا تدركون ثاركم»!!
ومعلوم
: أن مفهوم
الثأر يعتمد على تبلور حالة من الحنق الشخصي في اندفاع ساحق ومدمر ، مع إغفال أي
حساب آخر سوى إرضاء نزعة الحقد الأسود بهذا البطش الأرعن وغير المسؤول ، الذي لا
يبالي بالضحية التي تكون في موقع البراءة والطهر في أكثر الأحيان ..
وخير
شاهد على هذه الرعونة هو : انتقام بني بكر حتى من الصبيان والنساء ، والضعفاء ،
وذلك ثأرا لأناس قتلوا قبل عشرات السنين. أي قبل
__________________
ولادة كثير من هؤلاء الضحايا بسنوات كثيرة بلا ريب ..
فالثأر يهدف
إلى التدمير والإبادة والاستئصال حتى للبريء ..
وقد
قال سهيل بن عمرو لنوفل بن الحرث بن معاوية : «وأنت قد حصدتهم ، تريد قتل من بقي»؟
وإذا كان
الحاكم هو منطق الأحقاد والضغائن ، لا الأخلاق والقيم والمبادئ والشرع ، أو العقل
، فلا بد من أن ينتج هذا السلوك حرصا على مقابلة الإساءة بالإساءة ، والتدمير
والاستئصال حتى للأبرياء بمثله ، ويحول الوحدة إلى تشتت وتفرق ، والجماعة والعصبة
إلى تمزق ، ويتحول اهتمام المجتمع من العمل على لم الشعث ، والتعاون على البر
والتقوى ، ليصبح تعاونا على الإثم والعدوان وعلى معصية الله ورسوله.
وهذا هو الفرق
بين الثأر والقصاص.
فإن القصاص
إجراء تربوي إصلاحي ، يهدف إلى إرساء قواعد القسط والعدل ، وإلى جعل الحياة أكثر
صفاء ونقاء ، بل أكثر حيوية وقوة واندفاعا ، على قاعدة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا
أُولِي الْأَلْبابِ) .
وفي القصاص
حفاظ على النفوس ، ومحاصرة للجريمة ، وخنق لها في مهدها ، وقطع دابرها ، وإعفاء
آثارها ..
والقصاص
معناه : حصر الجريمة
في مصدرها وهو المجرم نفسه ، ثم استئصاله واستئصالها به ، وتطهير المحيط منه
ومنها.
والقصاص يرسي
قواعد الأمن المجتمعي ، ويبعد الناس عن العيش في
__________________
أجواء التآمر ، والكيد والتربص شرا بالآخرين وينمي حالة الثقة والتعاون
فيما بين الناس.
والقصاص يهيئ
الأجواء لإشاعة مفهوم الكرامة للإنسان ، ويؤكد قيمته ، ويحدّ من الطموح للتعدي
عليه وهتك حرمته ..
وبالقصاص يعطي
العدل قيمته ومعناه ، وينصب أمام أعين الناس مثلا وقيما ومعاني إنسانية لتكون موضع
طموحهم ، وغاية ومنتهى آمالهم.
الفصل الثاني :
إلى المدينة : خبر وشكوى
النبي صلىاللهعليهوآله يخبر بالغيب عن نقض العهد :
روي
: أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال لعائشة صبيحة كانت وقعة بني نفاثة وخزاعة بالوتير
: «يا عائشة ، لقد حدث في خزاعة أمر».
(أو قال : لقد حرت في أمر خزاعة) .
فقالت
عائشة : يا رسول الله
، أترى قريشا تجترئ على نقض العهد الذي بينك وبينهم ، وقد أفناهم السيف؟
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «ينقضون العهد لأمر يريده الله تعالى».
فقالت
: يا رسول الله
، خير؟
قال
: «خير» .
وعن
ميمونة بنت الحارث : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بات عندها ليلة ، فقام ليتوضأ إلى الصلاة ، فسمعته
يقول في متوضئه : «لبيك ، لبيك ، لبيك ـ ثلاثا ـ نصرت ، نصرت ، نصرت ـ ثلاثا ـ».
__________________
قالت
: فلما خرج قلت
: يا رسول الله ، سمعتك تقول في متوضئك : «لبيك ، لبيك ـ ثلاثا ـ نصرت ، نصرت ـ ثلاثا»
كأنك تكلم إنسانا ، فهل كان معك أحد؟
قال
: «هذا راجز بني كعب يستصرخني ، ويزعم أن قريشا أعانت
عليهم بكر بن وائل».
قالت
ميمونة : فأقمنا ثلاثا
ثم صلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الصبح بالناس ، فسمعت الراجز ينشد :
يا رب إني
ناشد محمدا
|
|
حلف أبينا
وأبيه الأتلدا
|
فذكرت الرجز
الآتي .
لماذا عائشة دون سواها؟! :
إننا لا نريد
أن نثير أي سؤال ذا طابع تشاؤمي حول سبب مبادرة النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى إخبار عائشة دون سواها بهذا الأمر الغيبي الخطير ،
الذي سوف يظهر صدقه ، وتتجلى دلائله وبراهينه في وقت قصير ..
وقد كان
بإمكانه «صلىاللهعليهوآله» أن يذكر هذا الغيب في ملأ من الناس ، ليصبح أكثر شيوعا
، وليسهم ـ من ثم ـ في تثبيت إيمان الناس ،
__________________
والربط على قلوبهم ..
وإنما
نريد هنا أن نشير فقط : إلى أن تخصيص عائشة بهذا الخبر الغيبي الخطير ، من شأنه أن يجعلها أكثر
حرصا على رواية هذا الحدث ، وإشاعته ، ما دام أنها ترى فيه تأكيدا على دورها
المميز ، وحضورها الفاعل.
ثم هو يوحي
بأنها كانت بحاجة لمزيد من الدلائل والشواهد على رعاية الغيب لمسيرة الرسالة
والرسول ، ليحيا من حيي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة ..
وغني
عن القول : أن هذا التبرير أو ذاك يبقى في دائرة التظني أو الاحتمال ، ولا يجد ما
يلغيه أو ما يؤكده بصورة قاطعة ويقينية ، فما علينا إذا أوكلنا أمر ذلك إلى المزيد
من التأمل والتدبر أي جناح ..
حرت في أمر خزاعة :
وأما
بالنسبة لما زعمه الواقدي : من أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : «لقد حرت في أمر خزاعة» ، فهو مرفوض جملة وتفصيلا لأسباب عديدة ، نذكر منها :
أولا
: إن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يتحير في هذا الأمر ولا في سواه ، فإن التكليف
الإلهي واضح لديه ، وهو واضح هنا أيضا لكل أحد ، إذ لا بد له من التعاطي مع ناكثي
العهود بما يوجبه الشرع والدين .. وهو «صلىاللهعليهوآله» مسدد بالوحي ، عارف بأمر الله ، وهو عقل الكل ، وإمام
الكل ، ومدبر الكل ، فلم يكن ليخفى عليه وجه الصلاح ، ولا حكم
__________________
الله في هذا الأمر.
ثانيا
: إذا كان لا بد
من الحيرة ، فلا بد من أن تكون حيرة في أمر قريش ، وبكر بن وائل ، لا في أمر
خزاعة. فإن خزاعة قد نكبت وظلمت ، فلا بد من التفكير في طريقة كف الظالم عن ظلمه ،
وردع الباغي عن بغيه بعد أن لم ينتفعوا بالآيات والنذر ، ولم يستجيبوا لنداء العقل
، ولم يلتزموا بما يوجبه عليهم معنى الرجولة والشهامة ، وغير ذلك من معاني كانوا
يزعمون أن لها دورا وموقعا في حياتهم ، وفي قراراتهم ، وحركتهم ، وإقدامهم ،
وإحجامهم.
سلب الألطاف الإلهية :
إن الشرك
والكفر من أعظم الذنوب التي لا يبقى معها أيّ أهلية للطف الإلهي ، ولكن عدم
الأهلية هذا لا يفرض حجب الألطاف بصورة قاطعة ونهائية .. فقد تكون هناك عوامل أخرى
توجب التفضل الإلهي على فاقد الأهلية ، بسبب ابتلائه بالشرك .. فمن كان سخيا ، أو
حليما ، أو بارا بوالديه ، أو بغيرهما من ذوي رحمه ، ربما يتفضل الله تعالى عليه
ببعض العنايات والتوفيقات ، حفظا لتلك الخصال ، أو مكافأة على بعض الأفعال ، أو
لطفا بغيره من أهل الحاجة والاستحقاق ..
وقد
ورد : أن بعض خصال الخير التي تكون في غير المؤمنين إنما جعلها
الله فيهم لأجل حفظ أهل الإيمان.
فقد
روي عن أبي عبد الله «عليهالسلام» أنه قال : إن الله تبارك وتعالى أعار أعداءه أخلاقا من أخلاق
أوليائه ، ليعيش أولياؤه مع أعدائه في دولاتهم.
وفي
رواية أخرى : ولو لا ذلك لما تركوا وليا لله إلا قتلوه .
وقد أتي «صلىاللهعليهوآله» بأسارى ، فأمر بقتلهم باستثناء رجل منهم ، فقال الرجل
: بأبي أنت وأمي يا محمد ، كيف أطلقت عني من بينهم؟!
فقال
: أخبرني جبرئيل
عن الله عزوجل أن فيك خمس خصال يحبها الله ورسوله : الغيرة الشديدة على
حرمك ، والسخاء ، وحسن الخلق ، وصدق اللسان ، والشجاعة.
فلما سمعها
الرجل أسلم الخ .. .
وهناك قضية
أخرى تدخل في هذا السياق ، وقد تكون نفس هذه القضية ، وقد تكون غيرها فراجعها .
وفي المقابل ،
ربما يكون لبعض الموبقات ، التي يرتكبها المشرك أو
__________________
الكافر ، أثر في تأكيد حجب جميع أشكال ودرجات التوفيق ، وإيكال هذا المجرم
إلى نفسه بصورة تامة ونهائية ، لينتهي به الأمر إلى أن يؤثر ذلك حتى على مستوى
إدراكه ، أو على سلامة هذا الإدراك ، أو يوقع هذا المجرم في بحر من الغفلة ،
والجهل ، والجهالة التي قد تصل إلى حد الغواية التامة عن طريق الرشد ، في أبسط
مراتبه ، وأدنى حالاته ..
وهذا هو ما حصل
لقريش بالفعل ، كما ربما يفيده قول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لعائشة : «ينقضون العهد لأمر يريده الله» حيث كان لا
بد من حسم أمر الطغيان القرشي ، لينتعش الشعور بالعزة لأهل الإيمان ، ويتأكد سقوط
عنفوان الشرك ، ويعيش رموزه حالة الذل والخزي الأمر الذي من شأنه أن يفسح المجال
أمام دعوة الحق والإيمان لتأخذ طريقها إلى قلوب المستضعفين ، الذين كانوا بأمس
الحاجة إليها.
وكان الطريق
إلى ذلك هو ترك قريش لتتمادى في ممارسة دورها وفق ما يحلو لها ، وترتكب حماقاتها ،
وتظهر على حقيقتها ، ويتجلى خزيها لكل أحد ، لتنال جزاء أعمالها بعيدا عن أي لبس
أو شبهة ، أو تأويل خادع.
النبي صلىاللهعليهوآله .. ونصر بني كعب :
وقالوا
: إن عمرو بن
سالم الخزاعي خرج في أربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ويخبرونه بالذي أصابهم ، وما ظاهرت عليهم قريش ،
ومعاونتها لهم بالرجال ، والسلاح ، والكراع ، وحضور صفوان بن أمية ، وعكرمة ، ومن
حضر من قريش. وأخبروه بالخبر ، ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» جالس في المسجد بين أظهر
الناس ، ورأس خزاعة عمرو بن سالم ، فلما فرغوا من قصتهم ، قام عمرو بن سالم
، فقال :
يا رب إني
ناشد محمدا
|
|
حلف أبينا
وأبيه الأتلدا
|
قد كنتم ولدا
وكنا والدا
|
|
ثمت أسلمنا
فلم ننزع يدا
|
إن قريشا
أخلفوك الموعدا
|
|
ونقضوا
ميثاقك المؤكدا
|
وزعموا أن
لست أدعو أحدا
|
|
وهم أذل وأقل
عددا
|
هم بيّتونا
بالوتير هجدا
|
|
وقتلونا ركعا
وسجدا
|
وجعلوا لي في
كداء رصدا
|
|
فانصر رسول
الله نصرا أيدا
|
وادع عباد
الله يأتوا مددا
|
|
فيهم رسول
الله قد تجردا
|
أن سيم خسفا
وجهه تربدا
|
|
في فيلق
كالبحر يجري مزبدا
|
قرم
لقرم من قروم أصيدا
|
فقال رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» : «حسبك يا عمرو ، أي : ودمعت عيناه».
أو
قال : «نصرت يا عمرو بن سالم».
فما برح حتى
مرت عنانة (أي سحابة) من السماء فرعدت ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب» .
__________________
وفي
المنتقى : أنه «صلىاللهعليهوآله» لما كان بالروحاء نظر إلى سحاب منصب ، فقال : إن هذه
السحابة لتستهل (لينتصب) الخ .. .
وروي
بسند جيد عن عائشة قالت : لقد رأيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» غضب مما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ
زمان. وقال : «لا نصرني الله ـ تعالى ـ إن لم أنصر بني كعب» .
__________________
وعن
ابن عباس : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لما سمع ما أصاب خزاعة ، قام ـ وهو يجر رداءه ـ وهو
يقول : «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي» .
وفي
نص آخر : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : «والذي نفسي بيده ، لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي
، وأهلي ، وبيتي» .
ويتابع
المؤرخون ، فيقولون : فلما فرغ الركب قالوا : يا رسول الله ، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك ،
فهدر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» دمه .
فبلغ أنس بن
زنيم ذلك ، فقدم على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» معتذرا عما بلغه فقال قصيدة منها :
أأنت الذي
تهدى معد بأمره
|
|
بل الله
يهديهم وقال لك اشهد
|
فما حملت من
ناقة فوق رحلها
|
|
أبر وأوفى
ذمة من محمد
|
إلى آخر
القصيدة ..
وبلغت رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» قصيدته واعتذاره. وكلمه
__________________
نوفل بن معاوية الديلي فيه ، وقال له :
أنت أولى الناس
بالعفو ، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك؟ ونحن في جاهلية ، لا ندري ما نأخذ وما ندع ،
حتى هدانا الله بك من الهلكة ، وقد كذب عليه الركب ، وكثّروا عندك.
فقال
: دع الركب ،
فإنّا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم ولا بعيدا كان أبر بنا من خزاعة.
فأسكت نوفل بن
معاوية.
فلما
سكت قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : قد عفوت عنه.
فقال
نوفل : فداك أبي وأمي
.
نوفل يضيع الحق :
ونقول
:
إن
كلام نوفل لم يكن منصفا ولا دقيقا ، فلاحظ ما يلي :
١ ـ إنه يبدو :
أن كلام نوفل بن معاوية كان يهدف إلى تصغير ذنب أنس من جهة ، وإلى تضييع الحق من
جهة أخرى.
فما قاله يؤدي
إلى أن يصبح عفو رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن مرتكب هذا الجرم العظيم ، الذي يرمي إلى إلحاق
الوهن بالإسلام ، من خلال الجرأة على نبيه ، يصبح عفوه عن جرم كهذا غير ذي أهمية ،
بل هو سيجعل ذلك واجبا إنسانيا إلى حد يكون معه النبي «صلىاللهعليهوآله»
__________________
نفسه في موقع الاتهام في نبله ، وفي أخلاقه الحميدة ، وفي سجاياه الكريمة ،
وحقيقة التزامه بالقيم ، ورعايته للمثل العليا ، وللمعاني الإنسانية.
فإذا كان «صلىاللهعليهوآله» فاقدا لمثل هذه الفضيلة ـ والعياذ بالله ـ فإن تحلّيه
بما هو أسمى منها يصير موضع شك وريب ، ويدعو إلى تفسير بعض ما يصدر عنه بطريقة
أخرى ، تبعده عن أن يكون ناشئا عن خلق رضيّ ، وعن نفس تعيش معنى السماحة ، والنبل
، وسائر المعاني الإنسانية الفاضلة والرقيقة.
٢ ـ إن كلام
نوفل قد تضمن المساواة بين الوفي والغادر ، وبين المؤذي عن جهل ، وبين من يخطط
للإيذاء ، وبين من يعادي الشخص لأمور شخصية ، وفي أمور جزئية ، وبين من يعادي
المبادئ والقيم ، ويسعى لإطفاء نور الله عن علم ، وهذا من نوفل : إما ظلم واضح ،
أو جهل فاضح.
وفي كلتا
الحالتين يفترض برسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أن يتصدى لدفع الظلم ورفع الجهل.
٣ ـ إن نوفل بن
معاوية يدّعي : أن الأخبار التي بلغت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» تشتمل على أكاذيب ، ولكنه لم يقدم أي دليل او إشارة
تثبت صحة هذه الدعوى.
مع
العلم : بأن هذا
التكذيب ليس له ما يبرره ، فإن الشهادة على النفي من شخص واحد لا يمكن أن تعارض الشهادة
على الإثبات ، خصوصا إذا كانت شهادة الإثبات تصدر عن جماعة كبيرة من الناس. كانت
الشهادة تتناول حقبة زمنية واسعة لا مجال للاطلاع على تفاصيلها.
فإن فعل الهجاء
قد يغيب عنه شخص ، ويحضره أشخاص آخرون ،
وهم قد يقلون وقد يكثرون. فكيف أجاز نوفل بن معاوية لنفسه أن يقيم هذه
الشهادة العجيبة أمام سيد عقلاء العالم المؤيد بالوحي ، ويحظى بالتسديد واللطف
الإلهي؟!
٤ ـ إن هذه
الشهادة تستبطن درجة من الاتهام لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأنه يتسرّع باتخاذ قراراته في حق الأشخاص إلى حد أنه
يبادر إلى إهدار دماء الناس استنادا إلى أكاذيب يزجيها إليه ركب زائر ..
٥ ـ إنه «صلىاللهعليهوآله» قد بيّن : أن نوفلا لم يكن صادقا فيما قدمه من تبريرات
، وقد صرح له : بأن الوقائع قد جاءت لتثبت خلاف مزاعمه ، فأسكت نوفل ولم يدر ما
يقول ..
٦ ـ لقد رأينا
: أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم يتراجع عن قراره بإهدار دم أنس بن رزين ، ولم يعر
لمزاعم نوفل أي اهتمام ، وإنما عفا عنه بعد أن أكذب نوفلا فيما زعم ، فجاء العفو
عن ابن زنيم تكرما من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لا انصياعا لمنطق نوفل.
غضب النبي صلىاللهعليهوآله لبني كعب :
وقد كان غضب
النبي «صلىاللهعليهوآله» لبني كعب شديدا ، حتى إن عائشة لم تره قد غضب إلى هذا
الحد منذ زمان. ولكنه «صلىاللهعليهوآله» لم يغضب لنفسه ، ولا لعشيرته ، ولا لفوات منفعة ، ولا
كان غضبه حنقا غير مسؤول ، يخرجه عن حدود المقبول والمعقول ، بل كان غضبا لله
تعالى ، وانتصارا للمظلوم من ظالمه ، ولأجل المنع من العدوان على القيم الإنسانية
، والمثل العليا ..
إن هذا الغضب
واجب شرعي وأخلاقي وعقلي ، ناشئ عن الشعور بالمسؤولية ، وفي سياق مراعاة الحكم
الشرعي ، والإصرار على تطبيق القيم الإنسانية بأمانة وبدقة ..
وغني
عن القول : أن هذا الغضب لم يخرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن جادة الحق ، والإنصاف ، والاعتدال.
بل هو من أجل
إرغام الخارجين عن هذه الجادة على الرجوع إليها ..
نصرت يا عمرو بن سالم :
قد
لا حظنا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» يصر على الجهر بتصميمه على نصرة المظلومين من خزاعة ،
وهو يستخدم في بياناته لهذا النصر صيغة فعل الماضي ، وكأنه يخبر عن حصول هذا الأمر
فيما مضى من الزمان ، حتى أصبح كأنه تاريخ يحكى ، فيقول لعمرو بن سالم : «نصرت يا
عمرو بن سالم» ولم يقل : ستنصر ، أو نحو ذلك.
ويقول
في إخباره الغيبي بما حصل : «لبيك ، لبيك ، لبيك. نصرت ، نصرت ، نصرت». ولم يقل : سوف أنصرك ..
وقد تحقق مضمون
هذه التلبية ، ونصر «صلىاللهعليهوآله» بني كعب أجمل نصر ، وأتمّه وأوفاه ..
لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب :
ولكن الأمر لم
يقف عند هذا الحد ، بل تعداه إلى تأكيد تصميمه على نصر بني كعب ، بأسلوب قد يفاجئ
الكثيرين ، وهو الطلب إلى الله أن يحجب عنه نصره ، إن لم يقم بهذا الواجب ..
غير
أننا نقول :
إن
هذا الطلب يمكن تفسيره : بأن من يتخلى عن واجبه الشرعي لا يستحق اللطف والنصر
الإلهي ، هذا إن اقتصر الأمر على المعاملة وفقا لمبدأ المقابلة بالمثل ..
في حين أن من
يتخلف عن واجبه الشرعي يستحق الطرد من ساحة الرضا الإلهي ، ليصبح من يفعل ذلك في
معرض غضبه تبارك وتعالى ..
وبما أن هذا
الأمر لا يظن صدوره من أي إنسان مؤمن بالله ملتزم بأوامره ونواهيه ، فيرد السؤال
عن معنى أن يجعل أعظم وأفضل وأكرم الأنبياء نفسه في دائرة احتمال التخلف عن هذا
الواجب ، ومخالفة التكليف الإلهي.
ويمكن
أن نجيب بما يلى :
أولا
: قد يقال : إن
ذلك جار على طريقة هضم النفس ، حيث إن المفروض هو : أن يتعامل «صلىاللهعليهوآله» مع نفسه بغض النظر عن اللطف الإلهي ، وعن العصمة ..
وهذا أمر شائع ومعروف ..
فهذه
الكلمة تشبه قول أمير المؤمنين «عليهالسلام» : ما أنا في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ،
إلا أن يكفي الله بلطف منه .
__________________
وإذا
نظرنا إلى الأمور من حيثية أخرى فسنجد : أن الله تعالى الذي يعامل الناس العاديين من مقامه
الربوبي ، فيعتمد منطق الرحمة ، والرفق ، والغفورية ، والتوابية ، والترغيب ،
والترهيب وغير ذلك .. يعامل أنبياءه «عليهمالسلام» من موقع الألوهية ، فيضع لهم النقاط على الحروف بكل
صراحة وحزم ، فيقول لواحد من هؤلاء الأنبياء : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) .
ويقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) ..
ثانيا
: إنه «صلىاللهعليهوآله» يريد أن يعطي القاعدة للناس ؛ ليعرفوا : أن الحكم
الإلهي الذي يجريه على كل البشر ، هو أن نفس ترك نصرة المظلوم يستتبع فقدان النصر
الإلهي في موضع الحاجة إليه وله هذا الأثر ، بغض النظر عن أية خصوصية أخرى.
فهو «صلىاللهعليهوآله» قد استخدم أفضل أسلوب بياني تطبيقي ، يجسد الفكرة
للآخرين بصورة حية وواقعية ، ويسهل إدراكها وفهمها على كل الناس.
ثالثا
: إن الواجب
عليه «صلىاللهعليهوآله» هو مجرد النصر لبني كعب ، بحيث يرتفع الظلم عنهم ، ولا
يجب عليه أن ينصرهم مما ينصر منه نفسه وأهل بيته ، فإن هذه المرتبة أعلى وأشد من
تلك المرتبة ، فالذي تعهد
__________________
بالقيام به يزيد على الدرجة التي تجب عليه ، فاحتاج إلى تأكيد هذا الالتزام
بهذا النحو من المبادرة والتضحية بالنصر الإلهي حين الاحتياج إليه.
وعلى هذا الوجه
لا يكون حجب النصر الإلهي عنه دليلا على غضب الله ، بل يكون لأجل أنه قد رضي
بارتهان نصر كان الله قد ادّخره له ، بإعطاء درجة من نصر لم تكن مطلوبة منه ، ولا
كانت واجبة عليه ..
السحابة تستهل بنصر بني كعب :
وعن
حديث استهلال السحابة بنصر بني كعب نقول :
قد يروق للبعض
أن يضع قوله «صلىاللهعليهوآله» هذا في سياق التفاؤل بالمطر ، الذي تحيا به البلاد
والعباد ..
غير
أن هذا التفسير يبقى غير دقيق ، إن لم نقل : إنه يفقد هذه الكلمة مغزاها ، ومرماها بدرجة كبيرة ..
ولعل
الأقرب إلى الاعتبار أن نقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» يريد الإشارة إلى أمور :
أحدها
: أن هذا النصر
منسجم مع طبيعة الحياة ومقتضياتها ، وهو مما يتطلبه كل شيء حتى هذا المطر العارض
الذي لم ينزل بعد ..
ثانيها
: الإشارة إلى
شدة قرب هذا النصر ، فإن بشائره المؤذنة بقرب نزوله حاضرة كحضور بشائر وأمارات
نزول المطر ، كظهور السحب ، والرعد ونحوه.
ثالثها
: التأكيد على
حتميته ، كحتمية نزول المطر من تلك السحابة ..
رابعها
: أنه نصر داهم
وغامر ، كالمطر الداهم والغامر ..
خامسها
: إن هذا النصر
نازل من السماء ، وهو هبة إلهية ، تماما كالمطر النازل ، الذي هو عطاء إلهي.
دخل بيت عائشة أم ميمونة؟! :
ويزعم
الواقدي : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال لعمرو بن سالم : ارجعوا ، وتفرقوا في الأودية.
وقام «صلىاللهعليهوآله» ودخل على عائشة وهو مغضب ، فدعا بماء ، فدخل يغتسل ،
قالت عائشة : فأسمعه يقول ، وهو يصب الماء : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب .
ونقول
:
إن نفس هذه
القضية قد ذكرت للنبي «صلىاللهعليهوآله» مع ميمونة ، لا مع عائشة .
ولربما يروق
للباحث أن يرجح هذه الرواية وهي رواية ميمونة ، لأنه اعتاد أن يرى هنا وهناك
عمليات سطو على الأدوار ، وعلى الفضائل والكرامات ، وعلى المواقف. يصل ذلك إلى حد
الاختلاف ووضع الحديث على لسان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، أو على لسان علي «عليهالسلام» أو غيرهما ، في سبيل تأييد شخص ، أو فئة ، أو تأكيد
نهج فريق بعينه ، يؤسفنا
__________________
أن نقول : أن عائشة كانت وكذلك أبوها ، ومن هو في خطهما ونهجهما أحد أركانه!!
هذا عدا ما
يراه الباحث من تعمد سلب الفريق الآخر المناوئ لهؤلاء الكثير من الإمتيازات ، أو
التشكيك بها ، أو تجاهلها ، أو التعتيم عليها.
ثم
هو يرى : ما يبذل من
جهد لتلميع صورة هذا أو ذاك من الناس ، وتأويل مواقفه السيئة ، أو التشكيك بها ،
أو نسبتها إلى غيره ، أو ما إلى ذلك ..
وذلك كله يهيئ
الأجواء لانطلاق احتمال أن تكون قد حصلت عملية سطو هنا أيضا لنفس الأسباب التي دعت
إلى نظائر لها شوهدت في الكثير من المواقع والمواضع .. وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة
تدخل في هذا السياق ..
ابن ورقاء أول المخبرين :
ذكر
المؤرخون : قدوم بديل بن ورقاء على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليخبره بما جرى على خزاعة ، وبالمجزرة التي ارتكبت في
بيته وعلى باب داره في حق الصبيان ، والنساء والضعفاء .
__________________
وذكروا
أيضا : لقاءه أبا
سفيان في عسفان ، حين كان أبو سفيان متوجها إلى المدينة ، وبديل عائد منها .
ولكن
محجن بن وهب يدّعي : أن بديل بن ورقاء لم يدخل مكة من حين انصرف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من الحديبية ، حتى لقيه في الفتح بمرّ الظهران. قال
محمد بن عمر : وهذا أثبت .
ونحن
لا ندري لماذا يطلق الواقدي دعواه : بأن ما رواه محجن بن وهب أثبت مما رواه ابن إسحاق
وغيره.
ولا شك في أن
هذه المبادرة من بديل بن ورقاء كانت محاطة منه وممن معه بنطاق من السرية التامة ،
لأن اكتشاف قريش لهذا الأمر سوف يعرض بديلا ورفاقه لخطر عظيم ، قد عاينوا بعض
مظاهره ومستوياته حين حصر
__________________
الخزاعيون في دار بديل ، وسقط منهم كثير من الأبرياء قتلى في داخل تلك
الدار ، وعلى بابها ..
ولذلك لم يستطع
أبو سفيان معرفة حقيقة الأمر إلا من خلال النوى الذي وجده في بعر إبلهم .. ولكنه
لم يتيقن هذا الأمر ، فسكت عليه.
على أن ذكر
التفاصيل الدقيقة لما جرى في عسفان بين أبي سفيان وبين بديل ، يقرب احتمالات الصحة
، ويوهن احتمال الوهم من الراوي ..
فإذا كانت
رواية ذلك قد وردت بأكثر من طريق ، وفي أكثر من مصدر ، فإن حظوظ الحكم بصحة
الرواية تصير أكبر وأوفر ..
وأخيرا
نقول :
إننا
لسنا بحاجة إلى التذكير : بأن من الممكن تعدد المخبرين لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فيخبره عمرو بن سالم ، ويخبره أيضا بديل بن ورقاء ..
وقد لا يعلم أي منهما بمسير الآخر خصوصا في مثل تلك الظروف الصعبة ..
عينا رسول الله صلىاللهعليهوآله تدمعان :
ورد
في بعض النصوص : ما يدل على مدى تأثر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين أخبره عمرو بن سالم بما جرى على خزاعة ، حتى لقد
دمعت عيناه «صلىاللهعليهوآله».
وغني
عن البيان : أن هذا التأثر إن دل على شيء ، فإنما يدل على : كمال معنى الإنسانية فيه «صلىاللهعليهوآله» ؛ وعلى حقيقة التوازن في ميزاته وفي خصائصه «صلىاللهعليهوآله» ، فلم تكن لتطغى خصوصية على أخرى ، أو
تستأثر بدورها إلى حد الإلغاء ، بل كان لكل خصوصية موقعها ، ودورها الذي
يخدم ويقوي ، ويسدد خصوصيات أخرى في أداء وظيفتها على أكمل وجه وأتمه ..
ولأجل هذا
التوازن الدقيق في الشخصية الإنسانية التي يريدها الله تبارك وتعالى كان المؤمنون
أشداء على الكفار رحماء بينهم .. وكان المؤمن قويا شجاعا وكان رقيقا ورحيما
ورؤوفا. وكان حازما ، حليما. ولا يمكن أن يكون مؤمنا كاملا من دون أن يستجمع هذا
الصفات ، ويعيشها ، ويتفاعل معها بصورة صحيحة ومتوازنة ..
فلا غرو إذا
رأينا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يجاهد الكفار ويغلظ عليهم في حين تذهب نفسه عليهم
حسرات.
ثم هو يتلقى
سيوفهم ، ورماحهم وسهامهم ، ويردها عن نفسه ما وسعه ذلك ، ثم هو يدعو لهم ويقول :
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ..
ومن
جهة أخرى : إن هذه الرقة التي نراها من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى إن عينيه لتدمعان وهو يسمع ما جرى على خزاعة ،
لم تكن هي المرتكز لموقفه من القتلة والمجرمين ، بل لم يكن لها أي تأثير فيه ، بل
كان المرتكز والمؤثر في ذلك هو التكليف الشرعي ، وطلب رضا الله تعالى ، وإنزال
القصاص العادل بالمعتدين والظالمين ، من دون أي تعد عليهم ، أو ظلم لهم ، أو تجاوز
للحد الشرعي والإنساني في التعامل معهم.
قام وهو يجر رداءه :
وحين
تتحدث الروايات المتقدمة : عن أنه «صلىاللهعليهوآله» قد بلغ
به الغضب حدا جعله يقوم وهو يجر رداءه ، فإنها تكون قد تجاوزت حدود المعقول
والمقبول ، بالنسبة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، إذ ليس لنا أن نصوره «صلىاللهعليهوآله» بصورة من أخرجه غضبه عن طوره ، إلى حد أنه لم يلتفت
إلى ردائه ليسويه على نفسه ، ويضعه بالصورة التي يفترض أن يكون عليها ..
فإذا كان «صلىاللهعليهوآله» بهذه المثابة من الانفعال ، فكيف يمكن أن نطمئن إلى
أنه كان يتخذ قراراته بروية وتعقل ، وتدبر وتأمل؟! فلعل غضبه الشديد قد جعله غافلا
عن بعض الأمور التي لا بد من مراعاتها في تلك القرارات!
كما أن نسبة
أمثال هذه الأمور له «صلىاللهعليهوآله» لا تنسجم مع الاعتقاد بعصمته ، وبتسديد الله له ،
وتأييده بالوحي .. ومع ما هو معروف عنه «صلىاللهعليهوآله» من رويّة واتزان.
إلا
أن يقال : إن المنهي عنه
هو جر الرداء خيلاء وتكبرا ، وأما إظهارا لشدة الغضب لله تبارك وتعالى ، وشريطة أن
لا يترتب على ذلك أي محذور آخر ، فما ذكرناه آنفا ليس بقبيح ، بل قد يكون محبوبا
إلى الله تبارك وتعالى ..
النبي صلىاللهعليهوآله يأمر مخبريه بالتفرق في الأودية :
وقالوا
: إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال لعمرو بن سالم وأصحابه «ارجعوا وتفرقوا في الأودية».
فرجعوا وتفرقوا
، وذهبت فرقة إلى الساحل بعارض الطريق ، ولزم
بديل بن ورقاء في نفر من قومه الطريق .
ونقول
:
إن ما قام به
عمرو بن سالم وأصحابه ، من إخبار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بما جرى .. ليس من الأمور التي يمكن لقريش وبني بكر أن
يتجاوزوها من دون اكتراث أو اهتمام .. بل هو بالنسبة إليهم وإليها قضية حاسمة
ومصيرية ، تجعلهم بين خياري : البقاء والفناء ، والحياة والموت.
وهم
يرون : أنهم إذا
استطاعوا إخفاء ما جرى عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، أو التخلص من المسؤولية عنه ومن تبعاته ، فقد أفلحوا
في الإبقاء على حالة الهدنة القائمة فيما بينهم وبين المسلمين .. ولعلهم يقدرون في
وقت ما على استعادة بعض القوة لمواجهة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وربما يحلمون بأن ينتهي الأمر بحسم الأمور لمصلحتهم
..
وأما إن ظهر
نكثهم للعهد ، واستمرت التحولات في هذا الاتجاه ، فسيخسرون المعركة مع المسلمين ،
لأنهم لم يهيئوا لها ما يمنحهم ولو خيطا من الأمل ضعيفا بأي نصر ، مهما كان هزيلا
وضئيلا ..
بل
إنهم ليدركون : أن قدراتهم قد تضاءلت عما كانت عليه بدرجة كبيرة وخطيرة ، كما أن قدرات
أهل الإسلام قد تنامت وكبرت ، بل تضاعفت ، ولا سيما بعد كسر شوكة اليهود في خيبر
وسواها ، ثم ما جرى في مؤتة ..
__________________
بل إن قدرات
كثيرة قد أضيفت إلى قدرات المسلمين ، حتى تضاعفت عما كانت عليه من قبل ..
وذلك
كله يشير إلى : أن اكتشاف قريش ، وحلفائها لهذه النشاطات التي قام بها عمرو بن سالم وبديل
بن ورقاء ، سوف يدفعها للانتقام السريع والهائل والمريع من هؤلاء ، ومن كل من يلوذ
بهم ، أو ينتمي إليهم ، ومن دون أية رحمة أو شفقة ..
وعلى
هذا الأساس نقول :
إنه لم يكن من
الحكمة في شيء أن يعود بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وأصحابهما إلى مكة ظاهرين
معلنين ، وكان التخفي والتستر على هذا الأمر ضرورة لا بد منها ، ولا غنى عنها لحفظ
حياتهم ، وحياة كل من يلوذ بهم .. وقد جاء التوجيه النبوي الكريم منسجما مع هذه
الحقيقة حيث أبلغهم أن عليهم أن يتفرقوا حين عودتهم في الأودية والشعاب ، وأن
يسلكوا طرقا مختلفة ، حتى إذا تمكنت قريش وحلفاؤها من العثور على بعض منهم في بعض
الأودية والمسالك ، فإنها قد لا تظن أنهم يعودون من مهمة تعنيها وتتعلق بما حدث.
وحتى لو راودها
احتمال من هذا القبيل ، فقد لا يخطر على بالها : أن يكون لهؤلاء شركاء في مهمتهم
هذه.
ولو خطر ذلك
أيضا على بالها ، وسألت عنه ، فإن إنكار هذه الشراكة سوف يحد من دائرة الخطر ويؤكد
لها احتمال أن يكون قد حصل شيء من ذلك بمبادرة شخصية ، وربما تكون إزالة أساس هذا
الاحتمال أيسر مما لو شوهدت جماعة كثيرة تمخر عباب تلك المنطقة ، لأن ذلك سوف يقوي
احتمال وجود أمر مهم دعا رجالات القرار لاتخاذ قرار بشأنه ، وهذه الجماعة
بصدد تنفيذه.
وهذا ما يفسر لنا
عدم قدرة أبي سفيان على التمادي في توجيه الأسئلة لبديل بن ورقاء حينما لقيه
بعسفان ، فلجأ إلى فت أبعار الإبل ، ليرى نوى تمر يثرب فيها ، وبعد ذلك لم يتمكن
من الجزم بصحة ما دار في خلده ، فآثر السكوت ، وانصرف عن استقصاء هذا الأمر ..
الفصل الثالث :
أبو سفيان في المدينة :
تدليس وخداع
عروض النبي صلىاللهعليهوآله ورفض قريش :
عن
ابن عمر ، وحزام بن هشام الكلبي ، ومحمد بن عبّاد بن جعفر : أن قريشا ندمت على عون بني نفاثة ، وقالوا : محمد
غازينا.
فقال
عبد الله بن أبي سرح : إن عندي رأيا ، إن محمدا لن يغزوكم حتى يعذر إليكم ، ويخيّركم في خصال
كلها أهون عليكم من غزوه.
قالوا
: ما هي؟
قال
: يرسل إليكم أن
دوا قتلى خزاعة ، وهم ثلاثة وعشرون قتيلا ، أو تبرؤوا من حلف من نقض الصلح ، وهم
بنو نفاثة ، أو ينبذ إليكم على سواء ، فما عندكم في هذه الخصال؟
فقال القوم :
أحر بما قال ابن أبي سرح ـ وقد كان به عالما ـ.
قال
سهيل بن عمرو : ما خلة أهون علينا من أن نبرأ من حلف بني نفاثة.
فقال
شيبة بن عثمان العبدري : حفظت أخوالك ، وغضبت لهم.
قال
سهيل : وأي قريش لم
تلده خزاعة؟
قال
شيبة : ولكن ندي قتلى
خزاعة ، فهو أهون علينا.
وقال
قرظة بن عبد عمرو : لا والله لا يودون ولا نبرأ من حلف بني
نفاثة ، ولكنا ننبذ إليه على سواء.
وقال
أبو سفيان : ليس هذا بشيء ، وما الرأي إلا جحد هذا الأمر ، أن تكون قريش دخلت في نقض
عهد ، أو قطع مدة ، وإنه قطع قوم بغير رضى منا ولا مشورة ، فما علينا.
قالوا
: هذا الرأي لا
رأي غيره .
وقال
عبد الله بن عمر : إنّ ركب خزاعة لمّا قدموا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأخبروه خبرهم ، قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «فمن تهمتكم وظنتكم»؟
قالوا
: بنو بكر.
قال
: «أكلّها»؟
قالوا
: لا ، ولكن بنو
نفاثة قصرة ، ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي.
قال
: «هذا بطن من بني بكر ، وأنا باعث إلى أهل مكة ، فسائلهم
عن هذا الأمر ، ومخيرهم في خصال ثلاث».
فبعث إليهم
ضمرة ـ لم يسم أباه محمد بن عمر ـ يخيرهم بين إحدى خلال ، بين أن يدوا قتلى خزاعة
، أو يبرؤوا من حلف بني نفاثة ، أو ينبذ إليهم على سواء.
فأتاهم ضمرة
رسول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأناخ راحلته
__________________
بباب المسجد ، فدخل وقريش في أنديتها ، فأخبرهم أنه رسول رسول الله وأخبرهم
بالذي أمره رسول الله «صلىاللهعليهوآله» به.
فقال
قرظة بن عبد عمرو الأعمى : أما أن ندي قتلى خزاعة ، فإن نفاثة فيهم عرام ، فلا
نديهم حتى لا يبقى لنا سبد ولا لبد ، وأما أن نتبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة
من العرب تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة ، وهم حلفاؤنا ، فلا نبرأ من حلفهم
، أو لا يبقى لنا سبد ولا لبد ، ولكن ننبذ إليه على سواء.
فرجع ضمرة إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بذلك من قولهم.
وندمت قريش على
رد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وبعثت أبا سفيان فذكر قصة مجيئه إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كما سيأتي .
مساع فاشلة لأبي سفيان :
روى
محمد بن عمر عن حزام بن هشام عن أبيه : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال : «لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول : جدّد العهد ،
وزد في الهدنة (ليشد العقد ويزيد في المدة). وهو راجع بسخطه» .
__________________
وروي
: أن الحارث بن
هشام ، وعبد الله بن أبي ربيعة مشيا إلى أبي سفيان بن حرب ، فقالا : هذا أمر لا بد
له من أن يصلح ، والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه.
فقال
أبو سفيان : قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها وخفت من شرها.
قالوا
: وما هي؟
قال
: رأت دما أقبل
من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا ، ثم كأن ذلك الدم لم يكن ، فكره القوم
الرؤيا .
وفي
نص آخر زعموا : أنه لما بلغ أبا سفيان ما فعلت قريش بخزاعة ـ وهو بالشام ـ أقبل حتى دخل
على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : يا محمد ، احقن دم قومك الخ .. .
__________________
وقال
أبو سفيان لما رأى ما رأى من الشر : هذا ـ والله ـ أمر لم أشهده ، ولم أغب عنه ، لا يحمل
هذا إلا عليّ ، ولا والله ما شوورت فيه ، ولا هويته حين بلغني ، والله ، ليغزونا
محمد إن صدقني ظني ، وهو صادقي ، وما بد من أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة
، ويجدد العهد.
فقالت
قريش : قد والله
أصبت.
وندمت قريش على
ما صنعت من عون بني بكر على خزاعة ، وتحرجوا أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم يدعهم حتى يغزوهم.
فخرج أبو سفيان
، وخرج معه مولى له على راحلتين ، فأسرع السير ، وهو يرى أنه أول من خرج من مكة
إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فلقي بديل بن ورقاء بعسفان ، فأشفق أبو سفيان أن
يكون بديل جاء رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بل كان اليقين عنده ، فقال للقوم : أخبرونا عن يثرب
متى عهدكم بها؟
قالوا
: لا علم لنا
بها.
فعلم
أنهم كتموه ، فقال : أما معكم من تمر يثرب شيء تطعموناه؟ فإن لتمر يثرب فضلا على تمور تهامة.
قالوا
: لا.
__________________
فأبت
نفسه أن تقرّه حتى قال : يا بديل : هل جئت محمدا؟
قال
: لا ما فعلت ،
ولكن سرت في بلاد بني كعب وخزاعة من هذا الساحل ، في قتيل كان بينهم ، فأصلحت
بينهم.
فقال
أبو سفيان : إنك ـ والله ـ ما علمت بر واصل.
ثم قايلهم أبو
سفيان حتى راح بديل وأصحابه ، فجاء أبو سفيان منزلهم ففت أبعار أباعرهم ، فوجد
فيها نوى من تمر عجوة كأنها ألسنة الطير ، فقال أبو سفيان : أحلف بالله لقد جاء
القوم محمدا .
وكان القوم لما
كانت الوقعة خرجوا من صبح ذلك اليوم فساروا ثلاثا ، وخرجوا من ذلك اليوم فساروا
إلى حيث لقيهم أبو سفيان ثلاثا ، وكانت بنو بكر قد حبست خزاعة في داري بديل ورافع
ثلاثة أيام يكلمون فيهم ، وائتمرت قريش في أن يخرج أبو سفيان ، فأقام يومين. فهذه
خمس بعد مقتل خزاعة.
وأقبل أبو
سفيان حتى دخل المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فأراد أن يجلس على فراش رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فطوته دونه.
فقال
: يا بنية!!
أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه؟
قالت
: بل هو فراش
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأنت امرؤ مشرك
__________________
نجس ، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
قال
: يا بنية لقد
أصابك بعدي شر.
فقالت
: بل هداني الله
للإسلام. وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها ، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام ، وأنت
تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر؟
فقام من عندها
، فأتى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو في المسجد ، فقال : يا محمد!! إني كنت غائبا في
صلح الحديبية ، فاشدد العهد ، وزدنا في المدة.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «فلذلك جئت يا أبا سفيان»؟
قال
: نعم.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «هل كان من قبلكم من حدث»؟
قال
: معاذ الله ،
نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية ، لا نغير ولا نبدل.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل».
فأعاد أبو
سفيان على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» القول ، فلم يرد عليه شيئا .
__________________
فذهب
إلى أبي بكر فكلمه ، وقال : تكلم محمدا ، أو تجير أنت بين الناس.
فقال
أبو بكر : جواري في جوار
رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
زاد
ابن عقبة : والله ، لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم.
فأتى عمر بن
الخطاب ، فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر.
فقال
: أنا أشفع لكم
عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله»!! فو الله ، لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، ما كان
من حلفنا جديدا فأخلقه الله ، وما كان منه متينا فقطعه الله ، وما كان منه مقطوعا
فلا وصله الله.
فقال
أبو سفيان : جوزيت من ذي رحم شرا .
فأتى
عثمان بن عفان فقال : إنه ليس في القوم أحد أقرب رحما منك ، فزد في المدة ، وجدد العهد ، فإن
صاحبك لا يرده عليك أبدا.
فقال
عثمان : جواري في جوار
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
فأتى
عليا «عليهالسلام» ، فقال : يا علي ، إنك أمس القوم بي رحما ، وإني جئت في حاجة فلا
أرجع كما جئت خائبا ، فاشفع لي إلى محمد.
__________________
فقال
: ويحك يا أبا
سفيان! والله لقد عزم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فأتى
سعد بن عبادة ، فقال : يا أبا ثابت ، أنت سيد هذه البحيرة ، فأجر بين الناس ، وزد في المدة.
فقال
سعد : جواري في جوار
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وما يجير أحد على رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فأتى
أشراف قريش والأنصار ، فكلهم يقول : جواري في جوار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ما يجير أحد على رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فلما أيس مما
عندهم ، دخل على فاطمة الزهراء «عليهاالسلام» والحسن «عليهالسلام» غلام يدب بين يديها ، فقال : يا بنت محمد ، هل لك أن
تجيري بين الناس؟
فقالت
: إنما أنا
امرأة ، وأبت عليه .
(وفي
نص آخر : قالت : إنما
أنا امرأة.
قال
: قد أجارت أختك
ـ يعني : زينب ـ أبا العاص بن الربيع ، وأجاز ذلك محمد.
قالت
: إنما ذاك إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الخ ..) .
__________________
فقال
: مري ابنك هذا
ـ أي الحسن بن علي «عليهماالسلام» ـ فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب الى آخر الدهر.
قالت : والله
ما بلغ ابني ذلك ، أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
(وفي نص آخر :
ما يدري ابناي ما يجيران من قريش) .
(زاد في الحلبية قوله
: «قال : فكلمي عليا ..
فقالت
: أنت تكلمه.
فكلم
عليا فقال : يا أبا سفيان ، إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يفتئت على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بجوار») .
__________________
فقال
لعلي «عليهالسلام» : يا أبا الحسن!! إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني.
قال
: والله ما أعلم
شيئا يغنب عنك شيئا ، ولكنك سيد بني كنانة.
قال
: صدقت ، وأنا
كذلك.
قال
: فقم فأجر بين
الناس ثم الحق بأرضك.
قال
: أو ترى ذلك
مغنيا عني شيئا؟
قال
: لا والله ،
ولكن لا أجد لك غير ذلك.
فقام
أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ، ولا والله ما أظن
أن يخفرني أحد.
ثم
دخل على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فقال : يا محمد ، إني قد أجرت بين الناس.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة»!!
ثم ركب بعيره
وانطلق .
وكان قد احتبس
وطالت غيبته ، وكانت قريش قد اتهمته حين أبطأ أشد التهمة ، قالوا : والله إنّا
نراه قد صبأ ، واتبع محمدا سرّا ، وكتم إسلامه.
فلما
دخل على هند امرأته ليلا ، قالت : لقد احتبست حتى اتهمك
__________________
قومك ، فإن كنت مع الإقامة جئتهم بنجح فأنت الرجل.
ثم دنا منها ،
فجلس مجلس الرجل من امرأته.
فقالت
: ما صنعت؟
فأخبرها
الخبر ، وقال : لم أجد إلا ما قال لي علي.
فضربت
برجلها في صدره وقالت : قبحت من رسول قوم ، فما جئت بخير .
فلما أصبح أبو
سفيان حلق رأسه عند إساف ونائلة ، وذبح لهما ، وجعل يمسح بالدم رؤوسهما (كذا)
ويقول : لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي ، إبراء لقريش مما اتهموه
به.
فلما
رأته قريش ، قاموا إليه ، فقالوا : ما وراءك؟ هل جئت بكتاب من محمد ، أو زيادة في مدة ما
نأمن به أن يغزونا محمد؟
فقال
: والله ، لقد
أبي علي.
وفي
لفظ : لقد كلمته ،
فو الله ما رد علي شيئا ، وكلمت أبا بكر فلم أجد فيه خيرا ، ثم جئت ابن الخطاب
فوجدته أدنى العدو (وفي رواية أعدى العدو) وقد كلمت علية أصحابه ، فما قدرت على
شيء منهم ، إلا أنهم يرمونني بكلمة واحدة ، وما رأيت قوما أطوع لملك عليهم منهم
له.
إلا
أن عليا لما ضاقت بي الأمور قال : أنت سيد بني كنانة ، فأجر بين الناس ، فناديت بالجوار.
__________________
(وعند الحلبي : ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم. وقد أشار علي بشيء
صنعته ، فو الله ، لا أدري أيغني عني شيئا أم لا) .
فقال
محمد : «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة»!!
لم يزدني.
قالوا
: رضيت بغير رضى
، وجئت بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا ، ولعمر الله ما جوارك بجائز ، وإن إخفارك
عليهم لهين ، ما زاد علي من أن لعب بك تلعبا.
قال
: والله ما وجدت
غير ذلك .
__________________
ونقول
:
إن
لنا هنا وقفات هي التالية :
ترتيب الأحداث :
وقد
يظن البعض : أن ثمة تناقضا بين الروايات المتقدمة ، فإنها تارة تقول : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أرسل إلى قريش يخيرها بين أمور ثلاثة .. فاقترح أبو
سفيان عليهم أن يجحدوا حصول أي شيء يمكن فهمه على أنه نقض للعهد ..
وتارة
تقول : إن أبا سفيان
خرج إلى المدينة بعد خمس ليال فقط من العدوان على خزاعة. فأي ذلك هو الصحيح؟!
غير
أننا نقول :
إنه لا تناقض
بين تلك الروايات ، ولكن الأمور قد اختلطت على المؤرخين ، فقدموا المتأخر ، وأخروا
المتقدم. فاقتضى ذلك إضافة بعض البيانات التوضيحية منهم ، فأوجب ذلك الخلل ، وبدا
أن ثمة تناقضا واختلافا بين المرويات.
والحقيقة
هي : أنه لو أعيد
كل نص إلى موضعه لاستقام السياق وانحل الإشكال بصورة تلقائية ..
والذي
نراه : هو أن أبا
سفيان خرج إلى المدينة بعد خمسة أيام من
__________________
المجزرة ، وسار إلى عسفان .. فالتقى ببديل بن ورقاء وصحبه ، وجرى بينه
وبينهم ما جرى .. ثم تابع سيره إلى المدينة ، وحاول تعمية الأمور والمكر بالمسلمين
بحجة : أنه لم يحضر الحديبية ، ويريد التأكيد على العهد الذي أبرم فيها ، ويزيد من
مدته ، فواجه ما لم يكن له بالحسبان ، وعاد يجر أذيال الخيبة والخسران.
ثم جاءت وفود
خزاعة فأخبروا النبي «صلىاللهعليهوآله» بما جرى عليهم ، فوعدهم النصر ، وأخبرهم : أنه سيرسل
إلى قريش يخيرها بين ثلاثة أمور.
ثم أرسل «صلىاللهعليهوآله» رسولا إلى قريش يعلمهم ببوار مكرهم ، وافتضاح أمرهم ،
ويضعهم أمام تلك الخيارات المتقدمة ..
فكان اقتراح
أبي سفيان يقضي بالإصرار على جحد أية مسؤولية لهم تجاه ما حصل.
سؤال وجوابه :
ولكن
السؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو : كيف استطاع بديل بن ورقاء وصحبه أن يسافروا إلى المدينة
ويعودوا منها ، ويلتقي بهم أبو سفيان في عسفان في غضون أيام يسيرة قد تتجاوز أصابع
اليد الواحدة بيسير ، في حين أن المدينة تبعد عن مكة ما يقارب الأربع مائة كيلومتر
.. وتحتاج ربما إلى ضعف هذا العدد من الأيام لقطعها ذهابا وإيابا ..
ويمكن
أن يجاب : بأن أبا سفيان قد خرج من مكة ـ حسب زعمهم ـ باتجاه
المدينة بعد خمسة أيام من المجزرة. ولكن لا شيء يدل على طبيعة سيره ،
وكم بقي حتى وصل إلى عسفان؟ وهل تلوّم في طريقه من المنازل المختلفة بضعة
أيام؟ أم أنه أسرع السير وواصله؟ فهذا ما لا تذكره الروايات.
فيحتمل
إذن : أن يكون قد
سار ببطء ، بحيث لم يصل إلى عسفان حتى مرت عدة أيام ، تكون هي والخمسة أيام الأولى
التي أقامها في مكة بعد حصول المجزرة كافية لذهاب الركب إلى المدينة وعودته منها
على جناح السرعة ، خوفا من افتضاح أمرهم ..
على ماذا ندمت قريش؟! :
إن ندم قريش
على عون بني نفاثة لا يخفف من قبح الجريمة التي ارتكبتها ، ولا يبرر أي إجراء
تخفيفي في عقوبتها ، لأن هذا الندم لم يكن لأجل إقرارها ببشاعة وفظاعة الجريمة ،
وقبح نقض العهد ، بل هو ندم يؤكد إصرارها على ذلك كله والتزامها به ، ويحمل في
ثناياه منطق التأييد ، والرضى ، وعدم التورع عن العودة إلى مثله حينما تسنح الفرصة
، وتأمن من عواقبه وتبعاته السيئة عليها ..
فهو ندم قبيح ،
ومرفوض ، ويوجب لها المزيد من الخزي ، والمهانة ، والسقوط. إنه ليس ندما ، بل لجاج
وإصرار ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ..
إنه ندم حقيقته
الخوف من انتقام المظلومين ، وأن يدان أهل الحق من الظالمين ، وأهل الباطل ..
وخير دليل على
إصرار هؤلاء على باطلهم وسيرهم الدائب في خط الجحود والإنكار للحق ، هو موقفهم
الرافض للخيارات العادلة التي وضعها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أمامهم.
أبو سفيان ينقض العهد :
زعموا
: أن أبا سفيان
لم يعلم بما تعاقد بنو نفاثة وزعماء من قريش عليه ، وبما صنعوه في خزاعة قبل وقوعه
، ولم يشاوروه في ذلك .
وزعموا
: أنه كان في
الشام آنئذ .
وقيل
: شاوروه ، فأبى
عليهم .
ولنفترض
: أن أبا سفيان
لم يرض بنقض العهد ، ولم يشارك فيما جرى ، فإن ذلك لا يعفيه من المسؤولية لأكثر من
سبب.
فأولا
: قد تقدم : أن
بعض الروايات تصرح : بأنه هو صاحب الرأي الذي يقول : إن اللازم هو إنكار حدوث أي
شيء على خزاعة ، وجحد هذا الأمر وإبطاله من أساسه. وهذه خيانة عظيمة ، وإهدار
لدماء الناس ، واستخفاف بها ..
وثانيا
: إنه قد سعى
بكل جهده للتستر على هذا الأمر حينما جاء إلى المدينة ليوثق العهد من جديد ..
وأنكر
لدى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أن يكون قد حصل أي
__________________
حدث يوجب نقض العهد ، وبذلك يكون قد أصبح شريكا في هذا الأمر ، خصوصا وأنه
قد اتخذ سبيل المكر بالنبي «صلىاللهعليهوآله» وعمل على خديعته. فهو إن كان لم يبدأ بالغدر ، ولكنه
قد حمى الغدرة الفجرة ، المستحلين لحرم الله ، والقتلة لعباد الله.
الخيارات العادلة :
وعن الخيارات
التي وضعها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أمام ناقضي العهد نقول :
ألف
: إن الخيار
الأول هو : أن يدوا قتلى خزاعة. فإن ذلك من أوليات الحقوق الثابتة والمعترف بها
لمن يعانون من عدوان كهذا ، حتى في المجتمع الجاهلي. بل إن القتل حين يكون عدوانيا
، وعن سابق عمد وإصرار ، لا يكتفى معه بالمطالبة بالدية ، بل يرتقي الأمر إلى
المطالبة بالقصاص من القاتل .. فكيف إذا كانت هناك عهود ومواثيق لا بد من مراعاتها
والوفاء بها؟!
فالمطالبة
بالدية يمثل إرفاقا كبيرا ، وتبرعا بالعفو عن جرم كبير وخطير ، يراد محاصرة آثاره
، ومنعه من التوسع والانتشار ، لو أريد الإصرار على خيار القصاص أو أريد الاستفادة
من حق إسقاط الالتزامات ، واعتبار العهد في حكم المنتهي ..
ب
: والخيار
الثاني هو : إفساح المجال أمام العدالة لتأخذ مجراها ، وذلك بالتخلي عن الحلف مع
أولئك المعتدين والمجرمين ، لينالوا جزاءهم ..
وهو خيار
متوافق مع سنة العدل والإنصاف ، ومشوب بالرفق والإحسان لقريش أيضا ، من حيث إنه
يظهر تصديقها فيما تدّعيه ، ويغض
النظر عن ملاحقتها ، ومجازاتها على ما اقترفته.
وذلك يمثل درسا
عمليا لها في الوفاء بالإلتزامات ، وعدم الإنسياق وراء دعوة النزوات والشهوات ..
كما أنه يقدم العبرة للناس ، كل الناس ، في أخذ الحق للمظلوم من الظالم ، وقصاص
المعتدي .. وكفى ذلك رادعا لهم عن الانسياق وراء بني نفاثة في ارتكاب جرائم مماثلة
، قد يرون أن الظروف تسمح لهم بارتكابها ، وذلك ظاهر لا يخفى.
ج
: وأما الخيار
الثالث والأخير : فيقوم على فرضية الإصرار على العدوان ، وعلى مناصرة الظالمين
والمجرمين .. حيث لا بد من الردع المؤثر وقطع دابر الفساد والإفساد ، فإن آخر
الدواء الكيّ ، ومن الإحسان للإنسانية استئصال الغدة السرطانية التي تفتك بالوجود
الإنساني كله ..
سياسات يعرفها الجميع :
وقد
قرأنا في النصوص المتقدمة : أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح يستبق الأمور ، ويخبر
أهل مكة بما ستأتيهم به الرسل عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى لقد حدد لهم الخيارات التي سيعرضها «صلىاللهعليهوآله» عليهم ..
وهذا
معناه : أن سياسات
الإسلام المشوبة بالعفو والرفق والرحمة ، والإنصاف ، والمتمثلة بأقوال وأفعال رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» قد أصبحت معروفة ، حتى لدى أعدائه.
ومما يدخل في
هذا السياق أيضا يقين بني نفاثة بأن محمدا لن يسكت على نقض العهد ، وظلم الأبرياء.
كما أن قريشا خافت أن يعلم رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» بما حدث ، لأن عواقب ذلك ستكون غير مرضية لها ..
آراء لا يحسدون عليها :
وحين عرض ابن
أبي سرح الخيارات التي يتوقع أن تأتي بها الرسل من عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. أدلى أصحاب المواقع ، وأرباب الرأي الحصيف بآرائهم
السخيفة والوضيعة ، التي تعبر عن ذهنيتهم وتوجهاتهم ، وآفاق تفكيرهم ، ومنطلقاتهم.
فيلاحظ :
ألف
: أن سهيل بن
عمرو قد عبر عن رأي يظهر طبيعة نظرة أهل الشرك للعهود والمواثيق ، ومدى هشاشتها ،
وسقوط محلها وقيمتها عندهم وضعف تأثيرها في التزاماتهم ، فقال : «ما خلة أهون
علينا من أن نبرأ من حلف بني نفاثة».
ب
: وعبر شيبة بن
عثمان عن سوء الظن الذي كان يهيمن على مجتمع أهل الشرك ، فلم يكن يثق أحد منهم
بأحد ، ولا يطمئن لسلامة نواياه ، الأمر الذي يضعف من درجة اعتماد بعضهم على البعض
الآخر ، ويحد بصورة كبيرة من إقدامهم على أي عمل يصب في مصلحة الآخرين ، فضلا عن
أن يضحي في سبيلهم ، أو يؤثرهم على نفسه.
ثم
هو يشير إلى : أن منطلقاتهم حتى في مواقفهم المصيرية هي مصالحهم الشخصية وأهواؤهم
وتعصباتهم القبليّة ، ومشاعرهم العرقية. فقضاياهم الكبرى تتقزم وتتحجم لتصبح في
مستوى الشخص ، لا من حيث مزاياه الإنسانية ، بل بلحاظ مزيته البشرية ، وفي خصوص
طبيعة موقعه النسبي ..
ج
: أما موقف قرظة
بن عمرو ، فيعبر عن حمية الجاهلية التي تختزنها نفوسهم ، والتي تهيمن وتطغى على
مشاعرهم ، وعلى أحاسيسهم.
د
: ثم يأتي موقف
أبي سفيان ، الذي يدل على أن تلك النفوس أصبحت قاحلة جرداء ، لا تمر في أجوائها أي
نسمة من نسمات الخير ، ولا تجد فيها أي أثر للهدى والصلاح .. بل هي تضج وتعج بخصال
ضربت جذورها في أعماق الباطل ، وانطلقت أغصانها في آفاقه ، فكانت ثمارها شرا
وجهالة ، وغواية ، وضلالة.
تحديد المتهم بدقة :
ثم
يذكر الحديث السابق : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد طلب من ركب خزاعة تحديد مرتكب الجريمة بدقة ، ولم
يكتف بعناوين فضفاضة وعامة.
فحين
قالوا : إنهم يتهمون
بني بكر ، قال لهم : أكلهم؟
قالوا
: لا ، ولكن بنو
نفاثة فقط ، وعلى رأسهم فلان ..
وبذلك يكون «صلىاللهعليهوآله» قد استبعد المنطق العشائري الجاهلي ، الذي يأخذ البريء
بذنب المجرم. رغم أن الذين قتلهم بنو نفاثة هم من الصبيان والنساء ، والضعفاء من
الرجال ..
عرام بني نفاثة :
وقد
وصفت الروايات المتقدمة بني نفاثة : بأن فيهم عراما ، أي : حدة وشدة ، أو شراسة وأذى ..
فهو يخشى ـ إن
ودى القتلى الأبرياء الذين سقطوا تحت وطأة البغي
والغدر ، ونكث العهود ـ أن يتعرض للأذى من أناس فيهم حدة وشراسة. وهذا
التضييع لحق هؤلاء ظلم آخر يحيق بأولئك الضحايا على يد جلاديهم ، وقتلتهم.
بنو نفاثة يعظمون الحرم :
وقد
زعم صاحب ذلك الرأي أيضا : أنه ليس في العرب قبيلة أشد تعظيما لبيت الله تبارك
وتعالى من بني نفاثة ..
مع أن بني
نفاثة أنفسهم ، وفي نفس هذه الواقعة التي أوصلت الأمور إلى هذا الحد ، قد هتكوا
حرمة الحرم ، وقتلوا النساء ، والصبيان ، والضعفاء فيه. وحين حاول الناس لفت نظر
زعيمهم وقائدهم نوفل بن معاوية نفسه إلى أنه يهتك حرمة الحرم لأن قتل أولئك
الأبرياء قد أصبح في داخله ، وقالوا له : إلهك ، إلهك. تفوه بما يدل على إلحاده ،
فقال : لا إله لي اليوم ..
فإذا كان هو
فعلا أشد الناس تعظيما للبيت والحرم ، فما الذي ننتظره من سائر القبائل التي لا
تعظم البيت إلى هذا الحد؟!
الخبر اليقين :
وقد
أخبر النبي «صلىاللهعليهوآله» بالغيب ، حين قال
لهم : لكأنكم بأبي
سفيان قد جاء يقول : جدد العهد ، وزد في المدة الخ ..
ونقول
:
إن قضية مكة ،
والتصدي بحزم لممارسات رموز الشرك فيها ، لم يكن تقبّله بالأمر السهل على الناس ،
بل كان يحتاج إلى جهد كبير لإقناع الناس بصحة ذلك التصدي ، وصوابيته.
ولهذا الإقناع
طرقه ، وأساليبه المختلفة ، ولكن أقواها وأعلاها تلك الإخبارات الغيبية التي يخضع
لها العقل ، وتتفاعل في أجوائها المشاعر والأحاسيس ، ويعيش القلب معها السكينة والطمأنينة
..
وقد بيّن «صلىاللهعليهوآله» في هذا الإخبار الغيبي المشار إليه أعلاه تفاصيل ما
يجري بصورة تامة ودقيقة ، فصرح باسم القادم ، وهو أبو سفيان. وذكر لهم ما يسعى
إليه أبو سفيان ، بل هو صرح بعين الألفاظ والعبارات التي سوف يستخدمها ، فقال : قد
جاء يقول : جدد العهد ، وزد في المدة.
ثم بيّن لهم
نتيجة سعي ذلك الرجل ، وأنه سيرجع ، وهو يجر أذيال الخيبة ، ويحمل معه سخطه
ومرارته ..
رؤيا هند بنت عتبة :
وعن
رؤيا هند بنت عتبة نقول :
قد عرفنا أن
للرؤيا في المنام دورا في هداية الناس ، وفي إقامة الحجة عليهم ، وفي لفت نظرهم
لأمور يحتاجون إليها ، وليست الرؤيا مجرد تخيلات عابرة ، ليس لها أثر ..
وقد جاءت رؤيا
هند لتحذر مشركي مكة من مغبة هذا البغي الذي يمارسونه ، وتريهم بعض اللمحات عن
المصير الذي ينتظرهم ، إن استمروا في اللجاج والعناد ، والسعي لإطفاء نور الله
تبارك وتعالى.
أبو سفيان هو المسؤول :
إن
أبا سفيان الذي يدّعي : أنه لم يشهد ما جرى لخزاعة ، قد أقر : بأنه لم
يغب عما جرى ..
وهذا
معناه : ليس فقط أنه
كان على علم بما جرى .. بل هو قد شارك في التخطيط والتآمر ، حتى لو سلمنا : أنه
كان في الشام حين ارتكاب المجزرة الرهيبة كما ورد في بعض النصوص .
إذ لا شيء يمنع
من التخطيط والإتفاق على شيء ، على أن يتم التنفيذ في وقت يحدد بعد أيام ، حيث
يكون المستهدفون بالمؤامرة في غفلة من ذلك كله ..
وإذا كان أبو
سفيان حاضرا فلا نجد مبررا لتجاهله ، وعدم استشارته ، فيما عقدوا العزم عليه.
مع
ملاحظة : أن لفعلهم هذا
خطورة بالغة على الهدنة التي كانت بينهم وبين النبي «صلىاللهعليهوآله» ، لأجل الحلف الذي كان له مع خزاعة. خصوصا وأن ذلك لا
يعفي أبا سفيان من المسؤولية من اتخاذ موقف تجاه ما يحدث ، سواء علم أم لم يعلم.
وقد اعترف هو نفسه بذلك فقال : «لا يحمل هذا إلا علي».
وهذا
أمر طبيعي : فإن من يؤسس نهجا ، ويسن سنّة للناس ليعملوا بها ، فإذا عمل بها الناس ،
فليس له أن يقول لهم : أنا بريء مما تشركون ..
وقد أقر الشرع
هذا المنطق أيضا ، فقد روي عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أنه قال : من سن سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل
بها. ومن
__________________
سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها .
__________________
وقال تعالى في
إشارة إلى ذلك : (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) .
تجديد العهد ، وزيادة المدة :
وقد كان طلب
أبي سفيان من النبي «صلىاللهعليهوآله» تجديد عهد الحديبية ، والزيادة في المدة ، هو الخدعة
التي أعدها هذا الرجل ، ومن ورائه قريش ، للتملص والتخلص من تبعات الجريمة التي
ارتكبوها في حق صبيان ونساء وضعفاء خزاعة ..
وذلك
بتقدير : أن يكون ذلك
الطلب يشير إلى الرغبة في تأكيد العهد ، ومن تكون لديه هذه الرغبة ، فلا يعقل أن
يكون قد نقض ما يسعى إلى تقويته!!
ويعزز
ذلك ويقويه : طلب الزيادة في المدة ، لأن ذلك يبعّد احتمال نقض العهد أيضا. فإن ناقض
العهد لا يعترف بوجوده ، وقريش تعترف بالعهد ، وببقائه ، بل هي ترغب في إطالة أمده
..
وهذا كله يدخل
في سياق الإيحاء ببراءة قريش مما جرى لخزاعة. وهو أحد مظاهر جحود ما ظهر من نقضها
للعهد ، بالمشاركة في العدوان على خزاعة.
وهو عين الرأي
الذي طرحه أبو سفيان ، واستبشرت به قريش ، حينما ائتمروا فيما بينهم حول كيفية الرد
على الخيارات التي عرضها النبي «صلى
__________________
الله عليه وآله» عليهم ..
وقد
كان لا بد من رد أبي سفيان خائبا ليفهم : أن أساليب المكر والإحتيال لا تجدي في إماتة الحق ،
وإحياء الباطل. وهذا ما جرى له فعلا.
أساليب استخبار اتية فاشلة :
وحين التقى أبو
سفيان ببديل بن ورقاء وصحبه ، وظن أنهم راجعون من المدينة ، بادر إلى التعامل وفق
سجيته الماكرة ، التي تظهر الود والصفاء ، وتبطن الخبث والحقد والبغضاء ، فبادر
إلى طرح السؤال عن أخبار المدينة على بديل ، وكأن عودته منها أمر مفروغ عنه ..
فلما أنكر بديل
أن يكون له علم بشيء منها بادر بطرح سؤال آخر أكثر صراحة من سابقه ، على أمل أن
تأخذهم المفاجأة ، وتهيمن عليهم هزة مشاعرية تستثير أريحية الكرم فيهم ، فيبادرون
إلى الإجابة بكلمة نعم ، رغبة منهم في البذل والعطاء. واكتساب الحمد والثناء.
فسألهم إن كان
لديهم شيء من تمر يثرب يطعمونه إياه. ولكنه وجدهم أيضا متيقظين لحيلته ، راصدين
لحركته. حين أجابوه بالنفي ..
فاضطر إلى
الجهر بنواياه ، والكشف عن خفاياه وخباياه ، فقال لبديل : هل جئت محمدا الخ ..
وجاءه الجواب
بالنفي أيضا ، مصحوبا بتبرير معقول ومقبول ، لا سبيل إلى رده ، ولا مجال للمناقشة
فيه ..
فلم يكن أمامه
خيار سوى السكوت ، وانتظر أبعار إبلهم ليتفحّصها بعد رحيلهم ، ليستدل منها على ما
يريد .. فوجد فيها بعض ما يشي بصدق
ما كان يخشاه ..
ولكن ذلك أيضا
يبقى غير كاف لحسم الأمور لديه ، لإمكان التأويل والتفسير ، والتوجيه والتبرير.
فباء بذلّ الخيبة ، وذاق مرارة الفشل الذي سيكون له ما بعده ، من خيبات تتلاحق ،
وفشل يتوالى ..
أبو سفيان في المدينة :
وإن ما واجهه
أبو سفيان في المدينة كان غاية في الروعة ، فقد ذاق طعم الذل والخزي مرة بعد أخرى
، وتجرع مرارة الخيبة والفشل كرّات ومرّات لم يعرف لها مثيلا في حياته كلها .. وقد
تجلى هذا الذل في مظاهر مختلفة ، نذكر منها :
١ ـ أنه قد بدأ
فيما ظن أنه أهونها عليه .. ألا وهو أن يوسّط ابنته لدى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وكأنه يريد أن يستفيد من العنصر النسوي ، والنسبي ،
والعاطفي ، والتأثير الأنثوي ، على قرار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ظنا منه : أنه «صلىاللهعليهوآله» كغيره من أهل الدنيا ، الذين يمارسون العمل في الصالح
العام بعد وضعه في بوتقة المصالح الشخصية ، وصهره واستخلاص نتائجه لحساب الفرد
وشهواته وأهوائه ، ومن يلوذ به من قريب أو عشير ..
مع أن الرسول
الأكرم «صلىاللهعليهوآله» قد قدم لهم الدليل تلو الدليل على أنه يضحي بالنفس
وبالمال والولد ، وبكل شيء في سبيل الصالح العام ، وبتعبير أدق : في سبيل الله ،
والمستضعفين.
ولعل
أبا سفيان حين لجأ إلى ابنته قد ظن أيضا : أن ظهور ضعفه لديها ،
سوف يغنيه عما بعده من مواقف ذليلة ، اختار هو وضع نفسه فيها ..
كما أنه سيكون
قادرا بعد ذلك على لملمة ما انتشر من هيبته ، والظهور على الناس من جديد بورقة
التين ، التي قد تستر شيئا من عيوبه وقبائحه ، وتغطي على بعض ما هو مشين ومهين من
واقعه.
ولكنه لم يجد
لدى ابنته ما يشجعه على طرح الموضوع معها ، لأن الظاهر هو أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان قد أعطى تعليماته بهذا الخصوص كما أظهره قوله
السابق وهو يخبر بالغيب عن أبي سفيان «وهو راجع بسخطه» ، فالحدود كانت قد وضعت ،
والثغرات ضبطت ، والصلاحيات حددت .. فلم يبق مجال لأحد أن يفكر في اختراقها ..
ولو أن أحدا
سولت له نفسه أن يفعل ذلك ، فسوف ينال جزاءه العادل الذي حددته الشريعة ، وبيّنه
لهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
٢ ـ ثم جرب حظه
مع النبي «صلىاللهعليهوآله» مباشرة ، فطلب منه أن يجدد العهد ويزيد في المدة ،
وكان المبرر الذي ساقه لطلبه هذا هو : أنه لم يكن حاضرا في صلح الحديبية ..
وكأنه يريد
بهذا الطلب وبذلك التبرير أن يمرر لعبته على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. وإلا ، فإن غيبته عن الحديبية لا توجب أي وهن أو
ضعف في العهد ليحتاج إلى التقوية والتوثيق ما دام أن الوقائع طيلة السنوات التي
مرت على عقد الهدنة قد أثبتت التزام النبي «صلىاللهعليهوآله» بالعهد ، واستمر جميع أهل مكة على الالتزام بمراعاته ،
وتنفيذ بنوده.
وإنما يحتاج
العهد إلى التقوية والتجديد فيما لو تعرض للنقض والتمرد على أحكامه ، ورفض إجرائها
..
وهذا ما ينكره
أبو سفيان ، بل هو لا يجرؤ على الاعتراف بشيء مما يدخل في هذا السياق ..
ولذلك سأله
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إن كان قد حدث في مكة ما يوجب وهن العهد ، أو نقضه ،
فأنكر أبو سفيان أن يكون قد حصل شيء من ذلك.
فأسقط رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» حجته ، ووضعه أمام خيارين كل منهما صعب :
أحدهما
: أن يعترف بما
جرى لخزاعة ، وهذا معناه : الدخول فيما أراد أن يهرب منه ، حيث لا بد من أن يرضى
بتحمل جميع تبعات ما جرى ، ويضطر إلى إعطاء الديات والرضى بقصاص المجرم وغير ذلك.
ثانيهما
: أن يظهر للناس
بصورة الرجل التافه ، أو الجاهل ، أو المبتلى بالخرف أو ما شاكل .. وقد أصر على
رفض الخيار الأول ولم يفلح في التملص من تبعات الخيار الثاني ..
خيار الهروب إلى الأمام :
فكانت النتيجة
التي انتهى إليها هي اللجوء إلى خيار ثالث ظن أنه يبلغه إلى ما يريد ، ألا وهو أن
يطلب من بعض أصحاب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يجير بين الناس ..
وبذلك يكون قد
حصل على ما يحسم الأمر فيما يرتبط بما فعله بنو نفاثة وقريش ببني خزاعة ، لأنه
سيصبح قادرا على ادّعاء أن هذه أمور شخصية ، ليس فيها أي نقض للعهد ..
والأمور
الشخصية يحكم بها عقلاء القوم ويحسم الأمر فيها نفس أصحاب العلاقة بما هم أفراد.
والجوار يحفظ هؤلاء الأفراد ويحميهم من الانتقام ..
وبذلك يكون قد
أخرج قريشا من دائرة الصراع ، ونفى أية مسؤولية لها فيه ، وأبعد النبي «صلىاللهعليهوآله» عن أن يكون له الحق بالمطالبة بديات أو بقصاص ، ما دام
أن المسألة فردية ، ولا شيء أكثر من ذلك.
وبذلك يكون قد
أخرج النبي «صلىاللهعليهوآله» ، واضطره إلى إمضاء هذا الجوار ، فإذا ظهر أن أحدا قد
ارتكب جرما ، فإن الجوار الذي شمله سوف يمنع من إجراء أي حكم عليه ..
ولو أريد فعل
شيء من ذلك ؛ فإن إقناع الناس بأن هذا مما لا تصح الإجارة منه سيكون صعبا ، وسيحدث
بلبلة كبيرة ، ويسيء إلى الذهنية العامة ، وربما يحدث إرباكا ضارا ، ويترك آثارا
سلبية لا مجال لتلافيها ..
على أن هذا
الموقف من شأنه أن يظهر أبا سفيان على أنه رجل سلام ، يريد حقن الدماء ، ويملك
مشاعر إنسانية ، ومن لا يستجيب لطلبه هذا فإنه يكون متهما في ذلك كله.
فطلب من أبي
بكر أن يجير بين الناس ، وكذلك من عمر ، ومن عثمان ومن سعد بن عبادة ، وعلي «عليهالسلام» ، وأشراف المهاجرين والأنصار. وكان يسمع منهم جميعا
رفضا لهذا الأمر أكيدا ، وشديدا.
فتوسل بالزهراء
«عليهاالسلام» ، ثم توسل بالسبطين الحسن والحسين «صلوات الله وسلامه
عليهما» ، فلم يجده هذا التوسل نفعا ، بل كان الجواب دائما هو الرفض الأكيد ،
والشديد ..
التدبير الصارم :
ونحن لا نشك في
أن رفض جميع هؤلاء الذين سبقت أسماؤهم إنما هو بسبب أن الجميع كان قد عرف حدّه ،
وألزمه الشرع بالوقوف عنده ، أو لم يترك له أي سبيل يستطيع أن ينفذ منه.
وقد ظهر ذلك من
إخبار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لهم بالغيب الإلهي : بأن أبا سفيان سيرجع بسخطه ، فلم
يعد أحد ليجرؤ على قبول شيء يأتيه به أبو سفيان ، لأنه يعرف أن الوحي سوف يفضح
أمره ، وأن النبي «صلىاللهعليهوآله» لن يقبل بأي شيء يطلبه أبو سفيان .. ما دام أن هذا
القبول سيكون ضد القرار الإلهي بإرجاع أبي سفيان ساخطا ..
فلم يعد
الإصرار يشبه أبدا ما جرى في غزوة بدر من تطاول على مقام النبوة ، ومن سعي لانتهاك
حرمة الحكم الشرعي الإلهي في أمر الأسرى ..
وكذلك ما جرى
في أحد وفي سواها من مواقف وتحركات تدخل في هذا السياق ، فإن الأمور قد جرت في
سياق استطاع أن يفضح هؤلاء في مواقفهم.
ورأى الناس بأم
أعينهم في أكثر من مناسبة عدم صحة ما يدّعيه هؤلاء الناس لأنفسهم من شجاعة وإخلاص
والتزام .. وقد تجلى ذلك بصورة واضحة وفاضحة في الخندق ، وخيبر ، وقريظة وغير ذلك
..
وقد عولجت
تصرفات وتحركات هؤلاء الناس بصورة استطاعت أن تزيد من فضيحتهم ، وظهور خطل رأيهم ،
وحقيقة ما يسعون إليه ..
مواقف مزعومة ، بل موهومة :
وقد
زعمت النصوص المتقدمة : أن أبا بكر قد قال لأبي سفيان : والله ، لو أن الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم
..
وأن
عمر بن الخطاب قال : أنا أشفع لكم عند رسول الله؟! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ،
وما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله ، وما كان منه متينا فقطعه الله ، وما كان منه
موصولا فلا وصله الله.
فقال
أبو سفيان : جوزيت من ذي رحم شرا.
ونحن
نشك في صحة هذه المزاعم :
أولا
: ليس في كلام
أبي سفيان ما يشير إلى أنه يطلب شفاعته عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فما معنى قول عمر له : «أنا أشفع لكم عند رسول الله»؟!
ثانيا
: لم يصرح أبو
سفيان بأن الشفاعة كانت لهم فلعله يقصد الجوار لمن يتقاتلون فيما بينهم من العرب ،
فإن دخولهم في جوار المسلمين يمنع الطرف المعتدي من مواصلة عدوانه.
ثالثا
: قد تقدم : أن
أبا سفيان يعبر عن عمر (كما ورد في بعض النصوص دون بعضها الآخر) : أنه أدنى العدو
، وهي كلمة تشير إلى أن عمر كان أقرب إلى قريش من سائر صحابة النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
رابعا
: إن ما نعرفه
عن هذين الرجلين هو سعيهما في المواقع الحساسة إلى التخفيف من الوطأة على قريش ،
وحفظ موقعيتها.
كما أن قريشا
كانت تهتم بسلامتهما قدر الإمكان.
فلا
حظ ما يلي :
١ ـ في بدر
يستشير النبي «صلىاللهعليهوآله» أصحابه في أمر الحرب ، فيقول أبو بكر كلاما من شأنه أن
يضعف عزائم المسلمين : «إنها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلت منذ عزت»
أو نحو ذلك.
وكذلك قال عمر
بن الخطاب .
٢ ـ وسيأتي أنه
حاول منع النبي «صلىاللهعليهوآله» من غزو مكة ، وقال : «قلت : يا رسول الله ، هم قومك ،
حتى رأيت أنه سيطيعني» .
٣ ـ وفي حرب
أحد : ضرب ضرار بن الخطاب الفهري عمر بن الخطاب بالقناة حين هزم المسلمون ، وقال
له : يا ابن الخطاب إنها نعمة
__________________
مشكورة ، ما كنت لأقتلك .
فما هذا الغزل
الظاهر بين ضرار وعمر؟!
وقد
ذكر ابن سلام : أن هذه كانت يدا له عند عمر يكافئه عليها حين استخلف .
٤ ـ سعي أبي
بكر لتخليص أسرى بدر من القتل ، رغم إصرار النبي «صلىاللهعليهوآله» على قتلهم ، حتى لقد نزلت الآيات في ذلك.
وهو أمر لا بد
من أن تشكره عليه قريش مدى الحياة .
قال
الواقدي عن الأسرى : إنهم قالوا : لو بعثنا لأبي بكر ، فإنه أوصل قريش لأرحامنا ، ولا نعلم أحدا
آثر عند محمد منه. فبعثوا إلى أبي بكر ، فأتاهم ، فكلموه.
فقال
: نعم ، إن شاء
الله ، لا آلوكم خيرا.
وانصرف إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وجعل يلينه ، ويفثؤه ، ويقول : يا رسول الله ، بأبي
أنت وأمي ، قومك فيهم الآباء والأبناء ،
__________________
والعمومة ، والإخوان وبنو العم ، وأبعدهم عنك قريب فامنن عليهم ، منّ الله
عليك ، أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار ، فتأخذ منهم ما أخذت قوة للمسلمين ،
فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك ..
ثم قام فتنحى
ناحية ، ولم يجب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ثم عاد إليه ، فقال له مثل مقالته الأولى ، وقال
أيضا : لا تكن أول من يستأصلهم ، يهديهم الله خير من أن تهلكهم. فسكت رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وتنحى أبو بكر
ناحية ، ثم عاد إليه ، فأعاد عليه نفس الكلام .
٥ ـ ما معنى :
أن يهنئ أبو سفيان عمر بن الخطاب بانتصار المشركين في أحد ، ويقول له : أنعمت عينا
، قتلى بقتلى بدر .
وما
معنى قول أبي سفيان لعمر آنئذ : إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب ، فيقول عمر : إنها .
٦ ـ إن خالد بن
الوليد رأى عمر بن الخطاب في أحد ، وكان خالد في كتيبة خشناء ، فما عرف عمر أحد
غيره ، قال خالد : فنكبت عنه ، وخشيت
__________________
إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه موجها إلى الشعب .
٧ ـ إن عمر قد
أخبر أبا سفيان : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يزال على قيد الحياة ، رغم أنه «صلىاللهعليهوآله» قد نهى عن ذلك. فقال أبو سفيان لعمر : أنت أصدق عندي
من ابن قميئة وأبر .
فلماذا كان عمر
أبرّ بأبي سفيان من ابن قميئة ، مع أن عمر كان في صفوف المحاربين له ، وابن قميئة
كان يحارب معه ، وتحت لوائه؟!
وفي مقام وضع
اللمسات الأخيرة على حقيقة موقف هذين الرجلين ، نقول :
قد
يكون مما يثير الشبهة أيضا : توافق أبي بكر وعمر في حديثهما عن الذر المقاتل
للمشركين ، والعنف الذي أظهراه في خصوص هذه الواقعة ، في حين اكتفى كل من عداهما ،
ومنهم فاطمة وعلي «عليهماالسلام» بالرد بالقول : بأن جوارهم جوار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، أو أنه لا يجير على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أحد ..
مع أننا لا
نشاهد لدى هذين الرجلين طيلة حياتهما مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أي نشاط قتالي مميز ، أو أي أثر لنكاية كانت لهما في
__________________
المشركين. رغم حضورهما جميع المشاهد معه «صلىاللهعليهوآله».
بل ظهر منهما
الكثير من موارد الضعف ، والوهن ، وقد فرا في مواطن كثيرة ، مثل أحد ، وقريظة ،
وخيبر ، وحنين. وذات السلاسل وغير ذلك. وقعدا عن مبارزة الأبطال مثل عمرو بن عبدود
، ومرحب.
جواري جوار رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وتقدم
: أن أبا سفيان
أصرّ على الحصول على جوار من أحد صحابة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. وأجابه المسلمون بأن أحدا لا يجير على النبي «صلىاللهعليهوآله» ، أو أن جوارهم جوار رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وهذا
يدل على أنهم فهموا : أن مطلوب أبي سفيان هو الجوار الملزم لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، والمقيد لحركته ، فهو المستهدف بهذا الجوار ،
والمطلوب هو منعه به عن إجراء مقاصده حين يقتضي الأمر ذلك ..
وذلك يشير إلى
مدى وقاحة هذا الرجل ، وقلة حيائه ورعونته ، حتى لقد أحرج بهذا الأمر أولئك الذين
عملوا على منع القتل عن أسرى بدر حسبما قدمناه ، فما ظنه أبو سفيان أكسير الغلبة
ظهر له أنه هو إكسير الهزيمة والخذلان ، والخزي والخسران ..
وقد
اكد للناس سوء نوايا أبي سفيان في طلبه هذا أمران :
أحدهما
: أنه حيث أجيب
بتلك الأجوبة لم يبادر إلى توضيح مراده لأحد كان هناك ، ولم يقل لهم أنهم قد
أخطأوا في فهم مقصوده.
الثاني
: أنه لو كان
يقصد حقن دماء الناس حقيقة لكان قد طلب من
النبي «صلىاللهعليهوآله» نفسه أن يجعل الناس في جواره ، فإن ذلك يكفي لمنع
المعتدين من مواصلة عدوانهم. فلماذا يدعو الآخرين ليجيروا الناس من رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟! أليس لأجل أنهم اقترفوا ما يستحقون به العقوبة منه «صلىاللهعليهوآله» ويريد ان يخرجهم من ورطتهم تلك بهذه الطريقة؟! وإذا صح
هذا الأمر فلماذا لا يعترف لنا بهوية المجرم وبحقيقة جرمه؟
ثم
إنه إذا كان يعتقد : أن الجوار على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يعطي من يفعل ذلك وجاهة وعظمة ، كما هو الحال عند سائر
الناس ، فهو في وهم كبير ، لأن هذا الأمر لا يجري فيما بين الأنبياء «عليهمالسلام» ، وبين المؤمنين ، لأنه يستبطن الإعلان عن وجود خلل
إيماني لدى من يفعل ذلك ، من حيث إنه يخطّئ نبيه في تصرفاته ، ويراه ظالما في
موقفه ممن يجيره منه ، أو يرى أن ذلك النبي يعمل عملا مرجوحا ، ويترك ما ينسجم مع
العفو والكرم ، وحسن الشيم ، ومع النبل والشمم ..
ولأجل هذا أو
ذاك يبادر إلى الحد من قدرته على التصرف ، ومحاصرة قراراته ، ليمنعه من الغلط
والشطط ..
وهذا الأمر
مرفوض من الناحية الإيمانية ، لأنه تشكيك بالعصمة ، أو اتهام للنبي «صلىاللهعليهوآله» في ميزاته وصفاته ، وأنها لا تصل إلى حد الكمال.
ولو كان أبو
سفيان يفهم معنى الإيمان ، ويدرك ما له من تبعات وآثار ومسؤوليات لما أقدم على هذا
الأمر المشين والمهين ..
هل تجير الزهراء عليهاالسلام؟! :
ولم يكن أبو
سفيان يرى للسيدة الزهراء «عليهاالسلام» ما يميزها عن غيرها أكثر من كونها امرأة كسائر النساء
، ولم يكن يرى لجوار النساء قيمة وأثرا .. ولكنه حين سدت في وجهه المذاهب لجأ
إليها على أمل أن تستجيب لطلبه بسبب ما توهمه منها من غفلة عما يتنبه له الرجال
المتمرسون ، والدهاة المجربون ، أو لعدم قدرتها ـ بزعمه ـ على إدراك الأمور
وتقديرها بسبب قلة معرفتها بالسياسات ، وبأعراف الناس.
فإذا استجابت
لطلبه ، فإنها سوف تحرج أباها ، وقد يوافق على طلبها من وجهة نظر عاطفية ، بسبب
موقعها منه «صلىاللهعليهوآله» من ناحية النسب ، ومن ناحية المكانة والكرامة ..
وقد
فوجئ برفضها القائم على أساس البرهان ، حيث قالت له : «إنما أنا امرأة». أي : ولا يحق للمرأة أن تتصدى لأمر كهذا بزعمك فلماذا
تريد أن تدفعني إلى أمر لا تؤمن أنت به؟!
قد أجارت أختك :
ولكن أبا سفيان
يستدرك الأمر ، ويقدم تبريرا لتصرفه هذا حين احتج عليها بإجارة زينب لزوجها أبي
العاص بن الربيع ، وقد قبل «صلىاللهعليهوآله» ذلك منها.
فجاءه جواب
الزهراء المعصومة «عليهاالسلام» ليفند قوله ، ويؤكد له أنها «عليهاالسلام» تدرك الفرق بين ما فعلته زينب ، وبين هذا الذي يطلبه
هو منها ، فقالت كلمة واحدة ، كانت حاسمة ونهائية وهي : إنما ذاك إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
إنها
تريد أن تقول : إن زينب حين أجارت أبا العاص بن الربيع ، فإنما أرادت أن تمنع الناس من
التعرض لأبي العاص ، إلى أن يبت النبي «صلىاللهعليهوآله» في أمره ، ويصدر عليه حكمه. ولم ترد أن تمنع رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» من إجراء حكم الله تعالى في حقه.
وهذا بالذات هو
نفس ما فعلته أم هاني حين أجارت بعض من أهدر النبي «صلىاللهعليهوآله» دمهم ، ولم تكن تعلم بذلك. كما أنها لم تعرف أن الذي
يريد تنفيذ أمر النبي «صلىاللهعليهوآله» هو أخوها علي «عليهالسلام».
فأرادت حفظ نفس
أولئك الأشخاص من سائر أفراد الجيش إلى أن يرى فيهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» رأيه ، ويصدر عليهم حكمه كما سيأتي.
أما أبو سفيان
فيريد منها أن تجير الناس ، ليمنع بذلك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من مجازاة المعتدي ، ولتطلّ بذلك دماء الأبرياء من
صبيان ونساء ، وضعفاء خزاعة .. وشتان ما بين الأمرين.
أخت الزهراء عليهاالسلام :
وعلينا
أن لا ننسى : أن تعبير أبي سفيان عن زينب : بأنها أخت الزهراء «عليهاالسلام» إنما جاء وفق ما كان متداولا بين الناس ، من التعبير
عمن تنشأ في بيت كافلها بعد أن مات ابوها الحقيقي ، فإنها تنسب إلى ذلك الكافل
بعبارات البنوة ، وتضاف إلى أبنائه بتعابير الأخوة .. حيث يكون المقصود هو البنوة
بالتربية ، وكذلك الأخوة.
مري ابنك :
ولعل ما ذكرناه
آنفا حول طلب أبي سفيان من فاطمة «عليهاالسلام» أن تجير بين الناس ، يغني عن التعليق على طلب أبي
سفيان منها «عليهاالسلام» أن تأمر ابنها الحسن «عليهالسلام» ، الذي كان بعمر الخمس سنوات ، أن يجير بين الناس ،
فإن الكلام هنا هو نفسه الكلام هناك.
غير
أننا نقول : إن علينا أن نضيف هنا ما يلي :
أولا
: إن أبا سفيان
يغري فاطمة بالإقدام على هذا الأمر بمنطق أن ذلك يجعل ولدها سيد العرب إلى آخر
الدهر.
نعم ، وهذا هو
منطق أهل الدنيا ، الذين يقيسون الأمور بمقاييس السمعة ، والشهرة ، والسيادة ،
والمال ، والجاه ، وما إلى ذلك ..
وذلك هو منطق
أبي سفيان ، لأنه من أهل الدنيا. وأما منطق العقل والدين ، والشرع ، ورضا الله
تعالى والقيم الإنسانية ، والمشاعر النبيلة ، والمبادئ والخصال الحميدة ، ونحوها.
فهو الذي تلتزم به فاطمة «عليهاالسلام» ، وتؤمن به ، وتنطلق في مواقفها منه. لأنها من أهل
الدين والشرع ، والقيم الإنسانية ، والعقل والأخلاق الفاضلة ، والمزايا النبيلة ..
ثانيا
: إن الإمام
الحسن «عليهالسلام» كان كبيرا في نفسه وفق مقاييس أهل العقل والحكمة
والإيمان ، وقد بايعه النبي «صلىاللهعليهوآله» في بيعة الرضوان ، وأشهده على كتاب ثقيف ، وأخرجه يوم
المباهلة بأمر من الله ، وجعله شريكا في الدعوة ، ويتحمل مسؤولية إثباتها .. وغير
ذلك ..
ولكن هذه لم
تكن نظرة أبي سفيان إلى الإمام الحسن «عليهالسلام» ، بل هو ينظر إليه على أنه طفل كسائر أطفال الناس ،
ويريد أن يستفيد منه
كوسيلة يصل من خلالها إلى مآربه ، فيحرج به رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويثير الشبهات والإشكالات حول صحة وسلامة ما يتخذه «صلىاللهعليهوآله» من مواقف ..
ولأجل ذلك
خاطبته الزهراء «عليهاالسلام» بما ينسجم مع نظرته هذه ، وقالت له : ما بلغ ابني أن
يجير بين الناس.
ثم تقدمت خطوة
أخرى في بيانها ، لتاكيد بطلان منطق أبي سفيان فقالت : «ما يدري ابناي ما يجيران
من قريش».
فإن هذه الكلمة
أيضا قد صدرت وفق منطق أبي سفيان الذي يعتبر الحسنين «عليهماالسلام» مجرد طفلين صغيرين ، لا يحملان في نفسيهما أية ميزة
على غيرهما.
فهما في نظره
لا يملكان من التعقل ما يكفي لإدراك معنى ما يتفوهان به ، فهما إذن غير قادرين على
إدراك معاني الكلمات ، فضلا عن أن يقصدا معانيها ، ليصبح لتلك المعاني تحقق في
مقام التخاطب ، يصلح لترتيب الآثار عليه ، والمطالبة به ، والإشارة إليه. فهو من
قبيل القضية السالبة بانتفاء موضوعها.
هما صبيان :
قال
الحلبي : «قول فاطمة في حق ابنيها : إنهما صبيان ليس مثلهما يجير
هو الموافق لما عليه أئمتنا ، من أن شرط من يؤمّن أن يكون مكلفا.
وأما
قولها : وإنما أنا
امرأة ، فلا يوافق عليه أئمتنا ، من أن للمرأة والعبد أن يؤمّنا ؛ لأن شرط المؤمّن
عند أئمتنا أن يكون مسلما ، مكلفا ، مختارا. وقد
أمّنت زينب بنت النبي «صلىاللهعليهوآله» زوجها أبا العاص ابن الربيع ، وقال «صلىاللهعليهوآله» : قد أجرنا من أجرت.
وقال
: المؤمنون يد
على من سواهم ، يجير عليهم أدناهم ..».
إلى
أن قال : «إن أم هاني أجارت ، وإنه «صلىاللهعليهوآله» قال لها : أجرنا من أجرت يا أم هاني.
لكن
سيأتي : أن هذا كان
تأكيدا للأمان الذي وقع منه «صلىاللهعليهوآله» لأهل مكة ، لا أمان مبتدأ» .
ونقول
:
أولا
: إننا نعتقد :
أن جواب الزهراء «عليهاالسلام» الذي يشير إلى أن الحسنين «عليهماالسلام» لا يجيران ، وبالنسبة لنفسها أيضا ، قد جاء على سبيل
الجري على ما كان يراه أبو سفيان ، ومن هم على شاكلته ، فإنه إذا كان يرى : أن
المرأة لا جوار لها ، ويرى : أن الحسنين «عليهماالسلام» كانا صبيين لا يجوز جوار هما عنده ، فلماذا يريد من
هذه المرأة ، ومن ذلك الصبي أن يجير بين الناس؟!
ثانيا
: إن للجوار
مسؤولياته وتبعاته ، لأن المجير يتكفل بمن يجير ، ويتحمل أعباء وتبعات ما صدر منه
.. ولم يكن ذلك ممكنا بالنسبة لفاطمة والحسنين «عليهمالسلام» ، فهناك قتلى وتعديات وظلم وقهر.
وقريش تنكر ذلك
وتجحده ، وتمتنع عن الالتزام بأدنى شروط الجوار .. لأنها ترفض تحمل ديات المقتولين
، أو البراءة من حلف من تعدى ونقض العهد ..
__________________
فما
معنى : أن تتحمل
فاطمة والحسنان «عليهمالسلام» هذه الديات عن أولئك المجرمين؟!
وما
معنى : حفظ مرتكب
الجريمة ، وصيانته عن التعرض للجزاء والقصاص العادل؟!
ثالثا
: إن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد قبل من الحسنين «عليهماالسلام» البيعة في الحديبية ، وقد كان سنهما لا يتجاوز السنتين أو الثلاث ..
وأشهد هما على
كتاب ثقيف .
قريش في مأزق :
وقد
بينت عبارة السيدة الصديقة فاطمة الزهراء «عليهاالسلام» : «ما يدري ابناي ما يجيران في قريش» : أن أبا سفيان يتستر على امر كان
معروفا لدى الناس .. وهو أن قريشا في مأزق ، ويريد بهذا الجوار إخراجها منه. وإن
استخدامه عبارات غائمة وعامة ، لا يجدي في تعمية الأمور ..
__________________
فالمطلوب هو
تحصيل جوار لفئة من قريش ترى نفسها في دائرة الخطر ، ولكن أبا سفيان يحاول أن
يتذاكى عليهم ، فيطلق كلامه على شكل عمومات ، فيطلب من هذا أو ذاك أن يجير بين
الناس. وهذه الكلمة تنطبق على القرشي وعلى غيره ..
كلمي عليا :
ونستطيع أن
نلمح في طلب أبي سفيان من السيدة الصديقة الطاهرة المعصومة فاطمة الزهراء «عليهاالسلام» أن تكلم عليا صلوات الله وسلامه عليه في أمر الجوار :
أن أبا سفيان كان يحسب لعلي «عليهالسلام» حسابا خاصا به .. فهو يقترب في طريقة تعامله معه من
طريقة تعامله مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. فكما حاول أن يستفيد من موقع أم حبيبة زوجة الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، حاول أيضا أن يستفيد من موقع فاطمة لدى علي «عليهماالسلام» فطلب منها أن تكلم هي عليا ..
ولكنها رفضت
طلبه ، لأنه لو كان يرى أن طلبه طلب حق ، أو كان فيه أي أثر للرجحان ، لبادر إلى
مطالبة علي «عليهالسلام» بل والنبي «صلىاللهعليهوآله» بالعمل بهذا الحق ، والأمر الراجح.
ولكنه أراد أن
يحصل على ما يريد بأساليب الضغط العاطفي ، أو من خلال المراعاة لدواعي النسب ، وفي
غير ذلك من أمور تقع خارج دائرة الإنصاف ، والحكمة ، والتعقل ، ورعاية الصالح
العام ، والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ، بل هي خارج دائرة الإلتزام بالمعاني
الإنسانية والأخلاقية أيضا ..
سيد كنانة!! يطلب النصيحة!! :
وأول طلب وضعه
أمام الإمام علي «عليهالسلام» هو النصيحة منه.
ولا شك في أن
هذا الطلب من أبي سفيان غريب وعجيب ، لا لأن عليا «عليهالسلام» يبخل بالنصيحة على أي كان من الناس .. فحاشا عليا «عليهالسلام» أن يبخل بأمر كهذا ..
بل لأن هذا
الرجل لا يريد النصيحة بالحق ، بل يريد النصيحة التي تعزز وتقوي ، وتنتج تضييعا
للحق ، وتزويرا للحقيقة ، وظلما آخر لأولئك الأبرياء من خزاعة ، والذين كان أكثرهم
من الصبيان ، والنساء ، والضعفاء. وتقوية ونصرا لظالمهم ، ومرتكب الجريمة البشعة
والفظيعة بحقهم.
والغريب
في الأمر : أن يطلب أبو سفيان هذه النصيحة التي هي بهذه المثابة من نفس ذلك المعني
بالحفاظ على حقوق الناس ، ويفترض فيه أن ينصر المظلوم ، وأن يأخذ بحقه من ظالمه!!
وكانت
نصيحة علي «عليهالسلام» تقضي : بحمله عن الكف عن هذا السعي الظالم ، والقائم على
الخديعة والمكر حتى لنبي الله «صلىاللهعليهوآله».
وتتلخص الطريقة
التي اعتمدها بتذكير أبي سفيان بما يعتقده لنفسه ، من مكانة في كنانة كلها ، فأقر
بأنه هو سيد كنانة.
ثم إنه «عليهالسلام» ألزمه بمقتضيات هذه السيادة التي يعطيها لنفسه ، لو
كان صادقا فيما يدّعيه ، ومنها أن يقبل الناس جواره.
ولكن أبا سفيان
كان يعرف أن هذه السيادة التي يدّعيها ليست بهذه المثابة ، ولا تكفي لتحقيق الغرض
الذي سعى إليه ، ولكنه سأل عليا «عليه
السلام» إن كان ذلك يحقق له ما يريد ، فعسى أو لعل!!
فأجابه علي «عليهالسلام» بما يجلب اليأس والأسى إلى قلبه ، وهو : أنه لا يرى
ذلك مغنيا عنه شيئا ، ولكنه لا يجد له سبيلا للخروج من حيرته غير ذلك ..
وربما يكون
الهدف من ذلك هو إفهام أبي سفيان أن ما يزعمه لنفسه من موقع وزعامة ليس سوى مجرد
خيال ، ووهم ، وقد تغيرت الأمور ، وأصبح للزعامة معايير أخرى ، لا بد من مراعاتها
، والإلتزام بمقتضياتها .. وفهم هذه الحقيقة لا بد من أن يكون مفيدا جدا لأبي
سفيان ، وسوف يعينه كثيرا على الخروج من أجواء الوهم والخيال التي وضع نفسه فيها.
قريش تتهم زعيمها :
إن
من الواضح : أن المشركين كانوا لا يثقون ببعضهم البعض ، لأن دواعي الثقة وموجباتها
عندهم مفقودة .. أما مجتمع أهل الإيمان فيعيش الثقة لأن موجباتها متوفرة فيه.
فهناك الإيمان
بالله ، والالتزام بشرائعه وأحكامه ، التماسا لرضاه ، وطمعا في ثوابه ، وخوفا من
عقابه.
وهو يملك ثروة
ثمينة جدا من المبادئ والقيم التي تحكم مسيرة الإنسان ، وتهيمن على حركته وعلى
مواقفه في الحياة. وهناك الفضائل النفسية ، والكمالات التي يربيها وينميها اهل
الدين في داخل نفوسهم ، ويبنون من خلالها ميزاتهم ، وملكاتهم ، التي تطبع شخصياتهم
بطابعها ..
وهناك
الإلزامات الدينية الحازمة والحاسمة ، فيما يرتبط بطبيعة تعامل
أهل الإيمان مع بعضهم ، ومع الآخرين ..
نعم ، إن ذلك
كله ينتج درجة عالية من الاعتماد ، ورؤية واضحة لمسار الأمور ، فيما يرتبط بتعهدات
الآخرين ، ووفائهم بالتزاماتهم ، وقيامهم بواجباتهم الدينية والأخلاقية ..
ولكن ذلك كله
مفقود في مجتمع الشرك والكفر. وتبقى الضمانة لتعهدات الأشخاص عندهم في مهب رياح
المصالح والأهواء ، ومحكومة للنزوات والأهواء والشهوات والميول ، ولتقلبات الأمزجة
الفردية ..
ولأجل
ذلك نلاحظ : أن المشركين يتهمون حتى زعيمهم أبا سفيان أشد التهمة ، لمجرد زيادة غيبته
عن المدة التي يتوقعونها ، ويقولون عنه : إنه قد صبأ ، واتبع محمدا سرّا ، وكتم
إسلامه.
وقد بلغت هذه
التهمة من القوة والشدة حدا اضطر معه هذا الزعيم إلى أن يحلق رأسه عند أساف ونائلة
، وأن يذبح لهما ، وجعل يمسح بالدم رؤوسهما (كذا) ، ويقول : «لا أفارق عبادتكما ،
حتى أموت على ما مات عليه أبي» ، إبراء لقريش مما اتهموه به.
الفصل الرابع :
جيوش تجتمع .. والهدف مجهول
استشارة أبي بكر وعمر في أمر مكة :
عن
محمد بن الحنفية ـ رحمهالله ـ
عن أبي مالك الاشجعي قال : «خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من بعض حجره ، فجلس عند بابها. وكان إذا جلس وحده لم
ياته أحد حتى يدعوه ، فقال : «ادع لي أبا بكر».
فجاء ، فجلس
أبو بكر بين يديه ، فناجاه طويلا ، ثم أمره فجلس عن يمينه.
ثم
قال : «ادع لي عمر».
فجاء
فجلس إلى أبي بكر ، فناجاه طويلا ، فرفع عمر صوته ، فقال : «يا رسول الله ، هم رأس الكفر ، هم الذين زعموا أنك ساحر
، وأنك كاهن ، وأنك كذاب ، وأنك مفتر» ، ولم يدع عمر شيئا مما كان أهل مكة يقولونه
إلا ذكره.
فأمره أن يجلس
إلى الجانب الآخر ، فجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله.
ثم
دعا الناس ، فقال : «ألا أحدثكم
بمثل صاحبيكم هذين»؟
فقالوا
: نعم يا رسول الله.
فأقبل
بوجهه إلى أبي بكر ، فقال : «إن إبراهيم كان ألين في الله تعالى من
الدهن اللين».
ثم
أقبل على عمر ، فقال : «إن نوحا كان
أشد في الله من الحجر ، وإن الأمر أمر عمر ، فتجهزوا وتعاونوا».
فتبعوا
أبا بكر ، فقالوا : يا أبا بكر ، إنّا كرهنا أن نسأل عمر عما ناجاك به رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
قال
: قال لي : كيف
تأمرني في غزو مكة؟
قال
: قلت : يا رسول
الله!! هم قومك ، حتى رأيت أنه سيطيعني.
ثم
دعا عمر ، فقال عمر : هم رأس الكفر ، حتى ذكر له كل سوء كانوا يقولونه. وأيم الله ، وأيم الله ،
لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة ، وقد أمركم بالجهاد ليغزو مكة» .
ونقول
:
إننا
نشك في هذه الاستشارة ، حيث سيأتي : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أمر عائشة بتجهيزه ، وأن أبا بكر لم يكن يعلم بشيء ،
حتى أخبرته ابنته.
وقد
اعتذر الحلبي عن ذلك : بأن الاستشارة قد وقعت بعد أمره لعائشة بذلك .
وهو اعتذار غير
مقبول .. إلا إذا كانت الاستشارة صورية ، تهدف إلى
__________________
تأليف أبي بكر ، أو أنه أراد أن يكشف دخيلته للناس.
وقد
يؤيد ذلك : ما ذكره من أنه أشار بعدم السير ، وقوله : هم قومك .
إذ كيف يرى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يتجهز ويأمر بذلك ، ثم يشير عليه بخلاف ما عزم عليه ،
فهل يرى أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يفعل ما يفعل من عند نفسه؟! أم أنه يرى نفسه فوق الوحي
، وفوق رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟!
أبو بكر يفشي سرّ رسول الله صلىاللهعليهوآله :
ومع
غض النظر عما تقدم ، نقول :
أولا
: إن هذه
الرواية قد تضمنت إقدام أبي بكر على أمر غير مقبول منه تجاه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. فهو قد أفشى سرّا ائتمنه عليه.
وذلك
لأن الرواية تقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» جلس على انفراد ، ثم استدعاه إليه ، وناجاه بسرّه هذا
، ثم ناجى به عمر بن الخطاب ، ثم دعا الناس للجلوس إليه ، ثم كلمهم بكلام لا يشي
بشيء من حقيقة وجهة سيره ، باستثناء قوله : «تجهزوا وتعاونوا».
فما
معنى : أن يخبرهم أبو
بكر بأمر كتمه عنهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟!
وأين يقع
التصرف الخاطئ هذا من موقف فاطمة الزهراء بنت رسول الله «صلوات الله وسلامه عليه
وعليها وعلى آلهما الطيبين الطاهرين» مع عائشة بنت أبي بكر ، حين أقبلت فاطمة إليه
، فأجلسها عن يمينه ، ثم أسرّ
__________________
إليها بأمر فبكت ، ثم أسرّ إليها بآخر فضحكت ، فسألتها عائشة عما قال «صلىاللهعليهوآله».
فقالت
«عليهاالسلام» : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
وقد استمرت على
كتمان هذا السرّ حتى قبض «صلىاللهعليهوآله» .
__________________
ومن
جهة أخرى ، سيأتي بعد صفحات يسيرة : أن عائشة تفشي هي الأخرى سرّ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في نفس غزوة الفتح أيضا ؛ فإنه «صلىاللهعليهوآله» قال لها : جهزينا واخفي أمرك ..
فهي
بمجرد أن دخل عليها أبوها وسألها قائلا : أمركن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بتجهيزه؟!
قالت
: نعم.
وعلينا أن
نقارن بين موقف الزهراء «عليهاالسلام» الآنف الذكر مع عائشة نفسها!! وبين ما فعله أبو بكر
وعائشة بإقدامهما على إفشاء سرّ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، رغم التفاوت الكبير بين هذا السرّ وذاك.
فسرّ الزهراء «عليهاالسلام» يرتبط بأمر شخصي يعود إليه «صلىاللهعليهوآله» ، ولكن السرّ الذي أفشاه أبو بكر وعائشة يرتبط بالأمة
بأسرها وبالدين كله ..
ثانيا
: إذا كان «صلىاللهعليهوآله» قد دعا عمر ليناجيه ، فلماذا يرفع عمر صوته بكلام صريح
بما يدور الحديث حوله؟؟ وهل رضي «صلىاللهعليهوآله» منه ذلك؟! فإن كان قد رضيه ، فما معنى المناجاة به؟!
وإن كان قد سخط
ذلك وردعه عنه ، فلماذا لم يرتدع ، بل استمر رافعا صوته يعدّد أقوال أهل مكة فيه «صلىاللهعليهوآله»؟!
وإن كان لم
يردعه عن أمر قد سخط هذا الإعلان به فلماذا ناجاه به؟! أم أنه عدل عن إرادة كتمان
ما ناجاهم به؟ وما هو السبب في هذا العدول؟ هل خاف من عمر؟! أم أنه أراد أن يظهر
جرأة عمر ، وسوء فعله؟!
ثالثا
: إذا كان عمر
قد ارتكب هذه المخالفة الظاهرة لمقاصد رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» ، فلماذا أطراه ذلك الإطراء الكبير ، حتى اعتبره مثل
نبي الله نوح «عليهالسلام»؟!
رابعا
: إذا كان عمر
قد رفع صوته معددا أفاعيل أهل مكة ، فأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالتجهز والتعاون ، معتبرا أن الأمر أمر عمر ، فإن
الأمر سيصبح واضحا للناس ، ولم يعودوا بحاجة إلى سؤال أبي بكر عما ناجاه به النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فإن الكل سوف يفهم : أن الأمر مرتبط بأهل مكة ، وأن
التجهيز والتعاون هو لأجل إنجاز هذا الأمر.
لأن
المفروض هو : أن موقف عمر وموقف أبي بكر متخالفان في أمر واحد ، وأن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد اختار قول عمر ..
خامسا
: لماذا اختار
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قول عمر ، وترك ما قاله أبو بكر. مع أن أبا بكر ـ حسب
زعم الرواية ـ قد أشبه إبراهيم الخليل ، الذي كان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مأمورا بالعمل بشريعته «عليهالسلام» ، فقد قال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) .
سادسا
: إنه إذا كان
إبراهيم «عليهالسلام» ألين في الله من الدهن اللين ، فهل لم يكن أشد في الله
من الحجر الصلد أيضا؟! فيضع الأمور في مواضعها ، فيشتد حين يقتضي الأمر الشدة ،
ويلين حين يوجب الأمر اللين؟!
ونفس السؤال
يرد بالنسبة لنوح «عليهالسلام» ..
__________________
وأما إذا كان
إبراهيم «عليهالسلام» لينا فقط ، ولا يشتد حين يكون المطلوب هو الشدة ، وكان
نوح شديدا ، ولا يلين حين يقتضي الأمر اللين ، فذلك يعني : أنهما غير متصفين بصفات
أهل الإيمان ، وأنهما لا يعملان بشرع الله ، ولا يراعيان المصالح ، ولا يتصفان
بأدنى درجات الحكمة والعصمة ، فهما لا يستحقان درجة النبوة ، لأنهما يفقدان صفات
أهل الإيمان من الأساس.
فهل نريد أن
نمدح أبا بكر وعمر بقيمة ذم الأنبياء ، ونسبة هذه النقائص إليهم؟!
ذل العرب .. وذل أهل مكة :
واللافت
هنا : ما نسبوه إلى
أبي بكر من القسم المتكرر حول أمر لا يصح ولا يجوز أن يدخل في دائرة أهداف
الأنبياء «عليهمالسلام» ، فقد قال أبو بكر : «.. وأيم الله ، وأيم الله ، لا
تذل العرب حتى تذل أهل مكة. وقد أمركم بالجهاد ليغزو مكة ..».
إن هدف
الأنبياء «عليهمالسلام» لا يمكن أن يكون إذلال أحد من الناس ، بل مرادهم هو
إخراج الناس من ذل العبودية للأهواء والشهوات ، ومن ذل عبادة الأصنام والشرك إلى
العز بالإسلام ، ولا يمكن أن يريد النبي «صلىاللهعليهوآله» ذل العرب ، بل هو يريد ذل الشرك ، والكفر ، والانحراف.
ولا يريد ذل أهل مكة ، بل يريد لهم أن يحترموا أنفسهم ، وعقولهم ، أن يشعروا
بالكرامة الإلهية ، وبالتكريم الرباني ..
حديث فاطمة عليهاالسلام كان في عام الفتح أيضا :
عن
أم سلمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» دعا فاطمة عام الفتح ، فناجاها فبكت ، ثم حدثها فضحكت.
قالت
: فلما توفي
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» سألتها عن بكائها وضحكها.
قالت
: أخبرني رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أنه يموت فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة
إلا مريم بنت عمران ، فضحكت .
ولكن
قال في بعض الروايات : إن ذلك كان بعد الفتح .
__________________
ونقول
:
١ ـ تقدم : أن
هذه الرواية قد رويت عن عائشة أيضا ، وأنها هي التي حاولت استنطاق وحمل فاطمة «عليهاالسلام» على إفشاء سرّ النبي «صلىاللهعليهوآله» حين ناجاها ، فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وفي
بعض نصوص الحديث : أنه «صلىاللهعليهوآله» قال لها : إنها أول أهل بيته لحوقا به فضحكت .. وجمعت
بعض الروايات بين العبارتين .
ولا مانع من أن
يتكرر الحدث تارة مع أم سلمة ، وأخرى مع عائشة ، فتسأل كل واحدة منهما الزهراء «عليهاالسلام» بعد وفاة النبي «صلىاللهعليهوآله» وتسمع الجواب ..
كما أنه لا
مانع من حدوث هذا الأمر أكثر من مرة ، وأكثر من زمان.
ويحتمل أن تكون
أم سلمة قد ذكرت جزءا من الجواب ، وذكرت عائشة الجزء الآخر.
ولا مانع من أن
تذكر عائشة كلا الجزأين من جواب النبي «صلى الله
__________________
عليه وآله» لفاطمة «عليهاالسلام» ، أو احدهما في مجالس مختلفة.
٢ ـ إن بعض
نصوص هذه الحادثة يقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» قد ذكر لفاطمة «عليهاالسلام» أن جبرئيل قد عارضه بالقرآن مرتين في ذلك العام ، ليدل
بذلك على قرب وفاته «صلىاللهعليهوآله» ، وهكذا كان ..
وهذا يخالف
رواية أم سلمة السابقة ، التي تذكر أن هذه القضية قد حصلت عام الفتح ، أي في السنة
الثامنة للهجرة ، في حين أنه «صلىاللهعليهوآله» قد توفي في آخر السنة العاشرة ، بناء على أن أول السنة
هو ربيع الأول ، أو في أوائل السنة الحادية عشرة بناء على أن ابتداء السنة الهجرية
هو شهر محرم.
ولكننا
ذكرنا : احتمال أن
يكون «صلىاللهعليهوآله» قد ناجى فاطمة الزهراء «عليهاالسلام» في هذا الأمر أكثر من مرة ، لحكمة اقتضت ذلك ..
٣ ـ إن استثناء
مريم بنت عمران ممن تكون فاطمة «عليهاالسلام» سيدتهن قد ورد في بعض نصوص هذا الحديث دون سائرها .. فهل
نسي الرواة هذه الفقرة؟ أم أنهم أهملوها عمدا ، لعلمهم بأنها لم تكن في الحديث من
الأساس؟
إننا
نرجح الاحتمال الثاني ، وذلك لما يلي :
ألف
: إن الأحاديث
الدالة على أن فاطمة سيدة وأفضل نساء أهل الجنة على الإطلاق ، متواترة .. وقد وردت
في مناسبات كثيرة ومتنوعة ، وفي موارد أخرى غير مورد مسارّة النبي «صلىاللهعليهوآله» لفاطمة «عليهاالسلام».
ب
: إن بعض نصوص
الحديث قد صرحت : بأنها «عليهاالسلام»
سيدة نساء العالمين . ويدل ذلك على عدم استثناء مريم منهن.
ج
: إن الروايات
دلت على : أن مريم بنت عمران سيدة نساء عالمها ، أما السيدة الزهراء «عليهاالسلام» فهي سيدة نساء العالمين ، من الأولين والآخرين .
__________________
ويؤيد
ذلك : الروايات
الكثيرة جدا التي تقول : إنها «عليهاالسلام» سيدة نساء أهل الجنة . فإن أكثرها لم يستثن مريم «عليهاالسلام» حسبما تقدم.
وأما
الرواية التي ذكرت : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد قرر أنها سيدة نساء العالمين ، فسألته «عليهاالسلام» عن موقع مريم في هذه الحالة ، فقال : لها «صلىاللهعليهوآله» : تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك ،
__________________
فهي متناقضة في نفسها ، إذ لا ينسجم قوله «صلىاللهعليهوآله» لها «عليهاالسلام» : إنها سيدة نساء العالمين ، مع قوله لها : أنت سيدة
نساء عالمك.
وهذا
يؤكد : أن الصحيح هو
حذف العبارة الأخيرة ليستقيم المعنى.
وذلك ظاهر لا
يخفى.
جهزينا ، وأخفي أمرك :
ورووا
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» مكث بعد خروج أبي سفيان ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال
لعائشة : جهزينا ، وأخفي أمرك .
وقال
: «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم ، فلا يرونا إلا بغتة ، ولا
يسمعون بنا إلا فجأة» .
وفي
نص آخر أنه قال : «اللهم خذ
العيون والأخبار على قريش ، حتى نبغتها في بلادها» .
__________________
وكان قد بنى
الأمر في مسيره إليها على الاستسرار بذلك .
عائشة تفشي سر النبي صلىاللهعليهوآله :
ودخل أبو بكر
على عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : أمر كن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بتجهيزه؟
قالت
: نعم ، فتجهز.
قال
: فأين ترينه
يريد؟
قالت
: لا والله ما
أدري .
قال
: ما هذا زمان
غزو بني الأصفر ، فأين يريد؟
قالت
: لا علم لي .
ودخل
عليه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : يا رسول الله ، أردت سفرا؟
__________________
قال
: نعم.
قال
: فأتجهز؟!
قال
: نعم.
قال
: فأين تريد يا
رسول الله؟!
قال
: قريشا. وأخف
ذلك يا أبا بكر .
«وفي رواية : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، أتريد أن تخرج مخرجا؟!
قال
: نعم.
قال
: لعلك تريد بني
الأصفر؟!
قال
: لا.
قال
: أفتريد أهل
نجد؟!
قال
: لا.
قال
: فلعلك تريد
قريشا؟
قال
: نعم.
قال
: يا رسول الله
، أليس بينك وبينهم مدة؟
قال
: أولم يبلغك ما
صنعوا ببني كعب؟ يعني خزاعة» .
وأمر
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالجهاز ، قال : أو ليس بيننا وبينهم مدة؟!
قال
: قال : إنهم
غدروا ، ونقضوا العهد ، فأنا غازيهم.
__________________
وقال
لأبي بكر : اطو ما ذكرت لك.
فظان يظن أن
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد الشام ، وظان يظن ثقيفا ، وظان يظن هوازن .
ولنا
مع ما تقدم عدة وقفات نسوقها على النحو التالي :
للمباغتة وجهان :
للمباغتة
وجهان : وجه سيء ،
ووجه حسن ، فمن يريد أن يباغت عدوه ليتمكن من إهلاكه ، وسحق كل قدراته ، وتدمير كل
نبضات الحياة لديه ، يعتبر المباغتة فرصة للتخريب ، والتدمير والاستئصال ،
والتنفيس عن الحقد ، والتشفي ، والانتقام الوحشي الذي لا يقف عند حد ، فهذا
الانتقام سيء وقبيح ، وكذلك المباغتة التي هيأت له ..
وهناك المباغتة
التي يمارسها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويريد منها أن يهييء الجو لإلحاق هزيمة نفسية تتلاشى
معها رغبة الطرف الآخر بالقتال ، ويواجه أجواء الفشل والإحباط ، ويدفعه إلى السعي
لإنهاء المعركة ، والخروج من أجوائها الضاغطة ، فتنتج تلك المباغتة السلامة ،
والنجاة ، وصيانة المال والعرض ، وربما يحتفظ بالكرامة والجاه ، وفق ما تسوقه إليه
إرادته ، ويهديه إليه عقله ، وتهيئه له اختياراته.
وخير
دليل على ما نقول : هذا الذي جرى في فتح مكة ، فإن عنصر المباغتة في الفتح كان ظاهرا وواضحا
كالنار على المنار وكالشمس في رابعة
__________________
النهار ، مع أن مبرررات الانتقام كانت حاضرة ، والقدرة عليه ظاهرة ، فقد
نكثوا العهد ، وقتلوا الأبرياء من الصبيان ، والنساء ، والرجال الضعفاء ، وجحدوا
ذلك وأنكروه ، وسعوا إلى إبطال حق ضحاياهم بوسائل ما كرة ، ظهرت بعض معالمها فيما
تقدم من فصول ..
فكان لا بد من
إسقاط هيمنة الظالمين ، وكف أيدي العتاة المتجبرين لإفساح المجال لعباد الله
ليتنفسوا نسيم الحرية ، وليخرجوا من أسر أولئك الطواغيت إلى كنف رعاية الله ،
ويتفيأوا ظلال شرائعه وأحكامه ، حيث يكون النبي «صلىاللهعليهوآله» قائدهم ، والحق رائدهم.
وهكذا كان.
مكث ما شاء الله :
وقد
صرح النص المتقدم : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يبادر إلى دعوة الناس للتجهز للمسير بمجرد دعوة
الخيبة لأبي سفيان .. بل هو قد أهمل هذا الأمر مدة تكفي إلى غياب ما جرى لأبي
سفيان عن ذاكرتهم ، ثم أمرهم بالتجهز والاستعداد ، فلم يفطنوا إلى الجهة التي
يقصدها في مسيره ذاك ..
ومن شأن جهلهم
بمقصده أن يفوت الفرصة على محبي قريش ، والمتعاملين معها ، فلا يتمكنون من إنذارها
في وقت مبكر لكي تأخذ حذرها وتستعد للقتال ، أو أن تزداد تحصّنا وتمنّعا يقلل من
تأثّرها بالحشد الذي أعده ، وبالعدة التي هيأها ..
التجهيز لسفر مبهم :
ثم
إن النص المتقدم يقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» قال لعائشة : جهزينا وأخفي أمرك ..
أي أنه «صلىاللهعليهوآله» يريد منها أن تخفي أصل التجهز ، والاستعداد لسفر لم
يحدده لها ولا عرّفها طبيعته ، هل هو سفر للحرب؟ أو لزيارة منطقة بعينها؟ أو لأي
غرض آخر ..
والذي
نريد أن نستوضحه هنا هو : أنها إذا كان المطلوب منها إخفاء نفس التجهيز له ، فهذا
يدل على أنه يريد سفرا لا يعرف به أحد ، فهل يريد أن يسافر وحده «صلىاللهعليهوآله» دون سائر المسلمين؟!
وربما يمكننا
أن نجيب على هذا التساؤل بتقديم أحد احتمالين ، ربما يكون أحدهما أو كلاهما هو
السبب.
الإحتمال
الأول : أن يكون الغرض
هو إخفاء هذا الأمر عن أناس بأعيانهم ، لهم نوع اتصال قريب بها ، لعله يخشى من أن
يبادروا إلى إعلام قريش بالأجواء التي استجدت في المدينة ، تماما كما حصل في قضية
حاطب بن بلتعة الآتية ، حيث بادر بالكتابة لقريش بمجرد أن علم بتهيؤ المسلمين لغزو
مّا ، رغم أنه لم يعلم المقصود بالغزو أصلا ..
الإحتمال
الثاني : أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد اراد تقديم نموذج من معاناته ، ليعرف الناس عظمة
صبره ودقة ملاحظته ، وصحة تدبيره الذي انتهى بذلك الفتح العظيم ..
فإنه إذا كانت
زوجة الرسول لم تستطع كتمان هذا الأمر لمدة ساعة أو ساعات ، حتى أفشته لأبيها ،
رغم توصية رسول الله «صلىاللهعليهوآله»
لها ، فما بالك بسائر الناس وكيف سيتصرفون عند ما يظهر لهم طرف من هذا
الأمر؟!
وثمة احتمال
ثالث يمكن أن ندرجه في دائرة مقاصده أيضا ، وهو أن يعطينا «صلىاللهعليهوآله» درسا في الحيطة والحذر في مثل هذه الأمور ، حتى من
أقرب الناس ، وهذا درس مفيد وجليل وسديد ، لا بد من التوفر على مضامينه بحرص
وإتقان.
نجاح الخطة :
يظهر جليا من
النصوص المتقدمة كيف أن الذين حاولوا التكهن بمقصده «صلىاللهعليهوآله» لم يخطر على بال أحد منهم أنه يقصد مكة ، بل ذهب وهمهم
إلى الشام ، وثقيف ، وهوازن.
كما أن أبا بكر
قد قلّب احتمالات عديدة ، مثل أن يغزو أهل نجد ، أو بني الأصفر ، وكان آخر ما
زعموا أنه خطر على باله هو غزو قريش ، مع استبعاد قوي منه لهذا الاحتمال ، مدعّم
بالاستدلال ، بأنه كيف يغزوهم وبينه وبينهم مدة وعهد؟!
ومن غير
الطبيعي كتمان أمر عن أمة بأسرها ، يستنفر منها عشرة آلاف مقاتل ليعالجوا نفس هذا
الأمر المكتوم ، مع كثرة الموتورين والحاقدين في المنطقة ، ومع وفرة المنافقين
المتربصين. بالإضافة إلى الذين يبحثون عما يفيدهم في مصالحهم الشخصية ، أو القبلية
، أو غيرها ..
وخفاء هذا
الأمر الخطير إلى هذا الحد ، وفي ظروف كهذه ، وفي هذا المحيط بالذات يعد من أعظم
الإنجازات ، ومن أجلّ التوفيقات ، ويدلل
على التدبير الحكيم ، والضبط الدقيق للأمور من قبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
الأخذ على الأسماع والأبصار :
لا يريد النبي «صلىاللهعليهوآله» بدعائه الله بأن يأخذ على أسماع وأبصار أعدائه أن
يتدخل الله سبحانه بإعمال إرادته التكوينية ، ويفعل بهم ذلك بصورة قاهرة .. لأن
هذا ظلم لهم ، (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) ..
بل
هو يطلب منه تعالى : أن يتصرف في خارج دائرة اختيار أولئك المشركين ، فيؤيد المؤمنين
بالتوفيقات والعنايات ، والألطاف الإلهية ، وبالتدبيرات الصحيحة ، ويفتح أبواب
أفهامهم لسد الفرج ، والإمساك بالأمور بحيث لا يتمكن أحد من إيصال أي خبر عن حقيقة
ما يجري داخل المجتمع الإسلامي إلى معسكر الكفر والبغي والعدوان ..
وهذا ما حصل
بالفعل ..
ولهذه المباغتة
تأثيرات هامة على صعيد حسم الأمور لصالح أهل الإيمان ، من حيث إن ذلك يمثل فشلا
روحيا ، وإحباطا كبيرا لدى الأعداء ..
وهو يفقدهم
القدرة على الإعداد والإستعداد ، وإيقاظ الهمم ، وشحذ العزائم ، ولا يبقي لهم
الفرصة لرسم الخطط القتالية ، والاستفادة من عنصر المفاجأة في المواقع المختلفة ..
ثم إن جعل زمام
المبادرة بيد أهل الإيمان من شأنه أن يجعل الأمور تسير باتجاه اتخاذ القرارات
الحكيمة والمنصفة ، والتدبيرات المؤثرة في حسم
الأمور بأقل قدر ممكن من الخسائر ..
حتى نبغتها في بلادها :
ومن
الواضح : أن مجرد أن
يراك عدوك تطأ أرضه ، وتحل في بلاده يجعله في موقع الدفاع بصورة تلقائية ، ويضطره
ذلك إلى الإحساس الداخلي بأن ثمة درجة من الهزيمة والخسارة قد حاقت به ، وذلك يؤثر
على روحه ، ويطامن من عنفوانه ، ويخفف من عنجهيته.
كما أنه يعطيك
درجة من الهيمنة على الموقف ، ويبعث فيك قدرا من الطموح ، ويثير فيك حالة من
العنفوان والقوة ..
ولعل هذا وذاك
هو ما يفسر لنا قول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «حتى نبغتها في بلادها» حسبما تقدم.
لماذا الحديث عن قريش دون بني بكر؟! :
ويلاحظ
: أنه «صلىاللهعليهوآله» قد ركز حديثه على قريش ، دون بني بكر ، مع أن بني بكر
هم الذين ارتكبوا الجريمة ، ودعوا قريشا لمشاركتهم ومعاونتهم فيها ، فسارع عدد من
زعمائها إلى تلبية الطلب .. فلماذا يخصصها «صلىاللهعليهوآله» بالذكر دونهم يا ترى؟!
ونقول
في الجواب :
إن رأس الطغيان
في المنطقة العربية كلها ، وحامي حمى البغي والظلم والتعدي هو قريش .. ولولاها لم
يجرؤ بنو بكر على مهاجمة خزاعة ، ويكفي مانعا ورادعا عن ذلك معرفتهم بحلف خزاعة مع
رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ولذلك سعى بنو
نفاثة إلى إشراك قريش في هذا الأمر ..
فاستئصال
كبرياء قريش ، وكسر جبروتها الظالم يكفي لمنع تكرار مثل هذه الجرائم ..
أبو بكر وعائشة في مأزق :
وقد يعتذر
البعض عن إفشاء عائشة السرّ الذي أمرها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بإخفائه ، فبادرت إلى إفشائه لأبيها عند أول سؤال وجهه
إليها ـ يعتذر ـ بأنها لم تفش السر لرجل غريب ، بل هو أبوها المقرّب جدا من رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، والذي يعد من أهل البيت ، وكانت تقطع برضى رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» بإطلاعه على ما هو أهم من هذا ..
ونجيب
بما يلي :
أولا
: لو كان هذا
صحيحا لبادر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه إلى إعلام أبي بكر بالأمر.
ثانيا
: هذا اجتهاد في
مقابل النص ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد نص صراحة على لزوم إخفاء هذا الأمر ، فلا معنى ،
ولا يقبل اجتهاد عائشة في مقابل هذا النص.
ثالثا
: إن قضايا
الحرب والسلم قد تطوى عن أقرب الناس ، وتبيّن وتفصّل للبعداء لأسباب تعود إلى
طبيعة الحرب واقتضاءاتها ..
ومن
كلام علي «عليهالسلام» لأصحابه : «ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز (أحجبن) دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوي
دونكم أمرا إلا في
حكم» .
وقد يكون
القريب ثرثارا ، والبعيد كتوما. وفي غير هذه الصورة أيضا قد يثق القريب بمن لا
يؤمن من اتصاله بالعدو ، وإخباره بما يجري ..
بل قد يكون
للقريب ما يدعوه إلى مباشرة ذلك بنفسه .. وقد .. وقد ..
رابعا
: إن نفس انصراف
الرسول «صلىاللهعليهوآله» عن إخبار أبي بكر بهذا الأمر يضع علامة استفهام كبيرة
حول صحة ما يدعونه من تقريب من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» له. فضلا عن أن يعدّ من أهل بيته ..
وبعد هذا كيف
يمكن ادّعاء أنها كانت تقطع بأن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يرضى منها بإخباره بالأمر ، فإن هذا من الأمور القلبية
التي لا يعرفها إلا علام الغيوب ..
خامسا
: بالنسبة لقرب
أبي بكر من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نقول :
إن ثمة فرقا
بين قرب يأتي من إصرار أبي بكر على حشر نفسه في مجالس النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ومثابرته على نسبة نفسه إليه ، وسعيه إلى التحدث
باسمه ، وإظهار قربه منه .. و.. و.. الخ .. وبين تقريب النبي «صلىاللهعليهوآله» له ، والدال على محبته «صلىاللهعليهوآله» له ، وثقته به ..
__________________
والذي يمكن التسليم به لأبي بكر هو الأول. أما الثاني ، فلا مجال لإثباته.
بل
هناك دلائل وشواهد تصب في عكس هذا الاتجاه ، ومنها : هذه القضية بالذات ، حيث إن عدم إخبار النبي «صلىاللهعليهوآله» له ولو بمقدار ما اطلع عليه عائشة يضع علامة استفهام
كبيرة حول أصل ثقته به ، واعتماده عليه ..
أبو بكر يصر على النبي صلىاللهعليهوآله إلى حد الإحراج :
وقد
رأينا في الروايات المتقدمة : حرص أبي بكر على معرفة كنه الأمر ، ولا يكتفي بتوجيه
عدة أسئلة إلى ابنته ، مثل :
أمركن رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» بتجهيزه؟!
أين ترينه يريد؟!
ما هذا زمان
غزو بني الأصفر ، فأين يريد؟!
بل هو يوالي
الأسئلة على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. ويسمع أجوبة مقتضبة ، من شأنها أن تعرّفه : أنه لا
يريد أن يبوح له بشيء. ولكنه يتابع الأسئلة ، ويصر على معرفة حقائق الدقائق ، ومن
أسئلته :
أردت سفرا؟
فأتجهز؟
أتريد أن تخرج
مخرجا؟
فأين تريد يا
رسول الله؟
لعلك تريد بني
الأصفر؟
أفتريد أهل نجد؟
فلعلك تريد
قريشا؟
أليس بينك
وبينهم مدة؟
ولم
يكن من المصلحة : أن يأمره النبي «صلىاللهعليهوآله» بالكف عن الأسئلة ، فربما تذهب به الظنون مذاهب مخيفة
، ولربما تسوقه الأوهام إلى تكهنات لو سمعها الآخرون منه لألحقت بالمسيرة ضررا
بالغا ..
ولكن
الذي كنا سنرتاح كثيرا لو عرفناه هو :
١ ـ ألم يلتفت
أبو بكر إلى أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يريد ان يعرّفه شيئا مما عقد العزم عليه ، حتى أصل
أنه يريد سفرا؟ كما دل إخباره «صلىاللهعليهوآله» عائشة دونه؟!
٢ ـ وبعد أن
عرف أن النبي «صلىاللهعليهوآله» يريد سفرا ، لماذا يصرّ على معرفة المقصد بدقة ، كما
ظهر من توجيهه كل تلك الأسئلة إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وسماعه تلك الأجوبة المقتضبة؟! ألم يدرك أن رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ليس راغبا في البوح له بشيء؟ فلماذا يحرجه بأسئلته إذن؟!
٣ ـ هل يمكن أن
نستفيد من أسئلته لابنته عائشة ، أنه لم يكن واثقا من أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» سيخبره لو سأله ، فحاول أن يستل بعض الأخبار منها ،
فلما أعياه ذلك توجه إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يزل يحرجه بالسؤال تلو السؤال حتى حصل على ما
أراد!!
٤ ـ ثم ما معنى
أن يسأل ابنته عن الاحتمالات التي تراودها ، فيما يرتبط بوجهة سير رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟ وماذا يفيده رأيها وحدسها ، وأية قيمة تكون للحدسيات
والتخمينات في أمور كهذه؟!
أليس بينك وبينهم مدة؟! :
وقد حضر أبو
بكر أو سمع بمجيء عمرو بن سالم ، وبديل بن ورقاء ، وجماعة كبيرة إلى المدينة ،
وعرف منهم ما جرى لخزاعة على يد قريش وبني بكر .. ورأى أبا سفيان أيضا حين جاء
يريد خداع المسلمين ، والمكر بهم وبرسول الله «صلىاللهعليهوآله» للنجاة من تبعات نقض العهد ..
وقد كان لأبي
بكر نفسه نصيب من النشاط الذي أثاره أبو سفيان في هذا الاتجاه ، وزعموا له موقفا
شديدا مميزا تفرد به ، ثم تابعه عليه زميله عمر بن الخطاب.
فما معنى
اعتراضه على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فيما عقد عليه العزم في قريش ، وكيف يزعم أن بين النبي
وبينهم عقدا وعهدا ومدة ، وهو عالم بنقض قريش للعهد والعقد في أمر خزاعة؟!
السيطرة على المسالك :
وأمر رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» جماعة أن تقيم بالأنقاب (وهي المسالك في الجبال).
وكان عمر بن
الخطاب يطوف على الأنقاب ، فيمرّ بهم ، فيقول : لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا
رددتموه.
لكن صاحب
السيرة الحلبية نقل ذلك من قول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
وكانت الأنقاب
مسلّمة إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ، ويسأل
عنه .
ونقول
:
١ ـ إن رصد
الطرقات والمنافذ إلى مكة ، ووضع الرجال على المسالك في الجبال بصورة دائمة من
شأنه أن يزيد الأمور ضبطا وانتظاما ، وأن يمنع من تسرب الأخبار إلى قريش ، ولا أقل
من أنه يحرج من يريد أن يفعل ذلك ، ويربكه ، ويحد من ميله لتعريض نفسه للفضيحة ،
لو كشف أمره ...
٢ ـ إن هذه
القوات التي كلفت بمهمة حفظ الطرقات لم تكن تضايق أحدا من سالكي تلك الطرق ، فقد
ذكر النص المتقدم : أن الطرق مسلّمة ، لا يعترض أحد فيها سبيل أحد إلا من سلك إلى
مكة.
٣ ـ وحتى من
يريد مكة ، فإنه لا يمنع من ذلك ، وإنما يحتجز بمقدار ما يتأكد من أمره ، فيسأل
عنه.
٤ ـ لعل
المقصود بالسؤال عن السالك إلى مكة هو : مراجعة النبي «صلىاللهعليهوآله» في أمره ..
٥ ـ إذا كان
النبي «صلىاللهعليهوآله» قد حدد لتلك القوات الراصدة والضابطة للطرقات
مسؤوليتها ، وهو أن لا يدعوا أحدا يمر بهم ينكرونه إلا ردّوه .. فلماذا يطوف عمر
بن الخطاب على الأنقاب ، ويطلب منهم نفس هذا الطلب ، ويصدر لهم نفس هذا الأمر؟!
ولسنا
نشك في : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد حدد لأولئك
__________________
الرجال المهمة التي انتد بهم لها ـ حتى لو لم يذكر لنا الحلبي أو غيره
مضمون كلامه «صلىاللهعليهوآله» لهم ـ.
فتكرار هذا
الكلام على مسامعهم من عمر لا يقدم ولا يؤخر ، لأن هذه هي مهمتهم التي انتدبوا لها
، وهم ينفذون أوامر النبي «صلىاللهعليهوآله» لا أوامر عمر .. إلا إذا كان عمر يريد أن يوحي لهم :
بأنه قرين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ونظيره ، وأوامره كأوامره ، وطاعته كطاعته ..
واللافت
هنا : أننا لا نجد
هذه الحركات وأمثالها لدى أي من الصحابة الآخرين إلا من عمر بن الخطاب .. وإن
شاركه غيره في شيء من ذلك فستجد أنه يسير في نفس خطه ، ومن القريبين منه ، أو من
أهل الصفاء عنده ، وتربطهما أو اصر مودة وإلفة ..
إلى بطن إضم :
لما أراد رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» المسير إلى مكة ، بعث أبا قتادة بن ربعي إلى بطن إضم ،
ليظن الظان : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» توجه إلى تلك الناحية ، وأن لا تذهب بذلك الأخبار .
وأبان رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» المسير إلى قريش .
__________________
وأرسل
إلى أهل البادية ، ومن حولهم من المسلمين ، يقول لهم : «من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة» .
وهم أسلم وغفار
، ومزينة وجهينة ، وأشجع ، وبعث إلى بني سليم.
فأما بنو سليم
فلقيته بقديد ، وأما سائر العرب فخرجوا من المدينة .
وبعث رسلا في
كل ناحية حتى قدموا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
قالوا
: «ودعا رئيس كل قوم ، فأمره أن يأتي قومه ، فيستنفرهم» .
وقالوا
أيضا : لما عزم رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» على فتح مكة ـ شرفها الله تعالى ـ كتب إلى جميع الناس
في أقطار الحجاز وغيرها ، يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في شهر رمضان من سنة ثمان
للهجرة ، فوافته الوفود والقبائل من كل جهة .
__________________
وقال حسان بن
ثابت يحرض الناس ويذكر مصاب رجال خزاعة :
عناني ولم
أشهد ببطحاء مكة
|
|
رجال بني كعب
تحز رقابها
|
بأيدي رجال
لم يسلوا سيوفهم
|
|
وقتلى كثير
لم تجن ثيابها
|
ألا ليت شعري
هل تنالن نصرتي
|
|
سهيل بن عمر
وحرها وعقابها
|
فلا تأمننها
يا ابن أم مجالد
|
|
إذا احتلبت
صرفا وأعصل نابها
|
ولا تجزعوا
منها فإن سيوفنا
|
|
لها وقعة
بالموت يفتح بابها
|
قال
ابن إسحاق : وقول حسان : بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم : يعني قريشا ، وابن أم مجالد :
عكرمة بن أبي جهل .
وعسكر رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ببئر أبي عنبة ، وعقد الألوية والرايات. فكان في
المهاجرين ثلاث رايات : راية مع علي ، وراية مع سعد بن أبي وقاص ، ثم ذكر الواقدي
سائر الرايات .
إشارة لما سبق :
ونقول
:
__________________
قد تحدثنا في
جزء سابق عن سرية بطن إضم ، فلا نرى حاجة للإعادة ، ونكتفي بالإشارة إلى بضعة أمور
هي التالية :
النفير العام :
إنه
يبدو : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد استنفر جميع العرب ، بدوهم وحضرهم ، قريبهم وبعيدهم
، مسلمهم وكافرهم ، ربما لأنه أراد أن يؤكد لهم سقوط جميع حصون الشرك في المنطقة ،
وأنه لم يعد هناك مبرر للتعامل بجفاء ، أو عداء.
وعليهم
الاعتراف بهيمنة الإسلام وقدرته وقوته ، إذ إنهم ليسوا هدفا عسكريا له ، ولا هو
يريد أن يبتلعهم ، أو أن يستغلهم.
بل هو يريد أن
يتعاون معهم على حل المشكلات ، وان يقف إلى جانبهم في إقرار الأمن والسلام ، ومنع
الظلم والتعدي. إذ هو يدعوهم إلى نصرة المظلومين ، ومحاربة الظالمين ، الذين
ينقضون العهود ، ويبطشون بالصبيان ، والنساء ، والضعفاء .. فلماذا لا ينصرونه ،
ولا يكونون معه؟ فإن ذلك من مصلحتهم بلا ريب.
ويدل أنه قد
جرى على استنفار جميع العرب ، النصوص المتقدمة نفسها ، بالإضافة إلى أنه في حرب
خيبر ، وفي غيرها ، وهي حروب كبرى ، وصعبة ومصيرية ، لم يستطع حشد أكثر من ألف
وخمس مائة مقاتل مقابل أكثر من عشرة آلاف مقاتل من الأعداء ، كانوا مستقرين في
حصونهم ، ومستعدين للمواجهة.
ولكنه جمع في
مؤتة ثلاثة آلاف مقاتل ..
وقد
قلنا : إن الظاهر هو
: أنه قد نفر معه مئات من غير المسلمين أيضا ، لأنهم أدركوا : أن خطر ملك الروم
عظيم وجسيم ، فلا بد لهم من الدفع عن أنفسهم ، وحفظ حوزتهم ، كما تقدم.
الحضور إلى المدينة في شهر رمضان :
وقد
كانت رسالته «صلىاللهعليهوآله» إلى العرب هي : الطلب إليهم أن يحضروا إلى المدينة في شهر رمضان ، ولم
يبين لهم سبب هذا الطلب ، ولا الغاية من حضورهم ، فهل هو يحضرهم لإبلاغهم أمرا ،
أو لمشاورتهم فيه ، أو للاتفاق معهم على شيء بعينه ، أو لحرب أهل مكة ، أو حرب
غيرهم؟ إن ذلك لم تحدده لهم تلك الرسائل التي أرسلها إليهم ..
وحتى بعد أن
ظهر أن القصد هو التجمع للحرب ، فإن الأمر بقي غائما ومجهولا لهم ، إلى أن سار
بتلك الجموع مسافات طويلة ، ثم سلك طريق مكة ..
ولم نجد منهم
أي تمرد أو تململ أو ضيق من هذا القرار القاضي بحجب معرفة المقصد عنهم ، بل ربما
يكون ذلك قد أشعرهم بخطورة الأمر وأهميته ، وهيأهم لمواجهة أي خيار يفرض عليهم
بصبر وشجاعة.
وإن هذا يشير
بلا شك إلى مدى تسليم الناس لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وثقتهم بتدبيره ، رغم أنهم لم يكونوا كلهم ـ حسبما
استظهرناه ـ من أهل الإيمان ، والإسلام.
إبان المسير إلى قريش :
قد
تقدم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أمر عائشة بكتمان الأمر ،
وأمر أبا بكر بذلك أيضا. وانه أرسل أبا قتادة إلى بطن إضم ، ولم يعلمه
بوجهة سيره لئلا تذهب بذلك الأخبار.
فما
معنى قولهم هنا : إنه «صلىاللهعليهوآله» أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتجهيز ؟.
أو
قولهم : «أبان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» السير إلى قريش ، وأرسل إلى أهل البادية الخ ..» .
ومما
يؤكد التزام السرية في هذا الأمر قولهم : «.. وأمر «صلىاللهعليهوآله» الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الذي يريده وقد قال له
أبو بكر : يا رسول الله ، أو ليس بيننا وبينهم مدة؟
قال
: إنهم غدروا
ونقضوا العهد. واطو ما ذكرت لك ..» .
يضاف
إلى ذلك : أن رسالة
حاطب بن أبي بلتعة لقريش تدل على أنه لم يكن على يقين من وجهة سيره «صلىاللهعليهوآله» ، حيث جاء فيها : «وإن محمدا قد نفر ، فإما إليكم ،
وإما إلى غيركم».
__________________
أو
جاء فيها : «قد آذن
بالغزوة ، ولا أراه إلا يريدكم» .
__________________
الفصل الخامس :
ابن أبي بلتعه ..
يتجسس ويفتضح
اكتشاف تجسس ابن أبي بلتعة لقريش :
وروي
: أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لما أجمع السير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا
إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من الأمر في المسير إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، (سوداء كما في البحار) زعموا أنها من مزينة.
قال
محمد بن عمر : يقال لها : كنود .
قال
ابن إسحاق : وزعم لي غير ابن جعفر : أنها سارة مولاة لبعض بني
__________________
المطلب .
وزعم
مغلطاي : أن حاملة
الرسالة هي : أم سارة واسمها كنود . وجعل لها جعلا .
قال
محمد بن عمر : دينارا .
__________________
وقيل
: عشرة دنانير .
أضاف
الحلبي قوله : وكساها بردا ، على أن تبلغه أهل مكة.
وعن
ابن عباس : أعطاها عشرة دنانير .
وعن
مقاتل : عشرة دراهم
وكساها بردا .
وقال
لها : أخفيه ما
استطعت ، ولا تمري على الطريق ، فإن عليه
__________________
حرسا .
فجعلته في
رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ، فسلكت غير نقب عن يسار المحجة في
الفلوق حتى لقيت الطريق بالعقيق .
نص الكتاب :
وذكر
السهيلي أنه قيل : إنه كان في كتاب حاطب : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد توجه إليكم بجيش كالليل ، يسير كالسيل ، وأقسم
بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله تعالى عليكم ، فإنه منجز له ما وعده فيكم ،
فإن الله ـ تعالى ـ ناصره ووليه .
__________________
وعند
الطبرسي : أنه كتب لقريش
: إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خارج إليكم يوم كذا وكذا .
وفي
تفسير ابن سلام : أنه كان فيه : إن محمدا «صلىاللهعليهوآله» قد نفر فإما إليكم ، وإما إلى غيركم ، فعليكم الحذر.
انتهى .
وذكر
ابن عقبة الواقدي : أن فيه : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد آذن بالغزو ، ولا أراه إلا يريدكم ، وقد أحببت أن
يكون لي يد بكتابي إليكم .
وعند
الطبرسي : من حاطب بن
أبي بلتعة إلى أهل مكة : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريدكم ، فخذوا حذركم .
__________________
التدخل الإلهي :
قال
القمي : «إن حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة ،
وكان عياله بمكة. وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فصاروا إلى عيال حاطب ، وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب
، يسألوه عن خبر محمد «صلىاللهعليهوآله» : هل يريد أن يغزو مكة؟! فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن
ذلك» .
فكتب
إليهم حاطب : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد ذلك ، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى «صفية» فوضعته
في قرونها الخ ..
وأتى رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب
، والزبير بن العوام .
__________________
زاد
أبو رافع : المقداد بن الأسود .
وغير
ابن إسحاق ، يقول : بعث عليا والمقداد .
وفي
رواية عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي : أبا مرثد ، بدل المقداد .
وفي
الحلبية : بعث عليا «عليهالسلام» ، والزبير ، وطلحة ، والمقداد.
وقيل
: بعث عليا ،
وعمارا ، أو الزبير ، وطلحة ، والمقداد ، وأبا مرثد.
ولا مانع من أن
يكون بعث الكل.
__________________
وبعض الرواة
اقتصر على بعضهم .
وزاد الطبرسي :
عمر.
وكانوا كلهم
فرسانا .
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أدرك امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له في
أمرهم» .
ولفظ
أبي رافع : «انطلقوا حتى
تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب» فخرجوا ـ وفي لفظ : فخرجا ـ حتى إذا كان بالخليقة ، خليقة بني
__________________
أحمد الخ ..
وفي
الحلبية : «فخذوه منها وخلوا سبيلها ، فإن أبت فاضربوا عنقها» .
وقال
المفيد : فاستدعى أمير
المؤمنين «عليهالسلام» وقال له : «إن بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكة يخبرهم
بخبرنا ، وقد كنت سألت الله أن يعمي أخبارنا عليهم. والكتاب مع امرأة سوداء قد
أخذت على غير الطريق ، فخذ سيفك والحقها ، وانتزع الكتاب منها ، وخلها ، وصربه إلي».
__________________
ثم
استدعى الزبير بن العوام وقال له : «امض مع علي بن أبي طالب في هذا الوجه».
فمضيا ، وأخذا
على غير الطريق ، فأدركا المرأة ، فسبق إليها الزبير ، فسألها عن الكتاب الذي معها
فأنكرت ، وحلفت : أنه لا شيء معها ، وبكت.
فقال
الزبير : ما أرى يا أبا
الحسن معها كتابا ، فارجع بنا إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نخبره ببراءة ساحتها.
فقال
له أمير المؤمنين «عليهالسلام» : يخبرني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن معها كتابا ويأمرني بأخذه منها ، وتقول أنت : إنه
لا كتاب معها؟!!
ثم
اخترط السيف ، وتقدم إليها ، فقال : أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك ، ثم لأضربن
عنقك.
فقالت
: إذا كان لا بد
من ذلك فأعرض يا ابن أبي طالب بوجهك عني ، فأعرض بوجهه عنها ، فكشفت قناعها ،
وأخرجت الكتاب من عقيصتها ، فأخذه أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، وصار به إلى النبي «صلىاللهعليهوآله».
فأمر
أن ينادى : «الصلاة جامعة»
، فنودي في الناس ، فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم.
ثم صعد النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى المنبر ، وأخذ الكتاب بيده وقال : «أيها الناس إني
كنت سألت الله عزوجل أن يخفي أخبارنا عن قريش ، وإن رجلا منكم كتب إلى أهل
مكة يخبرهم بخبرنا ، فليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي».
فلم يقم أحد ،
فأعاد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مقالته ثانية ،
وقال : «ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي».
فقام حاطب بن
أبي بلتعة ، وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف ، فقال : أنا يا رسول الله صاحب
الكتاب ، وما أحدثت نفاقا بعد إسلامي ، ولا شكا بعد يقيني.
فقال
له النبي «صلىاللهعليهوآله» : «فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب»؟
قال
: يا رسول الله
، إن لي أهلا بمكة ، وليس لي بها عشيرة ، فأشفقت أن تكون دائرة لهم علينا ، فيكون
كتابي هذا كفا لهم عن أهلي ، ويدا لي عندهم ، ولم أفعل ذلك للشك في الدين.
فقام
عمر بن الخطاب وقال : يا رسول الله مرني بقتله ، فإنه منافق.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إنه من أهل بدر. ولعل الله تعالى اطّلع عليهم فغفر لهم. أخرجوه من المسجد».
قال
: فجعل الناس
يدفعون في ظهره حتى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ليرق عليه ، فأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بردّه ، وقال له : «قد عفوت عنك وعن جرمك ، فاستغفر
ربك ، ولا تعد لمثل ما جنيت» .
وفي
نص آخر : «فخرج علي والزبير ، لا يلقيان أحدا حتى وردا ذا الحليفة
، وكان النبي «صلىاللهعليهوآله» وضع حرسا على المدينة. وكان
__________________
على الحرس حارثة بن النعمان ، فأتيا الحرس فسألاهم ، فقالوا : ما مر بنا
أحد.
ثم
استقبلا حطّابا فسألاه ، فقال : رأيت امرأة سوداء انحدرت من الحرة ، فأدركاها فأخذ علي
منها الكتاب ، وردها إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فدعا
حاطبا ، فقال له : انظر ما صنعت ..
قال
: أما والله ،
إني لمؤمن الخ .. .
وقال
ابن عقبة : أدركاها ببطن ريم ، فاستنزلاها فحلفت ، فالتمساه في رحلها ، فلم يجدا شيئا
، فهموا بالرجوع ، فقال لها علي بن أبي طالب ـ رضياللهعنه ـ : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وما كذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك.
وعند
القمي : ما كذبنا رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولا كذب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على جبرئيل ، ثم ولا كذب جبرئيل عن الله جل ثناؤه ،
والله لتظهرن الكتاب أو لأوردن رأسك إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الخ .. . (زاد في الحلبية : أو أضرب عنقك).
وفي
مجمع البيان : وسل سيفه وقال : «أخرجي الكتاب ، وإلا والله
__________________
لأضربن عنقك» .
فلما
رأت الجد ، قالت : أعرضا. فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه.
فخلوا سبيلها ،
ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ، فأتي به رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين
من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فدعا
حاطبا ، فقال : يا حاطب ، ما حملك على هذا؟
قال
: يا رسول الله.
إني والله لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ، ولا بدلت ، ولكني كنت امرءا ليس لي في
القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم .
__________________
وفي
نص آخر : أنها أخرجت
الكتاب من حجزتها ، والحجزة معقد الإزار والسراويل .
وحسب
نص أورد في البحار : أن حاطبا قال : والله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ صحبتك ، ولا
أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ،
وكنت (عريرا) عزيزا فيهم. (العرير : الغريب) ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على
أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ، وإن كتابي لا
يغني عنهم شيئا.
فصدقه رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» وعذره ، فقام عمر بن الخطاب وقال : دعني يا رسول الله
أضرب عنق هذا المنافق.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : وما يدريك يا عمر ، لعل الله اطّلع على أهل
__________________
بدر ، فغفر لهم ، فقال لهم : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم .
وفي
نص القمي : «ولكن أهلي وعيالي
كتبوا إلي بحسن صنيع قريش إليهم ، فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم ، فأنزل
الله الخ ..» .
ولفظ
أبي رافع ، فقال : يا رسول الله لا تعجل علي ، إني كنت امرءا ملصقا في قريش ، ولم أكن من
أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم بها وأهليهم بمكة ،
ولم يكن لي قرابة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من بينهم أن أتخذ فيهم يدا أحمي بها
قرابتي. وما فعلت ذلك كفرا بعد إسلام.
__________________
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إنه قد صدقكم».
فقال
عمر لحاطب : قاتلك الله!! ترى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم؟! دعني يا رسول
الله أضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ..
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «ما يدريك يا عمر أن الله عزوجل اطّلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال : «اعملوا ما شئتم
فقد غفرت لكم»؟!
فاغر
ورقت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم ، حين سمعه يقول في أهل بدر ما قال .
__________________
وأنزل الله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ
وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا
لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ
__________________
كَفَرْنا
بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) » .
ونقول
:
إن
لنا هنا وقفات :
لعلها عدة رسائل :
قد
يقال : إن نصوص
الرواية المختلفة تشير إلى أن حاطبا قد كتب لقريش عدة رسائل ، ولعل بعضها قد قصد
به التعمية على الناس فيما لو انكشف الأمر ، حيث يمكن لحامل الرسالة أن يظهر إحدى
تلك الرسائل ، فينصرف المفتشون عما سواها ، وربما تكون رسالة واحدة ، ذكر كل راو
بعض فقراتها ، واقتصر عليه.
ولعله كتب
الرسالة على فترات ، كما احتمله الحلبي .
وإن كنّا لم
نستطع أن نفهم معنى معقولا لهذا الاحتمال الأخير ..
غير
أننا رغم معقولية سائر الاحتمالات نقول :
سيأتي
: أن الأقرب هو
أنه لم يرسل سوى رسالة واحدة ، وهي تلك
__________________
التي يعبر فيها حاطب عن عدم معرفته بمقصد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأنه يريد لهم أن يكونوا على حذر. وستأتي مبررات ذلك
عن قريب إن شاء الله تعالى.
مقدار الجعل على حمل الرسالة :
ونحن نشك في أن
يكون الجعل الذي أعطاه حاطب لتلك المرأة لكي تحمل الرسالة إلى مكة هو دينار واحد ،
أو نحو ذلك ، فإنها قيمة زهيدة لا يرغب بها راغب ، ولا سيما مع هذه الأخطار التي
قد تتعرض لها.
إلا
إذا فرض : أن تلك المرأة
هي سارة التي قدمت من مكة ، وتريد أن ترجع إلى بلدها .. أو أنها امرأة أخرى مضطرة
للسفر على كل حال ، وقد أرادت أن تسدي هذه الخدمة للمشركين ، وتستفيد بعض المال
أيضا عن هذا الطريق.
هل نافق حاطب؟! :
وذكر
الحلبي : أن مراد عمر
بقوله عن حاطب : قد نافق : أنه خالف الأمر ، لا أنه أخفى الكفر ، لقوله «صلىاللهعليهوآله» : قد صدقكم ، ولا تقولوا له إلا خيرا. وعليه يشكل قول
عمر المذكور ، ودعاؤه عليه بقوله : قاتلك الله.
إلا
أن يقال : يجوز أن يكون
قول عمر له ذلك كان قبل قول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ما ذكر .
__________________
غير
أننا نقول :
إن ذلك لا يدفع
الإشكال ، فإن مخالفته الأمر لا توصف بأنها نفاق ، فيبقى السؤال المذكور. إلا إن
كان يريد أنه قد فعل فعل المنافق ، من حيث إنه كان يظهر للمسلمين إخلاصه ، ولكنه
يفعل في الباطن خلاف ما يظهره ..
ولكنه بعد
انكشاف أمره قد صدق في كلامه حين أخبرهم بالأسباب التي حملته على هذا الفعل
النفاقي ..
المخبأ العتيد :
ويلاحظ
هنا : أن تلك المرأة
قد خبأت الكتاب في شعرها ، وفتلت عليه قرونها. أو خبأته في حجزتها ، وهو معقد
السراويل كما في رواية أخرى .. لأنها كانت تدرك تحرّج المسلمين من النظر إلى شعور
النساء ، أو من تجريدهن بحيث يظهر لهم المخبأ في معقد السراويل ، لأن ذلك حرام
شرعا ، ويفترض بهم أن يلتزموا بأحكام الشرع ، وحتى لو كشفوا رأسها ، أو انكشف قهرا
بسبب حركة عنيفة ، أو بريح شديدة ، فإن ذلك لا يضر ، لأن الكتاب كان في داخل الشعر
المفتول.
الفضل لعلي عليهالسلام :
وقد كان الفضل
لعلي «عليهالسلام» في كشف أمر تلك المرأة. أما الذين كانوا معه فقد
أقنعهم قولها ، وأرادوا تخلية سبيلها. بل إن الزبير حكم ببراءتها من هذا الأمر
الذي انتدبهم إليه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. ولم يطالبوها بكشف رأسها ، ولا بنقض شعرها المفتول
..
وقد
اخطأوا في ذلك من جهتين :
أولاهما
: أنهم لم
يراعوا أوامر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المسدد بالوحي الذي يريه الواقع كما هو.
الثانية
: أن ظاهر حالها
لا بد من أن يشي بلزوم الريبة بها لأن نفس المسالك التي سلكتها لا بد من أن تثير
شكوكهم في أمرها .. حتى لو لم يخبرهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بشيء.
وذلك لأنها
تركت الطرقات السهلة ، والتي اعتاد الناس سلوكها ، واختارت السير في القفار
والشعاب فترة طويلة ، ثم عادت إلى الطريق في «العقيق» ..
فأخذوها هناك ،
وكشف أمرها علي «عليهالسلام» ، ولا يسلك هذه المسالك إلا هارب أو خائف ، أو من يخفي
شيئا خطيرا يريد ان ينفذه إلى بلاد أخرى.
الحرس على الطريق وشى بالخائن :
إن حاطب بن أبي
بلتعة يوصي حاملة رسالته بأن لا تمر على الطريق ، فإن عليه حرسا ، فتركت الطريق
وسارت في القفار والفجاج مقدارا طويلا ، ثم عادت لتسلك الطريق في منطقة «العقيق».
ومن
البديهي : أنه لا يمكنها
الوصول إلى مكة بسلوك متاهات الصحاري والقفار ، وترك الجادة ، لأن ذلك يعرضها
لكثير من المفاجآت والأخطار ، بل هو يؤدي بها إلى الهلاك والبوار.
ولأجل ذلك أخذ
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المسالك على كل
سالك ووضع الحرس عليها ، لأنه «صلىاللهعليهوآله» يعلم : كل من تنكّب الطريق لا بد من أن يعود إليها ولو
بعد حين.
رسالة تهديد أم تحذير؟! :
وقد
ذكروا بعض النصوص لرسالة حاطب التي قد يقال : إنها أشبه بالتهديد منها بالإخبار لهم مما يراد بهم.
ففيها : «أقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم ، فإنه منجز له ما وعده
الله فيكم ، فإن الله ناصره ووليه».
ثم
يقال : لو صح أن هذا
هو النص الذي كتبه إليهم حاطب لاستحق عليه المدح والثناء ، والتقدير ، لا الملامة
والتوبيخ .. ولكان ينبغي إنفاد الرسالة إليهم ، وعدم مصادرتها.
غير
أننا نقول :
إن هذه الكلمات
لا تكفي لإعطاء هذا الانطباع ، لأنها قد تكون لأجل التغطية على الخبر الأهم الذي
أتحفهم به ، أو يكون قد ساق هذه العبارات ليتذرع بها ـ لو انكشف الأمر ـ ويدّعي :
أنه لا يقصد إلا بث الرعب واليأس في قلوب الأعداء ، علما بأن ذلك لن يجديه نفعا
بعد ما صرح لهم في رسالته بما كان الرسول «صلىاللهعليهوآله» قد حذّر الناس من إخبارهم به ، وجعل الأرصاد على
الطرقات ، من أجل تلافي حصوله .. وبذلك يكون حاطب قد عرّض نفسه للإدانة على كل حال
.. وجعلها في موضع الخذلان والخسران ، ولا ينفعه المراء والجدل.
دقة معلومات حاطب :
ونحن لا نستطيع
أن نتقبل ما ورد في بعض المصادر من أن حاطبا قد كتب لقريش : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خارج إليكم يوم كذا وكذا .. .
ولا
أن نقبل الرواية التي تقول : إنه كتب إليهم : إن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم .
وذلك
لسببين :
أحدهما
: أن أحدا لم
يستطع أن يعرف وجهة سير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى سار بجيشه مسافات طويلة كما ظهر في جزء سابق حين
الكلام حول سرية أبي قتادة إلى بطن إضم.
الثاني
: أنه حتى لو
علم حاطب بأن المقصود هو غزو مكة ، ولكن من أين يستطيع تحديد يوم خروج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بذلك الجيش ، وأنه يوم كذا؟ فإن ذلك لا يتلاءم مع هذه
السرّية الفائقة التي كان «صلىاللهعليهوآله» يعتمدها.
وقد ظهرت
الكثير من الدلائل والشواهد على دقته البالغة في مراعاتها والحفاظ عليها ، بحيث لا
يستطيع حاطب وسواه أن يعلم بهذا التاريخ الدقيق.
__________________
والصحيح
في الأمر هو أنه كتب إليهم يقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» قد آذن بالغزو ، إما إليكم أو إلى غيركم.
وقد أحب أن
يخبرهم بذلك ليكونوا على حذر ، لاحتمال أن يكون قصده إليهم.
خبر السماء :
ويأتي التأييد
بالوحي الإلهي في خصوص موضوع سرية التحرك وهدفه الأقصى ليبعث اليأس في نفوس
المنافقين ، والمتزلفين ، والخانعين ، والمتآمرين ، وليقول لهم : إنكم غير قادرين
على اختراق حاجز الرقابة هذا ، فإن المؤمنين حتى لو استنفدوا قدراتهم ، فسيأتيهم
المدد والتسديد والتأييد الإلهي ، ليسد مواضع الخلل ، ويحفظ المسيرة من دون أن
يباشر أي تصرف قاهر لإرادات المعاندين والمتآمرين ..
وهذا ما حصل
فعلا في قضية حاطب بن أبي بلتعة ، حيث لم يتدخل الله تعالى لمنع حاطب من التفكير
في مراسلة قريش ، ولا من التخطيط ، ثم التنفيذ ، كما انه لم يتصرف في إرادة المرأة
حاملة الرسالة ، ولا أعجزها عن التصرف ، ولا قهرها على التزام طريق بعينها ، بل هي
اختارت طريقا وسلكته ، وخططت لأمر ، ونفذت خطتها ..
ولكنه أخبر
نبيه بما جرى .. فتصرف «صلىاللهعليهوآله» بطريقة من شأنها أن تؤدي إلى كشف المستور ، وجنّب بذلك
اهل الإيمان من الوقوع في المحذور.
كما أن شعور
أهل الإيمان بالتسديد والتأييد الإلهي لا بد من أن يقوي
من عزيمتهم ، ويشد من أزرهم ، ويرسخ من يقينهم.
ألا يكفي علي عليهالسلام وحده؟! :
وقد
يدور بخلد أحدهم سؤال يقول : ألم يكن يكفي أن يرسل عليا وحده لأخذ الكتاب من تلك
المرأة ، فلماذا أرسل معه آخرين ، مثل الزبير ، وسواه حتى إن الأسماء قد تتجاوز
عدد أصابع اليد الواحدة؟! مع أن حاملة الرسالة مجرد امرأة ، لا حول لها ولا قوة
ولا تحتاج إلى كل هذا العدد.
ألا
يدلنا ذلك : على أن ثمة تصرفا في الروايات بالتضخيم ، والتهويل ، لحاجة في نفس الرواة
قضيت؟!
إلا
أن يقال : إنه «صلىاللهعليهوآله» أرسلهم فرقا في مسالك مختلفة حتى لا تفوتهم تلك
المرأة.
ونجيب
:
بأنه لا شك في
أن ثمة أهدافا أخرى تتجاوز موضع مصادرة الرسالة ، ومنع وصولها إلى قريش ، ونستطيع
أن نذكر من هذه الأهداف ما يلي :
أولا
: إن الأمر لا
ينحصر بمنع وصول هذه الرسالة إلى قريش ، بل هو يتجاوز ذلك إلى إثارة جو من الرهبة
يمنع أيا كان من الناس بالتفكير في تسريب أية معلومة عن تحركات النبي «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين إلى أي كان من الناس ..
فكان أن اختار «صلىاللهعليهوآله» عدة أشخاص لهم خصوصيات وتوجهات ، وارتباطات ، واهواء
مختلفة ، ومتشعبة ، ليروا جميعا بأم أعينهم صدق الوحي الإلهي ، وليأخذوا العبرة ،
وينقلوها إلى القبائل والأفراد
الذين يعيشون في أجوائهم ، ولهم صلة بهم بنحو أو بآخر ..
ثانيا
: إنه لو أرسل «صلىاللهعليهوآله» أي واحد منهم سوى علي «عليهالسلام» ، فسيرجع بخفي حنين ، كما اظهرته الوقائع ، حيث صدقوا
تلك المرأة وهموا بالرجوع ، وستتمكن تلك المرأة من الإفلات ، وربما لم يمكن اللحاق
بها ، أو ربما يصعب العثور عليها إذا سلكت مسالك معينة .. وفي ذلك تفريط ظاهر لا مجال
للقبول به ، ولا لتحمله ..
ثالثا
: إنه لا بد من
أن يعرف الناس جميعا مدى التفاوت فيما بين تلك الجماعة التي خدعت ببكاء تلك المرأة
، وصدقتها في إنكارها ، حتى هموا بالرجوع عنها وبين علي «عليهالسلام» ، وفي معرفته ، ووعيه ، وصحة تدبيره ، وإيمانه ويقينه
بما جاء به رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وكيفية نظرته إلى الوحي الإلهي ، وإلى النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» ، وطبيعة تعامله معه ، ومع أوامره ، وأقواله ،
وإخباراته ..
وبذلك يظهر زيف
ما يدّعيه الناس لغيره «عليهالسلام» من مناوئيه ، ومخالفيه ، وحاسديه ، أو ما يدّعيه هؤلاء
لأنفسهم من مقامات وبطولات ، ومن خصائص وميزات ، ومن جهاد وتضحيات ، وذلك لأنهم
خالفوا صريح أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين قال لهم : خذوه منها ، وخلوا سبيلها ، فإن أبت
فاضربوا عنقها.
خذوه منها ، فإن أبت فاضربوا عنقها :
وهذا الأمر
الذي صدر من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لهم حول كيفية التعامل مع حاملة الرسالة لا يترك لهم
أي مجال لتصديقها ، أو توهم
براءتها مما نسب إليها ، فضلا عن أن يهموا بالرجوع ، لأن ذلك يتضمن تكذيب
الوحي الإلهي ، والطعن بعصمة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، والتخطئة له ..
وإن الأمر بضرب
عنقها لو أبت أن تعطيهم الكتاب يدل على أن حكم من يفشي سر المسلمين ، ويصرّ على
التآمر على رسول رب العالمين ، هو القتل كائنا من كان ، حتى لو كان امرأة ..
كما أن الأمر
بتخلية سبيلها بعد اخذ الكتاب منها يتضمن إرفاقا بها ، وعفوا عن جرمها ، خصوصا مع
محاولتها إنكار الرسالة ، حتى إنها لم تعطهم إياها إلا بعد تهديد علي «عليهالسلام» لها ..
والقول بأنها
إذا كانت لا تعلم بمضمون الرسالة فإنها تكون غير مشاركة في الخيانة ، غير مقبول ،
فإنها ـ على أقل تقدير ـ تحمل رسالة تتضمن أسرارا يراد إيصالها سرا للمشركين ،
وتعلم أن ظهور هذه الأسرار سيكون مضرا للمسلمين ، حتى لو لم تعلم بتفاصيل مضمون
الرسالة ، وهذا يكفي لإدانتها.
الصلاة جامعة لماذا؟! :
وقد
صرحت رواية المفيد : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» أمر أن ينادى في الناس : «الصلاة جامعة» ، (وهو تعبير
عن دعوة عامة لأمر مهم طارئ) فلما اجتمعوا في المسجد حتى امتلأ بهم صعد النبي «صلىاللهعليهوآله» المنبر ، وأخذ الكتاب بيده ، وطلب من صاحبه أن يعلن عن
نفسه ، وإلا فضحه الوحي ..
والسؤال
هو : لماذا هذا
الإعلان بالأمر؟ وبهذه الطريقة القوية والواسعة؟
ألم يكن الأجدر
أن يعالج الأمر بهدوء يحافظ به على ماء وجه حاطب؟!
ونقول
في الجواب :
إن الإعلان عن
الموضوع بهذا النحو القوي كان ضروريا ، وله أسباب وفوائد عديدة ، نذكر منها ما يلي
:
١ ـ إن هذه
الطريقة من شأنها أن تعرّف الناس بهذا الأمر الخطير على أوسع نطاق ، وقد كان هذا
هو مطلوب له «صلىاللهعليهوآله» لأسباب ، ربما يتضح بعضها عن قريب ..
٢ ـ إن ذلك
يبقي هذا الخبر على درجة من السلامة والصحة ، والوضوح في أذهان الناس ، ويمنع من
تلاعب المتلاعبين فيه بالزيادة فيه تارة ، والنقيصة أخرى ، حسب الأهواء ، ورياح
السياسة ، والمصلحة ، فإن تناقل أمثال هذه الأخبار بصورة فردية أو جماعية بلا رقيب
ولا عتيد سوف يمكّن أصحاب الأهواء من التحريف فيه ، بما يخدم أهواءهم ومصالحهم
وخططهم!!
٣ ـ إن هذا
الإعلان الواضح والصريح قد وضع حدا أمام التكهنات والتساؤلات عن طبيعة الموقف الذي
سيتخذه النبي «صلىاللهعليهوآله» ممن أقدم على هذا العمل الخطير ، كما أنه قد رسم للناس
طريقة التعاطي معه ، ومنع من الإفراط والتفريط الذي قد تنشأ عنه إثارات غير مسؤولة
، قد تضر في مسار الأمور كما يرضاه الله ورسوله ..
٤ ـ إن ذلك
يبين لمن تسوّل له نفسه القيام بأمثال هذه التصرفات حجم الفضيحة التي ستواجهه ،
وسيكون ذلك مؤثرا في الردع عن أي تصرف من هذا القبيل ..
٥ ـ إن هذا
التهديد بفضيحة الوحي لمن فعل ذلك ، ولا يرضى بالإقرار والاعتراف العلني لا بد من
أن يزيد من شعور الناس بالرقابة ، وعدم القدرة على إخفاء أمرهم لو سولت لهم أنفسهم
الدخول في مغامرة كهذه ..
٦ ـ إن الأمر
لم يقتصر على مجرد توجيه اتهام قولي للفاعل ، بل تعداه إلى تقديم الدليل الحسي على
هذا الأمر ، وهو الكتاب الذي أخذه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بيده وهو على المنبر ، بحيث يراه كل أحد ، فلا تكهنات
ولا اجتهادات ولا ظنون ، ولا حدسيات ، ولا مجال للوسوسات الشيطانية في هذا الأمر
..
٧ ـ إنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكتف بإظهار الكتاب ثم تحديد الفاعل ، بل هو قد حمل
الفاعل على أن يقر بنفسه بما فعل .. بصورة طوعية وهو يرتعد .. وذلك بعد أن ظهر
تردده في البداية.
٨ ـ إن نفس
دفاع حاطب بن أبي بلتعة عن نفسه ، قد أثبت الجريمة عليه ، ولم تعد هناك أي فرصة
للتأويل والاحتمال والاجتهاد ، واستغلال الحدث في اتجاه انحرافي يسيء إلى القضية
بنحو أو بآخر ..
٩ ـ إن اعتراف
حاطب بما فعل ، إنما جاء تحت وطأة الكشف الرباني لما حصل ، حتى لقد حددت المرأة ،
وحدد موقعها ، وأرسل الرجال في طلبها ، ولم يعد يمكن إخفاء أي شيء .. وذلك لا يدل
على عمق إيمان حاطب ، بل هو يدل على هزيمته بعد أن أسقط في يده ..
حاطب ينفي الشك والنفاق :
وقد
رأينا : أن أول ما
دفعه حاطب عن نفسه هو تهمة النفاق والشك في الدين ، وتأكيد التزامه بإسلامه ، ويقينه
به ..
ولم يناقشه
النبي «صلىاللهعليهوآله» فيما ادّعاه من ذلك. بل هو قد سمع منه ، ثم ساق الحديث
معه في اتجاه آخر ..
ومن
الواضح : أن النفاق هو
التهمة الأقسى ، والأشرّ والأضرّ بالنسبة لحاطب ، لأنه كفر قوي وفاعل ، يريد أن
يلحق الضرر بالإيمان وبأهله ، إما بأن يسقط دعوتهم بأساليب من الختل والغدر
والتخريب ، أو يريد سلب المسلمين قدراتهم ، والاستئثار بها لنفسه ..
وهذا يمثل
خطورة مباشرة وعملية ومؤثرة ، لأنه كفر مهاجم يعمل بهدوء وأناة وطمأنينة بعد ان
هيأ لنفسه موجبات ذلك ، حين أظهر الإسلام وأبطن الكفر ..
وأما مجرد الشك
في الدين ، فهو وإن كان كفرا أيضا ، لكنه كفر مهزوم وراكد وضعيف ، يصارع الحقيقة
في داخل نفسه ، ولا يقدر على تجاهلها والتخلص منها ..
وقد نفى حاطب
عن نفسه الشك ، كما نفى عنها النفاق أيضا ..
ولم يرد رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أن يقف معه عند هذه النقطة ولا أن يناقشه فيها .. لأنه
يريد أن يبقيه في دائرة السيطرة ، ويعطيه فرصة ، ويفسح له المجال لإعادة ترتيب
أوضاعه ، فإن هذا المقدار من القبول مطلوب له «صلىاللهعليهوآله» ولا يريد التفريط فيه .. ولذلك وجّه «صلىاللهعليهوآله» الأنظار إلى تلمّس عذر حاطب فيما أقدم عليه. وسنرى أنه
عذره أيضا ..
تهديد المتهم :
وعن تهديد علي «عليهالسلام» لتلك المرأة حاملة الرسالة ، قد يقال : كيف جاز لعلي «عليهالسلام» أن يهدد إنسانا متهما لم تثبت إدانته بعد؟!
ويجاب
: بأن إدانة تلك
المرأة قد ثبتت بالوحي. ومن أصدق من الله قيلا؟ وهو علام الغيوب؟! والعالم بما في
القلوب؟
ونحن نشك في
أنها لو استمرت على إنكارها فقد كان يجب على علي «عليهالسلام» أن يقتلها لسببين :
أحدهما
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» هو الذي أمره بقتلها إن أبت تسليم الكتاب ، لأن القتل
هو حكم الله في المحارب لله ورسوله ، ومن يصر على إطفاء نور الله تبارك وتعالى ..
الثاني
: إن تركها سوف
يؤدي إلى تمكينها من إيصال الرسالة للأعداء ، ليتمكنوا من ثم من إفشال خطة رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أو من إيجاد متاعب ومصاعب كان المسلمون في غنى عنها.
وقد تنشأ عن ذلك خسائر كبرى في أهل الإيمان ، وربما يؤدي ذلك إلى إطالة أمد هيمنة
حالة البغي والاستكبار ، والظلم والتعدي على المستضعفين من النساء والرجال ،
والصبيان بصورة عامة.
وقد
يعترض على ذلك : بأنه قد كان بإمكانهم أن يفتشوها تفتيشا دقيقا ، ويأخذوا منها الكتاب ،
ولا تصل النوبة إلى القتل ..
ولكننا
قلنا : إن الإصرار
على حرب الله ورسوله ، وإطفاء نور الله هو
الذي جعلها تستحق القتل ..
وأما الكتاب
فإن التفتيش عنه لا يكفي لحسم مادة الخطر فيه ، إلا إذا كان العثور عليه حتميا ،
وليس الأمر كذلك إذ هي قد تتمكن من إخفائه تحت حجر ، أو مدر ، أو بين أغصان الشجر
، أو نحو ذلك .. ثم إنها بعد إطلاق سراحها تعود إليه ، او تدل عليه من يأخذه
ويوصله إلى من يتلهف عليه ، ويتشوق إليه.
ولسنا
بحاجة إلى التذكر : بأن هذه الإحتياطات من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا تعني أن جهة مسيره قد عرفت ، بل هي تعني : أنه «صلىاللهعليهوآله» لا يرضى بتعريف قريش وغيرها من أعدائه بأصل خروجه من
المدينة على هيئة الحرب ، فإن ذلك يجعل الأعداء يحذرون لاحتمال أن يكونوا هم الذين
يقصدهم.
كما أن نفس
وجود أناس يوصلون للمشركين أخبار المسلمين مرفوض ، حتى لو كانت تلك الخبار غير
دقيقة أو خاطئة من أساسها.
ردها إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله :
ثم
إن ما ورد في بعض النصوص : من أنه «عليهالسلام» قد رد حاملة الكتاب إلى رسول الله ، لا يتلاءم مع أمر
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأخذ الكتاب منها ، ثم إطلاق سراحها.
إلا
أن يقال : إنه قد يكون
هناك خطأ في الكتابة ، فأراد الكاتب أن يكتب (ردّه) (أي الكتاب) إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فكتب ردها.
غير
أننا نقول :
إنه يحتمل أن
يكون «عليهالسلام» قد ردها ، لكي يمنعها من الوصول إلى مكة قبل حركة
الجيش إليها ، لكي لا تخبر أهل مكة شفاها بما رأته من اعداد واستعداد ، كانت تحتمل
أو تظن أنه لغزوهم.
فيكون المراد
بإطلاق سراحها عدم المبادرة إلى قتلها ، أو ضربها ، أو سجنها ، لأن المطلوب هو
مجرد تعطيل حركتها إلى مكة برهة يسيرة ، يزول فيها الداعي إلى هذا التعطيل.
حاطب يلتفت إلى النبي صلىاللهعليهوآله ليرقّ له :
وقد
صرحت الرواية عن الشيخ المفيد ، وغيره : بأن حاطبا صار يلتفت إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ليرق له .. وذلك حين كانوا يدفعون في ظهره حتى أخرجوه
من المسجد ..
فحاطب إذن لم
يكن لديه أي أمل بغير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهو حتى حين ظهرت خيانته لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه ، لم يكن يتوقع النصر من قريب رحيم ، ولا من صديق
حميم ، ولا من حليف جديد ولا قديم.
وهذا
يؤكد على : أن ثمة صورة جليلة وجميلة قد انطبعت للنبي «صلىاللهعليهوآله» في نفسه وفي نفس كل من عرف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن قرب ، واستقرت في عمق وجدانه ، وهي صورة قد ظهرت
معالمها في آيات قرآنية كريمة ، في أكثر من مناسبة ، ومن ذلك قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) .
وهذا من أروع
الأمثلة على طبيعة العلاقة بين القائد ورعيته ، حيث يبلغ الأمر في صفائها ونقائها
، وسلامتها وصدقها حدا تكون وسيلة المجرم والمسيء ، وشافعه إليه ، هو نفس ذلك الذي
كانت الإساءة إليه ، ووقعت الجريمة عليه ..
قيمة العفو .. والاستغفار :
وتتجلى له قيمة
الإستغفار ، وينعم بالعفو الرحيم من النبي الكريم «صلىاللهعليهوآله» ، ويأتيه ما أمّل ، ويهب النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» لحاطب بن أبي بلتعة جرمه ، رغم خطورته ، ويجعل قيمة
هذا العفو : أن يستغفر حاطب ربه ، وأن لا يعود لمثل ما فعل.
أي أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يفرض عليه غرامة ، ولا مارس في حقه تعزيرا ، ولا
وجه إليه أية كلمة إهانة ، ولا أمر بالتضييق عليه في سجن ، ولا في غيره ، كما أنه
لم يفرض عليه الإقامة في بلد بعينه ، ولا حد من حرية حركته ، ولا منع الآخرين من
التعاطي معه ، ولا .. ولا ..
بل أراد أن لا
تزيد عقوبته على إخراجه من المسجد وهي عقوبة تكاد تكون رمزية ، من حيث إنها تعبر
عن إبعاد محدود عن ساحة الرضا ، ما دام أن ما فعله حاطب كان سيؤدي إلى الإضرار
بأهل الإيمان. وهو قد ميّز نفسه عنهم ، وأراد أن يكون هو في معزل عن أجوائهم ، ولا
يريد أن يناله ما
__________________
ينالهم. لقد أرادها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عقوبة إصلاحية تربوية ، مضمونها ترميم علاقته بالله ،
بالتوبة والاستغفار ، باعتبار أن الجرأة إنما كانت عليه تبارك وتعالى ..
فإذا استطاع أن
يصلح سريرته ، وأن يرضي ربه ، فإنه يكون قد بلغ الغاية التي يريد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يبلغه إياها.
عذر حاطب :
وعن
اعتذار حاطب عما صدر منه نقول : إنه أراد أن يتخذ بما صنعه يدا لدى أهل مكة ليحفظ بذلك
أهله ، إذ ليس له عشيرة تمنعه ..
ولم يناقشه
النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ولا اعترض عليه أحد من المسلمين في ذلك .. لكن هذا
الانصراف عن المناقشة لا يعني أنه منطق سليم ومقبول .. بل هو انصراف إرفاقي
بالدرجة الأولى ، فلاحظ ما يلي :
١ ـ إن وجود
أهله في مكة لا يحتم عليه القيام بعمل خياني ، يلحق الضرر بالكيان الإسلامي كله ،
ويوجب إفساد التدبير النبوي ، وإضعاف هيبته «صلىاللهعليهوآله» لدى الأعداء ، وفتح أبواب التجريح والتشكيك لأهل
النفاق ، ولا يجوز لأحد في أي ظرف كان أن يمكنهم من إثارة الشكوك بسلامة المسيرة ،
وفي حسن السياسة ، وصواب الرأي النبوي الشريف.
٢ ـ إن الضرر
إذا توجه لإنسان مّا ، فإن بإمكانه أن يدفعه عن نفسه ، ولكن ليس له أن يقذف به على
غيره ، فلو أراد أسد أن يدخل بيتا ويفترس شخصا ، فإن بإمكانه أن يتحرز منه
بالطريقة التي تدفعه عنه. وليس له أن يدخله بيت جاره ، ليكون جاره هو الضحية ..
٣ ـ لقد كان
هناك الكثيرون من الضعفاء الذين لم يكن لهم عشائر تمنعهم ، وقد تعرضوا للعذاب على
يد فراعنة قريش حتى قتل بعضهم ، ومنهم آل ياسر ، ولم يجوّز لهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ولا خطر في بالهم أن يحملوا جلاديهم على التوجه
بالعذاب إلى غيرهم من المؤمنين ..
٤ ـ من الذي
قال : إن قريشا كانت تنوي إلحاق الأذى بأهل حاطب فإن ذلك مجرد وهم وقع فيه حاطب ،
رغم أنه وهم علّق حصوله على أمر تقديري افتراضي ، وهو أن تكون لقريش الدائرة على
المسلمين ، وليس ثمة ما يشير إلى حصول أمر من هذا القبيل ، بل الدلائل تشير إلى
عكس ذلك تماما.
وحتى لو حصل
ذلك ، فإن حاطبا لا يستطيع أن يجزم بتعرض أحد من أهله لأي سوء.
٥ ـ ألم يفكر
حاطب في أن ما فعله سوف يؤدي إلى زيادة القتل في صفوف أهل الإيمان؟ فكيف فرط
بالنبي «صلىاللهعليهوآله» ، وبكل أهل الإيمان من أجل حفظ بعض أهله ممن هم على
الشرك بحسب الظاهر؟!
وحتى لو كانوا
مسلمين ، فإن إلحاق الأذي بهم يبقى في دائرة الاحتمال ، بينما هو يقدم لقريش
معلومات من شأنها أن تمكنها من أن تلحق الخسائر بالمسلمين بصورة قطعية ويقينية.
للنبي صلىاللهعليهوآله أن يعفو عن حاطب :
إننا لسنا
بحاجة إلى الاستدلال على مشروعية العفو عن حاطب بأي دليل ، بل نحن نستدل على ذلك
بنفس العفو الذي صدر عن النبي «صلى
الله عليه وآله» في حق هذا الرجل .. فمنه «صلىاللهعليهوآله» التشريع ، وإليه يرجع في معرفة الأحكام ، وقوله وفعله
وتقريره «صلىاللهعليهوآله» حجة ودليل ما بعده دليل ..
غير أن البعض
قد يتساءل عن إمكان العفو عن حاطب في حين أن جرمه يرتبط بأشخاص آخرين وهم المسلمون
، وأهل الإيمان ..
والجواب
:
أولا
: إن جرم حاطب
يرتبط أولا وبالذات بالسياسة النبوية العامة ، وبقرار الحرب والسلم ، ولا يرتبط
بحق شخصي لأحد من الناس ..
ثانيا
: لو فرضنا : أن
جرمه يرتبط بحق شخصي لبعض الأفراد ، فإن الله تعالى قد جعل الولاية لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» على الناس كلهم ، فقال : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ..) .
عمر : مرني بقتله :
قد ذكرت في
العديد من الموارد في تاريخ الإسلام ، وفيها هذا المورد بالذات : أنه قد كان من
عادة عمر بن الخطاب أن يصدر حكمه على الأشخاص ، ثم يطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يأمره بتنفيذه ..
فكم من مرة
ينبري فيها ليقول لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» : دعني أقتله يا رسول الله ..
واللافت
هنا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يستجب له ولو لمرة واحدة في كل تلك المناسبات
الكثيرة .. الأمر الذي يعني كثرة خطأ هذا
__________________
الرجل في معرفة الحكم الشرعي ، أو في معرفة المصلحة في الشأن العام ، في
حين أن هذه الأمور تمس حياة الناس ومصيرهم.
وهذا يجعلنا
نتساءل عن حاله بعد توليه الخلافة لأكثر من عقد من الزمن : كم أخطأ في أحكامه التي
كان يصدرها ، ولم يصب الحكم الشرعي فيها ، أو أنه لم يصب وجه المصلحة في الشأن
العام؟!
لا ندري!!
ولعل الفطن
الذكي يدري!!
منقبة عظيمة لحاطب :
قال الحلبي : «..
وفي قوله : عدوي وعدوكم منقبة عظيمة لحاطب .. بأن في ذلك الشهادة له بالإيمان» .
غير
أننا نقول :
أولا
: إن الله
سبحانه قد خاطب من أظهر الإسلام في زمن الرسول «صلىاللهعليهوآله» بقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ..) .
ثانيا
: إنه لا مانع
من أن يعود الذي آمن إلى الكفر ، كما هو الحال في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،
وطليحة بن خويلد ، وغيرهما ..
وقد صرح القرآن
الكريم بذلك أيضا ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) .
__________________
وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ) .
ثالثا
: قد صرح القرآن
الكريم بأن من يتولى اليهود والنصارى فهو منهم ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي
أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) .
وهذا تقريبا هو
نفس حال حاطب ، وهو نفس ما اعتذر به ، فراجع الكلمات المنقولة عنه فيما تقدم ..
رابعا
: إن نفس الآية
أو الآيات في سورة الممتحنة ، والتي ذكروا أنها نزلت في حاطب ، قد صرحت : بأن من
يفعل فعل حاطب فقد ضل سواء السبيل .. ثم تواصل الآيات الشريفة بياناتها ، وتضرب
الأمثال المبينة لكيفيات التعامل مع الكفار ، لتختم بالقول : (.. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ) .
خامسا
: إن مما يدل
على أن حاطبا قد ارتكب جرما : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أمر بإخراجه ، ولم يمنع الناس من التعامل معه
بخشونة ، حيث صاروا يدفعونه في ظهره حتى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النبي «صلى
__________________
الله عليه وآله» ليرق له ..
ثم إنه «صلىاللهعليهوآله» قد صرح بسوء فعل حاطب ، وبجرمه ، حين قال له : «قد
عفوت عنك ، وعن جرمك ، فاستغفر ربك ، ولا تعد لمثل ما جنيت ..».
فلماذا يحرص
الحلبي على اعتبار هذا الجرم فضيلة لحاطب لمجرد كون الخطاب في الآية الكريمة قد
وجه إلى المؤمنين؟!
سادسا
: إن الآية إنما
جاءت على سبيل الإرشاد للمسلمين إلى سوء هذا الفعل ، وتحذيرهم من الوقوع فيه .. مع
غض النظر عن الأحكام التي تنشأ عنه ، فلو أن أحدا تعمد الوقوع فيه ، فالآيات لم
تبين حال هذا الشخص ، وأنه هل يبقى على حال الإيمان ، أو أنه يكفر بذلك.
لعل الله اطلع على أهل بدر!! :
وأما
قول النبي «صلىاللهعليهوآله» لعمر : لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقد جاء ردا على عمر بن
الخطاب ، وردعا له عن أن يقول شيئا بغير علم. أي أن مضمون هذه الكلمة صحيح في نفسه
، إذ لم يكن يحق لعمر أن يخبر عما في الضمائر ، وما تكنّه السرائر.
ولكن ذلك لا
يعني أن ذلك قد حصل فعلا ، فإن صدق الشرطية لا يلزم منه صدق وقوع طرفيها ..
ولكن أهل الحقد
والشنآن قد حاولوا أن يستفيدوا من هذه الكلمة في اتجاهين :
أحدهما
: ادّعاء تحقق
المغفرة لأهل بدر فعلا ، وأن كل ما صدر ويصدر
منهم مغفور لهم ، مع أن هذه الكلمة لا تفيد ذلك .. وذلك للأمرين التاليين :
أولا
: لما ذكرناه
آنفا من أن المقصود : هو نفي أن يكون عمر قد اطّلع على الغيب ، وعلم بما أجراه
الله لأهل بدر ، ومارسه في حقهم. فلعله قد غفر لهم صغائر ذنوبهم ، مكافأة لهم على
جهادهم وتضحياتهم ..
ولعل هذا الذنب
من حاطب لم يكن من الكبائر ، بسبب قصوره عن فهم حقيقة الأمور ، وتوهمه أن ذلك لا
يخل بإيمانه ، ولا يضر بالمسلمين. ولذلك صدقه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وقال : «صدق لا تقولوا له إلا خيرا».
ولكن صدقه هذا
لا يعني أنه لم يكن مستحقا للعقوبة بسبب إقدامه على أمر معلوم السوء لدى كل أحد.
ثانيا
: إن المراد
بهذه الكلمة : هو أن يستأنفوا عمل الخير ، وأن يزدادوا منه ، فإن سيآتهم السابقة
قد محيت .. وأصبح مصيرهم مرهونا بما يكون منهم في المستقبل ..
ثانيهما
: إن أولئك
الحاقدين قد اتخذوا ذلك ذريعة للطعن في أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، فقد روى البخاري في صحيحة ، قال : حدثنا موسى بن
إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة عن حصين ، عن فلان ، قال : تنازع أبو عبد الرحمن وحبان
بن عطية ، فقال أبو عبد الرحمن لحبان : لقد علمت الذي جرأ صاحبك على الدماء ، يعني
عليا.
قال
: ما هو؟ لا أبا
لك.
قال
: شيء سمعته
يقوله.
قال
: ما هو؟
قال
: بعثني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» والزبير ، وأبا مرثد ، وكلنا فارس.
قال
: انطلقوا حتى
تأتوا روضة حاج. قال أبو سلمة : هكذا قال أبو عوانة : حاج. فإن فيها امرأة معها
صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأتوني بها.
فانطلقنا على
أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» تسير على بعير لها ، وكان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» إليهم. فقلنا : أين الكتاب الذي معك؟
قالت
: ما معي كتاب.
فأنخنا بها
بعيرها ، فابتغينا في رحلها ، فما وجدنا شيئا ، فقال صاحبي : ما نرى معها كتابا.
فقلت
: لقد علمنا ما
كذب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ثم حلف علي : والذي يحلف به ، لتخرجن الكتاب أو
لأجردنك.
فأهوت إلى
حجزتها وهي محتجزة بكساء ، فأخرجت الصحيفة ، فأتوا بها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال عمر : يا رسول الله ، قد خان الله ، ورسوله ،
والمؤمنين ، دعني فأضرب عنقه.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : يا حاطب ، ما حملك على ما صنعت؟
قال
: يا رسول الله
، ما لي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله ، ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع
بها عن أهلي ومالي. وليس من أصحابك
أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله.
قال
: صدق. لا
تقولوا إلا خيرا.
قال
: فعاد عمر ،
فقال : يا رسول الله ، قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، دعني فلأضرب عنقه.
قال
: أو ليس من أهل
بدر؟ وما يدريك لعل الله اطّلع عليهم ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة.
فاغر
ورقت عيناه ، فقال : الله ورسوله أعلم
قال
أبو عبد الله : «خاخ» أصح ،
ولكن كذلك قال أبو عوانة : حاج. وحاج تصحيف. وهو موضع. وهشيم يقول : خاخ.
ونقول
:
إن
لنا هنا وقفات هي التالية :
إصرار عمر لماذا؟! :
إن أول ما
يستأثر بنظر القارئ الكريم في رواية البخاري المتقدمة ، مبادرة عمر بن الخطاب إلى
الحكم على حاطب باستحقاق القتل ، والطلب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أن يدعه يضرب عنقه ، على اعتبار أنه قد خان الله
ورسوله.
ولكن رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» لم يبال بكلام عمر ، ووجه كلامه إلى حاطب ، يسأله عن سبب
إقدامه على ما أقدم عليه ، فأجابه حاطب بما تقدم.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : صدق ، لا تقولوا إلا خيرا ...
ولكن عمر بن
الخطاب رغم أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يجبه في المرة الأولى. ورغم أنه «صلىاللهعليهوآله» قد حكم بصدق حاطب. ورغم أنه «صلىاللهعليهوآله» أمرهم أن لا يقولوا إلا خيرا.
نعم
، رغم ذلك كله يعود عمر فيقول : يا رسول الله ، قد خان الله ورسوله ، والمؤمنين ، دعني
فلأضرب عنقه ..
فجاءه الجواب
الصريح والواضح من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليخطّئه في تصرفه هذا ، وقد شرحنا هذا الجواب فيما سبق.
الجرأة على الدماء :
وأما
بالنسبة لما زعموه : من أن ما جرى في قصة حاطب هو الذي جرأ عليا «عليهالسلام» على الدماء ، فهو كلام باطل ، من غر حاقد جاهل ، إذ قد
تناسى هؤلاء الحقائق التالية :
أولا
: إن عليا «عليهالسلام» لم يكن هو المبادر إلى الحرب ، لا في حرب الجمل ، ولا
في صفين ، ولا في النهروان ، بل الناكثون هم المبادرون لشن حرب الجمل ، بقيادة أم
المؤمنين عائشة بنت أبي بكر ، ومعها طلحة والزبير.
ثم شنها
القاسطون بقيادة معاوية في حرب صفين ..
ثم كان خروج
المارقين عليه في النهروان.
فهي حروب
مفروضة وباغية على الخليفة الشرعي. وقد حاول «عليهالسلام» إقناعهم بالعودة إلى الشرعية ، ولزوم الطاعة ، ولكن لا
حياة لمن تنادي ، (وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا
يَهْتَدُونَ) .
وصدق الله
ورسوله حين أخبر النبي «صلىاللهعليهوآله» عليا «عليهالسلام» بأنه يقاتل بعده الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين .
__________________
ثانيا
: إن أبا بكر قد
قاتل الذين لم يعترفوا بخلافته ، ولم يعطوه زكاة أموالهم ، وقالوا : إنهم سوف
يعطونها لفقرائهم .
وقد قتلهم رغم
معارضة الصحابة له ، بما فيهم عمر بن الخطاب .
وهو
القائل : لو منعوني
عقال بعير لقاتلتهم أو لجاهدتهم على منعه .
__________________
وقد جرى على
مالك بن نويرة وقومه ما هو معروف ، فقد قتلهم خالد بعد الأمان ، وزنى بامرأة مالك
في نفس ليلة قتله .
__________________
وقد
أصر عمر على معاقبة خالد ، وقال له : لأرجمنك بأحجارك . ولكن أبا بكر رفض ذلك ، وأطلق كلمته المعروفة : «تأول
فأخطأ» .
__________________
لقد حصل كل هذا
، رغم أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم ينص على خلافة أبي بكر ، ولكنه نص على إمامة وخلافة
أمير المؤمنين «عليهالسلام» من بعده ، وبايعه الناس بأمره «صلىاللهعليهوآله» في يوم الغدير ..
كما أن البيعة
لأبي بكر قد اكتنفتها عقبات كبيرة ، لم يستطع أبو بكر أن يتغلب عليها إلا بالهجوم
على بيت فاطمة الزهراء «عليهاالسلام» ، وضربها ، وإسقاط جنينها و.. و.. الخ .. ثم استشهدت
متأثرة بما جرى عليها «صلوات الله وسلامه عليها» . وذلك بعد استقدام عدة ألوف من حملة السلاح إلى المدينة
، ليقاتلوا من يرفض البيعة لأبي بكر ، وليستخرجوا الناس من بيوتهم لحملهم على هذه
البيعة جبرا وقهرا .
فما الذي جرأ
أبا بكر على الدماء يا ترى؟! ولماذا لا يسجلون هذه الملاحظة عليه ، فإنه أولى بها
من علي «عليهالسلام»؟!
ثالثا
: إن كان تهديد
علي «عليهالسلام» لحاملة الرسالة بالقتل إن لم تظهر الرسالة جرأة على
الدماء ، كما يدّعيه هؤلاء السحرة ، فإن المتجرئ على الدماء في الحقيقة ـ حسب
منطقهم ـ هو رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه ، لأنه هو الذي أمرهم بقتلها إن لم تعطهم الرسالة
..
__________________
رابعا
: لماذا لا يكون
المتجرئ على الدماء هو عمر بن الخطاب نفسه ، فإنه هو الذي قال للنبي «صلىاللهعليهوآله» : مرني بقتله ، فإنه قد نافق. وقد طلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» مثل هذا الطلب في العديد من المناسبات ، وبالنسبة
للعديد من الناس ، كما أشرنا إليه فيما سبق.
الفصل السادس :
على طريق مكة
إستخلف على المدينة وخرج!! :
قيل
: إنه «صلىاللهعليهوآله» استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر .
وقيل
: استخلف رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين الغفاري .
__________________
ويقال
: ابن أم مكتوم.
وبه جزم الدمياطي .
وخرج رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» يوم الأربعاء بعد العصر ، لعشر خلون من شهر رمضان ،
ونادى مناديه : «من أحب أن يصوم فليصم ، ومن أحب أن يفطر فليفطر». وصام رسول الله «صلىاللهعليهوآله» . فما حل عقدة حتى انتهى إلى الصلصل.
وخرج في
المهاجرين والأنصار ، وطوائف من العرب ، وقادوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، وقدم رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» أمامه الزبير بن العوام في مائتين من المسلمين .
ولما بلغ رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» البيداء قال ، فيما رواه محمد بن عمر عن أبي سعيد
الخدري : «إني لأرى السحاب يستهل بنصر بني
__________________
كعب» .
وقدم «صلىاللهعليهوآله» بمائة جريدة من خيل ، تكون أمام المسلمين. فلما كانوا
بين العرج والطلوب أتوا بعين من هوازن ، فاستخبره رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخبره أن هوازن تجمع له (وقد أجابتهم ثقيف ، وقد
بعثوا إلى الجرش ـ وهو مكان في اليمن ـ فعملوا الدبابات والمنجنيق) فقال : «حسبنا
الله ونعم الوكيل».
فأمر رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» خالد بن الوليد أن يحسبه ، لئلا يذهب فيحذر الناس ،
وقد أسلم حين فتح مكة ، ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن ، فقتل في أوطاس.
ولما بلغ «صلىاللهعليهوآله» قديدا لقيته سليم هناك ، فعقد الألوية والرايات ، ودفعها إلى
القبائل .
ونقول
:
إن لنا بعض
الملاحظات حول ما تقدم ، نجملها فيما يلي :
__________________
عشرة آلاف مقاتل :
ثم
إن هناك من يقول ـ كابن إسحاق ـ : إن من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف ، ونحو من أربع مائة فارس ، ولم يتخلف من
__________________
المهاجرين والأنصار عنه أحد .
وهناك
من يقول : إنهم كانوا
اثني عشر ألفا .
وجمع
: بأن العشرة
آلاف خرج بها من نفس المدينة ، ثم تلاحق الألفان .
ونقول
:
قد
يقال : إننا نشك في
صحة كلا هذين الرقمين .. فإن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا إلى الحد الذي يستطيعون
معه ان يجهزوا هذا المقدار من الرجال للحرب ، ثم يبقى في بلادهم من يحرسها ، من
غارة أهل الأطماع.
__________________
ويشير
إلى ذلك : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يستطع أن يجهز لخيبر أكثر من ألف وخمسمائة مقاتل ،
ثم جهز لمؤتة ـ كما يقولون ـ ثلاثة آلاف .. مع أن تجهيز العشرة آلاف كان في مؤتة أيسر
منه في فتح مكة ، إلا إن كان «صلىاللهعليهوآله» قد استنفر العرب من البلاد ، فنفروا معه مسلمهم
وكافرهم ، لأنهم أيقنوا : أنه يريد الخير لهم ، وأن في الخروج معه منافع تهمهم ،
خصوصا بعد أن ظهر ضعف قريش في تصدياتها له ..
فإذا نفر الناس
من سائر القبائل معه ، فإن من بقي منهم في البلاد لا يخشى منه ، وقد كان «صلىاللهعليهوآله» عارفا بالمنطقة وبمن يسكنها من القبائل ..
ولم يكن ليجرؤ
أحد من أي قبيلة على مهاجمة المدينة إذا كان لدى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» طائفة من تلك القبيلة تقاتل معه ، إذ إن ذلك سوف يسهّل
على النبي «صلىاللهعليهوآله» الظفر بمن يقوم بأي تحرك من هذا القبيل ومعاقبته ، لأن
نفس أهل تلك القبيلة سيكونون أعوانا وأنصارا له على الخارجين عليه ، حتى إذا كانوا
من قبائلهم ، فكيف إذا كانوا من غيرها.
يضاف
إلى هذا كله : أنه لا بد أن يبقى في المدينة قوة قادرة على حمايتها من هجوم فئات صغيرة ،
لو فرض أن أحدا يجرؤ على القيام بشيء من ذلك.
تأويلات وتفاصيل :
وقد
ذكروا هنا : بعض التفاصيل التي قد لا تملك من الدقة ما يكفي للاعتماد عليها ، فقد
قالوا :
أنه «صلىاللهعليهوآله» كان في عشرة آلاف. أي باعتبار من لحقه في الطريق من
القبائل ، كبني أسد ، وسليم ، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار.
وكان المهاجرون
سبع مائة ، ومعهم ثلاث مائة فرس.
وكانت الأنصار
أربعة آلاف ، ومعهم خمس مائة فرس.
وكانت مزينة
ألفا ، وفيها مائة فرس ومائة درع.
وكانت أسلم
أربع مائة ، ومعها ثلاثون فرسا.
وكانت جهينة
ثمان مائة ، ومعها خمسون فرسا .
وعن
ابن عباس : من بني سليم سبع مائة ، وقيل : ألف. ومن غفار أربع مائة ، ومن أسلم أربع
مائة ومن مزينة ألف وثلاث مائة ، وسائرهم من قريش والأنصار ، وحلفائهم ، وطوائف من
العرب ، من بني تميم ، وقيس ، وأسد .
ونقول
:
إن هذا يثير
لدى الباحث أكثر من سؤال. فمتى صار المهاجرون سبع مائة؟
__________________
وكيف أصبح
الأنصار أربعة آلاف؟ في حين أنه لم يستطع أن يجند منهم ومن المهاجرين وممن حولهم
من الأعراب أكثر من ألف وخمس مائة مقاتل إلى ألف وثمان مائة ، فراجع : حرب خيبر
والحديبية وغيرهما ..
إلا إن كان
سكان المدينة يتكاثرون كما يتكاثر بعض فصائل الحيوان؟
ولماذا كان من
المهاجرين ثلاث مائة فرس ، وهم سبع مائة رجل فقط ، وكان من الأنصار خمس مائة فرس
وهم أربعة آلاف؟
فهل كان المهاجرون
أكثر مالا من الأنصار؟
وكيف حصلوا على
هذه الثروات ، ولم يحصل الأنصار على مثلها؟! وهم يعيشون في بلد واحد ، ويجاهدون
عدوهم معهم. مع كون المهاجرين قد قدموا إلى المدينة بدون أموال ، حتى تكفل الأنصار
بهم ، وشاركوهم في أموالهم وبيوتهم؟!
أم أن
المهاجرين كانوا مهتمين بأمر الجهاد أكثر من الأنصار؟!
ويلاحظ
: أن هذه النسبة
من الأفراس مع المهاجرين قد بقيت متفوقة فيهم على جميع الفئات والقبائل الأخرى ..
إذ لا مجال للمقايسة بينهم وبين جهينة ، التي كانت ثمان مائة ، ومعها خمسون فرسا
فقط .. وكانت أسلم أربع مائة ، ومعها ثلاثون فرسا فقط .. وكانت مزينة ألفا وفيها
مائة فرس فقط ..
فما هذا
التفاوت بين المهاجرين وكل هذه الفئات؟!
ألا يشير ذلك
إلى أن هذه كانت أرقاما سياسية ، وليست واقعية؟!
لا يزال المقصد مجهولا :
وقالوا
: لما نزل رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» العرج ، والناس لا
يدرون أين توجه «صلىاللهعليهوآله» ، إلى قريش ، أو إلى هوازن ، أو إلى ثقيف. فهم يحبون
أن يعلموا.
فجلس
في أصحابه بالعرج ، وهو يتحدث ، فقال : كعب بن مالك : آتي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فأعلم لكم علم وجهه.
فجاء كعب بن
مالك فبرك بين يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على ركبتيه ، ثم قال :
قضينا من
تهامة كل ريب
|
|
وخيبر ثم
أحمينا السيوفا
|
نسائلها ولو
نطقت لقالت
|
|
قواضبهن دوسا
أو ثقيفا
|
فلست بحاضر
إن لم تروها
|
|
بساحة داركم
منها ألوفا
|
فننتزع
الخيام ببطن وج
|
|
ونترك دوركم
منها خلوفا
|
فتبسم رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» ولم يزد على ذلك.
فجعل الناس
يقولون : والله ما بين لك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» شيئا ، ما ندري بمن يبدأ بقريش ، أو ثقيف ، أو هوازن؟!
.
وكان
عيينة بن حصن في أهله بنجد ، فأتاه الخبر : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد وجها ، وقد تجمعت العرب إليه ، فخرج في نفر من
قومه حتى قدم المدينة ، فوجد أنه «صلىاللهعليهوآله» قد خرج قبله بيومين .. فسلك يسأل عن مسيره ، فبلغ إلى
العرج ، ثم وصل النبي «صلىاللهعليهوآله» بعده إلى هناك ..
فقال
عيينة : يا رسول الله
، بلغني خروجك ، ومن يجتمع إليك ، فأقبلت
__________________
سريعا ولم أشعر ، فأجمع قومي ، فيكون لنا جلبة كثيرة. ولست أرى هيأة الحرب
، ولا أرى ألوية ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيأة الإحرام! فأين وجهك يا
رسول الله؟!
قال
: حيث يشاء
الله.
وذهب وسار معه.
ووجد الأقرع بن حابس بالسقيا في عشرة من قومه. فساروا معه ، فلما نزل قديدا عقد
الألوية ، وجعل الرايات.
فلما رأى عيينة
القبائل تأخذ الرايات والألوية عض على أنامله ، فقال أبو بكر : علام تندم؟
قال
: على قومي ألا
يكونوا نفروا مع محمد. فأين يريد محمد يا أبا بكر؟
قال
: حيث يشاء
الله.
فدخل رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» مكة يومئذ بين الأقرع وعيينة .
وذكر
الواقدي : أنه لما نزل «صلىاللهعليهوآله» قديدا لقيته سليم ، وهم تسعمائة على الخيول جميعا ، مع
كل رجل منهم رمحه وسلاحه.
ويقال
: إنهم ألف .
فقالت
سليم : يا رسول الله
، إنك تقصينا ، وتستغشّنا ، ونحن أخوالك ـ أم هاشم بن عبد مناف ، عاتكة بنت مرة ،
بن هلال ، بن فالح ، بن ذكوان ، من بني سليم ـ فقدمنا يا رسول الله حتى تنظر كيف
بلاؤنا ، فإنّا صبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، فرسان على متون الخيل.
__________________
قال
: ومعهم لواءان
وخمس رايات ، والرايات سود.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : سيروا! فجعلهم في مقدمته.
وكان خالد بن
الوليد مقدمة النبي «صلىاللهعليهوآله» حين لقيته بنو سليم بقديد ، حتى نزلوا مر الظهران وبنو
سليم معه.
ويقال
: إنهم قد طووا
ألويتهم ، وراياتهم ، وليس معهم لواء ولا راية معقودة.
فقالوا
: يا رسول الله
، اعقد لنا وضع رايتنا حيث رأيت.
فقال
: يحمل رايتكم
اليوم من كان يحملها في الجاهلية!
ونادى
عيينة بن حصن ، فقال : أنا عيينة ، هذه بنو سليم قد حضرت بما ترى من العدّة والعدد والسلاح ،
وإنّهم لأحلاس الخيل ، ورجال الحرب ، ورماة الحدق.
فقال
العباس بن مرداس : أقصر أيها الرجل ، فو الله إنك لتعلم أنّا أفرس على متون الخيل ، وأطعن
بالقنا ، وأضرب بالمشرفية منك ومن قومك ، فقال عيينة : كذبت ولؤمت ، نحن أولى بما
ذكر منك ، قد عرفته لنا العرب قاطبة.
فأومأ إليهما
النبي «صلىاللهعليهوآله» بيده حتى سكتا.
ونقول
:
إن
علينا أن نشير هنا إلى الأمور التالية :
توضيح عن المقدمة :
قد
يتوهّم : أن النص
المتقدم قد ذكر أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد
جعل بني سليم في مقدمته ، مع أنهم يقولون : إن الذي كان على المقدمة إلى أن
دخل النبي «صلىاللهعليهوآله» مكة هو خالد بن الوليد ، وهذا لا يتلاءم مع ذاك.
ويزول
هذا التوهم بالكامل في النص المذكور آنفا ، حيث قال : إنه «صلىاللهعليهوآله» قد جعل بني سليم في مقدمته ، أي أنه قد ضمهم إلى
الرجال الذين كانوا بقيادة خالد ، فصار خالد أميرا على المجموع ، وبما أنه كان لكل
قبيلة حامل لوائها ، فقد حمله عيينة بن حصن.
إلى أين يا رسول الله؟! :
إن الإنسان
مهما كان دينه ، وأيّا كانت ميوله ليقف خاشعا أمام عظمة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ومبهورا وعاجزا عن إدراك دقة تدبيره ، مذعنا لصوابية
كل حركة وكل سكون ، وكل لفتة ، وإشارة و.. و..
وبديهي
: أن الناس إذا
أدركوا أن ثمة حرصا على إخفاء شيء ، فإنهم يجهدون لاستكناه حقيقته ، والوقوف على
واقعه ، واستشراف دقائقه وتفاصيله.
فإذا كانت ألوف
من الناس تلاحق هذا الأمر ، وتبحث عنه ، وتريد كشفه ، والوقوف على كنهه بكل حرص
واندفاع.
وإذا كان هذا
الأمر يعنيهم كلهم أفرادا وجماعات.
وإذا كان يفترض
فيهم هم أن يشاركوا في صنع نفس هذا الحدث ..
وإذا كانت قد
بدأت بعض التسريبات تظهر منذ اللحظة الأولى التي تفوّه الرسول «صلىاللهعليهوآله» فيها بأنه يريد سفرا ، حيث قال لعائشة : «جهزينا ،
وأخفي أمرك».
ثم جرى بين
عائشة وأبيها ، ثم بين أبي بكر ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» ما قدمناه فيما سبق.
وإذا كانت هذه
التسريبات قد دعت النبي بدأ إلى التحفظ على مسالك المدينة في سهولها وجبالها ،
ووضع الحرس عليها ، وضبطها.
وإذا كانت
الاحتمالات والتكهنات بدأت تؤتي ثمارها على شكل رسائل تحذير لقريش ، حيث تجلى ذلك
في قصة حاطب بن أبي بلتعة.
وإذا كانت قصة
حاطب قد انتهت على ذلك النحو المثير لكل الناس الذين حضروا وشاهدوا أو سمعوا بما
جرى ، حيث نودي بالناس : «الصلاة جامعة» ، فاجتمعوا في المسجد ، ثم كان ما كان ..
وإذا كان عشرة
آلاف مقاتل قد بدأوا يتحركون باتجاه المقصد ..
وإذا كانوا قد
ساروا أياما وليالي عديدة نحوه ..
فإننا
لا بد أن نتوقع : أن الأمور قد اتضحت لكل أحد ، وأسفر الصبح لذي عينين ..
ولكن
المفاجأة الهائلة والعظيمة هي : أن تسير هذه الألوف المؤلفة على هيأتها ووفق ما هو
مرسوم في تدبير الجيوش ، وفي كيفية سيرها نحو العدو ، حيث الطلائع تقدم ، تبث
الأرصاد .. وتؤخذ عيون العدو ، ويستفاد من المعلومات التي لديها ، ثم يحتفظ بهم
للوقت المناسب ..
إن
المفاجأة هي : أن هذا الجيش يسير باتجاه مقصده ، ويصل إلى قديد (وهي قرية جامعة قريب مكة)
، ولا يزال يجهل الجهة التي يقصدها ،
__________________
والفئة التي سيناجزها القتال.
رغم أن محاولات
بذلت في السقيا لاستنطاق رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولكنها تبوء بالفشل ..
فهل يمكن أن
نضع هذا الإنجاز في مجال الاستطلاع والحفاظ على السرية إلا في عداد المعجزات ،
وخوارق العادات ، التي لا يقدر عليها إلا نبي ، أو وصي نبي؟!
لا بد من جواب :
ويبقى أن نشير
إلى أن كل هذا الذي ذكرناه لا يعفينا من الإجابة على سؤال : كيف لنا أن نتصور جمعا
يزيد على عشرة آلاف مقاتل ، يجتمعون من مختلف البلاد والقبائل ، ويسيرون أياما
وليالي إلى أن يصلوا إلى قديد ، ثم لا يعرفون مقصدهم ، ويستمر جهلهم بوجهة سيرهم ،
وبحقيقة العدو الذي يقصدونه ..
ويمكن
أن نجيب على ذلك : بأن بعض النصوص المتقدمة قد صرحت : بأن الناس كانوا متحيرين بين ثلاثة
احتمالات ، هي : مكة ، وثقيف ، وهوازن.
وهذه الخيارات
كلها تحتاج لمثل هذا الجمع العظيم من المقاتلين. كما أنها كلها تقع في منطقة واحدة
، وفي أمكنة متقاربة ، والطريق من المدينة إليها هي نفس هذه الطريق التي سلكها «صلىاللهعليهوآله» إلى قديد. وإنما
__________________
تتميز الطرقات إلى تلك المناطق بدءا من سرف ، التي كانت تبعد عن مكة أميالا
يسيرة .
وربما يكون من
أسباب تعزيز احتمال أن يكون القصد إلى هوازن ، وصرف نظر الناس عن مكة : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أخذ عينا لهوازن ، فأقر له أنهم يجمعون الجموع
لحربه ؛ فيأمر خالدا بحبس ذلك العين ، خوفا من أن يذهب ويحذّر الناس .
حيث يشاء الله :
وقد أظهرت قضية
كعب بن مالك ، وتوسله بالشعر في محاولة معرفة الوجه الذي يريده النبي «صلىاللهعليهوآله» في سفره ذاك أظهرت مدى اهتمام الناس بمعرفة هذا الأمر
.. رغم أن كعبا لم يفلح في استخراج السر من النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله».
والذي
زاد في حيرتهم : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يخرج بهذه الألوف على هيئة الحرب ، فهو لم يعقد
ألوية ، ولا رفع رايات ، ولا رتب هذا الجيش العرمرم ترتيبا قتاليا ..
__________________
ولكنه كان يرسل
الطلائع .. ويأخذ رصد هوازن الذي وجده في طريقه ، ويستجوبه ، ثم يأمر بحبسه ، ولا
يتركه يرجع إلى من وراءه لينذرهم به ..
ومن
جهة ثانية : فإنه «صلىاللهعليهوآله» لم يخرج على هيئة من يريد العمرة ، فلم يحرم ولم يسق
البدن كما فعل في الحديبية ، وعمرة القضاء ..
وهذا
معناه : أنه لا يقصد
مكة في مسيره ذاك ..
ويسأله عيينة
بن حصن عن مقصده في مسيره ، ويصرح له بحيرته في الأمر ، فيجيبه «صلىاللهعليهوآله» بقوله : حيث يشاء الله.
بل إنه «صلىاللهعليهوآله» حتى حين بلغ قديدا ، وعقد الرايات والألوية ، وعرف
عيينة وغيره أن المهمة قتالية ، وليست شيئا آخر .. قد أبقاه في حيرة من أمره ،
فسأل أبا بكر : فأين يريد محمد يا أبا بكر؟!.
قال
: حيث يشاء الله
.
وهي إجابة
واقعية ، إذ لم يكن المسؤول بأعلم من السائل ، فإن أبا بكر أيضا لم يكن يعلم بمقصد
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. ولعل الناس قد بقوا على ترددهم حتى وصلوا إلى مر
الظهران ، وأخذوا أبا سفيان ومن معه.
إستنفار العرب :
قد
ذكرنا فيما سبق : أن الظاهر هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد استنفر العرب إلى مكة ، مسلمهم وكافرهم ..
__________________
وقد
يمكن الإستشهاد على ذلك بالنص المتقدم الذي يقول : إن عيينة بن حصن قد سمع ـ وهو بنجد ـ : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد وجها ، وقد تجمعت العرب إليه ..
فعبارة تجمعت
العرب إليه ، يشير إلى أن هذا التجمع قد شمل المسلم وغيره.
ولعل
استنفار النبي «صلىاللهعليهوآله» للعرب قد أفهمهم : أن ثمة أمرا خطيرا لا بد لهم من مواجهته ، كذلك الذي
جرى في غزوة مؤتة ..
وقد أشرنا إلى
ذلك فيما سبق.
وربما يكون
مجيء عيينة بن حصن بمجرد سماعه بالأمر شاهدا آخر على ذلك ..
سليم تريد الحظوة عند النبي صلىاللهعليهوآله :
وقد
ظهر من كلام بني سليم : أنهم كانوا يسعون لتكون لهم الحظوة عند النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ويريدون الفوز بثقته من خلال أفعالهم ومواقفهم
المؤثرة التي تشهد لهم بصحة ما يدّعونه.
وقد
صرحوا في كلامهم : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان يستغشهم ويقصيهم ، رغم أنهم أخواله ، بسبب عاتكة
بنت مرة ، فإنها أم هاشم بن عبد مناف ..
ولا
يمكن الأخذ بظاهر كلامهم هذا إلا بتقدير : أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد رأى في تصرفات بني سليم غشا يوجب الإقصاء والحذر ،
فإن هذا هو مقتضى الحزم.
كما
أنه لا بد من ملاحظة : أن هذا الإقصاء لم يتخذ أسلوب التنفير ، المؤسس للكره ، وللعقدة ، بل كان
إقصاء يدعوهم إلى مراجعة حساباتهم ، ويزيد من رغبتهم في إصلاح أمرهم معه «صلىاللهعليهوآله». حتى إنهم لينفرون إليه حين يستنفر العرب ، وهم مصممون
على أن يزيلوا هذه الصبغة عن أنفسهم ، بأفعالهم قبل أقوالهم ..
وقد أفسح لهم
النبي «صلىاللهعليهوآله» المجال للوفاء بتعهداتهم ، حيث جعلهم مقدمة له .. كما
صرحت به الرواية.
وقد أظهروا
بعضا من الأدب مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين طووا ألويتهم ، وطلبوا منه «صلىاللهعليهوآله» أن يعقدها لهم ، وأن يضعها حيث يشاء ..
فجعل عليهم
عيينة بن حصن كما تقدم ..
نخوة الجاهلية :
ولكن نخوة
الجاهلية قد تحركت لدى عيينة والعباس بن مرداس حيث افتخر عيينة ببني سليم الذين
فاز عيينة بتأمير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» له عليهم ، فلم يرق ذلك لعباس بن مرداس ، فافتخر بقومه
، وفضّلهم على بني سليم ..
فقال
له عيينة : كذبت ولؤمت.
إلى
أن تقول الرواية : فأومأ لهما النبي «صلىاللهعليهوآله» حتى سكتا ..
فهذا الحدث يدل
على أن هؤلاء الناس رغم أنهم قادة ورؤساء في قومهم ، لم يكونوا يملكون الشيء
الكثير من أدب الخطاب ، أو من تقدير
الأمور ، فهم لم يراعوا الأدب في محضر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى بلغ الأمر بهم إلى التفوه بالشتائم .. دون أي
مبرر معقول أو مقبول لكل ما جرى.
فلم يكن هناك
مبرر لتفضيل عباس بن مرداس قومه على بني سليم ، ، فإن عيينة وإن كان قد مدح قومه ،
ولكنه لم يفضلهم على أحد ..
كما أنه لم يكن
يجوز لعيينة أن يشتم عباسا بحضرة رسول الله ، تأدبا مع الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، وتسليما لأمره ..
ولعل هذه
الهفوات الصادرة من كلا الرجلين ، كانت كافية لأمرهما بالسكوت ، دون توجيه اللوم
إلى أحد بعينه ، فإن الخطأ قد صدر منهما معا ، وعليهما معا أن يراجعا حساباتهما ،
ليجدا أنهما على غير سبيل هدى.
بيض النساء وأدم الإبل في بني مدلج :
وروى
محمد بن عمر ، عن يزيد بن أسلم ، وأبي الحويرث : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لما انتهى إلى قديد ، قيل له : يا رسول الله ، هل لك
في بيض النساء ، وأدم الإبل ، بني مدلج؟!
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : «إن الله عزوجل حرّمهن علي بصلة الرحم».
وفي
لفظ : «ببر الوالد ، ووكزهم في لبات الإبل» .
ونقول
:
إن هذا الذي
أشار إليه النص آنفا ، لهو أمر في غاية الأهمية فيما يرتبط
__________________
بسياسة الإسلام ومفاهيمه ، فقد عرض عليه «صلىاللهعليهوآله» أن يهاجم بني مدلج ، تحت وطأة إغراء قوي في اتجاهين :
أحدهما
: إغراء الجنس ،
ففي بني مدلج بيض النساء.
والآخر
: إغراء المال ،
لأن لدى بني مدلج أدم الإبل.
ولكن رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» رفض ذلك ، ولم يكن رفضا مبهما ، ومن دون توضيح ، بل هو
رفض معلل ، يعطي قاعدة هامة فيما يرتبط بسياسة الإسلام تجاه الآخرين.
حيث قرر أن
التشريع الإسلامي لا يبيح مهاجمة الآخرين بصورة عشوائية ، وبلا ضابطة. بل ذلك له
منطلقات وضوابط أحكامية لا تجوز مخالفتها ، ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للعقوبة
الإلهية.
وهذه
القاعدة هي : أن لأعمال العباد تأثيرا في اتخاذ أي موقف منهم ..
فلا تجوز
مهاجمة بني مدلج ، حتى لو كانوا على الشرك ، وفي حالة عداء للمسلمين ، لأن فيهم
خصالا تمنع من ذلك ، ذكرت الروايات منها :
أولا
: أنهم يصلون
رحمهم ويبرون آباءهم ..
الثاني
: أنهم لا
يقتلون الإبل كيفما اتفق ، من أجل الاستفادة من لحمها ، وإنما ينحرونها بالطريقة
الصحيحة ، وفق أحكام الشرائع التي بلغتهم ، أي بالوكز في لباتها ..
وبعد
ما تقدم نقول :
١ ـ إنك تجد
لمحة من الرقة ، والرفق ، والرحمة ، والشعور الإنساني ظاهرة في كلا هذين الأمرين
.. وقد جاء الحكم الناشئ عن ذلك بعدم جواز مهاجمة هذا النوع من الناس منسجما مع خصوصية
الرحمة والرقة
والرفق .. ومع ضرورة حفظ الإنسانية ، وتنميتها ، وإفساح المجال لها لتؤثر
في مسار الحياة ..
٢ ـ ونحن في
غنى عن التذكير : بأن للعمل الصالح والملائم لمرتكزات الخلق والتكوين آثارا وضعية
، وأخرى أحكامية في هذه الدنيا كما أظهرته هذه القضية نفسها ، بل ربما تؤسس هذه
الأعمال لحدوث تغيرات جذرية في حالات النفس ، وفي إدراكاتها ، وتعطيها جرعة من
الواقعية ، تتمكن من خلالها من بلوغ الحق ، ومن الانصياع والبخوع له ، الأمر الذي
لا يتوفر للنفوس الأخرى ، التي عزفت عن السير في هذا الاتجاه ، ولم تتقبل هذه التوفيقات
، وانتهى الأمر بها إلى أن تسير في طريق الجحود والإنكار ، عن سابق علم وتصميم
وإصرار.
٣ ـ وفي سياق
آخر : لا بد لنا من التوقف قليلا عند هذا التوجيه التربوي النبوي لأهل الإيمان ،
الهادف إلى دفعهم نحو الالتزام بمبدأ الرحمة والرقة والرأفة ، وصلة الرحم ، والبر
بالوالدين ، والالتزام بأحكام الشرائع ، ليكون ذلك أساسا أخلاقيا وعمليا لنظرتهم
للآخر ، وللتعامل معه ..
٤ ـ يضاف إلى
ذلك : أن من الطبيعي أن تنتاب أولئك الذين عرضوا على النبي «صلىاللهعليهوآله» الفوز ببيض النساء ، وأدم الإبل ، صحوة تجعلهم يقارنون
بين ما عرضوه عليه «صلىاللهعليهوآله» ، وبين ما أجابهم به ، لكي يكتشفوا ما يصح أن يكون
معيارا للحرب والسلم ، والإقدام ، والإحجام تجاه الذين يدينون بغير دين الإسلام ،
ويضعون أنفسهم في مواضع المناوئ له ..
٥ ـ وقد أظهرت
هذه الحادثة : أن ثمة أمورا يحسبها الإنسان ثانوية ،
وغير ذات قيمة ، في حين أنها قد تصبح الأساس الذي يرتكز عليه أخطر قرار ،
وأهم موقف يرتبط بالمصير ، وبالحياة كلها ..
وقد تجلى ذلك
في التزام بني مدلج الوكز في لبات الإبل ، وفقا لما قررته الشرائع في كيفية نحرها.
الرفق بالحيوان .. مسؤولية شرعية :
ولما سار رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» عن العرج ـ وكان فيما بين العرج والطلوب ـ نظر إلى
كلبة تهر عن أولادها ، وهن حولها يرضعنها ، فأمر جميل (والصحيح : جعيل) بن سراقة : أن يقوم حذاءها ، لا يعرض لها أحد من الجيش
، ولا لأولادها .
ونقول
:
قد تحدثنا في
جزء سابق من هذا الكتاب عن بعض ما يتصل بموضوع الرفق بالحيوان ، وصدر لنا كتاب
بعنوان : «حقوق الحيوان في الإسلام» ويمكننا أن نكتفي بما ذكرناه هناك عن إعادة
الكلام عن ذلك هنا ..
غير
أننا نود أن نذكر القارئ الكريم بما يلي :
١ ـ إن علينا
أن نرصد مشاعر هذا الجيش العرمرم ، الذي اختلطت فيه الفئات ، والثقافات ،
والقبائل. وفيهم الحاضر والبادي ، والجاهل والعالم ،
__________________
والكبير والصغير ، والغني والفقير ، والرئيس والمرؤوس و.. و.. الخ .. وقد
عاش هؤلاء ولا يزال كثير منهم يعيش حياة جاهلية بكل مفاهيمها ، وحالاتها ،
وعاداتها ، وبكل ما فيها من مآس ، وكوارث ، وقد تربوا على استحلال السلب والنهب ،
والغارة ، وقتل الرجال ، وسحق الضعفاء من الرجال ، والنساء ، والأطفال.
وهاهم ، وهم
الجناة الجفاة القساة ، يواجهون قرارا حاسما وحازما لا بالتجاوز وإطلاق سراح البشر
، بل بمراعاة حال البهائم ، وحراستها من أن ينالها أي سوء أو أذى ، أو حتى مجرد
تكدير لصفاء أجوائها.
٢ ـ إن هذا
الذي جرى لا بد من أن يفهمهم أيضا : أن ثمة أمورا يحسبها الإنسان صغيرة في حين
أنها قد تكون على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة ..
٣ ـ إن هذا
الذي يرونه يتجاوز موضوع الرحمة ، والرفق بالحيوان ، ليكون دليلا على ثبوت حق ،
وأن ثمة مسؤولية تجاه هذه المخلوقات .. وفقا للحديث الشريف الذي يقول : «إنكم
مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم» .
٤ ـ إن على
هؤلاء الناس الذين رأوا هذا الموقف أن يعودوا إلى أنفسهم ، ليقارنوا بين قسوتهم
على البشر ، حتى الضعفاء ، وبين الرحمة
__________________
والرقة والمسؤولية التي أظهرها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على الحيوان ، لتكون الرحمة هي الأساس الذي لا بد من
أن يبنوا عليه علاقاتهم بالحيوان ..
وإذا كانت
علاقاتهم بالحيوان لا بد من أن تصل إلى هذا الحد ، فما بالك بعلاقاتهم ببني
الإنسان.
٥ ـ لقد كان
بإمكان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يوقف الجيش ، ثم يطلب إقصاء تلك الكلبة عن ذلك
المكان ، ليمر الجيش وتكون هي وأولادها منه في مأمن وسلام ..
ولكنه لم يفعل
ذلك ، لأن الذين سوف يعرفون سبب إيقاف الجيش ، ويعاينون مبرراته عن قرب سيكونون
قلة قليلة من الناس ، وهو يريد إشاعة هذه السياسة ، وتعريف أكبر قدر ممكن من الناس
بها ، فكان أن وضع لها حارسا يرشد الجيش إلى لزوم الابتعاد عنها ، ولو باختيار
مسار آخر .. ربما لأن إبعادها عن الطريق ليس بأولى من الابتعاد عن طريقها ، وكلا
الأمرين يرجعان إلى اختيار السالكين ، ولا تكون حقوقها مرهونة بإرادات الناس ، بل
لا بد لإراداتهم من أن تنطلق وتتبلور على أساس المفروغية عن ثبوت تلك الحقوق
ومراعاتها ..
٦ ـ لا بد لذلك
الجيش من أن يدرك أن انشغال القائد بالقضايا الكبرى لا يبرر له تضييع ما عداها ،
ما لم يضر الاهتمام بها بالقضية الكبرى ، إذ إن الأمر الصغير كبير في حد ذاته وفي
موقعه ، ولا يغني عنه سواه ، ولا يصح التخلي عنه إلا إذا تصادم مع ما هو أكبر
وأخطر ، بحيث يشكل خطورة عليه ، كما هو ظاهر.
صيام النبي صلىاللهعليهوآله في السفر :
وروي
بسند صحيح عن أبي هريرة قال : «رأيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالعرج يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم» .
وعن
جابر ، عن ابن عباس : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خرج من المدينة في غزوة الفتح في شهر رمضان يصوم
ويصومون ، حتى بلغ الكديد ، بين عسفان وقديد .
__________________
(وفي رواية : بين عسفان وأمج . وفي حديث جابر : كراع الغميم ) ،
__________________
بلغه أن الناس شق عليهم الصيام ، وقيل له : إنما ينظرون فيما فعلت.
فلما استوى على
راحلته بعد العصر دعا بإناء من لبن ، أو ماء ، وجزم جابر بأنه ماء ، وكذا ابن عباس
.
وفي
رواية : فوضعه على
راحلته ليراه الناس ، فشرب فأفطر ، فناوله
__________________
رجلا إلى جنبه ، فشرب فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس صام ، فقال : «أولئك
العصاة ، أولئك العصاة» ، فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر .
وعن
أبي سعيد الخدرى قال : سافرنا مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ونحن صيام ، فنزلنا منزلا ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى لكم».
وكانت رخصة ،
فمنا من صام ، ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلا آخر ، فقال : «إنكم مصبحو عدوكم ،
والفطر أقوى لكم ، فأفطروا».
فكانت عزيمة ،
فأفطرنا .
__________________
أين أفطر رسول الله صلىاللهعليهوآله؟! :
وقد اختلفوا في
الموضع الذي أفطر فيه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» هل هو قديد؟ أو كديد؟ أو كراع الغميم؟ أو عسفان؟ .
قال
الصالحي الشامي وغيره : «يجوز أن يكون
قد وقع منه «صلىاللهعليهوآله» الفعل في المواضع الأربعة ، والفطر في موضع منها ، لكن
لم يره جميع الناس فيه لكثرتهم ، وكرره ليتساوى الناس في رؤية الفعل الخ ..» .
وقال
الحلبي : «لا منافاة لتقارب الأمكنة» .
ونقول
:
إن تقارب
الأمكنة لا يجدي شيئا ، فإنه إذا كان الفعل قد وقع منه «صلىاللهعليهوآله» في كراع الغميم ، فلماذا عدل الناقل عنها إلى عسفان ،
أو قديد ، أو كديد؟
وإذا كان قد
حصل ذلك في عسفان ، فلماذا يذكر الراوي كراع الغميم ، أو قديدا؟!
وأما ما ذكروه
من احتمال تكرر الفعل منه «صلىاللهعليهوآله» ليراه
__________________
الناس ، فيحتاج إلى شاهد وقرينة تدل على هذا التعدد.
على
أن ظاهر الروايات هو : أنها تتحدث عن فعل واحد صدر منه «صلىاللهعليهوآله» بما له من خصوصيات وتفاصيل ..
حديث الصيام باطل من أصله :
ونظن
أننا لن نفاجىء القارىء الكريم إذا قلنا : إن هذا الذي ذكروه عن أمر الصيام والإفطار باطل من
أساسه ، فلاحظ ما يلي :
١ ـ إن المسافة
التي توجب القصر في مدرسة أهل البيت «عليهمالسلام» هي ثمانية فراسخ إمتدادية ، أو ملفقة من الذهاب
والإياب.
والفرسخ
: ثلاثة أميال.
والمسافة بين
المدينة والأماكن التي يدّعى أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أفطر فيها ، هي أضعاف المقدار الذي يجب فيه القصر ،
وفق ما عليه أهل البيت «عليهمالسلام» ، وأهل البيت أدرى بما فيه ، وهم سفينة النجاة ،
والثقل الذي أمر الله تعالى بالتمسك به مع القرآن ..
٢ ـ والمسافة
الموجبة للقصر عند أهل السنة : المالكية ، والحنابلة ، والشوافع ، هي : مسيرة يوم
وليلة ، وقدروها بستة عشر فرسخا ، التي هي حوالي اثنين وثمانين كيلومترا أي ثمانية
وأربعون ميلا.
وعند
الحنفية هي : مسيرة ثلاثة أيام من أقصر أيام السنة بدأ من الصباح إلى الزوال فقط.
وقدرها
بعضهم : بأربعة وعشرين
فرسخا .
والمسافة بين
المدينة والمواضع التي زعموا أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أفطر فيها : هي أضعاف هذه المسافة ..
٣ ـ تقدم أن
الحلبي يقول : إن هذه المواضع المذكورة في الروايات متقاربة بحيث يصح ذكر بعضها
مكان بعض.
وقد
قلنا : إن ذلك لا يصح
، إذ لا نجد مبررا لترك اسم الموضع الأصلي ، وذكر اسم الموضع المجاور له.
ولكننا
نقول :
إن عسفان تبعد
عن مكة ستة وثلاثين ميلا فقط .. فهي على مسافة يومين من مكة .
وكديد
: تبعد عن مكة
اثنين وأربعين ميلا .
__________________
وكراع
الغميم : أمام عسفان
بثمانية أميال .
وقد
صرح أبو هريرة : بأنه «صلىاللهعليهوآله» كان بالعرج لا يزال صائما ، وهي تبعد عن المدينة
ثمانية وسبعين ميلا .
وقديد
: موضع قرب مكة ، وبينها وبين ضجنان يوم .
وضجنان
: على بعد خمسة
وعشرين ميلا من مكة .
وقيل
: على بعد بريد
منها .
وهذا
معناه : أن ثمة مسافات
طويلة فيما بين هذه الأمكنة ، قد تصل إلى عشرة أو خمسة عشر كيلومترا ..
علما بأن هذه
الأماكن التي تتحدث الروايات عنها تبعد عن المدينة مئات الكيلومترات ، كما يظهر من
ملاحظة ما ذكرناه ..
__________________
أي أن عسفان
تبعد عن المدينة حوالي ثماني مراحل. أي بما يزيد عن ثلاث مائة كيلومتر ، وكذلك
الحال بالنسبة لكديد ، فضلا عن كراع الغميم ، وقديد.
فإذا
لاحظنا النصوص في المصادر المختلفة ، فسنجد : أن القادم من المدينة إلى مكة يمر بالعرج ، ثم بالجحفة
، ثم بكديد ، ثم بعسفان.
والجحفة أقرب
إلى مكة منها إلى المدينة ، فإنها تبعد عن مكة أربع مراحل ونصفا ، وتبعد عن المدينة خمس مراحل وثلثي مرحلة .
والمرحلة
هي في الحقيقة : مسيرة يوم .
وبعد عسفان
تأتي كراع الغميم ، ثم أمج .. وتأتي أخيرا قديدا ، وضجبان.
وذلك
كله يوضح لنا : أن كديدا وعسفان ، وكراع الغميم ، وقديد ، تبعد عن المدينة أضعاف المسافة
التي توجب الإفطار وقصر الصلاة ، وذلك ظاهر لا يخفى.
والأخذ بهذه
الروايات يقتضي طرح جميع الروايات الأخرى التي اعتمد عليها فقهاء المذاهب الأربعة
فيما يرتبط بتقدير المسافة التي توجب
__________________
الفطر والقصر ، فضلا عن مخالفتها لما يقوله أهل بيت العصمة والطهارة صلوات
الله وسلامه عليهم أجمعين ..
حديث شق عليهم الصوم :
وعن
الحديث الذي يقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» إنما أفطر حين بلغه أن الصوم شق على الناس ، نقول :
إننا
نضيف إلى ما قدمناه ما يلي :
أولا
: إن فطره «صلىاللهعليهوآله» لأجل التخفيف على الناس غير مقبول ؛ لأن الصوم إن كان
مفروضا وواجبا ، فلا يصح إفطار من لا يشق عليه الصوم لإغراء من شق عليه بالإفطار.
بل
الواجب هو : إرشادهم إلى أن من بلغ مقدار المشقة عليه حدا يقتضي الإفطار ، فعليه أن
يفطر ، ومن لم تبلغ به المشقة هذا الحد ، لم يجز له الإفطار ..
وإن كان الصوم
ليس واجبا عليهم ، فلا معنى لإناطة الإفطار بالمشقة ..
والمفروض
: أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكن الصوم شاقا عليه ، فكيف جاز له أن يفطر؟!
ثانيا
: إن حديث مشقة
الصوم لا ينسجم مع الحديث الآخر ، الذي تحدث عن الرخصة تارة ، والعزيمة أخرى ..
لأن هذا الحديث يدل على أن السبب في أمره «صلىاللهعليهوآله» لهم بالإفطار هو : أنه يريد أن يجد فيهم المزيد من
القوة في مواجهة عدوهم.
إلا
أن يقال : إن هذه
الرواية لم تصرح بأن ذلك كان في غزوة الفتح.
وليس
فيها أيضا : أن صيامهم كان في شهر رمضان ..
فلعلها قصة
أخرى ، غير هذه ..
لا سيما وأنه
لم تكن هناك حرب حقيقية في غزوة الفتح.
ثالثا
: إن اعتبار
الذين صاموا عصاة ، يتوقف على أن يكون الصوم واجبا عليهم ، فوجوب الإفطار يدور بين
احتمالات :
الأول
: أن تكون
المسافة التي قطعت من موجبات الإفطار.
وقد تقدم بطلان
هذا الاحتمال.
الثاني
: أن يكون الصوم
واجبا ، لكن المشقة هي التي حتمت إفطارهم.
الثالث
: أن يكون النبي
«صلىاللهعليهوآله» قد حتّم عليهم الإفطار من موقع كونه أولى بهم من
أنفسهم ، لكي تظهر قوتهم للأعداء ، التي هي بنظره أهم من مصلحة الصوم. فهم قد
خالفوا أمره الولائي ، ولم يخالفوا أمر الله تعالى لهم في صيام شهر رمضان المبارك.
الرابع
: أن يكون وجوب
الصوم قد كان بنذر ونحوه ، وقد حل النبي «صلىاللهعليهوآله» نذرهم ، من حيث إنه أولى بهم من أنفسهم ..
وكل هذا بعيد
.. والإعتماد على احتمالات كهذه غير سديد ولا رشيد.
الفصل السابع :
هجرة العباس ..
وإسلام ابن الحارث وابن أبي سلمة
إسلام العباس وهجرته :
وقدم العباس
على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بعياله مسلما مهاجرا.
قال
ابن هشام : لقيه بالجحفة .
وقيل
: بذي الحليفة ،
وأرسل أهله وثقله إلى المدينة ، ورجع مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى مكة .
وعند
الواقدي : لقيه بالسقيا
هو ومخرمة بن نوفل ، فدخل العباس ، فلم يخرج حتى رأى رسول الله «صلىاللهعليهوآله». وكان ينزل معه في كل منزل حتى دخل مكة .
__________________
قال
البلاذري : وقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «هجرتك يا عم آخر هجرة ، كما أن نبوتي آخر نبوة» .
ولكننا
نجد في مقابل ذلك من يقول عن العباس : «الصحيح : أنه منذ يوم بدر كان بالمدينة» .
وقالوا
: إن العباس خرج
يتلقى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ومعه أبو سفيان بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية ،
وقد تلقاه بثنية العقاب ، ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» في قبته ، وعلى حرسه زياد بن أسيد ، فاستقبلهم زياد ،
فقال : أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبة ، وأما أنتما فارجعا.
فمضى العباس
حتى دخل على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فسلم عليه ، وقال : بأبي أنت وأمي ، هذا ابن عمك قد
جاء تائبا ، وابن عمتك.
قال
: لا حاجة لي
فيهما ، إن ابن عمي انتهك عرضي ، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) .
فلما
خرج العباس كلمته أم سلمة ، وقالت : بأبي أنت وأمي ، ابن عمك قد جاء تائبا ، لا يكون أشقى
الناس بك ، وأخي إبن عمتك وصهرك ، فلا يكونن شقيا بك.
__________________
ونادى
أبو سفيان بن الحارث النبي «صلىاللهعليهوآله» : كن لنا كما قال العبد الصالح : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) فدعاه وقبل منه ، ودعا عبد الله بن أبي أمية ، فقبل منه
.
وساطة أم سلمة :
كان أبو سفيان
بن الحارث أخا النبي «صلىاللهعليهوآله» من الرضاعة ، أرضعته حليمة السعدية أياما ، وكان لا
يفارق النبي «صلىاللهعليهوآله» قبل النبوة. وكان له تربا.
وكان عبد الله
بن أبي أمية أخا لأم سلمة ، وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وكان هذان
الرجلان من أكبر القائمين عليه ، ومن أشد الناس إذاية له «صلىاللهعليهوآله». فقدما على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بنبق العقاب ، أو بالأبواء ، فالتمسا الدخول عليه «صلىاللهعليهوآله» فأعرض عنهما.
فكلمته
أم سلمة فيهما ، وقالت له : لا يكون ابن عمك ، وابن عمتك أشقى الناس بك.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : «لا حاجة لي بهما.
أما ابن عمي ،
فهتك عرضي.
وأما ابن عمتي
وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال».
(أي أنه كان قد قال له
: إنه لا يؤمن
به إلا إذا عرج بسلم إلى السماء ، وهو
__________________
ينظر إليه ، ثم يأتيه بصك ، وأربعة من الملائكة يشهدون له : أن الله أرسله ).
فلما
خرج الخبر ، قال أبو سفيان : ليأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ، ثم لنذهبن في الأرض
حتى نموت جوعا وعطشا.
فلما بلغ ذلك
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» رق لهما ، ثم أذن لهما ، فدخلا عليه ، وأسلما .
__________________
وقيل
: إن عليا «عليهالسلام» قال لأبي سفيان : ائت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من قبل وجهه ، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : (.. تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ
عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) ؛ فإنه «صلىاللهعليهوآله» لا يرضى بأن يكون أحد أحسن قولا منه ، ففعل ، فقال «صلىاللهعليهوآله» : (لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) .
وكان أبو سفيان
قد عادى النبي «صلىاللهعليهوآله» نحو عشرين سنة ، يهجوه ، ولم يتخلف عن قتاله .
وقال
الواقدي : فلما خرج رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» إلى فتح مكة استقبل عبد الله بن أبي أمية ، فسلم على
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فلم يرد عليهالسلام ، فأعرض عنه ولم يجبه بشيء.
وكانت أخته أم
سلمة مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فدخل إليها فقال : يا أختي! إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد قبل إسلام الناس كلهم ورد إسلامي ، فليس يقبلني كما
قبل غيري.
فلما
دخل رسول الله صلى «صلىاللهعليهوآله» على أم سلمة قالت :
بأبي أنت وأمي
يا رسول الله! سعد بك جميع الناس إلا أخي من بين قريش والعرب ، رددت إسلامه ،
وقبلت إسلام الناس كلهم.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «يا أم سلمة ، إن أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذبني أحد من الناس ، هو الذي قال
لي : (وَقالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ
__________________
حَتَّى
تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (كِتاباً نَقْرَؤُهُ) .
قالت
أم سلمة : بأبي أنت وأمي
يا رسول الله ألم تقل : إن الإسلام يجب ما كان قبله؟
قال
: نعم.
فقبل رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» إسلامه .
ولم يزل أبو
سفيان عشرين سنة عدوا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، يهجو المسلمين ويهجونه ، ولا يتخلف عن موضع تسير فيه
قريش لقتال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام.
قال
أبو سفيان : فقلت من أصحب؟! ومع من أكون؟! قد ضرب الإسلام بجرانه ، فجئت زوجتي وولدي
فقلت : تهيأوا للخروج ، فقد أظل قدوم محمد.
قالوا
: قد آن لك أن
تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمدا ، وأنت موضع في عداوته ، وكنت أولى الناس
بنصره.
فقلت
لغلامي مذكور : عجل بأبعرة وفرس.
قال
: ثم سرنا حتى
نزلنا الأبواء ، وقد نزلت مقدمة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الأبواء ، فتنكرت ، وخفت أن أقتل.
وكان رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» قد نذر دمي ، فخرجت على
__________________
قدمي نحوا من ميل وأقبل الناس رسلا رسلا ، فتنحيت فرقا من أصحابه ، فلما
طلع في موكبه تصديت له تلقاء وجهه ، فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى
الناحية الأخرى.
فتحولت إلى
ناحية وجهه الأخرى ، فأعرض عني مرارا ، فأخذني ما قرب وما بعد ، وقلت : أنا مقتول
قبل أن أصل إليه.
وأتذكر بره
ورحمه فيمسك ذلك مني. وقد كنت لا أشك أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأصحابه سيفرحون بإسلامي فرحا شديدا لقرابتي منه.
فلما رأى
المسلمون إعراض رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عني أعرضوا عني جميعا ، فلقيني ابن أبي قحافة معرضا
عني.
ونظرت
إلى عمر يغري بي رجلا من الأنصار ، فقال لي : يا عدو الله ، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وتؤذي أصحابه ، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في
عداوته.
فرددت بعض الرد
عن نفسي ، واستطال علي ورفع صوته حتى جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل
بي.
قال
: فدخلت على عمي
العباس ، فقلت : يا عم ، قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بإسلامي لقرابتي وشرفي ، وقد كان منه ما رأيت ، فكلمه
فيّ ليرضى عني.
قال
: لا والله ، لا
أكلمه كلمة أبدا بعد الذي رأيت منه.
فقلت
: يا عمّي إلى
من تكلني؟
قال
: هو ذاك.
قال
: فلقيت عليا
رحمة الله عليه ، فكلمته ، فقال لي مثل ذلك.
قال
أبو سفيان : فخرجت ، فجلست على باب منزل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، حتى خرج إلى الجحفة وهو لا يكلمني ولا أحد من
المسلمين. وجعلت لا ينزل منزلا إلا أنا على بابه ، ومعي ابني جعفر قائم ، فلا
يراني إلا أعرض عني.
فخرجت على هذه
الحال حتى شهدت معه فتح مكة ، وأنا في خيله التي تلازمه حتى هبط من أذاخر ، حتى
نزل الأبطح ، فدنوت من باب قبته فنظر إلي نظرا هو ألين من ذلك النظر الأول ، قد
رجوت أن يبتسم ، ودخل عليه نساء بني عبد المطلب ، ودخلت معهن زوجتي فرقّقته عليّ.
وخرج إلى
المسجد وأنا بين يديه لا أفارقه على حال ، حتى خرج إلى هوازن ، فخرجت معه وقد جمعت
العرب جمعا لم تجمع مثله قط.
وخرجوا
بالنساء والذرية والماشية ، فلما لقيتهم قلت : اليوم يرى أثري إن شاء الله. فلما لقيناهم حملوا الحملة
التي ذكر الله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ) .
وثبت رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» على بغلته الشهباء ، وجرد سيفه.
فاقتحمت عن
فرسي وبيدي السيف صلتا ، قد كسرت جفنه ، والله يعلم أني أريد الموت دونه ، وهو
ينظر إلي ، فأخذ العباس بن عبد المطلب بلجام البغلة ، فأخذت بالجانب الآخر ، فقال
: من هذا؟
فقال
العباس : أخوك وابن عمك
أبو سفيان بن الحارث! فارض عنه ، أي رسول الله!
قال
: قد فعلت ،
فغفر الله كلّ عداوة عادانيها!
__________________
فأقبّل
رجله في الركاب ، ثم التفت إلي ، فقال : أخي لعمري! ثم أمر العباس ، فقال : ناد يا أصحاب سورة
البقرة! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار! يا للخزرج!
فأجابوا
: لبيك داعي
الله!
وكروا كرة رجل
واحد ، قد حطموا الجفون ، وشرّعوا الرماح ، وخفضوا عوالي الأسنة ، وأرقلوا إرقال
الفحول ، فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وقال
لي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : تقدم فضارب القوم.
فحملت حملة
أزلتهم عن موضعهم ، وتبعني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قدما في نحور القوم ، ما يألو ما تقدم ، فما قامت لهم
قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ ، وتفرقوا في كل وجه.
وبعث رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» نفرا من أصحابه على الطلب ، فبعث خالد بن الوليد على
وجه ، وبعث عمرو بن العاص في وجه ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكر بأوطاس ، فقتل
، وقتل أبو موسى قاتله .
ونقول
:
إن لنا وقفات
عديدة مع هذه النصوص كلها ، ونجمل ذلك على النحو التالي :
__________________
هجرة العباس آخر هجرة :
وقد
صرحت الروايات المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد قال للعباس : «هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي
آخر نبوة» .
ونقول
:
إننا
نسجل هنا الملاحظات التالية :
ألف
: لماذا اعتبر «صلىاللهعليهوآله» هجرة العباس آخر هجرة ، ولم يعتبر هجرة عبد الله بن
أبي أمية آخر هجرة؟!
أو لماذا لا
يعتبر هجرة أبي سفيان بن الحارث آخر هجرة؟!
بل لقد كان
الأولى اعتبار هجرة هؤلاء جميعا آخر هجرة ..
وقد
يقال في الجواب عن ذلك : إن العباس كان في مكة مسلما ، ولم يهاجر إلا حين الفتح
، أما هؤلاء فقد كانوا على الكفر ، وإنما جاؤوا إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في هذا الوقت لكي يسلموا ، وكان بعضهم قد أهدر النبي «صلىاللهعليهوآله» دمه. وإنما يصح إطلاق كلمة المهاجر على من أسلم وآمن ،
ثم هاجر .. لا على من لم يسلم أصلا ، ولكنه يعد بأن يسلم حين يلقى النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
غير أن صحة هذا
الجواب تتوقف على ثبوت إسلام العباس قبل يوم الفتح ، ودون ذلك خرط القتاد ، لا
سيما مع ما سيأتي من وجود رواية صحيحة مصرحة بكونه من الطلقاء.
__________________
ب
: إننا لم نعرف
ماذا كان مصير مخرمة بن نوفل ، فإنه لم يدخل على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فإن كان قد أسلم فلماذا لم يذكروا لنا ذلك؟!
وإن كان لم
يسلم ، فهل تركوه؟ أم أسروه؟!
ج
: إن حديث هجرة
العباس في هذا الوقت موضع شك :
أولا
: لما تقدم من
أن ثمة من يقول عن العباس : «الصحيح : أنه منذ يوم بدر كان في المدينة». وإن كانت
النصوص والوقائع لا تساعد على قبول هذا القول ..
ثانيا
: قد عرفت
الخلاف في المكان الذي التقى فيه العباس بالنبي «صلىاللهعليهوآله» ، فهل لقيه بالسقيا وهي تبعد عن المدينة أربعة أيام؟!
أم لقيه
بالجحفة ، وهي تبعد عن مكة أربع مراحل ونصف مرحلة ، كما تقدم؟!
أم لقيه في ثنية
العقاب؟!
أم في الجحفة؟!
أم في ذي
الحليفة؟!
وسيأتي بيان
ذلك إن شاء الله تعالى ..
ثالثا
: إن كلام
المعتزلي يشير إلى أن آخر من هاجر هو نعيم بن مسعود ، وليس العباس.
فقد
ذكر : أن العباس شفع
في نعيم بن مسعود : أن يستثنيه النبي «صلىاللهعليهوآله» من قوله : «لا هجرة بعد الفتح» ، فاستثناه ، فراجع .
رابعا
: ما معنى
مقارنة هجرة العباس بالنبوة الخاتمة؟! فإن للنبوة
__________________
الخاتمة فضلها على سائر النبوات ، ولم يكن لهجرة العباس أي فضل على غيرها
من الهجرات ، بل كانت تلك الهجرات أفضل عند الله تعالى ، ولا سيما هجرة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهجرة أمير المؤمنين «عليهالسلام». وقد كان «عليهالسلام» يذكر سبقه إلى الهجرة في جملة فضائله وكراماته التي
منّ الله تعالى عليه بها .
خامسا
: إنهم يقولون :
إن العباس خرج يلتقى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ومعه عبد الله بن أبي أمية ، وأبو سفيان ، وقد تلقاه
بثنية العقاب حسبما تقدم.
وهذا
معناه : أنه لم يخرج
مهاجرا ، وإنما خرج متلقيا .. وإن كان لنا كلام حتى بالنسبة لهذا المقدار أيضا ،
ونظن أنه قد خرج يتنسم الأخبار ففوجئ بجيوش الإسلام فاستسلم كما سنرى.
سادسا
: روي عن محمد
بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن علي بن النعمان ، عن عبد الله
بن مسكان ، عن سدير ، قال :
«كنا عند أبي
جعفر «عليهالسلام» ، فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيهم
__________________
«صلىاللهعليهوآله» ، واستذلالهم أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، فقال رجل من القوم : أصلحك الله ، فأين كان عز بني
هاشم وما كانوا فيه من العدد؟!
فقال
أبو جعفر «عليهالسلام» : ومن كان بقي من بني هاشم؟ إنما كان جعفر وحمزة فمضيا ،
وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان ، حديثا عهد بالإسلام : عباس ، وعقيل. وكانا من الطلقاء.
أما والله ، لو
أن حمزة وجعفرا كانا بحضرتهما ، ما وصلا إلى ما وصلا إليه ، ولو كانا شاهديهما
لأتلفا نفسيهما» .
وقد وصف السيد
الخوئي «رحمهالله» سند هذه الرواية بالصحة .
ووصفه
العلامة المجلسي بالحسن ، ولكنه فسر كلمة : «كانا من الطلقاء» ـ تبعا للمازندراني ـ بقوله : أي أطلقهما النبي «صلىاللهعليهوآله» في غزاة بدر ، بعد أسرهما ، وأخذ الفداء منهما .
وهذا
الكلام خلاف الظاهر : فإن كلمة «الطلقاء» اصطلاح خاص ، منتزع من كلمة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لأهل مكة يوم الفتح : «اذهبوا فأنتم
__________________
الطلقاء». وهو مؤيد بشواهد أخرى تدل على أن العباس لم يهاجر.
فإن إسلام
العباس وعقيل في بدر فلا مجال لإثباته ، فيبقى في دائرة الظنون والحدسيات ، فراجع
ما ذكرناه في غزوة بدر وغيرها.
الهجرة لم تنقطع :
قد
ذكرت الروايات : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قال : لا هجرة بعد الفتح.
وذكروا
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» استثنى نعيم بن مسعود من هذا الإطلاق.
ولكن
ذلك غير صحيح : فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة ، كما نص عليه أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، فقد روي أنه قال في خطبة له :
«والهجرة قائمة
على حدها الأول. ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمة ومعلنها ، لا يقع
اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض ، فمن عرفها وأقربها فهو مهاجر
ولا يقع اسم
الإستضعاف على من بلغته الحجة ، فسمعتها أذنه ، ووعاها قلبه ، إن أمرنا صعب مستصعب
لا يحتمله إلا عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، ولا تعي حديثنا إلا صدور أمينة ،
وأحلام رزينة ..» .
فهذا النص يدل
على أنه «عليهالسلام» يريد أن ينفي ما يزعمونه من
__________________
انتفاء الهجرة ، وهو الزعم الذي أيدوه بما نسبوه إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : لا هجرة بعد الفتح.
وقد
قرر «عليهالسلام» : أن الهجرة باقية لم تنقطع ..
وأما
ما ذكره أمير المؤمنين «عليهالسلام» لمعاوية : من أن الهجرة قد انقطعت يوم أسر أخوه ، فيمكن أن يكون «عليهالسلام» قد أورده وفق مزاعم معاوية وأضرابه ، من أن الهجرة قد
انقطعت بفتح مكة.
هذا ، وقد وقع
الملتزمون بأنه لا هجرة بعد الفتح في حيص بيص في توجيه كلام علي «عليهالسلام» هذا. ويظهر ذلك جليا مما نقله العلامة المجلسي عن ابن
الأثير وابن أبي الحديد المعتزلي وغيرهما ، فقد قال في شرحه للكلام السابق ما
ملخصه :
أصل الهجرة
المأمور بها الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام.
وقال
في النهاية فيه : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية.
وفي
حديث آخر : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة.
والهجرة
هجرتان :
إحداهما
: التي وعد الله
عليها الجنة في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، فكان الرجل يأتي النبي «صلىاللهعليهوآله» ويدع أهله وماله لا يرجع في شيء منه ، وينقطع بنفسه
إلى مهاجره.
وكان النبي «صلىاللهعليهوآله» يكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها ، فمن ثم
قال : «لكن البائس سعد بن خولة» ، يرثي له أن مات بمكة.
__________________
وقال
حين قدم مكة : «اللهم لا تجعل
منايانا بها» ، فلما فتحت مكة صارت دار إسلام كالمدينة ، وانقطعت الهجرة.
والهجرة
الثانية : من هاجر من
الأعراب وغزا مع المسلمين ، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الأولى ، فهو مهاجر.
وليس بداخل في فضل من هاجر تلك الهجرة ، وهو المراد بقوله : «لا تنقطع الهجرة حتى
تنقطع التوبة».
فهذا وجه الجمع
بين الحديثين.
وإذا أطلق في
الحديث ذكر الهجرتين ، فإنما يراد بهما : هجرة الحبشة ، وهجرة المدينة ، انتهى
كلام ابن الأثير.
وقال
ابن أبي الحديد : هذا كلام من أسرار الوصية يختص به علي «عليهالسلام» ، لأن الناس يروون أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قال : «لا هجرة بعد الفتح» ، فشفّع عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي أن يستثنيه ،
فاستثناه.
وهذه الهجرة
التي أشار إليها أمير المؤمنين «عليهالسلام» ليست تلك ، بل هي الهجرة إلى الإمام.
وقال
بعض الأصحاب : تجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام مع المكنة.
ويستحب للقادر على إظهارها ، تحرزا عن تكثير سواد المشركين.
والمراد
بها : الأمور التي
تختص بالإسلام ، كالأذان والإقامة ، وصوم شهر رمضان ، وغير ذلك.
__________________
وألحق بعضهم
ببلاد الشرك بلاد الخلاف التي لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعائر الإيمان مع
الإمكان.
ولو تعذرت
الهجرة لمرض أو عدم نفقة أو غير ذلك فلا حرج ، لقوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ
سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا
غَفُوراً) .
إلى
أن قال : «لا يقع اسم الهجرة الخ ..». أي يشترط في صدق الهجرة
معرفة الإمام والإقرار به.
والمراد
بقوله : «فمن عرفها الخ ..» ، أنه مهاجر بشرط الخروج إلى الإمام
، والسفر إليه ، أو المراد بالمعرفة : المعرفة المستندة إلى المشاهدة والعيان.
ويحتمل
أن يكون المراد : أن مجرد معرفة الإمام والإقرار بوجوب اتباعه كاف في إطلاق اسم الهجرة ،
كما هو ظاهر الجزء الأخير من الكلام.
ويدل
عليه : بعض أخبارنا ،
فمعرفة الإمام والإقرار به في زمانه قائم مقام الهجرة المطلوبة في زمان الرسول «صلىاللهعليهوآله».
وقال
بعض الإصحاب : الهجرة في زمان الغيبة سكنى الأمصار ، لأنها تقابل البادية مسكن الأعراب ،
والأمصار أقرب إلى تحصيل الكمالات من القرى والبوادي ، فإن الغالب على أهلها
الجفاء والغلظة ، والبعد عن العلوم والكمالات ، كما روي عن النبي «صلىاللهعليهوآله» : «أن الجفاء والقسوة
__________________
في (الفدادين) » .
وقيل
: هي الخروج إلى
طلب العلوم ، فيعم الخروج عن القرى والبوادي ، والخروج عن بلد لا يمكن فيه طلب
العلم .
وفي
جميع الأحوال نقول :
إن هذه
التأويلات والتقسيمات تبرعية ، ليس لها مبرر سوى أنهم يعتقدون بصحة حديث : لا هجرة
بعد الفتح.
ولكن ما ورد في
خطبة أمير المؤمنين «عليهالسلام» يضع علامة استفهام كبيرة حول صحة هذه الكلمة المنسوبة
إلى النبي «صلىاللهعليهوآله».
مع
ملاحظة : أن المطلوب
كان هو الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإيمان ، حفظا لإيمان الناس ، ولا مبرر
للطلب من الناس الهجرة من بلاد الإيمان إلى بلاد أخرى حتى لو كانت من بلاد الإيمان
أيضا ..
__________________
الطلقاء ليسوا من الصحابة :
وقد
يقال : إن حديث : لا
هجرة بعد الفتح ثابت بدليل : أنه حلف رجل بخراسان بالطلاق إن كان معاوية من أصحاب
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأفتى الفقهاء بطلاقها.
فسئل
الرضا «عليهالسلام» عن ذلك ، فأفتى : أنها لا تطلق.
فكتب
الفقهاء رقعة أنفذوها إليه ، يسألونه عن ذلك ، فوقع في رقعتهم : قلت : هذا من روايتكم ، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» قال لمسلمة الفتح ، وقد كثروا عليه : أنتم خير ،
وأصحابي خير ، ولا هجرة بعد الفتح .
فأبطل الهجرة
ولم يجعل هؤلاء أصحابا له ، فرجعوا إلى قوله .
فحكم الإمام
الرضا «عليهالسلام» بعدم صحة الطلاق استنادا إلى هذا الحديث ، يدل على
ثبوته ، فلا معنى للتشكيك به أو إنكاره.
غير
أننا نقول :
إننا لا نريد
أن نتكلم في سند هذا الحديث نقضا وإبراما ، إذ يكفينا القول : بأن حكم الإمام
الرضا «عليهالسلام» لا يدل على صحة حديث
__________________
انقطاع الهجرة بالفتح ، لأنه جار على قاعدة : ألزموهم بما ألزموا به
أنفسهم.
ويشير
إلى ذلك قوله «عليهالسلام» : «قلت : هذا من روايتكم عن أبي سعيد الخ ..» ، فإن هذا القول لو كان ثابتا
عنده وعندهم ، لكان الأولى أن يقول : «قلت : هذا من الحديث الثابت عن رسول الله».
وأما
حكم الإمام «عليهالسلام» : بأن معاوية ليس من الصحابة ، فيتلخص في أن كلام النبي «صلىاللهعليهوآله» قد تضمن جعل مسلمة الفتح في مقابل أصحابه ، فدل ذلك
على أنهم ليسوا منهم ، وقد كان معاوية من مسلمة الفتح ، فهو إذن ليس من أصحابه «صلىاللهعليهوآله».
العباس يتلقى رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وبعد .. فإننا كما نشكك بقوة في ان يكون العباس قد خرج
مهاجرا ، لوجود الرواية الصحيحة سندا ، والمصرحة بكونه من الطلقاء ، بالإضافة إلى
قرائن أخرى ، فإننا نشك أيضا : في دقة التعبير الذي ورد في نصوص أخرى ، من أنه خرج
يتلقى رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وسبب
شكنا في ذلك هو الأمور التالية :
١ ـ إن العباس
لم يكن يعلم بقدوم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى مكة ، بل إن الجيش القادم نفسه لم يكن يعلم بحقيقة
مقصد رسول الله «صلىاللهعليهوآله». وقد أوضحنا ذلك أكثر من مرة.
٢ ـ إن
الاختلاف في المكان الذي التقى فيه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يؤكد شكنا في نوايا الرواة لهذا الأمر ..
٣ ـ إن تلك
الرواية الصحيحة السند التي اعتبرته من الطلقاء ، تؤكد
على أنه إنما أسلم تحت وطأة الخوف من هذا الجيش القادم ، ولم يسلم طوعا ،
ومن يكون من الطلقاء لا يخرج لتلقي رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فالظاهر
هو : أنه قد جرى
للعباس مثلما جرى لأبي سفيان وبديل بن ورقاء وغيرهما. أي أنه إنما خرج يتنسم
الأخبار .. فأبعد عن مكة أكثر من أبي سفيان ، فواجه الجيش العظيم القادم ، فاضطر
إلى الاستسلام ، وإظهار الإسلام ، ثم عاد مع ذلك الجيش إلى مكة ، ولقي أبا سفيان
ومن معه في الطريق ، وكان ما كان مما سيأتي بيانه إن شاء الله.
أين لقي العباس رسول الله صلىاللهعليهوآله؟! :
وقد ذكرت
النصوص المتقدمة مواضع مختلفة ادّعت أن العباس لقي النبي «صلىاللهعليهوآله» فيها.
ففي
بعضها : أنه لقيه
بالأبواء ..
وفي
بعضها : أنه لقيه
بالجحفة.
وقيل
: بذي الحليفة.
وقيل
: بالسقيا.
وقيل
: بثنية العقاب.
والأبواء
بالنسبة للآتي من المدينة إلى مكة تقع قبل الجحفة مما يلي الجحفة بثلاثة وعشرين
ميلا . فتكون على بعد خمسة أيام من المدينة.
والجحفة تقع
على أربع مراحل ونصف من جهة مكة ، وتبعد خمس
__________________
مراحل وثلثي مرحلة من المدينة (أو ست مراحل) .
وذو الحليفة
يبعد عن المدينة ستة أميال أو سبعة .
وأما السقيا ،
فهي على نحو أربعة أيام من المدينة ، وهي بالنسبة للآتي من المدينة إلى مكة ، قبل
الأبواء بأحد عشر ميلا .
أما ذكر ثنية
العقاب فهو غلط ، لأن ثنية العقاب قرب غوطة دمشق وليست بين مكة والمدينة.
وبعد
ما تقدم نقول :
لا بد من تحديد
الموضع الذي التقى فيه النبي «صلىاللهعليهوآله» بالعباس ، وبأبي سفيان بن الحارث ، وعبد الله بن أبي
أمية إذ لا يمكن أن يلتقي به في جميع هذه المواضع المتباعدة عن بعضها البعض بما قد
يصل إلى عشرات الأميال.
__________________
تناقض واختلاف الروايات :
إننا نلمح اختلافا
وتناقضا في قصة عبد الله بن أبي أمية ، وأبي سفيان بن الحارث.
وهذا
يشير إلى : أن ثمة تصرفا ، بل تعمدا للكذب في النصوص ، باستثناء واحدة من الروايات ،
قد يمكن للباحث تحديدها ، وقد لا يمكن ..
وعلى
سبيل المثال لا الحصر نقول : هناك رواية تقول : إن العباس قد كلم النبي «صلىاللهعليهوآله» بشأن عبد الله بن أمية ، وأبي سفيان بن الحارث ..
لكن
رواية أخرى تصرح : بأن العباس رفض أن يكلم النبي «صلىاللهعليهوآله» بشأن ابن أبي أمية ، رغم أن ابن أبي أمية قد طلب من
العباس ذلك ..
وهناك
رواية تقول : إنه لما كلمت أم سلمة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قبل منها ورضي عنه ، ودعاه وقبل توبته ..
لكن
رواية أخرى تقول : إنه لم يرض عنه ، ولم يقبل منه ، رغم ملازمته له ، إلى أن جرى ما جرى في
حرب حنين.
النبي صلىاللهعليهوآله لا يرد السلام ولا يقبل التوبة :
ومن
الأمور التي تثير أكثر من سؤال : ما زعمته بعض الروايات المتقدمة ، من أن عبد الله بن
ابي أمية سلم على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فلم يرد عليهالسلام ، وأعرض عنه ، ولم يجبه بشيء ..
كما
أنها صرحت : بأنهم أخبروه بأنه قد جاء تائبا. ولكنه «صلى الله عليه
وآله» أعرض عنه ، وخشي عبد الله أن يقتل ، فشكى ذلك إلى أخته أم سلمة ..
ونقول
:
١ ـ إننا نشك
في صحة ذلك ، إذ لم نعهد من أخلاق الرسول الكريم «صلىاللهعليهوآله» أن يسلّم عليه أحد ، ثم لا يجيبه.
كيف ، وقد أنزل
الله تعالى في كتابه الكريم : (وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ..)؟! .
٢ ـ إن نفس
مجيء هؤلاء إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مستسلمين ، تائبين ـ كما صرحت به الرواية ـ ملتمسين
منه أن يقبلهم يجعلهم مصداقا لقوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ..) .
٣ ـ إن المفروض
: كما صرح به العباس وأم سلمة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أن هذا المذنب قد جاء تائبا .. ولا نجد مبررا لعدم
قبول توبته .. وقد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ..) .
وأصرح من ذلك
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ
__________________
اللهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ..) .
وهؤلاء قد
ظلموا أنفسهم ، وقد جاؤوا النبي «صلىاللهعليهوآله» تائبين مستغفرين .. فلماذا يعرض عنهم ، ويرفض إجابة
طلبهم ، وقبول توبتهم؟!
فكيف إذا أخذنا
بالرواية التي أكدت على إصرار عبد الله بن أبي أمية على الفوز برضى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، واستمر ملازما للنبي «صلىاللهعليهوآله» ملتمسا رضاه إلى أن صار إلى حنين ، وخاض تلك الحرب ،
وواجه الأهوال فيها .
وماذا نصنع
بالكثير الكثير من الآيات والروايات الشريفة التي تأمر بالعفو ، وتبشر الناس بقبول
توبة التائبين ..
إلا
أن يدّعى : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أراد أن يظهر صدق ذلك الرجل فيما يدّعيه من التوبة
، ليقطع دابر الإشاعات المغرضة التي ربما تثار حول سبب العفو ، وأنه هو القرابة
التي كانت لابن الحارث أو لابن أبي أمية ، وأنها إنما قبلت منهما لأنها كانت توبة
نصوحا ، لا لأجل القرابة.
ولكن لو صحت
هذه الدعوى لكان يجب أن يعامل العباس بنفس هذه المعاملة ، ليثبت أن قبوله لا لأجل
قرابته من رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
__________________
وأما
بالنسبة للسؤال عن كيفية وصول الذين أهدر النبي «صلىاللهعليهوآله» دمهم إليه ، فيجاب
: بأن طرق
الوقاية من الأذى متيسرة لهم ، ويكفي أن يحتمي بأحد المسلمين ، ويأتي معه ، كما
فعل عثمان بالنسبة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح.
تالله لقد آثرك الله علينا :
وحينما كلّم
العباس رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بشأن أبي سفيان بن الحارث وابن أبي أمية قد ركّز على
أن هذا ابن عم النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وذاك ابن عمته .. ظنا منه أن القربى النسبية وحدها
تكفي للتجاوز عن ذنب ذينك الرجلين ..
ولكن
الحقيقة هي : أن الإساءة تختلف في طبيعتها وفي أحكامها. فإن كانت إساءة للشخص ، كان
للصفح عنها ، ولمراعاة القربى الرحمية فيها مجال ، بل لا مجال لسوى ذلك من نبي
كريم لم يزل يحث الناس على صلة القربى ، والصفح عن المسيئين ..
وإن كانت
الإساءة منهما للدين ، وللأمة ، وتمثل جرأة عظيمة على الله تبارك وتعالى ، فلا يحق
لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يصفح عن مرتكب ذلك ، إذا لم يكن الندم والتوبة من
نفس هذ الذنب العظيم .. ولم يظهر من أولئك التائبين ولا من الطالبين للصفح عنهم ،
أن هذا هو ما جاؤوا من أجله.
بل
الذي ظهر هو : أنهم يريدون استجلاب رضى شخص رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، بهدف إصلاح العلاقة معه كشخص ، من أجل حفظ
نفوسهم ومصالحهم ، وبغض النظر عن أي شيء آخر.
فجاء الرفض
النبوي لقبولهما ، منسجما مع طبيعة ذنبهما ، وموجها لحقيقة ما يطلب منهما ، حيث لم
يظهر منهما ما يدل على الرغبة في إصلاح علاقتهما بالله سبحانه ، والإعتراف بخطأهما
في ممارساتهما التي كانت تهدف إلى إضعاف دين الله ، وزعزعة يقين الناس بهذا الدين.
وقد أشار النبي
«صلىاللهعليهوآله» إلى هذه الحقيقة حين أعلن عن سبب موقفه منهما ، وهو :
أن أحدهما قد هتك عرضه ، لأنه كان يهجوه ، ويظهر الإستهانة به ، ويصغّر من شأنه
كشخص ، توصلا لإسقاط هيبته ، وإضعاف دعوته وتكذيب نبوته.
كما أن الآخر
قد اقترح عليه اقتراحات تهدف هي الأخرى إلى تكذيبه في نبوته ، من حيث إنها تدخل
الشبهة على الضعفاء ، وتجعلهم يصدقون المقولة الباطلة في لزوم كون النبي «صلىاللهعليهوآله» من غير البشر.
أي
أنه يريد أن يفهم الناس : أن من يرقى إلى السماء ، ويفعل تلك الخوارق لا يمكن أن
يكون بشرا ..
وعلى
هذا الأساس : إن استجاب النبي «صلىاللهعليهوآله» لتلك المطالب ، فإما أن يكون ليس من جنس البشر ، أو
يكون ساحرا كذابا ، والعياذ بالله .. وإن لم يستجب لها ظهر أنه ليس صادقا في
ادّعائه النبوة.
مع أنه لو جاء
بكتاب يقرؤونه ونحو ذلك لفتح لهم باب الجدال بالباطل والتكذيب والاتهام على
مصراعيه ..
وبذلك تكون
الشبهة قد دخلت على الناس في جميع الأحوال .. وهذه جريمة كبرى ، وجرأة عظيمة على
الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله ، وعلى دينه ..
ولذلك جاءه
الرد الإلهي ، ليؤكد بشرية الرسول «صلىاللهعليهوآله» : (.. قُلْ سُبْحانَ
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) .
مع
العلم : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان قد فعل من المعجزات ما يكفي لإسقاط جميع هذه
المطالب ، فقد عرج به إلى السماء ، وأثبت لهم صدق ذلك بما أخبرهم به من أمور حصلت
لقافلتهم .. وقد نبع لهم الماء من بين أصابعه ، كما أنه قد جاءهم بكتاب قد عجزوا
عن مجاراته ، وعن الإتيان بسورة من مثله ، ولو بمقدار سورة الكوثر ..
وقد
ظهر بذلك كله : أن ذنب عبد الله بن أبي أمية كان عظيما في حق الدين والرسالة ، وكان جرأة
على الله تبارك وتعالى ، وليس أمرا شخصيا ليصح الصفح عنه لمجرد القرابة والرحم ..
ولكن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد استجاب وأنعم بالرضا حين عملوا بمشورة علي «عليهالسلام» ، بأن يقولوا للنبي «صلىاللهعليهوآله» ما قاله إخوة يوسف «عليهالسلام» : (تَاللهِ لَقَدْ
آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) .
وذلك
لأن هذه المبادرة تعني أمرين :
أحدهما
: الاعتراف
بالخطأ في اختيار الخط والنهج الذي كانوا عليه ، لا الخطأ في الممارسة الجزئية
تجاه شخص بعينه ، وقد ظهر هذا من خلال ربط هذا الخطأ ـ على سبيل المقابلة ـ بالفقرة
الأولى المتضمنة لبعثة الله تعالى له
__________________
بالنبوة ، والإعتراف بصدقه «صلىاللهعليهوآله».
الثاني
: الإقرار
بنبوته «صلىاللهعليهوآله» ، وأنه سبحانه هو الذي أرسله ، وآثره بهذا الأمر دون
سائر البشر ..
وهذا هو الذي
يصلح ما أفسدوه ، ويبطل كيدهم ، ويكسر شوكتهم ، وتكون كلمة الباطل هي السفلى ،
وكلمة الله هي العليا ..
ومن أحسن قولا من الله :
وبعد .. فقد قال الله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وقال عزوجل : (وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) .
فالتوجيه
الإلهي للناس كلهم يقضي بإلزامهم باختيار الأحسن من القول والفعل ، وهذا يحتم
عليهم معرفة الأمور ، والتمييز بين حسنها وقبيحها ، ثم الوقوف على الحسن والأحسن
منها.
والنبي «صلىاللهعليهوآله» هو أولى الناس بالالتزام بالتوجيه الإلهي ، بحيث لا
يرضى إلا أن يختار أحسن القول ، وأحسن الفعل ؛ ليكون ذلك هو طبيعته وسجيته ، وهو
الذي يفيد في رسم أجمل صورة للحياة ، ويعطيها معناها اللائق بها ، الذي أراده الله
تعالى لها.
وقد كان علي «عليهالسلام» يريد ان يعرّف الناس على هذه الحقيقة ، ولا سيما من
كان يجحد ويعاند ..
__________________
هنات وهنات في رواية الواقدي :
وقد نلمح في
رواية الواقدي العديد من القرائن التي تضعف من درجة الإعتماد عليها ، فإضافة إلى
ما تقدم من شكنا في صحة ما ورد فيها ، من عدم جواب النبي «صلىاللهعليهوآله» لابن أبي أمية حينما سلم عليه نشير إلى الأمور التالية
:
ألف : اعتراض أم سلمة :
إن
من دلائل وضع الرواية المشار إليها : أنها تضمنت اعتراض أم سلمة على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بشمول قاعدة : الإسلام يجب ما قبله لهذه الموارد. ثم
تسليمه «صلىاللهعليهوآله» بصحة اعتراضها.
إذ لا يمكن أن
يغفل النبي «صلىاللهعليهوآله» عن قرار أو حكم إلهي ثابت ، فكيف إذا كان هو الذي جاء
بتشريعه ، وصدر عنه مباشرة ، ثم تذكّره به امرأة ، أو تكون هي المرشدة له في
تطبيقه الصحيح!!
ويزيد في بشاعة
هذا الأمر أن هذا الحكم أو القرار له ارتباط بنحو أو بآخر بحقوق الناس ، وبمصائرهم
، أو بكراماتهم ومواقعهم في الدنيا والآخرة.
إذ
من البديهي : أن خطأه «صلىاللهعليهوآله» أو غفلته ، ينافيان عصمته ، ويضعان نبوته وأهليته لها
أمام ألف سؤال وسؤال.
ب : أبو سفيان بن الحارث ، والإسلام :
ولا
نجد حرجا في تقرير أن لدينا بعض الريب فيما ذكرته الرواية : من
أن الله ألقى الإسلام في قلب أبي سفيان بن الحارث ..
فإنه
هو نفسه يتابع الحديث ليدلل فيه : على أن خروجه إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم يكن رغبة منه بالإسلام ، بل كان خوفا من القتل بعد
أن أهدر النبي «صلىاللهعليهوآله» دمه ، وقد ضاقت عليه الدنيا ، ولم يعد يجد أحدا يصحبه
، أو يكون معه بعد أن ضرب الإسلام بجرانه.
ج : علم ابن الحارث بقدوم رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وقد
زعمت الرواية المتقدمة : أن ابا سفيان بن الحارث قال لزوجته وولده : تهيأوا
للخروج ، فقد أظل قدوم محمد عليكم ..
ونحن نشك كثيرا
في صحة ذلك ، فإن أحدا من أهل مكة لم يكن يعلم بقدوم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، بل من أهل المدينة أنفسهم ، حتى ذلك الجيش العرمرم
الذي كان مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لم يكن يعرف مقصد النبي «صلىاللهعليهوآله» ، حتى بلغ مشارف مكة ، حسبما أوضحناه فيما سبق ، فمن
أين علم أبو سفيان بن الحارث بقدومه «صلىاللهعليهوآله» ليخبر زوجته وولده بذلك؟!
ولعل
الصحيح هو : أن هذا الرجل كان يعيش حالة من الرعب ، بسبب هدر دمه من قبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فكان يتوقع القتل عند رؤية أي إنسان يحتمل أن يكون
من المسلمين.
وقد
صرحت الرواية : بأنه قد أظهر خوفه من القتل مرات عديدة ، فخرج يطلب الأمان لنفسه من رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، متوسلا إليه بقرابته منه ، ظنا منه أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يتأثر بذلك ،
حتى على حساب دينه ، وإسلامه ، فالتقى برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وجرى له معه ما تذكره الروايات التي تقدمت.
د : هل سيفرح المسلمون بإسلام ابن الحارث؟! :
وقد
زعمت الرواية : أن أبا سفيان بن الحارث يقول : إنه كان على يقين بأن المسلمين سيفرحون
بإسلامه فرحا شديدا ، لقرابته من النبي «صلىاللهعليهوآله» .. وأنه كان يرجو أن يفرح رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بإسلامه لقرابته وشرفه ..
ونقول
:
إنه سواء أكان
هذا الكلام صحيحا ، أو كان راويه قد افتراه كله أو بعضه ، فإنه يعبر عن طبيعة
تفكير قائله ، وعن المفاهيم والإنطباعات التي يعيشها في نفسه .. حتى إنه ليظن أن
ما يفرح النبي «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين بإسلام أبي سفيان بن الحارث هو مجرد قرابته
منه «صلىاللهعليهوآله» ، وشرفه في قومه ، وليس هو نجاة هذا الرجل من غضب الله
تعالى ، وخروجه من ذل معصيته إلى عز طاعته جل وعلا ..
إنه يفكر كما
يفكر الجاهلون ، وينطلق من معاييرهم ومفاهيمهم ، مع أن الإسلام لم يقم وزنا لقرابة
أبي لهب ، ولا لشرفه في قومه ، وأنزل فيه سورة قرآنية خالدة تذكر الناس بخزيه إلى
يوم القيامة ..
ولسنا بحاجة
إلى التذكير بما ورد في القرآن عن ابن نوح ، وعن زوجتي نوح ولوط ..
ه : بطولات أبي سفيان بن الحارث في حنين :
وأما فيما
يرتبط ببطولات أبي سفيان بن الحارث التي يدّعيها لنفسه في معركة حنين ، فسيأتي في
حينه أنها لا يمكن أن تصح ، وسنرى أن الناس كلهم قد فروا في تلك الغزوة باستثناء
علي «عليهالسلام» ..
فلا
حاجة لاستباق الأمور .. لكننا نقول :
إنه
يكفي للحكم على هذه الرواية بالكذب والوضع : أنها تدّعي أن أبا سفيان بن الحارث قد طرد جيش الأعداء
في حنين قدر فرسخ ، وتفرقوا في كل وجه ..
و : يا للأنصار! يا للخزرج!! :
ومن
أمارات سوء النوايا في هذه الرواية أيضا : أنها تزعم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أمر العباس بأن ينادي : يا للمهاجرين! يا للأنصار! يا
للخزرج! فأجابوا ..
فإن الاقتصار
على ذكر الخزرج من فئة الأنصار ، وعدم نداء الأوس مما لا يمكن قبوله من النبي
الأعظم «صلىاللهعليهوآله» ، لأن هذا الأمر من شأنه أن يحدث أسوأ الأثر في نفوس
وفي مواقف قبيلة الأوس ، التي كانت قبل مجيء النبي «صلىاللهعليهوآله» تتصاول مع الخزرج تصاول الفحلين ، على حد تعبير النصوص
التاريخية ..
ز : سؤال النبي صلىاللهعليهوآله عن أبي سفيان بن الحارث :
وذكرت
الرواية المتقدمة أيضا : أنه «صلىاللهعليهوآله» لما رأى أبا سفيان مجردا سيفه في حنين وقد أخذ بلجام
بغلة النبي «صلىاللهعليهوآله»
قال لعمه العباس : من هذا؟!
قال
أبو سفيان : فذهبت أكشف المغفر.
فقال
العباس : أخوك ، وابن
عمك ، أبو سفيان بن الحارث ، فارض عنه ، أي رسول الله!!
قال
: قد فعلت.
فإن من غير
المعقول أن لا يعرفه النبي «صلىاللهعليهوآله» ويعرفه العباس ، مع أنه كان من رفقاء الصبا ، كما أنه
لم يزل منذ لقي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في الأبواء يتعرض له ، يلازمه ، ويسعى لاسترضائه ،
ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» يعرض عنه كما صرح أبو سفيان نفسه في الرواية المشار
إليها ..
عمر يغري بأبي سفيان بن الحارث :
وقد
ذكرت تلك الرواية : أن عمر بن الخطاب قد أغرى أنصاريا بقتل أبي سفيان بن الحارث ..
والسؤال
هو : إن هذا
الإغراء قد يحصل وفق سياق رواية الواقدي ، التي هي موضع البحث ، وقد يحصل أيضا وفق
سياق باقي الروايات ، وفي جميع الأحوال نقول :
لماذا يغري عمر
بخصوص أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ولا يغري بعبد الله بن أبي أمية الذي أهدر النبي «صلىاللهعليهوآله» دمه ، أو بحكيم بن حزام ، أو ببديل بن ورقاء؟ ألم يكن
أبو سفيان من أقارب النبي «صلىاللهعليهوآله» كما كان العباس من أقاربه؟
وقد صرح عمر :
بأن إسلام العباس كان أحب إليه من إسلام الخطاب التماسا لرضا الرسول «صلىاللهعليهوآله». بل لماذا يغري الآخرين بقتل ابن الحارث؟ ألم يكن
الأجدر به أن يبادر هو إلى فعل ما يغري به غيره؟! فيقوم بقتل أبي سفيان بنفسه ،
إذا كان يرى صحة قتله بدون مراجعة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في ذلك!!
ثم لماذا يغري
بقتله رجلا من الأنصار ، ويترك جميع المهاجرين؟!
هل
يمكن أن يفهم من ذلك : أن عمر يريد إلقاء فتنة بين قريش وبني هاشم ، وأهل مكة وبين أهل المدينة؟!
وبين العدنانيين والقحطانيين ، وبين بني هاشم بالخصوص وبين سائر الناس؟!
ثم ألا يذكرنا
إغراؤه الأنصار بقتل رجل من بني هاشم بالسعي الذي كان هو نفسه قد بذله يوم بدر
لقتل عقيل والعباس الهاشميين بيد بني هاشم أنفسهم؟! وألا يؤكد ذلك صحة اتهامهم له
في نواياه وأنه لو كان الأسير من بني عدي لم يطلب هذا الطلب؟!
الفصل الثامن :
أبو سفيان في أيدي المسلمين
زعماء يربأبهم النبي صلىاللهعليهوآله عن الشرك :
عن
عطاء قال : لا أحسبه إلا رفعه إلى ابن عباس قال : قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليلة قربه من مكة في غزوة الفتح : «إن بمكة لأربعة نفر
من قريش أربأبهم عن الشرك ، وأرغب لهم في الإسلام».
قيل
: ومن هم يا
رسول الله؟
قال
: «عتاب بن أسيد ، وجبير بن مطعم ، وحكيم بن حزام ، وسهيل
بن عمرو» .
ونقول
:
١ ـ قد ذكر
بعضهم : أن جبير بن مطعم أسلم بعد الحديبية ، وقبل الفتح. مع أن هذه الرواية تشير
إلى أن حاله حال الثلاثة المذكورين معه.
وقالوا
: أسلم بين
الحديبية والفتح .
__________________
وقيل
: في الفتح .
وقيل
: عام خيبر . ولا يهمنا تحقيق ذلك.
٢ ـ إن علينا
الإشارة هنا إلى أن إطلاق هذا القول من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فيه إغراء لهؤلاء بالتخلي عن العناد والجحود. أو هو
على الأقل يضعف عزائمهم في ذلك ، ويلوح لهم بأن الجسور مفتوحة ، ويمكنهم العبور
إلى شاطئ الأمان ، في ظل الرعاية الإلهية ، ليكون أقل شراسة وحماسة في مقاومة هذا
الدين ، ويهيئ السبيل بذلك للتخفيف من حدة الضغوط منهم على من يرتبط بهم من أقارب
، وحلفاء ، وما إلى ذلك ..
٣ ـ لكن علينا
أن لا ننسى : أن هذا القول يشير إلى رذالة أخلاقية كان هؤلاء الأربعة يمارسونها ،
فإنهم رغم رجاحة عقولهم ، التي تجعل من اعتناقهم للشرك ، ومحاربتهم للحق ولأهله
طيلة هذه السنين أمرا غير منطقي ، ولا مستساغ ، خصوصا مع ما يرونه من التأييدات
والألطاف الإلهية والمعجزات ، بل إن ذلك يجعل عملهم هذا في غاية القبح ، ويشير إلى
__________________
سقوطهم المخزي والمشين في حمأة الشهوات ، ويؤكد لجوءهم إلى الجحود عن علم
ومعرفة بالحق وبأهله.
منام أبي بكر :
عن
ابن شهاب : إن أبا بكر قال : يا رسول الله!! أراني في المنام وأراك دنونا من مكة ،
فخرجت إلينا كلبة تهرّ ، فلما دنونا منها استلقت على ظهرها ، فإذا هي تشخب لبنا.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «ذهب كلبهم ، وأقبل درّهم ، وهم سائلوكم (بأرحامكم) بأرحامهم ، وإنكم لا
قون بعضهم ، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه» .
ولا ندري إن
كان هذا القول من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد أريد به تعبير منام أبي بكر.
أم أنه جاء على
سبيل التفاؤل بذهاب الكلب ، وإقبال الدر؟!
أم أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أجرى كلامه على هذا النحو ليسجل إخبارا غيبيا صادرا
عن مقام النبوة الأقدس ، ليكون ذلك من دلائل نبوته؟!
وربما
يؤيد هذا المعنى : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد عقب ذلك بالإخبار
__________________
عن وقائع غيبية سوف تحصل ، وهو قوله : «وهم سائلوكم بأرحامهم. وإنكم لاقون
بعضهم» ، مصرحا باسم أبي سفيان من بين سائرهم ، ثم أصدر أوامره المتضمنة لكيفية
التعاطي معه.
جيش الإسلام في مر الظهران :
قال
عروة : وعميت الأخبار
عن قريش ، فلم يبلغهم حرف واحد عن مسير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولا يدرون ما هو فاعل. وهم مغتمون لما يخافون من
غزوه إياهم ، فبعثوا أبا سفيان بن حرب .
ورووا
عن ابن عباس أنه قال : مضى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عام الفتح حتى نزل مر الظهران عشاء ، في عشرة آلاف من
المسلمين ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولا يدرون ما هو صانع .
__________________
وأمر «صلىاللهعليهوآله» أصحابه أن يوقدوا عشرة آلاف نار ، وجعل على الحرس عمر
بن الخطاب .
وعن
عروة قال : لما سار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عام الفتح ، بلغ ذلك قريشا ، فخرج أبو سفيان بن حرب
يتحسس الأخبار.
وقالت
قريش لأبي سفيان : إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا. (زاد الواقدي قوله : «إلا أن ترى رقة من
أصحابه ، فآذنه بالحرب») .
فخرج هو وحكيم
بن حزام ، فلقيا بديل بن ورقاء ، فاستتبعاه ، فخرج معهما يتحسسون الأخبار ،
وينظرون هل يجدون خبرا ، أو يسمعون به.
فلما بلغوا
الأراك من مر الظهران ، وذلك عشيا ، رأوا العسكر ، والقباب ، والنيران كأنها نيران
عرفة ، وسمعوا صهيل الخيل ، ورغاء الإبل ، فأفزعهم ذلك فزعا شديدا.
__________________
قال
عروة ـ كما في الصحيح ـ : فقال بديل بن ورقاء : هؤلاء بنو كعب ـ وفي رواية بنو
عمرو : يعني بها خزاعة ـ حمشتها (حاشتها) الحرب.
فقال
أبو سفيان : بنو عمرو أقل من ذلك .
ولكن لعل هذه
تميم أو ربيعة .
قالوا
: فتنجعت هوازن
على أرضنا؟! والله ما نعرف هذا ، إن هذا العسكر مثل حاج الناس .
وعن
ابن عباس : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لما نزل مر الظهران ، رقت نفس العباس لأهل مكة ، فقال
: وا صباح قريش ، والله لئن دخلها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة
، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
قال
العباس : فأخذت بغلة
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الشهباء
__________________
(البيضاء) ـ وعند الواقدي : أنها الدلدل ـ فركبتها ، وقلت : ألتمس حطابا ، أو صاحب لبن ، أو ذا
حاجة يأتي مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ليخرجوا إليه ، فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة
، فو الله ، إني لفي الأراك ألتمس ما خرجت إليه ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن
ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا!
فقال
بديل بن ورقاء : هذه والله خزاعة حمشتها الحرب.
فقال
أبو سفيان : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال
العباس : فعرفت صوت أبي
سفيان ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي.
فقال
: لبيك يا أبا
الفضل ، مالك فداك أبي وأمي!!
فقلت
: ويلك!! هذا
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في عشرة آلاف.
فقال
: وا صباح قريش
، والله بأبي أنت وأمي ، فما تأمرني؟ هل من حيلة؟
قلت
: نعم ، إركب
عجز هذه البغلة ، فأذهب بك إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فاستأمنه لك ، فإنه والله إن ظفر بك دون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لتقتلن.
قال
أبو سفيان : وأنا والله أرى ذلك.
فركب خلفي ،
ورجع صاحباه ـ كذا في حديث ابن عباس وعند ابن
__________________
إسحاق ومحمد بن عمر : أنهما رجعا ـ وذكر ابن عقبة ومحمد بن عمر في موضع آخر
: أنهما لم يرجعا ، وأن العباس قدم بهم إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» انتهى .
وعن
حكيم بن حزام : أنه خرج هو وأبو سفيان يتنسمان الأخبار ، فلقي العباس أبا سفيان ، فذهب به
إلى النبي «صلىاللهعليهوآله».
قال
حكيم بن حزام : «فرجعت ، ودخلت
بيتي ، فأغلقته عليّ ، ودخل النبي «صلىاللهعليهوآله» مكة ، فأمّن الناس ، فجئته ، فأسلمت وخرجت معه إلى
حنين» .
وفي
موضع آخر عند الواقدي : قال العباس : هذا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في عشرة آلاف من المسلمين ، فأسلم ، ثكلتك أمك وعشيرتك
، ثم أقبل على حكيم وبديل ، فقال : أسلما ، فإني لكما جار حتى تنتهوا إلى رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» ، فإني أخشى أن تقطعوا دون النبي «صلىاللهعليهوآله».
قالوا
: فنحن معك.
__________________
فجاء بهم إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
وفي
سياق آخر ، قال العباس : فجئت بأبي سفيان ، كلما مررت بنار من نيران المسلمين
قالوا : من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأنا عليها ، قالوا : عم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على بغلته ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب ، فلما رآني
، قام ، فقال : من هذا؟
قلت
: العباس ، فذهب
ينظر ، فرأى أبا سفيان خلفي ، فقال : أي عدو الله!! الحمد لله الذي أمكن (أمكنني)
منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل
البطيء ، فاجتمعنا على باب قبة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فاقتحمت عن البغلة ، قدخلت على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ودخل عمر على أثري ، فقال عمر : يا رسول الله!! هذا
أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني فلأضرب عنقه.
قال
: قلت : يا رسول
الله ، إني قد أجرته.
ثم التزمت رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» فأخذت برأسه ، فقلت : والله ، لا يناجيه الليلة دوني
رجل.
فلما
أكثر عمر في شأنه ، قلت : مهلا يا عمر ، فو الله لو كان من رجال بني عدي بن كعب
ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف.
__________________
فقال
: مهلا يا عباس
ـ وفي لفظ : يا أبا الفضل ـ فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام
الخطاب لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من إسلام الخطاب لو أسلم .
وقيل
: إن العباس قال
: فقلت : يا رسول الله!! أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء قد
أجرتهم ، وهم يدخلون عليك.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أدخلهم».
فدخلوا عليه ،
فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ودعاهم إلى الاسلام.
فقالوا
: نشهد أن لا
إله إلا الله.
__________________
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «اشهدوا أن لا اله الا الله وأني رسول الله».
فشهد بديل ،
وحكيم بن حزام.
وقال
أبو سفيان : ما أعلم ذلك ، والله إن في النفس من هذا لشيئا بعد ، فارجئها .
وعند
أبي شيبة ، عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : أنه قيل لحكيم بن حزام : بايع.
فقال
: أبايعك ولا
أخر إلا قائما.
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أما من قبلنا فلن تخر إلا قائما. انتهى .
وقيل
لأبي سفيان ذلك ، فقال : كيف أصنع باللات والعزى؟
فقال
عمر بن الخطاب ـ وهو خارج القبة ـ : إخرأ عليها ، أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها.
فقال
أبو سفيان : من هذا؟
__________________
قالوا
: عمر بن الخطاب
.
زاد
في الحلبية قوله : فقال أبو سفيان : ويحك يا عمر ، إنك رجل فاحش ، دعني مع ابن عمي ، فإياه
أكلم .
وعند
المجلسي : قال أبو سفيان
: «أف لك ما أفحشك ، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي» .
قال
العباس : فقال رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» : «اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به».
قال
: فذهبت به إلى
رحلي .
وقالوا
: فلما أذّن
الصبح أذّن العسكر كلهم : أي أجابوا المؤذن.
ففزع
أبو سفيان من أذانهم ، فقال : ما يصنع هؤلاء؟
__________________
قال
العباس : فقلت :
الصلاة.
قال
: كم يصلون؟
قلت
: خمس صلوات في
اليوم والليلة. (وعند الواقدي : قال : كثير والله).
ثم
رآهم يتلقون وضوء رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : ما رأيت ملكا قط كاليوم ، لا ملك كسرى ولا قيصر.
قال
العباس : فلما صلى رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» الصبح غدوت به.
وعند
ابن عقبة ، ومحمد بن عمر : أن أبا سفيان سأل العباس في دخوله على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
وعن
أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : فلما أصبحوا قام المسلمون إلى طهورهم ، فقال أبو سفيان
: يا أبا الفضل!! ما للناس أمروا فيّ بشيء؟
قال
: لا ، ولكنهم
قاموا إلى الصلاة.
فأمره العباس
فتوضأ ، وذهب به إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فلما دخل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الصلاة كبّر وكبّر الناس ، ثم ركع ، فركعوا ، ثم رفع ،
فرفعوا ، ثم سجد فسجدوا ، فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم طاعة ، قوم جمعهم من
ههنا وههنا ، ولا فارس الأكارم ، ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له. يا أبا
الفضل!! أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك.
__________________
فقال
العباس : إنه ليس بملك
، ولكنها النبوة.
قال
: أو ذاك؟!
قال
العباس : فلما فرغ رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» قال : «يا أبا سفيان!! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله
إلا الله»؟!
قال
: بأبي أنت وأمي!!
ما أحلمك وأكرمك ، وأعظم عفوك! إنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئا (يوم بدر
ويوم أحد) بعد ، لقد استنصرت إلهي ، واستنصرت إلهك ، فو الله ما لقيتك من مرة إلا
نصرت عليّ ، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : «ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله»؟
قال
: بأبي أنت وأمي
ما أحلمك وأكرمك ، وأعظم عفوك! أما هذه فو الله إن في النفس منها شيئا حتى الآن.
فقال
العباس : ويحك! أسلم
قبل أن تضرب عنقك.
فشهد
شهادة الحق ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله. (زاد في نص آخر قوله
: تلجلج بها فوه) .
وظاهر
كلام ابن عقبة ، ومحمد بن عمر في مكان آخر : أن أبا سفيان قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن
محمدا رسول الله من غير أن يعرض ذلك عليه أحد.
__________________
قال
: قال أبو سفيان
، وحكيم بن حزام : يا رسول الله جئت بأوباش الناس ، من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك
وعشيرتك؟!
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «أنتم أظلم وأفجر ، قد غدرتم بعهد الحديبية ، وظاهرتم على بني كعب بالإثم
والعدوان في حرم الله تعالى وأمنه».
فقال
حكيم ، وأبو سفيان : صدقت يا رسول الله. ثم قالا : يا رسول الله!! لو كنت جعلت جدك ومكيدتك
لهوازن ، فهم أبعد رحما ، وأشد عداوة لك؟
فقال
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «إني لأرجو من ربي أن يجمع لي ذلك كله. فتح مكة ، وإعزاز الإسلام بها ،
وهزيمة هوازن ، وغنيمة أموالهم وذراريهم ، فإني أرغب إلى الله تعالى في ذلك» .
وقال
في نص آخر : فصار إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : فقال العباس : هذا أبو سفيان صار معي إليك فتؤمنه
بسببي.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : أسلم تسلم يا أبا سفيان.
فقال
: يا أبا القاسم!
ما أكرمك وأحلمك؟
قال
: أسلم تسلم.
قال
: ما أكرمك
وأحلمك؟
__________________
قال
: أسلم تسلم.
فوكزه
العباس وقال : ويلك إن قالها الرابعة ولم تسلم قتلك.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» : خذه يا عم إلى خيمتك.
وكانت قريبة ،
فلما جلس في الخيمة ندم على مجيئه مع العباس ، وقال في نفسه : من فعل بنفسه مثل ما
فعلت أنا؟ جئت فأعطيت بيدي ، ولو كنت انصرفت إلى مكة فجمعت الأحابيش وغيرهم فلعلي
كنت أهزمه.
فناداه
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من خيمته ، فقال : «إذا كان الله يخزيك».
فجاءه
العباس ، فقال : يريد أبو سفيان أن يجيئك يا رسول الله.
قال
: هاته.
فلما
دخل قال : ألم يأن أن
تسلم؟
فقال
له العباس : قل ، وإلا فيقتلك.
قال
: أشهد أن لا
إله إلا الله ، وأنك رسول الله.
فضحك
«صلىاللهعليهوآله» ، فقال : رده إلى عندك.
فقال
العباس : إن أبا سفيان
يحب الشرف فشرفه.
فقال
: من دخل داره
فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن .
ونقول
:
إن
لنا مع هذه النصوص وقفات ، هي التالية :
__________________
إنه ليس بملك :
إنهم
قد رووا : أن العباس
إنما رفض مقولة أبي سفيان : «أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك» ، من حيث إن ذلك
يستبطن عدم اعترافه بنبوته «صلىاللهعليهوآله» .. وإلا فقد قال تعالى عن داود : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) .
وقال حكاية عن
سليمان : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ..)
من الذي كان مع أبي سفيان؟! :
وقد اختلفت
الروايات في الأشخاص الذين كانوا مع أبي سفيان ، وفي إسلامهم معه وعدمه ، وفي أمور
كثيرة أخرى ..
فرواية
تقول : لم يشعر أهل
مكة برسول الله «صلىاللهعليهوآله» حتى نزل العقبة. وكان أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل قد
خرجا يتجسسان خبرا ، ونظرا إلى النيران ، فلم يعلما لمن هي ..
ثم لقيهما
العباس ، فاصطحب أبا سفيان إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ورجع عكرمة إلى مكة .
ولكن
روايات أخرى ذكرت : بديل بن ورقاء ، وحكيم بن حزام. ولم تذكر عكرمة.
__________________
وبعضها
ذكر : أن بديلا
وحكيما رجعا إلى مكة ، ولم يذهبا إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» مع العباس وأبي سفيان.
وبعضها
الآخر يقول : بل ذهبا معهما إليه «صلىاللهعليهوآله».
لم يبلغهم حرف واحد :
وفي
حين يقول عروة : عمّيت الأخبار عن قريش ، فلم يبلغهم حرف واحد عن مسير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولا يدرون ما هو فاعل ، وهم مغتمون لما يخافون من
غزوه إياهم .. يعود عروة هذا ليناقض نفسه ، فيقول : لما سار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عام الفتح ، بلغ ذلك قريشا.
وقوله الأول هو
الصحيح ، لأن الرواية عن ابن عباس وغيره تؤيده. بالإضافة إلى نصوص كثيرة أخرى.
ورغم
أن الرواية الثانية قد صرحت : بأن قريشا قالت لأبي سفيان : إن لقيت محمدا فخذ لنا منه
أمانا ، فإنها أيضا قد صرحت : بأن أبا سفيان ومن معه لم يخطر في بالهم أن يكون هذا
الجيش العظيم الذي يرونه هو للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، بل ذهبت أوهامهم إلى خزاعة تارة ، وإلى تميم أخرى ،
وإلى ربيعة ثالثة ، ثم إلى هوازن رابعة ..
تزوير الحقائق :
ولكن ما نريد
أن نبينه للقارئ الكريم هو أن كتابنا هذا قد حفل بالكثير الكثير مما يشير إلى
تزوير عروة وأضرابه للحقائق ، واختلاقهم للترهات ، رغم شدة تحاشينا في هذا الكتاب
عن الإستغراق في مناقشة أقوال هؤلاء الناس ، الذين أرادوا أن يستأثروا لأنفسهم
بمقام ليسوا من
أهله ، ألا وهو مقام حفظ العلم ، والشريعة ، والتاريخ ، وكل الحقائق التي
تحتاجها الأمة عبر الأجيال ، مع أنهم إنما قدموا لها بحرا زاخرا بالأباطيل
والأضاليل ، والخزعبلات ، والخرافات ، حتى إذا ضاقت بهم السبل ، واضطروا للاعتراف
بشيء من الحقيقة ، فإنك تراهم يثيرون حولها أجواء من الريبة والشك والإتهام ،
ويشبعونها حذلقة ، وتمويها وتشويها.
عشرة آلاف نار لماذا؟! :
ولسنا بحاجة
إلى بيان أهدافه «صلىاللهعليهوآله» حين أمر أصحابه بإيقاد عشرة آلاف نار .. الأمر الذي
بهر عتاة وجبابرة أهل الشرك ، وفراعنة قريش.
وقد
تقدم : أن أبا سفيان
، وحكيم بن حزام ، وابن ورقاء فزعوا فزعا شديدا حين رأوا تلك النيران ، كأنها
نيران عرفة.
ولو لا أنهم
رأوا القباب والعسكر الجرار ، وسمعوا صهيل الخيل ، ورغاء الإبل ، لأمكن أن يتسرب
إلى أوهامهم احتمال أن تكون فئة صغيرة هي التي أوقدت هذه النيران الكثيرة.
لقد تأكد لديهم :
١ ـ أن من يوقد
هذه النيران ، يريد أن يعلم أعداءه بحضوره ، غير آبه بهم ، ولا خائف منهم .. وأنه
لم يأت متسللا ، ولا مغيرا يريد أن يربح المعركة عن طريق المباغتة ، لتعوض
المباغتة ضعفه ، أو لتوهن شيئا من قدرات عدوه ..
٢ ـ إنه يريد
بإيقاد هذه النيران الكثيرة أن يظهر حجم قوته ،
وحضورها ، وسعتها وامتدادها ، لتساعد تلك النيران أولئك الناظرين الذين قد
يكونون في مرتفع ، على رؤية أول وآخر رجل جاء لقتال عتاة الشرك ، من دون أن تغرقهم
عيونهم في ضباب الإبهام ، بسبب الظلمة التي قد تمنع العيون من الإحاطة بها.
وتبين حجم
الامتداد والسعة إذا كان ذلك الجيش عشرة آلاف مقاتل ، ومعهم الخيول المقاتلة ،
والإبل الحاملة للأثقال ، والمساعدون ، وربما الكثير من النساء ، والأتباع .. فإن
ذلك يحتاج إلى مساحات شاسعة في حركة ذلك الجمع وفي نزوله على حد سواء.
إذن ، فقد كان
طبيعيا أن يتحير أبو سفيان ومن معه في هوية هذا الجيش الذي أمامهم هل هو خزاعة ،
أو تميم ، أو ربيعة؟!.
إن لقيت محمدا فخذ لنا أمانا :
وأما
بالنسبة إلى ما رواه عروة : من أن قريشا قالت لأبي سفيان : إن لقيت محمدا فخذ لنا
منه أمانا ، فلا يمكننا تأييده. خصوصا إذا صدقنا عروة في زعمه : أن قريشا كانت قد
علمت بمسير النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
لأنها إن كانت
تعلم بمسير النبي «صلىاللهعليهوآله» إليها ، أو لو علمت بالمسير دون أن تعلم بالمقصد ، فإن
المفروض بها : أن تحتاط للأمر ، وتتجهز للقائه في ساحات القتال ..
إلا إذا كان قد
بلغ بها الضعف حدا يدعوها للاستسلام على كل حال .. ففي هذه الحالة لم يكن ثمة داع
لاستسرار النبي «صلىاللهعليهوآله» بمسيره ، وبمقصده؟!
اللهم
إلا إذا فرض : أنه «صلىاللهعليهوآله» لا يعلم بضعف قريش هذا .. وهو أمر لا مجال لقبوله ،
فإنه «صلىاللهعليهوآله» كان مطلعا على أحوال مكة ، واقفا على قدراتها ، عارفا
بنواياها ، وتوجهاتها.
بل إن الأمر قد
كان ميسورا لأي قائد آخر ، إذ إن عهد الحديبية قد سهّل انتقال أخبار مكة وأهلها
إليه ، خصوصا من مسلمي مكة الذين كانوا منتشرين في مختلف البيوت ، ومن جميع
الطبقات والفئات.
العباس الناصح لقريش على بغلة رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وواضح
: أن ركوب
العباس على بغلة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وبحثه عن رسول يرسله إلى قريش ، لا يمكن أن يكون
بدون علم النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» ، بل ذلك ـ فيما يظهر ـ داخل في صلب خطة النبي «صلىاللهعليهوآله» لأخذ مكة من أولئك الجبارين والظالمين من دون قتال ،
وذلك باعتماد طريقة ترسيخ القناعة لدى أقطابها بعجزهم عن مناجزته الحرب ، إلا إذا
كانوا يريدون أن يلقوا بأيديهم إلى الدمار والبوار.
وقد كان العباس
أفضل رسول إلى قريش وزعمائها ، فإنهم على قناعة تامة بأنه لا يمكن أن يفرط بهم ،
كما أثبتته لهم تجربتهم الطويلة معه ..
فإذا جاءتهم
النصيحة من قبل العباس ، فإنهم لا يرفضونها ، ولا يستغشونه.
وقد ظهر من
تفدية أبي سفيان للعباس بأبيه وأمه ، مدى عمق علاقة المودة والصفاء فيما بينهما ،
حتى إنه يجعل نفسه رهن إشارة العباس ..
ثم يظهر العباس
هنا بمظهر القوي الحازم ، الذي يفرض رأيه وقراره
بدون أي تحفظ ، بل هو يقول لأبي سفيان : ثكلتك أمك وعشيرتك.
على أن نفس
ركوب العباس بغلة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، من شأنه أن يطمئن أولئك المعاندين والمستكبرين إلى
أن مكانة أبي الفضل محفوظة عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأن كلمته مؤثرة لديه.
كما أن أحدا من
المسلمين لا يجرؤ على إخفار جواره ، إذا دخلوا هذا المعسكر العرمرم معه وفي حمايته
، فكيف إذا أردف رأس الشرك خلفه ، وحمله معه؟
فالعباس بعد كل
هذا هو الوسيلة الأكثر أمنا في الطريق ، والأكثر فاعلية وتأثيرا لدى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
وربما يكون
هناك اتفاق على طريقة عمل فيما بين العباس وبين هؤلاء ، وقد تغاضى النبي «صلىاللهعليهوآله» عن التصريح للعباس بمعرفته بها .. واستفاد العباس في
الوصول إلى الهدف الكبير والخطير ، ألا وهو دخول مكة من دون إراقة دماء .. كما
سيتضح في المطالب التالية ..
علم العباس بمكان أبي سفيان :
وبعد
.. فإننا لا
نستطيع أن نصدق ما يذكرونه من أن العباس قد ذهب إلى الأراك يبحث عن حطاب ، أو عن
صاحب لبن ليرسله إلى قريش ليحذرها من هذا الجيش القادم ، ويدعوها إلى المبادرة إلى
أخذ الأمان من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
بل
الذي يظهر من مسار الأحداث هو : أن العباس كان عالما بمكان أبي سفيان ، وبديل بن ورقاء
، وحكيم بن حزام ، وقد قصدهم ليأتي بهم ..
الأمر الذي يشير إلى أنه قد يكون هناك اتفاق فيما بينه وبينهم على كل ما
يجري ، إذا أردنا أن نظن أنه كان معهم من أول الأمر ، ثم لما رأوا الجيش أرسلوه
إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فأسلم ، وتوسط لهم لديه ، ثم عاد ليأتي بهم. ولعله كان
يظن أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يلتفت إلى طبيعة حركة العباس في التمهيد لاستسلام
أبي سفيان.
والذي
يدعونا إلى اعتماد هذا الاتجاه : أننا لا حظنا فيما سبق أن العباس كان من الطلقاء ، وأن
الدلائل والشواهد لا تؤيد هجرته ولا حتى ملاقاته للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، لا في ذي الحليفة ، ولا الجحفة ، ولا السقيا ، ولا
الأبواء ، ولا .. ولا ..
وقد
لا حظنا هنا أيضا ما يلي :
١ ـ إنه لا
معنى لقولهم : إن العباس قد ذهب يبحث عن حطاب ، أو صاحب لبن ، ليرسله إلى أهل مكة
.. إذ إن الوقت كان ليلا ، ولا يوجد حطاب ولا صاحب لبن في هذا الوقت ..
٢ ـ إن الحطاب
أو صاحب اللبن إن كان من أهل مكة ، فإنه لا يأتي من مكة كل هذه المسافة ، بل هو
يحتطب ويرعى في محيط مكة نفسها.
وإن كان ممن
يسكن الأراك ، ومر الظهران ، فلماذا يبحث عن حطاب أو صاحب لبن (راع) ويترك سكان
البيوت في تلك المنطقة ، فليقصدهم ، وليكلف واحدا منهم بهذه المهمة ..
٣ ـ إن أمرا
بهذه الخطورة ، وقرارا بهذا الحجم ، وهو : أن يستسلموا ، ويسلموا مكة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا يصدق فيه حطاب ، أو صاحب لبن ، بل هو يحتاج إلى
آراء الرجال التي يسكن إليها ، ويعتمد
عليها ، فكيف إذا كان هذا الرسول ممن يظن فيه أن يكون العدو قد أرسله إليهم
، ليسقط مقاومتهم ، ويضعف إرادتهم ، ويؤثر على قرارهم عن هذا الطريق ، وبهذا
الأسلوب ..
٤ ـ لماذا خرج
العباس بهذه المهمة ليلا ، ولم يخرج لها نهارا؟!
٥ ـ ما هذه
الصدفة التي جعلت العباس يسمع كلمات أبي سفيان ويفهمها ، في حين كان أبو سفيان
يحتاج إلى أن يتكلم بصوت خفيض لكي لا يشعر ذلك الجيش أو حرّاسه بوجوده.
كما
أن المفروض : أن العباس يركب بغلة لا تراعي في مسيرها عنصر السرية ، ولا تسعى لإخفاء
أصوات وقع حوافرها ، ولعلها أصوات قوية ، لما تصادفه في طريقها من الحجارة وغيرها
، خصوصا مع عدم قدرتها على الرؤية التي تمكنها من تجنب بعض الأحجار الكثيرة وسواها
بسبب الظلام.
فلماذا لم يسمع
أبو سفيان ورفيقاه وقع حوافر بغلة العباس ، ليختاروا السكوت حتى يتبين لهم من
يقصدهم؟! فلعله من أعدائهم الذين يجب أن يحترزوا منهم؟!
عمر وأبو سفيان :
وقد أكدت
النصوص أيضا هذه النتيجة التي انتهينا إليها ، فقد روي عن أبي ليلى ، قال : كنا مع
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بمرّ الظهران ، فقال : «إن أبا سفيان بالأراك فخذوه»
فدخلنا ، فأخذناه .
__________________
فبينما هم ـ يعني
أبا سفيان ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ـ كذلك ، لم يشعروا حتى أخذهم نفر كان
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بعثهم عيونا له ، فأخذوا بخطم أبعرتهم.
فقالوا
: من أنتم؟
فقالوا
: هذا رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» وأصحابه.
فقال
أبو سفيان : هل سمعتم بمثل هذا الجيش ، نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ .
ورووا
: أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قال للناس : إنكم لاقون بعضهم ، فإن لقيتم أبا سفيان
فلا تقتلوه .
وعن
عكرمة : أن أبا سفيان
لما أخذه الحرس قال : دلوني على العباس ، فأتى العباس فأخبره الخبر ، وذهب به إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .
فنستفيد
من هذه النصوص ، ومن جميع النصوص المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» هو الذي أرشدهم إلى وجود أبي سفيان بالقرب منهم ، وحدد
لهم المكان الذي كان فيه ، وأمرهم بأخذه ، فأخذوه ومن معه من دون أن يشعروا ،
ويبدو أن العباس كان مع تلك المجموعة ، فطلب أبو سفيان
__________________
منه أن يتولى حمايته ، وإيصاله إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ليأمن على نفسه ، فحمله على البغلة التي أذن له
النبي «صلىاللهعليهوآله» بركوبها ، لعلمه بالحاجة إليها خصوصا في هذا المورد.
ثم لقيهم عمر
بن الخطاب في الطريق وعرف أبا سفيان ، فحاول أن يستفيد من الفرصة لإظهار حرصه
وغيرته على الإسلام ، وشدته في مناوأة أعدائه ، فطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يأذن له في قتله.
ولعله
كان يعلم : أنه «صلىاللهعليهوآله» لن يأذن له ، وذلك قياسا على الموارد الكثيرة جدا التي
لم يستجب النبي «صلىاللهعليهوآله» لطلبه فيها ولو مرة واحدة بأن يأذن له بقتل أسرى.
ترهات وأكاذيب :
وبعد
ما تقدم نقول :
إن
أبا سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قالا : أخذ أبو سفيان وأصحابه وكان حرس رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفر من الأنصار ، وكان عمر بن الخطاب تلك الليلة على
الحرس ، فجاؤوا بهم إليه.
فقالوا
: جئناك بنفر
أخذناهم من أهل مكة.
فقال
عمر ، وهو يضحك إليهم : والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم.
قالوا
: قد والله
أتيناك بأبي سفيان.
فقال
: احبسوه ،
فحبسوه حتى أصبح ، فغدا به على رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وقال
ابن عقبة : لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه ، لقيهم العباس
بن عبد المطلب ، فأجارهم .
ونقول
:
أولا
: من الواضح :
أن النصوص المتقدمة وهي الأكثر عددا ، والأوضح سندا والمعتمدة لدى المحدثين
والمؤرخين ، تدحض هذه المزاعم وتسقطها.
ثانيا
: بالنسبة لما
قيل من أنه لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه لقيهم العباس فأجاره نقول : إنه لا
يصح إجارة المحارب بعد أسره .. وذلك واضح.
ثالثا
: لا ندري لماذا
جعل النبي «صلىاللهعليهوآله» الحرس من خصوص الأنصار ، ولم يجعل بينهم أحدا من
المهاجرين ، ولا من غيرهم من مسلمي سائر البلاد ، إلا إذا كان يتهم المهاجرين
بمحاباة قومهم ، أو بالتواطؤ معهم ضده ..
كما إننا لم
نفهم لماذا خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن المألوف منه في الموارد المشابهة ، وجعل هنا فقط
خصوص عمر ـ وهو من المهاجرين ـ على جماعة الأنصار؟!
بديل بن ورقاء خزاعي :
وزعمت
بعض النصوص : أن بديل بن ورقاء هو الذي توهم أن ذلك
__________________
الجيش النبوي العظيم الذي رأوا نيرانه هو قبائل خزاعة.
ويرد
عليه : أن بديل بن
ورقاء كان خزاعيا ، وكان يعرف خزاعة وحججها ، وهذا يرجح الرواية التي تقول : إن
رجلا آخر قال : هذه خزاعة ، فقال له بديل : هؤلاء أكثر من خزاعة .
ما هذا التصافي والإنسجام؟! :
ثم إن ما يثير
العجب هنا هو هذا التوافق والإنسجام التام بين بديل بن ورقاء ، الزعيم الخزاعي ،
وبين زعماء قريش ، التي شاركت في البطش بقومه ، وارتكبت مجزرة رهيبة في حقهم ،
ونقضت العهد مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالتعدي عليهم .. مع كون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إنما يقدم مكة بهذا الجيش غضبا لخزاعة ، وسعيا لتأديب
قريش ، والقضاء على بغيها وجبروتها الظالم.
ويؤكد
هذا الذي نقوله : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حين أجاب حكيم بن حزام بقوله : «أنتم أظلم وأفجر ، قد
غدرتم بعقد الحديبية ، وتظاهرتم على بني كعب ـ يعني خزاعة ـ بالإثم والعدوان ، وفي
حرم الله وأمنه». قال بديل بن ورقاء الخزاعي : «صدقت ـ والله ـ يا رسول الله ، فقد
غدروا بنا. والله لو أن قريشا خلوا بيننا وبين عدونا ما نالوا منا الذي نالوا» .
فإذا كان بديل
يرى قريشا غادرة فاجرة ، فما هذا التعاون والانسجام
__________________
مع زعمائها ضد حليفه الذي جاء لنصره ، ورفع الظلم عنه؟!
والأكثر
غرابة هنا : أن يكون هذا الود والصفاء بين بديل وبين أبي سفيان بالذات ، فإن أبا سفيان
هو الذي أرسلته قريش إلى المدينة ليحتال على النبي «صلىاللهعليهوآله» وعلى المسلمين ، ليضيع دماء أبنائهم ، وليساعد الغدرة
والظلمة في غدرهم وظلمهم ، وفي التغطية عليهم ، وإنكار حق خزاعة حتى بديات قتلاهم.
وقد
قلنا فيما سبق :
إن فعل أبي
سفيان هذا لعله أفحش وأقبح من فعل ناقضي العهد ، ومرتكبي الجرائم في حق خزاعة ..
حماس عمر لقتل أبي سفيان :
وقد
قرأنا في تلك النصوص أيضا : شدة حماس عمر لقتل أبي سفيان بمجرد أن رآه مع العباس
على بغلة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
ولكن ذلك يثير
لدينا ألف سؤال وسؤال عن مدى وعي عمر للأمور ، وتقديره لها ، وغير ذلك .. وأول
سؤال يقفز إلى الذهن هو : هل كان دائما يتحمس لقتل أبي سفيان بيده حتى في ساحات
القتال في المعارك السابقة؟!
وإذا كان كذلك
، فهل هو في مستوى حماسه لقتله حين رآه أسيرا في يد أهل الإسلام ، لا حول له ولا
قوة؟!
أم أنه كان في
ساحات القتال في زمرة الضعفاء من المقاتلين ، وفي طليعة المنهزمين حين تستعر نار
الحرب ، ويروج سوق الطعن والضرب؟!
وهل كان في
الصفوف الأولى يبارز الفرسان ، ويناجز الشجعان؟ أم
كنت تراه في الصفوف الخلفية ، يحتمي بغيره ، ومشغولا بحفظ نفسه؟!
تناقضات مواقف عمر وأبي بكر :
وقد كان عمر لم
يزل يطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يدعه يضرب عنق هذا الأسير وذاك .. وقد تكرر منه ذلك
مرات كثيرة جدا ، وكان هو المطالب بقتل أسرى بدر ، حتى رووا في ذلك روايات شنيعة
المضمون ، من حيث إنها تهدف إلى الطعن بالرسول الأكرم نفسه «صلىاللهعليهوآله» ـ حسبما تقدم بيانه في غزوة بدر ، في فصل الغنائم
والأسرى.
وقد كان أبو
بكر قرين عمر ، وصفيه وحبيبه ونجيّه ، وكانا معا يدا واحدة في كل ما يجري ، فلماذا
نجد لأبي بكر مسارا آخر في هذه الأمور بالذات؟ فكيف اتفقا في سائر القضايا واختلفا
في خصوص هذا الأمر؟!
بل لم نسمع أن
أبا بكر قد أيد عمر في مواقفه هذه إلا مرة واحدة ، وانعكست الأمور بينهما في مرة
واحدة أيضا .. أي أن عمر كان هو الميال للقتل والعنف ، وكان أبو بكر باستمرار هو
الذي يهدئه ، ويفثؤه ، ويردعه عن مضايقة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويمنعه من مواصلة الإلحاح عليه .. باستثناء مورد
واحد ، انعكست فيه الأمور ، وتبدلت المواقف ، فصار عمر هو حمامة السلام ، والداعي
للصلح والمداراة والوئام .. وأصبح أبو بكر في موقع المصمم على الحرب والقتال مهما
كانت النتائج ..
ولكن هذا
التفاوت قد ظهر حين أصبحت الحرب مع المسلمين الرافضين للإعتراف بشرعية خلافة أبي
بكر ، وأصروا على عدم إعطائه
الزكاة ، ولم يكفروا بعد إسلامهم ، فأصر أبو بكر على حربهم.
وأطلق
كلمته المشهورة : «لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم (أو لقاتلتهم) عليه» .
والمورد
الواحد الذي اتفق فيه هذان الرجلان هو : مخالفة أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في قتل أصل الخوارج ، فنشأ عن مخالفة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فيه مفسدة عظمى حاقت بالأمة ، ولا تزال آثارها تتفاعل
فيها إلى يومنا هذا.
فقد
رووا : أن أبا بكر
قال للنبي «صلىاللهعليهوآله» : إني مررت بوادي كذا وكذا ، فإذ رجل متخشع ، حسن
الهيئة ، يصلي ..
فقال
له النبي «صلىاللهعليهوآله» : إذهب إليه فاقتله.
فذهب إليه ،
فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله ، فرجع إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» لعمر : إذهب فاقتله.
فذهب إليه فرآه
على تلك الحال فكره أن يقتله.
فقال
«صلىاللهعليهوآله» لعلي «عليهالسلام» : اذهب فاقتله .. فذهب إليه فلم يجده.
فقال
النبي «صلىاللهعليهوآله» : إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا
__________________
يجاوز تراقيهم. وذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين ، وفي آخره : فاقتلوهم
هم شرّ البرية .
وفي
نص آخر : فقال علي «عليهالسلام» : أفلا أقتله أنا يا رسول الله؟!
قال
: بلى أنت تقتله
إن وجدته .. فانطلق علي «عليهالسلام» فلم يجده .. أو نحو ذلك .
ولكن
ما يمكن أن نعتبره قاسما مشتركا فيما بين جميع هذه الموارد هو : أن هذا المورد الأخير قد جاء موقفهما فيه مخالفا لأمر
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
__________________
وموقف أبي بكر
في قتل مانعي الزكاة هو الآخر مخالف لله ولرسوله .. وقد عاد عمر إلى رأي أبي بكر
ووافقه عليه أيضا ..
كما أن طلبات
عمر المتكررة بأن يجيز له الرسول قتل هذا وذاك قد جاءت كلها على خلاف ما يريده
الله ورسوله أيضا ..
فما هذا
التوافق العجيب بين أبي بكر وعمر في هذين الموردين على خلاف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأن تكون جميع مواقف عمر مخالفة لما يريد الله
ورسوله في جميع المواقف المختلفة؟! ..
لا مبرر لقتل أبي سفيان :
١ ـ إن عمر كان
مهتما بقتل أبي سفيان ، مع أنه يعلم : أن هناك مسلمين كثيرين يعيشون في مكة ، وإن
قتله قد يؤدي إلى ارتكاب المشركين مجزرة هائلة في حقهم فيما لو حصل هيجان عارم لا
يخضع للمنطق ، ولا يستجيب لنداء العقل ..
٢ ـ المفروض أن
أبا سفيان قد أصبح في قبضة أهل الإسلام ، ولعل ذلك يفسح المجال لاتفاقات تؤدي إلى
حقن الدماء ، وانطلاقة الإسلام بقوة في تلك المنطقة ، فلماذا لا يترك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليعالج الأمور بحكمته ورويته؟! ..
٣ ـ لماذا لا
يسعى عمر لإدخال أبي سفيان في الإسلام؟ ألم يكن إسلام أبي سفيان أحب إلى رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» من قتله؟!.
مع
ملاحظة : أن عمر كان
يحب إسلام العباس أكثر من حبه لإسلام أبيه الخطاب لو كان حيا ، لعلمه بسرور رسول
الله «صلىاللهعليهوآله»
بإسلام عمه ..
إلا
إذا كان عمر يرى : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» إنما يرغب بإسلام عمه .. لأنه عمه ، ولا يرغب بإسلام
أبي سفيان تعصبا منه ضد بني عبد شمس ، ولأنه عدوه المحارب له. فالعصبية العشائرية
هي الحاكمة على مواقفه وتصرفاته «صلىاللهعليهوآله» ، وهذا المنطق سيء وخطير ، لأنه ينتهي إلى الطعن بنبوة
النبي «صلىاللهعليهوآله» في عصمته وحكمته ، ومزاياه. وهو مرفوض جملة وتفصيلا ..
اتهام العباس لعمر بن الخطاب :
إن العباس قد
سجل اتهاما صريحا لعمر في نواياه ، وفي نوازعه العشائرية ، وتعصباته القبائلية حين
قال له :
«مهلا يا عمر!
فو الله ، لو كان من رجال بني عدي ما قلت هذا. ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد
مناف».
ولم يستطع عمر
أن يدفع عن نفسه هذه التهمة إلا بادعاء آخر ، من شأنه أن يزيد من وطأة اتهامه في
نواياه ، وهو أنه كان يحب إسلام العباس ، لأن ذلك يسر النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
مع
العلم : بأن إسلام أبي
سفيان أيضا كان يسر النبي «صلىاللهعليهوآله» ، لأن هداية نسمة خير مما طلعت عليه الشمس ، ولأن ذلك
قد يوجب تنفيس الإحتقان في المنطقة بأسرها. ولعل إسلام غيره ليس بهذه المثابة ..
فلماذا يريد
عمر قتل هذا ، ولا يهتم بإسلامه ، دون ذاك؟!.
ونريد أن لا
تفوتنا الإشارة إلى أن هذا الإتهام نفسه قد يوجه إلى عمر
حين طالب بقتل أسرى بدر ، حيث لم يكن فيهم أحد من بني عدي أيضا .
إسلام العباس .. وإسلام الخطاب :
وبعد
.. فإننا لم نستطع أن نتبين وجها مقبولا أو معقولا لقول عمر : إن إسلام العباس كان أحب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من إسلام الخطاب ..
وإنه «صلىاللهعليهوآله» يريد إسلام كل الناس ، ولا يفرحه إسلام هذا أكثر من
إسلام ذاك ، ولعل إسلام سلمان الفارسي كان أحب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من إسلام العباس ، إذ كان إسلام سلمان من موجبات القوة
للدين ، أو كان أكثر صفاء ، وأعظم رسوخا ، وقوة وعمقا ..
ومن الذي أخبر
عمر بواقع إيمان الناس ، وبدرجات رسوخ الإيمان في قلوبهم؟!
ومع غض النظر
عن ذلك كله ، يبقى سؤال نطالب عمر بالإجابة عنه ، وهو : إذا كان قد عرف محبة رسول
الله «صلىاللهعليهوآله» لإسلام العباس ، فهل هو أيضا قد عرف كراهته لإسلام أبي
سفيان؟!.
ولماذا كان في
أيام خلافته يعظم أبا سفيان والعباس ويقدمهما بصورة لافتة ، فقد كان يفرش لعمر
فراش في بيته في أيام خلافته ، فلا يجلس عليه أحد إلا العباس بن عبد المطلب وأبو
سفيان بن حرب.
__________________
زاد
المبرد قوله : هذا عم رسول الله ، وهذا شيخ قريش .
جوار العباس :
وقد
ذكرت الروايات المتقدمة : أن العباس قال لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» إنه أجار أبا سفيان.
وذكرت
أيضا : أنه أجار بديل
بن ورقاء ، وحكيم بن حزام ..
ونقول
:
إنه جوار لا
يصح ، بل هو غير جائز ، إذا كان يريد بهذا الجوار منع النبي «صلىاللهعليهوآله» من التصرف المناسب في حق أبي سفيان ، وفي حق بديل ،
وحكيم ..
ويشهد
لذلك : أنه لما قدم
أبو سفيان المدينة يطلب تجديد عهد الحديبية ، والزيادة في المدة ، وطلب من رجالات
الصحابة أن يجيروا بين الناس ، قد واجه رفض ذلك منهم جميعا ، وكانت حجتهم أنه ليس
لأحد أن يجير على رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ولأجل
ذلك نلاحظ : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كما لم يلتفت إلى مطالبات عمر بن الخطاب بقتل أبي
سفيان ، لم يقم وزنا لجوار العباس لهؤلاء أيضا ، بل بقي مصرا على إجراء حكم الله
تعالى فيهم ، إن لم ينطقوا بالشهادتين.
وهذا
ما يدعونا إلى القول :
إنه إن كان قد
أجار أحدا من هؤلاء ، حتى على رسول الله «صلى الله
__________________
عليه وآله» ، فهو مخطئ بلا ريب. وهو لا يلزم لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» بشيء من ذلك. وقد ظهر من تعامل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» معهم : أنه لم يلتفت إلى ما ادّعاه العباس من جوار ..
وإن
كان العباس قد أجار هؤلاء الثلاثة : أبا سفيان ، وحكيما وبديلا من سائر الناس لكي يصلوا إلى
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» سالمين ، ليرى فيهم رأيه ، فهو تصرف مقبول ، ويكون قول
العباس لعمر عن أبي سفيان : إني قد أجرته مجرد محاولة لحمايته من عمر ، لكي لا
يتسرع في الإقدام على أمر خطير كهذا ..
هل مكث أبو سفيان عند النبي صلىاللهعليهوآله عامة الليل؟ :
وهناك
رواية ذكرت : أن العباس حين أدخل أبا سفيان وحكيما وبديلا على النبي «صلىاللهعليهوآله» مكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم .. وانتهى الأمر
بإسلام بديل وحكيم ، ولكن أبا سفيان طلب التأجيل.
ونقول
:
أولا
: إننا نشك في
أن تكون هناك تفاصيل كثيرة ترتبط بشؤون الحرب ويحتاج النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى الوقوف عليها منهم ، ويستغرق الاستخبار عنها هذا
الوقت الطويل (عامة الليل). لا سيما وأن هذا الجيش الكبير قد ظهر ببلادهم فجأة ،
ولم يكن لديهم أية فرصة للإعداد والإستعداد ، وجمع الناس من البلاد.
ولو
فرض : أنه كان يريد
أن يستخرج منهم بعض الأمور ، فلماذا لا يوكل أمر سؤالهم عنها إلى غيره؟!
ثانيا
: إذا كان
العباس قد أسلم ، وكان مقيما بمكة مثلهم ، فإنه هو الآخر يستطيع أن يخبر النبي «صلىاللهعليهوآله» بما يريد معرفته.
ولو
فرضنا : أنه كان قد
خرج من مكة قبلهم ، وقد استجدت أمور بعده ولم يعلم بها ، فإن تلك الأمور لا تحتاج
في الاستخبار عنها إلى هذا الوقت الطويل.
ثالثا
: لماذا يشعرهم
بأنه محتاج إلى ما عندهم ما دام أنه مسدد بالوحي الصادق؟ في حين أن المصلحة تقضي
بأن يظهر لهم التسديد والرعاية الإلهية له ولمسيرته «صلىاللهعليهوآله» ..
إلا
أن يقال : إنه «صلىاللهعليهوآله» إنما كان يتعامل مع الأمور وفق مسارها الطبيعي ، لا من
خلال الوحي ، والغيب ، إلا في مواقع معينة ، ووفق شروط وضوابط لا تكون متوفرة في
هذا الموقف ..
رابعا
: هل كانوا
مأمونين على ما يخبرونه في الأمور التي يسألهم ، حتى لو افترضنا حاجته إلى العلم
بها؟!
ملك أم نبوة؟! :
لقد مضى على
بعثة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أكثر من عشرين سنة ، عاش منها ثلاث عشرة سنة في مكة ،
وأظهر لهم فيها تعاليم الإسلام ، وبيّن للناس تعاليمه وأحكامه ، وقرأ عليهم
القرآن. وقد رأوا عن كثب معاملته لأصحابه ، ونظرة أصحابه إليه ، وتعاملهم معه. كما
أنهم حتى بعد هجرته إلى المدينة في السنوات الثماني الأخيرة ، لم ينقطعوا عن تتبع
أخباره ورصد حركته.
ولكنهم بالرغم
من ذلك كله ، ما زالوا يظهرون في أفعالهم وأقوالهم ما يشير إلى خطأ فاحش في أساس
نظرتهم إليه ، وإلى تعاليمه. ويتجلى ذلك في حوادث فتح مكة المختلفة ، فقد حفلت
تصريحات كثيرة لزعمائهم ، بأن ما يرونه لدى محمد «صلىاللهعليهوآله» هو الملك. رغم أنهم قد شاهدوا الكثير من المعجزات
والكرامات الدالة على أنها النبوة ، والرعاية والإرادة الإلهية ..
ومن المفردات
التي تدخل في سياق هذه السياسة من هؤلاء العتاة قول أبي سفيان للعباس أكثر من مرة
: «لقد أصبح ابن أخيك ـ والله ـ عظيم الملك». أو «ما رأيت ملكا قط كاليوم ، لا ملك
كسرى ولا قيصر» أو نحو ذلك ..
ويجيبه العباس
بأنها النبوة ، وليست الملك ..
ومن
ذلك أيضا : أن حكيم بن حزام حين قيل له : بايع.
قال
: «أبا يعك ، ولا أخر إلا قائما».
فهو يراه ملكا
مثل سائر الملوك ، في فارس والروم وغيرها ، لا بد من أن يخضع الناس له إلى حد أنهم
يخرون سجدا أو ركعا بمجرد رؤيته تحية له .. وكأن حكيم بن حزام أراد أن يشترط لنفسه
أمرا يمتاز به عن غيره من العرب ، وهو : أن لا يخر ساجدا أو راكعا في تحيته له ،
بل يحييه وهو قائم.
ولكن
جواب النبي «صلىاللهعليهوآله» لحكيم قد بيّن : أنه لا توجد مطالب من هذا النوع في قاموس تعامل الناس
مع النبي «صلىاللهعليهوآله» .. فهو يقول : أما من قبلنا فلن تخر إلا قائما .. أي
أنه ليس في شرعنا ، ولا في قراراتنا المرتبطة بالتعامل مع الآخرين أي خضوع يصل إلى
حد
الركوع والسجود لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
عمر لا يراعي مجالس رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وإذا صح ما
ذكروه عن عمر بن الخطاب ، من أنه قال لأبي سفيان الذي كان في محضر النبي «صلىاللهعليهوآله» : إخرأ عليها (أي على العزى) فهو غير مقبول منه من
جهات :
إحداها
: أنه يمثل جرأة
على مقام رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وخروجا عن الحدود ، ومخالفة لأبسط اللياقات التي
يفترض مراعاتها في مجالس الناس العاديين ، فكيف إذا كان ذلك بمحضر رسول الله «صلىاللهعليهوآله». سيد رسل الله ، وأفضل مخلوقاته تبارك وتعالى؟!
وقد
أظهر أبو سفيان تقززه من هذا الفحش ، فقال : أف لك ما أفحشك! أو قال : ويحك يا عمر ، إنك رجل فاحش.
ويمكن أن يكون قد قال الكلمتين معا أيضا.
الثانية
: إن ما صنعه
عمر قد جاء على سبيل استراق السمع المذموم ، وبطريقة الفضول والتدخل فيما لا يعنيه
، فهو إنما كان في خارج القبة ، وقد ألقى كلامه من وراء الحجاب ، من دون ان يدعوه
أحد إلى ذلك ..
ولذلك
قال أبو سفيان : «ما يدخلك يا
عمر في كلامي ، وكلام ابن عمي».
أو
قال : «دعني مع ابن عمي ، فإياه أكلم». ولعله قال الكلمتين
معا.
الثالثة
: إن هذا من
الموارد التي ورد النهي عنها في القرآن الكريم بخصوصها ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . فلماذا يتدخل عمر ويقدم بين يدي الله ورسوله؟!
وعلينا أن لا
نغفل الإشارة إلى تعبير أبي سفيان عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بقوله : ابن عمي ، معتبرا عمر بن الخطاب رجلا غريبا
عنهما ، لكونه من بني عدي. فهو ينطلق من موقعه العشائري ليقطع بذلك الطريق على عمر
..
ولعل السر في
أننا لم نسمع أي تعليق أو اعتراض من النبي «صلىاللهعليهوآله» على هذا المنحى ، ولم يقل لأبي سفيان أن المعيار هو
الأخوة الإيمانية والقرابة الدينية لا العشائرية .. هو : أن بإمكان أبي سفيان أن
يتنصل من هذا الأمر ، ويفكر في أن يكون ذلك محط تفكيره ومرمى كلامه.
أبو سفيان يخاف من الأذان والصلاة!! :
وقد
زعمت النصوص : أن أبا سفيان قد فوجئ بأذان المسلمين ، وقيامهم إلى طهورهم ، فسأل العباس
، فأجابه بأنها الصلاة.
ونقول
:
١ ـ قد يقال :
إن أبا سفيان كان قد رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين يصلون في مكة قبل الهجرة طيلة ثلاث عشرة سنة
، ورآهم في المدينة قبل مدة يسيرة ، حينما ذهب ليطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» تجديد العهد ، والزيادة في المدة ، وسمع فيها الأذان ،
وبقي أياما يتصل برجالات المهاجرين والأنصار ، يطلب منهم مساعدته فيما جاء له ..
__________________
فما
معنى : أن يفزع من
الأذان في هذه المرة؟!
والحقيقة
هي : أن أبا سفيان
قد سمع العسكر يجيبون المؤذن بصورة جماعية ، فظن أنهم قد اتفقوا على أمر بعينه.
ويدل
على ذلك : أن المسلمين
حين قاموا إلى طهورهم ، قال أبو سفيان للعباس : «ما للناس؟! أمروا فيّ بشيء»؟!
وهذا
على قاعدة : كاد المريب أن يقول : خذوني.
أو كما قال
تبارك وتعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ..) .
ونحن وإن كنا
لا نستبعد احتمال أن يكون أبو سفيان قد رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» يصلي في المسلمين جماعة في المدينة ..
غير
أننا نقول :
إن صلاة عشرة
آلاف رجل في جماعة واحدة مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا بد من أن يخيف أبا سفيان ، ويحركه إلى الإستفهام ..
ونعتقد
: أننا لسنا
بحاجة إلى بيان : أن الوضوء الذي نسبته بعض الروايات المتقدمة إلى أبي سفيان ، وأن
العباس أمره فتوضأ ، إنما يقصد به مجرد غسل الوجه واليدين .. ولا يراد به الوضوء
بمعناه الشرعي عند أهل الإسلام ، لأن أبا سفيان لم يكن قد أسلم آنئذ.
أسلم تسلم :
لقد حاول أبو
سفيان التسويف في الإقرار بالشهادتين ، ربما لأنه كان
__________________
يأمل بتجاوز هذه المرحلة ، وهو يريد أن يحتفظ لنفسه بوضع خاص ، يحفظ له
محوريته بين أهل الشرك ، ومرجعيته لهم.
أو على الأقل
يريد أن يكون له ملك في مقابل نبوة محمد ، التي حاول أن يصر على أنها مظهر من
مظاهر الملك أيضا .. فطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يرجئ طلب الإقرار بالشهادة له بالنبوة.
فأعطاه «صلىاللهعليهوآله» فرصة ليتدبر أمره في تلك الليلة. وفي اليوم التالي :
عاد ليكرر ذلك الطلب عليه ، ويعود أبو سفيان إلى المراوغة مرة بعد أخرى ، معتمدا
على معسول من الكلام ظنا أنه يبلّغه إلى ما يريد ..
ولكن القضية لم
تكن قابلة للإستمرار ، لأن أبا سفيان ظل منذ أن بعث الله محمدا «صلىاللهعليهوآله» يرتكب أعظم الجرائم والموبقات ويحارب الله ورسوله ،
ويتسبب بإزهاق الأرواح ، وظلم النفوس ، والعدوان على الناس في كراماتهم ، وفي
حرياتهم ، وفي جميع الشؤون .. ولا بد من إزالة تبعات ذلك كله ، إما بالجزاء العادل
، وهو مواجهة القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فيما لو أصر على اللجاج والعناد
، وعلى إعلان الحرب على الحق وأهله بالسيف ، وبالكلمة ، وبالموقف. وهذا في حد نفسه
جرم عظيم ، وظلم جسيم للدين وللمؤمنين .. ولا مجال للتجاوز عنه أو التساهل فيه .. لأنه
يقود إلى إضلال الناس ، أو إلى استمرار كثير من الضالين على ضلالهم. وإما أن
يتراجع عن شركه ، ويعلن إسلامه ، وبطلان ما كان عليه ، ويقر بخطئه في مواقفه ، وفي
ممارساته السابقة. وبذلك يستفيد من سماحة الإسلام الذي منحه عفوا في الدنيا عن
جرائمه وعفوا في الآخرة إن تاب توبة نصوحا ..
فيكون باختياره
للإسلام قد سهل مهمة انتشار دعوة الحق ، وازال من أذهان بعض المستضعفين الذين
يرتبطون به ، بنحو أو بآخر ، أية شبهة ، ورفع أنواع الضغط النفسي ، الذي كان يشعر
به هؤلاء أو غيرهم ، ويمنعهم من الدخول في هذا الدين ..
ولأجل
ذلك : كرر عليه
النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» قوله : أسلم تسلم. أي أنه يسلم من العقوبة على جرائمه
في الدنيا على أقل تقدير ، حسبما بيناه ..
وبذلك
يظهر : أن هذه الكلمة
لا تعني أن الإسلام يقهر على الإيمان ، أو أنه انتشر بالسيف ..
بل
هي تعني : أن الذي يرتكب
جريمة محاربة الحق ، ويحارب الله ورسوله ، ويسعى في قتل أهل الحق لا يسلم من
الجزاء العادل على عدوانه هذا إلا إذا أعلن تراجعه عن موقفه هذا .. واعترف بخطئه
فيما ارتكبه من جرائم ..
وقد تفضل الله
تعالى عليه بهذا العفو ، لأنه يريد أن يوفر على الأمة خسائر أكبر قد تنشأ من
مواصلته مسيرته الإجرامية ، حين يرى أنه هالك لا محالة ..
المعادلة التي اعتمد عليها أبو سفيان :
وقد
استند أبو سفيان في تقرير بطلان الشرك إلى معادلة تقول : إنه لو كان هناك إله آخر لكان أغنى عنه شيئا في بدر ،
وفي أحد ، وفي سواهما.
ولكن ليت شعري
لماذا لم يأخذ بهذه المعادلة منذ بدر ، أو أحد ، أو
الخندق ، ليكون قد وفر على الأمة تلك الويلات والمآسي التي أصابتها بسبب
بغيه وإصراره على الجحود والعدوان؟
علما بأن
طريقته هذه لا تؤدي إلى التوحيد التام ، وإن كان هو قد نوه بذلك ، لأن كلامه يدل
على أن إله محمد «صلىاللهعليهوآله» محق وإله أبي سفيان مبطل ، ولكنه لا يدل على عدم صحة
دعوى تعدد الآلهة.
لو لا المعجزة لم يسلم أبو سفيان :
وتذكر
رواية الراوندي : أن ذلك كله لم يقنع أبا سفيان بإعلان إسلامه ، رغم تحذير العباس له بأنه
إن لم يسلم جوزي بالقتل ..
ولكن النبي «صلىاللهعليهوآله» عامله أيضا بالرفق ، حيث أمر العباس بأن يأخذه إلى
خيمته ، وصار أبو سفيان يحدث نفسه : بأنه لو جمع الأحابيش ، فلعله كان يهزم هذا
الجيش ، وإذ برسول الله «صلىاللهعليهوآله» يناديه من خيمته ، ويقول له : «إذن كان الله يخزيك».
وكان لا بد
لأبي سفيان من أن يخضع للأمر الواقع فقد طفح الكيل ، وبلغ في لجاجه حدا لم يعد له
عذر فيه ، فإن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يقرأ نواياه ، وأقر أبو سفيان بالشهادتين مرغما ليحقن
بذلك دمه.
فوفر على الناس
المزيد من الخسائر ، وانسحب من ساحة الصراع المسلح ، ليدير صراعا آخر ، وبطريقة
أخرى ، ليكون صراعا من الداخل يهدف إلى السعي للحصول هو وحزبه على أكبر قدر من
المكاسب ، بل على أهم المواقع والمناصب ..
وأصبح
كما يقول صاحب الإستيعاب وغيره : كهفا للمنافقين .
ولهذا البحث
مجال آخر.
العتاب والجواب :
وقد
ذكرت النصوص المتقدمة : أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قد عاتبا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأسلوب يفتقر إلى أبسط قواعد اللياقة والأدب. حيث وصفا
الجيش الذي كان معه بأنهم أوباش الناس ، جاء ليحارب بهم أهله وعشيرته ..
وقد
نسيا :
أولا
: أن أبا سفيان
نفسه لم يزل يجمع الأحابيش والأوباش وغيرهم ، لمحاربة من هو من أهلهما وعشيرتهما
طيلة ما يقرب من عقد من الزمن. بل إن أبا سفيان لم يتلفظ بالشهادتين إلا بعد أن
أعلمه النبي «صلىاللهعليهوآله» : بأنه يحدّث نفسه لو أنه جمع الأحابيش لحرب رسول الله
«صلىاللهعليهوآله» ، وهو من أهله وعشيرته ..
ثانيا
: إن حرب أبي
سفيان للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، الذي هو من أهله وعشيرته ، ما هي إلا حرب بغي وظلم ،
وهتك لحرمات الله تعالى ..
__________________
ثالثا
: هل الاستعانة
بمن يعرف ومن لا يعرف لدفع الظلم وإقامة العدل ، قبيحة ومرفوضه!! ولا يكون غدر
قريش بخزاعة في حرم الله وأمنه ونقضها لعهد الحديبية ، وسعيها في تكريس نتائج
الغدر ـ لا يكون ـ قبيحا ومرفوضا؟!
إن ذلك كله
يبين لنا مدى صدقية قوله «صلىاللهعليهوآله» لحكيم بن حزام ولأبي سفيان :
«أنتم أظلم
وأفجر ، قد غدرتم بعهد الحديبية ، وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان ، في حرم
الله تعالى وأمنه».
وأما تحريضهما
رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على هوازن ، فلم يكن يهدف إلى إقامة الحق ، وإجراء سنة
العدل في هوازن على يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. بل كان من منطلق ظالم ، وغير منطقي ، لأنهم استندوا
في إغرائه بهم إلى أنهم أبعد رحما ، وأشد عداوة له. وليس هذا هو منطق الإسلام ونبي
الله تعالى.
وقد جاءت إجابة
النبي «صلىاللهعليهوآله» لهما شديدة الوقع ، بالغة الأثر ، حيث قال :
«إني لأرجو من
ربي أن يجمع لي ذلك كله : فتح مكة ، وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن ، وغنيمة
أموالهم ، وذراريهم».
وقد تضمنت هذه
الكلمات كل ما يغيظ الكفار ويذلهم ، ويخزيهم .. لأن جمع ذلك كله له سيكون بالنسبة
إلى أبي سفيان وابن حزام من أعظم الكوارث عليهما وعلى أهل الشرك .. بل إن الفوز
بأية مفردة من تلك المفردات سيكون فيه أعظم الخزي والذل للشرك وأهله .. والمفردات
التي
أشار إليها هي :
١ ـ فتح مكة :
التي كانوا يستطيلون بها على العرب ، ويمتلكون من خلالها قلوبهم ، ويفرضون إرادتهم
.. وفي التسلط على مكة ، وإبطال نفوذهم أعظم الخزي والذل لهم.
٢ ـ إعزاز
الإسلام في نفسه وهذا أيضا سيكون من أعظم المصائب والملمات على أهل الشرك .. فكيف
إذا كان هذا الإعزاز في مكة نفسها؟!
٣ ـ هزيمة
هوازن : وهذه أيضا : فاجعة كبرى لمشركي قريش ، لأنهم يرون فيها سندا قويا لهم.
وسقوطها معناه : أن يفقدوا بها أملا كان يهبهم بعض السكون والطمأنينة.
٤ ـ غنيمة
أموال هوازن : وهذا معناه : أن لا تقوم لها قائمة بعدها ، وأن تخرج من معادلة
الحرب والصراع بصورة تامة ، ونهائية ..
٥ ـ إن الأشد
إيلاما لهم : أن النبي الكريم «صلىاللهعليهوآله» لا يعتمد في تحقيق ذلك كله على نفسه وعلى هذا الجيش
الهائل ، بل هو يعتمد على ربه تبارك وتعالى .. الذي لم يكونوا في أي وقت في موقع
رضاه ، بل كانوا دائما في موقع سخطه.
تصحيح اشتباه :
كان
بديل بن ورقاء الخزاعي يقول : لما كان يوم الفتح أو قفني العباس بين يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وقال : يا رسول الله ، هذا يوم قد شرفت فيه قوما ، فما
بال خالك بديل بن ورقاء ، وهو قعيد حيه؟
قال
النبي «صلىاللهعليهوآله» : «إحسر عن حاجبيك يا بديل».
فحسرت
عنهما ، وحدرت لثامي ، فرأى سوادا بعارضي ، فقال : كم سنوك يا بديل؟
فقلت
: سبع وتسعون يا
رسول الله.
فتبسم
النبي «صلىاللهعليهوآله» وقال : «زادك الله جمالا وسوادا ، وأمتعك وولدك ، لكن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد نيف على الستين ، وقد أسرع الشيب فيه ، اركب جملك
هذا الأورق وناد في الناس : «إنها أيام أكل وشرب».
وكنت
جهيرا ، فرأيتني بين خيامهم وأنا أقول : أنا رسول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يقول لكم : إنها أيام أكل وشرب ، وهي لغة خزاعة ، يعني
الإجتماع .
ونقول
:
إننا
لا نريد أن نزيد هنا شيئا على ما قاله المجلسي «رحمهالله» : «والمشهور : أن هذا النداء كان في حجة الوداع ، لا عام
الفتح» .
__________________
الفهارس
١
ـ الفهرس الإجمالي
٢
ـ الفهرس التفصيلي
١ ـ الفهرس الإجمالي
القسم التاسع :
فتح مكة
الباب الأول : إلى مكة
الفصل الأول : المجزرة..................................................... ٩
ـ ٤٤
الفصل الثاني : إلى
المدينة : خبر وشكوى.................................. ٤٥
ـ ٧٢
الفصل الثالث : أبو
سفيان في المدينة تدليس وخداع....................... ٧٣
ـ ١٢٤
الفصل الرابع : جيوش
تجتمع .. والهدف مجهول......................... ١٢٥
ـ ١٦٠
الفصل الخامس : ابن
أبي بلتعة .. يتجسس ويفتضح..................... ١٦١
ـ ٢١٢
الفصل السادس : على
طريق مكة..................................... ٢١٣
ـ ٢٥٠
الفصل السابع : هجرة
العباس وإسلام ابن الحارث وابن أبي سلمة.......... ٢٥١
ـ ٢٨٨
الفصل الثامن : أبو
سفيان في أيدي المسلمين........................... ٢٨٩
ـ ٣٤٠
الفهارس............................................................ ٣٤١
ـ ٣٥٤
٢ ـ الفهرس التفصيلي
القسم التاسع :
فتح مكة ..
الباب الأول : إلى مكة
الفصل الأول : المجزرة
بداية :..................................................................... ١١
تاريخ فتح مكة :............................................................ ١٢
يوم خروج النبي صلىاللهعليهوآله من المدينة :.............................................. ١٤
يوم دخول مكة :............................................................ ١٥
مدة الإقامة في مكة :........................................................ ١٧
خطأ في البخاري :........................................................... ١٩
شهر رمضان لماذا؟! :........................................................ ٢١
الأحلاف في الجاهلية
والإسلام :............................................... ٢٢
حلف خزاعة :.............................................................. ٢٢
سبب حلف خزاعة :......................................................... ٢٤
حلف أهل الباطل :.......................................................... ٢٥
لا حلف في الإسلام :........................................................ ٢٥
مرتكزات حلف عبد
المطلب وخزاعة :.......................................... ٢٨
قريش تنقض العهد :......................................................... ٢٩
سبب نقض العهد واحد :.................................................... ٣٣
إستغلال الضغائن :.......................................................... ٣٣
الغدر بالضعفاء ،
وبالصبيان والنساء :.......................................... ٣٤
القسوة .. لماذا؟! :........................................................... ٣٥
حرمة الحرم لدى قريش :...................................................... ٣٦
هل ندموا حقا؟!............................................................. ٣٧
بنو نفاثة يسرقون
الحاج :..................................................... ٣٨
بديل بن ورقاء وما جرى
:..................................................... ٤٠
بين الثأر .. والقصاص
:..................................................... ٤١
الفصل الثاني : إلى المدينة : خبر وشكوى
النبي صلىاللهعليهوآله يخبر بالغيب عن نقض العهد :...................................... ٤٧
لماذا عائشة دون سواها؟!..................................................... ٤٨
حرت في أمر خزاعة :........................................................ ٤٩
سلب الألطاف الإلهية :...................................................... ٥٠
النبي صلىاللهعليهوآله .. ونصر بني كعب :............................................... ٥٢
نوفل يضيع الحق :........................................................... ٥٦
غضب النبي صلىاللهعليهوآله لبني كعب :................................................ ٥٨
نصرت يا عمرو بن سالم
:.................................................... ٥٩
لا نصرني الله إن لم
أنصر بني كعب :.......................................... ٥٩
السحابة تستهل بنصر
بني كعب :............................................. ٦٢
دخل بيت عائشة أم
ميمونة؟! :............................................... ٦٣
ابن ورقاء أول
المخبرين :...................................................... ٦٤
عينا رسول الله صلىاللهعليهوآله تدمعان :................................................. ٦٦
قام وهو يجر رداءه :.......................................................... ٦٧
النبي صلىاللهعليهوآله يأمر مخبريه بالتفرق في الأودية :...................................... ٦٨
الفصل الثالث : أبو سفيان في المدينة : تدليس وخداع
عروض النبي صلىاللهعليهوآله ورفض قريش :.............................................. ٧٥
مساع فاشلة لأبي سفيان
:.................................................... ٧٧
ترتيب الأحداث :........................................................... ٨٨
سؤال وجوابه :............................................................... ٨٩
على ماذا ندمت قريش؟!
:................................................... ٩٠
أبو سفيان ينقض العهد
:..................................................... ٩١
الخيارات العادلة :............................................................ ٩٢
سياسات يعرفها الجميع
:..................................................... ٩٣
آراء لا يحسدون عليها
:...................................................... ٩٤
تحديد المتهم بدقة :.......................................................... ٩٥
عرام بني نفاثة :.............................................................. ٩٥
بنو نفاثة يعظمون
الحرم :..................................................... ٩٦
الخبر اليقين :................................................................ ٩٦
رؤيا هند بنت عتبة :......................................................... ٩٧
أبو سفيان هو المسؤول
:...................................................... ٩٧
تجديد العهد ، وزيادة
المدة :................................................. ١٠٠
أساليب استخباراتية
فاشلة :................................................. ١٠١
أبو سفيان في المدينة
:...................................................... ١٠٢
خيار الهروب إلى
الأمام :.................................................... ١٠٤
التدبير الصارم :............................................................ ١٠٦
مواقف مزعومة ، بل
موهومة :............................................... ١٠٧
جواري جوار رسول الله صلىاللهعليهوآله :............................................... ١١٢
هل تجير الزهراء عليهاالسلام؟! :................................................... ١١٤
قد أجارت أختك :........................................................ ١١٤
أخت الزهراء عليهاالسلام :....................................................... ١١٥
مري ابنك :............................................................... ١١٦
هما صبيان :............................................................... ١١٧
قريش في مأزق :........................................................... ١١٩
كلمي عليا :.............................................................. ١٢٠
سيد كنانة!! يطلب
النصيحة!! :............................................ ١٢١
قريش تتهم زعيمها :........................................................ ١٢٢
الفصل الرابع : جيوش تجتمع .. والهدف مجهول
استشارة أبي بكر وعمر
في أمر مكة :......................................... ١٢٧
أبو بكر يفشي سرّ رسول
الله صلىاللهعليهوآله :......................................... ١٢٩
ذل العرب .. وذل أهل
مكة :............................................... ١٣٣
حديث فاطمة عليهاالسلام كان في عام الفتح أيضا :................................. ١٣٤
جهزينا ، وأخفي أمرك :..................................................... ١٣٩
عائشة تفشي سر النبي صلىاللهعليهوآله :.............................................. ١٤٠
للمباغتة وجهان :.......................................................... ١٤٢
مكث ما شاء الله :......................................................... ١٤٣
التجهيز لسفر مبهم :...................................................... ١٤٤
نجاح الخطة :.............................................................. ١٤٥
الأخذ على الأسماع
والأبصار :............................................... ١٤٦
حتى نبغتها في بلادها
:..................................................... ١٤٧
لماذا الحديث عن قريش
دون بني بكر؟! :..................................... ١٤٧
أبو بكر وعائشة في
مأزق :.................................................. ١٤٨
أبو بكر يصر على النبي
صلىاللهعليهوآله إلى حد الإحراج :............................... ١٥٠
أليس بينك وبينهم مدة؟!
:................................................. ١٥٢
السيطرة على المسالك :..................................................... ١٥٢
إلى بطن إضم :............................................................ ١٥٤
إشارة لما سبق :............................................................ ١٥٦
النفير العام :.............................................................. ١٥٧
الحضور إلى المدينة في
شهر رمضان :.......................................... ١٥٨
إبان المسير إلى قريش
:...................................................... ١٥٨
الفصل الخامس : ابن أبي بلتعة .. يتجس ويفتضح
اكتشاف تجسس ابن أبي
بلتعة لقريش :....................................... ١٦٣
نص الكتاب :............................................................. ١٦٦
التدخل الإلهي :........................................................... ١٦٨
لعلها عدة رسائل :......................................................... ١٨٠
مقدار الجعل على حمل
الرسالة :.............................................. ١٨١
هل نافق حاطب؟! :....................................................... ١٨١
المخبأ العتيد :............................................................. ١٨٢
الفضل لعلي عليهالسلام :........................................................ ١٨٢
الحرس على الطريق وشى
بالخائن :............................................ ١٨٣
رسالة تهديد أم تحذير؟!
:................................................... ١٨٤
دقة معلومات حاطب :..................................................... ١٨٥
خبر السماء :............................................................. ١٨٦
ألا يكفي علي عليهالسلام وحده؟! :.............................................. ١٨٧
خذوه منها ، فإن أبت
فاضربوا عنقها :........................................ ١٨٨
الصلاة جامعة لماذا؟!
:..................................................... ١٨٩
حاطب ينفي الشك
والنفاق :............................................... ١٩٢
تهديد المتهم :.............................................................. ١٩٣
ردها إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله :.................................................. ١٩٤
حاطب يلتفت إلى النبي صلىاللهعليهوآله ليرقّ له :...................................... ١٩٥
قيمة العفو ..
والاستغفار :.................................................. ١٩٦
عذر حاطب :............................................................. ١٩٧
للنبي صلىاللهعليهوآله أن يعفو عن حاطب :............................................ ١٩٨
عمر : مرني بقتله :......................................................... ١٩٩
منقبة عظيمة لحاطب :..................................................... ٢٠٠
لعل الله اطلع على أهل
بدر!! :.............................................. ٢٠٢
إصرار عمر لماذا؟! :........................................................ ٢٠٥
الجرأة على الدماء :......................................................... ٢٠٦
الفصل السادس : على طريق مكة
إستخلف على المدينة
وخرج!! :.............................................. ٢١٥
عشرة آلاف مقاتل :....................................................... ٢١٨
تأويلات وتفاصيل :........................................................ ٢٢٠
لا يزال المقصد مجهولا
:..................................................... ٢٢٢
توضيح عن المقدمة :....................................................... ٢٢٥
إلى أين يا رسول الله؟!
:.................................................... ٢٢٦
لا بد من جواب :.......................................................... ٢٢٨
حيث يشاء الله :........................................................... ٢٢٩
إستنفار العرب :........................................................... ٢٣٠
سليم تريد الحظوة عند
النبي صلىاللهعليهوآله :........................................... ٢٣١
نخوة الجاهلية :............................................................. ٢٣٢
بيض النساء وأدم الإبل
في بني مدلج :........................................ ٢٣٣
الرفق بالحيوان ..
مسؤولية شرعية :........................................... ٢٣٦
صيام النبي صلىاللهعليهوآله في السفر :................................................. ٢٣٩
أين أفطر رسول الله صلىاللهعليهوآله؟! :............................................... ٢٤٣
حديث الصيام باطل من
أصله :............................................. ٢٤٤
حديث شق عليهم الصوم :................................................. ٢٤٨
الفصل السابع : هجرة العباس .. وإسلام ابن الحارث وابن أبي سلمة
إسلام العباس وهجرته :..................................................... ٢٥٣
وساطة أم سلمة :.......................................................... ٢٥٥
هجرة العباس آخر هجرة
:.................................................. ٢٦٢
الهجرة لم تنقطع :.......................................................... ٢٦٦
الطلقاء ليسوا من
الصحابة :................................................. ٢٧١
العباس يتلقى رسول
الله صلىاللهعليهوآله :.............................................. ٢٧٢
أين لقي العباس رسول
الله صلىاللهعليهوآله؟! :.......................................... ٢٧٣
تناقض واختلاف
الروايات :................................................. ٢٧٥
النبي صلىاللهعليهوآله لا يرد السلام ولا يقبل التوبة :..................................... ٢٧٥
تالله لقد آثرك الله
علينا :.................................................... ٢٧٨
ومن أحسن قولا من الله
:................................................... ٢٨١
هنات وهنات في رواية
الواقدي :............................................. ٢٨٢
ألف : اعتراض أم سلمة
:................................................ ٢٨٢
ب : أبو سفيان بن
الحارث ، والإسلام :................................... ٢٨٢
ج : علم ابن الحارث
بقدوم رسول الله صلىاللهعليهوآله :............................... ٢٨٣
د : هل سيفرح المسلمون
بإسلام ابن الحارث؟! :............................ ٢٨٤
ه : بطولات أبي سفيان
بن الحارث في حنين :.............................. ٢٨٥
و : يا للأنصار! يا
للخزرج!! :........................................... ٢٨٥
ز : سؤال النبي صلىاللهعليهوآله عن أبي سفيان بن الحارث :............................ ٢٨٥
عمر يغري بأبي
سفيان بن الحارث :.......................................... ٢٨٦
الفصل الثامن : أبو سفيان في أيدي المسلمين ..
زعماء يربأ بهم النبي صلىاللهعليهوآله عن الشرك :........................................ ٢٩١
منام أبي بكر :............................................................. ٢٩٣
جيش الإسلام في مر
الظهران :.............................................. ٢٩٤
إنه ليس بملك :............................................................ ٣٠٧
من الذي كان مع أبي
سفيان؟! :............................................. ٣٠٧
لم يبلغهم حرف واحد :..................................................... ٣٠٨
تزوير الحقائق :............................................................ ٣٠٨
عشرة آلاف نار لماذا؟!
:................................................... ٣٠٩
إن لقيت محمدا فخذ لنا
أمانا :.............................................. ٣١٠
العباس الناصح لقريش
على بغلة رسول الله صلىاللهعليهوآله :.............................. ٣١١
علم العباس بمكان أبي
سفيان :.............................................. ٣١٢
عمر وأبو سفيان :......................................................... ٣١٤
ترهات وأكاذيب :......................................................... ٣١٦
بديل بن ورقاء خزاعي :..................................................... ٣١٧
ما هذا التصافي
والإنسجام؟! :............................................... ٣١٨
حماس عمر لقتل أبي
سفيان :................................................ ٣١٩
تناقضات مواقف عمر
وأبي بكر :............................................ ٣٢٠
لا مبرر لقتل أبي
سفيان :................................................... ٣٢٣
اتهام العباس لعمر بن
الخطاب :.............................................. ٣٢٤
إسلام العباس ..
وإسلام الخطاب :........................................... ٣٢٥
جوار العباس :............................................................. ٣٢٦
هل مكث أبو سفيان عند
النبي صلىاللهعليهوآله عامة الليل؟ :............................ ٣٢٧
ملك أم نبوة؟! :........................................................... ٣٢٨
عمر لا يراعي مجالس
رسول الله صلىاللهعليهوآله :....................................... ٣٣٠
أبو سفيان يخاف من
الأذان والصلاة!! :...................................... ٣٣١
أسلم تسلم :.............................................................. ٣٣٢
المعادلة التي اعتمد
عليها أبو سفيان :......................................... ٣٣٤
لو لا المعجزة لم يسلم
أبو سفيان :........................................... ٣٣٥
العتاب والجواب :.......................................................... ٣٣٦
تصحيح اشتباه :........................................................... ٣٣٨
الفهارس :
١ ـ الفهرس الإجمالي..................................................... ٣٤٣
٢ ـ الفهرس التفصيلي.................................................... ٣٤٥
|